الكتاب: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ) المحقق: إبراهيم الزيبق الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية المقدسي، أبو شامة الكتاب: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ) المحقق: إبراهيم الزيبق الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية]ـ المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ) المحقق: إبراهيم الزيبق الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 5 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين الْحَمد لله الَّذِي بِلُطْفِهِ تصلح الْأَعْمَال وبكرمه وجوده تدْرك الآمال وعَلى وفْق مَشِيئَته تتصرف الْأَفْعَال وبإرادته تَتَغَيَّر الْأَحْوَال وَإِلَيْهِ الْمصير والمرجع والمآل سُبْحَانَهُ هُوَ الْبَاقِي بِلَا زَوَال المنزه عَن الْحُلُول والانتقال عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال ذُو الْعَرْش والمعارج والطول وَالْإِكْرَام والجلال نحمده على مَا أَسْبغ من الإنعام والإفضال وَمن بِهِ من الْإِحْسَان والنوال حمدا لَا توازنه الْجبَال ملْء السَّمَوَات وَالْأَرْض وعَلى كل حَال وَنُصَلِّي على رَسُوله وَنبيه وَخيرته من خلقه وَصفيه وخليله ووليه وحبيبه المفضال سيدنَا أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله ذِي الشّرف الباذخ وَالْعلم الراسخ وَالْفضل الشامخ وَالْجمال والكمال صلى الله عَلَيْهِ وعَلى الْمَلَائِكَة المقربين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وعترتهم الطيبين مَا أفل كَوْكَب وطلع هِلَال وعَلى آل مُحَمَّد وَصَحبه خير صحب وَأكْرم آل وعَلى تابعيهم بِإِحْسَان وَجَمِيع الْأَوْلِيَاء والأبدال وَعَفا عَن الْمُقَصِّرِينَ من أمته أولي الكسل والملال وحشرنا فِي زمرته مُتَمَسِّكِينَ بشرعته مقتدين بسنته متعظين بِمَا ضرب من الْأَمْثَال مزدحمين تَحت لوائه فِي جملَة أوليائه يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أما بعد فَإِنَّهُ بعد أَن صرفت جلّ عمري ومعظم فكري فِي اقتباس الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة واقتناص الفرائد الأدبية عَن لى أَن أصرف إِلَى علم التَّارِيخ بعضه فأحوز بذلك سنة الْعلم وفرضه اقْتِدَاء بسيرة من مضى من كل عَالم مرتضى فَقل إِمَام من الْأَئِمَّة إِلَّا ويحكى عَنهُ من أَخْبَار من سلف فَوَائِد جمة مِنْهُم إمامنا أَبُو عبد الله الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ قَالَ مُصعب الزبيرِي مَا رَأَيْت أحدا أعلم بأيام النَّاس من الشَّافِعِي ويروى عَنهُ أَنه قَامَ على تعلم أَيَّام النَّاس وَالْأَدب عشْرين سنة وَقَالَ مَا أردْت بذلك إِلَّا الِاسْتِعَانَة على الْفِقْه قلت وَذَلِكَ عَظِيم الْفَائِدَة جليل العائدة وَفِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخْبَار الْأُمَم السالفة وأنباء الْقُرُون الخالفة مَا فِيهِ عبر لذوى البصائر واستعداد ليَوْم تبلى السرائر قَالَ الله عز وَجل وَهُوَ أصدق الْقَائِلين {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرسُل مَا نُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَجَاءَكَ فِي هَذِه الْحق وموعظة وذكرى للْمُؤْمِنين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَقَدْ جَاءَهم من الأنْبَاء مَاِ فِيهِ مزدجر حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر} وَحدث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَدِيث أم زرع وَغَيره مِمَّا جرى فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْأَيَّام الإسرائيلية وَحكى عجائب مَا رَآهُ لَيْلَة أسرِي بِهِ وعرج وَقَالَ (حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج) وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سماك بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حَرْب قَالَ قلت لجَابِر بن سمُره أَكنت تجَالس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نعم كثيرا كَانَ لَا يقوم من مُصَلَّاهُ الَّذِي صلى فِيهِ الصُّبْح أَو الْغَدَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس فَإِذا طلعت قَامَ وَكَانُوا يتحدثون فَيَأْخُذُونَ فِي أَمر الْجَاهِلِيَّة فيضحكون ويبتسم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو رضى الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدثنا عَن بني إِسْرَائِيل حَتَّى يصبح مَا يقوم إِلَّا إِلَى عُظم صَلَاة قلت وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون فَمن بعدهمْ يتفاوضون فِي حَدِيث من مضى ويتذاكرون مَا سبقهمْ من الْأَخْبَار وانقضى ويستنشدون الْأَشْعَار ويتطلبون الْآثَار وَالْأَخْبَار وَذَلِكَ بَين من أفعالهم لمن اطلع على أَحْوَالهم وهم السَّادة الْقدْوَة فلنا بهم أُسْوَة فاعتنيت بذلك وتصفحته وبحثت عَنهُ مُدَّة وتطلبته فوقفت وَالْحَمْد لله على جملَة كَبِيرَة من أَحْوَال الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْخُلَفَاء والسلاطين وَالْفُقَهَاء والمحدثين والأولياء وَالصَّالِحِينَ وَالشعرَاء والنحويين وأصناف الْخلق البَاقِينَ وَرَأَيْت أَن المطلع على أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين كَأَنَّهُ قد عاصرهم أَجْمَعِينَ وَأَنه عِنْدَمَا يفكر فِي أَحْوَالهم أَو يذكرهم كَأَنَّهُ مُشاهدهم ومحاضرهم فَهُوَ قَائِم لَهُ مقَام طول الْحَيَاة وَإِن كَانَ متعجل الْوَفَاة قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 نعيم بن حَمَّاد كَانَ عبد الله بن الْمُبَارك يكثر الْجُلُوس فِي بَيته فَقيل لَهُ أَلا تستوحش قَالَ كَيفَ استوحش وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَفِي رِوَايَة قَالَ قيل لِابْنِ الْمُبَارك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن تكْثر الْقعُود فِي الْبَيْت وَحدك فَقَالَ أَنا وحدي أَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يَعْنِي النّظر فِي الحَدِيث وَفِي رِوَايَة أُخْرَى وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان قلت وَقد أنشدت لبَعض الْفُضَلَاء (كتاب أطالعه مؤنس ... أحب إِلَيّ من الآنسه) (وأدرسه فيريني الْقُرُون ... حضورا وأعظمهم دارسه) وَقد اخْتَار الله سُبْحَانَهُ لنا أَن نَكُون آخر الْأُمَم وأطلعنا على أنباء من تقدم لنَّتعظ بِمَا جرى على الْقُرُون الخلية {وتَعِيَها أذنٌ واعِيَة} {فَهَل تَرَى لَهُمْ من بَاقِيَة} ولنقتدي بِمن تقدمنا من الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة الصلحاء وَنَرْجُو بِتَوْفِيق الله عز وَجل أَن نَجْتَمِع بِمن يدْخل الْجنَّة مِنْهُم ونذاكرهم بِمَا نقل إِلَيْنَا عَنْهُم وَذَلِكَ على رغم أنف من عدم الْأَدَب وَلم يكن لَهُ فِي هَذَا الْعلم أرب بل أَقَامَ على غية وأكب والمرء مَعَ من أحب هَذَا وَإِن الْجَاهِل بِعلم التَّارِيخ راكبُ عمياء خابط خبط عشواء ينْسب إِلَى من تقدم أَخْبَار من تَأَخّر ويعكس ذَلِك وَلَا يتدبر وَإِن رد عَلَيْهِ وهمه لَا يتأثر وَإِن ذكر فلجهله لَا يتَذَكَّر لَا يفرق بَين صَحَابِيّ وتابعي وحنفي ومالكي وشافعي وَلَا بَين خَليفَة وأمير وسلطان ووزير وَلَا يعرف من سيرة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَنه نَبِي مُرْسل فَكيف لَهُ بِمَعْرِِفَة أَصْحَابه وَذَلِكَ الصَّدْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الأول الَّذين بذكرهم ترتاح النُّفُوس وَيذْهب البوس وَلَقَد رَأَيْت مَجْلِسا جمع ثَلَاثَة عشر مدرسا وَفِيهِمْ قَاضِي الْقُضَاة لذَلِك الزَّمَان وَغَيره من الْأَعْيَان فَجرى بَينهم وَأَنا أسمع ذكر من تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة وهم ذَوُو الْقُرْبَى المذكورون فِي الْقُرْآن فَقَالَ جَمِيعهم بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَعدلُوا بأجمعهم فِي ذَلِك عَمَّا يجب فتعجبت من جهلهم حَيْثُ لم يفرقُوا بَين عبد الْمطلب وَالْمطلب وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْمطلب هُوَ عَم عبد الْمطلب وَأَن عبد الْمطلب هُوَ ابْن هَاشم فَمَا أحقهم بلوم كل لائم إِذْ هَذَا أصل من أصُول الشَّرِيعَة قد أهملوه وَبَاب من أَبْوَاب الْعلم جهلوه وَلزِمَ من قَوْلهم إِخْرَاج بني الْمطلب من هَذِه الفضيله فابتغيت إِلَى الله تَعَالَى الْوَسِيلَة وأنفت لنَفْسي من ذَلِك الْمقَام فأخذتها بِعلم أَخْبَار الْأَنَام وَتَصْحِيح نسبتها وإيضاح محجتها فَإِن كثيرا مِمَّن يحفظ شَيْئا من الوقائع يفوتهُ معرفَة نسبتها إِلَى أَرْبَابهَا وَإِن نَسَبهَا خلط فِيهَا وصرفها عَن أَصْحَابهَا وَهُوَ بَاب وَاسع غزير الْفَوَائِد صَعب المصادر والموارد زلت فِيهِ قدم كثير من نقلة الْأَخْبَار ورواة الْآثَار ثمَّ أردْت أَن أجمع من هَذَا الْعلم كتابا يكون حاويا لما حصلته وأتقن فِيهِ مَا خبرته فعمدت إِلَى أكبر كتاب وضع فِي هَذَا الْفَنّ على طَريقَة الْمُحدثين وَهُوَ تَارِيخ مَدِينَة دمشق حماها الله عز وَجل الَّذِي صنفه الْحَافِظ الثِّقَة أَبُو الْقَاسِم على بن الْحسن العساكري رَحمَه الله وَهُوَ ثَمَانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 مئة جُزْء فِي ثَمَانِينَ مجلدا فاختصرته وهذبته وزدته فَوَائِد من كتب أُخْرَى جليلة وأتقنته ووقف عَلَيْهِ الْعلمَاء وسَمعه الشُّيُوخ والفضلاء وَمر بِي فِيهِ من الْمُلُوك المتاخرين تَرْجَمَة الْملك الْعَادِل نور الدّين فأطربني مَا رَأَيْت من آثاره وَسمعت من أخباره مَعَ تَأَخّر زَمَانه وَتغَير خلانه ثمَّ وقفت بعد ذَلِك فِي غير هَذَا الْكتاب على سيرة سيد الْمُلُوك بعده الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فوجدتهما فِي المتاخرين كالعمرين رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُتَقَدِّمين فَإِن كل ثَان من الْفَرِيقَيْنِ حذا حَذْو من تقدمه فِي الْعدْل وَالْجهَاد واجتهد فِي إعزاز دين الله أَي اجْتِهَاد وهما ملكا بَلْدَتنَا وسلطانا خطتنا الله تَعَالَى بهما فَوَجَبَ علينا القايم بِذكر فضلهما فعزمت على إِفْرَاد ذكر دولتيهما بتصنيف يتَضَمَّن التقريظ لَهما والتعريف فَلَعَلَّهُ يقف عَلَيْهِ من الْمُلُوك من يسْلك فِي ولَايَته ذَلِك السلوك فَلَا أبعد أَنَّهُمَا حجَّة من الله على الْمُلُوك الْمُتَأَخِّرين وذكرى مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم قد يستبعدون من أنفسهم طَريقَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن حذا حذوهم من الْأَئِمَّة السَّابِقين وَيَقُولُونَ نَحن فِي الزَّمن الْأَخير وَمَا لأولئك من نَظِير فَكَانَ فِيمَا قدر الله سُبْحَانَهُ من سيرة هذَيْن الْملكَيْنِ إِلْزَام الْحجَّة عَلَيْهِم بِمن هُوَ فِي عصرهم من بعض مُلُوك دهرهم فَلَنْ يعجز عَن التَّشَبُّه بهما أحد إِن وفْق الله تَعَالَى الْكَرِيم وسدد وَأخذت ذَلِك من قَول أبي صَالح شُعَيْب بن حَرْب الْمَدَائِنِي رَحمَه الله وَكَانَ أحد السَّادة الأكابر فِي الْحِفْظ وَالدّين قَالَ إِنِّي لأحسب يجاء بسفيان الثَّوْريّ يَوْم الْقِيَامَة حجَّة من الله تَعَالَى على هَذَا الْخلق يُقَال لَهُم إِن لم تدركوا نَبِيكُم فقد أدركتم سُفْيَان أَلا اقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَهَكَذَا أَقُول هَذَانِ حجَّة على الْمُتَأَخِّرين من الْمُلُوك والسلاطين فَلِله درهما من ملكَيْنِ تعاقبا على حسن السِّيرَة وَجَمِيل السريرة وهما حَنَفِيّ وشافعي شفى الله بهما كل عي وَظَهَرت بهما من خالقهما الْعِنَايَة فتقاربا حَتَّى فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الْعُمر وَمُدَّة الْولَايَة وَهَذِه نُكْتَة قل من فطن لَهَا وَنبهَ عَلَيْهَا ولطيفة هَدَانِي الله بتوفيقه إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَن نور الدّين رَحمَه الله ولد سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَتُوفِّي سنة تسع وَسِتِّينَ وَولد صَلَاح الدّين رَحمَه الله سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة وَتُوفِّي سنة تسع وَثَمَانِينَ فَكَانَ نور الدّين أسن من صَلَاح الدّين بِسنة وَاحِدَة وَبَعض أُخْرَى وَكِلَاهُمَا لم يستكمل سِتِّينَ سنة فَانْظُر كَيفَ اتّفق أَن بَين وفاتيهما عشْرين سنة وَبَين مولديهما إِحْدَى وَعشْرين سنة وَملك نور الدّين دمشق سنة تسع وَأَرْبَعين وملكها صَلَاح الدّين سنة سبعين فَبَقيت دمشق فِي المملكة النورية عشْرين سنة وَفِي المملكة الصلاحية تسع عشرَة سنة تمحى فِيهَا السَّيئَة وتكتب الْحَسَنَة وَهَذَا من عَجِيب مَا اتّفق فِي الْعُمر وَمُدَّة الْولَايَة ببلدة مُعينَة لملكين متعاقبين مَعَ قرب الشّبَه بَينهمَا فِي سيرتيهما وَالْفضل للمتقدم فَكَأَن زِيَادَة مُدَّة نور الدّين كالتنبيه على زِيَادَة فَضله والإرشاد إِلَى عظم مَحَله فَإِنَّهُ أصل ذَلِك الْخَيْر كُله مهد الْأُمُور بعدله وجهاده وهيبته فِي جَمِيع بِلَاده مَعَ شدَّة الفتق واتساع الْخرق وَفتح من الْبِلَاد مَا استعين بِهِ على مداومة الْجِهَاد فهان على من بعده على الْحَقِيقَة سلوك تِلْكَ الطَّرِيقَة لَكِن صَلَاح الدّين أَكثر جهادا وأعم بلادا صَبر وصابر ورابط وثابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَذخر الله لَهُ من الْفتُوح أنفسه وَهُوَ فتح الأَرْض المقدسة فرضى الله عَنْهُمَا فَمَا أحقهما بقول الشَّاعِر (كم ترك الأول للْآخر) (وألبس الله هاتيك الْعِظَام وَإِن ... بلين تَحت الثرى عفوا وغفرانا) (سقى ثرى أودعوه رَحْمَة مَلَأت ... مثوى قُبُورهم روحا وريحانا) وَقد سبقني إِلَى تدوين مآثرهما جمَاعَة من الْعلمَاء والأكابر الْفُضَلَاء فَذكر الْحَافِظ الثِّقَة أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن الدِّمَشْقِي فِي تَارِيخه تَرْجَمَة حَسَنَة لنُور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحْمَة الله ولأجله تمم ذَلِك الْكتاب وَذكر اسْمه فِي خطبَته وَذكر الرئيس أَبُو يعلى حَمْزَة بن أَسد التَّمِيمِي فِي مذيل التَّارِيخ الدِّمَشْقِي قِطْعَة صَالِحَة من أَوَائِل الدولة النورية إِلَى سنة خمس وَخمسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَخمْس مئة وصنف الشَّيْخ الْفَاضِل عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عرف بِابْن الْأَثِير مجلدة فِي الْأَيَّام الأتابكية كلهَا وَمَا جرى فِيهَا وَفِيه شىء من أَخْبَار الدولة الصلاحية لتَعلق إِحْدَى الدولتين بِالْأُخْرَى لكَونهَا متفرعة عَنْهَا وصنف القَاضِي بهاء الدّين أَبُو المحاسن يُوسُف بن رَافع بن تمبم الْموصِلِي عرف بِابْن شَدَّاد قَاضِي حلب مجلدة فِي الْأَيَّام الصلاحية وسَاق مَا تيَسّر فِيهَا من الْفتُوح واستفتح كِتَابه بشرح مَنَاقِب صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وصنف الإِمَام الْعَالم عماد الدّين الْكَاتِب أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حَامِد الْأَصْفَهَانِي كتابين كِلَاهُمَا مسجوع متقن بالألفاظ الفصيحة والمعاني الصَّحِيحَة أَحدهمَا الْفَتْح الْقُدسِي اقْتصر فِيهِ على فتوح صَلَاح الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَسيرَته فاستفتحه بِسنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَالثَّانِي الْبَرْق الشَّامي ذكر فِيهِ الوقائع والحوادث من الْغَزَوَات والفتوحات وَغَيرهمَا مِمَّا وَقع من سنة وُرُوده دمشق وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة إِلَى سنة وَفَاة صَلَاح الدّين وَهِي سنة تسع وَثَمَانِينَ فَاشْتَمَلَ على قِطْعَة كَبِيرَة من أَخْبَار أَوَاخِر الدولة النورية إِلَّا أَن الْعِمَاد فِي كِتَابيه طَوِيل النَّفس فِي السجع وَالْوَصْف يمل النَّاظر فِيهِ وَيذْهل طَالب معرفَة الوقائع عَمَّا سبق من القَوْل وينسيه فحذفت تِلْكَ الأسجاع إِلَّا قَلِيلا مِنْهَا استحسنتها فِي موَاضعهَا وَلم تَكُ خَارِجَة عَن الْغَرَض الْمَقْصُود من التَّعْرِيف بالحوادث والوقائع نَحْو مَا ستراه فِي أَخْبَار فتح بَيت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى وانتزعت الْمَقْصُود من الْأَخْبَار من بَين تِلْكَ الرسائل الطوَال والأسجاع المفضية إِلَى الملال وَأَرَدْت أَن يفهم الْكَلَام الْخَاص وَالْعَام واخترت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تِلْكَ الْأَشْعَار الْكَثِيرَة قَلِيلا مِمَّا يتَعَلَّق بالقصص وَشرح الْحَال وَمَا فِيهِ نُكْتَة غَرِيبَة وَفَائِدَة لَطِيفَة ووقفت على مجلدات من الرسائل الْفَاضِلِيَّةِ وعَلى جملَة من الْأَشْعَار الْعمادِيَّة مِمَّا ذكره فِي ديوانه دون برقه وعَلى كتب أخر من دواوين وَغَيرهَا فالتقطت مِنْهَا أَشْيَاء مِمَّا يتَعَلَّق بالدولتين أَو بِإِحْدَاهُمَا وَبَعضه سمعته من أَفْوَاه الرِّجَال الثِّقَات وَمن المدركين لتِلْك الْأَوْقَات فاختصرت جَمِيع مَا فِي ذَلِك من أَخْبَار الدولتين وَمَا حدث فِي مدتهما من وَفَاة خَليفَة أَو وَزِير أَو أَمِير كَبِير أَو ذى قدر خطير وَغير ذَلِك فجَاء مجموعا لطيفا وكتابا ظريفا يصلح لمطالعة الْمُلُوك والأكابر من ذَوي المآثر والمفاخر وسميته ((كتاب الروضتين فِي أَخْبَار الدولتين)) وَللَّه در حبيب بن أَوْس حَيْثُ يَقُول (ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ السنون وَأَهْلهَا ... فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم أَحْلَام) فصل أما الدولة النورية فسلطانها الْملك الْعَادِل نور الدّين أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عماد الدّين أتابك وَهُوَ أَبُو سعيد زنكى بن قسيم الدولة آق سنقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 التركي ويلقب زنكي أَيْضا بلقب وَالِده قسيم الدولة وَيُقَال لنُور الدّين ابْن القسيم وسنتكلم على أَخْبَار أسلافه عِنْد بسط أَوْصَافه وقدمت من إِجْمَال أَحْوَاله مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَفعاله ذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه أَنه ولد سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَأَن جده آق سنقر ولي حلب وَغَيرهَا من بِلَاد الشَّام وَنَشَأ أَبوهُ زنكي بالعراق ثمَّ ولي ديار الْموصل والبلاد الشامية وَظَهَرت كِفَايَته فِي مُقَابلَة الْعَدو عِنْد نُزُوله على شيزر حَتَّى رَجَعَ خائبا وَفتح الرها والمعرة وكفرطاب وَغَيرهَا من الْحُصُون الشامية واستنقذها من أيدى الْكفَّار فَلَمَّا انْقَضى أَجله قَامَ ابْنه نور الدّين مقَامه وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس ومئة ثمَّ قصد نور الدّين حلب فملكها وَخرج غازيا فِي أَعمال تل بَاشر فَافْتتحَ حصونا كَثِيرَة من جُمْلَتهَا قلعة عزاز ومرعش وتل خَالِد وَكسر إبرنس أنطاكية وَقَتله وَثَلَاثَة آلَاف فرنجي مَعَه وَأظْهر بحلب السّنة وَغير الْبِدْعَة الَّتِي كَانَت لَهُم فِي التأذين وقمع بهَا الرافضة وَبنى بهَا الْمدَارِس ووقف الْأَوْقَاف وَأظْهر الْعدْل وحاصر دمشق مرَّتَيْنِ وَفتحهَا فِي الثَّالِثَة فضبط أمورها وحصن سورها وَبنى بهَا الْمدَارِس والمساجد وَأصْلح طرقها ووسع أسواقها وَمنع من أَخذ مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم من المغارم المغارم بدار الْبِطِّيخ وسوق الْغنم والكيالة وَغَيرهَا وعاقب على شرب الْخمر واستنقذ من الْعَدو ثغر بانياس والمنيطرة وَغَيرهمَا وَكَانَ فِي الْحَرْب ثَابت الْقدَم حسن الرمى صَلِيب الضَّرْب يقدم أَصْحَابه ويتعرض للشَّهَادَة وَكَانَ يسال الله تَعَالَى أَن يحشره من بطُون السبَاع وحواصل الطير ووقف رَحمَه الله تَعَالَى وقوفا على المرضى ومعلمي الْخط وَالْقُرْآن وساكني الْحَرَمَيْنِ وأقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أُمَرَاء الْعَرَب لِئَلَّا يتَعَرَّضُوا للحجاج وَأمر بأكمال سور الْمَدِينَة واستخراج الْعين الَّتِي بِأحد وَبنى الرَّبْط والجسور والخانات وجدد كثيرا من قني السَّبِيل وَكَذَا صنع فِي غير دمشق من الْبِلَاد الَّتِي ملكهَا ووقف كتبا كَثِيرَة وَحصل فِي أسره جمَاعَة من أُمَرَاء الفرنج وَكسر الرّوم والأرمن والفرنج على حارم وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا ثمَّ فتح حارم وَأخذ أَكثر قرى أنطاكية ثمَّ فتح الديار المصرية وَكَانَ الْعَدو قد اشرف على أَخذهَا ثمَّ أظهر بهَا السّنة وانقمعت الْبِدْعَة وَكَانَ حسن الْخط كثير المطالعة للكتب الدِّينِيَّة مُتبعا للآثار النَّبَوِيَّة مواظبا على الصَّلَوَات فِي الْجَمَاعَات عاكفاً على تِلَاوَة الْقُرْآن حَرِيصًا على فعل الْخَيْر عفيف الْبَطن والفرج مقتصدا فِي الْإِنْفَاق متحريا فِي المطاعم والملابس لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وأشهى مَا إِلَيْهِ كلمة حق يسْمعهَا أَو إرشاد إِلَى سنة يتبعهَا وَقَالَ أَبُو الْحسن ابْن الْأَثِير قد طالعت تواريخ الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين قبل الْإِسْلَام وَفِيه إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَلم أر فِيهَا بعد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَعمر بن عبد الْعَزِيز ملكا أحسن سيرة من الْملك الْعَادِل نور الدّين وَلَا أَكثر تحريا للعدل والإنصاف مِنْهُ قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره وَجِهَاد يتجهز لَهُ ومظلمة يزيلها وَعبادَة يقوم بهَا وإحسان يوليه وإنعام يسديه وَنحن نذْكر مَا نعلم بِهِ مَحَله فِي أَمر دُنْيَاهُ وأخراه فَلَو كَانَ فِي أمة لافتخرت بِهِ فَكيف بَيت وَاحِد أما زهده وعبادته وَعلمه فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة ملكه وَكَثْرَة ذخائر بِلَاده وأموالها لَا يَأْكُل وَلَا يلبس وَلَا يتَصَرَّف فِيمَا يَخُصُّهُ إِلَّا من ملك كَانَ لَهُ قد اشْتَرَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 من سَهْمه من الْغَنِيمَة وَمن الْأَمْوَال المرصدة لمصَالح الْمُسلمين أحضر الْفُقَهَاء واستفتاهم فِي أَخذ مَا يحل لَهُ من ذَلِك فَأخذ مَا أفتوه بحله وَلم يتعده إِلَى غَيره الْبَتَّةَ وَلم يلبس قطّ مَا حرمه الشَّرْع من حَرِير أَو ذهب أَو فضَّة وَمنع من شرب الْخمر وَبَيْعهَا فِي جَمِيع بِلَاده وَمن إدخالها إِلَى بلد مَا وَكَانَ يحد شاربها الْحَد الشَّرْعِيّ كل النَّاس عِنْده فِيهِ سَوَاء حَدثنِي صديق لنا بِدِمَشْق كَانَ رَضِيع الخاتون ابْنة معِين الدّين زَوْجَة نور الدّين ووزيرها قَالَ كَانَ نور الدّين إِذا جَاءَ إِلَيْهَا يجلس فِي الْمَكَان الْمُخْتَص بِهِ وَتقوم فِي خدمته لَا تتقدم إِلَيْهِ إِلَّا أَن يَأْذَن فِي أَخذ ثِيَابه عَنهُ ثمَّ تَعْتَزِل عَنهُ إِلَى الْمَكَان الَّذِي يخْتَص بهَا ويتفرد هُوَ تَارَة يطالع رقاع أَصْحَاب الأشغال أَو فِي مطالعة كتاب أَتَاهُ ويجيب عَنْهُمَا وَكَانَ يُصَلِّي فيطيل الصَّلَاة وَله أوراد فِي النَّهَار فَإِذا جَاءَ اللَّيْل وَصلى الْعشَاء ونام يَسْتَيْقِظ نصف اللَّيْل وَيقوم إِلَى الْوضُوء وَالصَّلَاة إِلَى بكرَة فَيظْهر للرُّكُوب ويشتغل بمهام الدولة قَالَ وَإِنَّهَا قلت عَلَيْهَا النَّفَقَة وَلم يكفها مَا كَانَ قَرَّرَهُ لَهَا فأرسلتني إِلَيْهِ أطلب مِنْهُ زِيَادَة فِي وظيفتها فَلَمَّا قلت لَهُ ذَلِك تنكر وأحمر وَجهه ثمَّ قَالَ من ايْنَ أعطيها أما يكفيها مَالهَا وَالله لَا أخوض نَار جَهَنَّم فِي هَواهَا إِن كَانَت تظن أَن الَّذِي بيدى من الْأَمْوَال هِيَ لي فبئس الظَّن إِنَّمَا هِيَ أَمْوَال الْمُسلمين مرصدة لمصالحهم ومعدة لفتق إِن كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 من عَدو الْإِسْلَام وَأَنا خازنهم عَلَيْهَا فَلَا أخونهم فِيهَا ثمَّ قَالَ لي بِمَدِينَة حمص ثَلَاثَة دكاكين ملكا وَقد وهبتها إِيَّاهَا فلتأخذها قَالَ وَكَانَ يحصل مِنْهَا قدر قَلِيل قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ رَحمَه الله لَا يفعل فعلا إِلَّا بنية حَسَنَة كَانَ بالجزيرة رجل من الصَّالِحين كثير الْعِبَادَة والورع شَدِيد الِانْقِطَاع عَن النَّاس وَكَانَ نور الدّين يكاتبه ويراسله وَيرجع إِلَى قَوْله ويعتقد فِيهِ اعتقادا حسنا فَبَلغهُ أَن نور الدّين يدمن اللّعب بالكرة فَكتب إِلَيْهِ يَقُول مَا كنت أَظُنك تلهو وتلعب وتعذب الْخَيل لغير فَائِدَة دينية فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين بِخَط يَده يَقُول وَالله مَا يحملني على اللّعب بالكرة اللَّهْو والبطر إِنَّمَا نَحن فِي ثغر الْعَدو قريب منا وبينما نَحن جُلُوس إِذْ يَقع صَوت فنركب فِي الطّلب وَلَا يمكننا أَيْضا مُلَازمَة الْجِهَاد لَيْلًا وَنَهَارًا شتاء وصيفا إِذْ لابد من الرَّاحَة للجند وَمَتى تركنَا الْخَيل على مرابطها صَارَت جماما لَا قدرَة لَهَا على إدمان السّير فِي الطّلب وَلَا معرفَة لَهَا أَيْضا بِسُرْعَة الانعطاف فِي الْكر والفر فِي المعركة فَنحْن نركبها ونروضها بِهَذَا اللّعب فَيذْهب جمامها وتتعود سرعَة الانعطاف وَالطَّاعَة لراكبها فِي الْحَرْب فَهَذَا وَالله الَّذِي بَعَثَنِي على اللّعب بالكرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذَا الْملك الْمَعْدُوم النظير الَّذِي يقل فِي أَصْحَاب الزوايا المنقطعين إِلَى الْعِبَادَة مثله فَإِن من يجىء إِلَى اللّعب يَفْعَله بنية صَالِحَة حَتَّى يصير من أعظم الْعِبَادَات وأكبر القربات يقل فِي الْعَالم مثله وَفِيه دَلِيل على أَنه كَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بنية صَالِحَة وَهَذِه أَفعَال الْعلمَاء الصَّالِحين العاملين قَالَ وَحكي لي عَنهُ أَنه حمل إِلَيْهِ من مصر عِمَامَة من الْقصب الرفيع مذهبَة فَلم يحضرها عِنْده فوصفت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا وَبينا هم مَعَه فِي حَدِيثهَا وَإِذا قد جَاءَهُ رجل صوفي فامر بهَا لَهُ فَقيل لَهُ إِنَّهَا لَا تصلح لهَذَا الرجل وَلَو أعطي غَيرهَا كَانَ أَنْفَع لَهُ فَقَالَ أعطوها لَهُ فَإِنِّي أَرْجُو أَن أعوض عَنْهَا فِي الْآخِرَة فَسلمت إِلَيْهِ فَسَار بهَا إِلَى بَغْدَاد فَبَاعَهَا بست مئة دِينَار أَمِيري أَو سبع مئة دِينَار قلت قَرَأت فِي حَاشِيَة هَذَا الْمَكَان من = كتاب ابْن الْأَثِير = بِخَط ابْن الْمُعْطِي إِيَّاهَا قَالَ أَعْطَاهَا لشيخ الصُّوفِيَّة عماد الدّين أَبى الْفَتْح بن حمويه بِغَيْر طلب وَلَا رَغْبَة فبعثها إِلَى همذان فبيعت بِأَلف دِينَار قَالَ ابْن الْأَثِير وَحكى لنا الْأَمِير بهاء الدّين على بن السكرى وَكَانَ خصيصا بِخِدْمَة نور الدّين قد صَحبه من الصِّبَا وَأنس بِهِ وَله مَعَه انبساط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قَالَ كنت مَعَه يَوْمًا فِي الميدان بالرها وَالشَّمْس فِي ظُهُورنَا فَكلما سرنا تقدمنا الظل فَلَمَّا عدنا صَار الظل وَرَاء ظُهُورنَا فاجرى فرسه وَهُوَ يلْتَفت وَرَاءه وَقَالَ لي أَتَدْرِي لأي شَيْء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت لَا قَالَ قد شبهت مَا نَحن فِيهِ بالدنيا تهرب مِمَّن يطْلبهَا وتطلب من يهرب مِنْهَا قلت رضى الله عَن ملك يفكر فِي مثل هَذَا وَقد أنشدت بَيْتَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنى (مثل الرزق الَّذِي تطلبه ... مثل الظل الَّذِي يمشي مَعَك) (أَنْت لَا تُدْرِكهُ متَّبِعاً ... فَإِذا ولّيت عَنهُ تبعك) قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ يعْنى نور الدّين رَحمَه الله يصلى كثيرا من اللَّيْل وَيَدْعُو ويستغفر وَيقْرَأ وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يركب (جمع الشجَاعَة والخشوع لرَبه ... مَا أحسن الْمِحْرَاب فِي الْمِحْرَاب) قَالَ وَكَانَ عَارِفًا بالفقه على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ عِنْده تعصب بل الْإِنْصَاف سجيته فِي كل شَيْء وَسمع الحَدِيث وأسمعه طلبا لِلْأجرِ وعَلى الْحَقِيقَة فَهُوَ الَّذِي جدد للملوك اتِّبَاع سنة الْعدْل والإنصاف وَترك الْمُحرمَات من المأكل وَالْمشْرَب والملبس وَغير ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا قبله كالجاهلية هم أحدهم بَطْنه وفرجه لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا حَتَّى جَاءَ الله بدولته فَوقف مَعَ أوَامِر الشَّرْع ونواهيه وألزم بذلك أَتْبَاعه وَذَوِيهِ فاقتدى بِهِ غَيره مِنْهُم واستحيوا أَن يظْهر عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ (وَمن سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قَالَ فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ يُوصف بالزهد من لَهُ الممالك الفسيحة وتجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة فليذكر نَبِي الله سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام مَعَ ملكه وَهُوَ سد الزاهدين فِي زَمَانه وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حكم على حَضرمَوْت واليمن والحجاز وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من حُدُود الشَّام إِلَى الْعرَاق وَهُوَ على الْحَقِيقَة سيد الزاهدين قَالَ وَإِنَّمَا الزّهْد خلو الْقلب من محبَّة الدُّنْيَا لَا خلو الْيَد عَنْهَا قَالَ وَأما عدله فَإِنَّهُ كَانَ أحسن الْمُلُوك سيرة وأعدلهم حكما فَمن عدله أَنه لم يتْرك فِي بلد من بِلَاده ضريبة وَلَا مكسا وَلَا عشرا بل أطلقها رَحْمَة الله جَمِيعهَا فِي بِلَاد الشَّام والجزيرة جَمِيعهَا والموصل وأعمالها وديار مصر وَغَيرهَا مِمَّا حكم عَلَيْهِ وَكَانَ المكس فِي مصر يُؤْخَذ من كل مئة دِينَار خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ دِينَارا فأطلقها وَهَذَا لم تتسع لَهُ نفس غَيره وَكَانَ يتحَرَّى الْعدْل وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم كَائِنا من كَانَ القوى والضعيف عِنْده فِي الْحق سَوَاء وَكَانَ يسمع شكوى الْمَظْلُوم ويتولى كشف حَاله بِنَفسِهِ وَلَا يكل ذَلِك إِلَى حَاجِب وَلَا أَمِير فَلَا جَرَمَ سَار ذكره فِي شَرق الأَرْض وغربها قَالَ وَمن عدله أَنه كَانَ يعظم الشَّرِيعَة المطهرة وَيقف عِنْد أَحْكَامهَا وَيَقُول نَحن شحن لما نُمضي أوامرها فَمن اتِّبَاعه أَحْكَامهَا أَنه كَانَ يلْعَب بِدِمَشْق بالكرة فَرَأى إنْسَانا يحدث آخر ويومئ بِيَدِهِ إِلَيْهِ فارسل إِلَيْهِ يساله عَن حَاله فَقَالَ لي مَعَ الْملك الْعَادِل حُكُومَة وَهَذَا غُلَام القَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ليحضره إِلَى مجْلِس الحكم يحاكمني على الْملك الْفُلَانِيّ فَعَاد إِلَيْهِ وَلم يتجاسر يعرفهُ مَا قَالَ ذَلِك الرجل وَعَاد يَكْتُمهُ فَلم يقبل مِنْهُ غير الْحق فَذكر لَهُ قَوْله فَألْقى الجوكان من يَده وَخرج من الميدان وَسَار إِلَى القَاضِي وَهُوَ حِينَئِذٍ كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَأرْسل إِلَى القَاضِي يَقُول لَهُ إِنَّنِي قد جِئْت محاكما فاسلك معي مثل مَا تسلكه مَعَ غَيْرِي فَلَمَّا حضر سَاوَى خَصمه وخاصمه وحاكمه فَلم يثبت عَلَيْهِ حق وَثَبت الْملك لنُور الدّين فَقَالَ نور الدّين حِينَئِذٍ للْقَاضِي وَلمن حضر هَل ثبَت لَهُ عِنْدِي حق قَالُوا لَا فَقَالَ اشْهَدُوا أنني قد وهبت لَهُ هَذَا الْملك الَّذِي قد حاكمني عَلَيْهِ وهُوَ لَهُ دوني وَقد كنت أعلم أَن لَا حق لَهُ عِنْدِي وَإِنَّمَا حضرت مَعَه لِئَلَّا يظنّ بِي أَنِّي ظلمته فَحَيْثُ ظهر أَن الْحق لي وهبته لَهُ قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذَا غَايَة الْعدْل والإنصاف بل غَايَة الْإِحْسَان وَهِي دَرَجَة وَرَاء الْعدْل فرحم الله هَذِه النَّفس الزكية الطاهرة المنقادة إِلَى الْحق الواقفة مَعَه قلت وَهَذَا مستكثر من ملك مُتَأَخّر بعد فَسَاد الْأَزْمِنَة وتفرق الْكَلِمَة وَإِلَّا فقد انْقَادَ إِلَى الْمُضِيّ إِلَى مجْلِس الحكم جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين مثل عمر وَعلي وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ حكى نَحْو ذَلِك عَن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَقد نقلنا ذَلِك كُله فِي التَّارِيخ الْكَبِير وَفِيه عَن عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 طَاهِر قريب من هَذَا لكنه أحضر الْحَاكِم عِنْده وَلم يمض إِلَيْهِ وَقد بَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى استُدعى مرّة أُخْرَى بحلب إِلَى مجْلِس الحكم بِنَفسِهِ أَو نَائِبه فَدخل حَاجِبه عَلَيْهِ مُتَعَجِّبا وأعلمه أَن رَسُول الْحَاكِم بِالْبَابِ فَأنْكر عَلَيْهِ تعجبه وَقَامَ رَحمَه الله مسرعا وَوجد فِي أثْنَاء طَرِيقه مَا مَنعه من العبور من حفر جب بعض الحشوش واستخراج مَا فِيهِ فَوكل من ثمَّ وَكيلا واشهد عَلَيْهِ شَاهِدين بِالتَّوْكِيلِ وَرجع قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن عدله انه لم يكن يُعَاقب الْعقُوبَة الَّتِي يُعَاقب بهَا الْمُلُوك فِي هَذِه الْأَعْصَار على الظنة والتهمة بل يطْلب الشُّهُود على الْمُتَّهم فَإِن قَامَت الْبَيِّنَة الشَّرْعِيَّة عاقبه الْعقُوبَة الشَّرْعِيَّة من غير تعد فَدفع الله بِهَذَا الْفِعْل عَن النَّاس من الشَّرّ مَا يُوجد فِي غير ولَايَته مَعَ شدَّة السياسة وَالْمُبَالغَة فِي الْعقُوبَة وَالْأَخْذ بالظنة وَأمنت بِلَاده مَعَ سعتها وَقل المفسدون ببركة الْعدْل وَاتِّبَاع الشَّرْع المطهر قَالَ وَحكى لي من أَثِق بِهِ أَنه دخل يَوْمًا إِلَى خزانَة المَال فَرَأى فِيهَا مَالا أنكرهُ فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِن القَاضِي كَمَال الدّين أرْسلهُ وَهُوَ من جِهَة كَذَا فَقَالَ إِن هَذَا المَال لَيْسَ لنا وَلَا لبيت المَال فِي هَذِه الْجِهَة شَيْء وَأمر برده وإعادته إِلَى كَمَال الدّين ليَرُدهُ على صَاحبه فَأرْسلهُ مُتَوَلِّي الخزانة إِلَى كَمَال الدّين فَرده إِلَى الخزانة وَقَالَ إِذا سَالَ الْملك الْعَادِل عَنهُ فَقولُوا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عني إِنَّه لَهُ فَدخل نور الدّين الخزانة مرّة أُخْرَى فَرَآهُ فَأنْكر على النواب وَقَالَ ألم أقل لكم يُعَاد هَذَا المَال على أَصْحَابه فَذكرُوا لَهُ قَول كَمَال الدّين فَرده إِلَيْهِ وَقَالَ للرسول قل لكَمَال الدّين أَنْت تقدر على حمل هَذَا وَأما أَنا فرقبتي دقيقة لَا أُطِيق حمله والمخاصمة عَلَيْهِ بَين يَدي الله تَعَالَى يُعاد قولا وَاحِدًا قَالَ وَمن عدله أَيْضا بعد مَوته وَهُوَ من أعجب مَا يحْكى أَن إنْسَانا كَانَ بِدِمَشْق غَرِيبا استوطنها وَأقَام بهَا لما رأى من عدل نور الدّين رَحمَه الله فَلَمَّا توفى تعدى بعض الأجناد على هَذَا الرجل فَشَكَاهُ فَلم ينصف فَنزل من القلعة وَهُوَ يستغيث ويبكي وَقد شقّ ثَوْبه وَيَقُول يَا نور الدّين لَو رَأَيْتنَا وَمَا نَحن فِيهِ من الظُّلم لرحمتنا أَيْن عدلك وَقصد تربة نور الدّين وَمَعَهُ من الْخلق مَا لَا يُحْصى وَكلهمْ يبكي ويصيح فوصل الْخَبَر إِلَى صَلَاح الدّين وَقيل لَهُ احفظ الْبَلَد والرعية وَإِلَّا خرج عَن يدك فَأرْسل إِلَى ذَلِك الرجل وَهُوَ عِنْد تربة نور الدّين يبكي وَالنَّاس مَعَه فطيب قلبه ووهبه شَيْئا وأنصفه فَبكى أَشد من الأول فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين لم تبْكي قَالَ أبكى على سُلْطَان عدل فِينَا بعد مَوته فَقَالَ صَلَاح الدّين هَذَا هُوَ الْحق وكل مَا ترى فِينَا من عدل فَمِنْهُ تعلمناه قلت وَمن عدله أَن بنى دَار الْعدْل قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ نور الدّين رَحمَه الله أول من بنى دَارا للكشف وسماها دَار الْعدْل وَكَانَ سَبَب بنائها أَنه لما طَال مقَامه بِدِمَشْق وَأقَام بهَا أمراؤه وَفِيهِمْ أَسد الدّين شيركوه وَهُوَ أكبر أَمِير مَعَه وَقد عظم شَأْنه وَعلا مَكَانَهُ حَتَّى صَار كَأَنَّهُ شريك فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْملك واقتنوا الْأَمْلَاك وَأَكْثرُوا وتعدى كل وَاحِد مِنْهُم على من يجاوره فِي قَرْيَة أَو غَيرهَا فكثرت الشكاوى إِلَى كَمَال الدّين فأنصف بَعضهم من بعض وَلم يقدم على الْإِنْصَاف من أَسد الدّين شيركوه فأنهى الْحَال إِلَى نور الدّين فَأمر حِينَئِذٍ ببَناء دَار الْعدْل فَلَمَّا سمع أَسد الدّين بذلك أحضر نوابه جَمِيعهم وَقَالَ لَهُم اعلموا أَن نور الدّين مَا أَمر بِبِنَاء هَذِه الدَّار إِلَّا بسببي وحدي وَإِلَّا فَمن هُوَ الَّذِي يتمنع على كَمَال الدّين وَوَاللَّه لَئِن أحضرت إِلَى دَار الْعدْل بِسَبَب أحدكُم لأصلبنه فامضوا إِلَى كل من بَيْنكُم وَبَينه مُنَازعَة فِي ملك فَافْصِلُوا الْحَال مَعَه وأرضوه بِأَيّ طَرِيق أمكن وَلَو أَتَى ذَلِك على جَمِيع مَا بيَدي فَقَالُوا لَهُ إِن النَّاس إِذا علمُوا هَذَا اشتطوا فِي الطّلب فَقَالَ خُرُوج أملاكي عَن يَدي أسهل على من أَن يراني نور الدّين بِعَين أَنِّي ظَالِم أَو يساوى بيني وَبَين آحَاد الْعَامَّة فِي الْحُكُومَة فَخرج أَصْحَابه من عِنْده وفعلوا مَا أَمرهم وأرضوا خصماءهم وَأشْهدُوا عَلَيْهِم فَلَمَّا فرغت دَار الْعدْل جلس نور الدّين فِيهَا لفصل الحكومات وَكَانَ يجلس فِي الْأُسْبُوع يَوْمَيْنِ وَعِنْده القَاضِي وَالْفُقَهَاء وبقى كَذَلِك مُدَّة فَلم يحضر عِنْده أحد يشكو من أَسد الدّين فَقَالَ نور الدّين لكَمَال الدّين مَا أرى أحدا يشكو من شيركوه فَعرفهُ الْحَال فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أَصْحَابنَا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنَا قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذِه المعدلة مَا أحْسنهَا وَإِلَى هَذِه الهيبة مَا أعظمها وَإِلَى هَذِه السياسة مَا أسدها هَذَا مَعَ أَنه كَانَ لَا يريق دَمًا وَلَا يُبَالغ فِي عُقُوبَة وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا صدقه فِي عدله وَحسن نِيَّته قَالَ وَأما شجاعته وَحسن رَأْيه فقد كَانَت النِّهَايَة إِلَيْهِ فيهمَا فَإِنَّهُ أَصْبِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 النَّاس فِي الْحَرْب وَأَحْسَنهمْ مكيدة ورأيا وأجودهم معرفَة بِأُمُور الأجناد وأحوالهم وَبِه كَانَ يضْرب الْمثل فِي ذَلِك سَمِعت جمعا كثيرا من النَّاس لَا أحصيهم أَنهم لم يرَوا على ظهر الْفرس أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ خلق عَلَيْهِ لَا يَتَحَرَّك وَلَا يتزلزل وَكَانَ من أحسن النَّاس لعبا بالكرة وأقدرهم عَلَيْهَا لم ير جوكانه يَعْلُو على رَأسه وَكَانَ رُبمَا ضرب الكرة وَيجْرِي الْفرس ويتناولها بِيَدِهِ من الْهَوَاء ويرميها إِلَى آخر الميدان وَكَانَت يَده لَا ترى والجوكان فِيهَا بل تكون فِي كم قبائه استهانة باللعب وَكَانَ إِذا حضر الْحَرْب أَخذ قوسين وتركشين وباشر الْقِتَال بِنَفسِهِ وَكَانَ يَقُول طالما تعرضت للشَّهَادَة فَلم أدْركهَا سَمعه يَوْمًا الإِمَام قطب الدّين النيسابورى الْفَقِيه الشَّافِعِي وَهُوَ يَقُول ذَلِك فَقَالَ لَهُ بِاللَّه لَا تخاطر بِنَفْسِك وَبِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فَإنَّك عمادهم وَلَئِن أصبت وَالْعِيَاذ بِاللَّه فِي معركة لَا يبْقى من الْمُسلمين أحد إِلَّا أَخذه السَّيْف وَأخذت الْبِلَاد فَقَالَ يَا قطب الدّين وَمن مَحْمُود حَتَّى يُقَال لَهُ هَذَا قبلى من حفظ الْبِلَاد وَالْإِسْلَام ذَلِك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله يكثر إِعْمَال الْحِيَل وَالْمَكْر وَالْخداع مَعَ الفرنج خذلهم الله تَعَالَى وَأكْثر مَا ملكه من بِلَادهمْ بِهِ وَمن جيد الرَّأْي مَا سلكه مَعَ مليح بن ليون ملك الأرمن صَاحب الدروب فَإِنَّهُ مَا زَالَ يخدعه ويستميله حَتَّى جعله فِي خدمته سفرا وحضرا وَكَانَ يُقَاتل بِهِ الإفرنج وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا حَملَنِي على استمالته أَن بِلَاده حَصِينَة وعسرة المسلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقلاعه منيعة وَلَيْسَ لنا إِلَيْهَا طَرِيق وَهُوَ يخرج مِنْهَا إِذا أَرَادَ فينال من بِلَاد الْإِسْلَام فَإِذا طلب انحجر فِيهَا فَلَا يقدر عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَيْت الْحَال هَكَذَا بذلت لَهُ شَيْئا من الإقطاع على سَبِيل التَّالِف حَتَّى أجَاب إِلَى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج قَالَ وَحَيْثُ توفّي نور الدّين رَحمَه الله وسلك غَيره غير هَذَا الطَّرِيق ملك الْمُتَوَلِي الأرمن بعد مليح كثيرا من بِلَاد الْإِسْلَام وحصونهم وَصَارَ مِنْهُ ضَرَر عَظِيم وخرق وَاسع لَا يُمكن رقعه قَالَ وَمن أحسن الآراء مَا كَانَ يَفْعَله مَعَ أجناده فَإِنَّهُ كَانَ إِذا توفّي أحدهم وَخلف ولدا أقرّ الإقطاع عَلَيْهِ فَإِن كَانَ الْوَلَد كَبِيرا استبد بِنَفسِهِ وَإِن كَانَ صَغِيرا رتب مَعَه رجلا عَاقِلا يَثِق إِلَيْهِ فيتولى أمره إِلَى أَن يكبر فَكَانَ الأجناد يَقُولُونَ هَذِه أملاكناً يَرِثهَا الْوَلَد عَن الْوَالِد فَنحْن نُقَاتِل عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك سبَباً عَظِيما من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للصبر فِي الْمشَاهد والحروب وَكَانَ أَيْضا يثبت أَسمَاء أجناد كل أَمِير فِي ديوانه وسلاحهم خوفًا من حرص بعض الْأُمَرَاء وشحه أَن يحملهُ على أَن يقْتَصر على بعض مَا هُوَ مُقَرر عَلَيْهِ من الْعدَد وَيَقُول نَحن كل وَقت فِي النفير فَإِذا لم يكن أجناد كَافَّة الْأُمَرَاء كاملي الْعدَد وَالْعدَد دخل الوهن على الْإِسْلَام قَالَ وَلَقَد صدق رَضِي الله عَنهُ فِيمَا قَالَ وَأصَاب فِيمَا فعل فَلَقَد رَأينَا مَا خافه عيَانًا قَالَ وَأما مَا فعله فِي بِلَاد الْإِسْلَام من الْمصَالح مِمَّا يعود إِلَى حفظهَا وَحفظ الْمُسلمين فكثير عَظِيم من ذَلِك أَنه بنى أسوار مدن الشَّام جَمِيعهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقلاعها فَمِنْهَا حلب وحماة وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنبج وَغَيرهَا من القلاع والحصون وحصنها وَأحكم بناءها وَأخرج عَلَيْهَا من الْأَمْوَال مَا لَا تسمح بِهِ النُّفُوس وَبنى أَيْضا الْمدَارِس بحلب وحماة ودمشق وَغَيرهَا للشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَبنى الْجَوَامِع فِي جَمِيع الْبِلَاد فجامعه فِي الْموصل إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الْحسن والإتقان وَمن أحسن مَا عمل فِيهِ أَنه فوض أَمر عِمَارَته والخرج عَلَيْهِ إِلَى الشَّيْخ عمر الملاء رَحمَه الله وَهُوَ رجل من الصَّالِحين فَقيل لَهُ إِن هَذَا لَا يصلح لمثل هَذَا الْعَمَل فَقَالَ إِذا وليت الْعَمَل بعض أَصْحَابِي من الأجناد وَالْكتاب أعلم أَنه يظلم فِي بعض الْأَوْقَات وَلَا يَفِي الْجَامِع بظُلْم رجل مُسلم وَإِذا وليت هَذَا الشَّيْخ غلب على ظَنِّي أَنه لَا يظلم فَإِذا ظلم كَانَ الْإِثْم عَلَيْهِ لَا على قَالَ وَهَذَا هُوَ الْفِقْه فِي الْخَلَاص من الظُّلم وَبنى أَيْضا بِمَدِينَة حماة جَامعا على نهر العَاصِي من أحسن الْجَوَامِع وأنزهها وجدد فِي غَيرهَا من عمَارَة الْجَوَامِع مَا كَانَ قد تهدم إِمَّا بزلزلة أَو غَيرهَا وَبنى البيمارستانات فِي الْبِلَاد وَمن أعظمها البيمارستان الَّذِي بناه بِدِمَشْق فَإِنَّهُ عَظِيم كثير الخرج جدا بَلغنِي أَنه لم يَجعله وَقفا على الْفُقَرَاء حسب بل على كَافَّة الْمُسلمين من غَنِي وفقير قلت وَقد وقفت على كتاب وَقفه فَلم أره مشعرا بذلك وَإِنَّمَا هَذَا كَلَام شاع على أَلْسِنَة الْعَامَّة ليَقَع مَا قدره الله تَعَالَى من مزاحمة الْأَغْنِيَاء للْفُقَرَاء فِيهِ وَالله الْمُسْتَعَان وَإِنَّمَا صرح بِأَن مَا يعز وجوده من الْأَدْوِيَة الْكِبَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَغَيرهَا لَا يمْنَع مِنْهُ من احْتَاجَ إِلَيْهِ من الْأَغْنِيَاء والفقراء فَخص ذَلِك بذلك فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَعَدَّى إِلَى غَيره لَا سِيمَا وَقد صرح قبل ذَلِك بِأَنَّهُ وقف على الْفُقَرَاء والمنقطعين وَقَالَ بعد ذَلِك من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي وَرُوِيَ أَن نور الدّين رَحمَه الله شرب من شراب البيمارستان فِيهِ وَذَلِكَ مُوَافق لقَوْله فِي كتاب الْوَقْف من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي وَالله أعلم وَبَلغنِي فِي أصل بنائِهِ نادرة وَهِي أَن نور الدّين رَحمَه الله وَقع فِي أسره بعض أكَابِر الْمُلُوك من الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَقطع على نَفسه فِي فدائه مَالا عَظِيما فَشَاور نور الدّين أمراءه فَكل أَشَارَ بِعَدَمِ إِطْلَاقه لما كَانَ فِيهِ من الضَّرَر على الْمُسلمين وَمَال نور الدّين إِلَى الْفِدَاء بَعْدَمَا استخار الله تَعَالَى فَأَطْلقهُ لَيْلًا لِئَلَّا يعلم أَصْحَابه وتسلم المَال فَلَمَّا بلغ الفرنجي مأمنه مَاتَ وَبلغ نور الدّين خَبره فَأعْلم أَصْحَابه فتعجبوا من لطف الله تَعَالَى بِالْمُسْلِمين حَيْثُ جمع لَهُم الحُسْنَيَين وهما الْفِدَاء وَمَوْت ذَلِك اللعين فَبنى نور الدّين رَحمَه الله بذلك المَال هَذَا البيمارستان وَمنع المَال الْأُمَرَاء لِأَنَّهُ لم يكن عَن إرادتهم كَانَ وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَبنى أَيْضا الْخَانَات فِي الطّرق فأمن النَّاس وحفظت أَمْوَالهم وَبَاتُوا فِي الشتَاء فِي كن من الْبرد والمطر وَبنى أَيْضا الأبراج على الطّرق بَين الْمُسلمين والفرنج وَجعل فِيهَا من يحفظها وَمَعَهُمْ الطُّيُور الهوادى فَإِذا رَأَوْا من الْعَدو أحدا أرْسلُوا الطُّيُور فَأخذ النَّاس حذرهم واحتاطوا لأَنْفُسِهِمْ فَلم يبلغ الْعَدو مِنْهُم غَرضا وَكَانَ هَذَا من ألطف الْفِكر وأكثرها نفعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قَالَ وَبنى الرَّبْط والخانقاهات فِي جَمِيع الْبِلَاد للصوفية ووقف عَلَيْهَا الْوُقُوف الْكَثِيرَة وأدر عَلَيْهِم الإدرارات الصَّالِحَة وَكَانَ يحضر مشايخهم عِنْده ويقربهم ويدنيهم ويبسطهم ويتواضع لَهُم وَإِذا أقبل أحدهم إِلَيْهِ يقوم لَهُ مذ تقع عينه عَلَيْهِ ويعتنقه ويجلسه مَعَه على سجادته وَيقبل عَلَيْهِ بحَديثه وَكَذَلِكَ كَانَ أَيْضا يفعل بالعلماء من التَّعْظِيم والتوقير والاحترام ويجمعهم عِنْد الْبَحْث وَالنَّظَر فقصدوه من الْبِلَاد الشاسعة من خُرَاسَان وَغَيرهَا وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أهل الدّين عِنْده فِي أَعلَى مَحل وأعظمه وَكَانَ أمراؤه يحسدونهم على ذَلِك وَكَانُوا يقعون عِنْده فيهم فينهاهم وَإِذا نقلوا عَن إِنْسَان عَيْبا يَقُول وَمن الْمَعْصُوم وَإِنَّمَا الْكَامِل من تعد ذنُوبه قَالَ وَبَلغنِي أَن بعض أكَابِر الْأُمَرَاء حسد قطب الدّين النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَ قد استقدمه من خُرَاسَان وَبَالغ فِي إكرامه وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ فحسده ذَلِك الْأَمِير فنال مِنْهُ يَوْمًا عِنْد نور الدّين فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا إِن صَحَّ مَا تَقول فَلهُ حَسَنَة تغْفر كل زلَّة تذكرها وَهِي الْعلم وَالدّين وَأما أَنْت وَأَصْحَابك ففيكم أَضْعَاف مَا ذكرت وَلَيْسَت لكم حَسَنَة تغفرها وَلَو عقلت لشغلك عيبك عَن غَيْرك وَأَنا أحتمل سَيِّئَاتكُمْ مَعَ عدم حسناتكم أَفلا أحمل سَيِّئَة هَذَا إِن صحت مَعَ وجود حسنته على أنني وَالله لَا أصدقك فِيمَا تَقول وَإِن عدت ذكرته أَو غَيره بِسوء لأؤدبنك فَكف عَنهُ قَالَ ابْن الْأَثِير هَذَا وَالله هُوَ الْإِحْسَان وَالْفِعْل الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكْتب على الْعُيُون بِمَاء الذَّهَب وَبنى بِدِمَشْق أَيْضا دَار الحَدِيث ووقف عَلَيْهَا وعَلى من بهَا من المشتغلين بِعلم الحَدِيث وقوفا كَثِيرَة وَهُوَ أول من بنى دَارا للْحَدِيث فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 علمنَا وَبنى أَيْضا فِي كثير من بِلَاده مكَاتب للأيتام وأجرى عَلَيْهِم وعَلى معلميهم الجرايات الوافرة وَبنى أَيْضا مَسَاجِد كَثِيرَة ووقف عَلَيْهَا وعَلى من يقْرَأ بهَا الْقُرْآن قَالَ وَهَذَا فعل لم يسْبق إِلَيْهِ بَلغنِي من عَارِف بإعمال الشَّام أَن وقُوف نور الدّين فِي وقتنا هَذَا وَهُوَ سنة ثَمَان وست مئة كل شهر تِسْعَة آلَاف دِينَار صوريه لَيْسَ فِيهَا ملك غير صَحِيح شَرْعِي ظَاهرا وَبَاطنا فَإِنَّهُ وقف مَا انْتقل إِلَيْهِ وَوزن ثمنه أَو مَا غلب عَلَيْهِ من بِلَاد الفرنج وَصَارَ سَهْمه قَالَ وَأما هيبته ووقاره فإليه النِّهَايَة فيهمَا وَلَقَد كَانَ كَمَا قيل شَدِيد فِي غير عنف رَقِيق فِي غير ضعف وَاجْتمعَ لَهُ مَا لم يجْتَمع لغيره فَإِنَّهُ ضبط ناموس الْملك مَعَ أجناده وَأَصْحَابه إِلَى غَايَة لَا مزِيد عَلَيْهَا وَكَانَ يلْزمهُم بوظائف الْخدمَة الصَّغِير مِنْهُم وَالْكَبِير وَلم يجلس عِنْده أَمِير من غير أَن يَأْمُرهُ بِالْجُلُوسِ إِلَّا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين يُوسُف وَأما من عداهُ كأسد الدّين شيركوه ومجد الدّين بن الداية وَغَيرهمَا فَإِنَّهُم كَانُوا إِذا حَضَرُوا عِنْده يقفون قيَاما إِلَى أَن يَأْمُرهُم بالقعود وَكَانَ مَعَ هَذِه العظمة وَهَذَا الناموس الْقَائِم إِذا دخل عَلَيْهِ الْفَقِيه أَو الصُّوفِي أَو الْفَقِير يقوم لَهُ وَيَمْشي بَين يَدَيْهِ ويجلسه إِلَى جَانِبه كَأَنَّهُ اقْربْ النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ إِذا أعْطى أحدهم شَيْئا يَقُول إِن هَؤُلَاءِ لَهُم فِي بَيت المَال حق فَإِذا قنعوا منا بِبَعْضِه فَلهم الْمِنَّة علينا وَكَانَ مَجْلِسه كَمَا روى فِي صفة مجْلِس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجْلِس حلم وحياء لَا تؤبن فِيهِ الْحرم وَهَكَذَا كَانَ مَجْلِسه لَا يذكر فِيهِ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الْعلم وَالدّين وأحوال الصَّالِحين والمشاورة فِي أَمر الْجِهَاد وَقصد بِلَاد الْعَدو وَلَا يتَعَدَّى هَذَا بَلغنِي أَن الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي رَضِي الله عَنهُ حضر مجْلِس صَلَاح الدّين يُوسُف لما ملك دمشق فَرَأى فِيهِ من اللَّغط وَسُوء الْأَدَب من الْجُلُوس فِيهِ مَا لَا حد عَلَيْهِ فشرع يحدث صَلَاح الدّين كَمَا كَانَ يحدث نور الدّين فَلم يتَمَكَّن من القَوْل لِكَثْرَة الِاخْتِلَاف من المتحدثين وَقلة استماعهم فَقَامَ وبقى مُدَّة لَا يحضر الْمجْلس الصلاحي وتكرر من صَلَاح الدّين الطّلب لَهُ فَحَضَرَ فَعَاتَبَهُ صَلَاح الدّين يُوسُف على انْقِطَاعه فَقَالَ نزهت نَفسِي عَن مجلسك فإنني رَأَيْته كبعض مجَالِس السُّوقة لَا يستمع إِلَى قَائِل وَلَا يرد جَوَاب مُتَكَلم وَقد كُنَّا بالْأَمْس نحضر مجْلِس نور الدّين فَكُنَّا كَمَا قيل كَأَنَّمَا على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة وَالْوَقار فَإِذا تكلم أنصتنا وَإِذا تكلمنا اسْتمع لنا فَتقدم صَلَاح الدّين إِلَى أَصْحَابه أَنه لَا يكون مِنْهُم مَا جرت بِهِ عَادَتهم إِذا حضر الْحَافِظ قَالَ ابْن الْأَثِير فَهَكَذَا كَانَت أَحْوَاله جَمِيعهَا رَحمَه الله مضبوطة مَحْفُوظَة وَأما حفظ أصُول الديانَات فَإِنَّهُ كَانَ مراعياً لَهَا لَا يهملها وَلَا يُمكن أحدا من النَّاس من إِظْهَار مَا يُخَالف الْحق وَمَتى أقدم مقدم على ذَلِك أدبه بِمَا يُنَاسب بدعته وَكَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك وَيَقُول نَحن نَحْفَظ الطّرق من لص وقاطع طَرِيق والأذى الْحَاصِل مِنْهُمَا قريب أَفلا نَحْفَظ الدّين ونمنع عَنهُ مَا يناقضه وَهُوَ الأَصْل قَالَ وَحكي أَن إنْسَانا بِدِمَشْق يعرف بِيُوسُف بن آدم كَانَ يظْهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الزّهْد والنسك وَقد كثر أَتْبَاعه أظهر شَيْئا من التَّشْبِيه فَبلغ خَبره نور الدّين فَأحْضرهُ وأركبه حمارا وَأمر بصفعه فطيف بِهِ فِي الْبِلَاد جَمِيعه وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من أظهر فِي الدّين الْبدع ثمَّ نَفَاهُ من دمشق فقصد حران وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ قَالَ ويسوق الله الْقصار الْأَعْمَار إِلَى الْبِلَاد الوخمة قلت وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي أَوله كِتَابه الْبَرْق الشَّامي أَنه قدم دمشق فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمسين مئة فِي دولة الْملك نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَأخذ فِي وَصفه بِكَلَامِهِ المسجوع فَقَالَ كَانَ ملك بِلَاد الشَّام ومالكها وَالَّذِي بِيَدِهِ ممالكها الْملك الْعَادِل نور الدّين أعف الْمُلُوك وأتقاهم وأثقبهم رَأيا وأنقاهم وأعدلهم وأعبدهم وأزهدهم وأجهدهم وأظهرهم وأطهرهم وَأَقْوَاهُمْ وأقدرهم وأصلحهم عملا وأنجحهم أملا وأرجحهم رَأيا وأوضحهم آيا وأصدقهم قولا وأقصدهم طولا وَكَانَ عصره فَاضلا وَنَصره واصلا وَحكمه عادلا وفضله شَامِلًا وزمانه طيبا وإحسانه صيبا والقلوب بمهابته ومحبته ممتلية والنفوس بعاطفته وعارفته متملية وأموره مقتبلة وأوامره ممتثلة وجده منزه عَن الْهزْل ونوابه فِي أَمن من الْعَزْل ودولته مأمولة مَأْمُونَة وروضته مصوبة مصونة والرياسة كَامِلَة والسياسة شَامِلَة وَالزِّيَادَة زَائِدَة والسعادة مساعدة والعيشة ناضرة والشيعة ناصرة والإنصاف صَاف والإسعاف عاف وأزر الدّين قوي وظمأ الْإِسْلَام رُوِيَ وزند النجح وري وَالشَّرْع مَشْرُوع وَالْحكم مسموع وَالْعدْل مولى وَالظُّلم مَعْزُول والتوحيد مَنْصُور والشرك مخذول وللتقى شروق وَمَا للفسوق سوق وَهُوَ الَّذِي أعَاد رونق الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد الشَّام وَقد غلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الْكفْر وَبلغ الضّر فَاسْتَفْتَحَ معاقلها واستخلص عقائلها وأشاع بهَا شعار الشَّرْع فِي جَمِيع الْحل وَالْعقد والإبرام والنقض والبسط وَالْقَبْض والوضع وَالرَّفْع وَكَانَت للفرنج فِي أَيَّام غَيره على بِلَاد الْإِسْلَام بِالشَّام قطائع فقطعها وَعفى رسومها ومنعها وَنَصره الله عَلَيْهِم مرَارًا حَتَّى أسر مُلُوكهمْ وبدد سلوكهم وصان الثغور مِنْهُم وحماها عَنْهُم وَأَحْيَا معالم الدّين الدوارس وَبنى للأئمة الْمدَارِس وَأَنْشَأَ الخانقاهات للصوفية وكثرها فِي كل بلد وَكثر وقوفها وَقرر معروفها وَأدنى للوافدين من جنان جنابه قطوفها وَأَجد الأسوار والخنادق وأنمى الْمرَافِق وَحمى الْحَقَائِق وَأمر فِي الطرقات بِبِنَاء الرَّبْط والخانات وضافت ضيوف الْفَضَائِل وفاضت فيوض الْفَاضِل وَهُوَ الَّذِي فتح مصر وأعمالها وَأَنْشَأَ دولتها ورجالها ثمَّ ذكر الْعِمَاد فِي أثْنَاء حوادث سنة تسع وَسِتِّينَ وَهِي السّنة الَّتِي توفى فِيهَا نور الدّين قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أَكثر نور الدّين من الْأَوْقَاف وَالصَّدقَات وَعمارَة الْمَسَاجِد المهجورة وتعفيه آثَار الآثام وَإِسْقَاط كل مَا يدْخل فِي شُبْهَة الْحَرَام فَمَا أبقى سوى الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَمَا تحصل من قسْمَة الغلات على قويم الْمِنْهَاج قَالَ وَأَمرَنِي بكتبة مناشير لجَمِيع أهل الْبِلَاد فَكتبت أَكثر من ألف منشور وحسبنا مَا تصدق بِهِ على الْفُقَرَاء فِي تِلْكَ الْأَشْهر فَزَاد على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَكَانَت عَادَته فِي الصَّدَقَة أَن يحضر جمَاعَة من أماثل الْبَلَد من كل مَحَله ويسألهم عَمَّن يعْرفُونَ فِي جوارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 من أهل الْحَاجة ثمَّ يصرف إِلَيْهِم صَدَقَاتهمْ وَكَانَ برسم نَفَقَة الْخَاص فِي كل شهر من جِزْيَة أهل الذِّمَّة مبلغ ألفي قرطيس يصرفهُ فِي كسوته وَنَفَقَته وحوائجه المهمة حَتَّى أُجْرَة خياطه وجامكية طباخة ويستفضل مِنْهُ مَا يتَصَدَّق بِهِ فِي آخر الشَّهْر وَأما مَا كَانَ يهدي إِلَيْهِ من هَدَايَا الْمُلُوك وَغَيرهم فَإِنَّهُ كَانَ لَا يتَصَرَّف فِي شَيْء مِنْهُ لَا قَلِيل وَلَا كثير بل إِذا اجْتمع يُخرجهُ إِلَى مجْلِس القَاضِي يحصل ثمنه وَيصرف فِي عمَارَة الْمَسَاجِد المهجورة وَتقدم بإحصاء مَا فِي محَال دمشق فاناف على مئة مَسْجِد فَأمر بعمارة ذَلِك كُله وَعين لَهُ وقوفاً قَالَ وَلَو اشتغلت بِذكر وُقُوفه وصدقاته فِي كل بلد لطال الْكتاب وَلم يبلغ إِلَى أمد ومشاهدة أبنيته الدَّالَّة على خلوص نِيَّته تغنى عَن خَبَرهَا بالعيان وَيَكْفِي أسوار الْبلدَانِ فضلا عَن الرَّبْط والمدارس على اخْتِلَاف الْمذَاهب وَاخْتِلَاف الْمَوَاهِب وَفِي شرح طوله طول وَعَمله لله ذَلِك مبرور مَقْبُول وواظب على عقد مجَالِس الوعاظ وَنصب الْكُرْسِيّ لَهُم فِي القلعة فلإنذار والاتعاظ وأكبرهم الْفَقِيه قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَهُوَ مشغوف ببركة أنفاسه واغتنام كَلَامه واقتباسه ووفد من بَغْدَاد ابْن الشَّيْخ أبي النجيب الْأَكْبَر وَبسط لَهُ فِي كل أُسْبُوع الْمِنْبَر وشاقه وعظه وراقه مَعْنَاهُ وَلَفظه وَكَذَلِكَ وَفد إِلَيْهِ من أَصْبَهَان الْفَقِيه شرف الدّين عبد الْمُؤمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 شوروه وَمَا أَيمن تِلْكَ الْأَيَّام وأبرك تِلْكَ الشتوة قَالَ وَلما أسقط نور الدّين الْجِهَات المحظورة والشبه المحذورة عزل الشحن وَصرف عَن الرّعية بصرفهم المحن وَقَالَ للْقَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري انْظُر أَنْت فِي ذَلِك واحمل أُمُور النَّاس على الشَّرِيعَة قَالَ وَلم يكن لمَال الْمَوَارِيث الحشرية حَاصِل وَلَا لديوانه طائل فَجعل نور الدّين ثلث مَا يحصل فِيهِ لكَمَال لكَمَال الدّين الْحَاكِم فوفره نوابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وكثروه وَمَا كَانَ نور الدّين يُحَاسب القَاضِي على شَيْء من الْوُقُوف وَيَقُول انا قلدته على أَن يتَصَرَّف بِالْمَعْرُوفِ وَمَا فضل من مصارفها وشروط واقفها يَأْمُرهُ بصرفه فِي بِنَاء الأسوار وَحفظ الثغور وَكَانَت دولته نَافِذَة الْأَوَامِر منتظمة الْأُمُور قلت وَحكى الشَّيْخ أَبُو البركات الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله أَنه حضر مَعَ عَمه الْحَافِظ أبي الْقَاسِم رَحمَه الله مجْلِس نور الدّين لسَمَاع شَيْء من الحَدِيث فَمر فِي أثْنَاء الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج مُتَقَلِّدًا سَيْفا فاستفاد نور الدّين أمرا لم يكن يعرفهُ وَقَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتقلد السَّيْف يُشِير إِلَى التَّعَجُّب من عَادَة الْجند إِذْ هم على خلاف ذَلِك يربطونه بأوساطهم قَالَ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد مَرَرْنَا تَحت القلعة وَالنَّاس مجتمعون ينتظرون ركُوب السُّلْطَان فوقفنا نَنْظُر إِلَيْهِ مَعَهم فَخرج نور الدّين رَحمَه الله من القلعة وَهُوَ متقلد السَّيْف وَجَمِيع عسكره كَذَلِك فرحمة الله على هَذَا الْملك الَّذِي لم يفرط فِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل هَذِه الْحَالة بل لما بلغته رَجَعَ بِنَفسِهِ ورد جنده عَن عوائدهم اتبَاعا لما بلغه عَن نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا الظَّن بِغَيْر ذَلِك من السّنَن وَلَقَد بَلغنِي أَنه أَمر بِإِسْقَاط ألقابه فِي الدُّعَاء على المنابر وَرَأى لَهُ وزيره موفق الدّين خَالِد بن القيسراني الشَّاعِر فِي مَنَامه أَنه يغسل ثِيَابه وقص ذَلِك عَلَيْهِ ففكر سَاعَة ثمَّ أمره بكتابه إِسْقَاط المكوس وَقَالَ هَذَا تَفْسِير مَنَامك وَكَانَ فِي تَهَجُّده يَقُول ارْحَمْ العشار المكاس وَبعد أَن أبطل ذَلِك استعجل من النَّاس فِي حل وَقَالَ وَالله مَا أخرجناها إِلَّا فِي جِهَاد عَدو الْإِسْلَام يعْتَذر بذلك إِلَيْهِم عَن أَخذهَا مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وعَلى الْجُمْلَة كَانَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَردا فِي زَمَانه من بَين سَائِر الْمُلُوك وَلَو لم يكن إِلَّا استماعه للموعظة وانقياده لَهَا وَإِن اشْتَمَلت على أَلْفَاظ قد أغْلظ لَهُ فِيهَا قَرَأت فِي تَارِيخ إربل لشرف الدّين بن المستوفي رَحمَه الله قَالَ المنتجب الْوَاعِظ هُوَ أَبُو عُثْمَان المنتجب بن أبي مُحَمَّد البحتري الوَاسِطِيّ ورد إربل وَوعظ بهَا وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وسافر إِلَى نور الدّين مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر إِلَى الشَّام بِسَبَب الْغُزَاة وأنفذ لَهُ نور الدّين جملَة من مَال فَلم يقبلهَا وردهَا عَلَيْهِ أَنْشدني لَهُ يحيى بن مُحَمَّد بن صَدَقَة قصيدة عَملهَا فِي نور الدّين وَحلف أَنه سَمعهَا من لَفظه (مثل وقوفك أَيهَا الْمَغْرُور ... يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاء تمور) (إِن قيل نور الدّين رحت مُسلما ... فاحذر بِأَن تبقى وَمَالك نور) (أنهيت عَن شرب الْخُمُور وَأَنت من ... كأس الْمَظَالِم طافح مخمور) (عطلت كاسات المدام تعففا ... وَعَلَيْك كاسات الْحَرَام تَدور) (مَاذَا تَقول إِذا نقلت إِلَى البلى ... فَردا وجاءك مُنكر وَنَكِير) (وتعلقت فِيك الْخُصُوم وَأَنت فِي ... يَوْم الْحساب مسحب مجرور) (وَتَفَرَّقَتْ عَنْك الْجنُود وَأَنت فِي ... ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبور) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 (ووددت أَنَّك مَا وليت ولَايَة ... يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَام أَمِير) (وَبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة ... فِي عَالم الْمَوْتَى وَأَنت حقير) (وحشرت عُريَانا حَزينًا باكيا ... قلقا وَمَالك فِي الْأَنَام مجير) (أرضيت أَن تحيا وقلبك دارس ... عافي الخراب وجسمك الْمَعْمُور) (أرضيت أَن يحظى سواك بِقُرْبِهِ ... أبدا وَأَنت مبعد مهجور) (مهد لنَفسك حجَّة تنجو بهَا ... يَوْم الْمعَاد لَعَلَّك الْمَعْذُور) قلت وَلَعَلَّ هَذِه الأبيات كَانَت من أقوى الْأَسْبَاب المحركة إِلَى إبِْطَال تِلْكَ الْمَظَالِم والخلاص من تِلْكَ المآثم رَضِي الله عَن الْوَاعِظ والمتعظ بِسَبَبِهِ ووفق من رام الِاقْتِدَاء بِهِ ونقلت من خطّ الصاحب الْعَالم كَمَال الدّين أبي الْقَاسِم عمر بن أَحْمد بن هبة الله ابْن أبي جَرَادَة فِي = كتاب تَارِيخ حلب = الَّذِي صنفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَسمعت من لَفظه أَن نور الدّين رَحمَه الله كَانَ مَعَ أَبِيه بحلب فَلَمَّا حاصر أَبوهُ قلعة جعبر وَقتل عَلَيْهَا قصد حلب وَصعد قلعتها وملكها فِي شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَأحسن إِلَى الرّعية وَبث الْعدْل وَرفع الْجور وأبطل الْبدع واشتغل بالغزو وَفتح قلاعا كَثِيرَة من عمل حلب كَانَت بيد الفرنج وَحدث بحلب ودمشق عَن جمَاعَة من الْعلمَاء أَجَازُوا لَهُ مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن رِفَاعَة بن غَدِير السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ روى عَنهُ جمَاعَة من شُيُوخنَا مثل أبي الْفضل أَحْمد وَأبي البركات الْحسن وَأبي مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن أَبى عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن هبه الله الشَّافِعِي قَالَ ووقفت على رقْعَة بِخَط الْوَزير خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر بن القيسراني كتبهَا إِلَى نور الدّين وجوابها من نور الدّين على رَأس الورقة وَبَين السطور فنقلت جَمِيع مَا فِيهَا من خطيهما قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله كتب رقْعَة يطْلب من ابْن القيسراني أَن يكْتب لَهُ صُورَة مَا يدعى لَهُ بِهِ على المنابر حَتَّى لَا يَقُول الْخَطِيب مَا لَيْسَ فِيهِ ويصونه عَن الْكَذِب وَعَما هُوَ مُخَالف لحاله ونسخة الورقة بِخَط خَالِد أَعلَى الله قدر الْمولى فِي الدَّاريْنِ وبلغه آماله فِي نَفسه وَذريته وَختم لَهُ بِخَير فِي العاجلة والآجلة بمنه وجوده وفضله وحمده وقف الْمَمْلُوك على الرقعة وتضاعف دعاؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وابتهاله إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يرضى عَنهُ وَعَن وَالِديهِ وَأَن يسهل لَهُ السلوك إِلَى رِضَاهُ والقرب مِنْهُ والفوز عِنْده إِنَّه على كل شَيْء قدير وَقد رأى الْمَمْلُوك مَا يعرضه على الْعلم الْأَشْرَف زَاده الله شرفا وَهُوَ أَن يذكر الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِذا أَرَادَ الدُّعَاء للْمولى اللَّهُمَّ أصلح عَبدك الْفَقِير إِلَى رحمتك الخاضع لهيبتك المعتصم بقوتك الْمُجَاهِد فِي سَبِيلك المرابط لأعداء دينك أَبَا الْقَاسِم مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر نَاصِر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن هَذَا جَمِيعه لَا يدْخلهُ كذب وَلَا تزيد والرأي أَعلَى وأسمى إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَكتب نور الدّين على رَأس الرقعة بِخَطِّهِ مَا هَذَا صورته مقصودى أَلا يكذب على الْمِنْبَر أَنا بِخِلَاف كل مَا يُقَال أفرح بِمَا لَا أعمل قله عقل عَظِيم الَّذِي كتبت جيد هُوَ اكْتُبْ بِهِ نسخ حَتَّى نسيره إِلَى جَمِيع الْبِلَاد وَكتب فِي آخر الرقعة ثمَّ يبدؤوا بِالدُّعَاءِ اللَّهُمَّ أره الْحق حَقًا اللَّهُمَّ أسعده اللَّهُمَّ انصره اللَّهُمَّ وَفقه من هَذَا الْجِنْس قَالَ وحَدثني وَالِدي قَالَ استدعانا نور الدّين أَنا وعمك أَبُو غَانِم وَشرف الدّين بن أبي عصرون إِلَى الميدان الْأَخْضَر وأشهدنا عَلَيْهِ بوقف حوانيت على سور حمص فَلَمَّا شَهِدنَا عَلَيْهِ الْتفت إِلَيْنَا وَقَالَ بِاللَّه انْظُرُوا أَي شَيْء علمتموه من أَبْوَاب الْبر وَالْخَيْر دلونا عَلَيْهِ وأشركونا فِي الثَّوَاب فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 شرف الدّين بن أبي عصرون وَالله مَا ترك الْمولى شَيْئا من أَبْوَاب الْبر إِلَّا وَقد فعله وَلم يتْرك لأحد بعده فعل خير إِلَّا وَقد سبقه إِلَيْهِ وَقَالَ قَالَ لي وَالِدي دخل فِي أَيَّام نور الدّين إِلَى حلب تَاجر مُوسر فَمَاتَ بهَا وَخلف بهَا ولدا صَغِيرا ومالا كثيرا فَكتب بعض من بحلب إِلَى نور الدّين يذكر لَهُ أَن قد مَاتَ هَا هُنَا رجل تَاجر مُوسر وَخلف عشْرين ألف دِينَار أَو فَوْقهَا وَله ولد عمره عشر سِنِين وَحسن لَهُ أَن يرفع المَال إِلَى الخزانة إِلَى أَن يكبر الصَّغِير ويرضى مِنْهُ بِشَيْء ويمسك الْبَاقِي للخزانة فَكتب على رقعته أما الْمَيِّت فرحمه الله وَأما الْوَلَد فأنشأه الله وَأما المَال فثمره الله وَأما السَّاعِي فلعنه الله وبلغتني هَذِه الْحِكَايَة عَن غير نور الدّين أَيْضا وحَدثني الْحَاج عمر بن سنقر عَتيق شاذبجت النوري قَالَ سَمِعت الطواشي شاذبخت الْخَادِم يحْكى لنا قَالَ كنت يَوْمًا أَنا وسنقرجا واقفين على رَأس نور الدّين وَقد صلى الْمغرب وَجلسَ وَهُوَ مفكر فكرا عَظِيما وَجعل ينْكث بِأُصْبُعِهِ فِي الأَرْض فتعجبنا من فكره وَقُلْنَا ترى فِي أَي شَيْء يفكر فِي عائلته أَو فِي وَفَاء دينه فَكَأَنَّهُ فطن بِنَا فَرفع رَأسه فَقَالَ مَا تقولان فَقُلْنَا مَا قُلْنَا شَيْئا فَقَالَ بحياتي قولا لي فَقُلْنَا عجبنا من إفراط مَوْلَانَا فِي الْفِكر وَقُلْنَا يفكر فِي عائلته أَو فِي نَفسه فَقَالَ وَالله إِنَّنِي أفكر فِي وَال وليته أمرا من أُمُور الْمُسلمين فَلم يعدل فيهم أَو فِيمَن يظلم الْمُسلمين من أَصْحَابِي وأعواني وأخاف الْمُطَالبَة بذلك فبالله عَلَيْكُم وَإِلَّا فخبزي عَلَيْكُم حرَام لَا تريان قصَّة ترفع إِلَى أَو تعلمان مظْلمَة إِلَّا وأعلماني بهَا وارفعاها إِلَيّ وَسمعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أَبَا المحاسن يُوسُف بن رَافع بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 تَمِيم قَالَ كَانَ نور الدّين ينفذ كل سنة فِي شهر رَمَضَان يطْلب من الشَّيْخ عمر الملاء شَيْئا يفْطر عَلَيْهِ فَكَانَ ينفذ إِلَيْهِ الأكياس فِيهَا الفتيت والرقاق وَغير ذَلِك فَكَانَ نور الدّين يفْطر عَلَيْهِ وَكَانَ إِذا قدم الْموصل لَا يَأْكُل إِلَّا من طَعَام الشَّيْخ عمر الملاء قَالَ وَكَانَ نور الدّين لما صَارَت لَهُ الْموصل قد أَمر كمشتكين شحنة الْموصل أَلا يعْمل شَيْئا إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذا أمره القَاضِي بِهِ وَألا يعْمل القَاضِي والنواب كلهم شَيْئا إِلَّا بِأَمْر الشَّيْخ عمر الملاء قَالَ فَكَانَ لَا يعْمل بالسياسة وَبَطلَت الشحنكية فجَاء أكَابِر الدولة وَقَالُوا لكمشتكين قد كثر الدعار وأرباب الْفساد وَلَا يَجِيء من هَذَا شَيْء إِلَّا بِالْقَتْلِ والصلب فَلَو كتبت إِلَى نور الدّين وَقلت لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُم أَنا لَا أكتب إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنى وَلَا أجسر على ذَلِك فَقولُوا للشَّيْخ عمر يكْتب إِلَيْهِ فحضورا عِنْده وَذكروا لَهُ ذَلِك فَكتب إِلَى نور الدّين وَقَالَ لَهُ إِن الدعار والمفسدين وقطاع الطَّرِيق قد كَثُرُوا وَيحْتَاج إِلَى نوع سياسة فَمثل هَذَا لَا يَجِيء إِلَّا بقتل وصلب وَضرب وَإِذا أَخذ مَال إِنْسَان فِي الْبَريَّة من يشْهد لَهُ قَالَ فَقلب نور الدّين كِتَابه وَكتب على ظَهره إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق وَهُوَ أعلم بمصلحتهم وَشرع لَهُم شَرِيعَة وَهُوَ أعلم بِمَا يصلحهم وَإِن مصلحتهم تحصل فِيمَا شَرعه على وَجه الْكَمَال فِيهَا وَلَو علم أَن على الشَّرِيعَة زِيَادَة فِي الْمصلحَة لشرعه فَمَا لنا حَاجَة إِلَى زِيَادَة على مَا شَرعه الله تَعَالَى قَالَ فَجمع الشَّيْخ عمر الملاء أهل الْموصل وأقرأهم الْكتاب وَقَالَ انْظُرُوا فِي كتاب الزَّاهِد إِلَى الْملك وَكتاب الْملك إِلَى الزَّاهِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَسمعت صقر الْمعدل يَقُول سَمِعت مُقَلدًا يَعْنِي الدولعي يَقُول لما مَاتَ الْحَافِظ الْمرَادِي وَكُنَّا جمَاعَة الْفُقَهَاء قسمَيْنِ الْعَرَب والأكراد فمنا من مَال إِلَى الْمَذْهَب وأردنا أَن نستدعي الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَكَانَ بالموصل وَمنا من مَال إِلَى علم النّظر وَالْخلاف وَأَرَادَ أَن نستدعي القطب النَّيْسَابُورِي وَكَانَ قد جَاءَ وزار الْبَيْت الْمُقَدّس ثمَّ عَاد إِلَى بِلَاد الْعَجم فَوَقع بَيْننَا كَلَام بِسَبَب ذَلِك وَوَقعت فتْنَة بَين الْفُقَهَاء فَسمع نور الدّين بذلك فاستدعى جمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَى القلعة بحلب وَخرج إِلَيْهِم مجد الدّين يَعْنِي ابْن الداية عَن لِسَانه وَقَالَ نَحن مَا أردنَا بِبِنَاء الْمدَارِس إِلَّا نشر الْعلم ودحض الْبدع من هَذِه الْبَلدة وَإِظْهَار الدّين وَهَذَا الَّذِي جرى بَيْنكُم لَا يحسن وَلَا يَلِيق وَقد قَالَ الْمولى نور الدّين نَحن نرضى الطَّائِفَتَيْنِ ونستدعي شرف الدّين بن أبي عصرون وقطب الدّين النَّيْسَابُورِي فاستدعاهما جَمِيعًا وَولى مدرسة ابْن أبي عصرون لشرف الدّين ومدرسة النفري لقطب الدّين قَالَ وعلقت أَيْضا من خطّ فَقِيه كَانَ معيدا بالنظامية يُقَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 لَهُ أَبُو الْفَتْح بنجير بن أبي الْحسن بن بنجير الأشتري وَكَانَ ورد دمشق وَجمع لنُور الدّين سيرة مختصرة قَالَ كَانَ نور الدّين يقْعد فِي الْأُسْبُوع أَرْبَعَة أَيَّام أَو خَمْسَة أَيَّام فِي دَار الْعدْل للنَّظَر فِي أُمُور الرّعية وكشف الظلامة لَا يطْلب بذلك درهما وَلَا دِينَارا وَلَا زِيَادَة ترجع إِلَى خزانته وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضاة الله وطلبا للثَّواب والزلفى فِي الْآخِرَة وَيَأْمُر بِحُضُور الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَيَأْمُر بِإِزَالَة الْحَاجِب والبواب حَتَّى يصل إِلَيْهِ الضَّعِيف وَالْفَقِير وَالْقَوِي والغني ويكلمهم بِأَحْسَن الْكَلَام ويستفهم مِنْهُم بأبلغ النظام حَتَّى لَا يطْمع الْغَنِيّ فِي دفع الْفَقِير بِالْمَالِ وَلَا الْقوي فِي دفع الضَّعِيف بالقال ويحضر فِي مَجْلِسه الْعَجُوز الضعيفة الَّتِي لَا تقدر على الْوُصُول إِلَى خصمها وَلَا المكالمة مَعَه فيأمر بمساواته لَهَا فتغلب خصمها طَمَعا فِي عدله ويعجز الْخصم عَن دَفعهَا خوفًا من عدله فَيظْهر الْحق عِنْده فيجرى الله على لِسَانه مَا هُوَ مُوَافق للشريعة وَيسْأل الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء عَمَّا يشكل عَلَيْهِ من الْأُمُور الغامضة فَلَا يجرى فِي مَجْلِسه إِلَّا مَحْض الشَّرِيعَة قَالَ وَأما زَمَانه فَهُوَ مَصْرُوف إِلَى مصَالح النَّاس وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية والشفقة عَلَيْهِم وَأما فكره فَفِي إِظْهَار شعار الْإِسْلَام وتأسيس قَاعِدَة الدّين من بِنَاء الرَّبْط والمدارس والمساجد حَتَّى إِن بِلَاد الشَّام كَانَت خَالِيَة من الْعلم وَأَهله وَفِي زَمَانه صَارَت مقرا للْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والصوفية لصرف همته إِلَى بِنَاء الْمدَارِس والربط وترتيب أُمُورهم وَالنَّاس آمنون على أَمْوَالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأنفسهم وَلَو لم يكن من هَذِه الْخِصَال إِلَّا مَا علم مِنْهُ وشاع أَنه إِذا وعد وَفِي وَإِذا أوعد عَفا وَإِذا تحدث بِشَيْء يقف عَلَيْهِ وَلَا يُخَالف قَوْله وَلَا يرجع عَن لَفظه ومنطقه لكفى وَلَا يجْرِي فِي مَجْلِسه الْفسق والفجور والشتم والغيبة والقدح فِي النَّاس وَالْكَلَام فِي أعراضهم كَمَا يجرى فِي مجَالِس سَائِر الْمُلُوك وَلَا يطْمع فِي أَخذ أَمْوَال النَّاس وَلَا يرضى بِأَن يَأْخُذ أحد من أَمْوَال الشَّرِيعَة شَيْئا بِغَيْر حق قَالَ وبلغنا بأخبار التَّوَاتُر عَن جمَاعَة يعْتَمد على قَوْلهم أَنه أَكثر اللَّيَالِي يُصَلِّي ويناجي ربه مُقبلا بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوْقَاتهَا بِتمَام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها قَالَ وبلغنا عَن جمَاعَة من الصُّوفِيَّة الَّذين يعْتَمد على أَقْوَالهم مِمَّن دخلُوا ديار الْقُدس للزيارة حِكَايَة عَن الْكفَّار أَنهم يَقُولُونَ ابْن القسيم لَهُ مَعَ الله سر فَإِنَّهُ مَا يظفر علينا بِكَثْرَة جنده وَعَسْكَره وَإِنَّمَا يظفر علينا بِالدُّعَاءِ وَصَلَاة اللَّيْل فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيرْفَع يَده إِلَى الله وَيَدْعُو وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب دعاءه وَيُعْطِيه سؤله وَمَا يرد يَده خائبة فيظفر علينا قَالَ فَهَذَا كَلَام الْكفَّار فِي حَقه قَالَ وَحدثنَا الشَّيْخ دَاوُد الْمَقْدِسِي خَادِم قبر شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ حضرت فِي دَار الْعدْل فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَخمسين فَقَامَ رجل وَادّعى على نور الدّين الْملك الْعَادِل أَن أَبَاهُ أَخذ من مَاله شَيْئا بِغَيْر حق قَالَ وَأَنا مطَالب لَك بذلك فَقَالَ نور الدّين أَنا مَا أعلم ذَلِك فَإِن كَانَ لَك بَيِّنَة تشهد بذلك فهاتها وَأَنا أرد إِلَيْك مَا يخصني فَإِنِّي مَا ورثت جَمِيع مَاله كَانَ هُنَاكَ وَارِث غَيْرِي فَمضى الرجل ليحضر الْبَيِّنَة فَقلت فِي نَفسِي هَذَا هُوَ الْعدْل قَالَ وَحضر رجل زاهد فِيهِ سمة الْخَيْر مَعْرُوف بالسداد وَالصَّلَاح فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا أَخُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الشَّيْخ أبي الْبَيَان وَكَانَ قد أودع عِنْد أَخِيه أبي الْبَيَان وَدِيعَة وَقد توفّي فَادّعى الْمُودع على هَذَا الشَّيْخ أَنه يعلم بالوديعة وطالبه بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَأنْكر هَذَا الرجل علمه بالوديعة فَأوجب عَلَيْهِ القَاضِي كَمَال الدّين حكم الشَّرْع أَن يحلف أَنه لَا علم لَهُ بِهَذِهِ الْوَدِيعَة فَحلف على ذَلِك فَجعل الْمُودع يشنع عَلَيْهِ وَيَقُول إِنَّه حلف كَاذِبًا وَيتَكَلَّم فِي عرضه وَيَقُول فِي حَقه من التنمس وَغَيره فَحَضَرَ عِنْد الْملك الْعَادِل شاكياً مِنْهُ وذاكرا سيرته وطريقته وَمن الَّذِي يقدر أَن يَقُول فِي حَقي هَذَا ويتعرض بالتماسه من الْملك الْعَادِل التَّقَدُّم بإحضاره وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ فِيمَا يَقُول فِي حَقه فَلَمَّا فرغ من الْكَلَام وَرمى مَا كَانَ فِي جعبته من دَعْوَى الْحَقِيقَة والطريقة وَكَانَ حَاصله التمَاس الْإِنْكَار عَلَيْهِ فَقَالَ الْملك الْعَادِل أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه {وَإِذَا خَاطَبَهُم الَجْاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً} فَإِذا كَانَ هُوَ يجهل عَلَيْك وَيَقُول فِي حَقك بِالْجَهْلِ مَا لَا يجوز فَيجب عَلَيْك أَلا تعْمل مَعَه مثل مُعَامَلَته فَتكون مثله فكأنك قابلت الْإِسَاءَة بالإساءة وَمن حَقك أَن تقَابل الْإِسَاءَة بِالْإِحْسَانِ فَقلت فِي نَفسِي الْحق مَا قَالَ الْملك الْعَادِل إِمَّا قَرَأَ هَذَا فِي كتب التفاسير فَثَبت فِي قلبه أَو أجراه الله على لِسَانه وأنطقه بِهِ قَالَ وَحضر جمَاعَة من التُّجَّار وَشَكوا أَن الْقَرَاطِيس كَانَ سِتُّونَ مِنْهَا بِدِينَار فَصَارَ سَبْعَة وَسِتُّونَ بِدِينَار وتزيد وتنقص فيخسرون فَسَأَلَ الْملك الْعَادِل عَن كَيْفيَّة الْحَال فَذكرُوا أَن عقد الْمُعَامَلَة على اسْم الدِّينَار وَلَا يرى الدِّينَار فِي الْوسط وَإِنَّمَا يعدون الْقَرَاطِيس بالسعر تَارَة سِتِّينَ بِدِينَار وَتارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 سَبْعَة وَسِتِّينَ بِدِينَار وَأَشَارَ كل وَاحِد من الْحَاضِرين على نور الدّين أَن يضْرب الدِّينَار باسمه وَتَكون الْمُعَامَلَة بِالدَّنَانِيرِ الملكية وَتبطل الْقَرَاطِيس بِالْكُلِّيَّةِ فَسكت سَاعَة وَقَالَ إِذا ضربت الدِّينَار وأبطلت الْمُعَامَلَة بالقراطيس فَكَأَنِّي خربَتْ بيُوت الرّعية فان كل وَاحِد من السوقة عِنْده عشرَة آلَاف وَعِشْرُونَ ألف قرطاس أيش يعْمل بِهِ فَيكون سَببا لخراب بَيته قَالَ فَأَي شَفَقَة تكون أعظم من هَذَا على الرّعية قَالَ وَحضر صبي وَبكى عِنْد الْملك الْعَادِل وَذكر أَن أَبَاهُ مَحْبُوس على أُجْرَة حجرَة من حجر الْوَقْف فَسَأَلَ عَن حَاله قَالُوا هَذَا الصَّبِي ابْن الشَّيْخ أَبى سعد الصُّوفِي وَهُوَ رجل زاهد قَاعد فِي حجرَة الْوَقْف وَلَيْسَ لَهُ قدرَة على الْأُجْرَة وَقد حَبسه وَكيل الْوَقْف لِأَنَّهُ اجْتمع عَلَيْهِ أُجْرَة سنة قَالَ الْملك الْعَادِل كم أُجْرَة السّنة فَقَالُوا مئة وَخَمْسُونَ قرطاسا وَذكروا سيرته وطريقته وَفَقره فرق لَهُ وأنعم عَلَيْهِ وَقَالَ نَحن نُعْطِيه كل سنة هَذَا الْقدر ليصرفه إِلَى الْأُجْرَة وَيقْعد فِيهَا وَتقدم بذلك وبإخراجه من الْحَبْس فوصل إِلَى قلب كل وَاحِد من الْحَاضِرين الْفَرح حَتَّى كَأَن الإنعام كَانَ فِي حَقه أخبرنَا افتخار الدّين عبد الْمطلب بن الْفضل بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي قَالَ كَانَ عِنْد القَاضِي تَاج الدّين عبد الغفور بن لُقْمَان الكردري قَاضِي حلب غُلَام قد جعله لمجلس الحكم يَدعِي سويداً يحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْخُصُوم إِلَى مجْلِس الحكم فَحَضَرَ بعض التُّجَّار وَادّعى أَن لَهُ على نور الدّين دَعْوَى فَقَالَ الكردري لسويد الْمَذْكُور امْضِ إِلَى نور الدّين وادعه إِلَى مجْلِس الحكم وعرفه أَنه حضر شخص يطْلب حُضُوره وَكَانَ نور الدّين فِي الميدان فجَاء سُوَيْد إِلَى بَاب الميدان فَخرج إِسْمَاعِيل الخزندار فَوَجَدَهُ فَتقدم سُوَيْد إِلَيْهِ وَقَالَ قد سيرني تَاج الدّين القَاضِي وَذكر أَنه حضر تَاجر وَذكر أَن لَهُ دَعْوَى على الْمولى نور الدّين وَقد أنفذني تَاج الدّين وَقَالَ لي كَذَا وَكَذَا فَضَحِك إِسْمَاعِيل الخزندار وَدخل على نور الدّين ضَاحِكا وَقَالَ لَهُ مستهزئا يقوم الْمولى فَقَالَ إِلَى أَيْن فَقَالَ قد حضر سُوَيْد غُلَام تَاج الدّين الكردري وَقَالَ إِن تَاج الدّين أرْسلهُ يطْلب الْمولى إِلَى مجْلِس الحكم فَأنْكر نور الدّين على إِسْمَاعِيل استهزاءه وَقَالَ تستهزئ بطلبي إِلَى مجْلِس الحكم وَقَالَ نور الدّين يحضر فرسي حَتَّى نركب إِلَيْهِ السّمع وَالطَّاعَة قَالَ الله تَعَالَى {إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إِذا دُعُوا إلىَ الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا} ثمَّ نَهَضَ وَركب حَتَّى دخل بَاب الْمَدِينَة فاستدعى سويدا وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى القَاضِي تَاج الدّين وَسلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ إِنِّي جِئْت إِلَى هَا هُنَا امتثالا لأمر الشَّرْع وأحتاج فِي الْحُضُور الى مَجْلِسه إِلَى سلوك هَذِه الْأَزِقَّة وفيهَا الأطيان وَهَذَا وَكيلِي يسمع الدَّعْوَى وَإِن تَوَجَّهت على يَمِين أحضر إِن شَاءَ الله قَالَ فَحَضَرَ الْوَكِيل وَسمع الدَّعْوَى وتوجهت الْيَمين فَقَالَ الْكرْدِي قد تَوَجَّهت الْيَمين فليحضر فَلَمَّا بلغ نور الدّين ذَلِك وَعلم أَنه لَا مندوحة عَن حُضُور مَجْلِسه للْيَمِين استدعى ذَلِك التَّاجِر وَأصْلح الْأَمر فِيمَا بَينه وَبَينه وأرضاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين يَقُول حكى لي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قَالَ أَرْسلنِي الْملك الْعَادِل نور الدّين إِلَى عمي أَسد الدّين شيركوه وَكَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بمشورته فَقَالَ امْضِ وَقل لأسد الدّين قد خطر فِي بالي أَن أبطل هَذِه الضمانات بأسرها والمؤن والمكوس وَخذ رَأْيه فِي ذَلِك قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي فَقَالَ امْضِ وَقل لَهُ يَا مَوْلَانَا إِذا فعلت ذَلِك فالأجناد الَّذين أَرْزَاقهم على هَذِه الْجِهَات من أَيْن تعطيهم وتحتاج إِلَيْهِم للغزاة وَخُرُوج العساكر فَقَالَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين فَقلت لِعَمِّي هَذَا أَمر قد ألهمه الله إِيَّاه فساعده عَلَيْهِ فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فعدت إِلَى نور الدّين فأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي عمي فَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ إِذا كُنَّا نغزو من هَذِه الْجِهَات نتركها ونقعد وَلَا نخرج قَالَ فعدت إِلَى عمي وَقلت لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ قل لَهُ إِن تركوك تقعد فجيد هُوَ فراجعته فِي أَلا يثبطه عَن ذَلِك فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وَقلت لَهُ ذَلِك فَترك ذَلِك مُدَّة ثمَّ أمضى مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ قَالَ لي صقر بن يحيى بَلغنِي أَن موفق الدّين خَالِدا رأى فِي النّوم كَأَن نور الدّين دفع إِلَيْهِ ثِيَابه ليغسلها فَقص مَنَامه على نور الدّين فتمعر وَجه نور الدّين فَخَجِلَ موفق الدّين وَبَقِي أَيَّامًا على غَايَة من الخجل فاستدعاه يَوْمًا نور الدّين وَقَالَ تعال قد آن لَك أَن تغسل ثِيَابِي اقعد واكتب بِإِطْلَاق الْمُؤَن والمكوس والأعشار واكتب للْمُسلمين إِنَّنِي قد رفعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عَنْكُم مَا رَفعه الله عَنْكُم وَأثبت عَلَيْكُم مَا أثْبته الله تَعَالَى عَلَيْكُم قَالَ فَكتب موفق الدّين توقيعا سَمِعت خَليفَة بن سُلَيْمَان بن خَليفَة الْفَقِيه يَقُول سَمِعت أبي يَقُول لما كسر نور الدّين يَعْنِي كسرة كسرة البقيعة تكلم الْبُرْهَان الْبَلْخِي فَقَالَ أتريدون أَن تنصرُوا وَفِي عسكركم الْخُمُور والطبول والزمور كلا وكلاما مَعَ هَذَا فَلَمَّا سَمعه نور الدّين قَامَ وَنزع عَنهُ ثِيَابه تِلْكَ وَعَاهد الله تَعَالَى على التَّوْبَة وَشرع فِي إبِْطَال المكوس إِلَى أَن خرج فِي نوبَة حارم وَكسر الإفرنج وَسمعت صديقنا شمس الدّين إِسْمَاعِيل بن سودكين بن عبد الله النوري وَكَانَ أَبوهُ أحد مماليك نور الدّين وعتيقه يَقُول سَمِعت وَالِدي يَقُول كَانَ نور الدّين مَحْمُود رَحمَه الله يلبس فِي اللَّيْل مسحا وَيقوم يُصَلِّي فِيهِ قِطْعَة من اللَّيْل قَالَ وَكَانَ يرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء ويبكي ويتضرع وَيَقُول ارْحَمْ العشار المكاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قَالَ لي قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين سير نور الدّين إِلَى بَغْدَاد كتابا يعلم الْخَلِيفَة بِمَا أطلق وبمقدار مَا أطلق ويسأله أَن يتَقَدَّم إِلَى الوعاظ بِأَن يستجعلوا من التُّجَّار وَمن جَمِيع الْمُسلمين لَهُ فِي حل مِمَّا كَانَ قد وصل إِلَيْهِ يعْنى من أَمْوَالهم فَتقدم بذلك وَجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك حَدثنِي رضى الدّين أَبُو سَالم عبد الْمُنعم بن الْمُنْذر أَن نور الدّين حِين خرج لأخذ شيزر خرج أَبُو غَانِم بن الْمُنْذر صحبته فَأمره نور الدّين رَحمَه الله بِكِتَابَة منشور بِإِطْلَاق الْمَظَالِم بحلب ودمشق وحمص وحران وسنجار والرحبة وعزاز وتل بَاشر وعداد الْعَرَب فَكتب عَنهُ توقيعا نسخته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا تقرب بِهِ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صافحا وَأطْلقهُ مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا رعاهم الله لضعفهم عَن عمَارَة مَا أخربته أَيدي الْكفَّار أبادهم الله تَعَالَى عِنْد استيلائهم على الْبِلَاد وَظُهُور كلمتهم فِي الْعباد رأفة بِالْمُسْلِمين المثاغرين ولطفا بالضعفاء المرابطين الَّذين خصهم الله سُبْحَانَهُ بفضيلة الْجِهَاد واستمحنهم بمجاورة أهل العناد اختبارا لصبرهم وإعظاما لأجرهم فصبروا احتسابا وأجزل الله لَهُم أجرا وثوابا {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} وَأعَاد عَلَيْهِم مَا اغتصبوا عَلَيْهِ من أملاكهم الَّتِي أَفَاء الله عَلَيْهِم بهَا من الْفتُوح العمرية واقرها فِي الدولة الإسلامية بَعْدَمَا طَرَأَ عَلَيْهَا من الظلمَة الْمُتَقَدِّمين واسترجعه بِسَيْفِهِ من الْكَفَرَة الملاعين فطمس عَنْهُم بذلك معالم الْجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَهدم أَرْكَان التَّعَدِّي واقر الْحق مقره لقَوْله تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثاَلهاَ} {واللهُ يُضاَعِفُ لُمِنَ يَشَاءُ} ثمَّ لما أَعَانَهُ الله بعونه وأيده بنصره وقمع بِهِ عَادِية الْكفْر وَأظْهر بهمته شَعَائِر الْإِسْلَام وأظفره بالفئة الطاغية وَأمكنهُ من مُلُوكهَا الباغية فجعلهم بَين قَتِيل غير مقاد وهارب مَمْنُوع الرقاد {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِين فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنن أَو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسَاب وَإن لَهُ عِنْدَنا لَزُلفى وَحُسْن مآب} علم أَن الدُّنْيَا فانية فاستخدمها للآخرة الْبَاقِيَة واستبقى ملكه الزائل بَان قدمه أَمَامه وَجعله ذخْرا للمعاد فالتقوى مَادَّة دارة إِذا انْقَطَعت الْموَاد وجاًدة وَاضِحَة حِين تَلْتَبِس الْجواد {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} فصفح لكافة الْمُسَافِرين وَجَمِيع الْمُسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه وحرمها على كل متطاول إِلَيْهَا ومتهافت عَلَيْهَا تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها فَكَانَ مبلغ مَا سامح بِهِ وَأطْلقهُ وأنفذ الْأَمر فِيهِ اتبَاعا لكتاب الله وَسنة نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل سنة من الْعين مئة ألف وَسِتَّة وَخمسين ألف دِينَار جِهَة ذَلِك حلب خَمْسُونَ ألف دِينَار عزاز عَن مكس جددته الفرنج خذلهم الله على الْمُسَافِرين عشرَة آلَاف دِينَار تل بَاشر أحد وَعِشْرُونَ ألف دِينَار المعرة ثَلَاثَة آلَاف دِينَار دمشق المحروسة لما استنجد بِهِ أَهلهَا واستصرخ من فِيهَا خوفًا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ من اسْتِيلَاء الْعَدو وضعفهم عَن مقاومة مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم فِي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 سنة وَهُوَ رسم يسمونه الفسة عشرُون ألف دِينَار حمص سِتَّة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار حران خَمْسَة آلَاف دِينَار سنجار ألف دِينَار الرحبة عشرَة آلَاف دِينَار عداد الْعَرَب عشرَة آلَاف دِينَار وَمَا وَقفه وَتصدق بِهِ وأجراه فِي سبل الْخيرَات ووجوه الْبر وَالصَّدقَات تَقْدِير ثمنه مئتا ألف دِينَار وَتَقْدِير الْحَاصِل من ارتفاعه فِي كل سنة ثَلَاثُونَ ألف دِينَار من ذَلِك مَا وَقفه على الْمدَارِس الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والملكية والحنبلية وأئمتها ومدرسيها وفقهائها وَمَا وَقفه على آدر الصُّوفِيَّة والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار وَمَا وَقفه على السَّبِيل فِي طَرِيق الْحجاز وَمَا وَقفه على فكاك الأسرى وَتَعْلِيم الْأَيْتَام ومقر الغرباء وفقراء الْمُسلمين وَمَا وَقفه على الْأَشْرَاف العلويين والعباسيين وَمَا ملكه لجَماعَة من الْأَوْلِيَاء والغزاة والمجاهدين هَذَا جَمِيعه سوى مَا أنعم بِهِ على أهل الثغور حرسها الله تَعَالَى من أملاكهم الَّتِي تقدم ذكرهَا فَإِنَّهُ يضاهي هَذَا الْمبلغ وَزِيَادَة عَلَيْهِ جعل ذَلِك ذَرِيعَة عِنْد الله تَعَالَى وتقربا إِلَيْهِ مُضَافا إِلَى مَا أنفقهُ فِي الْغُزَاة وَالْجهَاد واستئصال شأفة الْكفْر والعناد من خزانته المعمورة وأمواله الموروثة المذخورة طلبا لما عِنْد الله {وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب} فَالْوَاجِب على كل إِمَام عَادل وسلطان قَادر أَن يمده ويوده ويشد عضده وَيُقَوِّي عزمه وَينفذ حكمه وعَلى كل مُسلم أَن يواصله بِالدُّعَاءِ آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَكتب خَادِم دولته وغذي نعْمَته عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُنعم بن رضوَان بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن الْمُنْذر الْحلَبِي غفر الله لَهُ ورحمه وَرَضي عَنهُ إِلَى كل من يصل إِلَيْهِ من أَئِمَّة الدّين وفقهاء الْمُسلمين وَأَصْحَاب الزوايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المتعبدين وكافة التُّجَّار والمسافرين أحسن الله توفيقهم وسدد إِلَى أغراض الْخَيْر تفويقهم ليشعروا بذلك من حضرهم من التُّجَّار والمترددين إِلَيْهِم من الْأَسْفَار ليعرفوا قدر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} ويمدوه بأدعيتهم ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق من أَخذ مؤنتهم فَإِنَّهُ لم يصرف ذَلِك إِلَّا فِي وَجه بر وتجهيز جَيش ومعونة مُجَاهِد وردع كَافِر ومعاند فهم شركاؤه فِي الثَّوَاب قَالَ لي رضى الدّين أَبُو سَالم بن الْمُنْذر فَلَمَّا وقف نور الدّين على قَوْله ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق اسْتحْسنَ ذَلِك كثيرا ووعده بإقطاع حسن وَاتفقَ مَوته بعد ذَلِك قلت ونقلت من خطّ الشَّيْخ الْأمين أَبى الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن الْخضر بن الْحُسَيْن بن عَبْدَانِ الأزدى الدِّمَشْقِي وقف الْمولى نور الدّين بُسْتَان الميدان سوى الغيضة الَّتِي من قبليه بعد عِمَارَته وَإِصْلَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ على تطييب الْمَسَاجِد الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا وَهِي جَامع دمشق المحروسة جَامع قلعة دمشق مدرسة الْحَنَفِيَّة الَّتِي جددها نور الدّين مَسْجِد ابْن عَطِيَّة دَاخل بَاب الْجَابِيَة مَسْجِد ابْن لبيد بالفسقار مَسْجِد سوق الرماحين الْمَسْجِد الْمُعَلق بسوق الصاغة مَسْجِد دَار الْبِطِّيخ الْمُعَلق مَسْجِد العباسي بسوق الْأَحَد مَسْجِد جدده نور الدّين جوَار بيعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الْيَهُود جَامع الصَّالِحين بجبل قاسيون يبْتَاع بذلك طيب وعود وَيفرق على هَذِه الْأَمَاكِن النّصْف للجامع بِدِمَشْق وَالنّصف الثَّانِي يَنْقَسِم على أحد عشر جُزْءا جزءان للمدرسة وَتِسْعَة أَجزَاء لتسعة الْمَسَاجِد الْبَاقِيَة لكل مَسْجِد جُزْء وَاحِد تطيب هَذِه الْأَمَاكِن فِي الْأَوْقَات الشَّرِيفَة ومواسم الاجتماعات وليالي شهر رَمَضَان والأعياد وَأَيَّام الْجمع وَقت عقد الْجُمُعَة فِي الْجَوَامِع وليالي الْجُمُعَة وَالْخَمِيس والاثنين ونقلت من خطه أَيْضا أَن نور الدّين رَحمَه الله الله تَعَالَى حضر عِنْده بقلعة دمشق يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر صفر سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة القَاضِي زكي الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي وَالْفُقَهَاء الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون والخطيب عز الدّين أَبُو البركات بن عبد وَالْإِمَام عز الدّين أَبُو الْقَاسِم على بن الْحسن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الماسح الشافعيون وَشرف الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى الْمَالِكِي وَشرف الْإِسْلَام نجم بن عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ وَرَضي الدّين أَبُو غَالب عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أَسد التَّمِيمِي رَئِيس دمشق ونظام الدّين أَبُو الْكِرَام المحسن بن أبي المضاء مُتَوَلِّي الوزارة بِدِمَشْق والأعيان من شُهُود الْعَدَالَة بِدِمَشْق وهم عبد الصَّمد بن تَمِيم وَعبد الْوَاحِد بن هِلَال والصائن أَبُو الْحُسَيْن وَغَيرهم فَسَأَلَهُمْ نور الدّين عَن الْمُضَاف إِلَى أوقاف الْمَسْجِد الْجَامِع بِدِمَشْق من الْمصَالح الَّتِي لَيست وَقفا عَلَيْهِ وَأَن يظْهر كل وَاحِد مِنْهُم مَا يُعلمهُ من ذَلِك ليعْمَل بِهِ وَيَقَع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُم لَيْسَ يجوز لأحد مِنْكُم أَن يعلم من ذَلِك شَيْئا إِلَّا ويذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَلَا يُنكر شَيْئا مِمَّا يَقُوله غَيره إِلَّا وينكره والساكت مِنْكُم مُصدق للناطق ومصوب لقَوْله وَلَيْسَ الْعَمَل إِلَّا على مَا تتفقون عَلَيْهِ وتشهدون بِهِ وعَلى هَذَا كَانَ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم يَجْتَمعُونَ ويتشاورون فِي مصَالح الْمُسلمين فَكل من الْحَاضِرين شكره على مَا قَصده وَأثْنى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالْبَقَاءِ ثمَّ أَمر نور الدّين مُتَوَلِّي أوقاف الْجَامِع والمساجد والبيمارستان وقني السَّبِيل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك أَن يقْرَأ عَلَيْهِ بِمحضر من الْمَذْكُورين ضريبة الْأَوْقَاف موضعا موضعا ليفرد مَا يعلمُونَ أَنه للْمصَالح دون الْوَقْف فَافْتتحَ بِالسوقِ المستجد تَحت المئذنة الغربية جوَار البيمارستان فَقَالَ الصائن وَابْن تَمِيم وَابْن هِلَال هَذَا السُّوق بِكَمَالِهِ لمصَالح الْمُسلمين وَلَيْسَ من وقف الْجَامِع لِأَنَّهُ احدث فِي طَرِيق الْمُسلمين وَقد صرف فِي الْجَامِع من أجوره أوفى مِمَّا غرم على عِمَارَته من وَقفه فَصَدَّقَهُمْ الْحَاضِرُونَ على مَا شهدُوا بِهِ ومبلغ ذَلِك خمس وَعِشْرُونَ عضادة ثمَّ عين للْمصَالح أَيْضا مَا فِي زِيَادَة الْجَامِع الْقبلية وَزِيَادَة بَاب الْبَرِيد فِي الصَّفّ القبلي والشامي من العضائد والحوانيت وَالْحجر الَّتِي طباقها وطباق الطَّرِيق بحضرتها وَجَمِيع بيُوت الخضراء من قبْلَة الْجَامِع والفرن المستجد بهَا وَدَار الْخَيل والمساكن والحوانيت الْمُجَاورَة لدار الْخَيل وحانوت فِي الخواصين فِي الصَّفّ الغربي وَاثنا عشر حانوتا متلاصقات فِي الصَّفّ الشَّرْقِي تعرف بالمعتصميات وَنصف حَانُوت والفرجة المستجدة بِحَضْرَة دَار الْوكَالَة إِلَى سوق على وعدتها ثَلَاثَة عشر حانوتا ومصطبة وَثَلَاثَة حوانيت فِي الصَّفّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الشَّامي من سوق على بلصق الفرجة من شرقها وحانوت بالفسقار فِي الصَّفّ القبلي يعرف بسكنى ثَعْلَب الفقاعي وحوانيت اللبادين وَالَّتِي بحضره الفوارة وَتَحْت اللبادين وقيسارية العقيقي بسوق الْأَحَد وتعرف بدار الشَّجَرَة وحانوتان فِي الصَّفّ الشَّرْقِي بِحَضْرَة فندق الزَّيْت من غرب درب التمارين وحانوت بقنطرة الشماعين فِي الصَّفّ الشَّامي بِحَضْرَة البياطرة وَقطعَة جوَار المأمونية من غربها والعضائد الَّتِي فِي الصَّفّ الشَّامي من سوق الْأَحَد وَهِي خَمْسَة عشر عضادة وَسِتَّة أسْهم من طاحونة السَّقِيفَة وَذَلِكَ كُله بعضه مِيرَاث عَن بني أُميَّة كالخضراء وَدَار الْخَيل وَبَعضه اشْترِي بِمَال الْوَقْف والمصالح وَبَعضه أَخذ مِمَّن باد أَهله الْمَوْقُوف عَلَيْهِم وَلم يكن لَهُ مَال وَبَعضه أحدث فِي الطَّرِيق قَالَ فَلَمَّا شهدُوا بِصِحَّة جَمِيع مَا ذكر وَأَن مَنَافِع ذَلِك وأجوره جَارِيَة فِي الْمصَالح قَالَ نور الدّين إِن أهم الْمصَالح سد ثغور الْمُسلمين وَبِنَاء السُّور الْمُحِيط بِدِمَشْق والقل وَالْخَنْدَق لصيانة الْمُسلمين وحريمهم وَأَمْوَالهمْ فصوبوا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وشكروه ثمَّ سَأَلَهُمْ عَن فواضل الْأَوْقَاف هَل يجوز صرفهَا فِي عمَارَة الأسوار وَعمل الخَنْدَق للْمصْلحَة المتوجهة للْمُسلمين فَأفْتى شرف الدّين عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي بِجَوَاز ذَلِك وَمِنْهُم من روى فِي مهلة النّظر وَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين بن أَبى عصرون الشَّافِعِي لَا يجوز أَن يصرف وقف مَسْجِد إِلَى غَيره وَلَا وقف معِين إِلَى جِهَة غير تِلْكَ الْجِهَة وَإِذا لم يكن بُد من ذَلِك فَلَيْسَ طَرِيقه إِلَّا أَن يقترضه من إِلَيْهِ الْأَمر فِي بَيت مَال الْمُسلمين فيصرفه فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الْمصَالح وَيكون الْقَضَاء وَاجِبا من بَيت المَال فوافقه الْأَئِمَّة الْحَاضِرُونَ مَعَه على ذَلِك ثمَّ سَالَ ابْن أَبى عصرون نور الدّين هَل أنْفق شَيْء قبل الْيَوْم على سور دمشق وعَلى بِنَاء الكلاسة من شام الْجَامِع وعَلى إنْشَاء السّقف المقرنص تَحت النسْر بالجامع وعَلى الرصاص الْمَعْمُول على سطح الرواق الشَّامي من الْجَامِع وَسَائِر العمارات الْمُتَعَلّقَة بالجامع الْمَعْمُور بِغَيْر إِذن مَوْلَانَا وَهل كَانَ إِلَّا مبلغا لِلْأَمْرِ العالي فِي عمل ذَلِك فَقَالَ نور الدّين لم تنْفق ذَلِك وَلَا شَيْء مِنْهُ إِلَّا بإذني وَأَنا أمرت بِهِ وبفتح المشهدين من غربي الْجَامِع الْمَعْمُور اللَّذين كَانَا مخزنين وَكنت مبلغا عني ومؤديا أَمْرِي قلت هَذَا مُخْتَصر الْمحْضر الَّذِي كتب فِيهِ صُورَة مَا جرى فِي ذَلِك الْمجْلس وَهُوَ مُشْتَمل على فَوَائِد حَسَنَة وتأكيد لما نقل من سيرة هَذَا الْملك فِي وُقُوفه مَعَ أوَامِر الشَّرِيعَة وَفِي ذَلِك الْمحْضر خطوط الْجَمَاعَة الْحَاضِرين وَصُورَة مَا كتبه الْمَالِكِي الْمُفْتِي حضرت الْمجْلس الْمَذْكُور عمره الله وزينه بِالْعَدْلِ أبدا مَا عَاشَ صَاحبه وَشهِدت على مَا تضمنه من المشورة الْمُبَارَكَة وَمَا نسب إِلَى الْجَمَاعَة الشَّهَادَة بِهِ من الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة كَمَا نسب إِلَيْهِم وَقد أخل بِذكر دَار الْحِجَارَة وَقد ذكروها فِي الْمصَالح وَمَا نسب إِلَى من الْفَتْوَى فقد كنت قيدته بِالْحَاجةِ وفراغ بَيت المَال أَو ضعفه عَن الْقيام بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ ومهماتهم الدِّينِيَّة كتبه عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى بن مُحَمَّد الْمَالِكِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فصل وَقد مدح نور الدّين رَحمَه الله باشعار كَثِيرَة وأوصافه فَوق مَا مدح بِهِ وَكَانَ فِي أول دولته شَاعِرًا زمانهما أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صَغِير وَأَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير وَلَهُمَا فِيهِ أشعار فائقة ستأتي جملَة مِنْهَا فِي موَاضعهَا وَقد رَأَيْت أَن أقدم مِنْهَا شَيْئا هُنَا قَرَأت فِي ديوَان مُحَمَّد بن نصر القيسراني كتب إِلَى نور الدّين سَلام الله وحنانه ورأفته وامتنانه وروحه وريحانه على من عصم ثغر العواصم وخصم بحجته الدَّهْر المخاصم وألجم بهيبته العائب والواصم الَّذِي انتضى فِي سَبِيل الله سيوف الْجِهَاد وارتضى بعز سُلْطَانه شعار الْعباد والزهاد واهتدى إِلَى طَاعَة الله وَلَيْسَ غير الله من هاد وَمن أَصبَحت أَطْرَاف الْبِلَاد أوساطا لمملكته ومعاقل الْكفَّار فِي عقال ملكته ومركز الشُّكْر مراكز أَعْلَامه وألويته وَمن عَادَتْ بِهِ ثغور الشَّام ضاحكة عَن ثغور النَّصْر وممالك الْإِسْلَام متوجة بتيجان الْفَخر وصعاب الْأُمُور منقادة إِلَيْهِ بأزمة الْقَهْر وَمن رأى الحكم دارسة فَبنى مدارسها والهمم يابسة فسقى منابتها ومغارسها والمنابر شامسة فَأمكن من صهواتها فوارسها وَمن عمر ربع السّنَن بَعْدَمَا عَفا وأنقذ من الْفِتَن من كَانَ مِنْهَا على شفى وَمن نشر أَعْلَام الْفضل وأنشر بعد الْوَفَاة أَيَّام الْعدْل وَمن أنار بِوَجْهِهِ الْإِيمَان وَأخذ النَّاس بِهِ من الزَّمَان توقيع الْأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (ذُو الجهادين من عَدو وَنَفس ... فَهُوَ طول الْحَيَاة فِي هيجاء) (أَيهَا الْمَالِك الَّذِي ألزم النَّاس ... سلوك المحجة الْبَيْضَاء) (قد فضحت الْمُلُوك بِالْعَدْلِ لما ... سرت فِي النَّاس سيرة الْخُلَفَاء) (قاسماً مَا ملكت فِي النَّاس حَتَّى ... لقسمت التقى على الأتقياء) (شيم الصَّالِحين فِي جنن التّرْك ... وَكم من سكينَة فِي قبَاء) (أَنْت حينا تقاس بالأسد الْورْد ... وحينا تعد فِي الْأَوْلِيَاء) (صاغك الله من صميم الْمَعَالِي ... حَيْثُ لَا نِسْبَة سوى الآلاء) (وَكَأن القباء مِنْك لما ضم ... من الطُّهْر مَسْجِد بقباء) (أَنْت إِلَّا تكن نَبيا فَمَا فاتك ... إِلَّا خلائق الْأَنْبِيَاء) (رأفة فِي شهامة وعفاف ... فِي اقتدار وسطوة فِي حَيَاء) (وجمال ممنطق بِجلَال ... وَكَمَال متوج ببهاء) (وَإِذا مَا الْمُلُوك خَافت سِهَام الذَّم (م) زرت عَلَيْك درع الثَّنَاء) (عجب النَّاس مِنْك أَنَّك فِي الْحَرْب ... شهَاب الكتيبة الشَّهْبَاء) (وَكَأن السيوف من عزمك الْمَاضِي ... أفادت مَا عِنْدهَا من مضاء) (ولعمري لَو اسْتَطَاعَ فدَاك الْقَوْم ... بالأمهات والآباء) وَله فِيهِ (لله عزمك أَي سيف وغى ... طبعت مضاربه على الْقَهْر) (مَا زفت الْحَرْب الْعوَان بِهِ ... إِلَّا انجلت عَن معقل بكر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 (هَل وَجه نور الدّين غير سنى ... صدع الدجى عَن خجله الْبَدْر) (ملك مهابته طليعته ... أبدا أَمَام جيوشه تسرى) (كم فل كيدهم بصاعقة ... شغلت قُلُوبهم عَن الْفِكر) (تركت حصونهم سجونهم ... فالقوم قبل الْأسر فِي أسر) (عصم العواصم فَهِيَ ضاحكة ... تجلو الظبي ثغرا على الثغر) (وَإِذا سَرَايَا خيله قفلت ... نهضت سَرَايَا الْخَوْف والذعر) (وَرمى القلاع بِمثل جندلها ... حَتَّى استكان الصخر بالصخر) (يَا سائلي عَن نهج سيرته ... هَل غيرُ مفرق هَامِه الْفجْر) (عدل حقيقُ من تَأمله ... أَن يُحْيِىَ العُمَريْن بِالذكر) (وشهامة فِي الله خَالِصَة ... عقدت عَلَيْهِ تمائم الْأجر) (وندى يَد مَا ضرّ واردها ... أَلا يبيت مجاور الْبَحْر) (هَذَا المخيم فِي ذرا حلب ... وثناؤه أبدا على ظهر) وَله فِيهِ وَقد وصف دَاره (دَار تغار الشَّمْس فِي أفقها ... من حسنها وَالشَّمْس مغيار) (يزأر فِيهَا ضيغم مَا لَهُ ... غير سيوف الْهِنْد أظفار) (تمسي وتضحي وَهُوَ جَار لَهَا ... وَالله ذُو الْعَرْش لَهُ جَار) (لسيفه الباتر من دهره الجائر ... مَا يهوى ويختار) (قد مَلأ الْأَسْفَار من ذكره ... نشر لَهُ فِي الرَّوْض إسفار) (حمد يضوع الجوُّ من طيبه ... كَأَنَّمَا رَاوِيه عطار) (إِن خطرت فِي قلبه خطرة ... أجابها مَاض وخطار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 (وَإِن دَعَا داعيه يَوْم الوغى ... سيوفه لبَّتْه أقدار) (كَأَنَّمَا صارمه مرسلُ ... لَهُ من التأييد أنصار) (يَا مَالك الدُّنْيَا وَلكنهَا ... دنيا لَهَا فِي الدّين آثَار) (وَيَا جوادا مَا لآلائه ... غير فضاء الْحَمد مضمار) وَله فِيهِ (تدارك مِلَّة الْعَرَبِيّ ذبا ... إِلَى أَن عده مِنْهُ معد) (وَحل ذرى العواصم وَهِي نُهْبى ... فَأجلى الشّرك حَتَّى لَيْسَ ضِدٌّ) (ثنى يَده عَن الدُّنْيَا عفافا ... وَمَال بهَا عَن الْأَمْوَال زهد) (رأى حط المكوس عَن الرعايا ... فأهدر قبل مَا أنشاه بعد) (وَمد لَهَا رواق الْعدْل شرعا ... وَقد طوي الرواق وَمن يمد) (وَبَات وَعند بَاب الْعَرْش مِنْهَا ... لدولته دُعَاء لَا يرد) وَله فِيهِ (ملك أشبه الملائك فضلا ... وشبيه بِمَالك الْأَمر جندُه) (عَم إحسانه فَأصْبح يُتْلى ... شكره فِي الورى ويدرس حَمده) (فسقى الله ذكره أَيْنَمَا حل ... وَلَا فَاتَهُ من النَّصْر رفده) وَله (ضحِكت تباشير الصَّباح كَأَنَّهَا ... قَسَماتُ نور الدّين خير النَّاس) (المُشْتَرِي العقبى بأنفس قيمَة ... وَالْبَائِع الدُّنْيَا بِغَيْر مكاس) (وسرى دُعَاء الْخلق يحرس نَفسه ... إِن الدُّعَاء يعد فِي الحراس) (رَاض الخطوب الصُّم بعد جماحها ... وألان من قلب الزَّمَان القاسي) (وَأعَاد نور الْحق فِي مشكاته ... وَأقَام وزن الْعدْل بالقسطاس) (وَاخْتَارَ مجد الدّين سائس ملكه ... فحمى الرياسة مِنْهُ طود راسي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 (فَهُوَ الْخَبِير بِكُل دَاء معضل ... يأسو جراح زَمَاننَا ويواسي) (وأذل سُلْطَان النِّفَاق بعزة ... خضعت لَهَا الآساد فِي الآخياس) (وعرته أَقْرَان الخطوب فصدها ... ألوى يمارسها أَشد مراس) (وَلَو أَن فيض النّيل فائض نيله ... لم تفْتَقر مصر إِلَى مقياس) (سكنت شغب الدَّهْر بعد تخمط ... والنت من عطفيه بعد شماس) (وَفتحت بَاب الْحَظ بعد رتاجه ... وأذنت للأطماع بعد الياس) (حَتَّى منحت الْخلق كل مَسَرَّة ... فَالنَّاس فِي عرس من الأعراس) وَله (سَام الشَّام وَيَا لَهَا من صَفْقَة ... لولاه مَا عنت على يَد سائم) (ولشمرت عَنْهَا الثغور وأصبحت ... فِيهَا العواصم وَهِي غير عواصم) (تِلْكَ الَّتِي جمحت على من راضها ... ودعوت فانقادت بِغَيْر شكائم) (وَإِذا سعادتك احتبت فِي دولة ... قَامَ الزَّمَان لَهَا مقَام الْخَادِم) (حصِّن بلادك هَيْبَة لَا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم) (هَيْهَات يطْمع فِي محلك طامع ... طَال الْبناء على يَمِين الهادم) (كلفت همتك السُّمُوَّ فحَّلَقت ... فَكَأَنَّمَا هِيَ دَعْوَة فِي ظَالِم) (وأظن أَن النَّاس لما لم يرَوا ... عدلا كعدلك أرجفوا بالقائم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَله (قلت بقول الله لَا خَائفًا ... مَعَ حكم الْقُرْآن حكم القِران) (لَا رَاقِب النَّجْم وَلَا سَائِلًا ... مَا فعل السعدان والنيران) (بل غِرْت لِلْإِسْلَامِ حَتَّى لقد ... دَان لَهُ من بِالطَّوَاغِيتِ دَان) (رعت نواميس نواقيسها ... بجلبة الآذان وَقت الْأَذَان) (تمحو تصاوير الدُّمى عَن يَد ... تبني المحاريب خلال المجان) (هَذَا وَكم أنشأت من مِنْبَر ... فارسه فَارس سحر الْبَيَان) (من نَالَ بالإخلاص مَا نلته ... كَانَ من الله مكين الْمَكَان) (يَا شائماً بِالشَّام صوب الحيا ... ودانيا من كل قاص ودان) (هذى سجوف الْملك مَرْفُوعَة ... عَن ملك أخباره كالعيان) (أوضح سُبْلَ الْعدْل مفتنة ... فللبرايا بِالدُّعَاءِ افتنان) (ألغى حقوقا كلهَا بَاطِل ... إِلَى ضَمَان حط مَال الضَّمَان) (عطفا ورفقا بالرعايا وَإِن ... أصبح تَأْدِيب مُلُوك الزَّمَان) (كم بَين من نَام على نشوة ... وساهد فِي صهوة من حصان) (فِي كل يَوْم يبتني سَيْفه ... ببلدة بكر وَأُخْرَى عوان) وقرأت فِي ديوَان أَحْمد بن مُنِير الطرابلسي من قصائد يمدح بهَا نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يَا محيي الْعدْل وَيَا منشره ... من بَين أطباق البلى وَقد همد) (وركن الْإِسْلَام الَّذِي وطده ... طَال وأرسى الْعِزّ فِيهِ ووطد) (وشارع الْمَعْرُوف إِذْ لَا شفة ... تجنح لِلْقَوْلِ وَلَا تشمخ يَد) (محوت مَا أثْبته الْجور مضى ... عَلَيْهِ إخلاد اللَّيَالِي فخلد) (من كل مكاس يظل قَاعِدا ... لما يسوء الْمُسلمين بالرصد) (كَانَت لأرجاس الْيَهُود دولة ... أزالها مِنْك الهصور ذُو اللبد) (الْملك الْعَادِل لفظ طابق الْمَعْنى ... وَفِي الْوَصْف معار مسترد) (خير النعوت مَا جرى الْوَصْف على ... صفحته جرى النسيم فِي الومد) (عدل جنيت الْيَوْم حُلْو ريعه ... وسوف يجنى لَك أحلى مِنْهُ غَد) (لَا زَالَ لِلْإِسْلَامِ مِنْك عدَّة ... تقيم مِنْهُ كل زيغ وأود) (النَّاس أَنْت والملوك شَرط ... تعد ليثا ويعدون نقد) 0 - مثلك لَا يسخو بِهِ زَمَانه ... وَمثل مَا أُوتيت لم يُؤْت أحد) وَله (أيا نور دين خبا نوره ... ومذ شاع عدلك فِيهِ اتقد) (رآك الصَّلِيب صَلِيب الْقَنَاة ... أَمِين العثار متين الْعمد) (تهم فتسلبه مَا اقتنى ... وتأذي فتثكله مَا احتشد) (زبنتهم أمس عَن صرخد ... ففضوا كَأَن نعاما شرد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 (وَيَوْم العريمة أقبلتهم ... عراما تثعلب مِنْهُ الْأسد) (جنبت مليكهم فِي الصفاد ... وعفوك عَنهُ أَعم الصفد) (وَقبل أزرتهم فِي الرها ... موازق مزقن جُرد الجرد) (بقيت ترقع خرق الزَّمَان ... قيَاما لأبنائه إِن قعد) (تثقف من زيغه مَا التوى ... وَتصْلح من طبعه مَا فسد) وَله (أيا ملك الدُّنْيَا الحلاحل وَالَّذِي ... لَهُ الأَرْض دَار والبرية أعبد) (وَلَيْسَت بِدَعْوَى لَا يقوم دليلها ... وَلكنه الْحق الَّذِي لَيْسَ يُجحد) (أَخُو غزوات كالعقود تناسقت ... تحل بأجياد الْجِيَاد وتعقد) (لِسَان بِذكر الله يكسو نَهَاره ... بهاء وجفن فِي الدجى لَيْسَ يرقد) (وبذل وَعدل أغرقا وتألقا ... فَلَا الْورْد مثمود وَلَا الْبَاب موصد) (مرام سمائي وحزم مُسَدّد ... ورأي شهابي وعزم مؤيد) وَله (أبدا تنكب عَن ضلال سادرا ... بثقوب زندك أَو تدل على هدى) (سُدت الكهول من الْمُلُوك مراهقا ... وشأوت شِيبَهم البوازل أمردا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 (إِن شيدوا صرحا أناف مناره ... أَو أسجدوا للكأس جدد مَسْجِدا) (وَإِذا استهزتهم قلائد معبد ... هزته موعظة فَعرف معبدًا) (قسما لشام الشَّام مِنْك مهندا ... أرضاه مَشْهُورا وراع مُقَلدًا) (وَتمسك الْإِسْلَام مِنْك بِعُرْوَة ... الله أبرم حبلها فاستحصدا) (أشفى فَكنت شفاءه من حَادث ... غاداه عَارضه مردى بالردى) (كنت الصَّباح لليله لما دجا ... والغيث كف لظاه حِين توقدوا) (لله يَوْم أطلعتك بِهِ النَّوَى ... تجتاب من مهج الأصافر مجسدا) (نشوان غنتك الظبى مفلولة ... وأمال عطفيك الوشاح مقصدا) (فِي معرك مَا قَامَ بأسك دونه ... إِلَّا أَقَامَ الْمُشْركين وأقعدا) (وَلكم مكر قُمْت فِيهِ معلما ... أرْضى إلهك والمسيح وأحمدا) (يَوْم العريمة والخطيم وحارم ... وشعاب باسوطا وهاب وصرخدا) (لَا يعْدم الأشراك حدك إِنَّه ... ماسل فيهم حَاكما إِلَّا اعْتدى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 (أهمدتهم من بعد مَا ملؤوا الملا ... زجلا فَهَل كَانَت سيوفك مرقدا) (طلعت نُجُوم الْحق من آفاقها ... وأعادها كرّ العصور كَمَا بدا) (وَهوى الصَّلِيب وَحزبه وتبختر الْإِسْلَام ... من بعد التسافف أغيدا) (سبق المجلي للخطي فرفعه ... نسق بثم وَقد رفعت بالابتدا) وَله (مَحْمُود المربى على أسلافه ... إِن زَاد فِي حسب الحسيب نجار) (ملك إِذا تليت مآثر قومه ... كسد اللطيم وهجن النوار) (مَلأ الفرنجة جور سَيْفك فيهم ... فَلهم على سيف الْمُحِيط جؤار) (يَوْمًا يزيرك جون عرقة معلما ... جون لَهُ خلف الدروب أوار) (ويجر فِي الْأُرْدُن فضلَة ذيله ... نقع باكناف الأرنط مثار) (إِمَّا يُبِيح حَرِيم أنطاكية ... أَو يفجأ الداروم مِنْك دمار) (عفى جهادك رسم كل مخوفة ... وعفت بصفوة عدلك الأكدار) (ومحا الْمَظَالِم مِنْك نظرة رَاحِم ... لله فِي خطراته أسرار) (غَضْبَان لِلْإِسْلَامِ مَال عموده ... فلنوره مِمَّا عراه نوار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 (وجذمت كل يَد تسور على يَد ... فأحلت ذَاك السُّور وَهُوَ سوار) (لم يبْق ماكس مُسلم سلعا وَلَا ... ساع لمظلمة وَلَا عشار) (همدوا كَمَا همدت ثَمُود وقادهم ... لخسارهم مِمَّا أَتَوْهُ قدار) (الْعَار فِي الدُّنْيَا شَقوا بلباسه ... ولباسهم يَوْم الْحساب النَّار) (كم سيرة أحييتها عمرية ... رفعت لَهَا فِي الْخَافِقين منار) (ونوافل صيرتهن لوازما ... بِأَقَلِّهَا تستعبد الْأَحْرَار) (لَا زلت تقفو الصَّالِحين مسابقا ... لَهُم وتطلع خَلفك الْأَبْرَار) (نفس السِّيَادَة زهد مثلك فِي الَّذِي ... فِيهِ تفانت يعرب ونزار) (وَمَتى أدعى مَا تدعيه مُحكم ... أَوْهَى مَعاقِد دِينِه دِينَار) (لله مَا ظَفرت بِهِ مِنْك المنى ... وتكنفت من ركنك الأستار) (وَسَقَى الْغَمَام ثرى ابيك فَإِنَّهُ ... أزكى ثرى قطرت عَلَيْهِ قطار) (شهِدت نضارة عودك الغض الجنى ... أَن الَّذِي استخلصت مِنْهُ نضار) (أما نهارك فَهُوَ ليل مُجَاهِد ... وَاللَّيْل من طول الْقيام نَهَار) (فَلذَلِك النَّصْر الْعَزِيز أَدِلَّة ... أَنى اتجهت وللفتوح أمار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَله أَيْضا فِيهِ رَحمَه الله تَعَالَى (رَأينَا الْمُلُوك وَقد ساجلوك ... تمنوا منونا ووغروا غرُورًا) (أَبى لَك أَن يدركوها أَب ... يزير فينسى الْأسود الزئيرا) (وجد إِذا جد يَوْم الرِّهَان ... أبقى لتاليه جدا عثورا) (تصب عصاك على من عصاك ... يَوْمًا عبوسا بهَا قمطريرا) (لقد ألبس الشَّام هَذَا الإباء ... لبوسا من الْأَمْن لينًا وثيرا) (تداركت أرماقه والقلوب ... نوافر أَن تستجن الصدورا) (أَقمت جثاثا وَكَانَت جثى ... وشدت قصورا وَكَانَت قبورا) (وَكم لَك من غضبة للهدى ... تميت الْهوى وَتجب الذكورا) (إِذا قطب الْبَأْس كَانَت ردى ... وَإِن ضحك الْعَفو عَادَتْ نشورا) (كملت فوْفيت عين الْكَمَال ... تبيد السنين وتفني العصورا) (وجاد لنا بك رب براك ... للكفر نَارا وللدين نورا) (إِذا مَا خدمت فمولى كَرِيمًا ... وَإِمَّا عبدت فعبدا شكُورًا) (أَمَام المحاريب برا حصورا ... وَتَحْت الحروب هزبرا هصورا) (تبَارك من شاد هذي الْخلال ... فِي ظلة الْملك طودا وقورا) (وَألف فِي معقد التَّاج مِنْك ... سطوا سعيرا وعفوا نميرا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَله (عقل الْحق ألسن المدعينا ... أَنْت خير الْمُلُوك دنيا ودينا) (وَأسد الْأَنَام قولا وأفعالا ... ونفسا وَنِيَّة ويقينا) (أَنْت أسناهم إباء ... أمرأ وأمرأ حَيا وأمرع حينا) (بسط الرزق فِي البسيطة كَفاك ... فكلتا يَديك تُلفى يَمِينا) (فيد تحسم النوائب عَنَّا ... وَيَد تقسم الرغائب فِينَا) (أَيهَا الْبَحْر لَو تساحلك الأبحر ... عامت فِي ساحليك سفينا) (ولكان الْمُحِيط مِنْهَا محاطا ... مثل نون الهجاء أَو خيل نونا) (مشرعا مترعا وَمنا مهنا ... ورباعا فيحا وكفا لبونا) (ومحيا طلقا ومالا طليقا ... وانتهاجا قصدا وحبلا متينا) (بَين ذب يُمِيت عَادِية الشّرك ... وهب يحيا بِهِ المسلمونا) (تتبدى من الْفتُوح ألوفا ... أَنْت أَعلَى من أَن تعد المئينا) (كلما اجتبت ثوب نصر عَزِيز ... من مرام أَقبلت فتحا مُبينًا) (صرف الله عَنْك صرف زمَان ... أَنْت علمت صرفه أَن يهونا) (يَا ابْن من طبق البسيطة آثارا ... وعل المنابذيه الأجونا) (وغدت حصنه على سرج هَذَا الدّين ... من شكة الأعادى حصونا) (كم تَعَالَى صهيلها فِي رَبًّا الشَّام ... فأعلى خلف الخليج الرنينا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 (كَانَ صنو الرشيد أبقاك للحكمة ... والبأس بعده المأمونا) (سمع الله فِيك دَعْوَة سكن ... أوطنوا من حماك حصنا حصينا) (عَرَقتهم مدى الخطوب فأحييت ... رفاتا من التُّرَاب دَفِينا) (لبسوا عدلك المدبج فاختالوا ... بَنَات فِي وشيه وبنينا) (سهرت عَيْنك الكلوء وناموا ... تَحت أكناف رعيها آمنينا) قلت فَهَذَا أنموذج من أشعار هذَيْن الفحلين فِيهِ مَعَ أَنَّهُمَا مَاتَا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قبل أَن يفتح نور الدّين دمشق وَبَقِي نور الدّين حَيا بعدهمَا إِحْدَى وَعشْرين سنة يترقى كل عَام فِي ازدياد من جِهَاد واجتهاد وَلَو كَانَا أدْركَا ذَلِك لأتيا فِي وَصفه بعجائب المدائح مَعَ أَنه قد تولى ذَلِك غَيرهمَا مِمَّن لم يبلغ شأوهما وَلأبي الْمجد الْمُسلم بن الْخضر بن الْمُسلم بن قسيم الْحَمَوِيّ من قصيدة فِيهِ (تبدو الشجَاعَة من طلاقة وَجهه ... كالرمح دلّ على القساوة لينه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 (ووراء يقظته أَنَاة مجرب ... لله سطوة بأسه وسكونه) (هَذَا الَّذِي فِي الله صَحَّ جهاده ... هَذَا الَّذِي بِاللَّه صَحَّ يقينه) (هَذَا الَّذِي بخل الزَّمَان بِمثلِهِ ... والمشمخر إِلَى الْعلَا عرنينه) (ملك الورى ملكٌ أغَرُّ متوج ... لَا غدره يُخشى وَلَا تلوينه) (إِن حل فالشرف التليد أنيسه ... أَو سَار فالظفر الطريف قرينه) (فالدهر خاذل من اراد عناده ... أبدا وجبار السَّمَاء معينه) (وَالدّين يشْهد إِنَّه لمعزه ... والشرك يعلم أَنه لمهينه) (مَا زَالَ يقسم أَن يبدد شَمله ... وَالله يكره أَن تمين يَمِينه) (فتح الرها بالْأَمْس فانفتحت لَهُ ... أَبْوَاب ملك لَا يذال مصونه) وممادح نور الدّين رَحمَه الله كَثِيرَة وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم أَنه كَانَ قَلِيل الابتهاج بالشعر بالشعر وَمَات حادي عشر شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَدفن بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى قُبَّته بمدرسته جوَار الخواصين قلت وَقد جرب استجابة الدُّعَاء عِنْد قَبره وَهَذَا ذكر طرف من مناقبه جملَة وَنحن بعد ذَلِك نأتي بأخباره وأخبار سلفه مفصلة مرتبَة وَمَا جرى فِي زمانهم على سَبِيل الِاخْتِصَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فصل أصل الْبَيْت الأتابكي هُوَ قسيم الدولة آق سنقر جد نور الدّين رَحمَه الله فنذكره وَمَا تمّ فِي أَيَّامه ثمَّ نذْكر وَلَده زنكي وَمَا تمّ فِي أَيَّامه ثمَّ نذْكر وَلَده مَحْمُود بن زنكي ثمَّ نذْكر مَا بعده وَهِي الدولة الصلاحية الأيوبية وَمَا تمّ فِي أَيَّامهَا فَنَقُول كَانَ آق سنقر تركيا من أَصْحَاب السُّلْطَان ركن الدّين ملكشاه بن ألب أرسلان وَهُوَ عَم دقاق بن تتش بن ألب أرسلان الَّذِي كَانَ سُلْطَان دمشق وقبره بقبة الطواويس بهَا بنتهَا والمشهد والدته وَكَانَ السُّلْطَان ملكشاه من جملَة الْمُلُوك السلجوقية المتغلبين على الْبِلَاد بعد نَبِي بويه بالعراق فَكَانَ قسيم الدولة من أَصْحَابه وأترابه وَمِمَّنْ رَبِّي مَعَه فِي صغره وَاسْتمرّ فِي صحبته إِلَى حِين كبره فَلَمَّا أفضت السلطنة إِلَيْهِ بعد أَبِيه جعله من أَعْيَان أمرائه وَمن أخص أوليائه وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي مهماته وَزَاد قدره علوا إِلَى أَن صَار يتقيه مثل نظام الْملك الْوَزير مَعَ تحكمه على السُّلْطَان وتمكنه من المملكة فَأَشَارَ نظام الْملك على السُّلْطَان أَن يولي آق سنقر مَدِينَة حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأعمالها وَأَرَادَ بذلك أَن يبعده عَن خدمَة السُّلْطَان ويتخذ عِنْده بذلك يدا قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن الدَّلِيل على علو مرتبته تلقبه قسيم الدولة وَكَانَت الألقاب حِينَئِذٍ مصونة لَا تُعْطى إِلَّا لمستحقيها وَفِي سنة سبع وَسبعين وَأَرْبع مئة سير السُّلْطَان ملكشاه الْوَزير فَخر الدولة بن جهير وَزِير الْخَلِيفَة إِلَى ديار بكر ليتملكها وسير عميد الدولة بن فَخر الدولة بن جهير وَكَانَ زوج ابْنة نظام الْملك إِلَى الْموصل وسير مَعَه جَيْشًا عَظِيما وَجعل الْمُقدم على الْجَيْش قسيم الدولة آق سنقر فَسَارُوا نَحْو الْموصل ولقيهم فِي الطَّرِيق الْأَمِير أرتق التركماني جد مُلُوك الْحصن وماردين فاستصحبوه مَعَهم فحصروا الْموصل وصالحوا من بهَا وتسلموها وَسَار صَاحبهَا إِلَى السُّلْطَان فَردهَا عَلَيْهِ وَكَانَت يَوْمئِذٍ لأحد أُمَرَاء بني عقيل وَهُوَ شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش بن بدران الْعقيلِيّ وَكَانَ ملكة من السندية بالعراق على نهر عِيسَى إِلَى منبج وَمَا بَينهمَا من الْبِلَاد الفراتية كهيت والأنبار وَغَيرهَا وَملك الْموصل وديار بكر والجزيرة بأسرها وَملك مَدِينَة حلب وَكَانَ عادلا حسن السِّيرَة عَظِيم السياسة وَاتفقَ أَن وَقع بَينه وَبَين صَاحب أنطاكية وَذَلِكَ أَن أنطاكية كَانَ الرّوم قد استولوا عَلَيْهَا سنة ثَمَان وَخمسين وَثَلَاث مئة وَلم يزَالُوا بهَا إِلَى هَذِه السّنة فَفَتحهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 سُلَيْمَان بن قتلمش وَهُوَ جد الْملك غياث الدّين كيخسرو صَاحب قونية وَغَيرهَا وَكَانَ لشرف الدولة صَاحب حلب على صَاحب أنطاكية الرُّومِي جِزْيَة يَأْخُذهَا كل سنة فَانْقَطَعت عَنهُ بِسَبَب أَخذ سُلَيْمَان الْبَلَد فَأرْسل شرف الدولة يطْلب مِنْهُ مَا كَانَ يَأْخُذهُ من الرّوم ويهدده فَقَالَ أَنا فِي طَاعَتك وَهَذَا الْفَتْح بسعادتك وَالْخطْبَة وَالسِّكَّة لَك وَلست بِكَافِر حَتَّى أُعْطِيك مَا كنت تَأْخُذهُ من الرّوم فلج شرف الدولة فى طلب المَال فَالْتَقَيَا فَقتل شرف الدولة وَانْهَزَمَ عسكره وَسَار سُلَيْمَان إِلَى حلب فحصرها وَسَار إِلَيْهَا من دمشق تَاج الدولة تتشن بن ألب أرسلان أَخُو السُّلْطَان ملكشاه فَالتقى عَسْكَر تتش وَسليمَان فَقتل سُلَيْمَان وَانْهَزَمَ عسكره وَملك تتش مَدِينَة حلب دون القلعة فَأرْسل أهل القلعة إِلَى ملكشاه ليسلموها إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بالرها وَكَانَ سَبَب مسيره إِلَيْهَا أَن ابْن عطير النميري كَانَ قد بَاعهَا من الرّوم بِعشْرين ألف دِينَار وَسلمهَا إِلَيْهِم فَدَخَلُوهَا وأخربوا الْمَسَاجِد وأجلوا الْمُسلمين عَنْهَا فَسَار ملكشاه إِلَيْهَا فِي هَذِه السّنة فحصرها وَفتحهَا واقطعها للأمير بزان فَلَمَّا أَتَاهُ رسل أهل قلعة حلب بِالتَّسْلِيمِ سَار إِلَيْهِم فَلَمَّا بلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 مسيره إِلَى أَخِيه تَاج الدولة رَحل عَن حلب إِلَى دمشق وَوصل السُّلْطَان إِلَى حلب وبالقلعة سَالم بن مَالك بن بدران الْعقيلِيّ وَهُوَ ابْن عَم شرف الدولة فسلمها إِلَى السُّلْطَان بعد قتال وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان عوضا عَنْهَا قلعة جعبر وَكَانَ قد ملكهَا فِي هَذِه السفرة من صَاحبهَا جعبر النميري وَكَانَ شَيخا كَبِيرا أعمى فَبَقيت بيد سَالم وَأَوْلَاده إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم الْملك الْعَادِل نور الدّين كَمَا سَيَأْتِي فَلَمَّا ملك السُّلْطَان حلب أرسل إِلَيْهِ الْأَمِير نصر بن عَليّ بن الْمُقَلّد بن منقذ الْكِنَانِي صَاحب شيزر وَدخل فِي طَاعَته وَسلم إِلَيْهِ اللاذقية وفامية وكفرطاب ثمَّ إِن نظام الْملك أَشَارَ على السُّلْطَان بِتَسْلِيم حلب وأعمالها وحماة ومنبج واللاذقية وَمَا مَعهَا إِلَى قسيم الدولة آق سنقر فأقطعه الْجَمِيع وَبقيت فِي يَده إِلَى أَن قتل سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة كَمَا سَيَأْتِي وأقطع السُّلْطَان مَدِينَة أنطاكية للأمير ياغي سغان وَلما اسْتَقر قسيم الدولة فِي الشَّام ظَهرت كِفَايَته وحمايته وهيبته فِي جَمِيع بِلَاده ثمَّ إِن السُّلْطَان استدعاه إِلَى الْعرَاق فَقدم إِلَيْهِ فِي تجمل عَظِيم لم يكن فِي عَسْكَر السُّلْطَان من يُقَارِبه فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَعظم مَحَله عِنْده ثمَّ أمره بِالْعودِ إِلَى حلب فَعَاد إِلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَان ملكشاه سير قسيم الدولة جَيْشًا إِلَى تكريت فملكها وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ قصد قسيم الدولة شيزر فنهبها وَعَاد إِلَى حلب وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ اجْتمع قسيم الدولة وبزان وحصروا مَدِينَة حمص فملكوها وَمضى ابْن ملاعب إِلَى مصر وَفِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ ملك قسيم الدولة حصن فامية من الشَّام وَملك الرحبة فصل وَفِي عَاشر رَمَضَان سنة خمس وَثَمَانِينَ قتل الْوَزير نظام الْملك أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن إِسْحَاق قَتله صبي ديلمي بعد الْإِفْطَار وَقد تفرق عَن طَعَامه الْفُقَهَاء والأمراء والفقراء وَغَيرهم من أَصْنَاف النَّاس وَحمل فِي محفة لنقرس كَانَ بِهِ إِلَى خيمة الْحرم فَلَقِيَهُ صبي ديلمي مستغيثا بِهِ فقربه مِنْهُ ليسمع شكواه فَقتله وَقتل الصَّبِي أَيْضا فعدمت الدُّنْيَا وَاحِدهَا الَّذِي لم تَرَ مثله وَكَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة قد حكى لَهُ بعض الصَّالِحين أَنه رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ أَتَاهُ وَأَخذه من محفته فَتَبِعَهُ فَاسْتَبْشَرَ نظام الْملك بذلك وَأظْهر السرُور بِهِ وَقَالَ هَذَا أبغي وإياه أطلب وَبلغ من الدُّنْيَا مبلغا عَظِيما لم ينله غَيره وَكَانَ عَالما فَقِيها دينا خيرا متواضعا عادلا يحب أهل الدّين ويكرمهم ويجزل صلَاتهم وَكَانَ أقرب النَّاس مِنْهُ وأحبهم إِلَيْهِ الْعلمَاء وَكَانَ يناظرهم فِي المحافل ويبحث عَن غوامض الْمسَائِل لِأَنَّهُ اشْتغل بالفقه فِي حَال حداثته مُدَّة وَأما صدقاته ووقوفه فَلَا حد عَلَيْهَا ومدارسه فِي الْعَالم مَشْهُورَة لم يخل بلد من شَيْء مِنْهَا حَتَّى جَزِيرَة ابْن عمر الَّتِي هِيَ فِي زَاوِيَة من الأَرْض لَا يؤبه لَهَا بنى فِيهَا مدرسة كَبِيرَة حَسَنَة وَهِي الَّتِي تعرف الْآن الْآن بمدرسة رَضِي الدّين وأعماله الْحَسَنَة وصنائعه الجميلة مَذْكُورَة فِي التواريخ لم يسْبقهُ من كَانَ قبله وَلَا أدْركهُ من كَانَ بعده وَكَانَ من جملَة عباداته أَنه لم يحدث إِلَّا تَوَضَّأ وَلَا تَوَضَّأ إِلَّا صلى وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن حفظا ويحافظ على أَوْقَات الصَّلَوَات مُحَافظَة لَا يتقدمه فِيهَا المتفرغون لِلْعِبَادَةِ حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا غفل الْمُؤَذّن أمره بِالْأَذَانِ وَإِذا سمع الْأَذَان أمسك عَن كل مَا هُوَ فِيهِ واشتغل بإجابته ثمَّ بِالصَّلَاةِ وَكَانَ قد وزر للسُّلْطَان عضد الدولة ألب أرسلان وَالِد ملكشاه قبل أَن يَلِي السلطنة فِي حَيَاة عَمه السُّلْطَان طغرلبك أول الْمُلُوك السلجوقية بِبَغْدَاد فَلَمَّا توفى طغرلبك سعى نظام الْملك فِي أَخذ السلطنة لصَاحبه ألب أرسلان وَقَامَ الْمقَام الَّذِي تعجز عَنهُ الجيوش الْكَثِيرَة واستقرت السلطنة لَهُ وبقى مَعَه إِلَى أَن توفى ثمَّ وزر بعده لوَلَده السُّلْطَان ملكشاه إِلَى أَن قتل وَكَانَ قد تحكم عَلَيْهِ إِلَى حد لَا يقدر السُّلْطَان على خِلَافه لِكَثْرَة مماليكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومحبة العساكر لَهُ والأمراء وميل الْعَامَّة والخاصة إِلَيْهِ لحسن سيرته وعدله هَذَا كَلَام أبي الْحسن بن الْأَثِير وقرأت فِي = كتاب المعارف الْمُتَأَخِّرَة = وَيُسمى عنوان السّير لمُحَمد بن عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الهمذاني قَالَ وزر نظام الْملك أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن إِسْحَاق الطوسي للسُّلْطَان ألب أرسلان ولولده السُّلْطَان ملكشاه أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَقتل بِالْقربِ من نهاوند وعمره سِتّ وَسَبْعُونَ سنة وَعشرَة أشهر وَتِسْعَة عشر يَوْمًا اغتاله أحد الباطنية وَقد فرغ من فطوره قَالَ وَقيل إِن السُّلْطَان ملكشاه ولف عَلَيْهِ من قَتله لانه سئم طول عمره وَمَات بعده بِشَهْر وَخَمْسَة أَيَّام وَقد تقدم نظام الْملك فِي الدُّنْيَا التَّقَدُّم الْعَظِيم وَأفضل على الْخلق الإفضال الْكثير وَعم النَّاس بمعروفه وَبنى الْمدَارِس لأَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ووقف عَلَيْهِم الْوُقُوف وَزَاد فِي الْحلم وَالدّين على من تقدمه من الوزراء وَلم يبلغ أحد مِنْهُم مَنْزِلَته فِي جَمِيع أُمُوره وَعبر جيحون فَوَقع على الْعَامِل بأنطاكية بِمَا يصرف إِلَى الملاحين وَملك من الغلمان الأتراك ألوفا وَكَانَ جُمْهُور العساكر وشجعانهم وفتاكه من مماليكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قلت وَأنْشد أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي = ذيل تَارِيخ بَغْدَاد = قَالَ أَنْشدني عمي الإِمَام أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ غير مرّة من لَفظه للأمير شبْل الدولة يَعْنِي مقَاتل بن عَطِيَّة بن مقَاتل الْبكْرِيّ (كَانَ الْوَزير نظام الْملك لؤلؤة ... ثمينة صاغها الرَّحْمَن من شرف) (عزت وَلم تعرف الْأَيَّام قيمتهَا ... فردّها غيرَة مِنْهُ إِلَى الصدف) فصل عَاشَ السُّلْطَان ملكشاه بعد نظام الْملك خَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَمَات فِي منتصف شَوَّال سنة خمس وَثَمَانِينَ وعمره ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ عَاما وَنصف عَام وَكَانَت مَمْلَكَته قد اتسعت اتساعا عَظِيما وخطب لَهُ من حُدُود الصين إِلَى الداروم من أَرض الشَّام وأطاعه الْيمن والحجاز وَكَانَ يَأْخُذ الْخراج من ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وأطاعه صَاحب طراز وأسبيجاب وكاشغر وبلاسغون وَغَيرهَا من الممالك الْبَعِيدَة وَملك سَمَرْقَنْد وَجَمِيع مَا وَرَاء النَّهر ثمَّ ان صَاحب كاشغر عصى عَلَيْهِ فَسَار السُّلْطَان إِلَيْهِ فَلَمَّا قَارب كاشغر هرب صَاحبهَا مِنْهُ فَسَار فِي طلبه وَلم يزل حَتَّى ظفر بِهِ وَأحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 إِلَيْهِ واستصحبه مَعَه إِلَى أصفهان وَعمل السُّلْطَان من الْخيرَات وأبواب الْبر كثيرا مِنْهَا مَا اصلحه وَعَمله من المصانع بطرِيق مَكَّة وحفر من الابار وَبنى مدرسة عِنْد قبر الإِمَام أبي حنيفَة رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَبنى الْجَامِع الَّذِي بِظَاهِر بَغْدَاد عِنْد دَار السلطنة وَهُوَ الَّذِي بنى مَنَارَة الْقُرُون فِي طرف الْبر مِمَّا يَلِي الْكُوفَة بمَكَان يعرف بالسبعي وَبنى مثلهَا بسمرقند أَيْضا قيل إِنَّه خرج سنة من الْكُوفَة لتوديع الحجيج فجاوز العذيب وَبلغ السبعية بِقرب الواقصة وَبنى هُنَاكَ مَنَارَة نزل فِي أَثْنَائِهَا قُرُون الظبي وحوافر الْحمر الوحشية الَّتِي اصطادها فِي طَرِيقه وَبعد مَوته تنَازع ابناه بكيارق وَمُحَمّد ودامت الحروب بَينهمَا نَحْو ثِنْتَيْ عشرَة سنة إِلَى أَن توفّي بكيارق واستقرت السلطنة لمُحَمد وَفِي مُدَّة تِلْكَ الحروب ظَهرت الفرنج بالسَّاحل وملكوا أنطاكية أَولا ثمَّ غَيرهَا من الْبِلَاد وَكَانَ السُّلْطَان قد أقطع أَخَاهُ تتش تَاج الدولة مَدِينَة دمشق وأعمالها وَمَا جاورها كطبرية وَالْبَيْت الْمُقَدّس فَلَمَّا توفى ملكشاه طمع تَاج الدولة فِي السلطنة فَسَار إِلَى حلب وَبهَا قسيم الدولة فَصَالحه وراسل بوزان صَاحب حران وياغي سغان صَاحب أنطاكية فسارا مَعَه نَحْو الرحبة ونصيبين فَأَخذهُمَا وراسل صَاحب الْموصل إِبْرَاهِيم بن قُرَيْش بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بدران يَأْمُرهُ بِالْخطْبَةِ لَهُ وَأَن يُعْطِيهِ طَرِيقا إِلَى بَغْدَاد فَامْتنعَ فَالْتَقَيَا فَهزمَ صَاحب الْموصل وَقتل وَأخذت بِلَاده وَسَار إِلَى ميافارقين فملكها وَسَائِر ديار بكر ثمَّ سَار إِلَى أذربيجان فَالتقى هُوَ وَابْن أَخِيه بكيارق بن ملكشاه فانتقل قسيم الدولة وبوزان إِلَى بكيارق فَرجع تَاج الدولة إِلَى الشَّام ورجعا إِلَى بلادهما بِأَمْر بكيارق ليمنعا تَاج الدولة عَن الْبِلَاد إِن قَصدهَا فَجمع تَاج الدولة العساكر وَسَار عَن دمشق نَحْو حلب فَاجْتمع قسيم الدولة وبوزان وأمدهما السُّلْطَان ركن الدّين بكيارق بالأمير كربوقا وَهُوَ الَّذِي صَار فِيمَا بعد صَاحب الْموصل فَالْتَقوا بِالْقربِ من تل السُّلْطَان وَبَينه وَبَين حلب نَحْو من سِتَّة فراسخ فَانْهَزَمَ جَيش قسيم الدولة وَأخذ أَسِيرًا فَقتله تَاج الدولة صبرا وَدخل بوزان وكربوقا حلب فحصرهما تَاج الدولة حَتَّى فتحهَا وَأَخذهمَا أسيرين وَأرْسل إِلَى حران والرها وكانتا لبوزان فَامْتنعَ من بهما من التَّسْلِيم فَقتل بوزان وأنفذ رَأسه وتسلم البلدين وَأما كربوقا فَإِنَّهُ سجنه بحمص فَلم يزل إِلَى أَن أخرجه الْملك رضوَان بعد قتل أَبِيه تَاج الدولة قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ قسيم الدولة أحسن النَّاس سياسة لرعيته وحفظا لَهُم وَكَانَت بِلَاده بَين عدل عَام وَرخّص شَامِل وَأمن وَاسع وَكَانَ قد شَرط على أهل كل قَرْيَة فِي بِلَاده مَتى أَخذ عِنْد أحدهم قفل أَو أحد من النَّاس غرم أَهلهَا جَمِيع مَا يُؤْخَذ من الْأَمْوَال من قَلِيل وَكثير فَكَانَت السيارة إِذا بلغت قَرْيَة من بِلَاده ألقوا رحالهم وناموا آمِنين وَقَامَ أهل الْقرْيَة يَحْرُسُونَهُمْ إِلَى أَن يرحلوا فأمنت الطّرق وتحدث الركْبَان بِحسن سيرته وَفِي الْمحرم من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة توفّي الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بِأَمْر الله فَجْأَة وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن الْقَائِم بِأَمْر الله وعمره تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَكَانَت خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَأمه تركية وبويع من بعده وَلَده المستظهر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ويلقب مُحَمَّد بن الْقَائِم وَالِد الْمُقْتَدِي بِاللَّه الذَّخِيرَة مَاتَ فِي حَيَاة أَبِيه فَلم يل الْخلَافَة ذكر أَخْبَار زنكي وَالِد نور الدّين رحمهمَا الله تَعَالَى على طَرِيق الِاخْتِصَار فِي فُصُول إِلَى حِين وَفَاته ثمَّ نذْكر أَخْبَار نور الدّين على تَرْتِيب السنين لما قتل قسيم الدولة آق سنقر لم يخلف من الْأَوْلَاد غير وَاحِد وَهُوَ عماد الدّين زنكي وَالِد نور الدّين وَكَانَ حِينَئِذٍ صَبيا لَهُ من الْعُمر نَحْو عشر سِنِين فَاجْتمع عَلَيْهِ مماليك وَالِده وَأَصْحَابه وَفِيهِمْ زين الدّين عَليّ وَهُوَ صبي أَيْضا ثمَّ إِن الْأَمِير كربوقا خلص من السجْن بعد قتل تَاج الدولة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَتوجه إِلَى حران وَقد اجْتمع مَعَه عَسْكَر صَالح فملكها ثمَّ سَار إِلَى نَصِيبين فملكها ثمَّ إِلَى الْموصل فملكها وأزال عَنْهَا عَليّ بن شرف الدولة الْعقيلِيّ وَسَار نَحْو ماردين فملكها وَعظم شَأْنه وَهُوَ فِي طَاعَة ركن الدولة بكيارق فَلَمَّا ملك الْبِلَاد أحضر مماليك قسيم الدولة آق سنقر وَأمرهمْ بإحضار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عماد الدّين زنكي وَقَالَ هُوَ ابْن أخي وَأَنا أولى النَّاس بتربيته فأحضروه عِنْده فأقطعهم الإقطاعات السّنيَّة وجمعهم على عماد الدّين زنكي واستعان بهم فِي حروبه وَكَانُوا من الشجَاعَة فِي أَعلَى درجاتها فَلم يزَالُوا مَعَه فَتوجه بهم إِلَى آمد وصاحبها من أُمَرَاء التركمان فاستنجد بِمعين الدّين سقمان بن أرتق جد صَاحب الْحصن فكسرهم قوام الدولة كربوقا وَهُوَ أول مصَاف حَضَره زنكي بعد قتل وَالِده وَلم يزل مَعَ كربوقا إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَملك بعده مُوسَى التركماني فَلم تطل مدَّته وَقتل وَملك الْموصل شمس الدولة جكرمش وَهُوَ أَيْضا من مماليك السُّلْطَان ملكشاه فَأخذ زنكي فقربه وأحبه واتخذه ولدا لمعرفته بمكانة وَالِده فبقى مَعَه إِلَى أَن قتل سنة خمس مئة فَلَا جرم أَن زنكي رعى هَذَا لجكرمش لما ملك الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد فَإِنَّهُ أَخذ وَلَده نَاصِر الدّين كوري فَأكْرمه وَقدمه واقطعه إقطاعا كثيرا وَجعل مَنْزِلَته أَعلَى الْمنَازل عِنْده واتخذه صهراً ثمَّ ملك الْموصل بعد جكرمش جاولى سقاوه فاتصل بِهِ عماد الدّين زنكي وَقد كبر وَظَهَرت عَلَيْهِ أَمَارَات السَّعَادَة والشهامة وَلم يزل مَعَه حَتَّى عصى على السُّلْطَان مُحَمَّد وَكَانَ جاولي قد عبر إِلَى الشَّام ليملكه من الْملك فَخر الْملك رضوَان فَأرْسل السُّلْطَان إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الْموصل الْأَمِير مودودا واقطعه إِيَّاهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمْس مئة فَلَمَّا اتَّصل الْخَبَر بجاولي فَارقه زنكي وَغَيره من الْأُمَرَاء فَلَمَّا اسْتَقر مودود بالموصل واتصل بِهِ زنكي أكْرمه وَشهد مَعَه حروبه فَسَار مودود إِلَى الْغُزَاة بِالشَّام فَفتح فِي طَرِيقه قلاعا لَهُم من شبختان كَانَت للفرنج وَقتل من كَانَ بهَا مِنْهُم ثمَّ سَار إِلَى الرها فحصرها وَلم يفتحها فَرَحل وَعبر الْفُرَات فحصر تل بَاشر خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا ثمَّ سَار إِلَى معرة النُّعْمَان فحصرها ثمَّ حضر عِنْده أتابك طغتكين صَاحب دمشق فَسَار إِلَى طبرية وحاصروها وقاتلوها قتالا شَدِيدا وَظهر من أتابك زنكي شجاعة لم يسمع بِمِثْلِهَا مِنْهَا أَنه كَانَ فِي نفر وَقد خرج الفرنج من الْبَلَد فَحمل عَلَيْهِم هُوَ وَمن مَعَه وَهُوَ يظنّ أَنهم يتبعونه فَتَخَلَّفُوا عَنهُ وَتقدم وَحده وَقد انهزم من بِظَاهِر الْبَلَد من الفرنج فَدَخَلُوا الْبَلَد وَوصل رمحه إِلَى الْبَاب فأثر فِيهِ وَقَاتلهمْ عَلَيْهِ وبقى ينْتَظر وُصُول من كَانَ مَعَه فَحَيْثُ لم ير أحدا حمى نَفسه وَعَاد سالما فَعجب النَّاس من إقدامه أَولا وَمن سَلَامَته آخرا ثمَّ التقى الْجَمْعَانِ فَهزمَ الفرنج لعنهم الله ووصلوا إِلَى مضيق دون طبرية فاحتموا بِهِ وجاءتهم نجدة فَأذن الْأَمِير مودود للعسكر فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ والاجتماع إِلَيْهِ فِي الرّبيع فَلَمَّا تفَرقُوا دخل دمشق وَأقَام بهَا فَخرج يَوْمًا يُصَلِّي الْجُمُعَة فَلَمَّا صلاهَا وَخرج إِلَى صحن الْجَامِع وَيَده بيد طغتكين وثب عَلَيْهِ إِنْسَان فَضَربهُ بسكين مَعَه فجرحه أَربع جراحات وَكَانَ صَائِما فَحمل إِلَى دَار طغتكين واجتهد بِهِ ليفطر فَلم يفعل وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لَا لقِيت الله إِلَّا صَائِما فإننى ميت لَا محَالة سَوَاء أفطرت أَو صمت وَتُوفِّي فِي بَقِيَّة يَوْمه رَحمَه الله فَقيل إِن الباطنية بِالشَّام خافوه فَقَتَلُوهُ وَقيل بل خافه طغتكين فَوضع عَلَيْهِ من يقْتله وَكَانَ خيرا عادلا حسن السِّيرَة قَالَ ابْن الْأَثِير فحدثنى وَالِدي رَحمَه الله قَالَ كتب ملك الفرنج إِلَى طغتكين إِن أمه قتلت عميدها يَوْم عيدها فِي بَيت معبودها لحقيق على الله أَن يبيدها فَلَمَّا قتل الْأَمِير مودود أقطع السُّلْطَان الْبِلَاد الْموصل وَغَيرهَا للأمير جيوش بك وسير مَعَه وَلَده الْملك مَسْعُود إِلَى الْموصل ثمَّ إِنَّه جهز آق سنقر البرسقي فِي العساكر وسيره إِلَى قتال الفرنج وَكتب إِلَى عَسَاكِر الْموصل وَغَيرهَا يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ مَعَه فَسَارُوا وَفِيهِمْ عماد الدّين زنكي وَكَانَ يعرف فِي عَسَاكِر الْعَجم بزنكي الشَّامي فَسَار البرسقي إِلَى الرها فِي خَمْسَة عشر ألف فَارس فحصرها وَقَاتل من بهَا من الفرنج والأرمن وَضَاقَتْ الْميرَة عَن الْعَسْكَر فَرَحل إِلَى سميساط وَهِي أَيْضا للفرنج فأخرب بَلَدهَا وبلد سروج وَعَاد إِلَى شبختان فأخرب مَا فِيهِ للفرنج وأبلى زنكي فِي هَذِه المواقف كلهَا بلَاء حسنا ثمَّ عَادَتْ العساكر تَتَحَدَّث بِمَا فعله وَعَاد البرسقي إِلَى بَغْدَاد وَأقَام زنكي بالموصل مَعَ الْملك مَسْعُود والأمير جيوش بك إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخمْس مئة وَقد علا قدره وَظهر اسْمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فصل وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة ولد الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله تَعَالَى وفيهَا غرقت سنجار من سيل الْمَطَر وَهلك مِنْهَا خلق كثير وَمن أعجب مَا يحْكى أَن السَّيْل حمل مهداً فِيهِ طِفْل فعلق المهد فِي شَجَرَة وَنقص المَاء فَسلم ذَلِك الطِّفْل وغرق غَيره من الماهرين بالسباحة وفيهَا أَيْضا زلزلت إربل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الْمُجَاورَة لَهَا زَلْزَلَة عَظِيمَة وفيهَا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذى الْحجَّة توفى السُّلْطَان غياث الدّين مُحَمَّد بن ملكشاه وعمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام وَأول مَا خطب لَهُ بِبَغْدَاد فِي ذى الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَقطعت خطبَته عدَّة مرار وَلَقي من المشاق والأخطار مَا لم يلقه أحد إِلَى أَن توفى أَخُوهُ بكيارق فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّتْ لَهُ السلطنة وصفت لَهُ ودانت الْبِلَاد وَأَصْحَاب الْأَطْرَاف لطاعته وَكَانَ اجْتِمَاع النَّاس عَلَيْهِ بعد موت أَخِيه اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ عادلا حسن السِّيرَة شجاعا وَأطلق المكوس والضرائب فِي جَمِيع الْبِلَاد وَمن عدله أَنه اشْترى عدَّة مماليك من بعض التُّجَّار وَأمر أَن يُوفى الثّمن من عَامل خوزستان فأوصل إِلَيْهِ الْبَعْض ومطل بِالْبَاقِي فَحَضَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 التَّاجِر مجْلِس الحكم وَأخذ غُلَام الْحَاكِم ووقف بطرِيق السُّلْطَان واستغاث إِلَيْهِ فَأمر من يستعلم حَاله فَعَاد الْحَاجِب وَأعلم السُّلْطَان حَاله فَعظم عَلَيْهِ وضاق صَدره وَأمر فِي الْحَال أَن يحضر عَامل خوزستان وَيلْزم بِمَال التَّاجِر ثمَّ إِنَّه نَدم على تَأَخره عَن مجْلِس الحكم وَكَانَ يَقُول كثيرا لقد نَدِمت على تركي حُضُور مجْلِس الحكم وَلَو فعلته لاقتدى بِي غَيْرِي وَلم يمْتَنع أحد عَن أَدَاء الْحق قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذِه الْفَضِيلَة ذخرها الله تَعَالَى لهَذَا الْبَيْت الأتابكى فَإِن الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فعل مَا نَدم السُّلْطَان مُحَمَّد على تَركه وَقد تقدم ذَلِك وَلما علم الْأُمَرَاء وَغَيرهم من خلق السُّلْطَان محبَّة الْعدْل وَأَدَاء الْحق وكراهية الظُّلم ومعاقبة من يَفْعَله اقتدوا بِهِ فأمن النَّاس وَظهر الْعدْل وَولى بعد السُّلْطَان مُحَمَّد وَلَده مَحْمُود وعمره يَوْمئِذٍ أَربع عشرَة سنة فَقَامَ بالسلطنة وَجرى بَينه وَبَين عَمه سنجر حَرْب انهزم فِيهَا مَحْمُود وَعَاد إِلَى عَمه بِغَيْر عهد فَأكْرمه وأقطعه من الْبِلَاد من حد خُرَاسَان إِلَى الداروم بأقصى الشَّام وَهِي من الممالك همذان وأصبهان وبلد الْجبَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 جَمِيعه وبلاد فَارس وكرمان وخوزستان وَالْعراق واذربيجان وأرمينية وديار بكر وبلاد الْموصل والجزيرة وديار مُضر وديار ربيعَة وَالشَّام وبلد الرّوم الَّذِي بيد أَوْلَاد قليج أرسلان وَمَا بَين هَذِه الممالك من الْبِلَاد قَالَ ابْن الْأَثِير وَرَأَيْت منشوره بذلك وَفِي سادس عشر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخمْس مئة توفّي الإِمَام المستظهر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله وَكَانَ عمره إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة وَسِتَّة أشهر وَسِتَّة أَيَّام وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وَمضى فِي أَيَّامه ثَلَاث سلاطين خطب لَهُم بَغْدَاد من السلجوقية وهم أَخُو ملكشاه تَاج الدولة تتش وركن الدولة بكيارق بن ملكشاه وَأَخُوهُ غياث الدّين مُحَمَّد بن ملكشاه وَكَانَ المستظهر رَحمَه الله كريم الْأَخْلَاق لين الْجَانِب مشكور المساعي يحب الْعلم وَالْعُلَمَاء وصنفت لَهُ التصانيف الْكَثِيرَة فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَغَيرهمَا وَكَانَ يُسَارع إِلَى أَعمال الْبر والمثوبات حسن الْخط جَيِّدَة التوقيعات وَلما توفّي صلى عَلَيْهِ وَلَده المسترشد بِاللَّه وَدفن فِي حجرَة كَانَت لَهُ يألفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَفِي أَيَّامه توفى جمَاعَة من الْعلمَاء فَفِي شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة توفى قَاضِي الْقُضَاة أَبُو بكر مُحَمَّد بن المظفر الشَّامي وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفى القَاضِي عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي المعتزلى مُصَنف حدائق ذَات بهجة فِي تَفْسِير الْقُرْآن يزِيد على ثَلَاث مئة مُجَلد قَالَ ابْن الْأَثِير رَأَيْت مِنْهُ تَفْسِير الْفَاتِحَة فِي مُجَلد كَبِير وَفِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفى الإِمَام أَبُو نصر الْحميدِي مُصَنف الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ وَفِي شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين توفى الْكَامِل نقيب النُّقَبَاء طراد بن مُحَمَّد الزَّيْنَبِي وَله نَحْو تسعين سنة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمْس مئة توفّي أَبُو زَكَرِيَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 التبريزي اللّغَوِيّ وَفِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفى أَبُو الفوارس الْحُسَيْن بن عَليّ الخازن صَاحب الْخط الْحسن الْمَشْهُور وَفِي سنة خمس وَخمْس مئة توفّي الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ وَفِي سنة سبع وَخمْس مئة توفّي الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الشَّاشِي الْفَقِيه رَحِمهم الله أَجْمَعِينَ فصل لما ولى السُّلْطَان مَحْمُود السلطنة أقرّ أَخَاهُ مسعودا على الْموصل مَعَ أتابكه جيوش بك فبقى مُطيعًا لِأَخِيهِ إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخمْس مئة فَحسن لَهُ الْخُرُوج عَن طَاعَته وَطلب السلطنة فأظهر الْعِصْيَان وخطب للْملك مَسْعُود بالسلطنة وَكَانَ زنكي يُشِير بِطَاعَة السُّلْطَان وَترك الْخلاف عَلَيْهِ ويحذرهم عَاقِبَة الْعِصْيَان فَلم ينفع فَالتقى الأخوان فِي عسكريهما فَهزمَ عَسْكَر مَسْعُود وَأسر جمَاعَة من الْأُمَرَاء والأعيان مِنْهُم الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْمَاعِيل الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الطغرائي وَزِير مَسْعُود فَقتله السُّلْطَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مَحْمُود وَقَالَ قد صَحَّ عِنْدِي فَسَاد اعْتِقَاده وَدينه وَكَانَ قد جَاوز سِتِّينَ سنة وَكَانَ حسن الْكِتَابَة جيد الشّعْر قلت وَقيل إِنَّه قتل سنة ثَلَاث عشرَة أَو أَربع عشرَة أَو ثَمَانِي عشرَة وَخمْس مئة وَقيل إِن الَّذِي قَتله هُوَ السُّلْطَان طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه ذكر ذَلِك كُله أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَارِيخه وَسَماهُ الْحُسَيْن بن عَليّ بن عبد الصَّمد الديلمي وَأنْشد لَهُ أشعاراً حسانا مِنْهَا (إِذا مَا لم تكن ملكا مُطَاعًا ... فَكُن عبدا لمَالِكه مُطيعًا) (وَإِن لم تملك الدُّنْيَا جَمِيعًا ... كَمَا تهواه فاتركها جَمِيعًا) (هما سببان من ملك ونسك ... ينيلان الْفَتى الشّرف الرفيعا) (وَمن يقنع من الدُّنْيَا بِشَيْء ... سوى هذَيْن يَحْىَ بهَا وضيعا) ثمَّ استأمن مَسْعُود وأتابكه جيوش بك فأمنهما السُّلْطَان وَأخذ الْموصل مِنْهُمَا فأقطعهما آق سنقر البرسقي مَعَ أَعمالهَا كالجزيرة وسنجار ونصيبين وَغَيرهَا فِي صفر سنة خمس عشرَة وسيره إِلَيْهَا وَأمره بِحِفْظ عماد الدّين زنكي وتقديمه وَالْوُقُوف عِنْد إِشَارَته فَفعل البرسقي ذَلِك وَزَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عَلَيْهِ لمَكَان زنكي من الْعقل والشجاعة وَتقدم وَالِده فِي الْأَيَّام الركنية وَكَانَت سيرة ملكشاه عِنْدهم كالشريعة المتبعة فأعظم النَّاس عِنْدهم أَكْثَرهم ابتاعا لسيرته وَفِي سنة سِتّ عشرَة وَخمْس مئة أقطع أتابك زنكي مَدِينَة وَاسِط وشحنكية الْبَصْرَة وَظهر من كِفَايَته فِي البلدين مَا لم يَظُنّهُ أحد فازداد شَأْنه عظما وهاب الْأَمِير دبيس بن صَدَقَة الْأَسدي صَاحب الْحلَّة ناحيته وَجَرت بَينه وَبَين البرسقي حروب ومواقفات وهم دبيس بِقصد بَغْدَاد فَسَار البرسقي إِلَيْهِ وَتَبعهُ الْخَلِيفَة المسترشد بِاللَّه بِنَفسِهِ فَانْهَزَمَ عَسْكَر دبيس وَقتل مِنْهُم وَأسر خلق كثير وَكَانَ لعماد الدّين زنكي أثر حسن فِي هَذِه الْوَقْعَة أَيْضا بَين يَدي الْخَلِيفَة وَذَلِكَ فِي أول الْمحرم سنة سبع عشرَة وَأما دبيس فَإِنَّهُ لما انهزم لحق بِالْملكِ طغرل بن السُّلْطَان مُحَمَّد وَصَارَ مَعَه من خَواص أَصْحَابه وَكَانَ عَاصِيا على أَخِيه السُّلْطَان مَحْمُود وَأمر السُّلْطَان مَحْمُود البرسقي أَن يرجع إِلَى الْموصل فَعَاد واستدعى زنكي من الْبَصْرَة ليسير مَعَه إِلَى الْموصل فَقَالَ زنكي لأَصْحَابه قد ضجرنا مِمَّا نَحن فِيهِ كل يَوْم قد ملك الْبِلَاد أَمِير ونؤمر بِالتَّصَرُّفِ على اخْتِيَاره وإرادته ثمَّ تَارَة بالعراق وَتارَة بالموصل وَتارَة بالجزيرة وَتارَة بِالشَّام فَسَار من الْبَصْرَة إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود فَأَقَامَ عِنْده وَكَانَ يقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 إِلَى جَانب تخت السُّلْطَان عَن يَمِينه لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ أحد وَهُوَ مقَام وَالِده قسيم الدولة من قبله وَبَقِي لوَلَده من بعده ثمَّ أُتِي السُّلْطَان الْخَبَر أَن الْعَرَب قد اجْتمعت ونهبت الْبَصْرَة فَأمر زنكي بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا وأقطعه إِيَّاهَا لما بلغه عَنهُ من الحماية لَهَا فِي الْعَام الْمَاضِي وَقت اخْتِلَاف العساكر والحروب فَفعل ذَلِك فَعظم عِنْد السُّلْطَان وَزَاد مَحَله وَكَانَ قد جرى بَين يرنقش الزكوي شحنة بَغْدَاد وَبَين الْخَلِيفَة السترشد بِاللَّه نفرة فتهدده السترشد فَسَار عَن بَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان فِي رَجَب سنة تسع عشرَة شاكيا من المسترشد وحذر السُّلْطَان جَانِبه وأعلمه أَنه قد جمع العساكر عَازِمًا على مَنعه من الْعرَاق فَسَار السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد وَجرى بَينه وَبَين المسترشد حروب ووقائع ثمَّ اصطلحا وعادا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ واقام السُّلْطَان بِبَغْدَاد إِلَى عَاشر ربيع الآخر وَنظر فِيمَن يصلح أَن يَلِي شحنكية بَغْدَاد وَالْعراق يَأْمَن مَعَه من الْخَلِيفَة ويضبط الْأُمُور فولى ذَلِك زنكي مُضَافا إِلَى مَا بِيَدِهِ من الإقطاع وَسَار السُّلْطَان عَن بَغْدَاد وَفِي سنة عشْرين وَخمْس مئة قتل آق سنقر البرسقي بالجامع الْعَتِيق بالموصل بعد الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة ثار بِهِ من الباطنية مَا يزِيد على عشرَة أنفس فَقتل بِيَدِهِ مِنْهُم ثَلَاثَة وَقتل رَحمَه الله وَكَانَ عادلا لين الْأَخْلَاق حسن الْعشْرَة وَكَانَ يصلى كل لَيْلَة صَلَاة كَثِيرَة وَلَا يَسْتَعِين فِي وضوئِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بِأحد فقرر السُّلْطَان وَلَده عز الدّين مسعوداً على مَا كَانَ لِأَبِيهِ من الْأَعْمَال وَهِي الْموصل وديار الجزيرة وحلب وحماة وجزيرة ابْن عمر وَغَيرهَا وَكَانَ شَابًّا عَاقِلا فضبط الْبِلَاد وَلم تطل ايامه وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَولي الْأَمر بعده أَخُوهُ الصَّغِير وَقَامَ بتدبير دولتيهما الْأَمِير جاولي وَهُوَ مَمْلُوك تركي من مماليك أَبِيهِمَا فجرت الْأُمُور على أحسن نظام فصل فِي ولَايَة زنكي الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد البرسقي وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان من سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسبب ذَلِك أَن عز الدّين بن البرسقي لما توفّي وَقَامَ بالبلاد بعده أَخُوهُ الصَّغِير وَتَوَلَّى أمره جاولى أرسل إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود يطْلب أَن يقر الْبِلَاد عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُرْسل بذلك القَاضِي بهاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الشهرزوي وَصَلَاح الدّين مُحَمَّد الياغبساني فحضرا بَغْدَاد ليخاطبا السُّلْطَان فِي ذَلِك وَكَانَا يخافان جاولى وَلَا يرضيان بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّف بِحكمِهِ وَكَانَ بَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الصّلاح وَبَين نصير الدّين جقر مصاهرة فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا أَن يطلبا الْبِلَاد لعماد الدّين زنكي ففعلا وَقَالا للوزير قد علمت أَنْت وَالسُّلْطَان أَن بِلَاد الجزيرة وَالشَّام قد استولى الإفرنج على أَكْثَرهَا وتمكنوا مِنْهَا وقويت شوكتهم وَكَانَ البرسقي يكف بعض عاديتهم فمنذ قتل ازْدَادَ طمعهم وَهَذَا وَلَده طِفْل صَغِير وَلَا بُد للبلاد من شهم شُجَاع يذب عَنْهَا ويحمي حوزتها وَقد أنهينا الْحَال إِلَيْكُم لِئَلَّا يجْرِي خلل أَو وَهن على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فنحصل نَحن بالإثم من الله تَعَالَى واللوم من السُّلْطَان فأنهى الْوَزير ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فأعجبه وَقَالَ من تريان يصلح لهَذِهِ الْبِلَاد فذكرا جمَاعَة فيهم عماد الدّين زنكي وعظما مَحَله أَكثر من غَيره فَأجَاب السُّلْطَان إِلَى تَوليته لما علم من شهامته وكفايته فولي الْبِلَاد جَمِيعهَا وَكتب منشوره بهَا وَسَار من بَغْدَاد إِلَى البوازيج ليملكها ويتقوى بهَا ويجعلها ظَهره إِن مَنعه جاولى عَن الْبِلَاد فَلَمَّا استولى عَلَيْهَا سَار عَنْهَا إِلَى الْموصل فَخرج جاولى إِلَى لِقَائِه وَعَاد فِي خدمته إِلَى الْموصل فسيره إِلَى الرحبة وأعمالها وَأقَام هُوَ بالموصل يصلح أمورها ويقرر قواعدها فولى نصير الدّين دزدارية قلعة الْموصل وفوض إِلَيْهِ أَمر الْولَايَة جَمِيعهَا وَجعل الدزدارية فِي الْبِلَاد جَمِيعهَا لَهُ وَجعل الصّلاح مُحَمَّد الياغبساني أَمِير حَاجِب الدولة وَجعل بهاء الدّين قَاضِي قُضَاة بِلَاده جَمِيعهَا وَمَا يَفْتَحهُ من الْبِلَاد ووفي لَهُم بِمَا وعدهم وَكَانَ بهاء الدّين أعظم النَّاس عِنْده منزلَة وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ وَأَكْثَرهم انبساطا مَعَه وقربا مِنْهُ ورتب الْأُمُور على أحسن نظام وَأحكم قَاعِدَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَكَانَ الفرنج قد اتسعت بِلَادهمْ وَكَثُرت أجنادهم وعظمت هيبتهم وزادت صولتهم وامتدت إِلَى بِلَاد الْمُسلمين أَيْديهم وَضعف أَهلهَا عَن كف عاديهم وَتَتَابَعَتْ غزواتهم وساموا الْمُسلمين سوء الْعَذَاب واستطار فِي الْبِلَاد شرر شرهم وامتدت مملكتهم من نَاحيَة ماردين وشبختان إِلَى عَرِيش مصر لم يتخلله من ولَايَة الْمُسلمين غير حلب وحماة وحمص ودمشق وَكَانَت سراياهم تبلغ من ديار بكر إِلَى آمد وَمن ديار الجزيرة إِلَى نَصِيبين وَرَأس عين أما أهل الرقة وحران فقد كَانُوا مَعَهم فِي ذل وهوان وانقطعت الطّرق إِلَى دمشق إِلَّا على الرحبة وَالْبر ثمَّ زَاد الْأَمر وَعظم الشَّرّ حَتَّى جعلُوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وإتاوة يأخذونها مِنْهُم ليكفوا أذيتهم عَنْهُم ثمَّ لم يقنعوا بذلك حَتَّى أرْسلُوا إِلَى مَدِينَة دمشق واستعرضوا الرَّقِيق مِمَّن أَخذ من الرّوم والأرمن وَسَائِر بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وخيروهم بَين الْمقَام عِنْد أربابهم وَالْعود إِلَى أوطانهم فَمن اخْتَار الْمقَام تَرَكُوهُ وَمن آثر الْعود إِلَى أَهله أَخَذُوهُ وناهيك بِهَذِهِ الْحَالة ذلة للْمُسلمين وصغارا وَأما أهل حلب فَإِن الفرنج أخذُوا مِنْهَا مُنَاصَفَة أَعمالهَا حَتَّى فِي الرحا الَّتِي على بَاب الْجنان وَبَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرُون خطْوَة وَأما بَاقِي بِلَاد الشَّام فَكَانَ حَال أَهلهَا أَشد من حَال هذَيْن البلدين فَلَمَّا نظر الله سُبْحَانَهُ إِلَى بِلَاد الْمُسلمين ولاها عماد الدّين زنكي فغزا الفرنج فِي عقر دِيَارهمْ وَأخذ للموحدين مِنْهُم بثارهم واستنقذ مِنْهُم حصونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ومعاقل وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك وَمَا فَتحه من الْبِلَاد الإسلامية هُوَ وَابْنه من بعده إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل ثمَّ شرع زنكي رَحمَه الله فِي أَخذ الْبِلَاد فَافْتتحَ جَزِيرَة ابْن عمر ثمَّ مَدِينَة إربل فِي رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين ثمَّ عَاد إِلَى الْموصل وَسَار فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَعشْرين إِلَى سنجار فتسلمها وسير مِنْهَا الشحن إِلَى الخابور فملكة ثمَّ قصد الرحبة فملكت قسرا ثمَّ افْتتح نَصِيبين وَسَار إِلَى حران وَكَانَت الرها وسروج وَغَيرهمَا من ديار الجزيرة للفرنج لعنهم الله وَأهل حران مَعَهم فِي ضيق عَظِيم فراسلوا زنكي بِالطَّاعَةِ واستحثوه على الْوُصُول إِلَيْهِم فَفعل وهادن الفرنج مُدَّة يسيرَة بِعلم أَنه يفرغ فِيهَا من الِاسْتِيلَاء على مَا بَقِي لَهُ من الْبِلَاد الشامية والجزرية وَكَانَ أهم الْأَشْيَاء عِنْده عبور الْفُرَات وَملك مَدِينَة حلب وَغَيرهَا من الْبِلَاد الشامية فَلَمَّا عبر الْفُرَات ملك مَدِينَة منبج وحصن بزراعة وحاصر حلب ثمَّ فتحت لَهُ فرتب أمورها وَسَار عَنْهَا إِلَى حماة فملكها وَقبض على صَاحب حمص وحصرها وَذَلِكَ سنة ثَلَاثِينَ وَعشْرين وَفِي سنة أَربع وَعشْرين اتّفق صَاحب آمد مَعَ صَاحب حصن كيفا وَغَيرهمَا من الْمُلُوك وجمعوا عَسَاكِر نَحْو عشْرين ألفا وقصدوا زنكي فَلَقِيَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَملك سرجة ودارا ثمَّ صمم على الْجِهَاد فنازل حصن الأثارب وَكَانَ أضرّ شَيْء على أهل حلب فَجمع الفرنج جمعا عَظِيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَهَزَمَهُمْ وقتلهم مقتلة عَظِيمَة بقيت عِظَام الْقَتْلَى بِتِلْكَ الأَرْض مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْحصن فملكه عنْوَة فأخربه ومحا أَثَره وأزال من تِلْكَ الأَرْض ضَرَره ثمَّ رَحل إِلَى حصن حارم فحصره فأنفذ من لم يحضر المعركة من الفرنج وَمن نجا مِنْهَا يسْأَلُون الصُّلْح ويبذلون لَهُ المناصفة على ولَايَة حارم فأجابهم إِلَى ذَلِك لِأَن عسكره كَانَ قد كثرت فيهم الْجِرَاحَات وَالْقَتْل فَأَرَادَ أَن يستريحوا ويريحوا فهادنهم وَعَاد عَنْهُم وَقد أَيقَن الْمُسلمُونَ بِالشَّام بالأمن وحلول النَّصْر وسيرت البشائر إِلَى الْبِلَاد بذلك وفيهَا استولى زنكي على مَدِينَة حماة وَمَا فِيهَا وَكَانَ فِيهَا بهاء الدّين سونج بن تَاج الْمُلُوك بورى فَأَخذه وَرِجَاله ثمَّ طلب فِي إِطْلَاقهم خمسين ألف دِينَار فاتفق حُضُور دبيس بن صَدَقَة بن مزِيد أَمِير الْعرَاق بِدِمَشْق مُنْهَزِمًا فَطَلَبه زنكي وَأطلق من كَانَ عِنْده من سونج وَأَصْحَابه ذكر ذَلِك الرئيس أَبُو يعلى وَفِي سنة خمس وَعشْرين وَخمْس مئة توفّي السُّلْطَان مَحْمُود بهمذان وَكَانَ عمره نَحْو ثَمَانِي وَعشْرين سنة وَكَانَت ولَايَته مَا يُقَارب أَربع عشرَة سنة وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلا عادلا كثير الِاحْتِمَال وَطلب السلطنة بعد وَفَاته ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود وأخواه مَسْعُود وسلجوق شاه ابْنا مُحَمَّد وعمهما سنجر بن ملكشاه وَمَعَهُ طغرل ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد فجرت بَينهم حروب واختلافات كَثِيرَة ظفر فِيهَا سنجر وخطب لِابْنِ أَخِيه طغرل بالسلطنة فِي همذان وأصفهان والري وَسَائِر بِلَاد الْجَبَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَفِي سنة سبع وَعشْرين سَار الْخَلِيفَة المسترشد بِنَفسِهِ إِلَى الْموصل فِي ثَلَاثِينَ ألف فَارس فحاصرها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَلم يبلغ غَرضا وَفِي سنة تسع وَعشْرين استولى زنكي على سَائِر قلاع الحميدية وولاياتهم وَمِنْهَا قلعة الْعقر وقلعة شوش وحاصر مَدِينَة آمد ثمَّ مَدِينَة دمشق وفيهَا توفيت والدته بالموصل وَفِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين توفى السُّلْطَان طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه فَخرج السُّلْطَان مَسْعُود والتقى هُوَ والخليفة المسترشد فِي عسكرين عظيمين عَاشر رَمَضَان فَهزمَ عَسْكَر الْخَلِيفَة وَقبض عَلَيْهِ وعَلى خواصه وأنفذ السُّلْطَان شحنة إِلَى بَغْدَاد فَقبض جَمِيع أَمْلَاك الْخَلِيفَة وهجم جمَاعَة من الباطنية على المسترشد وَهُوَ فِي الْخَيْمَة فَقَتَلُوهُ وَكتب السُّلْطَان إِلَى شحنة بَغْدَاد يَأْمُرهُ بالبيعة لِابْنِهِ أَبى جَعْفَر الْمَنْصُور بن المسترشد فَبَايعهُ فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة ولقب بالراشد وَكَانَ عمر المسترشد ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة وَثَلَاثَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام وَكَانَت خِلَافَته سبع عشرَة سنة وَسَبْعَة اشهر وَكَانَ شهما شجاعا مقداما فصيحا وَتمكن فِي خِلَافَته تمَكنا عَظِيما لم يره أحد مِمَّن تقدمه من الْخُلَفَاء من عهد الْمُنْتَصر بِاللَّه إِلَى خِلَافَته إِلَّا أَن يكون المعتضد والمكتفي لِأَن المماليك كَانُوا قَدِيما يخلعون الْخُلَفَاء ويحكمون عَلَيْهِم وَلم يزَالُوا كَذَلِك إِلَى ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الديلم واستيلائهم على الْعرَاق فَزَالَتْ هَيْبَة الْخلَافَة بالمرة إِلَى انْقِرَاض دولة الديلم فَلَمَّا ملك السلجقية جددوا من هَيْبَة الْخلَافَة مَا كَانَ قد درس لَا سِيمَا فِي وزارة نظام الْملك فَإِنَّهُ أعَاد الناموس والهيبة إِلَى أحسن حالاتها إِلَّا أَن الحكم والشحن بالعراق كَانَ إِلَى السُّلْطَان وَكَذَلِكَ العمداء وَضَمان الْبِلَاد وَلم يكن للخلفاء إِلَّا إقطاع يَأْخُذُونَ دخله وَأما المسترشد فَإِنَّهُ استبد بالعراق بعد السُّلْطَان مَحْمُود وَلم يكن للسُّلْطَان مَحْمُود مَعَه فِي كثير من الْأَوْقَات سوى الْخطْبَة وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وقاد الجيوش وباشر الحروب وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَخمْس مئة سَار الراشد إِلَى الْموصل صُحْبَة زنكي ملتجئا إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن جمَاعَة حسنوا لَهُ الْخُرُوج من بَغْدَاد لمحاربة السُّلْطَان مَسْعُود فأجابهم إِلَى ذَلِك وَظهر مِنْهُ تنقل فِي الْأَحْوَال وتلون فِي الآراء وَقبض على جمَاعَة من أَعْيَان أَصْحَابه وخافه الْبَاقُونَ وَتقدم السُّلْطَان مَسْعُود وَحصر بَغْدَاد وَاسْتظْهر عَلَيْهَا فَخرج الراشد ملتجئا إِلَى زنكي فَسَار بِهِ إِلَى الْموصل وَدخل مَسْعُود بَغْدَاد وَأمر بخلع الراشد ومبايعة عَمه أبي عبد الله مُحَمَّد بن المستظهر بِاللَّه فَفعل ذَلِك ولقب المقتفي لأمر الله وَأما الراشد فَإِن السُّلْطَان سنجر أرسل إِلَى أتابك يَأْمُرهُ بِإِخْرَاجِهِ عَن بَلَده فَسَار إِلَى اذربيجان ثمَّ إِلَى همذان فَاجْتمع إِلَيْهِ مُلُوك وعساكر كَثِيرَة وَسَار السُّلْطَان إِلَيْهِم فتصافوا فَانْهَزَمَ الراشد وَقصد أَصْبَهَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فَقتله الباطنية بهَا فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة وَدفن بأصبهان وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَيْضا تزوج زنكي بالخاتون صفوة الْملك زمرد ابْنة الْأَمِير جاولي أم شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل وَإِخْوَته بني تَاج الْمُلُوك بوري بن ظهيرالدين طغتكين أتابك وَهِي أُخْت الْملك دقاق لأمه وإليها ينْسب مَسْجِد خاتون الَّذِي هُوَ مدرسة لأَصْحَاب أَبى حنيفَة بِأَعْلَى الشّرف القبلي بِأَرْض دمشق بِأَرْض صنعاء وتسلم قلعة حمص فصل فِي جِهَاد زنكي للفرنج لما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ خرج ملك الرّوم من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمَعَهُ خلق عَظِيم لَا يُحصونَ كَثْرَة من الرّوم والفرنج وَغَيرهم من أَنْوَاع النَّصَارَى فقصد الشَّام فخافه النَّاس خوفًا عَظِيما وَكَانَ زنكي مَشْغُولًا بِمَا تقدم ذكره لَا يُمكنهُ مُفَارقَة الْموصل فقصد ملك الرّوم مَدِينَة بزاعة وحصرها وَهِي على مرحلة من حلب وَفتحهَا عنْوَة وَقتل الْمُقَاتلَة وسبى الذُّرِّيَّة فِي شعْبَان ثمَّ سَار عَنْهَا إِلَى شيزر وَهِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 حصن منيع على مرحلة من مَدِينَة حماة فحصرها منتصف شعْبَان وَنصب عَلَيْهَا ثَمَانِيَة عشر منجنيقا وَأرْسل صَاحبهَا أَبُو العساكر سُلْطَان بن عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ إِلَى زنكي يستنجده فَنزل على حماة فَكَانَ يركب كل يَوْم فِي عساكره ويسير إِلَى شيزر بِحَيْثُ يرَاهُ ملك الرّوم وَيُرْسل السَّرَايَا يتخطف من يخرج من عساكرهم لِلْمِيرَةِ والنهب ثمَّ يعود آخر النَّهَار وَكَانَ الرّوم والإفرنج قد نزلُوا على شَرْقي شيزر فَأرْسل إِلَيْهِم زنكي يَقُول لَهُم إِنَّكُم قد تحصنتم بِهَذِهِ الْجبَال فاخرجوا عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء حَتَّى نَلْتَقِي فَإِن ظفرتم أَخَذْتُم شيزر وَغَيرهَا وَإِن ظَفرت بكم أرحت الْمُسلمين من شركم وَلم يكن لَهُ بهم قُوَّة لكثرتهم وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا ترهيبا لَهُم فَأَشَارَ الفرنج على ملك الرّوم بلقائه وقتاله وهونوا أمره فَقَالَ لَهُم الْملك أتظنون أَن مَعَه من العساكر مَا ترَوْنَ وَله الْبِلَاد الْكَثِيرَة وَإِنَّمَا هُوَ يريكم قلَّة من مَعَه لتطمعوا وتصحروا لَهُ فَحِينَئِذٍ ترَوْنَ من كَثْرَة عسكره مَا يعجزكم وَكَانَ أتابك زنكي مَعَ هَذَا يراسل فرنح الشَّام ويحذرهم ملك الرّوم وَيُعلمهُم أَنه إِن ملك بِالشَّام حصنا وَاحِدًا أَخذ الْبِلَاد الَّتِي بِأَيْدِيهِم مِنْهُم وَكَانَ يراسل ملك الرّوم يتهدده ويوهمه أَن الفرنج مَعَه فاستشعر كل وَاحِد من الفرنج وَالروم من صَاحبه فَرَحل ملك الرّوم عَنْهَا فِي رَمَضَان وَكَانَ مقَامه عَلَيْهَا أَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَترك المجانيق والآت الْحصار بِحَالِهَا فَسَار زنكي خَلفهم فظفر بطَائفَة مِنْهُم فِي ساقة الْعَسْكَر فغنم مِنْهُم وَقتل وَأسر وَأخذ جَمِيع مَا خلفوه وَرَفعه إِلَى قلعة حلب {وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} وَكَانَ الْمُسلمُونَ بِالشَّام قد اشْتَدَّ خوفهم وَعَلمُوا أَن الرّوم إِن ملكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 حصن شيزر لَا يبْقى لمُسلم مَعَهم مقَام لَا سِيمَا مَدِينَة حماة لقربها وَلما يسر الله تَعَالَى هَذَا الْفَتْح مدح الشُّعَرَاء الشَّهِيد أتابك فَأَكْثرُوا مِنْهُم أَبُو الْمجد الْمُسلم بن الْخضر بن الْمُسلم بن قسيم التنوخي الْحَمَوِيّ لَهُ قصية قد ذكرتها فِي تَرْجَمته فِي التَّارِيخ أَولهَا (بعزمك أَيهَا الْملك الْعَظِيم ... تذل لَك الصعاب وتستقيم) (ألم تَرَ أَن كلب الرّوم لما ... تبين أَنه الْملك الرَّحِيم) (فجَاء يطبق الفلوات خيلا ... كَأَن الجحفل اللَّيْل البهيم) (وَقد نزل الزَّمَان على رِضَاهُ ... فَكَانَ لخطبه الْخطب الجسيم) (فحين رميته بك فِي خَمِيس ... تَيَقّن أَن ذَلِك لَا يَدُوم) (وابصر فِي المفاضة مِنْك جَيْشًا ... فأحرن لَا يسير وَلَا يُقيم) (كَأَنَّك فِي العجاج شهَاب نور ... توقد وَهُوَ شَيْطَان رجيم) (أَرَادَ بَقَاء مهجته فولى ... وَلَيْسَ سوى الْحمام لَهُ حميم) (يؤمل أَن تجود بهَا عَلَيْهِ ... وَأَنت بهَا وبالدنيا كريم) (أيلتمس الفرنج لديك عفوا ... وَأَنت بِقطع دابرها زعيم) (وَكم جرعتها غصص المنايا ... بِيَوْم فِيهِ يكتهل الفطيم) (وَلما أَن طلبتهم تمنى الْمنية ... جوسلينهم اللَّئِيم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 (أَقَامَ يطوف الْآفَاق حينا ... وَأَنت على معاقله مُقيم) (فَسَار وَمَا يعادله مليك ... وَعَاد وَمَا يعادله سقيم) (إِذا خطرت سيوفك فِي نفوس ... فَأول مَا تفارقها الجسوم) وَله أَيْضا من قصيدة يمدح بهَا صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن أَيُّوب الْعِمَادِيّ التوتان صَاحب حماة (وَمَا جَاءَ كلب الرّوم إِلَّا ليحتوي ... حماة وَمَا يَسْطُو على الْأسد الْكَلْب) (أَرَادَ بهَا أَن يملك الشَّام عنْوَة ... وَقد غلبت عَنهُ الضراغمة الغلب) (وَمَا ذمّ فِيهَا الْعَيْش حَتَّى صدمته ... فَمَال جنَاح الْجَيْش وانكسر الْقلب) (فولى وأطراف الرماح كَأَنَّهَا ... نُجُوم عَلَيْهِ بالمنية تنصب) وَلابْن مُنِير من قصيدة فِي مدح أتابك زنكي رَحمَه الله سَيَأْتِي بَعْضهَا عِنْد ذكر فَتحه لمدينة الرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وَمَا يَوْم كلب الرّوم إِلَّا أَخُو الَّذِي ... أزحت بِهِ مَا فِي الجناجن من تبل) (أَتَاك بِمثل الرمل حشدا وَإنَّهُ ... ليفضل أضعافا كثيرا عَن الرمل) (فقاتلته بِاللَّه ثمَّ بعزمة ... تعل قُلُوب العاشقين بِمَا يسلي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (توهم أَن الشَّام مرعى وَمَا درى ... بأنك أمضى مِنْهُ فِي الشزر والسحل) (فطار وَخير المغنمين ذماؤه ... إِذا رد عَنهُ مغنم المَال والأهل) قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن عَجِيب مَا يحْكى فِي هَذِه الْحَادِثَة أَن الْخَبَر لما وصل بِقصد الرّوم شيزر قَالَ الْأَمِير مرشد بن عَليّ أَخُو صَاحبهَا وَهُوَ ينْسَخ مُصحفا فرفعه بِيَدِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ بِحَق من أنزلته عَلَيْهِ إِن قضيت بمجيء الرّوم فاقبضني إِلَيْك فتوفى بعد أَيَّام وَنزل الرّوم بعد وَفَاته وَلما عَاد الرّوم إِلَى بِلَادهمْ نزل أتابك إِلَى حصن عرقة وَهُوَ من أَعمال طرابلس فحصره وفتحه عنْوَة وَنهب مَا فِيهِ واسر من بِهِ من الفرنج وأخربه وَعَاد سالما غانما وفيهَا ملك قلعة دَارا من حسام الدّين تمرتاش وفيهَا توفى بهاء الدّين عَليّ بن الْقَاسِم الشهرزوري قَاضِي الممالك الأتابكية وَكَانَ أعظم النَّاس منزلَة عِنْده وفيهَا ولد صَلَاح الدّين يُوسُف بن ايوب بتكريت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فصل فِي فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشق قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت شهرزور وأعمالها وَمَا يجاورها من الْبِلَاد وَالْجِبَال فِي يَد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني وَكَانَ مَالِكهَا نَافِذ الحكم على قاصي التركمان ودانيهم يرَوْنَ طَاعَته فرضا حتما فتحامى الْمُلُوك قصد ولَايَته وَلم يتَعَرَّضُوا لَهَا لحصانتها فَعظم شَأْنه وازداد جمعه فَلَمَّا كَانَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ بلغ الشَّهِيد أتابك عَنهُ مَا اقْتضى أَن يقْصد بِلَاده فَهزمَ عسكره وَملك بِلَاد شهرزور وَغَيرهَا فأضافها إِلَى بِلَاده واصلح أَحْوَال أَهلهَا وخفف عَنْهُم مَا كَانُوا يلقونه من التركمان وَعَاد إِلَى الْموصل عَازِمًا على الْمسير إِلَى الشَّام فَإِنَّهُ كَانَ لَا يرى الْمقَام بل لَا يزَال ظَاعِنًا إِمَّا لرد عَدو يَقْصِدهُ وَإِمَّا لقصد بِلَاد عَدو وَإِمَّا لغزو الفرنج وسد الثغور وَكَانَت مياثر السُّرُوج آثر عِنْده من وثير المهاد والسهر فِي حراسة المملكة أحب إِلَيْهِ من عرض الوساد وأصوات السِّلَاح ألذ فِي مسمعه من الْغناء لَا يجد لذَلِك كُله عناء وَفِي هَذِه السّنة وَهِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ ولد تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاذي وفيهَا سَار الشَّهِيد فِي جُنُوده بعد ملك شَهْرَزَوْرَ إِلَى مَدِينَة دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فحصرها وصاحبها حِينَئِذٍ جمال الدّين مُحَمَّد بن بورى بن طغتكين وَكَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَالْغَالِب على أمره معِين الدّين أنر مَمْلُوك جده طغتكين وَكَانَ أتابك قد أَمر كَمَال الدّين أَبَا الْفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جمَاعَة من مقدمي أحداثها وزناطرتها واستمالتهم وإطماعهم فِي الرغائب والصلات فَفعل ذَلِك فَأَجَابَهُ مِنْهُم خلق كثير إِلَى تَسْلِيم الْبَلَد وَخَرجُوا مُتَفَرّقين إِلَى كَمَال الدّين وجدد عَلَيْهِم العهود وتواعدوا يَوْمًا يزحف فِيهِ الشَّهِيد إِلَى الْبَلَد ليفتحوا لَهُ الْبَاب ويسلموا الْبَلَد إِلَيْهِ فَأعْلم كَمَال الدّين الشَّهِيد أتابك بذلك فَقَالَ لَا أرى هَذَا رَأيا فَإِن الْبَلَد ضيق الطرُق والشوارع وَمَتى دخل الْعَسْكَر إِلَيْهِ لَا يتمكنون من الْقِتَال فِيهِ لضيقه وَرُبمَا كثر الْمُقَاتِلُونَ لنا فنعجز عَن مقاومتهم لأَنهم يُقَاتلُون على الأَرْض والسطوحات وَإِذا دَخَلنَا الْبَلَد اضطررنا إِلَى التَّفَرُّق لضيق المسالك فيطمع فِينَا أَهله وَعَاد عَن ذَلِك الْعَزْم بحزمه وحذره وَمن الْعجب أَن مُحَمَّد بن بورى صَاحب دمشق توفّي وأتابك يحصره فضبط أنر الْأُمُور وساس الْبَلَد فَلم يتَغَيَّر بِالنَّاسِ حَال وَأرْسل إِلَى بعلبك فأحضر وَلَده مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد بن بورى ورتبه فِي الْملك مَكَان أَبِيه فَمشى الْحَال بتمكين معِين الدّين أنر وَحسن تَدْبيره وَهَذَا مجير الدّين آبق هُوَ الَّذِي مِنْهُ أَخذ نور الدّين بن زنكي دمشق كَمَا سَيَأْتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَلما دخل مجير الدّين دمشق أقطع بعلبك معِين الدّين أنر فَأرْسل إِلَيْهَا نَائِبه وتسلمها فَلَمَّا علم الشَّهِيد ذَلِك سَار إِلَى بعلبك وحصرها عدَّة شهور فملكها عنْوَة وَترك بهَا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين دزدارا وعزم على الْعود عَنْهَا إِلَى دمشق فَجَاءَتْهُ رسل صَاحبهَا ببذل الطَّاعَة وَالْخطْبَة فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَعَاد عَن قصد دمشق وَقد خطب لَهُ فِيهَا وَصَارَ أَصْحَابهَا فِي طَاعَته وَتَحْت حكمه قَالَ يحيى بن أَبى طي الْحلَبِي وَاتفقَ أَن الْأُمَرَاء لما نزلُوا من بعلبك أفسدوا ذخائرها فَقبض عَلَيْهِم أتابك زنكي وَقتل بَعضهم وصلبهم وَكَانَ ولى قَتلهمْ صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن أَيُّوب الياغبساني فَحكى أَنه أحضر إِلَيْهِ فِي جملَة الامراء شيخ مليح الشيبة وَمَعَهُ ولد لَهُ أَمْرَد كَأَنَّهُ فلقَة قمر فَقَالَ الشَّيْخ لصلاح الدّين سَأَلتك بحياة الْمولى أتابك إِلَّا صلبتني قبل وَلَدي لِئَلَّا أرَاهُ يعالج سَكَرَات الْمَوْت وَبكى وَكَانَ نجم الدّين أَيُّوب وَاقِفًا فرحم الشَّيْخ وَبكى وَسَأَلَ صَلَاح الدّين فِي إِطْلَاقه فَقَالَ مَا أفعل خوفًا من الْمولى أتابك فَذهب نجم الدّين إِلَى أتابك وَسَأَلَهُ فِي الشَّيْخ وَولده وقص عَلَيْهِ مَا قَالَه فَأذن بِإِطْلَاقِهِ وَإِطْلَاق من بَقِي من الْجَمَاعَة ووهبه نصف بعلبك وَقيل إِن نجم الدّين ورد على أتابك وَهُوَ قد ملك بعلبك فَسَأَلَهُ فِي الْأُمَرَاء فَأَطْلَقَهُمْ لَهُ وولاه بعلبك وَكتب لَهُ ثلثهَا ملكا وَاسْتقر فِيهَا هُوَ وَأَهله وَلم يزل بهَا إِلَى أَيَّام نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَأخْرجهُ مِنْهَا على مَا سَنذكرُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثمَّ إِن أتابك بعد ملكة بعلبك سَار إِلَى دمشق فَنزل الْبِقَاع فوردت هَدِيَّة صَاحب دمشق وَطلب الْعود وَيُعْطِيه خمسين ألف دِينَار وَيُعْطِيه حمص فَأَشَارَ نجم الدّين على زنكي بِقبُول ذَلِك وَقَالَ هَذَا مَال كثير وَقد حصل بِلَا تَعب وبلد كَبِير بِلَا عناء ودمشق بلد عَظِيم وَقد ألف أَهله هَذَا الْبَيْت وتمرنوا على سياستهم وَقد بلغتهم الْأَحْوَال الَّتِي جرت ببعلبك فَامْتنعَ زنكي من قبُول مَا أَشَارَ بِهِ ففاته ذَلِك وَلم يظفر بغرضه فصل ثمَّ سَار أتابك الشَّهِيد فِي هَذِه السّنة وَهِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ إِلَى بِلَاد الفرنج فَأَغَارَ عَلَيْهَا وَاجْتمعَ مُلُوك الفرنج وَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَقِيَهُمْ بِالْقربِ من حصن بارين وَهُوَ للفرنج فَصَبر الْفَرِيقَانِ صبرا لم يسمع بِمثلِهِ إِلَّا مَا يحْكى عَن لَيْلَة الهرير وَنصر الله الْمُسلمين وهرب مُلُوك الفرنج وفرسانهم فَدَخَلُوا حصن بارين وَفِيهِمْ ملك الْقُدس لِأَنَّهُ كَانَ أقرب حصونهم واسلموا عدتهمْ وعتادهم وَكثر فيهم الْجراح ثمَّ سَار الشَّهِيد إِلَى حصن بارين فحصره حصرا شَدِيدا فراسلوه فِي طلب الْأمان ليسلموا ويسلموا الْحصن فَأبى إِلَّا أَخذهم قهرا فَبَلغهُ أَن من بالسَّاحل من الفرنج قد سَارُوا إِلَى الرّوم والفرنج يستنجدونهم وَينْهَوْنَ إِلَيْهِم مَا فِيهِ مُلُوكهمْ من الْحصْر فَجمعُوا وحشدوا وَأَقْبلُوا إِلَى السَّاحِل وَمن بالحصن لَا يعلمُونَ شَيْئا من ذَلِك لقُوَّة الْحصْر عَلَيْهِم فَأَعَادُوا مراسلته فِي طلب الْأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فأجابهم وتسلم الْحصن وَسَارُوا فلقيتهم أَمْدَاد النَّصَارَى فَسَأَلُوهُمْ عَن حَالهم فَأَخْبرُوهُمْ بِتَسْلِيم الْحصن فلاموهم وَقَالُوا عجزتم عَن حفظه يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ فَحَلَفُوا لَهُم إِنَّا لم نعلم بوصولكم وَلم يبلغنَا عَنْكُم خبر مُنْذُ حصرنا وَإِلَى الْآن فَلَمَّا عميت الْأَخْبَار عَنَّا ظننا أَنكُمْ قد أهملتم أمرنَا فحقنا دماءنا بِتَسْلِيم الْحصن قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ حصن بارين من أضرّ بِلَاد الفرنج على الْمُسلمين فَأن أَهله كَانُوا قد أخربوا مَا بَين حماة وحلب من الْبِلَاد ونهبوها وتقطعت السبل فأزال الله تَعَالَى بالشهيد رَحمَه الله هَذَا الضَّرَر الْعَظِيم وَفِي مُدَّة مقَامه على حصن بارين سير جنده إِلَى المعرة وكفرطاب وَتلك الْولَايَة جَمِيعهَا فاستولى عَلَيْهَا وملكها وَهِي بِلَاد كَثِيرَة وقرايا عَظِيمَة قلت وَقد قَالَ القيسراني يذكر هزيمَة الفرنج ويمدح زنكي قصيدة أَولهَا (حذار منا وأنى ينفع الحذر ... وَهِي الصوارم لَا تبقي وَلَا تذر) (واين تنجو مُلُوك الشّرك من ملك ... من خيُله النَصُر لَا بل جُندُه الْقدر) (سلُّوا سيوفا كأغماد السيوف بهَا ... صالوا فماَ غمدوا نصلا وَلَا شهروا) (حَتَّى إِذا مَا عمادُ الدّين أرهقهم ... فِي مأزق من سناه يَبْرق الْبَصَر) (ولوا تضيق بهم ذرعا مسالكهم ... وَالْمَوْت لَا ملْجأ مِنْهُ وَلَا وزر) (وَفِي الْمسَافَة من دون النجَاة بهم ... طول وَإِن كَانَ فِي أقطارها قصر) (وَأصْبح الدّين لَا عينا وَلَا أثرا ... يخَاف وَالْكفْر لَا عين وَلَا أثر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 (فَلَا تخف بعْدهَا الإفرنج قاطبة ... فالقوم إِن نفروا ألوى بهم نفر) (إِن قَاتلُوا قُتِلوا أَو حَاربُوا حربوا ... أَو طاردوا طردوا أَو حاصروا حصروا) (وطالما استفحل الْخطب البهيم بهم ... حَتَّى أَتَى ملك آراؤه غرر) (وَالسيف مفترع أبكار أنفسهم ... وَمن هُنَالك قيل الصارم الذّكر) (لَا فَارَقت ظِلَّ محيى الْعدْل لامعة ... كالصبح تطوى من الْأَعْدَاء مَا نشرُوا) (ولآ انثنى النّصْرُ عَن أنصار دولته ... بِحَيْثُ كَانَ وَإِن كَانُوا بِهِ نصروا) (حَتَّى تعود ثغور الشَّام ضاحكة ... كَأَنَّمَا حل فِي أكنافها عمر) وَقَالَ ابْن مُنِير (فدتك الْمُلُوك وأيامها ... ودان لنقضك إبرامها) (وزلت لعينك أَقْدَامهَا ... وَزَالَ لبطشك إقدامها) (وَلَو لم تُسلم إِلَيْك الْقُلُوب ... هَواهَا لما صَحَّ إسْلَامهَا) (أيا محيى الْعدْل لما نعاه ... أيامي البرايا وأيتامها) (ومستنقذ الدّين من أمة ... أذال المحاريب أصنامها) (دلفت لَهَا تقتفيك الْأسود ... وَالْبيض والسمر آجامها) (جزرت جزيرتها بِالسُّيُوفِ ... حَتَّى تشاءمها شامها) (وَصَارَت عوارى أكنافه ... مَتى شِئْت أرخص مستامها) قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما وصل الرّوم والفرنج إِلَى الشَّام وَرَأَوا الْأَمر قد فَاتَ أَرَادوا جبر مصيبتهم بمنازلة بعض بِلَاد الْمُسلمين فنازلوا حلب وحصروها فَلم ير الشَّهِيد أَن يخاطر بِالْمُسْلِمين ويلقاهم لأَنهم كَانُوا فِي جمع عَظِيم فانحاز عَنْهُم وَنزل قَرِيبا مِنْهُم يمْنَع عَنْهُم الْميرَة ويحفظ أَطْرَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الْبِلَاد من انتشار الْعَدو فِيهَا والإغارة عَلَيْهَا وَأرْسل القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود يُنْهِي إِلَيْهِ حَال الْبِلَاد وَكَثْرَة الْعَدو وَيطْلب مِنْهُ النجدة وإرسال العساكر فَقَالَ لَهُ كَمَال الدّين أَخَاف أَن تخرج الْبِلَاد من أَيْدِينَا وَيجْعَل السُّلْطَان هَذَا حجَّة وَينفذ العساكر فَإِذا توسطوا الْبِلَاد ملكوها فَقَالَ الشَّهِيد إِن هَذَا الْعَدو قد طمع فِي الْبِلَاد وَإِن أَخذ حلب لم يبْق بِالشَّام إِسْلَام وعَلى كل حَال فالمسلمون أولى بهَا من الْكفَّار قَالَ فَلَمَّا وصلت إِلَى بَغْدَاد وَأديت الرسَالَة وَعَدَني السُّلْطَان بإنفاذ العساكر ثمَّ أهمل ذَلِك وَلم يَتَحَرَّك فِيهِ بِشَيْء وَكتب الشَّهِيد إِلَى مُتَّصِلَة يحثني على الْمُبَادرَة بإنفاذ العساكر وَأَنا أخاطب فَلَا أزاد على الْوَعْد قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت قلَّة اهتمام السُّلْطَان بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم أحضرت فلَانا وَهُوَ فَقِيه كَانَ يَنُوب عَنهُ فِي الْقَضَاء فَقلت خُذ هَذِه الدَّنَانِير وفرقها فِي جمَاعَة من أوباش بَغْدَاد والأعاجم وَإِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَصعد الْخَطِيب الْمِنْبَر بِجَامِع الْقصر قَامُوا وَأَنت مَعَهم واستغاثوا بِصَوْت وَاحِد وَا إسْلاماه وَا دين مُحمّدَاه وَيخرجُونَ من الْجَامِع ويقصدون دَار السلطنة مستغيثين ثمَّ وضعت إنْسَانا آخر يفعل مثل ذَلِك فِي جَامع السُّلْطَان فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة وَصعد الْخَطِيب الْمِنْبَر قَامَ ذَلِك الْفَقِيه وشق ثَوْبه وَألقى عمَامَته عَن رَأسه وَصَاح وَتَبعهُ أُولَئِكَ النَّفر بالصياح والبكاء فَلم يبْق بالجامع إِلَّا من قَامَ يبكي وَبَطلَت الْجُمُعَة وَسَار النَّاس كلهم إِلَى دَار السُّلْطَان وَقد فعل أُولَئِكَ الَّذين بِجَامِع السُّلْطَان مثلهم فَاجْتمع أهل بَغْدَاد وكل من بالعسكر عِنْد دَار السُّلْطَان يَبْكُونَ ويصرخون ويستغيثون وَخرج الْأَمر عَن الضَّبْط وَخَافَ السُّلْطَان فِي دَاره وَقَالَ مَا الْخَبَر فَقيل لَهُ إِن النَّاس قد ثَارُوا حَيْثُ لم ترسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 العساكر إِلَى الْغُزَاة فَقَالَ أحضروا ابْن الشهرزوري قَالَ فَحَضَرت عِنْده وَأَنا خَائِف مِنْهُ إِلَّا أنني قد عزمت على صدقه وَقَول الْحق فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ يَا قَاضِي مَا هَذِه الْفِتْنَة فَقلت إِن النَّاس قد فعلوا هَذَا خوفًا من الْفِتْنَة وَالشَّر وَلَا شكّ أَن السُّلْطَان مَا يعلم كم بَينه وَبَين الْعَدو وَإِنَّمَا بَيْنكُم نَحْو أُسْبُوع وَلَئِن أخذُوا حلب انحدروا إِلَيْك فِي الْفُرَات وَفِي الْبر وَلَيْسَ بَيْنكُم بلد يمنعهُم عَن بَغْدَاد وعظمت الْأَمر عَلَيْهِ حَتَّى جعلته كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهِم فَقَالَ ارْدُدْ هَؤُلَاءِ الْعَامَّة عَنَّا وَخذ من العساكر مَا شِئْت وسر بهم والأمداد تلحقك قَالَ فَخرجت إِلَى الْعَامَّة وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم وعرفتهم الْحَال وأمرتهم بِالْعودِ فعادوا وَتَفَرَّقُوا وانتخبت من عسكره عشرَة آلَاف فَارس وكتبت إِلَى الشَّهِيد أعرفهُ الْخَبَر وَأَنه لم يبْق غير الْمسير وأجدد اسْتِئْذَانه فِي ذَلِك فَأمرنِي بتسييرهم والحث على ذَلِك فعبرت العساكر الْجَانِب الغربي فَبَيْنَمَا نَحن نتجهز للحركة وَإِذا قد وصل نجاب من الشَّهِيد يخبر أَن الرّوم والفرنج قد رحلوا عَن حلب خائبين لم ينالوا مِنْهَا غَرضا ويأمرني بترك اسْتِصْحَاب العساكر فَلَمَّا خُوطِبَ السُّلْطَان فِي ذَلِك أصر على إِنْفَاذ العساكر إِلَى الْجِهَاد وَقصد بِلَاد الفرنج وَأَخذهَا وَكَانَ قَصده أَن تطَأ عساكره الْبِلَاد بِهَذِهِ الْحجَّة فيملكها قَالَ فَلم أزل أتوصل مَعَ الْوَزير وأكابر الدولة حَتَّى أعدت العساكر إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وسرت إِلَى الشَّهِيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ خير من عشرَة آلَاف فَارس يعْنى كَمَال الدّين رحم الله الشَّهِيد فَلَقَد كَانَ ذَا همة عالية ورغبة فِي الرِّجَال ذَوي الرَّأْي وَالْعقل يرغبهم ويخطبهم من الْبِلَاد ويوفر لَهُم الْعَطاء حكى لي وَالِدي قَالَ قيل للشهيد إِن هَذَا كَمَال الدّين يحصل لَهُ فِي كل سنة مِنْك مَا يزِيد على عشرَة آلَاف دِينَار أميرية وَغَيره يقنع مِنْك بِخمْس مئة دِينَار فَقَالَ لَهُم بِهَذَا الْعقل والرأي تدبرون دَوْلَتِي إِن كَمَال الدّين يقل لَهُ هَذَا الْقدر وَغَيره يكثر لَهُ خمس مئة دِينَار فَإِن شغلا وَاحِدًا يقوم فِيهِ كَمَال الدّين خير من مئة ألف دِينَار وَكَانَ كَمَا قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى فصل قَالَ وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة سَار الشَّهِيد إِلَى بلد الهكارية وَكَانَ بيد الأكراد وَقد أَكْثرُوا فِي الْبِلَاد الْفساد إِلَّا إِن نصير الدّين جقر نَائِب السُّلْطَان الشَّهِيد بالموصل كَانَ قد ملك كثيرا من بِلَادهمْ فَلَمَّا بلغَهَا الشَّهِيد حصر قلعة الشَّعْبَانِي وَهِي من أعظم قلاعهم وأحصنها فملكها وأخربها وَأمر بِبِنَاء قلعة الْعمادِيَّة عوضا عَنْهَا وَكَانَت هَذِه الْعمادِيَّة حصنا كَبِيرا عَظِيما فأخربه الأكراد لعجزهم عَن حفظه لكبره فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ملك أتابك الشَّهِيد الْبِلَاد الَّتِي لَهُم قَالَ إِذا عجز الأكراد عَن هَذَا الْحصن فَأَنا بحول الله لَا أعجز عَنهُ فَأمر ببنائه وَكَانَ رَحمَه الله ذَا عزم ونفاذ أَمر فَبنِي وَسَماهُ القلعة الْعمادِيَّة نِسْبَة إِلَى لقبه عماد الدّين وَفِي هَذِه السّنة خطب لأتابك بآمد وَكَانَ قد أرسل إِلَى صَاحبهَا يطْلب مِنْهُ الِانْفِصَال عَن مُوَافقَة ركن الدولة دَاوُد صَاحب الْحصن والانتماء إِلَى خدمته وَالْخطْبَة لَهُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وفيهَا ملك الشَّهِيد مَدِينَة عانة وفيهَا حصر مَدِينَة حمص مرّة أُخْرَى وَفتحهَا فِي شَوَّال وَقصد ولَايَة دمشق فشتى بهَا وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ عزم السُّلْطَان مَسْعُود على قصد الْموصل بعساكره وَكَانَ قد وَقع بَينه وَبَين الشَّهِيد وَحْشَة فترددت الرُّسُل بَينهمَا حَتَّى اسْتَقَرَّتْ الْحَال على مئة ألف دِينَار أمامية يحملهَا الشَّهِيد إِلَى السُّلْطَان وَطلب أَن يحضر الشَّهِيد فِي خدمته فَامْتنعَ وَاعْتذر باشتغاله بالفرنج فعذره وَشرط عَلَيْهِ فتح الرها وَكَانَ من أعظم الْأَسْبَاب فِي تَأَخّر السُّلْطَان عَن قصد الْموصل أَنه قيل لَهُ إِن تِلْكَ الْبِلَاد لَا يقدر على حفظهَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفرنج غير أتابك عماد الدّين فَإِنَّهَا قد وَليهَا قبله مثل جاولي سقاوه ومودودو وجيوش بك والبرسقي وَغَيرهم من الأكابر وَكَانَ السلاطين يمُدونهم بالعساكر الْكَثِيرَة وَلَا يقدرُونَ على حفظهَا وَلَا يزَال الفرنج يَأْخُذُونَ مِنْهَا الْبَلَد بعد الْبَلَد إِلَى أَن وَليهَا أتابك فَلم يمده أحد من السلاطين بِفَارِس وَاحِد لَا بِمَال وَمَعَ هَذَا فقد فتح من بِلَاد الْعَدو عدَّة حصون وولايات وَهَزَمَهُمْ غير مرّة واستضعفهم وَعز الْإِسْلَام بِهِ وَمن الْأَسْبَاب الْمَانِعَة لَهُ أَيْضا أَن الشَّهِيد كَانَ لَا يزَال وَلَده الْأَكْبَر سيف الدّين غَازِي فِي خدمَة السُّلْطَان مَسْعُود بِأَمْر وَالِده وَكَانَ السُّلْطَان يُحِبهُ ويقربه ويعتمد عَلَيْهِ ويثق بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ الشَّهِيد يَأْمُرهُ بالهرب والمجيء إِلَى الْموصل وَأرْسل إِلَى نَائِبه بالموصل يَأْمُرهُ أَن يمنعهُ من دُخُول الْموصل وَمن الْمسير إِلَيْهِ أَيْضا فَفعل ذَلِك وَقَالَ لَهُ ترسل إِلَى والدك تستأذنه فِي الَّذِي تَفْعَلهُ فَأرْسل إِلَيْهِ فَعَاد الْجَواب إِنَّنِي لَا أريدك مهما السُّلْطَان ساخط عَلَيْك وألزمه بِالْعودِ إِلَيْهِ فَعَاد وَمَعَهُ رَسُول إِلَى السُّلْطَان يَقُول لَهُ إِنَّنِي لما بَلغنِي أَن وَلَدي فَارق الْخدمَة بِغَيْر إِذن لم أجتمع بِهِ ورَدَدْته إِلَى بابك فَحل هَذَا عِنْد السُّلْطَان محلا كَبِيرا وَأجَاب إِلَى مَا أَرَادَ الشَّهِيد وَلما اسْتَقر المَال حمل مِنْهُ نَحْو عشْرين ألف دِينَار ثمَّ إِن الْأُمُور تقلبت وَعَاد أَصْحَاب الْأَطْرَاف خَرجُوا على السُّلْطَان فَاحْتَاجَ إِلَى مداراة الشَّهِيد فَأطلق لَهُ الْبَاقِي استمالة لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَفِي هَذِه السّنة سَار الشَّهِيد إِلَى ديار بكر فَفتح عدَّة بِلَاد مِنْهَا طنزة وإسعرد وَملك مَدِينَة الْمَعْدن الَّذِي يعْمل مِنْهُ النّحاس من إرمينية ومدينة حيزان وَأخذ من أَعمال مادرين عدَّة مَوَاضِع ورتب أُمُور الْجَمِيع وَملك مَدِينَة حاني وحاصر آمد وَأرْسل عسكرا إِلَى مَدِينَة عانة فملكها لَهُ وَقد تقدم ذكرهَا فِي السّنة قبلهَا فصل فِي فتح الشَّهِيد الرها فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة وَكَانَت لجوسلين وَهُوَ عاتي الفرنج وشيطانهم والمقدم على رِجَالهمْ وفرسانهم وَكَانَ مُدَّة حصاره لَهَا ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا وأعادها إِلَى حكم الْإِسْلَام وَهَذِه الرها من أشرف المدن عِنْد النَّصَارَى وَأَعْظَمهَا محلا وَهِي إِحْدَى الكراسي عِنْدهم فأشرفها الْبَيْت الْمُقَدّس ثمَّ أنطاكية ثمَّ رُومِية وقسطنطينية والرها وَكَانَ على الْمُسلمين من الفرنج الَّذين بالرها شَرّ عَظِيم وملكوا من نواحي ماردين إِلَى الْفُرَات على طَرِيق شبختان عدَّة حصون كسروج والبيرة وجملين والموزر وَكَانَت غاراتهم تبلغ مَدِينَة آمد من ديار بكر وماردين ونصيبين وَرَأس عين والرقة وَأما حران فَكَانَت مَعَهم فِي الخزي كل يَوْم قد صبحوها بالغارة فَلَمَّا رأى الشَّهِيد الْحَال هَكَذَا أنف مِنْهُم وَعلم أنة لَا ينَال مِنْهَا غَرضا مَا دَامَ جوسلين بهَا فَأخذ فِي إِعْمَال الْحِيَل وَالْخداع لَعَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 جوسلين يخرج مِنْهَا إِلَى بعض الْبِقَاع فتشاغل عَنْهَا بِقصد مَا جاورها من ديار بكر الَّتِي بيد الْإِسْلَام كحاني وجبل جور وآمد فَكَانَ يُقَاتل من بهَا قتالا فِيهِ إبْقَاء وَهُوَ يسر حسوا فِي ارتغاء فَهُوَ يخطبها وعَلى غَيرهم يحوم ويطلبها وسواها يروم ووكل بهَا من يُخبرهُ بخلو عرينها من آساده وفراغ حصنها من أنصاره وأجناده فَلَمَّا رأى جوسلين اشْتِغَال الشَّهِيد بِحَرب أهل ديار بكر ظن أَنه لَا فرَاغ لَهُ إِلَيْهِ وَأَنه لَا يُمكنهُ الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَفَارَقَ الرها إِلَى بِلَاده الشامية ليلاحظ أَعماله ويتعهد ذخائره وأمواله فَأقبل الشَّهِيد مسرعا بعساكره إِلَى الرها ثمَّ وصف ابْن الْأَثِير الْجَيْش وَأنْشد (بجيشٍ جاش بالفرسان حَتَّى ... ظَنَنْت الْبر بحرا من سلَاح) (وألسنة من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرِّيَاح) (وأروع جَيْشه ليل بهيم ... وغرته عَمُود للصباح) (صفوح عِنْد قدرته وَلَكِن ... قَلِيل الصفح مَا بَين الصفاح) (فَكَانَ ثباته للقلب قلبا ... وهيبته جنَاحا للجناح) وألح الشَّهِيد فِي حصارها فملكها عنْوَة فاستباحها ونكس صلبانها وأباد قسوسها ورهبانها وَقتل شجعانها وفرسانها وملأ النَّاس أَيْديهم من النهب والسبي ثمَّ إِنَّه دخل الْبَلَد فِرَاقه فَأَنف لمثله من الخراب فَأمر بِإِعَادَة مَا أَخذ مِنْهُ من أثاث وَمَال وَسبي وَرِجَال وَجوَار وَأَطْفَال فَردُّوا عَن أخرهم لم يفقد مِنْهُم إِلَّا الشاذ والنادر فَعَاد الْبَلَد عَامِرًا بعد أَن كَانَ داثراً ثمَّ رتب الْبَلَد وَأصْلح من شَأْنه وَسَار عَنهُ فاستولى على مَا كَانَ بيد الفرنج من المدن والحصون والقرايا كسروج وَغَيرهَا وأخلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ديار الجزيرة من معرة الفرنج وشرهم واصبح أَهلهَا بعد الْخَوْف آمِنين وَكَانَ فتحا عَظِيما طَار فِي الْآفَاق ذكره وطاب بهَا نشره وشهده خلق كثير من الصَّالِحين والأولياء قَالَ ابْن الْأَثِير حكى لي جمَاعَة أعرف صَلَاحهمْ أَنهم رَأَوْا يَوْم فتح الرها الشَّيْخ أَبَا عبد الله بن عَليّ بن مهْرَان الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَ من الْعلمَاء العاملين والزاهدين فِي الدُّنْيَا المنقطعين عَنْهَا وَله الكرامات الظَّاهِرَة ذكرُوا عَنهُ أَنه غَابَ عَنْهُم فِي زاويته يَوْمه ذَلِك ثمَّ خرج عَلَيْهِم وَهُوَ مُسْتَبشر مسرور عِنْده من الارتياح مَا لم يروه أبدا فَلَمَّا قعد مَعَهم قَالَ حَدثنِي بعض إِخْوَاننَا أَن أتابك زنكي فتح مَدِينَة الرها وَأَنه شهد مَعَه فتحهَا يَوْمنَا هَذَا ثمَّ قَالَ مَا يَضرك يَا زنكي مَا فعلت بعد الْيَوْم يرُدد هَذَا القَوْل مرَارًا فضبطوا ذَلِك الْيَوْم فَكَانَ يَوْم الْفَتْح ثمَّ إِن نَفرا من الأجناد حَضَرُوا عِنْد هَذَا الشَّيْخ وَقَالُوا لَهُ مُنْذُ رَأَيْنَاك على السُّور تكبر أيقنا بِالْفَتْح وَهُوَ يُنكر حُضُوره وهم يقسمون أَنهم رَأَوْهُ عيَانًا قَالَ وَحكى لي بعض الْعلمَاء بالأخبار والأنساب وَهُوَ أعلم من رَأَيْت بهَا قَالَ كَانَ ملك جَزِيرَة صقلية من الفرنج لما فتحت الرها وَكَانَ بهَا بعض الصَّالِحين من المغاربة الْمُسلمين وَكَانَ الْملك يحضرهُ ويكرمه وَيرجع إِلَى قَوْله ويقدمه على من عِنْده من الرهبان والقسيسين فَلَمَّا كَانَ الْوَقْت الَّذِي فتحت فِيهِ الرها سير هَذَا ملك الإفرنج جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى إفريقية فنهبوا وأغاروا واسروا وَجَاءَت الْأَخْبَار إِلَى الْملك وَهُوَ جَالس وَعِنْده هَذَا الْعَالم المغربي وَقد نعس وَهُوَ شَبيه النَّائِم فأيقظه الْملك وَقَالَ يَا فَقِيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قد فعل أَصْحَابنَا بِالْمُسْلِمين كَيْت وَكَيْت أَيْن كَانَ مُحَمَّد عَن نَصرهم فَقَالَ لَهُ كَانَ قد حضر فتح الرها فتضاحك من عِنْده من الفرنج فَقَالَ لَهُم الْملك لَا تَضْحَكُوا فوَاللَّه مَا قَالَ عَن غير علم وَاشْتَدَّ هَذَا على الْملك فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى أَتَاهُم الْخَبَر بِفَتْحِهَا على الْمُسلمين فأنساهم شدَّة هَذَا الوهن رخاء ذَلِك الْخَبَر لعلو منزلَة الرها عِنْد النَّصْرَانِيَّة قَالَ وَحكى لي أَيْضا غير وَاحِد مِمَّن أَثِق إِلَيْهِم أَن رجلا من الصَّالِحين قَالَ رايت الشَّهِيد بعد قَتله فِي الْمَنَام فِي أحسن حَال فَقلت لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لي قلت بِمَاذَا قَالَ بِفَتْح الرها قلت وهنأه القيسراني عِنْد فتح الرها بقصيدة أَولهَا (هُوَ السَّيْف لَا يُغْنِيك إِلَّا جلاده ... وَهل طوق الْأَمْلَاك إِلَّا نجاده) (وَعَن ثغر هَذَا النَّصْر فلتأخذ الظبى ... سناها وَإِن فَاتَ الْعُيُون اتقاده) (سمت قبَّة الْإِسْلَام فخرا بِطُولِهِ ... وَلم يَك يسمو الدّين لَوْلَا عماده) (وَذَادَ قسيم الدولة ابْن قسيمها ... عَن الله مَا لَا يُسْتَطَاع ذياده) (لِيهن بنى الْإِيمَان أَمن ترفعت ... رواسيه عزا وَاطْمَأَنَّ مهاده) (وَفتح حَدِيث فِي السماع حَدِيثه ... شهىٌّ إِلَى يَوْم الْمعَاد مُعادُه) (أراح قلوباً طرن من وُكُناتها ... عَلَيْهَا فَوَافى كل صدر فُؤَاده) (لقد كَانَ فِي فتح الرُّهاء دلَالَة ... على غير مَا عِنْد العلوج اعْتِقَاده) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 (يرجون مِيلَاد ابْن مَرْيَم نصْرَة ... وَلم يغن عِنْد الْقَوْم عَنْهُم ولاده) (مَدِينَة إفْك مُنْذُ خمسين حجَّة ... يفل حَدِيد الْهِنْد عَنْهَا حداده) (تفوت مدى الْأَبْصَار حَتَّى لَو أَنَّهَا ... ترقت إِلَيْهِ خَان طرفا سوَاده) (وجامحة عز الْمُلُوك قيادُها ... إِلَى أَن ثناها من يعز قياده) (فأوسعها حر القراع مؤيد ... بَصِير بتمرين الألد لداده) (كَأَن سنا لمع الأسنة حوله ... شرار وَلَكِن فِي يَدَيْهِ زناده) (فأضرمها نارين حَربًا وخدعة ... فَمَا رَاع إِلَّا سورها وانهداده) (فصدت صدود الْبكر عِنْد افتضاضها ... وهيهات كَانَ السَّيْف حتما سفاده) (فيا ظفراً عَم الْبِلَاد صلاحُه ... بِمن كَانَ قد عَم الْبِلَاد فَسَاده) (فَلَا مُطلق إِلَّا وَشد وثَاقه ... وَلَا موثق إِلَّا وَحل صفاده) (وَلَا مِنْبَر إِلَّا ترنح عوده ... وَلَا مصحف إِلَّا أنار مداده) (فَإِن يثكل الإبرنز فِيهَا حَيَاته ... وَإِلَّا فَقل للنجم كَيفَ سهاده) (وباتت سَرَايَا القمص تقمص دونهَا ... كَمَا يتنزى عَن حريق جراده) (إِلَى أَيْن يَا أسرى الضَّلَالَة بعْدهَا ... لقد ذل غاويكم وَعز رشاده) (رويدكم لَا مَانع من مظفر ... يعاند أَسبَاب الْقَضَاء عناده) (مُصيبُ سِهَام الرَّأْي لَو أَن عزمه ... رمى سد ذِي القرنين أصمي سداده) (وَقل لملوك الْكفْر تُسِلمُ بعْدهَا ... ممالكها إِن الْبِلَاد بِلَاده) (كَذَا عَن طَرِيق الصُّبْح أيتها الدُّجى ... فيا طالما غال الظلام امتداده) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 (وَمن كَانَ أَمْلَاك السَّموات جنده ... فأية أَرض لم تَرضهَا جياده) (وَللَّه عزم مَاء سيحان ورده ... وروضه قسطنطينة مستراده) وَله من قصيدة هَنأ بهَا القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري أَولهَا هِيَ جنَّة المأوى فَهَل من خَاطب يَقُول فِيهَا (إِن الصفائح يَوْم صافحت الرها ... عطفت عَلَيْهَا كل أشوس ناكب) (فتح الفُتوح مبشراً بِتَمَامِهِ ... كالفجر فِي صدر النَّهَار الآيب) (لله أَيَّة وقفةٍ بدرّيةِ ... نصرت صحابتها بأيمن صَاحب) (ظفر كَمَال الدّين كنت لقاحه ... كم ناهض بِالْحَرْبِ غير محَارب) (وأمدكم جَيش الملائك نصْرَة ... بكتائب محفوفة بكتائب) (جَنبُوا الدبور وقدتم ريح الصِّبَا ... جندُ النُّبُوَّة هَل لَهَا من غَالب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (أَتَرَى الرها الورهاء يَوْم تمنعت ... ظنت وجوب السُّور سُورَة لاعب) (لَا أَيْن يَا أسرى المهالك بعْدهَا ... ضَاقَ الفضاء على نجاة الهارب) (شدا إِلَى أَرض الفرنجة بعْدهَا ... إِن الدُّرُوب على الطَّرِيق اللاحب) (أفغركم والثار رهن دمائكم ... مَا كَانَ من إطراق لحظ الطَّالِب) (وَإِذا رَأَيْت اللَّيْث يجمع نَفسه ... دون الفريسة فَهُوَ عين الواثب) وَقَالَ ابْن مُنِير (صِفَات مجدك لفظ جلّ مَعْنَاهُ ... فَلَا اسْتردَّ الَّذِي أعطاكهُ الله) (يَا صَارِمًا بِيَمِين الله قائمه ... وَفِي أعالي أعادي الله حداه) (أصْبَحْتَ دْون مُلُوك الأَرْض مُنْفَردا ... بِلَا شَبيه إِذْ الْأَمْلَاك أشباه) (فدَاك من حاولت مسعاك همته ... جهلا وَقصر عَن مسعاك مسعاه) (قل للأعادي أَلا موتوا بِهِ كمدا ... فَللَّه خيبكم وَالله أعطَاهُ) (ملك تنام عَن الْفَحْشَاء همته ... تقى وتسهر للمعروف عَيناهُ) (مَا زَالَ يسمك وَالْأَيَّام تخدمه ... فِيمَا ابتلاه وتدني مَا توخاه) (حَتَّى تعالت عَن الشعري مشاعره ... قدرا وجاوزت الجوزاء نعلاه) (وَقد روى النَّاس أَخْبَار الْكِرَام مضوا ... وَأَيْنَ مِمَّا رَوَوْهُ مَا رَأينَا) (أَيْن الخلائف عَن فتح أتيح لَهُ ... مظلل أفق الدُّنْيَا جناحاه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 (على المنابر من انبائه أرج ... مقطوبة بفتيق الْمسك رياه) (فتح أعَاد على الْإِسْلَام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه) (يهدى بمعتصم بِاللَّه فتكته ... حَدِيثهَا نسخ الْمَاضِي وأنساه) (إِن الرها غير عمورية وَكَذَا ... من رامها لَيْسَ مغزاه كمغزاه) (أُخْت الْكَوَاكِب عزا مَا بغى أحدٌ ... من الْمُلُوك لَهَا وقما فواتاه) (حَتَّى دلفت لَهَا بالعزم يشحذه ... رأى يبيت فويق النَّجْم مسراه) (مشمرا وَبَنُو الْإِسْلَام فِي شُغُل ... عَن بَدْء غرس لَهُم أثمار عقباه) (يَا مُحيي الْعدْل إِذْ قَامَت نوادبه ... وعامر الْجُود لما مح مَعْنَاهُ) (يَا نعْمَة الله يستصفى الْمَزِيد بهَا ... للشاكرين ويستقني صفاياه) (أبقاك للدّين وَالدُّنْيَا تحوطهما ... من لم يتوجك هَذَا التَّاج إِلَّا هُوَ) وَلابْن مُنِير أَيْضا من قصيدة تقدم بَعْضهَا وَهِي (أيا ملكا ألْقى على الشّرك كلكلا ... أَنَاخَ على أَمَاتَهُ كلكل الثكل) (جمعت إِلَى فتح الرها سد بَابه ... بجمعك بَين النهب والأسر وَالْقَتْل) (هُوَ الْفَتْح أنسى كل فتح حَدِيثه ... وتوج مسطور الرِّوَايَة وَالنَّقْل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (فضضت بِهِ نقش الْخَوَاتِم بعده ... جزيت جَزَاء الصدْق عَن خَاتم الرّسْل) (تجردت لِلْإِسْلَامِ دون ملوكه ... تبتك أَسبَاب المذلة والخذل) (أَخُو الْحَرْب غذته القراع مفطًّما ... يشوب بإقدام الْفَتى حنكة الكهل) وَله من قصيدة أُخْرَى (بعماد الدّين أضحت عُرْوَة الدّين ... معصوبا بهَا الْفَتْح الْمُبين) (واستزادت بقسيم الدولة الْقسم ... من إدْحاض كيدْ المارقين) (ملك أسْهَر عينا لم يزل ... همها تشريد هم الرّاقدين) (لَا خَلتْ من كَحَل النَّصْر فقد ... فقأت غيظا عُيُون الحاسدين) (كلُّ يَوْم مر من أَيَّامه ... فَهُوَ عيدٌ عَائِد للْمُسلمين) (لَو جرى الْإِنْصَاف فِي أَوْصَافه ... كَانَ أولاها أَمِير الْمُؤمنِينَ) (مَا روى الرّاوُون بل مَا سطّروا ... مثل مَا خطت لَهُ أَيدي السنين) (إِذْ أَنَاخَ الشّرك فِي أكنافه ... بمئي ألفٍ تَلَاهَا بمئين) (وقْعَة طاحت بكلب الرّوم من ... قِطْعَة التِّين إِلَى قطع الوتين) (إِن حمت مصر فقد قَامَ لَهَا ... وَاضح الْبُرْهَان أَن الصّين صين) (والرها لَو لم تكن إِلَّا الرها ... لكفت حسما لشك الممترين) (درج الدَّهْر عَلَيْهَا معصرا ... لم تدنس بمرام اللامسين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (هم قسطنطين أَن بفرعها ... وَمضى لم يحو مِنْهَا قسط طين) (وَلكم من ملك حاولها ... فتحلى الْحِين وسما فِي الجبين) (هِيَ أختُ النّجم إِلَّا أَنَّهَا ... مِنْهُ كالنجم لرَأى المُبْصرين) (مُنِيَتْ مِنْهُ بليثٍ قَائِد ... بعران الذل أساد العرين) (زارها يزأر فِي أَسد وغى ... تبدل الْأسد من الزأر الأنين) (صولجوا الْبيض بِضَرْب نثر الْهَام ... فِي ساحاتها نثر الكرين) (يَا لَهَا هِمّةُ ثغرِ أضحكت ... من بنى القلف ثغور الشامتين) (برنست رَأس برنس ذلة ... بَعْدَمَا جاست حوايا جوسلين) (وسروج مذ وعت أسراجه ... فرقت جِمَاعهَا عَنْهَا عضين) (تِلْكَ أقفال رَمَاهَا الله من ... عزمه الْمَاضِي بِخَير الفاتحين) (شام مِنْهُ الشَّام برقاً ودْقُه ... مُؤمن الْخَوْف مخيف الْآمنينَ) (كم كنيس كنست آرامها ... مِنْهُ بعد الرّوح فِي ظلّ السفين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 (دنت الْآجَال من آجالها ... فأحلّتها القطا بعدَ القطين) (ومنار يجتلى صلبانه ... بَين بيض تتبارى فى البرين) (قرعته الْبيض حَتَّى بدلت ... قرعَة الناقوس تثويب الأذين) (بالقسيميّات مقسوما لَهَا الدَّهْر ... فِي علك لجين أَو لجين) (سل بهَا حران كم حرى سقت ... بردا يَوْم ردَّتْ من ماردين) (سمطت أمس سُمَيْسَاط بهَا ... نظم جَيش مبهج للناظرين) (وَغدا يلقِي على الْقُدس لَهَا ... كلكل يدرسها درس الدرين) (همة تمسي وتضحي عَزمَة ... لَيْسَ حصن إِن نحته بحصين) (قل لقوم غرهم إمهاله ... ستذوقون شذاه بعد حِين) (إِنَّه الْمَوْت الَّذِي يدْرك من ... فر مِنْهُ فشجا للغافلين) (وَهُوَ يُحيى مُمْسكى عروته ... إِنَّهَا حَبل لمن تَابَ متين) (من يطع ينج وَمن يعْص يكن ... من غَدَاة عِبْرَة للآخرين) (بك يَا شمس الْمَعَالِي ردَّتْ الرّوح ... فِي المَيْتَيْن من دنيا وَدين) (أقسم الْجد بِأَن تبقى لكَي ... تملك الأَرْض يَمِينا لَا يَمِين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 (وَتفِيض الْعدْل فِي أقطارها ... منسيا مؤلم عسف الجائرين) (لَا تزل دَارك كَيفَ انْتَقَلت ... كعبة محفوفة بالطائفين) (كل يَوْم يتحلى جيدها ... من نظيم الْمَدْح بالدر الثمين) (كلما أخْلص فِيهَا دَعْوَة ... لَك قَالَت ألْسُنُ الْخلق أَمِين) فصل لما فرغ الشَّهِيد من أَخذ الرها وَإِصْلَاح حَالهَا والاستيلاء على مَا وَرَاءَهَا من الْبِلَاد والولايات سَار إِلَى قلعة البيرة وَهِي حصن حُصَيْن مطل على الْفُرَات وَهُوَ لجوسلين أَيْضا فحصره وضايقه فَأَتَاهُ الْخَبَر بقتل نَائِبه بالموصل والبلاد الشرقية نصير الدّين جقر بن يَعْقُوب فَرَحل عَنْهَا خوفًا من أَن يحدث بعده فِي الْبِلَاد فتق يحْتَاج إِلَى الْمسير إِلَيْهَا فَلَمَّا رَحل عَنْهَا سير إِلَيْهَا حسام الدّين تمرتاش بن إيلغازي صَاحب ماردين عسكراً فسلمها الفرنج إِلَيْهِم خوفًا من الشَّهِيد أَن يعود إِلَيْهِم فيأخذها وَكَانَ قتل النصير فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَببه أَن الْملك ألب أرسلان الْمَعْرُوف بالخفاجي ولد السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد كَانَ عِنْد الشَّهِيد وَهُوَ أتابكه ومربيه وَكَانَ هُوَ يظْهر للخلفاء وللسلطان مَسْعُود وَأَصْحَاب الْأَطْرَاف أَن الْبِلَاد الَّتِي بِيَدِهِ للْملك ألب أرسلان وَأَنه نَائِبه فِيهَا وَكَانَ إِذا أرسل رَسُولا أَو أجَاب عَن رِسَالَة فَإِنَّمَا يَقُول قَالَ الْملك كَذَا وَكَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَكَانَ ينْتَظر وَفَاة السُّلْطَان مَسْعُود ليجمع العساكر باسمه وَيخرج الْأَمْوَال وَيطْلب السلطنة فعاجلته الْمنية قبل ذَلِك وَكَانَ هَذَا الْملك بالموصل هَذِه السّنة وَبهَا نصير الدّين وَهُوَ ينزل إِلَيْهِ كل يَوْم يَخْدمه وَيقف عِنْده سَاعَة ثمَّ يعود فَحسن المفسدون للْملك قَتله وَقَالُوا لَهُ إِنَّك إِن قتلته ملكت الْموصل وَغَيرهَا ويعجز أتابك أَن يُقيم بَين يَديك وَلَا يجْتَمع مَعَه فارسان عَلَيْك فَوَقع هَذَا فِي نَفسه وظنه صَحِيحا فَلَمَّا دخل نصير الدّين إِلَيْهِ على عَادَته وثب عَلَيْهِ جمَاعَة فِي خدمَة الْملك فَقَتَلُوهُ وألقوا رَأسه إِلَى أَصْحَابه ظنا مِنْهُم أَن أَصْحَابه إِذا رَأَوْا رَأسه تفَرقُوا وَيملك الْملك الْبِلَاد وَكَانَ الْأَمر بِخِلَاف مَا ظنُّوا فَإِن أَصْحَابه وَأَصْحَاب أتابك الَّذين مَعَه لما رَأَوْا رَأسه قَاتلُوا من بِالدَّار مَعَ الْملك وَاجْتمعَ مَعَهم الْخلق الْكثير وَكَانَت دولة الشَّهِيد مَمْلُوءَة بِالرِّجَالِ الأجلاد ذوى الرَّأْي والتجربة فَلم يتَغَيَّر عَلَيْهِ بِهَذَا الفتق شَيْء وَكَانَ فِي جملَة من حضر القَاضِي تَاج الدّين يحيى بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري أَخُو كَمَال الدّين فَدخل إِلَى السُّلْطَان وخدعه حَتَّى أصعده إِلَى القلعة وَهُوَ يحسن لَهُ الصعُود إِلَيْهَا وَحِينَئِذٍ يسْتَقرّ لَهُ ملك الْبَلَد فَلَمَّا صعد القلعة سجنوه بهَا وَقتل الغلمان الَّذين قتلوا النصير وَأَرْسلُوا إِلَى أتابك يعرفونه الْحَال فسكن جأشه وَاطْمَأَنَّ قلبه وَأرْسل زين الدّين على بن بكتكين واليا على قلعة الْموصل وَكَانَ كثير الثِّقَة بِهِ والاعتماد عَلَيْهِ فسلك بِالنَّاسِ غير الطَّرِيق الَّتِي سلكها النصير وَسَهل الْأَمر فاطمأن النَّاس وأمنوا وازدادت الْبِلَاد مَعَه عمَارَة وَلما رأى الشَّهِيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 صَلَاح أَمر الْموصل سَار إِلَى حلب فَجهز مِنْهَا جَيْشًا إِلَى قلعة شيزر وَبَينهَا وَبَين حماة نَحْو أَرْبَعَة فراسخ فحصرها قلت كَذَا وَقع فِي كتاب ابْن الْأَثِير وَقد وهم فِي قَوْله ألب أرسلان الْمَعْرُوف بالخفاجي فالخفاجي غير ألب أرسلان على مَا ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب السلجوقية = فَإِنَّهُ قَالَ كَانَ مَعَ زنكي ملكان من أَوْلَاد السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه أَحدهمَا يُسمى ألب أرسلان وَهُوَ فِي معقل من معاقل سنجار وَالْآخر يُسمى فرخشاه وَيعرف بالخفاجي الْملك وَهُوَ بالموصل وَكَانَ هَذَا الْملك مُسلما إِلَى الْأَمِير دبيس بن صَدَقَة فانتزعه مِنْهُ زنكي فِي حَرْب جرت فَكَانَت زَوْجَة زنكي خاتون السكمانية تربيه حَتَّى بلغ وَكَانَ النصير يقبض عنانه ويبسط فِيهِ لِسَانه وَيَقُول إِن عقل وَإِلَّا عقلته وَإِن نقل طبعه وَإِلَّا نقلته فدبر فِي قَتله مَعَ اصحابه فقطعوه فِي دهليز دَاره لما دخل للسلام على الْملك ثمَّ أصعد القَاضِي تَاج الدّين الْملك إِلَى القلعة فَلم ير لَهُ اثر والتقط مماليكه ثمَّ عطف زنكي على الْملك الآخر ألب أرسلان فاستخرجه من معقله وعني بتفاصيل أمره وجمله وَضرب لَهُ نوبتية ونوبا ورتب لَهُ فِي حالتي ركُوبه وجلوسه رتبا وأغري بتولي إكرامه وتوخيه وغرضه خَفَاء مَا جرى من هَلَاك أَخِيه ثمَّ ذكر قصَّة موت زنكي على قلعة جعبر كَمَا سَيَأْتِي وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَخمْس مئة أرسل أتابك إِلَى زين الدّين عَليّ يَأْمُرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بإرسال عَسْكَر إِلَى حصن فنك يحصره فسير خلقا كثيرا من الفرسان والرجالة فأقاموا عَلَيْهِ يحصرونه إِلَى أَن أَتَاهُم الْخَبَر بقتل الشَّهِيد أتابك وَهَذَا الْحصن هُوَ مجاور جَزِيرَة ابْن عمر وَهُوَ للأكراد البشنوية وَله مَعَهم مُدَّة طَوِيلَة يَقُولُونَ نَحْو ثَلَاث مئة سنة وَهُوَ من أمنع الْحُصُون مطل على دجلة وَله سرب إِلَى عين مَاء لَا يُمكن أَن يُحَال بَين أَهله وَبَينهَا قلت وَفِي هَذِه السّنة أنْشد ابْن مُنِير بالرقة عماد الدّين زنكي يهنئه بالعافية من مرض عرض لَهُ فِي يَده وَرجله قصيدة أَولهَا (يَا بدر لَا أفل وَلَا محاق ... وَلَا يرم مشرقك الْإِشْرَاق) (بِالدّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِي تَشْكُو وَهل ... يَهْتَز فرع لم يقمه سَاق) (لن تورق القضب وَيجْرِي مَاؤُهَا ... فِيهَا إِذا مَا التاثت الأعراق) (إِن الرعايا مَا سلمت فِي حمى ... للخطب عَن طروقه إطراق) (غرست بِالْعَدْلِ لَهُم خمائلا ... ترتع فِي حديقها الحداق) (يَا هضبة الدّين الَّتِي عاذ بهَا ... فَعَاد لَا بَغت وَلَا إرهاق) (لَو لم تحطه راحلا وقافلا ... أصبح لَا شام وَلَا عراق) (عماد دين مذ أَقَامَ زيغه ... حَيّ وَمَات الشّرك والنفاق) (يَا محيي الْعدْل الَّذِي فِي ظله ... تسربلت زينتها الْآفَاق) (يفديك من لاَنَ مِهاد جنبه ... لما نبا بجنبك الإقلاق) (من بِشَبَا سَيْفك أنبطْت لَهُ العذب ... وَمَاء عيشه زعاق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 (تجرع السم وَلَو لم تحمه ... بحده لَعزّهُ الدرياق) (مُلُوك أَطْرَاف حمى أطرافها ... عزمك هَذَا اللَّاحِق السّبّاق) (لَو لم ترق مَاء كرى الْعين لما ... ساغت بأفواههم الأرْياق) (شققت من دونهم موج الردى ... وشق أكبادهم الشقاق) (أقسم لَو كلفتهم أَن يسمعوا ... حَدِيث أيامك مَا أطاقوا) (لما اشتكيت دب فِي أهوائهم ... توجس للسمع واستراق) (تطاولوا لَا عدمت آمالهم ... قصرا وَلَا جَانبهَا الإخفاق) (توهموها غسقا ثمَّ انجلت ... والصفو من مشربهم غساق) (لَئِن ألم ألم بقدم ... خد السها لنعلها طراق) (أَو كَانَ مدَّ يَده إِلَى يَد ... تجْرِي بهَا ألاجال والأرزاق) (فالنصل يعلى صدأ وَتَحْته ... حد حسام وسنا رقراق) (رمى الصَّليبَ بصليب الرَّأي عَن ... زوراءَ أوفى نَزعهَا الإغراق) (ونوم من خلف الخليج سهر ... والعيش فِي فرنجة سِيَاق) (مَاتُوا فَلَا همسٌ وَلَا إِشَارَة ... خوف هموس زأره إزهاق) (لَا سلبت مِنْك اللَّيَالِي مَا كست ... وَلَا عرا جدتك الإخلاق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فصل فِي وَفَاة زنكي رَحمَه الله قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت قلعة جعبر قد سلمهَا السُّلْطَان ملكشاه إِلَى الْأَمِير سَالم بن مَالك الْعقيلِيّ لما ملك قسيم الدولة مَدِينَة حلب فَلم تزل بِيَدِهِ وَيَد أَوْلَاده إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين فَسَار الشَّهِيد إِلَيْهَا فحصرها وَكَانَ الْبَاعِث لَهُ على حصرها وَحصر فنك أَلا يبْقى فِي وسط بِلَاده مَا هُوَ لغيره وَإِن قل للحزم الَّذِي كَانَ عِنْده وَالِاحْتِيَاط وَأقَام عَلَيْهِ يحصره بِنَفسِهِ إِلَى أَن مضى من شهر ربيع خمس لَيَال فَبينا هُوَ نَائِم دخل عَلَيْهِ نفر من مماليكه فَقَتَلُوهُ غيلَة وَلم يجهزوا عَلَيْهِ وهربوا من ليلتهم إِلَى القلعة وَلم يشْعر أَصْحَابه بقتْله فَلَمَّا صعد أُولَئِكَ النَّفر إِلَى القلعة صَاح من بهَا إِلَى الْعَسْكَر يعلمهُمْ بقتْله فبادر أَصْحَابه إِلَيْهِ فأدركه أوائلهم وَبِه رَمق ثمَّ ختم الله بِالشَّهَادَةِ أَعماله (لَاقَى الْحمام وَلم أكن مُسْتَيْقنًا ... أَن الْحمام سيبتلى بحمام) فأضحى وَقد خانه الأمل وأدركه الْأَجَل وتخلى عَنهُ العبيد والخول فَأَي نجم لِلْإِسْلَامِ أفل وَأي نَاصِر للْإيمَان رَحل وَأي بَحر ندى نضب وَأي بدر مَكَارِم غرب وَأي أَسد افترس وَلم ينجه قلَّة حصن وَلَا صهوة فرس فكم أجهد نَفسه لتمهيد الْملك وسياسته وَكم أدبها فِي حفظه وحراسته فَأَتَاهُ مبيد الْأُمَم ومفنيها فِي الْحَدث والقدم فأصاره بعد الْقَهْر لِلْخَلَائِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 مقهورا وَبعد وثير الْمضَاجِع فِي التُّرَاب معفراً مقبوراً رهين جدث لَا يَنْفَعهُ إِلَّا مَا قدم قد طويت صحيفَة عمله فَهُوَ موثوق فِي صُورَة مستسلم ثمَّ دفن بصفين عِنْد أَصْحَاب على أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ قلت وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب السلجوقية = قَالَ قصد زنكي حِصَار قلعة جعبر فنازلها وَكَانَ إِذا نَام ينَام حوله عدَّة من خُدَّامه الصَّباح وَهُوَ يُحِبهُمْ ويحبوهم وَلكنه مَعَ الْوَفَاء مِنْهُم يجفوهم وهم أَبنَاء الفحول القروم من التّرْك والأرمن وَالروم وَكَانَ من دأبه أَنه إِذا نقم على كَبِير أرداه وأقصاه واستبقى وَلَده عِنْده وخصاه فَنَامَ لَيْلَة مَوته وَهُوَ سَكرَان فشرع الخُدام فِي اللّعب فزجرهم وزبرهم وتوعدهم فخافوا من سطوته فَلَمَّا نَام رَكبه كَبِيرهمْ واسْمه يرنقش فذبحه وَخرج وَمَعَهُ خَاتمه فَركب فرس النّوبَة مُوِهماً أَنه يمْضِي فِي مُهِمّ وَهُوَ لَا يرتاب بِهِ لِأَنَّهُ خَاص زنكي فَأتي الْخَادِم أهل القلعة فَأخْبرهُم وَذكر الحَدِيث قلت ثمَّ نقل إِلَى الرّقة فَدفن بهَا وقبره الْآن فِيهَا قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ حسن الصُّورَة اسمر مليح الْعَينَيْنِ قد وخطه الشيب طَويلا وَلَيْسَ بالطويل الْبَائِن وَخلف من الْأَوْلَاد سيف الدّين غازيا وَهُوَ الَّذِي ولى بعده وَنور الدّين مَحْمُودًا الْملك الْعَادِل وقطب الدّين مودودا وَهُوَ أَبُو الْمُلُوك بالموصل ونصرة الدّين أَمِير أميران وبنتا فانقرض عقب سيف الدّين من الذُّكُور وَالْإِنَاث وَنور الدّين من الذُّكُور وَلم يبْق الْملك إِلَّا فِي عقب قطب الدّين وَلَقَد أَنْجَب رَحمَه الله فَإِن أَوْلَاده الْمُلُوك لم يكن مثلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قلت وَمن عَجِيب مَا حكى أَنه لما اشْتَدَّ حِصَار قلعة جعبر جَاءَ فِي اللَّيْل ابْن حسان المنبجي ووقف تَحت القلعة ونادى صَاحبهَا فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ هَذَا الْمولى أتابك صَاحب الْبِلَاد وَقد نزل عَلَيْك بعساكر الدُّنْيَا وَأَنت بِلَا وزر وَلَا معِين وَأَنا أرى أَن أَدخل فِي قضيتك وآخذ لَك من الْمولى أتابك مَكَانا عوض هَذَا الْمَكَان وَإِن لم تفعل فَأَي شَيْء تنْتَظر فَقَالَ لَهُ صَاحب القلعة أنْتَظر الَّذِي انْتظر أَبوك وَكَانَ بلك بن بَهرام صَاحب حلب قد نزل على أَبِيه حسان وحاصره فِي منبج أَشد حِصَار وَنصب عَلَيْهِ عدَّة مجانيق وَقَالَ يَوْمًا لحسان وَقد أحرقه بحجارة المنجنيق أَي شَيْء تنْتَظر مَا تسلم الْحصن فَقَالَ لَهُ حسان أنْتَظر سَهْما من سِهَام الله فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بَينا بلك يرتب المنجنيق إِذْ أَصَابَهُ سهم غرب وَقع فِي لبته فَخر مَيتا وَلم يكن من جسده شَيْء ظَاهر إِلَّا ذَلِك الْمَكَان لِأَنَّهُ كَانَ قد لبس الدرْع وَلم يزرها على صَدره فَلَمَّا سمع ابْن حسان ذَلِك من مقَالَة صَاحب قلعة جعبر رَجَعَ عَنهُ وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة قتل أتابك فَكَانَ هَذَا من الاتفاقات العجيبة والعبر الغريبة ذكر ذَلِك يحيى بن أَبى طي فِي = كتاب السِّيرَة الصلاحية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فصل فِي ذكر بعض سيرة الشَّهِيد أتابك زنكي وَكَانَت من أحسن سير الْمُلُوك وأكثرها حزما وضبطا للأمور وَكَانَت رَعيته فِي أَمن شَامِل يعجز القوى عَن التَّعَدِّي على الضَّعِيف قَالَ أبن الْأَثِير حَدثنِي وَالِدي قَالَ قدم الشَّهِيد أتابك زنكي إِلَيْنَا بِجَزِيرَة ابْن عمر فِي بعض السنين وَكَانَ زمن الشتَاء فَنزل بالقلعة وَنزل الْعَسْكَر فِي الْخيام وَكَانَ فِي جملَة أمرائه الْأَمِير عز الدّين أَبُو بكر الدبيسي وَهُوَ من أكَابِر أمرائه وَمن ذَوي الرَّأْي عِنْده فَدخل الدبيسي الْبَلَد وَنزل بدار إِنْسَان يَهُودِيّ وَأخرجه مِنْهَا فاستغاث الْيَهُودِيّ إِلَى الشَّهِيد وَهُوَ رَاكب فَسَأَلَ عَن حَاله فَأخْبر بِهِ وَكَانَ الشَّهِيد وَاقِفًا والدبيسي إِلَى جَانِبه لَيْسَ فَوْقه أحد فَلَمَّا سمع أتابك الْخَبَر نظر إِلَى الدبيسي نظر مغضب وَلم يكلمهُ كلمة وَاحِدَة فَتَأَخر الْقَهْقَرَى وَدخل الْبَلَد فَأخْرج خيامه وَأمر بنصبها وَلم تكن الأَرْض تحْتَمل وضع الْخيام عَلَيْهَا لِكَثْرَة الوحل والطين قَالَ فَلَقَد رَأَيْت الفراشين وَهُوَ ينقلون الطين لينصبوا خيمته فَلَمَّا رَأَوْا كثرته جعلُوا على الأَرْض تبنا ليقيموها ونصبوا الْخيام وَخرج إِلَيْهَا من سَاعَته قَالَ وَكَانَ ينْهَى أَصْحَابه عَن اقتناء الْأَمْلَاك وَيَقُول مهما كَانَت الْبِلَاد لنا فَأَي حَاجَة لكم إِلَى الْأَمْلَاك فَإِن الاقطاعات تغني عَنْهَا وَإِن خرجت الْبِلَاد عَن أَيْدِينَا فَإِن الْأَمْلَاك تذْهب مَعهَا وَمَتى صَارَت الْأَمْلَاك لأَصْحَاب السُّلْطَان ظلمُوا الرّعية وتعدوا عَلَيْهِم وغصبوهم أملاكهم ثمَّ ذكر مَا تجدّد فِي أَيَّامه من عمَارَة الْبِلَاد لَا سِيمَا بالموصل وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 لحسن سيرته فَكَانَ يَقْصِدهُ النَّاس ويتخذون بِلَاده دَار إِقَامَة وَهُوَ الَّذِي أَمر بِبِنَاء دور المملكة بالموصل وَلم يكن بهَا للسُّلْطَان غير الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار الْملك مُقَابل الميدان ثمَّ رفع سورها وعمق خندقها وَهُوَ الَّذِي فتح الْبَاب الْعِمَادِيّ وَإِلَيْهِ ينْسب قَالَ وَكَانَت الْموصل اقل بِلَاد الله فَاكِهَة وَكَانَ الَّذِي يَبِيع الْفَوَاكِه يكون عِنْده مقراض يقص بِهِ الْعِنَب لقلته إِذا أَرَادَ أَن يزنه فَلَمَّا عمرت الْبِلَاد عملت الْبَسَاتِين بِظَاهِر الْموصل وَفِي ولايتها قَالَ وَمن حسن آرائه أَنه كَانَ شَدِيد الْعِنَايَة بأخبار الْأَطْرَاف وَمَا يجرى لأصحابها حَتَّى فِي خلواتهم وَلَا سِيمَا دركاه السُّلْطَان وَكَانَ يغرم على ذَلِك المَال الجزيل فَكَانَ يطالع وَيكْتب إِلَيْهِ بِكُل مَا يَفْعَله السُّلْطَان فِي ليله ونهاره من حَرْب وَسلم وهزل وجد وَغير ذَلِك فَكَانَ يصل إِلَيْهِ كل يَوْم من عيونه عدَّة قَاصِدين وَكَانَ مَعَ اشْتِغَاله بالأمور الْكِبَار من أُمُور الدولة لَا يهمل الِاطِّلَاع على الصَّغِير وَكَانَ يَقُول إِذا لم يعرف الصَّغِير ليمنع صَار كَبِيرا وَكَانَ لَا يُمكن رَسُول ملك يعبر فِي بِلَاده بِغَيْر أمره وَإِذا استأذنه رَسُول فِي العبور فِي بِلَاده أذن لَهُ وَأرْسل إِلَيْهِ من يسيره وَلَا يتْركهُ يجْتَمع بِأحد من الرّعية وَلَا غَيرهم فَكَانَ الرَّسُول يدْخل بِلَاده وَيخرج مِنْهَا وَلَا يعلم من أحوالها شَيْئا الْبَتَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَكَانَ يتعهد أَصْحَابه ويمتحنهم سلم يَوْمًا خشكنانكة إِلَى طشت دَار لَهُ وَقَالَ احفظ هَذِه فبقى نَحْو سنة لَا تُفَارِقهُ الخشكنانكة خوفًا أَن يطْلبهَا مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ لَهُ أَيْن الخشكنانكة فأخرجها من منديل وقدمها بَين يَدَيْهِ فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَقَالَ مثلك يَنْبَغِي أَن يكون مستحفظا لحصن وَأمر لَهُ بدُزْدَاريةَّ قلعة كواشي فبقى فِيهَا إِلَى أَن قتل أتابك وَكَانَ لَا يُمكن أحدا من خدمه من مُفَارقَة بِلَاده وَكَانَ يَقُول إِن الْبِلَاد كبستان عَلَيْهِ سياج فَمن هُوَ خَارج السياج يهاب الدُّخُول فَإِذا خرج مِنْهَا من يدل على عورتها ويطمع الْعَدو فِيهَا زَالَت الهيبة وتطرق الْخُصُوم إِلَيْهَا قَالَ وَمن صائب رَأْيه وجيده أَن سير طَائِفَة من التركمان الإيوانية مَعَ الْأَمِير اليارق إِلَى الشَّام وأسكنهم بِولَايَة حلب وَأمرهمْ بجهاد الفرنج وملكهم كل مَا استنقذوه من الْبِلَاد الَّتِي للفرنج وَجعله ملكا لَهُم فَكَانُوا يغادون الفرنج بِالْقِتَالِ ويراوحونهم وَأخذُوا كثيرا من السوَاد وسدوا ذَلِك الثغر الْعَظِيم وَلم يزل جَمِيع مَا فتحوه فِي أَيْديهم إِلَى نَحْو سنة سِتّ مئة قَالَ وَمن آرائه أَنه لما اجْتمع لَهُ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة أودع بَعْضهَا بالموصل وَبَعضهَا بسنجار وَبَعضهَا بحلب وَقَالَ إِن جرى على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هَذِه الْجِهَات خرق أَو حيل بيني وَبَينه استعنت على سد الْخرق بِالْمَالِ فِي غَيره قَالَ وَأما شجاعته وإقدامه فإليه النِّهَايَة فيهمَا وَبِه كَانَ تضرب الْأَمْثَال وَيَكْفِي فِي معرفَة ذَلِك جملَة أَن ولَايَته أحدق بهَا الْأَعْدَاء والمنازعون من كل جَانب الْخَلِيفَة المسترشد وَالسُّلْطَان مَسْعُود وَأَصْحَاب أرمينية وأعمالها بَيت سكمان وركن الدولة دَاوُد صَاحب حصن كيفا وَابْن عَمه صَاحب ماردين ثمَّ الفرنج ثمَّ صَاحب دمشق وَكَانَ ينتصف مِنْهُم ويغزو كلا مِنْهُم فِي عقر دَاره وَيفتح من بِلَادهمْ مَا عدا السُّلْطَان مَسْعُود فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُبَاشر قَصده بل كَانَ يحمل أَصْحَاب الْأَطْرَاف على الْخُرُوج عَلَيْهِ فَإِذا فعلوا عَاد السُّلْطَان مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَطلب مِنْهُ أَن يجمعهُمْ على طَاعَته فَيصير كالحاكم على الْجَمِيع وكل يداريه ويخضع لَهُ وَيطْلب مِنْهُ مَا تَسْتَقِر الْقَوَاعِد على يَده قَالَ وَأَنا غيرته فَكَانَت شَدِيدَة وَلَا سِيمَا على نسَاء الأجناد فَإِن التَّعَرُّض إلَيْهِنَّ كَانَ من الذُّنُوب الَّتِي لَا يغفرها وَكَانَ يَقُول إِن جندي لَا يُفَارِقُونِي فِي أسفاري وقلما يُقِيمُونَ عِنْد أَهْليهمْ فَإِن نَحن لم نمْنَع من التَّعَرُّض إِلَى حرمهم هلكن وفسدن قلت وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أَبى سعيد الْخُدْرِيّ وَذكر حَدِيث رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماعزا قَالَ ثمَّ قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبًا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 (أَو كُلَّماَ انطلقنا غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيالنا لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التيس عَليّ أَن لَا أُوتى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِك إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ) قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ قد أَقَامَ بقلعة الجزيرة دزدارا اسْمه نور الدّين حسن البربطي وَكَانَ من خواصه وَأقرب النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ غير مرضى السِّيرَة فَبَلغهُ عَنهُ أَنه يتَعَرَّض للحرم فَأمر حَاجِبه صَلَاح الدّين الياغبساني أَن يسير مجدا وَيدخل الجزيرة فَإِذا دَخلهَا أَخذ البربطي وَقطع ذكره وَقلع عَيْنَيْهِ عُقُوبَة لنظره بهما إِلَى الْحرم ثمَّ يصلبه فَسَار الصّلاح مجدا فَلم يشْعر البربطي إِلَّا وَقد وصل إِلَى الْبَلَد فَخرج إِلَى لِقَائِه فَأكْرمه الصّلاح وَدخل مَعَه الْبَلَد وَقَالَ لَهُ الْمولى أتابك يسلم عَلَيْك وَيُرِيد أَن يعلي قدرك وَيرْفَع منزلتك وَيسلم إِلَيْك قلعة حلب ويوليك جَمِيع الْبِلَاد الْبِلَاد الشامية لتَكون هُنَاكَ مثل نصير الدّين فتجهز وتحدر مَالك فِي المَاء إِلَى الْموصل وتسير إِلَى خدمته ففرح ذَلِك الْمِسْكِين فَلم يتْرك لَهُ قَلِيلا وَلَا كثيرا إِلَّا نَقله إِلَى السفن ليحدرها إِلَى الْموصل فِي دجلة فحين فرغ من جَمِيع ذَلِك أَخذه الصّلاح وأمضى فِيهِ مَا أَمر بِهِ وَأخذ جَمِيع مَاله فَلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شَيْء من أَفعاله قَالَ وَأما صدقاته فقد كَانَ يتَصَدَّق كل جُمُعَة بمئة دِينَار أَمِيري ظَاهرا وَيتَصَدَّق فِيمَا عداهُ من الْأَيَّام سرا مَعَ من يَثِق بِهِ وَركب يَوْمًا فَعَثَرَتْ بِهِ دَابَّته فكاد يسْقط عَنْهَا فاستدعى أَمِيرا كَانَ مَعَه فَقَالَ لَهُ كلَاما لم يفهمهُ وَلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يتجاسر على أَن يَسْتَفْهِمهُ مِنْهُ فَعَاد عَنهُ إِلَى بَيته وودع أَهله عَازِمًا على الْهَرَب فَقَالَت لَهُ زَوجته مَا ذَنْبك وَمَا حملك على هَذَا الْهَرَب فَذكر لَهَا الْحَال فَقَالَت لَهُ إِن نصير الدّين لَهُ بك عناية فاذكر لَهُ قصتك وَافْعل مَا يَأْمُرك بِهِ فَقَالَ أَخَاف أَن يَمْنعنِي من الْهَرَب فَأهْلك فَلم تزل زَوجته تراجعه وتقوي عزمه فَعرف النصير حَاله فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ لَهُ خُذ هَذِه الصرة الدَّنَانِير واحملها إِلَيْهِ فَهِيَ الَّتِي أَرَادَ فَقَالَ الله الله فِي دمي وَنَفْسِي فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك فَإِنَّهُ مَا أَرَادَ غير هَذِه الصرة فحملها إِلَيْهِ فحين رَآهُ قَالَ أَمَعَك شَيْء قَالَ نعم فَأمره أَن يتَصَدَّق بِهِ فَلَمَّا فرغ من الصَّدَقَة قصد النصير وشكره وَقَالَ من أَيْن علمت أَنه أَرَادَ الصرة فَقَالَ لَهُ إِنَّه يتَصَدَّق هَذَا الْيَوْم بِمثل هَذَا الْقدر وَيُرْسل إِلَيّ يَأْخُذهُ من اللَّيْل وَفِي يَوْمنَا هَذَا لم يَأْخُذهُ ثمَّ بَلغنِي أَن دَابَّته عثرت بِهِ حَتَّى كَاد يسْقط على الأَرْض وأرسلك إِلَيّ فَعلمت أَنه ذكر الصَّدَقَة قَالَ وَحكي لي من شدَّة هيبته مَا هُوَ أَشد من هَذَا قَالَ وَالِدي خرج يَوْمًا الشَّهِيد من قلعة الجزيرة من بَاب السّر خلْوَة وملاح لَهُ نَائِم فأيقظه بعض الجاندارية وَقَالَ لَهُ اقعد فحين رأى الشَّهِيد سقط إِلَى الأَرْض فحركوه فوجدوه مَيتا قَالَ وَكَانَ الشَّهِيد قَلِيل التلون والتنقل بطيء الْملَل والتغير شَدِيد الْعَزْم لم يتَغَيَّر على أحد من أَصْحَابه مُذْ مَلَكَ إِلَى أَن قتل إِلَّا بذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يُوجب التَّغَيُّر والأمراء والمقدمون الَّذين كَانُوا مَعَه أَولا هم الَّذين بقوا أخيراً من سلم مِنْهُم من الْمَوْت فَلهَذَا كَانُوا ينصحونه ويبذلون نُفُوسهم لَهُ وَكَانَ الْإِنْسَان إِذا قدم عسكره لم يكن غَرِيبا إِن كَانَ جنديا اشْتَمَل عَلَيْهِ الأجناد وأضافوه وَإِن كَانَ صَاحب ديوَان قصد أهل الدِّيوَان وَإِن كَانَ عَالما قصد الْقُضَاة بني الشهرزوري فُيحسنون إِلَيْهِ ويؤنسون غربته فَيَعُود كَأَنَّهُ آهل وَسبب ذَلِك جَمِيعه أَنه كَانَ يخْطب الرِّجَال ذَوي الهمم الْعلية والآراء الصائبة والأنفس الأبية ويوسع عَلَيْهِم فِي الأرزاق فيسهل عَلَيْهِم فعل الْجَمِيل واصطناع الْمَعْرُوف قلت وَمَا أحسن مَا وَصفه بِهِ أَحْمد بن مُنِير من قَوْله فِي قصيدة (فِي ذرا ملك هُوَ الدَّهْر ... عَطاء واستلابا) (من لَهُ كف تبذ الْغَيْث ... سَحا وانسكابا) (فاتح فِي كل وَجه ... أمه للنصر بَابا) (ترجف الدُّنْيَا إِذا حرك ... للسير الركابا) (وتخر المشمخرات ... اختلالا واضطرابا) (وَترى الْأَعْدَاء من هيبته ... تأوي الشعابا) (وَإِذا مَا لفحتهم ... ناره صَارُوا كبابا) (يَا عماد الدّين لَا زلت ... على الدّين سحابا) (جاعلا من دونه سَيْفك ... إِن ريع حِجَابا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 (فالبس النعماء فِي الْأَمْن ... الَّذِي طبت وطابا) (واصف عَيْشًا إِن أعداءك ... قد صَارُوا تُرَابا) وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب استولى زنكي على الشَّام من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين إِلَى أَن قتل فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَهُوَ الَّذِي فتح الرها عنْوَة واحتل بهَا من السَّعَادَة ذرْوَة فتسنى بِفَتْح الرها للْمُسلمين جوس بِلَاد جوسلين وَعَاد جَمِيعهَا إِلَى الْإِسْلَام فِي عهد ولد زنكي نور الدّين وَصَارَت عُقُود الفرنج من ذَلِك الْحِين تَنْفَسِخ وأمورها تنتسخ ومعاقلها تفرع وعقائلها تفترع وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى التَّمِيمِي كَانَت الْأَعْمَال بعد قتل زنكي قد اضْطَرَبَتْ والمسالك قد اختلت بعد الهيبة الْمَشْهُورَة والأمنة المشكورة وَانْطَلَقت أَيدي التركمان والحرامية فِي الْإِفْسَاد فِي الْأَطْرَاف والعيث فِي سَائِر النواحي والأكناف ونظمت فِي صفة هَذَا الْحَال أبياتا من قصيدة (كَذَاك عماد الدّين زنكي تنافرت ... سعادته عَنهُ وخرت دعائمه) (وَكم بَيت مَال من نضار وجوهر ... وأنواع ديباج حوتها مخاتمه) (وأضحت بِأَعْلَى كل حصن مصونة ... يُحامى عَلَيْهَا جنده وخوادمه) (وَمن صافنات الْخَيل كل مطهم ... يروع الأعادي حليه وبراجمه) (فَلَو رامت الْكتاب وصف شياتها ... بأقلامها مَا أدْرك الْوَصْف ناظمه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 (وَكم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصن لم تفته غنائمه) (ودانت وُلَاة الأَرْض فِيهَا لأَمره ... وَقد أمنتهم كتبه وخواتمه) (وَأمن من فِي كل قطر بهيبة ... يراع بهَا أعرابه وأعاجمه) (وظالم قوم حِين يذكر عدله ... فقد زَالَ عَنْهُم ظلمه وخصائمه) (وَأصْبح سُلْطَان الْبِلَاد بِسَيْفِهِ ... وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا نَظِير يزاحمه) (وَزَاد على الْأَمْلَاك بَأْسا وسطوة ... وَلم يبْق فِي الْأَمْلَاك ملك يقاومه) (فَلَمَّا تناهي ملكه وجلاله ... وراعت وُلَاة الأَرْض مِنْهُ لوائمه) (أَتَاهُ قَضَاء لَا ترد سهامه ... فَلم تنجه أَمْوَاله ومغانمه) (وأدركه للحين فِيهَا حمامه ... وحامت عَلَيْهِ بالمنون حوائمه) (وأضحى على ظهر الْفراش مُجدلا ... صَرِيعًا تولى ذبحه فِيهِ خادمه) (وَقد كَانَ فِي الْجَيْش اللهام مبيته ... وَمن حوله أبطاله وصوارمه) ( (وَسمر العوالي حوله بأكفهم ... تذود الردى عَنهُ وَقد نَام نائمه) (وَمن دون هَذَا عصبَة قد ترتَّبَت ... بأسهمها يُرْدى من الطير حائمه) (وَكم رام فِي الْأَيَّام رَاحَة سره ... وهمته تعلو وتقوى شكائمه) (وَكم مَسْلَك للسَّفر أَمن سبله ... ومسرح حَيّ أَن تراع سوائمه) (وَكم ثغر إِسْلَام حماه بِسَيْفِهِ ... من الرّوم لما أَدْرَكته مراحمه) (فَمن ذَا الَّذِي يَأْتِي بهيبة مثله ... وتنفذ فِي أقْصَى الْبِلَاد مراسمه) (فَلَو رقيت فِي كل مصر بِذكرِهِ ... أراقمه ذلت هُنَاكَ أراقمه) (فَمن ذَا الَّذِي ينجو من الدَّهْر سالما ... إِذا مَا أَتَاهُ الْأَمر وَالله حاتمه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 (وَمن رام صفواً فِي الْحَيَاة فَمَا يرى ... لَهُ صفو عَيْش وَالْحمام يحاومه) (فإياك لَا تغبط مليكا بِملكه ... ودعه فَإِن الدَّهْر لَا شكّ قاصمه) (وَقل للَّذي يَبْنِي الْحُصُون لحفظه ... رويدك مَا تبني فدهرك هادمه) (وَفِي مثل هَذَا عِبْرَة ومواعظ ... بهَا يَتَناسى الْمَرْء مَا هُوَ عازمه) قَالَ وَفِي ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وصل الْخَادِم يرنقش الْقَاتِل لعماد الدّين زنكي وانفصل من قلعة جعبر لخوف صَاحبهَا من طلبه مِنْهُ فوصل دمشق متيقنا أَنه قد أَمن بهَا ومدلا بِمَا فعله وظنا مِنْهُ أَن الْحَال على مَا توهمه فَقبض عَلَيْهِ وأنفذ إِلَى حلب صُحْبَة من حفظه وأوصله إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ حمل إِلَى الْموصل وَذكر أَنه قتل بهَا قلت وللحكيم أَبى الحكم المغربي قصيدة فِي مرثية الشَّهِيد عماد الدّين زنكي رَحمَه الله مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 (عين لَا تذخري الدُّمُوع وبكي ... واستهلي دَمًا على فقد زنكي) (لم يهب شخصه الردى بعد أَن كَانَت ... لَهُ هَيْبَة على كل تركي) (خيرُ ملك ذِي هَيْبَة وبهاء ... وعظيم بَين الْأَنَام بزرك) (يهب المَال والجياد لمن يممه مادحا بِغَيْر تلكي) (إِن دَارا تمدنا بالرزايا ... هِيَ عِنْدِي أَحَق دارٍ بِتَرْك) (فاسكبوا فَوق قَبره مَاء ورد ... وانضحوه بزعفران ومسك) (أَي فتك جرى لَهُ فِي الأعادي ... بعد مَا استفتح الرُّها أَي فتك) (كل خطب أَتَت بِهِ نوب الدَّهْر ... يسير فِي جنب مصْرع زنكي) (بعد مَا كَاد أَن تدين لَهُ الرّوم ... ويحوي الْبِلَاد من غير شكّ) فصل فِيمَا جرى بعد زنكي من تفرق أَصْحَابه وتملك ولديه غَازِي ومحمود قَالَ الرئيس أَبُو يعلى توجه الْملك ولد السُّلْطَان الْمُقِيم كَانَ مَعَه فِيمَن صَحبه وانضم إِلَيْهِ إِلَى نَاحيَة الْموصل وَمَعَهُ سيف الدّين غَازِي بن عماد الدّين أتابك وَامْتنع عَلَيْهِم الْوَالِي بالموصل على كوجك أَيَّامًا إِلَى حِين تقررت الْحَال بَينهم ثمَّ فتح الْبَاب وَدخل وَلَده واستقام لَهُ الْأَمر وانتصب منصبه وَعَاد الْأَمِير سيف الدولة سوار وَصَلَاح الدّين يَعْنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 مُحَمَّد بن أَيُّوب الياغبساني فِي تِلْكَ الْحَال إِلَى نَاحيَة حلب ومعهما الْأَمِير نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَحصل بهَا وَشرع فِي جمع العساكر وإنفاق المَال فِيهَا واستقام لَهُ الْأَمر وسكنت الدهماء وَفصل عَنهُ الْأَمِير صَلَاح الدّين وَحصل بحماة ولَايَته على سَبِيل الاستيحاش وَالْخَوْف على نَفسه من أَمر يدبر عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لما راهق نور الدّين لزم خدمَة وَالِده إِلَى ان انْتَهَت مدَّته على قلعة جعبر وسير فِي صَبِيحَة الْأَحَد الْملك ألب أرسلان بن السُّلْطَان مَحْمُود إِلَى الْموصل مَعَ جمَاعَة من أكَابِر دولة أَبِيه وَقَالَ لَهُم إِن وصل أخي سيف الدّين غَازِي إِلَى الْموصل فَهِيَ لَهُ وَأَنْتُم فِي خدمته وَإِن تَأَخّر فَأَنا أقرر أُمُور الشَّام وأتوجه إِلَيْكُم ثمَّ قصد حلب وَدخل قلعتها يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر ورتب النواب فِي القلعة وَالْمَدينَة وَقَالَ ابْن أَبى طي الْحلَبِي لما اتَّصل قتل أتابك بأسد الدّين شيركوه ركب من سَاعَته وَقصد خيمة نور الدّين وَقَالَ لَهُ اعْلَم ان الْوَزير جمال الدّين قد أَخذ عَسْكَر الْموصل وعزم على تَقْدِيم أَخِيك سيف الدّين وقصده إِلَى الْموصل وَقد انضوى إِلَيْهِ جلّ الْعَسْكَر وَقد أنفذ إِلَيّ جمال الدّين وأرادني على اللحاق بِهِ فَلم أعرج عَلَيْهِ وَقد رَأَيْت أَن أصيرك إِلَى حلب وتجعلها كرْسِي ملكك وتجتمع فِي خدمتك عَسَاكِر الشَّام ووأنا أعلم أَن الْأَمر يصير جميعُه إِلَيْك لِأَن ملك الشَّام يحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بحلب وَمن ملك حلب استظهر على بِلَاد الشرق فَركب وَأمر أَن يُنَادى فِي اللَّيْل فِي عَسَاكِر الشَّام بالاجتماع فَاجْتمعُوا وَسَارُوا فِي خدمَة نور الدّين إِلَى حلب ودخلوها سَابِع ربيع الأول وَلما دخلُوا حلب جَاءَ أَسد الدّين إِلَى تَحت القلعة ونادى واليها وأصعد نور الدّين إِلَيْهَا وَقرر أمره وَمَشى أَحْوَاله فَكَانَ نور الدّين يرى لَهُ ذَلِك وَأسد الدّين يمت بِأَنَّهُ كَانَ السَّبَب فِي تَوليته وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل أتابك الشَّهِيد ركب الْملك ألب أرسلان بن السُّلْطَان مَحْمُود وَكَانَ مَعَ الشَّهِيد وَاجْتمعت العساكر عَلَيْهِ وخدموه فَأرْسل جمال الدّين الْوَزير إِلَى الصّلاح يَقُول لَهُ الْمصلحَة أَن نَتْرُك مَا كَانَ بَيْننَا وَرَاء ظُهُورنَا ونسلك طَرِيقا نبقي بِهِ الْملك فِي أَوْلَاد صاحبنا ونعمر بَيته جَزَاء لإحسانه إِلَيْنَا فَإِن الْملك قد طمع فِي الْبِلَاد وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وَلَئِن لم نتلاف هَذَا الْأَمر فِي أَوله ونتداركه فِي بدايته لَيَتَّسِعَنَّ الْخرق وَلَا يُمكن رقعه فَأَجَابَهُ الصّلاح إِلَى ذَلِك وَحلف كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه فَركب الْجمال إِلَى الْملك فخدمه وَضمن لَهُ فتح الْبِلَاد وأطعمه فِيهَا وَمَعَهُ الصّلاح وَقَالا لَهُ إِن أتابك كَانَ نَائِبا عَنْك فِي الْبِلَاد وباسمك كُنَّا نطيعه فَقبل قَوْلهمَا وظنه حَقًا وقربهما طَمَعا أَن يَكُونَا عونا لَهُ على تَحْصِيل غَرَضه وأرسلا إِلَى زين الدّين بالموصل يعرفانه قتل الشَّهِيد ويأمرانه بِالْإِرْسَال إِلَى سيف الدّين غَازِي وَهُوَ ولد عماد الدّين زنكي الْأَكْبَر وإحضاره إِلَى الْموصل وَكَانَ بشهرزور وَهِي إقطاعُه من أَبِيه فَفعل زين الدّين ذَلِك وَكَانَ نور الدّين مَحْمُود بن الشَّهِيد قد سَار لما قتل وَالِده إِلَى حلب فملكها وَذَلِكَ بِإِشَارَة أَسد الدّين شيركوه عَلَيْهِ بذلك وَقَالَ الْجمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 للْملك إِن من الرَّأْي أَن تسير الصّلاح إِلَى مملوكك نور الدّين بحلب يدبر أمره وَكَانَت حماة إقطاع الصّلاح فَأمره فَسَار وَبَقِي الْجمال وَحده مَعَ الْملك فَأَخذه وَقصد الرقة فاشتغل بِشرب الْخمر وَالْخلْوَة بِالنسَاء وَأَرَادَ أَن يُعْطي الْأُمَرَاء شَيْئا فَمَنعه خوفًا من أَن تميل قُلُوبهم إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُم الإقطاع الجزيل وَالنعَم الوافرة وَشرع الْجمال يستميل الْعَسْكَر وَيحلف المراء لسيف الدّين بن أتابك الشَّهِيد وَاحِدًا بعد وَاحِد وكل من حلف يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْموصل هَارِبا من الْملك وَأقَام بِالْملكِ فِي الرقة عدَّة أَيَّام ثمَّ سَار بِهِ إِلَى ماكسين فَتَركه بهَا عدَّة أَيَّام أَيْضا قد اشْتغل بلذاته عَن طلب الْملك ثمَّ سَار بِهِ نَحْو سنجار وَكَانَ سيف الدّين غَازِي قد دخل الْموصل وَاسْتقر بهَا فقوى حِينَئِذٍ جنان جمال الدّين وَوصل هُوَ وَالْملك إِلَى سنجار فَأرْسل إِلَى دُزدارها وَقَالَ لَهُ لَا تسلم الْبَلَد وَلَا تمكن أحدا من دُخُوله وَلَكِن أرسل إِلَى الْملك وَقل لَهُ إِنَّا تبع الْموصل فَمَتَى دخلت الْموصل سلمت إِلَيْك الْبَلَد فَفعل الدزدار ذَلِك فَقَالَ الْجمال للْملك الْمصلحَة أَنا نسير إِلَى الْموصل فَإِن مملوكك غَازِي إِذا سمع بقربنا مِنْهُ خرج إِلَى الْخدمَة فَحِينَئِذٍ نقبض عَلَيْهِ ونتسلم الْبِلَاد فَسَارُوا عَن سنجار وَكثر رحيل الْعَسْكَر إِلَى الْموصل هاربين من الْملك فبقى فِي قلَّة من الْعَسْكَر فَسَارُوا إِلَى مَدِينَة بلد وَعبر الْملك دجلة من هُنَاكَ فَلَمَّا عبرها دخل الْجمال الْموصل وَأرْسل الْأَمِير عز الدّين أَبَا بكر الدبيسي فِي عَسْكَر إِلَى الْملك وَهُوَ فِي نفر يسير فَأَخذه وَأدْخلهُ الْموصل فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وَاسْتقر أَمر سيف الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 واقر زين الدّين على مَا كَانَ عَلَيْهِ من ولَايَة الْموصل وَجعل وزيره الْجمال وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود فاستحلفوه لسيف الدّين فَحلف لَهُ وَأقرهُ على الْبِلَاد وَأرْسل لَهُ الْخلْع وَكَانَ هَذَا سيف الدّين قد لَازم خدمَة السُّلْطَان مَسْعُود فِي أَيَّام أَبِيه سفرا وحضرا وَكَانَ السُّلْطَان يُحِبهُ كثيرا ويأنس بِهِ ويبسطه فَلَمَّا خُوطِبَ فِي الْيَمين وَتَقْرِير الْبِلَاد لم يتَوَقَّف قَالَ ابْن الْأَثِير فانظروا إِلَى فعل جمال الدّين وَحسن عَهده وَكَمَال مروءته ورعايته لحقوق مخدومه وَهَذَا الْمقَام الَّذِي ثَبت فِيهِ يعجز عَنهُ عشرَة آلَاف فَارس وَلَقَد قلل من قَالَ من النَّاس ألف مِنْهُم كواحد وَهُوَ مَعْذُور لِأَنَّهُ لم ير مثل جمال الدّين قَالَ وَلما اسْتَقر سيف الدّين فِي الْملك أطاعه جَمِيع الْبِلَاد مَا عدا مَا كَانَ بديار بكر كالمعدن وحيزان وإسعرد وَغير ذَلِك فَإِن المجاورين لَهَا تغلبُوا عَلَيْهَا قَالَ وَلما فرغ سيف الدّين من إصْلَاح أَمر السلطنة وتحليفه وَتَقْرِير أَمر الْبِلَاد عبر إِلَى الشَّام لينْظر فِي تِلْكَ النواحي ويقرر الْقَاعِدَة بَينه وَبَين أَخِيه نور الدّين وَهُوَ بحلب وَقد تَأَخّر عَن الْحُضُور عِنْد أَخِيه وخافه فَلم يزل يراسله ويستميله فَكلما طلب نور الدّين شَيْئا أَجَابَهُ إِلَيْهِ استمالة لِقَلْبِهِ واستقرت الْحَال بَينهمَا على أَن يجتمعا خَارج الْعَسْكَر السيفي وَمَعَ كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَاحِد مِنْهُمَا خمس مئة فَارس فَلَمَّا كَانَ يَوْم الميعاد بَينهمَا سَار نور الدّين من حلب فِي خمس مئة فَارس وَسَار سيف الدّين من مُعَسْكَره فِي خَمْسَة فوارس فَلم يعرف نور الدّين أَخَاهُ سيف الدّين حَتَّى قرب مِنْهُ فحين رَآهُ عرفه فترجل لَهُ وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَأمر أَصْحَابه بِالْعودِ عَنهُ فعادوا وَقعد سيف الدّين وَنور الدّين بعد أَن اعتنقا وبكيا فَقَالَ لَهُ سيف الدّين لم امْتنعت من الْمَجِيء إِلَيّ أَكنت تخافني على نَفسك وَالله مَا خطر ببالي مَا تنكره فَلِمَنْ أُرِيد الْبِلَاد وَمَعَ من أعيش وبمن أعتضد إِذا فعلت السوء مَعَ أخي وَأحب النَّاس إِلَيّ فاطمأن نور الدّين وَسكن روعه وَعَاد إِلَى حلب فتجهز وَعَاد بعسكره إِلَى خدمَة أَخِيه سيف الدّين فَأمره سيف الدّين بِالْعودِ وَترك عسكره عِنْده وَقَالَ لَا غَرَض لي فِي مقامك عِنْدِي وَإِنَّمَا غرضي أَن يعلم الْمُلُوك والفرنج اتفاقنا فَمن يُرِيد السوء بِنَا يكف عَنهُ فَلم يرجع نور الدّين وَلَزِمَه إِلَى أَن قضيا مَا كَانَا عَلَيْهِ وَعَاد كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى بَلَده قلت وَمن قصيدة لِابْنِ مُنِير فِي نور الدّين (أيا خير الْمُلُوك أَبَا وجدا ... وأنقعهم حَيا لغليل صَاد) (علوا وغلوا وَقَالَ النَّاس فيهم ... شوارد من ثَنَاء أَو أحاد) (وَمَا اقتسموا وَمَا عَمدُوا بناهم ... بمنصبك القسيمي الْعِمَادِيّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 (وَهل حلب سوى نفس شُعَاع ... تقسمها التَّمَادِي والتعادي) (نفى ابْن عماد دين الله عَنْهَا الشكاة ... فَأَصْبَحت ذَات الْعِمَاد) (تبختر فِي كسا عدل وبذل ... مدبجة التهائم والنجاد) (وَفِي مِحْرَابهَا دَاوُد مِنْهُ ... يهذب حِكْمَة آيَات صَاد) (تجاوزت النُّجُوم فَأَيْنَ تبغي ... ترق فَلَا خلوت من ازدياد) فصل فِيمَا جرى بعد وَفَاة زنكي من صَاحب دمشق والإفرنج المخذولين قَالَ ابْن أَبى طي فِي سَابِع يَوْم من اسْتِقْرَار نور الدّين بحلب اتَّصل خبر مقتل أتابك بِصَاحِب انطاكية أنطاكية البيمند فَخرج ليومه فِي عَسَاكِر أنطاكية وَقسم عسكره قسمَيْنِ قسما نفذه إِلَى جِهَة حماة وقسما أغار بِهِ على جِهَة حلب وعاث فِي بلادها وَكَانَ النَّاس آمِنين فَقتل وسبى عَالما عَظِيما وَتَمَادَى حَتَّى وصل إِلَى صلدى ونهبها وَوصل الْخَبَر إِلَى حلب فَخرج أَسد الدّين شيركوه فِيمَن كَانَ بحلب من العساكر وجد فِي السّير ففاته الفرنج وَأدْركَ جمَاعَة من الرجالة يسوقون الأسرى فَقَتلهُمْ واستنقذ كثيرا مِمَّا كَانَت الفرنج أَخَذته وَسَار مجنبا عَن طَرِيق الفرنج إِلَى أَن شن الْغَارة على بلد أرتاح وَاسْتَاقَ جَمِيع مَا كَانَ للفرنج فِيهِ وَعَاد إِلَى حلب مظفرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل الشَّهِيد سَار مجير الدّين صَاحب دمشق فِي عَسْكَر إِلَى بعلبك وحاصرهم وَبهَا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان صَلَاح الدّين فسلمها إِلَيْهِ وَأخذ مِنْهُ مَالا وَملكه قرايا من أَعمال دمشق وانتقل أَيُّوب إِلَى دمشق وَأقَام بهَا وَقَالَ ابْن أَبى طي اشْتَدَّ صَاحب دمشق فِي الْقِتَال وصبر نجم الدّين أَيُّوب أحسن صَبر فاتفق أَن المَاء لما شَاءَ الله من حصن بعلبك غَار حَتَّى لم يبْق مِنْهُ شَيْء فَصَارَ أهل القلعة يستمدون من الْبَلَد فَلَمَّا ملك الْبَلَد منع من يُرِيد المَاء من القلعة فَاشْتَدَّ الْأَمر فطلبوا الْأمان والمصالحة فاستخلف صَاحب دمشق نجم الدّين وَأقر لَهُ الثُّلُث الَّذِي كَانَ أتابك قد جعله لَهُ فِيهَا وَأقرهُ فِيهَا وَلما بلغ ذَلِك نور الدّين خَافَ أَن يفْسد عَلَيْهِ أَسد الدّين إِلَى صَاحب دمشق لحُصُول أَخِيه نجم الدّين عِنْده وَمَال نور الدّين إِلَى مجد الدّين أَبى بكر بن الداية حَتَّى ولاه جَمِيع أُمُوره وَجَمِيع مَمْلَكَته فشق ذَلِك على أَسد الدّين قَالَ الرئيس أَبُو يعلى لما اتَّصل خبر موت زنكي بِمعين الدّين أنر شرع فِي التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فِيهَا بآلات الْحَرْب والمنجنيقات فَنزل عَلَيْهَا وضايقها وَلم يمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى قل المَاء فِيهَا قلَّة دعتهم إِلَى النُّزُول على حكمه وَكَانَ الْوَالِي بهَا ذَا حزم وعقل وَمَعْرِفَة بالأمور فَاشْترط مَا قَامَ لَهُ بِهِ من إقطاع وَغَيره وَسلم الْبَلَد والقلعة إِلَيْهِ ووفى لَهُ بِمَا قرر الْأَمر عَلَيْهِ وتسلم مَا فِيهِ من غلَّة وَآلَة فِي أَيَّام من جُمَادَى الأولى من السّنة وراسل معِين الدّين الْوَالِي بحمص وتقررت بَينه وَبَينه مهادنة وموادعة يعودان بصلاح الْأَحْوَال وَعمارَة الْأَعْمَال وَوَقعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المراسلة فِيمَا بَينه وَبَين صَلَاح الدّين بحماة وتقرر بَينهمَا مثل ذَلِك ثمَّ انكفأ بعد ذَلِك إِلَى الْبَلَد عقيب فَرَاغه من بعلبك وترتيب من رتبه لحفظها وَالْإِقَامَة فِيهَا قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي أَيَّام من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة بِأَن ابْن جوسلين جمع الإفرنج من كل نَاحيَة وَقصد مَدِينَة الرها على غَفلَة بموافقة من النَّصَارَى المقيمين فِيهَا فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَقتل من فِيهَا من الْمُسلمين فَنَهَضَ نور الدّين صَاحب حلب فِي عسكره وَمن انضاف إِلَيْهِ من التركمان وَغَيرهم فِي زهاء عشرَة آلَاف فَارس ووقفت الدَّوَابّ فِي الطرقات من شدَّة السّير ووافوا الْبَلَد وَقد حصل ابْن جوسلين وَأَصْحَابه فِيهِ فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَوَقع السَّيْف فيهم وَقتل من أرمن الرها وَالنَّصَارَى من قتل وَانْهَزَمَ إِلَى برج يُقَال لَهُ برج المَاء فَحصل فِيهِ ابْن جوسلين فِي تَقْدِير عشْرين فَارِسًا من وُجُوه أَصْحَابه وأحدق بهم الْمُسلمُونَ وشرعوا فِي النقب عَلَيْهِم حَتَّى تعرقب البرج فَانْهَزَمَ ابْن جوسلين فِي الْخفية من اصحابه وَأخذ الْبَاقُونَ ومحق السَّيْف كل من ظفر بِهِ من نَصَارَى الرها واستخلص من كَانَ فِيهِ أَسِيرًا من الْمُسلمين وَنهب مِنْهَا شَيْء كثير من المَال والأثاث والسبي وانكفأ الْمُسلمُونَ بالغنائم إِلَى حلب وَسَائِر الْأَطْرَاف قَالَ ابْن الْأَثِير لما قتل زنكي كَانَ جوسلين الفرنجي الَّذِي كَانَ صَاحب الرها فِي ولَايَته غرب الْفُرَات فِي تل بَاشر وَمَا جاورها فراسل أهل الرها وَكَانَ عامتهم من الأرمن وواعدهم يَوْمًا يصل إِلَيْهِم فِيهِ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَسَار فِي عساكره إِلَيْهَا وملكها وامتنعت عَلَيْهِ القلعة بِمن فِيهَا من الْمُسلمين فَقَاتلهُمْ وجد فِي قِتَالهمْ فَبلغ الْخَبَر نور الدّين وَهُوَ يَوْمئِذٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بحلب فَسَار إِلَيْهَا بعسكره فهرب جوسلين وَدخل نور الدّين مَدِينَة الرها ونهبها وسبى أَهلهَا وَفِي هَذِه الدفعة نهبت وَخَربَتْ وخلت من أَهلهَا وَلم يبْق مِنْهُم بهَا إِلَّا الْقَلِيل وَوصل خبر الفرنج إِلَى سيف الدّين غَازِي بالموصل فَجهز العساكر إِلَى الرها فوصلت وَقد ملكهَا نور الدّين فَبَقيت بِيَدِهِ وَلم يُعَارضهُ فِيهَا أَخُوهُ سيف الدّين قَالَ وَمن عَجِيب مَا جرى أَن نور الدّين أرسل من غنائمها إِلَى الْأُمَرَاء وَأرْسل إِلَى زين الدّين عَليّ جملَة من الْجَوَارِي فحملن إِلَى دَاره وَدخل لينْظر إلَيْهِنَّ فَخرج وَقد اغْتسل وَهُوَ يضْحك فسُئل عَن ذَلِك فَقَالَ لما فتحنا الرها مَعَ الشَّهِيد كَانَ فِي جملَة مَا غنمت جَارِيَة مَالَتْ نَفسِي إِلَيْهَا فعزمت على أَن أَبيت مَعهَا فَسمِعت مُنَادِي الشَّهِيد وَهُوَ يَأْمر بِإِعَادَة السَّبي والغنائم وَكَانَ مهيبا مخوفا فَلم أجسر على إتيانها وأطلقتها فَلَمَّا كَانَ الْآن أرسل إِلَى نور الدّين سهمي من الْغَنِيمَة وَفِيه تِلْكَ الْجَارِيَة فوطئتها خوفًا من الْعود قلت وللقيسراني قصيدة مدح بهَا جمال الدّين وَزِير الْموصل ذكر فِيهَا فتح الرها أَولهَا (أما آن أَن يزهق الْبَاطِل ... وَأَن ينجز الْعدة الماطل) (إِلَى كم يغب مُلُوك الضلال ... سيف بأعناقها كافل) (فَلَا تحفلن بصول الذئاب ... وَقد زأر الْأسد الباسل) (وَهل يمْنَع الدّين إِلَّا إِلَى فَتى ... يصول انتقاماً فيستاصل) (أَبَا جَعْفَر أشرقت دولة ... أَضَاء لَهَا بدرك الْكَامِل) (فإمَّا نصبت لرفع اسْمهَا ... فإنكما الْفِعْل وَالْفَاعِل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لِيَهنك مَا أفرج النَّصْر عَنهُ ... وَمَا ناله الْملك الْعَادِل) (فَقل للحقاق الطَّرِيق الطَّرِيق ... فقد دلف المقرم البازل) (وجاهد فِي الله حق الْجِهَاد ... محتسب بالعلا قافل) (وَهل يمْنَع السُّور من طالع ... يُشايِعُه الْقدر النارل) (فَإِن يَك فتح الرها لُجَّة ... فساحلها الْقُدس والساحل) (فَهَل علمت علم تِلْكَ الديار ... أَن الْمُقِيم بهَا راحل) (أرى القمص يأمل فَوت الرماح ... وَلَا بُد أَن تضرب الشائل) (يُقَوي معاقله جاهدا ... وَهل عَاقل بعْدهَا عَاقل) (وَكَيف بضبط بواقي الْجِهَات ... لمن فَاتَ حسبته الْحَاصِل) وَلابْن مُنِير من قصيدة فِي نور الدّين ملك مَا أذلّ بِالْفَتْح أَرضًا ... قطّ إِلَّا أعزها إغلاقه) (والوهى فِي الرهاء أزجي إِلَيْهَا ... عارضاً شيب الدجى إبراقه) (جارت جأرة إِلَيْهِ فحلى ... عطلا من إعناقها إعناقه) (تِلْكَ بكر الْفتُوح فالشام مِنْهَا ... شامه وَالْعراق بعد عراقه) (أَيْن كَانَ الْمُلُوك عَن وَجههَا الطلق ... يُرينا إضاءة إِطْلَاقه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 (سنة سنّهَا أَبوهُ بكلب الرّوم ... لما أظلهُ إرهاقه) (خافقا قلبه إِلَى أمل عاجله ... دون نيله إخفاقه) (قسمت راية المواضي القسيميات ... وابتز من لهاه عراقه) (وَكَذَا أَنْت يَا بْنَه مَا عدا من ... خلقه فِيك خصْلَة خلاقه) (وَكفى الْبَحْر أَنه ابْن سَحَاب ... مَا وَنَى سَحُّه وَلَا إصْعَاقه) (لم يمت من سددت ثلمته يَا ... من على الدّين كظه إشفاقه) (رهبة لم تدع على الأَرْض قلبا ... خلف صدر ينشق عَنهُ شقاقه) (كلما طن ذكرهَا مِنْهُ فِي السّمع ... تكمى فِي النافقاء نفَاقه) (وَجِهَاد عَن حوزة الدّين لم يأل ... لَهُ ركضه وَلَا إِنْفَاقه) وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى (بِنور الدّين روض كل مَحل ... من الدُّنْيَا وجدد كل بَال) (أَقَامَ على ثنية كل خوف ... سهادا بَات يكلأ كل كال) (وَصوب عدله فِي كل أَوب ... فعوض عاطلا مِنْهُ بِحَال) (ينكس رايه راي المحامي ... وَيقتل خَوفه قبل الْقِتَال) (لقد أحصدت لِلْإِسْلَامِ عزا ... يفوت سنامه يَد كل قَالَ) (وأصبحت العواصم ملحفات ... عصاما غير منتكث الحبال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فصل وقفت على توقيع كتب فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين عَن خَليفَة مصر يَوْمئِذٍ وَهُوَ الملقب بِالْحَافِظِ وَعَلِيهِ علامته الْحَمد لله رب الْعَالمين إِلَى القَاضِي الْأَشْرَف أَبى الْمجد عَليّ بن الْحسن بن الْحُسَيْن بن أَحْمد البيساني وَهُوَ وَالِد القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُتَوَلِّي الْقَضَاء وَالْحكم بِمَدِينَة عسقلان يَقُول فِيهِ انْتهى إِلَى حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن قوما من أهل ثغر عسقلان حماه الله قد صَارُوا يؤدون توقيعات بِقبُول أَقْوَالهم من غير تَزْكِيَة من شُهُوده المعروفين بالتزكية لَهُم مَعَ كَونهم غير مستوجبين للشَّهَادَة وَلَا مستحقين لسَمَاع القَوْل أنكر أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَلِك من فعلهم وَخرج عالي أمره بِأَن لَا يسمع قَول شَاهد وَلَا من تقدم لخطابة وَلَا لصَلَاة بِالنَّاسِ وَلَا لتلاوة فِي مَوضِع شرِيف إِلَّا من زَكَّاهُ أَعْيَان شُهُود الثغر المحروس وهم فلَان وَفُلَان فعد ثَمَانِيَة أنفس عبد السَّاتِر بن عبد الرَّحْمَن عبد الْعَزِيز بن مفضل عَليّ بن قُرَيْش أَحْمد بن حسن أَحْمد بن عَليّ عبد الرَّحْمَن بن محسن أُسَامَة بن عبد الصَّمد عَليّ بن عبد الله قلت وَهَذَا من أحسن مَا يؤرخ عَن أَيَّام تِلْكَ الدولة المبانية للشريعة على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي شَوَّال من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ترددت المراسلات بَين نور الدّين ومعين الدّين أنر إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال بَينهمَا على أجمل صفة وَأحسن قَضِيَّة وانعقدت الوصلة بَين نور الدّين وَبَين ابْنة معِين الدّين وتأكدت الْأُمُور على مَا اقترح كل مِنْهُمَا وَكتب كتاب العقد فِي دمشق بِمحضر من رسل نور الدّين فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال وَشرع فِي تَحْصِيل الجهاز وَعند الْفَرَاغ مِنْهُ تَوَجَّهت الرُّسُل عَائِدَة إِلَى حلب وَفِي صحبتهم ابْنة معِين الدّين وَمن فِي جُمْلَتهَا من خَواص الْأَصْحَاب فِي النّصْف من ذِي الْقعدَة قَالَ وَتوجه معِين الدّين إِلَى نَاحيَة صرخد وَبصرى بِالْخَيْلِ وَالرجل وآلات الْحَرْب وَنزل على صرخد وَبهَا الْمَعْرُوف بالتونتاش غُلَام أَمِين الدولة كمشتكين الأتابكي الَّذِي كَانَ واليها أَولا قلت هُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْمدرسَة الأمينية قبلي الْجَامِع بِدِمَشْق قَالَ وَكَانَت نفس ألتونتاش قد حدثته بجهله أَنه يُقَاوم من يكون مستولياً على دمشق وَأَن الإفرنج يعينونه على مُرَاده وَكَانَ قد خرج من حصن صرخد إِلَى نَاحيَة الفرنج للاستنصار بهم وَتَقْرِير أَحْوَال الْفساد مَعَهم فحال معِين الدولة بَينه وَبَين الْعود إِلَى أحد الحصنين وراسل نور الدّين فِي إنجاده على الْكفْر فَأَجَابَهُ وَكَانَ مبرزاً بِظَاهِر حلب فِي عسكره فَثنى إِلَيْهِ الأعنة وأغذ الْمسير فوصل دمشق فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ أَيَّامًا يسيرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَدخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَتوجه نور الدّين نَحْو صرخد وَلم يُشَاهد أحسن من عسكره وهيئته وعدته ووفور عدته وَاجْتمعَ العسكران وَأرْسل من بصرخد إِلَيْهِمَا يَلْتَمِسُونَ الْأمان والمهلة أَيَّامًا وتسلم الْمَكَان وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم على سَبِيل المغالطة والمخاتلة إِلَى أَن يصل عَسْكَر الإفرنج لترحيلهم وَقضى الله تَعَالَى وُصُول من أخبر بتجمع الفرنج واحتشادهم ونهوضهم فِي فارسهم وراجلهم مجدين السّير إِلَى نَاحيَة بصرى وَعَلَيْهَا فرقة وافرة من الْعَسْكَر محاصرة لَهَا فَنَهَضَ الْعَسْكَر فِي الْحَال إِلَى نَاحيَة بصرى فسبقوا الفرنج إِلَيْهَا فحالوا بَينهم وَبَينهَا وَوَقعت الْعين على الْعين فَانْهَزَمَ الْكفَّار وولوا الأدبار وتسلم معِين الدّين بصرى وَعَاد إِلَى صرخد فتسلمها وَعَاد العسكران إِلَى دمشق فوصلاها يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم وَفِي هَذَا الْوَقْت وصل ألتونتاش الَّذِي خرج من صرخد إِلَى الفرنج بجهله وسخافة عقله إِلَى دمشق من بِلَاد الفرنج من غير أَمَان وَلَا تَقْرِير واستئذان توهما مِنْهُ أَنه يكرم ويصطنع بعد الْإِسَاءَة القبيحة والارتداد عَن الْإِسْلَام فاعتقل فِي الْحَال وطالبه أَخُوهُ خطلخ بِمَا جناه عَلَيْهِ من سمل عَيْنَيْهِ وَعقد لَهما مجْلِس حَضَره الْفُقَهَاء والقضاة وأوجبوا عَلَيْهِ الْقصاص فسمل كَمَا سمل أَخَاهُ وَأطلق إِلَى دَار لَهُ بِدِمَشْق فَأَقَامَ بهَا قلت وَقد ذكر ابْن مُنِير وقْعَة بصرى هَذِه وَغَيرهَا من الوقعات الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا فِي قصيدة قد تقدم بَعْضهَا مِنْهَا (أَي شأو أدْركْت يَا نور دين الله ... أعيا على الْمُلُوك لحاقه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 (نطق الحاسدون بِالْعَجزِ عَن ملك ... محلى بالنيرات نطاقه) (غض أَبْصَارهم لحاق جواد ... لَيْسَ إِلَّا إِلَى الْمَعَالِي سباقه) (سل بَصيرًا كم أعتقت يَوْم بصرى ... من أسار الْمَوْت الزؤام عتاقه) (كم عرام على العريمة شبت ... ضَاقَ مِنْهُ على الصَّلِيب خناقه) (وَلكم هبوة بهاب وأختيها ... لَهَا صكت الْأُسَارَى رباقه) (بسط الذل فَوق بسطة باسوطا ... وَلَكِن طواه عَنهُ ارتفاقه) وَفِي هَذِه السّنة ولد ببعلبك الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب وَقيل فِي سنة فتح زنكي الرها قَالَ أَبُو يعلى وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّالِث من ربيع الأول توفى الْفَقِيه شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْفَتْح نصر الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقوي المصِّيصِي بِدِمَشْق وَكَانَ بَقِيَّة الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء الْمُفْتِينَ على مَذْهَب الشَّافِعِي وَلم يخلف بعده مثله قَالَ وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة تقررت ولَايَة حصن صرخد للأمير مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين على مبلغ من المَال وَالْغلَّة وشروط وأيمان دخل فِيهَا وَقَامَ بهَا واستبشر أهل تِلْكَ النَّاحِيَة بِهِ لما هُوَ عَلَيْهِ من حب الْخَيْر وَالصَّلَاح والتدين والعفاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال وَهُوَ مستهل نيسان أظلم الجو وَنزل غيث سَاكن ثمَّ أظلمت الأَرْض فِي وَقت الْعَصْر ظلاما شَدِيدا بِحَيْثُ كَانَ ذَلِك كالغدرة بَين العشاءين وَبقيت السَّمَاء فِي عين النَّاظر إِلَيْهَا كصفرة الورس وَكَذَلِكَ الْجبَال وأشجار الغوطة وكل مَا ينظر إِلَيْهِ من حَيَوَان وجماد ونبات ثمَّ جَاءَ فِي أثر ذَلِك من الرَّعْد القاصف والبرق الخاطف والهدات المزعجة والرجفات المفزعة مَا ارتاع لَهَا الشيب والشبان فَكيف الْولدَان والنسوان وقلقت لذَلِك الْخُيُول فِي مرابطها وَبَقِي الْأَمر على هَذِه الْحَال إِلَى وَقت الْعشَاء الْآخِرَة ثمَّ سكن بقدرة الله تَعَالَى واصبح على الأَرْض وَالْأَشْجَار وَسَائِر النَّبَات غُبَار فِي رقة الْهَوَاء بَين الْبيَاض والغبرة قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فتح نور الدّين أرتاح بِالسَّيْفِ وحصن باراة وبصرفوث وكفرلاثا وَكَانَ الفرنج قد طمعوا وظنوا أَنهم بعد قتل الشَّهِيد يستردون مَا أَخذ مِنْهُم فَلَمَّا رَأَوْا من نور الدّين هَذَا الْجد علمُوا أَن مَا أَملوهُ بعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فصل فِي نزُول الفرنج على دمشق ورجوعهم وَقد خذلهم الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي هَذِه السّنة تواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وبلاد الفرنج وَالروم وَمَا والاها بِظُهُور مُلُوك الإفرنج من بِلَادهمْ مِنْهُم الألمان والفنش وَجَمَاعَة من كبارهم فِي الْعدَد الَّذِي لَا يحصر لقصد بِلَاد الْإِسْلَام بعد أَن نادوا فِي سَائِر بِلَادهمْ ومعاقلهم النفير النفير إِلَيْهَا والإسراع نَحْوهَا وخلوا بِلَادهمْ وأعمالهم خَالِيَة شاغرة من حماتها والحفظة لَهَا ثمَّ استصحبوا من ذخائرهم وَأَمْوَالهمْ وعددهم الشَّيْء الْكثير الَّذِي لَا يُحْصى بِحَيْثُ يُقَال إِن عدتهمْ ألف ألف من الرجالة والفرسان وَيُقَال أَكثر من ذَلِك وغلبوا على أَعمال قسطنطينية وَاحْتَاجَ ملكهَا إِلَى الدُّخُول فِي مداراتهم ومسالمتهم وَالنُّزُول على أحكامهم وَحين شاع خبرهم واشتهر أَمرهم شرعت وُلَاة الْأَعْمَال المصاقبة لَهُم والأطراف الإسلامية الْقَرِيبَة مِنْهُم فِي التأهب للمدافعة لَهُم والاحتشاد على المجاهدة فيهم وقصدوا منافذهم ودروب معابرهم لكَي يمنعوهم من العبور والنفوذ إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وواصلوا شن الغارات على أَطْرَافهم واستحر الْقَتْل فيهم والفتك بهم إِلَى أَن هلك مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَحل بهم من عدم الْقُوت والعلوفات والمير وَغَلَاء السّعر إِذا وجدوه مَا أفنى الْكثير مِنْهُم بِالْجُوعِ وَالْمَرَض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَلم تزل أخبارهم تتواصل بهلاكهم وفناء أعدادهم إِلَى أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين بِحَيْثُ سكنت النُّفُوس بعض السّكُون وَدخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وتواترت الْأَخْبَار بوصول مراكب الفرنج وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا واجتماعهم مَعَ من بهَا من الفرنج وَيُقَال إِنَّهُم بعد مَا فني مِنْهُم بِالْقَتْلِ وَالْمَرَض والجوع وصل تَقْدِير من مئة ألف وقصدوا الْبَيْت الْمُقَدّس فقضوا حجهم وَعَاد من عَاد مِنْهُم إِلَى بِلَادهمْ فِي الْبَحْر وَقد هلك مِنْهُم بِالْمَوْتِ وَالْمَرَض الْخلق الْعَظِيم وَهلك من مُلُوكهمْ من هلك وَبَقِي الألمان أكبر مُلُوكهمْ وَمن هُوَ دونه وَاخْتلفت الآراء بَينهم فِيمَا يقصدون منازلته من الْبِلَاد الإسلامية إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال على منازلتهم دمشق وَبلغ ذَلِك معِين الدّين فاستعد لحربهم فجاؤوا فِي تَقْدِير خمسين ألفا ودنوا من الْبَلَد وقصدوا المنزله الْمَعْرُوفَة بنزول العساكر فِيهَا فصادفوا المَاء مَقْطُوعًا فقصدوا نَاحيَة المزة فخيموا عَلَيْهَا لقربها من المَاء وزحفوا إِلَى الْبَلَد بخيلهم ورجلهم ووقف الْمُسلمُونَ بازائهم فِي يَوْم السبت سادس ربيع الأول ونشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ وَاجْتمعَ عَلَيْهِم من الْأَعْمَال والأجناد والأتراك والفتاك وأحداث الْبَلَد والمطوعة والغزاة الجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الْغَفِير وَاسْتظْهر الْكفَّار على الْمُسلمين بِكَثْرَة الْأَعْدَاد وغلبوا على المَاء وانتشروا فِي الْبَسَاتِين وخيموا فِيهَا وقربوا من الْبَلَد وحصلوا مِنْهُ بمَكَان لم يتَمَكَّن أحد من العساكر قَدِيما وحديثا مِنْهُ وَاسْتشْهدَ فِي هَذَا الْيَوْم الْفَقِيه الإِمَام يُوسُف الفندلاوي الْمَالِكِي رَحمَه الله قريب الربوة على المَاء لوقوفه فِي وُجُوههم وَترك الرُّجُوع عَنْهُم اتبع أوَامِر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم وَقَالَ بعنا وَاشْترى وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن الحلحولي الزَّاهِد رَحمَه الله جرى أمره هَذَا المجرى قلت وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = أَن ملك الألمان الفرنجي لما وصل إِلَى الشَّام اجْتمع إِلَيْهِ كل من بِالشَّام من الإفرنج وَقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 دمشق فَخرج عسكرها وَأَهْلهَا لقتالهم وَفِي جُمْلَتهمْ الْفَقِيه الفندلاوي الْمَالِكِي وَالشَّيْخ الزَّاهِد عبد الرَّحْمَن الحلحولي رحمهمَا الله وَكَانَا من خِيَار الْمُسلمين فَلَمَّا قاربوهم قَالَ الْفَقِيه يَا عبد الرَّحْمَن أما هَؤُلَاءِ الرّوم قَالَ بلَى قَالَ فَإلَى مَتى نَحن وقُوف قَالَ سر على اسْم الله فَتَقَدما فَقَاتلا حَتَّى قتلا فِي مَكَان وَاحِد رحمهمَا الله تَعَالَى ثمَّ قَالَ أَبُو يعلى وشرعوا فِي قطع الْأَشْجَار والتحصن بهَا وهدوا الفطائر وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة على هَذِه الْحَال وَقد لحق النَّاس من الارتياع لهول مَا شاهدوه والروع بِمَا عاينوه مَا ضعفت بِهِ الْقُلُوب وحرجت مَعَه الصُّدُور وباكروا الظُّهُور إِلَيْهِم فِي غَد ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ الْأَحَد تاليه وزحفوا إِلَيْهِم وَوَقع الطراد بَينهم وَاسْتظْهر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَأَكْثرُوا الْقَتْل والجراح فيهم وأبلى الْأَمِير معِين الدّين فِي حربهم بلَاء حسنا وَظهر من شجاعته وَصَبره وبسالته مَا لم يُشَاهد فِي غَيره بِحَيْثُ لَا يني فِي جهادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَلَا ينثني عَن ذيادهم وَلم تزل رَحا الْحَرْب دَائِرَة بَينهم وخيل الْكفَّار محجمة عَن الحملة الْمَعْرُوفَة لَهُم حَتَّى تتهيأ الفرصة لَهُم إِلَى أَن مَالَتْ الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب وَأَقْبل اللَّيْل وَطلبت النُّفُوس الرَّاحَة وَعَاد كل مِنْهُم إِلَى مَكَانَهُ وأبت الْجند بإزائهم وَأهل الْبَلَد على أسوارهم للحرس وَالِاحْتِيَاط وهم يشاهدون أعداءهم بِالْقربِ مِنْهُم وَكَانَت المكاتبات قد نفذت إِلَى وُلَاة الْأَطْرَاف بالاستصراخ والاستنجاد وَجعلت خيل التركمان تتواصل ورجالة الْأَطْرَاف تتتابع وباكرهم الْمُسلمُونَ وَقد قويت نُفُوسهم وَزَالَ عَنْهُم روعهم وثبتوا بإزائهم وأطلقوا فيهم السِّهَام ونبل الجرخ بِحَيْثُ يَقع فِي مخّيمهم فِي راجل أَو فَارس أَو فرس أَو جمل وَوصل فِي هَذَا الْيَوْم من نَاحيَة الْبِقَاع وَغَيرهَا رجالة كَثِيرَة من الرُّمَاة فزادت بهم الْعدة وتضاعفت الْعدة وانفصل كل فريق إِلَى مستقره فِي هَذَا الْيَوْم وباكروهم من غده يَوْم الثُّلَاثَاء وَأَحَاطُوا بهم فِي مخيمهم وَقد تحَصَّنُوا بأشجار الْبَسَاتِين وأفسدوها رشقا بالنشاب وحذفا بالأحجار وَقد أحجموا عَن البروز وخافوا وفشلوا وَلم يظْهر مِنْهُم أحد وَظن أَنهم يعْملُونَ مكيدة أَو يدبرون حِيلَة وَلم يظْهر مِنْهُم إِلَّا النَّفر الْيَسِير من الْخَيل وَالرجل على سَبِيل المطاردة والمناوشة خوفًا من المهاجمة إِلَى أَن يَجدوا لحملتهم مجالا وَلَيْسَ يدنو مِنْهُم أحد إِلَّا صُرع برشقة أَو طعنة وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الْأَحْدَاث والضياع وَجعلُوا يقصدونهم فِي المسالك وَقد أمنُوا فيقتلون من ظفروا بِهِ ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عَنْهَا وَحصل من رؤوسهم الْعدَد الْكثير وتواترت إِلَيْهِم أَخْبَار العساكر الإسلامية بالمسارعة إِلَى جهادهم واستئصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 شأفتهم فَأَيْقنُوا بِالْهَلَاكِ والبوار وحلول الدمار وأعملوا الآراء بَينهم فَلم يَجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة الَّتِي حصلوا فِيهَا غير الرحيل فرحلوا سحر يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّالِي مفلولين وَحين عرف الْمُسلمُونَ ذَلِك برزوا إِلَيْهِم فِي بكرَة هَذَا الْيَوْم وسارعوا فِي آثَارهم بِالسِّهَامِ بِحَيْثُ قتلوا فِي أَعْقَابهم من الرِّجَال والخيول وَالدَّوَاب الْعدَد الْكثير ووجدوا فِي آثَار مَنَازِلهمْ وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وخيولهم مَا لَا عدد لَهُ وَلَا حصر يلْحقهُ بِحَيْثُ لَهَا أراييح من جيفتهم تكَاد تصرع فِي الجو وَكَانُوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودية فِي تِلْكَ اللَّيْلَة واستبشر النَّاس بِهَذِهِ النِّعْمَة الَّتِي أسبغها الله عَلَيْهِم وَأَكْثرُوا من الشُّكْر لَهُ تَعَالَى على مَا أولاهم من إِجَابَة دُعَائِهِمْ الَّذِي واصلوه فِي أَيَّام هَذِه الشدَّة فَللَّه الْحَمد على ذَلِك وَالشُّكْر وَاتفقَ عقيب هَذِه الرَّحْمَة اجْتِمَاع معِين الدّين مَعَ نور الدّين عِنْد قربه من دمشق للإنجاد لَهَا وَقَالَ ابْن الْأَثِير خرج ملك الألمان من بِلَاد الفرنج فِي جيوش كَبِيرَة عَظِيمَة لَا تحصى كَثْرَة من الفرنج إِلَى بِلَاد الشَّام فاتفق هُوَ وَمن بساحل الشَّام من الفرنج فَاجْتمعُوا وقصدوا مَدِينَة دمشق ونازلوها وَلَا يشك ملك الألمان إِلَّا أَنه يملكهَا وَغَيرهَا لِكَثْرَة جموعه وعساكره قَالَ وَهَذَا النَّوْع من الفرنج هُوَ أَكْثَرهم عددا وأوسعهم بلادا وملكهم أَكثر عددا وعددا وَإِن كَانَ غير ملكهم أشرف مِنْهُ عِنْدهم وَأعظم محلا فَلَمَّا حاصروا دمشق وَبهَا صَاحبهَا مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد بن بورى بن طغتكين وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمر إِلَى مَمْلُوك جده طغتكين وَهُوَ معِين الدّين أنر فَهُوَ كَانَ الْحَاكِم وَالْمُدبر للبلد والعسكر وَكَانَ عَاقِلا دينا خيرا حسن السِّيرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فَجمع الْعَسْكَر وَحفظ الْبَلَد وحصرهم الفرنج وزحفوا إِلَيْهِم سادس ربيع الأول فَخرج الْعَسْكَر وَأهل الْبَلَد لمنعهم وَكَانَ فِيمَن خرج الشَّيْخ الْفَقِيه حجَّة الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن ذوناس المغربي الفندلاوي شيخ الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وَكَانَ شَيخا كَبِيرا زاهدا عابدا خرج رَاجِلا فَرَآهُ معِين الدّين فقصده وَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا شيخ أَنْت مَعْذُور وَنحن نكفيك وَلَيْسَ بك قُوَّة على الْقِتَال فَقَالَ قد بِعْت وَاشْترى فَلَا نُقيله وَلَا نَسْتَقِيلهُ يعْنى قَول الله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} الْآيَة وَتقدم فقاتل الفرنج حَتَّى قتل رَحمَه الله عِنْد النيرب شَهِيدا وَقَوي أَمر الفرنج وتقدموا فنزلوا بالميدان الْأَخْضَر وَضعف أهل الْبَلَد عَن ردهم عَنهُ وَكَانَ معِين الدّين قد أرسل إِلَى سيف الدّين يستغيث بِهِ ويستنجده ويسأله الْقدوم عَلَيْهِ ويعلمه شدَّة الْأَمر فَجمع سيف الدّين عساكره وَسَار مجدا إِلَى مَدِينَة حمص وَأرْسل إِلَى معِين الدّين يَقُول لَهُ قد حضرت وَمَعِي كل من يُطيق حمل السِّلَاح من بلادي فَإِن أَنا جِئْت إِلَيْك ولقينا الفرنج وَلَيْسَت دمشق بيد نوابي وأصحابي وَكَانَت الْهَزِيمَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه علينا لَا يسلم منا أحد لبعد بِلَادنَا عَنَّا وَحِينَئِذٍ يملك الفرنج دمشق وَغَيرهَا فَإِن أردتم أَن ألقاهم وأقاتلهم فتسلم الْبَلَد إِلَى من أَثِق إِلَيْهِ وَأَنا أَحْلف لَك إِن كَانَت النُّصْرَة لنا على الفرنج أنني لَا آخذ دمشق وَلَا أقيم لَهَا إِلَّا مِقْدَار مَا يرحل الْعَدو عَنْهَا وأعود إِلَى بلادي فماطله معِين الدّين لينْظر مَا يكون من الفرنج فَأرْسل سيف الدّين إِلَى الفرنج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الغرباء يتهددهم وَيُعلمهُم أَنه على قصدهم إِن لم يرحلوا وَأرْسل معِين الدّين إِلَيْهِم أَيْضا يَقُول لَهُم قد حضر ملك الشرق وَمَعَهُ من العساكر مَا لَا طَاقَة لكم بِهِ فَإِن أَنْتُم رحلتم عنّا وَإِلَّا سلمت الْبَلَد إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ لَا تطمعون فِي السَّلامَة مِنْهُ وَأرْسل إِلَى فرنج الشَّام يخوفهم من أُولَئِكَ الفرنج الخارجين إِلَى بِلَادهمْ وَيَقُول لَهُم أَنْتُم بَين أَمريْن مذمومين إِن ملك هَؤُلَاءِ الفرنج الغرباء دمشق لَا يبقون عَلَيْكُم مَا بِأَيْدِيكُمْ من الْبِلَاد وَإِن سلمت أَنا دمشق إِلَى سيف الدّين فَأنْتم تعلمُونَ أَنكُمْ لَا تقدرون على مَنعه من الْبَيْت الْمُقَدّس وبذل لَهُم أَن يسلم إِلَيْهِم بانياًس أَن رحلوا ملك الألمان عَن دمشق فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَعَلمُوا صدقه واجتمعوا بِملك الألمان وخوفوه من سيف الدّين وَكَثْرَة عساكره وتتابع أمداده وَأَنه رُبمَا ملك دمشق فَلَا يبْقى لَهُم مَعَه مقَام بالسَّاحل فأجابهم إِلَى الرحيل عَن دمشق فَرَحل ورحل فرنج السَّاحِل وتسلموا حصن بانياس من معِين الدّين وَبَقِي مَعَهم حَتَّى فَتحه نور الدّين مَحْمُود رَحمَه الله كَمَا سَنذكرُهُ قلت وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر رَحْمَة الله فِي تَارِيخه أَن الْفَقِيه الفندلاوي رُؤِيَ فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ أَيْن انت قَالَ فِي جنَّات عدن على سُرُرٍ مُتَقَابلين وقبره الْآن يزار بمقابر الْبَاب الصَّغِير من نَاحيَة حَائِط الْمصلى وَعَلِيهِ بلاطة كَبِيرَة منقورة فِيهَا شرح حَاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَأما عبد الرَّحْمَن الحلحولي فقبره فِي بُسْتَان الشَّعْبَانِي فِي جِهَة شرقه وَهُوَ الْبُسْتَان المحاذي لمَسْجِد شعْبَان الْمَعْرُوف الْآن بِمَسْجِد طالوت وَكَانَ مقَامه فِي حَيَاته فِي ذَلِك الْمَكَان رَحْمَة الله وقرأت قصيدة فِي شعر أَبى الحكم الأندلسي شرح فِيهَا هَذِه الْقِصَّة مِنْهَا (بشطى نهر داريا ... أُمُور مَا تواتينا) (وأقوام رَأَوْا سفك الدَّم ... مَا فِي جلق دينا) (أَتَانَا مئتا ألف ... عديدا أَو يزيدونا) (فبعضهم من أندلس ... وَبَعض من فلسطينا) (وَمن عكا وَمن صور ... وَمن صيدا وتبنينا) (إِذا أبصرتهم أَبْصرت ... أَقْوَامًا مجانينا) (وَلَكِن حرقوا فِي عَاجل ... الْحَال البساتينا) (وجازوا المرج وَالتَّعْدِيل ... أَيْضا والميادينا) (تخالهم وَقد ركبُوا ... فطائرها حراذينا) (وَبَين خيامهم ضمُّوا الخنازر ... والقرابينا) (ورايات وصلبانا ... على مَسْجِد خاتونا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 (وَقُلْنَا إِذْ رأيناهم ... لَعَلَّ الله يكفينا) (سَمَا لَهُم معِين قد ... أعَان الْخلق والدينا) (وفتيان تخالهم ... لَدَى الهيجا شياطينا) (فَوَلوا يطْلبُونَ المرج ... من شَرْقي جسرينا) (وَلَكِن غادروا إلْيَاس ... تَحت الترب مَدْفُونا) (وشيخا فندلاويا ... فَقِيها يعضد الدِّينَا) (وفتيانا تفانوا من ... دمشق نَحْو سبعينا) (وَمِنْهُم مئتا علج ... وخيل نَحْو تسعينا) (وباقيهم إِلَى الْآن ... من الْقَتْل يفرونا) وللعرقلة حسان فِي مدح مجير الدّين صَاحب دمشق حِينَئِذٍ قصيدة ذكر فِيهَا هَؤُلَاءِ الفرنج أَولهَا (عرّج على نجد لَعَلَّك منجدى ... بنسيمها وبذكر سعدي مسعدى) يَقُول فِيهَا (من قَاتل الأفرنج دينا غَيره ... وَالْخَيْل مثلُ السّيل عِنْد المشهد) (رد الْأمان بِكُل ندب باسل ... وَمن الْجِيَاد بِكُل نهد أجرد) (وَمن السيوف بِكُل عضب أَبيض ... وَمن العجاج بِكُل نقع أسود) (حَتَّى لوى الْإِسْلَام تَحت لوائه ... وَغدا بِحَمْد من شَرِيعَة أَحْمد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقرأت فِي ديوَان مُحَمَّد بن نصر القيسراني قصيدة فِي مدح تَاج الْمُلُوك بورى جد مجير الدّين أنْشدهُ إِيَّاهَا عِنْد كسرة الفرنج على دمشق فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخمْس مئة وَهِي وَاقعَة تشبه الْوَاقِعَة فِي زمن مجير الدّين أول القصيدة (الْحق مبتهج وَالسيف مبتسم ... وَمَال أَعدَاء فَخر الدّين مقتسم) يَقُول فِيهَا (قدت الْجِيَاد وحصنت الْبِلَاد وَأمنت ... الْعباد فَأَنت الْحل وَالْحرم) (وَجئْت بِالْخَيْلِ من أقْصَى مرابطها ... معاقد الحزم فِي أوساًطها الحُزُم) (حَتَّى إِذا مَا أحَاط الْمُشْركُونَ بِنَا ... كالليل يلتهم الدُّنْيَا لَهُ ظلم) (واقبلوا لَا من الإقبال فِي عدد ... يؤود حَاسبه الإعياء والسأم) (أجريت بحرا من الماذي معتكرا ... أمواجه بأواسى الْبَأْس تلتطم) (وسست جندك والرحمن يكلؤه ... سياسة مَا يُعْفَى إثْرهَا نَدم) (وقفت فِي الْجَيْش والأعلام خافقة ... بالنصر كل قناة فَوْقهَا علم) (يحوطك الله صونا عَن عيونهم ... وَالله يعْصم من بِاللَّه بعتصم) (حَتَّى إِذا بَدَت الآراء ضاحكة ... وَأَقْبَلت أوجه الإقبال تبتسم) (أتبعت جن سراياهم مضمرة ... فِيهَا نُجُوم إِذا وجد الوغى رجموا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 (والنصر دَان وخيل الله مقبلة ... ترجو الشَّهَادَة فِي الهيجا وتغتنم) (صاب الْغَمَام عَلَيْهِم والسهام مَعًا ... فَمَا دروا أيُّما الهطالة الدّيم) (سروا لينتهبوا الْأَعْمَار فانتهبوا ... قتلا ويغتنموا الْأَمْوَال فاغتنموا) (وَأَقْبَلت خَيْلنَا تردي بخيلهم ... مَجْنُونَة وعَلى أرماحنا القمم) (وَأدبر الْملك الطاغي يزعزعه ... حر الأسنة وَهُوَ البادر الشبم) (وافوا دمشق وظنوا أَنَّهَا جدة ... ففارقوها وَفِي أَيْديهم الْعَدَم) (وأيقنوا مَعَ ضِيَاء الصُّبْح أَنهم ... إِن لم يزولوا سرَاعًا زَالَت الخيم) (فغادروا أَكثر القربان وانجفلوا ... وخلفوا أكبر الصلبان وانهزموا) (وحاولوا الْمَسْجِد الأدْنى فَمَا عبرت ... عَن مَسْجِد الْقدَم الْأَقْصَى لَهَا قدم) (مستسلمين لأيدي الْمُسلمين وَقد ... أغرى القنا بتمادي خطفهم نهم) (لَا يملك الجسُم دفعا عَن مقاتله ... كَأَنَّهُ حِين يغشاهُ الردى صنم) فصل قَالَ ابْن الْأَثِير لما رَحل الفرنج عَن دمشق سَار معِين الدّين أنر إِلَى بعلبك وَأرْسل إِلَى نور الدّين وَهُوَ مَعَ أَخِيه سيف الدّين يسْأَله أَن يحضر عِنْده فاجتمعا فوصل إِلَيْهِمَا = كتاب القمص = صَاحب طرابلس يُشِير عَلَيْهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بِقصد حصن العريمة وَأَخذه مِمَّن فِيهِ من الفرنج وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن ولد الفنش صَاحب جَزِيرَة صقلية خرج مَعَ ملك الألمان إِلَى الشَّام وتغلب على العريمة وَأَخذهَا من القمص وَأظْهر أَنه يُرِيد أَخذ طرابلس مِنْهُ أَيْضا وجد هَذَا الَّذِي ملك العُريمة هُوَ الَّذِي غزا إفريقية وَفتح مَدِينَة طرابلس الغرب فَلَمَّا استولى هَذَا على العريمة كَاتب القومص نور الدّين ومعين الدّين فِي قَصده فسارا إِلَيْهِ مجدين فصبحاه وكتبا إِلَى سيف الدّين يستنجدانه ويطلبان مِنْهُ المدد فأمدهما فحصروا الْحصن وَبِه ابْن الفنش ونقبوا السُّور فأذعن الفرنج واستسلموا وألقوا بِأَيْدِيهِم فَملك الْمُسلمُونَ الْحصن وَأخذُوا كل من بِهِ من رجل وَصبي وَامْرَأَة وَفِيهِمْ ابْن الفنش وأخربوا الْحصن وعادوا إِلَى سيف الدّين وافتتح نور الدّين أَيْضا باسوطا وهاب وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى قتل أَكثر من كَانَ فِيهِ يَعْنِي فِي حصن العريمة واسروا وَأخذُوا ولد الْملك وَأمه وَنهب مَا فِيهِ من الْعدَد والخيول والأثاث وَعَاد عَسْكَر سيف الدّين إِلَى مخيمه بحمص وَنور الدّين عَاد إِلَى حلب وَمَعَهُ ولد الْملك وَأمه وَمن اسر مَعَهُمَا وانكفأ معِين الدّين إِلَى دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي رَجَب من نَاحيَة حلب بِأَن نور الدّين صَاحبهَا كَانَ قد توجه فِي عسكره إِلَى نَاحيَة الْأَعْمَال الإفرنجية وَقصد فامية وظفر بعدة من الْحُصُون والمعاقل الإفرنجية وبعدة وافرة من الإفرنج وان صَاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حِين غَفلَة مِنْهُ فَنَال من عسكره وأثقاله وكراعه مَا أوجبته الأقدار النَّازِلَة وَانْهَزَمَ بِنَفسِهِ وَعَسْكَره وَعَاد إِلَى حلب سالما فِي عسكره لم يفقد مِنْهُ إِلَّا النَّفر الْيَسِير بعد قتل جمَاعَة وافرة من الإفرنج وَأقَام بحلب أَيَّامًا بِحَيْثُ جدد مَا ذهب لَهُ من البرك وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من آلَات الْعَسْكَر وَعَاد إِلَى منزله وَقيل لم يعد وَذكر ابْن أَبى طي أَن أَسد الدّين لما كَانَ فِي نَفسه على نور الدّين من تَقْدِيم ابْن الداية عَلَيْهِ لم ينصح يَوْمئِذٍ وَهِي وَاقعَة يغرا وَمر بِهِ نور الدّين فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْوُقُوف والغفلة فِي مثل هَذَا الْوَقْت والمسلمون قد انكسروا فَقَالَ يَا خوند إيش ننفع نَحن إِنَّمَا ينفع مجد الدّين أَبُو بكر فَهُوَ صَاحب الْأَمر فاستدرك نور الدّين ذَلِك وَطيب قلب أَسد الدّين بعد ذَلِك والزم مجد الدّين أَن يعرف لأسد الدّين حَقه واصلح بَينهمَا قَالَ وَقتل فِي هَذِه الكسرة شاهنشاه بن أَيُّوب أَخُو الْملك النَّاصِر وَقيل فِي كسرة البقيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قلت وَهُوَ وَالِد عز الدّين فرخشاه وتقي الدّين عمر والست عذرا الْمَنْسُوب إِلَيْهَا الْمدرسَة الْمدرسَة العذراوية دَاخل بَاب النَّصْر بِدِمَشْق وقبره الْآن بالتربة النجمية جوَار الْمدرسَة الحسامية بمقبرة العوينة ظَاهر دمشق رَحِمهم الله تَعَالَى قلت وَلابْن مُنِير من قصيدة تقدّمت اعتذارا عَمَّا جرى فِي هَذِه الْغُزَاة قَالَ (لم يشنه من مَاء يغراء أَن فر ... الأشابات ذاد عَنْهَا انذلاقه) (كَانَ فِيهَا لَيْث العرين حمى الأشبال ... مِنْهُ غَضْبَان كالنار ماقه) (وشبيه النَّبِي يَوْم حُنيْن ... إِذْ تلافى أدواءهم درْيَاقه) (وَهِي الْحَرْب فَحلهَا يحسن الكرة ... إِن عض بأسها لَا نياقه) وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين أَيْضا سَار نور الدّين إِلَى يغرى وَقد اجْتمع بهَا الفرنج فِي قضهم وقضيضهم وَقد عزموا على قصد بِلَاد الْإِسْلَام فَالتقى بهم هُنَالك واقتتلوا أَشد قتال ثمَّ أنزل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 نَصره على الْمُسلمين وَانْهَزَمَ الفرنج وَكَانُوا بَين قَتِيل وأسير وَفِي هَذِه الْوَقْعَة يَقُول القيسراني من قصيدة أَولهَا (يَا لَيْت أَن الصد مصدود ... أَو لَا فليت النّوم مَرْدُود) (إِلَى مَتى تعرض عَن مغرم ... فِي خَدّه للدمع أخدُود) (قَالُوا عُيُون الْبيض بيض الظبي ... قلت وَلَكِن هَذِه سود) (يخَاف مِنْهَا وَهِي فِي جفنها ... وَالسيف يخْشَى وَهُوَ مغمود) ثمَّ خرج إِلَى الْمَدْح فَقَالَ (وَكَيف لَا نثني على عيشنا الْمَحْمُود ... وَالسُّلْطَان مَحْمُود) (فليشكر النَّاس ظلال المنى ... إِن رواق الْعدْل مَمْدُود) (ونيرات الْملك وهاجة ... وطالع الدولة مَسْعُود) (وصارم الْإِسْلَام لَا ينثني ... إِلَّا وشْلوُ الْكفْر مقدود) (مَنَاقِب لم تَكُ مَوْجُودَة ... إِلَّا وَنور الدّين مَوْجُود) (مظفر فِي درعه ضيغم ... عَلَيْهِ تَاج الْملك مَعْقُود) (نَالَ الْمَعَالِي حَاكما مَالِكًا ... فَهُوَ سُلَيْمَان وَدَاوُد) (ترتشف الأفواه أسيافه ... أَن رُضاب الْعِزّ مورود) (وَكم لَهُ من وقعةٍ يَوْمهَا ... عِنْد مُلُوك الشّرك مشهود) (وَالْقَوْم إِمَّا مُرهق صرعة ... أَو موثق بالقد مشدود) (حَتَّى إِذا عَادوا إِلَى مثلهَا ... قَالَت لَهُم هيبته عودوا) (طَالب بثأر ضمنته الظبي ... فَكل مَا تضمن مَرْدُود) (وَالْكر والفر سِجَال الوغى ... فطارد طورا ومطرود) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 (وَإِنَّمَا الإفرنج من بغيها ... عَاد وَقد عَاد لَهَا هود) (قد حصحص الْحق فَمَا جَاحد ... فِي قلبه بأسك مجحود) (فَكل مصر بك مستفتح ... وكل ثغر بك مسدود) وَقَالَ أَيْضا قصيدة فِي نور الدّين وأنشده إِيَّاهَا بِظَاهِر حلب وَقد كسر الإفرنج على يغرا وَهَزَمَهُمْ إِلَى حصن حارم وَقد كَانَت الفرنج هزمت الْمُسلمين أَولا بِهَذَا الْموضع أَولهَا (تفي بضمانها الْبيض الْحداد ... وتقضي دينهَا السمر الصعاد) (وتدرك ثارها من كل بَاغ ... فوارس من عزائمها الجلاد) (ويغشى حومة الهيجا همام ... تشد بضبعه السَّبع الشداد) (أظنوا أَن نَار الْحَرْب تخبو ... وَنور الدّين فِي يَده الزِّنَاد) (وجند كالصقور على صقور ... إِذا انقضوا على الْأَبْطَال صادوا) (إِذا أخفوا مكيدتهم أخافوا ... وَإِن ابدوا عداوتهم أبادوا) (ونصرة دولة حاميت عَنْهَا ... وَهل تخشى وَأَنت لَهَا عماد) (وَإِن نتل القوافي مَا تلته ... بإنب مَا يؤبنها سناد) (جرت بالنصر أَقْلَام العوالي ... وَلَيْسَ سوى النجيع لَهَا مداد) (وطالت أرؤس الأعلاج خصبا ... فَنَادَى السَّيْف قد وَقع الْحَصاد) (أحطت بهم فَكَانَ الْقَتْل صبرا ... وَلَا طعن هُنَاكَ وَلَا طراد) (وللإبرنز فَوق الرمْح رَأس ... توسد والسنان لَهُ وساد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 (ترجل للسلام ففرسوه ... وَلَيْسَ سوى الْقَنَاة لَهُ جواد) (غضيض المقلتين وَلَا نُعَاس ... وغائرها وَلَيْسَ بِهِ سهاد) (فسر واستوعب الدُّنْيَا فتوحا ... فَلَا هضب هُنَاكَ وَلَا وهاد) (وزر ببني الوغى مثوى حبيب ... فَمَا عَن بَاب مسلمة ذياد) (وَلَا فِي بَاب فَارس غير ثَكْلَى ... بفارسها يضيء بهَا الْحداد) (أأنطاكية تَحْمِي ذراها ... وَقد دَانَتْ لسطوتك الْبِلَاد) (وأذعنت الممالك واستجابت ... ملبية لدعوتك الْعباد) قلت ووقعة إنب هَذِه كَانَت عَظِيمَة وَقد كثر ذكر الشُّعَرَاء وَسَيَأْتِي ذكرهَا قَرِيبا فصل قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وَفِي رَجَب من هَذِه السّنة ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بِأَن صَاحبهَا نور الدّين بن أتابك أَمر بابطال حَيّ على خير الْعَمَل فِي أَوَاخِر تأذين الْغَدَاة والتظاهر بسب الصَّحَابَة وَأنكر ذَلِك إنكارا شَدِيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وساعده على ذَلِك جمَاعَة من السّنة بحلب وَعظم هَذَا الْأَمر على الإسماعيلية وَأهل التَّشَيُّع وَضَاقَتْ لَهُ صُدُورهمْ وهاجوا لَهُ وماجوا ثمَّ سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية الْمَشْهُورَة والهيبة المحذورة قلت وأنشده ابْن مُنِير فِي شهر رَمَضَان (فدَاك من صَامَ وَمن أفطرا ... وَمن سعى سعيك أَو قصرا) (وَمَا الورى أَهلا فتفدى بهم ... وَهل يوازي عرض جوهرا) (عدل تساوى تَحت أكنافه ... مطافل الْعين وَأسد الشرى) (يَا نور دين الله كم حَادث ... دجا وأسفرت لَهُ فانسرى) (وَكم حمى للشرك لَا يَهْتَدِي الْوَهم ... لَهُ غادرته مجزرا) (يَا ملك الْعَصْر الَّذِي صَدره ... أفسح من أقطارها مصدرا) (وَابْن الَّذِي طاول أفلاكها ... فَلم يجد من فَوْقه مظْهرا) (مَنَاقِب تكسر كسْرَى كَمَا ... تقصر عَن إِدْرَاكهَا قيصرا) (مَا عَام فِي أوصافها شَاعِر ... إِلَّا رأى أوصافها أشعرا) (لله أصل أَنْت فرع لَهُ ... مَا أطب المجنى وَمَا أطهرا) (مَا حلب الْبَيْضَاء مذ صنتها ... إِلَّا حرَام مثل أم الْقرى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 (شيدت فِي معمور أرجائها ... لكل باغي عُمرة مشعرا) (فَأصْبح الشادى إِذا ثوب الدَّاعِي ... لَهُ هلل أَو كبرا) (لَا عدم الْإِسْلَام مَنْ كَفُّه ... كهفٌ لمن أرهق أَو أُحْصرا) (كَأَنَّمَا ساحٌته جنَّة ... أجرت بهَا رَاحَته كوثرا) (تصرم الشَّهْر الَّذِي كنت فِي ... أوقاته من قدره أشهرا) (جِهَاد ليل فِي نَهَار فَفُزْ ... إِذْ كنت فِيهِ الأصْبرَ الأشكرا) (أصدق مَا يرشفه سامع ... مَا هز من أوصافك المنبرا) (ابقاك للدنيا وللدين من ... خلاك فِي ليلهما نيرا) (حَتَّى ترى عِيسَى من الْقُدس قد ... لجا إِلَى سَيْفك مستنصرا) قَالَ أَبُو يعلى وَفِي رَجَب أذن لمن يتعاطى الْوَعْظ بالتكلم فِي الْجَامِع الْمَعْمُور بِدِمَشْق على جاري الْعَادة والرسم فَبَدَا من اخْتلَافهمْ فِي أَحْوَالهم وأغراضهم والخوض فِي قضايا لَا حَاجَة إِلَيْهَا من الْمذَاهب مَا أوجب صرفهم عَن هَذِه الْحَال وَإِبْطَال الْوَعْظ لما يتَوَجَّه مَعَه من الْفساد وطمع سُفَهَاء الأوغاد وَذَلِكَ فِي آخر شعْبَان مِنْهَا قَالَ وَكثر فَسَاد الفرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية فِي الْأَعْمَال الدمشقية بعد رحيلهم عَن دمشق فَأَغَارَ معِين الدّين على أَعْمَالهم وخيم فِي نَاحيَة حوران بالعسكر وَكَاتب الْعَرَب واستدعى جمَاعَة وافرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 التركمان وَأطلق أَيْديهم فِي نهبهم والفتك بهم فَلم يزل على النكاية فيهم والمضايقة لَهُم إِلَى أَن ألجأهم إِلَى طلب الْمُصَالحَة وَدخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة) فجددت المهادنة فِي الْمحرم مُدَّة سنتَيْن وأنفذ نور الدّين إِلَى معِين الدّين يُعلمهُ أَن صَاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بِلَاده وَظهر يطْلب بهم الْإِفْسَاد فِي الْأَعْمَال الحلبية وَأَنه قد برز فِي عسكره إِلَى ظَاهر حلب للقائه وَالْحَاجة ماسة إِلَى معاضدته فندب معِين الدّين مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين فِي فريق وافر من الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي للمصير إِلَى جِهَته وبذل المجهود فِي طَاعَته ومناصحته وَبَقِي معِين الدّين فِي بَاقِي الْعَسْكَر بِنَاحِيَة حَوْرَان قَالَ وَفِي صفر من السّنة وَردت البشائر من جِهَة نور الدّين بِمَا أولاه الله تَعَالَى وَله الْحَمد من الظُّهُور على حشد الإفرنج المخذول وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم وَذَلِكَ أَن نور الدّين اجْتمع لَهُ من العساكر سِتَّة آلَاف فَارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد فَنَهَضَ بهم إِلَى الفرنج فِي الْموضع الْمَعْرُوف بإنب وهم فِي نَحْو أَربع مئة فَارس وَألف راجل فَقَتَلُوهُمْ وغنموهم وَوجد اللعين الْبُرْنُس مقدمهم صَرِيعًا بَين حماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأبطاله فَعرف وَقطع رَأسه وَحمل إِلَى نور الدّين وَكَانَ هَذَا اللعين من أبطال الفرنج الْمَشْهُورين بالفروسية وَشدَّة الْبَأْس وَقُوَّة الْحِيَل وَعظم الْخلقَة مَعَ اشتهار الهيبة وَكَثْرَة السطوة والتناهي فِي الشَّرّ وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر ثمَّ نزل نور الدّين فِي الْعَسْكَر على بَاب أنطاكية وَقد خلت من حماتها والذابين عَنْهَا وَلم يبْق فِيهَا غير أَهلهَا مَعَ كَثْرَة أعدادهم وحصانة بلدهم وترددت المرسلات بَينه وَبينهمْ فِي طلب التَّسْلِيم إِلَيْهِ وَإِيمَانهمْ وصيانة أَمْوَالهم فَوَقع الِاحْتِجَاج مِنْهُم بِأَن هَذَا أَمر لَا يُمكنهُم الدُّخُول فِيهِ إِلَّا بعد انْقِطَاع آمالهم من النَّاصِر لَهُم والمعين على من يقصدهم وحملوا مَا أمكنهم من التحف وَالْمَال واستمهلوا فأمهلوا ثمَّ رتب نور الدّين بعض الْعَسْكَر للإقامة عَلَيْهَا وَالْمَنْع لمن يصل إِلَيْهَا ونهض فِي بَاقِيَة الْعَسْكَر إِلَى نَاحيَة أفامية وَقد كَانَ رتب الْأَمِير صَلَاح الدّين فِي فريق وافر من الْعَسْكَر لمنازلتها ومضايقتها فالتمسوا الْأمان فأومنوا على أنفسهم وسلموا الْبَلَد فِي ثامن عشر ربيع الأول وانكفأ نور الدّين فِي عسكره إِلَى نَاحيَة أنطاكية وَقد انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر بنهوض الفرنج من نَاحيَة السَّاحِل إِلَى صوب أنطاكية لإنجاد من بهَا فاقتضت الْحَال مهادنة من فِي أنطاكية وموادعتهم وَتَقْرِير أَن يكون مَا قرب من الْأَعْمَال الحلبية لَهُ وَمَا قرب من أنطاكية لَهُم ورحل عَنْهُم إِلَى جِهَة غَيرهم بِحَيْثُ كَانَ قد ملك فِي هَذِه النّوبَة مِمَّا حول أنطاكية من الْحُصُون والقلاع والمعاقل وَغَيرهَا الْمَغَانِم الجمة وَفصل عَنهُ الْأَمِير مُجَاهِد الدّين بزان فِي الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي وَقد كَانَ لَهُ فِي هَذِه الْوَقْعَة وَلمن فِي جملَته الْبلَاء الْمَشْهُور وَلذكر المشكور لما هُوَ مَوْصُوف بِهِ من الشهامة والبسالة وإصابة الرَّأْي والمعرفة بمواقف الحروب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَقَالَ ابْن أَبى طي حمل أَسد الدّين على حَامِل صَلِيب الفرنج فَقتله وَقتل الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَجَمَاعَة من وُجُوه عسكره وَلم يقتل من الْمُسلمين من يؤبه لَهُ وَعَاد الْمُسلمُونَ بالغنائم وَالْأسَارَى وَكَانَ لأسد الدّين فِي هَذِه الْحَرْب الْيَد الْبَيْضَاء ومدحه بهَا بعض الشُّعَرَاء الحلبيين بقصيدة يَقُول فِيهَا (إِن كَانَ آل الفرنج أدركوا فلحا ... فِي يَوْم يغرا ونالوا منية الظفر) (فَفِي الخطيم خطمت الْكفْر منصلتا ... أَبَا المظفر بالصمصامة الذّكر) (نالوا بيغرا نهابا وانتهبت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر الأشر) (واستقودوا الْخَيل عريا واستقدت لنا ... قوامص الْكفْر فِي ذل وَفِي صغر) قَالَ وَحصل لأسد الدّين من هَذِه الكسرة سلَاح كثير وعدة أُسَارَى وخيول كَثِيرَة فأنفذ لِأَخِيهِ نجم الدّين مِنْهَا شَيْئا وَفِي هَذِه السّنة عظم أَمر أَسد الدّين وَقَالَ ابْن الْأَثِير سَار نور الدّين إِلَى حصن حارم وَهُوَ للفرنج فحصره وَخرب ربضه وَنهب سوَاده ثمَّ رَحل عَنهُ إِلَى حصن إنب فحصره فاجتمعت الفرنج مَعَ الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَسَارُوا إِلَيْهِ ليُرَحِّلُوه عَن إنب فَلم يرحل بل لَقِيَهُمْ وتصاف الْفَرِيقَانِ واقتتلوا وصبروا وَظهر من نور الدّين من الشجَاعَة وَالصَّبْر فِي الْحَرْب على حَدَاثَة سنه مَا تعجب مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 النَّاس وأجلت الْحَرْب عَن هزيمَة الفرنج وَقتل الْمُسلمُونَ مِنْهُم خلقا كثيرا وفيمن قتل الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية وَكَانَ عاتيا من عتاة الفرنج وَذَوي التَّقَدُّم فيهم وَالْملك وَلما قتل الْبُرْنُس خلف ابْنا صَغِيرا وَهُوَ بيمند فبقى مَعَ أمه بأنطاكية فَتزوّجت أمه بإبرنس آخر وَأقَام مَعهَا بأنطاكية يدبر الْجَيْش ويقودهم وَيُقَاتل لَهُم إِلَى أَن يكبر بيمند ثمَّ إِن نور الدّين غزا بلد الفرنج غَزْوَة أُخْرَى وَهَزَمَهُمْ وَقتل فيهم واسر وَكَانَ فِي الأسرى الْبُرْنُس الثَّانِي زوج أم بيمند فَلَمَّا أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أَبِيه وَتمكن مِنْهُ وَبَقِي بهَا إِلَى أَن أسره نور الدّين بحارم سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأكْثر الشُّعَرَاء مدح نور الدّين وتهنئته بِهَذَا الْفَتْح وَقتل الْبُرْنُس وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ القيسراني الشَّاعِر من قصيدة أنْشدهُ إِيَّاهَا بجسر الْحَدِيد الْفَاصِل بَين عمل حلب وَعمل أنطاكية أَولهَا (هذى العزائم لَا مَا تدعى القضب ... وَذي المكارم لَا مَا قَالَت الْكتب) (وَهَذِه الهمم اللاّتي مَتى خَطبت ... تعثرت خلفهَا الْأَشْعَار والخطب) (صافحت يَا ابْن عماد الدّين ذروتها ... براحة للمساعي دونهَا تَعب) (مَا زَالَ جدك ينبي كل شاهقة ... حَتَّى ابتنى قبَّة أوتادها الشهب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 (لله عزمك مَا أمضى وهمك مَا ... أقْصَى اتساعا بِمَا ضَاقَتْ بِهِ الحقب) (يَا ساهد الطّرف والأجفان هاجعة ... وثابت الْقلب والأحشاء تضطرب) (أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رُومِية الْكُبْرَى لَهَا يجب) (ضربت كبشهم مِنْهَا بقاصمة ... أودى بهَا الصلب وانحطت بهَا الصلب) (قل للطغاة وَإِن صمت مسامعها ... قولا لصُم القنا فِي ذكره أرب) (مَا يَوْم إنب وَالْأَيَّام دائلة ... من يَوْم يغرا بعيد لَا وَلَا كثب) (أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم اسْلَمْ الْجَهْل ظنا غره الْكَذِب) (غضِبت للدّين حَتَّى لم يفتك رضى ... وَكَانَ دين الْهدى مرضاته الْغَضَب) (طّهرت أَرض الأعادي من دِمَائِهِمْ ... طَهَارَة كل سيف عِنْدهَا جنب) (حَتَّى استطار شرار الزند قادحُه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب) (وَالْخَيْل من تَحت قتلاها تقر لَهَا ... قَوَائِم خانهن الركض والخبب) (وَالنَّقْع فَوق صقال الْبيض مُنْعَقد ... كَمَا اسْتَقل دُخان تَحْتَهُ لَهب) (وَالسيف هام على هاًم بمعركة ... لَا الْبيض ذُو ذمَّة فِيهَا وَلَا اليلب) (والنبل كالوبل هطال وَلَيْسَ لَهُ ... سوى القسي وأيد فَوْقهَا سحب) (وللظبي ظفر حلوٌ مذاقته ... كَأَنَّمَا الضَّرْب فِيمَا بَينهم ضرب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 (وللأسنة عَمَّا فِي صُدُورهمْ ... مصَادر أقلوب تِلْكَ أم قُلُب) (خانوا فخانت رماح الطعْن أَيْديهم ... فاستسلموا وَهِي لَا نبع وَلَا غرب) (كَذَاك من لم يُوقَ الله مهجته ... لَاقَى العدى والقنا فِي كَفه قصب) (كَانَت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يَا رب حائنة منجاتها العطب) (حَتَّى الطوارق كَانَت من طوارقهم ... ثارت عَلَيْهِم بهَا من تحتهَا النوب) (أَجْسَادهم فِي ثِيَاب من دِمَائِهِمْ ... مسلوبة وَكَأن الْقَوْم مَا سُلبوا) (أنباء ملحمةٍ لَو أَنَّهَا ذكرت ... فِيمَا مضى نسيت أَيَّامهَا الْعَرَب) (من كَانَ يَغْزُو بِلَاد الشّرك مكتسبا ... من الْمُلُوك فنور الدّين محتسب) (ذُو غرَّة مَا سمت وَاللَّيْل معتكر ... إِلَّا تَمَزَّقَ عَن شمس الضُّحَى الْحجب) (أَفعاله كاسمه فِي كل حَادِثَة ... وَوَجهه نَائِب عَن وَصفه الّلقب) (فِي كل يَوْم لفكرى من وقائعه ... شغل فَكل مديحي فِيهِ مقتضب) (من باتت الْأسد أسرى فِي سلاسله ... هَل يأسر الغُلْبَ إلاَّ من لَهُ الغَلَب) (فملكوا سلب الإبرنز قَاتله ... وَهل لَهُ غير أنطاكية سلب) (من للشقي بِمَا لاقت فوارسه ... وَإِن يسايرها من تَحْتَهُ قتب) (عجبت للصَّعْدة السمراء مثمرة ... بِرَأْسِهِ إِن إثمار القنا عجب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 سما عَلَيْهِم سمو المَاء أرهقهُ ... أنبوبُهُ فِي صَعُود أَصْلهَا صَبب) (مَا فَارَقت عذبات التَّاج مفرقه ... إلاّ وهامتهُ تَاج وَلَا عذب) (إِذا الْقَنَاة ابتغت فِي رَأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نَحره سَرَب) (كُنَّا نعد حمى أطرافنا ظفرا ... فملكتك الظبى مَا لَيْسَ يحْتَسب) (عَمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كَانَ تَسْلِيم هَذَا عِنْد ذَا جرب) (لم يبْق مِنْهُم سوى نبض بِلَا رَمق ... كَمَا التوَى بعد رَأس الْحَيَّة الذَّنب) (فانهض إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى بذى لجب ... يوليك أقْصَى المنى فالقدس مرتقب) (وائذن لموجك فِي تَطْهِير ساحله ... فَإِنَّمَا أَنْت بَحر لجه لجب) (يَا من أعَاد ثغور الشَّام ضاحكة ... من الظبي عَن ثغور زانها الشنب) (مَا زلت تلْحق عاصيها بطائعها ... حَتَّى أَقمت وأنطاكية حلب) (حللت من عقلهَا أَيدي معاقلها ... فاستجفلت وَإِلَى مِيثَاقك الْهَرَب) (وأيقنت أَنَّهَا تتلو مراكزها ... وَكَيف يثبت بَيت مَا لَهُ طُنُب) (أجريت من ثغر الْأَعْنَاق أَنْفسهَا ... جرى الجفوان امتراها بارح حصب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 (وَمَا ركزت القنا إِلَّا ومنك على ... جسر الْحَدِيد هزبرٌ غيله أشب) (فاسعد بِمَا نلته من كل صَالِحَة ... يأوى إِلَى جنَّة المأوى لَهَا حسب) (إِلَّا تكن أحد الأبدال فِي فلك التَّقْوَى ... فَلَا يتمارى أَنَّك القطب) (فَلَو تناسب أَمْلَاك السَّمَاء بهَا ... لَكَانَ بَيْنكُمَا من عفة نسب) (هَذَا وَهل كَانَ فِي الْإِسْلَام مكرمَة ... إِلَّا شهِدت وَعباد الْهوى غُيُب) وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى (أَلا لله دَرك أَي در ... صَرِيح جَاءَ بِالْكَرمِ الصَّرِيح) (وعسكرك الَّذِي استولى مشيحا ... على مَا بَين فامية وشيح) (ووقعتك الَّتِي نبت العوالي ... صوادر عَن قَتِيل أَو جريح) (بإنب يَوْم أبرزت المذاكى ... من النَّقْع الغزالة فِي مسوح) (غَدَاة كَأَنَّمَا العاصى احمرارا ... من الدَّم عِبْرَة الجفن القريح) (وَقد وافاك بالإبرنز حتف ... أتيح لَهُ من الْقدر المتيح) (قتلت أشحهم بِالنَّفسِ إِذْ لَا ... يجود بِنَفسِهِ غير الشحيح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 مَلَأت بهم ضرائحهم فأمسوا ... وَلَيْسَ سوى القشاعم من ضريح) (وعدت إِلَى ذرا حلب حميدا ... سمو الْبَدْر من بعد الجنوح) (فَإِن حَلِيَتْ بغرتك اللَّيَالِي ... فكم لِسَنَاك من زمن مليح) (رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بِحَيْثُ تريح من تَعب المريح) (فَأَنت وَإِن أرحت الْخَيل وقتا ... فهمك غير هم المستريح) وَقَالَ أَحْمد بن مُنِير يمدحه وَيذكر ظفره بالبرنس وَأَصْحَابه وَحمل رَأسه إِلَى حلب وانشده إِيَّاهَا أَيْضا بجسر الْحَدِيد (أقوى الضلال واقفرت عرصاته ... وَعلا الْهدى وتبلجت قسماته) (وانتاش دين مُحَمَّد محموده ... من بعد مَا عُلت دَمًا عبراته) (ردَّتْ على الْإِسْلَام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته) (أرسى قَوَاعِده وَمد عماده ... صعدا وشيد سُورَة سوراته) (وَأعَاد وَجه الْحق ابيض ناصعا ... إصلاته وَصلَاته وَصلَاته) (لما تواكل حزبه وتخاذلت ... أنصاره وتقاصرت خطواته) (رفعت لنُور الدّين نَار عَزِيمَة ... رجعت لَهَا عَن طبعها ظلماته) (ملك مجَالِس لهوه شداته ... ومشوقة بَين الصُّفُوف شذاته) (يغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إِن لذ حثحثة الكؤوس لداته) (ويروقه ثغر العدى قان دَمًا ... لَا الثغر يعبق فِي لماه لثاته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 (فصبوحه خمر الطلى وغبوقه ... نطف النُّفُوس تديرها نشواته) (فتح تعممت السَّمَاء بفخره ... وهفت على أَغْصَانهَا عذباته) (سبغت على الْإِسْلَام بيض حجوله ... واختال فِي أوضاحها جبهاته) (وانهل فَوق الأبطحين غمامه ... وسرت إِلَى سكنيهما نفحاته) (لله بلجة لَيْلَة مخضت بِهِ ... وَالْيَوْم دبج وشيه ساعاته) (حط القوامص فِيهِ بعد قماصها ... ضرب يصلصل فِي الطلي صعقاته) (نبذوا السِّلَاح لضيغم عاداته ... فرس الفوارس والقنا غاباته) (لمجرب عمريه غضباته ... لله معتصمية غَزَوَاته) (تجنا لضيق صفاده أسراؤه ... وَتفِيض مَاء شؤونها نغماته) (بَين الْجبَال خواضعا أعناقها ... كالذود نابت عَن براه حداته) (نشرت على حلب عُقُود بنودهم ... حلل الرّبيع تناسقت زهراته) (روض جناه لَهَا مكر جياده ... واستوأرت حمالَة حملاته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 (متساندين على الرِّجَال كَمَا انتشى ... شرْب أمالت هامه قهواته) (لم تُنبت الآجام قبل رماحه ... شَجرا أصولُ فروعه ثمراته) (فليحمد الْإِسْلَام مَا جدحت لَهُ ... شربات غرس هَذِه مجناته) (وَسَقَى صدى ذَاك الحيا صوب الحيا ... خير الثرى مَا كنت أَنْت نَبَاته) (نصب السرير وَمَال عَنهُ ومهدت ... لمقر منصبك السرى سراته) (مَا ضرّ هَذَا الْبَدْر وَهُوَ محلق ... أَن الْكَوَاكِب فِي الذرا ضراته) (فِي كل يَوْم تستطيل قناته ... فَوق السَّمَاء وتعتلي درجاته) (وتظل ترقم فِي الضُّحَى آثاره ... مجدا وَالسّنة الزَّمَان رُوَاته) (أَيْن الألى ملؤوا الطروس زخارفا ... عَن نزف بَحر هَذِه قطراته) (عذقوا بأعناق العواطل مَا لَهُ ... من جَوْهَر فأتتهم فذاته) (لَو فصلوا سمطا بِبَعْض فتوحه ... سخرت بِمَا افتعلوا لَهُ فعلاته) (يُمسى قنانيه بَنَات قيونه ... فَوق القوانس والقنا قيناته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 (صلتان من دون الْمُلُوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته) (قعدت بهم عَن خطوه هماتهم ... وسمت بِهِ عَن قطوهم هماته) (سكنوا مسجّفة الحجال وأسكنت ... زجل الرِّجَال مَعَ السها عزماته) (لَو لَاحَ للطائي غرَّة فَتحه ... باءت بِحمْل تأوه باءاته) (أَو هَب للطبري طيب نسيمه ... لاحتش من تَارِيخه حشواته) (صدم الصَّلِيب على صلابة عوده ... فتفرقت أَيدي سبا خشباته) (وَسَقَى الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... بالروج ممقر مَا جنت غدراته) (فانقاد فِي خطم الْمنية أَنفه ... يَوْم الخطيم وأقصرت نزواته) (وَمضى يؤنب تَحت إنب همة ... أمست زوافر غيها زفراته) (أَسد تبوأ كالغريف فجأته ... فتبوأت طرف السنان شواته) (دون النُّجُوم مغمضا ولطالما ... أغضت وَقد كرّت لَهَا لحظاته) (فجلوته تبْكي الأصادق تَحْتَهُ ... بِدَم إِذا ضحِكت لَهُ شماته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 (تمشي الْقَنَاة بِرَأْسِهِ وَهُوَ الَّذِي ... نظمت مدَار النيرين قناته) (لَو عانق العيوق يَوْم رفعته ... لأرَاك شَاهد خفضه إخباته) (مَا انْقَادَ قبلك أَنفه بخزامه ... كلا وَلَا هَمت لَهَا هدراته) (طيان خلف السَّرْح طَال زئيره ... نطقت سُطاك لَهُ فطال صُماته) (لما بدا مسود رايك فَوْقه ... مبيض نصرك نكست راياته) (وَرَأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين فقلصت كراته) (ولى وَقد شربت ظباك كماته ... تَحت العجاج واسلمته حماته) (ترك الْكَنَائِس والكناس لناهب ... بالبيض ينهب مَا حواه عفاته) (لغلاب أروع لَا يُميت عِدَاته ... دَاء المطال وَلَا تعيش عُداتُه) (للوحش ملقى بالعرا يقتاته ... مَا كَانَ قبل بصيده يقتاته) (الْيَوْم ملّكك القراع قلاعه ... متسنما مَا استشرفت شرفاته) (وَغدا تحل لَك الحلائل أسْهم ... متوزعات بَينهُنَّ بَنَاته) (أوطأت أَطْرَاف السّنابك هامه ... فتقاذفت بعنيقها قذفاته) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 (لَا زَالَ هَذَا الْملك يشمخ شَأْنه ... أبدا وتكفت فِي الحضيض شناته) (مَا أَخْطَأتك يَد الزَّمَان فدونه ... من شَاءَ فلتسرع إِلَيْهِ هناته) (أَنْت الَّذِي تحلي الْحَيَاة حَيَاته ... وتهب أَرْوَاح القصيد هباته) فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا سَار نور الدّين إِلَى حصن أفامية وَهُوَ للفرنج أَيْضا وَبَينه وَبَين مَدِينَة حماة مرحلة وَهُوَ حصن منيع على تل مُرْتَفع عَال من أحصن القلاع وأمنعها وَكَانَ من بِهِ من الفرنج يغيرون على أَعمال حماة وشيزر وبنهبونها فَأهل تِلْكَ الْأَعْمَال مَعَهم تَحت الذل وَالصغَار فَسَار نور الدّين إِلَيْهِ وحصره وضيق عَلَيْهِ وَمنع من بِهِ الْقَرار لَيْلًا وَنَهَارًا وتابع عَلَيْهِم الْقِتَال ليمنعوا الاسْتِرَاحَة فاجتمعت الفرنج من سَائِر بلادها وَسَارُوا نَحوه ليزحزحوه عَنْهَا فَلم يصلوا إِلَيْهِ إِلَّا وَقد ملك الْحصن وملأه ذخائر من طَعَام وَمَال وَسلَاح وَرِجَال وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَلَمَّا بلغه قرب الفرنج سَار نحوهم فحين رَأَوْا جده فِي لقائهم رجعُوا واجتمعوا ببلادهم وَكَانَ قصاراهم أَن صالحوه على مَا أَخذ ومدحه الشُّعَرَاء واكثروا مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير قَالَ (أَسْنَى الممالك مَا أطلت منارها ... وَجعلت مرهفة الشفار دثارها) (وأحق من ملك الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... رؤف تكنف عدله أقطارها) (من عَم سَام الْخَافِقين وحامها ... مننا وَزَاد هوى فخصّ نزارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 (مضرية طبعت مضاربه وَإِن ... عدته ذرْوَة فَارس أسوارها) (آل الرّعية وَهِي تجْهَل آلها ... وتعاف نطفتها وَتكره دارها) (فَأقر ضجعتها وَأنْبت نيها ... واساغ جرعتها واثبت زارها) (ملك أَبوهُ سما لَهَا فسما بهَا ... واجارها فعلت سُهيلا جارها) (نهج السَّبِيل لَهُ فَأَوْضَعَ خَلفه ... وشدا لَهُ يمن الْعلَا فأنارها) (أنشرت يَا مَحْمُود مِلَّة أَحْمد ... من بعد مَا شَمل البلى أبشارها) (إِن جانأت عدل السنان قوامها ... أَو نأنأت كَانَ الحسام جبارها) (عقلت مَعَ العصم العواصم مذ غَدَتْ ... هذي العزائم أسرها وإسارها) (وتكفلت لَك ضُمر أنضيتها ... فِي صونها أَن تسترد ضمارها) (كلأت هواملها ورد مطارها ... مَا أريشته وثقفت آطاها) (كم حاولت من كفتيها غرَّة ... غلب الْأسود فقلمت أظفارها) (أَنى وحامي سرحها من لَو سمت ... للفلك بَسْطته أحَال مدارها) (فِي كل يَوْم من فتوحك سُورَة ... للدّين يحمل سَفَره أسفارها) (ومطيلة قصر المنابر إِن غَدا الخطباء ... تنثر فَوْقهَا تقصارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 (همم تحجلت الْمُلُوك وَرَاءَهَا ... بِدَم العثار وَمَا اقتفت آثارها) (وعزائم تستوئر الآساد عَن ... نهش الفرائس إِن أحس أوارها) (أبدا تقصر طول مشرفة الذرا ... بالمشرفية أَو تطيل قصارها) (فغرت أفامية فَمَا فهتمته ... كوبار أجنادها الإران بوارها) (أرهفت رَأْيك فَوق رايك تحتهَا ... فحططت من شعفاتها أعَفارها) (أدْركْت ثأرك فِي الْبُغَاة وَكنت يَا ... مُخْتَار أمة احْمَد مختارها) (عَارِية الزَّمن الْمُعير سما لَهَا ... مِنْك المغير فاسترد معارها) (زأر الهزبر فقيدت عاناتها ... عصب الضلال وَأسْلمت أعيارها) (ضاءت نجومك فَوْقهَا ولربما ... باتت تنافثها النُّجُوم سرارها) (أمست مَعَ الشعرى العبور وأصبحت ... شعراء تستفلي الفحول شوارها) (وَلكم فرعت بمقرباتك مثلهَا ... تلعا وقلدت الكماة عذارها) (حَتَّى إِذا اشتملتك أشرق سورها عزا وحلاها سناك سوارها) (خر الصَّلِيب وَقد علت نغماتها ... واستوبلت صلواته تكرارها) (لما وعاها سمع أنطاكية ... سرت الْوَقار وكشفت أستارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 (فاليوم أضحت تستذم مجيرها ... من جوره وَغدا تذم جوارها) (علمت بِأَن ستذوق جرعة أُخْتهَا ... إِن زر أطواق القباء وزارها) (مَاض إِذا قرع الركاب لبلدة ... أَلْقَت لَهُ قبل القراع إزَارهَا) (وَإِذا مجانقه ركعن لصعبة الملقاة ... أَسجد كالجدير جدارها) (مَلأ الْبِلَاد مواهبا ومهابة ... حَتَّى استرقت آيُهُ أحرارها) (يذكى الْعُيُون إِذا أَقَامَ لعونها ... أبدا ويفضي بالظبي أبكارها) (أومى إِلَى رمم الندى فأعاشها ... وهمى لسابقة المنى فأزارها) (نبوىّ تَشْبِيه الْفتُوح كانما ... أنصاره رجعت لَهُ أنصارها) (أَحْيَا لصرح سلامها سلمانها ... وأماس تَحت عمارها عمارها) (إِن سَار سَار وَقد تقدم جَيْشه ... رجف يقصع فِي اللها ذعارها) (أَو حل حل حبا القروم بهيبة ... سَلَب البدور بدارها أبدارها) (وَإِذا الْمُلُوك تنافسوا درج الْعلَا ... أربى بِنَفس أفرعته خِيَارهَا) (وَنهى إِذا هيضت تدل بخيرها ... وسطى تُذل إِذا عنت جبارها) (تهدى لمحمود السجايا كاسمه ... لَو لز فاعلة بهَا لأبارها) (الْفَاعِل الفعلات ينظم فِي الدجى ... بَين النُّجُوم حسودها أسمارها) (ساع سعى والسابقات وَرَاءه ... عنقًا فعصفر منتماه عثارها) (كالمضرحي إِذا يصرصر رابئا ... خرس البغاث وَهَاجَرت أوكارها) (عرفت لنُور الدّين نور وقائع ... تغشى إِذا اكتحلت بِهِ أبصارها) (مَشْهُورَة سعطت وَقد حاولتها الأقدار ... عَجزا أَن تشق غبارها) (لله وَجهك وَالْوُجُوه كَأَنَّمَا ... حطت بهَا أوقار هيت قارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 (وَالْبيض تخنس فِي الصُّدُور صدورها ... هبرا وتكتحل الشفور شفارها) (وَالْخَيْل تدلج تَحت أرشية القنا ... جذب المواتح عاورت آبارها) (فَبَقيت تستجلي الْفتُوح عرائسا ... متمليا صدر الْعلَا وصدارها) (فِي دولة للنصر فَوق لوائها ... زبر تنمق فِي الطلى أسطارها) (فالدين موماة رفعت بهَا الصوى ... وحديقة ضمنت يداك إبارها) وَله فِيهِ من قصيدة أُخْرَى (خنس الثعالب حِين زمجر مصحر ... مَلأ الْبِلَاد هماهما وزئيرا) (تركُوا مشاجرة الرماح لحاذق ... جعلت مخافته الْقُصُور قبورا) (لربيب حَرْب لم تزل فعلاته ... كالراء يلْزم لَفظهَا التكريرا) (أَسد إِذا مَا عَاد من ظفر بمفترس ... أحد لمثله أظفورا) (يتناذر الْأَعْدَاء مِنْهُ سطوة ... ملْء الزَّمَان تغيظا وزفيرا) (عرفُوا لنُور الدّين وَقع وقائع ... وَفِي بهَا الْإِسْلَام أمس نذورا) (أبدا يظافرك الْقَضَاء على الَّذِي ... تبغي فترجع ظافرا منصورا) (قوضت بالنقع الظهائر ظلمَة ... وقفلت فاشتعل الدياجر نورا) (وعَلى العواصم من دفاعك عَاصِم ... ينسي الرشيد وينشر المنصورا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فصل فِي وَفَاة معِين الدّين أنر بِدِمَشْق وَمَا كَانَ من الرئيس ابْن الصُّوفِي فِي هَذِه السّنة قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي فصل معِين الدّين من عسكره بحَوْرَان وَوصل إِلَى دمشق فِي أَوَاخِر ربيع الأول لأمر أوجب ذَلِك ودعا إِلَيْهِ وأمعن فِي الاكل فَلحقه عقيب ذَلِك انطلاق تَمَادى بِهِ وَحمله اجْتِهَاده فِيمَا يدبره على الْعود إِلَى عسكره بِنَاحِيَة حوران وَهُوَ على هَذِه الصّفة من الانطلاق وَقد زَاد بِهِ وضعفت قوته وتولد مَعَه مرض فِي الكبد فَأوجب الْحَال عوده إِلَى دمشق فِي محفة لمداواته فوصل وَقضى نحبه فِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَدفن فِي إيوَان الدَّار الأتابكية الَّتِى كَانَ يسكنهَا ثمَّ نقل بعد ذَلِك إِلَى الْمدرسَة الَّتِى عمرها قلت قَبره فِي قبَّة بمقابر العوينة شمَالي دَار بطيخ الْآن واسْمه مَكْتُوب على بَابهَا فَلَعَلَّهُ نقل من ثمَّ إِلَيْهَا وَفِيه يَقُول الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ وَكتب إِلَيْهِ من مصر لمّا لقى الفرنج فِي أَرض بصرى وصرخد مَعَ نور الدّين وَقد تقدم ذَلِك كتب إِلَيْهِ قصيدة يَقُول فِيهَا (كل يَوْم فتح مُبين وَنصر ... واعتلاء على الأعادي وقهر) (صدق النَّعْت فِيك أَنْت معِين الدّين ... إِن النعوت فأل وزجر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 (أَنْت سيف الْإِسْلَام حَقًا فَلَا فل ... غراريك ايها السّيفُ دهر) (لم تَزل تُضمر الْجِهَاد مُسِرَّا ... ثمَّ أعلنت حِين أمكن جهر) (كل ذخر الْمُلُوك يفنى وذخراك ... هما الباقيان أجر وشكر) قَالَ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَجَب قرئَ المنشور المنشأ عَن مجير الدّين بعد الصَّلَاة على الْمِنْبَر بِإِبْطَال الفسة المستخرجة من الرّعية وَإِزَالَة حكمهَا وتعفية رسمها وَإِبْطَال دَار الضَّرْب فَكثر دُعَاء النَّاس لَهُ وشكرهم قَالَ واستوحش الرئيس مؤيد الدولة من مجير الدّين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سُفَهَاء الْأَحْدَاث والغوغاء وَحَملَة السِّلَاح من الجهلة الْعَوام وترتيبهم حول دَاره وَدَار أَخِيه زين الدولة حيدرة للاحتماء بهم من مَكْرُوه يتم عَلَيْهِمَا وَذَلِكَ فِي ثَالِث عشر رَجَب وَوَقعت المراسلات من مجير الدّين بِمَا يسكنهَا ويطيب أَنفسهمَا فَمَا وثقا بذلك وجدا فِي الْجمع والاحتشاد من الْعَوام وَبَعض الأجناد وأثارا الْفِتْنَة فقصدوا بَاب السجْن وكسروا أغلاقه وأطلقوا من فِيهِ واستنفروا جمَاعَة من أهل الشاغور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَغَيرهم وقصدوا الْبَاب الشَّرْقِي وفعلوا مثل ذَلِك وحصلوا فِي جمع كثير وامتلأت بهم الْأَزِقَّة والدروب فحين عرف مجير الدّين وَأَصْحَابه هَذِه الصُّورَة اجْتَمعُوا فِي القلعة بِالسِّلَاحِ الشاك وَأخرج مَا فِي خزائنه من السِّلَاح وَالْعدَد وَفرقت على العسكرية وعزموا على الزَّحْف على جمع الأوباش والإيقاع بهم والنكاية فيهم فَسَأَلَ جمَاعَة من المقدمين التمهل فِي هَذَا الْأَمر وَترك العجلة بِحَيْثُ تحقن الدِّمَاء وَيسلم الْبَلَد من النهب والحريق وألحوا عَلَيْهِ إِلَى أَن أجَاب سُؤَالهمْ وَوَقعت المراسلة والتلطف فِي إصْلَاح ذَات الْبَين فَاشْترط الرئيس وَأَخُوهُ شُرُوطًا أجيبا إِلَى بَعْضهَا واعرض عَن بعض بِحَيْثُ يكون ملازما لداره وَيكون وَلَده وَولد أَخِيه فِي الْخدمَة فِي الدِّيوَان وَلَا يركب إِلَى القلعة إِلَّا مستدعي إِلَيْهَا وتقررت الْحَال على ذَلِك وسكنت الدهماء ثمَّ حدث بعد هَذَا التَّقْرِير عود الْحَال إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من العناد وإثارة الْفساد وَجمع الْجمع الْكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وَاتَّفَقُوا على الزَّحْف إِلَى القلعة وَحصر من بهَا وَطلب من عين عَلَيْهِ من الْأَعْدَاء الْأَعْيَان فِي أَوَاخِر رَجَب ونشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ وجرح وَقتل بَينهم نفر يسير وَعَاد كل فريق مِنْهُم إِلَى مَكَانَهُ وَوَافَقَ ذَلِك هروب السلار زين الدّين إِسْمَاعِيل الشّحْنَة وأخيه إِلَى نَاحيَة بعلبك وَلم تزل الْفِتْنَة ثائرة والمحاربة مُتَّصِلَة إِلَى أَن اقْتَضَت الصُّورَة إبعاد من التمس إبعاده من خَواص مجير الدّين وسكنت الْفِتْنَة وأطلقت أَيدي النهابة فِي دَار السلارين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وأصحابهما وعمهما النهب والخراب ودعت الضَّرُورَة إِلَى تطييب نفس الرئيس وأخيه وَالْخلْع عَلَيْهِمَا وإعادة الرئيس إِلَى الوزارة والرياسة بِحَيْثُ لَا يكون لَهُ فِي ذَلِك معترض وَلَا مشارك قلت وَفِي هَذِه الْفِتْنَة يَقُول العرقلة (ذَر الأتراك والعربا ... وَكن فِي حزب من غلبا) (بجلق أَصبَحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا) (لَئِن تمت فوا أسفا ... وَلم تخرب فوا عجبا) وَقَالَ فِي الرئيس لما زحف إِلَى القلعة (زد علوا فِي الْمجد يَا ابْن عَليّ ... هَكَذَا من أَرَادَ أَن يتعالى) (قد حوى الدّين يَا مؤيده مِنْك ... هزبرا وديمة وهلالا) (وغدت جلق تناديك عجبا هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا) (جبتها فِي الظلام خيلا ورجلا ... وحميت النُّفُوس والأموالا) (لن تبالى من بعْدهَا بعدوّ ... إِنَّمَا ذَاك كَانَ قطعا فزالا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 (قد بلغت المُرَاد من كل ضد ... وَكفى الله الْمُؤمِنِينَ الْقِتَاَلا) قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وفيهَا ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بوفاة الْمُسْتَخْلف بهَا الملقب بِالْحَافِظِ واسْمه عبد الْمجِيد بن الْأَمِير أبي الْقَاسِم بن الْمُسْتَنْصر فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة وَولى الْأَمر بعده وَلَده الْأَصْغَر أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل ولقب بالظافر وَولي الوزارة أَمِير الجيوش أَبُو الْفَتْح بن مصال المغربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فصل فِي وَفَاة سيف الدّين غَازِي بن زنكي صَاحب الْموصل وَهُوَ أَخُو نور الدّين الْأَكْبَر قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ أتابك الشَّهِيد يَعْنِي زنكي ملك دَارا وَبقيت بِيَدِهِ إِلَى أَن قتل فَأَخذهَا صَاحب ماردين ثمَّ سَار إِلَيْهَا سيف الدّين بن الشَّهِيد فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين فحاصرها وملكها وَاسْتولى على كثير من بلد ماردين بِسَبَبِهَا ثمَّ حصر ماردين عَازِمًا على أَن، يدْخل ديار بكر ويستعيد مَا اخذ من الْبِلَاد بعد قتل وَالِده فَتفرق الْعَسْكَر فِي بَلَدهَا ينهبون ويخربون فَقَالَ صَاحب ماردين كُنَّا نشكو من أتابك وَأَيْنَ أَيَّامه فَلَقَد كَانَت أعياداً قد حَصَرَنا غير مرّة فَلم يَتَعَدَّ هُوَ وَعَسْكَره حَاصِل السُّلْطَان وَلَا أخذُوا كفا من التِّبْن بِغَيْر ثمن (رُب دهرٍ بَكَيْت منهُ فَلَمَّا ... صِرْتُ فِي غيرِه بَكَيْت عَلَيْهِ) ثمَّ إِنَّه راسل سيف الدّين وَصَالَحَهُ على مَا أَرَادَ وزوجه ابْنَته الخاتون ورحل سيف الدّين عَن ماردين وَعَاد إِلَى الْموصل وجهزت خاتون وسيرت إِلَيْهِ فوصلت إِلَى الْموصل وَهُوَ مَرِيض فَتوفي وَلم يدْخل بهَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ عمره نَحْو أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل وَخلف ولدا ذكرا أَخذه نور الدّين مَحْمُود عَمه فرباه فَأحْسن تَرْبِيَته وزوجه ابْنة عَمه قطب الدّين مودود فَلم تطل أَيَّامه وأدركه أَجله فِي عنفوان شبابه فَتوفي وانقرض عقب سيف الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَكَانَ كَرِيمًا شجاعا ذَا عزم وحزم وَهُوَ أول من حمل على رَأسه سنجق من أَصْحَاب الْأَطْرَاف فَإِنَّهُ لم يكن فيهم من يَفْعَله لأجل السلاطين السلجوقية وَهُوَ أول من أَمر عسكره أَلا يركب أحدهم إِلَّا وَالسيف فِي وَسطه فَلَمَّا أَمر هُوَ بذلك اقْتدى بِهِ غَيره من أَصْحَاب الْأَطْرَاف وَبنى بالموصل الْمدرسَة الأتابكية العتيقة وَهِي من أحسن الْمدَارِس وأوسعها وَجعلهَا وَقفا على الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة نِصْفَيْنِ وَبنى رِبَاط الصُّوفِيَّة بالموصل أَيْضا وَهُوَ الرِّبَاط المجاور لباب المشرعة ووقف عَلَيْهِمَا الْوُقُوف الْكَثِيرَة وَكَانَ كَرِيمًا قَصده شهَاب الدّين حيص بيص وامتدحه بقصيدته الْمَشْهُورَة وَهِي من جيد شعره فَأَجَازَهُ عَنْهَا ألف دِينَار أَمِيري سوى الْإِقَامَة والتعهد مُدَّة مقَامه وَسوى الْخلْع وَالثيَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قلت أول تِلْكَ القصيدة (إلاَمَ يراك الْمجد فِي زِيّ شَاعِر ... ) يَقُول فِي آخرهَا (أتابك إِن سُميت فِي المهد غازيا ... فسابقه مَعْدُودَة فِي البشائر) (وفيت بهَا وَالدّين قد مَال روقه ... وصدقتها وَالْكفْر بَادِي الشعائر) وعزى أَبُو الْحُسَيْن أحمدُ بن مُنِير نور الدّين بأَخيه بقصيدة تقدم بَعْضهَا أَولهَا (هُوَ الْجد بز التَّمام البدورا ... ) يَقُول فِيهَا (شوى كل مَا جنت الحادثات ... مَا كنت ظلا علينا قريرا) (أسأن وَأحسن عُكَن الْهلَال ... وملأننا مِنْك بَدْرًا منيرا) (إِذا ثبج الْبَحْر أخطأنه ... فَلَا غرْو أَن ينتشفن الغديرا) (واصغر بفقداننا الذاهبين ... مَا عِشْت تأتال ملكا كَبِيرا) (وَمَا أغمد الدَّهْر ذَاك الحسام ... مَا سل حدَّاك عضْبا بتورا) (قسيمُ عُلاك وَنعم القسيم ... أَخ ساف نزرا وَأعْطى كثيرا) (وَكَانَ نظيرك غَار الزَّمَان ... من أَن يرى لَك فِيهِ نظيرا) (فدتك نفوس بك استوطنت ... من الْأَمْن نورا وَقد كُنً بُورا) (بقيت مُعزًّا من الهالكين ... تُوقّى الردى وَتوفى الأجورا) (وَغَيْرك يمهد بسط العزاء ... ويولي المسلين سمعا وقورا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 (وَمَا نقص الدَّهْر أعدادكم ... إِذا شف قطرا وَأبقى بُحُورا) (وَلَو أنصف الْمجد مَوْتَاكُم ... لَخَطّ لَهُم فِي السَّمَاء القُبُورا) (حياتُك أحيت رَمِيم الرّجاء ... وأمطت من الْجُود ظهرا ظهيرا) وللقيسراني قصيدة مِنْهَا (مَا أطرق الجو حَتَّى اشرق الْأُفق ... إِن أغمد السَّيْف فالصَّمصام يأتلق) (دون الأسى مِنْك نور الدّين فِي حلب ... مملك ينجلى عَن وَجهه الغسق) (كُنْتَ الشَّقِيق الشفيق الْغَيْب حِين ثوى ... أراق مَاء الْكرَى من جفنك الأرق) (تلقى الأسى من لِبَاس الصبْر فِي جنن ... حَصِينَة تحتهَا الأحشاء تحترق) (وَمُدَّة الْأَجَل المحتوم إِن خفيت ... فَإِن أيامنا من دونهَا طرق) (وَإِنَّمَا نَحن فِي مضمار حلبتها ... خيل إِلَى غَايَة الْأَعْمَار تسْتبِق) (شأو إِذا ابتدر الأقوام غَايَته ... كَانَ الْمُؤخر فِيهَا من لَهُ السَّبق) (إِن كَانَ صنوك هَذَا قد ثوى فذوى ... فَفِي مغارسك الأثمار وَالْوَرق) (أَو أَصبَحت بعده الْأَهْوَاء نافرة ... أيدى سبا فعلى علياك تّتفق) (مَا غَابَ من غَابَ عَن آفَاق مطلعه ... إلاَّ لِيْفترَّ عَن أنوارك الْأُفق) (مَا دَامَ شمسك فِينَا غير آفلةٍ ... فالدين مُنْتَظم وَالْملك متسق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما توفى سيف الدّين غَازِي كَانَ أَخُوهُ قطب الدّين مودود بالموصل فاتفقت كلمة جمال الدّين وزين الدّين على تَوليته وتمليكه طلبا للسلامة مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لين الْجَانِب حسن الْأَخْلَاق كثير الْحلم كريم الطباع فأحضروه من دَاره وحلفوه لَهُم وحلفوا لَهُ وَنزل بدار المملكة وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والأجناد وَاسْتقر فِي الْملك وأطاعه جَمِيع مَا كَانَ لِأَخِيهِ سيف الدّين لِأَن الْمرجع كَانَ فِي جَمِيع المملكة إِلَى جمال الدّين وزين الدّين وَلما ملك وَاسْتقر فِي الْملك تزوج امْرَأَة أَخِيه الَّتِي مَاتَ وَلم يدْخل بهَا الخاتون ابْنة حسام الدّين تمرتاش صَاحب مادرين فَولدت لقطب الدّين أَوْلَاده الَّذين ملكوا الْموصل بعده على مَا سَنذكرُهُ وَلم يملكهَا من أَوْلَاد قطب الدّين أحد غير أَوْلَادهَا قَالَ وَكَانَت هَذِه الخاتون يحل لَهَا ان تضع خمارها عِنْد خَمْسَة عشر ملكا من آبائها وأجدادها وإخوتها وَبني إخوتها وأزواجها وَأَوْلَادهَا وَأَوْلَاد أَوْلَادهَا ثمَّ ذكرهم ابْن الْأَثِير فِي كِتَابه وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَنَّهَا أشبهت فِي ذَلِك فَاطِمَة بنت عبد الْملك بن مَرْوَان زوج عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَهَا أَن تضع خمارها عِنْد ثَلَاثَة عشر خَليفَة وهم من مُعَاوِيَة رَضِي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عَنهُ إِلَى آخر خلفاء بني أُميَّة سوى آخِرهم وَهُوَ مَرْوَان بن مُحَمَّد فَإِنَّهُ ابْن عَم لَهَا لَيْسَ بِمحرم وَالْبَاقُونَ محارم لَهَا وَمَا تمّ لَهُ ذَلِك إِلَّا بعد ذكره أَن أمهَا عَاتِكَة بنت يزِيد بن معلوية فمعاوية جد أمهَا وَيزِيد جدها لأمها وَمُعَاوِيَة بن يزِيد خالها ومروان جدها لأَبِيهَا لبيها وَعبد الْملك أَبوهَا والوليد وَسليمَان وَهِشَام وَيزِيد إخوتها وَعمر بن عبد الْعَزِيز زَوجهَا والوليد بن يزِيد وَيزِيد بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد أَوْلَاد أخويها وَهَؤُلَاء كلهم خلفاء وعدتهم ثَلَاثَة عشر قلت وَهَذَا كُله مَبْنِيّ على أصل فِيهِ خلل وَهُوَ أَن فَاطِمَة بنت عبد الْملك لَيست أمهَا عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة بل أمهَا امْرَأَة مخزوميّة على مَا بَيناهُ فِي ترجمتها فِي = تَارِيخ دمشق = وَلَكِن الصَّوَاب فِي ذَلِك أَن يُقَال كَانَ لفاطمة إِن تضع خمارها عِنْد عشرَة من الْخُلَفَاء وهم مَرْوَان بن الحكم ونسله سوى مَرْوَان بن مُحَمَّد وَأما عَاتِكَة فالجميع محرم لَهَا سوى عمر بن عبد الْعَزِيز ومروان بن مُحَمَّد بَقِي اثْنَا عشر خَليفَة كلهم محارم لَهَا مُعَاوِيَة جدها وَيزِيد أَبوهَا وَمُعَاوِيَة بن يزِيد أَخُوهَا ومروان حموها وَعبد الْملك زَوجهَا والوليد وَسليمَان وَهِشَام أَوْلَاد زَوجهَا وَيزِيد بن عبد الملك ابْنهَا والوليد بن يزِيد ابْن ابْنهَا وَيزِيد بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد ابْنا ابْن زَوجهَا وَلَو أضيف إِلَى ذَلِك الْمُلُوك من محارم عَاتِكَة أَو فَاطِمَة كالإخوة والأعمام والأخوال وَبني الْإِخْوَة لتضاعف الْعدَد كخالد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة أخي عَاتِكَة وَعبد الْعَزِيز بن مَرْوَان عَم فَاطِمَة ومسلمة وَعبد الله ابْني عبد الْملك هما أخوا فَاطِمَة وربيبا عَاتِكَة وَعمر بن عبد الْوَلِيد بن عبد الْملك وَغَيرهم وَذَلِكَ ظَاهر لمن عرف أَنْسَاب بني أُميَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَمَا ذكره ابْن الْأَثِير من أَمر بنت حسام الدّين فسِتُّ الشَّام بنت أَيُّوب أَكثر مِنْهَا محارم من الْمُلُوك يجْتَمع لَهَا من ذَلِك اكثر من ثَلَاثِينَ ملكا من إخوتها الْأَرْبَعَة الْمُعظم وَصَلَاح الدّين والعادل وَسيف الْإِسْلَام وَمن أَوْلَادهم وَأَوْلَاد أَوْلَادهم وَأَوْلَاد أَخِيهَا الْأَكْبَر شاهنشاه بن أَيُّوب تَقِيّ الدّين وَذريته أَصْحَاب حماة وفرخشاه وَابْنه الأمجد صَاحب بعلبك فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما ملك قطب الدّين الْموصل والبلاد الجزرية كَانَ أَخُوهُ نور الدّين بحلب وَهُوَ أكبر من قطب الدّين فكاتبه بعض الْأُمَرَاء وطلبوه إِلَيْهِم مِنْهُم الْأَمِير الْمُقدم وَالِد شمس الدّين بن الْمُقدم وَهُوَ حِينَئِذٍ دزدار سنجار فَسَار نور الدّين جَرِيدَة فِي سبعين فَارِسًا من أكَابِر دولته مِنْهُم أَسد الدّين شيركوه ومجد الدّين أَبُو بكر بن الداية وَغَيرهمَا فوصلوا إِلَى ماكِسِين فِي سِتَّة أنفس فِي يَوْم شَدِيد الْمَطَر وَعَلَيْهِم اللبابيد فَلم يعرفهُمْ الَّذين بِالْبَابِ وَأَرْسلُوا إِلَى الشّحْنَة واخبروه بوصول نفر من الأجناد وَكَأَنَّهُم تركمان فَلم يستتم القاصد كَلَامه حَتَّى وصل نور الدّين فحين رَآهُ الشّحْنَة قبّل يَده وَخرج عَن الدَّار فنزلها نور الدّين حَتَّى لحق بِهِ أَصْحَابه وَسَار مجدا إِلَى سنجار فوصلها وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا نفر يسير فَنزل بِظَاهِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الْبَلَد وَألقى نَفسه على محفورة صَغِيرَة من شدّة تَعبه وَأرْسل إِلَى الْمُقدم بالقلعة يعرفهُ وُصُوله وَكَانَ الْمُقدم قد استُدعى من الْموصل لِأَن خَبره مَعَ نور الدّين بلغ من بهَا فأرسلوا إِلَيْهِ فتوقف عدَّة أَيَّام فَلم يصل نور الدّين فَسَار إِلَى الْموصل وَترك ابْنه شمس الدّين بسنجار وَقَالَ لَهُ أَنا أتأخر فِي الطَّرِيق فَإِن وصل نور الدّين فَأرْسل من يعلمني فَلَمَّا فَارق سنجار وصل نور الدّين فَلَمَّا علم شمس الدّين بوصوله أرسل قَاصِدا إِلَى أَبِيه بالْخبر وأنهى الْحَال إِلَى نور الدّين فخاف فَوَات الْأَمر وَوصل القاصد الَّذِي سيره ابْن الْمُقدم إِلَى أَبِيه فأدركه بتل يعفر فَعَاد إِلَى سنجار وَسلمهَا إِلَى نور الدّين وَكَاتب فَخر الدّين قرا أرسلان بن دَاوُد صَاحب الْحصن يستنجده وبذل لَهُ قلعة الْهَيْثَم فَسَار إِلَيْهِ بجنده فَلَمَّا سمع قطب الدّين الْخَبَر جمع عساكره وَسَار عَن الْموصل نَحْو سنجار وَمَعَهُ الْجمال والزين ونزلوا بتل يعفر وَأَرْسلُوا إِلَى نور الدّين يُنكرُونَ عَلَيْهِ إقدامه وَأَخذه مَا لَيْسَ لَهُ ويهددوه بِقَصْدِهِ وإخراجه من الْبِلَاد قهرا إِن لم يرجع اخْتِيَارا فَأَعَادَ الْجَواب إِنَّنِي أَنا الْأَكْبَر وَأَنا أَحَق أَن أدبرا أَمر أخي مِنْكُم وَمَا جِئْت إِلَّا لما تَتَابَعَت إِلَى كتب الْأُمَرَاء يذكرُونَ كراهيتهم لولايتكم عَلَيْهِم يَعْنِي ولَايَة الْجمال والزين فَخفت أَن يحملهم الغيظ والأنفة على أَن يخرجُوا الْبِلَاد من أَيْدِينَا فَأَما تهدُّدُكم إياى بِالْقِتَالِ فَأَنا مَا أقاتلكم إِلَّا بجندكم وَكَانَ قد هرب إِلَيْهِ جمَاعَة من أجنادهم فخافوا أَن يلقوه لِئَلَّا يخَامر عَلَيْهِم بَاقِي الْعَسْكَر وَدخل الْأُمَرَاء فِي الصُّلْح وَأَشَارَ بِهِ جمال الدّين الْوَزير وَقَالَ نَحن نظهر للسُّلْطَان والخليفة أننا تبع نور الدّين وَنور الدّين يظْهر للفرنج أَنه يحكمنا ويتهددهم بِنَا فَإِن كاشفناه وحاربناه فَإِن ظفر بِنَا طمع فِينَا السُّلْطَان وَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ظفرنا بِهِ طمع فِيهِ للفرنج وَلنَا بِالشَّام حمص وَقد صَار لَهُ عندنَا سنجار فَهَذِهِ أَنْفَع لنا من تِلْكَ وَتلك أَنْفَع لَهُ من هَذِه والرأي أَن نسلم إِلَيْهِ حمص ونأخذ سنجار وَهُوَ فِي ثغر بِإِزَاءِ الفرنج وَيتَعَيَّن مساعدته فاتفق الْجَمَاعَة على هَذَا الرَّأْي وَسَار جمال الدّين إِلَى نور الدّين وابرم مَعَه الْأَمر وتسلم حمص وَسلم سنجار إِلَى أَخِيه وَعَاد نور الدّين وَأخذ مَا كَانَ بسنجار من المَال وَلما تسلم قطب الدّين سنجار أقطعها لزين الدّين لِأَن حمص كَانَت لِأَخِيهِ ينَال وَهُوَ مُقيم بهَا واتفقت كلمتهم واتحدت آراؤهم وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يصدر إِلَّا عَن أَمر أَخِيه وَطلب نور الدّين أَن يكون الْجمال عِنْده فَقَالَ لَهُ الْجمال أَنْت عنْدك من الْكِفَايَة مَا تَسْتَغْنِي بِهِ عَن وَزِير ومشير وَلَيْسَ عنْدك من الْأَعْدَاء مثل مَا عِنْد أَخِيك لِأَن عَدوك كَافِر فَالنَّاس يدفعونه ديانَة وأعداء أَخِيك مُسلمُونَ فَيحْتَاج من يقوم بدفعهم وَإِذا كنت عِنْد أَخِيك فالنفع إِلَيْك عَائِد وَأُرِيد من بلادك مثل مَا لي من بِلَاد أَخِيك مَعُونَة على كَثْرَة خرجي فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك فَقَالَ لَهُ جمال الدّين أَنْت عَلَيْك خرج كثير لأجل الْكفَّار فَيجب مساعدتك وَأَنا أقنع مِنْك بِعشْرَة آلَاف دِينَار كل سنة فَأمر لَهُ بهَا فَكَانَ نَائِب جمال الدّين يقبضهَا كل سنة وَيَشْتَرِي بهَا أسرى من الفرنج ويطلقهم قلت وقرأت فِي = ديوَان القيسراني = وَقَالَ فِي نور الدّين عِنْد قدومه وَقد استولى على سنجار وأعمال الرحبة والفرات وَذَلِكَ فِي منتصف ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة (هَذَا الَّذِي ولدت لَهُ الأفكار ... وتمخضت فألا بِهِ الْأَشْعَار) (وَجَرت لَهُ خيل النهى فِي حلبة ... وَردت وصفو ضميرها الْمِضْمَار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 (وَأَتَتْ بِهِ نذر القوافي بُرْهَة ... إِن القوافي وحيها إنذار) (حكمت لسيفك بالممالك عنْوَة ... حكما لعمري مَا عَلَيْهِ غُبَار) (يأيها الْملك الْمقل نجاده ... بر يدين بهديه الْأَبْرَار) (يَا ابْن السيوف وَهل فخرت بِنِسْبَة ... إِلَّا سما بك قَائِم وغرار) (فارقا دَار الْملك غير مفارق ... لَك من علاك بِكُل أَرض دَار) (فِي عَسْكَر تخفي كواكب ليله ... نقعا فيطلعها القنا الخطار) (جرار أذيال العجاج وَرَاءه ... وأمامه بل جحفلٌ جرّار) (تدني لَك الغايات أكبر همة ... نورية همم الْمُلُوك كبار) (حَتَّى مَلَأت الْخَافِقين مهابة ... دَانَتْ لعظم نظامها الأقطار) (وملكت سنجارا وَمَا من بَلْدَة ... إِلَّا تمنى أَنَّهَا سنجار) (وَبسطت بالأموال كفا طالما ... طَالَتْ بهَا الآمال وَهِي قصار) (وَجَرت بأمداد الْجِيَاد شعابها ... جري السُّيُول وَمَا عداك قَرَار) (وثنى الْفُرَات إِلَى يَديك عنانه ... وَالْبَحْر مَا اتَّصَلت بِهِ الْأَنْهَار) (وملكت رحبة مَالك فتبرَّجت ... مِنْهَا لِعَيْنِك كاعبٌ مِعطار) (جاءتك فِي حلل الرّبيع وحليها ... قبل الرّبيع شقائق وبهار) (نثرت عَلَيْك هوى الْقُلُوب محبَّة ... وتود لَو أَن النُّجُوم نثار) (فأقمت كَالشَّمْسِ المنيرة إِن نأت ... عَن أفْقها فَلَها بِهَ أقمار) (من كَانَ نور الدّين ثمَّ أجَنَّه ... ليلُ السُّرى حفّت بِهِ الْأَنْوَار) (تَدْعُو الْبِلَاد إِلَيْك السّنة الظبى ... فتجيبك الأنجاد والأغوار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 (حَتَّى عَمَدت الدّين يَا ابْن عماده ... بقنا أسنتها عَلَيْهِ منار) (وقفلت من أسفار جدك قادما ... كالصبح نمّ بثغره الْإِسْفَار) (يغشى البصائر نور وَجهك بَعْدَمَا اعتركت ... على قسماته الْأَبْصَار) (حَتَّى عمرت بِكُل قلب صَدره ... حِين الصُّدُور من الْقُلُوب قفار) (إِن تُمسِ فِي حلب رياحك غضة ... فلهَا بأنطاكية إعصار) (وغدت جيادك بِالشَّام مُقِيمَة ... وَلها بأطراف الدروب مغار) (همم سبقت بهَا إِلَى مهج العدى ... صرف الردى ومسيره إِحْضَار) (وَأرى صباح القمص كَانَ خديعة ... فطغى وجار وَلَيْسَ ثَمّ وِجَار) (سَأَلَ الصنيعة غير محقوق بهَا ... والختر يهدم مَا بنى الختار) (حَتَّى إِذا مَا غبت أقدم عائثا ... إقدام من لم يدْنُ مِنْهُ قَرَار) (أمضى السّلاح على عدّوك بغيهُ ... بالغدر يُطعن فِي الوغى الغدار) (فاحسم عناد ذَوي العناد بجحفل ... كالليل فِيهِ من الصفيح نَهَار) (جند على جُرد أَمَام صدورها ... صدر عَلَيْهِ من الْيَقِين صِدَار) (قد بَايع الْإِخْلَاص بيعَة نصْرَة ... وَلكُل هادي أمٍة أنصار) (ملك لَهُ من عدله ووفائه ... جَيش بِهِ تستفتح الْأَمْصَار) (وَإِذا الْمُلُوك تثاقلت عَن غَايَة ... وَأَرَادَهَا حفت بِهِ الأقدار) (وَإِذا انتضته إِلَى الثغور عَزِيمَة ... قَامَت مقَام جُنُوده الْأَخْبَار) وَلابْن مُنِير من قصيدة فِيهِ (ترنح معطف الزَّوْرَاء لما ... دعَاك لزَوْرَ سنجار لمام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (وزلزلت الصّعيد وَرَاء مصر ... غَدَاة علتك فِي قطنا الْخيام) (رَجَاء هز تيك وَتلك خوف ... وَلَو قد شِئْت ضمهما قرام) (بعيشك يَا مبيد الْخَيل ركضا ... حَمامٌ هنّ تَحْتك أم حِمام) وَقَالَ ابْن مُنِير يهنئه بتسلم قلعة حمص من ينَال وانشده فِي القلعة القصيدة أَولهَا (أرحها فَهِيَ أزلام الْمَعَالِي ... لهنّ إِلَى الوغى توق المغالي) (أما ومقيلهن بِكُل نقع ... يقوّض بِالْهدى عمر الضّلال) (وَأي سيوفك الْحمر الْحَوَاشِي ... منزلَة مَتى دُعِيتْ نَزَال) (مَواضٍ إِن سُللن سلكن جزما ... نَفَاهُ من الطلي لفظ اعتلال) (لقد غلت الصَّلِيب بِحَرْ حَرْب ... يشيب أوارها لمَم اللَّيَالِي) (وشمت لنصر هَذَا الدّين بَأْسا ... تحرم مِنْهُ كل حمى حَلَال) وَمِنْهَا (وقائع أترعت فِي كل فج ... وقائع جوها دامي العزالي) (تسائل حمص عَن منسىّ دين ... تقاضاه لَك الْحجَج الخوالي) (فواتت وَهِي أُخْت النَّجْم بعدا ... ووعدا صِيغ من مطل مطال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 (تشامخ أنفها عزا وشدت ... على أَن لَا تنَال يدا ينَال) (فَمَا زَالَت رقاك تجدّ نقضا ... لما تثنيه من مرر الحِبال) (إِلَى أَن أطلق الْحَسْنَاء كرها ... وَآل إِلَى ملاوحة المآلي) (يصد الْوَجْه عَن شمّاء أَلْقَت ... يدا لأشمّ ذِي بَاعَ طوال) (شغلت بهَا يَمِينك والمواضي ... تكّفلُ أنّ مصرا للشمال) (إِذا فتح الْقِتَال عَلَيْك أَرضًا ... أباحك أُخْتهَا لاَ عَنْ قتال) فصل قَالَ الرئيس أَبُو يعلى اتَّصل الْخَبَر بِنور الدّين بإفساد الفرنج فِي الْأَعْمَال الحَوْرَانيّة بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم وَكتب إِلَى من بِدِمَشْق يعلمهُمْ مَا عزم عَلَيْهِ من الْجِهَاد ويستدعي مِنْهُم المعونة على ذَلِك بِأَلف فَارس تصل إِلَيْهِ مَعَ مقدم يعول عَلَيْهِ وَقد كَانُوا عَاهَدُوا الفرنج أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة على من يقصدهم من عَسَاكِر الْمُسلمين فاحتج عَلَيْهِ وغولط فَلَمَّا عرف ذَلِك رَحل وَنزل بمرج يبوس وَبَعض العسكرية بيعفور فَلَمَّا قرب من دمشق وَعرف من بهَا خَبره وَلم يعلمُوا أَيْن قَصده وَقد كَانُوا راسلوا الإفرنج بِخَبَرِهِ وقرروا مَعَهم الإنجاد عَلَيْهِ وَكَانُوا قد نهضوا إِلَى نَاحيَة عسقلان لعمارة غَزَّة ووصلت أوائلهم إِلَى بانياس وَعرف نور الدّين خبرهم فَلم يحفل بهم وَقَالَ لَا أنحرف عَن جهادهم وَهُوَ مَعَ ذَلِك كافّ أَيدي أَصْحَابه عَن العيث والإفساد فِي الضّيَاع وَأمر بِإِحْسَان الرَّأْي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الفلاحين وَالتَّخْفِيف عَنْهُم وَالدُّعَاء لَهُ مَعَ ذَلِك متواصل من أهل دمشق وأعمالها وَسَائِر الْبِلَاد وأطرافها وَكَانَ الْغَيْث قد انحبس عَن حوران والمرج والغوطة ونزح أَكثر أهل حوران عَنْهَا للمحل واشتداد الْأَمر فَلَمَّا وصل نور الدّين إِلَى بعلبك اتّفق نزُول الْمَطَر يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث ذِي الْحجَّة وَأقَام إِلَى مثله فروى الآكام والوهاد وَجَرت الأودية وزادت الْأَنْهَار وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها وَعَاد مَا صوح من النَّبَات وَالزَّرْع غضا طريا وجد النَّاس بِالدُّعَاءِ لنُور الدّين وَقَالُوا هَذَا ببركته وَحسن معدلته وَسيرَته ثمَّ رَحل من منزله بالأعوج وَنزل بجسر الْخشب الْمَعْرُوف بمنازل العساكر فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَأرْسل إِلَى مجير الدّين والرئيس وَقَالَ إِنَّنِي مَا قصدت بنزولي هَذَا الْمنزل طلبا لمحاربتكم وَلَا منازلتكم وَإِنَّمَا دَعَاني إِلَى هَذَا الْأَمر كَثْرَة شكاية الْمُسلمين من أهل حوران والعربان بِأَن الفلاحين أخذت أَمْوَالهم وسبيت نِسَاؤُهُم وأطفالهم بيد الإفرنج وَعدم النَّاصِر لَهُم وَلَا يسعني مَعَ مَا أَعْطَانِي الله وَله الْحَمد من الاقتدار على نصْرَة الْمُسلمين وَجِهَاد الْمُشْركين وَكَثْرَة المَال وَالرِّجَال أَن أقعد عَنْهُم وَلَا أنتصر لَهُم مَعَ معرفتي بعجزكم عَن حفظ أَعمالكُم والذب عَنْهَا وَالتَّقْصِير الَّذِي دعَاكُمْ إِلَى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي وبذلكم لَهُم أَمْوَال الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين من الرّعية ظلما لَهُم وتعديا عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا يُرْضِي الله تَعَالَى وَلَا أحدا من الْمُسلمين وَلَا بُد من المعونة بِأَلف فَارس مُزاحِي العلّة تُجرّدُ مَعَ من يوثق بشجاعته من المقدّمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لتخليص ثغر عسقلان وغزة قَالَ فَكَانَ الْجَواب عَن هَذِه الرسَالَة لَيْسَ بَيْننَا وَبَيْنك إِلَّا السَّيْف وسيوافينا من الإفرنج مَا يُعينُنا على دفعك إِن قصدتنا وَنزلت علينا فَلَمَّا عَاد الرَّسُول بِهَذَا الْجَواب ووقف عَلَيْهِ أَكثر التَّعَجُّب مِنْهُ وَالْإِنْكَار لَهُ وعزم على الزَّحْف إِلَى البد ومحاربته فِي غَد ذَلِك الْيَوْم فَأرْسل الله من الأمطار وتداركها ودوامها مَا مَنعه من ذَلِك وَدخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَفِي مستهل الْمحرم تقرر الصُّلْح بَين بَين نور الدّين وأرباب دمشق وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن نور الدّين أشْفق من سفك دِمَاء الْمُسلمين إِن أَقَامَ على حربها والمضايقة لَهَا بَعْدَمَا اتَّصل بِهِ من أَخْبَار دَعَتْهُ إِلَى ذَلِك وَاتفقَ أَنهم بذلوا لَهُ الطَّاعَة وَإِقَامَة الْخطْبَة لَهُ على مِنْبَر دمشق بعد الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان وَكَذَا السِّكَّة وَوَقعت الْإِيمَان على ذَلِك وخلع نور الدّين على مجير الدّين خلعة كَامِلَة بالطوق وَأَعَادَهُ مكرما مُحْتَرما وخطب لَهُ على مِنْبَر دمشق يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر محرم ثمَّ استدعى الرئيس إِلَى المخيم وخلع عَلَيْهِ خلعة كَامِلَة أَيْضا وَأَعَادَهُ إِلَى الْبَلَد وَخرج إِلَيْهِ جمَاعَة من الأجناد والخواص إِلَى المخيم واختلطوا بِهِ وَوصل من استماحه من الطلاب والقرأة والضعفاء بِحَيْثُ مَا خَابَ قاصده وَلَا أكدى سائله ورحل عَن مخّيمه عَائِدًا إِلَى حلب بعد إحكام مَا قرر وتكميل مَا دبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القيسراني (لَك الله إِن حَارَبت فالنصر وَالْفَتْح ... وَإِن شِئْت صلحا عد من حزمك الصُّلْح) (وَهل أَنْت إِلَّا السَّيْف فِي كل حَالَة ... فطَوراً لَهُ حد وطورا لَهُ صفح) (سقيت الرّدينيات حَتَّى رَددتهَا ... تَرَنَّحُ من سكر فَخَل القنا تصحو) (وَمَا كَانَ كف الْعَزْم إِلَّا إِشَارَة ... إِلَى الحزم لَو لم يغْضب السَّيْف وَالرمْح) (وَقد علم الْأَعْدَاء مُذ بِتَّ جانحا ... إِلَى السّلم مَا تنوي بِذَاكَ وَمَا تنحوا) (إِذا مَا دمشق مَلكتك عنانها ... تَيَقّن من فِي إيليا أَنه الذّبْح) (مَتى التف نقع الجحفلين على الْهدى ... فَلَا مهمهٌ يحوي الضلال وَلَا سفح) (إِذا سَار نور الدّين فِي الْجَيْش غازيا ... فقولا لِليْل الْإِفْك قد طلع الصُّبْح) (تركت قُلُوب الشّرك تَشْكُو جراحها ... فَلَا زَالَت الشكوى وَلَا اندمل الْجرْح) (صبرت فَكَانَ الصَّبْر خير مغبة ... فسيق إِلَيْك الْملك يسْعَى بِهِ النجح) (كَانَ القنا تجلو لَهُ وَجه أمره ... وَلَو أمهلت بلقيس مَا غرها الصرح) (بدوليك الغراء أصبح ضدها ... بهيما وَلَوْلَا الْحسن مَا عرف الْقبْح) (وَكم من قريح الْقلب لَو بَات وارداً موارد هَذَا الْعدْل مَا مَسّه قرح) (سخا بك هَذَا الدَّهْر جودا على الورى ... على أَنه مَا زَالَ فِي طبعه شح) (وَقد كَانَ يمحو رسم كل فَضِيلَة ... وَنحن نرَاهُ الْيَوْم يثبت مَا يمحو) (بك ابتهج الْأَلْبَاب وابتهج الحجا ... وأثمرت الْآدَاب واطرد الْمَدْح) (ولاذت بك التَّقْوَى وعاذت بك الْعلَا ... ودانت لَك الدُّنْيَا وَعز بك السَّرْح) (فَلَا قلب إِلَّا قد تملكته هوى ... وَلَا صدر إِلَّا قد جلاه لَك النصح) (وَمَا الْجُود فِي الْأَمْلَاك إِلَّا تِجَارَة ... فَمن فَاتَهُ حمد الورى فَاتَهُ الرِّبْح) (وَلم أختصر مَا قلت إِلَّا لأنني ... اعبر عَمَّا لَا يقوم بِهِ الشَّرْح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فصل فِي فتح عزاز قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر فِي الْخَامِس من الْمحرم من نَاحيَة حلب بِأَن عسكرها من التركمان ظفر بِابْن جوسلين صَاحب عزاز وَأَصْحَابه وحصلوا فِي قَبْضَة الْأسر فِي قلعة حلب فسر هَذَا الْفَتْح كَافَّة النَّاس وَتوجه نور الدّين فِي عسكره إِلَى عزاز وَنزل عَلَيْهَا وضايقها وواظب قتالها إِلَى أَن سهل الله تَعَالَى ملكهَا بالأمان وَهِي على غَايَة من المنعة والحصانة والرفعة فَلَمَّا تسلمها رتب فِيهَا من ثقاته من وثق بِهِ ورحل عَنْهَا ظافراً مَسْرُورا عَائِدًا إِلَى حلب فِي أَيَّام من شهر ربيع الأول قلت وَذكر ابْن مُنِير فتح عزاز وَغَيرهَا وَأمر دمشق فِي قصيدة أَولهَا (فدتك الْقُلُوب بألبابها ... وساح الْمُلُوك بأربابها) (كتائب ترمي جنود الصَّلِيب ... مِنْهَا بتقطيع أصلابها) (إِذا مَا انْثَنَتْ منَّة قراع الكماة ... كست وفدها وشي أسلابها) (تبرنس مِنْهَا الْبُرْنُس الثِّيَاب ... وحلبه وَقع أحلابها) (عَشِيَّة غصت على إنّب ... نفوس النَّصَارَى بغصابها) (وَقَامَ لِأَحْمَد محمودها ... بجدع موران أحزابها) (تجلى لَهَا حيدري المصاع ... أغلب مُودٍ بغلابها) (مورث أركاسها من أَب ... أكول الفوارس شرابها) (همام إِذا اعصوصبت نبوة ... دهاها بهاشم أعصابها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 (مضى وجنى لَك حُلْو الشهاد ... مِمَّا تمطق من صابها) (وَأوصى بهَا لَك من بعد مَا ... تجرع ممقر أوصابها) (واقسم جدك أَلا يَلِيق ... بغيرك ملبس أثوابها) (صبحت دمشق بمشق الْجِيَاد ... زبور الوغى بَين أحدابها) (وأصلت رَأْيك قبل الحسام ... فخمد جَمْرَة أجلابها) (فأعطتك مَا لم تنله يدُ ... وفازت رقاك بأصحابها) (وَأَنت تصرف فضل الزِّمَام ... من حمص ياخير ركابهَا) (تخونها الْجور فاستدركت ... بعدلك أغبار ظبظابها) (وفاجأت قُورُس بالشائلات ... تمج القنا سمّ أذنابها) (فَمَا رِمت حَتَّى رَمَت بيضها ... إِلَيْك أزمّة ضرّابها) (وعزت عزاز فأذللتها ... بمجر مضيق لأسهابها) (بأشمخ من أنفها منكبا ... وَأكْثر من عد تورابها) (دلفت لعيطاء أم النُّجُوم ... فِي الْأَمر إيطاء أترابها) (وعذراء مذ عَمَرت مَا اهتدت ... ظنون الليالى لإخْرَابها) (تفرعتها بِفُرُوع الوشيج ... مثمرة هام أوشابها) (وعوج إِذا أنبضت أغمضت ... ذكاء لإرسال نشابها) (ومحدودبات تطير الخطوب ... ملاقط ألسن خطابها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 (تصوب عقبان ريب الْمنون ... مَتى زبَنَتْها بأعقابها) (وَمَا ركعت حول شم الهضاب ... إِلَّا سجدن لأنصابها) (فلاذت بمعتصم بِالْكتاب ... وهوب الممالك سلابها) (بمعتصمي الندى وَالْهدى ... هموس السُّرى غير هيابها) (محلى الْمحل بِوَصْف الْفتُوح ... وَوصف التهاني وأربابها) (وتعجز مداحه أَن تحيط ... بآدابه فلك آدابها) (بَدَائِع لَو رد دهر رمين ... بَنات حبيب بأحبابها) (وَأَيْنَ ابْن أَوْس وأبياته ... من اللاء أودت بحسابها) (من اللاء عَاد عَتيق لَهَا ... ورد عَلَيْهَا ابْن خطابها) (فأيامه من حبور تكَاد ... يطير بهَا فرط إعْجَابهَا) (لَك الْفضل إِن راسلتك الْجِيَاد ... وَقَامَت أَدِلَّة أنجابها) (إِذا اعتسفت همم الجائرين ... أتيت السِّيَادَة من بَابهَا) (أَبوك أَبوهَا وَأَنت ابْنهَا العريق ... ودمية مِحْرَابهَا) (أَقُول لمؤجره بالغرور ... تمطت هَواهَا فَأَهوى بهَا) (حذار فَعِنْدَ ابتسام الغيوث ... يخْشَى صواعق ألهابها) (وَلَا تخدعوا بإفترار الليوث ... فَالنَّار فِي برد أنيابها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فصل فِي صفة أسر جوسلين قَالَ ابْن الْأَثِير سَار نور الدّين إِلَى بِلَاد جوسلين وَهِي القلاع الَّتِي شمَالي حلب مِنْهَا تل بَاشر وَعين تَابَ وعزاز وَغَيرهَا من الْحُصُون فَجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم ولقوا نور الدّين وَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة أجلت عَن انهزام الْمُسلمين وظفر الفرنج وَأخذ جوسلين سلَاح دَار كَانَ لنُور الدّين أَسِيرًا وَأخذ مَا مَعَه من السِّلَاح فأنفذه إِلَى السُّلْطَان مَسْعُود بن قليج أرسلان السلجوقي صَاحب قونية وأقصرا وَغَيرهمَا من تِلْكَ الْأَعْمَال وَكَانَ نور الدّين قد تزوج ابْنَته وَأرْسل مَعَ السِّلَاح إِلَيْهِ يَقُول قد أنفذت لَك سلَاح صهرك وسيأتيك بعد هَذَا غَيره فعظمت هَذِه الْحَادِثَة على نور الدّين وأعمل الْحِيلَة على جوسلين وَعلم أَنه إِن هُوَ جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وَامْتنع فَاحْضُرْ نور الدّين جمَاعَة من التركمان وبذل لَهُم الرغائب من الإقطاع وَالْأَمْوَال إِن هم ظفروا بجوسلين إِمَّا قتلا وَإِمَّا أسرا فاتفق أَن جوسلين خرج فِي عسكره واغار على طَائِفَة من التركمان فنهب وسبى فَاسْتحْسن من السَّبي امْرَأَة مِنْهُم فَخَلا مَعهَا تَحت شَجَرَة فعاجله التركمان فَركب فرسه ليقاتلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا فصانعهم على مَال بذله لَهُم فرغبوا فِيهِ وأجابوه إِلَى ذَلِك وأخفوا أمره عَن نور الدّين فَأرْسل جوسلين فِي إِحْضَار المَال فَأتى بعض التركمان إِلَى نَائِب نور الدّين بحلب فَأعلمهُ الْحَال فسير مَعَه عسكرا أخذُوا جوسلين من التركمان قهرا وَكَانَ نور الدّين حِينَئِذٍ بحمص وَكَانَ أسره من اعظم الْفتُوح على الْمُسلمين فَإِنَّهُ كَانَ شَيْطَانا عاتيا من شياطين الفرنج شَدِيد الْعَدَاوَة للْمُسلمين وَكَانَ هُوَ يتَقَدَّم على الفرنج فِي حروبهم لما يعلمُونَ من شجاعته وجودة رَأْيه وَشدَّة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أَهلهَا وَأُصِيبَتْ النَّصْرَانِيَّة كَافَّة بأسره وعظمت الْمُصِيبَة عَلَيْهِم بفقده وخلت بِلَادهمْ من حاميها وثغورهم من حافظها وَسَهل أَمرهم على الْمُسلمين بعده وَكَانَ كثير الْغدر وَالْمَكْر لَا يقف على يَمِين وَلَا يَفِي بِعَهْد طالما صَالحه نور الدّين وهادنه فَإِذا أَمن جَانِبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فَلَقِيَهُ غدره وحاق بِهِ مكره {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بِأَهْلِهِ} فَلَمَّا أسر تيَسّر فتح كثير من بِلَادهمْ وقلاعهم فَمِنْهَا عين تَابَ وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خَالِد وَكفر لاثا وَكفر سود وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الْجَوْز وبرج الرصاص قَالَ وَكَانَ نور الدّين رَحمَه الله إِذا فتح حصنا لَا يرحل عَنهُ حَتَّى يملأه رجَالًا وذخائر تكفيه عشر سِنِين خوفًا من نصْرَة تتجدد للفرنج على الْمُسلمين فَتكون الْحُصُون مستعدة غير محتاجة إِلَى شَيْء وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 هَذِه الْحَادِثَة فَأَكْثرُوا مِنْهُم القيسراني قَالَ يمدح نور الدّين بعد صدوره عَن دمشق واستقرار أمرهَا وَيذكر قتل البرنز وَأسر جوسلين وَأخذ بِلَاده (دَعَا مَا ادّعى مَن غره النهى وَالْأَمر ... فَمَا الْملك إِلَّا مَا حباك بِهِ الْقَهْر) (وَمن ثنت الدُّنْيَا إِلَيْهِ عنانها ... تصرف فِيمَا شَاءَ عَن إِذْنه الدَّهْر) (وَمن رَاهن الأقدار فِي صهوة الْعلَا ... فَلَنْ تدْرك الشعري مداه وَلَا الشّعْر) (إِذا الْجد أَمْسَى دون غَايَته المنى ... فَمَاذَا عَسى أَن يبلغ النّظم والنثر) (وَلم لَا يَلِي أَسْنَى الممالك مَالك ... زعيم بِجَيْش من طلائعه النَّصْر) (لِيهن دمشقا أَن كرْسِي ملكهَا ... حبي مِنْك صَدرا ضَاقَ عَن همة الصَّدْر) (وَأَنَّك نور الدّين مُذْ زرت أرْضهَا ... سمت بك حَتَّى انحط عَن نسرها النسْر) (خطبت فَلم يحجبك عَنْهَا وَليهَا ... وخطب الْعلَا بِالسَّيْفِ مَا دونه ستر) (جلاها لَك الإقبال حورية السنا ... عَلَيْهَا من الفردوس أردية خضر) (خلوب أكَنّت من هَوَاك محبَّة ... نمت فانتمت جَهرا وسر الْهوى جهر) (فسقت إِلَيْهَا الْأَمْن وَالْعدْل نحلة ... فأمست وَلَا أسر تخَاف وَلَا إصر) (فَإِن صافحت يمناك من بعد هجرها ... فأحلى التلاقي مَا تقدمه هجر) (وَهل هِيَ إِلَّا كالحصان تمنعت ... دلالا وَإِن عز الحيا وغلا الْمهْر) (وَلَكِن إِذا مَا قستها بصداقها ... فَلَيْسَ لَهُ قدر وَلَيْسَ لَهَا قدر) (هِيَ الثغر أَمْسَى بالكراديس عَابِسا ... وَأصْبح عَن بَاب الفراديس يفترّ) (على أَنَّهَا لَو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الْخَوْف والذعر) (فإمَّا وقَفْت الْخَيل ناقعة الصّدى ... على بردى من فَوْقهَا الْوَرق النّضر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 (فَمن بعد مَا أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها وَالْبيض من علق حمر) (وجللتها نقعا أضاع شِيَاتها ... فَلَا شُهبها شُهبٌ وَلَا شُقرها شُقر) (علا النَّهر لما كاثر الْقصب القنا ... مكاثرةً فِي كل نحرٍ لَهَا نحر) (وَقد شَرقَتْ أجرافه بِدَم العدى ... إِلَى أَن جرى العَاصِي وضحضاحه غمر) (صدعتهم صدع الزجاجة لَا يَد ... لجابرها مَا كل كسر لَهُ جبر) (فَلَا ينتحل من بعْدهَا الْفَخر دائل ... فَمن بارز الإبرنز كَانَ لَهُ الْفَخر) (وَمن بز أنطاكية من مليكها ... أَطَاعَته ألحاظ المؤلَّلة الخزرُ) (أَخُو اللَّيْث لَوْلَا غدره نزعت بِهِ ... إِلَى الذِّئْب أَن الذِّئْب شيمته الْغدر) (أُتِي رَأسه ركضا وغودر شلوه ... وَلَيْسَ سوى عافي النسور لَهُ قبر) (وَقد كَانَ فِي استبقائه لَك منَّة ... هِيَ الفتك لَو لم تغْضب الْبيض والسمر) (كَمَا أَهْدَت الأقدار للقمص أسره ... واسعد قرن من حواه لَك الْأسر) (طَغى وبغى عدوا على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه وَالْكفْر) (وَأَلْقَتْ بأيديها إِلَيْك حصونه ... وَلَو لم تجب طَوْعًا لجاء بهَا القسر) (وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لَو أَنَّهَا الوكر) (فسر واملأ الدُّنْيَا ضِيَاء وبهجة ... فبالأفق الداجي إِلَى ذَا السنا فقر) (كَأَنِّي بِهَذَا الْعَزْم لَا فل حَده ... وأقصاه وَقد قضي الْأَمر) (وَقد أصبح الْبَيْت الْمُقَدّس طَاهِرا ... وَلَيْسَ سوى جاري الدِّمَاء لَهُ طهر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 (وَقد أدَّت الْبيض الْحداد فروضها ... فَلَا عُهْدَة فِي عْنق سيف وَلَا نذر) (وصلت بمعراج النَّبِي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر) (وَإِن تتيمم سَاحل الْبَحْر مَالِكًا ... فَلَا عجب أَن يملك السّاحلَ الْبَحْر) (سللت سيوفا أثكلت كل بَلْدَة ... بصاحبها حَتَّى تَخوَّفك الْبَدْر) (إِذا سَار نور الدّين فِي عزماته ... فقولا لِليْل الْإِفْك قد طلع الْفجْر) (وَلَو لم يَسِر فِي عَسْكَر من جُنُوده ... لَكَانَ لَهُ من نَفسه عَسْكَر مَجْر) (مليك سمت شم المنابر باسمه ... كَمَا زُهيت تِيهاً بِهِ الأنجم الزُّهر) (فيا كعبة مَا زَالَ فِي عرصاتها ... مواسم حج لَا يروّعها النَّفر) (خلعت على الْأَيَّام من حلل العلى ... ملابس من أعلامها الْحَمد وَالشُّكْر) (وتوجت ثغر الشَّام مِنْك جلالة ... تمنّت لَهَا بغدادُ لَو أَنَّهَا ثغر) (فَلَا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فُيمناك نيلٌ كل مصر بهَا مصر) (رددت الْجِهَاد الصعب سهلا سَبيله ... وياطالما أَمْسَى ومسلكه وعر) (وأطمعت فِي الإفرنج من كَانَ بأسه ... تخوف أَن يعتاده مِنْهُم فكر) (وأقحمت جرد الْخَيل أَعلَى حصونها ... ولولاك لم تهجم على كَافِر كفر) (وَمن يدعى فِي قَتلك الشّرك شركَة ... إِذا لم يكن عِنْد القوافي لَهُ ذكر) (هِيَ القانتات الحافظات فروجها ... فشاهدها عدل ورائقها سحر) (وَلَو لم يكن فِي فَضلهَا وكمالها ... سوى أَنَّهَا من بعد عمر الْفَتى عمر) وَله من قصيدة يصف فِيهَا وقائعه أَولهَا (أما وخيال زار مِمَّن أحبه ... لقد هاج من ذكرَاهُ مَا لَا أغبه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 (إِذا مَا صبا قلب الْمُحب إِلَى الصّبا ... ذكرت نسيما بالثغور مهُّبهُ) (فيا نفحات الشَّام رفقا بمهجة ... يحامى عَلَيْهَا مدنف الْقلب صّبه) (فَلَا تسألن الصب أَيْن فُؤَاده ... فَإِن فؤاد الْمَرْء مَعَ من يُحِبهُ) (وَفِي شعب الأكوار من هُوَ عَالم ... غَدَاة استطار الْبَرْق من طَار لبه) (يشيم ثغور المزن تهمى كَأَنَّهَا ... سنا بشر نور الدّين تنهل سُحبه) (إِذا مَا سما فِي مُبهم الْخطب وَجهه ... تمزق عَن بدر الدُّجٌنَّة حُجبه) (تولد بَين الْغَيْث وَاللَّيْث والتقى ... منافسه أَي الثَّلَاثَة تربه) (يعد مضاء فِي الظبى لَا وضربه ... بهَا قلل الْأَعْدَاء مَا السَّيْف ضربه) (مكين الحجا رَاض الزَّمَان بِنَفسِهِ ... إِلَى الْآن حَتَّى لَان وانقاد صعبه) (حمى قبَّة الْإِسْلَام بِالْخَيْلِ فاغتدت ... واوتادها جرد الطعان وقبه) (فكم هبوة أوقعن بالْكفْر تحتهَا ... فَمَا انقشعت إِلَّا وللذل جنبه) (كَيَوْم الرها الورهاء والهام يَانِع ... ملي برعي الهندواني خصبه) (وشهباء هاجتها وغى صرخدية ... ثناها وليل الْحَرْب تنقض شهبه) (وعارم يَوْمًا بالعُريمة فاغتدت ... كوادي ثَمُود إِذْ رغا فِيهِ سقبه) (وعاصى على العَاصِي بأرْعن خَاطب ... دم الْإِفْك حَتَّى أنكح النصل خطبه) (بإنب لما أكسب المَال وانثنى ... بِصَاحِب أنطاكية وَهُوَ كَسبه) (غَدَاة هوى شطرين للسيف رَأسه ... وللرمح حَتَّى توج الرَّأْس قلبه) (على حِين للخطي فِيهِ عوامل ... يُعَاقِبهُ خفض الحسام ونصبه) (وقائع محمودية النَّصْر لم يزل ... غَرِيبا بهَا عَن موطن السّيف غربه) (يقوم مقَام الْجَيْش فِيهَا وعيده ... وَتفعل أَفعَال الْكَتَائِب كتبه) (وَحين انتضته عَزمَة من قرَابَة ... مضى وَهُوَ نصل والممالك قربه) (إِلَى أَن دَعَتْهُ رَبهَا كل بَلْدَة ... فَلَيْسَ من الْأَمْصَار مَا لَا يربه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 (وَلما نزا بالقمص عُجب هوى بِهِ ... على أم رَأس الْبَغي والغدر عُجبه) (فاصبح فِي الحجلين يُنكر خطوه ... بعيد على الرجلَيْن فِي السَّعْي قربه) (تعاقبه الْبُشْرَى بِأخذ حصونه ... فيا عانيا ضرب البشائر ضربه) (تناجي عزاز باسمه تل بَاشر ... فيلعنه لعن الصَّرِيح وسبه) (فَإِن يكن المقهور من ثل عَرْشه ... فَهَذَا عَمُود الْكفْر قد طاح طُنبه) (فَقل لملوك الْخَافِقين نصيحة ... كَذَا عَن طَرِيق اللَّيْث تزأر غَلبه) (وخلوا عَن الْآفَاق فالشرق شرقه ... بِحكم الردينيات والغرب غربه) (وَلَا يعتصم بالدرب طاغ على القنا ... فَإِن القنا فِي ثغرة النَّحْر دربه) (رحيب فضاء الْحلم عَن ذَات قدره ... إِذا ضَاقَ من صدر المملك رحبه) (عَفْو عَن الْجَانِي يكَاد الَّذِي جنى ... يكرًّ بِهِ شوقا إِلَى الْعَفو ذَنبه) (أمتخذ الْإِخْلَاص لله جنَّة ... وَمن يعتصم بِاللَّه فَالله حَسبه) (أَبوك اسْتردَّ الشَّام بِالسَّيْفِ عنْوَة ... وللروم بَأْس طالما غال خطبه) (إِذا ذب عَن أضغاث دُنْيَاهُ مَالك ... فَأَنت الَّذِي عَن حوزة الدّين ذبه) (رَأَيْت ابْتَاعَ الْحق خيرا مغبة ... فأفرجت عَن رأى يَسُرك غبه) (وأوضحت مَا بَين الْفَرِيقَيْنِ سنة ... بهَا عرف المربوب من هُوَ ربه) (وبينت مَا قد كَانَ من كَانَ يَبْتَغِي ... دَلِيلا بِأَن الله من أَنْت حزبه) وَقَالَ ابْن مُنِير يمدح نور الدّين بِظَاهِر حمص (هَيْهَات يعْصم من أردْت حذار ... أَنى وَمن أوهاقك الأقدار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَمِنْهَا (طلعت عَلَيْك بجوسلين ذَرِيعَة ... لَا سحل انشاها وَلَا إمرار) (وسعادة مَا زلت تمري خلفهَا ... فيشف وَهُوَ الناتق المدرار) (فأرتك مَا يجني الوفي وفاؤه ... وأرته كَيفَ يُحًّين الغدار) (عود أَمر على أبارك طلعه ... فاحيل ذَاك الْبر وَهُوَ بوار) (مَا زلت تنعم وَهُوَ يكفر عاتيا ... وَالله يهدم مَا بنى الْكفَّار) (حَتَّى أتاح لِقَوْمِهِ مَا جَرّه ... لثمود من عقر الفصيل قدار) (أسرى فَأصْبح فِي براثن آسر ... مَا زَالَ يدُمى ظفره الْأَظْفَار) (سَام كقرن الشَّمْس يُقبس نوره ... وتغض دون مَحَله الْأَبْصَار) (يهب التلاد من الْبِلَاد وَمَا حوت ... إِن السماحة للبحار بحار) (يقظان يخْشَى الله فِي خلواته ... لَا مُترف لاه وَلَا جَبَّار) (نصب المراقب للعواقب نَاظرا فِيهَا كَذَلِك تربأ الْأَبْرَار) (لَا كَالَّذِين تعجلوا حسواتها ... وتقلسوها بعد وَهِي خسار) (درجوا وادرج فِي ملف رفاتهم ... سوأى تساء لذكرها الْآثَار) (والمرء من يُطوى فيَنشر طيه ... مَا أودعته صدورها الأخيار) (قل للألى نَامُوا على نأماته ... مَا كل هبة بارح إعصار) (لَا تأمنوا فِي الله بطشة ثَائِر ... لله ملْء سَرِيره أسرار) (صَاف إِذا كدر الْمَعَادِن عَادل ... إِن حاف حكام الْمُلُوك وجاروا) (أَعلَى أَبوهُ لَهُ النجاد وشيد فِي ... صهواتها مِمَّا ابتناه منار) (مَحْمُود الْمَحْمُود آثاراً إِذا ... نظمت على جيد الدجى الأسمار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 (دَانَتْ لَهُ الْأَيَّام صاغرة كَمَا ... دَانَتْ لَهُ فِي ظله الْأَمْصَار) وَله من أُخْرَى أَولهَا (مَا الْملك إلاّ مَا حواه نجاده ... ) يَقُول فِيهَا (وَتَدين حسده لمحكم آيه ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ حسّاده) (شمس إِذا مَا الْحَرْب زر جيوبها ... حل المعاقد كره وطراده) (ألوى أَلد حمى الشَّرِيعَة الشَّرِيعَة جهده ... وأذل نَاصِيَة الضلال جهاده) (صعق الْبُرْنُس وَقد تلألأ برقه ... وأطار سَاكن جأشه إرعاده) (ولى وَقد سُلَّت فَسَلَّت ضغنه ... زُبر تلقى فودهن فُؤَاده) (مستلئما مستسلما لَا عدَّة ... رد المنى عَنهُ وَلَا استعداده) (ولجوسلين احتثهن فَأَصْبَحت ... نهبى لَهُنَّ بِلَاده وتلاده) (جَاءَت بِهِ بعد الشماس عوابس ... قَود يلين لعنقهن قياده) (وتصيدته لَك السُّعُود وقلما ... ينجو بخيرٍ من أردْت مصاده) (داني لَهُ قيناه أدهم كلما ... غناهُ طَار شماتة عوّاده) (سلبت عزاز عزاءه وبقورس ... محجوبة فرشت لَهُ اقتاده) (وبتل خَالِد يَوْم تل جبينها ... خلط الثرى بجبينه إخلاده) (وَغدا يُبَاشر تل بَاشر قلُبه ... بأحر مَا حمل الْقُلُوب عداده) (منت أمانيه بشائرك الَّتِي ... عَادَتْ لَهُنَّ مآتما أعياده) (وحبوت ملكك من نظيم ثغوره ... حَلْياً تَتَايَه تَحْتَهُ أجياده) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 (لَا يخدعنك فَإِنَّمَا إصْلَاح من ... يخُشى انتشاط خناقه إفساده) (أنزلهُ حَيْثُ قَضَت لَهُ غدراته ... واحله طغيانه وعناده) (فِي حَيْثُ لَا يأوى لَهُ سجّانه ... حنقا ويكشط جلده جلاده) (وثن هدمت بني الضلال بهدمه ... وغدت عِبَادك عنْوَة عباده) (فتكت بِهِ آيَات مَن لمُحَمد ... ولدينه إبداؤه وعواده) (لَو أنشط الْبَلَد الْحَرَام تواءمت ... تثني عَلَيْهِ تلاعه ووهاده) (وَلَو ان منبره أطَاق تكلما ... نطقت بباهر فَضله أعواده) (نَام الْخَلِيفَة واستطار لذبه ... عَن سدتيه واستطير رقاده) (رجعت لَك الْعِزّ الْقَدِيم سيوفه ... مَا زَان رونق مَائِهَا أغماده) (من بعد مَا نعق الصَّلِيب لحزبه ... وَرَأَيْت زرع الْملك حَان حَصَاده) (أَنِّي تميل الحادثات رواقه ... بهبوبها وَابْن الْعِمَاد عماده) فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما سَار نور الدّين إِلَى قلاع جوسلين ملك بَعْضًا وَبَقِي بعض فاجتمعت الفرنج فَالْتَقوا مَعَ نور الدّين بدلوك فَهَزَمَهُمْ وَاسْتولى على دلوك وَغَيرهَا فَفِيهَا يَقُول أَحْمد بن مُنِير قصيدة مِنْهَا (هِيَ الْخَيل خير عتاد الْكَرِيم ... يحضر للهم إحضارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 (ضغمت فأدردت أفواهها ... وسرت فقلمت أظفارها) (إلام وَلم تُبق مِمَّا غزوت ... قلوبا تكابد إذعارها) (اما فِي مفصل آي القراع ... أَن تضع الْحَرْب أَوزَارهَا) (عَسى أَن يُحم لهَذَا الْحمام ... أَن يتوكر أوكارها) (وَمَا يَوْم من غَلَّته وَاحِد ... فتودعه الّلسْنُ أشعارها) (وَأَيْنَ المَقَاول مِمَّا فعلت ... وَلَو شفع الْقطر إكثارها) (فكم أجلبت خَلفك الجافخات ... فصلصل فخرك فخارها) (أعدت بعصرك هَذَا الأنيق ... فتوح النَّبِي وأعصارها) (وَكَانَ مهاجرها تابعيك ... وأنصار رَأْيك أنصارها) (فجددت إِسْلَام سلمانها ... وَعمر جدك عمارها) (وَمَا يَوْم إنب إِلَّا كتيك ... بل طَال بالبوع أشبارها) (وأيامك الغر من بعده ... تعيد إِلَى الطي أغرارها) (وَلما هببت ببصرى سمكت ... بأهباء خيلك أبصارها) (وَيَوْم على الجون جون السراة ... عز فسعَّطها عارها) (صدمت عُريمتها صدمة ... أذابت مَعَ المَاء أحجارها) (وَفِي تل بَاشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها) (وَإِن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أَخْبَارهَا) (وشب التدامُر حَتَّى طلعت ... عَلَيْهَا فولتك أدبارها) (مشَاهد مَشْهُورَة نمنمت ... على صفحة الدَّهْر أسطارها) (يلذ الأغاني ترجيعها ... ويستسفر السّفر أسفارها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (بنيت لوفد المنى كعبة ... تجير الْمُعَلق أستارها) (وملكت وَالْأَرْض مغبرة ... تكَاد تُحَدِّثُ أخْبَارَها) (فَمَا زلت تدجن حَتَّى محوت ... دجاها وشعشعت أنوارها) (وصلت فأعززت مسكينها ... وصلت فأذللت جبارها) (وصغت حلى من علا أحكمت ... على عنق الدَّهْر أزرارها) قَالَ أَبُو يعلى التَّمِيمِي وَفِي رَجَب وَردت الْأَخْبَار من نَاحيَة نور الدّين بظفره بعسكر الإفرنج النازلين بإزائه قَرِيبا من تل بَاشر وعظيم النكاية فيهم والفتك بهم وامتلأت الْأَيْدِي من غنائمهم وَسَبْيهمْ وَاسْتولى على حصن خَالِد الَّذِي كَانَ مضايقه ومنازله قَالَ وَفِي أَيَّام من الْمحرم وصل جمَاعَة من حجاج الْعرَاق وخراسان المأخوذين فِي طَرِيق الْحَج عِنْد عودهم بِجَمَاعَة من كفار العربان وحكوا مُصِيبَة مَا نزل مثلهَا بِأحد فِي السنين الخالية وَلَا يكون أبشع مِنْهَا وَذكر أَنه كَانَ فِي هَذَا الْحَاج من وُجُوه خُرَاسَان وتنائها وفقهائها وعلمائها وقضاتها وخواتين أُمَرَاء العساكر السُّلْطَانِيَّة وَالْحرم الْعدَد الْكثير وَالْأَمْوَال الجمة والأمتعة الوافرة فَأخذ جَمِيع ذَلِك وَقتل الْأَكْثَر وَسلم الْأَقَل وهتكت النِّسَاء وسلبن وَهلك من هلك بِالْجُوعِ والعطش فضاقت الصُّدُور لهَذِهِ النَّازِلَة فكسي العارى مِنْهُم وَأطلق لَهُم مَا استعانوا بِهِ على عودهم إِلَى أوطانهم من أَصْحَاب الْمُرُوءَة بِدِمَشْق {ذَلِكَ تَقْدِيُر الْعَزِيز الْعَلِيم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قَالَ وَكَانَ مُجَاهِد الدّين بزان قد توجه إِلَى حصنه صرخد لتفقد أَحْوَاله فعرضت بعده نفرة بَين مجير الدّين والرئيس بسعايات أَصْحَاب الْأَغْرَاض وَالْفساد واقتضت الْحَال استدعاء مُجَاهِد الدّين لإِصْلَاح الْحَال فوصل وَتمّ ذَلِك بوساطته على شَرط إبعاد الْحَاجِب يُوسُف صَاحب مجير الدّين عَن الْبَلَد مَعَ أَصْحَابه وتوجهوا وَلم يعرض لشَيْء من أَمْوَالهم وَقصد بعلبك فَأكْرمه وإليها قَالَ ووردت الْأَخْبَار من مصر بالخُلف المستمر بَين وزيرها ابْن مصال وَبَين الْأَمِير المظفر ابْن السلار وَوُقُوع الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء إِلَى أَن أسفرت الْحَال عَن قتل ابْن مصال الْوَزير وانتصاب ابْن السلار مَوْضِعه فِي الوزارة قَالَ وَفِي سَابِع عشر رَجَب توفى القَاضِي بهاء الدّين عبد الْملك بن الْفَقِيه عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا مناظرا مُسْتقِلّا مفتيا على مَذْهَب الْإِمَامَيْنِ أَحْمد وَأبي حنيفَة بِحكم مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْد إِقَامَته بخراسان لطلب الْعلم والتقدم وَكَانَ يعرف اللِّسَان الْفَارِسِي مَعَ الْعَرَبِيّ وَهُوَ حسن الحَدِيث فِي الْجد والهزل وَكَانَ لَهُ يَوْم مشهود وَدفن فِي جوَار أَبِيه وجده فِي مَقَابِر الشُّهَدَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قَالَ وَتُوفِّي عقيب وَفَاته الشريف القَاضِي النَّقِيب أَبُو الْحُسَيْن فَخر الدولة ابْن أبي الْجِنّ وتفجع النَّاس عَلَيْهِ لخيريته وَشرف بَيته وَدخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَفِيهَا حاصر نور الدّين رَحمَه الله دمشق لمعاضدة اهلها الفرنج واستنصارهم بهم ومدحه ابْن مُنِير بقصيدة يحرضه فِيهَا عَلَيْهِم وكتبها إِلَيْهِ من حماة وَهُوَ محاصر دمشق وَقد تخلف عَن الْخدمَة لمَرض عرض لَهُ مِنْهَا (أخليفة الله الَّذِي ضمنت لَهُ ... تَصْدِيق واصفه سراة الْمِنْبَر) (لَا المستطيل بِمصْر ظلّ قصوره ... والمستطال إِلَيْهِ شقة صَرْصَر) (يَا نور دين الله وَابْن عماده ... والكوثر بن الْكَوْثَر بن الْكَوْثَر) (صفّر بِحَدّ السَّيْف دَار أشائب ... عقلوا جيادك عَن بَنَات الْأَصْفَر) (هم شيدوا صرح النِّفَاق وأوقدوا ... نَارا تحش بهم غَدا فِي الْمَحْشَر) (اذكوا بجلق حرّها واستشعرت ... لفحاتها بَين الصَّفَا والمشعر) (شرد بهم من خَلفهم مستنجدا ... مَا ظَاهر الْكفَّار من لم يكفر) (لَا تعف بل شقّ الْهدى نفس الَّذِي ادرع ... الضّلال على أغرّ مشهر) (قَلّدهُ مَا اهدى على لمرحب ... فَلَقَد تهكم فِي الخداع الْخَيْبَرِيّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 (مَا الْغِشّ مِمَّن أمه نصرانة ... لم تختتن كالغش من تنصر) (أذكت لنا هذي العزائم لَا خبت ... مَا غَار من سنَن الْمُلُوك الغبر) (إثقاب آراء الْمعز وخفق رايات ... الْعَزِيز ويقظة الْمُسْتَنْصر) (شمر فقد مدت إِلَيْك رقابها ... لَا يدْرك الغايات غير مشمر) (أولست من مَلأ البسيطة عدله ... واجتثت بِالْمَعْرُوفِ أنف الْمُنكر) (حدب الْأَب الْبر الْكَبِير ورأفة الْأُم ... الحفية باليتيم الْأَصْغَر) (يَا هضبة الْإِسْلَام من يعْصم بهَا ... يُؤمن وَمن يتول عَنْهَا يكفر) (كَانُوا على صلب الصَّلِيب سرادقا ... أنبت بنيته بِكُل مُذَكّر) (آثَارهم نجس أذال الْمَسْجِد الْأَقْصَى ... فصن مَا دنسوه وطهر) (حَار الْخَلِيل وَمن بغزة هَاشم ... بلهامك الْمُتَدَمْشق المتمصر) (بعرمرم صلمت وعاوعه عرى ... أسماع جيحون وَسيف البربر) (يفتر عَن ملك الْمُلُوك منحل الأنواء ... بل سعد السُّعُود الْأَكْبَر) (عَن طَاعن الفرسان غير مكذب ... ومتمم الْإِحْسَان غير مكدر) (بدر الجحافل والمحافل فَارس الآساد ... فِي غَابَ الوشيج الأسمر) (ملك تَسَاوِي النَّاس فِي أَوْصَافه ... عذر الْمقل وَبَان عجز المكثر) (يَا أَيهَا الْملك الْمُنَادِي جوده ... فِي سَائِر الْآفَاق هَل من مُعسر) (إِن القصائد أَصبَحت أبكارها ... فِي ظلّ ملكك غاليات الأمهر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 (إِن كنت أَحييت ابْن حمدَان لَهَا ... فَأَنا الَّذِي غبرت فِي وَجه السّري) (ولأنت أكْرم من أنَاس نوهوا ... باسم ابْن أَوْس واستخصوا البحتري) (ذلت لدولتك الرّقاب وَلَا تزل ... إِن تغز تغنم أَو تقَاتل تظفر) وَكتب إِلَيْهِ من حماة أَيْضا وَهُوَ محاصر دمشق قصيدة ينَال فِيهَا من صَاحبهَا مِنْهَا (أَبوك أَب لَو كَانَ للنَّاس كلهم ... أَبَا وَرَضوا وَطْء النُّجُوم لفندوا) (وَمَا مَاتَ حَتَّى سد ثلمة ملكه ... بك الله ترمى مَا رَمَاه فتصرد) (صدمت ابْن ذِي اللغدين فانحل عقده ... وكالسلك قد أَمْسَى يحل ويعقد) (يقلب خلف السجف عينا سخينة ... ويبكي بِأُخْرَى ذَات شتر ويسهد) (وَلَا غرو قد أبقى أَبوهُ وجده ... لَهُ كل يَوْم ثوب عجز يجدد) (فيا رَاكِبًا إِمَّا عرضت فبلغن ... بُيُوتًا على جيرون بالذل تعمد) (وَقل لمبير الدّين وَهُوَ مجيره ... بزعم لَهُ وَجه الْحَقِيقَة أَرْبَد) (حملت الصَّلِيب بَاغِيا ونبذته ... وثغراك موطوس بِبَاب وأدرد) (وحاربت حزب الله وَالله نَاصِر ... لناصره وَدين أَحْمد أَحْمد) (تنصرت حينا وَالْبَلَاء مُوكل ... وَلَا بُد من يَوْم بِهِ تتهود) (وَأقسم مَا ذاق الْيَهُود بإيليا ... وموضعها من بخْتنصر أسود) (كبعض الَّذِي جرعته فسرطته ... وأيد فِيهِ من عماك الْمُؤَيد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 (ولَايَته عزل إِلَيْك موجه ... وَتَصْحِيفه قتل عَلَيْك مؤبد) (رماك بباقلا دمشق فَلم تكن ... سوى بقلة حمقاء بالحمق تحصد) (وجالدت جلادا وانت مؤنث ... تذكرت والجلاد أدهى وَأجْلَد) (تطاولت لَا نفس تسمى وَلَا أَب ... وَرَاءَك زحفا إِنَّمَا أَنْت مقْعد) (أمسعاة نور الدّين تبغي ودونها الأسنة ... تبر والعوامل تعضد) (بمحمود الْمَحْمُود سَيْفا وساعدا ... حملت لقد ناجتك صماء مؤيد) (وَهل يَسْتَوِي سَار تأسد طاويا ... ونشوان يعلى معصما وَيُؤَيّد) (تنصرت أما بل تمجست والدا ... وَعَما فعرق الْكفْر فِيك مردد) (تخذت بني الصُّوفِي أسرا وأسرة ... لكَي يصلحوا مَا فِي يَديك فأفسدوا) (لعمرى لَنِعْم العَبْد أَنْت تجيعه الموَالِي ... وتوليه هواناً فيحمد) (إِلَيْكُم بني العلاّت عَن متُشاوس ... لَهُ الشَّام مرقا وَالْعراق مرقد) (وَمَا مصر إِلَّا بعض أمصاره الَّتِي ... إِلَى أمره تسْعَى قماء وتحفد) (انيبوا إِلَيْهِ فَهُوَ أرْحم قادرٍ ... لَهُ الصفح دين واقبلوا النصح تَرْشُدوا) (وَلَا ترشفوا نفث الْمُؤَيد إِنَّه ... عَن الْخَيْر يزوي أَو إِلَى المْين يسند) (وفروا إِلَى مولاكم وَالَّذِي لَهُ ... عَلَيْكُم أياد وَسْمُها لَيْسَ يجْحَد) (وَلَا تكفروه إِنَّمَا أَنْتُم لَهُ ... وَمِنْه وَيَوْم عِنْد حوران يشْهد) (غَدَاة على الجولان جول وللظبى ... رعود فريص الْمَوْت مِنْهُنَّ ترْعد) (وَلما اكفهر الْيَوْم واربد وَجهه ... وعوذ مَرْهُون وفر مُزْبِد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 (وأيقن من بَين السدير وجاسم ... بِأَن الْحرار السود بالجرد تجرد) (ردتهم على بصرى وصرخد خيله ... وَقد أَبْصرت بصرى رداها وصرخد) (وطاروا تهز المرهفات طلاهم ... كَمَا انصاع من أَسد نعام مشرد) (وَلَيْلَة ألْقى الشّرك بالمرج بركه ... ومارج نيران الوغى يتوقد) (رمى وَأَخُوهُ مغرب الشَّمْس دونكم ... بمشرقها غَضْبَان يعدو ويسئد) (فمذ وَردت مَاء الأرنط مُغِذَّةً ... أثارت بثَوْرَا غلَّة لَيْسَ تبرد) (أيا سيف شامته يَد الْملك صَارِمًا ... فيمهد إِذْ يسري ويسري فيمهد) (دمشق دمشق إِنَّمَا الْقُدس سرحة ... ومركزها صرح عَلَيْهَا ممرد) (حموها لكَي يحموا وَقد بلغ المدى ... بهم أجل حتم وَعمر محدد) (مَتى أَنا رَاء طَائِر الْفَتْح صادحا ... يرفرف فِي أرجائها ويغرد) وَله من قصيدة أُخْرَى (نذرك بالغوطتين قد ضمنت ... ربوتها ريعه ومقراها) (أطلع لَهَا الشَّمْس من جبينك لم ... يرج سواهَا فِي النّوم جفناها) (فالخيل صور إِلَى تساهم سهميها ... وملهى فِي بَيت لهياها) (دولة من دَانَتْ الْبِلَاد لَهُ ... وعمها ظلّه فأغناها) (لاَ بِسِواها تلِيق بهجتها ... وَلَا سواهُ تبغي رعاياها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قَالَ أَبُو يعلى وَفِي عَاشر الْمحرم نزلت أَوَائِل عَسْكَر نور الدّين على أَرض عذراء من عمل دمشق وَمَا والاها وَفِي الْغَد قصد فريق وافر مِنْهُم نَاحيَة السهْم والنيرب وكمنوا عِنْد الْجَبَل لعسكر دمشق فَلَمَّا خرج مِنْهَا إِلَيْهِم أسْرع النذير إِلَيْهِم فَحَذَّرَهُمْ وَقد ظهر الكمين فَانْهَزَمُوا إِلَى الْبَلَد وَفِي الْغَد نزل نور الدّين بعسكره على عُيُون فاسريا بَين عذراء ودومة وامتدوا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات ونزلوا من الْغَد فِي أَرَاضِي حجيرا وراوية فِي الْخلق الْكثير والجم الْغَفِير وانبثت أَيدي المفسدين من الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي والأوباش من أهل العيث وَالْفساد فِي زروع النَّاس فحصدوها وَفِي الثِّمَار فأفنوها بِلَا مَانع وَلَا دَافع وتحرك السّعر وانقطعت السابلة وَوَقع التأهب للحصار ووافت رسل نور الدّين إِلَى وُلَاة الْبَلَد يَقُول أَنا مَا أوثر إِلَّا صَلَاح أَمر الْمُسلمين وَجِهَاد الْمُشْركين وخلاص من فِي أَيْديهم من الْأُسَارَى فَإِن ظهرتم معي فِي عَسْكَر دمشق وتعاضدنا على الْجِهَاد فَذَلِك المُرَاد فَلم يعد الْجَواب إِلَيْهِ بِمَا يرضاه فَنزل فِي أَرض مَسْجِد الْقدَم وَمَا وَالَاهُ من الشرق والغرب وَبلغ مُنْتَهى الخيم إِلَى الْمَسْجِد الْجَدِيد قبلى الْبَلَد قلت هُوَ الَّذِي يُسمى فِي زَمَاننَا بمقبرة الْمُعْتَمد بَين مَسْجِد الْقدَم وَمَسْجِد فلوس قَالَ وَهَذَا منزل مَا نزله أحد من مقدمى العساكر فِيمَا سلف من السنين وأهمل الزَّحْف إِلَى الْبَلَد إشفاقا من قتل النُّفُوس ووصلت الْأَخْبَار باحتشاد الفرنج واجتماعهم لإنجاد أهل دمشق فضاقت صُدُور أهل الصّلاح وَزَاد إنكارهم لمثل هَذِه الْأَحْوَال الْمُنكرَة والمناوشات فِي كل يَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مُتَّصِلَة من غير مزاحفة وَلَا محاربة فَلم يزل ذَلِك إِلَى ثَالِث عشر صفر فَرَحل الْعَسْكَر النورى من هَذِه الْمنزلَة وَنزل فِي أَرَاضِي فذايا وحلقبلتين والخامسين المصاقبة للبلد وَمَا عرف فى قديم الزَّمَان من أقدم على الدنو مِنْهَا ثمَّ رَحل فِي الْعشْرين من صفر إِلَى نَاحيَة داريا لتواصل الإرجاف بِقرب عَسَاكِر الإفرنج من الْبَلَد لقُوَّة عزمه على لقائهم وَصَارَ الْعَسْكَر النوري فِي عدد لَا يُحْصى وَفِي كل يَوْم يزْدَاد بِمَا يتواصل من الْجِهَات وَطَوَائِف التركمان وَنور الدّين مَعَ هَذِه الْحَال لَا يَأْذَن لأحد من عسكره فِي التسرع إِلَى قتال أحد من الْمُسلمين وَكَانُوا يَعْنِي أهل الْبَلَد يحملهم الْجَهْل والغرور على التسرع والظهور وَلَا يعودون إِلَّا خاسرين مفلولين وَأقَام على هَذِه الصُّورَة ثمَّ رَحل إِلَى نَاحيَة الأعوج لقرب عَسْكَر الإفرنج وعزمهم على قَصده وَاقْتضى رَأْيه الرحيل إِلَى نَاحيَة الزبداني استجرارا لَهُم وأفرق من عسكره فريقاً يناهز أَرْبَعَة آلَاف فَارس مَعَ جمإعة من المقدمين ليكونوا فِي أَعمال حوران مَعَ الْعَرَب لقصد الإفرنج ولقائهم وترقبا لوصولهم وَخُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم واجتماعهم بهم ثمَّ يقاطع عَلَيْهِم وَاتفقَ أَن عَسْكَر الإفرنج رَحل عقيب رحيله إِلَى الأعوج وَنزل بِهِ فِي ثَالِث ربيع الأول وَدخل مِنْهُم خلق كثير إِلَى الْبَلَد لقَضَاء حوائجهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَخرج مجير الدّين ومؤيده فِي خواصهما وَجَمَاعَة وافرة من الرّعية واجتمعا بملكهم وخواصه وَمَا صادفا عِنْده شَيْئا مِمَّا هجس فِي النُّفُوس من كَثْرَة وَلَا قُوَّة وتقرر بَينهم النُّزُول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال اعماله ثمَّ رَحل عَسْكَر الإفرنج إِلَى رَأس المَاء وَلم يتهيأ خُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم لعجزهم وَاخْتِلَافهمْ وَقصد من كَانَ بحوران من الْعَسْكَر النوري وَمن انضاف إِلَيْهِم من الْعَرَب فِي خلق كثير نَاحيَة الإفرنج للإيقاع بهم والنكاية فيهم والتجأ عَسْكَر الإفرنج إِلَى لجاة حوران للاعتصام بهَا ونمي الْخَبَر إِلَى نور الدّين فَرَحل وَنزل على عين الْجَرّ من الْبِقَاع عَائِدًا إِلَى دمشق وطالبا قصد الفرنج والعسكر الدِّمَشْقِي وَكَانَ الإفرنج حِين اجْتَمعُوا مَعَ الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي قد قصدُوا بصرى لمضايقتها ومحاربتها فَلم يتهيأ ذَلِك لَهُم وَظهر إِلَيْهِم سرخاك واليها فِي رِجَاله وعادوا عَنْهَا خاسرين وانكفأ عَسْكَر الفرنج إِلَى أَعماله وراسلوا مجير الدّين ومؤيده يَلْتَمِسُونَ بَاقِي القطيعة المبذولة لَهُم على ترحيل نور الدّين عَن دمشق وَقَالُوا لَوْلَا نَحن نَدفعه مَا رَحل عَنْكُم قَالَ أَبُو يعلى وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْخَبَر بوصول الأسطول الْمصْرِيّ إِلَى ثغور السَّاحِل فِي غايٍة من الْقُوَّة وَكَثْرَة من الْعدة وَالْعدة وَذكر أَن عدَّة مراكبه سَبْعُونَ مركبا حربية مشحنة بِالرِّجَالِ وَلم يخرج مثله فِي السنين الخالية وَقد أنْفق عَلَيْهِ فِيمَا حُكيَ وَقرب ثَلَاث مئة ألف دِينَار وَقرب من يافا من ثغور الفرنج فَقتلُوا واسروا وأحرقوا مَا ظفروا بِهِ واستولوا على عدَّة وافرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مراكب الرّوم والإفرنج ثمَّ قصدُوا ثغر عكا فَفَعَلُوا فِيهِ مثل ذَلِك وَحصل فِي أَيْديهم عدَّة وافرة من المراكب الحربية الفرنجية وَقتلُوا من حجاجهم وَغَيرهم خلقا عَظِيما وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فِي الْكل مثل ذَلِك ووعد نور الدّين بمسيره إِلَى نَاحيَة الأسطول الْمَذْكُور لإعانته على تدويخ الفرنجية فاتفق اشْتِغَاله بِأَمْر دمشق وَعوده إِلَيْهَا لمضايقتها وَحدث نَفسه بملكها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعية إِلَيْهِ وإشارتهم لولايته وعدله قَالَ وَذكر أَن نور الدّين أَمر بِعرْض عسكره فَبلغ كَمَال ثَلَاثِينَ ألفا مقاتلة ثمَّ رَحل وَنزل بالدلهمية من عمل الْبِقَاع ثمَّ نزل بِأَرْض كوكبا غربي دارَيّا ثمَّ نزل بارض دارَيّا إِلَى جسر الْخشب وَنُودِيَ فِي الْبَلَد بِخُرُوج الأجناد والأحداث إِلَيْهِ فَلم يظْهر مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير مِمَّن كَانَ يخرج أَولا ثمَّ تقدم وَنزل القطيعة وَمَا والاها ودنا مِنْهَا بِحَيْثُ قرب من الْبَلَد وَوَقعت المناوشة بَين الْفَرِيقَيْنِ من غير زحف وَلَا شدّ فِي محاربة تحرجا من قتل الْمُسلمين وَقَالَ لَا حَاجَة إِلَى قتل الْمُسلمين بأيدي بَعضهم بَعْضًا وَأَنا أرفُههم ليَكُون بذل نُفُوسهم فِي مجاهدة الْمُشْركين قَالَ وَورد الْخَبَر إِلَى نور الدّين بتسلم نَائِبه الْأَمِير حسان المنبجي مَدِينَة تل بَاشر بالأمان فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَورد مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المبشر جمَاعَة من أَعْيَان تل بَاشر لتقرير الْأَحْوَال وترددت المراسلات فِي عقد الصُّلْح مَعَ أهل دمشق على شُرُوط واقتراحات وَتردد فِيهَا الْفَقِيه برهَان الدّين عَليّ الْبَلْخِي والأمير أَسد الدّين شيركوه وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وتقارب الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال على قبُول الشُّرُوط المقترحة وَوَقعت الْأَيْمَان من الْجِهَتَيْنِ على ذَلِك وَالرِّضَا بِهِ فِي عَاشر ربيع الآخر ثمَّ رَحل نور الدّين من الْغَد طَالبا نَاحيَة بصرى للنزول عَلَيْهَا وَالْتمس من دمشق مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من آلَات الْحَرْب لِأَن سرخاك كَانَ شاع خِلَافه وعصيانه وَمَال إِلَى الفرنج فاعتضد بهم فَأنْكر نور الدّين ذَلِك عَلَيْهِ وأنهض إِلَيْهِ فريقا وافراً من عسكره قلت وَلابْن مُنِير فِي نور الدّين يذكر وقْعَة الجولان وَغَيرهَا قصيدة أَولهَا (مَا برقتْ بيضك فِي غمامها ... إِلَّا وغيث الدّين لابتسامها) يَقُول فِيهَا (مَحْمُود الْمَحْمُود جدا وجدا ... أرخص جلد الأَرْض حكم عامها) (ملك أَزَال الرّوم عَن صلبانها ... دفاعه وكب من أصنامها) (جال على الجولان أمس جَوْلَة ... صفرت الأدحي من نعامها) (والجون قد جرعها أجونه ... وفل مشحوذا من اعتزامها) (وَشد فِي الْقد لَهُ مليكها ... قَود عتود القوط فِي شبامها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (وَفِي الرّها صابت لَهُ سَحَابَة ... صَارُوا جُفَاء خف فِي التطامها) (وهب فِي هاب لَهُ عواصف ... تجهمتها الهف من جهامها) (وَكفر لاثا لاث فِي جبينها ... لثم ظبى أَتَت على لثامها) (وقائع يرفضُّ تَحت وقعها ... نظم الثريا فِي فضا مصامها) (فساعة الْبيض إِذا عدّدها ... سَوط عَذَاب صب فِي أَيَّامهَا) (وَاعجبا لعُصب الشّرك الَّتِي ... لم يعصب الرشد على أحلامها) (حِكْمَة استواؤها فِي غيّها ... فِي نقض مَا أحصد من إبرامها) (مظفر الرَّايَات والرأي إِذا الحربُ ... مشت تعثر فِي خطامها) (عدت بِهِ حد الْعَلَاء همم ... هن النُّجُوم أَو نواصي هامها) (جلت لَهُ الدُّنْيَا حلى زبرجها ... عفوا فَلم يلو على حطامها) (رَأَتْهُ وَهُوَ اللَّيْث يدمي ظفره ... أنفذ فِي الْمُشكل من حكامها) (فتوجته الْعِزّ فِي مرتبَة ... تمنطق الجوزاء فِي نظامها) (غَضْبَان لِلْإِسْلَامِ لَا يغيظه استسلامها ... للقسر من إسْلَامهَا) (خطّ على مثل أَب طاعت لَهُ الْآفَاق واستشرف لاغتنامها) (تصرف الدُّنْيَا على إيثاره ... وعراقها مستردفا بشامها) (لَو لم تكن دون منى فَاتَ المنى ... وأقعد الفائز من قوامها) (وامتك مَاء مَكَّة رواضع ... يقصر بَاعَ الدَّهْر عَن فطامها) (وَصَارَ كالجمر الْجمار وخلا ... من أَهله الْأَشْرَف من مقَامهَا) (حميتها لَا زلت ترقى فِي حمى ... من مؤلم الأرداء أَو لمامها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (تُلْبس بَيت الله وشى يَمَن ... يقْرَأ آياتك من أعلامها) (فَإِنَّمَا الدّين رحى قطبتها ... وبازل مُكّنت من زمامها) (أمّت بِنَا الآمال مِنْك كعبة ... سلم اللَّيَالِي آيَة استسلامها) (وأرشفتنا بك ثغر نعْمَة ... لَا نسْأَل الله سوى دوامها) وَقَالَ أَيْضا يمدحه (بجدك أصحب الْجد الحزون ... وأطلع فجره الْفَتْح الْمُبين) (وَفِي كنفيك سولمت اللَّيَالِي ... وَفَارق طبعه الزَّمن الخؤون) (ومنك تعلم الْقطع المواضي ... وَقد زبنت بهَا الْحَرْب الزبون) (وَأَنت السَّيْف لم تمسسه نَار ... وَلَا شحذت مضاربه القيون) (ترَقْرقُ فَوق صفحته الْأَمَانِي ... وتقطر من غراريه الْمنون) (وقبلك مَا سَمِعت بذى فقار ... يبُير الْفقر كَانَ وَلَا يكون) (وَلَا غيث سماوته سَرِير ... وَلَا لَيْث وسادته عرين) (وَلَا قمر لَهُ الهيجاء هال ... وَلَا تَاج لَهُ الدُّنْيَا جبين) (جبلت ندى وعفوا وانتقاما ... وَمَاء كل مجبول وطين) (وملكك عمم الأقطار قطرا ... فأمرعت الأواعث والحزون) (تلألأ تَحْتَهُ غرر اللَّيَالِي ... إِذْ الْأَيَّام عِنْد سواك جون) (وَأَنت أَقمت للجدوى مناراً يبين لشائميه وَلَا يبين) (وعندك مشرب النعمى زلال ... إِذا عنفت مشاربها الأجون) (تحكم فِي عطائك كل عاط ... وَقد شيدت من الُمنع الْحُصُون) (لقد أشعرت دين الله عزا ... تتيه لَهُ المشاعر والحجون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 (وَقَامَ بنصره وَالنَّاس فوضى ... قوى مِنْك فِي الجلى أَمِين) (رجعت مُلُوكهمْ وهم خيوف ... أَسِير فِي صفادك أَو كنين) (فبرنست الْبُرْنُس لقاع خسف ... وجرع مرّ جوسك جوسلين) (إِذا مَا الْفِعْل عُلَّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاهُ أَو سُكُون) (غنوا حَتَّى غزوتهم فغنى الصدى ... فِي أَرضهم خف القطين) (وَكم عبر الصَّلِيب بهم صليبا ... فَردته قناك وَفِيه لين) (وَمَا خطرت بدار الشّرك إِلَّا ... هوى الناقوس وارتفع الأذين) (مَلَأت عِظَام ساحِهُم عظاما ... فَكل مَلأ لقوك بِهِ جرين) (بإنب والقنا تجْرِي نجيعا ... كَأَن عُيُون أكعبها عُيُون) (وَبَين حِرار صرخد ذُبْنَ حَرًّا ... لَهُ فِي كل خبخبة كمين) (وفئن من العُرَيْمة فِي عَرام ... لَهُ فِي جونها الْأَقْصَى وجون) (وَكم حرم بحارم غادرته ... ودارته لمنسفها درين) (وَفِي شعراء قُورُس صغن شعرًا ... تدار على غراريه اللحون) (وقائع صِرْن فِي صنعاء طيرا ... يوقعها على عدن عدون) (نماك أَب إِذا عد انتسابا ... تراقى مصعدا وَالنَّاس دون) (شمالا كَانَ أَمْلَاك البرايا ... وَقد قيسوا بِهِ وَهُوَ الْيَمين) (قضى وقضاؤه فِي الأَرْض حتم ... وَطَاعَة أَهلهَا لِبَنِيهِ دين) (لهَذَا الْيَوْم تنتخب القوافي ... ويذخر نَفسه الدّرّ المصون) (وَنحن أَحَق مِنْك بِأَن نهنا ... إِذا قرّت برؤَيِتك الْعُيُون) (سلمت لنا فَإنَّا كل صَعب ... نوازنه بِأَن تبقى يهون) (ترابطنا بعقوتك التهاني ... وتغبطنا بدولتك الْقُرُون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر من نَاحيَة ديار مصر بِأَن أهل دمياط حدث فيهم فنَاء مَا عهد مثله فِي حَدِيث وَلَا قديم بِحَيْثُ أحصي الْمَفْقُود مِنْهُم فِي سنة خمس وَأَرْبَعين سَبْعَة آلَاف شخص وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين مثلهم فَصَارَ الْجَمِيع أَرْبَعَة عشر ألفا وخلت دور كَثِيرَة من أَهلهَا وَبقيت مغلقة لَا سَاكن فِيهَا وَلَا طَالب لَهَا قَالَ وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة توفى القَاضِي السديد الْخَطِيب أَبُو الْحُسَيْن بن أبي الْحَدِيد خطيب دمشق وَكَانَ خَطِيبًا بليغا صيتًا عفيفا وَلم يكن لَهُ من يقوم مقَامه فِي منصبه سوى أَبى الْحسن الْفضل ولد وَلَده وَهُوَ حدث السن فنصب مَكَانَهُ وخطب وَصلى بِالنَّاسِ وَاسْتمرّ الْأَمر لَهُ وَمضى فِيهِ قَالَ ووردت الحكايات بحدوث زَلْزَلَة وأفت اللَّيْلَة الثَّالِثَة عشرَة من جُمَادَى الاخرة اهتزت الأَرْض لَهَا ثَلَاث رجفات فِي أَعمال بُصرى وحوران وَمَا والاها من سَائِر الْجِهَات وهدمت عدَّة وافرة من حيطان الْمنَازل ببصرى وَغَيرهَا ثمَّ سكنت بقدرة من حركها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قَالَ وَفِي ثَانِي عشر رَجَب توجه مجير الدّين صَاحب دمشق إِلَى حلب فِي خواصه وَوصل إِلَيْهَا وَدخل على نور الدّين صَاحبهَا فَأكْرمه وَبَالغ فِي الْفِعْل الْجَمِيل فِي حَقه وَقرر مَعَه تقريرات اقترحها عَلَيْهِ بعد أَن بذل لَهُ الطَّاعَة وَحسن النِّيَابَة عَنهُ فِي دمشق وَرجع إِلَى دمشق مَسْرُورا فِي سادس شعْبَان قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القيسراني (وفت لَك الدُّنْيَا بميعادها ... باذلة أفلاذ أكبادها) (وأوفدت غر سلاطينها ... عَلَيْك فِي بهمة أنجادها) (تبغى سناء اقصدت قَصده ... طَائِعَة طَاعَة أجنادها) (خاضعة تَعْتَد أعمارها ... يَوْم التلاقي يَوْم ميلادها) (شامت دمشق بك بَرْق الْعلَا ... فَأرْسلت أصدق روّادها) (رأتك نور الدّين نَار الْهدى ... قد اشرق الْأُفق بإيقادها) (فيممت مِنْك حَيا مزنة ... بيض الأيادي ورد ورّادها) (فاسأل مجير الدّين عَن خُبره ... أوردهَا مَحْمُود إيرادها) (تبوأت من عزها قبَّة ... سُمر القنا أطناب أوتادها) (تنافس النَّاس على دولة ... فت بهَا أعين حسادها) (يَغْدُو المعُادي كالموالى لَهَا ... فوالها إِن شِئْت أَو عادها) (يَا ملكا تزهى بأسمائه ... مَنَابِر تسمو بأعوادها) (وَتَأْخُذ الأسماع أَوْصَافه ... عَن جمع الدُّنْيَا وأعيادها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 (كمْ للمعالي فِيك من رغبةٍ ... تفنى الْأَمَانِي دون تعدادها) (لَك المساعي الغر يَا جَامعا ... من طرفيها بَين أضدادها) (تغشى الوغى أَفرس فرسانها ... وَفِي التقى أزْهد زهادها) (فَأَنت نُسْكاً غيث أبدالها ... وَأَنت فتكا لَيْث آسادها) (فِي أمّة أَنْت حِمَى دينهَا ... حينا وحينا شمس عبادها) (يطوى بك العمرُ إِلَى غايةٍ ... حَسبك تقوى الله من زَادهَا) (هَذَا وَكم من سنة بدعةٍ ... أعدمْتها من بعد إيجادها) (مآثرٌ لَو عَدِمت رَاوِيا ... تكفَّل النّظم بإسنادها) قَالَ أَبُو يعلى وَفِي أَوَاخِر شعْبَان أغار بعض التّركمان على ظَاهر بانياس فَخرج إِلَيْهِم واليها من الإفرنج فِي أَصْحَابه وَظهر التركمان عَلَيْهِم فَقتلُوا وأسروا وَفِي رَمَضَان قصد بعض الفرنج نَاحيَة من الْبِقَاع وأغاروا فأنهض إِلَيْهِم وَالِي بعلبك رجالة فلحقوهم وَقد أرسل الله عَلَيْهِم من الثلوج المتداركة مَا ثبطهم فاستخلصوا مِنْهُم الْغَنِيمَة قلت والى بعلبك هَذَا هُوَ نجم الدّين أيّوب وَالِد صَلَاح الدّين يُوسُف قَالَ ابْن أبي طي فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين أغار التركمان على بانياس فَخرج أهل بانياس من الفرنج ليستنقذوا مَا أَخَذُوهُ فَعَاد التركمان عَلَيْهِم فكسروهم ونهبوهم واتصل ذَلِك بِصَاحِب دمشق فأغضبه فعل التركمان لِمَكان الْهُدْنَة المنعقدة بَينه وَبَين الفرنج فأنفذ عسكراً إِلَى التركمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 استعاد مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ واتصل خبر التركمان بالفرنج فجيشوا وَخَرجُوا فِي جَيش عَظِيم وشنوا الْغَارة على الْبِقَاع وَالنَّاس غافلون فامتلأت أَيْديهم من الْغَنَائِم وَالْأسَارَى واتصل خبر غَارة الفرنج بِنَجْم الدّين أَيُّوب وَهُوَ فِي بعلبك وَعِنْده جمَاعَة من عَسْكَر دمشق وَأَصْحَابه فَقدم عَلَيْهِم وَلَده شمس الدولة فَخرج وأوقع بالفرنج وَاتفقَ أَنه كَانَ قد أصَاب الفرنج ثلج عَظِيم هلك بِهِ أَكْثَرهم وَجَاء شمس الدولة وهم متورطون فَقتل فيهم مقتلة عَظِيمَة وخلص من كَانَ مَعَ الفرنج من الْأُسَارَى قَالَ وَفِي هَذِه السّنة فَارق صَلَاح الدّين وَالِده وَصَارَ إِلَى خدمَة عَمه أَسد الدّين بحلب فقدّمه بَين يَدي نور الدّين فَقبله واقطعه إقطاعا حسنا قَالَ أَبُو يعلى وَفِي ثَانِي شَوَّال وَهُوَ الثّاني من شباط وافت قُبيل الظّهْر زَلْزَلَة اهتزت لَهَا الأَرْض ثَلَاث هزات هائلة وتحركت الدّور والجدران ثمَّ سكنت قلت وَفِي هَذِه السّنة فِي غرَّة جُمَادَى الأولى كتب أَحْمد بن مُنِير من حماة إِلَى نور الدّين قصيدة يهنئه بوصول الْخلْع إِلَيْهِ من بَغْدَاد من عِنْد الْخَلِيفَة على يَد الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون ويصف الْفرس الْأَصْفَر الْأسود القوائم والمعارف وَالسيف الْعَرَبِيّ أَولهَا (لعلائك التأييد والتأميل ... ولملكك التَّأْبِيد والتكميل) (أبدا تهم وتقتفي فتنال مَا ... عز الورى إِدْرَاكه وتنيل) (إِمَّا كتاب يسْتَقلّ بِهِ الْكَتَائِب ... أَو رَسُول للنجاح رسيل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 (لَك من أبي سعد زعيم سَعَادَة ... فَمن تفاءل فِيك لَيْسَ يفيل) (نعم الحسامُ جلوته وبلوته ... يرضيك حِين يصل ثمَّ يصول) (سهم تُعّود فِي الكنانة عوده ... وَيقصر الْمَطْلُوب وَهُوَ طَوِيل) (سددته فَمضى وقرطس صادرا ... كالنجم لَا وَهل وَلَا تهليل) (فَثنى الْقُلُوب إِلَى ولائك حول ... مِنْهُ بِمَا يجني رضاك كَفِيل) (وَأقَام ينشر فِي الْعرَاق ودجلة ... آيا تأولها لمصر النّيل) (وكساك من رَأْي الْخَلِيفَة جنَّة ... لَا النّقص يُوهيها وَلَا التقليل) (كنت الشريف أفضت فِي تشريفه ... مَاء عَلَيْهِ من سَناك دَلِيل) (أليوسف لما طلعت مقرطقا ... طمثت حصانٌ واستخف أبيل) (أم عَن سُلَيْمَان يفرج ضَاحِكا ... سجف الرواق وضعضع الكيول) (ومملك فِي السرّج أم ملك سطت ... لبهائه عقلٌ وتاه عقول) (وبرزت فِي لبس الْخلَافَة كالهلال ... جلاه فِي حلل الدجى التهليل) (خلع خلعن على الْقُلُوب مَسَرَّة ... سدكا بهَا التَّعْظِيم والتبجيل) (نثرت نضارا جَامِدا أعلامها ... وتكاد تجْرِي رقة وتسيل) (لقضى لَهَا أَن لَا عديل لِفَخرها ... رب براك فَمَا تلاك عديل) (أَنْت المهَّند مُنذ سَّلتْهُ العُلا ... لم يخلُ من مهج عَلَيْهِ تسيل) (مذ هز قائمه الإِمَام تألقت ... غرر شدخن لملكه وحجول) (والَيْت دولَته فتِهتَ بدولةٍ ... متُكلل بصعيدها الإكليل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 (ونصرته فحَلاك أَبيض دونه ... صَرْف الزَّمَان إِذا استكل كليل) (قلدته وكلاكما متلهذم ... عضب فزان المغمد المسلول) (وحبا ركابك حِين قر بزحفه الْقُرْآن ... واستخذى لهُ الْإِنْجِيل) (بأَقب أصفر مشرف الْهَادِي لَهُ التحجيل ... لون واللما تحجيل) (قسم الدجى بَين الغدائر والشوى ... واعتام رونقه الْأَصِيل أصيل) (وتقاسم الراؤوه تَحْتك أَنه ... حيزوم صرف عطفه جِبْرِيل) (يختال فِي حبك الحُلىّ مخيلا ... أَن الشّوامخ للبدور خُيُول) (مُرْخَى الذوائب كالعروس يزينُه ... طرف بأطراف الرّماح كحيل) (تتصاعق النعرات تَحت لبانه ... إِن شب زفر واستجش صَهِيل) (لم يحب مثلك مثله مهد وَلم ... يشلل على برق سواهُ شليل) وأنشده فِي هَذِه السّنة أَيْضا بحمص قصيدة مِنْهَا (الدَّهْر أَنْت ودارك الدُّنْيَا وَمن ... فِي الْعد بعد مُؤَمل وحسود) (وأزمة الأقدار طوع يَديك وَالْأَيَّام ... جندك والأنام عبيد) (فت الورى وعقدت نَاصِيَة المدى ... بمذمر الشعري فَأَيْنَ تُرِيدُ) (تال أَبَاك فَهَل سليمانٌ يُرى ... فِي الدَّست مهد مُلكه دَاوُد) (جَلَّى وسدت مُصَليا لَا يرفع الْمَعْدُوم ... مَا لم يشفع الْمَوْجُود) (لم يخُترم جدٌّ نماك وَلَا أَب ... إِن النباهة فِي الخليف خُلُود) (شمخت منارُك فِي اليفاع وَأمّهَا ... من لم يسُدْ فَأَرتْه كَيفَ يسود) (وهَبَبْت لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ مصوح ... فاهتز أهضاب ورق نجود) (وفثأت جَمْرَة صالمية بصيلم ... يضع الأجنةَ يومُها الْمَشْهُود) (خطمتهم فَوق الخطيم لوافح نفس الأرين لَو أرهن) (ورُمُوا على الجولان مِنْك بجولة ... توئيدها نسر الضلال وئيد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 (ولحا عظامهم بعرقة عارق ... مَا زلت تمخض جوه فتجود) (وشللت بالروج السُّرُوج وفوقها ... زرع تحصده الرماح حصيد) (وعَلى عزاز عنوْا وثل عروشهم ... ملك مُقَيّد من عَصَاهُ مُقَيّد) (وبتل باشِرَ باشُروك فعافسوا ... أهب الأساود حشوهنّ أسود) (أودوا كَمَا أودى بعاد غيها ... وعقوا كَمَا استغوى الفصيل ثَمُود) (إِن آلموا عقراً فَإنَّك صَالح ... أَو آلموا غدراً فَإنَّك هود) (وزَّعتهم فبكُلّ مهِبط تَلْعَةٍ ... خدٌّ بِهِ من وازع أخدُود) (وعصبتهم بعصائب ملْء الملا ... شَتَّى وَإِن خل البسالة عود) (آثارها محمودة وإثارها ... مَشْهُودَة وشعارها مَحْمُود) (لبست من اسْمك فِي الكريهة ملبسا ... يبْلى جَدِيد الدَّهْر وَهُوَ جَدِيد) (وقصيرة الْآجَال طول بَاعهَا ... بوع يسامي هامها وقدود) (مطرورة الأسلاب مذ هزعتها ... تاه الْهدى وتبختر التّوحيد) (أشرعتها فعلي شَرِيعَة أَحْمد ... مِمَّا جنته بوارق وعقود) (وَلكم نثرت نظيمها فِي موقف ... تغريد صالى حره التغريد) (يجلو سناك ظلامه وَيحل مَا ... عقدت قناهُ لواؤك الْمَعْقُود) (فِي هبوة زحم السَّمَاء رواقها ... وَالْأَرْض ترجف تَحْتَهُ وتميد) (ضربت مخيمها فَكَانَ كماتها ... أوتاده القصوى وَأَنت عَمُود) (فِي كل يَوْم من فتوحك صادِحٌ ... هزج الْغناء وطائر غريد) (تهدي لغانة كأسه فرغانة ... وتسيغ زبدة مَا شداه زبيد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 (فغرار سَيْفك للأحابش محبس ... ومثار نقعك للصعيد صَعِيد) (لَا تَعْدَ من هَذَا الْمُقَلّد أمة ... ملقى إِلَيْهِ لرعيها الإقليد) (الْورْد قر والمسارح رحبة ... والرفد مد والظلال مديد) (والعيش ابلج مشرق القسمات وَالْأَشْجَار ... غر والأصائل غيد) (وَالْملك مَمْدُود الرواق منور الْآفَاق ... وضاء المنى مَحْسُود) (فِي دولة مُذْ هَبّ نشر ربيعها ... نُشِر الرَفاتُ وأثمر الجُلمود) (محمودة الْآثَار محمودية ... كل المواسم عِنْدهَا تعييد) وَقَالَ يهنئه بليلة الميلاد ويصف النازلين فِي الْجَبَل من قلعة حلب قصيدة مِنْهَا (هنيت زوري ذراك صومك والميلاد ... جَاءَا والسعد فِي نسق) (فَذَاك بخلت فِيهِ كل ند ... وَذَاكَ أخملت فِيهِ كل تَقِيّ) (وَجه كصدر الحسام تصبو لَهُ الْعين ... وينقد الْقلب من فرق) (ومقلة شوقها ليقظتها ... شوق لحسادها إِلَى الأرق) (ومرتقى تَعْجبُ السَّمَاء لَهُ ... إِذا استطالت إِلَيْهِ كَيفَ رقي) (توجت شهباءها بمشرقة ... مشرفة شهبها على الْأُفق) (جو تهاوى مِنْهُ كواكبه ... طرفه طرف رجوم مُسترق) (فوارس تذْهلُ الفوارس أَن ... تهافت من أرشاقها الرّشق) (من راكضٍ فِي الْهَوَاء أَهْوى من الْفَتْح ... مجر من تَحْتَهُ لبق) (شاو من الْحَضَر لَو تحاوله الْخضر ... لزلت عَن موطئ زلق) (يَقُول من دينه الفروسة مَا ... لاقك إِلَّا ضرب من الإلق) (بَدائعٌ تغبط السَّمَاء بهَا الأَرْض ... وتذكي الإشفاق فِي الشَّفق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 (فِي دولة جمعت إيالتها ... من بدد الْحسن كل مفترق) (تَزَّر أطواقُها على ملِك ... مكتفلٍ رزق كل مرتزق) (مَحْمُود اسْما وميسما وندى ... واعتصب الدَّم كل مرتفق) (طبّق طوفانُه فلسْت ترى ... إِلَّا مغيثا مشف على غرق) (يَا بَحر لاَ خلق تدعى شبها ... فَاتَ المدى مَا حَويتَ من خُلُق) (ملكك هَذَا الَّذِي تملأه ... صباه يجْرِي والدهر فِي طلق) ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قَالَ أَبُو يعلى وَورد الْخَبَر فِي الْمحرم بنزول نور الدّين على حِصْن أنطرسوس فِي عسكره وافتتاحه وَقتل من كَانَ فِيهِ من الإفرنج وَطلب الْبَاقُونَ الْأمان على النُّفُوس فأجيبوا إِلَى ذَلِك ورتب فِيهِ الْحفظَة وَعَاد عَنهُ وَملك عدَّة من الْحُصُون بِالسَّبْيِ وَالسيف والإخراب والإحراق والأمان قَالَ وَورد أَيْضا ظفر رجال عسقلان بالإفرنج المجاورين لَهُم بغَزة بِحَيْثُ هلك مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ قلت وقرأت فِي ديوَان ابْن مُنِير يمدح نور الدّين ويهنئه بِفَتْح أنطرسوس ويحمور وعوْده عَنْهُمَا قصيدة مِنْهَا (أبدا تباشر وَجه غزوك ضَاحِكا ... وتؤوب مِنْهُ مؤيداً منصورا) (تدني لَك الأمل البعيدَ سواهُم ... محقت أهلتها وَكن بدورا) (مثل السِّهَام لَو ابْتغى ذُو أرْبع ... فِي الجو مطلبا لَكِن طيورا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 (نبذت علائقها بحمص وأعلقت ... سحرًا بمعرق عرقه الأظفورا) (وعدون صافيثاء لَاحَ شوارها ... قد أتلعت عُنقاً إِلَيْك مُشِيرا) (الْقلب أَنْت فَإِن تعامى عَن هدى ... عُضْوٌ أهَابَ بِه فَعَاد بَصيرًا) (عرفُوا مَكَانك والظهيرة بَينهم ... يفري بَيَاض أديمها ديجورا) (أَيْن الذبال من من الغزالة أشرقت ... وَجها وطبقت البسيطة نورا) (غضبانُ اقْسمْ لَا يَشيم حسامه ... وَالْأَرْض تحمل فِي الكُفور كَفورا) (غسل العواصم أمس من أدرانهم ... وَالْيَوْم رد بِهِ السواحل بورا) (لم يُبْقِ بَين الحولتين وآمد ... وترا لِمُضْطغنٍ ولاَ مَوتورا) (أخلى ديار الشّرك من أوثانها ... حَتَّى غَدا ثالوثهن نكيرا) (رفع الْقُصُور على نضَائد هامِهِم ... من بعد مَا جعل الْقُصُور قبورا) (بشواحِب الألياط تقطو فِي الظلام ... قطا وتهوي فِي الصَّباح نسورا) (غادرت أنطرسوس كالطرس امحى ... رسما وحمر درعها يحمورا) (وَهِي الزِّنَاد لفتنة كَانَت على الْإِسْلَام ... أحكم كَسره إكسيرا) (هتمت طرابلسا فَأصْبح ثغرها البسام ... من عز الثغور ثغيرا) (إقليدها كَانَت وَقد أنطيته ... واسأل بِهِ مِمَّن دهته خَبِيرا) (إِن الألى أمنُوا وقاعك بعْدهَا ... غروا وَقد ركبُوا الأغَرّ غرُورًا) (ألق الْعَصَا فِيمَن أطَاع وَمن عصى ... مِنْهُم وَدَمرَ أَرضهم تدميرا) (لَا يلههم أَن قد مننت وشنها ... شعواء تُصلى الْكَافرين سعيرا) (باكر برَكز قِنَا تنسف أسها ... وَالْخَيْل صور كي تزيرك صورا) (وتريك لامعة التريك بِسَاحَة الْأَقْصَى ... مُطهرة لَهَا تَطْهِيرا) (أولَستَ من قوم إِذا هزوا القنا ... فتلوا معاصمهم لَهَا تسويرا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 (وَإِذا هم خطبوا اليراع عزيزة ... ساقوا الشفار على المهار مهورا) (ألْقى قسيماهم إِلَيْك أزمة الْملك ... المطل على السُّها تَأْثِيرا) (ضحِكت لَك الْأَيَّام واكتأب العدى ... قلقا فَجئْت مبشرا وَنَذِيرا) (لَا ملك إِلَّا ملك مَحْمُود الّذي ... تَخِذَ الْكتاب مُظاهراً ووزيرا) (تمشى وَرَاء حُدُوده أَحْكَامه ... تأتمهن فَيحكم التقديرا) (بقظان ينشر عدله فِي دولةٍ ... جَاءَت لِمَطْوِىَّ السّماح نُشورا) (خلف الخلائف قَائِما عَنْهُم بِمَا ... عَيُّوا بِهِ ألوى أَلد غيورا) (الْبر والمعصوم وَالْمهْدِي والمأمون ... والسفاح والمنصورا) (نشرُوا بِهِ فعهودهم وعهادهم ... يمْتَحن تَحت لوائه منشورا) وأنشده بحلب فِي هَذِه السّنة قصيدة أوّلها (المجدُ مَا أدرعت ثراك هضابه ... وتثقفتك شعوبه وشعابه) (ملك تكنّفَ دين أَحْمد كنه ... فأضاء نِّيرهُ وصاب شهابه) (فالعدل حَيْثُ تصرفت أَحْكَامه ... والأمن حَيْثُ تصرمت أسرابه) (متهلل وَالْمَوْت فِي نبراته ... يُرْجَى ويرهب خَوفه وعقابه) (عقد اللِّوَاء وَسَار يقدمهُ وَمَا ... حلت عقودَ تَميمِها أترابه) (أَسد فرائسه الفوارس والظبى ... أَظْفَاره والسمهرية غابه) (طبع الْحَدِيد فَكَانَ مِنْهُ جنانه ... وسنانه وإهابه وثيابه) (ويهش إِن كبت الوجوهُ كانما ... أعداؤه تَحت الوغى أحبابه) (نشرت بمحمود شَرِيعَة أَحْمد ... وَأرى الصّحابة مَا احتذاه صحابه) (مَا غَابَ أصلع هَاشم فِيهَا وَلَا الْفَارُوق ... بَاء بخطبه خطّابه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 (أَبنَاء قيلة قائمون بنصره ... إِن أجلبت من قاسط احزابه) (صبحوا محلقة الْبُرْنُس بحالق ... حرش الضباب من الْقُلُوب ضبابه) (مَا زَالَ يغلب من بغاه ضلاله ... حَتَّى أتيح من الْهدى غلابه) (ملقى بوحش الأصرمين تزيلت ... آرابه وتزايلت آلابه) (دون الأرنط سخت بِهِ نجداته ... ونجاده وقرابه وقرابه) (سلبته دُرّةَ تاجه يدُ ضيغم ... لم تنْجه من بأسه أسلابه) (واتته تجلب جُوسلين جنائبٌ ... هّبت فقلّ إِلَى الْقِتَال هبابه) (أسرته لَا منعت سراه وغره ... بالقاع إِن رام الْوُرُود سرابه) (يمشي فتسمعه قعاقع قَيده ... هزجا تقيء دَمًا لَهُ أندابه) (لَا تل بَاشرهُ وَلَا كيسونه ... صدت منّى عَنهُ وَلَا عنتابه) (ضمنت شقاوته سَعَادَة صافحٍ ... غطى على إعناته إعتابه) (مَا زَالَ يغدر ثمَّ يغدر قَادِرًا ... حَتَّى أَتَاهُ بجامح أَصْحَابه) (قصر الْأَمَانِي أَن يملئ عصرك الْإِسْلَام مَضْرُوبا عَلَيْهِ حجابه) (مجر يجر إِلَى الْغَنَائِم قبه ... وَحمى يزار على الْفتُوح قبابه) وأنشده بحلب أَيْضا فِي شَوَّال من هَذِه السّنة قصيدة مِنْهَا (لقد أوطأت دين الله عزَّا ... أَدِيم الشعريين لَهُ رغام) (دعَاك وَقد تناوشت الرزايا ... لَهُ اهًباً يوزعها العذام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 (فَقُمْت بنصره وَالنَّاس فوضى ... فِئَام ذمّ مَا اقترفت فِئَام) (جذبت بضْبِعه من قَعْر يّمٍ ... لَهُ من فَوق مقسمه التطام) (صببت على الصَّلِيب صَلِيب بأسٍ ... قواه تَحت كلكله حطام) (وملت على معاقلهم فخرت ... وَلَاء مثل مَا انْتقض النظام) (بصرخد والخطيم وَفِي عزاز ... وقائع هز مشهدها الْأَنَام) (وَلَو لم تعترق وتشم لأمسى ... واصبح لَا عراق وَلَا شآم) (وَيَوْم بالعُرَيْمة كَانَ حتفاً ... على الْإِشْرَاك أمقره العرام) (لقوك كَأَن مَا سلوه شيح ... وَمَا اعتقلوه من خور ثمام) (وهاب وقورس وبكفر لاثا ... ذممت وَأَنت للجلىّ ذمام) (صدمتهمُ بأرعنَ مُرجحَنّ ... كَأَن مطار أنسره غمام) (وأية لَيْلَة لم تلف فِيهَا ... لَهُم طيفاً يروع بِهِ مَنَام) (بِنور الدّين أنشر كل عدل ... تعفت فِي الثرى مِنْهُ الرمام) (وَعَاد الْحق بعد كلال حدٍ ... حمى من أَن تراع لَهُ سوام) (تألق عدله وذكت سطاه ... فَلاَ حيف يخَاف وَلَا اهتضام) (بقأؤك خير مَا يرجوه راج ... وأنقع مَا يبل بِهِ أوام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فصل وَفِي هَذِه السّنة ولد لنُور الدّين بحمص ابْن سَمَّاهُ أَحْمد وهنأه بِهِ ابْن مُنِير فِي بعض قصائده ثمَّ توفّي بِدِمَشْق وقبره خلف قبر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ دَاخل الحظيرة فِي مَقَابِر الْبَاب الصَّغِير وقصيدة ابْن مُنِير قد تقدم بَعْضهَا فِي أول الْكتاب وَمِنْهَا فِي ذكر الْمَوْلُود (توالت الأعيادُ لَا زلت لَهَا ... تبلي ديابيج الْبَقَاء وتجد) (الْفطر والميلاد والمولود لَو ... قابله بدر التّمام لسجد) (ثَلَاثَة تعرب عَن ثَلَاثَة ... لمثلهَا يذخر حمدا من حمد) (فتح مُبين وطلاب مدرك ... ودولة مَا تَنْتَهِي إِلَى أمد) وَله من أُخْرَى (وَجئْت بأحمدٍ فملأت حمداً ... موارد كَانَ معدنُها عذَابا) (تهلل وَجه ملكك يَوْم أَهْدَت ... قوابلُه لَك الْملك الّلبابا) (شبيهك لَا يُغَادر مِنْك شَيْئا ... سنا وَحيا وبذلا واستلابا) (قسيم الْحَمد إِلَّا أَن حرفا ... من اسْمك زَاد للمعنى منابا) (أَلا لله يَوْم فَرَّ عَنهُ ... وَركب نصّ بالبشرى الرّكابا) قَالَ أَبُو يعلى فِي أَوَاخِر صفر توجه مجير الدّين فِي الْعَسْكَر وَمَعَهُ مؤيد الدّين الْوَزير إِلَى نَاحيَة حصن بُصرى وَنزل عَلَيْهِ محاصرا لسرخاك واليه لمُخَالفَته وجوره وَأَرَادَ مجير الدّين الْمصير إِلَى حصن صرخد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 لمشاهدته فَاسْتَأْذن مُجَاهِد الدّين واليه فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ هَذَا الْمَكَان بحكمك وَأَنا فِيهِ وَال من قبلك وأنفذ إِلَى وَلَده سيف الدّين مُحَمَّد النَّائِب فِيهِ بإعداد مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وتلقي مجير الدّين بِمَا يجب لَهُ فَخرج إِلَيْهِ فِي أَصْحَابه وَمَعَهُ المفاتيح وأخلى الْحصن من الرِّجَال وَدخل إِلَيْهِ فِي خواصه وسر بذلك وتعجب من فعل مُجَاهِد الدّين وشكره على ذَلِك وَعَاد إِلَى مخيمه على بصرى وحاربها عدَّة أَيَّام إِلَى أَن اسْتَقر الصُّلْح وَالدُّخُول فِيمَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى دمشق قَالَ وَفِي شَوَّال توفّي الْأَمِير سعد الدولة أَو عبد الله مُحَمَّد بن المحسن بن الملحي وَدفن فِي مَقَابِر الْكَهْف وَكَانَ فِيهِ أدب وافر وَكِتَابَة حَسَنَة ونظم جيد وَتقدم وَالِده فِي حلب فِي التَّدْبِير والسياسة وَعرض الأجناد قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا توفّي السُّلْطَان مَسْعُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بهمذان وعهد إِلَى ابْن أَخِيه ملكشاه بن السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد وخطب لَهُ بِبِلَاد الْجَبَل وَكَانَ الْغَالِب على الْبِلَاد والعساكر أَيَّام السُّلْطَان مَسْعُود خاصبك بن بلنكرى فَقَامَ بِأَمْر ملكشاه وَلم يمهله غير قَلِيل حَتَّى قبض عَلَيْهِ وَكتب إِلَى أَخِيه الْملك مُحَمَّد بن مَحْمُود وَهُوَ بخوزستان يستدعيه إِلَيْهِ ليخطب لَهُ بالسلطنة وَكَانَ غَرَض خاصبك أَن يقبض عَلَيْهِ أَيْضا فيخلو وَجهه من مُنَازع من السلجوقية وَحِينَئِذٍ يطْلب السلطنة لنَفسِهِ فَلَمَّا كَاتب مُحَمَّدًا أَجَابَهُ إِلَى الْحُضُور عِنْده وَسَار إِلَيْهِ وَهُوَ بهمذان وَاجْتمعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بِهِ وخدمه خاصّبك خدمَة عَظِيمَة فَلَمَّا كَانَ الْغَد دخل عَلَيْهِ خاصبك فَقتله مُحَمَّد وَألقى رَأسه إِلَى أَصْحَابه فَتَفَرَّقُوا وَاسْتقر مُحَمَّد وَثبتت قدمه وَاسْتولى على بِلَاد الْجَبَل جَمِيعهَا وَكَانَ قتل خاصبك سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَبَقِي مطروحا حَتَّى أَكلته الْكلاب وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه كَانَ من بعض أَوْلَاد التركمان فخدم السُّلْطَان فَمَال إِلَيْهِ وَقدمه حَتَّى فاق سَائِر الْأُمَرَاء وَاسْتولى على أَكثر الْبِلَاد وَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي أَكثر الْحَوَادِث الشاغلة للسُّلْطَان مَسْعُود فَإِن الْأُمَرَاء الأكابر كَانُوا يأنفون من اتّباعه لما كَانَ يُقابلهم بِهِ من الهوان والاحتشام عَلَيْهِم وَذكر الْوَزير يحيى بن هُبَيْرَة فِي = كتاب الإفصاح = أَنه لما تطاول على الْخَلِيفَة المقتفي أَصْحَاب مَسْعُود وأساؤوا الْأَدَب وَلم يُمكن المجاهرة بالمحاربة اتّفق الرأى على الدُّعَاء على مَسْعُود بن مُحَمَّد شهرا كَمَا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رعل وذكوان شهرا فابتدأ هُوَ والخليفة سِرّا كل وَاحِد فِي مَوْضِعه يَدْعُو سحرًا من لَيْلَة تسع وَعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَلِك كل لَيْلَة فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة تسع وَعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ موت مَسْعُود على سَرِيره لم يزدْ عَن الشَّهْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يَوْمًا وَلَا نقص يَوْمًا وَوصل القُصّادُ بذلك من همذان إِلَى بَغْدَاد فِي سِتَّة أَيَّام فأزال الله يَده وَيَد اتِّبَاعه عَن الْعرَاق وأورثنا أَرضهم وديارهم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين مُجيب دَعْوَة الداعين قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن يحيى يَقُول لَا أدل على وجود مَوْجُود أعظم من إِن يُدعى فيجيب ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَفِيهَا أخذت الفرنج خذلهم الله تَعَالَى عسقلان وَبقيت فِي أَيْديهم إِلَى أَن فتحهَا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب رَحمَه الله سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ الرئيس أَبُو يعلى التَّمِيمِي وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة نور الدّين بِقُوَّة عزمه على جمع العساكر والتركمان من سَائِر الْأَعْمَال والبلدان للغزو فِي أحزاب الشّرك والطغيان ولنصرة أهل عسقلان على الإفرنج النازلين عَلَيْهَا وَقد ضايقوها بالزحف إِلَيْهَا بالبرج المخذول وهم فِي الْجمع الْكثير واقتضت الْحَال توجه مجير الدّين صَاحب دمشق إِلَى نور الدّين فِي جُمْهُور عسكره للتعاضد على الْجِهَاد فِي ثَالِث عشر محرم وَاجْتمعَ مَعَه فِي نَاحيَة الشمَال وَقد ملك نور الدّين الْحصن الْمَعْرُوف بإفليس بِالسَّيْفِ وَهُوَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 غَايَة المنعة والحصانة وَقتل من كَانَ فِيهِ من الإفرنج والأرمن وَحصل للعسكر من المَال والسبي الشَّيْء الْكثير ونهضوا طَالِبين ثغر بانياس ونزلوا عَلَيْهِ فِي آخر صفر وَقد خلا من حماته وتسهلت أَسبَاب ملكته وَقد تواصلت استغاثة أهل عسقلان واستنصارهم بِنور الدّين فَقضى الله تعإلى بالخلف بَينهم وَالْقَتْل وهم فِي تَقْدِير عشرَة آلَاف فَارس وراجل فأجفلوا عَنْهَا من غير طَارق من الإفرنج طرقهم وَلَا عَسْكَر رهقهم ونزلوا على الْمنزل الْمَعْرُوف بالأعوج وعزموا على معاودة النُّزُول على بانياس وَأَخذهَا ثمَّ أحجموا عَن ذَلِك من غير سَبَب وَلَا مُوجب وَتَفَرَّقُوا وَعَاد مجير الدّين إِلَى دمشق ودخلها سالما فِي نَفسه وَجُمْلَته حادي عشر ربيع الأول وَعَاد نور الدّين إِلَى حمص وَنزل بهَا فِي عسكره ووردت الْأَخْبَار بوصول أسطول مصر إِلَى عسقلان فَقَوِيت نفوس من بهَا بِالْمَالِ وَالرِّجَال والغلال وظفروا بعدة وافرة من مراكب الفرنج فِي الْبَحْر وهم على حَالهم فِي محاصرتها ومضايقتها والزحف بالبرج إِلَيْهَا وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن تيسرت لَهُم أَسبَاب الهجوم عَلَيْهَا من بعض جَوَانِب سورها فهدموه وهجموا الْبَلَد وَقتل من الْفَرِيقَيْنِ الْخلق الْكثير وألجأت الضَّرُورَة وَالْغَلَبَة إِلَى طلب الْأمان فأجيبوا إِلَيْهِ وَخرج من أمكنة الْخُرُوج فِي الْبر وَالْبَحْر إِلَى نَاحيَة مصر وَغَيرهَا وَقيل إِن فِي هَذَا الثغر المفتتح من العُدد الحربية وَالْأَمْوَال والميرة والغلال مَا لَا يحصر فيذكر وَلما شاع هَذَا الْخَبَر فِي الأقطار سَاءَ سَمَاعه وَضَاقَتْ الصُّدُور وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لَا يُردُّ نَافِذ قَضَائِهِ وَلَا يُدفع محتوم أمره عِنْد نُفُوذه ومضائه قَالَ وَعرض بَين الرئيس ابْن الصُّوفِي وَبَين أَخَوَيْهِ عز الدولة وزينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 مشاحنات ومشاجرات اقْتَضَت المساعاة إِلَى مجير الدّين فِي جُمَادَى الأولى فأنفذ مجير الدّين إِلَى الرئيس يستدعيه للإصلاح بَينهم فِي القلعة فَامْتنعَ من ذَلِك وَجلسَ فِي دَاره وهم بالتحصن عَنهُ بأحداث الْبَلَد والغوغاء وآلت الْحَال إِلَى تمكُّن زين الدولة مِنْهُ بمعاونة مجير الدّين عَلَيْهِ وتقرر بَينهمَا إِخْرَاج الرئيس من الْبَلَد وَجَمَاعَة إِلَى حصن صرخد مَعَ مُجَاهِد الدّين بزان واليه بعد أَن قرر لَهُ بَقَاء دَاره وبستانه وَمَا يَخُصُّهُ ويخص أَصْحَابه وتقلد أَخُوهُ زين الدولة مَكَانَهُ وَأمر وَنهى وَنفذ الأشغال على عَادَته فِي الْعَجز وَالتَّقْصِير وَسُوء الفعال والتماس الرشا على أقل الْأَعْمَال وَرَأى مجير الدّين عقيب ذَلِك التَّوَصُّل إِلَى بعلبك لتطييب نفس واليها عَطاء الْخَادِم واستصحابه مَعَه إِلَى دمشق لينوب عَنهُ فِي تَدْبِير الْأُمُور وَعَاد وَهُوَ مَعَه واستشعر مُجَاهِد الدّين بزان أَن نِيَّة مجير الدّين قد تَغَيَّرت فِيهِ فاستوحش من عَوْده إِلَى الْبَلَد بِغَيْر يَمِين يحلف لَهُ بهَا على أَمَانه فِي نَفسه فوعد بالإجابة فَعَاد إِلَى دَاره بِدِمَشْق ثمَّ هجس فِي خاطره من مجير الدّين وَأَصْحَابه مَا أوحشه مِنْهُم فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى الْخُرُوج من الْبَلَد سرا طَالبا صرخد فحين عرف خَبره أنهض فِي طلبه وقص أَثَره فَأدْرك وَقد قرب من صرخد فَقبض عَلَيْهِ وأعيد إِلَى القلعة بِدِمَشْق واعتقل بهَا اعتقالا جميلا ثمَّ تجدّد من الرئيس الْوَزير حيدرة الْمُقدم ذكره اشياء ظَهرت عَنهُ مَعَ مَا فِي نفس الْملك مجير الدّين مِنْهُ وَمن أَخِيه الْمسيب من الْمعرفَة بالسعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَالْفساد مَا اقْتَضَت الْحَال استدعاءه إِلَى القلعة على حِين غَفلَة عَن الْقَضَاء النَّازِل بِهِ لسوء أَفعاله وقبح ظلمه وخبثه ثمَّ عدل بِهِ الجانْدَارِية إِلَى الْحمام بالقلعة مستهل ذِي الْقعدَة وَضربت عُنُقه صبرا وَأخرج رَأسه وَنصب على حافة الخَنْدَق ثمَّ طيف بِهِ وَالنَّاس يلعنونه ويصفون أَنْوَاع ظلمه وتفننه فِي الْفساد ومقاسمه اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق على أَمْوَال النَّاس المستباحة بتقديره وتدبيره وحمايته وَكثر السرُور بمصرعه وابتهج بِهِ ثمَّ زحفت الْعَامَّة والغوغاء وَمن كَانَ من أعوانه على الْفساد من أهل العيث إِلَى مَنَازِله وخزائنه ومخازن غلاته وأثاثه وذخائره فانتبهوا مِنْهَا مَا لَا يُحْصى وغلبوا أعوان السُّلْطَان وجنده عَلَيْهَا بِالْكَثْرَةِ فَلم يحصل للسُّلْطَان من ذَلِك إِلَّا النزر الْيَسِير ورد أَمر الرياسة وَالنَّظَر فِي الْبَلَد إِلَى الرئيس رضىّ الدّين أَبى غَالب عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أَسد بن عَليّ التَّمِيمِي فِي الْيَوْم الْمُقدم ذكره فَطَافَ فِي الْبَلَد مَعَ أَقَاربه وَأَهله وسكنت الدّهماء وبولغ فِي إخْراب منَازِل الظَّالِم وَنقل أخشابها قَالَ وَكَانَ عَطاء الْخَادِم قد استبد بتدبير الْأُمُور وَمد يَده فِي الظُّلم وَأطلق لِسَانه بالهجر وافرط فِي الاحتجاب وَقصر فِي قَضَاء الأشغال فَتقدم مجير الدّين باعتقاله وتقييده والاستيلاء على مَا فِي دَاره ومطالبته بِتَسْلِيم بعلبك وَمَا فِيهَا من مَال وغلال ثمَّ ضربت عُنُقه ونهبت الْعَوام والغوغاء بيُوت أَسبَابه وَأَصْحَابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قَالَ وَورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بِأَن الْعَادِل الْمَعْرُوف بِابْن السّلار الَّذِي كَانَت رتبته قد علت ومنزلته فِي الوزارة قد تمكنت كَانَ لزوجته ولد يعرف بالأمير عَبَّاس قد قدمه وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي الْأَعْمَال ولعباس هَذَا ولد قدمه الْوَزير وأنعم عَلَيْهِ وَأذن لَهُ فِي الدُّخُول بِغَيْر إِذن إِلَيْهِ فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي فرشته فَقطع رَأسه وَحصل عّباس فِي منصب الْعَادِل ثمَّ كَانَ من أمره مَا سَيَأْتِي ذكره قلت هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن السّلار وَزِير خَليفَة مصر وَهُوَ الَّذِي بنى مدرسة الشّافعية بالاسكندرية لِلْحَافِظِ أَبى طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله وَكَانَ قَتله فِي سادس الْمحرم بمواطأةٍ من الْخَلِيفَة الملقب بالظافر بن الْحَافِظ قَالَ وفيهَا فِي آخر شعْبَان توفى الْفَقِيه برهَان الدّين أَبُو الْحسن عَليّ الْبَلْخِي رَئِيس الْحَنَفِيَّة وَدفن فِي مَقَابِر الْبَاب الصَّغِير الْمُجَاورَة لقبور الشُّهَدَاء وَكَانَ من التفقه على مذْهبه مَا هُوَ مَشْهُور شَائِع مَعَ الْوَرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وَالدّين والعفاف والتصون وَحفظ ناموس الْعلم والتواضع والتودد إِلَى النَّاس على طَريقَة مرضية وسجية محمودة قَالَ وَورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة الأديب أَبى الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير الشَّاعِر فِي جُمَادَى الاخرة وَوصل فِي ثَانِي عشر شعْبَان إِلَى دمشق الأديب الشَّاعِر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صَغِير القيسراني من حلب باستدعاء مجير الدّين لَهُ وَمَات بعد عشرَة أَيَّام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان قلت هما شَاعِرًا الشَّام فِي وقتهما وَقد شبههما الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = كتاب الخريدة = بالفرزدق وَجَرِير وَكَذَلِكَ كَانَ اتّفق مَوْتهمَا فِي سنة وَاحِدَة وَمَات جرير بعد الفرزدق بِقَلِيل وَقد سبق من شعرهما فِي مدح نور الدّين رَحمَه الله قصائد حَسَنَة وَسَيَأْتِي غير ذَلِك فِي مَوْضِعه لغَرَض سَنذكرُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وَمِمَّا قَالَه ابْن مُنِير من قصيدة لَهُ (أيا سَيْفا أعز الدّين مِنْهُ الغرار ... العضب وَالنَّوْم الغرار) (مَلَأت جوانح الاقطار رجفاً ... كَأَن الأَرْض خامرها دوار) (علاك حلى على الدُّنْيَا فتاج ... بمفرقها وَفِي يَدهَا سوار) (أَضَاءَت شمس عدلك فِي دجاها ... فكلُّ زمَان ساكنها نَهَار) (تُحرق من عصاك وَأَنت مَاء ... وتغرق من رجاك وَأَنت نَار) (أَلا لله وَجهك والمنايا ... مكحلة وللبيض افترار) (هتكت حجابه والنصر غيب ... وللهبوات طي وانتشار) (بطعن للقلوب بِهِ انتظام ... وَضرب للرؤوس بِهِ انتثار) (تبادره كَأَن الْمَوْت غنم ... وَمَا من عَادَة الْبَدْر البدار) (أنخت على الصَّلِيب مطا صليبا ... بِهِ من صك مبركه هدار) (بمشرفة المناكب مقربات ... لَهُنَّ بمتن كل وغى حِصَار) (جَنِين بإنب أنب العناصي ... وإضن وللقنا مِنْهَا ثمار) (وَفِي هاب أهْبت بهَا فَجَاءَت ... كَمَا أجلى من الكشم الصوار) (وَكم فِي فج حارم من حريمٍ ... عفته فَلَا جدير وَلَا جِدَار) (وأنطاكية استنت إِلَيْهَا ... فأجفل خيطها وَله عرار) (وصبح فِي عزاز بهَا عزاز ... فأمسى وَهُوَ وعث أَو خبار) (يشق بهَا دجى الغمرات عسفا ... جواد لَا يُشق لَهُ غُبَار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَله من أُخْرَى (وَمَا يَوْم الفرنجة مِنْك فذ ... فتحصر عدّهُ خطط الْحساب) (أجاش الْأَرْبَعَاء لَهُم خميساً ... بعيد الْغَوْر ملتطم الْعباب) (واحكم بالخطيم لَهُم خطاما ... أَمر بريمه مرّ الضراب) (مَشوا متساندين إِلَى صَلِيب ... تبرقع هبوة الصمّ الصلاب) (تُلفُّهم المنايا فِي الثنايا ... وتفجؤهم شَعوبُ من الشّعاب) (أطاشت سهم كبشهم هناة ... فَكنت ذُبَاب طائشة الذّباب) (حللت التّاج عَنهُ وَحل تاجا ... مَكَان العقد من عقد الكعاب) (أناف على الْعقَاب فَكَانَ أشهى ... وأبهى مِنْهُ فِي ظلّ الْعقَاب) (فاشرف وَهُوَ عَن شرف معوق ... واصعد وَهُوَ غَايَة الأنصباب) (تكاشره الشوامت وَهُوَ مغض ... ثناه مناه عَن رَجَعَ الْجَواب) (بَعيدا من قراع وافتراع ... يؤوب لَهُ إِلَى يَوْم المآب) (وَكم سَوط بخيلك اقبلوه الصُّدُور ... فَكَانَ سَوْطًا من عَذَاب) (تَركتهم بِأَرْض الشَّام شاما ... لِظُفٍر تتقيه أَو لِنَاب) (هتكت حجابه وَالشَّمْس وسنى ... بشمس لَا توارى بالحجاب) (بأبيض من حَبِيك الْهِنْد صافٍ ... مَصُون الْمَتْن مبتذل الذّباب) (لَهُ سمة الشُّيُوخ صفاء شيب ... وَفِي خطراته نزق الشَّبَاب) (ألاَ يَا نَاظر الدُّنْيَا بِعَين ... أرته علانها خدع السراب) (تبطنها فطّلقَها ثَلَاثًا ... على عزّ التملق والخلاب) (فَلَا يأوى إِلَى رأى شَعاعٍ ... وَلَا يثنى إِلَى أمل خراب) (ترفع عَن محاورة الْأَمَانِي ... وَحلق عَن محاضرة التصابي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (صَلَاة الله كل ذرور شمس ... على مثوى أَبِيك من التّراب) (فقد ألْقى إِلَى الْإِسْلَام عضباً ... يطّبق فِي النوائب غير نابي) (تجيش لَهُ رَوَاسٍ كالرّواسي ... تمد لَهَا جِفان كالجوابي) وَله من أُخْرَى (مُظفر الْعَزْم مَمْدُود الرواق على ... معالم الدّين يرفيها ويبنيها) (رد الْكَنَائِس كنسا للهدى فخبت ... نَار الضلال ووارتها أثافيها) (وَأورد الْعلم عدا من ايالته ... فاستن وافتنّ عبّا فِي صوافيها) (وَبث للشرك أشراكاً فَمَا درجت ... طريدة مِنْهُ إِلَّا استوهقت فِيهَا) (يَا بدرُ مُذْ أشرقت فِي الدست غرته ... غيث الرّعية واخضلت مراعيها) (أَقَامَ أَحْمد من محمودها علما ... بِهِ استقام على الْبَيْضَاء ساريها) (محيى شَرِيعَته من بعد مَا انْهَدَمت ... واستعجمت بعد إفصاح مَعَانِيهَا) (شابت مواهبه فِيهَا مهابته ... حَتَّى اسْتَقَرَّتْ على سمت سواريها) وَله من أُخْرَى (عزت سيوفك فالعراق عراقها ... وَالشَّام غير مدافعات شامهاً) (إِن اغمدت حل العزائم حلهَا ... أَو جردت حرم الْكرَى إحرامها) (شجيت عداك بهَا فَلَا إشراقها ... بمفازة مِنْهَا وَلَا إعتامها) (سربت فصبحها بهَا يقظانُها ... هدأت فمستها بهَا أحلامها) (كَالْمَاءِ إِلَّا أَن فِي رشفاته ... نَارا حشاشات النّفوس ضِرامها) (خفت على أَيْمَانكُم أوزانها ... يَوْم الوغى واستثقلتها هامُها) (حَتَّى أحلن الشَّام شاما صرصرت ... فِيهِ جنادبها وصدح هامها) (ورحضن أدران الجزيرة بَعْدَمَا ... غمرت بهَا وهداتها وإكامها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 (شطرا أبرت وَمثله أنظرته ... وَقع الخطوب تكرها أَيَّامهَا) (بالخابطات الغاب تزأر أسده ... والمجفلي الْحَيّ اللقَاح صيامها) (أوردتها أجمات أنطاكية ... عنقًا وَقد شب الصدا اجمامها) (تلقى المشافر فِي مراشف كلما ... بردت بهَا الأكباد زَاد هيامها) (فغدت وَقد عز السراح سراحها ... وتوزعت فِي كنسها آرامها) (وَمَشى الضلال الْقَهْقَرِي واستأصل الآذان ... من رَجَعَ الْأَذَان صلامها) (وَغدا يخللها الْخَيل سواحبا ... عذبا يمر لَهَا الْعَذَاب غمامها) (غَضبا لدين الله حص جنَاحه ... بغيا وأدمى صفحتيه لدامها) (فالان رد النُّور فِيهِ نوره ... وانجاب من تِلْكَ الهنات ظلامها) (مَحْمُود الْمَحْمُود اقداما إِذا ... خام الكماة وزلزت أَقْدَامهَا) (الفارج الكرب الْعِظَام تضاجمت ... أشداقها وفرى الْقُلُوب ضغامها) وَله من أُخْرَى (اما الرعايا فَإِنَّهَا رشفت ... لديك نعمى عذبا ثناياها) (سلكت نهج الْعدْل القويم بهَا ... فاحمدت دينهَا ودنياها) (وَكم أميتت خوفًا فَأَمَّنَهَا ... متالف الْخَوْف خوفك الله) (لله اقطارك الَّتِي قطرت ... لَهَا مناها إِلَى مناياها) (أنب فِي إنب فوارسها ... تردى فتردي أولاك أخراها) (أشجت لهاة الْبُرْنُس هبوتها ... وَكم عتا عاتيا فأشجاها) (وجوسلين استساغ نطفتها ... فاحتلب الذل تَحت مغداها) (ردته صفرا من كل مَا ملكت ... يَدَاهُ ايد مَا ضل مسراها) (جويس جاستك اوجه لَا رَأَتْ ... بؤسا وجاد الحيا محياها) (فِي سَرِيَّة لَو تكون فارسها ... يَوْمئِذٍ مَا انْبَعَثَ اشقاها) (لَا زَالَ ظلّ النعماء عَن ملك ... مَا الشَّمْس كُفؤًا لَهُ إِذا باهى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 (وَللَّه جازيه عَن معبدة ... اعزها الله مذ تولاها) (مَحْمُود المعتلى إِلَى فلك الْحَمد ... وثيرا لَهُ ولاياها) (أعطاكه جدك المتوج بالجد ... وَنَفس لله مغزاها) (نفس عزوف عَن الْخَنَا طبعت ... نزهها الله يَوْم سواهَا) (أَنْت الَّذِي سلم الْأَنَام لَهُ ... يمنى طباق الْعلَا ويسراها) (وَأَنت مولى الْمُلُوك قاطبة ... من كَانَ فَنًّا خسرو شاهنشاها) (وَالشعر هَذَا لَا قَول أَحْمَده ... أوه بديل من قولتي واها) وَله من أُخْرَى (يَا ابْن الَّذِي لم يأل فِي نجدة الْإِسْلَام ... إدلاجا وتهجيرا) (تكنف الشَّام وَقد شام برق ... الْخَوْف إنجادا وتغويرا) (وكف كلب الرّوم من بعد أَن ... أنشبه نابا وأظفورا) (فأهله رقك إِن أنصفوا ... رقا بِحَدّ السَّيْف مسطورا) (بدر هوى واستخلف الشَّمْس فِي ... دستك إشراقا وتأثيرا) وَله من أُخْرَى (ملك كسا الْإِسْلَام من ذبه ... بردا بتدبيج الظبى معلما) (من أصبح الشَّام بِهِ شامة ... يقطر من قتل عداهُ دَمًا) (لَو لم يقم منصلتا دونه ... لم تلق فِي أقطارها مُسلما) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وَله يمدحه بعد مصالحة صَاحب حماة واهتمامه بالعرس وَعوده إِلَى حلب (الدَّهْر مَا رضته بالجود والباس ... مقسم بَين أغراس وأعراس) (فتح يُعَاقِبهُ فتح ومطلب ... داني المنال وَملك ثَابت راسي) (نصرا ببصرى وصفحا عَن حماة لقد ... أَحْسَنت للداء حسما أَيهَا الآسي) (يَا ابْن الَّذِي عنت الدُّنْيَا لدولته ... من فاطمي أعزته وعباسي) وَله فِيهِ (غَدا الدّين بِاسْمِك سامي الْعلم ... أَمِين الْعِمَاد مكين الْقدَم) (لذَلِك لقبت نورا لَهُ ... وَقد أغطش الظُّلم فِيهِ الظُّلم) (أَضَاءَت بعدلك آفاقه ... وفضت عرى الدّين لما ادلهم) (وَلم تمش رهوا لنصر الرها ... وَمثلك أدْرك لما عزم) (وَيَوْم بسوطا بسطت الْحمام ... على الهضب من ركنها فانهدم) (وَبصرى وصرخد لَو لم تثر ... دراكا لكانا رَديَفْى إرم) (ومذ فض جيشك فِي الغوطتين ... فض الصَّلِيب لَهُ مَا نظم) (وَفِي كفر لاثا وهاب حللت ... عقد الْبُرْنُس ببيض خذم) (معودة أَنَّهَا لَا تسل ... إِلَّا مقمقمة للقمم) (وَيَوْم بسرفود جرعتهم ... أجاجا أغصهم وَاصْطلمَ) (وَفَوق العريمة غشاهم ... عرام جيوشك سيل العرم) (وأبت بكلبهم فِي الكبول ... مُبَاح الْحَرِيم مذال الْحرم) (وبارتهم آذَنت أَنَّهَا ... أبارتهم فليبؤوا بذم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 (بنوها وأعلوا وَلم يعلمُوا ... بِمَا خطّ فِي اللَّوْح مِنْك الْقَلَم) (وانك خارم مَا احكموه ... وَمن ديننَا راقع مَا انخرم) (ترفع من بعد خفض هدى ... وتخفض من بعد رفع صنم) (سمكت الْمدَارِس فَوق النُّجُوم ... فكم منجم تحتهَا قد نجم) (وعاش الحنيفي وَالشَّافِعِيّ ... بِمَا شدت مِنْهَا وَكَانَا رمم) (وَإِن لم تكن هاشمي الْأُصُول ... فَإنَّك فرع الهزبر الهشم) (وَمن يَدعِي فِي الْعلَا مَا ادعيت ... وَأَنت ابْن من عز لما احتكم) (واقسم مَا غَابَ ميت سقت ... مغارسه عين هذي الشيم) قلت وقصائد ابْن مُنِير فِي مدح نور الدّين كَثِيرَة وَنَفسه فِيهَا طَوِيل وَلم يبْق بعد موت القيسراني وَابْن مُنِير فَحل من الشُّعَرَاء يصف مَنَاقِب نور الدّين كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا ابْن أسعد الموصلى وَسَيَأْتِي شَيْء من شعره إِلَى أَن قدم الْعِمَاد الْكَاتِب الشَّام فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فتسلم هَذَا الْأَمر وَعبر عَن أَوْصَاف نور الدّين ومناقبه وغزواته بِأَحْسَن الْعبارَات وأتمها نظما ونثرا وَسَيَأْتِي كل ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي هَذِه السّنة توفّي صَاحب ماردين حسام الدّين تمرتاش ووليها بعده نجم الدّين ألبي بن تمرتاش ابْن أرتق قلت وَقد مدحه القيسراني والعرقلة وَغَيرهمَا من الشُّعَرَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قَالَ ابْن الْأَثِير فَفِيهَا ملك نور الدّين مَدِينَة دمشق وَأَخذهَا من صَاحبهَا مجير الدّين آبق بن مُحَمَّد وَكَانَ الَّذِي حمل نور الدّين على الْجد فِي ملكهَا أَن الفرنج ملكوا فِي السّنة الخالية عسقلان وَهِي مَدِينَة فلسطين حسنا وحصانة وَلما كَانُوا يحصرونها كَانَ نور الدّين يتلهف وَلَا يقدر على إزعاجهم عَنْهَا لِأَن دمشق فِي طَرِيقه وَلَيْسَ لَهُ على غَيرهَا معبر لاعتراض بِلَاد الإفرنج فِي الْوسط وَقَوي الفرنج بملكها حَتَّى طمعوا فِي دمشق واستضعفوا مجير الدّين وتابعوا الْغَارة على أَعماله وَأَكْثرُوا الْقَتْل بهَا والنهب والسبي وَزَاد الْأَمر بِالْمُسْلِمين بهَا إِلَى أَن جعل الفرنج على أهل الْمَدِينَة قطيعة كل سنة وَكَانَ رسولهم يَجِيء إِلَى دمشق ويجبيها من أهل الْبَلَد ثمَّ اشْتَدَّ الْبلَاء على أَهلهَا حِين أرسل الفرنج واستعرضوا عبيدهم وإماءهم الَّذين نهبوا من سَائِر بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وخيروهم بَين الْمقَام عِنْد مواليهم وَالْعود إِلَى أوطانهم فَمن أحب الْمقَام تَرَكُوهُ وَمن أحب وَطنه سَار إِلَيْهِ وزالت طَاعَة مجير الدّين عَن أهل الْبَلَد إِلَى أَن حَضَرُوهُ فِي القلعة مَعَ إِنْسَان مِنْهُم كَانَ يُقَال لَهُ مؤيد الدّين بن الصُّوفِي فَلَمَّا كَانَت الْأُمُور بهَا هَكَذَا خَافَ أَهلهَا وَأَشْفَقُوا من الْعَدو فجأروا إِلَى الله تَعَالَى وَدعوهُ أَن يكْشف مَا بهم من الْخَوْف فَاسْتَجَاب لَهُم وَأذن فِي خلاصهم مِمَّا هم فِيهِ على يَد أحب عباده إِلَيْهِ وَأَحْسَنهمْ طَريقَة وأمثلهم سيرة وَهُوَ الْملك الْعَادِل حَقًا نور الدّين مَحْمُود فَحسن لَهُ السَّعْي فِي ملك الْبَلدة وألقاه فِي روعه فَلَمَّا خطر لَهُ ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أفكر فِيهِ فَعلم أَنه أَن رام ملكه بِالْقُوَّةِ والحصار تعذر عَلَيْهِ لِأَن صَاحبه مَتى رأى شَيْئا من ذَلِك راسل الفرنج واستعان بهم واستمالهم قلت وَكَانَ قد سبق لَهُ سوابق قد تقدم ذكر شَيْء مِنْهَا وَلذَلِك قَالَ العرقلة يمدح أتابكه معِين الدّين أنر من قصيدة (يظنّ صَلَاح الدّين فرسَان جلق ... كفرسانه مَا الْأسد مثل الثعالب) (غَدا تطلع الشَّام الفرنج بفيلق ... معودة أبطاله للمصائب) (رجال إِذا قَامَ الصَّلِيب تصلبت ... رماحهم فِي كل ماش وراكب) (لَهَا اللَّيْل نقع والأسنة أنجم ... فَمَا غير أبطال وَغير جنائب) وَصَلَاح الدّين هَذَا الْمَذْكُور لَيْسَ هُوَ يُوسُف بن أَيُّوب الْمَشْهُور فَإِن ذَلِك حِينَئِذٍ لم يكن ملكا يَقُود الجيوش وَإِنَّمَا هَذَا صَلَاح الدّين مُحَمَّد ين أَيُّوب الياغبساني صَاحب حماة أحد أَصْحَاب زنكي وَقد تقدم ذكره مرَارًا وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي مُقَدّمَة الْجَيْش النوري لما قصد دمشق فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين أَو فِي إِحْدَاهمَا أَو فِي زمن حِصَار زنكي لَهَا وَالله أعلم قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ أبْغض الْأَشْيَاء إِلَى الفرنج أَن يملك نور الدّين دمشق لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ حصونهم ومعاقلهم وَلَيْسَت لَهُ دمشق فَكيف إِذا أَخذهَا وَقَوي بهَا وانضاف إِلَى ذَلِك كراهيته لسفك دِمَاء الْمُسلمين فَإِن الدَّم كَانَ عِنْده عَظِيما لما كَانَ قد جبل عَلَيْهِ من الرأفة وَالرَّحْمَة وَالْعدْل فَلَمَّا رأى الْحَال هَكَذَا عمد إِلَى إِعْمَال الْحِيلَة فراسل مجير الدّين صَاحبهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 واستماله وواصله بالهدايا وَأظْهر لَهُ الْمَوَدَّة حَتَّى وثق إِلَيْهِ ثمَّ صَار يكاتبه فِي بعض الْأَوْقَات وَيَقُول لَهُ إِن فلَانا وَيذكر بعض الْأُمَرَاء الَّذين لمجير الدّين قد كاتبني فِي المخامرة عَلَيْك فاحذره فَتَارَة يَأْخُذ إقطاع أحدهم وَتارَة يقبض عَلَيْهِ فَلَمَّا خلت دمشق من الْأُمَرَاء قدم أَمِيرا كَانَ عِنْده يُسمى عَطاء بن حفاظ السّلمِيّ الْخَادِم وَكَانَ شهما شجاعا وفوض إِلَيْهِ أَمر دولته وَكَانَ نور الدّين لَا يتَمَكَّن من دمشق مَعَه فَقبض عَلَيْهِ مجير الدّين وَقَتله فَقَالَ لَهُ عِنْد قَتله إِن الْحِيلَة قد تمت عَلَيْك فَلَا تقتلني فَإِنَّهُ سَيظْهر لَك مَا أَقُول فَلم يصغ إِلَى قَوْله وَقَتله قلت وَفِي بعض قصائد ابْن مُنِير مَا يدل على أَن عَطاء هَذَا كَانَ لَهُ مَعَ نور الدّين فِي دمشق حَدِيث فَإِنَّهُ قَالَ (ودمشق فِي دمشق رجال سلم ... لحور نِسَائِهِم مِنْهُم نسَاء) (هِيَ الفردوس اصبح وَهُوَ عاف ... من الْعَافِي وَمن خَال خلاء) (جنان تعرف الجنات فِيهَا ... وَلَا رأى هُنَاكَ وَلَا رواء) (لأسمح صعبها وَدنت قصاها ... وأمكنك اقتياد وامتطاء) وَيَا نعم الْعَطاء عَطاء رب ... توسطه فانشطه عَطاء) (تفاءل بإسمه فالفال وعد ... يكون على ظباك بِهِ الْوَفَاء) (هُوَ السَّبَب الَّذِي شزرت قواه ... وهذبه لخدمتك الصفاء) (وَسيف إِن تشمه تشم حساما ... وَإِن تغمد فَنَار بل ذكاء) (جنتة لَك السَّعَادَة قطف رَأْي ... لنقب الخادعيك بِهِ هناء) وَيجوز أَنه لم يكن لعطاء فِي ذَلِك حَدِيث وَإِنَّمَا هَذِه الأبيات أَو مَا فِي مَعْنَاهَا كَانَت سَبَب قَتله لما بلغ مجير الدّين ذَلِك وَعَطَاء هَذَا هُوَ الَّذِي ينْسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 إِلَيْهِ مَسْجِد عَطاء خَارج الْبَاب الشَّرْقِي بِدِمَشْق وجورة عَطاء بِبَيْت أَبْيَات وَهِي أَرض فِيهَا أخشاب كبار من الْحور تربى أوتادا لجامع دمشق وَهِي وقف عَلَيْهِ وَقد مدحه العرقلة وَغَيره من الشُّعَرَاء قَالَ ابْن الْأَثِير فَلَمَّا قتل عَطاء قوى طمع نور الدّين فِي دمشق فراسل أَحْدَاث الْبَلَد وزناطرته واستمالهم فَأَجَابُوهُ إِلَى تَسْلِيم الْبَلَد فَسَار إِلَيْهِم وحاصرهم عشرَة أَيَّام فكاتب مجير الدّين الفرنج وبذل لَهُم الْأَمْوَال وقلعة بعلبك إِن رحلوا نور الدّين عَنهُ فَإلَى أَن اجْتَمعُوا وجاؤوا بَلغهُمْ أَخذ نور الدّين بِدِمَشْق فعادوا بخفي حنين وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ لما حَاصَرَهُمْ وضيق عَليّ من بِهِ ثار الْأَحْدَاث الَّذين كاتبهم نور الدّين وسلموا إِلَيْهِ الْبَلَد من الْبَاب الشَّرْقِي فدخله بالأمان عَاشر صفر وَحصر مجير الدّين فِي القلعة وراسله وبذل لَهُ الإقطاع الْكثير من جملَته مَدِينَة حمص فَأجَاب إِلَى تَسْلِيم القلعة وَسَار إِلَى حمص وَقَالَ ابْن أبي طي أنفذ نور الدّين أَسد الدّين شيركوه رَسُولا إِلَى صَاحب دمشق فَخرج فِي تجمل عَظِيم وَمَعَهُ ألف فَارس فَعظم على مجير الدّين ذَلِك وَقَالَ مَا هَذِه رِسَالَة هَذِه مكيدة وَلم يتجاسر على الْخُرُوج إِلَى لِقَائِه وَلَا أحد من أُمَرَاء دمشق فاستوحش أَسد الدّين وَنزل بمرج الْقصب وَأَغْلظ لصَاحب دمشق فِي الْمقَال وانفذ إِلَى نور الدّين يعرفهُ بِمَا جرى عَلَيْهِ فَسَار نور الدّين فِي عساكره وزحف إِلَى الْبَلَد من شرقيه وَكَانَت الْحَرْب فِي عَاشر صفر وَتَوَلَّى أَسد الدّين الْقِتَال وأبلى الْجهد فَكسر عَسَاكِر دمشق إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الأسوار من قبلي الْبَلَد وَلم يكن أحد من الْمُقَاتلَة على السُّور من ذَلِك الْجَانِب لِأَن نور الدّين كَانَ من شرقيها وَجل الْعَسْكَر مُقَابِله وَرَأى من كَانَ مَعَ نور الدّين من الجاندارية والحلبيين خلو السُّور من الْمُقَاتلَة فتسرعوا إِلَى السُّور وتعلقوا بِهِ وحصلوا فِي الْحَال على الأسوار وَيُقَال إِن امْرَأَة كَانَت على السُّور فدلت حبلا فَصَعِدُوا فِيهِ وَصَارَ على السُّور جمَاعَة ونصبوا السلالم وَصعد جمَاعَة أُخْرَى ونصبوا علما وصاحوا بشعار نور الدّين فَوَقع على أهل الْبَلَد الخذلان وَكسر بَاب الْبَلَد وَدخلت الخيالة مِنْهُ وَملك نور الدّين دمشق وَكَانَ لأسد الدّين الْيَد الطولي فِي فتحهَا فولاه نور الدّين أمرهَا ورد إِلَيْهِ جَمِيع أحوالها وَفِي هَذِه السّنة أقطعه نور الدّين الرحبة وَقَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي الْعشْر الثَّانِي من الْمحرم وصل الْأَمِير أَسد الدّين شيركوه رَسُولا من نور الدّين إِلَى ظَاهر دمشق وخيم بِنَاحِيَة الْقصب من المرج فِي عَسْكَر يناهز الْألف فَأنْكر ذَلِك وَوَقع الاستيحاش مِنْهُ وإهمال الْخُرُوج إِلَيْهِ لتلقيه والاختلاط بِهِ وتكررت المراسلات فِيمَا اقتضته الْحَال وَلم تسفر عَن سداد وَلَا نيل مُرَاد وَعلا سعر الأقوات لانْقِطَاع الواصلين بالغلات وَوصل نور الدّين بعسكره إِلَى شيركوه ثَالِث صفر وخيم بعيون الفاسريا عِنْد دومة ورحل فِي الْغَد وَنزل بَيت الْآبَار من الغوطة وزحف إِلَى الْبَلَد من شرقيه وزحف إِلَيْهِ من عسكره وأحداثه الْخلق الْكثير وَوَقع الطراد بَينهم ثمَّ عَاد كل من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى مَكَانَهُ ثمَّ زحف يَوْمًا بعد يَوْم وتأكد الزَّحْف يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر وَظهر إِلَيْهِ الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي فَانْدفع بَين أَيْديهم حَتَّى قربوا من سور بَاب كيسَان والدباغة من قبلي الْبَلَد وَلَيْسَ على السُّور أحد من العسكرية والبلدية لسوء تَدْبِير صَاحب الْأَمر غير نفر يسير لَا يؤبه لَهُم فتسرع بعض الرجالة إِلَى السُّور وَعَلِيهِ امْرَأَة يهوديه فَأرْسلت إِلَيْهِ حبلا فَصَعدَ فِيهِ وَحصل على السُّور وَلم يشْعر بِهِ أحد وَتَبعهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 من تبعه واطلعوا علما نصبوه على السُّور وصاحوا نور الدّين يَا مَنْصُور وَامْتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عَلَيْهِ من الْمحبَّة لنُور الدّين وعدله وَحسن ذكره وبادر بعض قطاعي الْخشب بفأسه إِلَى الْبَاب الشَّرْقِي فَكسر أغلاقه وفتحه فَدخل مِنْهُ الْعَسْكَر وَسعوا فِي الطرقات وَلم يقف أحد بَين أَيْديهم وَفتح بَاب توما ايضا وَدخل النَّاس مِنْهُ ثمَّ دخل نور الدّين وخواصه وسر كَافَّة النَّاس من الأجناد والعسكرية لما هم عَلَيْهِ من الْجُوع وَغَلَاء الأسعار وَالْخَوْف من منازلة الفرنج الْكفَّار وَكَانَ مجير الدّين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم فِي خواصه إِلَى القلعة وأنفذ إِلَيْهِ وأومن على نَفسه وَمَاله وَخرج إِلَى نور الدّين فطيب نَفسه ووعده الْجَمِيل وَدخل نور الدّين القلعة فِي يَوْم الْأَحَد الْمُقدم ذكره وَأمر بالمناداة بالأمان للرعية وَالْمَنْع من انتهاب شَيْء من دُورهمْ وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إِلَى سوق عَليّ وَغَيره فعاثوا ونهبوا وانفذ نور الدّين إِلَى أهل الْبَلَد بِمَا طيب نُفُوسهم وأزال نفرتهم واخرج مجير الدّين مَا كَانَ لَهُ فِي دوره بالقلعة والخزائن من المَال والآلات والأثاث على كثرته إِلَى الدَّار الأتابكية دَار جده وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ تقدم إِلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى حمص فِي خواصه وَمن أَرَادَ الْكَوْن مَعَه من أَسبَابه وَأَتْبَاعه بعد أَن كتب لَهُ المنشور بإقطاعه عدَّة ضيَاع بأعمال حمص برسمه ورسم جنده وَتوجه إِلَى حمص على القضيه المقررة ثمَّ أحضر نور الدّين غذ ذَلِك الْيَوْم أماكل الرّعية من الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء والتجار وخوطبوا بِمَا زَاد فِي إيناسهم وسرور نُفُوسهم وَحسن النّظر لَهُم بِمَا يعود بصلاح أَحْوَالهم وَتَحْقِيق آمالهم فَأَكْثرُوا الدُّعَاء لَهُ وَالثنَاء عَلَيْهِ وَالشُّكْر لله تَعَالَى على مَا أصاره إِلَيْهِ ثمَّ تَلا ذَلِك أبطال حُقُوق دَار الْبِطِّيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وسوق البقل وَضَمان الْأَنْهَار وَأَنْشَأَ بذلك المنشور وقريء على الْمِنْبَر بعد صَلَاة الْجُمُعَة فَاسْتَبْشَرَ النَّاس بصلاح الْحَال وأعلن النَّاس بِرَفْع الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى بدوام أَيَّامه ونصرة أَعْلَامه وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما اسْتَقل نور الدّين فِي الْبَلَد عمل مَعَ أَهله مكرمَة عَظِيمَة واظهر فيهم عدلا عَاما قلت قد تقدم ذكره فِي أول الْكتاب وَسَيَأْتِي مِنْهُ أَشْيَاء مفرقة فِيمَا بعد قَالَ وَألقى الْإِسْلَام جرانه بِدِمَشْق وَثبتت أوتاده وأيقن الْكفَّار بالبوار ووهنوا واستكانوا وَصَارَ جَمِيع مَا بِالشَّام من الْبِلَاد الإسلامية بيد نور الدّين وَأما مجير الدّين فَإِنَّهُ أَقَامَ بحمص وراسل أهل دمشق فِي إثارة الْفِتْنَة فَانْتهى الْأَمر إِلَى نور الدّين فخاف أَن يحدث مَا يشق تلافيه بل رُبمَا تعذر لاسيما مَعَ مجاورة الإفرنج فَأخذ حمص من مجير الدّين وعوضه عَنْهَا مَدِينَة بالس فَلم يرضها وَسَار عَن الشَّام إِلَى الْعرَاق فَأَقَامَ بِبَغْدَاد وابتنى دَارا تجاور الْمدرسَة النظامية وَتُوفِّي بهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 قَالَ وَلما ملك نور الدّين دمشق خافه الفرنج كَافَّة وَعَلمُوا أَنه لَا يقْعد عَن غَزْو بِلَادهمْ والمبادرة إِلَى قِتَالهمْ فراسله كل كند وقمص وتقربوا إِلَيْهِ ثمَّ إِن من بتل بَاشر راسلوه وبذلوا لَهُ تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فَأرْسل إِلَى الْأَمِير حسان المنبجي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين وإقطاعه منبج فَأمره أَن يتسلمها مِنْهُم فَسَار إِلَيْهَا وتسلمها وحصنها وَرفع إِلَيْهَا ذخائر كَثِيرَة فصل قَالَ الرئيس ابو يعلى وَقد كَانَ مُجَاهِد الدّين بزان أطلق يَوْم الْفَتْح من الاعتقال وأعيد إِلَى دَاره وَوصل الرئيس مؤيد الدّين المسّيب إِلَى دمشق مَعَ وَلَده النَّائِب عَنهُ فِي صرخد إِلَى دَاره معولا على لُزُومهَا وَترك التَّعَرُّض لشَيْء من التَّصَرُّفَات والأعمال فَبَدَا مِنْهُ من الْأَسْبَاب المعربة عَن إِضْمَار الْفساد والعدول إِلَى خلاف مناهج السداد والرشاد مَا كَانَ دَاعيا إِلَى فَسَاد النِّيَّة فِيهِ وَكَانَ فِي إِحْدَى رجلَيْهِ فتح قد طَال بِهِ ونسيه ثمَّ لحقه مرض وانطلاق متدارك أفرط عَلَيْهِ واسقط قوته مَعَ فهاق مُتَّصِل وقلاع فِي فِيهِ زَائِد فَقضى نحبه فِي رَابِع ربيع الأول وَدفن فِي دَاره واستبشر النَّاس بهلاكه والراحة من سوء أَفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 قَالَ ووردت الْأَخْبَار بقتل خَليفَة مصر الملقب بالظافر بن الْحَافِظ وأقيم وَلَده عِيسَى مقَامه وَهُوَ صَغِير يناهز ثَلَاث سِنِين ولقبوه بالفائز وعباس الْوَزير ثمَّ ورد الْخَبَر بِأَن الْأَمِير فَارس الْمُسلمين طلائع بن رزيك وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء المقدمين والشجعان الْمَذْكُورين لما انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر وَهُوَ غَائِب عَن مصر قلق لذَلِك وامتعض وَجمع واحتشد وَقصد الْعود إِلَى مصر فَلَمَّا عرف عَبَّاس بِمَا جمع خَافَ الْغَلَبَة فتأهب للهرب فِي خواصه واسبابه وَحرمه وَمَا تهَيَّأ من مَاله وَسَار مغذا فَلَمَّا قرب من أَعمال عسقلان وغزة خرج إِلَيْهِ جمَاعَة من خيالة الإفرنج فاغتر بِكَثْرَة من مَعَه وَقلة من قَصده فَلَمَّا حملُوا عَلَيْهِ فشل أَصْحَابه وأعانوا عَلَيْهِ وانهزموا اقبح هزيمَة هُوَ وَابْنه الصَّغِير وَأسر ابْنه الْكَبِير الَّذِي قتل الْعَادِل بن السلار مَعَ وَلَده وَحرمه وَمَاله وكراعه وحصلوا فِي أَيدي الفرنج وَمن هرب لَقِي من الْجُوع والعطش شدَّة وَمَات الْعدَد الْكثير من النَّاس وَالدَّوَاب وَوصل فِي أثر هروبهم فَارس الْمُسلمين وَوضع السَّيْف فِيمَن ظفر بِهِ من أَصْحَاب عَبَّاس وانتصب فِي الوزارة وتدبير الْأُمُور مَوْضِعه وَوصل إِلَى دمشق مِنْهُم من نجاه الْهَرَب على أشنع صفة من الْعَدَم والعري فِي آخر ربيع الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قلت وَفِي ذَلِك يَقُول عمَارَة الْيُمْنَى من قصيدة لَهُ (لكم يَا بني رزيك لَا زَالَ ظلكم ... مَوَاطِن سحب الْمَوْت فِيهَا مواطر) (سللتم على عَبَّاس بيض صوارم ... قهرتم بهَا سُلْطَانه وَهُوَ قاهر) وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = أَن نصر بن عَبَّاس لما قتل ابْن السلار وتوزر أَبوهُ عَبَّاس كَانَ نصر يعاشر الْخَلِيفَة الظافر ويخالطه وعباس كَارِه لذَلِك مستوحش من ابْنه لعلمه بِمذهب الْقَوْم وَضرب بعض النَّاس بِبَعْض حَتَّى يفنوهم وَشرع الظافر مَعَ ابْن عَبَّاس فِي حمله على أَبِيه ومواصلته بالعطايا الْكَثِيرَة ففاتحني فِي ذَلِك فنهيته فَأطلع وَالِده على الْأَمر فاستماله أَبوهُ ولطف بِهِ وَقرر مَعَه قتل الظافر وَكَانَا يخرجَانِ متنكرين وهما تربان سنهما وَاحِد فَدَعَاهُ إِلَى دَاره ورتب من أَصْحَابه مَعَه فِي جَانب الدَّار نَفرا ثمَّ لما اسْتَقر بِهِ الْمجْلس خَرجُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَذَلِكَ سلخ محرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة ورماه فِي جب الدَّار واصبح عَبَّاس جَاءَ إِلَى الْقصر ضحوة نَهَار للسلام فَجَلَسَ فِي مجْلِس الوزارة ينْتَظر جُلُوس الظافر فَلَمَّا تجَاوز وَقت جُلُوسه استدعى زِمَام الْقصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وَقَالَ مَا لمولانا مَا جلس للسلام فتلبد الْأُسْتَاذ فِي الْجَواب فصاح عَلَيْهِ وَقَالَ مَالك لَا تجاوبني قَالَ يَا مولَايَ مَوْلَانَا مَا نَدْرِي أَيْن هُوَ قَالَ مثل مَوْلَانَا يضيع ارْجع واكشف الْحَال فَمضى وَرجع فَقَالَ مَا وجدنَا مَوْلَانَا فَقَالَ يبْقى النَّاس بِلَا خَليفَة ادخل إِلَى الموَالِي إخْوَته يخرج مِنْهُم وَاحِد لنبايعه فَمضى وَعَاد وَقَالَ الموَالِي يَقُولُونَ لَك مَا لنا فِي الْأَمر شَيْء والدنا عَزله عَنَّا وَجعله فِي الظافر وَالْأَمر لوَلَده بعده قَالَ أَخْرجُوهُ حَتَّى نُبَايِعهُ قَالَ وعباس قد قتل الظافر وعزم على أَن يَقُول لإخوته أَنْتُم قَتَلْتُمُوهُ ويقتلهم فَخرج ولد الظافر وَلَعَلَّ عمره خمس سِنِين يحملهُ الْأُسْتَاذ فَأَخذه عَبَّاس فَحَمله وَبكى النَّاس ثمَّ دخل بِهِ إِلَى مجْلِس أَبِيه وَهُوَ حامله وَفِيه أَوْلَاد الْحَافِظ قَالَ ابْن منقذ وَنحن فِي الرواق جُلُوس وَفِي الْقصر أَكثر من ألف رجل من المصريين فَمَا رَاعنا إِلَّا قوم قد خَرجُوا من الْمجْلس مُجْتَمعين إِلَى القاعة فَإِذا السيوف تخْتَلف على إِنْسَان فَقلت لغلام لي أرمني ابصر من هَذَا الْمَقْتُول فَمضى وَعَاد وَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ مُسلمين هَذَا مولَايَ أَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الْأَمَانَة جِبْرِيل بن الْحَافِظ قد قَتَلُوهُ وَوَاحِد قد شقّ بَطْنه يجذب مصارينه ثمَّ خرج عَبَّاس وَهُوَ آخذ بِرَأْس الْأَمِير يُوسُف تَحت إبطه وَفِي رَأسه ضَرْبَة سيف وَالدَّم يفور مِنْهَا وَأَبُو الْبَقَاء ابْن أخيهم مَعَ ابْنه نصر ثمَّ أدخلوهما خزانَة فِي الْقصر فَقَتَلُوهُمَا وَفِي الْقصر ألف سيف مُجَرّد قَالَ وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم من أَشد الْأَيَّام الَّتِي جرت عَليّ لِأَنِّي رَأَيْت من الْفساد وَالْبَغي مَا يُنكره الله سُبْحَانَهُ وَجَمِيع خلقه وَذكر الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ فِي = ديوانه = قَالَ كَانَ لعباس أَربع مئة جمل تحمل أثقاله ومئتا بغل ومئتا جنيب فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج من مصر يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَقد قَامَ عَلَيْهِ أهل مصر وعسكريتها فارسهم وراجلهم تقدم بشد خيله وبغاله وجماله ليتحمل وَيخرج فَلَمَّا صَار الْجَمِيع على بَاب دَاره وَقد مَلَأت ذَلِك الفضاء إِلَى قصر السُّلْطَان إِلَى الايوان خرج غُلَام يُقَال لَهُ عنبر كَانَ على أشغاله وغلمانه كلهم تَحت يَده فَقَالَ للجمالين والخربندية والركابية روحوا إِلَى بُيُوتكُمْ وسيبوا الدَّوَابّ فَفَعَلُوا ذَلِك وانحاز هُوَ إِلَى المصريين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يقاتله مَعَهم وَكَانَ مَا جرى من تهميل الدَّوَابّ لطفا من الله تَعَالَى بِهِ فَإِنَّهَا سدت الطَّرِيق بَينه وَبَين المصريين ومنعتهم من الْوُصُول إِلَيْهِ وهم فِي خلق كثير وَنحن فِي قلَّة مَا نبلغ خمسين رجلا وغلمان عَبَّاس مماليكه فِي ألف ومئتي غُلَام بالخيول الْجِيَاد وَالسِّلَاح التَّام وثماني مئة فَارس من الأتراك خَرجُوا كلهم من بَاب النَّصْر ووقفوا فِي الفضاء الَّذِي بَينه وَبَين رَأس الطابية فِرَارًا من الْقِتَال فشرع المصريون فِي نهب الْخَيل وَالْجمال وَالْبِغَال فَلَمَّا فتحُوا طريقهم إِلَيْهِ خرج عَبَّاس من بَاب النَّصْر وجاؤوا فِي إثره حَتَّى أقفلوا الْبَاب وعادوا إِلَى نهب دوره وَكَانَ عَبَّاس قد أحضر من الْعَرَب نَحوا من ثَلَاثَة آلَاف فَارس يتقوى بهم على المصريين واستحلفهم ووهبهم هبات عَظِيمَة فَلَمَّا خرج من بَاب مصر غدروا بِهِ وقاتلوه أَشد قتال سِتَّة أَيَّام يقاتلهم من الْفجْر إِلَى اللَّيْل فَإِذا نزل أمهلوه إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ يركبون ويهدون خيلهم على جَانب النَّاس ويصيحون صَيْحَة وَاحِدَة فتجفل الْخَيل وتقطع وَيخرج إِلَيْهِم مِنْهَا مَا فِيهِ منَّة وَقُوَّة فيأخذونه فَكَانَ ذَلِك سَبَب هَلَاك خيله وَتمكن الإفرنج مِنْهُ واشتغاله عَن سلوك طَرِيق لَا يقْصد الفرنج إِلَيْهِ قَالَ ودامت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ من يَوْم الْجُمُعَة ضحى نَهَار إِلَى آخر يَوْم الْخَمِيس ثمَّ جاؤوا إِلَيْهِ وَأخذُوا مِنْهُ حسبا على أَمْوَالهم وأنفسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وَبُيُوتهمْ ظنا مِنْهُم أَن لَهُ عودة إِلَيْهِم وَانْصَرفُوا عَنهُ وهم أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف فَارس وَيَوْم الْأَحَد صبحهمْ الإفرنج وَقد هلك النَّاس من الْجُوع والعطش وَمَاتَتْ خيلهم فَقتلُوا عباسا وَابْنه الْأَوْسَط واسروا ابْنه لأكبر وَقتلُوا خلقا كثيرا وَأخذُوا نسَاء عَبَّاس وخزائنه وأسروا أَوْلَادًا لَهُ صغَارًا وَانْصَرفُوا قلت عَبَّاس هَذَا هُوَ عَبَّاس بن أَبى الْفتُوح بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس الْحِمْيَرِي ويلقب بالأفضل ركن الدّين ويكنى بأبى الْفضل وَرَأَيْت علامته فِي الْكتب أَيَّام وزارته الْحَمد لله وَبِه أَثِق وَفِيه يَقُول أُسَامَة بن منقذ (لقد عَم جود الْأَفْضَل السَّيِّد الورى ... وأغنى غناء الْغَيْث حَيْثُ يصوب) وَمن أَبْيَات لِابْنِ أسعد فِيهِ لما قتل الظافر (وَأنْفق من إنعامهم فِي هلاكهم ... وَأظْهر مَا قد كَانَ عَنهُ ينافق) (وَمد يدا هم طولوها إِلَيْهِم ... وحلت بِأَهْل الْقصر مِنْهُ البوائق) (سقى ربه كاس المنايا وَمَا انْقَضى ... لَهُ الشَّهْر إِلَّا وَهُوَ للكأس ذائق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَكَانَ عَبَّاس قد تخيل من أُسَامَة عِنْد خُرُوجه من مصر لما يُعلمهُ بَينه وَبَين الْملك الصَّالح من الْمَوَدَّة والمصافاة فَأحْضرهُ واستحلفه أَنه لَا ينْفَصل عَنهُ ثمَّ لم يقنعه ذَلِك حَتَّى نفذ من أستاذى دَاره من يدْخل على حرمه إِلَى دَاره فَأخذ أَهله وَأَوْلَاده فتركهم عِنْد أَهله وَأَوْلَاده وَقَالَ لَهُ قد حملت ثقلهم عَنْك لَهُم أُسْوَة بوالدة نَاصِر الدّين يَعْنِي وَلَده نَاصِر الدّين وبإخوانه فَلَمَّا خَرجُوا ونهبت دُورهمْ ودوابهم عجز عَن حمل من يَخُصُّهُ فأعادهم أُسَامَة من بلبيس وَنفذ إِلَى الْملك الصَّالح يَقُول لَهُ قد نفذت أَهلِي وأولادي إِلَيْك وَأَنت ولى مَا ترَاهُ فيهم فأنزلهم فِي دَار وأجرى عَلَيْهِم الْجَارِي الْوَاسِع واحسن إِلَيْهِم غَايَة الْإِحْسَان وَكَانَ يكاتبه فِي الرُّجُوع إِلَى مصر وَهُوَ يتلطف الْأَمر مَعَه قصدا لخلاص أَهله وَأَوْلَاده فَلَمَّا عرف ذَلِك مِنْهُ نسبه إِلَى وَحْشَة قلبه من الْقُصُور ونفوره من المصريين فنفذ إِلَيْهِ يَقُول لَهُ تصل إِلَى مَكَّة فِي الْمَوْسِم ويلقاك رَسُولي إِلَيْهَا يسلم إِلَيْك مَدِينَة أسوان وأنفذ إِلَيْك أهلك وأمدك بالأموال وَهِي كَمَا علمت الثغر بَيْننَا وَبَين السودَان وَمَا يسد ذَلِك الثغر مثلك وَأكْثر من الْوَعْد وَذكر رغبته فِي قربه ورعايته مَا بَينه وَبَينه من قديم الصُّحْبَة فَاسْتَأْذن أُسَامَة فِي ذَلِك الْملك الْعَادِل نور الدّين وَكَانَ فِي خدمته فَقَالَ يَا فلَان مَا تَسَاوِي الْحَيَاة الشتات وَالرُّجُوع إِلَى الأخطار والبعد عَن الأوطان وَمنعه من ذَلِك بإحسانه ووعده أَن يستخلص أَهله فَكتب أُسَامَة إِلَى الْملك الصَّالح يعْتَذر ويسأله تسيير أَهله وترددت بَينهمَا مكاتبات وأشعار متصلات إِلَى أَن سيرهم وهم نَيف وَخَمْسُونَ نسمَة فِي الْإِكْرَام والاحترام إِلَى آخر ولَايَته وَذكر أَن أهل الْقُصُور والأمراء أَنْكَرُوا تسييرهم وَقَالُوا يكون أَهله رهائن عندنَا لنأمن مَا يكون مِنْهُ وَوَصله بعض أَصْحَابه من دمشق وَهُوَ بالعسكر النوري بحلب فَأخْبرهُ أَن من كَانَ لَهُ بِمصْر من الْأَهْل وَالْأَوْلَاد وَالْأَصْحَاب وصلوا وَأَن الْمركب انْكَسَرَ بهم فِي سَاحل عكا وَنهب الفرنج كل مَا فِيهِ وَلم يصلوا إِلَى دمشق إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بِأَنْفسِهِم وَأَن متملك الإفرنج أَعْطَاهُم خمس مئة دِينَار اصلحوا مِنْهَا حَالهم واكتروا ظهرا ظهرا إِلَى دمشق فَقَالَ أُسَامَة (إِلَى الله أَشْكُو فرقة دميت لَهَا ... جفوني وأذكت بالهموم ضميري) (تمادت إِلَى أَن لاذت النَّفس بالمنى ... وطارت بهَا الأشواق كل مطير) (فَلَمَّا قضى الله اللِّقَاء تعرضت ... مساءة دهري فِي طَرِيق سروري) فصل قَالَ أَبُو يعلى وَفِي آخر ربيع الأول وصل الْأَمِير مجد الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد نَائِب نور الدّين فِي حلب إِلَى دمشق عقيب عوده من الْحَج وَأقَام أَيَّامًا وَعَاد إِلَى منصبه فِي حلب وتدبير أَعمالهَا قلت هَذَا هُوَ ابْن الداية وَكَانَ نور الدّين كثير الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وعَلى أخوته وسيتكرر ذكرهم فِي هَذَا الْكتاب ومجد الدّين أكبر أخوته وَقد مدحه الشُّعَرَاء قَالَ القيسراني من بعض مَا قَالَه فِيهِ (دعوا مَا مضى من قبل هَذَا لما بعد ... فأقسم لَوْلَا الْمجد مَا عرف الْمجد) (كريم سمت أَوْصَافه لعفاته ... قَرَائِن كل اثْنَيْنِ بَينهمَا عقد) (محياه والبشرى ويمناه والندى ... ونجواه وَالدُّنْيَا وتقواه والزهد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 (فَفِي قربه الزلفى وَفِي وعده الْغنى ... وَفِي نيله الْحسنى وَفِي رَأْيه الرشد) (إِذا وَجه نور الدّين قَابل مجده ... فَقل فِي كَمَال الْبَدْر قابله السعد) وَفِي موسم هَذِه السّنة مَاتَ أَمِير الْحَرَمَيْنِ هَاشم بن فليتة وَولى الْحَرَمَيْنِ وَلَده قَاسم بن هَاشم وَهُوَ الَّذِي أرسل عمَارَة الْيُمْنَى الْفَقِيه الشَّاعِر إِلَى الديار المصرية وَسَيَأْتِي ذكره قَالَ أَبُو يعلى وَفِي ثامن جُمَادَى الأولى ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بَان عدَّة وافرة من مراكب الفرنج من صقلية وصلت إِلَى مَدِينَة تنيس على حِين غَفلَة من أَهلهَا فهجمت عَلَيْهَا وَقتلت وأسرت وسبت ونهبت وعادت بالغنائم بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتركتها صفرا وَبعد ذَلِك عَاد من كَانَ هرب مِنْهَا فِي الْبَحْر بعد الْحَادِثَة وَمن سلم واختفى وَضَاقَتْ الصُّدُور عِنْد اسْتِمَاع هَذَا الْخَبَر الْمَكْرُوه قَالَ وَفِي شهر رَمَضَان ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة القَاضِي فَخر الدّين أَبى مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الصَّمد بن الطرسوسي وَكَانَ ذَا همة مَاضِيَة ويقظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 مضيئة ومروءة ظَاهِرَة فِي دَاره وَولده وَمن يلم بِهِ من غَرِيب ووافد وَقد نفذ أمره وتصرفه فِي أَعمال حلب فِي الْأَيَّام النورية واثر فِي الْوُقُوف أثرا حسنا توفر بِهِ ارتفاعها ثمَّ اعتزل عَن ذَلِك أجمل اعتزال ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخمْس مئة فَفِيهَا تسلم نور الدّين بعلبك من واليها ضحاك وَذكر ابْن الْأَثِير أَن ذَلِك كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَقَالَ كَانَ ضحاك البقاعي يَنُوب ببعلبك عَن صَاحب دمشق فَلَمَّا ملك نور الدّين دمشق امْتنع بهَا وَلم يُمكن نور الدّين محاصرتها لقُرْبه من الفرنج فلطف الْحَال مَعَه إِلَى ذَلِك الْوَقْت فملكها وَاسْتولى عَلَيْهَا وَقَالَ ابْن أَبى طي لما فتح نور الدّين دمشق اتَّصل ذَلِك بِنَجْم الدّين أَيُّوب فكاتب نور الدّين فِي تَسْلِيم بعلبك فأنفذ إِلَيْهِ وتسلمها مِنْهُ وألحقه بِأَصْحَابِهِ قَالَ وَرَأَيْت بعض المؤرخين قد ذكر إِن مجير الدّين صَاحب دمشق أنزل نجم الدّين من القلعة وَجعله فِي الْبَلَد وَولى القلعة رجلا يُقَال لَهُ ضحاك فَلَمَّا ملك نور الدّين دمشق خرج إِلَى بعلبك واستنزل مِنْهَا ضَاحِكا وتوسط أَسد الدّين فِي امْر أَخِيه نجم الدّين مَعَ نور الدّين فأقطعه إقطاعا وسيره إِلَى دمشق فَأَقَامَ فِيهَا ورد نظر دمشق إِلَيْهِ وَولى وَلَده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 تورانشاه شحنكية دمشق فساسها أحسن سياسة وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي فولى صَلَاح الدّين شحنكية دمشق قلت هَذَا وهم تورانشاه هُوَ الْملك الْمُعظم شمس الدولة الَّذِي فتح الْيمن فِي أَيَّام أَخِيه صَلَاح الدّين فَكيف يَقُول انه مَاتَ قبل أَن يَلِي صَلَاح الدّين شحنكية دمشق وَأما كَونه ولى الشحنكية بِدِمَشْق قبل صَلَاح الدّين فَهَذَا قريب وَقد رَأَيْت مَا يؤكده قَرَأت فِي = ديوَان العرقلة = وَقَالَ يهنئه بالشحنكية بِدِمَشْق وَهُوَ فِي دَار عَمه أَسد الدّين شيركوه ابْن شاذي (قلت لحسادك زيدوا فِي الْحَسَد ... قد سكن الدَّار وَقد حَاز الْبَلَد) (لَا تعجبوا إِن حل دَار عَمه ... أما تحل الشَّمْس فِي برج الْأسد) وَقَالَ فِي صَلَاح الدّين لما ولي الشحنكية الشحنكية (لصوص الشَّام تُوبُوا من ذنُوب ... تكفرها الْعقُوبَة والأصفاد) (لَئِن كَانَ الْفساد لكم صلاحا ... فمولاي الصّلاح لكم فَسَاد) وَله فِيهِ (رويدكم يالصوص الشّآم ... فَإِنِّي لكم نَاصح فِي مقالي) (وَإِيَّاكُم وَسمي النَّبِي ... يُوسُف رب الحجا وَالْجمال) (فَذَاك مقطع أَيدي النِّسَاء ... وَهَذَا مقطع أَيدي الرِّجَال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 قَالَ ابْن أَبى طي وَولى صَلَاح الدّين شحنكية دمشق والديوان فَأَقَامَ فِيهِ أَيَّامًا ثمَّ تَركه وَصَارَ إِلَى حلب لأجل وَاقعَة جرت بَينه وَبَين صَاحب الدِّيوَان أَبى سَالم بن همام فأنفذ نور الدّين وَأخذ ابْن همام وَحلق لحيته وطيف بِهِ فِي دمشق قلت وَابْن همام هَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الشنباشي فِي قصيدته وَأَشَارَ إِلَى حلق لحيته بقوله (كابى سَالم بن همام لما ... قَامَ للنصح عَاد يمشي ملثم) ثمَّ قَالَ ابْن أبي طي واستخص نور الدّين صَلَاح الدّين وألحقه بخواصّه فَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي سفر وَلَا حضر وَكَانَ يفوق النَّاس جَمِيعًا فِي لعب الكرة وَكَانَ نور الدّين يحب لعب الكرة قَالَ أَبُو يعلى وَنزل نور الدّين بعسكره بِالْأَعْمَالِ المختصة بِالْملكِ قليج أرسلان بن الْملك مَسْعُود بن قليج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قتلمش ملك قونية وَمَا والاها فَملك عدَّة من قلاعها وحصونها بِالسَّيْفِ والأمان وَكَانَ الْملك قليج أرسلان وأخواه ذُو النُّون ودولات مشتغلين بمحاربة أَوْلَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الدانشمند ونصروا عَلَيْهِم فِي وقْعَة كَانَت بأقصرا فِي شعْبَان فَلَمَّا عَاد قليج أرسلان وَعرف مَا كَانَ من نور الدّين فِي بِلَاده عظم عَلَيْهِ هَذَا الْأَمر واستبشعه مَعَ مَا بَينهمَا من الْمُوَادَعَة والمهادنة والصهر وراسله بالمعاتبة وَالْإِنْكَار والوعيد والتهديد فَأَجَابَهُ نور الدّين بِحسن الِاعْتِذَار وَجَمِيل الْمقَال وَبَقِي الْأَمر بَينهَا مستمرا على هَذِه الْحَال وَعَاد نور الدّين من حلب إِلَى دمشق قَالَ وَولى الأسطول الْمصْرِيّ مقدم شَدِيد الباس بَصِير بأشغال الْبَحْر فَاخْتَارَ جمَاعَة من رجال الْبَحْر يَتَكَلَّمُونَ بِلِسَان الفرنج وألبسهم ثِيَابهمْ ونهض بهم فِي عدَّة من المراكب الأسطولية وأقلع فِي الْبَحْر لكشف الْأَمَاكِن والمكامن والمسالك الْمَعْرُوفَة بمراكب الرّوم وتعرف أحوالها ثمَّ قصد ميناء صور وَقد ذكر لَهُ أَن فِيهِ شختورة رُومِية كَبِيرَة فِيهَا رجال كثير وَمَال وافر فهجم عَلَيْهَا وملكها وَقتل من فِيهَا وَاسْتولى على مَا حوته وَأقَام ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أحرقها وَعَاد عَنْهَا فِي الْبَحْر فظفر بمراكب حجاج الفرنج فَقتل وانتهب وَأسر وَعَاد إِلَى مصر بالغنائم والأسرى قلت وَفِي هَذِه السّنة ورد أَمر الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد وَهُوَ المقتفي إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أَمِير الْحَرَمَيْنِ قَاسم بن هَاشم يَأْمُرهُ أَن يركب على بَاب الْكَعْبَة المكرمة بَاب سَاج جَدِيدا قد ألبس جَمِيع خشبه فضَّة وطلي بِذَهَب وَأَن يَأْخُذ أَمِير الْحَرَمَيْنِ حلية الْبَاب الْقَدِيم لنَفسِهِ ويسير إِلَيْهِ خشب الْبَاب الْقَدِيم مُجَردا ليجعله تابوتا يدْفن فِيهِ عِنْد مَوته ذكر ذَلِك الْفَقِيه عمَارَة الشَّاعِر وَقَالَ سَأَلَني أَمِير الْحَرَمَيْنِ أَن أبيع لَهُ الْفضة الَّتِي أَخذهَا من الْبَاب فِي الْيمن ومبلغ وَزنهَا خَمْسَة عشر ألف دِرْهَم فتوجهت إِلَى زبيد وعدن من مَكَّة فِي صفر سنة إِحْدَى وَخمسين وَحَجَجْت فِي الْمَوْسِم مِنْهَا فَدفعت لأمير الْحَرَمَيْنِ مَاله وألزمني الترسل عَنهُ إِلَى مصر يعْنى مرّة ثَانِيَة بِسَبَب جِنَايَة جناها خدمه على حَاج مصر وَالشَّام ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا حاصر نور الدّين قلعة حارم وَهِي حصن غربي حلب بِالْقربِ من أنطاكية وضيق على أَهلهَا وَهِي من أمنع الْحُصُون وأحصنها فِي نحور الْمُسلمين فاجتمعت الفرنج من قرب مِنْهَا وَمن بعد وَسَارُوا نَحوه لمَنعه وَكَانَ بالحصن شَيْطَان من شياطين الفرنج يرجعُونَ إِلَى رَأْيه فَأرْسل إِلَيْهِم يعرفهُمْ قوتهم وَأَنَّهُمْ قادرون على حفظ الْحصن والذب عَنهُ بِمَا عِنْدهم من الْعدَد وَالْعدَد وحصانة القلعة وَيُشِير عَلَيْهِم بالمطاولة وَترك اللِّقَاء وَقَالَ لَهُم إِن لقيتموه هزمكم وَأخذ حارم وَغَيرهَا وَإِن حفظتم أَنفسكُم مِنْهُ أطقنا الِامْتِنَاع عَلَيْهِ فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وراسلوا نور الدّين فِي الصُّلْح على أَن يعطوه حِصَّة من أَعمال حارم فَأبى أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يُجِيبهُمْ إِلَّا على مُنَاصَفَة الْولَايَة فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَصَالحهُمْ وَعَاد وفى ذَلِك يَقُول بعض الشُّعَرَاء من قصيدة فَذكر أبياتا من قصيدة لِابْنِ مُنِير وَقد سبق أَن ابْن مُنِير توفى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين فإمَّا أَن يكون ابْن مُنِير قَالَ هَذَا الشّعْر فِي غير هَذِه الْغُزَاة وَإِمَّا أَن تكون هَذِه الْغُزَاة فِي غير هَذِه السّنة وَقد قَرَأت فِي ديوَان ابْن مُنِير وَقَالَ يمدحه ويهنئه بِالْعودِ من غزَاة حارم (مَا فَوق شأوك فِي الْعلَا مزداد ... فعلام يقلق عزمك الإجهاد) (همم ضربن على السَّمَاء سرادقا ... فالشهب اطنابٌ لَهَا وعماد) (أَنْت الَّذِي خطبت لَهُ حساده ... وَالْفضل مَا اعْترفت بِهِ الحساد) (قَامَ الدَّلِيل وَسلم الْخصم اليلندد ... وانجلى للآثر الْإِسْنَاد) (زهرت لدولتك الْبِلَاد فروحها ... أرج المهب ودوحها مياد) (أَحْيَا ربيع الْعدْل ميت ربوعها ... فالبرض لج والهشيم مُرَاد) (فالعيش إِلَّا فِي جنابك ميتَة ... وَالنَّوْم إِلَّا فِي حماك سهاد) (وَإِذا العدى زرعوا النِّفَاق وأحصدوا ... كيدا فعزمك نَاقض حصاد) (بالمقربات كَانَ فَوق متونها ... جن الملا وَكَأَنَّهَا أطواد) (تذأى وَمن وَحي الكماة صفورها ... فالزجر قيد والندا قياد) (سحب إِذا سحبت بِأَرْض ذيلها ... فالحزن سهل والهضاب وهاد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 (يهدى النواظر فِي دُجُنّة نقعها ... بدر بسرجك نير وقاد) (ألبست دين مُحَمَّد يَا نوره ... عزا لَهُ فَوق السها إسآد) (مَا زلت تسمكه بمياد القنا ... حَتَّى تثقف عوده المنآد) (لم يبْق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع بِهِ وَلَا استعداد) (إِن المنابر لَو تطِيق تكلما ... حمدتك عَن خطبائها الأعواد) (وَلَئِن حمت مِنْك الأعادي مهلة ... فَلهم إِلَى المرعى الوبى معاد) (وَلَكَمْ لَكُمْ فِي أَرضهم من مشْهد ... قَامَت بِهِ لِظُباكمُ الأشهاد) (مُلقٍ بأطراف الفرنجة كلكلا ... طرفاه ضرب صَادِق وجلاد) (حاموا فَلَمَّا عاينوا حَوْض الردى ... حاموا برائش كيدهم أَو كَادُوا) (وَرَجا الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... حرما بحارم والمصاد مصاد) (ضجت ثعالبه فأخرس جرسها ... بيض تناسب فِي الْحَدِيد حداد) (وسواعد ضربت بِهن وبالقنا ... من دون مِلَّة أَحْمد الأسداد) (يركزن فِي حلب وَمن أفنانها ... تجني فواكه أمنها بَغْدَاد) (يَا من إِذا عصفت زعازع بأسه ... خمدت جحيم الشّرك فَهِيَ رماد) (عجبا لقوم حاولوك وحاولوا ... عودا فواتاهم إِلَيْهِ مُرَاد) (وَرَأَوا لِوَاء النَّصْر فَوْقك خافقا ... فَأَقَامَ مِنْهُم فِي الضلوع فؤاد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 (من مُنكر أَن ينسف السَّيْل الزبى ... وَأَبوهُ ذَاك الْعَارِض المداد) (أَو أَن يُعِيد الشَّمْس كاسفة السنا ... نَار لَهَا ذَاك الشهَاب زناد) (لَا ينفع الْآبَاء مَا سمكوا من العلياء ... حَتَّى ترفع الْأَوْلَاد) (ملك يُقيد خَوفه ورجاؤه ... ولقلما تتضافر الأضداد) وَقَالَ يهنئه بالنصر يَوْم حارم قصيدة أَولهَا (لملكك مَا نشَاء من الدَّوَام ... ) يَقُول فِيهَا (حظيت من الْمَعَالِي بالمعاني ... ولاذ النَّاس بعْدك بالأسامي) (عَزِيز المنتمى عالي المراقي ... بعيد المرتمى غالى المسامي) (فَمَا أحد إِلَى العلياء يدلى ... بمحتدك القسيمى القسامى) (أَبوك المعتلى قمم الأعادي ... إِذا استعرت مذامرة القمام) (زكا عرق الْعرَاق وَقد تكنى ... بِهِ وَأطَال من شمم الشآم) (وَجدك جد حَتَّى قَالَ قوم ... على الْفلك ابتنى عمد الْخيام) (فخرت ففت آبَاء عظاما ... إِذا فَخر المنافر بالعظام) (وقفنا والنواظر مسجدات ... وروح الْعِزّ دَاري الختام) (أساطر كالزبور مفصلات ... كَانَا من صَلَاة فِي نظام) (لَدَى ملك سجاياه سِجَال ... تعاقب بَين عَفْو وانتقام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 (فأهللنا لسالفتي هِلَال ... وكفرنا لضاحكتي حسام) (ذهلنا والسماط يخال سمطا ... وَقد سجد المقاول للسلام) (هَل الدَّست اسْتَقل بليث غَابَ ... أم الْفلك ارتدى بدر التَّمام) (كريم أكثرت يَده أيادي العفاة ... وقللت عدد الْكِرَام) (وَخير سَمَاعه ضرب مدام ... إِذا طرب الْمُلُوك إِلَى المُدام) (تطير بِهِ إِلَى العلياء نفس ... غرُوب عَن ملاءمة الملام) (سقِِي الله العوامل من جبال ... شققْنَ النَّقْع عَن نقع الأوام) (فكم أنتجت من أمل عقيم ... بهَا وحسمت من دَاء عقام) (بإنب والرعال كَأَن ثولا ... تطاوح تَحت عير من إيام) (وأيدي الْخَيل تذرع لج بَحر ... من الدَّم مُزْبِد الثَّجَّيْن طامى) (مقَام كنت قطب رحاه ارجي ... مقَام بَين زَمْزَم وَالْمقَام) (أحلّت الدّين فِيهِ وَكَانَ هما ... عَزِيز الْقَوْم معتدل القوام) (رميتهم بأرعن مرجحن ... أبارهم وَكنت أبر رامي) (وَفِي شجراء حارم شاجرتهم ... سواهُم كالسهام بكالسهام) (نَظَائِر حممت لَهُم حَماما ... تطاير تَحْتَهُ مثل الْحمام) (فَلَو قد مثل الْإِسْلَام شخصا ... لرشف مَا وطِئت من السَّلَام) (حماه وَقد تناعس كل رَاع ... وَقَامَ وَقد تقاعس كل حام) (فأكذب مدعين هفوا وغروا ... بِأَن الأَرْض تَخْلُو من إِمَام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 (أولي الْأَبْصَار كم هَذَا التعاشي ... عَن النُّور الْمُبين بل التعامي) (عَن الْقَمَر الَّذِي يجلوه ظلّ العواصم ... فِي ضيا اللَّيْل التهامي) (هُوَ الْمهْدي لَا من ضل فِيهِ ... كثير واستخف سوى هِشَام) (وقائم عصرنا لَا مَا تمنى ... بِهِ من صوغ أضغاث الْمَنَام) (بِنور الدّين انشر كل حق ... أطيل ثواؤه تَحت الرجام) (وطالت قبَّة الْإِسْلَام حَتَّى اسْتَوَت ... بَين الفوارس والنعام) (تطابق لاسمه لفظ وَمعنى ... أحلاه الطباق على الْأَنَام) (جرى قدامه ابْن سبكتكين ... وَقبل الوبل هينمة الرهام) (وَكَانَ من النُّجُوم بِحَيْثُ تومى ... إِلَيْهِ من غيابات التكامي) (وَجئْت فَصَارَ أشمخ مَا بناه ... لما شيدت الطأ من رغام) (أطاعك إِذْ أَطَعْت الله جد ... ركبت بِهِ الزَّمَان بِلَا زِمَام) (أَلا يَا رُبمَا اتّفق الْأَسَامِي ... وفاضل بَينهَا درج التسامي) (جنى شرفا من استغواه حتف ... إِلَيْك وَكم حَيَاة من حمام) (ترشفك الكماة وَأَنت موت ... كَأَنَّك من طعان فِي طَعَام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فصل قَالَ الرئيس أَبُو يعلى توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة حلب فِي بعض عسكره فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر عِنْد انْتِهَاء خبر الفرنج إِلَيْهِ بعيثهم فِي أَعمال حلب وإفسادهم وصادفه فِي طَرِيقه المبشر بظفر عسكره الْحلَبِي بالإفرنج المفسدين على حارم وَقتل جمَاعَة مِنْهُم وأسرهم وَوصل مَعَ المبشر عدَّة وافرة من رُؤُوس الإفرنج الْمَذْكُورين وطيف بهَا فِي دمشق قَالَ وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق فِي رَمَضَان سالما بعد تَهْذِيب حلب وأعمالها وتفقد أحوالها واستقرت الْمُوَادَعَة بَينه وَبَين ولد السُّلْطَان مَسْعُود صَاحب قونية وَزَالَ مَا كَانَ حدث بَينهمَا وَفِي شَوَّال تقررت الْمُوَادَعَة والمهادنة بَينه وَبَين ملك الإفرنج مُدَّة سنة كَامِلَة أَولهَا شعْبَان وَأَن المقاطعة المحمولة إِلَيْهِم من دمشق ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار صورية وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأيمان والمواثيق الْمُشَدّدَة قَالَ وَفِي الْعشْر الْأَخير من ذِي الْحجَّة غدر الإفرنج وَنَقَضُوا مَا كَانَ اسْتَقر من الْمُوَادَعَة والمهادنة بِحكم وُصُول عدَّة وافرة من الفرنج فِي الْبَحْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَقُوَّة شوكتهم بهم ونهضوا إِلَى نَاحيَة الشُّعَرَاء الْمُجَاورَة لبانياس وَقد اجْتمع فِيهَا من جشارات خُيُول العسكرية والرعية وعوامل فلاحي الضّيَاع ومواشي الجلابين وَالْعرب والفلاحين الشَّيْء الْكثير الَّذِي لَا يُحْصى فيذكر للْحَاجة إِلَى الرَّعْي بهَا والسكون إِلَى الْهُدْنَة المستقرة وَوَقع للمندوبين بحفظها تَقْصِير فانتهزوا الفرصة وَاسْتَاقُوا جَمِيع مَا وجدوه وأفقروا أَهله مِنْهُ مَعَ من أسروه من تركمان وَغَيرهم وعادوا ظافرين غَانِمِينَ آثمين وَالله عَادل فِي حكمه يتَوَلَّى الْمُكَافَأَة لَهُم والإدالة مِنْهُم وَقد فعل سُبْحَانَهُ ذَلِك على مَا سَيَأْتِي فِي حوادث السّنة الْآتِيَة قلت وَفِي هَذِه السّنة توفّي القَاضِي أَبُو الْفَتْح مَحْمُود بن إِسْمَاعِيل بن قادوس كَاتب الْإِنْشَاء بالحضرة المصرية وَأَصله من دمياط ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي = الخريدة = وَأثْنى عَلَيْهِ وَمن شعره فِي رجل كَانَ يكثر التَّكْبِير فِي أول الصَّلَاة (وفاتر النِّيَّة عنينها ... مَعَ كَثْرَة الرعدة والهزه) (مكبر سبعين فِي مرّة ... كَأَنَّهُ صلى على حمزه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَله فِي صفة كتاب (مداده فِي الطرس لما بدا ... قبله الصب وَمن يزهد) (كَأَنَّمَا قد حل فِيهِ اللّمى ... أَو ذاب فِيهِ الْحجر الْأسود) وَبَلغنِي أَن القَاضِي الْفَاضِل كَانَ يعظمه كثيرا ويسميه ذَا البلاغتين وَهُوَ أحد من اشْتغل الْفَاضِل عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يتَمَكَّن من اقتباس فَوَائده غَالِبا إِلَّا فِي ركُوبه من الْقصر إِلَى منزله بِمصْر وَمن منزله إِلَى الْقصر فيسايره الْفَاضِل ويجاريه فِي فنون الْكِتَابَة وَالْأَدب وَالشعر قَالَ وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث من ربيع الأول من السّنة توفى الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْبَيَان نبا بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الحوراني وَكَانَ حسن الطَّرِيقَة مذ نَشأ صَبيا إِلَى أَن قضى متدينا تقيا عفيفا سخيا محبا للْعلم وَالْأَدب والمطالعة للغة الْعَرَب وَكَانَ لَهُ عِنْد خُرُوج سَرِيره لقبره فِي مَقَابِر بَاب الصَّغِير الْمُجَاورَة لقبور الصَّحَابَة من الشُّهَدَاء رَضِي الله عَنْهُم يَوْم مشهود من كَثْرَة المتأسفين لَهُ والمثنين عَلَيْهِ قلت وَفِي هَذِه السّنة وَالَّتِي بعْدهَا كثرت الزلازل بِالشَّام قَالَ أَبُو يعلى فِي لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان وافت زَلْزَلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 هائلة وَجَاءَت قبلهَا وَبعدهَا مثلهَا فِي النَّهَار وَفِي اللَّيْل ثمَّ جَاءَ بعد ذَلِك ثَلَاث دونهن بِحَيْثُ أحصين سِتّ مَرَّات وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ جَاءَت زَلْزَلَة ارتاع النَّاس مِنْهَا فِي أول النَّهَار وَآخره وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب وحماة بانهدام مَوَاضِع كَثِيرَة وانهدام برج من أبراج أفامية بِهَذِهِ الزلازل المباركه وَذكر أَن الَّذِي أحصى عدده مِنْهَا تَقْدِير الْأَرْبَعين وَمَا عرف مثل ذَلِك فِي السنين الْمَاضِيَة والأعصار الخلية وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر بِعَيْنِه وافت زَلْزَلَة آخر النَّهَار وبالليل ثَانِيَة فِي آخِره وَفِي أول شهر رَمَضَان زَلْزَلَة مروعة وثانية وثالثة وَفِي ثَالِث رَمَضَان ثَلَاث زلازل وَأُخْرَى وَقت الظّهْر وَأُخْرَى هائلة أيقظت النيام وروعت الْقُلُوب انتصاف اللَّيْل وَفِي لَيْلَة نصف رَمَضَان زَلْزَلَة هائلة أعظم مِمَّا سبق وَعند الصَّباح أُخْرَى وَفِي اللَّيْلَة الَّتِي تَلِيهَا زلزلتان أَولهَا وَآخِرهَا وَفِي الْيَوْم الَّذِي بعد يَوْمهَا وَفِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين زَلْزَلَة مزعجة وَفِي ثَانِي شَوَّال زَلْزَلَة أعظم مِمَّا تقدم وَفِي سابعه وسادس عشره وَفِي الْيَوْم الَّذِي جَاءَ بعده أَربع زلازل وَلَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين مِنْهُ وَدفع الله تَعَالَى عَن دمشق وضواحيها مَا خَافَ أَهلهَا من توالي ذَلِك وتتابعه برأفته بهم وَرَحمته لَهُم فَلهُ الْحَمد وَالشُّكْر لَكِن وَردت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب بِكَثْرَة ذَلِك فِيهَا وانهدام مساكنها وَأما شيزر فَإِن الْكثير من مساكنها انْهَدم على سكانه بِحَيْثُ قتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَأما كفر طَابَ فهرب أَهلهَا مِنْهَا خوفًا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أَرْوَاحهم وَأما حماة فَكَانَت كَذَلِك وَأما بَاقِي الْأَعْمَال الشامية فَمَا عرف مَا حدث فِيهَا من هَذِه الْقُدْرَة الباهرة ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخمْس مئة فَفِي لَيْلَة تَاسِع عشر صفر وافت زَلْزَلَة عَظِيمَة وتلاها أُخْرَى وَكَذَا فِي لَيْلَة الْعشْرين وَالْيَوْم بعْدهَا وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بعظيم تَأْثِير هَذِه الزلازل وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وافت أَربع زلازل وضج النَّاس بالتهليل وَالتَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس وَفِي لَيْلَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وافت زلزلتان وتواصلت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بِأَن هَذِه الزلازل أثرت فِي حلب تَأْثِيرا أزعج أَهلهَا وأقلقهم وَكَذَا فِي حمص وهدمت مَوَاضِع فِيهَا وَفِي حماة وَكفر طَابَ وأفامية وهدمت مَا كَانَ بني من مهدوم الزلازل الأول وَحكي أَن تيماء أثرت فِيهَا هَذِه الزلازل تَأْثِيرا مهولا وَفِي رَابِع رَجَب نَهَارا وافت بِدِمَشْق زَلْزَلَة عَظِيمَة لم ير مثلهَا فِيمَا تقدم ودامت رجفاتها حَتَّى خَافَ النَّاس على أنفسهم ومنازلهم وهربوا من الدّور والحوانيت والسقائف وانزعجوا وأثرت فِي مَوَاضِع كَثِيرَة ورمت من فص الْجَامِع الشَّيْء الْكثير الَّذِي يعجز عَن إِعَادَة مثله ثمَّ وافت عقيبها زَلْزَلَة فِي الْحَال ثمَّ سكنتا بقدرة من حركهما ثمَّ تبع ذَلِك فِي أول لَيْلَة الْيَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الْمَذْكُور زَلْزَلَة وَفِي وَسطه زَلْزَلَة وَفِي آخِره زَلْزَلَة وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن رَجَب زَلْزَلَة مهولة أزعجت النَّاس وتلاها فِي النّصْف مِنْهَا ثَانِيَة وَعند انبلاج الصُّبْح ثَالِثَة وَكَذَلِكَ فِي لَيْلَة السبت وَلَيْلَة الْأَحَد وَلَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَتَتَابَعَتْ بعد ذَلِك بِمَا يطول بِهِ الشَّرْح ووردت الْأَخْبَار من نَاحيَة الشمَال بِمَا يسوء سَمَاعه ويرعب النُّفُوس ذكره بِحَيْثُ انْهَدَمت حماة وقلعتها وَسَائِر دورها ومنازلها على أَهلهَا من الشُّيُوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير بِحَيْثُ لم يسلم مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل الْيَسِير وَأما شيزر فَإِن ربضها سلم إِلَّا مَا كَانَ خرب أَولا وَأما حصنها الْمَشْهُور فَإِنَّهُ انْهَدم على واليها تَاج الدولة بن أبي العساكر بن منقذ وَمن تبعه إِلَّا الْيَسِير مِمَّن كَانَ خَارِجا وَأما حمص فَإِن أَهلهَا كَانُوا قد اخْتلفُوا مِنْهَا إِلَى ظَاهرهَا فَسَلمُوا وَتَلفت مساكنهم وَتَلفت قلعتها وَأما حلب فهدمت بعض دورها وَخرج أَهلهَا مِنْهَا إِلَى ظَاهر الْبَلَد وَكفر طَابَ وأفامية وَمَا والاها ودنا مِنْهَا وَبعد عَنْهَا من الْحُصُون والمعاقل إِلَى جبلة وجبيل فأثرت بهَا الْآثَار المستبشعة وأتلفت سلمية وَمَا اتَّصل بهَا إِلَى نَاحيَة الرحبة وَمَا جاورها وَلَو لم يدْرك الْعباد والبلاد رَحْمَة الله تَعَالَى ولطفه ورأفته لَكَانَ الْخطب أفظع وَقد نظم فِي ذَلِك من قَالَ (روعتنا زلازل حادثات ... بِقَضَاء قضاهُ رب السَّمَاء) (هدمت حصن شيزر وحماة ... أهلكت أَهله بِسوء الْقَضَاء) (وبلادا كَثِيرَة وحصونا ... وثغورا موثقات الْبناء) (فَإِذا مَا رنت عُيُون إِلَيْهَا ... أجرت الدمع عِنْدهَا بالدماء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 (وَإِذا مَا قضى من الله أَمر ... سَابق فِي عباده بالمضاء) (حَار قلب اللبيب فِيهِ وَمن كَانَ ... لَهُ فطنة وَحسن ذكاء) (وتراه مسبحا باكي الْعين ... مروعا من سخطَة وبلاء) (جلّ رَبِّي فِي ملكه وَتَعَالَى ... عَن مقَال الْجُهَّال والسفهاء) قَالَ وَأما أهل دمشق فَلَمَّا وافتهم الزلزلة فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب ارتاع النَّاس من هولها وأجفلوا من مَنَازِلهمْ والمسقف إِلَى الْجَامِع والأماكن الخالية من الْبُنيان خوفًا على أنفسهم ووافت بعد ذَلِك أُخْرَى فَفتح الْبَلَد وَخرج النَّاس إِلَى ظَاهره والبساتين والصحراء وَأَقَامُوا عدَّة لَيَال وَأَيَّام على الْخَوْف والجزع يسبحون ويهللون ويرغبون إِلَى خالقهم ورازقهم فِي اللطف بهم وَالْعَفو عَنْهُم قَالَ وَفِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وافت دمشق زَلْزَلَة روعت النَّاس وأزعجتهم لما وَقع فِي نُفُوسهم مِمَّا قد جرى على بِلَاد الشَّام من تتَابع الزلازل فِيهَا ووافت الْأَخْبَار من نَاحيَة حلب بَان هَذِه الزلزلة جَاءَت فِيهَا هائلة فقلقلت من دورها وجدرانها الْعدَد الْكثير وَأَنَّهَا كَانَت بحماة أعظم مِمَّا كَانَت فِي غَيرهَا وَأَنَّهَا هدمت مَا كَانَ عمر فِيهَا من بيُوت يلتجأ إِلَيْهَا وَأَنَّهَا دَامَت فِيهَا أَيَّامًا كَثِيرَة فِي كل يَوْم عدَّة وافرة من الرجفات الهائله يتبعهَا صيحات مختلفات توفى على أصوات الرعود القاصفة المزعجة فسبحان من لَهُ الحكم وَالْأَمر وتلا ذَلِك ردفات مُتَوَالِيَة أخف من غَيْرهنَّ فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة السبت الْعَاشِر من شَوَّال وافت زَلْزَلَة هائلة بعد صَلَاة عشَاء الْآخِرَة أزعجت وأقلقت وتلاها فِي إثْرهَا هزة خَفِيفَة وَكَذَا لَيْلَة الْعَاشِر من ذِي الْقعدَة وَفِي غدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 زلازل وَلَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين وَالْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ أَيْضا زلازل نفر النَّاس من هولها إِلَى الْجَامِع والأماكن المنكشفة وضجوا بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَالتَّسْبِيح وَالدُّعَاء والتضرع إِلَى الله تَعَالَى وَفِي يَوْم الْجُمُعَة انسلاخ ذِي الْقعدَة وافت زَلْزَلَة رجفت لَهَا الأَرْض وانزعج لَهَا النَّاس قَالَ ابْن الْأَثِير فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين كَانَ بِالشَّام زَلْزَلَة شَدِيدَة ذَات رجفات عَظِيمَة متتابعة أخربت الْبِلَاد وأهلكت الْعباد وَكَانَ أَشدّهَا بِمَدِينَة حماة وحصن شيزر فَإِنَّهُمَا خربا بِمرَّة وَكَذَا مَا جاورهما كحصن بارين والمعرة وَغَيرهمَا من الْبِلَاد والقرايا وَهلك تَحت الْهدم من الْخلق مَالا يُحْصِيه إِلَّا الله تَعَالَى وتهدمت الأسوار والدور والقلاع وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى من على الْمُسلمين بِنور الدّين جمع العساكر وَحفظ الْبِلَاد وَإِلَّا كَانَ دَخلهَا الفرنج بِغَيْر حِصَار وَلَا قتال قَالَ وَلَقَد بَلغنِي من كَثْرَة الهلكى أَن بعض المعلمين بحماة ذكر أَنه فَارق الْمكتب لمهم فَجَاءَت الزلزلة فأخربت الدّور وَسقط الْمكتب على الصّبيان جَمِيعهم قَالَ الْمعلم فَلم يَأْتِ أحد يسْأَل عَن صبي كَانَ لَهُ فِي الْمكتب قلت وقرأت فِي ديوَان الْأَمِير الْفَاضِل مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن منقذ وَقَالَ فِي الزلازل الَّتِي أهلكت كثيرا من أهل الشَّام وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي شهر الله رَجَب سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة وَهلك بهَا من هلك من الْخلق فَكَانَ نَحوا من عشرَة آلَاف نسمَة قَالَ وَكتب هَذَا الْمَكْتُوب والزلازل إِلَى الْآن تتعاهد الْبِلَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 (نمنا عَن الْمَوْت والمعاد وأصبحنا ... نظن الْيَقِين احلاما) (فحركتنا هذى الزلازل أَي ... تيقظوا كم ينَام من نَامَا) وَقَالَ أَيْضا (أَيهَا الغافلون عَن سكرة الْمَوْت ... وَإِذ لَا يسوغ فِي الْحلق ريق) (كم إِلَى كم هَذَا التشاغل والغفلة ... حَار الساري وضل الطَّرِيق) (إِنَّمَا هزت الزلازل هذي الأَرْض بالغافلين كي يستفيقوا) وَقَالَ فِي الزلازل أَيْضا وَقد سكن النَّاس بعد الدّور والنزهة فِي أكواخ عملوها بالأخشاب لِئَلَّا تهدها الزلازل (يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ ارْحَمْ عِبَادك من ... هذى الزلازل فَهِيَ الهلك والعطب) (ماجت بهم أَرضهم حَتَّى كَأَنَّهُمْ ... ركاب بَحر مَعَ الأنفاس تضطرب) (فنصفهم هَلَكُوا فِيهَا ونصفهم ... لمصرع السّلف الماضين يرتقب) (تعوضوا من مشيدات الْمنَازل بالأكواخ ... فَهِيَ قُبُور سقفها خشب) (كَأَنَّهَا سفن قد أَقبلت وهم ... فِيهَا فَلَا ملْجأ مِنْهَا وَلَا هرب) وَقَالَ يرثى أَهله الَّذين هَلَكُوا بالزلازل بحصن شيزر قصيدة مِنْهَا (مَا استدرج الْمَوْت قومِي فِي هلاكهم ... وَلَا تخرمهم مثنى ووحدانا) (فَكنت أَصْبِر عَنْهُم صَبر محتسب ... وأحمل الْخطب فيهم عز أَو هانا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 (وأقتدي بالورى قبلي فكم فقدوا ... أَخا وَكم فارقوا أَهلا وجيرانا) (لَكِن سقب المنايا وسط جمعهم ... رغا فَخَروا على الأذقان إذعانا) (وفاجأتهم من الْأَيَّام قَارِعَة ... سقتهم بكؤوس الْمَوْت ذيفانا) (مَاتُوا جَمِيعًا كرجع الطّرف وانقرضوا ... هَل مَا ترى تَارِك للعين إنْسَانا) (أعزز عَليّ بهم من معشر صَبر ... على الحفيظة إِن ذُو لوثة لانا) (لم يتْرك الدَّهْر لي من عبد فقدهم ... قلبا أجشمه صبرا وسلوانا) (فَلَو رأوني لقالوا مَاتَ أسعدنا ... وعاش للهم وَالْأَحْزَان أشقانا) (لم يتْرك الْمَوْت مِنْهُم من يُخْبِرنِي ... عَنْهُم فيوضح مَا قَالُوهُ تبيانا) (بادوا جَمِيعًا وَمَا شادوا فوا عجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا) (هذى قصورهم أمست قُبُورهم ... كَذَاك كَانُوا بهَا من قبل سكانا) (وَيْح الزلازل افنت معشري فَإِذا ... ذكرتهم خلتني فِي الْقَوْم سكرانا) (لَا ألتقي الدَّهْر من بعد الزلازل مَا ... حييت إِلَّا كسير الْقلب حيرانا) (أخنت على معشري الأدنين فاصطلمت ... مِنْهُم كهولا وشبانا وولدانا) (لم يحمهم حصنهمْ مِنْهَا وَلَا رهبت ... بَأْسا تناذره الأقران أزمانا) (إِن أقفرت شيزر مِنْهُم فهم جعلُوا ... منيع أسوارها بيضًا وخرصانا) (هم حموها فَلَو شاهدتها وهم ... بهَا لشاهدت آسادا وخفانا) (تراهم فِي الوغى أسدا وَيَوْم ندى ... غيثا مغيثا وَفِي الظلماء رهبانا) (بَنو أبي وَبَنُو عمي دمي دمهم ... وَإِن أروني مناواة وشنآنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 (يطيب النَّفس عَنْهُم أَنهم رحلوا ... وخلفوني على الْآثَار عجلانا) وَكتب إِلَيْهِ الصَّالح بن رزيك قصيدة يعزيه عَن أَهله مِنْهَا (بَابي شخصك الَّذِي لَا يغيب ... عَن عياني فَهُوَ الْبعيد الْقَرِيب) (يَا أخلاى بالشآم لَئِن غبتم ... فشوقي إِلَيْكُم لَا يغيب) (غصبتنا الْأَيَّام قربكم منا ... وَلَا بُد أَن ترد الغصوب) (كره الشَّام أَهله فَهُوَ محقوق ... بألا يُقيم فِيهِ لَبِيب) (إِن تجلت عَنهُ الحروب قَلِيلا ... خلفتها زلازل وخطوب) (رقصت أرضه عَشِيَّة غنى الرَّعْد ... فِي الجو والكريم طروب) (وتثنت حيطانه إِذْ أمالتها ... شمال بزمرها وجنوب) (لَا هبوب لنائم من أمانيه ... وللعاصفات فِيهَا هبوب) (وَأرى الْبَرْق شامتا ضَاحِك السن ... وللجو بالغمام قطوب) (ذكرُوا أَنه تذوب بِهِ السحب ... فَمَا للصخور أَيْضا تذوب) (أبذنب أَصَابَهَا قدر الله ... فللأرض كالأنام ذنُوب) (إِن ظَنِّي وَالظَّن مثل سِهَام الرَّمْي ... مِنْهَا المخطي وَمِنْهَا الْمُصِيب) (إِن هَذَا لِأَن غَدَتْ ساحة الْقُدس ... وَمَا لِلْإِسْلَامِ فِيهَا نصيب) (منزل الْوَحْي قبل بعث رَسُول الله ... فَهُوَ المحجوج والمحجوب) (نزلت وَسطه الْخَنَازِير وَالْخمر ... وبارى الناقوس فِيهِ الصَّلِيب) (لَو رَآهُ الْمَسِيح لم يرض فعلا ... ذكرُوا أَنه لَهُ مَنْسُوب) (ابعد النَّاس عَن عبَادَة رب النَّاس ... قوم إلههم مصلوب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 (لهف نَفسِي على ديار من السكان ... أقوت فَلَيْسَ فِيهَا عريب) (فاحتسب مَا اصاب قَوْمك مجد الدّين ... واصبر فالحادثات ضروب) (إِن تخصصكم نَوَائِب مَا زَالَت ... لكم دون من سواكم تنوب) (فكذاك الْقَنَاة يكسر يَوْم الروع ... مِنْهَا صدر وَتبقى الكعوب) وقرأت فِي = ديوَان العرقلة = كَانَ الْمولى صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب مَعَ عبيد غُلَام الْمولى وَكَانَ عبيد هَذَا مَوْصُوفا بالثقل فِي بَيت بِمَدِينَة حماة يَوْم الزلزلة فَوَقَعت الْمَدِينَة بأسرها سوى ذَلِك الْبَيْت الَّذِي هما فِيهِ فَقَالَ العرقلة (قل لصلاح الدّين رب الندى ... بلغ عبيدا كل مَا أمله) (بثقله لما تصاحبتما ... سلمك الله من الزلزله) وقرأت فِي بعض كتب أَبى الْحُسَيْن الرَّازِيّ عَن شُيُوخه أَنه وَقع بِدِمَشْق فِي ذِي الْقعدَة سنه خمس وَأَرْبَعين ومئتين زلازل عَظِيمَة حُكيَ عَنْهَا نَحْو مِمَّا مضى ذكره وَأكْثر نسْأَل الله تَمام الْعَافِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فصل قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي ثَالِث عشر ربيع الأول توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة بعلبك لتفقد أحوالها وَتَقْرِير أَمر المستحفظين لَهَا وتواصلت الْأَخْبَار إِلَيْهِ من نَاحيَة حمص وحماة بإغارة الفرنج الملاعين على تِلْكَ الْأَعْمَال وَفِي خَامِس عشر ربيع الأول ورد المبشر من الْعَسْكَر الْمَنْصُور بِرَأْس المَاء بِأَن نصْرَة الدّين أَمِير أميران لما انْتهى إِلَيْهِ خبر الفرنج أَنهم قد أنهضوا سَرِيَّة وافرة الْعدَد إِلَى نَاحيَة بانياس لتقويتها أسْرع النهضة إِلَيْهِم وعدتهم سبع مئة فَارس سوى الرجالة فأدركهم قبل الْوُصُول إِلَى بانياس وَقد خرج إِلَيْهِم من كَانَ فِيهَا من حماتها فأوقع بهم وَقد كَانَ كمن لَهُم فِي مَوَاضِع كمناء من شجعان الأتراك واندفع الْمُسلمُونَ بَين أَيْديهم فِي أول المجال وَظهر عَلَيْهِم الكمناء فَأنْزل الله نَصره على الْمُسلمين بِحَيْثُ لم ينج مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وصاروا بأجمعهم بَين قَتِيل وجريح ومسلوب وأسير وَحصل فِي أَيدي الْمُسلمين من خيولهم وسلاحهم وَأَمْوَالهمْ وأسراهم ورؤوس قتلاهم مَا لَا يحد كَثْرَة ومحقت السيوف عَامَّة رجالتهم من الإفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إِلَيْهِم ووصلت الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وَالْعدَد إِلَى دمشق وطيف بهم وَقد اجْتمع لمشاهدتهم الْخلق وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وأنفذ إِلَى نور الدّين إِلَى بعلبك جمَاعَة من أسرى الْمُشْركين فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم صبرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 قَالَ وَتبع هَذَا الْفَتْح وُرُود الْبُشْرَى الثَّانِيَة من أَسد الدّين باجتماع الْعدَد الْكثير إِلَيْهِ من شجعان التركمان وَأَنه قد ظفر من الْمُشْركين بسريه وافرة ظَهرت فِي معاقلهم من نَاحيَة الشمَال فانهزمت وتخطف التركمان مِنْهُم من ظفروا بِهِ قَالَ وَوصل أَسد الدّين إِلَى بعلبك فِي الْعَسْكَر من مقدمي التركمان وأبطالهم للْجِهَاد وهم فِي الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير واجتمعوا بِنور الدّين وتقررت الْحَال على قصد بِلَاد الْمُشْركين لتدويخها والابتداء بالنزول على بانياس وَقدم نور الدّين دمشق فِي إِخْرَاج آلَات الْحَرْب وتجهيزها إِلَى الْعَسْكَر بِحَيْثُ يُقيم أَيَّامًا يسيرَة وَيتَوَجَّهُ وَأمر بالنداء بِدِمَشْق فِي الْغُزَاة والمجاهدين فَتَبِعَهُ من الْأَحْدَاث والمطوعة وَالْفُقَهَاء والصوفية والمتدينين خلق كثير وَخرج يَوْم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول وَفِي سَابِع ربيع الآخر عقيب نزُول نور الدّين على بانياس ومضايقته لَهَا بالمنجنيقات وَالْحَرب سقط بِدِمَشْق الطَّائِر من الْعَسْكَر الْمَنْصُور بِظَاهِر بانياس يتَضَمَّن كِتَابه الْإِعْلَام بورود المبشر من معسكر أَسد الدّين بِنَاحِيَة هونين فِي التركمان وَالْعرب بِأَن الفرنج خذلهم الله تَعَالَى أنهضوا سَرِيَّة من أَعْيَان مقدميهم وأبطالهم تزيد على مئة فَارس سوى أتباعهم لكبس الْمَذْكُورين ظنا مِنْهُم بِأَنَّهُم فِي قل وَلم يعلمُوا انهم فِي أُلُوف فَلَمَّا دنوا مِنْهُم وَثبُوا إِلَيْهِم كالليوث إِلَى فرائسها فأطبقوا عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والأسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَالسَّلب وَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير ووصلت الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وعددهم من الْخُيُول المنتخبة والطوارق والقنطاريات إِلَى دمشق وطيف بهم فِيهِ يَوْم الِاثْنَيْنِ تالي الْيَوْم الْمَذْكُور قَالَ وتلا هَذِه الموهبة المتجددة سُقُوط الطَّائِر من المعسكر المحروس ببانياس فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تلو الْمَذْكُور يذكر افْتِتَاح مَدِينَة بانياس بِالسَّيْفِ قهرا على مُضِيّ أَربع سَاعَات من يَوْم الثُّلَاثَاء الْمَذْكُور عِنْد تناهي النقب وَإِطْلَاق النَّار فِيهِ وَسُقُوط البرج المنقوب وهجوم الرِّجَال فِيهِ وبذل السَّيْف فِي قتل من فِيهِ وَنهب مَا حواه وانهزام من سلم إِلَى القلعة وانحصارهم بهَا وَأَن أَخذهم بِمَشِيئَة الله تَعَالَى لَا يبطئ وَالله يسهله ويعجله قَالَ وَاتفقَ بعد ذَلِك أَن الفرنج تجمعُوا من معَاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صَاحب بانياس وَمن مَعَه من أَصْحَابه المحصورين بقلعة بانياس وَقد أشرفوا على الْهَلَاك وَبَادرُوا وبالغوا فِي السُّؤَال لنُور الدّين الْأمان ويسلمون مَا فِي أَيْديهم من القلعة وَمَا حوته لينجوا سَالِمين فَلم يجبهم إِلَى مَا سَأَلُوا وَرَغبُوا فِيهِ فَلَمَّا وصل ملك الإفرنج فِي جمعه من الْفَارِس والراجل من نَاحيَة الْجَبَل على حِين غفله من العسكرين النَّازِل على بانياس لحصارها والنازل على الطَّرِيق لمنع الْوَاصِل إِلَيْهَا اقْتَضَت السياسة الاندفاع عَنْهَا بِحَيْثُ وصلوا إِلَيْهَا واستخلصوا من كَانَ فِيهَا وَحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 شاهدوا مَا عَم بانياس من إخراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى سَقَطت الأطيار بالكتب من المعسكر النوري تَتَضَمَّن الْإِعْلَام بِأَن الْملك الْعَادِل نور الدّين أعز الله نَصره لما عرف أَن معسكر الْكَفَرَة الإفرنج على الملاحة بَين طبرية وبانياس نَهَضَ فِي عسكره الْمَنْصُور من الأتراك وَالْعرب وجد فِي السّير فَلَمَّا شارفهم وهم غَارونَ وشاهدوا راياته قد أظلتهم بَادرُوا بِلبْس السِّلَاح وَالرُّكُوب وافترقوا أَربع فرق وحملوا على الْمُسلمين فَعِنْدَ ذَلِك ترجل الْملك نور الدّين فترجلت مَعَه الْأَبْطَال وأرهقوهم بِالسِّهَامِ وخرصان الرماح حَتَّى تزلزلت بهم الْأَقْدَام ودهمهم الْبَوَار وَالْحمام فَأنْزل الله تَعَالَى نَصره على الْمُسلمين وتمكنوا من فرسانهم قتلا وأسرا واستأصلت السيوف الرجالة وهم الْعدَد الْكثير فَلم يفلت مِنْهُم غير عشرَة نفر وَقيل إِن ملكهم لَعنه الله فيهم وَقيل إِنَّه فِي جملَة الْقَتْلَى وَلم يعرف لَهُ خبر وَلم يفقد من عَسْكَر الْإِسْلَام سوى رجلَيْنِ أَحدهمَا من الْأَبْطَال الْمَذْكُورين قتل أَرْبَعَة من شجعان الْكَفَرَة وَقتل عِنْد حُضُور أَجله إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَالْآخر غَرِيب لَا يعرف وكل مِنْهُمَا مضى شَهِيدا مثابا مأجورا رحمهمَا الله وامتلأت أَيدي العساكر من خيولهم وعددهم وكراعهم وأثاث سوادهم وحصلت كنيستهم فِي يَد الْملك نور الدّين بالاتها الْمَشْهُورَة وَكَانَ فتحا مُبينًا ونصرا عَزِيزًا ووصلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى إِلَى دمشق يَوْم الْأَحَد تالي يَوْم الْفَتْح وَقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة وفيهَا من جُلُود رؤوسهم بشعرها عدَّة والمقدمون مِنْهُم وولاة المعاقل والأعمال كل وَاحِد مِنْهُم على فرس وَعَلِيهِ الزردية والخوذة وَفِي يَده راية والرجالة كل ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَأَقل وَأكْثر فِي حَبل وَخرج من أهل الْبَلَد الْخلق الَّذِي لَا يُحْصى لَهُم عدد من الشُّيُوخ والشبان وَالنِّسَاء وَالصبيان لمشاهدة مَا منح الله تَعَالَى ذكره كَافَّة الْمُسلمين من هَذَا النَّصْر الْمُبين وَأَكْثرُوا شكر الله تَعَالَى وَالدُّعَاء لنُور الدّين المحامي عَنْهُم والرامي دونهم وَالثنَاء على مكارمه وَالْوَصْف لمحاسنه ونظم فِي ذَلِك أَبْيَات فِي هَذَا الْمَعْنى (مَا رَأينَا فِيمَا تقدم يَوْمًا ... كَامِل الْحسن غَايَة فِي الْبَهَاء) (مثل يَوْم الفرنج حِين علتهم ... ذلة الْأسر والبلا والفناء) (وبراياتهم على العيس زفوا ... بَين ذل وحسرة وعناء) (بعد عز لَهُم وهيبة ذكر ... فِي مصَاف الحروب والهيجاء) (هَكَذَا هَكَذَا هَلَاك الأعادي ... عِنْد شن الإغارة الشعواء) (شُؤْم أَخذ الجشار كَانَ وبالا ... عمهم فِي صباحهم والمساء) (نقضوا هدنة الصّلاح بِجَهْل ... بعد تأكيدها بِحسن الْوَفَاء) (فَلَقوا بغيهم بِمَا كَانَ مِنْهُم ... من فَسَاد بجهلهم واعتداء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 (لَا حمى الله شملهم من شتات ... بمواض تفوق حد المضاء) (فجزاء الكفور قتل واسر ... وَجَزَاء الشكُور خير الْجَزَاء) (ولرب الْعباد حمد وشكر ... دَائِم مَعَ تواصل النعماء) قَالَ وَشرع نور الدّين فِي قصد أَعْمَالهم لتملكها وتدويخها وَالله الْمعِين والموفق وَقَالَ ابْن أبي طي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين أغارت الفرنج على بلد حمص وحماة وافسدوا وَأَكْثرُوا العيث واتصل ذَلِك بِنور الدّين فأنهد إِلَيْهِم عسكرا كثيفا فأوقع بهم وَهَزَمَهُمْ إِلَى أَرض بانياس وَخرج نور الدّين حَتَّى نزل على بانياس وحاصرها أَشد حِصَار حَتَّى افتتحها فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ للفرنج فِيهَا وأنفذ الْغَنِيمَة وَالْأسَارَى مَعَ أَسد الدّين إِلَى دمشق وأنفذ مَعَه مِقْدَار ألف رَأس واتصل ذَلِك بالفرنج فأنهضت إِلَى مُعَارضَة أَسد الدّين قِطْعَة من خيالتها واتصل هَذَا بأسد الدّين وَقد دهمته الفرنج فَلبس لأمته وَتقدم فِي جمَاعَة من مماليكه بَين يَدي الْعَسْكَر وَأمر الرِّجَال بلقاء الفرنج وناجزهم الْحَرْب فَلم يتماسكوا بَين يَدَيْهِ وَرَجَعُوا على أدبارهم وتبعهم مِقْدَار فرسخين يقتل ويأسر وغنم مِنْهُم غنيمَة حَسَنَة وَعَاد إِلَى أَصْحَابه ظافرا وَتوجه فِي وجهته مؤيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فصل قَالَ الرئيس أَبُو يعلى وَفِي الْعشْر الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة تواصلت الْأَخْبَار بوصول ولد السُّلْطَان مَسْعُود فِي خلق كثير للنزول على أنطاكية وأوجبت الصُّورَة تَقْرِير المهادنة بَين نور الدّين وَملك الإفرنج وتكررت المراسلات بَينهمَا والاقتراحات والمشاجرات بِحَيْثُ فسد الْأَمر وَلم يسْتَقرّ على مصلحَة وَوصل نور الدّين إِلَى مقرّ عزه فِي بعض عسكره وَأقر بَاقِيه ومقدميه مَعَ الْعَرَب بِإِزَاءِ أَعمال الْمُشْركين قَالَ وَفِي ثَالِث رَجَب توجه نور الدّين إِلَى نَاحيَة حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها وَالنَّظَر فِي حمايتها عِنْدَمَا عاث الْمُشْركُونَ فِيهَا وَقربت عَسَاكِر الْملك ابْن مَسْعُود مِنْهَا ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك قد تقدم من ذكر نور الدّين ونهوضه فِي عساكره من دمشق إِلَى بِلَاد الشَّام عِنْد انْتِهَاء الْخَبَر إِلَيْهِ بتجمع أحزاب الفرنج خذلهم الله تَعَالَى وقصدهم لَهَا وطمعهم فِيهَا بِحكم مَا حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لَهَا وَمَا هدمت من الْحُصُون والقلاع والمنازل فِي أَعمالهَا وثغورها لحمايتها والذب عَنْهَا وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وَكفر طَابَ وحماة وَغَيرهَا بِحَيْثُ اجْتمع إِلَيْهِم الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان وخيم بهم بِإِزَاءِ جمع الفرنج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 بِالْقربِ من أنطاكية وحصرهم بِحَيْثُ لم يقدر فَارس مِنْهُم على الْإِقْدَام على الْفساد فَلَمَّا مَضَت أَيَّام من شهر رَمَضَان عرض لنُور الدّين ابْتِدَاء مرض حاد فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَخَافَ مِنْهُ على نفسة استدعى أَخَاهُ نصْرَة الدّين أَمِير أميران وَأسد الدّين شيركوه وأعيان الْأُمَرَاء والمقدمين وَأوصى إِلَيْهِم مَا اقْتَضَاهُ رَأْيه واستصوبه وَقرر مَعَهم كَون أَخِيه نصْرَة الدّين الْقَائِم فِي منصبه من بعده والساد لثلمة فَقده لاشتهاره بالشهامة وَشدَّة الْبَأْس وَيكون مُقيما بحلب وَيكون أَسد الدّين فِي دمشق فِي نِيَابَة نصْرَة الدّين واستحلف الْجَمَاعَة على هَذِه الْقَاعِدَة فَلَمَّا تقررت اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض فَتوجه فِي محفة إِلَى حلب وَحصل فِي قلعتها وَتوجه أَسد الدّين إِلَى دمشق لحفظ أَعمالهَا من فَسَاد الإفرنج وتواصلت الأراجيف بِنور الدّين فقلقت النُّفُوس وانزعجت الْقُلُوب فتقرقت جموع الْمُسلمين واضطربت الْأَعْمَال وطمع الفرنج فقصدوا مَدِينَة شيزر وهجموها وحصلوا فِيهَا فَقتلُوا واسروا ونهبوا وَتجمع من عدَّة جِهَات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وَغَيرهم وظهروا عَلَيْهِم فَقتلُوا مِنْهُم وأخرجوهم من شيزر وَاتفقَ وُصُول نصْرَة الدّين إِلَى حلب فأغلق والى القلعة مجد الدّين فِي وَجهه الْأَبْوَاب وَعصى عَلَيْهِ فثارت أَحْدَاث حلب وَقَالُوا هَذَا صاحبنا وملكنا بعد أَخِيه فزحفوا فِي السِّلَاح إِلَى بَاب الْبَلَد وكسروا أغلاقه وَدخل نصْرَة الدّين فِي أَصْحَابه وَحصل فِي الْبَلَد وَقَامَت الْأَحْدَاث على وَالِي القلعة باللوم وَالْإِنْكَار والوعيد واقترحوا على نصْرَة الدّين اقتراحات من جُمْلَتهَا إِعَادَة رسمهم فِي التأذين حَيّ على خير الْعَمَل مُحَمَّد وَعلي خَيْرُ الْبشر فأجابهم إِلَى مَا رَغِبُوا فِيهِ وَأحسن القَوْل لَهُم والوعد وَنزل فِي دَاره وأنفذ وَالِي القلعة إِلَيْهِ وَإِلَى الحلبيين يَقُول مَوْلَانَا نور الدّين حَيّ فِي نَفسه وَمَا كَانَ إِلَى مَا فعل حَاجَة فَقيل الذَّنب فِي ذَلِك للوالي وَصعد إِلَى القلعة من شَاهد نور الدّين حَيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 يفهم مَا يَقُول وَمَا يُقَال لَهُ فَأنْكر مَا جرى وَقَالَ أَنا أصفح للأحداث عَن هَذَا الخطل وَلَا أؤاخذهم بالزلل وَمَا طلبُوا إِلَّا صَلَاح حَال أخي وَولي عهدي من بعدِي وشاعت الْأَخْبَار وانتشرت البشائر فِي الأقطار بعافيته فأنست الْقُلُوب بعد الاستيحاش وابتهجت النُّفُوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت الْعَافِيَة وصرفت الهمم إِلَى مكاتبات المقدمين بِالْعودِ إِلَى جِهَاد الملاعين وَكَانَ نصْرَة الدّين قد ولي مَدِينَة حران وَمَا أضيف إِلَيْهَا وَتوجه نَحْوهَا وَلما تناصرت إلأخبار بالبشائر إِلَى أَسد الدّين بِدِمَشْق بعافية نور الدّين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للْجِهَاد سارع بالنهوض من دمشق إِلَى حلب وَوصل إِلَيْهَا فِي خيله وَاجْتمعَ بِنور الدّين فَأكْرم لقيَاهُ وشكر مسعاه وشرعوا فِي حماية الْأَعْمَال من شَرّ عصب الْكفْر والضلال قَالَ ونظمت هَذِه الأبيات فِي هَذَا الْمَعْنى (لقد حسنت صفاتك يَا زماني ... وفزت بِمَا رَجَوْت من الْأَمَانِي) (فكم أَصبَحت مرتاعا لخوف ... فبدلت المخافة بالأمان) (وجاءتنا أراجيف بِملك ... عَظِيم الشَّأْن مَسْعُود الزّمان) (فروعت الْقُلُوب من البرايا ... وَصَارَ شجاعها مثل الجبان) (وثارت فتْنَة يٌخشى أذاها ... على الْإِسْلَام فِي قاصٍ ودان) (ووافى بعد ذَاك بشير صدق ... بعافية المليك مَعَ التهاني) (فولى الْخَوْف منهدم المباني ... وَعَاد الْأَمْن معمور المغاني) قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة كَانَت الزلزلة الَّتِي هدمت شيزر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فَخرج نور الدّين وَأَخذهَا من بني منقذ وَسلمهَا إِلَى مجد الدّين ابْن الداية وَسَار إِلَى سرمين لِأَنَّهُ بلغه حَرَكَة الفرنج فاعترضه هُنَاكَ مرض أشفى مِنْهُ فأحضر شيركوه وأوصاه بالعساكر وَأَن يكون الْأَمر بعده لِأَخِيهِ نصْرَة الدّين أَمِير أميران فَسَار أَسد الدّين إِلَى دمشق وَأقَام بمرج الصفر خوفًا أَن يَتَحَرَّك الفرنج إِلَى جِهَة دمشق أَو غَيرهَا وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى تعافى نور الدّين فَعَاد إِلَى خدمته مهنئا لَهُ بالعافية وَكَانَ أَخُوهُ نصْرَة الدّين قد حاصر قلعة حلب فِي مُدَّة مرض نور الدّين فَلَمَّا أَفَاق نور الدّين من مَرضه سيرة إِلَى حران وَجعل ولي عَهده أَخَاهُ قطب الدّين صَاحب الْموصل قَالَ وَكَانَ مجد الدّين طمع فِي الْملك لنَفسِهِ فتحزم لأَمره وتقرب إِلَى النَّاس وَجعل لَهُ أَصْحَاب أَخْبَار وشحن الطرقات والسبل بِالرِّجَالِ بتفتيش الخارجين من حلب وَغَيرهَا والداخلين إِلَيْهَا قلت وَلابْن مُنِير تهنئة لنُور الدّين بالعافية من مرض غير هَذَا (يَا شمس لَا كسف وَلَا تكدار ... وَلَا خلت من نورك الْأَنْوَار) (الْبَدْر مَنْقُوص وَأَنت كَامِل ... لَك السَّرَايَا وَله السرَار) (برؤك لِلْإِسْلَامِ من أدوائه ... برْء وَفِي أعدائه بوار) (مَا أَنْت إِلَّا السَّيْف صد صدأ ... عَن مَتنه مضربه البتار) (لَو كَانَ مَحْمُولا أَذَى عَن منفس ... لحملته دُونك الْأَبْصَار) (وَلَو فدت أَرض سَمَاء ساقت الْمُلُوك ... فِي فدائك الْأَمْصَار) (انت غياث محلهم إِن أجدبوا ... وَخَيرهمْ إِن ذكر الْخِيَار) (وَفِي سَرِير الْملك مِنْهَا ملك ... لله فِي سرائه أسرار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 (خير مُلُوك الأَرْض جدا وَأَبا ... إِن هز عطفي مَا جد نجار) (مد على الدّين رواق دولة ... تنازعت أسمارها السمار) (علت بناياه وحلت يَده ... فَهِيَ عَلَيْهِ السُّور والسوار) (مَحْمُود الْمَحْمُود عصر ملكه ... فللحيا من مزنه اعتصار) (يَا نور دين أظلمت آفاقه ... لَو لم تبلج هَذِه الْآثَار) (لله أيامك مَا تخطه ... بالمسك من إسفارها الْأَسْفَار) (سلمت لِلْإِسْلَامِ ترعى سرحه ... إِذا ونى رعاته وجاروا) (شَكَوْت فالدنيا على سكانها ... قرارة جَانبهَا الْقَرار) (كَادَت تَمُوت الأَرْض من إشفاقها ... لَوْلَا شِفَاء ردهَا تمار) (زرت عَلَيْك التّرْك جيب نسب ... يحسدها بزيه نزار) (لَا عَدِمت مِنْك الْأَمَانِي رَبهَا ... معطى من الإقبال مَا يخْتَار) (مَا سمح الدَّهْر بِأَن تبقى لنا ... فَكل جرح مسنا جَبَّار) وَله من قصيدة أُخْرَى (لَا نُؤَدِّي لأنعم الله شكرا ... بك يَا أعظم الْبَريَّة قدرا) (زور عشر وافى لإقلاع دَاء ... جعلا الْمِنَّة الممناة عشرا) (ام مغناك ضَامِنا أَن أيامك ... تفني الأحقاب عصرا فعصرا) (فِي مَحل لَهُ السماكان سمك ... وجدود لَهَا المجرة مجْرى) (أَيهَا الْعَادِل المظفر لاقصت ... شبا الدَّهْر من شباتك ظفرا) (جعل الله مَا اسْتهلّ من الْأَشْهر ... ينهل فِي مغازيك نصرا) (أبدا ينشر التهاني على ساحاتك ... الزهر فِي المواسم نشرا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 (أَنْت أسرى الْمُلُوك نفسا وقنسا ... وَإِلَى أسرهم من الطيف أسرى) (ملك عِنْده المشارب تستمرى ... وأخلاف الْجُود تمرى فتفرى) (فلك الله من مثمر بذر ... يصطفي صَالحا ويحصد أجرا) (عش لملك أَصبَحت فِي الدست مِنْهُ ... فَوق كسْرَى عدلا وشعبا وكسرا) (تفطر الطَّيِّبَات للفطر فطرا ... وتعم الْأَعْدَاء فِي النَّحْر نحرا) (يقتنى من كساك أنفس ملبوس ... ويقنيك مِنْهُ أطول عمرا) (أَنْت تملي وَنحن ننظم مَا تنثره ... الغر من مساعيك نثرا) (صرف الله عَنْك عين زمَان ... بك صَارَت بعد الْإِصَابَة عبرى) (وتوالت لَك الْفتُوح إِلَى أَن ... تملأ الْخَافِقين نهيا وأمرا) (كلما أنهجت ملابس نعمى ... وتميلتيهن جددت أُخْرَى) وَقَالَ القيسراني من قصيدة (أشرق البهو يَا جبين الْهلَال ... فحلاه لوجهك المتلالي) (عَن لَيَال حجبن عَنَّا سناها ... إِنَّمَا غيبَة الْهلَال ليَالِي) (لم يكن مَا ألم بالجسم شكوى ... فتهنا لوافد الإقبال) (لَا وَلَا كَانَ زَائِرًا من سقام ... إِنَّمَا كَانَ طَائِفًا من خيال) (وعكة أقلعت وَأَنت صَحِيح ... وَيصِح النسيم بالإعتلال) (أَو مَا هَذِه السَّمَاء سرار الْبَدْر ... فِيهَا على طَرِيق الْكَمَال) (نعْمَة الله لَا يخص بهَا الْخَالِق ... إِلَّا من كَانَ مِنْهُ ببال) (ولباس من المثوبة والغفران ... ألبست ضافي الأذيال) (فهنيئا لَك الْبَقَاء وَإِن كَانَ ... هناء يخص فِيهِ الْمَعَالِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 (والتقى والندى ومقربة الْخَيل ... وبيض الظبى وَسمر العوالي) (والخلال الَّتِي إِذا مَا تخلت ... صدرت مِنْك عَن كريم الْخلال) (إِن وقتك النُّفُوس مَا تتوقى ... فحقيق فدا الموالى الموَالِي) (أَو تحصنت فِي شعار من التَّقْوَى ... فَمَا زلت مِنْهُ فِي سربال) (فشفى الله من أجل دوائيه ... صَرِيح الدُّعَاء والإبتهال) (ملك ابدل المخافة بالأمن ... وأضحى يعد فِي الأبدال) (وَهُوَ تَاج الْمُلُوك فالملك العاطل ... حَال بِهِ على كل حَال) (وَإِذا النيرَان غابا فنور الدّين ... شمس فجرية الآصال) (قد أرت وَجهك الْعلَا مَا يريها ... وَهِي مرْآة صَالح الْأَعْمَال) (وَقضى الله أَن نجمك فِي الأنجم ... سَام وَأَن جدك عَال) (كل يَوْم هَذَا الْمحيا محيى ... بالتهاني على يَد الإقبال) فصل فِي ذكر حصن شيزر وَولَايَة بني منقذ قَالَ ابْن الْأَثِير وَهُوَ حصن قريب من حماة بَينهمَا نَحْو نصف نَهَار وَهُوَ من أمنع القلاع وأحصنها على حجر عَال لَهُ طَرِيق منقور فِي طرف الْجَبَل وَقد قطع الطَّرِيق فِي وَسطه وَجعل عَلَيْهِ جسر من خشب فَإِذا قطع ذَلِك الْخشب تعذر الصعُود إِلَيْهِ وَكَانَ لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أَيَّام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 صَالح بن مرداس إِلَى أَن انْتهى الْأَمر إِلَى الْأَمِير أَبى المرهف نصر بن عَليّ بن الْمُقَلّد بن نصر بن منقذ بن نصر بن هَاشم بعد أَبِيه أَبى الْحسن عَليّ فبقى بِهِ مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن مَاتَ بشيزر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَكَانَ شجاعا كَرِيمًا صواما قواما فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت اسْتخْلف أَخَاهُ الْأَمِير أَبَا سَلامَة مرشد بن عَليّ وَهُوَ وَالِد أُسَامَة فَقَالَ وَالله لَا وليتها ولأخرجن من الدُّنْيَا كَمَا دَخَلتهَا وَكَانَ عَالما بِالْقُرْآنِ وَالْأَدب كثير الصّلاح فولاها اخاه أَبَا العساكر سُلْطَان بن عَليّ وَكَانَ أَصْغَر مِنْهُ فاصطحبا أجمل صُحْبَة مُدَّة من الزَّمَان فولد أَبُو سَلامَة مرشد عدَّة أَوْلَاد ذُكُور فكبروا وسادوا مِنْهُم عز الدولة أَبُو الْحسن عَليّ ومؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد وَغَيرهمَا وَلم يُولد لِأَخِيهِ سُلْطَان ولد ذكر إِلَى أَن كبر فَجَاءَهُ أَوْلَاد فحسد أَخَاهُ على ذَلِك فَكَانَ كلما رأى صغر أَوْلَاده وَكبر أَوْلَاد أَخِيه وسيادتهم سَاءَهُ ذَلِك وخافهم على أَوْلَاده وسعى المفسدون بَينهمَا فغيروا كلا مِنْهُمَا على أَخِيه فَكتب الْأَمِير سُلْطَان إِلَى أَخِيه شعرًا يعاتبه على أَشْيَاء بلغته عَنهُ فَأَجَابَهُ بِأَبْيَات جَيِّدَة فِي مَعْنَاهَا وَكلهمْ كَانَ أديبا شَاعِرًا فَمِنْهَا (ظلوم أَبَت فِي الظُّلم إِلَّا تماديا ... وَفِي الصد والهجران إِلَّا تناهيا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 (شكت هجرنا فِي ذَاك والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظَالِم جَاءَ شاكيا) (وطاوعت الواشين فِي وطالما ... عصيت عذولا فِي هَواهَا وواشيا) (وَمَال بهَا تيه الْجمال إِلَى القلى ... وهيهات أَن أَمْسَى لَهَا الدَّهْر قاليا) (وَلَا نَاسِيا مَا أودعت من عهودها ... وَإِن هِيَ أبدت جفوة وتناسيا) (وَلما أَتَانِي من قريضك جَوْهَر ... جمعت الْمَعَالِي فِيهِ لي والمعانيا) (وَكنت هجرت الشّعْر حينا لِأَنَّهُ ... تولى برغمى حِين ولى شبابيا) (وَأَيْنَ من السِّتين لفظ مفوف ... إِذا رمت أدْني القَوْل مِنْهُ عصانيا) (وَقلت أخي يرْعَى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا) (ويجزيهم مَا لم أكلفه فعله ... لنَفْسي فقد أعددته من تراثيا) (فمالك لما أَن حَنى الدَّهْر صعدتي ... وثلم مني صَارِمًا كَانَ مَاضِيا) (تنكرت حَتَّى صَار بِرٌّك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائيا) (فَأَصْبَحت صفر الْكَفّ مِمَّا رجوته ... كَذَا الْيَأْس قد عفى سَبِيل رجائيا) (على أنني مَا حلت عَمَّا عهدته ... وَلَا غيرت هذى السنون وداديا) (فَلَا غرو عِنْد الحادثات فإنني ... أَرَاك يَمِيني والأنام شماليا) (تهن بهَا عذراء لَو قرنت بهَا ... نُجُوم السَّمَاء لم تعد دراريا) (تحلت بدر من صفاتك زانها ... كَمَا زَان منظوم الآلي الغوانيا) (وعش بانيا للْجُود مَا كَانَ واهنا ... مُشيدا من الْإِحْسَان مَا كَانَ واهيا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قَالَ وَكَانَ الْأَمر فِيهِ فِي حَيَاة الْأَمِير مرشد بعض السّتْر فَلَمَّا مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة قلب أَخُوهُ لأولاده ظهر الْمِجَن وبادأهم بِمَا يسؤوهم وتمادت الْأَيَّام بَينهم إِلَى أَن قوى عَلَيْهِم فَأخْرجهُمْ من شيزر وَكَانَ أعظم الْأَسْبَاب فِي إخراجهم مَا حدثت بِهِ عَن مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد قَالَ كنت من الشجَاعَة والإقدام على مَا قد علمه النَّاس فَبينا أَنا بشيزر وَإِذا قد أَتَانِي إِنْسَان فَأَخْبرنِي أَن بدجلة يقاربها أسدا ضاريا فركبت فرسي وَأخذت سَيفي وسرت إِلَيْهِ لأقتله وَلم أعلم أحدا من النَّاس لِئَلَّا أمنع من ذَلِك فَلَمَّا قربت من الْأسد نزلت عَن فرسي وربطته ومشيت نَحوه فَلَمَّا رَآنِي قصدني ووثب فضربته بِالسَّيْفِ على رَأسه فانفلق ثمَّ أجهزت عَلَيْهِ وَأخذت رَأسه فِي مخلاة فرسي وعدت إِلَى شيزر وَدخلت على والدتي وألقيت الرَّأْس بَين يَديهَا وحدثتها الْحَال فَقَالَت يَا بني تجهز لِلْخُرُوجِ من شيزر فوَاللَّه لَا يمكنك عمك من الْمقَام وَلَا أحدا من إخْوَتك وَأَنْتُم على هَذِه الْحَال من الْإِقْدَام والجرأة فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَمر عمي بإخراجنا من عِنْده والزمنا بِهِ إلزاما لَا مهلة فِيهِ فتفرقنا فِي الْبِلَاد فقصدوا الْملك الْعَادِل نور الدّين وَشَكوا إِلَيْهِ مَا لقوه من عمهم فَلم يُمكنهُ قَصده وَلَا الْأَخْذ بثأرهم وإعادتهم إِلَى أوطانهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ولخوفه من أَن يسلم شيزر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 إِلَى الفرنج وَبَقِي فِي نَفسه وَتُوفِّي الْأَمِير سُلْطَان وَولى بعده أَوْلَاده فَبلغ نور الدّين عَنْهُم مراسلة الفرنج فَاشْتَدَّ مَا فِي نَفسه وَهُوَ ينْتَظر الفرصة فَلَمَّا خربَتْ القلعة بالزلزلة وَلم يسلم مِنْهَا أحد كَانَ بالحصن فبادر إِلَيْهَا وملكها وأضافها إِلَى بِلَاده وعمرها وأسوارها وأعادها كَأَن لم تخرب وَكَذَلِكَ أَيْضا فعل بِمَدِينَة حماة وكل مَا خرب بِالشَّام بِهَذِهِ الزلزلة فَعَادَت الْبِلَاد كأحسن مَا كَانَت قلت وَسَيَأْتِي ذكر أُسَامَة بن مرشد فِي أَخْبَار سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهِي السّنة الَّتِي قدم فِيهَا دمشق من بِلَاد الشرق وَذَلِكَ أَنه لما خرج من شيزر استوطن دمشق ثمَّ فَارقهَا إِلَى الديار المصرية وَكتب إِلَى معِين الدّين أنر أتابك صَاحب دمشق يعاتبه فِي أَسبَاب الْمُفَارقَة قصيدة أَولهَا (وَلُوا فَلَمَّا رجونا عدلهم ظلمُوا ... فليتهم حكمُوا فِينَا بِمَا علمُوا) (مَا مر يَوْمًا بفكري مَا يريبهم ... وَلَا سعت بِي إِلَى مَا ساءهم قدم) (وَلَا أضعتُ لَهُم عهدا وَلَا اطَّلَعت ... على ودائعهم فِي صَدْرِي التهم) (فَلَيْت شعري بِمَ استوجبتُ هجرهمُ ... ملوا فصدهم عَن وَصلي السأم) (حفظت مَا ضيعوا أغضيت حِين جنوا ... وفَيْتُ إِذْ غدروا واصلت إِذْ صرموا) (حُرِمتُ مَا كنت أَرْجُو من ودادهم ... مَا الرزق إِلَّا الَّذِي تجرى بِهِ الْقسم) (وَبعد لَو قيل لي مَاذَا تحب وَمَا ... تخْتَار من زِينَة الدُّنيا لَقلت هم) (لَهُم مجَال الْكرَى من مقلتي وَمن ... قلبِي مَحل المنى جاروا أَو اجترموا) (تبدّلُوا بِي وَلَا أبغي بهم بَدَلا ... حسبي هم أنصفوا فِي الحكم أَو ظلمُوا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 (بلغ أَمِيري معِين الدّين مَالِكه ... من نازح الدَّار لَكِن وده أُمَم) (وَقل لَهُ أَنْت خير التّرْك فضلك الْحيَاء ... وَالدّين والإقدام وَالْكَرم) (هلاَّ أنفت حَيَاء أَو مُحَافظَة ... من فعل مَا أنكرته الْعَرَب والعجم) (أسلمتنا وسيوف الْهِنْد مغمدة ... وَلم يرو سِنَان السمهري دم) (وَكنت أَحسب من والاك فِي حرم ... لَا يَعْتَرِيه بِهِ شيب وَلَا هرم) (وَمَا طمان بِأولى من أُسَامَة بِالْوَفَاءِ ... لَكِن جرى بالكائن الْقَلَم) (هبنا جَنِينا ذنوبا لَا يكفرهَا ... عذر فَمَاذَا جنى الْأَطْفَال وَالْحرم) (ألقيتهم فِي رضَا الإفرنج مُتبعا ... رضَا عدى يسْخط الرَّحْمَن فعلهم) (جرّبهمُ مثل تجريبي لتخبرهم ... فللرجال إِذا مَا جربوا قيم) وَهِي طَوِيلَة وطمان الْمَذْكُور خَادِم تركي كَانَ لأتابك ملك الْأُمَرَاء زنكي بن آق سنقر هرب من خدمته إِلَى دمشق فَطَلَبه ولج فِيهِ فَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ معِين الدّين للجنسية وحماه فَلَمَّا لج فِيهِ سيره إِلَى الْعَرَب وَقَامَ لَهُ بِمَا يَحْتَاجهُ إِلَى أَن رده لخدمته بِدِمَشْق وَبَقِي أُسَامَة بِمصْر إِلَى أَن خرج مِنْهَا مَعَ عَبَّاس كَمَا سبق ذكره وَأسر الفرنج أَخَاهُ نجم الدولة مُحَمَّد بن مرشد وَطلب من ابْن عَمه نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن سُلْطَان صَاحب شيزر الْإِعَانَة فِي فكاكه فَلم يفعل قَالَ وادخر الله سُبْحَانَهُ أجر خلاصه وَحسن ذكره للْملك الْعَادِل نور الدّين رَحمَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الله تَعَالَى فوهبه فَارِسًا من مقدمي الدّاوية يُقَال لَهُ المشطوب قد بذل الإفرنج فِيهِ عشرَة آلَاف دِينَار فاستخلص بِهِ أَخَاهُ من الْأسر وَبلغ أُسَامَة أَن القَاضِي كَمَال الدّين ابْن الشهرزوري أنْشد نور الدّين (ملكُ بنى منقذ تولى ... وَكَانَ فَوق السماك سمكه) (فاعتبروا وانظروا وَقُولُوا ... سُبْحَانَ من لَا يَزُول ملكه) وَالْمَعْرُوف ملك بني برمك فَغَيره المنشد لما تمثل بِهِ فِي غَرَضه فأجازهما أُسَامَة بِهَذِهِ الأبيات (وكل ملك إِلَى زَوَال ... لَا يعتري ذَا الْيَقِين شكه) (إِن لم يزل بانتقال حَال ... أَزَال ذَا الْملك عَنهُ هلكه) (وَالله رب الْعباد بَاقٍ ... وهالك نده وشركه) (فَقل لمن يظلم البرايا ... غَرَّك إمهاله وَتَركه) (تنسى ذنوبا عَلَيْك تحصى ... يحصرها نَقده وحكه) (كم ناسك نُسكه رِيَاء ... أوبقَه فِي الْمعَاد نُسكه) (فاحذر فَمَا يختفي عَلَيْهِ ... من عَبده صدقه وإفكه) وَمَا أحسن مَا قَالَ أُسَامَة فِي كبره (مَعَ الثَّمَانِينَ عاث الضعْف فِي جلدي ... وساءني ضعف رجْلي واضطراب يدى) (إِذا كتبت فخطى جد مُضْطَرب ... كخط مرتعش الْكَفَّيْنِ مرتعد) (فاعجب لضعف يَدي عَن حملهَا قَلما ... من بعد حطم القنا فِي لبة الْأسد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 (وَإِن مشيت وَفِي كفي الْعَصَا ثقلت ... رجْلي كَأَنِّي أخوض الوحل فِي الْجلد) (فَقل لمن يتَمَنَّى طول مدَّته ... هذي عواقب طول الْعُمر والمدد) فصل فِي بواقي حوادث سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين قَالَ الرئيس أَبُو يعلى تناصرت الْأَخْبَار بِظُهُور أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفي على عَسْكَر السُّلْطَان الْمُخَالف لأَمره وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من عَسْكَر الْموصل وَغَيره بِحَيْثُ قتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير ورحلوا عَن بَغْدَاد مفرقين مفلولين خاسرين بعد المضايقة والتناهي فِي المحاصرة والمصابرة قَالَ ووردت الْأَخْبَار فِي أَوَائِل رَجَب بوفاة السُّلْطَان غياث الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْحَارِث سنجر بن أبي الْفَتْح بن ألب أرسلان سُلْطَان خُرَاسَان عقيب خلاصه من الشدَّة الَّتِي وَقع فِيهَا والأسر الَّذِي حصل فِيهِ وَكَانَ يحب الْعدْل والإنصاف للرعايا حسن السِّيرَة جميل الْفِعْل وَقد علت سنه وَطَالَ عمره وَكَانَ قد ورد كِتَابه فِي أَوَاخِر صفر من هَذِه السّنة إِلَى نور الدّين بالتشوق إِلَيْهِ والإحماد لخلاله وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ من جميل أَفعاله وإعلامه مَا من الله عَلَيْهِ بِهِ من خلاصه من الشدَّة الَّتِي وَقع فِيهَا والأسر الَّذِي بلَى بِهِ فِي أَيدي الْأَعْدَاء الْكَفَرَة من مُلُوك التركمان بحيلة دبرهَا وسياسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أحكمها وقررها بِحَيْثُ عَاد إِلَى منصبه من السلطنة الْمَشْهُورَة واجتماع العساكر المتفرقة عَنهُ إِلَيْهِ قَالَ وَفِي شهر رَمَضَان ورد الْخَبَر من نَاحيَة حلب بوفاة الشَّيْخ مخلص الدّين أَبى البركات عبد القاهر بن على بن أَبى جَرَادَة الْحلَبِي وَهُوَ الْأمين على خَزَائِن مَال نور الدّين وَكَانَ كَاتبا بليغا حسن البلاغة نظما ونثرا مستحسن الْفُنُون من التذهيب البديع وَحسن الْخط الْمُحَرر على الْأُصُول الْقَدِيمَة المستظرفة مَعَ صفاء الذِّهْن وتوقد الفطنة والذكاء وَقَالَ وَفِي رَابِع عشر شَوَّال ورد الْخَبَر من نَاحيَة بَصرِي بِأَن واليها فَخر الدّين سرخاك قتل غيلَة بموافقة من أَعْيَان خاصته وَكَانَ فِيهِ إفراط فِي التَّحَرُّز وَاسْتِعْمَال التيقظ وَلَكِن الْقَضَاء لَا يغالب وَلَا يدافع قَالَ وَفِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة ورد الْخَبَر من حمص بوفاة واليها الْأَمِير الملقب بصلاح الدّين وَكَانَ فِي أَيَّام شبيبته قد حظي فِي خدمَة عماد الدّين زنكي وَتقدم عِنْده بالمناصحة وسداد التَّدْبِير وَحسن السفارة وصواب الرَّأْي وَلما علت سنة ضعف عَن ركُوب الْخَيل وألجأته الضَّرُورَة إِلَى الْحمل فِي المحفة لتقرير الْأَحْوَال وَالنَّظَر فِي الْأَعْمَال وَلم ينقص من حسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وفهمه مَا يُنكر عَلَيْهِ إِلَى حِين وَفَاته وَخَلفه من بعده أَوْلَاده فِي منصبه وولايته قَالَ وَورد إِلَى دمشق إِمَام من أَئِمَّة فُقَهَاء بَلخ فِي عنفوان شبابه وغضارة عوده مَا رَأَيْت أفْصح من لِسَانه ببلاغتيه الْعَرَبيَّة والفارسية وَلَا أسْرع من جَوَابه ببراعته وَلَا أطيش مِنْهُ قَلما فِي كِتَابَته أَبُو الْحَيَاة مُحَمَّد بن أَبى الْقَاسِم بن عمر السّلمِيّ وَوعظ فِي جَامع دمشق عدَّة أَيَّام وَالنَّاس يستحسنون وعظه ويستظرفون فنه وسلاطة لِسَانه وَسُرْعَة جَوَابه وحدة خاطره وصفاء حسه قَالَ ابْن الْأَثِير وفيهَا فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير عز الدّين أَبُو بكر الدبيسى صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر وَكَانَ من أكَابِر الْأُمَرَاء ياخذ نَفسه ماخذ الْمُلُوك وَكَانَ عَاقِلا حازما ذَا رَأْي وَكيد ومكر وَملك الجزيرة قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل أَخُو نور الدّين ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي أَوَائِل الْمحرم تناصرت الْأَخْبَار من نَاحيَة الفرنج المقيمين بِالشَّام خذلهم الله تَعَالَى بمضايقتهم لحصن حارم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق إِلَى ان ضعف وَملك بِالسَّيْفِ وتزايد طمعهم فِي شن الغارات فِي الْأَعْمَال الشامية وَإِطْلَاق الْأَيْدِي فِي العيث وَالْفساد فِي معاقلها وضياعها بِحكم تفرق العساكر الإسلامية وَالْخلف الْوَاقِع بَينهم باشتغال نور الدّين بعقابيل الْمَرَض الْعَارِض لَهُ وَللَّه الْمَشِيئَة الَّتِي لَا تدافع والأقضية الَّتِي لَا تمانع وَقَالَ وَفِي صفر ورد الْخَبَر والمبشر بنزول نور الدّين من حلب للتوجه إِلَى دمشق وَاتفقَ للكفرة الملاعين تَوَاتر الطمع فِي شن الغارات على أَعمال حوران والإقليم وَإِطْلَاق أَيدي الْفساد والعيث والإحراق والإخراب فِي الضّيَاع والنهب والسبي والأسر وَقصد داريا وَالنُّزُول عَلَيْهَا فِي انسلاخ صفر وإحراق منازلها وجامعها والتناهي فِي إخرابها وَظهر إِلَيْهِم العسكرية والأحداث وهموا بقصدهم والإسراع إِلَى لقائهم وكفهم فمنعوا من ذَلِك بعد أَن قربوا مِنْهُم وَحين شَاهد الْكفَّار خذلهم الله تَعَالَى كَثْرَة الْعدَد الظَّاهِر إِلَيْهِم رحلوا فِي آخر النَّهَار الْمَذْكُور إِلَى نَاحيَة الإقليم وَوصل نور الدّين إِلَى دمشق وَحصل فِي قلعته سادس ربيع الأول سالما فِي نَفسه وَجُمْلَته وَلَقي بِأَحْسَن زِيّ وترتيب وتجمل واستبشر الْعَالم بمقدمه المسعود وابتهجوا وبالغوا فِي شكر الله تَعَالَى على سَلَامَته وعافيته وَالدُّعَاء لَهُ بدوام أَيَّامه وَشرع فِي تَدْبِير أَمر الأجناد وَالتَّأَهُّب للْجِهَاد قَالَ وَفِي أَوَائِل ربيع الأول ورد الْخَبَر من نَاحيَة مصر بِخُرُوج فريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وافر من عسكرها إِلَى غَزَّة وعسقلان وأغاروا على أَعمالهَا وَخرج إِلَيْهِم من كَانَ بهما من الفرنج الملاعين فأظهر الله تَعَالَى الْمُسلمين عَلَيْهِم قتلا وأسرا بِحَيْثُ لم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير وغنموا مَا ظفروا بِهِ وعادوا سَالِمين ظافرين وَقيل إِن مقدم الْغُزَاة فِي الْبَحْر ظفر بعدة من مراكب الْمُشْركين وَهِي مشحونة بالفرنج فَقتل واسر مِنْهُم الْعدَد الْكثير وَحَازَ من أَمْوَالهم وعددهم وأثاثهم مَا لَا يكَاد يُحْصى وَعَاد ظافرا غانما قلت وَأرْسل إِلَى مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ من مصر وزيرها الْملك الصَّالح أَبُو الغارات طلائع بن رزيك قصيدة يشْرَح فِيهَا حَال هَذِه الْغُزَاة ويحرض فِيهَا نور الدّين على قتال الْمُشْركين ويذكره بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من العافيه والسلامة من تِلْكَ المرضة الْمُقدم ذكرهَا وَكَانَ كثيرا مَا يكاتبه طَالبا مِنْهُ إِعْلَام نور الدّين بالغزاة لحثه عَلَيْهَا وَأول هَذِه القصيدة (إِلَّا هَكَذَا فِي الله تمضى العزائم ... وتنضى لَدَى الْحَرْب السيوف الصوارم) (وتستنزل الْأَعْدَاء من طود عزهم ... وَلَيْسَ سوى سمر الرماح سلالم) (وتغزى جيوش الْكفْر فِي عقر دارها ... ويوطا حماها والأنوف رواغم) (ويوفي الْكِرَام الناذرون بنذرهم ... وَإِن بذلت فِيهَا النُّفُوس الكرائم) (نذرنا مسير الْجَيْش فِي صفرٍ فَمَا ... مضى نصفة حَتَّى انثنى وَهُوَ غَانِم) (بَعَثْنَاهُ من مصر إِلَى الشَّام قَاطعا ... مفاوز وخد العيس فِيهِنَّ دَائِم) (فَمَا هاله بعد الديار وَلَا ثنى ... عزيمته جهد الظما والسمائم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 (يهجر والعصفور فِي قَعْر وَكره ... ويسري إِلَى الْأَعْدَاء وَاللَّيْل نَائِم) (تباري خيولا مَا تزَال كانها ... إِذا مَا هِيَ انْقَضتْ نسور قشاعم) (يسير بهَا ضرغام فِي كل مأزق ... وَمَا يصحب الضرغام إِلَّا الضراغم) (ورفقته عين الزَّمَان وحاتم ... وَيحيى وَإِن لَاقَى الْمنية حَاتِم) (وواجههم جمع الفرنج بحملة ... تهون على الشجعان فِيهَا الهزائم) (فلقوهم زرق الاسنة وانطووا ... عَلَيْهِم فَلم يرجع من الْكفْر ناجم) (وَمَا زَالَت الْحَرْب الْعوَان اشدها ... إِذا مَا تلاقي الْعَسْكَر المتضاجم) (يشبههم من لَاحَ جمعهمُ لَهُ ... بلجة بَحر موجها متلاطم) (وعادوا إِلَى سل السيوف فَقطعت ... رُؤُوس وحزت للفرنج غَلاَصِم) (فَلم ينج مِنْهُم يَوْم ذَاك مخبر ... وَلَا قيل هَذَا وَحده الْيَوْم سَالم) (نقتلهم بِالرَّأْيِ طورا وَتارَة ... تدوسهم منا المذاكى الصلادم) (فَقولُوا لنُور الدّين لَا فل حَده ... وَلَا حكمت فِيهِ اللَّيَالِي الغواشم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 (تجهز إِلَى أَرض الْعَدو وَلَا تهن ... وَتظهر فتورا إِن مَضَت مِنْك حارم) (فَمَا مثلهَا تبدي احتفالا بِهِ وَلَا ... تعض عَلَيْهَا للملوك الاباهم) (فعندك من الطاف رَبك مَا بِهِ ... علمنَا يَقِينا انه بك رَاحِم) (اعادك حَيا بعد إِن زعم الورى ... بانك قد لاقيت مَا الله حَاتِم) (بِوَقْت أصَاب الأَرْض مَا قد أَصَابَهَا ... وحلت بهَا تِلْكَ الدَّوَاهِي العظائم) (وخيم جَيش الْكفْر فِي أَرض شيزر ... فسيقت سَبَايَا واستحلت محارم) (وَقد كَانَ تَارِيخ الشآم وهلكه ... وَمن يحتويه أَنه لَك عادم) (فَقُمْ واشكر الله الْكَرِيم بنهضه ... إِلَيْهِم فَشكر الله لِلْخلقِ لَازم) (فَنحْن على مَا قد عهِدت نروعهم ... ونحلف جهدا أننا لَا نسالم) (وغاراتنا لَيست تفتر عَنْهُم ... وَلَيْسَ يُنجى الْقَوْم منا الهزائم) (فاسطولنا اضعاف مَا كَانَ سائرا ... إِلَيْهِم فَلَا حصن لَهُم مِنْهُ عَاصِم) (وَنَرْجُو بِأَن نجتاح باقيهم بِهِ ... وتحوى الْأُسَارَى مِنْهُم والغنائم) وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا (يَا سيدا يسمو بهمته ... إِلَى الرتب العليه) (فينال مِنْهَا حِين يحرم ... غَيره أوفى مزيه) (أَنْت الصّديق وَإِن بَعدت ... وَصَاحب الشيم الرضيه) (ننبيك إِن جيوشنا ... فعلت فعال الْجَاهِلِيَّة) (سَارَتْ إِلَى الْأَعْدَاء من ... أبطالها مئتا سريه) (فَتغير هذي بكرَة ... وتعاود الْأُخْرَى عشيه) (فالويل مِنْهَا للفرنج ... فقد لقوا جهد البليه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 (جَاءَت رؤوسهم تلوح ... على رُؤُوس السمهريه) (وقلائع قد قسمت ... بَين الْجنُود على السويه) (وخلائق كثرت من الأسرى ... تقاد إِلَى المنيه) (فانهض فقد أنبيت مجد ... الدّين بِالْحَال الجليه) (والمم بِنور الدّين واعلمه ... بهاتيك القضيه) (فَهُوَ الَّذِي مَا زَالَ يخلص ... مِنْهُ أفعالا ونيه) (ويبيد جمع الْكفْر بالبيض ... الرّقاق المشرفيه) (فعساه ينْهض نهضه ... يفنى بهَا تِلْكَ البقيه) (إِمَّا لنُصرة دينه ... أَو مُلكه أَو للحمية) وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا (أَيهَا المنقذي لأَنْت على الْبعد ... صديق لنا وَنعم الصّديق) (لَيْسَ فِيمَا نأتيه من بر أفعالك ... للطَّالِب الْحُقُوق عقوق) (فَلهَذَا نرى مُوَاصلَة الْكتب ... تباعا إِلَيْك مِمَّا يَلِيق) (ونناجيك بالمهمات إِذْ أَنْت ... بإلقائها إِلَيْك خليق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 (وأهم المهم أَمر جِهَاد الْكفْر ... فاسمع فعندنا التَّحْقِيق) (وأصلتهم منا السَّرَايَا فأشجاهم ... بكور منا لَهُم وطروق) (وأباحت دِيَارهمْ فأباد الْقَوْم ... قتل ملازم وحريق) (وَانْتَظرْنَا بزحفنا برْء نور الدّين ... علما منا بِأَن سيفيق) (وَهُوَ الْآن فِي أَمَان من الله ... وَمَا يَعْتَرِيه أَمر يعوق) (مَا لهَذَا المهم مثلك مجد الدّين ... فانهض بِهِ فانت حقيق) (قل لَهُ لَا عداهُ رَأْي وَلَا زَالَ ... لَدَيْهِ لكل خير طَرِيق) (أَنْت فِي حسم دَاء طاغية الْكفَّار ... ذَاك المرجو والمرموق) (فاغتنم بِالْجِهَادِ أجرك كي يلقى ... رَفِيقًا لَهُ وَنعم الرفيق) فَأَجَابَهُ أُسَامَة بقصيدة مِنْهَا (يَا أَمِير الجيوش مَا زَالَ لِلْإِسْلَامِ ... وَالدّين مِنْك ركن وثيق) (أسمعت دَعْوَة الْجِهَاد فلباها ... مليك بالمكرمات خليق) (ملك عَادل أنار بِهِ الدّين ... فَعم الْإِسْلَام مِنْهُ الشروق) (مَا لَهُ عَن جهاده الْكفْر وَالْعدْل ... وَفعل الْخيرَات شغل يعوق) (هُوَ مثل الحسام صدر صقيل ... لين مَسّه وحد ذليق) (ذُو أَنَاة يخالها الغر إهمالا ... وفيهَا حتف الأعادى المحيق) (فاسلما لِلْإِسْلَامِ كهفين مَا طرز ... ثوب الظلام برق خفوق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وَكتب الصَّالح إِلَيْهِ أَيْضا (قل لِابْنِ منقذ الَّذِي ... قد حَاز فِي الْفضل الكمالا) (فَلذَلِك قد أضحى الْأَنَام ... على مكارمه عيالا) (كم قد بعثنَا نَحْوك الْأَشْعَار ... مسرعة عجالا) (وصددت عَنْهَا حِين رامت ... من محاسنك الوصالا) (هلا بذلت لنا مقَالا ... حِين لم تبذل فعالا) (مَعَ أننا نوليك صبرا ... فِي الْمَوَدَّة واحتمالا) (ونبثك الْأَخْبَار إِن ... أضحت قصاراً أَو طوَالًا) (سَارَتْ سرايانا لقصد ... الشَّام تعتسف الرمالا) (تزجي إِلَى الْأَعْدَاء جرد ... الْخَيل أتباعا توالى) (تمْضِي خفافا للمغار ... بهَا وتأتينا ثقالا) (حَتَّى لقد رام الأعادي ... من دِيَارهمْ ارتحالا) (وعَلى الوعيرة معشر ... لم يعهدوا فِيهَا القتالا) (لما نأت عَمَّن يحف ... بهَا يَمِينا أَو شمالا) (نهضت إِلَيْهَا خَيْلنَا ... من مصر تحْتَمل الرجالا) (وَالْبيض لامعة وبيض ... الْهِنْد والاسل النهالا) (فغدت كَانَ لم يعهدوا ... فِي أرْضهَا حَيا حَلَالا) (هَذَا وَفِي تل العجول ... ملأن بالقتلى التلالا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 إِذْ مر مرى لَيْسَ يلوي ... نَحْو رفقته اشتغالا) (وَاسْتَاقَ عسكرنا لَهُ ... أَهلا يُحِبهُمْ ومالا) (وسرية ابْن فريج الطَّائِي ... طَال بهَا وصالا) (سَارَتْ إِلَى أَرض الْخَلِيل ... فَلم تدع فِيهَا خلالا) (فَلَو أَن نور الدّين يَجْعَل ... فعلنَا فيهم مِثَالا) (ويسير الأجناد جَهرا ... كي ينازلهم نزالا) (ووفى لنا وَلأَهل دولته ... بِمَا قد كَانَ قَالَا) (لرأيت للافرنج طرا ... فِي معاقلها اعتقالا) (وتجهزوا للسير نَحْو ... الغرب أَو قصدُوا الشمالا) (وَإِذا أَبى إِلَّا اطراحا ... للنصيحة واعتزالا) (عدنا بِتَسْلِيم الْأُمُور ... لحكم خالقنا تَعَالَى) فاجابه ابْن منقذ بقصيدة مِنْهَا (يَا اشرف الوزراء أَخْلَاقًا ... وَأكْرمهمْ فعالا) (نبهت عبدا طالما ... نبهته قدرا وَحَالا) (وعتبته فأنلته ... فخرا ومجدا لن ينالا) (لَكِن ذَاك العتب يشعل ... فِي جوانحه اشتعالا) (أسفا لجد مَال عَنهُ ... إِلَى مساءته ومالا) (أما السَّرَايَا حِين ترجع ... بعد خفتها ثقالا) (فكذاك عَاد وُفُود بابك ... مثقلين ثَنَا ومالا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 (ومسيرها فِي كل أَرض ... تبتغي فِيهَا المجالا) (فكذاك فضلك مثل عدلك ... فِي الدنا سارا وجالا) (فَاسْلَمْ لنا حَتَّى نرى ... لَك فِي بني الدُّنْيَا مِثَالا) (وَاشْدُدْ يَديك بود نور ... الدّين والق بِهِ الرجالا) (فَهُوَ المحامي عَن بِلَاد ... الشَّام جمعا أَن تذالا) (ومبيد أَمْلَاك الفرنج ... وجمعهم حَالا فحالا) (ملك يتيه الدَّهْر وَالدُّنْيَا ... بدولته اختيالا) (جمع الْخلال الصَّالِحَات ... فَلم يدع مِنْهَا خلالا) (فَإِذا بدا للناظرين ... رَأَتْ عيونهم الكمالا) (فبقيتما للْمُسلمين ... حمى وللدنيا جمالا) وَكتب إِلَيْهِ الصَّالح فِي القصيدة الْمُقدم ذكرهَا فِي الزلازل (ولعمري إِن المناصح فِي الدّين ... على الله أجره مَحْسُوب) (وَجِهَاد الْعَدو بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل ... على كل مُسلم مَكْتُوب) (وَلَك الرُّتْبَة الْعلية فِي الْأَمريْنِ ... مذ كنت إِذْ تشب الحروب) (أَنْت فِيهَا الشجاع مَا لَك فِي الطعْن ... وَلَا فِي الضراب يَوْمًا ضريب) (وَإِذا مَا حرضت فالشاعر المفلق ... فِيمَا تَقوله والخطيب) (وَإِذا مَا أَشرت فالحزم لَا يُنكر ... أَن التَّدْبِير مِنْك مُصِيب) (لَك رَأْي يقظان إِن ضعف الرَّأْي ... على حاملى الصَّلِيب صَلِيب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 (فانهض الْآن مسرعا فبأمثالك ... مَا زَالَ يدْرك الْمَطْلُوب) (الق منا رِسَالَة عِنْد نور الدّين ... مَا فِي إلقائها مَا يريب) (قل لَهُ دَامَ ملكه وَعَلِيهِ ... من لِبَاس الإقبال برد قشيب) (أَيهَا الْعَادِل الَّذِي هُوَ للدّين ... شباب وللحروب شبيب) (وَالَّذِي لم يزل قَدِيما عَن الْإِسْلَام ... بالعزم مِنْهُ تجلى الكروب) (وَغدا مِنْهُ للفرنج إِذا لاقوه ... يَوْم من الزَّمَان عصيب) (إِن يرم نزف حقدهم فلأشطان ... قناة فِي كل قلب قليب) (غَيرنَا من يَقُول مَا لَيْسَ يمضيه ... بِفعل وَغَيْرك المكذوب) (قد كتبنَا إِلَيْك مَا وضح الْآن ... بِمَاذَا عَن الْكتاب تجيب) (قصدنا أَن يكون منا ومنكم ... أجل فِي مسيرنا مَضْرُوب) (فلدينا من العساكر مَا ضَاقَ ... بأدناهم الفضاء الرحيب) (وعلينا أَن يستهل على الشَّام ... مَكَان الغيوث مَال صبيب) (أَو ترَاهَا مثل الْعَرُوس ثراها ... كُله من دم العدى مخضوب) (لطنين السيوف فِي فلق الصُّبْح ... على هام أَهلهَا تطريب) (ولجمع الحشود من كل حصن ... سلب مهمل لَهُم ونهوب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 (وبحول الْإِلَه ذَاك وَمن غَالب ... رَبِّي فَإِنَّهُ مغلوب) وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا (أَيهَا السائر الْمجد إِلَى الشَّام ... تبارى ركابه والخيول) (خُذ على بَلْدَة بهَا دَار مجد الدّين ... لَا ريع ربعهَا المأهول) (وتعرف أخباره واقره منا ... سَلاما فِيهِ العتاب يجول) (قل لَهُ أَنْت نعم ذخر الصّديق الْيَوْم ... لكنك الصّديق الملول) (مَا ظننا بِأَن حالك فِي الْقرب ... وَلَا الْبعد بالملال يحول) (لَا كتاب وَلَا جَوَاب وَلَا قَول ... بِهِ لليقين منا حُصُول) (غير أَنا نواصل الْكتب إِذْ قصر ... مِنْك الْبر الْكَرِيم الْوُصُول) (ذاكرين الْفَتْح الَّذِي فتح الله ... علينا فالفضل مِنْهُ جميل) (جَاءَنَا بعد مَا ذَكرْنَاهُ فِي كتب ... أَتَاكُم بِهن منا رَسُول) (أَن بعض الأسطول نَالَ من الإفرنج ... مَا لَا يَنَالهُ التأميل) (سَار فِي قلَّة وَمَا زَالَ بِاللَّه ... وَصدق النيات ينمي الْقَلِيل) (وبقايا الأسطول لَيْسَ لَهُ بعد ... إِلَى جَانب الشَّام وُصُول) (فحوى من عكآ وأنطرسوس ... عدَّة لم يحط بهَا التَّحْصِيل) (جمع ديوية بهم كَانَت الإفرنج ... تسطو على الورى وتصول) (قيد فِي وَسطهمْ مقدمهم مهدى ... إِلَيْنَا وجيده مغلول) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 (بعد مثوى جمَاعَة هَلَكُوا بِالسَّيْفِ ... مِنْهَا الغريق والمفلول) (هَذِه نعْمَة الْإِلَه وتعديد ... أيادي الْإِلَه شَيْء يطول) (أبلغن قَوْلنَا إِلَى الْملك الْعَادِل ... فَهُوَ المرجو والمأمول) (قل لَهُ كم تماطل الدّين فِي الْكفَّار ... فأحذر أَن يغْضب الممطول) (سر إِلَى الْقُدس واحتسب ذَاك فِي الله ... فبالسير مِنْك يشفى الغليل) (وَإِذا مَا أَبْطَا مسيرك فَالله ... إِذا حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل) فَأَجَابَهُ أُسَامَة بقصيدة مِنْهَا (يَا أَمِير الجيوش يَا أعدل الْحُكَّام ... فِي فعله وَفِيمَا يَقُول) (أَنْت حليت بالمكارم أهل الْعَصْر ... حَتَّى تعرف الْمَجْهُول) (وَقسمت الفرنج بالغزو شطرين ... فَهَذَا عان وَهَذَا قَتِيل) (بَالغ العَبْد فِي النِّيَابَة والتحريض ... وَهُوَ المفوه المقبول) (فَرَأى من عَزِيمَة الْغَزْو مَا كَادَت ... لَهُ الأَرْض وَالْجِبَال تميل) (وَإِذا عاقت الْمَقَادِير فَالله ... إِذا حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل) وَكتب الصَّالح إِلَيْهِ جَوَابا قصيدته الطائية الَّتِي أَولهَا (هِيَ الْبَدْر لَكِن الثريا لَهَا قرط ... وَمن أنجم الجوزاء فِي نحرها سمط) ثمَّ قَالَ بعد وصف السيوف (ذخرنا سطاها للفرنج لِأَنَّهَا ... بهم دون أهل الأَرْض أَجْدَر أَن تسطو) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 (وَقد كاتبوا فِي الصُّلْح لَكِن جوابهم ... بحضرتنا مَا تنْبت الْخط لَا الْخط) (سطور خُيُول لَا تغب دِيَارهمْ ... بهَا بالمواضي والقنا الشكل والنقط) (إِذا أرْسلت فرعا من النَّقْع فاحما ... أثيثا فأسنان الرماح لَهَا مشط) (رددنا بِهِ ابْن الفنش عَنَّا وَإِنَّمَا ... يُثبتهُ فِي سَرْجه الشد والربط) (فَقولُوا لنُور الدّين لَيْسَ لجائف الْجِرَاحَات ... إِلَّا الكي فِي الطِّبّ والبط) (وحسم أصُول الدَّاء أولى بعاقل ... لَبِيب إِذا استولى على المدنف الْخَلْط) (فدع عَنْك ميلًا للفرنج وهدنة ... بهَا أبدا يخطي سواهُم وَلم يخطوا) (تَأمل فكم شَرط شرطت عَلَيْهِم ... قَدِيما وَكم غدر بِهِ نقض الشَّرْط) (وشمر فَإنَّا قد أعنا بِكُل مَا ... سَأَلت وجهزنا الجيوش وَلنْ يبطوا) قَالَ الْعِمَاد فِي = كتاب الخريدة = الصَّالح أَبُو الغارات طلائع بن رزيك سُلْطَان مصر فِي زمَان الفائز وَأول زمَان العاضد ملك مصر وَاسْتولى على أَمر صَاحب الْقصر ونفق فِي زَمَانه النّظم والنثر وَقرب الْفُضَلَاء واتخذهم جلساء ورحل إِلَيْهِ ذَوُو الرَّجَاء وأفاض على الداني والقاصي الْعَطاء وَله قصائد كَثِيرَة مستحسنة نفذها إِلَى الشَّام يذكر فِيهَا قِيَامه بنصر الْإِسْلَام وَمَا يصدق أحد أَن ذَلِك شعره لجودته وإحكام مباني حكمته وأقسام مَعَاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بلاغته فَيُقَال إِن الْمُهَذّب ابْن الزبير كَانَ ينظم لَهُ وَأَن الجليس بن الْجبَاب كَانَ يُعينهُ وَله ديوَان كَبِير وإحسان كثير وَلما جلس فِي دست الوزارة نظم هَذِه الأبيات بديهة (انْظُر إِلَى ذِي الدَّار كم ... قد حل ساحتها وَزِير) (وَلكم تبختر آمنا ... وسط الصُّفُوف بهَا أَمِير) (ذَهَبُوا فَلَا وَالله مَا ... يبْقى الصَّغِير وَلَا الْكَبِير) (ولمثل مَا صَارُوا إِلَيْهِ من الفناء غَدا نصير) فصل قَالَ أَبُو يعلى ورد الْخَبَر فِي خَامِس عشر ربيع الأول من نَاحيَة حلب بحدوث زَلْزَلَة روعت أَهلهَا وأزعجتهم وزعزعت مَوَاضِع من مساكنها ثمَّ سكنت بقدرة محركها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفِي لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول وافت زَلْزَلَة فِي دمشق روعت وأقلقت ثمَّ سكنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَفِي التَّاسِع من ربيع الآخر برز نور الدّين من دمشق إِلَى جسر الْخشب فِي الْعَسْكَر الْمَنْصُور بآلات الْحَرْب لجهاد الْكَفَرَة وَقد كَانَ أَسد الدّين قبل ذَلِك عِنْد وُصُوله فِيمَن جمعه من فرسَان التركمان أغار بهم على أَعمال صيدا وَمَا قرب مِنْهَا فغنموا أحسن غنيمَة وأوفرها وَخرج إِلَيْهِم من كَانَ بهَا من خيالة الفرنج ورجالتها وَقد كمنوا لَهُم فغنموهم وَقتل أَكْثَرهم واسر الْبَاقُونَ وَفِيهِمْ ولد الْمُقدم الْمُتَوَلِي حصن حارم وعادوا سَالِمين بالأسرى ورؤوس الْقَتْلَى وَالْغنيمَة وَلم يصب مِنْهُم غير فَارس وَاحِد قَالَ وَفِي أَوَائِل شهر تموز الْمُوَافق لأوّل جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وافى فِي الْبِقَاع مطر هطال بِحَيْثُ حدث مِنْهُ سيل أَحْمَر كَمَا جرت بِهِ الْعَادة فِي تنبوك الشتَاء وَوصل إِلَى بردى وَوصل إِلَى دمشق وَكثر التَّعَجُّب من اثار قدرَة الله تَعَالَى بحدوث مثل ذَلِك فِي هَذَا الْوَقْت قَالَ وَفِي لَيْلَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب وافت زَلْزَلَة عِنْد تأذين الْغَدَاة ثمَّ أُخْرَى فِي اللَّيْلَة بعْدهَا وَقت صَلَاة الْغَدَاة وَورد الْخَبَر من الْعَسْكَر بِأَن الفرنج تجمعُوا وزحفوا إِلَى الْعَسْكَر الْمَنْصُور وان الْمولى نور الدّين نَهَضَ فِي الْحَال فِي الْعَسْكَر والتقى الْجَمْعَانِ وَاتفقَ إِن عَسْكَر الْإِسْلَام حدث فِيهِ فشل لبَعض المقدمين فاندفعوا وَتَفَرَّقُوا بعد الِاجْتِمَاع وبقى نور الدّين ثَابتا مَكَانَهُ فِي عدَّة يسيرَة من شجعان غلمانه وأبطال خواصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فِي وُجُوه الفرنج وأطلقوا فيهم السِّهَام فَقتلُوا مِنْهُم وَمن خيولهم الْعدَد الْكثير ثمَّ ولوا منهزمين خوفًا من كمين يظْهر عَلَيْهِم من عَسْكَر الْإِسْلَام ونجى الله وَله الْحَمد نور الدّين من بأسهم بمعونة الله تَعَالَى وَشدَّة بأسه وثبات جأشه ومشهور شجاعته وَعَاد إِلَى مخيمه سالما فِي جماعته وَلَام من كَانَ السَّبَب فِي اندفاعه بَين يَدي الفرنج وتفرق جمع الفرنج إِلَى أَعْمَالهم وراسل ملكهم لنُور الدّين فِي طلب الصُّلْح والمهادنة وحرص على ذَلِك وترددت بَين الْفَرِيقَيْنِ مراسلات وَلم يسْتَقرّ بَينهمَا حَال وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق سالما قلت وَذكر أَبُو الْفَتْح بنجير بن أبي الْحسن بن بنجير الأشترى المعيد كَانَ بِالْمَدْرَسَةِ النظامية فِي سيرة مختصرة جمعهَا لنُور الدّين وَقد تقدم شَيْء مِنْهَا رحمهمَا الله قَالَ وبلغنا أَن نور الدّين خرج إِلَى الْجِهَاد فِي سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة فَقضى الله بانهزام عَسْكَر الْمُسلمين وَبَقِي الْملك الْعَادِل مَعَ شرذمة قَليلَة وَطَائِفَة يسيرَة وَاقِفًا على تل يُقَال لَهُ تل حُبَيْش وَقد قرب عَسْكَر الْكفَّار بِحَيْثُ اخْتَلَط رجالة الْمُسلمين مَعَ رجالة الْكفَّار فَوقف الْملك الْعَادِل بحذائهم موليا وَجهه إِلَى قبْلَة الدُّعَاء حَاضرا بِجَمِيعِ قلبه مناجيا ربه بسره يَقُول يَا رب الْعباد أَنا العَبْد الضَّعِيف ملكتني هَذِه الْولَايَة وأعطيتني هَذِه النِّيَابَة عمرت بلادك وَنَصَحْت عِبَادك وأمرتهم بِمَا أَمرتنِي بِهِ ونهيتهم عَمَّا نهيتني عَنهُ فَرفعت الْمُنْكَرَات من بَينهم وأظهرت شعار دينك فِي بِلَادهمْ وَقد انهزم الْمُسلمُونَ وَأَنا لَا أقدر على دفع هَؤُلَاءِ الْكفَّار أَعدَاء دينك وَنَبِيك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أملك إِلَّا نَفسِي هَذِه وَقد سلمتها إِلَيْهِم ذابا عَن دينك وناصرا لنبيك فَاسْتَجَاب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 تَعَالَى دعاءه وأوقع فِي قُلُوبهم الرعب وَأرْسل عَلَيْهِم الخذلان فوقفوا مواضعهم وَمَا جسروا على الْإِقْدَام عَلَيْهِ وظنوا أَن الْملك الْعَادِل عمل عَلَيْهِم الْحِيلَة وَأَن عَسْكَر الْمُسلمين فِي الكمين فَإِن أقدموا عَلَيْهِ تخرج عَسَاكِر الْمُسلمين من الكمين فَلَا ينفلت مِنْهُم أحد فوقفوا وَمَا أقدموا عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْلَا ذَلِك الإلهام من الله تَعَالَى لكانوا قد استأسروا الْمُسلمين وَمَا كَانَ ينفلت وَاحِد من الْمُسلمين فَوقف عَسْكَر الْكفَّار وبرز اثْنَان مِنْهُم يجولان بَين الصفين يطلبان البرَاز من الْمُسلمين فَأمر الْملك الْعَادِل بخطلخ الزَّاهِد مولى الشَّهِيد بِالْخرُوجِ إِلَيْهِمَا فَخرج وجال بَينهمَا سَاعَة وَحمل على وَاحِد مِنْهُمَا فَقتله ثمَّ جال سَاعَة وَعمل حِيلَة وخدعه وَرجع إِلَى قريب صف الْكفَّار وَحمل على الآخر فَقتله وَرجع إِلَى الصَّفّ قَالَ وَحدثنَا الشَّيْخ دَاوُد الْمَقْدِسِي خَادِم قبر شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام قَالَ كَانَ أَعْطَانِي ملك الْقُدس بغلة كنت رَاكِبًا عَلَيْهَا يَعْنِي فِي ذَلِك الْيَوْم وَاقِفًا مَعَ الْملك الْعَادِل فَلَمَّا وصل الْكفَّار وقربوا منا شمت بغلتي رَائِحَة خيل الْكفَّار فصهلت تطلب خيلهم فَسَمِعُوا صَهِيل بغلتي فَقَالُوا هَذَا دَاوُد رَاكب على البغلة مَعَ نور الدّين وَاقِف وَلَوْلَا الْحِيلَة والكمين من الْمُسلمين لما وقفُوا مَعَ هَذِه الشرذمة القليلة والطائفة الْيَسِيرَة فتحقق ذَلِك فِي قُلُوبهم فوقفوا وَمَا جسروا على الْإِقْدَام عَلَيْهِ قَالَ فترجل كل من كَانَ مَعَ الْملك الْعَادِل وتشفعوا إِلَيْهِ وباسوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَقَالُوا أَيهَا الْملك أَنْت بِجَمِيعِ الْمُسلمين فِي هَذَا الْموضع وَفِي هَذَا الإقليم فَإِن جرى وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَهن وَضعف من اسْتِيلَاء الْكفَّار على الْمُسلمين من الَّذِي يقدر على تَدَارُكه قَالَ وَحلف هَذَا الشَّيْخ دَاوُد أَنهم أخذُوا بعنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فرسه كرها ورحلوا من ذَلِك الْموضع وَمَا كَانَ فِي عزم الْملك الْعَادِل أَن يرحل من ذَلِك الْموضع فَلَمَّا عرف الْكفَّار ذَلِك وَأَنه مَا كَانَ عَلَيْهِم حِيلَة وَلَا كمين ندموا على ذَلِك ندامة عَظِيمَة قَالَ وَكَانَ قبل هَذِه الْوَقْعَة بِسنة كسر الْملك الْعَادِل الْكفَّار وَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة واسر مِنْهُم خلقا كثيرا على مَا حكى عَن صَلَاح الدّين صَاحب حمص أَنه قَالَ فد جَازَ التركمان علينا فَحصل فِي الجريدة ألف أَسِير مَعَ التركمان هَذَا مَا جَازَ على بلد حمص وَحده وَكَانَ قد انفلت ملك الْقُدس وَدخل إِلَى قليعة فَمَا جن عَلَيْهِ اللَّيْل خرج من القلعة وَمضى فصل قَالَ أَبُو يعلى وَفِي رَجَب تجمع قوم من السُّفَهَاء الْعَوام وعزموا على التحريض لنُور الدّين على إِعَادَة مَا كَانَ أبطل وسامح بِهِ أهل دمشق من رسوم دَار الْبِطِّيخ وعرصة البقل والأنهار وصانهم من إعنات شرار الضَّمَان وحوالة الأجناد وكرروا لسخف عُقُولهمْ الْخطاب وضمنوا الْقيام بِعشْرَة آلَاف دِينَار بيض وَكَتَبُوا بذلك حَتَّى أجِيبُوا إِلَى مَا راموا وشرعوا فِي فَرضهَا على أَرْبَاب الْأَمْلَاك من المقدمين والأعيان والرعايا فَمَا اهتدوا إِلَى صَوَاب وَلَا نجح لَهُم قصد فِي خطاب وَلَا جَوَاب وعسفوا بِالنَّاسِ بجهلهم بِحَيْثُ تألموا وَأَكْثرُوا الضجيج والاستغاثة إِلَى نور الدّين فصرف همة إِلَى النّظر فِي هَذَا الْأَمر فنتجت لَهُ السَّعَادَة وإيثار الْعدْل فِي الرّعية الْإِعَادَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَأمر فِي عَاشر رَمَضَان بِإِعَادَة الرسوم الْمُعَادَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من إماتتها وتعفيه أثر ضَمَانهَا وأضاف إِلَى ذَلِك تَبَرعا من نَفسه إبِْطَال ضَمَان الهريسة والجبن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وَاللَّبن ورسم بِكِتَابَة منشور يقْرَأ على كَافَّة النَّاس بِإِبْطَال هَذِه الرسوم جَمِيعهَا وتعفية ذكرهَا فَبَالغ الْعَالم عِنْد ذَلِك فِي مُوَاصلَة الْأَدْعِيَة وَالثنَاء عَلَيْهِ والنشر لمحاسنه قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وصل الْحَاجِب مَحْمُود المسترشدي من نَاحيَة مصر بِجَوَاب مَا تحمله من المراسلات من الْملك الصَّالح مُتَوَلِّي أمرهَا وَمَعَهُ رَسُول من مقدمي أمرائها وَمَعَهُ المَال المنفذ برسم الخزانة النورية وأنواع الأثواب المصرية والجياد الْعَرَبيَّة وَكَانَت فرقة من الإفرنج خذلهم الله قد ضربوا لَهُم فِي المعابر فأظفر الله بهم فَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل النزر ثمَّ تَلا ذَلِك وُرُود الْخَبَر من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ بظفره بجملة وافرة من الفرنج تناهز أَربع مئة فَارس وتزيد على ذَلِك فِي نَاحيَة الْعَريش من الجفار بِحَيْثُ استولى عَلَيْهِم الْقَتْل والأسر وَالسَّلب قَالَ وَقد كَانَت الْأَخْبَار تناصرت من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي ذِي الْحجَّة ببروز ملك الرّوم مِنْهَا بِالْعدَدِ الْكثير لقصد الْأَعْمَال والمعاقل الإسلامية ووصوله إِلَى مروج الديباج وتخييمه فِيهَا وَبث سراياه للإغارة على أَعمال أنطاكية وَمَا والاها وَأَن قوما من التركمان ظفروا بِجَمَاعَة مِنْهُم هَذَا بعد أَن افْتتح من أَعمال لاوين ملك الأرمن عدَّة من حصونه ومعاقله وَلما عرف نور الدّين هَذَا شرع فِي مُكَاتبَة وُلَاة الْأَعْمَال والمعاقل بإعلامهم مَا حدث من الرّوم وبعثهم على اسْتِعْمَال التيقظ وَالتَّأَهُّب للْجِهَاد فيهم والاستعداد للنكاية بِمن يظْهر مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين سَار الْملك مُحَمَّد بن السُّلْطَان مَحْمُود فحصر بَغْدَاد وَبهَا الْخَلِيفَة المقتفى لأمر الله وَمَعَهُ وزيره عون الدّين بن هُبَيْرَة فكاتب أَصْحَاب الْأَطْرَاف فتحركوا وَوصل الْخَبَر إِلَى الْملك مُحَمَّد بِأَن أَخَاهُ ملكشاه قصد همذان ودخلها فِي عَسْكَر كَبِير ونهبها وَأخذ نسَاء الْأُمَرَاء الَّذين مَعَه وَأَوْلَادهمْ فاختلط الْعَسْكَر وَتَفَرَّقُوا وَعَاد مُحَمَّد نَحْو همذان وَخرج أهل بَغْدَاد فنهبوا أَوَاخِر الْعَسْكَر المنقطعين وشعثوا دَار السُّلْطَان قلت وَفِي هَذِه السّنة توفى أَبُو الْوَقْت عبد الأول الْمُحدث الْمُنْفَرد بعلو رِوَايَة = كتاب الْجَامِع الصَّحِيح = للْبُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ أَبُو يعلى فِي أول يَوْم مِنْهَا وافت زَلْزَلَة عَظِيمَة ضحى نَهَاره وتلاها ثِنْتَانِ دونهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وَكَانَ قد عرض لنُور الدّين مرض تزايد بِهِ بِحَيْثُ أَضْعَف قوته وَوَقع الإرجاف بِهِ من حساد دولته والمفسدين من عوام رَعيته وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد وَضَاقَتْ صُدُور قطان الثغور والبلاد خوفًا عَلَيْهِ وإشفاقا من سوء يصل إِلَيْهِ لَا سِيمَا مَعَ أَخْبَار الرّوم والفرنج وَلما أحس من نَفسه بالضعف تقدم إِلَى خَواص أَصْحَابه وَقَالَ لَهُم إِنَّنِي قد عزمت على وَصِيّه إِلَيْكُم بِمَا قد وَقع فِي نَفسِي فكونوا لَهَا سَامِعين مُطِيعِينَ وبشروطها عاملين إِنِّي مُشفق على الرعايا وكافة الْمُسلمين مِمَّن يكون بعدى من الْوُلَاة الْجَاهِلين والظلمة الجائرين فَإِن أخي نصْرَة الدّين أعرف من أخلاقه وَسُوء أَفعاله مَا لَا أرتضي مَعَه بتوليته أمرا من أُمُور الْمُسلمين وَقد وَقع اخْتِيَاري على أخي الْأَمِير قطب الدّين مودود مُتَوَلِّي الْموصل لما يرجع إِلَيْهِ من عقل وسداد وَدين وَصِحَّة اعْتِقَاد فَحَلَفُوا لَهُ وأنفذ رسله إِلَى أَخِيه بإعلامه صُورَة الْحَال ليَكُون لَهَا مستعدا ثمَّ تفضل الله تَعَالَى بإبلاله من الْمَرَض وتزايد الْقُوَّة فِي النَّفس والحس وَجلسَ للدخول إِلَيْهِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَمِير مجد الدّين النَّائِب فِي حلب قد رتب فِي الطرقات من يحفظ السالكين فِيهَا فظفر الْمُقِيم فِي منبج بِرَجُل حمال من أهل دمشق وَمَعَهُ كتب فأنفذ بهَا إِلَى مجد الدّين مُتَوَلِّي حلب فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا أَمر بصلب متحملها وأنفذها فِي الْحَال إِلَى نور الدّين فَوَجَدَهَا من أَمِين الدّين زين الْحَاج أَبى الْقَاسِم مُتَوَلِّي ديوانه وَمن عز الدّين وَالِي القلعة مَمْلُوكه وَمن مُحَمَّد بن جفرى أحد حجابه إِلَى أَخِيه نصْرَة الدّين أَمِير أميران صَاحب حران بإعلامه بِوُقُوع الْيَأْس من أَخِيه ويحضونه على الْمُبَادرَة والإسراع إِلَى دمشق لتسلم إِلَيْهِ فَلَمَّا عرف نور الدّين ذَلِك عرض الْكتب على أَرْبَابهَا فَاعْتَرفُوا بهَا فَأمر باعتقالهم وَكَانَ رابعهم سعد الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 عُثْمَان وَكَانَ قد خَافَ فهرب قبل ذَلِك بيومين وَورد فِي الْحَال = كتاب صَاحب قلعة جعبر = يخبر بِقطع نصْرَة الدّين الْفُرَات مجدا إِلَى دمشق فأنهض أَسد الدّين فِي الْعَسْكَر الْمَنْصُور لرده وَمنعه من الْوُصُول فاتصل بِهِ خبر عوده إِلَى مقره عِنْد مَعْرفَته بعافية أَخِيه فَعَاد أَسد الدّين إِلَى دمشق ووصلت رسل الْملك الْعَادِل من نَاحيَة الْموصل بِجَوَاب مَا تَحملُوهُ إِلَى أَخِيه قطب الدّين وفارقوه وَقد برز فِي عسكره مُتَوَجها إِلَى نَاحيَة دمشق فَلَمَّا فصل عَن الْموصل اتَّصل بِهِ خبر عافيته فَأَقَامَ بِحَيْثُ هُوَ وأنفذ وزيره جمال الدّين أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ لكشف الْحَال فوصل إِلَى دمشق يَوْم السبت الثَّامِن من صفر فِي أحسن زِيّ وأبهى تجمل وَخرج إِلَى لِقَائِه الْخلق الْكثير قَالَ وَهَذَا الْوَزير قد ألهمه الله تَعَالَى من جميل الْأَفْعَال وَحميد الْخلال وكرم النَّفس وإنفاق أَمْوَاله فِي أَبْوَاب الْبر والصلات وَالصَّدقَات ومستحسن الْآثَار فِي مَدِينَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَمَكَّة ذَات الْحرم وَالْبَيْت الْمُعظم شرفه الله تَعَالَى مَا قد شاع ذكره وتضاعف عَلَيْهِ حَمده وشكره وَاجْتمعَ مَعَ نور الدّين وَجرى بَينهمَا من المفاوضات والتقريرات مَا انْتهى إِلَى عوده إِلَى جِهَته بعد الْإِكْرَام لَهُ وتوفيتة حَقه من الاحترام وأصحبه برسم قطب الدّين أَخِيه وخواصه من الملاطفة مَا اقتضته الْحَال الْحَاضِرَة وَتوجه مَعَه الامير أَسد الدّين وَقَالَ ابْن أَبى طي لما وصل الْوَزير جمال الدّين إِلَى حلب تَلقاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 موكب نور الدّين وَفِيه وُجُوه الدولة وكبراء الْمَدِينَة وَأنزل فِي دَار ابْن الصُّوفِي وَأكْرم غَايَة الْإِكْرَام وأعيد إِلَى صَاحبه شاكرا عَن نور الدّين وسير مَعَه الْأَمِير أَسد الدّين شيركوه رَسُولا إِلَى قطب الدّين بالشكر لَهُ وَالثنَاء عَلَيْهِ وأنفذت مَعَه هَدَايَا سنية فَسَار وَعَاد إِلَى حلب مكرما فَوجدَ نور الدّين عَازِمًا على الْخُرُوج إِلَى دمشق لما بلغه من إِفْسَاد الفرنج فِي بلد حوران فَسَار فِي صحابته وَوصل نور الدّين إِلَى دمشق فَأمر النَّاس بالتجهز لقِتَال الفرنج ثمَّ أنهض أَسد الدّين فِي قِطْعَة من الْعَسْكَر للإغارة على بلد صيدا فَسَار وَسَار مَعَه أَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وَأَوْلَاده وَلم يشْعر الفرنج إِلَّا وَهُوَ قد عاث فِي بلد صيدا وَقتل وَأسر عَالما عَظِيما وغنم غنيمَة جليلة وَعَاد فَاجْتمع بِنور الدّين على جسر الْخشب قلت وَهَذَا هُوَ مَا تقدم ذكره بعد المرضة الأولى وَكَأن ابْن أَبى طي جعل المرضتين وَاحِدَة بحلب وَأَبُو يعلى ذكر أَن الأولى بحلب وَالثَّانيَِة بِدِمَشْق وَهُوَ الْأَصَح وَالله أعلم فصل قَالَ أَبُو يعلى كَانَ قد وصل من ملك الرّوم رَسُول من مُعَسْكَره وَمَعَهُ هَدِيَّة أتحف بهَا الْملك الْعَادِل من أَثوَاب ديباج وَغير ذَلِك وَجَمِيل خطاب وفعال وقوبل بِمثل ذَلِك وَحكى عَن ملك الفرنج خذله الله إِن الْمُصَالحَة بَينه وَبَين ملك الرّوم تقررت والمهادنة انْعَقَدت وَالله يرد باس كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى نَحره ويذيقه عَاقِبَة غدره ومكره قَالَ ووردت أَخْبَار من نَاحيَة ملك الرّوم باعتزامه على أنطاكية وَقصد المعاقل الإسلامية فبادر نور الدّين بالتوجه إِلَى الْبِلَاد الشامية لإيناس أَهلهَا من استيحاشهم من شَرّ الرّوم والإفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَسَار فِي الْعَسْكَر صوب حمص وحماة وشيزر قَالَ وَفِي ثَالِث ربيع الأول وافت زَلْزَلَة هائلة ماجت أَربع موجات وأيقظت النيام وأزعجت اليقظى وَخَافَ كل ذِي مسكن مُضْطَرب على نَفسه وعَلى مَسْكَنه قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى هبت ريح عاصف شَدِيدَة أَقَامَت يَوْمهَا وليلتها فأتلفت أَكثر الثِّمَار صيفيها وشتويها وأفسدت بعض الْأَشْجَار ثمَّ وافت آخر اللَّيْل زَلْزَلَة هائلة ماجت موجتين أزعجت وأقلقت قَالَ وتجددت المهادنة الْمُؤَكّدَة لنُور الدّين مَعَ ملك الرّوم بعد تكَرر المراسلات والاقتراحات فِي التقريرات وَأجِيب ملك الرّوم إِلَى مَا التمسه من إِطْلَاق مقدمي الإفرنج المقيمين فِي حبس نور الدّين فأنفذهم بأسرهم وقابل ملك الرّوم هَذَا الْفضل بِمَا يضاهيه من الإتحاف بأثواب الديباج الفاخرة الْمُخْتَلفَة الْأَجْنَاس الوافرة الْعدَد وَمن الْجَوْهَر النفيس وخيمة من الدبياج لَهَا قيمَة وافرة وَمَا اسْتحْسنَ من الْخُيُول الجبلية ثمَّ رَحل عقيب ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فِي عساكره من منزله عَائِدًا إِلَى بِلَاده مشكورا مَحْمُودًا وَلم يؤذ أحدا من الْمُسلمين فِي الْعشْر الْأَوْسَط من جُمَادَى الأولى فاطمأنت الْقُلُوب بعد انزعاجها وقلقها قَالَ وَورد بعد ذَلِك الْخَبَر بِأَن نور الدّين صنع لِأَخِيهِ قطب الدّين ولعسكره وَلمن ورد مَعَه من المقدمين والولاة وأصحابهم الواردين لجهاد الرّوم والإفرنج سماطا عَظِيما هائلا تناهى فِيهِ وَفرق من الْحصن الْعَرَبيَّة والخيول وَالْبِغَال الْعدَد الْكثير وَمن الْخلْع من أَنْوَاع الديباج الْمُخْتَلف وَغَيره والتخوت الذَّهَب الشَّيْء الْكثير الزَّائِد على الْكَثْرَة وَكَانَ يَوْمًا مشهودا فِي الْحسن والتجمل وَاتفقَ أَن جمَاعَة من غرباء التركمان وجدوا من النَّاس غَفلَة باشتغالهم بالسماط وانتهابه فغاروا على الْعَرَب من بني سامة وَغَيرهم وَاسْتَاقُوا مَوَاشِيهمْ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك أنهض نور الدّين فِي أَثَرهم فريقا وافرا من الْعَسْكَر فأدركوهم واستخلصوا مِنْهُم جَمِيع مَا أَخَذُوهُ وأعيد إِلَى أربابه قَالَ وتقرر الرَّأْي النورى على التَّوَجُّه إِلَى مَدِينَة حران لمنازلتها واستعادتها من يَد أَخِيه نصْرَة الدّين حَسْبَمَا رَآهُ فِي ذَلِك من الصّلاح فَرَحل فِي عسكره أول جُمَادَى الْآخِرَة فَلَمَّا نزل عَلَيْهَا وأحاط بهَا وَقعت المراسلات إِلَى أَن تقرر الْحَال على أَمَان من بهَا وسلمت فِي يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة وقررت أحوالها وَأحسن النّظر فِي أَحْوَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 أَهلهَا وَسلمهَا للأمير زين الدّين عَليّ على سَبِيل الإقطاع وفوض إِلَيْهِ تَدْبِير أمورها ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ الرئيس أَبُو يعلى فِي صفر توفى الْأَمِير مُجَاهِد الدّين بزان بن مامين أحد مقدمي أُمَرَاء الأكراد وَهُوَ من ذوى الوجاهة فِي الدولة مَوْصُوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بَث الصلات وَالصَّدقَات فِي الْمَسَاكِين والضعفاء والفقراء مَعَ الزَّمَان فِي كل عصر يَنْقَضِي وَأَوَان جميل الْمحيا حسن الْبشر فِي اللِّقَاء وَحمل من دَاره بِبَاب الفراديس إِلَى الْجَامِع للصَّلَاة ثمَّ إِلَى الْمدرسَة الْمَشْهُورَة باسمه فَدفن فِيهَا من الْيَوْم وَلم يخل من باك عَلَيْهِ ومؤبن لَهُ ومتأسف على فَقده لجميل أَفعاله وَحميد خلاله قلت وَله أوقاف على أَبْوَاب الْبر مِنْهُ المدرستان المنسوبتان إِلَيْهِ إِحْدَاهمَا الَّتِي دفن فِيهَا وَهِي لزيق بَاب الفراديس المجدد وَالْأُخْرَى قبالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 بَاب دَار سيف الغربى فِي صف مدرسة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَله وقف على من يقْرَأ السَّبع كل يَوْم بمقصورة الْخضر بِجَامِع دمشق وَغير ذَلِك وَقد مدحه العرقلة وَغَيره قَالَ أَبُو يعلى وَفِي مستهل صفر رفع القَاضِي زكى الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى بن عَليّ الْقرشِي قَاضِي دمشق إِلَى الْملك الْعَادِل نور الدّين رقْعَة يسْأَله فِيهَا الإعفاء من الْقَضَاء والاستبدال بِهِ فَأجَاب سُؤَاله وَولى قَضَاء دمشق القَاضِي كَمَال الدّين ابْن الشهرزوري وَهُوَ الْمَشْهُور بالتقدم ووفور الْعلم وصفاء الْفَهم والمعرفة بقوانين الْأَحْكَام وشروط اسْتِعْمَال الْإِنْصَاف وَالْعدْل والنزاهة وتجنب الْهوى وَالظُّلم واستقام لَهُ الْأَمر على مَا يهواه ويؤثره ويرضاه على أَن الْقَضَاء من بعض أدواته وَاسْتقر أَن يكون النَّائِب عَنهُ عِنْد اشْتِغَاله وَلَده قلت ولكمال الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الصَّدَقَة الْجَارِيَة بعده على الْفُقَرَاء كل يَوْم جُمُعَة وَإِلَيْهِ ينْسب الشباك الكمالي بِجَامِع دمشق من الغرب وَهُوَ الَّذِي حكمت فِيهِ الْقُضَاة مُدَّة وَيصلونَ فِيهِ الْجُمُعَة فِي زَمَاننَا وَإِلَى هَهُنَا انْتهى مَا نَقَلْنَاهُ من كتاب الرئيس أبي يعلى التَّمِيمِي فَإِنَّهُ آخر كِتَابه وَفِي هَذِه السّنة توفّي رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة خمس وَخمسين توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفي بن المستظهر ومولده سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَكَانَت خِلَافَته أَرْبعا وَعشْرين سنة وشهرين وبويع وَلَده أَبُو المظفر يُوسُف ولقب المستنجد بِاللَّه فَأقر ابْن هُبَيْرَة على وزارته قَالَ وفيهَا حج زين الدّين عَليّ وَأحسن إِلَى النَّاس فِي طَرِيق مَكَّة وَأكْثر الصَّدقَات فَلَمَّا وصل بَغْدَاد أكْرمه المستنجد بِاللَّه فَلَمَّا لبس الخلعة كَانَت طَوِيلَة وَكَانَ قَصِيرا جدا فَمد يَده إِلَى كمراته وَأخرج مَا شدّ بِهِ وَسطه وَقصر الْجُبَّة فَنظر المستنجد إِلَيْهِ وَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وَقَالَ لمن عِنْده مثل هَذَا يكون الْأَمِير والجندي لَا مثلكُمْ قلت وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْمُسْتَخْلف بِمصْر الملقب بالفائز بن الظافر بن الْحَافِظ وَولي بعده ابْن عَمه العاضد بن يُوسُف بن الْحَافِظ وَهُوَ أخر خلفاء مصر وَوصل من الصَّالح بن رزيك كتاب إِلَى ابْن منقذ أُسَامَة بذلك فَكتب إِلَيْهِ (هناء بنعمى قل عَن قدرهَا الشُّكْر ... وصبرا لرزء لَا يقوم بِهِ الصَّبْر) (مضى الفائز الطُّهْر الإِمَام وَقَامَ بِالْإِمَامَةِ ... فِينَا بعده العاضد الطُّهْر) (إِمَامًا هدى لله فِي نقل ذَا إِلَى ... كرامته وَفِي إِقَامَة ذَا سر) (فعش أبدا واسلم لَهُم يَا كفيلهم ... تدافع عَنْهُم كل حَادِثَة تعرو) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ ابْن أبي طي فِي هَذِه السّنة حج أَسد الدّين من الشَّام وَخرج فِي تجمل عَظِيم وشارة رائعة واستصحب مَعَه من الأزواد والكسى أَشْيَاء عَظِيمَة وَيُقَال إِنَّه كَانَ مَعَه ألف نفس يجرى عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب وَحج على كوجك الْمَعْرُوف بزين الدّين من الْعرَاق وَحج ملهم أَخُو ضرغام وَزِير مصر فَكَانَ الْمَوْسِم بهؤلاء الثَّلَاثَة كثير الْخَيْر وَاسْتغْنى بسببهم أهل الْحجاز وَعَاد أَسد الدّين سالما وَخرج نور الدّين إِلَى لِقَائِه وَكَانَ يَوْم وُرُوده يَوْمًا عَظِيما وَقَالَ أَيْضا فِيهَا قتل الصَّالح بن رزيك بِمصْر وَكَانَ سَبَب قَتله إِن عمَّة العاضد عملت على قَتله ونفذت الْأَمْوَال إِلَى الْأُمَرَاء فَبلغ ذَلِك الصَّالح فاستعاد الْأَمْوَال واحتاط على عمَّة العاضد قَالَ وَإِنَّمَا كرهته عمَّة العاضد لاستيلائه على الْأُمُور والدولة وَحفظه للأموال وَقتل الصَّالح بِسَبَبِهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء ونكبهم وَتمكن من الدولة تمَكنا حسنا ثمَّ إِن عمَّة العاضد عَادَتْ وأحكمت الْحِيلَة عَلَيْهِ وبذلت لقوم من السودَان مَالا جزيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 حَتَّى أوقعوا بِهِ الْفِعْل جَلَسُوا لَهُ فِي بَيت فِي دهليز الْقصر مختفين فِيهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم تَاسِع عشر رَمَضَان ركب إِلَى الْقصر ودخله وَسلم على العاضد وَخرج من عِنْده فَخرج عَلَيْهِ الْجَمَاعَة وَوَقعت الصَّيْحَة فعثر الصَّالح بأذياله فطعنه أحدهم بِالسَّيْفِ فِي ظَاهر رقبته فَقطع أحد عمودي الرَّقَبَة وَحمل إِلَى بَاب الْقصر وَأُصِيب وَلَده رزيك فِي كتفه وَلما حصل الصَّالح فِي دَاره أوصى وَلَده رزيك وَمَات بعد سَاعَة من ذَلِك الْيَوْم قَالَ الْعِمَاد وانكسفت شمس الْفَضَائِل وَرخّص سعر الشّعْر وانخفض علم الْعلم وضاق فضاء الْفضل وَعم رزء ابْن رزيك وَملك صرف الدَّهْر ذَلِك المليك فَلم تزل مصر بعده منجوسة الْحَظ منحوسة الْجد منكوسة الرَّايَة معكوسة الْآيَة إِلَى أَن ملكهَا يوسفها الثَّانِي وَجعلهَا مغاني الْمعَانِي وأنشر رميمها وعطر نسيمها وتسلم قصرهَا وَالْتزم خصرها قَالَ زين الدّين الْوَاعِظ عمل فَارس الْمُسلمين أَخُو الصَّالح دَعْوَة فِي شبعان من السّنة الَّتِي قتل فِيهَا فَعمل هَذِه الأبيات وَسلمهَا إِلَيّ (أنست بكم دهرا فَلَمَّا ظعنتم اسْتَقَرَّتْ ... بقلبي وَحْشَة للتفرق) وَمِنْهَا (وأعجب شَيْء أنني يَوْم بَيْنكُم ... بقيت وقلبي بَين جَنْبي مَا بقى) (أرى الْبعد مَا بيني وَبَين أحبتي ... كبعد المدى مَا بَين غرب ومشرق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَلا جددي يَا نفس وجدا وحسرة ... فَهَذَا فِرَاق بعده لَيْسَ نَلْتَقِي) قَالَ فَلم يبْق بعْدهَا لَهُم اجْتِمَاع فِي مَسَرَّة وَقتل فِي شهر رَمَضَان قلت ولعمارة اليمني وَلغيره فِي الصَّالح مدائح ومراث جليلة وَقد أثنى عَلَيْهِ كثيرا فِي = كتاب الوزراء الْمصْرِيّ = وَقَالَ لم يكن مجْلِس أنسه يَنْقَطِع إِلَّا بالمذاكرة فِي أَنْوَاع الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والأدبية وَفِي مذاكرة وقائع الحروب مَعَ أُمَرَاء دولته قَالَ وَكَانَ مرتاضا قد شم أَطْرَاف المعارف وتميز عَن أجلاف الْمُلُوك وَكَانَ شَاعِرًا يحب الْأَدَب وَأَهله يكرم جليسه ويبسط أنيسه وَلكنه كَانَ مفرط العصبية فِي مَذْهَب الإمامية وَكَانَ مرتاضا حصيفا قد لَقِي فِي ولَايَته فُقَهَاء السّنة وَسمع كَلَامهم قَالَ وَدخلت عَلَيْهِ قبل أَن يَمُوت بِثَلَاث لَيَال وَفِي يَده قرطاس قد كتب فِيهِ بَيْتَيْنِ من شعره عملهما فِي تِلْكَ السَّاعَة وهما (نَحن فِي غَفلَة ونوم وللموت ... عُيُون يقظانة لَا تنام) (قد رحلنا إِلَى الْحمام سنينا ... لَيْت شعري مَتى يكون الْحمام) قَالَ وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق أَنِّي أنشدت ابْنه مجد الْإِسْلَام فِي دَار سعيد السُّعَدَاء ليله السَّادِس عشر من شهر رَمَضَان أَو السَّابِع عشر قصيدة أَقُول فِيهَا (أَبوك الَّذِي تسطو اللَّيَالِي بحده ... وَأَنت يَمِين إِن سَطَا وشمال) (لرتبته الْعُظْمَى وَإِن طَال عمره ... إِلَيْك مصير وَاجِب ومآل) (تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شرِيف لَا انْقَضى وحجال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قَالَ فانتقل الْملك بعد ثَلَاث إِلَيْهِ قَالَ وَمِمَّا رثيته بِهِ وَإِن كَانَ كثيرا قولي (أفى أهل ذَا النادي عليم أسائله ... فَأَنِّي لما بِي ذَاهِب اللب ذاهله) (سَمِعت حَدِيثا أحسد الصم عِنْده ... وَيذْهل واعيه ويخرس قَائِله) (فقد رَابَنِي من شَاهد الْحَال أنني ... أرى الدست مَنْصُوبًا وَمَا فِيهِ كافله) (وَأَنِّي أرى فَوق الْوُجُوه كآبة ... تدل على أَن الْوُجُوه ثواكله) (دَعونِي فَمَا هَذَا بِوَقْت بكائه ... سَيَأْتِيكُمْ طل الْبكاء ووابله) (وَلم لَا نبكيه ونندب فَقده ... وَأَوْلَادنَا أيتامه وأرامله) (فيا لَيْت شعري بعد حسن فعاله ... وَقد غَابَ عَنَّا مَا بِنَا الدَّهْر فَاعله) (أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم ... فيسكن أم تطوى ببين مراحله) وَله من أُخْرَى يرثيه وَيذكر ولَايَة ابْنه (طمع الْمَرْء فِي الْحَيَاة غرور ... وطويل الآمال فِيهَا قصير) وَمِنْهَا (وَلكم قدر الْفَتى فَأَتَتْهُ ... نوب لم يحط بهَا التَّقْدِير) (فض ختم الْحَيَاة عَنْك حمام ... لَا يُرَاعى إِذْنا وَلَا يستشير) (مَا تخطى إِلَى جلالك إِلَّا ... قدر أمره علينا قدير) (يَا أَمِير الجيوش هَل لَك علم ... أَن حر الأسى علينا أَمِير) (إِن قبرا حللته لغنى ... إِن دهرا فارقته لفقير) (انطوى ذَلِك الْبسَاط وعهدي ... وَهُوَ بِالْعلمِ والندى معمور) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 (لَا تظن الْأَنَام أَنَّك ميت ... لم يمت من ثَنَاؤُهُ منشور) (إِن مضى كافل فَهَذَا كَفِيل ... أَو وَزِير يغب فَهَذَا وَزِير) (دولة صالحية خلفتها ... دولة عادلية لَا تجور) (أعقب الدَّهْر بؤسه بنعيم ... رب حزن فِي الطي مِنْهُ سرُور) (مَا شَكَوْنَا كسر النوائب حَتَّى ... قيل فِي الْحَال كسركم مجبور) (نصر النَّاصِر الْعلَا بالعوالي ... ولنعم الْمولى وَنعم النصير) وَقَالَ أَيْضا يرثيه وَيذكر الظفر بقاتليه ويصف نقل تابوته إِلَى مشهده بالقرافة قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا (قد كنت أشرق من ثماد مدامعي ... أسفا فَكيف وَقد طمى التيار) (عَم الورى يَوْم الْخَمِيس وخصني ... خطب بأنف الدَّهْر مِنْهُ صغَار) (مَا أوحش الدُّنْيَا غدية فَارَقت ... قطبا رحى الدُّنْيَا عَلَيْهِ تدار) (خربَتْ ربوع المكرمات لوَاحِد ... عمرت بِهِ الأجداث وَهِي قفار) (نعش الجدود العاثرات مشيع ... عشيت بِرُؤْيَة نعشه الْأَبْصَار) (نعش تود بَنَات نعش لَو غَدَتْ ... ونظامها أسفا عَلَيْهِ نثار) (شخص الْأَنَام إِلَيْهِ تَحت جَنَازَة ... خفضت لرفعة قدرهَا الأقدار) (سَار الإِمَام أمامها فَعلمت إِن ... قد شيعتها الْخَمْسَة الْأَبْرَار) (وَمَشى الْمُلُوك بهَا حُفَاة بعد مَا ... حفت مَلَائِكَة بهَا أطهار) (فَكَأَنَّهَا تَابُوت مُوسَى أودعت ... فِي جانبيه سكينَة ووقار) (لكنه مَا ضم غير بَقِيَّة الْإِسْلَام ... وَهُوَ الصَّالح الْمُخْتَار) (أقطنته دَار الوزارة ريثما ... بنيت لنقلته الْكَرِيمَة دَار) (وتغاير الهرمان والحرمان فِي ... تابوته وعَلى الْكَرِيم يغار) (آثرت مصرا مِنْهُ بالشرف الَّذِي ... حسدت قرافتها لَهُ الْأَمْصَار) (وجعلتها أمنا بِهِ ومثابة ... ترجو مثابة قَصدهَا الزوار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (قد قلت إِذْ نقلوه نقلة ظاعن ... نزحت بِهِ دَار وشط مَزَار) (مَا كَانَ إِلَّا السَّيْف جدد غمده ... بسواه وَهُوَ الصارم البتار) (والبدر فَارق برجه مبتدلا ... برجا بِهِ تتشعشع الْأَنْوَار) (والغيث روى بَلْدَة ثمَّ انتحى ... أُخْرَى فنوء سحابه مدرار) (يَا مُسبل الأستار دون جَلَاله ... مَاذَا الَّذِي رفعت لَهُ الأستار) (مَالِي أرى الزوار بعد مهابة ... فوضى وَلَا إِذن وَلَا استئمار) (غضب الْإِلَه على رجال أقدموا ... جهلا عَلَيْك وَآخَرين أشاروا) (لَا تَعَجبا لقدار نَاقَة صَالح ... فَلِكُل دهر نَاقَة وقدار) (واخجلتا للبيض كَيفَ تطاولت ... سفها بأيدي السود وَهِي قصار) (واحسرتا كَيفَ انْفَرَدت لأعبد ... وعبيدك السادات والأحرار) (رصدوك فِي ضيق المجال بِحَيْثُ لَا الخطي ... متسع وَلَا الخطار) (مَا كَانَ أقصر باعهم عَن مثلهَا ... لَو كنت متروكا وَمَا تخْتَار) (وَلَقَد ثَبت ثبات مقتدر على ... خذلانهم لَو ساعد الْمِقْدَار) (وتعثرت أَقْدَامهم بك هَيْبَة ... لَو لم يكن لَك بالذيول عثار) (أحللت دَار كَرَامَة لَا تَنْقَضِي ... أبدا وَحل بقاتليك بوار) (يَا لَيْت عَيْنك شاهدت أَحْوَالهم ... من بعْدهَا وَرَأَتْ إِلَى مَا صَارُوا) (وَقع الْقصاص بهم وَلَيْسوا مقنعا ... يُرْضِي وَأَيْنَ من السَّمَاء غُبَار) (ضَاقَتْ بهم سَعَة الفجاج وَرُبمَا ... نَام الْعَدو وَلَا ينَام الثار) (وتوهموا أَن الْفِرَار مَطِيَّة ... تنجي وَأَيْنَ من الْقَضَاء فرار) (طاروا فَمد أَبُو الشجاع لصيدهم ... شرك الردى فكأنهم مَا طاروا) (فتهن بِالْأَجْرِ الجزيل وميتة ... درجت عَلَيْهَا قبلك الأخيار) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 (مَاتَ الْوَصِيّ بهَا وَحَمْزَة عَمه ... وَابْن البتول وجعفر الطيار) (نلْت السَّعَادَة وَالشَّهَادَة والعلا ... حَيا وَمَيتًا إِن ذَا لفخار) (وَلَقَد أقرّ الْعين بعْدك أروع ... لولاه لم يَك للعلا اسْتِقْرَار) (النَّاصِر الْهَادِي الَّذِي حَسَنَاته ... عَن سيئات زَمَاننَا أعذار) (لما استقام لحفظ أمة أَحْمد ... عمرت بِهِ الأوطان والأوطار) ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا جمع نور الدّين العساكر بحلب وَسَار إِلَى قلعة حارم وحصرها وجد فِي قتالها فامتنعت عَلَيْهِ لحصانتها وَكَثْرَة من بهَا من فرسَان الفرنج وشجعانهم وَاجْتمعَ الفرنج من سَائِر الْبِلَاد وَسَارُوا نَحوه ليرحلوه عَنْهَا فَلَمَّا قاربوه طلب مِنْهُم المصاف فَلم يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِك وراسلوه وتلطفوا الْحَال مَعَه فَعَاد إِلَى بِلَاده وَمِمَّنْ كَانَ مَعَه فِي هَذِه الْغُزَاة الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن منقذ وَكَانَ من الشجَاعَة فِي الْغَايَة الَّتِي لَا مزِيد عَلَيْهَا فَلَمَّا عَاد إِلَى حلب دخل إِلَى مَسْجِد سِيرِين وَكَانَ قد دخله فِي الْعَام الْمَاضِي سائرا إِلَى الْحَج فَلَمَّا دخله عامئذ كتب على حَائِطه (لَك الْحَمد يَا مولَايَ كم لَك منَّة ... على وَفضل لَا يُحِيط بِهِ شكري) (نزلت بِهَذَا الْمَسْجِد الْعَام قَافِلًا ... من الْغَزْو موفور النَّصِيب من الْأجر) (وَمِنْه رحلت العيس فِي عَامي الَّذِي ... مضى نَحْو بَيت الله ذِي الرُّكْن وَالْحجر) (فأديت مفروضي وأسقطت ثقل مَا ... تحملت من وزر الشبيبة عَن ظَهْري) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 قلت أذكرني هَذَا مَا كتبه أُسَامَة أَيْضا بِمَدِينَة صور وَقد دخل دَار ابْن أبي عقيل فرآها وَقد تهدمت وتغيرت زخرفتها فَكتب على لوح من رُخَام (احذر من الدُّنْيَا وَلَا ... تغتر بالعمر الْقصير) (وَتنظر إِلَى آثَار من ... صرعته منا بالغرور) (عمروا وشادوا مَا ترَاهُ ... من الْمنَازل والقصور) (وتحولوا من بعد سكناهَا ... إِلَى سكني الْقُبُور) قلت ابْن أَبى عقيل هَذَا هُوَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله بن عِيَاض بن أَبى عقيل صَاحب صور ويلقب عين الدولة مَاتَ سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبع مئة وَاسْتولى على صور ابْنه النفيس ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخمْس مئة قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا جمع نور الدّين عساكره وَدخل بِلَاد الفرنج فَنزل بالبقيعة تَحت حصن الأكراد وَهُوَ للفرنج عَازِمًا على دُخُول بِلَادهمْ ومنازلة طرابلس فَبَيْنَمَا النَّاس فِي بعض الْأَيَّام فِي خيامهم وسط النَّهَار لم يرعهم إِلَّا ظُهُور صلبان الفرنج من وَرَاء الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ الْحصن فكبسوهم فَأَرَادَ الْمُسلمُونَ دفعهم فَلم يطيقوا فَانْهَزَمُوا وَوضع الفرنج السَّيْف وَأَكْثرُوا الْقَتْل والأسر وقصدوا خيمة الْملك الْعَادِل فَخرج من ظهر خيمته عجلا بِغَيْر قبَاء فَركب فرسا هُنَاكَ للنوبة ولسرعته رَكبه وَفِي رجله شبحة فَنزل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 إِنْسَان من الأكراد فقطعها فنجا نور الدّين وَقتل الْكرْدِي فَسَأَلَ نور الدّين عَن مخلفي ذَلِك الْكرْدِي فَأحْسن إِلَيْهِم جَزَاء لفعله وَكَانَ أَكثر الْقَتْل فِي السوقة والغلمان وَسَار نور الدّين إِلَى مَدِينَة حمص فَأَقَامَ بظاهرها وأحضر مِنْهَا مَا فِيهَا من الْخيام ونصبها على بحيرة قدس على فَرسَخ من حمص وَبَينهَا وَبَين مَكَان الْوَقْعَة أَرْبَعَة فراسخ وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه لَا يقف دون حلب وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى أَشْجَع من ذَلِك وَأقوى عزما وَلما نزل على بحيرة قدس اجْتمع إِلَيْهِ كل من نجا من المعركة فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه لَيْسَ من الرَّأْي أَن تقيم هَهُنَا فَإِن الفرنج رُبمَا حملهمْ الطمع على الْمَجِيء إِلَيْنَا وَنحن على هَذِه الْحَال فوبخه وأسكته وَقَالَ إِذا كَانَ معي ألف فَارس فَلَا أُبَالِي بهم قلوا أَو كَثُرُوا وَوَاللَّه لَا أستظل بجدار حَتَّى اخذ بثأر الْإِسْلَام وثأري ثمَّ إِنَّه أرسل إِلَى حلب ودمشق وأحضر الْأَمْوَال وَالدَّوَاب والأسلحة والخيام وَسَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجند فَأكْثر وَفرق ذَلِك جَمِيعه على من سلم وَأما من قتل فانه أقرّ إقطاعه على أَوْلَاده فَإِن لم يكن لَهُ ولد فعلى بعض أَهله فَعَاد الْعَسْكَر كَأَنَّهُ لم يفقد مِنْهُ أحد وَأما الفرنج فَإِنَّهُم كَانُوا عازمين على قصد حمص بعد الْهَزِيمَة لِأَنَّهَا أقرب الْبِلَاد إِلَيْهِم فَلَمَّا بَلغهُمْ مقَام نور الدّين عِنْدهَا قَالُوا إِنَّه لم يفعل هَذَا إِلَّا وَعِنْده من الْقُوَّة أَن يمنعنا وَكَانَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قد أَكثر الخرج إِلَى أَن قسم فِي يَوْم وَاحِد مئتي ألف دِينَار سوى غَيرهَا من الدَّوَابّ والخيام وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك وَتقدم إِلَى ديوانه أَن يحضروا الْجند ويسألوا كل وَاحِد مِنْهُم عَن الَّذِي أَخذ مِنْهُ فَكل من ذكر شَيْئا أَعْطوهُ عوضه فَحَضَرَ بعض الْجند وَادّعى شَيْئا كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 علم بعض النواب كذبه فِيمَا ادْعاه لمعرفتهم بِحَالهِ فأرسلوا إِلَى نور الدّين ينهون إِلَيْهِ الْقَضِيَّة ويستأذنونه فِي تَحْلِيف الجندي على مَا ادَّعَاهُ فَأَعَادَ الْجَواب لَا تكدروا عطاءنا فَإِنِّي أَرْجُو الثَّوَاب وَالْأَجْر على قَلِيله وَكَثِيره وَقَالَ لَهُ أَصْحَابه إِن لَك فِي بلادك إدرارتٍ كَثِيرَة وصلات عَظِيمَة للفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فَلَو استعنت بهَا لآن لَكَانَ أمثل فَغَضب من هَذَا وَقَالَ وَالله إِنِّي لَا أَرْجُو النَّصْر إِلَّا بأولئك فَإِنَّمَا ترزقون وتنصرون بضعفائكم كَيفَ أقطع صلات قوم يُقَاتلُون عَنى وَأَنا نَائِم فِي فِرَاشِي بسهام لَا تخطئ وأصرفها إِلَى من يُقَاتل عَنى إِذا رَآنِي بسهام قد تخطئ وتصيب ثمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم نصيب فِي بَيت المَال أصرفه إِلَيْهِم كَيفَ أعْطِيه غَيرهم فَسَكَتُوا ثمَّ إِن الفرنج أرْسلُوا إِلَى نور الدّين فِي المهادنة فَلم يجبهم إِلَيْهَا فتركوا عِنْد الْحصن من يحميه وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَتَفَرَّقُوا قلت وَفِي هَذِه الْحَادِثَة تَحت حصن الأكراد يَقُول أَبُو الْفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 عبد الله بن أسعد الْموصِلِي نزيل حمص من جملَة قصيدة فائقة يمدح بهَا نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى أَولهَا (ظبى المواضي وأطراف القنا الذبل ... ضوامن لَك مَا حازوه من نفل) (وكافل لَك كَاف مَا تحاوله ... عز وعزم وبأس غير منتحل) (وَمَا يعيبك مَا حازوه من سلب ... بالختل قد تؤسر الآساد بالحيل) (وَإِنَّمَا أخلدوا جبنا إِلَى خدع ... إِذْ لم يكن لَهُم بالجيش من قبل) (واستيقظوا وَأَرَادَ الله غفلتكم ... لينفذ الْقدر المحتوم فِي الْأَزَل) (حَتَّى أَتَوْكُم وَلَا الماذي من أُمَم ... وَلَا الظبي كثب من مرهق عجل) (قِنَا لقى وقسي غير موترة ... وَالْخَيْل عازبة ترعى مَعَ الهمل) (مَا يصنع اللَّيْث لَا نَاب وَلَا ظفر ... بِمَا حواليه من عفر وَمن وعل) (هلا وَقد ركب الْأسد الصقور وَقد ... سلوا الظبى تَحت غابات من الأسل) (وَإِنَّمَا هم أضاعوا حزمهم ثِقَة ... بِجَمْعِهِمْ وَلكم من واثق خجل) (بنى الأصافر مَا نلتم بمكركم ... وَالْمَكْر فِي كل إِنْسَان أَخُو الفشل) (وَمَا رجعتم بأسرى خَابَ سعيكم ... غير الأراذل والأتباع والسفل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 (سلبتم الجرد معراة بِلَا لجم ... والسمر مركوزة وَالْبيض فِي الْخلَل) (هَل اخذ الْخَيل قد أردى فوارسها ... مِثَال آخذها فِي الشكل والطول) (أم سالب الرمْح مركوزا كسالبه ... وَالْحَرب دَائِرَة من كف معتقل) (جَيش أَصَابَتْهُم عين الْكَمَال وَمَا ... يَخْلُو من الْعين إِلَّا غير مكتمل) (لَهُم بِيَوْم حنين أُسْوَة وهم ... خير الْأَنَام وَفِيهِمْ خَاتم الرُّسُل) (سيقتضيكم بِضَرْب عِنْد أهونه ... الْبيض كالبيض والأدراع كالحلل) (ملك بعيد من الأدناس ذُو كلف ... بِالصّدقِ فِي القَوْل وَالْإِخْلَاص فِي الْعَمَل) وَمِنْهَا (فالسمر مَا أَصبَحت وَالشَّمْس مَا أفلت ... وَالسيف مَا فل والأطواد لم تزل) (كم قد تجلت بِنور الدّين من ظلم ... للظلم وإنجاب للإضلال من ظلل) (قل لِلْمُولّين كفوا الطّرف من جبن ... عِنْد اللِّقَاء وغضوا الطّرف من خجل) (طلبتم السهل تبغون النجَاة وَلَو ... لذتم بملككم لذتم إِلَى جبل) (أسلمتموه ووليتم فسلمكم ... بثبتة لَو بغاها الطود لم ينل) (فَقَامَ فَردا وَقد ولت جحافله ... فَكَانَ من نَفسه فِي جحفل زجل) (فِي مشْهد لَوْ لُيُوث الغيل تشهده ... خرت لأذقانها من شدَّة الوهل) (وسط العدى وَحده ثَبت الْجنان وَقد ... طارت قُلُوب على بعد من الوجل) (يعود عَنْهُم رويدا غير مكثرث ... بهم وَقد كرّ فيهم غير محتفل) (يزْدَاد قدما إِلَيْهِم من تيقنه ... أَن التَّأَخُّر لَا يحمى من الْأَجَل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 (مَا كَانَ أقربهم من أسر أبعدكم ... لَو أَنهم لم يَكُونُوا مِنْهُ فِي شغل) (ثباته فِي صُدُور الْخَيل أنقذكم ... لَا تحسبوا وثبات الضمّر الذلّل) (مَا كل حِين تصاب الْأسد غافلة ... وَلَا يُصِيب الشَّديد الْبَطْش ذُو الشلل) (وَالله عونك فِيمَا أَنْت مزمعه ... كَمَا أعانك فِي أيامك الأول) (كم قد ملكت لَهُم ملكا بِلَا عوض ... وحزت من بلد مِنْهَا بِلَا بدل) (وَكم سقيت العوالي من طلى ملك ... وَكم قريت العوافي من قرا بَطل) (لَا نكبت سهمك الأقدار عَن غَرَض ... وَلَا ثنت يدك الْأَيَّام عَن أمل) قلت حاول ابْن أسعد فِي هَذِه القصيدة مَا حاوله المتنبي فِي قَوْله (غَيْرِي بِأَكْثَرَ هَذَا النَّاس ينخدع ... ) القصيدة فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا اعتذر عَن أَصْحَابه ومدحهم وهم المنهزمون وَقد أحسنا مَعًا عَفا الله عَنْهُمَا وَعبد الله بن أسعد هَذَا فَقِيه فَاضل وشاعر مفلق كَانَ مدرسا بحمص يعرف بِابْن الدهان وَله تَرْجَمَة فِي = تَارِيخ دمشق = وَقد ذكره الْعِمَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْكَاتِب فِي = خريدته = فَأحْسن ذكره وَأكْثر الثَّنَاء على علمه وشعره وَسَيَأْتِي ذكره أَيْضا فِي هَذَا الْكتاب فِي أَخْبَار سنة سبعين وست وَسبعين وثمان وَسبعين إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَان وَخمسين توفى عبد الْمُؤمن بن عَليّ خَليفَة الْمهْدي مُحَمَّد بن تومرت صَاحب الْمغرب وَولى بعده ابْنه يُوسُف ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة فَفِيهَا سَار أَسد الدّين شيركوه بن شاذي إِلَى مصر الْمرة الأولى وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء الَّذين فِي الْخدمَة النورية عَازِمًا على ملك الديار المصرية واستضافتها إِلَى المملكة النورية وَكَانَ أَسد الدّين وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وَهُوَ الْأَكْبَر ابْنا شاذي من بلد دوين وَهِي بَلْدَة من آخر بِلَاد أذْرَبِيجان مِمَّا يَلِي الرّوم واصلهما من الأكراد الروادية وَهَذَا الْقَبِيل من اشرف الأكراد وقدما الْعرَاق وخدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 مُجَاهِد الدّين بهروز الْخَادِم وَهُوَ شِحنة الْعرَاق فَرَأى من نجم الدّين عقلا ورأيا وَحسن سيرة فَجعله دزدارا بتكريت وَهِي لَهُ فَسَار إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ أَسد الدّين فَلَمَّا انهزم أتابك زنكي الشَّهِيد وَالِد نور الدّين بالعراق من قراجه الساقي وَهُوَ أتابك دَاوُد بن السُّلْطَان مَحْمُود وَذَلِكَ زمن المسترشد بِاللَّه سنة سِتّ وَعشْرين وَخمْس مئة وصل إِلَى تكريت فخدمه نجم الدّين أَيُّوب وَأقَام لَهُ السفن فَعبر دجلة هُنَاكَ وَتَبعهُ أَصْحَابه فَأحْسن نجم الدّين صحبتهم وسيرهم ثمَّ إِن أَسد الدّين قتل إنْسَانا نَصْرَانِيّا بتكريت لملاحاة جرت بَينهمَا فَأرْسل مُجَاهِد الدّين إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيه نجم الدّين فأخرجهما من تكريت وَقيل إِن أَيُّوب كَانَ يحسن الرماية فَرمى شخصا من مماليك بهروز بِسَهْم فَقتله فخشى على نَفسه فَتوجه نَحْو الشَّام وخدم مَعَ زنكي وَقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 لما قتل أَسد الدّين شيركوه النَّصْرَانِي وَكَانَ عَزِيزًا عِنْد بهروز هرب إِلَى الْموصل والتحق أَيُّوب بِهِ وسنوضح هَذِه الْقَضِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى عِنْد ذكر وَفَاة أَيُّوب فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَسِتِّينَ ثمَّ إِن أَيُّوب وشيركوه قصدا أتابك الشَّهِيد فَأحْسن إِلَيْهِمَا وَعرف لَهما خدمتهما وأقطعهما إقطاعاً حسنا وصارا من جملَة جنده فَلَمَّا فتح حصن بعلبك جعل نجم الدّين دزداراً فِيهِ فَلَمَّا قُتل الشَّهِيد حّصر عَسْكَر دمشق نجم الدّين فَأرْسل إِلَى سيف الدّين غَازِي وَقد قَامَ بِالْملكِ بعد وَالِده يُنْهِي الْحَال إِلَيْهِ فَلم يتفرغ لبعلبك وضاق الْأَمر على من بهَا وَخَافَ نجم الدّين أَن تُؤْخَذ عنْوَة ويناله أَذَى فَأرْسل فِي تَسْلِيم القلعة وَطلب إقطاعا ذكره فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَحلف لَهُ صَاحب دمشق عَلَيْهِ وَسلم القلعة ووفى لَهُ بِمَا حلف عَلَيْهِ من الإقطاع والتقدم وَصَارَ عِنْده من أكَابِر الْأُمَرَاء واتصل أَخُوهُ أَسد الدّين شيركوه بِالْخدمَةِ النورية بعد قتل الشَّهِيد وَكَانَ يَخْدمه فِي أَيَّام وَالِده فقربه نور الدّين وأقطعه وَرَأى مِنْهُ فِي حروبه ومشاهده آثارا يعجز عَنْهَا غَيره لشجاعته وجرأته فزاده إقطاعاً وقرباً حَتَّى صَارَت لَهُ حمص والرحبة وَغَيرهمَا وَجعله مقدم عسكره فَلَمَّا تعلّقت الهمة النورية بِملك دمشق أَمر أَسد الدّين فراسل أَخَاهُ نجم الدّين وَهُوَ بهَا فِي ذَلِك وَطلب مِنْهُ المساعدة على فتحهَا فَأجَاب إِلَى مَا يُرَاد مِنْهُ وَطلب هُوَ وَأسد الدّين من نور الدّين كثيرا من الإقطاع والأملاك بِبَلَد دمشق وَغَيرهَا فبذل لَهما مَا طلبا مِنْهُ وَحلف لَهما عَلَيْهِ ووفى لَهما لما ملكهَا وصارا عِنْده فِي أَعلَى الْمنَازل لاسيما نجم الدّين فَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 جَمِيع الْأُمَرَاء كَانُوا لَا يَقْعُدُونَ عِنْد نور الدّين إِلَّا أَن يَأْمُرهُم أَو أحدهم بذلك إِلَّا نجم الدّين فَإِنَّهُ كَانَ إِذا دخل إِلَيْهِ قعد من غير أَن يُؤمر بذلك فَلَمَّا كَانَ سنة تسع وَخمسين عزم نور الدّين على إرْسَال العساكر إِلَى مصر وَلم ير لهَذَا الْأَمر الْكَبِير أقوم وَلَا أَشْجَع من أَسد الدّين فسيره وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن شاور بن مجير أَبَا شُجَاع السَّعْدِيّ وَهُوَ الملقب أَمِير الجيوش الَّذِي يَقُول فِيهِ عُمارة من جملَة قصيدة (ضجر الْحَدِيد من الْحَدِيد وشاور ... فِي نصر آل مُحَمَّد لم يضجر) (حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر) وَهُوَ وَزِير الملقب بالعاضد لدين الله آخر المستخلفين بِمصْر كَانَ قد وصل إِلَى دمشق فِي سنة ثَمَان وَخمسين فِي سادس ربيع الأول إِلَى نور الدّين مستنجداً بِهِ على من أَخذ مِنْهُ منصبه قهرا وَكَانَت عَادَة المصريين أَنه إِذا غلب شخص صَاحب المنصب وَعجز صَاحب المنصب عَن دَفعه وَعرفُوا عَجزه وَقَعُوا للقاهر مِنْهُم ورتبوه ومكنوه فَإِن قوتهم إِنَّمَا كَانَت تكون بعسكر وزيرهم وَهُوَ الملقب عِنْدهم بالسلطان وَمَا كَانُوا يرَوْنَ المكاشفة وأغراضهم مستتبة وقواعدهم مُسْتَقِرَّة من أول زمانهم على هَذَا الْمِثَال وَكَانَ شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها من بني رزيك وَقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الْعَادِل بن الصَّالح بن رزيك الَّذِي وزر بعد أَبِيه واسْمه رزيك ويلقب بالناصر أَيْضا وَهُوَ الَّذِي استحضر القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ من الْإسْكَنْدَريَّة واستخدمه بِحَضْرَتِهِ وَبَين يَدَيْهِ فِي ديوَان الْجَيْش على مَا ذكره عمَارَة اليمني فِي = كتاب الوزراء المصرية = وَقَالَ غرس مِنْهُ للدولة بل للملة شَجَرَة مباركة متزايدة النَّمَاء اصلها ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء ثمَّ خرج على شاور نَائِب الْبَاب وَهُوَ أَمِير يُقَال لَهُ ضرغام بن سوار ويلقب بالمنصور فَجمع لَهُ جموعاً كَثِيرَة لم يكن لَهُ بهَا قبل فغلبه وَأخرجه من الْقَاهِرَة وَقتل وَلَده طيئا وَاسْتولى على الوزارة فَرَحل شاور إِلَى الشَّام قَاصِدا خدمَة نور الدّين مستصرخا بِهِ ومستنصرا فَأحْسن لقاءه واكرم مثواه فَطلب مِنْهُ إرْسَال العساكر إِلَى مصر ليعود إِلَيْهَا وَيكون لَهُ فِيهِ حِصَّة ذكرهَا لَهُ ويتصرف على أمره وَنَهْيه واختياره نور الدّين يقدم فِي ذَلِك رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى تَارَة تحمله رِعَايَة قصد شاور وَطلب الزِّيَادَة فِي الْملك والتقَّوى على الفرنج وَتارَة يمنعهُ خطر الطَّرِيق وَكَون الفرنج فِيهِ إِلَّا أَن يوغلوا فِي الْبر فيتعرضوا لخطر آخر مَعَ الْخَوْف من الفرنج أَيْضا ثمَّ استخار الله تَعَالَى وَأمر أَسد الدّين بالتجهز للمسير مَعَه قَضَاء لحق الْوَافِد المستصرخ وجسا للبلاد وتطلعا على أحوالها وَكَانَ هوى أَسد الدّين فِي ذَلِك وَعِنْده من الشجَاعَة وَقُوَّة النَّفس مَا لَا يُبَالِي بمخافة فتجهز وَسَار مَعَ شاور فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع وَخمسين هَكَذَا ذكر ابْن الْأَثِير والعماد الْكَاتِب وَقَالَ القَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ابْن شَدَّاد كَانَ ذَلِك سنة ثَمَان وَخمسين وَالْقَوْل فِي ذَلِك قَوْلهمَا فقد بَينا أَن قدوم شاور إِلَى الشَّام كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وإرسال نور الدّين الْعَسْكَر كَانَ فِي جُمَادَى سنة تسع وَخمسين قَالُوا وَأمر نور الدّين أَسد الدّين بِإِعَادَة شاور إِلَى منصبه والانتقام مِمَّن نازعه فِي الوزارة وَسَارُوا جَمِيعًا وَسَار مَعَهم نور الدّين إِلَى أَطْرَاف بِلَاد الْإِسْلَام مِمَّا يَلِي الفرنج بعساكره ليشغلهم عَن التَّعَرُّض لأسد الدّين فَكَانَ قصارى الفرنج حفظ بِلَادهمْ من نور الدّين وَوصل أَسد الدّين سالما إِلَى مصر هُوَ وَمن مَعَه فهرب المنازع لشاور فِي الوزارة وَقتل وطيف بِرَأْسِهِ وَعَاد شاور وزيرا وَتمكن من منصبه وَكَانَ عمَارَة قد مدح ضرغاما بقصيدة مِنْهَا (وأحق من وزر الْخلَافَة من نشا ... فِي حَضْرَة الْإِكْرَام والإجلال) (واختص بالخلفاء وانكشفت لَهُ ... أسرارها بقرائن الْأَحْوَال) (وَتصرف الوزراء عَن آرائه ... كتصرف الْأَسْمَاء بالأفعال) قَالَ عمَارَة وَلما جازوا بِرَأْسِهِ على الخليج وَكنت أسكن صف الخليج بِالْقَاهِرَةِ قلت ارتجالا (أرى حنك الوزارة صَار سَيْفا ... يجذ بحده صيد الرّقاب) (كَأَنَّك رائد الْبلوى وَإِلَّا ... بشير بالمنية والمصاب) ولعمارة اليمني من قصيدة مدح بهَا شاور وَذكر وزارتيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 (فنصرت فِي الأولى بِضَرْب زلزل الْأَقْدَام ... وَهِي شَدِيدَة الْإِقْدَام) (ونصرت فِي الْأُخْرَى بِضَرْب صَادِق ... أضحى يطير بِهِ غراب الْهَام) (أدْركْت ثأرا وارتجعت وزارة ... نزعا بسيفك من يَدي ضرغام) وَكَانَ ضرغام أَولا من أَصْحَاب شاور واتباعه وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عمَارَة فِي قَوْله من قصيدة لَهُ (كَانَت وزارتك الْقَدِيمَة مشرعاً ... صفواً وَلَكِن كدرت غدرانها) (غصبت رجال تاجه وسريره ... من بعد مَا سجدت لَهُ تيجانها) وَله من قصيدة أُخْرَى فِي شاور (وَزِير تمنته الوزارة أَولا ... وثانية عفوا بِغَيْر طلاب) (فخانته فِي الأولى بطانة وده ... وَرب حبيب فِي قَمِيص حباب) (وجاءته تبغى الصُّلْح ثَانِي مرّة ... فَلم يرض إِلَّا بعد ضرب رِقَاب) وَلم يغلب وَزِير لَهُم وَعَاد غير شاور وَكَانَ مُدَّة أَخذ الوزارة مِنْهُ إِلَى أَن عَادَتْ إِلَيْهِ تِسْعَة أشهر سَوَاء وَهِي مُدَّة الْحمل نَص عمَارَة على ذَلِك وَقَالَ قتل وَلَده طي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَجَاز رَأسه على رمح تَحت الطيقان وَالنِّسَاء يولولن بالصراخ وَكَانَ فِيهِنَّ وَاحِدَة تحفظ قولي فِي الصَّالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 (أينسى وَفِي الْعَينَيْنِ صُورَة وَجهه الْكَرِيم ... وعهد الإنتقال قريب) فَمَا زَالَت تكرره حَتَّى رَأَتْ رَأس ضرغام قَالَ وَأدْركَ شاور ثَأْره فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة فَيكون بَينهمَا تِسْعَة أشهر قَالَ وَقلت فِي ذَلِك (ونزعت ملكك من رجال نازعوا ... فِيهِ وَكنت بِهِ أَحَق وأقعدا) (جذبوا رداءك غاصبين فَلم تزل ... حَتَّى كسوت الْقَوْم أردية الردى) (وَبَردت قَلْبك من حرارة حرقة ... أمرت نسيم اللَّيْل أَلا يبردا) (تَارِيخ هَذَا نلته فِي مثله ... يَوْمًا بِيَوْم عِبْرَة لمن اهْتَدَى) (حملت بِهِ الْأَيَّام تِسْعَة أشهر ... حَتَّى جعلن لَهُ جُمَادَى مولدا) وَله فِيهِ أَيْضا فِي ذَلِك (لله دَرك موتورا أقض بِهِ ... دست وسرج وأجفان ومضطجع) (مَا غبت إِلَّا يَسِيرا ثمَّ لحت لنا ... والثأر مُسْتَدْرك وَالْملك مرتجع) (قَضِيَّة لم ينل مِنْهَا ابْن ذِي يزن ... إِلَّا كَمَا نلْت والْآثَار تتبع) (فافخر على الْحَيّ من قيس وَمن يمنٍ ... أَبَا شُجَاع فَلَيْسَ الْحق ينْدَفع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 قَالَ ابْن الْأَثِير وَأقَام أَسد الدّين بِظَاهِر الْقَاهِرَة وغدر بِهِ شاور وَعَاد عَمَّا كَانَ قَرَّرَهُ لنُور الدّين من الْبِلَاد المصرية ولأسد الدّين أَيْضا وَأرْسل إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بِالْعودِ إِلَى الشَّام فَأَنف أَسد الدّين من هَذِه الْحَال وَأعَاد الْجَواب يطْلب مَا كَانَ اسْتَقر فَلم يجبهُ شاور إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى ذَلِك أرسل نوابه فتسلموا مَدِينَة بلبيس وَحكم على الْبِلَاد الشرقية فَأرْسل شاور إِلَى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدّين إِن ملك مصر وَكَانَ الفرنج قد أيقنوا بِالْهَلَاكِ إِن ملكهَا نور الدّين فهم خائفون فَلَمَّا أرسل شاور إِلَيْهِم يستنجدهم وَيطْلب مِنْهُم أَن يساعدوه على إِخْرَاج أَسد الدّين من الْبِلَاد جَاءَهُم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إِلَى تَلْبِيَة دَعوته والمبادرة إِلَى نصرته وطمعوا فِي ملك ديار مصر وَكَانَ قد بذل لَهُم مَالا على الْمسير إِلَيْهِ فتجهزوا وَسَارُوا فَلَمَّا بلغ نور الدّين خبر تجهزهم للمسير سَار بعساكره فِي أَطْرَاف بِلَاده مِمَّا يَلِي الإفرنج ليمتنعوا من الْمسير فَلم يمتنعوا لعلمهم أَن الْخطر فِي مقامهم إِذا ملك أَسد الدّين مصر أَشد من الْخطر فِي مَسِيرهمْ فتركوا فِي بِلَادهمْ من يحفظها وَسَار ملك الْقُدس فِي البَاقِينَ إِلَى مصر وَكَانَ قد وصل إِلَى السَّاحِل جمع كثير من الفرنج فِي الْبَحْر لزيارة الْبَيْت المقدَّس فاستعان بهم ملك الإفرنج فأعانوه وَسَار بَعضهم مَعَه وَأقَام بعض فِي الْبِلَاد يحفظها فَلَمَّا قَارب الفرنج مصر فَارقهَا أَسد الدّين وَقصد مَدِينَة بلبيس وَأقَام بهَا هُوَ وَعَسْكَره وَجعلهَا ظهرا يتحصن بِهِ فاجتمعت العساكر المصرية والفرنجية ونازلوا أَسد الدّين بِمَدِينَة بلبيس وحصروه بهَا ثَلَاثَة أشهر وَقد امْتنع أَسد الدّين بهَا وسورها من طين قصير جدا وَلَيْسَ لَهُ خَنْدَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وَلَا فصيل يحميها وَهُوَ يغاديهم الْقِتَال ويراوحهم فَلم يبلغُوا مِنْهُ غَرضا وَلَا نالوا مِنْهُ شَيْئا فَبينا هم كَذَلِك إِذْ أَتَاهُم الْخَبَر بهزيمة الفرنج بحارم وَملك نور الدّين الْحصن ومسيره إِلَى بانياس فَحِينَئِذٍ سقط فِي أَيْديهم وَأَرَادُوا الْعود إِلَى الْبِلَاد ليحفظوها ولعلهم يدركون بانياس قبل أَخذهَا فَلم يدركوها إِلَّا وَقد ملكهَا على مَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وراسلوا أَسد الدّين فِي الصُّلْح وَالْعود إِلَى الشَّام ومفارقة مصر وَتَسْلِيم مَا بِيَدِهِ مِنْهَا إِلَى المصريين فأجابهم إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُ لم يعلم بِمَا فعله نور الدّين بالفرنج فِي السَّاحِل قَالَ ابْن الْأَثِير فَحَدثني من رأى أَسد الدّين حِين خرج من بلبيس قَالَ رَأَيْته وَقد أخرج أَصْحَابه بَين يَدَيْهِ وَبَقِي فِي آخِرهم وَبِيَدِهِ لت من حَدِيد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرُونَ قَالَ فَأَتَاهُ فرنجي من الفرنج الغرباء فَقَالَ لَهُ أما تخَاف أَن يغدر بك هَؤُلَاءِ الْمُسلمُونَ والفرنج وَقد أحاطوا بك وبأصحابك فَلَا يبْقى لَك مَعَهم بَقِيَّة فَقَالَ شيركوه يَا ليتهم فعلوا حَتَّى كنت ترى مَا لم تَرَ مثله كنت وَالله أَضَع سَيفي فَلَا أُقتل حَتَّى أقتُل رجَالًا وَحِينَئِذٍ يقصدهم الْملك الْعَادِل نور الدّين وَقد ضعفوا وفني أبطالهم فَيملك بِلَادهمْ ويفني من بَقِي مِنْهُم وَوَاللَّه لَو أَطَاعَنِي هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابه لَخَرَجت إِلَيْكُم أول يَوْم لكِنهمْ امْتَنعُوا فصلّب الفرنجي على وَجهه وَقَالَ كُنَّا نعجب من فرنج هَذِه الديار ومبالغتهم فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 صِفَتك وخوفهم مِنْك والآن فقد عذرناهم ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَسَار شيركوه إِلَى الشَّام وَعَاد سالما وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وصل شاور إِلَى نور الدّين ملتجئا فألفاه على عدوه معديا مشكيا وسير مَعَه أَسد الدّين على قَرَار عينه وَأمر بَينه وبغية يُدْرِكهَا وخطة يملكهَا ومحجة وَاضِحَة فِي الْملك يسلكها فَمضى مَعَه وَنَصره وأصفى لَهُ مشرعة واسترد لَهُ مَوْضِعه وأظهره بعلوه وأظفره بعدوه فَلَمَّا باد خَصمه بدا وصمه وغدر بعهده وأخلف فِي وعده وَكَانَ قد راسل الفرنج وهداهم فِي حَرْب الْإِسْلَام فوصلوا فتحصن شيركوه وَمن مَعَه بِمَدِينَة بلبيس فحاصره شاور بِجُنُود مصر والفرنج ثَلَاثَة أشهر من مستهل رَمَضَان إِلَى ذِي الْحجَّة فبذلوا لَهُ قطيعة فَانْصَرف عَنْهُم وَعَاد إِلَى الشَّام وَفِي قلبه من شَرّ شاور الإحن وَكَيف تمت بغدره تِلْكَ المحن قلت وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عُمارة فِي قَوْله فِي مدح شاور وَذكر الإفرنج فَقَالَ (وأنقذت من مصر عدواًّ بِمثلِهِ ... فَللَّه من ظفر فللت وناب) (صدمت جموع الْكفْر وَالشَّام صدمة ... أَقمت بهَا للْقَوْم سوق ضراب) (وَقد جرّدت أجناد مصر عزائماً ... مضاربها فِي الصخر غير نوابي) (تولّوا عَن الإفرنج فادح ثقلهَا ... ودارت رحاها مِنْهُم بهضاب) (أَقَامَت دروع الْجند تسعين لَيْلَة ... ثيابًا لَهُم مَا بدلت بِثِيَاب) (وهم بَين مطروح هُنَاكَ وطارح ... وَبَين مُصِيب خَصمه ومصاب) وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد سَار أَسد الدّين إِلَى مصر واستصحب مَعَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَجعله مقدم عسكره وَصَاحب رَأْيه وَكَانَ لَا يفصل أمرا وَلَا يُقرر حَالا إِلَّا بمشورته ورأيه لما لَاحَ لَهُ مِنْهُ من آثَار الإقبال والسعادة والفكرة الصَّحِيحَة واقتران النَّصْر بحركاته وسكناته فَسَارُوا حَتَّى وصلوا مصر وشاور مَعَهم وَكَانَ لوصولهم إِلَى مصر وَقع عَظِيم وخافه أهل مصر وَنصر شاور على خَصمه وَأَعَادَهُ إِلَى منصبه ومرتبته وَقرر قَوَاعِده وَشَاهد الْبِلَاد وَعرف أحوالها وَعلم أَنَّهَا بِلَاد بِغَيْر رجال تمشي الْأُمُور فِيهَا بِمُجَرَّد الْإِيهَام والمحال وَكَانَ ابْتِدَاء رحيله عَنْهَا مُتَوَجها إِلَى الشَّام فِي السَّابِع من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ بِالشَّام مُدبرا لأَمره مفكراً فِي كَيْفيَّة رُجُوعه إِلَى الْبِلَاد المصرية مُحدثا بذلك نَفسه مقرراً لقواعد ذَلِك مَعَ نور الدّين إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ قلت ولفعل شاور مَا فعل مَعَ أَسد الدّين وَصفه الشُّعَرَاء بالغدر ووقعوا فِيهِ قبل قَتله وَبعده على مَا سَنذكرُهُ وَبَقِي متخوفاً من أَسد الدّين فَقَالَ عرقلة الْكَلْبِيّ من جملَة قصيدة لَهُ (وَهل هم يَوْمًا شيركوه بجلق ... إِلَى الصّيد إِلَّا ارتاع فِي مصر شاور) (هُوَ الْملك الْمَنْصُور والأسد الَّذِي ... شذا ذكره فِي الشرق والغرب سَائِر) فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة احترقت جيرون بعد رُجُوع أَسد الدّين إِلَى دمشق فَقَالَ العرقلة بمدحه وَيذكر ذَلِك (جَازَ صرف الردى على جيرون ... وَسَقَى أَهلهَا كؤوس الْمنون) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 (أَصبَحت جنَّة وأمست جحيما ... تتلظى بِكُل قلب حَزِين) (كَيفَ لَا تذرف الدُّمُوع عَلَيْهَا ... وَهِي فِي الشَّام نزهة للعيون) (حبذا حصنها الْحصين لقد كَانَ ... جمالا لكل حصن حُصَيْن) (أَي سيف سَطَا على دَار سيف ... وزبون أَتَى بِحَرب زبون) (خلت نيرانها وكل ظلامٍ ... نَار ليلى تلوح للمجنون) (كم غنيِّ الْيَمين أَمْسَى فَقِيرا ... وفقير أَمْسَى غنيَِّ الْيَمين) (كل حِين لَهَا حريق جَدِيد ... لَيْت شعري مَاذَا لَهَا بعد حِين) (كل هَذَا الْبلَاء عَاقِبَة الْفسق ... وَشرب الْخُمُور والتلحين) (وَلَقَد ردهَا بعزم وحزم ... أَسد الدّين غَايَة الْمِسْكِين) (وَحمى الْجَامِع الْمُقَدّس والمشهد ... من جمرها بِمَاء معِين) (ملك فعله بدَلْجَة وَالْبَاب ... فعال الإِمَام فِي صفّين) فصل فِي فتح حارم قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَفِي تِلْكَ السّنة يَعْنِي سنة تسع وَخمسين اغتنم نور الدّين خلو الشَّام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فَضرب مَعَهم المصاف فرزقه الله تَعَالَى الانتقام مِنْهُم فأسرهم وقتلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وَوَقع فِي الإسار إبرنس أنطاكية وقومص طرابلس وَابْن لجوسلين ودوك الرّوم وَذَلِكَ فِي رَمَضَان وَقَالَ فِي = الخريدة = كَانَت نوبَة البقيعة نوبَة عَظِيمَة على الْمُسلمين وأفلت نور الدّين فِي قل من عسكره ثمَّ كسر الإفرنج بعد ثَلَاثَة أشهر على حارم وَقتل فِي معركة وَاحِدَة مِنْهُم عشرُون ألفا وَأسر من نجا وَأخذ القومص والإبرنس والدوقس وَجَمِيع مُلُوكهمْ وَكَانَ منحا عَظِيما وفتحا مُبينًا قَالَ ابْن الْأَثِير وَالسَّبَب فِي هَذَا الْفَتْح أَن نور الدّين لما عَاد مُنْهَزِمًا على مَا سبق من غَزْوَة نَاحيَة حصن الأكراد اقبل على الْجد وَالِاجْتِهَاد والاستعداد للْجِهَاد وَالْأَخْذ بثاره وغزو الْعَدو فِي عقر دَاره وليرتق ذَلِك الفتق ويمحو سمة الوهن وَيُعِيد رونق الْملك فراسل أَخَاهُ قطب الدّين بالموصل وفخر الدّين قرا أرسلان بالحصن وَنجم الدّين ألبي بماردين وَغَيرهم من أَصْحَاب الْأَطْرَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أما قطب الدّين أتابك فَإِنَّهُ جمع عساكره وَسَار مجدا وعَلى مُقَدّمَة عسكره زين الدّين نَائِبه واما فَخر الدّين قرا أرسلان فَإِنَّهُ بَلغنِي عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ خواصه على أَي شَيْء عزمت فَقَالَ على الْقعُود فَإِن نور الدّين قد تحشف من كَثْرَة الصَّوْم وَالصَّلَاة فَهُوَ يلقِي نَفسه وَالنَّاس مَعَه فِي المهالك وَكلهمْ وَافقه على ذَلِك فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَمر بالنداء فِي الْعَسْكَر بالتجهز للغزاة فَقَالَ لَهُ أُولَئِكَ مَا عدا مِمَّا بدا فارقناك بالْأَمْس على حَال ونرى الْآن ضدها فَقَالَ إِن نور الدّين قد سلك معي طَرِيقا إِن لم أنجده خرج أهل بلادي عَن طَاعَتي وأخرجوا الْبِلَاد عَن يَدي فَإِنَّهُ كَاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عَن الدُّنْيَا يذكر لَهُم مَا لَقِي الْمُسلمُونَ من الفرنج وَمَا نالهم من الْقَتْل والأسر والنهب ويستمد مِنْهُم الدُّعَاء وَيطْلب مِنْهُم أَن يحثُّوا الْمُسلمين على الْغُزَاة فقد قعد كل وَاحِد من أُولَئِكَ وَمَعَهُ أَتْبَاعه وَأَصْحَابه وهم يقرؤون كتب نور الدّين ويبكون ويلعنونني وَيدعونَ عَليّ فَلَا بُد من إِجَابَة دَعوته ثمَّ تجهز أَيْضا وَسَار إِلَى نور الدّين بِنَفسِهِ وَأما نجم الدّين ألبي فَإِنَّهُ سيّر عسكراً فَلَمَّا اجْتمعت العساكر سَار نَحْو حارم فَنزل عَلَيْهَا وحصرها وَبلغ الْخَبَر إِلَى من بَقِي من الفرنج بالسَّاحل لم يسر إِلَى مصر فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية والقمص صَاحب طرابلس وأعمالها وَابْن جوسلين وَهُوَ من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك مَعَهم وَهُوَ رَئِيس الرّوم ومقدمها وجمعوا من الراجل مَا لَا يَقع عَلَيْهِ الإحصاء قد ملؤوا الأَرْض وحجبوا بقسطلهم السَّمَاء فحرض نور الدّين أَصْحَابه وَفرق نفائس الْأَمْوَال على شجعان الرِّجَال فَلَمَّا قاربه الفرنج رَحل عَن حارم إِلَى ارْتَاحَ وَهُوَ إِلَى لقائهم مرتاح وَإِنَّمَا رَحل طَمَعا أَن يتبعوه ويتمكن مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 إِذا لقوه فَسَارُوا حَتَّى نزلُوا علم عِمَّ وَهُوَ على الْحَقِيقَة تَصْحِيف مَا لقوه من الْغم ثمَّ تيقنوا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم بقتاله وَلَا قدرَة لَهُم على نزاله فعادوا إِلَى حارم وَقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدّين فَلَمَّا تقاربوا اصطفوا لِلْقِتَالِ وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة الْمُسلمين وَبهَا عَسْكَر حلب وفخر الدّين فبددوا نظامهم وزلزلوا أَقْدَامهم وولوا الأدبار وتبعهم الفرنج وَكَانَت تِلْكَ الفرَّة من الميمنة عَن اتِّفَاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مَكْرُوه وَهُوَ أَن يبعدوا عَن راجلهم فيميل عَلَيْهِم من بَقِي من الْمُسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا مِنْهُم الأنوف فَإِذا عَاد فرسانهم من أثر المنهزمين لم يلْقوا رَاجِلا يلجؤون إِلَيْهِ وَيعود المنهزمون فِي آثَارهم وتأخذهم سيوف الله من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم فَكَانَ الْأَمر على مَا دبروا فَإِن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدّين فِي عَسْكَر الْموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم وَلم يمنعوا فِي الطّلب خوفًا على راجلهم من العطب فصادفوا راجلهم على الصَّعِيد معفرين وبدمائهم مضرجين فَسقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا وخضعت رقابهم وذلوا فَلَمَّا رجعُوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فَبَقيَ الْعَدو فِي الْوسط وَقد أحدق بهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب فَحِينَئِذٍ حمي الْوَطِيس وباشر الْحَرْب المرؤوس والرئيس وَقَاتل الفرنج قتال من يَرْجُو بإقدامه النجَاة وحاربوا حَرْب من أيس من الْحَيَاة وَانْقَضَت العساكر الإسلامية عَلَيْهِم انقضاض الصقور على بغاث الطُّيُور فمزقوهم بددا وجعلوهم قدادا فَألْقى الفرنج بِأَيْدِيهِم إِلَى الإسار وعجزوا عَن الْهَزِيمَة والفرار وَأكْثر الْمُسلمُونَ فيهم الْقَتْل وزادت عدَّة الْقَتْلَى على عشرَة آلَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وَأما الأسرى فَلم يحصوا كَثْرَة وَيَكْفِيك دَلِيلا على كثرتهم أَن مُلُوكهمْ أَسرُّوا وهم الَّذين من قبل ذكرُوا وَسَار نور الدّين بعد الكسرة إِلَى حارم فملكها فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان واشار أَصْحَابه عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أنطاكية ليملكها لخلوها مِمَّن يحميها وَيدْفَع عَنْهَا فَلم يفعل وَقَالَ أما الْمَدِينَة فَأمرهَا سهل وَأما القلعة الَّتِي لَهَا فَهِيَ منيعة لَا تُؤْخَذ إِلَّا بعد طول حِصَار وَإِذا ضيقنا عَلَيْهِم ارسلوا إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة وسلموها إِلَيْهِ ومجاورة بيمند أحب إليّ من مجاورة ملك الرّوم وَبث سراياه فِي تِلْكَ الْأَعْمَال والولايات فنهبوا وَسبوا وأوغلوا فِي الْبِلَاد حَتَّى بلغُوا اللاذقية والسويداء وَغير ذَلِك وعادوا سَالِمين ثمَّ إِن نور الدّين أطلق بيمند صَاحب أنطاكية بِمَال جزيل أَخذه مِنْهُ وَأسرى كَثِيرَة من الْمُسلمين أطلقهُم وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم كسر نور الدّين الرّوم والأرمن والفرنج على حارم وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا قَالَ وَوَقع بيمنت فِي أسره فِي نوبَة حارم وَبَاعه نَفسه بِمَال عَظِيم أنفقهُ فِي الْجِهَاد قلت وَبَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى لما التقى الْجَمْعَانِ أَو قبيله انْفَرد تَحت تل حارم وَسجد لرَبه عز وَجل ومرغ وَجهه وتضرع وَقَالَ يَا رب هَؤُلَاءِ عبيدك وهم أولياؤك وَهَؤُلَاء عبيدك وهم أعداؤك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فانصر أولياءك على اعدائك إيش فضول مَحْمُود فِي الْوسط يُشِير إِلَى أَنَّك يَا رب إِن نصرت الْمُسلمين فدينك نصرت فَلَا تمنعهم النَّصْر بِسَبَب مَحْمُود إِن كَانَ غير مُسْتَحقّ للنصر وَبَلغنِي أَنه قَالَ اللَّهُمَّ انصر دينك وَلَا تنصر مَحْمُودًا من هُوَ مَحْمُود الْكَلْب حَتَّى ينصر وَجرى بِسَبَب ذَلِك مَنَام حسن نذكرهُ فِي أَخْبَار سنة خمس وَسِتِّينَ عِنْد رحيل الفرنج عَن دمياط بعد نزولهم عَلَيْهَا وَهَذَا فتح عَظِيم وَنصر عَزِيز أنعم الله بِهِ على نور الدّين وَالْمُسْلِمين مَعَ أَن جَيْشه عامئذ كَانَ مِنْهُ طَائِفَة كَبِيرَة بِمصْر مَعَ شيركوه كَمَا سبق وَهَذَا من عَجِيب مَا وَقع وَاتفقَ فصل فِي ذكر وَزِير الْموصل جمال الدّين الْجواد الممدح ووفاته فِي هَذِه السّنة رَحمَه الله تَعَالَى وَقد ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي مَوَاضِع من مصنفاته وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء عَظِيما حسنا فمما ذكره فِي كِتَابه الموسوم = بنصرة الفترة وعصرة الْفطْرَة فِي أَخْبَار الوزراء السلجوقية = أَن قَالَ ذكر جمال الدّين أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور كَانَ وَالِده من أصفهان يدعى الْكَامِل عَليّ وَهُوَ صَاحب الْوَزير شمس المُلك بن نظام الْملك وَكَانَ أَبوهُ أَبُو مَنْصُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فهّاداً فِي عهد السُّلْطَان ملكشاه بن ألب أرسلان وَابْنه الْكَامِل أديب لَبِيب وزادت أَيَّامه فِي السمو وايامنه فِي النمو حَتَّى تنافس فِي استخدامه الْمُلُوك والوزراء واستضاءت بِرَأْيهِ فِي الْحَوَادِث الآراء وَقد كَانَ زوّج بِنْتا لَهُ بِبَعْض أَوْلَاد أخوال الْعَزِيز يَعْنِي عَم الْعِمَاد الْكَاتِب قَالَ فَاشْتَمَلَ لذَلِك الْعَزِيز رَحمَه الله تَعَالَى على وَلَده جمال الدّين ابي جَعْفَر مُحَمَّد وخرجه فِي الْأَدَب ودرجه فِي الرتب فَأول مَا رتبه فِي ديوَان الْعرض السلطاني المحمودي وَغلب فِي تحليته ذكر الأبلج فنعته الأتراك بالأبلج واستقام فِي نجابته على الْمنْهَج وَاتفقَ انه لما تولى زنكي بن آق سنقر الشَّام تزوج بِامْرَأَة الْأَمِير كندغدي وَوَلدهَا خاصبك بن كندغدي من أُمَرَاء الدولة وَأَبْنَاء المملكة وَهُوَ يسير مَعهَا فرتبه الْعَزِيز لخاصبك وزيرا فَسَار فِي الصُّحْبَة وَكَانَ مقبل الوجاهة مَقْبُول الفكاهة شهي الهشاشة بهي البشاشة فتوفرت منى زنكي على منادمته وَقصر صباحه ومساءه على مساهمته وعول عَلَيْهِ فِي آخر عمره فِي إشراف ديوانه وَزَاد المَال وزان الْحَال بتمكينه ومكانه فَلم يظْهر لجمال الدّين فِي زمَان زنكي جود وَلَا عرف لَهُ مَوْجُود فَإِنَّهُ كَانَ يقتنع بأقواته وتزجية أوقاته وَيرْفَع جَمِيع مَا يحصل لَهُ إِلَى خزانَة زنكي اسْتِبْقَاء لجاهه واستعلاء بِهِ على اشباهه فمكنه زنكي من أَصْحَاب ديوانه فَمنهمْ من استنصر بإساءته وَمِنْهُم من انْتفع بإحسانه وَلما قتل زنكي صَار للدولة الأتابكية ملاذا وللبيت الآق سنقري معَاذًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 واستوزره الْأَمِير غَازِي بن زنكي وآزره عَليّ كوجك على وزارته وَحلف لَهُ على مظاهرته ومظافرته وَجرى بَين جمال الدّين الْوَزير وَبَين زين الدّين عَليّ كوجك وَبَين سيف الدّين غَازِي التعاقد على التعاضد والتعاهد على التساعد وَتَوَلَّى جمال الدّين وزارة الْموصل وَاسْتولى فَعَاشَ بنداه الْجُود وعشا إِلَى نَادِيه الْوُفُود وعادت بِهِ الْموصل قبْلَة الإقبال وكعبة الآمال فأنارت مطالع سعوده وسارت فِي الْآفَاق صنائع جوده وَعمر الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَشَمل بِالْبرِّ أهلهما وَجمع بالأمن شملهما وأجرى بَحر السماح ونادى حيّ على الْفَلاح فصاحت بأفضاله أَلْفَاظ الفصاح وَأتوا إِلَيْهِ من كل فج عميق وَقصد من كل بلد سحيق وقصده العظماء ومدحه الشُّعَرَاء وَمِمَّنْ وَفد إِلَيْهِ أَبُو الفوارس سعد بن مُحَمَّد بن الصيفي الْمَعْرُوف بحيص بيص قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ فِيهِ قصيدة أَولهَا (يَا للصوارم والرماح الذبل ... نصرا وَمن أنجدتما لم يخذل) (لَو شئتما ومشيئة بِمَشِيئَة ... جاد الزَّمَان وبالعلا لم يبخل) (فاقني فخارك يَا مجاشع واعلمي ... أَنِّي لكم من همتي فِي جحفل) (أَنا فَارس الْيَوْمَيْنِ يَوْم مقَالَة ... ووغى أصُول بصارمي وبمقولي) (ظلمت فضائلي المقاول مِثْلَمَا ... ظلمت جمال الدّين مأوى العُيَّل) (مدحوه كي يحووا مَنَاقِب نَفسه ... فَطَمَتْ فسالت بالمدائح من عل) (فَأتيت ابذل مَا اسْتَطَعْت وَمن يرد ... نقل الخضم إِلَى المزادة يخجل) (شمس من الْإِحْسَان عَم ضياؤها ... بل آيَة جَاءَت بِحجَّة مُرْسل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 (يُعْطي الجزيل لسائلي معروفه ... ويجود بالنعمى إِذا لم يسْأَل) (وتزيده شوس الخطوب طلاقة ... فَيكون أبسم مَا يرى فِي المعضل) (ثقُلت بِهِ الْأَعْنَاق من منن الندى ... فالهام مطرقة لذاك المثقل) (فَإِذا تلاقي النَّاس كَانَ حَدِيثهمْ ... عَن كل جفن بالحجالة مسدل) (أسراء مَعْرُوف الْوَزير فكلهم ... عاف ترَاهُ مُطلقًا كمكبل) (من سَمَرْقَنْد إِلَى تهَامَة شَاهد ... فضل الْجمال على الحيا المتهلل) (السحب تمطر مَا تظل وجوده ... يسري وَدَار مقَامه بالموصل) (وتقر عين مُحَمَّد بِمُحَمد ... محيي دريسي علمه والمنزل) (معمار مرقده وحافظ دينه ... ومعين أمته بجود مُسبل) (جعل الْمَدِينَة مصر ريف آهلا ... نشوان يمرح بالنعيم المخضل) (فَكَأَنَّهَا بِالْخصْبِ من قرباته ... بلد على شط الْفُرَات السلسل) (فَلَو انه فِي عصره نزلت لَهُ ... فِي مدحه سُور الْكتاب الْمنزل) (عبد أخٌ فِي ضَيفه ووداده ... لَا يَسْتَحِيل وَسيد فِي المحفل) (خرق يناط قَمِيصه وَرِدَاؤُهُ ... بعباب زخار وهضبة يذبل) وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَكنت أَنا فِي ذَلِك الْعَهْد متفقها بِبَغْدَاد وَاتفقَ حضوري بالموصل فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة فَحَضَرت عِنْد جمال الدّين بالجامع فِي جمعتين وتكلمت عِنْده مَعَ الْفُقَهَاء فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَمِمَّا مدحته بِهِ قصيدة أَولهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 (أظنهم وَقد عزموا ارتحالا ... ثنوا عَنَّا جمالا لَا جمالا) (سروا وَالصُّبْح مبيضٌ الْحَوَاشِي ... فَلَمَّا حَال عهد الْوَصْل حَالا) (هم اعتادوا الملال فَكيف ملوا ... وصالهم وَمَا ملوا الملالا) (أحادي عيسهم بِاللَّه رفقا ... فَإِن السّير اورثها الكلالا) (وعُج نَحْو الْأَرَاك بهَا فَإِنِّي ... أرَاهُ لِاجْتِمَاع الشمل فالا) (سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وحيَّا بالحمى تِلْكَ التلالا) (سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وَحيا بالحمى تِلْكَ التلالا) (أخلائي وَهل فِي النَّاس خل ... بِهِ أُخْلي من الأحزان بَالا) (لَئِن لم أشف صَدْرِي من حسودي ... وَلم أذق العدى دَاء عضالاً) (فَلَا أدْركْت من أدبي مرَادا ... وَلَا صادفت من حسبي منالا) (وَلَا وخدت إِلَيْكُم بِي جِمال ... وَلَا واليت مَوْلَانَا الجَمالا) (هُوَ المغنى إِذا مَا الْمَرْء أقوى ... هُوَ المنجي إِذا مَا الْخطب هالا) (وقائلة أَفِي الدُّنْيَا كريم ... سواهُ فَقلت لَا وَأبي الْعلَا لَا) (أطلت على الورى كرما وفخرا ... كَذَلِك من حوى هذَيْن طالا) (وحزت الْمجد عَن كسب وإرث ... فيا صدر الورى حزت الكمالا) (خصصت بِكُل منقبة وَفضل ... تَعَالَى من حباك بِهِ تَعَالَى) قلت وَقد أَكثر الشُّعَرَاء فِي مدحه مِنْهُم العرقلة لَهُ من قصيدة (يهوى تجنيه والصدود كَمَا ... يهوى الْمَعَالِي مُحَمَّد بن عَليّ) (جمال دين الْإِلَه خير فَتى ... للرزق أقلامه وللأجل) (معطي الْقرى والقرى لقاصده ... من غير من وَالْخَيْل والخول) (مثل فتوح الْفَارُوق نائله ... شرقا وغربا فِي السهل والجبل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 (من قَالَ لم يحو ذَا ويسكن ذِي ... اصبح مِمَّا يَقُول فِي خجل) (مُحَمَّد حَاتِم الْكِرَام كَمَا ... سميه كَانَ خَاتم الرُّسُل) وَفِيه يَقُول أَحْمد بن مُنِير من قصيدة (كسا الْحَرَمَيْنِ لبسة عبد شمس ... وهَاشِم غرتي نسل الْخَلِيل) (وللبلد الْأمين أجدَّ أمنا ... تكنَّف مثله جدث الرَّسُول) (عشيتم يَا وُلَاة الْأَمر عمَّا ... أتيح لَهُ من الْأَثر الْجَمِيل) (وطار لَهَا وأشفقتم فَشد الْيَدَيْنِ ... على عُرى الْمجد الأثيل) (بيُوت بالحجاز مقدسات ... رَمَاهَا الدَّهْر بالخطب الْجَلِيل) (وَكَانَ أذا لَهُنَّ فصاب صونا ... لمن آوته من ولد البتول) (مآثر باقيات يَوْم يجنى الْمقَال ... ويجتنى طيب المقيل) (وَكم للموصل الحدباء مِمَّا ... تُنيل يَدَاهُ من ريف ونيل) (بَرُود الصفح ملتهب الْحَوَاشِي ... مهيب الْبَطْش فرَّاس الدُّخُول) وَلأبي الْمجد بن قسيم الْحَمَوِيّ فِيهِ من قصيدة (أغر تبصر مِنْهُ النَّاس فِي رجل ... وَاللَّيْث فِي بشر والبدر فِي غضن) (سما بهمتَّه فِي المكرمات إِلَى ... علياء تقصر عَنْهَا همة الزَّمن) (يلقاك واضحَ ليل الْفِكر رَاجِح نيل ... الْكَفّ طاهرَ ذيل السِّرّ والعلن) (ماضي الْعَزِيمَة مَيْمُون النقيبة رئبال ... الكتيبة عين الْقَائِل اللسن) (إِذا تكلم واستجليت غرته ... فِي محفل رحت حَالي الْعين وَالْأُذن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 (كَأَن فِي الدست مِنْهُ حِين تنظره ... شمس النَّهَار وَصوب الْعَارِض الهتن) قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة وَهِي سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة توفّي الْوَزير جمال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور الْأَصْفَهَانِي وَكَانَ قد خدم الشَّهِيد فولاه نَصِيبين وَظَهَرت كِفَايَته فأضاف إِلَيْهِ الرحبة فأبان عَن كِفَايَة وعفة وَكَانَ من خواصه فَجعله مشرف مَمْلَكَته كلهَا وَحكمه تحكيما لَا مزِيد عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ وَزِير الشَّهِيد وَالْحَاكِم فِي بِلَاده ضِيَاء الدّين بن الكَفَرْتُوثي يَحْكِي عَن جمال الدّين قَالَ كَانَ يدْخل إِلَى الشَّهِيد أتابك قبلي وَيخرج بعدِي وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن قتل الشَّهِيد ثمَّ وزر لوَلَدي الشَّهِيد سيف الدّين ثمَّ قطب الدّين وَكَانَ بَينه وَبَين زين الدّين عَليّ كوجك عهود ومواثيق على المصافاة والاتفاق وَكَانَ أَصْحَاب زين الدّين يكرهونه ويقعون فِيهِ عِنْد زين الدّين فنهاهم وَكَانَت الْموصل فِي أَيَّامه ملْجأ لكل ملهوف ومأمنا لكل خَائِف فسعى بِهِ الحساد إِلَى قطب الدّين حَتَّى أوغروا صَدره عَلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ إِنَّه يَأْخُذ أموالك فَيتَصَدَّق بهَا فَلم يُمكنهُ أَن يغيِّر عَلَيْهِ شَيْئا بِسَبَب اتفاقه مَعَ زين الدّين فَوضع على زين الدّين من غَيره عَن مصافاته ومؤاخاته فَقبض عَلَيْهِ قطب الدّين وحبسه بقلعة الْموصل ثمَّ نَدم زين الدّين على الْمُوَافقَة على قَبضه لِأَن خَواص قطب الدّين وَأَصْحَابه كَانُوا يخَافُونَ جمال الدّين فَلَمَّا قُبض تبَّسطوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي على خلاف غَرَض زين الدّين فَبَقيَ جمالُ الدّين فِي الْحَبْس نَحوا من سنة ثمَّ مرض وَمضى لسبيله عَظِيم الْقدر والخطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 كريم الْورْد والصدر عديم النظير فِي سَعَة نفس لم يُروْ فِي كتب الْأَوَّلين أَن أحدا من الوزراء اتسعت نَفسه ومروءته لما اتسعت لَهُ نفس جمال الدّين فَلَقَد كَانَ عَظِيم الفتوة كَامِل الْمَرْوَة قَالَ ابْن الْأَثِير حكى لي جمَاعَة عَن الشَّيْخ أبي الْقَاسِم الصُّوفِي وَهُوَ رجل من الصَّالِحين كَانَ يتَوَلَّى خدمَة جمال الدّين فِي محبسه قَالَ لم يزل الْجمال مَشْغُولًا بِأَمْر آخرته مُدَّة حَبسه وَكَانَ يَقُول كنت أخْشَى أَن أُنقل من الدست إِلَى الْقَبْر قَالَ فَلَمَّا مرض قَالَ لي بعض الْأَيَّام يَا أَبَا الْقَاسِم إِذا جَاءَ طَائِر أَبيض إِلَى الدَّار فعرِّفني فَقلت فِي نَفسِي قد اخْتَلَط الرجل فَلَمَّا كَانَ الْغَد أَكثر السُّؤَال عَن ذَلِك الطَّائِر وَإِذا طَائِر ابيض لم أر مثله قد سقط فَقلت لَهُ جَاءَ الطَّائِر فَاسْتَبْشَرَ ثمَّ قَالَ جَاءَ الْحق وَأَقْبل على الشَّهَادَة وَذكر الله تَعَالَى وَتُوفِّي فَلَمَّا توفّي طَار ذَلِك الطَّائِر قَالَ فَعلمت أَنه رأى شَيْئا فِي مَعْنَاهُ وَدفن بالموصل نَحْو سنة وَكَانَ قد قَالَ للشَّيْخ أبي الْقَاسِم إِن بيني وَبَين أَسد الدّين شيركوه عهدا من مَاتَ منا قبل صَاحبه حمله الْحَيّ إِلَى الْمَدِينَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فدفنه بهَا فِي التربة الَّتِي عملتها فَإِن أَنا مت فَامْضِ إِلَيْهِ وَذكره فَلَمَّا توفّي سَار الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم إِلَى أَسد الدّين فِي هَذَا الْمَعْنى فَأعْطَاهُ مَالا صَالحا ليحمله بِهِ إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة وَأمر أَن يحجّ مَعَه جمَاعَة من الصُّوفِيَّة وَمن يقْرَأ بَين يَدي تابوته عِنْد النُّزُول والرحيل وقدوم مَدِينَة تكون فِي الطَّرِيق وينادون فِي الْبِلَاد الصَّلَاة على فلَان فَفَعَلُوا ذَلِك فَكَانَ يصلى عَلَيْهِ فِي كل مَدِينَة خلق كثير فَلَمَّا كَانَ فِي الْحِلَّة اجْتمع النَّاس للصَّلَاة عَلَيْهِ فَإِذا شَاب قد ارْتَفع على مَوضِع عَال ونادى بِأَعْلَى صَوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 (سرى نعشه فَوق الرّقاب وطالما ... سرى بره فَوق الركاب ونائله) (يمر على الْوَادي فتثني رماله ... عَلَيْهِ وَفِي النادي فتبكي أرامله) فَلم ير باكياً أَكثر من ذَلِك الْيَوْم ثمَّ وصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة فطافوا بِهِ حول الْكَعْبَة وصلوا عَلَيْهِ بِالْحرم وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَة فصلوا عيله أَيْضا ودفنوه بالرباط الَّذِي أنشأه بهَا وَبَينه وَبَين قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر ذِرَاعا قلت كَذَا قَالَ ابْن الْأَثِير وَقد رَأَيْت الْمَكَان وَلَعَلَّه أَرَادَ الْحَائِط الشَّرْقِي من مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نفس الْقَبْر الشريف زَاده الله شرفا وَصلى على ساكنه ثمَّ قَالَ كَانَ جمال الدّين رَحمَه الله أسخى النَّاس وَأَكْثَرهم عَطاء وبذلا لِلْمَالِ رحِيما بِالنَّاسِ متعطفاً عَلَيْهِم عادلا فيهم فَمن أَعماله الْحَسَنَة أَنه جدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 بِنَاء مَسْجِد الْخيف بمنى وَغرم عَلَيْهِ أَمْوَالًا عَظِيمَة وَبنى الْحجر بِجَانِب الْكَعْبَة وَرَأَيْت اسْمه عَلَيْهِ ثمَّ غير وَبني غَيره سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة وزخرف الْكَعْبَة بِالذَّهَب والنقرة فَكل مَا فِيهَا من ذَلِك فَهُوَ عمله إِلَى سنة تسع وست مئة وَلما أَرَادَ ذَلِك أرسل إِلَى الإِمَام المقتفي لأمر الله هَدِيَّة جليلة حَتَّى أذن لَهُ فِيهِ وَأرْسل إِلَى أَمِير مَكَّة عِيسَى بن أبي هَاشم خلعا سنية وهدية كَثِيرَة حَتَّى مكنه مِنْهُ وَعمر أَيْضا الْمَسْجِد الَّذِي على جبل عَرَفَات وَعمل الدرج الَّتِي يصعد فِيهَا إِلَيْهِ وَكَانَ النَّاس يلقون شدَّة فِي صعودهم وَعمل بِعَرَفَات مصانع للْمَاء وأجرى المَاء إِلَيْهَا من نعْمَان فِي طَرِيق معمولة تَحت الْجَبَل مَبْنِيَّة بالكلس فغرم على ذَلِك مَالا كثيرا وَكَانَ يُعْطي أهل نعْمَان كل سنة مَالا كثيرا ليتركوا المَاء يجْرِي إِلَى المصانع أَيَّام مقَام الْحجَّاج بِعَرَفَات فَكَانَ النَّاس يَجدونَ بِهِ رَاحَة عَظِيمَة قَالَ وَمن أعظم الْأَعْمَال الَّتِي عَملهَا نفعا أَنه بنى سوراً على مَدِينَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا كَانَت بِغَيْر سور ينهبها الْأَعْرَاب وَكَانَ أَهلهَا فِي ضنك وضر مَعَهم رَأَيْت بِالْمَدِينَةِ إنْسَانا يُصَلِّي الْجُمُعَة فَلَمَّا فرغ ترحم على جمال الدّين ودعا لَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَن سَبَب ذَلِك فَقَالَ يجب على كل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بِالْمَدِينَةِ أَن يَدْعُو لَهُ لأَنا كُنَّا فِي ضرّ وضيق ونكد عَيْش مَعَ الْعَرَب لَا يتركون لِأَحَدِنَا مَا يواريه ويشبع جوعته فَبنى علينا سوراً احتمينا بِهِ مِمَّن يريدنا بِسوء فاستغنينا فَكيف لَا نَدْعُو لَهُ قَالَ وَكَانَ الْخَطِيب بِالْمَدِينَةِ يَقُول فِي خطبَته اللَّهُمَّ صُنْ حَرِيم من صان حرم نبيك بالسور مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور قَالَ فَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا هَذِه المكرمة لكفاه فخرا فَكيف وَقد كَانَت صدقاته تجوب شَرق الأَرْض وغربها وَسمعت عَن مُتَوَلِّي ديوَان صدقاته الَّتِي يُخرجهَا على بَاب دَاره للْفُقَرَاء سوى الإدرارات والتعهدات قَالَ كَانَ لَهُ كل يَوْم مئة دِينَار أميرية يتَصَدَّق بهَا على بَاب دَاره قَالَ وَمن أبنيته العجيبة الَّتِي لم ير النَّاس مثلهَا الجسر الَّذِي بناه على دجلة عِنْد جَزِيرَة ابْن عمر بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد والرصاص والكلس إِلَّا أَنه لم يفرغ لِأَنَّهُ قُبض قبل فَرَاغه وَبنى أَيْضا جِسْرًا على نهر الأريار عِنْد الجزيرة أَيْضا وَبنى الرَّبْط بالموصل وسنجار ونصيبين وَغَيرهَا وقصده النَّاس من أقطار الأَرْض ويكفيه أَن صدر الدّين الخجندي رَئِيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بأصبهان وَابْن الْكَافِي قَاضِي قُضَاة همذان قصداه فَأخْرج عَلَيْهِمَا مَالا جزيلا وَكَذَلِكَ غَيرهمَا من الصُّدُور وَالْعُلَمَاء ومشايخ الصُّوفِيَّة وَصَارَت الْموصل فِي أَيَّامه مقصدا وملجأ وَكَانَ أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ إِخْرَاج المَال فِي الصَّدقَات وَكَانَ يضيق على نَفسه وبيته ليتصدق حكى لي وَالِدي قَالَ كنت يَوْمًا عِنْده وَقد أحضر بَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يَدَيْهِ قندز ليُعمل على وبر ليلبسه بِخَمْسَة دَنَانِير فَقَالَ هَذَا الثّمن كثير اشْتَروا لي قندزا بدينارين وتصدقوا بِثَلَاثَة دَنَانِير قَالَ فراجعناه غير مرّة فَلم يفعل قَالَ وَحكى لي من أَثِق إِلَيْهِ من الْعُدُول بالموصل أَن الأقوات تَعَذَّرَتْ فِي بعض السنين بهَا وغلت الأسعار وَكَانَ بالموصل رجل من الصَّالِحين يُقَال لَهُ الشَّيْخ عمر الملاء فَأحْضرهُ جمال الدّين وَسلم إِلَيْهِ مَالا وَقَالَ لَهُ تخرج هَذَا المَال على مُسْتَحقّه وَكلما فرغ أرسل إِلَيّ لأنفذ غَيره فَلم تمض إِلَّا أَيَّام يسيرَة حَتَّى فرغ ذَلِك المَال لِكَثْرَة المحتاجين فأنفذ لَهُ شَيْئا آخر ففنى ثمَّ أرسل يطْلب مَا يُخرجهُ فَقَالَ جمال الدّين للرسول وَالله مَا عِنْدِي شَيْء وَلَكِن خُذ هَذِه المحافر الَّتِي فِي دَاري فبيعوها وتصدقوا بِثمنِهَا إِلَى أَن يأتينا شَيْء آخر فنرسله إِلَى الشَّيْخ عمر فبيعت المحافر وتصدقوا بِثمنِهَا وعرفوه ذَلِك فَلم يكن عِنْده مَا يُرْسِلهُ فَأعْطَاهُ ثِيَابه الَّتِي كَانَ يلبسهَا مَعَ الْعِمَامَة الَّتِي كَانَت على رَأسه وَأرْسل الْجَمِيع وَقَالَ للرسول قل للشَّيْخ لَا يمْتَنع من الطّلب فَهَذِهِ أَيَّام مواساة فَلَمَّا وصلت الثِّيَاب إِلَى الشَّيْخ عمر بَكَى وباعها وَتصدق بِثمنِهَا قَالَ وَحكى لي بعض الصُّوفِيَّة مِمَّن كَانَ يصحب الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ شيخ الشُّيُوخ بالموصل قَالَ أحضرني الشَّيْخ فَقَالَ لي انْطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 إِلَى مَسْجِد الْوَزير وَهُوَ بِظَاهِر الْموصل واقعد هُنَاكَ فَإِذا أَتَاك شَيْء فاحفظه إِلَى أَن أحضر عنْدك فَفعلت وَإِذا قد اقبل جمع كثير من الحمالين يحملون أحمالا من النصافي والخام وَإِذا قد جَاءَ نَائِب جمال الدّين مَعَ الشَّيْخ ومعهما قماش كثير وَثَمَانِية عشر ألف دِينَار وعدة كَثِيرَة من الْجمال فَقَالَ لي تَأْخُذ هَذِه الْأَحْمَال وتسير إِلَى الرحبة فتوصل هَذِه الرزمة وَهَذَا الْكتاب إِلَى متوليها فلَان فَإِذا أحضر لَك فلَانا الْعَرَبِيّ فتوصل إِلَيْهِ هَذِه الرزمة الْأُخْرَى وَهَذَا الْكتاب وتسير مَعَه فَإِذا أوصلك إِلَى فلَان الْعَرَبِيّ فتوصل إِلَيْهِ هَذِه الرزمة وَهَذَا الْكتاب وَهَكَذَا إِلَى الْمَدِينَة على ساكنها السَّلَام توصَل إِلَى وَكيلِي فلَان هَذِه الْأَحْمَال وَهَذِه الكسوات وَالْمَال الَّذِي عَلَيْهِ اسْم الْمَدِينَة ليخرجها بِمُقْتَضى هَذِه الجريدة ثمَّ تَأْخُذ الْبَاقِي الَّذِي عَلَيْهِ اسْم الْمَدِينَة ليخرجها بِمُقْتَضى هَذِه الجريدة ثمَّ تَأْخُذ الْبَاقِي الَّذِي عَلَيْهِ اسْم مَكَّة وتسير إِلَيْهَا فَيتَصَدَّق بِهِ وَكيلِي بهَا بِمُوجب الجريدة الْأُخْرَى قَالَ فسرنا كَذَلِك إِلَى وَادي القُرى فَرَأَيْنَا بِهِ نَحْو مئة جمل تحمل الطَّعَام إِلَى الْمَدِينَة وَقد مَنعهم خوف الطَّرِيق فَلَمَّا رأونا سَارُوا مَعنا إِلَيْهَا فوصلناها وَالْحِنْطَة بهَا كل صَاعَيْنِ بِدِينَار مصري والصاع خَمْسَة عشر رطلا بالبغدادي فَلَمَّا رَأَوْا الطَّعَام وَالْمَال اشْتَروا كل سَبْعَة آصَع بِدِينَار فَانْقَلَبت الْمَدِينَة بِالدُّعَاءِ لَهُ ثمَّ سرنا إِلَى مَكَّة فَفَعَلْنَا مَا أمرنَا قَالَ وَحكى لي وَالِدي قَالَ رَأَيْت جمال الدّين وَقد حضر عِنْده رجل فَقِيه قبل أَن يصير وزيرا فَطلب مِنْهُ شَيْئا وَتردد إِلَيْهِ عدَّة أَيَّام ثمَّ انْقَطع فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سَافر فشق ذَلِك عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ هَكَذَا تَنْصَرِف الْأَحْرَار عَن دور الْكلاب وردد ذَلِك غير مرّة ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سَار نَحْو ماردين فَأرْسل إِلَيْهِ خلعة وَنَفَقَة إِلَى ماردين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قَالَ وَلَو رُمت شرح مُفْرَدَات أَعماله لأطلت وأضجرت وَهِي ظَاهِرَة لَا تحْتَاج إِلَى بَيَان فَلهَذَا تركنَا أَكْثَرهَا قلت وَقد ذكره الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن منقذ فِي = كتاب الِاعْتِبَار = فَقَالَ اجْتمعت بِجَمَال الدّين فِي الْموصل سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة وَأَنا مُتَوَجّه إِلَى الْحَج وَكَانَت بيني وَبَينه مَوَدَّة قديمَة وَعشرَة ومؤانسة فَعرض عليّ الدُّخُول إِلَى دَار فِي الْموصل فامتنعت وَنزلت بخيمتي على الشط فَكَانَ مُدَّة مقَامي كل يَوْم يركب يجوز على الجسر نَحْو نِينَوَى وأتابك قد ركب إِلَى الميدان وَينفذ إليّ يَقُول أركب فَأَنا وَاقِف أنتظرك فأركب فأسير أَنا وَهُوَ فنتحدث فَوجدت يَوْمًا مِنْهُ خلْوَة من أَصْحَابِي فَقلت لَهُ فِي نَفسِي شَيْء يتَرَدَّد من حَيْثُ اجْتَمَعنَا أشتهي أَن أقوله لَك وَمَا يتَّفق لي خلْوَة وَقد خلونا السَّاعَة قَالَ قل قلت أَقُول لَك مَا قَالَه الشريف الرضي (مَا ناصحتك خفايا الود من أحد ... مَا لم يصبك بمكروه من العذل) (مودتي لَك تأبى أَن تسامحني ... بِأَن أَرَاك على شَيْء من الزلل) وَقد بسطت يدك فِي إِنْفَاق المَال فِي الصَّدقَات ووجوه الْبر وَالْمَعْرُوف والسلاطين مَا يحْتَملُونَ إِخْرَاج المَال وَلَا تصبر نُفُوسهم عَلَيْهِ وَلَو أَن الْإِنْسَان يُخرجهُ من مِيرَاثه وَهَذَا الَّذِي أهلك البرامكة فَانْظُر لنَفسك كَيفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الْمخْرج مِمَّا قد دخلت فِيهِ فَأَطْرَقَ سَاعَة وَقَالَ جَزَاك الله خيرا لَكِن الْأَمر قد عَبَر عَمَّا تخافه ففارقته وسرت إِلَى الْحجاز وعدت من مَكَّة على طَرِيق الشَّام ونكب جمال الدّين وَمَات فِي الْحَبْس قلت ولعلم الدّين الْحسن بن سعيد الشاتاني فِي هَذَا الْوَزير الْجواد لما نكب (مَا حط قدرك من أوج الْعلَا الْقدر ... كلا وَلَا غيرت أفعالك الْغَيْر) (أَنْت الَّذِي عَم أهل الأَرْض نائله ... وَلم ينل شأوه فِي سؤدد بشر) (سَارَتْ صفاتك فِي الْآفَاق واتضحت ... وَصدق السّمع عَنْهَا مَا رأى الْبَصَر) (فاصبر لصرف زمَان قد منيت بِهِ ... فآخر الصَّبْر يَا طود النُّهى الظفر) (فَمَا ترى أحدا فِي الْخلق يسلم من ... صروف دهر لَهُ فِي أَهله غير) (سعوا بقصدك سرا لَو استتب لَهُم ... وَلَو سعوا نَحوه جَهرا لما قدرُوا) (لَوْلَا الْأَمَانِي الَّتِي تحيا النُّفُوس بهَا ... لمتّ من لوعة فِي الْقلب تستعر) وَمِنْهَا فِي ذكر الشَّيْخ عمر الملاء (واصدق النَّاس فِي حفظ العهود إِذا ... ميزت بالفكر أَحْوَال الورى عُمَر) (الزاهدُ العابدُ البَرُّ التقي وَمن ... يزوره وَيُقَوِّي أزره الْخضر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَقَالَ العرقلة يرثى جمال الدّين الْوَزير والصالح بن رزيك (لَا خير فِي الدُّنْيَا وَلَا أَهلهَا ... بعد جمال الدّين والصالح) (بحران لَوْلَا دمع باكيهما ... مَا كَانَ مَاء الْبَحْر بالمالح) قَالَ ابْن الْأَثِير وَقَالَ وَالِدي كنت أرى من الْوَزير جمال الدّين فِي الْأَيَّام الشهيدية من الْكِفَايَة وَالنَّظَر فِي صَغِير الْأُمُور وكبيرها والمحاققة فِيهَا مَا يدل على تمكنه من الْكِفَايَة فَلَمَّا وصل الْأَمر إِلَى الْملك قطب الدّين مودود بن أتابك الشَّهِيد وجمال الدّين وزيره حِينَئِذٍ وَقد تمكن زين الدّين عليّ بن بكتكين فِي الدولة تمَكنا عَظِيما وَتقدم عِنْد قطب الدّين جمَاعَة من أَصْحَابه فَكَانَ جمال الدّين مَعَ تمكنه وعلو مَحَله يهمل بعض الْأُمُور قَالَ فَقلت لَهُ يَوْمًا أَيْن تِلْكَ الْكِفَايَة الَّتِي كُنَّا نرَاهَا مِنْك فِي الْأَيَّام الشهيدية مَا أرى الْآن مِنْهَا شَيْئا فَقَالَ لي والآن مَا عِنْدِي كِفَايَة فَقلت مَا هَذَا الْعَمَل من ذَلِك بِشَيْء فَقَالَ أَنْت صبي غرٌّ لَيست الْكِفَايَة عبارَة عَن فعل وَاحِد فِي كل زمَان إِنَّمَا الْكِفَايَة أَن يسْلك الْإِنْسَان فِي كل زمَان مَا يُنَاسِبه ذَلِك الْوَقْت كَانَ لنا صَاحب مُتَمَكن قوي الْعَزْم لَا يتجاسر أحد على الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وَلَا يَتلون بأقوال أَصْحَابه فحفظناه فَكَانَ مَا أَفعلهُ هُوَ الْكِفَايَة وَأما الْآن فلنا سُلْطَان غير مُتَمَكن وَهُوَ مَحْكُوم عَلَيْهِ فَهَذَا الَّذِي أَفعلهُ هُوَ الْكِفَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا فتح نور الدّين قلعة بانياس من الفرنج وَكَانَ قد سَار إِلَيْهَا بعد عوده من فتح حارم وَأذن لعسكر الْموصل وديار بكر بِالْعودِ إِلَى بِلَادهمْ وَأظْهر أَنه يُرِيد طبرية فَجعل من بَقِي من الفرنج هَمهمْ حفظهَا وتقويتها فَسَار نور الدّين مجداً إِلَى بانياس لعلمه بقلة من فِيهَا من الحماة الممانعين عَنْهَا ونازلها وضيق عَلَيْهَا وقاتلها وَكَانَ فِي جملَة عسكره أَخُوهُ نصْرَة الدّين أَمِير أميران فَأَصَابَهُ سهم أذهب إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ نور الدّين قَالَ لَهُ لَو كُشف لَك عَن الْأجر الَّذِي أعد لَك لتمنيت أَن تذْهب الْأُخْرَى قلت وَفِي نصْرَة الدّين هَذَا يَقُول أَحْمد بن مُنِير من قصيدة لَهُ (يَا نصْرَة الدّين الَّذِي عزمه ... مِنْهُ ترجى نصْرَة الدّين) (وَابْن الَّذِي زلزل من خَوفه ... مَا بَين أغمات إِلَى الصين) قَالَ ابْن الْأَثِير وجد فِي حصارها وَسمع الفرنج بذلك فَجمعُوا لَهُ فَلم تتكامل عدتهمْ حَتَّى فَتحه الله تَعَالَى على أَن الفرنج كَانُوا قد ضعفوا بقتل رِجَالهمْ بحارم وأسرهم فَملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالا عدَّة وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق وَفِي يَده خَاتم بفص ياقوت من أحسن الْجَوْهَر فَسقط من يَده فِي شعراء بانياس وَهِي كَثِيرَة الْأَشْجَار ملتفة الأغصان فَلَمَّا أبعد من الْمَكَان الَّذِي ضَاعَ فِيهِ الفص علم بِهِ فَأَعَادَ بعض أَصْحَابه فِي طلبه ودلهم على مَكَانَهُ وَقَالَ أَظُنهُ هُنَاكَ ضَاعَ فعادوا إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فوجدوه فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء الشاميين وَأَظنهُ أَحْمد بن مُنِير من جملَة قصيدة يمدحه بهَا ويهنئه بِهَذِهِ الْغُزَاة وعود الفص الْيَاقُوت (إِن يِمتر الشكاك فِيك فَإنَّك الْمهْدي ... مطفئ جَمْرَة الدَّجَّال) (فلعودة الْجَبَل الَّذِي أضللته ... بالْأَمْس بَين غياطل وجبال) (مسترجعاً لَك بالسعادة آيَة ... ردَّتْ مطال الفال غير مطال) (لم يُعْطهَا إِلَّا سُلَيْمَان وَقد ... نلْت الرفاء بموشك الإعجال) (زجر جرى لسرير ملكك أَنه ... كسريره عَن كل جدر عَال) (فَلَو الْبحار السَّبْعَة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه فِي الْحَال) قلت هَذِه الأبيات لِابْنِ مُنِير بِلَا شكّ وَلَكِن فِي غير هَذِه الْغُزَاة فَإِن ابْن مُنِير قد سبق أَنه توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَفتح بانياس كَمَا ترَاهُ فِي سنة سِتِّينَ وَقد قَرَأت فِي ديوَان ابْن مُنِير وَقَالَ يمدحه يَعْنِي نور الدّين ويهنئه بِالْعودِ من غزَاة وضياع فص ياقوت جبل من يَده لاشتغاله بالصيد شراه ألف ومئة دِينَار وَفِي نسخه ووجدان خَاتم ضَاعَ مِنْهُ فِي الصَّيْد قِيمَته ألف ومئة دِينَار وأنشده إِيَّاهَا بقلعة حمص فَذكر القصيدة وأولها (يوماك يَوْم ندى وَيَوْم نزال ... ) يَقُول فِيهَا (أخرست شقشقة الضلال وقدته ... قَود الذلول أطَاع بعد صيال) (ورميت دَار الْمُشْركين بصيلم ... ألقحت فِيهَا الْحَرْب بعد حِيَال) (وسعرت بَين تريبهم وترابهم ... ذعرا يشيب نواصي الْأَطْفَال) (فَوق الخطيم وَقد خطمت زعيمهم ... ضربا سوابقه بِغَيْر توالي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 (ضربا مَلَأت فرنجةً من حرِّه ... رهباً بِهِ سيف الصقالب صالي) (وبفج حارم أَحرمت لقراعهم ... هيم أحلن النّوم غير حَلَال) (عجموا على الجسر الْحَدِيد حديدها ... نبعاً يعاذمه أديرد صال) (زلزلت أَرضهم بِوَقع صواعق ... أعطيننا أمنا من الزلزال) (فِي مأزق شمرت ذيلك تَحْتَهُ ... والنصر فَوْقك مُسبل الأذيال) (فِي دولة غراء محمودية ... سحبت رِدَاء الْحَمد غير مذال) (تنسى الْفتُوح بهَا الْفتُوح وتجتنى ... زُهر الْمقَال بباهر الْأَفْعَال) (لبست بِنور الدّين نور حدائق ... ثمراتهن غرائب الأفضال) (ملك تحجبّ فِي السرير بزأرة ... زرّت حواشيها على رئبال) (تنجاب عَن ذِي لبدتين شذاته ... فِي بردتي بدل من الأبدال) (رفع الرواق بروق أنطاكية ... فَرمى الخليج بمرهق البلبال) (بدر لأَرْبَع عشرَة اقتبس السنا ... من خمس عشرَة سُورَة الْأَنْفَال) (فوز الْمَآل أخاضه مَاء الطلى ... وسواه يُقعده احتيازُ المَال) (متقسم بَين القسيمين الْعلَا ... عَن عَم عَم أَو مخايل خَال) (لَا زلت تطلع من ثنايا جحفل ... يقفو لواءك كاللوى الْمنْهَال) (تغزو فتنهب أَو تؤوب فتنهب العافين ... سلب قِنَا وَكسب نصال) (لَك أَن تطل على الْكَوَاكِب راقيا ولحاسديك بكا على الأطلال) وَمِمَّا يُنَاسب هَذِه السَّعَادَة فِي وجدان الْخَاتم بعد وُقُوعه فِي مَظَنَّة الْهَلَاك والضياع مَا بَلغنِي أَن مُوسَى الْهَادِي لما ولي الْخلَافَة سَأَلَ عَن خَاتم عَظِيم الْقيمَة كَانَ لِأَبِيهِ الْمهْدي فَبَلغهُ أَن أَخَاهُ الرشيد أَخذه فَطَلَبه مِنْهُ فَامْتنعَ فألح عَلَيْهِ فِيهِ فحنق الرشيد وَمر على جسر بَغْدَاد فَرَمَاهُ فِي دجلة فَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي وَولي الرشيد الْخلَافَة أَتَى ذَلِك الْمَكَان بِعَيْنِه وَمَعَهُ خَاتم من رصاص فَرَمَاهُ ثَمَّ وَأمر الغطاسين أَن يلتمسوه فَفَعَلُوا فَاسْتَخْرَجُوا الْخَاتم الأول فعُد ذَلِك من سَعَادَة الرشيد وَبَقَاء ملكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما فتح نور الدّين حصن بانياس كَانَ ولد معِين الدّين أنر الَّذِي سلم بانياس إِلَى الإفرنج قَائِما على رَأسه فَالْتَفت إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ للنَّاس بِهَذَا الْفَتْح فرحة وَاحِدَة وَلَك فرحتان فَقَالَ كَيفَ ذَلِك قَالَ لِأَن الله تَعَالَى الْيَوْم برد جلدَة والدك من نَار جَهَنَّم وَقد تقدم أَنه كَانَ صانع بهَا عَن دمشق لما نزل الفرنج عَلَيْهَا وفيهَا توفّي وَزِير بَغْدَاد عون الدّين أَبُو المظفر يحيى بن مُحَمَّد بن هُبَيْرَة الشَّيْبَانِيّ من بني ذهل بن شَيبَان بن ثَعْلَبَة بن الْحصن وَكَانَ عَالما دينا مُدبرا حنبلي الْمَذْهَب وزر للمقتفي ثمَّ للمستنجد بعده وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا = الإفصاح فِي شرح الْأَحَادِيث الصِّحَاح = وَكَانَ يجمع فِي مَجْلِسه أفاضل الْوَقْت من أَعْيَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والنحاة وَغَيرهم وَيجْرِي بحضرتهم فَوَائِد كَثِيرَة توفّي وَهُوَ ساجد فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَحَد ثَالِث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 عشر جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة ورئيت لَهُ منامات حَسَنَة ومدحه جمَاعَة من الْفُضَلَاء ومولده فِي ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبع مئة بقرية من أَعمال دجيل تعرف بالدور وَهُوَ الَّذِي محا رسوم سلاطين الْعَجم من الْعرَاق وأجلاهم عَن خطتها بِحسن تَدْبيره وَمن كَلَامه لبَعض من كَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ اجْتهد أَن تستر العصاة فَإِن ظُهُور معاصيهم عيب فِي الْإِسْلَام وَأولى الْأُمُور ستر الْعُيُوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَفِيهَا توفّي فتح الدّين بن أَسد الدّين شيركوه أَخُو نَاصِر الدّين وقبره بالمقبرة النجمية إِلَى جَانب قبر ابْن عَمه شاهنشاه بن أَيُّوب فِي قبَّة فِيهَا أَرْبَعَة قُبُور هما الأوسطان مِنْهَا وَفِي هَذِه الْأَخَوَيْنِ نَاصِر الدّين وَفتح الدّين يَقُول العرقلة حسان (لله شبلا أَسد خادر ... مَا فيهمَا جبن وَلَا شح) (مَا أَقبلَا إِلَّا وَقَالَ الورى ... قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَاْلفَتْحُ) وفيهَا سَار نور الدّين أَيْضا إِلَى حصن المنيطرة وَهُوَ للفرنج وَلم يحشد لَهُ وَلَا جمع عساكره إِنَّمَا سَار إِلَيْهِ على غرَّة من الفرنج وَعلم أَنه إِن جمع العساكر حذروا وجمعوا فانتهز الفرصة وَسَار إِلَى المنيطرة وحصرها وجد فِي قتالها وَأَخذهَا عنْوَة وقهراً وَقتل من بهَا وسبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وغنم غنيمَة كَثِيرَة لأَمِنْ من بِهِ فَأَخَذتهم خيل الله بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ وَلم يقدر الفرنج على أَن يجتمعوا لدفعه إِلَّا وَقد ملكه وَلَو علمُوا أَنه جَرِيدَة لأسرعوا وَإِنَّمَا ظنُّوا أَن نور الدّين فِي جمع كثير فَلَمَّا ملكه تفَرقُوا وَأَيِسُوا مِنْهُ هَذَا قَول ابْن الْأَثِير وَذكر القَاضِي ابْن شَدَّاد أَن ذَلِك كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي وَالله أعلم وفيهَا توفّي الجليس بن الْجبَاب بِمصْر قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة القَاضِي الجليس أَبُو الْمَعَالِي عبد الْعَزِيز بن الْحُسَيْن بن الْجبَاب الأغلبي السَّعْدِيّ التَّمِيمِي جليس صَاحب مصر فَضله مَشْهُور وشعره مأثور وَكَانَ أوحد عصره فِي مصره نظما ونثرا ترسلا وشعرا وَمَات بهَا فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَقد أناف على السّبْعين انشدني لَهُ الْأَمِير نجم الدّين بن مصال من قصيدة يَقُول فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 (وَمن عجب أَن السيوف لديهُم ... تحيض دِمَاء وَالسُّيُوف ذُكُور) (وأعجب من ذَا أَنَّهَا فِي أكفهم ... تأججُ نَارا والأكف بحور) قَالَ وأنشدني لَهُ الشريف إِدْرِيس الإدريسي قصيدة سيَّرها إِلَى الصَّالح بن رزيك قبل وزارته يحرضه على إِدْرَاك ثأر الظافر وَكَانَ عَبَّاس وزيرهم قَتله وَقتل أَخَوَيْهِ يُوسُف وَجِبْرِيل يَقُول فِيهَا (أصادفهُم قولا وغيباً ومشهداً ... نحوهم على عمد بِفعل أعادي) (فَأَيْنَ بِنور رزيك عَنْهَا ونصرهم ... وَمَا لَهُم من مَنْعَة وذياد) (تدارك من الْإِيمَان قبل دثُورِه ... حشاشة نفس آذَنت بنفاد) (فَلَو عَايَنت عَيْنَاك بِالْقصرِ يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 (فمزق جموع المارقين فَإِنَّهَا ... بقايا زروع آذَنت بحصاد) وَله فِيهِ من أُخْرَى فِي هَذِه الْحَادِثَة (وَلما ترامى الْبَرْبَرِي بجهله ... إِلَى فتكة مَا رامها قطّ رائم) (ركبت إِلَيْهِ متن عزمتك الَّتِي ... بأمثالها تُلقى الخطوب العظائم) (أعدت إِلَيْهِم ملكهم بعد مَا لوى ... بِهِ غَاصِب حق الْإِمَامَة ظَالِم) وأنفذ إِلَيْهِ فِي الْمَعْنى (أعدت إِلَى جسم الوزارة روحها ... وَمَا كَانَ يُرْجَى بعثها ونشورها) (أَقَامَت زَمَانا عِنْد غَيْرك طامثاً ... فَهَذَا الأوان قرؤها وطهورها) (من الْعدْل أَن يجتابها مستحقُّها ... ويخلعها مَرْدُودَة مستعيرها) (إِذا ملك الْحَسْنَاء من لَيْسَ كفأها ... أَشَارَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاق مشيرها) وَله يشكو طَبِيبا (وأصل بليتي من قد غزاني ... من السَّقَم الملحّ بعسكرين) (طَبِيب طبُّه كغراب بَين ... يفرق بَين عافيتي وبيني) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 (أَتَى الْحمى وَقد شاخت وباخت ... فَرد لَهَا الشَّبَاب بنسختين) (ودبرها بتدبير لطيف ... حَكَاهُ عَن سِنَان أَو حنين) (وَكَانَت نوبَة فِي كل يَوْم ... فصيّرها بحذق نوبتين) قلت الأبيات الرائية تمثل بهَا الجليس وَهِي لصردر قرأتها فِي ديوانه وَهِي من قصيدة مدح بهَا وَزِير الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد فَخر الدولة أَبَا نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جهير ويهنئه بعوده إِلَى الوزارة وَأول القصيدة (لجاجةُ قلب مَا يفِيق غرورها ... وحاجة نفس لَيْسَ يُقضي يسيرها) وَهِي طَوِيلَة يَقُول فِيهَا متغزلا (وقفنا صُفُوفا فِي الديار كَأَنَّهَا ... صَحَائِف ملقاة وَنحن سطورها) (يَقُول خليلي والظباء سوانح ... أهذي الَّتِي تهوى فَقلت نظيرها) (وَقد قلتما لي لَيْسَ فِي الأَرْض جنَّة ... أما هَذِه فَوق الركائب حورها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 (أراكَ الحْمى قل لي بِأَيّ وَسِيلَة ... وصلت إِلَى أَن صادقتك ثغورها) (وَمَا لي بهَا علم فَهَل أَنْت عَالم ... أأفواهها أولى بهَا أم نحورها) (على رسلكُمْ فِي الهجر إنَّا عِصَابَة ... إِذا ظَفرت فِي الْحبّ عف ضميرها) وَيَقُول فِي مديحها (فَقل لليالي كَيفَ شِئْت تقلبَّي ... فَفِي يَد عبل الساعدين أمورها) (أمانيُّ فِي نفس الوزارة بُلِّغت ... بِهِ كنهها حَتَّى اسْتحقَّت نذورها) (لوَتْ وَجههَا عَن كل طَالب مُتْعَة ... إِلَى خاطبٍ حلُّ عَلَيْهِ سفورها) (إِذا مثل الأقوام دون عرينه ... تساوى بِهِ ذُو طيشها ووقورها) (تكَاد لما قد أُلبسْت من سكينَة ... ترف على تِلْكَ الرؤوس من طيورها) ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَفِيهَا عَاد أَسد الدّين إِلَى مصر تَاسِع ربيع الآخر وَقد كَانَ بعد رُجُوعه من مصر لَا يزَال يحدث نَفسه بقصدها ومعاودتها حَرِيصًا على الدُّخُول إِلَيْهَا يتحدث بِهِ مَعَ كل من يَثِق إِلَيْهِ وَكَانَ مِمَّا يهيجه على الْعود زِيَادَة حقده على شاور وَمَا عمل مَعَه فَلَمَّا كَانَ هَذِه السّنة تجهز وَسَار إِلَيْهَا وسير نور الدّين مَعَه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَفِي ذَلِك يَقُول العرقلة (أَقُول والأتراك قد ازمعت ... مصرَ إِلَى حَرْب الأعاريب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 (رب كَمَا ملكتها يُوسُف الصّديق ... من أَوْلَاد يَعْقُوب) (ملكهَا فِي عصرنا يُوسُف الصَّادِق ... من أَوْلَاد أَيُّوب) (من لم يزل ضرّاب هام العدى ... حَقًا وضرّاب العراقيب) ثمَّ إِن أَسد الدّين جدَ فِي السّير على البرّ وَترك بِلَاد الإفرنج عَن يَمِينه فوصل إِلَى الديار المصرية وَقصد إطفيح وَعبر النّيل عِنْدهَا إِلَى الْجَانِب الغربي وَنزل بالجيزة مُقَابل مصر وَتصرف فِي الْبِلَاد الغريبة وَأقَام بهَا نيفاً وَخمسين يَوْمًا وَكَانَ شاور لما بلغه مَجِيء أَسد الدّين قد راسل الفرنج يستغيث بهم ويستصرخهم فَأتوهُ على الصعب والذلول فَتَارَة يحثهم طمعهم فِي ملك مصر على الْجد والتشمير وَتارَة يحدوهم خوفهم من أَن يملكهَا الْعَسْكَر النُّوري على الْإِسْرَاع فِي الْمسير فالرجاء يقودهم وَالْخَوْف يسوقهم فَلَمَّا وصلوا إِلَى مصر عبروا إِلَى الْجَانِب الغربي وَكَانَ أَسد الدّين والعسكر النُّوري قد سَارُوا إِلَى الصَّعِيد فبلغوا مَكَانا يعرف بالبابين وسارت العساكر المصرية والفرنج وَرَاءَهُمْ فأدركوهم بِهِ فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من جمادي الأولى وَكَانَ قد أرسل إِلَيْهِم جواسيس فعادوا وَأَخْبرُوهُ بِكَثْرَة عَددهمْ وعددُهم وجدهم فِي طلبه فعزم على لقائهم وقتالهم وَأَن تحكم السيوف بَينه وَبينهمْ إِلَّا أَنه خَافَ من أَصْحَابه أَن تضعف نُفُوسهم عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الثَّبَات فِي هَذَا الْمقَام الْخطر الَّذِي عطبهم فِيهِ أقرب من السَّلامَة لقلَّة عَددهمْ وبعدهم عَن بِلَادهمْ فاستشارهم فكلهم أَشَارَ عَلَيْهِ بعبور النّيل إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وَالْعود إِلَى الشَّام وَقَالُوا لَهُ إِن نَحن انهزمنا وَهُوَ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فَإلَى أَيْن نلتجىء وبمن نحتمي وكل من فِي هَذِه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا ويودون لَو شربوا دماءنا وَحقّ لعسكر عدتهمْ ألفا فَارس قد بعدُوا عَن دِيَارهمْ ونأى ناصرهم أَن يرتاع من لِقَاء عشرات أُلُوف مَعَ أَن كل أهل الْبِلَاد عَدو لَهُم فَلَمَّا قَالُوا ذَلِك قَامَ إِنْسَان من المماليك النُّورية يُقَال لَهُ شرف الدّين بزغش وَكَانَ من الشجَاعَة بِالْمَكَانِ الْمَشْهُور وَقَالَ من يخَاف الْقَتْل والجراح والأسر فَلَا يخْدم الْمُلُوك بل يكون فلاحاً أَو مَعَ النِّسَاء فِي بَيته وَالله لَئِن عدتم إِلَى الْملك الْعَادِل من غير غَلَبَة وبلاء تعُذرون فِيهِ ليأخذن إقطاعاتكم وليعودنَّ عَلَيْكُم بِجَمِيعِ مَا أخذتموه إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَيَقُول لكم أتأخذون أَمْوَال الْمُسلمين وتفرون عَن عدوهم وتسلمون مثل هَذِه الديار المصرية يتَصَرَّف فِيهَا الْكفَّار قَالَ أَسد الدّين هَذَا رَأْيِي وَبِه أعمل وَوَافَقَهُمَا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ثمَّ كثر الموافقون لَهُم على الْقِتَال فاجتمعت الْكَلِمَة على اللِّقَاء فَأَقَامَ بمكانه حَتَّى أدْركهُ المصريون والفرنج وَهُوَ على تعبئة وَقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 جعل الأثقال فِي الْقلب يتكثر بهَا وَلِأَنَّهُ لم يُمكنهُ أَن يَتْرُكهَا بمَكَان آخر فينهبها أهل الْبِلَاد ثمَّ إِنَّه جعل صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه فِي الْقلب وَقَالَ لَهُ وَلمن مَعَه إِن الفرنج والمصريين يظنون أنني فِي الْقلب فهم يجْعَلُونَ جمرتهم بإزائه وحملتهم عَلَيْهِ فَإِذا حملُوا عَلَيْكُم فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ الْقِتَال وَلَا تهلكوا نفوسكم واندفعوا بَين أَيْديهم فَإِذا عَادوا عَنْكُم فَارْجِعُوا فِي أَعْقَابهم وَاخْتَارَ من شجعان أَصْحَابه جمعا يَثِق إِلَيْهِم وَيعرف صبرهم وشجاعتهم ووقف بهم فِي الميمنة فَلَمَّا تقَابل الطائفتان فعل الفرنج مَا ذكره أَسد الدّين وحملوا على الْقلب ظنا مِنْهُم أَنه فِيهِ فَقَاتلهُمْ من بِهِ قتالا يَسِيرا ثمَّ انْهَزمُوا بَين أَيْديهم فتبعوهم فَحمل حِينَئِذٍ أَسد الدّين فِيمَن مَعَه على من تخلف من الفرنج الَّذين حملُوا على الْقلب من الْمُسلمين والفرنج فَهَزَمَهُمْ وَوضع السَّيْف فيهم فأثخن وَأكْثر الْقَتْل والأسر وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ فَلَمَّا عَاد الفرنج من أثر المنهزمين الَّذين كَانُوا فِي الْقلب رَأَوْا مَكَان المعركة من أَصْحَابهم بلقعاً لَيْسَ بهَا مِنْهُم ديار فَانْهَزَمُوا أَيْضا وَكَانَ هَذَا من أعجب مَا يؤرخ أَن ألفي فَارس تهزم عَسَاكِر مصر وفرنج السَّاحِل ثمَّ سَار أَسد الدّين إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة وجبى مَا فِي طريقها من القرايا والسواد من الْأَمْوَال وَوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فتسلمها من غير قتال سلمهَا أَهلهَا إِلَيْهِ فاستناب بهَا صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه وَعَاد إِلَى الصَّعِيد وتملكه وجبى أَمْوَاله وَأقَام بِهِ حَتَّى صَامَ رَمَضَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَأما المصريون والفرنج فَإِنَّهُم عَادوا إِلَى الْقَاهِرَة وجمعوا أَصْحَابهم وَأَقَامُوا عوض من قتل مِنْهُم واستكثروا وحشدوا وَسَارُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَبهَا صَلَاح الدّين فِي عَسْكَر يمنعونها مِنْهُم وَقد أعانهم أَهلهَا خوفًا من الفرنج فَاشْتَدَّ الْحصار وَقل الطَّعَام بِالْبَلَدِ فَصَبر أَهله على ذَلِك ثمَّ إِن أَسد الدّين سَار من الصَّعِيد نحوهم وَكَانَ شاور قد أفسد بعض من مَعَه من التركمان وَوَصله رسل المصريين والفرنج يطْلبُونَ الصُّلْح وبذلوا لَهُ خمسين ألف دِينَار سوى مَا أَخذه من الْبِلَاد فأجابهم إِلَى ذَلِك وَشرط أَن الفرنج لَا يُقِيمُونَ بِمصْر وَلَا يتسلمون مِنْهَا قَرْيَة وَاحِدَة وَأَن الْإسْكَنْدَريَّة تُعَاد إِلَى المصريين فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك واصطلحوا وَعَاد إِلَى الشَّام فوصل دمشق ثامن عشر ذِي الْقعدَة وتسلم المصريون الْإسْكَنْدَريَّة فِي النّصْف من شَوَّال وَأما الفرنج فَإِنَّهُم اسْتَقر بَينهم وَبَين المصريين أَن يكون لَهُم بِالْقَاهِرَةِ شحنة وَتَكون أَبْوَابهَا بيد فرسانهم ليمتنع الْملك الْعَادِل من إِنْفَاذ عَسْكَر إِلَيْهِم وَيكون للفرنج من دخل مصر كل سنة مئة ألف دِينَار هَذَا كُله يجْرِي بَين الفرنج وشاور وَأما العاضد صَاحب مصر فَلَيْسَ إِلَيْهِ من الْأَمر شَيْء وَلَا يعلم بِشَيْء من ذَلِك قد حكم عَلَيْهِ شاور وحجبه وَعَاد الفرنج إِلَى بِلَادهمْ وَتركُوا جمَاعَة من فرسانهم ومشاهير أعيانهم بِمصْر والقاهرة على الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة ثمَّ إِن الْكَامِل شُجَاع بن شاور راسل نور الدّين مَعَ شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء الْملك الْعَادِل وَهُوَ خَال صَلَاح الدّين يُوسُف ينْهَى محبته وولاءه ويسأله أَن يَأْمر بإصلاح الْحَال وَجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الْكَلِمَة بِمصْر على من طَاعَته وبجمع كلمة الْإِسْلَام وبذل مَالا يحملهُ كل سنة فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وحملوا إِلَى نور الدّين مَالا جزيلا فَبَقيَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن قصد الفرنج مصر لتملكها فَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسِتِّينَ قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن ذكر عود أَسد الدّين إِلَى مصر فِي الْمرة الثَّانِيَة وَهِي الْمَعْرُوفَة بوقعة البابيْن لم يزل أَسد الدّين يتحدث بذلك بَين النَّاس حَتَّى بلغ شاور ذَلِك وداخله الْخَوْف على الْبِلَاد من الأتراك وَعلم أَن أَسد الدّين قد طمع فِي الْبِلَاد وَأَنه لَا بُد لَهُ من قَصدهَا فكاتب الفرنج وَقرر مَعَهم أَنهم يجيئون إِلَى الْبِلَاد ويمكنونه فِيهَا تمكيناً كلياً ويعينونه على استئصال أعدائه بِحَيْثُ يسْتَقرّ قدمه فِيهَا وَبلغ ذَلِك نور الدّين وَأسد الدّين فَاشْتَدَّ خوفهما على مصر أَن يملكهَا الْكفَّار فيستولوا على الْبِلَاد كلهَا فتجهز أَسد الدّين وأنفذ نور الدّين مَعَه الْعَسْكَر وألزم صَلَاح الدّين رَحمَه الله بِالْمَسِيرِ مَعَه على كَرَاهِيَة مِنْهُ لذَلِك وَذَلِكَ فِي اثناء ربيع الأول وَكَانَ وصولهم إِلَى الْبِلَاد المصرية مُقَارنًا لوصول الفرنج إِلَيْهَا وَاتفقَ شاور مَعَ الفرنج على أَسد الدّين والمصريون بأسرهم وَجرى بَينهم حروب كَثِيرَة ووقعات شَدِيدَة وانفصل الفرنج عَن الديار المصرية وانفصل أَسد الدّين وَكَانَ سَبَب عود الفرنج أَن نور الدّين قدس الله روحه جرد العساكر إِلَى بِلَاد الإفرنج وَأخذ المنيطرة وَعلم الفرنج ذَلِك فخافوا على بِلَادهمْ وعادوا وَكَانَ سَبَب عود أَسد الدّين ضعف عسكره بِسَبَب مواقعة الفرنج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 والمصريين وَمَا عانوه من الشدائد وعاينوه من الْأَهْوَال وَمَا عَاد حَتَّى صَالح الفرنج على أَن ينصرفوا كلهم عَن مصر وَعَاد إِلَى الشَّام فِي بَقِيَّة السّنة وَقد انْضَمَّ إِلَى قُوَّة الطمع فِي الْبِلَاد شدَّة الْخَوْف عَلَيْهَا من الفرنج لعلمه بِأَنَّهُم قد كشفوها كَمَا كشفها وعرفوها من الْوَجْه الَّذِي عرفهَا فَأَقَامَ بِالشَّام على مضض وَقَلبه مقلقل وَالْقَضَاء يجره إِلَى شَيْء قد قدر لغيره وَهُوَ لَا يشْعر بذلك قَالَ وَفِي اثناء سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ملك نور الدّين قلعة المنيطرة بعد مسير أَسد الدّين فِي رَجَب وَخرب قلعة اكاف بالبرية وَفِي رَمَضَان مِنْهَا اجْتمع نور الدّين وَأَخُوهُ قطب الدّين وزين الدّين بحماة للغزاة وَسَارُوا إِلَى بِلَاد الفرنج فخربوا هُونين فِي شَوَّال مِنْهَا وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا كَانَ عود أَسد الدّين من مصر وَفِيه مَاتَ قرا أرسلان بديار بكر فصل وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة قدم دمشق عماد الدّين الْكَاتِب ابو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد الاصفهاني مُصَنف كتابي الْفَتْح والبرق فأنزله قَاضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الْقُضَاة كَمَال الدّين ابو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري بِالْمَدْرَسَةِ النورية الشَّافِعِيَّة عِنْد حمام الْقصير بِبَاب الْفرج المنسوبة الان الى الْعِمَاد وانما نسبت اليه لَان نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى ولاه إِيَّاهَا فِي رَجَب سنة سبع وَسِتِّينَ بعد الشَّيْخ الْفَقِيه ابْن عبد وَكَانَ الْعِمَاد لَهُ معرفَة بِنَجْم الدّين ايوب واسد الدّين شيركوه ابْني شاذي من تكريت بِسَبَب ان عَمه الْعَزِيز احْمَد بن حَامِد اعتقله السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بقلعة تكريت وَنجم الدّين ايوب اذ ذَاك واليها فانتسجت الْمَوَدَّة بَينهم من هُنَاكَ فَلَمَّا سمع نجم الدّين بوصوله بكر الى منزله لتبجيله وَكَانَ شيركوه وَصَلَاح الدّين حِينَئِذٍ بِمصْر فمدح الْعِمَاد نجم الدّين ايوب بقصيدة مِنْهَا اولها (يَوْم النَّوَى لَيْسَ من عمري بمحسوب ... وَلَا الْفِرَاق الى عيشي بمنسوب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 (مَا اخْتَرْت بعْدك لَكِن الزَّمَان اتى ... كرها بِمَا لَيْسَ يَا مَحْبُوب محبوبي) (ارجو ايابي اليكم ظافراً عجلا ... فقد ظَفرت بِنَجْم الدّين ايوب) (موفق الرَّأْي ماضي الْعَزْم مُرْتَفع ... على الاعاجم مجداً والاعاريب) (احبك الله اذ لازمت نجدته ... على جبين بتاج الْملك معصوب) (اخوك وابنك صدقا مِنْهُمَا اعتصما ... بِاللَّه والنصر وعد غير مَكْذُوب) (هما همامان فِي يومي وغى وقرى ... تعودا ضرب هام أَو عراقيب) (غَدا يشبان فِي الْكفَّار نَار وغى ... بلفحها يصبح الشبَّان كالشيب) (بِملك مصر وَنصر الْمُؤمنِينَ غَدا ... تحظى النُّفُوس بتأنيس وتطييب) (ويستقر بِمصْر يُوسُف وَبِه ... تقر بعد التنائي عين يَعْقُوب) (ويلتقي يُوسُف فِيهَا بأخوته ... وَالله يجمعهُمْ من غير تَثْرِيب) وَكَانَ انشاده هَذِه القصيدة فِي اخر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَتمّ ملكهم مصر بعد سنتَيْن قَالَ فنظمت مَا فِي الْغَيْب تَقْدِيره قَالَ وَكَانَ اسد الدّين قد جمع وَسَار الى مصر فِي الرمل فِي النّصْف من ربيع الاول وَوصل فِي سادس ربيع الاخر الى اطفيح وَعبر مِنْهَا الى الْجَانِب الغربي واناخ بالجيزة محاذاة مصر فَأَقَامَ عَلَيْهَا نيفاً وَخمسين يَوْمًا واستعان شاور بالفرنج ورتبوا لَهُم سوقاً بِالْقَاهِرَةِ وعبروا بهم من الْبِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الشرقية الى الغرب وَعلم اسد الدّين فَسَار امامهم فَالْتَقوا بِموضع يعرف بالبابين فكسرهم اسد الدّين واصحابه وَقتلُوا من الفرنج وَمِمَّنْ تَبِعَهُمْ من المصريين الوفا وَحصل مِنْهُم فِي الاسار سَبْعُونَ فَارِسًا من بارونيتهم فَلَمَّا تمت لَهُم هَذِه الكسرة رحلوا الْإسْكَنْدَريَّة فوجدوا مساعدة أَهلهَا فَدَخَلُوهَا ثمَّ قَالَ أَسد الدّين أَنا لَا يمكنني أَن أحْصر نَفسِي فَأخذ الْعَسْكَر وَسَار بِهِ إِلَى بِلَاد الصَّعِيد فاستولى عَلَيْهَا وجبى خراجها وَأقَام صَلَاح الدّين بالإسكندرية فَسَار إِلَيْهِ شاور والفرنج فحاصروه أَرْبَعَة أشهر وَصدق أهل الْإسْكَنْدَريَّة الْقِتَال مَعَ صَلَاح الدّين وقوى أَسد الدّين بقوص واستنهض لقصد الْقَوْم الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَسمع الفرنج أَنه جَاءَ يقصدهم فرحلوا عَن الْحصار وَكَانَ شاور قد استمال جمَاعَة من التركمان الَّذين مَعَ أَسد الدّين بِالذَّهَب فَلَمَّا راسلوه فِي المهادنة أجَاب وَطلب مِنْهُم عوض مَا غرمه فبذلوا لَهُ خمسين ألف دِينَار فَخَرجُوا من الْإسْكَنْدَريَّة فِي النّصْف من شَوَّال ووصلوا إِلَى دمشق ثامن عشر ذِي الْقعدَة وعادوا إِلَى الْخدمَة النورية فَاجْتمع الْعِمَاد بأسد الدّين وأنشده هَذِه القصيدة (بلغت بالجد مَالا يبلغ الْبشر ... ونلت مَا عجزت من نيله القُدر) (من يَهْتَدِي للَّذي أَنْت اهتديت لَهُ ... وَمن لَهُ مثل مَا أثرّته أثر) (أسرِت أم بِسُراك الأرضُ قد طويت ... فَأَنت إسكندرٌ فِي السّير أم خَضِر) (أوردت خيلا بأقصى النّيل صادرةً ... عَن الْفُرَات يقاضي وِرْدَها الصَّدَر) (تناقلت ذكرك الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهَا ... إِلَّا حَدِيثك مَا بَين الورى سمر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 (فَأَنت من زانت الْإِسْلَام سيرته ... وَزَاد فَوق الَّذِي جَاءَ بِهِ السيِّر) (لَو فِي زمَان رَسُول الله كنت أَتَت ... فِي هَذِه السِّيرَة المحمودة السُّور) (أَصبَحت بِالْعَدْلِ والإقدام مُنْفَردا ... فَقل لنا أعليٌّ أَنْت أم عمر) (إسكندرٌ ذكرُوا أَخْبَار حكمته ... وَنحن فِيك رَأينَا كل مَا ذكرُوا) (ورُسْتُمٌ خبرونا عَن شجاعته ... وَصَارَ فِيك عيَانًا ذَلِك الْخَبَر) (اِفخر فَإِن مُلُوك الأَرْض أذهلهم ... مَا قد فعلت فَكل فِيك مفتكر) (سهرت إِذْ رقدوا بل هجت إِذْ سكنوا ... وصُلت إِذْ جبنوا بل طُلت إِذْ قُصروا) (يستعظمون الَّذِي أَدْرَكته عجبا ... وَذَاكَ فِي جنب مَا نرجوه محتقر) (قضى الْقَضَاء بِمَا نرجوه عَن كثب ... حتما ووافقك التَّوْفِيق وَالْقدر) (شكت خيولك إدمان السرى وَشَكتْ ... من فَلِّها البيضُ بل من حَطْمها السُّمر) (يسرت فتح بِلَاد كَانَ أيسرها ... لغير رَأْيك قفلاً فَتحه عسر) (قرنت بالحزم مِنْك الْعَزْم فاتسقت ... مَا رب لَك عَنْهَا أَسْفر السّفر) (وَمن يكون بِنور الدّين مهتديا ... فِي امْرَهْ كَيفَ لَا يقوى لَهُ المرر) (يرى بِرَأْيِك مَا فِي الْملك يبرمه ... فَأَنت مِنْهُ بِحَيْثُ السّمع والبَصر) (لقد بَغت فئةُ الإفرنج فانتصفت ... مِنْهَا بإقدامك الْهِنْدِيَّة البتر) (غرست فِي أَرض مصرٍ من جسومهمُ ... أَشجَار خطّ لَهَا من هامهم ثَمَر) (وسال بَحر نجيع فِي مقَام وغي ... بِهِ الْحَدِيد غمامٌ وَالدَّم الْمَطَر) (أنهرت مِنْهُم دِمَاء بالصعيد جرى ... مِنْهَا إِلَى النّيل فِي واديهمُ نهر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 (رَأَوْا إِلَيْك عبور النّيل إِذْ عدموا ... نصرا فَمَا عبروا حَتَّى قد اعتبروا) (تَحت الصوارم هامُ الْمُشْركين كَمَا ... تَحت الصوالج يَوْمًا خفتّ الأكر) (أفنت سيوفك من لاقت فَإِن تركت ... قوما فهم نفر من قبلهَا نفروا) (لم ينج إِلَّا الَّذِي عافته من خبث ... وَحش الفلا وَهُوَ للمحذور منتظر) (والساكنون الْقُصُور القاهرية قد ... نَادَى القصورُ عَلَيْهِم أَنهم قُهروا) (وشاورٌ شاوره فِي مكايدهم ... فكاده الكيد لما خانه الحذر) (كَانُوا من الرعب موتى فِي جُلُودهمْ ... وَحين أمنتهم من خوفهم نُشروا) (وَإِن من شيركوه الشّرك منخزلٌ ... والكفرَ منخذل وَالدّين منتصر) (عوِّل على فئةٍ عِنْد اللِّقَاء وفت ... وعدِّ عَن تركمان قبله غدروا) (وَكَيف يُخذل جَيش أَنْت مَالِكه ... والقائدان لَهُ التأييد وَالظفر) (أجَاب فِيك إِلَه الْخلق دَعْوَة من ... يطيب بِاللَّيْلِ من أنفاسه السحر) قَالَ الْعِمَاد واتصلت بيني وَبَين صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه مَوَدَّة تمت لي بهَا على الزَّمَان عُدة وَلم يزل يستهديني نظمي ونثري ويشعرني أَنه يمِيل إِلَى شعري فَأول مَا خدمته بِهِ هَذِه الْكَلِمَة (كَيفَ قُلْتُمْ بمقلتيه فتور ... وأراها بِلَا فتور تجور) وَمِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 (مستجيز جوري وَإِنِّي مِنْهُ ... يَا ابْن أَيُّوب يُوسُف مستجير) (فَضله فِي يَد الزَّمَان سوار ... مِثْلَمَا رَأْيه على الْملك سور) (كرمٌ سابغ وجودٌ عميم ... وندىً سَائِغ وَفضل غزير) (أَنْت من لم يزل يحن إِلَيْهِ ... وَهُوَ فِي المهد سَرْجه والسرير) (من دم الغادرين غادرت بالْأَمْس ... صَعِيد الصَّعِيد وَهُوَ غَدِير) (وَلكُل لما تطاولت فيهم ... أمل قَاصِر وَعمر قصير) (لَاذَ بالنيل شاور مثل فِرْعَوْن ... فذل اللاجيّ وَعز العُبور) (شَارك الْمُشْركين بغياُ وقدماً ... شاركتها قريظةٌ وَالنضير) (وَالَّذِي يدعى الإمامةَ بِالْقَاهِرَةِ ... ارتاع أَنه مقهور) (وَغدا الْمَلْك خَائفًا من سُطاكم ... ذَا ارتعاد كَأَنَّهُ مقرور) (وَبَنُو الهنفري هانوا فَفرُّوا ... وَمن الْأسد كلُّ كلب فرور) (إِنَّمَا كَانَ للكلاب عواء ... حَيْثُ مَا كَانَ للأسود زئير) (وفليب عِنْد الْفِرَار سليب ... فَهُوَ بِالرُّعْبِ مُطلق مأسور) (لم يبقوا سوى الأصاغر للسبي ... فودوا أَن الْكَبِير صَغِير) (وحميت الْإسْكَنْدَريَّة عَنْهُم ... ورحى حربهم عَلَيْهِم تَدور) (حاصروها وَمَا الَّذِي بَان من ذبك ... عَنْهَا وحفظها مَحْصُور) (كحصار الْأَحْزَاب طيبَة قدماً ... ونبيُّ الْهدى بهَا مَنْصُور) (فاشكر الله حِين أولاك نصرا ... فَهُوَ نعم الْمولى وَنعم النصير) (وَلكم أرجف الأعادي فَقُلْنَا ... مَا لما تذكرونه تَأْثِير) (ورقبنا كالعيد عودك فاليوم ... بِهِ للأنام عيد كَبِير) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 (عَاد من مصر يُوسُف وَإِلَى يَعْقُوب ... بالتهنئات جَاءَ البشير) (فلأيوب من إياب صَلَاح الدّين ... يَوْم بِهِ توفيَّ النذور) (وَلكم عودة إِلَى مصر بالنصر ... على ذكرهَا تمر العصور) (فاستردوا حق الْإِمَامَة مِمَّن ... خَان فِيهَا فَإِنَّهُ مستعير) (وافترعها بكرا لَهَا أَبَد الدَّهْر ... رواح فِي مدحكم وبكور) (أَنا سيرت طالع الْعَزْم مني ... وَإِلَى قصدك انْتهى التسيير) (وَأرى خاطري لمدحك إلفاً ... إِنَّمَا يألف الخطير الخطير) وَهِي وَالَّتِي قبلهَا طويلتان جدا فانتظمت معرفَة الْعِمَاد بصلاح الدّين وَكَانَ لَهُ مساعداً عِنْد نور الدّين وقرأت فِي ديوَان العرقلة وَقَالَ يمدح أَسد الدّين شيركوه وَقد أَخذ الشقيف ورحل طَالبا حصنا يُقَال لَهُ الْعرَاق (رحلت من الشقيف إِلَى الْعرَاق ... بعزم كالمهندة الرقَاق) (ونكست الأعادي مِنْهُ قهرا ... ومجدك فِي ذرا الجوزاء راق) (بجأشك لَا بجيشك نلْت هَذَا ... وبالتوفيق لَا بالإتفاق) (فداؤك من مضى بالحصن قبلي ... إِلَى دَار الخلود من الرفاق) (وَمَا نخشى على الْإِسْلَام بؤساً ... إِذا هلك الْجَمِيع وَأَنت بَاقِي) (أشاور كم تُشاور كل خب ... وتنفق عِنْد مثلك بالنفاق) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 (أتصبر إِن أتتك بحار خيل ... وقدماً مَا صبرت على السواقي) (مَتى رفعت لَك السودَان رَأْسا ... وَقد خلاهم مثل الزقاق) (وعيشك مَا لَهُ من مصر بُد ... وَمن عِنْدِي ثَلَاثًا بِالطَّلَاق) (هُوَ الْأسد الَّذِي مَا زَالَ حَتَّى ... بنى مجداً على السَّبع الطباق) فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي هَذِه السّنة أرسل نور الدّين إِلَى أَخِيه قطب الدّين يطْلب أَن يعبر الْفُرَات إِلَيْهِ بعساكره فتجهز وَسَار هُوَ وزين الدّين فِي العساكر الْكَثِيرَة فَاجْتمعُوا بِنور الدّين على حمص فَدخل بالعساكر الإسلامية بِلَاد الفرنج واجتاز على حصن الأكراد فَأَغَارُوا ونهبوا وأسروا وقصدوا عرقة ونزلوا عَلَيْهَا وحاصروها وحصروا جَبَلَة وأخربوها وتوجهت عَسَاكِر الْمُسلمين يَمِينا وَشمَالًا تغير وتخرب الْبِلَاد وَفتح العَرِيمة وصافيثا وَعَاد إِلَى حمص فصَام بهَا شهر رَمَضَان ثمَّ سَار إِلَى بانياس وَقصد قلعة هُونين وَهِي للفرنج ايضاً من قلاعهم المنيعة فَانْهَزَمَ الفرنج عَنْهَا وأحرقوها فقصدها نور الدّين فوصلها من الْغَد وَخرب سورها جَمِيعه وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَى بيروت فتجدد فِي الْعَسْكَر خُلف أوجب التَّفَرُّق فَعَاد وَسَار قطب الدّين إِلَى الْموصل وأقطعه مَدِينَة الرقة فَأَخذهَا فِي طَرِيقه قَالَ وَفِي هَذِه السّنة عصى الْأَمِير غَازِي بن حسان المنبجي صَاحب مَنْبِج على نور الدّين وَهُوَ كَانَ أقطعه إِيَّاهَا فَأرْسل إِلَيْهِ نور الدّين عسكرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 حصروه بهَا وَأَخذهَا مِنْهُ وأقطعها أَخَاهُ قطب الدّين ينَال بن حسان وَكَانَ عَاقِلا خيرا حسن السِّيرَة فبقى بهَا إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ صَلَاح الدّين سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين كَمَا سَيَأْتِي وَفِي هَذِه السّنة توفّي القَاضِي الرشيد أَحْمد بن عَليّ بن الزبير صَاحب كتاب الْجنان قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة كَانَ ذَا علم غزير وَفضل كثير قَتله شاورَ صبرا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَنسب إِلَيْهِ أَنه شَارك أَسد الدّين شيركوه فِي قَصده وَأَخُوهُ الْمُهَذّب أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ بن الزبير أشعر مِنْهُ وَتُوفِّي قبله بِسنة وَلم يكن فِي زَمَانه أشعر مِنْهُ أحد وَله شعر كثير مِنْهُ قصيدة غراء فِي مدح الصَّالح بن رزيك وَذكر فِيهَا نور الدّين أَولهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 (أعلمت حِين تجَاوز الْحَيَّانِ ... أَن الْقُلُوب مواقد النيرَان) (يَا كاسر الْأَصْنَام قُم فانهض بِنَا ... حَتَّى تصير مكسِّر الصلبان) (فالشام ملكك قد ورثت بِلَاده ... عَن قَوْمك الماضين من غَسَّان) (وَإِذا شَككت بِأَنَّهَا أوطانهم ... قدما فسل عَن حَارِث الجولان) (أَو رمت أَن تتلوا محَاسِن ذكرهم ... فاسند رِوَايَتهَا إِلَى حسان) (مَا زلزلت أَرض العدى بل ذَاك مَا ... بقلوب أهليها من الخفقان) (وَأَقُول إِن حصونهم سجدت لما ... أُوتيت من ملك وَمن سُلْطَان) (وَلَقَد بعثت إِلَى الفرنج كتائباً ... كالأسد حِين تصول فِي خّفَّان) (لبسوا الدروع وَلم نخل مِنْ قبلهم ... أَن الْبحار تحل فِي غُدران) (عجلت فِي تل العَجُول قراهم ... وهم لَك الضيفان بالذِّيفان) (وثللت فِي يَوْم الْعَريش عروشهم ... بشبا ضراب صَادِق وطعان) (ألجأتهم للبحر لما أَن جرى ... مِنْهُ وَمن دمهم مَعًا بحران) (وَلَقَد أَتَى الأسطول حِين غزا بِمَا ... لم يَأْتِ فِي حِين من الأحيان) (وأعدت رُسل ابْن القسيم إِلَيْهِ فِي ... شعْبَان كي يتلاءم الشَّعبان) (والفال يشْهد فِي اسْمه أَن سَوف يَغْدُو ... الشَّام وَهُوَ عَلَيْكُمَا قِسْمَانِ) (ورآك من بعد الشَّهِيد أَبَا لَهُ ... وَجَعَلته من أقرب الإخوان) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 (وَهُوَ الَّذِي مَا زَالَ يفعل فِي العدى ... مَا لم يكن لِيُعَدَّ فِي الْإِمْكَان) (قتل الْبُرْنُس وَمن عساه أَعَانَهُ ... لما عسا فِي الْبَغي والعدوان) (وَأرى الْبَريَّة حِين عَاد بِرَأْسِهِ ... مُرَّ الجنى يَبْدُو على المران) (وتعجبوا من زرقة فِي طرفه ... وَكَأن فَوق الرمْح نصلاً ثَانِي) (عجبا لجود يَدَيْهِ إِذْ يَبْنِي الْعلَا ... والسيل يهدم ثَابت الْأَركان) (قلدت أَعْنَاق الْبَريَّة كلهَا ... منناً تحمل ثقلهَا الثَّقَلَان) (حَتَّى تساوى النَّاس فِيك وَأصْبح القاصي ... بِمَنْزِلَة الْقَرِيب الداني) وَفِي هَذِه السّنة ذكر القَاضِي كَمَال الدّين بن الشَّهْرَزَوْرِي للسُّلْطَان نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى حَال الْعِمَاد الْكَاتِب وعرفه بِهِ وَعرض عَلَيْهِ قصيدة لَهُ فِي مدحه مطْلعهَا (لَو حفظت يَوْم النَّوَى عهودها ... مَا مُطلت بوصلكم وعودها) وَمِنْهَا (وَإِنَّمَا يحمد عيشي بَلْدَة ... مَالِكهَا بعدله محمودها) (مؤيد أُمُوره بعزمة ... من السَّمَوَات الْعلَا تأييدها) (آثاره حميدة وَإِنَّمَا ... للمرء من آثاره حميدها) (إِن الورى بحبه وبغضه ... يعرف من شقيها سعيدها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 (قد جَاءَكُم نور من الله فَمن ... بِهِ اهْتَدَى فَإِنَّهُ رشيدها) (جلا ظلام الظُّلم نور الدّين عَن ... أَرض الشآم فَلهُ تحميدها) (إِن الرعايا مِنْهُ فِي رِعَايَة ... ونعمة مستوجب مزيدها) (لنومها يسهر بل لأمنها ... يخَاف بل لخصبها يجودها) (بِالدّينِ وَالْملك لَهُ قِيَامه ... وللملوك عَنْهُمَا قعودها) (ودأبه ثلم ثغور الْكفْر لَا ... لثم ثغور ناقع برودها) (قد أَسْبغ الله لنا بعدله ... ظلال أَمن وارف مديدها) (غَدا مُلُوك الرّوم فِي دولته ... وهم على رغمهم عبيدها) (لما أَبَت هاماتهم سجودها ... لله أضحى للظبي سجودها) (إِن فَارَقت سيوفه غمودها ... فَإِن هاماتهم غمودها) (كم مغلقات من حصون عزمه ... مفتاحها وسيفه إقليدها) (قد ودَّت الفرنج لَو فرَّت نجت ... مِنْك وَلَكِن روعها مبيدها) (قهرتها حَتَّى لودَّ حيُّها ... من ذلة لَو أَنه فقيدها) (أماتها رعبك فِي حصونها ... كَأَنَّمَا حصونها لحودها) (وَإِن مصرا لَك تعنوا بَعْدَمَا ... لسيفك العضب عَنَّا صعيدها) (وَالْملَّة الغراء خَال بالها ... عَال سناها بك حالٍ جيدها) (مفترة ثغورها مَمْنُوعَة ... ثغورها مَحْفُوظَة حُدُودهَا) (وَإِن بغى جالوتها ضَلَالَة ... فَأَنت فِي إهلاكه داودها) (يَا ابْن قسيم الدولة الْملك الَّذِي ... خرت لَهُ من الْمُلُوك صيدها) (دع العدى بغيظها فَإِنَّمَا ... تذيب أكباد العدى حقودها) (يَا دولة نورية أَمن الورى ... وخصبها وجودهَا وجودهَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (مَا مثل الدُّنْيَا لمن يجمعها ... بالحرص إِلَّا قَزَّة ودودها) (أَنْت الَّذِي ترفضها عَن قدرَة ... فَلَا يشوب زهده زهيدها) (فابق لنا يَا ملكا بَقَاؤُهُ ... فِي كل عَام للرعايا عيدها) (فِي نعْمَة جَدِيدَة سعودها ... ودولة سعيدة جدودها) وَهِي طَوِيلَة فرتبه نور الدّين فِي ديوانه منشئاً لاستقبال سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ قَالَ وَوجدت على الْأَيَّام مِنْهُ الإعزاز والتمكين قلت وَذَلِكَ بعد أَن استعفى أَبُو اليُسر شَاكر بن عبد الله من الْخدمَة فِي كِتَابَة الْإِنْشَاء وَقعد فِي بَيته كَذَا ذكر الْعِمَاد فِي الخريدة وَقَالَ تولى ديوَان الْإِنْشَاء بِالشَّام سِنِين كَثِيرَة وَله مَقَاصِد حَسَنَة فِي الْكتب وَهُوَ حميد السِّيرَة جميل السريرة وفيهَا توفّي الْحَافِظ أَبُو سعد عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ الْمروزِي رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَذكر الْعِمَاد أَن نور الدّين رَحل إِلَى حمص ثمَّ مضى إِلَى حماة ثمَّ شتَّى بقلعة حلب وَمَعَهُ الْأسد والصّلاح وَنزل الْعِمَاد بمدرسة ابْن العجمي وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَقد عثر فرسه فِي الميدان وَهُوَ يلْعَب بالكرة مَعَ نور نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى (لَا تنكرن لسابح عثرت بِهِ ... قدم وَقد حمل الخضم الزاخرا) (ألْقى على السُّلْطَان طرِفك طرفه ... فهوى هُنَالك للسلام مبادرا) (سبق الرِّيَاح بجريه وكففته ... عَنْهَا فَلَيْسَ على خِلافك قَادِرًا) (ضعفت قواه إِذْ تذكر أَنه ... فِي السرج مِنْك يُقل ليثاً خادراً) (وَمَتى تطِيق الرّيح طوداً شامخاً ... أَو يَسْتَطِيع الْبَرْق جوناً ماطرا) (فاعذر سُقُوط الْبَرْق عِنْد مسيره ... فالبرق يسْقط حِين يخطف سائرا) (وأّقِلْ جوادك عَثْرَة ندرت لَهُ ... إِن الجوادَ لَمَن يُقيل العاثرا) (وتوقّ من عين الحسود وشرها ... لَا كَانَ ناظرها بِسوء نَاظرا) (واسلم لنُور الدّين سُلْطَان الورى ... فِي الحادثات معاضدا ومؤازرا) (وَإِذا صَلَاح الدّين دَامَ لأَهله ... لم يحذروا للدهر صَرفاً ضائرا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَجَرت بَين الْعِمَاد وَبَين الإِمَام شرف الدّين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون مكاتبات كتب إِلَيْهِ الْعِمَاد (أيا شرف الدّين إِن الشتا ... بكافاته كفّ آفاته) (وكفك من كرم كافها ... لقد كفلت لي بكافاته) (وَإنَّك مَن عرفه شكرنا ... غَدا عَاجِزا عَن مكافاته) قَالَ فَكتب إليَّ شرف الدّين فِي جوابها (إِذا مَا الشتَاء وأمطاره ... عَن الْخَيْر حابسة رادعه) (فكافاته السِّت أُعطيتها ... وحوشيتَ من كافه الرابعه) (وكف المهابة والإحتشام ... لكفِّيَ عَن بره مانعه) (وهمة كل كريم النِّجار ... بميسور أحبابه قانعه) (وَنَفْسِي فِي بسط عُذْري إِلَيْهِ ... جعلت الْفِدَاء لَهُ طامعه) (وشوقي إِلَى قربه زَائِد ... ومعذرتي إِن جَفا واسعه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قَالَ فَكتبت إِلَيْهِ فِي جوابها (أيا من لَهُ همة فِي الْعلَا ... لذروتها أبدا فارعة) (وَمن كَفه دِيمَة مَا تزَال ... بِالْعرْفِ هامية هامعه) (وللفضل فِي سوق أفضاله ... بضائع نافقة نافعه) (وَهل كَابْن عَصْرون فِي عصرنا ... إِمَام أدلته قاطعه) (فحبر فَوَائده جمة ... وبحر موارده واسعه) (أيا شرف الدّين شرفتني ... بإهداء رائقة رائعه) (أَطَعْت أوامرك الساميات ... وَمَا برحتْ همتي طائعه) (أرى كل جارحة لي تودّ ... لَو أَنَّهَا أذن سامعه) (وَأما الشتَاء وكافاته ... وكفُّك عَن كافه الرابعه) (فنفسي منزهة بالعفاف ... عَنْهَا وَفِي غَيرهَا طامعه) (وماذا تُطيق إِذا لم تكن ... بميسور سيدنَا قانعه) وَهِي أَكثر من هَذَا قَالَ وَكَانَ ابْن حسان صَاحب منبج قد ساءت أَفعاله فَبعث إِلَيْهِ نور الدّين من حاصره وانتزعها مِنْهُ ثمَّ توجّه نور الدّين إِلَيْهَا لتهذيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أحوالها ومدحه الْعِمَاد بقصيدة مِنْهَا (بشرَى الممالك فتح قلعة منبج ... فلْيَهْنِ هَذَا النَّصْر كل متوج) (أُعطيت هَذَا الْفَتْح مفتاحاً بِهِ ... فِي الْملك يفتح كل بَاب مرتج) (وافي يبشر بالفتوح وَرَاءه ... فانهض إِلَيْهَا بالجيوش وعرِّج) (أبشِر فبيت الْقُدس يَتْلُو منبجاً ... ولَمَنبج لسواه كالأنموذج) (مَا أعجزتك الشهب فِي أبراجها ... طلبا فَكيف خوارج فِي أبرُج) (ولقدرُ من يعصيك أَحْقَر أَن يرى ... أثر العبوس بِوَجْهِك المتبلج) (لَكِن تهذب من عصاك سياسة ... فِي ضمنهَا تَقْوِيم كل معوج) (فانهد إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس غازياً ... وعَلى طرابلسٍ ونابلسٍ عج) (قد سرت فِي الْإِسْلَام أحسن سيرة ... مأثورة وسلكت أوضح مَنْهَج) (وَجَمِيع مَا استقريت من سنَن الْهدى ... جددت مِنْهُ كل رسم مَنْهَج) قَالَ الْعِمَاد وَسَار نور الدّين من منبج إِلَى قلعة نجم وَعبر الْفُرَات إِلَى الرُّها وَكَانَ بهَا ينَال صَاحب مَنْبِج وَهُوَ سديد الرَّأْي رشيد الْمنْهَج فنقله إِلَيْهَا مٌقْطَعاً ووالياً وَأقَام نور الدّين بقلعة الرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 مُدَّة فمدحه الْعِمَاد بقصيدة وتحجَّب لَهُ صَلَاح الدّين فِي عرضهَا وَهِي (أدْركْت من أَمر الزَّمَان المشتهى ... وَبَلغت من نيل الْأَمَانِي الْمُنْتَهى) (وَبقيت فِي كنف السَّلامَة آمنا ... متكرماً بالطبع لَا متكرها) (لَا زلت نور الدّين فِي فلك الهُدى ... ذَا غرَّة للْعَالمين بهَا الْبها) (يَا محييَ الْعدْل الَّذِي فِي ظله ... مِن عَدْله رَعَت الأسودُ مَعَ المها) (مَحْمُود الْمَحْمُود من أَيَّامه ... لبهائها ضحك الزَّمَان وقهقها) (مولى الورى مولي الندى معلي الْهدى ... مردي العدى مسدي الجدا معطي اللها) (آراؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائرُ فلك النهى) (متلِّبس بحصافة وحصانة ... متقِّدس عَن شَوْب مكر أودها) (يَا من أطَاع الله فِي خلواته ... متأوباً من خَوفه متأوها) (أبدا تقدم فِي المعاش لوجهه ... عملا يبيض فِي الْمعَاد الأوجها) (كل الْأُمُور وَهِي وأمرك مبرم ... مستحكم لَا نقض فِيهِ وَلَا وَهَا) (مَا صين عَنْك الصّين لَِوْ حاولتها ... والمشرقان فَكيف منبجُ والرُّها) (مَا للملوك لَدَى ظهورك رونق ... وَإِذا بَدْت شمس الضُّحَى خَفَى السُّها) (إِن الْمُلُوك لَهْوا وَإنَّك من غَدا ... وبماله وَالْملك مِنْهُ مَاَلَها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 (شرهت نفوسهُم إِلَى دنياهم ... وأبى لِنَفسِك زهدها أَن تشرها) (مَا نمت عَن خير وَلم يَك نَائِما ... من لايزال على الْجَمِيل منبّها) (أخملت ذكر الْجَاهِلين وَلم تزل ... ملكا بِذكر الْعَالمين منوها) (وَرَأَيْت إرعاء الرعايا وَاجِبا ... تغنى فَقِيرا أَو تجير مدلها) (لرضاهمُ متحفظا ولحالهم ... متفقداً ولدينهم متفقها) (وَبِمَا بِهِ أمرَ الْإِلَه أَمرتهم ... من طَاعَة ونهيتهم عَمَّا نهى) (عَن رَحْمَة لصغيرهم لم تشتغل ... عَن رأفة لكبيرهم لن تُشدها) (باليأس عنْدك آمل لم يُمتحن ... بِالرَّدِّ دُونك سَائل لن يُجْبها) (أَتعبت نَفسك كي تنَال رفاهة ... من لَيْسَ يتعب لَا يعِيش مرفهّا) (فقت الْمُلُوك سماحة وحماسة ... حَتَّى عدمنا فيهُم لَك مشبها) (وَلَك الفخار على الْجَمِيع فدونهم ... أَصبَحت عَن كل الْعُيُوب منزها) (وأراك تحلمُ حِين تصبح ساخطا ... ويكاد غَيْرك ساخطاً أَن يسفها) قلت رحم الله الْعِمَاد فقد نظم أَوْصَاف نور الدّين الجليلة بِأَحْسَن لفظ وأرقه وَهَذَا الْبَيْت الْأَخير مُؤَكد لما نَقَلْنَاهُ فِي أول الْكتاب من قَول الْحَافِظ أبي الْقَاسِم رَحمَه الله تَعَالَى فِي وصف نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِنَّه لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وقلَّ من الْمُلُوك من لَهُ حَظّ من هَذِه الْأَوْصَاف الفاضلة والنعوت الْكَامِلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 قَالَ الْعِمَاد ثمَّ عَاد نور الدّين إِلَى حلب فِي شهر رَجَب وَضربت خيمته فِي رَأس الميدان الْأَخْضَر قَالَ وَكَانَ مُولَعا بِضَرْب الكرة وَرُبمَا دخل الظلام فلعب بهَا بالشموع فِي اللَّيْلَة المسفرة ويركب صَلَاح الدّين مذكرا كل بكرَة وَهُوَ عَارِف بآدابها فِي الْخدمَة وشروطها الْمُعْتَبرَة وأقطعه فِي تِلْكَ السّنة ضيعتين إِحْدَاهمَا من ضيَاع حلب وَالْأُخْرَى من ضيَاع كفر طَابَ قَالَ وكتبت إِلَيْهِ فِي طلب كنبوش (أَصبَحت بغلتي تشكى من العري ... وأسراجها بِلَا كنبوش) (قلت كفي فَخير يوميك عِنْدِي ... أَن تفوزي بالتبن أَو بالحشيش) (وافرحي لَيْلَة الشّعير كَمَا يفرح ... قوم بليلة الماشوش) (لَو تبصرت حالتي لتصبرت ... فإياك عِنْدهَا أَن تطيشي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 (أوما مَاتَ فِي الشتَاء من الْبرد ... وَمن فرط جوعه إكديشي) (فثقي واسكني بجود صَلَاح الدّين ... غرس الْمُلُوك مَلْك الجيوش) (فَهُوَ يجلوك للعيون بكنبوش ... جَدِيد مستحسن منقوش) (كم عَدو من بأسه فِي عثار ... وَولى بجوده منعوش) (والموالي على الأسرة والأعداء ... تَحت الهوان فَوق النعوش) قَالَ وأقطع أَسد الدّين حمص وأعمالها فَسَار إِلَيْهَا فسد ثغورها وَضبط أمورها وَحمى جمهورها وَكَانَ نور الدّين قد جدد سورها وحصن دورها وبلى الفرنج مِنْهُ بالمغاور المراوغ ذِي الْبَأْس الدامغ وَسَأَلَهُ نور الدّين فِي السلو عَن حب مصر وَقَالَ قد تعبت مرَّتَيْنِ وَاجْتَهَدت وَلم يحصل لَك مَا طلبت وَقد أذعنوا بِالطَّاعَةِ وشفعوا السُّؤَال بالشفاعة وسمحوا بِكُل مَا يدْخل تَحت الِاسْتِطَاعَة قلت وَأنْشد الْعِمَاد أَسد الدّين فِي رَجَب من هَذِه السّنة (دمت فِي الْملك آمراً ذَا نَفاذ ... أَسد الدّين شيركوه بن شاذي) (يَا كَرِيمًا عَن كل شَرّ بطيئاً ... وَإِلَى الْخَيْر دَائِم الإغذاذ) (وملاذ الْإِسْلَام أَنْت فَلَا زلت ... لأهل الْإِسْلَام خير ملاذ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 (فِي نفوس الْكفَّار رعبك قد حلَّ ... بصَدع الأكباد والأفلاذ) (لم تدع بالظبى رؤوسا وأصناما ... من الْمُشْركين غير جذاذ) (أَنْت من نَازل الدعيين فِي مصر ... لنصر الإِمَام فِي بغذاذ) (وبلاد الْإِسْلَام أنقذتها أَنْت ... من الشّرك أَيّمَا إنقاذ) فصل فِي وَفَاة زين الدّين وَالِد مظفر الدّين صَاحب إربل قَالَ ابْن الْأَثِير وَغَيره فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ سَار زين الدّين عَليّ بن بكتكين نَائِب أتابك قطب الدّين عَن الْموصل إِلَى إربل وَسلم جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ من الْبِلَاد والقلاع إِلَى قطب الدّين مَا عدا إربل فَإِنَّهَا كَانَت لَهُ من أتابك زنكي رَحمَه الله تَعَالَى فَمن ذَلِك سنجار وحرَّان وقلعة عَقْر الحُمَيدية وقلاع الهكارية جَمِيعهَا وَكَانَ نَائِبه بتكريت الْأَمِير تبر فَأرْسل إِلَيْهِ ليسلمها فَقَالَ إِن الْمولى أتابك لَا يُقيم بتكريت وَلَا بُد لَهُ من نَائِب فِيهَا وَأَنا أكون ذَلِك النَّائِب فَلَيْسَ لَهُ مثلي فَمَا أمكن محاققته لأجل مجاورة بَغْدَاد وَأما شَهْرَزَوْر فَكَانَ بهَا الْأَمِير بوزان فَقَالَ مثله أَيْضا فأُقرَّت بِيَدِهِ فَكَانَا فِي طَاعَة قطب الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَسبب فِرَاق زين الدّين أَنه أَصَابَهُ عمى وصمم وَأقَام بإربل إِلَى أَن توفّي بهَا فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة وَكَانَ قد استولى عَلَيْهِ الْهَرم وضعفت قوته وَكَانَ خيِّراً عادلا حسن السِّيرَة جواداً محافظاً على حسن الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة قَلِيل الْغدر بل عديمه وَكَانَ إِذا وعد بِشَيْء لَا بُد لَهُ من أَن يَفْعَله وَإِن كَانَ فعله خطيراً وَكَانَ حَاله من أعجب الْأَحْوَال بَيْنَمَا يَبْدُو مِنْهُ مَا يدل على سَلامَة صَدره وغفلته حَتَّى يَبْدُو مِنْهُ مَا يدل على إفراط الذكاء وَغَلَبَة الدهاء بَلغنِي أَنه أَتَاهُ بعض أَصْحَابه بذنب فرس ذكر أَنه نفق لَهُ فَأمر لَهُ بفرس فَأخذ ذَلِك الذَّنب أَيْضا غَيره من الأجناد وأحضره وَذكر أَنه نفق لَهُ دَابَّة فَأمر لَهُ بفرس وتداول ذَلِك الذَّنب اثْنَا عشر رجلا كلهم يَأْخُذ فرسا فَلَمَّا أحضرهُ آخِرهم قَالَ لَهُم أما تستحيون مني كَمَا استحيي مِنْكُم قد أحضر هَذَا عِنْدِي اثْنَا عشر رجلا وَأَنا أتغافل لِئَلَّا يخجل أحدكُم أتظنون أنني لاأعرفه بلَى وَالله وَإِنَّمَا أردْت أَن يصلكم عطائي بِغَيْر من وَلَا تكدير فَلم تتركوني (لَيْسَ الغبيّ بسيِّدٍ فِي قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قَالَ وَكَانَ يُعْطي كثيرا ويخلع عَظِيما وَكَانَ لَهُ الْبِلَاد الْكَثِيرَة فَلم يخلف شَيْئا بل أنفذه جَمِيعه فِي العطايا والإنعام على النَّاس وَكَانَ يلبس الغليظ ويشدّ على وَسطه كلّ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من سكين ودرفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وَغير ذَلِك وَكَانَ أَشْجَع النَّاس مَيْمُون النقيبة لم تنهزم لَهُ راية وَكَانَ يقوم الْمقَام الخطير فَيسلم مِنْهُ بِحسن نِيَّته وَكَانَ تركياً أسمر اللَّوْن خَفِيف العارضين قَصِيرا جدا وَبنى مدارس ورُبطاً بالموصل وَغَيرهَا وَبَلغنِي أَنه مدحه الحيص بيص فَلَمَّا أَرَادَ الإنشاد قَالَ لَهُ أَنا لاأدري مَا تَقول لَكِن أعلم أَنَّك تُرِيدُ شَيْئا وَأمر لَهُ بِخمْس مئة دِينَار وَأَعْطَاهُ فرسا وخلعا وثياباً يكون مَجْمُوع ذَلِك ألف دِينَار قَالَ ومكارمه كَثِيرَة وَلما توفّي بإربل كَانَ الْحَاكِم بهَا خادمه مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ الْمُتَوَلِي لأمورها وَولى بعد زين الدّين وَلَده مظفر كوكبوري مُدَّة ثمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فَارقهَا لُخْلِفٍ كَانَ بَينه وَبَين مُجَاهِد الدّين قايماز وَجَرت أمورٌ يطول ذكرهَا وَلما فَارق زين الدّين الْموصل استناب أتابك قطب الدّين بقلعة الْموصل بعده مَمْلُوكه فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فسلك غير طَرِيق زين الدّين فكرهه النَّاس وذموه وَلم تطل أَيَّامه وَسَيَجِيءُ ذكر عَزله فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسِتِّينَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَفِي أَولهَا ملك نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قلعة جعبر وَأَخذهَا من صَاحبهَا شهَاب الدّين مَالك بن عَليّ بن مَالك الْعقيلِيّ من آل عقيل من بني المسيّب وَكَانَت بِيَدِهِ وَيَد آبَائِهِ من قبله من أَيَّام السُّلْطَان ملكشاه وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَهِي من أمنع الْحُصُون وأحسنها مطلَّة على الْفُرَات لَا يطْمع فِيهَا بحصار وَقد أعجز جمَاعَة من الْمُلُوك أَخذهَا مِنْهُ وقُتِلَ عَلَيْهَا عماد الدّين زنكي وَالِد نور الدّين ثمَّ اتّفق أَن خرج صَاحبهَا مِنْهَا يَوْمًا يتصيد فصاده بَنو كلب فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وأوثقوه وَحَمَلُوهُ إِلَى نور الدّين فتقربوا بِهِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 رَجَب من ثَلَاث وَسِتِّينَ فحبسه بحلب وَأحسن إِلَيْهِ ورغبه فِي الإقطاع وَالْمَال ليسلم إِلَيْهِ القلعة فَلم يفعل فَعدل بِهِ نور الدّين إِلَى الشدَّة والعنف وتهدده فَلم يفعل أَيْضا فسير إِلَيْهَا عسكرا مقدمه الْأَمِير فَخر الدّين مسعُود بن أبي عَليّ الزَّعْفَرَانِي فحصرها مُدَّة فَلم يظفر مِنْهَا بِشَيْء فَأَمَدَّهُمْ بعسكر آخر وَجعل على الْجَمِيع الْأَمِير مجد الدّين أَبَا بكر الْمَعْرُوف بِابْن الداية وَهُوَ أكبر أُمَرَاء نور الدّين ورضيعه ووالى معاقله فَأَقَامَ عَلَيْهَا وَطَاف حواليها فَلم ير لَهُ فِي فتحهَا مجالا وَرَأى أَخذهَا بالحصر متعذرا محالا فسلك مَعَ صَاحبهَا طَرِيق اللين وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأخذ الْعِوَض من نور الدّين وَلم يزل يتوسط مَعَه حَتَّى أذعن على أَن يعْطى سروج وأعمالها والملوحة الَّتِي فِي عمل حلب وَبَاب بزاعة وَعشْرين ألف دِينَار مُعجلَة فَأخذ جَمِيع مَا شَرطه مكْرها فِي صُورَة مُخْتَار قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذَا إقطاع عَظِيم جدا لكنه لَا حصن لَهُ فِيهِ وتسلم مجد الدّين قلعة جعبر وَصعد إِلَيْهَا منتصف الْمحرم وَوصل كِتَابه إِلَى نور الدّين بحلب فَسَار إِلَيْهَا وَصعد القلعة فِي الْعشْرين من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الْمحرم ثمَّ سلمهَا نور الدّين إِلَى مجد الدّين ابْن الداية فولاها أَخَاهُ شمس الدّين عليا وَكَانَ هَذَا آخر أَمر بني مَالك وَلكُل أَمر آخر وَلكُل ولَايَة نِهَايَة يُؤْتِي الله الْملك من يَشَاء وينزعه مِمَّن يَشَاء قَالَ ابْن الْأَثِير بَلغنِي أَنه قيل لشهاب الدّين أيُّما أحب إِلَيْك وَأحسن مقَاما أسَرُوج وَالشَّام أم القلعة فَقَالَ هَذَا أَكثر مَالا والعز بالقلعة فارقناه قَالَ الْعِمَاد وأنشدت نور الدّين بقلعة جعبر قصيدة أَولهَا (اسْلَمْ لبكر الْفتُوح مفترعاً ... ودُمْ لملك الْبِلَاد منتزعا) (فَإِن أولى الورى بهَا ملك ... غَدا بعبء الخطوب مضطلعاً) (إِن ضَاقَ أَمر فَغير همته ... لكشف ضيق الْأُمُور لن يسعا) (يَا محيي الْعدْل بعد ميتَته ... وَرَافِع الْحق بَعْدَمَا اتضعا) (وَنور دين الْهدى الَّذِي قمع الشّرك ... وعفَّى الضلال والبدعا) (أَنْت سُلَيْمَان فِي العفاف وَفِي الْملك ... وتحكي بزهدك اليسعا) (حزت التقى وَالْحيَاء وَالْكَرم الْمَحْض ... وحُسن الْيَقِين والورعا) (أسقطت أقساط مَا وجدت من المكس ... بعدلٍ والقاسط ارتدعا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وَلم تدع فِي ابْتِغَاء مصلحَة الدّين ... لنا بَاقِيا ولنْ تدعا) (وكل مَا فِي الْمُلُوك مُفترق ... من الْمَعَالِي لملكك اجْتمعَا) (همتك الرَّبْط والمدارس تبنيها ... ثَوابًا وتهدم البيعا) (مَا زلت ذَا فطنة مؤيدة ... على غيوب الْأَسْرَار مطلعاً) (ببأسك الْبيض والطُّلي اصطحبت ... بعدلك الذِّئْب والطَّلا رتعا) (كم صائدٍ لم يَقع لَهُ قنص ... فِي شرك وَهُوَ فِيهِ قد وَقعا) (ومالكٍ حِين رُمت قلعته ... غَدا مُطيعًا لِلْأَمْرِ متبَّعا) (عَنَّا خُشُوعاً لرب مملكة ... لغير ربّ السَّمَاء مَا خشعا) (كَانَ مُقيما مِنْهَا على الْفلك الْأَعْلَى ... شهاباً بنوره سطعا) (لكنما الشهب مَا تنير إِذا ... لَاحَ عمودُ الصَّباح فانصدعا) (يَدْفَعهَا طَائِعا إِلَيْك وَكم ... عَنْهَا إباءً بِجهْدِهِ دفعا) (هِيَ الَّتِي فِي علوها زحل ... كرَّ على وردهَا وَمَا كرعا) (وَهِي الَّتِي قاربت عُطَارِد فِي الْأُفق ... فلاحاً والفرقدين مَعًا) (كَأَن مِنْهَا السُّها إِذا اسْترق السّمع ... أَتَاهَا فِي خُفْيَة ودعا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 (هضبة عزّ لولاك مَا أرتقيت ... وطود ملك لولاك مَا فرعا) (مَا قبلت فِي ارتقاء ذروتها ... من ملك لَا رقى وَلَا خدعا) (عزت على الْمَالِك الشَّهِيد وأعطتك ... قيادا مَا زَالَ مُمْتَنعا) (للْأَب لَو حل خطبهَا لغدا ... محرما لِابْنِهِ وَمَا شرعا) (لَا زلت مَحْمُود فِي أمورك مَحْمُودًا ... بِثَوْب الإقبال مدرعا) (وَفِي سَابِع عشر صفر من هَذِه السّنة توفّي بهاء الدّين عمر أَخُو مجد الدّين ابْن الداية وَفِيه وَفِي إخْوَته يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من قصيدة (أَنْتُم لمحمود كآل مُحَمَّد ... متصادفي الْأَفْعَال والأسماء) (يَتْلُو أَبَا بكر عَلَى حَسَنَاته ... عمرُ الممدَّح فِي سنا وسناء) (ويليه عُثْمَان المرَّجي للعُلا ... وعليُّ المأمول فِي اللأواء) (وَيقبل الْحسن الممجَّد مجدهم ... فهمُ ذُوو الْإِحْسَان والنعماء) (فرعت بمجد الدّين إخْوَته الذرى ... دون الورى فِي الْمجد والعلياء) (من سَابق كرماً وشمس سيادة ... شرفاً وَبدر دُجنة وبهاء) (سُرُج الْهدى سُحُب النَّدى شُهُب النُّهى ... أسدُ الحروب ضراغم الهيجاء) يُرِيد سَابق الدّين عُثْمَان وشمس الدّين عليا وَبدر الدّين حسنا وبهاء الدّين عمر ومجد الدّين الْأَكْبَر فهم خَمْسَة رَحِمهم الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فصل وَفِي هَذِه السّنة فتحت الديار المصرية سَار إِلَيْهَا أَسد الدّين مرّة ثَالِثَة فَهزمَ الْعَدو وَقتل شاوراً وَولى الوزارة مَكَانَهُ ثمَّ مَاتَ فوليها صَلَاح الدّين وَسبب ذَلِك ان الْفرج كَانُوا فِي النوبتين الْأَوليين اللَّتَيْنِ اسْتَعَانَ بهم شاور فيهمَا على أَسد الدّين شيركوه قد خبروا الديار المصرية واطلعوا على عوراتها فطمعوا فِيهَا وَنَقَضُوا مَا كَانَ اسْتَقر بَينهم وَبَين المصريين وَأسد الدّين من الْقَوَاعِد فَجمعُوا وحشدوا وَقَالُوا مَا بِمصْر من يصدنا وَإِذا أردناها فَمن يردنا ثمَّ قَالُوا نور الدّين فِي الْبِلَاد الشمالية والجهة الفراتية وعسكر الشَّام متفرق كل مِنْهُم فِي بَلَده حَافظ لما فِي يَده وَنحن ننهض إِلَى مصر وَلَا نطيل بهَا الْحصْر فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا معقل وَلَا لأَهْلهَا منا موئل وَإِلَى أَن تَجْتَمِع عَسَاكِر الشَّام نَكُون قد حصلنا على المرام وقوينا بتملك الديار المصرية على سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام فتوجهوا إِلَيْهَا سائرين وَنَحْوهَا ثائرين وأظهروا أَنهم على قصد حمص وشايعهم على قصد مصر جمَاعَة من أَهلهَا كَابْن الْخياط وَابْن قرجلة وَغَيرهمَا من أَعدَاء شاور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وَكَانَ الفرنج قد جعلُوا لَهُم شحنة بِمصْر والقاهرة وَسكن فرسانهم أَبْوَاب البلدين والمفاتيح مَعَهم على مَا سبق ذكره وتحكموا تحكما كثيرا فطمعوا فِي الْبِلَاد وَأَرْسلُوا إِلَى ملكهم مُرَّى وَلم يكن ملك الفرنج مذ خَرجُوا إِلَى الشَّام مثله شجاعة ومكراً ودهاءً يستدعونه ليملك الْبِلَاد وأعلموه خلوها من ممانع عَنْهَا وسهلوا أمرهَا عَلَيْهِ فَلم يجبهم إِلَى الْمسير وَاجْتمعَ فرسَان الفرنج وذوو الرَّأْي والتقدم وأشاروا عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا والاستيلاء عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُم الرَّأْي عِنْدِي أَلا نقصدها فَإِنَّهَا طعمة لنا وأموالها تساق إِلَيْنَا نتقوى بهَا على نور الدّين وَإِن نَحن قصدناها لنملكها فَإِن صَاحبهَا وعساكره وَعَامة أهل بِلَاده وفلاحيه لَا يسلمونها إِلَيْنَا ويقاتلوننا دونهَا ويحملهم الْخَوْف منا على تَسْلِيمهَا إِلَى نور الدّين وَإِن أَخذهَا وَصَارَ لَهُ فِيهَا مثل أَسد الدّين فَهُوَ هَلَاك الفرنج وإجلاؤهم من أَرض الشَّام فَلم يصغوا إِلَى قَوْله وَقَالُوا إِن مصر لاحافظ لَهَا وَلَا مَانع وَإِلَى أَن يصل الْخَبَر إِلَى نور الدّين ويجهز العساكر ويسيرهم إِلَيْنَا نَكُون نَحن قد ملكناها وفرغنا من أمرهَا وَحِينَئِذٍ يتَمَنَّى نور الدّين منا السَّلامَة فَلَا يقدر عَلَيْهَا وَكَانُوا قد عرفُوا الْبِلَاد وانكشف لَهُم أمرهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك على كره شَدِيد وتجهزوا وأظهروا أَنهم على قصد الشَّام وخاصة مَدِينَة حمص وتوجهوا من عسقلان فِي النّصْف من الْمحرم ووصلوا أول يَوْم من صفر إِلَى بلبيس ونازلوها وحصروها فملكوها قهرا ونهبوها وَسبوا أَهلهَا وَأَقَامُوا بهَا خَمْسَة أَيَّام ثمَّ أناخوا على الْقَاهِرَة وحصروها عَاشر صفر فخاف النَّاس مِنْهُم أَن يَفْعَلُوا بهم مثل فعلهم بِأَهْل بلبيس فحملهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الْخَوْف مِنْهُم على الِامْتِنَاع فحفظوا الْبَلَد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهمْ فِي حفظه وَلَو أَن الفرنج أَحْسنُوا السِّيرَة مَعَ أهل بلبيس لملكوا مصر والقاهرة سرعَة وَلَكِن الله تَعَالَى حسَّن لَهُم ذَلِك {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَكَانَ شاور أَمر بإحراق مَدِينَة مصر تَاسِع صفر قبل نزُول الفرنج عَلَيْهِم بِيَوْم وَاحِد خوفًا عَلَيْهَا من الفرنج فَبَقيت النَّار فِيهَا تحرقها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا إِلَى خَامِس ربيع الآخر ثمَّ ضَاقَ الْحصار وَخيف الْبَوَار وَعرف شاور أَنه يضعف عَن الحماية فشرع فِي تمحل الْحِيَل وَأرْسل إِلَى ملك الإفرنج يذكر لَهُ مودته ومحبته الْقَدِيمَة وَأَن هَوَاهُ مَعَه وتخوفه من نور الدّين والعاضد وَإِنَّمَا الْمُسلمُونَ لَا يوافقونه على التَّسْلِيم إِلَيْهِ وَيُشِير عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ وَأخذ مَال لِئَلَّا تسلم الْبِلَاد إِلَى نور الدّين فَأَجَابَهُ إِلَى الصُّلْح على أَخذ ألف دِينَار مصرية يعجل الْبَعْض وَيُؤَخر الْبَعْض واستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك وَرَأى الفرنج أَن الْبِلَاد امْتنعت عَلَيْهِم وَرُبمَا سلمت إِلَى نور الدّين فَأَجَابُوا كارهين وَقَالُوا نَأْخُذ المَال نتقوى بِهِ ونكثر من الرِّجَال ثمَّ نعود إِلَى الْبِلَاد بِقُوَّة لَا نبالي مَعهَا بِنور الدّين وَلَا غَيره {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِين} فَعجل لَهُم شاور مئة ألف دِينَار وسألهم الرحيل عَن الْبَلَد ليجمع لَهُم المَال فرحلوا قَرِيبا وَكَانَ خَليفَة مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إِلَى نور الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 يستغيث بِهِ ويعرفه ضعف الْمُسلمين عَن الفرنج وَأرْسل فِي الْكتب شُعُور النِّسَاء وَقَالَ لَهُ هَذِه شُعُور نسَائِي من قصري يستغثن بك لتُنقذهن من الفرنج فَقَامَ نور الدّين لذَلِك وَقعد وَشرع فِي تجهيز العساكر إِلَى مصر وَلما صَالح شاور الفرنج على ذَلِك المَال عاود العاضد مراسلة نور الدّين وإعلامه بِمَا لَقِي الْمُسلمُونَ من الفرنج وبذل لَهُ ثلث بِلَاد مصر وَأَن يكون أَسد الدّين شيركوه مُقيما عِنْده فِي عَسْكَر وإقطاعهم عَلَيْهِ خَارِجا عَن الثُّلُث الَّذِي لنُور الدّين هَذَا قَول ابْن الْأَثِير وَقَالَ الْعِمَاد عجل شاور لملك الفرنج بمئة ألف دِينَار حِيلَة وخداعا وإرغابا لَهُ وإطماعاً وواصل بكتبه إِلَى نور الدّين مستصرخاً مستنفراً وَبِمَا نَاب الْإِسْلَام من الْكفْر مخبرا وَيَقُول إِن لم تبادر ذهبت الْبِلَاد وسيَّر الْكتب مسودة بمدادها كاسية لِبَاس حدادها وَفِي طيها ذوائب مجزوزة وعصائب محزوزة ظن أَنَّهَا شُعُور أهل الْقصر للأشعار بِمَا عراهم من بليَّة الْحصْر وأرسلها تباعا وَأَرْدَفَ بهَا نجَّابين سرَاعًا وَأقَام منتظراً ودام متحيراً وعامل الفرنج بالمطال ينقذهم فِي كل حِين مَالا وَيطْلب مِنْهُم إمهالا وَمَا زَالَ يعطيهم ويستمهلهم حَتَّى أَتَى الْغَوْث بعساكر نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فصل فِيمَا فعله نور الدّين كَانَ نور الدّين لما أَتَاهُ الرُّسُل أَولا من العاضد قد أرسل إِلَى أَسد الدّين يستدعيه من حمص وَهِي إقطاعه فَلَمَّا خرج القاصد من حلب لَقِي أَسد الدّين قد وَصلهَا وَكَانَ سَبَب وُصُوله أَن كتب المصريين أَيْضا وصلته فِي هَذَا الْأَمر فَبَقيَ مسلوب الْقَرار مغلوب الاصطبار لِأَنَّهُ كَانَ قد طمع فِي بِلَاد مصر فخاف خُرُوجهَا من يَده وَأَن يستولي عَلَيْهَا الْكفْر فساق فِي لَيْلَة وَاحِدَة من حمص إِلَى حلب وَاجْتمعَ بِنور الدّين سَاعَة وُصُوله فتعجب نور الدّين من ذَلِك وتفاءل بِهِ وسرَّه وَأمره بالتجهز إِلَى مصر والسرعة فِي ذَلِك وَأَعْطَاهُ مئتي ألف دِينَار سوى الثِّيَاب وَالدَّوَاب والآلات والأسلحة وَحكمه فِي العساكر والخزائن فَاخْتَارَ من الْعَسْكَر ألفي فَارس وَأخذ المَال وَجمع من التركمان سِتَّة آلَاف فَارس وَكَانَ فِي مُدَّة حشده للتركمان سَار نور الدّين لتسلم قلعة جعبر ثمَّ سَار هُوَ وَنور الدّين إِلَى دمشق ورحلا فِي جَمِيع العساكر إِلَى رَأس المَاء وَأعْطى نور الدّين كل فَارس من الْعَسْكَر الَّذين مَعَ أَسد الدّين عشْرين دِينَارا مَعُونَة لَهُم على الطَّرِيق غير محسوبة من الْقَرار الَّذِي لَهُ وأضاف إِلَى أَسد الدّين جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمماليك مِنْهُم مَمْلُوكه عز الدّين جرديك وغرس الدّين قليج وَشرف الدّين بزغش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وناصح الدّين خمارتكين وَعين الدولة بن الياروقي وقطب الدّين ينَال بن حسان المنبجي وَغَيرهم ورحلوا على قصد مصر مستنزلين من الله تَعَالَى النَّصْر وَذَلِكَ منتصف ربيع الأول وخيم نور الدّين فِيمَن أَقَامَ مَعَه بِرَأْس المَاء وَأقَام ينْتَظر وُرُود الْمُبَشِّرَات فوصل المبشر برحيل الفرنج عَن الْقَاهِرَة عائدين إِلَى بِلَادهمْ لما سمعُوا بوصول عَسْكَر نور الدّين وسبَّ الْملك كل من أَشَارَ عَلَيْهِ بِقصد مصر وَأمر نور الدّين بِضَرْب البشائر فِي سَائِر بِلَاده وَبث رسله إِلَى الْآفَاق بذلك وَقَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن لقد قَالَ لي السُّلْطَان يَعْنِي صَلَاح الدّين كنت أكره النَّاس لِلْخُرُوجِ فِي هَذِه الدفعة وَمَا خرجت مَعَ عمي باختياري قَالَ وَهَذَا معنى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَالَ ابْن الْأَثِير أحب نور الدّين مسير صَلَاح الدّين وَفِيه ذهَاب بَيته وَكره صَلَاح الدّين الْمسير وَفِيه سعادته وَملكه حُكى لي عَنهُ أَنه قَالَ لما وَردت الْكتب من مصر إِلَى الْملك الْعَادِل نور الدّين رَضِي الله عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 مستصرخين ومستنجدين أحضرني وأعلمني الْحَال وَقَالَ تمْضِي إِلَى عمك أَسد الدّين بحمص مَعَ رَسُولي إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالحضور وتحثه أَنْت على الْإِسْرَاع فَمَا يحْتَمل الْأَمر التَّأْخِير قَالَ فَفعلت فَلَمَّا فارقنا حلب على ميل مِنْهَا لقيناه قادماً فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ لَهُ نور الدّين تجهز للمسير فَامْتنعَ خوفًا من غدرهم أَولا وَعدم مَا يُنْفِقهُ فِي العساكر ثَانِيًا فَأعْطَاهُ نور الدّين الْأَمْوَال وَالرِّجَال وَقَالَ لَهُ إِن تَأَخَّرت أَنْت عَن الْمسير إِلَى مصر فالمصلحة تَقْتَضِي أَن أَسِير أَنا بنفسي إِلَيْهَا فإننا إِن أهملنا أمرهَا ملكهَا الفرنج وَلَا يبْقى مَعَهم مقَام بِالشَّام وَغَيره قَالَ فَالْتَفت إليَّ عمي أَسد الدّين وَقَالَ تجهز يَا يُوسُف قَالَ فَكَأَنَّمَا ضرب قلبِي بسكين فَقلت وَالله لَو أَعْطَيْت ملك مصر مَا سرت إِلَيْهَا فَلَقَد قاسيت بالإسكندرية من المشاق مَا لَا أنساه أبدا فَقَالَ عمي لنُور الدّين لَا بُد من مسيره معي فترسم لَهُ فَأمرنِي نور الدّين وَأَنا استقيله فانقضى الْمجْلس ثمَّ جمع أَسد الدّين العساكر من التركمان وَغَيرهم وَلم يبْق غير الْمسير فَقَالَ لي نور الدّين لَا بُد من مسيرك مَعَ عمك فشكوت إِلَيْهِ الضائقة وَقلة الدَّوَابّ وَمَا أحتاج إِلَيْهِ فَأَعْطَانِي مَا تجهزت بِهِ وكأنما أساق إِلَى الْمَوْت وَكَانَ نور الدّين مهيباً مخوفا مَعَ لينه وَرَحمته فسرت مَعَه فَلَمَّا أستقر أمره وَتُوفِّي أَعْطَانِي الله من ملكهَا مَا لَا كنت أتوقعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قلت وحرضه أَيْضا حسان العرقلة بِأَبْيَات من شعره من جملَة قصيدة مدحه بهَا قَالَ (وَهل أخْشَى من الأنواء بخلا ... إِذا مَا يوسفٌ بِالْمَالِ جادا) (فَتى للدّين لم يبرح صلاحا ... وللأعداء لم يبرح فَسَادًا) (لَئِن أعطَاهُ نور الدّين حصناً ... فَإِن الله يُعْطِيهِ البلادا) (إِلَى كم ذَا التواني فِي دمشق ... وَقد جاءتكم مصرٌ تهادى) (عروس بَعْلهَا أَسد هزبر ... يصيد الْمُعْتَدِينَ وَلنْ يصادا) (أَلا يَا معشر الأجناد سِيرُوا ... وَرَاء لوائه تلقوا رشادا) (فَمَا كل أمرىء صلى مَعَ النَّاس ... مَأْمُوما كمن صلى فُرَادَى) فَلَمَّا سَافر صَلَاح الدّين إِلَى مصر عبر العرقلة على دَاره فَوَجَدَهَا مغلقة فَقَالَ (عبرت على دَار الصّلاح وَقد خلت ... من الْقَمَر الوضاح والمنهل العذب) (فوَاللَّه لَوْلَا سرعةٌ مثل عزمه ... لغرَّقها طرفِي وأحرقها قلبِي) وَدَار صَلَاح الدّين هِيَ الَّتِي وَقفهَا رِبَاطًا للصوفية بحارة قطامش جوَار قيسارية القصاع وإليها يجْرِي المَاء من حمام نور الدّين رَحمَه الله فَقضى الله مَا قضى من رحيل الفرنج وتملك صَلَاح الدّين على مَا سَيَأْتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وللأمير الْفَاضِل أُسَامَة بن منقذ فِي صَلَاح الدّين من قصيدة أَولهَا (سلم على مصر لَا ربع بِذِي سلم ... ) يَقُول فِيهَا (النَّاصِر الْملك الموفى بِذِمَّتِهِ ... وَمن ندى كَفه يُغني عَن الديم) (وَمن إِذا جرد الْبيض الصوارم فِي الهيجاء ... أغمدها فِي الْبيض والقمم) (وَمن حوى الْملك من بعد الطماعة فِي انْتِزَاعه ... بشبا الْهِنْدِيَّة الحذم) (ورد طاغية الإفرنج يحْسب مَا ... رجاه من مُلك مصرٍ كَانَ فِي الْحلم) (وليَّ وراحته صفر وَقد ملئت ... بعد الطماعة من يأس وَمن نَدم) (يصعدون على مَا فاتهم نفسا ... لَو لافح الْبَحْر أضحى الموج كالحمم) (وَفِي السَّلامَة لَوْلَا جهلهم ظفر ... لمن أَرَادَ نزال الْأسد فِي الأجم) (وهم أسود الشرى لَكِن أذلّهم ... ملك لَدَيْهِ الْأسود الغُلب كالغنم) وَله من قصيدة أُخْرَى (أَقمت عَمُود الدّين حِين أماله ... لطاغي الفرنج الغُتم طاغي بني سعد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 (وجاهدت حزب الْكفْر حَتَّى رددتهم ... خزايا عَلَيْهِم خيبة الذل وَالرَّدّ) (أفدت بِمَا قدمت ملكا مخلداً ... وذكراً مدى الْأَيَّام يقرن بِالْحَمْد) (وذكرك فِي الْآفَاق يسري كَأَنَّهُ الصَّباح ... لَهُ نشر الألوة والنَّد) وَلأبي الْحسن بن الذروي فِيهِ من قصيدة يذكر فِيهَا ملك الفرنج مُرِّي (وَلكم أشمت الرّوم أشأم بارق ... أضحت مياه نفوسها من قطره) (وافاك بَحر دروعها عَن مده ... وَمضى وَقد حكمت ظُباك بجزره) (وَلَقِيت مُرِّياً وَطعم حَيَاته ... حُلْو فبدله الْقِتَال بمره) (فاعقد إِلَيْهِ الرَّأْي فِي عذب القنا ... واحلل بهَا عِجلاً معاقد مكره) (واطرده من وكر الشآم فَإِنَّهُ ... قد طَار مِنْك بخافق من ذعره) فصل فِي الْقَبْض على شاور وَقَتله وصل أَسد الدّين الْقَاهِرَة سَابِع ربيع الآخر وَاجْتمعَ بالعاضد خَليفَة مصر فَخلع عَلَيْهِ وأكرمه وأجريت عَلَيْهِ وعَلى عساكره الجرايات الْكَثِيرَة والإقامات الوافرة وَلم يُمكن شاور المُنع من ذَلِك لِأَنَّهُ رأى العساكر كَثِيرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 بِظَاهِر الْبَلَد وَرَأى هوى العاضد مَعَهم من دَاخله فَلم يتجاسر على إِظْهَار مَا فِي نَفسه فكتمه وَهُوَ يماطل أَسد الدّين فِي تَقْرِير مَا كَانَ بذل لَهُ من المَال والإقطاع للعساكر وإفراد ثلث الْبِلَاد لنُور الدّين وَهُوَ يركب كل يَوْم إِلَى أَسد الدّين ويسير مَعَه ويعده ويمنيه {وَمَا يَعِدُهُم الشَّيْطَان إلاَّ غُرُوراً} ثمَّ إِنَّه عزم على أَن يعْمل دَعْوَة لأسد الدّين وَمن مَعَه من الْأُمَرَاء وَيقبض عَلَيْهِم فَنَهَاهُ ابْنه الْكَامِل وَقَالَ لَهُ وَالله لَئِن عزمت على هَذَا الْأَمر لأعرفن أَسد الدّين فَقَالَ لَهُ أَبوهُ وَالله لَئِن لم أفعل لَنَقْتُلَنَّ جَمِيعًا فَقَالَ صدقت وَلِأَن نقْتل وَنحن مُسلمُونَ والبلاد بيد الْمُسلمين خير من أَن نقْتل وَقد ملكهَا الفرنج فَلَيْسَ بَيْنك وَبَين عود الفرنج إِلَّا أَن يسمعوا بِالْقَبْضِ على شركوه وَحِينَئِذٍ لَو مَشى العاضد إِلَى نور الدّين لم يُرْسل فَارِسًا وَاحِدًا ويملكون الْبِلَاد فَترك مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى الْعَسْكَر النُّوري المطل من شاور اتّفق صَلَاح الدّين يُوسُف وَعز الدّين جرديك وَغَيرهمَا على قتل شاور وأعلموا أَسد الدّين بذلك فنهاهم فَقَالُوا إِنَّا لَيْسَ لنا فِي الْبِلَاد شَيْء مهما هَذَا على حَاله فَأنْكر ذَلِك وَاتفقَ أَن أَسد الدّين سَار بعض الْأَيَّام إِلَى زِيَارَة قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقصد شاور عسكره على عَادَته للاجتماع بِهِ فَلَقِيَهُ صَلَاح الدّين وَعز الدّين جرديك ومعهما جمع من الْعَسْكَر فخدموه وأعلموه أَن أَسد الدّين فِي الزِّيَارَة فَقَالَ نمضي إِلَيْهِ فَسَار وهما مَعَه قَلِيلا ثمَّ ساوروه وألقوه عَن فرسه فهرب أَصْحَابه وَأخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أَسِيرًا وَلم يُمكنهُم قَتله بِغَيْر أَمر أَسد الدّين فسجنوه فِي خيمة وتوكلوا بحفظه فَعلم أَسد الدّين الْحَال فَعَاد مسرعاً وَلم يُمكنهُ إِلَّا إتْمَام مَا عملوه وَأرْسل العاضد لدين الله صَاحب مصر فِي الْوَقْت إِلَى أَسد الدّين يطْلب مِنْهُ رَأس شاور ويحثه على قَتله وتابع الرُّسُل بذلك فَقتل شاور فِي يَوْمه وَهُوَ سَابِع عشر ربيع الآخر وَحمل رَأسه إِلَى الْقصر وَدخل أَسد الدّين إِلَى الْقَاهِرَة فَرَأى من كَثْرَة الْخلق واجتماعهم مَا خَافَ مِنْهُ على نَفسه فَقَالَ لَهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمركُم بِنَهْب دَار شاور فقصدها النَّاس ينهبونها فَتَفَرَّقُوا عَنهُ هَذَا قَول ابْن الْأَثِير وَقَالَ ابْن شَدَّاد أَقَامَ أَسد الدّين بهَا يتَرَدَّد إِلَيْهِ شاور فِي الأحيان وَكَانَ وعدهم بِمَال فِي مُقَابلَة مَا خسروه من النَّفَقَة فَلم يُوصل إِلَيْهِم شَيْئا وعلقت مخاليب الْأسد فِي الْبِلَاد وَعلم أَن الفرنج مَتى وجدوا فرْصَة أخذُوا الْبِلَاد وَأَن ترددهم إِلَيْهَا فِي كل وَقت لَا يُفِيد وَأَن شاور يلْعَب بهم تَارَة وبالإفرنج أُخْرَى وملاكها قد كَانُوا على الْبِدْعَة الْمَشْهُورَة عَنْهُم وَعَلمُوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِيلَاء على الْبِلَاد مَعَ بَقَاء شاور فَأَجْمعُوا أَمرهم على قَبضه إِذا خرج إِلَيْهِم وَكَانُوا هم يَتَرَدَّدُونَ إِلَى خدمته دون أَسد الدّين وَهُوَ يخرج فِي الأحيان إِلَى أَسد الدّين يجْتَمع بِهِ وَكَانَ يركب على قَاعِدَة وزرائهم بالطبل والبوق وَالْعلم فَلم يتجاسر على قَبضه مِنْهُم إِلَّا السُّلْطَان نَفسه يعْنى صَلَاح الدّين وَذَلِكَ أَنه لما سَار إِلَيْهِم تَلقاهُ رَاكِبًا وَسَار إِلَى جَانِبه وَأخذ بتلابيبه وَأمر الْعَسْكَر أَن خُذُوا على أَصْحَابه فَفرُّوا ونهبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الْعَسْكَر وَقبض على شاور وَأنزل إِلَى خيمة مُفْردَة وَفِي الْحَال جَاءَ التوقيع من المصريين على يَد خَادِم خَاص يَقُول لَا بُد من رَأسه جَريا على عَادَتهم فِي وزرائهم فِي تَقْرِير قَاعِدَة من قوى مِنْهُم على صَاحبه فحزت رقبته وأنفذ رَأسه إِلَيْهِم وَقَالَ الْعِمَاد وَدخل أَسد الدّين فِي الرَّابِع من شهر ربيع الآخر الإيوان وخُلع عَلَيْهِ وَلَقي الْإِحْسَان وَتردد شاور إِلَى أَسد الدّين وتودد وتجدد بَينهمَا من الوداد مَا تَأَكد وَأقَام للعسكر الضيافات الْكَثِيرَة والأطعمة الواسعة والحلاوات والميرة فَقَالَ صَلَاح الدّين هَذَا أَمر يطول وَمَسْأَلَة فَرضهَا يُعول ومعنا هَذَا الْعَسْكَر الثقيل وإقامته بِالْإِقَامَةِ يقصر عَنْهَا الأمد الطَّوِيل وَلَا أَمر لنا مَعَ اسْتِيلَاء شاور لَا سِيمَا إِذا راوغ وغاور فنفذ أَسد الدّين الْفَقِيه عِيسَى إِلَى شاور يُشِير عَلَيْهِ بالاحتراس وَقَالَ لَهُ أخْشَى عَلَيْك من عِنْدِي من النَّاس فَلم يكترث بمقاله وَركب على سَبِيل انبساطه واسترساله فاعترضه صَلَاح الدّين فِي الْأُمَرَاء النورية وَهُوَ رَاكب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 على عَادَته فِي هَيئته الوزيرية فبغته وشحته وَقَبضه وأثبته ووكل بِهِ فِي خيمة ضربهَا لَهُ وحاول إمهاله فجَاء من الْقصر من يطْلب رَأسه ويعجل من الْعُمر يأسه وَجَاء الرَّسُول بعد الرَّسُول وأبوا أَن يرجِعوا إِلَّا بنجح السُّول فَحم حمامه وَحمل إِلَى الْقصر هامه قلت وَبَلغنِي أَن الَّذِي بَاشر حز رَقَبَة شاور هُوَ عز الدّين جرديك وَكَانَ صَلَاح الدّين لما لقِيه فِي اصحابه سَار بجنبه وَأَرَادَ إِفْرَاده عَن الْعَسْكَر فالتمس مِنْهُ الْمُسَابقَة بفرسيهما فَأَجَابَهُ وَوَافَقَهُمَا فِي ذَلِك جُرديك وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر قد تقرر فحركوا خيلهم فَلَمَّا بعدوا عَن الْعَسْكَر ووقفوا قبض صَلَاح الدّين وجرديك على شاور وَأدْخل الْخَيْمَة وَقد كثر هجاء شاور بغدره ومكره حَتَّى قَالَ عرقلة (لقد فَازَ بِالْملكِ الْعَقِيم خَليفَة ... لَهُ شيركوه العاضديُّ وَزِير) (كَأَن ابْن شاذي وَالصَّلَاح وسيفه ... عَليّ لَدَيْهِ شبر وشّبير) (هُوَ الْأسد الضاري الَّذِي جلّ خطبه ... وشاور كلب للرِّجَال عقور) (بغى وطغا حَتَّى لقد قَالَ قَائِل ... على مثلهَا كَانَ اللعين يَدُور) (فَلَا رحم الرَّحْمَن تربة قَبره ... وَلَا زَالَ فِيهَا مُنكر وَنَكِير) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وَقَالَ أَيْضا (قل لأمير الْمُؤمنِينَ الَّذِي ... مصر حِماه وعليُّ أَبوهُ) (نَص على شاور فرعونها ... وَنَصّ موساها على شيركوه) وَقد وصف الْفَقِيه الشَّاعِر أَبُو حَمْزَة عمَارَة اليمني فِي كتاب الوزراء المصرية الَّذِي صنفه حَال شاور فِي وزارته الأولى ثمَّ قَالَ وزارة شاور الثَّانِيَة فِيهَا تكشفت صفحاته وأحرقت لفحاته وأغرقت نفحاته وغّضَّه الدَّهْر وعضه وأوجعه الثُّكل وأمضه وَبَان غمره وثماده وجمره ورماده وَلم يجِف من الأنكاد لبده وَلَا صفا من الأقذاء ورده وَمَا وَمَا هُوَ إِلَّا أَن تسلمها بالراحة وسُلمت لَهُ الهموم عوضا عَن الرَّاحَة وَفِي أول لَيْلَة دخل الْقَاهِرَة ارتحل أَسد الدّين طَالبا بلبيس فَأَقَامَ بهَا ثمَّ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة فَكسر النَّاس يَوْم التَّاج وَأسر أَخُوهُ صبح وَأُصِيب على بَاب القنطرة بِحجر كَاد يَمُوت مِنْهُ وَتعقب ذَلِك بِنَقْل الْقِتَال على الْقَاهِرَة حَتَّى دخلت من الثغرة ثمَّ تبع هَذَا مَجِيء الفرنج وَعمل البرج وحصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 بلبيس ثمَّ تَلا ذَلِك قيام يحيى بن الْخياط طَالبا للوزارة ثمَّ تَلا ذَلِك نفاق لواته وَمن ضامها من قيس وَخُرُوج أَخِيه نجم وَابْنه سُلَيْمَان وَجَمَاعَة من غلمانه لحربهم ثمَّ خُرُوج ابْنه الْكَامِل فِي بَقِيَّة الْعَسْكَر وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة قبضُه على الْأَثِير بن جلب رَاغِب وَقَتله وَأسر معالي بن فُريج ثمَّ قَتله واتصل إِلَيْهِ الْخَبَر من قدوم أَسد الدّين إِلَى أطفيح بِأم النوائب الْكبر وَوَافَقَ مَجِيء الغز قدوم الفرنج ناصرين للدولة وتوجهوا من مصر فِي الْبر الشَّرْقِي تابعين للغزِّ ثمَّ لاحت الفرصة للفرنج فعادوا إِلَى مصر واقترحوا من المَال مَا تَنْقَطِع دونه الآمال وخيموا على سَاحل الْمقسم وأظهروا رجوعهم إِلَى الشَّام فتجهز الْكَامِل للمسير صُحْبَة الإفرنج حَدثنِي القَاضِي الْأَجَل الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني قَالَ أَنا أذكر وَقد خلونا فِي خيمة وَلَيْسَ مَعنا أحد إِنَّمَا هُوَ شاور وَابْنه الْكَامِل وَأَخُوهُ نجم فعزم الْكَامِل على النهوض مَعَ الفرنج وعزم نجم على التَّغْرِيب إِلَى سليم وَمَا وَرَاءَهَا وَقَالَ شاور لَكِن لَا أَبْرَح أقَاتل بِمن صفا معي حَتَّى أَمُوت فَنحْن فِي ذَلِك حَتَّى وصل إِلَيْنَا الدَّاعِي ابْن عبد القويّ وصنيعة المُلك جَوْهَر وعزُّ الْأُسْتَاذ وَقد التزموا المَال وتفرع على هَذَا الأَصْل مقَام الغز بالجيزة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ونوبة الْبَابَيْنِ وحصار الْإسْكَنْدَريَّة وانصراف الغز رَاجِعين والفرنج بعدهمْ فَمَا هُوَ إِلَّا أَن توهم شاور أَن الدَّهْر قد نَام وغفا وصفح عَن عَادَته مَعَه وَعَفا وَإِذا الْأَيَّام لَا تخْطب إِلَّا زَوَاله وفوته وَلَا تُرِيدُ إِلَّا انْتِقَاله وَمَوته فَكَانَ من قدوم الفرنج إِلَى بلبيس وَقتل من فِيهَا وأسرهم بأسرهم مَا أوجب حريق مصر ومكاتبة الْأَجَل نور الدّين بن القسيم وإنجاده كلمة الْإِسْلَام بأسد الدّين وَمن مَعَه من الْمُسلمين الَّذين قلت فيهم وَقد ربط الإفرنج الطَّرِيق عَلَيْهِم (أَخَذْتُم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الْخَيل مرِّي على مرِّي) (لَئِن نصبوا فِي الْبر جِسْرًا فَإِنَّكُم ... عبرتم ببحر من حَدِيد على الجسر) قلت وَهَذَانِ البيتان من قصيدة لَهُ ستأتي ومري هَذَا هُوَ أسم ملك الإفرنج قَالَ عمَارَة فَقضى قدوم الغز برحيل الفرنج عَن الديار المصرية وَلم يلبث شاور ان مَاتَ قَتِيلا بعد قدوم الغز بِثمَانِيَة عشر يَوْمًا وَهَذِه السنوات الَّتِي وزر فِيهَا شاور وزارته الثَّانِيَة كَثِيرَة الوقائع والنوازل وفيهَا مَا هُوَ عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا هُوَ لَهُ قَالَ وَلم يربِّ أحد رجال الدولة مثل مَا رباهم الصَّالح بن زريك وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 أفنى أعيانهم مثل ضرغام وَكَانَت وزارته تِسْعَة أشهر مُدَّة حمل الْجَنِين وَلَا أتلف أَمْوَالهم مثل آل شاور وشاور هُوَ الَّذِي أطمع الغز والإفرنج فِي الدولة حَتَّى انْتَقَلت عَن أَهلهَا وَلما عَاد من حِصَار الْإسْكَنْدَريَّة أَكثر من سفك الدِّمَاء بِغَيْر حق كَانَ يَأْمر بِضَرْب الرّقاب بَين يَدَيْهِ فِي قاعة الْبُسْتَان من دَار الوزارة ثمَّ تسحب الْقَتْلَى إِلَى خَارج الدَّار وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لما خيف من شَرّ شاور ومكره لما عرف من غدره وختره واتضح الْأَمر فِي ذَلِك واستبان تمارض الْأسد ليقتنص الثعلبان فَجَاءَهُ قَاصِدا لعيادته جَارِيا فِي خدمته على عَادَته فَوَثَبَ جرديك وبزغش موليا نور الدّين فقتلا شاورا وأراحا الْعباد والبلاد من شَره وَمَا شاورا وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ أول من تولى الْقَبْض عَلَيْهِ وَمد يَده الْكَرِيمَة بالمكروه إِلَيْهِ وَصفا الْأَمر لأسد الدّين وَملك وخلع عَلَيْهِ الْخلْع وحنك وَاسْتولى أَصْحَابه على الْبِلَاد وَجَرت أُمُوره على السداد وَظهر مِنْهُ حميد السِّيرَة وَظَهَرت كلمة أهل السّنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 فصل فِي وزارة أَسد الدّين وَذَلِكَ عقيب قتل شاور وتنفيذ رَأسه إِلَى الْقصر أنفذ إِلَى أَسد الدّين خلعة الوزارة فلبسها وَسَار وَدخل الْقصر وترتب وزيرا ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور أَمِير الجيوش وَقصد دَار الوزارة فنزلها وَهِي الَّتِي كَانَ بهَا شاور فَمن قبله من الوزراء فَلم ير فِيهَا مَا يقْعد عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي الْأَمر وَلم يبْق لَهُ فِيهِ مُنَازع وَلَا مناوىء وَولى الْأَعْمَال من يَثِق إِلَيْهِ واستبد بِالْولَايَةِ فأقطع الْبِلَاد العساكر الَّتِي قدمت مَعَه وَصَلَاح الدّين مبَاشر للأمور مُقَرر لَهَا وزمام الْأَمر وَالنَّهْي مفوض إِلَيْهِ لمَكَان كِفَايَته ودرايته وَحسن تَأتيه وسياسته قَالَ الْعِمَاد وكُتب لأسد الدّين منشور من الْقصر بسيط الشَّرْح طَوِيل الطي والنشر كتب العاضد فِي طرته بِخَطِّهِ وَلَا شكّ أَنه بإملاء كَاتبه هَذَا عهد لَا عهد لوزير بِمثلِهِ وتقلد أَمَانَة رآك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَهلا لحمله وَالْحجّة عَلَيْك عِنْد الله بِمَا أوضحه لَك من مراشد سبله فَخذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِقُوَّة واسحب ذيل الفخار بِأَن اعتزت خدمتك إِلَى بنوة النُّبُوَّة واتخذه للفوز سَبِيلا {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ونسخة المنشور من عبد الله ووليه أبي مُحَمَّد العاضد لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى السَّيِّد الْأَجَل الْملك الْمَنْصُور سُلْطَان الجيوش ولى الْأَئِمَّة مجير الْأمة أَسد الدّين كافل قُضَاة الْمُسلمين وهادي دعاة الْمُؤمنِينَ أبي الْحَارِث شيركوه العاضدي عضد الله بِهِ الدّين وأمتع بطول بَقَائِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وأدام قدرته وَأَعْلَى كَلمته سَلام عَلَيْك فَإِنَّهُ يحمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ويسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وَسيد الْمُرْسلين وعَلى آله الطاهرين وَالْأَئِمَّة المهديين وَسلم تَسْلِيمًا ثمَّ ذكر بَاقِي المنشور وَهُوَ مُشْتَمل على كَلَام طَوِيل وحشو غير قَلِيل على عَادَة الْكتاب الْمُتَأَخِّرين الَّذين تراهم بالألفاظ الْكَثِيرَة عَن الْمَعْنى الْيَسِير معبرين والبلاغة عكس ذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت بجوامع الْكَلم واختُصر لي الْكَلَام اختصاراً وَلما أستقل أَسد الدّين بالوزارة طلب من الْقصر كَاتب إنْشَاء فَأرْسل إِلَيْهِ بِالْقَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني وَكَانَ أَبوهُ من أهل بيسان الشَّام ثمَّ ولي قَضَاء عسقلان وَخرج الْفَاضِل إِلَى الديار المصرية فولي كَاتبا بالإسكندرية على بَاب السِّدرة ثمَّ إِنَّه أتصل بالكامل بن شاور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فاستكتبه وزاحم بِهِ كتّاب الْقصر فثقل عَلَيْهِم أمره فَلَمَّا طلب أَسد الدّين كَاتبا أرسل بِهِ إِلَيْهِ وَظن رُؤَسَاء ديوَان المكاتبات أَن هَذَا أَمر لَا يتم وَأَن أَسد الدّين سيقتل كَمَا قتل من كَانَ قبله فأرسلوا بالفاضل إِلَيْهِ وَقَالُوا لَعَلَّه يُقتل مَعَه فنخلص من مزاحمته لنا فَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَاسْتمرّ فِي الدولة وَلم يَزْدَدْ فِي كل يَوْم إِلَّا تقدماً بصدقه وَدينه وَحسن رَأْيه رَحمَه الله وأنفذ الْعِمَاد قصيدة طَوِيلَة تهنئة لأسد الدّين أَولهَا (بالجد أدْركْت مَا أدْركْت لَا اللّعب ... كم رَاحَة جُنيت من دوحة التَّعَب) (يَا شيركوه بن شاذي الْملك دَعْوَة من ... نَادَى فعرَّف خير ابْن بِخَير أَب) (جرى الْمُلُوك وَمَا حازوا بركضهم ... من المدى فِي الْعلَا مَا حزت بالخبب) (تَمَلَّ من ملك مصر رُتْبَة قصرت ... عَنْهَا الْمُلُوك فطالت سَائِر الرتب) (فتحت مصر وَأَرْجُو أَن تصير بهَا ... ميسرًا فتح بَيت الْقُدس عَن كثب) (قد أمكنت أَسد الدّين الفريسة من ... فتح الْبِلَاد فبادر نَحْوهَا وثِب) (أَنْت الَّذِي هُوَ فَرد من بسالته ... وَالدّين من عزمه فِي جحفل لجب) (فِي حلق ذِي الشّرك من عدوي سطاك شجاً ... وَالْقلب فِي شجن وَالنَّفس فِي شجب) (زارت بني الْأَصْفَر الْبيض الَّتِي لقِيت ... حمر المنايا بهَا مَرْفُوعَة الْحجب) (وَإِنَّهَا نَقَد من خلفهَا أَسد ... أرى سلامتها من أعجب الْعجب) (لقد رفعنَا إِلَى الرَّحْمَن أَيْدِينَا ... فِي شكرنا مَا بِهِ الْإِسْلَام مِنْك حبي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 (شكا إِلَيْك بَنو الْإِسْلَام يُتْمهم ... فَقُمْت فيهم مقَام الْوَالِد الحدب) (فِي كل دَار من الإفرنج نادبة ... بِمَا دهاهم فقد باتوا على ندب) (من شَرّ شاور أنقذت الْعباد فكم ... وَكم قضيت لحزب الله من أرب) (هُوَ الَّذِي أطمع الإفرنج فِي بلد الْإِسْلَام ... حَتَّى سعوا للقصد والطلب) (وَإِن ذَلِك عِنْد الله محتسب ... فِي الْحَشْر من أفضل الطَّاعَات والقرب) (أذله الْملك الْمَنْصُور منتصراً ... لما دَعَا الشّرك هَذَا قد تعزز بِي) (وَمَا غضِبت لدين الله منتقماً ... إِلَّا لنيل رضَا الرَّحْمَن بِالْغَضَبِ) (وَأَنت من وَقعت بالْكفْر هيبته ... وَفِي ذويه وُقُوع النَّار فِي الْحَطب) (وَحين سرت إِلَى الْكفَّار فَانْهَزَمُوا ... نُصرت نصر رَسُول الله بِالرُّعْبِ) (يَا محيي الْأمة الْهَادِي بدعوته ... للرشد كل غَوِيّ مِنْهُم وغبي) (لما سعيت لوجه الله مرتقباً ... ثَوَابه نلْت عفوا كل مرتقب) (أعدت نقمة مصرٍ نعْمَة فغدت ... تَقول كم نكتٍ لله فِي النكب) (أركبت رَأس سِنَان رَأس ظالمها ... عدلا وَكنت لوزرٍ غير مرتكب) (ردَّ الْخلَافَة عباسيةً ودع الدعي ... فِيهَا يُصَادف شَرّ مُنْقَلب) (لَا تقطعن ذَنْب الأفعى وترسله ... والحزم عِنْدِي قطع الرَّأْس كالذنب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة أَنْشدني الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم لنَفسِهِ وَقد أعفى الْملك الْعَادِل نور الدّين قدس الله روحه أهل دمشق من الْمُطَالبَة بالخشب فورد الْخَبَر باستيلاء عسكره على مصر فَكتب إِلَيْهِ يهنيه (لما سمحت لأهل الشَّام بالخشب ... عُوضِّت مصر بِمَا فِيهَا من النشب) (وَإِن بذلت لفتح الْقُدس محتسباً ... لِلْأجرِ جوزيت أجرا غيرَ محتسب) (وَالْأَجْر فِي ذَاك عِنْد الله مرتقب ... فِيمَا يثيب عَلَيْهِ خيرُ مرتقب) (وَالذكر بِالْخَيرِ بَين النَّاس تكسبه ... خير من الْفضة الْبَيْضَاء وَالذَّهَب) (وَلست تعذر فِي ترك الْجِهَاد وَقد ... أَصبَحت تملك من مصر إِلَى حلب) (وَصَاحب الْموصل الفيحاء ممتثل ... لما تُرِيدُ فبادر فَجْأَة النوب) (فأحزم النَّاس من قويَّ عزيمته ... حَتَّى ينَال بهَا العالي من الرتب) (فالجَدُّ والْجِدُّ مقرونان فِي قرن ... والحزم فِي الْعَزْم والإدراك بِالطَّلَبِ) (فطهر الْمَسْجِد الْأَقْصَى وحوزته ... من النَّجَاسَات والإشراك والصلب) (عساك تظفر فِي الدُّنْيَا بِحسن ثَنَا ... وَفِي الْقِيَامَة تلقى خير مُنْقَلب) فصل فِي وَفَاة أَسد الدّين وَولَايَة ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين مَكَانَهُ توفّي أَسد الدّين فَجْأَة يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة فَكَانَت وزارته شَهْرَيْن وَخَمْسَة أَيَّام وَقَالَ ابْن شَدَّاد كَانَ أَسد الدّين كثير الْأكل شَدِيد الْمُوَاظبَة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 تنَاول اللحوم الغليظة تتواتر عَلَيْهِ التخم والخوانيق وينجو مِنْهَا بعد معاناة شدَّة عَظِيمَة فَأَخذه مرض شَدِيد واعتراه خانوق عَظِيم فَقتله رَحمَه الله تَعَالَى وفَوض الْأَمر بعده إِلَى صَلَاح الدّين واستقرت الْقَوَاعِد واستتبت الْأَحْوَال على أحسن نظام وبذل الْأَمْوَال وَملك الرِّجَال وهانت عِنْده الدُّنْيَا فملكها وشكر نعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَتَابَ عَن الْخمر وَأعْرض عَن أَسبَاب اللَّهْو وتقمص بلباس الْجد وَالِاجْتِهَاد وَمَا عَاد عَنهُ وَلَا ازْدَادَ إِلَّا جدا إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى إِلَى رَحمته وَلَقَد سَمِعت مِنْهُ رَحمَه الله يَقُول لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أَنه أَرَادَ فتح السَّاحِل لِأَنَّهُ أوقع ذَلِك فِي نَفسِي وَمن حِين استتب لَهُ الْأَمر مَا زَالَ يَشن الغارات على الفرنج إِلَى الكرك والشوبك وبلادهما وغشى النَّاس من سحائب الأفضال وَالنعَم مَا لم يؤرخ عَن غير تِلْكَ الْأَيَّام هَذَا كُله وَهُوَ وَزِير متابع للْقَوْم لكنه مقو لمَذْهَب السّنة غارسٌ فِي الْبِلَاد أهل الْعلم وَالْفِقْه والتصوف وَالدّين وَالنَّاس يهرعون إِلَيْهِ من كل صوب ويفدون إِلَيْهِ من كل جَانب وَهُوَ رَحمَه الله لَا يخيب قَاصِدا وَلَا يعْدم وافداً وَلما عرف نور الدّين اسْتِقْرَار أَمر صَلَاح الدّين بِمصْر أَخذ حمص من نواب أَسد الدّين وَذَلِكَ فِي رَجَب من هَذِه السّنة وَقَالَ ابْن الْأَثِير أما كَيْفيَّة ولَايَة صَلَاح الدّين فَإِن جمَاعَة من الْأُمَرَاء النُّورية الَّذين كَانُوا بِمصْر طلبُوا التَّقَدُّم على العساكر وَولَايَة الوزارة مِنْهُم الْأَمِير عين الدولة الياروقي وقطب الدّين خسرو بن تليل وَهُوَ ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 أخي أبي الهيجاء الهذَباني الَّذِي كَانَ صَاحب إربل وَمِنْه سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المهكاري وجده كَانَ صَاحب قلاع الهَكّارية وَمِنْهُم شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي وَهُوَ خَال صَلَاح الدّين وكل من هَؤُلَاءِ قد خطبهَا وَقد جمع ليغالب عَلَيْهَا فَأرْسل الْخَلِيفَة العاضد إِلَى صَلَاح الدّين فَأمره بالحضور فِي قصره ليخلع عَلَيْهِ خلع الوزارة ويوليه الْأَمر بعد عَمه وَكَانَ الَّذِي حمل العاضد على ذَلِك ضعف صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ ظن أَنه إِذا ولى صَلَاح الدّين وَلَيْسَ لَهُ عَسْكَر وَلَا رجال كَانَ فِي ولَايَته بِحكمِهِ وَلَا يَجْسُر على الْمُخَالفَة وَأَنه يضع على الْعَسْكَر الشَّامي من يستميلهم إِلَيْهِ فَإِذا صَار مَعَه الْبَعْض أخرج البَاقِينَ وتعود الْبِلَاد إِلَيْهِ وَعِنْده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج وَنور الدّين فَامْتنعَ صَلَاح الدّين وضعفت نَفسه عَن هَذَا الْمقَام فألزم بِهِ وَأخذ كَارِهًا إِن الله ليعجب من قوم يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل فَلَمَّا حضر فِي الْقصر خلع عَلَيْهِ خلعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الوزارة الْجُبَّة والعمامة وَغَيرهمَا ولقب الْملك النَّاصِر وَعَاد إِلَى دَار أَسد الدّين فَأَقَامَ بهَا وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ أحد من أُولَئِكَ الْأُمَرَاء الَّذين يُرِيدُونَ الْأَمر لأَنْفُسِهِمْ وَلَا خدموه وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى الهكاري مَعَه فسعى مَعَ سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد حَتَّى أماله إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا الْأَمر لَا يصل إِلَيْك مَعَ وجود عين الدولة والحارمي وَابْن تليل فَمَال إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ قصد شهَاب الدّين الحارمي وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا صَلَاح الدّين هُوَ ابْن أختك وَملكه لَك وَقد أستقام الْأَمر لَهُ فَلَا تكن أول من يسْعَى فِي إِخْرَاجه عَنهُ فَلَا يصل إِلَيْك وَلم يزل بِهِ حَتَّى أحضرهُ أَيْضا عِنْده وحلَّفه لَهُ ثمَّ عدل إِلَى قطب الدّين وَقَالَ لَهُ إِن صَلَاح الدّين قد أطاعه النَّاس وَلم يبْق غَيْرك وَغير الياروقي فعلى كل حَال يجمع بَيْنك وَبَين صَلَاح الدّين أَن أَصله من الأكراد فَلَا يخرج الْأَمر عَنهُ إِلَى الأتراك ووعده وَزَاد فِي إقطاعه فأطاع صَلَاح الدّين أَيْضا وَعدل إِلَى عين الدولة الياروقي وَكَانَ أكبر الْجَمَاعَة وَأَكْثَرهم جمعا فَلم تَنْفَعهُ رقاه وَلَا نفذ فِيهِ سحره وَقَالَ أَنا لاأخدم يُوسُف أبدا وَعَاد إِلَى نور الدّين وَمَعَهُ غَيره فَأنْكر عَلَيْهِم فِرَاقه وَقد فَاتَ الْأَمر {ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَثَبت قدم صَلَاح الدّين ورسخ ملكه وَهُوَ نَائِب عَن الْملك الْعَادِل نور الدّين وَالْخطْبَة لنُور الدّين فِي الْبِلَاد كلهَا وَلَا يتصرفون إِلَّا عَن أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وَكَانَ نور الدّين يُكَاتب صَلَاح الدّين بالأمير الأسفهسلار وَيكْتب علامته فِي الْكتب تَعْظِيمًا أَن يكْتب اسْمه وَلَا يفرده فِي كتاب بل يكْتب الْأَمِير الأسفهسلار صَلَاح الدّين وكافة الْأُمَرَاء بالديار المصرية يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا واستمال صَلَاح الدّين قُلُوب النَّاس وبذل لَهُم الْأَمْوَال مِمَّا كَانَ أَسد الدّين قد جمعه وَطلب من العاضد شَيْئا يُخرجهُ فَلم يُمكنهُ مَنعه فَمَال النَّاس إِلَيْهِ وأحبوه وقويت نَفسه على الْقيام بِهَذَا الْأَمر والثبات فِيهِ وَضعف أَمر العاضد وَكَانَ كالباحث عَن حتفه بظلفه وَأرْسل صَلَاح الدّين يطْلب من نور الدّين أَن يُرْسل إِلَيْهِ إخْوَته فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَقَالَ أَخَاف أَن يُخَالف أحد مِنْهُم عَلَيْك فتفسد الْبِلَاد ثمَّ إِن الفرنج اجْتَمعُوا ليسيروا إِلَى مصر فسير نور الدّين العساكر وَفِيهِمْ إخْوَة صَلَاح الدّين مِنْهُم شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب وَهُوَ أكبر من صَلَاح الدّين فَلَمَّا أَرَادَ أَن يسير قَالَ لَهُ إِن كنت تسير إِلَى مصر وَتنظر إِلَى أَخِيك أَنه يُوسُف الَّذِي كَانَ يقوم فِي خدمتك وَأَنت قَاعد فَلَا تسر فَإنَّك تفْسد الْبِلَاد وأُحضرك حِينَئِذٍ وأعاقبك بِمَا تستحقه وَإِن كنت تنظر إِلَيْهِ أَنه صَاحب مصر وقائم فِيهَا مقَامي وتخدمه بِنَفْسِك كَمَا تخدمني فسر إِلَيْهِ وَاشْدُدْ أزره وساعده على مَا هُوَ بصدده فَقَالَ أفعل مَعَه من الْخدمَة وَالطَّاعَة مَا يصل إِلَيْك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَكَانَ كَمَا قَالَ وَقَالَ الْعِمَاد لما فُرغ بعد ثَلَاثَة أَيَّام من التَّعْزِيَة بأسد الدّين اخْتلفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 آراؤهم واختلظت أهواؤهم وَكَاد الشمل لَا يَنْتَظِم والخلل لَا يلتئم فَاجْتمع الْأُمَرَاء النُّورية على كلمة وَاحِدَة وأيد متساعدة وعقدوا لصلاح الدّين الرَّأْي والراية وَأَخْلصُوا لَهُ الْوَلَاء وَالْولَايَة وَقَالُوا هَذَا مقَام عَمه وَنحن بِحكمِهِ والزموا صَاحب الْقصر بتوليته وَنَادَتْ السَّعَادَة بتلبيته وَشرع فِي تَرْتِيب الْملك وتربيته وفض ختوم الخزائن وأنض رسوم المزائن وسلط الْجُود على الْمَوْجُود وَبسط الوفور للوفود وَفرق مَا جمعه أَسد الدّين فِي حَيَاته وأنارت على منار الْعلَا إياة آيَاته وَرَأى أولياءه تَحت ألويته وراياته وأحبوه وَمَا زَالَت محبته غالبة على مهابته وَهُوَ يُبَالغ فِي تقريبهم كَأَنَّهُمْ ذَوُو قرَابَته وَمَا زَاده الْملك ترفعاً وَمَا أَفَادَهُ إِلَّا تأصلا فِي السماح وتفرعا وَضم من أَمر المملكة مَا كَانَ منشوراً وَكتب لَهُ العاضد صَاحب الْقصر منشوراً وَهُوَ بالمثال الْكَرِيم الفاضلي الَّذِي هُوَ السحر الْحَلَال والعذب الزلَال ثمَّ أوردهُ الْعِمَاد وَهُوَ شَبيه بمنشور عَمه أَسد الدّين وَجرى الْقَلَم فِيهِ بِمَا خطّ لَهُ الْقَلَم فِي الْأَزَل من وصف جهاده وَسلمهُ فَفِي ذَلِك المنشور وَالْجهَاد أَنْت رَضِيع دَرِّه وناشئة حجره وَظُهُور الْخَيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 مواطنك وظلال الْخيام مساكنك وَفِي ظلمات قساطله تُجلى محاسنك وَفِي أعقاب نوازله تتلى مناقبك فشمر لَهُ عَن سَاق من القنا وخُض فِيهِ بحرا من الظبى واحلل فِي عقد كلمة الله وثيقات الحبى وأسل الوهاد بِدَم العدى وارفع برؤوسهم الرِّبَا حَتَّى يَأْتِي الله بِالْفَتْح الَّذِي يَرْجُو أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يكون مذخوراً لأيامك وشهوداً لَك يَوْم مقامك وَفِي طرَّته بالخط العاضدي وَلم يذكرهُ الْعِمَاد فِي كِتَابه هَذَا عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَيْك وحجته عِنْد الله سُبْحَانَهُ عَلَيْك فأوف بعهدك ويمينك وَخذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بيمينك وَلمن مضى بجدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن أُسْوَة وَلمن بَقِي بِثِقَتِهِ بِنَا أعظم سلوة {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} يَعْنِي بِمن مضى أَسد الدّين وبمن بَقِي صَلَاح الدّين ثمَّ قَالَ الْعِمَاد وَهَذَا آخر منشور طويت بِهِ تِلْكَ الدولة وختمت وتبددت عقودها وَمَا انتظمت ووصلت كتب صَلَاح الدّين إِلَيْنَا إِلَى الشَّام بِمَا تسنى لَهُ من المرام وَلمن يَقْصِدهُ بالاستدعاء والا ستبطاء وَلمن تَأَخّر عَنهُ بِالْخلْعِ وَالعطَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وترددت الْكتب الصلاحية بِذكر الأشواق وشكوى الْفِرَاق وَشرح الاستيحاش وبرح الْقُلُوب العطاش فَإِن أَصْحَابنَا وَإِن ملكوا ونالوا مقاصدهم وأدركوا حصلوا بَين أمة لَا يعرفونها بل يُنْكِرُونَهَا وَلَا يألفونها وَرَأَوا وُجُوهًا هُنَاكَ بهم عابسة وَأَعْيُنًا للمكايد متيقظة وَعَن الود ناعسة فَإِن أجناد مصر كَانُوا فِي الدّين مخالفين وعَلى عقيدتهم معاقدين محالفين وَكتب صَلَاح الدّين إِلَى بعض أصدقائه كتابا أَوله (أَيهَا الغائبون عني وَإِن كُنْتُم ... لقلبي بذكركم جيرانا) (إِنَّنِي مذ فقدتكم لأَرَاكُمْ ... بعيون الضَّمِير عِنْدِي عيَانًا) فَسَأَلَنِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَن أكتب جَوَابه فَقلت (أَيهَا الظاعنون عني وقلبي ... مَعَهم لَا يُفَارق الأظعانا) (ملكوا مصر مثل قلبِي وَفِي هَذَا ... وَفِي تِلْكَ أَصْبحُوا سكانا) (فاعدلوا فيهمَا فَإِنَّكُم الْيَوْم ... ملكتم عَلَيْهِمَا سُلْطَانا) (لَا تروعوا بالهجر قلب محب ... أورثته روعاته الخفقانا) (حبذا معهد قضينا بِهِ الْعَيْش ... فَكُنَّا بربعه جيرانا) (إِذْ وجدنَا من الْحَوَادِث أمنا ... وأخذنا من الخطوب أَمَانًا) (ورتعنا من المنى فِي رياض ... وسكنا من المغاني جنَانًا) وَبعد فَإِن وُفُود الهناء وأمداد الدُّعَاء متواصلة على الْوَلَاء صادرة عَن مَحْض الْوَلَاء إِلَى عالي جنابه المأنوس ومنيع كنفه المحروس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 فليهنه الظفران بِالْملكِ وبالعدو وَفرع هضبات الْمجد والعلو وَكَيف لَا يكون النَّصْر مساوقا لدين هُوَ صَلَاحه والتأييد مرافقاً لعزم بِهِ نجاحه وفلاحه (فالشام يغبط مصرا مذ حللت بهَا ... كَمَا الْفُرَات عَلَيْكُم تحسد النيلا) (نلتم من الْملك عفوا مَا الْمُلُوك بِهِ ... عُنوا قَدِيما وراموه فَمَا نيلا) قَالَ الْعِمَاد ورثيت أَسد الدّين بقصيدة خدمت بهَا نور الدّين وعزيت بهَا أَخَاهُ نجم الدّين مِنْهَا (تضعضع فِي هَذَا الْمُصَاب المباغت ... من الدّين لَوْلَا نوره كل ثَابت) (فأيام نور الدّين دَامَت منيرة ... لنا خلف من كل مود وفائت) وَمِنْهَا (فَمَا بالنا نبدي التصامم غَفلَة ... وداعي المنايا نَاطِق غير صَامت) (نؤمل فِي دَار الفناء بقاءنا ... وَنَرْجُو من الدُّنْيَا صداقة ماقت) (وَمَا النَّاس إِلَّا كالغصون يَد الردى ... تقرِّب مِنْهَا كل عود لناحت) (لقد أبلغت رسل المنايا وأسمعت ... وَلكنهَا لم تحظ منا بناصت) وَمِنْهَا (فلهفي على تِلْكَ الشَّمَائِل إِنَّهَا ... لقد كرمُت فِي الْحسن عَن نعت ناعت) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَله من أُخْرَى عزى بهَا أَخَاهُ نجم الدّين أَيُّوب وَولده نَاصِر الدّين مُحَمَّدًا (مَا بعد يَوْمك للمعنى المدنف ... غير العويل وحسرة المتأسف) (مَا أجرا الْحدثَان كَيفَ سَطَا على اللأسد ... الْمخوف سَطَا وَلم يتخوف) (من ذَا رأى الْأسد الهصور فريسة ... أم أبْصر الصُّبْح الْمُنِير وَقد خفى) (من ثابتٌ دون الكماة سواهُ إِن ... زلت بهم أَقْدَامهم فِي الْموقف) (مَا كَانَ أَسْنَى الْبَدْر لَو لم يسْتَتر ... مَا كَانَ أبهى الشَّمْس لَو لم تكسف) (مَا كنت أخْشَى أَن تلم ملمة ... يَوْمًا وَأَنت لكربها لم تكشف) (أَيَّام عمرك لم تزل مقسومة ... لله بَين تعبد وتعرف) (متهجدا لعبادة أَو تاليا ... من آيَة أَو نَاظرا فِي مصحف) (فجع الندى والبأس مِنْك بحاتم ... وبحيدر والحلم مِنْك بأحنف) (بِالْملكِ فزت وحزته عَن قدرَة ... ومضيت عَنهُ بسيرة الْمُتَعَفِّف) (ووصفت يَا أسدا لدين مُحَمَّد ... مدحا بِمَا ملك بِهِ لم يُوصف) (وقفوت آثَار الشَّرِيعَة كلهَا ... وَقد اهْتَدَى من للشريعة يقتفي) (أأنفت من دنياك حِين عرفتها ... فلويت وَجه الْعَارِف المستنكف) وَمِنْهَا (يَا نَاصِر الدّين استعذ بتصبر ... مُدْن إِلَى مرضاة ربٍ مزلف) (وتعزَّ نجم الدّين عَنهُ مهنَّأً ... أَبَد الزَّمَان بِملك مصر ويوسف) (لَا نستطيع سوى الدُّعَاء فكلنا ... إِلَّا بِمَا فِي الوسع غير مُكَلّف) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ولعمارة اليمني فِي صَلَاح الدّين مدائح مِنْهَا قَوْله (لَك الْحسب الْبَاقِي على عقب الدَّهْر ... بل الشّرف الراقي إِلَى قمة النَّسر) (كَذَا فَلْيَكُن سعى الْمُلُوك إِذا سعت ... بهَا الهمم الْعليا إِلَى شرف الذّكر) (نهضتم بأعباء الوزارة نهضة ... أقلتم بهَا الْأَقْدَام من زلَّة العثر) (كشفتم عَن الإقليم غمته كَمَا ... كشفتم بأنوار الْغنى ظلمَة الْفقر) (حميتم من الإفرنج سرب خلَافَة ... جريتم لَهَا مجْرى الْأمان من الذعر) (وَلما اسْتَغَاثَ ابْن النَّبِي بنصركم ... ودائرة الْأَنْصَار أضيق من شبر) (جلبتم إِلَيْهِ النَّصْر أَوْسًا وخزرجا ... وَمَا اشْتقت الانصار إِلَّا من النَّصْر) (كتائب فِي جيرون مِنْهَا أَوَاخِر ... وأولها بالنيل من شاطئي مصر) (طلعتم فأطلعتم كواكب نصْرَة ... أَضَاءَت وَكَانَ الدّين لَيْلًا بِلَا فجر) (وآبت إِلَيْكُم يَا ابْن أَيُّوب دولة ... تراسلكم فِي كل يَوْم مَعَ السّفر) (حمى الله فِيكُم عَزمَة أسدية ... فككتم بهَا الْإِسْلَام من ربقة الْأسر) (أَخَذْتُم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الْخَيل مرِّي على مرِّي) (لَئِن نصبوا فِي الْبر جِسْرًا فَإِنَّكُم ... عبرتم ببحر من حَدِيد على الجسر) (طَرِيق تقارعتم عَلَيْهَا مَعَ العدى ... ففزتم بهَا والصخر يقرع بالصخر) (وأزعجه من مصر خوف يلزه ... كَمَا لز مهزوم من اللَّيْل بِالْفَجْرِ) (وَكم وقْعَة عذراء لما اقتضضتها ... بسيفك لم تتْرك لغيرك من عذر) (وَأَيْدِيكُمْ بالبأس كاسرة العدى ... وَلكنهَا بالجود جابرة الْكسر) (أَبوك الَّذِي أضحى ذخيرة مجدكم ... وَأَنت لَهُ خير النفائس والذخر) (وَمن كنت مَعْرُوفا لَهُ فاستفزه ... بمثلك تيه فَهُوَ فِي أوسع الْعذر) (فَكيف أَب أَصبَحت نَار زناده ... وَإِلَّا كنور الْبَدْر من سنه الْبَدْر) (توقره وسط الندي كَرَامَة ... وَتحمل عَنهُ مايؤود من الوقر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 (وتخلفه حَربًا وسلما خلَافَة ... تؤلف أضدادا من المَاء والجمر) (وَكم قُمْت فِي بَأْس وجود ورتبة ... بِمَا سره فِي الْخطب والدست والثغر) (وَلَو أنطق الله الجمادات لم تقم ... لنعمتكم بالمستحق من الشُّكْر) (يَد لَا يقوم الْمُسلمُونَ بشكرها ... لكم آل أَيُّوب إِلَى آخر الدَّهْر) (بكم أَمن الرَّحْمَن أعظم يثرب ... وَأمن أَرْكَان البنية وَالْحجر) (وَلَو رجعت مصر إِلَى الْكفْر لانطوى ... بِسَاط الْهدى من ساحة الْبر وَالْبَحْر) (وَلَكِن شددتم أزره بوزارة ... غَدا لَفظهَا يشتق من شدَّة الْأرز) (فهنيتم فتحا تقدم جله ... وَبشر أَن الْكل يَتْلُو على الإثر) (وَمَا بقيت فِي الشّرك إِلَّا بَقِيَّة ... تتمتها فِي ذمَّة الْبيض والسمر) (وَعند تَمام الْملك آتِي مهنئا ... وملتمسا أجر الكهانة والزجر) (وَلَوْلَا اعتقادي أَن مدحك قربَة ... أرجي بهَا نيل المثوبة وَالْأَجْر) (لما قلت شعرًا بعد إعفاء خاطري ... ولي سنوات مُنْذُ تبت عَن الشّعْر) (فأوص بِي الْأَيَّام خيرا فَإِنَّهَا ... مصرفة بِالنَّهْي مِنْك وبالأمر) (وجائزتي تسهيل إذني عَلَيْكُم ... وملقاكم لي بالطلاقة والبشر) وَقَالَ أَيْضا من قصيدة (يَا شَبيه الصّديق عدلا وحسناً ... وسميَّاً حَكَاهُ معنى ومغنى) (هَذِه مصر يُوسُف حل فِيهَا ... يوسفٌ مَالِكًا وَمَا حل سجنا) (أَنْت حرَّمت أَن يثلَّث فِيهَا ... بسوى الله وَحده أَو يثنى) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 (إِنَّمَا الْملك والوزارة جسم ... أَنْت روح فِيهِ وَفِي اللَّفْظ معنى) وَقَالَ أَيْضا من قصيدة (ملك صَلَاح الدّين لَا قوضت ... أطنابه ملك التقى وَالصَّلَاح) (سيرة عدل حسَّنت عندنَا ... مَا كَانَ من وَجه اللَّيَالِي القباح) (سَافر فِي الدُّنْيَا وأقطارها ... ذكرٌ غَدا عَنهُ جميلا وَرَاح) (قل لِابْنِ أَيُّوب وَكم نَاصح ... أَنْفَع مِمَّن هُوَ شاكي السِّلَاح) (حَارب على مثل نُجُوم السما ... فَملك مصر مَا عَلَيْهِ اصْطِلَاح) (قولا لمن فِي عزمه فَتْرَة ... ارْجع إِلَى الْجد وخل المزاح) (فالقدس قد أذَن إغلاقه ... على يَدي يُوسُف بالإنفتاح) وَقَالَ أَيْضا من قصيدة (ونُبت بِمصْر عَن سميك يوسفٍ ... كَمَا نَاب عَن سكب الحيا واكف سكب) (حذوت على سجلي نداه وهديه ... وَإِن كنت لاسجن حواك ولاجب) (ووافقته فِي الصفح عَن كل مذنب ... فَمَا مِنْك تَثْرِيب وَإِن عظم الْخطب) وللحكيم عبد الْمُنعم الجلياني من قصيدة طَوِيلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 (أَبُو المظفر مأوى كل مضطهد ... بحلمه ونداه يضْرب الْمثل) (مهما يمل جَائِر أَو عائث عَمه ... فَعِنْدَ عدل صَلَاح الدّين يعتدل) (أَحْيَا بِهِ الله مصرا فَهِيَ نَاشِرَة ... وافتكها من عَدو مَا بِهِ قبل) (كم للفرنج بهَا وردا ومنتجعا ... ونارهم حولهَا تذكو وتشتعل) (فأطفأ النَّاصِر الْمَنْصُور جذوتهم ... وأدبروا بقلوب شهمها وَجل) (ملك تقلد سلك الْملك منتظما ... وَقَالَ لِلْمَالِ هَذَا مِنْك لي بدل) (فَفرق المَال جمعا للقلوب بِهِ ... وحسبه فيهم إِدْرَاك مَا سَأَلُوا) (إِن الْمُلُوك الَّذين امْتَدَّ أَمرهم ... لم يخزنوا المَال بل مهما حووا بذلوا) (كَذَا السياسة فالأجناد لَو علمُوا ... بخل المليك وَجَاءَت شدَّة خذلوا) فصل هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قصَّة شاور وَمَا جرى بِسَبَبِهِ فِي الديار المصرية إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أَن تمت وزارة صَلَاح الدّين قد وجدته مَبْسُوطا مُشْتَمِلًا على زيادات وفوائد فِي كتاب ليحيى بن أبي طيّ الْحلَبِي فِي السِّيرَة الصلاحية فَأَحْبَبْت ذكره مُخْتَصرا ذكر أَن الْملك الصَّالح طلائع بن رُزيك وَزِير الديار المصرية لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 قتل فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَخمسين بتدبير عَمه العاضد عَلَيْهِ أوصى عِنْد مَوته ابْنه رزيك بشاور وَقَالَ لَهُ لَا تزلزله من ولَايَته فَأَنَّهُ أسلم لَك ولملكك وَيُقَال إِنَّه أنْشد أبياتاً مِنْهَا (فَإِذا تبدد شَمل عقدكما ... لاتأمنا من شاور السَّعْدِيّ) وَكَانَ شاور مُتَوَلِّي قوص والصعيد الْأَعْلَى فَلَمَّا دفن الصَّالح استوزر ابْنه رزيك ولقب بالعادل وَلما أستقرت أَحْوَاله أرسل إِلَى عمَّة العاضد فخنقها وَاجْتمعَ إِلَى رزيك أَوْلَاد عمته وَمن جُمْلَتهمْ عز الدّين حسام وأشاروا عَلَيْهِ بعزل شاور فَامْتنعَ ثمَّ ألحوا عَلَيْهِ فَأجَاب وَبلغ شاور فجاهر بالعصيان وَجمع العربان وَأهل الصَّعِيد وَسَار إِلَى الْقَاهِرَة وَخرج إِلَيْهِ جمَاعَة من أمرائها كَانُوا كاتبوه فَخرج رزيك تَحت اللَّيْل فضل الطَّرِيق وتاه فَوَقع عِنْد إطفيح وثمَّ بيُوت عرب فقبضوا عَلَيْهِ وحُمل إِلَى شاور وَقد دخل الْقَاهِرَة وتسلمها وأخرجت إِلَيْهِ خلع الوزارة وَتمّ أمره وَلما حصل رُزَّيك عِنْد شاور أكْرمه وصلب الَّذِي أَتَى بِهِ ونادى عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من لَا يُرَاعِي الْجَمِيل وَكَانَ للصالح إِلَيْهِ إِحْسَان وتفرَّق آل رزيك فِي الْبِلَاد وَنَجَا حسام الَّذِي كَانَ سَبَب هَلَاك بني رزيك بأموال وَصَارَ إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا وَاشْترى الْقرى وَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فِي خُرُوجه أودع عِنْد الفرنج سبعين ألف دِينَار فوفوا لَهُ وردوها عَلَيْهِ ثمَّ أَرَادَ تَقِيّ الدّين أَخذهَا مِنْهُ فَقَالَ من الْعجب أَن الفرنج تفي لي بردهَا وتأخذها أَنْت مني فَكف عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 قَالَ وَتمكن شارو وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد طيّ والكامل وَسليمَان فتبسطوا على النَّاس وتعاظموا فمجتهم الْأَنْفس وَكَانَ مُلهم وَأَخُوهُ ضرغام من صنائع الصَّالح بن رزيك فَلَمَّا شَاهدا ميل النَّاس عَن شاور بِسَبَب أَوْلَاده أخذا فِي مراسلة رزيك بن الصَّالح وَهُوَ فِي السجْن وَالْعَمَل لَهُ فِي إِعَادَته إِلَى الوزارة واتصل ذَلِك بطيّ بن شاور فَدخل على أَبِيه وَقَالَ لَهُ أَنْت غافل ومُلْهم وضرغام يفسدان أَمرك وَقد شرعا فِي أَمر رزيك واستحلفا لَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلَا يُمكن تلافي حالك إِلَّا بقتل رزيك فَقَالَ لَهُ شارو إِن الصَّالح أولاني جميلا وبسببه حللت هَذَا الْمحل فَتَركه وَلَده طيّ وَدخل على رزيك فَقتله فِي سجنه وَسمع شاور ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَته ونُمى الْخَبَر إِلَى ضرغام وأخيه ملهم فثارا وأثارا من استحلفاه من الْأُمَرَاء وزحفا بالعساكر إِلَى شاور فَانْهَزَمَ وَخرج من بَاب الْقَاهِرَة وهرب إِلَى الشَّام وَأدْركَ ضرغام ولديه طيئا وَسليمَان فَقَتَلَهُمَا وَأسر الْكَامِل فَأَخذه ملهم واعتقله عِنْده وَأَرَادَ ضرغام قَتله فَمَنعه مِنْهُ ملهم وَحفظ لَهُ جميلا كَانَ قد فعله مَعَه وَاسْتقر أَمر ضرغام فِي الوزارة وخلُع عَلَيْهِ ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور وَلما اسْتَقر بِهِ الْأَمر بلغه أَن جمَاعَة من الْأُمَرَاء حسدوه واستصغروه وكاتبوا شاور وَكَانَ صَار إِلَى الشَّام فَأخذ فِي إِعْمَال الْحِيلَة عَلَيْهِم وأحضرهم إِلَى دَار الوزارة لَيْلًا فَقَتلهُمْ جَمِيعًا وَلم يتَعَرَّض لأموالهم وَلَا لمنازلهم وَقيل إِنَّه قتل مِنْهُم سبعين أَمِيرا وَيُقَال إِنَّه جعلهم فِي توابيت وَكتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 على كل تَابُوت اسْم صَاحبه فَكَانَ ذَلِك أكبر الْأَسْبَاب فِي هَلَاكه وَخُرُوج دولة المصريين عَن يَد أَصْحَابهَا لِأَنَّهُ أَضْعَف عَسْكَر مصر بقتل الْأُمَرَاء وَأما شاور فَإِنَّهُ لما خرج من الْقَاهِرَة سَار على وَجهه حَتَّى وصل إِلَى دمشق بعد تحَققه قتل ولديه وَلما وصل إِلَى بُصرى اتَّصل خَبره بِنور الدّين فندب جمَاعَة إِلَى تلِّقيه وأنزله فِي جوسق الميدان الْأَخْضَر وَأحسن ضيافته وإكرامه ثمَّ بعد سَبْعَة أَيَّام من مقدمه أحضر نور الدّين ابْن الصُّوفِي وَجَمَاعَة من وُجُوه الدمشقيين وَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرجل وسلموا عَلَيْهِ وعرفوه اعذارنا فِي التَّقْصِير فِي حَقه وَسَلُوهُ فِيمَا قدم وَمَا حَاجته فَإِن كَانَ ورد علينا مُخْتَارًا للإقامة أفردنا لَهُ من جهاتنا مَا يَكْفِيهِ وَيقوم بأربه وأوده وَتَكون عوناً لَهُ على زَمَانه وَإِن كَانَ ورد لغير ذَلِك فيفصح عَن حَاجته فَخرج الْجَمَاعَة إِلَيْهِ بالرسالة فَشكر إِحْسَان نور الدّين وَسكت عَمَّا وَرَاء ذَلِك فَسَأَلَهُ الْقَوْم الْجَواب فَقَالَ إِذا لم يبيَّت الرَّأْي جَاءَ فطيراً فَعَاد الْقَوْم إِلَى نور الدّين وعرفوه مَا دَار بَينهم وَبَينه فَأمر بِالْعودِ إِلَيْهِ من غَد ذَلِك الْيَوْم فعادوا وطلبوا الْجَواب فَسكت أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَأطَال ثمَّ قَالَ إِن رَأْي نور الدّين أَطَالَ الله بَقَاءَهُ الِاجْتِمَاع بِي فَلهُ علُّو الرَّأْي فعرَّفوا نور الدّين بمقالته فَأجَاب نور الدّين إِلَى أَن يكون الِاجْتِمَاع على ظهر بالميدان الْأَخْضَر وَركب نور الدّين من الْغَد فِي وُجُوه دولته وخواص مَمْلَكَته فِي أحسن زِيّ وأكمل شارة فَلَمَّا دخل الميدان ركب شاور من الْجَوْسَقِ والتقيا فِي وسط الميدان بالتحية فَقَط وَلم يترجل أحد مِنْهُمَا لصَاحبه ثمَّ سارا من مَوضِع اجْتِمَاعهمَا وَهُوَ نصف الميدان إِلَى آخِره ثمَّ انفصلا من هُنَاكَ وَعَاد نور الدّين إِلَى قلعة دمشق وَأخذ من وقته ذَلِك فِي جمع العساكر وَأما ضرغام فَإِنَّهُ حِين اسْتَقر بِهِ الْأَمر أنشأ كتابا إِلَى نور الدّين على يَد علم الْملك ابْن النّحاس يظْهر فِيهِ الطَّاعَة ويعرِّض بخذلان شاور فأظهر نور الدّين لعلم الْملك الْقبُول فِي الظَّاهِر وَهُوَ مَعَ شاور فِي الْبَاطِن وَأجَاب عَن الْكتاب وانفصل علم الْملك عَن دمشق فَلَمَّا كَانَ بِظَاهِر الكرك أَخذه فيليب بن الرفيق الفرنجي وَحصل على جَمِيع مَا كَانَ مَعَه وَانْهَزَمَ علم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الْملك بِنَفسِهِ وَتوجه إِلَى السَّاحِل وَسَار إِلَى مصر وَفِي هَذِه الْأَيَّام أنفذ نور الدّين واستحضر أَسد الدّين شيركوه من إقطاعه من الرحبة وَكَانَ نور الدّين قد تيمن بأسد الدّين وتبرك بميمون نقيبته لِأَنَّهُ لم يُرْسِلهُ فِي أَمر إِلَّا نجح وَلم يولجه فِي مضيق إِلَّا انْفَتح وَلما حضر أَسد الدّين إِلَى دمشق أخلاه نور الدّين وتحدث مَعَه بأَشْيَاء فِي أَمر مصر وَأمره بالاستعداد وَكَانَ نور الدّين قد أزاح عِلّة الْعَسْكَر الَّذِي يُرِيد يسيره إِلَى مصر فَخرج من يَوْمه وَكَانَ شارو قد أطمع نور الدّين فِي أَمْوَال مصر ورغبه فِي ملكهَا وَأَنه إِذا ملكهَا كَانَ من قبله فِيهَا وَلما بلغ شاور استتبابُ أَمر الْعَسْكَر سَأَلَ عَن الْمُقدم عَلَيْهِ فَقيل لَهُ أَسد الدّين شيركوه فَلم يطب لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ ظن أَن التقدمة تكون لَهُ فَلَمَّا زوحم بِهَذَا الْعود سُقط فِي يَده وفت فِي عضده وَلم يجد بدا من الْمسير فَخرج وَاجْتمعَ بأسد الدّين وسارا جَمِيعًا حَتَّى وصلوا أَطْرَاف الْبِلَاد المصرية ونزلوا على تل فِي الحوف قريب من بلبيس يعرف بتل بسطة وضربوا خيامهم هُنَاكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَلما اتَّصل بضرغام خبر وُرُود شاور وَأسد الدّين بالعساكر الشامية جمع أُمَرَاء مصر واستشارهم فَأَشَارَ شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار بِأَن تَجْتَمِع العساكر وَتخرج جَرِيدَة وتلقى العساكر الشامية بصدر وَهُوَ على يَوْمَيْنِ من الْقَاهِرَة فَإِنَّهُم لَا يثبتون لكَوْنهم خَرجُوا من الْبَريَّة ضعفاء ولمكان قلَّة المَاء عَلَيْهِم لِأَن الْمُسَافِر إِلَى مصر يحمل المَاء من أيْلة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَلم يرَوا ذَلِك واختاروا أَن يلقوهم على بلبيس فَأمر ضرغام الْأُمَرَاء بِالْخرُوجِ فَخَرجُوا فِي أحسن زِيّ وأكمل عدَّة والمقدَّم عَلَيْهِم نَاصِر الدّين ملهم أَخُو ضرغام وجاؤوا حَتَّى أحاطوا بِالتَّلِّ الَّذِي كَانَ أَسد الدّين نازلا عَلَيْهِ وَلما عاين أَسد الدّين كَثْرَة العساكر وَأَنَّهُمْ قد ملكوا عَلَيْهِم الْجِهَات وسدوا منافذ الطرقات قَالَ لشاور يَا هَذَا لقد أرهقتنا وغررتنا وَقلت إِنَّه لَيْسَ بِمصْر عَسَاكِر فَجِئْنَا فِي هَذِه الشرذمة فَقَالَ لَهُ شاور لَا يهولنك مَا تشاهد من كَثْرَة الجموع فأكثرها الحاكة والفلاحون الَّذين يجمعهُمْ الطبل وتفرقهم الْعَصَا فَمَا ظَنك بهم إِذا حمى الْوَطِيس وكلبت الْحَرْب وَأما الْأُمَرَاء فَإِن كتبهمْ عِنْدِي وعهودهم معي وسترى ذَلِك إِذا لَقِينَاهُمْ ثمَّ قَالَ أُرِيد أَن تَأمر العساكر بالاستعداد وَالرُّكُوب فَفعل ونهاهم شاور عَن الْقِتَال ووقف الْفَرِيقَانِ مصطفين من غير حَرْب إِلَى أَن حمى النَّهَار والتهب الْحَدِيد على أجساد الرِّجَال فَضرب أَكثر أهل مصر الخيم الصغار وخلعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 السِّلَاح ونزلوا عَن الْخُيُول وجلسوا فِي الظل فَأمر شاور النَّاس بالحملة فَكَانَ أسعد أهل مصر من ركب فرسه وَأطلق عنانه وَولى مُنْهَزِمًا وَتركُوا خيمهم وَأَمْوَالهمْ لَيْسَ لَهَا حَافظ فاحتوى علها أَصْحَاب أَسد الدّين وأُسر شمس الْخلَافَة وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء المصريين وَلم يُمكن شاور من تقييدهم وَالِاحْتِيَاط عَلَيْهِم فَهَرَبُوا وسَاق أَسد الدّين وشارو فِي أثر النَّاس ونزلوا على الْقَاهِرَة وقاتلوها أَيَّامًا وارسل شاورُ العاضد فِي إصْلَاح الْحَال وَأَن يَأْذَن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى الْقَاهِرَة فَأذن لَهُ وَكَانَ ضرغام صَار إِلَى تَحت الْقصر وَقَالَ أُرِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ يكلمني لأسأله عَمَّا أفعل فَلم يجبهُ أحد فَذهب على وَجهه مُنْهَزِمًا وَخرج من بَاب زويلة والعامة تلعنه وتصيح عَلَيْهِ فالتحقه رجل من أهل الشَّام ليَقْتُلهُ فَقَالَ لَهُ ضرغام أوصلني إِلَى أَسد الدّين وَلَك مناك فَلم يقبل مِنْهُ وَحمل عَلَيْهِ فطعنه فأراده وَنزل إِلَيْهِ واحتز رَأسه وَحمله إِلَى أَسد الدّين وأعلمه بِمَا جرى بَينهمَا فصعب على أَسد الدّين وأوجعه ضربا وَأَرَادَ قَتله فشفع فِيهِ شاور وَدخل شاور الْقَاهِرَة وَقتل ملهماً أَخا ضرغام عِنْد بركَة الْفِيل وَخرج ابْنه الْكَامِل من دَار ملهم وَكَانَ معتقلاً فِيهَا وَخرج مَعَه القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ أَيْضا معتقلا فِيهَا مَعَه واستقام أَمر شاور فِي الوزارة وَأقَام أَسد الدّين على المقس ينْتَظر أَمر شاور فِيمَا ضمن لنُور الدّين وَأرْسل إِلَيْهِ يَقُول لَهُ قد طَال مقامنا فِي الخيم وَقد ضجر الْعَسْكَر من الْحر وَالْغُبَار فَأرْسل إِلَيْهِ شاور ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَقَالَ ترحل الْآن فِي أَمن الله تَعَالَى ودعته فَلَمَّا سمع أَسد الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ذَلِك أرسل إِلَيْهِ إِن نور الدّين أَوْصَانِي عِنْد انفصالي عَنهُ إِذا ملك شارو تكون مُقيما عِنْده وَيكون لَك ثلث مُغَلِّ الْبِلَاد وَالثلث الآخر لشاور وللعسكر وَالثلث الآخر لصَاحب الْقصر يصرفهُ فِي مَصَالِحه فَقَالَ شارو أَنا مَا قررت شَيْئا مِمَّا تَقول أَنا طلبت نجدة من نور الدّين فَإِذا انْقَضى شغلي عَادوا إِلَى الشَّام وَقد سيرت إِلَيْكُم نَفَقَة فخذوها وَانْصَرفُوا وَأَنا أنفصل مَعَ نور الدّين فَقَالَ أَسد الدّين أَنا لَا يمكنني مُخَالفَة نور الدّين وَلَا أقدر على الِانْصِرَاف إِلَّا بإمضاء أمره فَأمر شاور بإغلاق بَاب الْقَاهِرَة وَأخذ فِي الاستعدادللحصار واستعد أَسد الدّين أَيْضا وسيَّر صَلَاح الدّين فِي قِطْعَة من الْجَيْش إِلَى بلبيس لجمع الغلال والأتبان والأحطاب وَمَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ وَيكون جَمِيع ذَلِك فِي بلبيس ذخيرة وَأخذ فِي قتال الْقَاهِرَة وَكَاتب شاور ملك الفرنج مُرِّي يستنجده وَيَقُول لَهُ إِن شيركوه طلع معي نجدةً على ضرغام فَلَمَّا حصلوا فِي الْبِلَاد طمعوا فِيهَا وَمَتى ملكوها مُضَافَة إِلَى بِلَاد الشَّام لم يكن لَك مَعَهم عَيْش وَلَا قَرَار وَضمن لَهُ فِي كل مرحلة يرحلها إِلَى ديارمصر ألف دِينَار وَقرر شَيْئا لقضيم دوابهم وشيئاً لاسبتاريته فَخرج مُرِّي من عسقلان فِي جموعه إِلَى فاقوس فِي سبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَعشْرين مرحلة وَقبض عَنْهَا سَبْعَة وَعشْرين ألف دِينَار وَلما تحقق أَسد الدّين قرب الفرنج من الْقَاهِرَة أجفل عَنْهَا إِلَى بلبيس وانضاف إِلَيْهِ من أَهلهَا الكنانَّية وَخرج شاور فِي عَسَاكِر مصر وَاجْتمعَ بالفرنج وَجَاء حَتَّى خيَّم على بلبيس وأحاط بهَا محاصراً لأسد الدّين يباكر الْحَرْب ويراوحها وَأَقَامُوا على ذَلِك مُدَّة ثَمَانِيَة أشهر وانقطعت أَخْبَار مصر وَمن بهَا عَن نور الدّين وَكَانَ اتَّصل بِنور الدّين وَهُوَ بِدِمَشْق خبر مسير الفرنج إِلَى ديار مصر وغدر شاور فكاتب الْأَطْرَاف بقدوم العساكر فَقدم عَلَيْهِ عَسَاكِر الشرق جَمِيعهَا واجتمعوا بِأَرْض حلب فَنزل بهم مجد الدّين ابْن الدّاية وَكَانَ نَائِب نور الدّين بحلب وَسَار إِلَى جِهَة حارم وَنزل على أرتاح وَخرج نور الدّين من دمشق وَشن الْغَارة على السَّاحِل وَقتل وَأسر عَالما عَظِيما ثمَّ قصد جِهَة حلب وَجعل طَرِيقه حصن الأكراد فَلَمَّا حصل بأرضه شن الْغَارة فِيهَا وغنم غنيمَة عَظِيمَة وَنزل فِي مرجه فَخرج إِلَيْهِ الفرنج الْإِخْوَة من حصن الأكراد وهجموا عسكره وَقتلُوا جمَاعَة من الْمُسلمين وَكَانَ عَسْكَر نور الدّين غافلا فَلم يتماسك النَّاس وَسَارُوا على وُجُوههم وَسَار نور الدّين إِلَى أَن اجْتمع بعساكره على أرتاح وَكَانَ أَخُوهُ نصْرَة الدّين مَعَ الفرنج فَلَمَّا عاين أَعْلَام نور الدّين لم يتماسك أَن حمل بِجَمِيعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أَصْحَابه قَاصِدا أَخَاهُ نور الدّين فَلَمَّا قَرُب مِنْهُ نزل وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ فَلم يلْتَفت عَلَيْهِ فتم على وَجهه واصطف النَّاس للحرب فَحملت الفرنج فَكسرت الميسرة ثمَّ عَادَتْ فَوجدت راجلها جَمِيعه قد قتل وَالْخَيْل قد أطبقت عَلَيْهِم فنزلوا عَن الْخُيُول وألقوا أسلحتهم وأذعنوا بالأمان فَأخذُوا جَمِيعًا قبضا بِالْأَيْدِي وَسَار إِلَى حارم فَفَتحهَا وَأَرَادَ النُّزُول على أنطاكية فَلم يتَمَكَّن لشغل قلبه بِمن فِي مصر من الْمُسلمين فانحرف قَاصِدا لدمشق وَنزل على بانياس فافتتحها وأغار على بلد طبرية وَجمع أَعْلَام الفرنج وشعافهم وَجعلهَا فِي عَيْبَة وَسلمهَا إِلَى نَجَّاب وَقَالَ لَهُ أُرِيد أَن تُعمل الْحِيلَة فِي الدُّخُول إِلَى بلبيس وتخبر أَسد الدّين بِمَا فتح الله على الْمُسلمين وتعطيه هَذِه الْأَعْلَام والشعاف وتأمره بنشرها على أسوار بلبيس فَإِن ذَلِك مِمَّا يفتُّ فِي أعضاد الْكفَّار وَيدخل الوهن عَلَيْهِم فَفعل ذَلِك فَلَمَّا رأى الفرنج الْأَعْلَام والشعاف قلقوا لذَلِك وخافوا على بِلَادهمْ وسألوا شاور الْإِذْن فِي الِانْفِصَال فانزعج شاور لذَلِك وَخَافَ من عَاقِبَة الْأَمر وسألهم التَّمُّهل أَيَّامًا وَجمع أمراءه للمشورة فأشاروا عَلَيْهِ بمصالحة أَسد الدّين وتكفل إتْمَام الصُّلْح لَهُ الْأَمِير شمس الْخلَافَة فأنفذه إِلَيْهِ فتم الصُّلْح على يَدَيْهِ على أَن يحمل شاور إِلَى أَسد الدّين ثَلَاثِينَ ألف دِينَار أُخْرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَحكي أَن شاور أرسل إِلَى أَسد الدّين وَهُوَ مَحْصُور ببلبيس يَقُول لَهُ اعْلَم أنني قد أبقيت عَلَيْك وَلم أمكن الفرنج مِنْك لأَنهم كَانُوا قَادِرين عَلَيْك وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك لأمرين أَحدهمَا أَنِّي مَا أخْتَار أَن أكسر جاه الْمُسلمين وأُقوي الفرنج عَلَيْهِم وَالثَّانِي أَنِّي خفت أَن الفرنج إِذا فتحُوا بلبيس طمعوا فِيهَا وَقَالُوا هَذِه لنا لأَنا فتحناها بسيوفنا وَمَا من يَوْم كَانَ يمْضِي إِلَّا وَأَنا وأنفذ إِلَى أكَابِر الفرنج الْجُمْلَة من المَال وأسألهم أَن يكسروا همة الْملك عَن الزَّحْف قَالَ وَأقَام أَسد الدّين بِظَاهِر بلبيس ثَلَاثَة أَيَّام ورحلت الفرنج إِلَى جِهَة السَّاحِل وَسَار أَسد الدّين قَاصِدا الشَّام وَجعل مسيره على البرِّية وَاتفقَ أَن الْبُرْنُس أرناط صَاحب الكَرَك والشَّوْبَك تَأَول ليمينه الَّتِي حَلفهَا لأسد الدّين وَقَالَ أَنا حَلَفت أَنِّي مَا ألحق أَسد الدّين وَلَا عسكره فِي الْبر وَأَنا أُرِيد ألحقهُ فِي الْبَحْر وَركب فِي الْبَحْر وَصَارَ فِي يَوْم وَاحِد إِلَى عسقلان وَخرج مِنْهَا إِلَى الكرك والشوبك وَجمع عسكره الْمُقِيم هُنَاكَ وَقعد مرتقباً خُرُوج أَسد الدّين من الْبَريَّة ليوقع بِهِ وَعلم أَسد الدّين بمكيدة أرناط بالحدس والتخمين فسلك طَرِيقا من خلف الْمَكَان الَّذِي كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فِيهِ أرناط شقّ إِلَى الْغَوْر وَخرج من البلقاء وَسلمهُ الله تَعَالَى مِنْهُ وَدخل دمشق وَاجْتمعَ بِنور الدّين وَأخْبرهُ بالأحوال وأعلمه بِضعْف ديار مصر ورغبه فِيهَا وشوقه إِلَى ملكهَا فَرغب فِيهَا نور الدّين وَأمره بتجنيد الأجناد واستخدام الرِّجَال وَأما شاور فَإِنَّهُ بعد رحيل أَسد الدّين والفرنج إِلَى بِلَادهمْ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَلم يكن لَهُ همة إِلَّا تتبع من علم أَن بَينه وَبَين أَسد الدّين معرفَة أَو صُحْبَة وَكَانَ استفسد جمَاعَة من عَسْكَر أَسد الدّين مِنْهُم خشترين الْكرْدِي وأقطعه شطنوف وَقتل شاور جمَاعَة من أهل مصر وشردّ آخَرين ثمَّ توجه أَسد الدّين فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ قَاصِدا الديار المصرية وكتم أخباره فَمَا رَاع شاور إِلَّا وُرُود كتاب مري ملك الفرنج يعرفهُ فِيهِ أَن أَسد الدّين قد فصل عَن دمشق بعساكره قَاصِدا ديار مصر فَطلب شاور مِنْهُ إِعَادَة النجدة والمقرر من المَال يصل إِلَيْهِ على مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 كَانَ يصل إِلَيْهِ فِي الْعَام الْمَاضِي فَسَار مُرِّي فِي عَسَاكِر الفرنج إِلَى مصر على جَانب الْبَحْر وَكَانَ أَسد الدّين سائراً فِي الْبر فسبقه الفرنج ونزلوا على ظَاهر بلبيس وَخرج شاور بعساكر مصر وَاجْتمعَ بِالْملكِ وقعدوا جَمِيعًا فِي انْتِظَار أَسد الدّين وَعلم أَسد الدّين باجتماع الفرنج بشاور على بلبيس فنكب عَن طريقهم وَأم الْجَبَل وَخرج على إطفيح وَهِي فِي الْجنُوب من مصر وَشن الْغَارة هُنَاكَ واتصل بشاور خَبره فَسَار فِي عساكره والفرنج فِي صحبته يقفو أَثَره واتصل بأسد الدّين ذَلِك فأندفع بَين أَيْديهم حَتَّى بلغ شرونة من صَعِيد مصر وتحيَّل فِي مراكب ركبهَا وعدى إِلَى الْبر الغربي وَلما اسْتكْمل تعديته أدْرك شاور بعض ساقته ومنقطعي عسكريته فأوقع بهم وأحضر شاور أَيْضا مراكب وَقطع النّيل فِي أثر أَسد الدّين بِجَمِيعِ جيوشه وجيوش الفرنج وَسَار أَسد الدّين إِلَى الجيزة وخيم بهَا مِقْدَار خمسين يَوْمًا واستمال قوما يُقَال لَهُم الْأَشْرَاف الجعفريين والطلحيين والقرشيين فأنفذ أَسد الدّين إِلَى شاور يَقُول لَهُ أَنا أَحْلف لَك بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَبِكُل يَمِين يَثِق بهَا الْمُسلم من أَخِيه أنني لَا أقيم بِبِلَاد مصر وَلَا أعاود إِلَيْهَا أبدا وَلَا أمكن أحدا من التَّعَرُّض إِلَيْهَا وَمن عارضك فِيهَا كنت مَعَك إلباً عَلَيْهِ وَمَا أؤمِّل مِنْك إِلَّا نصر الْإِسْلَام فَقَط وَهُوَ أَن هَذَا الْعَدو قد حَصَل بِهَذِهِ الْبِلَاد والنجدة عَنهُ بعيدَة وخلاصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 عسير وَأُرِيد مِنْك أَن نَجْتَمِع أَنا وَأَنت عَلَيْهِ وننتهز فِيهِ الفرصة الَّتِي قد أمكنت وَالْغنيمَة الَّتِي قد أكتبت فنستأصل شأفته ونخمد نائرته وَمَا أَظن أَنه يعود يتَّفق لِلْإِسْلَامِ مثل هَذِه الْغَنِيمَة أبدا فَلَمَّا صَار الرَّسُول إِلَى شاور وَأدّى إِلَيْهِ الرسَالَة أَمر بِهِ فَقتل وَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ الفرنج هَؤُلَاءِ الفرنج ثمَّ أعلم الفرنج بِمَا أرسل بِهِ إِلَيْهِ أَسد الدّين وأعلمهم بِمَا أَجَابَهُ وجدد لَهُم أيماناً وثقوا بهَا وَبلغ ذَلِك أَسد الدّين فَأكل يَدَيْهِ أسفا على مُخَالفَة شاور لَهُ فِي هَذَا الرَّأْي وَقَالَ لَعنه الله لَو أَطَاعَنِي لم يبْق بِالشَّام أحد من هَؤُلَاءِ الفرنج وَنزل شاور فِي اللوق والمقسم وَأمر بِعَمَل الجسر بَين الجيزة والجزيرة وَأمر بالمراكب فشحنت بِالرِّجَالِ وَأمرهمْ أَن يجيئوا من خلف عَسْكَر أَسد الدّين وَلما رأى أَسد الدّين ذَلِك كتب إِلَى أهل الْإسْكَنْدَريَّة يستنجد بهم على شاور لأجل إِدْخَاله الفرنج إِلَى دَار الْإِسْلَام وتضييعه أَمْوَال بَيت مَال الْمُسلمين فيهم فَقَامُوا مَعَه وَأمرُوا عَلَيْهِم نجم الدّين بن مصال وَهُوَ ابْن أحد وزراء المصريين وَكَانَ لَجأ إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مستخفياً فَظهر فِي هَذِه الْفِتْنَة حَدثنِي الإدريسي الشريف نزيل حلب قَالَ كنت بالإسكندرية يَوْمئِذٍ فَكتب معي ابْن مصال كتابا إِلَى أَسد الدّين وَقَالَ لي قل لَهُ إِنِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أخْبرك أَن السِّلَاح وَاصل وَكَانَ أنفذ لأسد الدّين خزانَة من السِّلَاح قَالَ فَسَبَقتهَا بيومين وَحَضَرت بَين يَدي أَسد الدّين وأعطيته الْكتب وشافهته برسالة ابْن مصال فِي معنى السِّلَاح والآلات ثمَّ وصلت الخزانة بعد يَوْمَيْنِ مَعَ ابْن أُخْت الْفَقِيه ابْن عَوْف قَالَ وَبَقينَا على الجيزة يَوْمَيْنِ فوصل إِلَيْنَا رَسُول ابْن مدافع يخبر أَسد الدّين بِقرب شاور مِنْهُ ويأمره بالنجاة فَترك أَسد الدّين الْخيام والمطابخ وَمَا يثقل حمله وَسَار سيراً حثيثاً حَتَّى قَارب دَلَجْة فَأمر أَسد الدّين بنهبها فنهبت وَنزل النَّاس لتعشية الدَّوَابّ فَلم يستتم عليقها حَتَّى أَمر أَسد الدّين النَّاس بالرحيل وَأوقدت المشاعل لَيْلًا وسرنا فَإِذا الجاووش يُنَادي فِي النَّاس بِالرُّجُوعِ وَعَاد أَسد الدّين إِلَى دلجة فَنزل عَلَيْهَا وَنزل شاور على الأشمونين وَأمر أَسد الدّين النَّاس أَن يقفوا على تعبئة فَأَصْبحُوا على ذَلِك والتقوا فَقتل من أَصْحَاب أَسد الدّين جمَاعَة كَثِيرَة وانهزموا وَكَانَ أَسد الدّين قد فرق أَصْحَابه فريقين فريقاً مَعَه وفريقاً جعله مَعَ صَلَاح الدّين وأنفذه ليَأْتِي من خلف عَسْكَر شاور فَدخل الضعْف من هَذَا الطَّرِيق ثمَّ إِن أَصْحَاب أَسد الدّين تجمعُوا وتماسكوا وَعَلمُوا أَنه لَا منجى لَهُم إِلَّا الصَّبْر فتحالفوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الْمَوْت وحملوا وطلع صَلَاح الدّين من ورائهم فَلم تزل الْحَرْب قَائِمَة إِلَى اللَّيْل فَوَلَّتْ عَسَاكِر الإفرنج والمصريين الإدبار وَكَاد مُرِّي ملك الإفرنج يؤسر وَصَارَ شاور وَمن سلم مَعَه إِلَى منية ابْن خصيب وَسَار أَسد الدّين على الفيوم إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَدَخلَهَا وَنزل الْقصر وَجعل فِيهِ محبس الفرنج الَّذين أسرهم وَكَانَ فِيهَا ابْن الزبير مُتَوَلِّيًا ديوانها فَحمل إِلَى أَسد الدّين الْأَمْوَال وَقواهُ بِالسِّلَاحِ وَخَافَ أَسد الدّين أَن يَقْصِدهُ شاور والفرنج فيحصروه فَرُبمَا تأذى بالحصار فَأمر صَلَاح الدّين بالْمقَام بالإسكندرية وَترك عِنْده جمَاعَة من الْعَسْكَر وَمن بِهِ مرض أَو جراح أَو ضعف واستحلف لَهُ وُجُوه الْإسْكَنْدَريَّة وأوصاهم بِهِ ورحل فِي أقوياء عسكره قَاصِدا إِلَى الصَّعِيد وَنزل الفرنج وشاور على الْإسْكَنْدَريَّة وحاصروها مُدَّة ثَلَاثَة أشهر بأشد الْقِتَال وبذل أَهلهَا فِي نصْرَة الْملك النَّاصِر أَمْوَالهم وأنفسهم وَقتل مِنْهُم جمَاعَة عَظِيمَة وَلما صَار أَسد الدّين بالصعيد حصَّل من تِلْكَ الْبِلَاد أَمْوَالًا عَظِيمَة وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى صَامَ شهر رَمَضَان واتصل بِهِ اشتداد الْأَمر على الْإسْكَنْدَريَّة فَرَحل من قوص إِلَى جِهَتهَا وَاتبعهُ جمَاعَة كَثِيرَة من العربان وَأهل تِلْكَ الْبِلَاد وَبلغ ذَلِك شاور فَرَحل هُوَ والفرنج واضطر إِلَى الصُّلْح وضجرت الفرنج أَيْضا فتوسط ملك الفرنج فِي ذَلِك فتقرر أَمر الصُّلْح على أَن شاور يحمل إِلَى أَسد الدّين جَمِيع مَا عزمه فِي هَذِه السفرة وَيُعْطِي الفرنج ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَيعود كل مِنْهُم إِلَى بِلَاده وَطلب صَلَاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الدّين من ملك الفرنج مراكب يحمل فِيهَا الضُّعَفَاء من أَصْحَابه فأنفذ لَهُ عدَّة مراكب قَالَ الإدريسي كنت فِي جملَة من خرج فِي المراكب فَلَمَّا وصلنا إِلَى ميناء عكا أَخذنَا واعتقلنا فِي معصرة الْقصب إِلَى أَن وصل الْملك مُرِّي فأطلقنا فخرجنا إِلَى دمشق وَخرج صَلَاح الدّين من الْإسْكَنْدَريَّة بعد أَن اسْتحْلف شاور لأَهْلهَا وَألا يعرض لَهُم بِسوء وَاجْتمعَ بِعَمِّهِ أَسد الدّين ثمَّ أنفذ شاور وَقبض على ابْن مصال وَجَمَاعَة مِمَّن أعَان صَلَاح الدّين وضيق عَلَيْهِم وتتبع أهل الْإسْكَنْدَريَّة واتصل ذَلِك بصلاح الدّين فَاجْتمع بِملك الفرنج وَقَالَ لَهُ إِن شاور نقض الْأَيْمَان قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ لِأَنَّهُ قبض على من لَجأ إِلَيْنَا فَقَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وأنفذ إِلَى شاور وَقَالَ لَهُ إِن الْأَيْمَان جرت على أَلا تعرض لأحد من أهل مصر وَلَا أهل الْإسْكَنْدَريَّة وألزمه يَمِينا أُخْرَى فِي أَلا يعرض لأحد مِمَّن لَجأ إِلَى أَسد الدّين أَو صَلَاح الدّين وَلما شَاهد من التجأ إِلَى الْأسد وَالصَّلَاح فَسَاد تِلْكَ الْأَحْوَال خَافُوا من شاور فَأخذُوا فِي الرحيل إِلَى الشَّام واتصل ذَلِك بشاور فَخرج بِنَفسِهِ وَجمع جَمِيع من عزم على الرحلة إِلَى الشَّام وَحلف لَهُم على الْإِحْسَان إِلَيْهِم وحماية أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَمنهمْ من سكن إِلَى أيمانه وَمِنْهُم من لم يسكن ورحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وألهم الله تَعَالَى أَسد الدّين أَن الفرنج رُبمَا خطر لَهُم فِي مصر خاطر فقصدتها فراسل الْملك مري وَقَالَ لَهُ قد سَأَلَ أهل مصر يَمِين الْملك أَلا يدْخل إِلَيْهِم وَلَا يتَعَرَّض لَهُم فَامْتنعَ الْملك ثمَّ أجَاب خوفًا أَن يتَحَقَّق أَسد الدّين وشاور أَنه رُبمَا قصد ديار مصر فَرُبمَا اجْتمعَا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من الْيَمين فَحلف وَحلف أَصْحَابه وَخرج أَسد الدّين من مصر وَفِي قلبه الدَّاء الدوي مِنْهَا لِأَنَّهُ شَاهدهَا وَشَاهد مُغَلاّتها فَوَجَدَهَا أمرا عَظِيما فَأخذ نور الدّين فِي تهوين أَمر مصر عَلَيْهِ وأقطعه حمص وأعمالها وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي غير وَاحِد أَن شاور كَاتب نور الدّين فِي ذَلِك وَضمن لَهُ أَن يحمل فِي كل سنة عَن ديار مصر مَالا مصانعة وَلما بلغ شاور أَن نور الدّين صرف همة أَسد الدّين عَن ذكر مصر والتعرض لَهَا أنفذ رَسُولا بهدية سنية وأصحبه كتابا حسنا أَوله ورد كتاب استدعى شكري وحمدي واستخلص من الصفاء مَا عِنْدِي واستفرغ فِي الثَّنَاء على مرسله جهدي فَكَأَنَّمَا استملت مَعَانِيه مِمَّا عِنْدِي واشتملت على حقائق قصدي وسررت لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَالدّين الَّذِي وعد الله أَن يظهره على الدّين كُله بِأَن يكون مثله ملكا من ملوكه يُرجع إِلَيْهِ فِي عقده وحله وتشير الْأَصَابِع وتعقد الخناصر على علو مَحَله وَالله يزِيدهُ بمكانه تثبيتاً وَقُوَّة ويحقق على يَدَيْهِ مخايل النَّصْر المرجوة فَمَا أسعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 رَأْسا دلّ على نصْرَة الْكَلِمَة ودعا إِلَى سَبِيل الفئة الْمسلمَة ووفر على مصَالح الْأمة قُلُوب رعاياها المنقسمة وَأَنا متمم من هَذَا الْأَمر مَا صدر مني وباق مِنْهُ على مَا نقل عني لَا أتغير عَن الْمصلحَة فِيهِ وَلَا يُخَالف مَا أظهره مِنْهُ لما أخفيه وَلَا أسْتَكْثر كثيرا أصل إِلَيْهِ وأتوصل بِهِ لما سبق للْملك الْعَادِل من حُقُوق اسْتوْجبَ شكرها قولا وفعلا ونصرة كَانَت فِي هجير الخطوب بردا وظلا وأنعم لَا تزَال آياتها بألسُن الْحَمد تتلى وتملى ولعمري لقد بني بهَا فخراً وارتفع على الْأَمْلَاك قدرا وذكرا وَوَجَب أَن يستتمها فَلَا يصل إِلَى مواردها الكدر ويحوطها فَلَا تتطرق إِلَى جوانبها الْغَيْر ووراء هَذِه الْمُكَاتبَة من اهتمامي مَا لَا يعوقه عائق إِلَّا انتظام العقد على الْأُمُور المألوفة وَتَمام التوثقة بِالْيَمِينِ المنصوصة الموصوفة مَعَ أَن قَوْله كيمينه وَكتابه كصفحة يَمِينه والثقة بِهِ وَاقعَة على كل حَال والمحبة لَهُ توجب الاحتراس على الوداد من تطرق أَسبَاب الاختلال قَالَ وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ طمع مري ملك الفرنج فِي مصر وعول على الدُّخُول إلهيا والاستيلاء عَلَيْهَا وَذَلِكَ لما أنكشف لَهُ من عوارها وَظهر لَهُ من ضعف من بَقِي فِيهَا فَجمع إِلَيْهِ مُلُوك الفرنج وكبراء الداوية والاسبتارية وَتَشَاوَرُوا فجرت بَينهم فِي ذَلِك خطوب ثمَّ أجابوه إِلَى الْخُرُوج مَعَه إِلَى الديار المصرية فأحضر وزيره وَأمره بإقطاع بِلَاد مصرلخيالته وَفرق قراها على أجناده وَكَانَ لَعنه الله لما دخل ديار مصر قد أَقَامَ من أَصْحَابه من كتب لَهُ أَسمَاء قرى مصر جَمِيعهَا وتعرف لَهُ خبر ارتفاعها ثمَّ سَار حَتَّى نزل الداروم فَقَامَتْ قِيَامَة شاور لما بلغه الْخَبَر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وانتخب أَمِيرا من أمرائه يُقَال لَهُ بدران وسيره إِلَى لِقَاء مري يسْأَله عَن السَّبَب فِي قَصده فَاجْتمع بِهِ وَسَأَلَهُ فَتَلَكَّأَ عَلَيْهِ ثمَّ استلان جَانِبه وَضمن لَهُ رضيخة على أَن يوري عَنْهُم وَلَا يكْشف لشاور حَالهم وَيُقَال إِن الْملك أقطعه ثَلَاث عشرَة قَرْيَة على أَن يتمم على المصريين الْحِيلَة وَيعلم شاور أَنه إِنَّمَا قصد مصر للْخدمَة فَفعل ذَلِك بدران وَلما سمع ذَلِك شاور أشْفق مِنْهُ وأحضر الْأَمِير شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار وَقَالَ لَهُ كَأَن بدران قد غشني وَلم ينصحني وَأَنا فواثق بك فَأُرِيد تخرج وَتكشف لي حَال الفرنج فَسَار شمس الْخلَافَة إِلَى مُري وَكَانَ بَينهمَا مؤانسة فَلَمَّا دخل على الْملك قَالَ لَهُ مرْحَبًا بشمس الْخلَافَة فَقَالَ مرْحَبًا بِالْملكِ الغدار وَإِلَّا مَا الَّذِي أقدمك إِلَيْنَا قَالَ اتَّصل بِي أَن الْفَقِيه عِيسَى يُزَوّج أُخْت الْكَامِل بن شاور من صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ويزوج الْكَامِل أُخْت صَلَاح الدّين فَقُلْنَا هَذَا عمل علينا فَقَالَ لَهُ شمس الْخلَافَة لَيْسَ لهَذَا صِحَة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن فِيهِ نقض للْعهد فَقَالَ لَهُ الْملك الصَّحِيح أَن قوما من وَرَاء الْبَحْر انْتَهوا إِلَيْنَا وغلبونا على رَأينَا وَخَرجُوا طامعين فِي بِلَادكُمْ فخفنا من ذَلِك فخرجنا لنتوسط الْأَمر بَيْنكُم وَبينهمْ فَقَالَ شمس الْخلَافَة فَأَي شَيْء قد طلبُوا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ألفي ألف دِينَار فَقَالَ مَكَانكُمْ حَتَّى أصل إِلَى شاور وأبلغه مقالكم وأعود بِالْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ ملك الفرنج فَنحْن ننزل على بلبيس إِلَى أَن تعود قَالَ وَحكى أَن ملك الفرنج لما وصل إِلَى الدراوم كتب إِلَى شاور يَقُول لَهُ إِنِّي قد قصدت الْخدمَة على مَا قَرّرته لي من الْعَطاء فِي كل عَام فَأَجَابَهُ شاور إِن الَّذِي قَرّرته لَك إِنَّمَا جعلته مَتى احتجت إِلَيْك أَو إِذا قدم عليّ عَدو فَأَما مَعَ خلو بالي من الْأَعْدَاء فَلَا حَاجَة بِي إِلَيْك وَلَا لَك عِنْدِي مُقَرر فَأَجَابَهُ مري أَنه لابد من حضوري وأخذي الْمُقَرّر فَعلم شاور أَنه قد غدر بالعهد وَنقض الْأَيْمَان وَأَنه قد طمع فِي الْبِلَاد فَأخذ فِي تجنيد الأجناد وحشد العساكر إِلَى الْقَاهِرَة وأنفذ إِلَّا بلبيس قِطْعَة من الْجَيْش وميرة وعُدة ثمَّ إِن ملك الفرنج سَار خلف رَسُول شاور لايلوي على قَول حَتَّى خيم على بلبيس فِي صفر وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من المصريين مِنْهُم علم الْملك بن النّحاس وَابْن الْخياط يحيى وَابْن قرجلة وَأرْسل إِلَى ابْن طي بن شاور وَكَانَ ببلبيس وَقَالَ لَهُ أَيْن ننزل قَالَ على أسنة الرماح وَقَالَ لَهُ أتحسب أَن بلبيس جبنة تأكلها فَأرْسل إِلَيْهِ مري نعم هِيَ جبنة والقاهرة زبدة ثمَّ قَاتل بلبيس لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى افتتحها بِالسَّيْفِ وَقتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 من أَهلهَا خلقا عَظِيما وَخرب أَكْثَرهَا وَحرق جُلَّ آدرها ثمَّ أخرج الْأُسَارَى إِلَى ظَاهر الْبَلَد وحشروا فِي مَكَان وَاحِد وَحمل فِي وَسطهمْ برمحه ففرقهم فرْقَتَيْن فَأخذ الْفرْقَة الَّتِي كَانَت عَن يَمِينه لنَفسِهِ وَأطلق الْفرْقَة الَّتِي كَانَت عَن يسَاره لعسكره وَقَالَ لفرقته قد أطلقتكم شكرا لله تَعَالَى على مَا أولاني من فتح بِلَاد مصر فَإِنِّي قد ملكتها بِلَا شكّ ووقف إِلَى أَن عدى أَكْثَرهم النّيل إِلَى جِهَة منية حمل وَأخذ الْعَسْكَر نصِيبهم من الْأُسَارَى فاقتسموهم وَبَقِي أهل بلبيس الَّذين أَسرُّوا أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة فِي أسر الفرنج وَهلك أَكْثَرهم فِي أَيْديهم وأفلت مِنْهُم الْيَسِير لِأَن الْملك النَّاصِر رَحمَه الله تَعَالَى لما ملك ديار مصر وقف مُغَلَّ بلبيس على كثرته على فكاك الأسرى مِنْهُم وسامح أهل بلبيس بخراجهم إِلَى آخر أَيَّامه وَلما أتصل بشاور مَا جرى على أهل بلبيس من الْقَتْل والأسر وَأَن الفرنج شحنوها بِالرِّجَالِ والعُدد وجعلوها لَهُم ظهرا أشْفق من ذَلِك وَطلب الْإِذْن على العاضد فَلَمَّا اجْتمع بِهِ بكي بَين يَدَيْهِ وَقَالَ اعْلَم أَن الْبِلَاد قد ملكت علينا وَلم يبْق إِلَّا أَن تكْتب إِلَى نور الدّين وتشرح لَهُ مَا جرى وتطلب نصرته ومعونته فَكتب جَمِيع ذَلِك وَأرْسل شاور طيَّ تِلْكَ الْكتب كتبا وسخم أعاليها بالمداد قَالَ وحَدثني شمس الْخلَافَة مُوسَى بن شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار قَالَ إِنَّمَا كتب هَذَا الْكتاب بِرَأْي أبي شمس الْخلَافَة لِأَنَّهُ لما رَجَعَ من عِنْد مرِّي لَعنه الله بعد أَخذ بلبيس اجْتمع بالكامل بن شاور وَقَالَ لَهُ عِنْدِي أَمر لَا يمكنني أَن أفضي بِهِ إِلَيْك إِلَّا بعد أَن تحلف لي أَنَّك لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 تطلع أَبَاك عَلَيْهِ فَلَمَّا حلف لَهُ قَالَ إِن أَبَاك قد وطَّن نَفسه على المصابرة وَآخر أمره يسلم الْبِلَاد إِلَى الفرنج وَلَا يُكَاتب نور الدّين وَهَذَا عين الْفساد فاصعد أَنْت إِلَى العاضد وألزمه أَن يكْتب إِلَى نور الدّين فَلَيْسَ لهَذَا الْأَمر غيرَة فَصَعدَ الْكَامِل وَكتب الْكتاب فَلَمَّا وصل إِلَى نور الدّين انزعج انزعاجاً عَظِيما وأنفذ أَسد الدّين وَكَانَ ذَلِك من مُناه وَأرْسل الْفَقِيه عِيسَى الهكاري إِلَى مصربرسالة ظَاهِرَة إِلَى شاور يُعلمهُ أَن العساكر واصلة وبرسالة سَرِيَّة إِلَى العاضد وَأمره أَن يستحلفه على أَشْيَاء عيَّنها وَأَن يكتم ذَلِك من شاور وَأما الفرنج فَسَارُوا إِلَى جِهَة مصر وَأمر شاور بإحراق مصر وأنذر أَهلهَا فَخرج النَّاس مِنْهَا على وُجُوههم وهجُوا فِي بِلَاد مصر وَبلغ أُجْرَة الْجمل إِلَى الْقَاهِرَة ثَلَاثِينَ دِينَارا وَترك النَّاس أَكثر أَمْوَالهم فنهبت وأحرقت مصر فِي تَاسِع صفر وأقامت النَّار تعْمل فبها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا ثمَّ إِن الفرنج لعنهم الله نزلُوا فِي بركَة الْحَبَش وانبثت خيولهم فِي الْأَطْرَاف وتخطفوا من ظفروا بِهِ فأنفذ شاور شمس الْخلَافَة إِلَى مرِّي لَعنه الله فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ سَأَلَهُ أَن يخرج مَعَه إِلَى بَاب الْخَيْمَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 فَفعل فَأرَاهُ شمس الْخلَافَة جِهَة مصر وَقَالَ لَهُ أَتَرَى دخاناً فِي السَّمَاء قَالَ نعم قَالَ هَذَا دُخان مصر وَمَا أَتَيْتُك إِلَّا وَقد أحرقت بِعشْرين ألف قَارُورَة نفط وَفرقت فِيهَا عشرَة آلَاف مشعل وَمَا بَقِي فِيهَا مَا يؤمل بَقَاؤُهُ ونفعه فخلَّ الْآن عَنْك مدافعتي ومخاتلتي وكوني كلما قلت لَك انْزِلْ فِي مَكَان تعديت إِلَى غَيره وَمَا بَقِي لَك إِلَّا أَن تنزل بِالْقَاهِرَةِ فَقَالَ هُوَ كَمَا تَقول وَلَا بُد من نزُول الْقَاهِرَة وَمَعِي فرنج من وَرَاء الْبَحْر قد طمعوا فِي أَخذهَا ثمَّ رَحل فَنزل على الْقَاهِرَة مِمَّا يَلِي بَاب البرقية نزولاً قَارب بِهِ الْبَلَد حَتَّى صَارَت سِهَام الجرخ تقع فِي خيمه فَقَاتلُوا الْبَلَد أَيَّامًا فَلَمَّا تَيَقّن شاور الضعْف عدل إِلَى طَرِيق المخادعة والمخاتلة والمغاورة والمدافعة إِلَى أَن تصل عَسَاكِر الشَّام فأنفذ شمس الْخلَافَة إِلَى مري لَعنه الله تَعَالَى برسالة طَوِيلَة فتل بهَا فِي غاربه وَدَار من حواليه وَفِي ضمنهَا إِن هَذَا بلد عَظِيم كَبِير وَفِيه خلق كثير وَلَا يُمكن تَسْلِيمه أَلْبَتَّة وَلَا أَخذه إِلَّا بعد أَن يقتل من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم وَمَا تعلم أَنْت وَلَا أَنا لمن الدائرة والرأي أَن تحقن دِمَاء أَصْحَابك وَدِمَاء أَصْحَابِي وتحصِّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 شَيْئا أدفعه لَك فَيحصل لَك عفوا فاستقرت الْمُصَالحَة على أَربع مئة ألف دِينَار وَقيل ألفي ألف دِينَار يعجعل لَهُ مِنْهَا مئة ألف دِينَار فَأجَاب مري إِلَى ذَلِك وانعقدت الْهُدْنَة وَحلف مري ورحل إِلَى بركَة الْحَبَش وَحمل شاور إِلَيْهِ مئة ألف دِينَار فِي عدَّة دفعات سوّف فِيهَا الْأَوْقَات ثمَّ أَخذ يمطله فِي الْبَاقِي انتظاراً لقدوم العساكر ويوهم أَنه يجمع لَهُم الْأَمْوَال فَلم يشْعر الفرنج إِلَّا بهجوم عَسْكَر الشَّام عَلَيْهِم فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رحلوا إِلَى بلبيس وَنزل أَسد الدّين بالمقس ثمَّ رَحل ملك الفرنج وَنزل على فاقوس وَاتبعهُ أَسد الدّين وَنزل على بلبيس وَكَانَ لما اتَّصل بشاور وُصُول أَسد الدّين إِلَى صَدْر أنفذ شمس الْخلَافَة إِلَى ملك الفرنج يستطلق لَهُ مِنْهُ بعض المَال فَصَارَ إِلَيْهِ وَاجْتمعَ بِهِ وَقَالَ قد قل علينا المَال فَقَالَ ملك الإفرنج اطلب مِنْهُ مَا شِئْت قَالَ أشتهي أَن تهب لي النّصْف قَالَ قد فعلت فَقَالَ شمس الْخلَافَة مَا بَلغنِي أَن ملكا فِي مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هَذِه الْهِبَة لقوم هم فِي مثل حَالنَا فَقَالَ ملك الإفرنج أَنا أعلم أَنَّك رجل عَاقل وَأَن شاور ملك وأنكما مَا سألتماني أَن أهبكما هَذَا المَال الْعَظِيم إلاَّ لأمر قد حدث فَقَالَ لَهُ صدقت هَذَا أَسد الدّين قد وصل إِلَى صدر نُصرة لنا وَمَا بَقِي لَك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 مقَام وشاور يَقُول لَك أرى أَن ترحل وَنحن باقون على الْهُدْنَة فَإِنَّهُ أوفق لَك وَلنَا وَإِذا حصل هَذَا الرجل عندنَا أرضيناه من هَذَا المَال بِشَيْء وحملنا الْبَاقِي إِلَيْك مَتى قَدرنَا وَإِن نَحن أخرجنَا فِي رضاهم أَكثر من هَذَا المَال عدنا عَلَيْك بِمَا يبْقى علينا من الْمِقْدَار فَقَالَ ملك الفرنج أَنا راضٍ بذلك وَإِن بَقِي عَليّ شَيْء حَملته إِلَيْكُم وعول على الرحيل فَقَالَ لَهُ بعد أَن تطلق ابْن طي بن شاور وَجَمِيع من فِي عسكرك من الْأُسَارَى وَلَا تَأْخُذ من بلبيس بعد انصرافك شَيْئا فَأَجَابَهُ إِلَى جَمِيع ذَلِك وَلما رحلت الفرنج عَن الْقَاهِرَة نزل أَسد الدّين بِأَرْض يُقَال لَهَا اللوق وَأخرج إِلَيْهِ شاور الإقامات الْحَسَنَة والخدم الْكَثِيرَة وَلما اجْتمعَا قَالَ شاور لاسد الدّين قد رَأَيْت من الرَّأْي أَن أخرج أَنا وَأَنت وندرك الفرنج ونوقع بهم فَقَالَ أَسد الدّين هَذَا كَانَ رَأْيِي والفرنج على الْبر الغربي وَلَيْسَ لَهُم وزر وَأما الْآن فَلَا لأَنهم على الْبر الْمُتَّصِل ببلادهم وَنحن فقد خرجنَا من الْبر فِي أَسْوَأ حَال من الضعْف والتعب وَقد كفانا الله شرهم وَنحن إِلَى الرَّاحَة والاستجمام أحْوج وَلما نزل أَسد الدّين باللوق أرسل إِلَيْهِ العاضد هَدِيَّة عَظِيمَة وخلعاً كَثِيرَة وَأخرج إِلَى خدمته أكَابِر أَصْحَابه ثمَّ إِنَّه خرج إِلَيْهِ فِي اللَّيْل سرا متنكراً وَاجْتمعَ بِهِ فِي خيمته وأفضى إِلَيْهِ بِأُمُور كَثِيرَة مِنْهَا قتل شاور ثمَّ عَاد إِلَى قصره وَكَانَ شاور قد رأى لَيْلَة نزل أَسد الدّين على الْقَاهِرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 كَأَنَّهُ دخل دَار الوزارة فَوجدَ على سَرِير ملكه رجلا وَبَين يَدَيْهِ دَوَاة الوزارة وَهُوَ يُوقع مِنْهَا بأقلامه فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل هَذَا مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما حصل أَسد الدّين بالديار المصرية وانفصل عَنْهَا الفرنج أمنت الْبِلَاد وتراجع النَّاس إِلَى بُيُوتهم وَأخذُوا فِي إصْلَاح مَا شعثه الفرنج وأفسدوه وتقاطر النَّاس إِلَى خدمَة أَسد الدّين فَتَلقاهُمْ بالرحب وَالسعَة وَأحسن إِلَيْهِم وَأما شاور فَإِنَّهُ أَخذ فِي التودُّد إِلَى أَسد الدّين والتقرب إِلَى قلبه بِجَمِيعِ مَا وجد السَّبِيل إِلَيْهِ وَأقَام لَهُ ولعسكره الْميرَة الْكَثِيرَة والنفقات الغزيرة حَتَّى استحوذ على قلبه وَنوى تبقيته فِي ملكه وَصفا لَهُ قلبه حَتَّى أنفذ إِلَيْهِ سرا احرس نَفسك من عَسَاكِر الشَّام واما عَسْكَر الشَّام فانهم لما رَأَوْا طيب بِلَاد مصر وَكَثْرَة خَيرهَا وسعة أموالها تاقت أنفسهم الى الاقامة بهَا واختاروا سكناهَا وَرَغبُوا فِيهَا رَغْبَة عَظِيمَة فقوي طمع أَسد الدّين فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا والاستبداد بملكها ثمَّ علم أَنه لَا يتم لَهُ ذَلِك وشاور باقٍ فِيهَا فَأخذ فِي اعمال الْحِيلَة عَلَيْهِ وَكَانَ العاضد قد تقدم اليه بقتْله فَجمع اصحابه وشاورهم فِي امْر شاور وَقَالَ لَهُم قد علمْتُم رغبتي فِي هَذِه الْبِلَاد ومحبتي لَهَا وحرصي عَلَيْهَا لَا سِيمَا وَقد تحققت ان عِنْد الفرنج مِنْهَا مَا عِنْدِي وَعلمت انهم قد كشفوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عورتها وَعَلمُوا مسالك رقعتها وتيقنت اني مَتى خرجت مِنْهَا عَادوا اليها واحتَووُا عَلَيْهَا وَهِي مُعظم دَار الاسلام وحلوبة بَيت مَالهم وَقد قوى عِنْدِي ان اثب عَلَيْهَا قبل وثوبهم واملكها قبل مملكتهم واتخلص من شاور الَّذِي يلْعَب بِنَا وبهم ويغرنا ويغرهم وَيضْرب بَيْننَا وَبينهمْ وَقد ضيع اموال هَذِه الْبِلَاد فِي غير وَجههَا وقًّوى بهَا الفرنج علينا وَمَا كل وَقت ندرك الفرنج ونسبقهم الى هَذِه الْبِلَاد الَّتِي قد قل رجالها وَهَلَكت ابطالها فتنخلت الاراء بَين الامراء انه لَا يتم لَهُم امْر الا بعد الْقَبْض على شاور وَتَفَرَّقُوا على إِيقَاع الْقَبْض بِهِ وَكَانَ شاور يركب فِي الأبهة العظمية وَالْجَلالَة الجسيمة وَالْعدة الْحَسَنَة والالة الجميلة على عَادَتهم الاولى وَكَانَ من جملَة قواعدهم ان الْوَزير اذا ركب حمل فِي موكبه الطبل والبوق وَكَانَ شاور قَلِيل الرّكُوب فَجعل الْأُمَرَاء يترصدونه وَرَاء اسد الدّين قبل قبض شاور بليلة كَأَن شاور دَاخل إِلَيْهِ إِلَى دَاره وناوله سَيْفه وعمامته فتأوله اسد الدّين بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَأخذ منصبه ثمَّ إِن شاور ركب يَوْمًا فِي ابهته وجلالته فَلَمَّا عاينه الْأُمَرَاء هابوه وأحجموا عَنهُ وَكَانَ يَوْمًا عَظِيم الضباب وَكَانَ خُرُوج شاور من بَاب القنطرة للسلام على اسد الدّين فَتقدم صَلَاح الدّين فَسلم عَلَيْهِ وَدخل فِي موكبه ثمَّ سايره ثمَّ مد يَده الى تلابيبه وَصَاح عَلَيْهِ فرجًّله وَلما رأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ذَلِك عَسْكَر الشَّام قويت عزماتهم ووقعوا فِي عَسْكَر شاور فنهبوا مَا كَانَ مَعَ رِجَاله وَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وَحمل الْملك النَّاصِر شاور رَاجِلا الى خيمة لَطِيفَة واراد قَتله فَلم يُمكنهُ قَتله دون مُشَاورَة اسد الدّين وَفِي الْحَال ورد على اسد الدّين توقيع من العاضد على يَد خَادِم يَأْمُرهُ فِيهِ بقتل شاور فأنفذ التوقيع الى صَلَاح الدّين فَقتله فِي الْحَال وانفذ رَأسه الى الْقصر وَبلغ الْكَامِل بن شاور قتل ابيه فهرب الى الْقصر وخلع العاضد على اسد الدّين وقلده الوزارة وأنفذ إِلَيْهِ طبق فضَّة فِيهِ رَأس الْكَامِل بن شاور ورؤوس اولاد اخوته وَلما خرج منشور الوزارة الى اسد الدّين امْر بقرَاءَته على رُؤُوس الاشهاد وَفَرح بِهِ غَايَة الْفَرح واعيدت قِرَاءَته عَلَيْهِ عدَّة دفعات اسْتِحْسَانًا لمعانيه واستظرافا لما اودع من بَدَائِع الْكَلَام فِيهِ قَالَ وَلما اتَّصل بِنور الدّين فتح الديار المصرية فَرح بذلك فَرحا شَدِيدا وواصل الْحَمد وَالثنَاء على الله تَعَالَى اذ كَانَ فِي زَمَنه وعَلى يَده وامر بِضَرْب البشائر فِي جَمِيع ولَايَته وتزيين جَمِيع بِلَاده وَجلسَ للهناء بذلك وانشده الشُّعَرَاء فِي فتحهَا عدَّة اشعار غير انه لما اتَّصل بِهِ ان اسد الدّين وزر للعاضد واستبد بالامر فِي ذَلِك الصقع امضه ذَلِك واقلقه وَظَهَرت فِي مخايل قسماته وفلتات كَلِمَاته الْكَرَاهِيَة واخذ فِي الفكرة فِي امْرَهْ وسهر لَهُ ليَالِي وأفضى بسره إِلَى مجد الدّين ابْن الداية حَدثنِي جمَاعَة عَن شمس الدّين على ابْن الداية اخي مجد الدّين وحَدثني الْمُوفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 مَحْمُود بن النّحاس الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْحلَبِي وَقد جرى ذكر فتح مصر وان نور الدّين ابتهج بِهِ فَقَالَ وَالله مَا ابتهج بِهِ وَلَقَد كَانَ وده الا يفتح والا يصير اسد الدّين وَصَلَاح الدّين الى مَا صَارا اليه وَلَقَد ظَهرت الْكَرَاهِيَة مِنْهُ لذَلِك فِي الفاظه وَوَجهه وَلَقَد اعْمَلْ الْحِيلَة فِي افساد امْر اسد الدّين وَصَلَاح الدّين فَمَا تهَيَّأ لَهُ لَا سِيمَا يَوْم بلغه حُصُول صَلَاح الدّين على خَزَائِن مصر فَأَنَّهُ اقام ثَلَاثَة ايام لَا يقدر اُحْدُ ان يرَاهُ واهتم لذَلِك حَتَّى افضى عَلَيْهِ الْهم وَلَو لم يكن الْفَتْح اليه مَنْسُوبا وَعَلِيهِ فَضله محسوبا لما صَبر على مَا جرى وَلَا اغضى للْملك النَّاصِر على القذى وَلَقَد كَاتب العاضد عدَّة دفعات فِي امْر الْأسد وَالصَّلَاح فَلم يحصل لَهُ فيهمَا نجاح وَكَثِيرًا مَا يُوجد فِي كتب نور الدّين الى العاضد التَّعْرِيض بانفاذ اسد الدّين وَلَو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 امكنه المجاهرة بالْقَوْل لقَالَ فَمن بعض مكاتباته وَقد افْتقر العَبْد الى بعثته واعوز عسكره يُمن نقيبته وَاشْتَدَّ حزب الضلال على الْمُسلمين لغيبته لانه مَا يزَال يَرْمِي شياطين الضلال بشهابه الثاقب ويصمي مقيل الشّرك بسهمه النَّافِذ الصائب قلت لَعَلَّ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى انما اقلقه من ذَلِك كَون اسد الدّين وزر للعاضد فخاف من ميله الى الْقَوْم والى مَذْهَبهم وان يفْسد جنده عَلَيْهِ بذلك السَّبَب هَذَا ان صَحَّ مَا نَقله ابْن ابي طي وَالله اعْلَم قَالَ وَكَانَ اسد الدّين لما ولي الوزارة لم يُغير على اُحْدُ شَيْئا واجرى اصحاب مصر على قواعدهم وامورهم الى ان انْقَضتْ ايامه وفنيت أعوامه وَكَانَ قرما يحب أكل اللَّحْم ويواظب عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فتواترت عَلَيْهِ التخم واتصلت بِهِ مرضاته الى ان ظَهرت بحلقه خوانيق كَانَ فِيهَا تلافه وَيُقَال انه اكل فِي ذَلِك الْيَوْم مضيرة وَدخل الْحمام فَلَمَّا خرج مِنْهَا اصابه الخناق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 قَالَ وَكَانَ شجاعا بارعا قَوِيا جلدا فِي ذَات الله شَدِيدا على الْكفَّار وطاته عَظِيمَة فِي ذَات الله صولته عفيفا دينا كثير الْخَيْر وَكَانَ يحب اهل الدّين وَالْعلم كثير الايثار حدبا على اهله واقاربه وَكَانَ فِيهِ امساك وَخلف مَالا كثيرا وَخلف من الْخَيل وَالدَّوَاب وَالْجمال شَيْئا كثيرا وَخلف جمَاعَة من الغلمان خمس مئة مَمْلُوك وهم الاسدية وَهُوَ كَانَ مشيد قَوَاعِد الدولة الشاذية والمملكة الناصرية وَكَانَ ابْتِدَاء امْرَهْ يخْدم مَعَ صَاحب تكريت على اقطاع مبلغه تسع مئة دِينَار وتنقل الى ان ملك الديار المصرية وَعقد لَهُ العزاء بِالْقَاهِرَةِ ثَلَاثَة ايام قلت وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الاسدية بالشرف القبلي ظَاهر دمشق وَهِي المطلة على الميدان الاخضر وَهِي على الطَّائِفَتَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والخانقاه الاسدية دَاخل بَاب الْجَابِيَة بدرب الهاشميين قَالَ ابْن ابي طي وَسَاعَة وَفَاته وَقع الِاخْتِلَاف فِيمَن يولي الوزارة بَين الْعَسْكَر الشَّامي ومالت الاسدية الى صَلَاح الدّين وَفِي تِلْكَ السَّاعَة انفذ العاضد وَسَأَلَ عَمَّن يصلح للوزارة فأرشد من جمَاعَة من الامراء الى شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي خَال صَلَاح الدّين فأنفذ اليه واحضره وخاطبه فِي تولي الوزارة فأمتنع من ذَلِك واشار بِولَايَة الْملك النَّاصِر وَكَانَ الحارمي اولا قد رغب فِي الوزارة وتحدث فِيهَا وَحصل مَا يَحْتَاجهُ فَلَمَّا رأى مزاحمة عين الدولة الياروقي وَغَيره عَلَيْهَا خَافَ أَن يشْتَغل بطلبها فتفوته وَرُبمَا فَاتَت صَلَاح الدّين فَأَشَارَ بِهِ لانها اذا كَانَت فِي ابْن اخته كَانَت فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 بَيته وَكَانَ صَلَاح الدّين قد وَقع من العاضد بموقع واعجبه عقله وسداد رَأْيه وشجاعته واقدامه على شاور فِي موكبه وانه قَتله حِين جائه امْرَهْ وَلم يتريث وَلَا توقف فسارع الى تَقْلِيده الوزارة وَمَا خرج شهَاب الدّين الحارمى من حَضْرَة العاضد الا وخلع الوزارة قد سبقت الى الْملك النَّاصِر وَكَانَت خلعة الوزارة عِمَامَة بَيْضَاء تَنِّيسي بطرز ذهب وثوب دبيقي بطراز ذهب وجبة تحتهَا سقلاطون بطرازي ذهب وطيلسان دبيقي بطراز دَقِيق ذهب وَعقد جَوْهَر قِيمَته عشرَة الاف دِينَار وَسيف محلى بجوهر قِيمَته خَمْسَة الاف دِينَار وَفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتهَا ثَمَانِيَة الاف دِينَار لم يكن بالديار المصرية اسبق مِنْهَا وطوق وتخت وسرفسار ذهب مجوهر وَفِي رَقَبَة الْحجر مشدة بَيْضَاء وَفِي رَأسهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 مئتا حَبَّة جَوْهَر وَفِي ارْبَعْ قَوَائِم الْفرس ارْبَعْ عُقُود جَوْهَر وقصبة ذهب فِي رَأسهَا طلعة مجوهرة وَفِي رَأسهَا مشدة بَيْضَاء بأعلام ذهب وَمَعَ الخلعة عدَّة بقج وعدة من الْخَيل واشياء اخر ومنشور الوزارة ملفوف فِي ثوب اطلس ابيض وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من جمادي الاخرة سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وقرىء المنشور بَين يَدي الْملك النَّاصِر يَوْم جُلُوسه فِي دَار الوزارة وَحضر جَمِيع ارباب الدولتين المصرية والشامية وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما وخلع السُّلْطَان على جمَاعَة الامراء والكبراء ووجوه الْبَلَد وارباب دولة العاضد وعمَّ النَّاس جَمِيعهم بالهبات والصلات وَلما اسْتَقَرَّتْ قدمه فِي الوزارة والرياسة قَامَ فِي الرّعية بشريعة السياسة ونظم بِحسن تَدْبيره من الدولة بددها وَجرى فِي مناهج الْعدْل على جددها وحَيُعَلَ الى جوده وفضله ونادى إِلَى رفده وبذله وَكَاتب الْأَطْرَاف بِمَا صَار إِلَيْهِ من السُّلْطَان وسر قُلُوب الأصدقاء والأحباب بِمَا حصل عَلَيْهِ من شرِيف الرُّتْبَة وَالْمَكَان واستدعى إِلَى حوزته الْأَصْحَاب والأهل وروى بسيح كرمه مَنْ بعد مِنْهُ وَقرب من أهل الْفضل وَتَابَ من الْخمر وَعدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 عَن اللَّهْو وتيقظ للتدبير وسها عَن السَّهْو وتقمص بلباس الدّين وَحفظ ناموس الشَّرْع الْمُبين وشمر عَن سَاق الْجد وَالِاجْتِهَاد وأفاض على النَّاس من كرمه وَجُود جوده شآبيب فَضله النَّائِب عَن العهاد وَورد عَلَيْهِ القصاد وَالزُّوَّارِ وأُمَّ بنفائس الْخطب وجواهر الْأَشْعَار حَدثنِي بعض الْأُمَرَاء قَالَ أقبل العاضد على السُّلْطَان الْملك النَّاصِر وأحبه محبَّة عَظِيمَة وَبلغ من محبته لَهُ أَنه كَانَ يدْخل إِلَيْهِ إِلَى الْقصر رَاكِبًا فَإِذا حصل عِنْده أَقَامَ مَعَه فِي قصره الْيَوْم وَالْعشرَة لايعلم أَيْن مقره قَالَ وَلما استولى الْملك النَّاصِر على الوزارة وَمَال إِلَيْهِ العاضد وحكَّمه فِي مَاله وبلاده حسده من كَانَ مَعَه بالديار المصرية من الْأُمَرَاء الشامية كَابْن ياروق وجرديك وَجَمَاعَة من غلْمَان نور الدّين ثمَّ إِنَّهُم فارقوه وصاروا إِلَى الشَّام وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي جمَاعَة من أَصْحَاب نور الدّين أَن نور الدّين لما اتَّصل بِهِ وَفَاة أَسد الدّين ووزارة صَلَاح الدّين وَمَا قد انْعَقَد لَهُ من الْمحبَّة فِي قُلُوب الرعايا أعظم ذَلِك وأكبره وتأفف مِنْهُ وَأنْكرهُ وَقَالَ كَيفَ أقدم صَلَاح الدّين أَن يفعل شَيْئا بِغَيْر أَمْرِي وَكتب فِي ذَلِك عدَّة كتب فَلم يلْتَفت الْملك النَّاصِر إِلَى قَوْله إِلَّا أَنه لم يخرج عَن طَاعَته وَأمره وَأَنه مَا فَارق قبُول رَأْيه وإشارته وَأمر نور الدّين من بِالشَّام من أهل صَلَاح الدّين وَأَصْحَابه بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ وَطلب مِنْهُ حِسَاب مصر وَمَا صَار إِلَيْهِ وَكَانَ كثيرا مَا يَقُول ملك ابْن أَيُّوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قلت هَذَا كُله مِمَّا تَقْتَضِيه الطباع البشرية والجبلة الْآدَمِيَّة وَقد أجْرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادة بذلك إِلَّا من عصم الله وَمن أنصف عذر وَمن عرف صَبر وَالَّذِي أنكرهُ نور الدّين إفراط صَلَاح الدّين فِي تَفْرِقَة الْأَمْوَال واستبداده بذلك من غير مشاورته هَذَا مَعَ أَن ابْن أبي طيّ مُتَّهم فِيمَا ينْسبهُ إِلَى نور الدّين مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ فَإِن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى كَانَ قد أذلّ الشِّيعَة بحلب وأبطل شعارهم وقوى أهل السّنة وَكَانَ وَالِد ابْن أبي طي من رُؤُوس الشِّيعَة فنفاه من حلب وَقد ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي طي فِي كِتَابه مفرقاً فِي مَوَاضِع فَلهَذَا هُوَ فِي هَذَا الْكتاب الَّذِي لَهُ كثير الْحمل على نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَلَا يُقبل مِنْهُ مَا ينْسبهُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَالله أعلم قَالَ وَلما ملك الْملك النَّاصِر مصر انتزع نور الدّين حمص والترحبة من نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين وَفرق عماله وَأَعْطَاهُ تل بَاشر ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ وَلَقَد كَانَ يتألم لملك الْملك النَّاصِر وَيُقَال إِنَّه لما مرض قَالَ مَا أَخْطَأت إِلَّا فِي إنفاذي أَسد الدّين إِلَى مصر بعد علمي برغبته فِيهَا وَمَا يحزنني شَيْء كعلمي بِمَا ينَال أَهلِي من يُوسُف بن أَيُّوب ثمَّ الْتفت إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ إِذا أَنا مت فصيروا بِابْني إِسْمَاعِيل إِلَى حلب لِأَنَّهُ لَا يبقي عَلَيْهِ غَيرهَا قَالَ ابْن أبي طي وَلَقَد كَانَ يبلغ الْملك النَّاصِر من أَقْوَال نور الدّين وأقوال أَصْحَابه أَشْيَاء تؤلمه وتمضه غير أَنه يلقاها بصدر رحب وَخلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 عذب حَدثنِي أبي عَن ابْن قَاضِي الدهليز وَكَانَ من خَواص الْملك النَّاصِر قَالَ جرى يَوْمًا بَين يَدي السُّلْطَان ذكر نور الدّين فَأكْثر الترحم عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَالله لقد صبرت مِنْهُ على مثل حزَّ المدى ووخز الإبر وَمَا قدر أحد من أَصْحَابه أَن يجد عليّ مَا يعتده ذَنبا وَلَقَد اجْتهد هُوَ بِنَفسِهِ أَيْضا أَن يجد لي هفوة يعتدها عليّ فَلم يقدر وَلَقَد كَانَ يعْتَمد فِي مخاطباتي ومراسلاتي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يصبر على مثلهَا لعليَّ أتضرر أَو أتغير فَيكون ذَلِك وَسِيلَة لَهُ إِلَى منابذتي فَمَا أبلغته أربه يَوْمًا قطّ قلت وَقد وقفت على كتاب بِخَط نور الدّين رَحمَه الله يشْكر فِيهِ من صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَذَلِكَ ضد مَا قَالَه ابْن أبي طي كتب نور الدّين ذَلِك الْكتاب إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون رَحمَه الله وَهُوَ بحلب ليوليه قَضَاء مصر صورته حسبي الله وَكفى وفْق الله الشَّيْخ الإِمَام شرف الدّين إِلَى طَاعَته وَختم لَهُ بِخَير غير خافٍ عَن الشَّيْخ مَا أَنا عَلَيْهِ وَفِيه وكل غرضي ومقصودي فِي مصَالح الْمُسلمين وَمَا يقربنِي إِلَى الله وَالله ولي التَّوْفِيق والمطلع على نيتي وَأَنت تعلم نيتي كَمَا قَالَ عز من قَائِل {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} أَنْت تعلم أَن مصر الْيَوْم قد لزمنا النّظر فِيهَا فَهِيَ من الفتوحات الْكِبَار الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى دَار إِسْلَام بَعْدَمَا كَانَت دَار كفر ونفاق فَللَّه الْمِنَّة وَالْحَمْد إِلَّا أَن الْمُقدم على كل شَيْء أُمُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الدّين الَّتِي هِيَ الأَصْل وَبهَا النجَاة وَأَنت تعلم أَن مصر وإقليمها مَا هِيَ قَليلَة وَهِي خَالِيَة من أُمُور الشَّرْع وَمَا تُدخر الدُّمُوع إِلَّا للشدائد وَأَنا مَا كنت أسخى وَلَا أشتهي مفارقتك والآن فقد تعين عَلَيْك وعليّ أَيْضا أَن نَنْظُر إِلَى مصالحها وَمَا لنا أحد الْيَوْم لَهَا إِلَّا أَنْت وَلَا أقدر أولي أمورها وأقلدها إِلَّا لَك حَتَّى تَبرأ ذِمَّتِي عِنْد الله فَيجب عَلَيْك وفقك الله أَن تشمر عَن سَاق الِاجْتِهَاد وتتولى قضاءها وتعمل مَا تعلم أَنه يقربك إِلَى الله وَقد بَرِئت ذِمَّتِي وَأَنت تجاوب الله فَإِذا كنت أَنْت هُنَاكَ وولدك أَبُو الْمَعَالِي وَفقه الله فيطيب قلبِي وتبرأ ذِمَّتِي وَقد كتبت هَذَا بخطي حَتَّى لاتبقى عَليّ حجَّة تصل أَنْت وولدك إِلَى عِنْدِي حَتَّى أسيركم إِلَى مصر وَالسَّلَام بموافقة صَاحِبي واتفاق مِنْهُ صَلَاح الدّين وَفقه الله فَأَنا مِنْهُ شَاكر كثير كثير كثير جزاه الله خيرا وأبقاه فَفِي بَقَاء الصَّالِحين والأخيار صَلَاح عَظِيم وَمَنْفَعَة لأهل الْإِسْلَام الله تَعَالَى يكثر من الأخيار وَأَعْوَان خير وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا قَالَ ابْن أبي طيّ وأبطل صَلَاح الدّين من المكوس والمظالم مَا يسْتَخْرج بديوان صناعَة مصر مئة ألف دِينَار وَمَا يسْتَخْرج بِالْأَعْمَالِ الْقبلية والبحرية مئة ألف دِينَار فسامح بِجَمِيعِ ذَلِك وَأمر بِكِتَابَة سجل بِهِ من ديوَان الْإِنْشَاء وأنفذ إِلَى سَائِر أَعمال مصر يُقرأ على المنابر وَعرض عَلَيْهِ سِيَاقَة جرائد الدَّوَاوِين فِي جِهَات المستخدمين والمعاملين لعدة سِنِين مُتَقَدّمَة آخرهَا سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَكَانَ مبلغه ينيف عَن ألف ألف دِينَار وَألْفي ألف إِرْدَب غلَّة فسامح بِجَمِيعِ ذَلِك وأبطله من الدَّوَاوِين واسقطه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 من المعاملين وأنهى إِلَيْهِ مَا يستأدي من الْحجَّاج بالحجاز المحروس من المكوس فَأنكرهُ وأكبره وَعوض عَنهُ بعدة ضيَاع فأغاث أهل الْحجاز بِمَا أوسعهم من الْعين وَالْغلَّة أَشْيَاء يطول شرحها قلت وَسَيَأْتِي كل ذَلِك فِي مَوْضِعه ونسخة منشور إِسْقَاط المكوس فِي أَخْبَار سنة سبع وَسِتِّينَ وَذَلِكَ بِإِشَارَة نور الدّين رَحمَه الله وَفِي أَيَّامه فصل ذكر الْعِمَاد فِي ديوانه قصيدة مدح بهَا نور الدّين يهنئه بِملك مصر وَلم يذكرهَا فِي كتاب الْبَرْق مِنْهَا (بِملك مصر أهني مَالك الْأُمَم ... فاسعد وأبشر بنصر الله عَن أَمم) (أضحى بعدلك شَمل الْملك ملتئما ... وَهل بعدلك شَمل غير ملتئم) (يَا فَاعل الْخَيْر عَن طبع بِلَا كلف ... ومُولى الْعرف عَن خلق بِلَا سأم) (ووامقاً ثلم ثغر الْكفْر يُعجبهُ ... لَا لثم ثغر شتيت وَاضح شبم) (لله دَرك نور الدّين من ملك ... بالعزم مفتتح بالنصر مختتم) (آثَار عزمك فِي الْإِسْلَام وَاضِحَة ... وسره لَك باد غير مكتتم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 (بِمَا من الْعدْل وَالْإِحْسَان تنشره ... تخَاف رَبك خوف المذنب الأثم) (أوردت مصر خُيُول النَّصْر عادمة ... ثني الأعنة إقداماً على اللجم) (فَأَقْبَلت فِي سَحَاب من ذوابلها ... وقضبها بدماء الْهَام منسجم) (تمكن الرعب فِي قلب الْعَدو بهَا ... تمكن النَّار بالإحراق فِي الفحم) (سرت لتقطع مَا للكفر من سَبَب ... واهٍ وتوصل مَا للدّين من رحم) (مستسهلات وعور الطّرق فِي طلب العلياء ... مقتحمات أصعب القحم) (وجاعلات من الإفرنج غلَّهم ... والقيد فِي مَوضِع الأطواق والحزم) (لقد شفت غلَّة الْإِسْلَام وانتقمت ... من الْعَدو بِحَدّ الصارم الخذم) (أعانها الله فِي إطفاء جمر أَذَى ... من شَرّ شاور فِي الْإِسْلَام مضطرم) (وأصبحت بك مصر بعد خيفتها ... للأمن والعز والإقبال كالحرم) (والسُّنة اتسقت والبدعة انمحقت ... وعاودت دولة الْإِحْسَان وَالْكَرم) (مُلُوكهَا لَك صَارُوا أعبدا وَغدا ... بهَا عبيدك ملاكا ذَوي حُرم) (أنَبْت عَنْك بهَا قرما يَنُوب بهَا ... فِي الْبَأْس عَن عنتر فِي الْجُود عَن هرم) (لله دَرك نور الدّين من ملك ... عدلٍ لحفظ أُمُور الدّين مُلْتَزم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 (كَانَت ولَايَة مصرقبل عزتها ... بكشف دولتها لَحْمًا على وَضم) (فالنيل ملتطم جَار على خجل ... جاراً لبحر نوال مِنْك ملتطم) (أُغْزُ الفرنج فَهَذَا وَقت غزوهم ... واحطم جموعهم بالذابل الحطِم) (وطهر الْقُدس من رِجْس الصَّلِيب وثبِ ... على البغاث وثوب الأجدل القطم) (فَملك مصر وَملك الشَّام قد نظما ... فِي عِقد عز من الْإِسْلَام مُنْتَظم) (مَحْمُود الْملك الْغَازِي يسوسهما ... بِالْفَضْلِ وَالْعدْل والإفضال وَالنعَم) (بالشكر كل لِسَان نَاطِق أبدا ... محمودُ الْملك مَحْمُود بِكُل فَم) (فأشك مصر وَأظْهر عز سنتها ... كم تحتفي وَإِلَى كم تَشْتَكِي وَكم) ولعلم الدّين الشاتاني فِي نور الدّين (مَا نَالَ شأوك فِي الْمَعَالِي سنجر ... كلا وَلَا كسْرَى وَلَا الْإِسْكَنْدَر) (يَا خير من ركب الْجِيَاد وخاض فِي ... لجج المنايا والأسنة تقطر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 (هَل حَاز غَيْرك ملك مصر وَصَارَ من ... أَتْبَاعه مَن جده الْمُسْتَنْصر) (والمستضي بِاللَّه مُعْتَد بِهِ ... وبجده وبحده مستظهر) (أَو سدَّ بِالشَّام الثغور محامياً ... للدّين حَتَّى عَاد عَنْهَا قَيْصر) (يبكي فيروي الأَرْض فيض دُمُوعه ... والجو من أنفاسه يتسعر) (أَو مَا أَبوك بِسَيْفِهِ فتح الرُّها ... والأسد تقتنص الكماة وتزأر) (هابت مُلُوك الأَرْض بَأْس كماتها ... فتقاعدوا عَن قَصدهَا وتأخروا) (مَا ضره طيُّ الْمنية ذَاته ... وَصِفَاته بَين الْبَريَّة تنشر) (فلكم على كل الْمُلُوك مزية ... لوقائع مَشْهُورَة لَا تنكر) (وَإِذا عددنا للأنام مناقباً ... فَعَلَيْك قبل الْكل تثنى الْخِنْصر) (فِي الرَّأْي قيس فِي السماحة حَاتِم ... فِي النُّطْق قس فِي البسالة حيدر) (دَانَتْ لَك الدُّنْيَا وَأَنت تعافها ... وَسوَاك فِي آماله يتعثر) (من ذَا يصون الصين عَنْك وَأَنت من ... أَسد الشرى مِنْهُ تخَاف وتحذر) قَالَ الْعِمَاد وأنفذ صَلَاح الدّين من مصر خلعاً لجَماعَة من الْأَعْيَان وأنفذ للعماد عِمَامَة ملبوسة فَكتب إِلَيْهِ قصائد فِي هَذَا الْمَعْنى مِنْهَا (يَا صَلَاح الدّين الَّذِي أصلح الْفَاسِد ... بِالْعَدْلِ من خطوب الزَّمَان) (أَنْت أجريت نيل مصر إِلَى الشَّام ... نوالاً أم سَالَ نيل ثَانِي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 (وعَلى نيلها لكفيك فضل ... فهما بالنضار جاريتان) (وصلت أعطياتك الغر غزراً ... فتلقت آمالنا بالتهاني) (خلع راقت الْعُيُون وراعت ... وَعلا وصفهَا عَن الْإِمْكَان) (مذهبات كَأَنَّهَا خلع الرضْوَان ... قد أهديت لأهل الْجنان) (مشرقات بطرزها الذهبيات ... الحسان الرفيعة الْأَثْمَان) (فلعمامات كالغمامات والطرز ... بروق كَثِيرَة اللمعان) (والموالي بهَا من التيه وَالْفَخْر ... على الدَّهْر ساحبو الأردان) (كَيفَ خُص الْعِمَاد بالأدون المخلق ... من دون عصبَة الدِّيوَان) (أخليقُ من نسجه لَك فِي الْمَدْح ... جديدُ بأمهن الخلقان) (وَكَذَا عَادَة اللَّيَالِي تخص الْفَاضِل ... الْمُسْتَحق بالحرمان) (لم تزل ساريات جودك بِالشَّام ... لَدَيْهِ غزيرة التهتان) (فَإِذا لم تزِدْه مصر كمالا ... فِي المنى فاحمه من النُّقْصَان) وَكتب إِلَى فَخر الدّين أخي صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا (عَبدك شمس الدولة المرتجى ... منتظر تشريفك المذهبا) (واعتب صَلَاح الدّين فِي حالتي ... عساه بالإصلاح أَن يعتبا) (عرِّفه مَا تمّ فَإِنِّي أرى ... من فَضله للفضل أَن يغضبا) (وَكَيف يرضى ذَاك بعض الرضى ... ومجده يأباه كل الإبا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 (وَقل لَهُ جَاءَتْهُ ملبوسةً ... تخلفت من تُبَّع فِي سبا) (عِمَامَة رقَّت ورثت فَمَا ... نشرتها إِلَّا وطارت هبا) قَالَ فوصل من صَلَاح الدّين عِمَامَة مذهبَة وَكتب يعْتَذر عَن الْعِمَامَة الَّتِي قبلهَا وَكتب إِلَى سعد الدّين كمشتكين ليستعير لِسَانه فِي الِاعْتِذَار إِلَى الْعِمَاد فَإِنِّي أستقل لمرامه إرم ذَات الْعِمَاد فَكتب الْعِمَاد (أما الْعِمَاد فقد تضَاعف شكره ... نعماك شكر الرَّوْض نعمى الصيب) (لعمامة ذهبية كغمامة ... يبدوا بهَا برق الطيراز المغربي) (مَا كَانَ أحسن حَاله لَو أَنه ... شُفعت عمَامَته بِثَوْب مَذْهَب) قَالَ وَكتب إِلَيْهِ (أهني الْملك النَّاصِر ... بِالْملكِ وبالنصر) (وَمَا مهد من بُنيان ... دين الْحق فِي مصر) (وَمَا أسداه من برّ ... بِلَا عدٍ وَلَا حصر) (وَمَا أَحْيَاهُ من عدل ... وَمَا خفف من إصر) (وإعلاء سنا السّنة ... فِي بحبوحة الْقصر) (قد استولى على مصرٍ ... بِحَق يُوسُف الْعَصْر) (وَأَحْيَا سنة الأحسان ... فِي البدو وَفِي الْحَضَر) وَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ من قصيدة (ديارَ الْهوى حيَّا معالمك الْقطر ... وجادك جود النَّاصِر الغدق الهمر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 (بِهِ رجعت فِي عنفوان شبابها ... ونضرتها من بعد مَا هرمت مصر) (وَكم خاطبٍ ردته لم يَك كفأها ... إِلَى أَن أَتَاهَا خَاطب سَيْفه الْمهْر) (حماها حمى اللَّيْث العرين وصانها ... كَمَا صان عينا من مُلِمِّ القذي شفر) (وَكَانَ بهَا بَحر أجاج فَأَصْبَحت ... وَمن جوده العذب النمير بهَا بَحر) وَله فِيهِ من أُخْرَى (فَمَا أَنْت إِلَّا الشَّمْس لولاك لم تزل ... على مصر ظلماء الضَّلَالَة سرمدا) (وَكَانَ بهَا طغيان فِرْعَوْن لم يزل ... كَمَا كَانَ لما أَن طَغى وتمردا) (فبصَّرتهم بعد الغواية والعمى ... وأرشدتهم بعد الضلال إِلَى الْهدى) وَله فِيهِ من أُخْرَى (قل للملوك تزحزحواعن ذرْوَة العلياء ... للْملك الْهمام النَّاصِر) (يُعْطي الألوف ويلتقيها باسما ... طلق المحيافي القنا المتشاجر) وقرأت فِي ديوَان العَرْقلة وَقَالَ فِي الْمولى الْملك النَّاصِر وَقد أنفذ لَهُ من ديار مصر ذَهَبا وَلغيره سَلاما (صَلَاح الدّين قد أصلحت دنيا ... شقي لم يبت إِلَّا حَرِيصًا) (أَتَى مِنْك السَّلَام لنا عُمُوما ... وجودك جَاءَنِي وحدي خُصُوصا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 (فَكنت كيوسف الصّديق لما ... تلقى مِنْهُ يَعْقُوب القميصا) وَكَانَ العرقلة من جملَة المتردّدين إِلَى صَلَاح الدّين أَيَّام كَونه بِدِمَشْق فَلَمَّا سَار إِلَى مصر وعده أَنه مَتى ملكهَا أعطَاهُ ألف دِينَار فَلَمَّا تمّ أمره بِمصْر كتب إِلَيْهِ العرقلة قصيدة مِنْهَا (إِلَيْك صَلَاح الدّين مولَايَ أشتكي ... زَمَانا على الْحر الْكَرِيم يجوز) (تُرى أُبصر الْألف الَّتِي كنت وَاعدي ... بهَا فِي يَدي قبل الْمَمَات تصير) (وهيهات والإفرنج بيني وَبَيْنكُم ... سياجُ قَتِيل دونه وأسير) (وَمن عجب الْأَيَّام أَنَّك ذُو غنى ... بِمصْر ومثلي بالشآم فَقير) وَقَالَ أَيْضا (قل للصلاح مُعيني عِنْد إعساري ... يَا ألفَ مولايَ أَيْن الألفُ دينارُ) (أخْشَى من الْأسر إِن حاولت أَرْضكُم ... وَمَا تفي جنَّة الفردوس بالنَّار) (فجد بهَا عاضِدِيَّاتٍ مسطرة ... من بعض مَا خلف الطاغي أَبُو الطاري) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 (حمراً كأسيافكم غرا كخيلكمُ ... عُتْقاً ثقالا كأعدائي وأطماري) يَعْنِي بالطاغي شاور وَله ابْن اسْمه الطاري وأنفذ لَهُ من مصر عشْرين دِينَارا فَقَالَ (يَا مَالِكًا مَا بَرحت كَفه ... تجود بِالْمَالِ على كفي) (أَفْلح بالعشرين من لم يزل ... فِي رَأس عشْرين من الْكَهْف) (يَا ألف مولَايَ وَلكنهَا ... محسوبة من جملَة الْألف) وَذكر الْعِمَاد فِي الخريدة أَن العرقلة قصد صَلَاح الدّين إِلَى مصر فَأعْطَاهُ ذَلِك وَأخذ لَهُ من إخْوَته مثله فَعَاد إِلَى دمشق وَهُوَ مسرور مجبور وَكَانَ ذَلِك ختام حَيَاته ودنا أجل وَفَاته وَمَات بِدِمَشْق فِي سنة سِتّ أَو سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة قلت وَفِي ديوانه مَا يدل على قدومه مصر فَإِن فِيهِ وَقَالَ وكتبها على حمام عمَّرها الْمولى الْملك النَّاصِر بديار مصر (ياداخل الْحمام هنيتها ... دَائِرَة كالفلك الدائر) (تَأمل الْجنَّة قد زُخرفت ... وعمرت للْملك النَّاصِر) (كَأَنَّمَا فيض أنابيبها ... نداه للوارد وللصادر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فصل فِي قتل المؤتمن بالخرقانية ووقعة السودَان بَين القصرين وَغير ذَلِك قَالَ الْعِمَاد وَشرع صَلَاح الدّين فِي نقص إقطاع المصريين فَقطع مِنْهُم الدابر من أجل من مَعَه من العساكر وَكَانَ بِالْقصرِ خصي يدعى مؤتمن الْخلَافَة متحكم فِي الْقصر فأجمع هُوَ وَمن مَعَه على أَن يكاتبوا الفرنج ويقبضوا على الأَسدِية والصلاحية لِأَن صَلَاح الدّين يخرج إِلَى الفرنج بِمن مَعَه فَيُؤْخَذ مَن بَقِي من أَصْحَابه بِالْقَاهِرَةِ وَيتبع من وَرَائه فَتكون عَلَيْهِم الدائرة فكاتبوا الفرنج وَاتفقَ أَن رجل من التركمان عبر بالبئر الْبَيْضَاء فَرَأى مَعَ إِنْسَان ذِي خلقان نَعْلَيْنِ جديين لَيْسَ بهما أثر مشي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فأنكرهما فَأَخذهُمَا وَجَاء بهما إِلَى صَلَاح الدّين ففتقهما فَوجدَ مُكَاتبَة الفرنج فيهمَا من أهل الْقصر يرجون بحركتهم حُصُول النَّصْر فَأخذ الْكتاب وَقَالَ دلوني على كَاتب هَذَا الْخط فدلوه على يَهُودِيّ من الرَّهْط فَلَمَّا أحضروه ليسألوه ويعاقبوه على خطه ويقابلوه نطق بِالشَّهَادَةِ قبل كَلَامه وَدخل فِي عصمَة إِسْلَامه ثمَّ اعْترف بِمَا جناه وشيده من الْأَمر وبناه وَأَن الْآمِر بِهِ مؤتمن الْخلَافَة وَإنَّهُ بَرِيء من هَذِه الآفة فَحسن السُّلْطَان إِسْلَامه وَثَبت إعتصامه وَعرف استسلامه وَرَأى إخفاء هَذَا السِّرّ واكتتامه واستشعر الخصيّ العَصِيّ وخشي أَن تشقه على شقّ الْعَصَا العِصيّ فَمَا صَار يخرج من الْقصر مَخَافَة وَإِذا خرج لم يبعد مَسَافَة وَصَلَاح الدّين عَلَيْهِ مغضب وَعنهُ مغض لَا يَأْمر فِيهِ ببسط وَلَا قبض إِلَى أَن استرسل واستبسل وَظن أَن مَا نَسْله من الشَّرّ الْعَقِيم نصل وَكَانَ لَهُ قصر فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا الخرقانية لخُرقه ورقع مَا يَتَّسِع عَلَيْهِ من خرقه وَهُوَ بِقرب قليوب فَخَلا فِيهِ يَوْمًا للذته وَلم يدْرِي أَنه يَوْم ذلته وانقضاء ساعاته بِانْقِضَاء دولته فأنهض إِلَيْهِ صَلَاح الدّين من أَخذ راسه وَنزع من جَاءَ بِهِ لِبَاسه وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْخَامِس من ذِي الْقعدَة سنة أَربع فورد موارده مِن رَداه على أدون مشرع قَالَ وَلما قتل غَار السودَان وثاروا وَكَانُوا أَكثر من خمسين ألفا وَكَانُوا إِذا قَامُوا على وَزِير قَتَلُوهُ واجتاحوه وأذلوه واستباحوه واستحلوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فَحَسبُوا أَن كل بَيْضَاء شحمة وَأَن كل سَوْدَاء فَحْمَة فثار أَصْحَاب صَلَاح الدّين إِلَى الهيجاء ومقدمهم الْأَمِير أَبُو الهيجاء واتصلت الْحَرْب بَين القصرين وأحاطت بهم العسكرية من الْجَانِبَيْنِ ودام الشَّرّ يَوْمَيْنِ حَتَّى أحس الأساحم بالحين وَكلما لجؤوا إِلَى محلّة أحرقوها عَلَيْهِم وحووا ماحواليهم وأخرجوا إِلَى الجيزة وأذلوا بِالنَّفْيِ عَن مَنَازِلهمْ العزيزة وَذَلِكَ يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة فَمَا خلص السودَان بعْدهَا من الشدَّة وَلم يَجدوا الى الْخَلَاص سَبِيلا و {أَيْنَمَا ثقفوا أُخذوا وقتِّلوا تقتيلا} وَكَانَت لَهُم على بَاب زويلة محلّة تسمى المنصورة وَكَانَت بهم المعمرة المعمورة فَأتي بنيانها من الْقَوَاعِد فَأَصْبَحت خاوية ثمَّ حرثها بعض الْأُمَرَاء واتخذها بستاناً فَهِيَ الْآن جنَّة لَهَا ساقية قَالَ وَكَانَ قد وصل إِلَى صَلَاح الدّين قبيل هَذِه النّوبَة أَخُوهُ الْأَكْبَر فَخر الدّين شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب أنفذه إِلَيْهِ نور الدّين من دمشق يشد أزره بِمصْر لما سمع بحركة الفرنج وَأهل الْقصر فوصل الْقَاهِرَة فِي ثَالِث ذِي القعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قَالَ ابْن أبي طي وباشر بِنَفسِهِ وقْعَة السودَان هَذِه وَكَانَ لَهُ فِيهَا أثر عَظِيم وَمن عَجِيب مَا اتّفق أَن العاضد كَانَ يتطلع من المنظرة ويعاين الْحَرْب بَين القصرين فَقيل إِنَّه أَمر مَنْ بِالْقصرِ أَن يقذفوا العساكر الشامية بالنشاب وَالْحِجَارَة فَفَعَلُوا وَقيل إِن ذَلِك كَانَ عَن غير اخْتِيَاره فَأمر شمس الدولة الزراقين بإحراق منظرة العاضد فهمَّ أحد الزراقين بذلك وَإِذا بَاب الْمضرَّة قد فتح وَخرج مِنْهُ زعيم الْخلَافَة وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يسلم على شمس الدولة وَيَقُول دونكم العبيد الْكلاب أخرجوهم من بِلَادكُمْ وَكَانَت العبيد مشتدة الْأَنْفس بِأَن العاضد راضٍ بفعالهم فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك فُتَّ فِي اعضادهم فجبنوا وتخاذلوا وأدبروا وَمِمَّا كتبه الْعِمَاد على لِسَان غَيره إِلَى صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا (بِالْملكِ النَّاصِر استنارت ... فِي عصرنا أوجه الْفَضَائِل) (عليّ من حَقه فروض ... شكرا لما جاد من نوافل) (يُوسُف مصر الَّذِي إِلَيْهِ ... تشد آمالنا الرَّوَاحِل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 (أجريت نيلين فِي ثراها ... نيل نجيع ونيل نائل) (وَمَا نفيت السودَان حَتَّى ... حكَّمت الْبيض فِي الْمقَاتل) (صيرت رحب الفضاء ضيقا ... عَلَيْهِم كفة لحابل) (وكل رَاء مِنْهُم كِرَاء ... وَأَرْض مصر كَلَام وَاصل) (وَقد خلت مِنْهُم المغاني ... وأقفرت مِنْهُم الْمنَازل) (وَمَا أصيبوا إِلَّا بَطلّ ... فَكيف لَو أمطروا بوابل) (والسود بالبيض قد أبيحوا ... فَهِيَ نواز بهم نَوَازِل) (مؤتمن الْقَوْم خَان حَتَّى ... غالته من شَره غوائل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 (عاملكم بالخنا فأضحى ... وَرَأسه فَوق رَأس عَامل) (يَا مخجل الْبَحْر بالأيادي ... قد آن أَن تُفتح السواحل) (فقدِّس الْقُدس من خباث ... أرجاس كفر غُتم أراذل) قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا مدحت بِهِ صَلَاح الدّين فِي ذَلِك التَّارِيخ تهنئة لَهُ بِالْملكِ وتعزية بِعَمِّهِ (أيا يُوسُف الْإِحْسَان وَالْحسن خير من ... حوى الْفضل والإفضال وَالنَّهْي والأمرا) (وَمن للهدى وَجه النجاح ... بِرَأْيهِ تجلَّى وثغر الثغر من عزمه افترى) (حمى حوزة الدّين الحنيف بحوزه ... من الْخَالِق الحسني وَمن خلقه الشكرا) (أَبوهُ أبي إِلَّا الْعَلَاء وَعَمه ... بمعروفه عمَّ الورى البدو والحضرا) (وَطَالَ الْمُلُوك شيركوه بِطُولِهِ ... وَمَا شاركوه فِي الْعلَا فحوى الفخرا) (بَنو الْأَصْفَر الإفرنج لاقوا ببيضه ... وَسمر عواليه مناياهم حمرا) (وَمَا ابيضَّ يَوْم النَّصْر واخضر روضه ... من الخصب حَتَّى اسودَّ بالنقع واغبرَّا) (رأى النَّصْر فِي تقوى الْإِلَه وكل من ... تقوى بتقوى الله لَا يعْدم النصرا) (وَلما رأى الدُّنْيَا بِعَين ملالة ... أغذَّ من الأولى مسيرًا إِلَى الْأُخْرَى) (وَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْملكِ كافلا ... وَكَيف ترى شمس الضُّحَى تخلف البدرا) (وَلما صبَّتْ مصرُ إِلَى عصر يُوسُف ... أعَاد إِلَيْهَا الله يُوسُف والعصرا) (فَأجرى بهَا من راحتيه بجوده ... بحاراً فسماها الورى أنملا عشرا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 (هُزِمْتُمْ جنود الْمُشْركين برعبكم ... فَلم يَلْبَثُوا خوفًا وَلم يمكثوا ذعرا) (وفرقتم من حول مصر جموعهم ... بِكَسْر وَعَاد الْكسر من أَهلهَا جبرا) (وأمَّنتم فِيهَا الرعايا بعدلكم ... وأطفأتم من شَرّ شاورها الجمرا) (بسفك دم حطتم دِمَاء كَثِيرَة ... وحزتم بِمَا أبديتم الْحَمد والأجرا) (وَمَا يرتوي الْإِسْلَام حَتَّى تغادروا ... لكم من دِمَاء الغادرين بهَا غدرا) (فصبوا على الإفرنج سَوط عَذَابهَا ... بِأَن تقسموا مَا بَينهَا الْقَتْل والأسرا) (وَلَا تهملوا الْبَيْت الْمُقَدّس واعزموا ... على فَتحه غازين وافترعوا البكرا) (تديمون بِالْمَعْرُوفِ طيِّب ذكركُمْ ... وَمَا الْملك إِلَّا أَن تديموا لكم ذكرا) (وَإِن الَّذِي أثرى من المَال مُقْتِرُ ... وَإِن يُفْنِه فِي كسب محمدة أثري) قَالَ وَكَثُرت كتب صَلَاح الدّين إِلَى أصدقائه مبشرة بِطيب أنبائه فَمِنْهَا كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت (مَا كنت بالمنظور أقنع مِنْكُم ... وَلَقَد رضيت الْيَوْم بالمسموع) فَقلت فِي جَوَابه أبياتا مِنْهَا (يَا هَل لسالف عيشتي بفنائكم ... من عودة محمودة وَرُجُوع) (قد غبتم عَن ناظري مَا أَذِنت ... للقلب شمسُ مَرة بِطُلُوع) (كنتُ المشفَّع فِي المطالب عنْدكُمْ ... فَغَدَوْت أطلب طيفكم بشفيع) (أَصبَحت أقنع بِالسَّلَامِ على النَّوَى ... وبقربكم كم بتُّ غير قنوع) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قَالَ وَوصل أَيْضا مِنْهُ كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت (وأنثر در الدمع من قبل أبيضا ... وَقد حَال مذ بِنْتم فَأصْبح ياقوتا) فنظمت فِي جَوَابه أبياتاً مِنْهَا (هَنِيئًا لمصر حوز يُوسُف ملكهَا ... بِأَمْر من الرَّحْمَن قد كَانَ موقوتا) (وَمَا كَانَ فِيهَا قتلُ يُوسُف شاوراً ... يماثل إِلَّا قتل دَاوُد جالوتا) (وَقلت لقلبي أبشر الْيَوْم بالمنى ... فقد نلْت مَا أملت بل حزت مَا شيتا) قَالَ وَفِي هَذِه السّنة قتل العاضد بِالْقصرِ ابْني شاور الْكَامِل وأخاه يَعْنِي الطاري يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع من جمادي الْآخِرَة وَذَلِكَ أَنه لما قتل شاور عاذوا بِالْقصرِ فَكَأَنَّمَا نزلُوا فِي الْقَبْر فَلَو أَنهم جاؤوا إِلَى أَسد الدّين سلمُوا وامتنعوا وعصموا فَإِنَّهُ سَاءَهُ قتل شاور وَإِن كَانَ أَمن بقتْله مَا حاذر قلت الْكَامِل هُوَ شُجَاع بن شاور وَكَانَ لَهُ اخوان أَحدهمَا طي تقدم ذكر قتل ضرغام لَهُ وَالْآخر الطاري قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي السرُور الروحي فِي تَارِيخه أَخذ ابْنا شاور شُجَاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم وَأَخُوهُ الملقب بِفَارِس الْمُسلمين فَقتلُوا ودير برؤوسهم قَالَ لما وَلي صَلَاح الدّين سَاس الرّعية وَأظْهر لَهُم من الْعدْل مَا لم يعلموه فَاجْتمع أهل الْبِلَاد وكرهوه فأوقع براجلهم وأخرجهم من الْقَاهِرَة إخراجاً عنيفاً وَأخرج بعد ذَلِك فارسهم وشتت شملهم {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِما ظَلَمَوُا} قَالَ وَلما كنت سنة سِتّ وَسِتِّينَ رفع جَمِيع المكوس صادرها وواردها جليلها وحقيرها وغزا بِلَاد الشَّام غزوتين قَالَ ابْن شَدَّاد وَفِي الْمحرم من هَذِه السّنة توفّي ياروق الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الياروقية يَعْنِي الْمحلة الَّتِي بِظَاهِر حلب قَالَ غَيره وفيهَا احْتَرَقَ جَامع حلب وأسواق الْبَز وَأخذ نور الدّين فِي عِمَارَته آخر السّنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَفِي أول صفر مِنْهَا نزل الفرنج خذلهم الله تَعَالَى على دمياط من الديار المصرية قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ فرنج السَّاحِل لما ملك أَسد الدّين مصر قد خَافُوا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ فكاتبوا الفرنج الَّذين بالأندلس وصقلية يستمدونهم ويعرفونهم مَا تجدّد من ملك مصر وَأَنَّهُمْ خائفون على الْبَيْت الْمُقَدّس من الْمُسلمين وَأَرْسلُوا جمَاعَة من القسوس والرهبان يحرضون النَّاس على الْحَرَكَة فأمدوهم بِالْمَالِ وَالرِّجَال وَالسِّلَاح وأتعدوا على النُّزُول على دمياط ظنا مِنْهُم أَنهم يملكونها ويتخذونها ظهرا يملكُونَ بِهِ ديار مصر فَلَمَّا نازلوها حصروها وضيقوا على من بهَا فَأرْسل إِلَيْهَا صَلَاح الدّين العساكر فِي النّيل وَحشر فِيهَا كل من عِنْده وأمدهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح والذخائر وتابع رسله إِلَى نور الدّين يشكو مَا هُوَ فِيهِ من المخاوف وَأَنه إِن تخلف عَن دمياط ملكهَا الفرنج وَإِن سَار إِلَيْهَا خَلفه المصريون فِي مخلّفيه ومخلفيّ عسكره بالسوء وَخَرجُوا من طَاعَته وصاروا من خَلفه والفرنج من أَمَامه فَجهز إِلَيْهِ نور الدّين العساكر أَرْسَالًا كلما تجهزت طَائِفَة أرسلها فسارت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا ثمَّ سَار نور الدّين فِيمَن عِنْده من العساكر فَدخل بِلَاد الإفرنج فنهبها وأغار عَلَيْهَا واستباحها ووصلت الغارات إِلَى مَا لم تكن تبلغه لخلو الْبِلَاد من ممانع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فَلَمَّا رأى الفرنج تتَابع العساكر إِلَى مصر وَدخُول نور الدّين بلادها ونهبها وإخرابها رجعُوا خائبين وَلم يظفروا بِشَيْء وَهَذَا مَوضِع الْمثل ذهبت النعامة تطلب قرنين فَعَادَت بِلَا أذنين فوصلوا إِلَى بِلَادهمْ فرأوها خاوية على عروشها وَكَانَ مُدَّة مقامهم على دمياط خمسين يَوْمًا أخرج فِيهَا صَلَاح الدّين أَمْوَالًا لَا تحصى حُكيَ لي عَنهُ أَنه قَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل إليّ مُدَّة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما علم الفرنج مَا جرى من الْمُسلمين وعساكرهم وَمَا تمّ للسُّلْطَان من استقامة الْأَمر فِي الديار المصرية علمُوا أَنه يملك بِلَادهمْ وَيخرب دِيَارهمْ ويقلع آثَارهم لما حدث لَهُ من الْقُوَّة وَالْملك فَاجْتمع الفرنج وَالروم جَمِيعًا وَحَدثُوا نُفُوسهم بِقصد الديار المصرية والاستيلاء عَلَيْهَا وملكها وَرَأَوا قصد دمياط لتمكن القاصد لَهَا من الْبر وَالْبَحْر ولعلمهم أَنَّهَا إِن حصلت لَهُم حصل لَهُم مغرس قدم يأوون إِلَيْهِ فاستصحبوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الْحصار وَغير ذَلِك وَلما سمع الفرنج بِالشَّام ذَلِك اشْتَدَّ أَمرهم فسرقوا حصن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 عكار من الْمُسلمين وأسروا صَاحبهَا وَكَانَ مَمْلُوكا لنُور الدّين يُسمى خطلخ العلمدار وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر مِنْهَا وَفِي رَجَب مِنْهَا توفّي الْعِمَادِيّ صَاحب نور الدّين وأمير حَاجِبه وَكَانَ صَاحب بعلبك وتدمر وَلما رأى نور الدّين ظُهُور الفرنج وبلغه نزولهم على دمياط قصد شغل قُلُوبهم فَنزل على الكرك محاصراً لَهَا فِي شعْبَان من هَذِه السّنة فقصده فرنج السَّاحِل فَرَحل عَنْهَا وَقصد لقاءهم فَلم يقفوا لَهُ ثمَّ بلغه وَفَاة مجد الدّين ابْن الداية بحلب فِي رَمَضَان فاشتغل قلبه لِأَنَّهُ كَانَ صَاحب أمره فَعَاد يطْلب الشَّام فَبَلغهُ خبر الزلزلة بحلب الَّتِي خربَتْ كثيرا من الْبِلَاد وَكَانَت فِي ثَانِي عشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ بعشترا فَسَار يطْلب حلب فَبَلغهُ موت أَخِيه قطب الدّين بالموصل وَكَانَت وَفَاته فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بتل بَاشر فَسَار من ليلته طَالبا بِلَاد الْموصل وَلما علم صَلَاح الدّين شدَّة قصد الْعَدو دمياط أنفذ إِلَى الْبَلَد وأودعه من الرِّجَال والأبطال والفرسان والميرة والآت السِّلَاح مَا أَمن مَعَه عَلَيْهِ ووعد المقيمين فِيهِ بإمدادهم بالعساكر والآلات وإزعاج الْعَدو عَنْهُم إِن نزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 عَلَيْهِم وَبَالغ فِي العطايا والهبات وَكَانَ وزيرا متحكما لَا يرد أمره فِي شَيْء ثمَّ نزل الفرنج عَلَيْهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَاشْتَدَّ زحفهم عَلَيْهَا وقتالهم لَهَا وَهُوَ رَحمَه الله تَعَالَى يَشن الغارات عَلَيْهِم من خَارج والعسكر يقاتلهم من دَاخل ونْصرُ الله للْمُسلمين يؤيدهم وَحسن قَصده فِي نصْرَة دين الله يسعدهم وينجدهم حَتَّى بَان لَهُم الخسران وَظهر على الْكفْر الْإِيمَان وَرَأَوا أَنهم ينجون برؤوسهم ويسلمون بنفوسهم فرحلوا خائبين خاسرين فحرقت مجانيقهم ونهبت الآتهم وَقتل مِنْهُم خلق عَظِيم وَسلم الْبَلَد بِحَمْد الله ومنِّه وَقَالَ الْعِمَاد أَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْقَاهِرَةِ فِي دَار ملكه ومدار فلكه يُنهض إِلَيْهَا المدد بعد المدد وَيُرْسل إِلَيْهَا الْعدَد بعد الْعدَد ويسهر ليله وَلَا يقيل نَهَاره وَقد أخْلص لله سره وجهاره وَلَا ينَام وَلَا ينيم وَعِنْده من ذَلِك المُقْعِد الْمُقِيم وَسبق تقيّ الدّين ابْن أخي السُّلْطَان إِلَى دمياط فَدَخلَهَا وَكَذَا خَاله شهَاب الدّين مَحْمُود فنزلها واتَّصل الْحصار وتواصل الْأَنْصَار ودب فِي الفرنج الفناء وهب عَلَيْهِم الْبلَاء فرحلوا عَنْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالذل الْأَكْمَل وَالصغَار الأشمل وَكَانَ لما وصل الْخَبَر إِلَى نور الدّين بوصولهم واجتماعهم على دمياط ونزولهم اغتنم واهتم واستصعب الملم وأنهض من عِنْده عسكراً ثقيلا مقدمه الْأَمِير قطب الدّين خسرو الهذباني وَكَانَ مقداماً مقدّما وهُماما مُعْلما وَأمره أَن يسير بالعسكر ويخوض بهم بَحر العجاج الأكدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فوصل فِي النّصْف من ربيع الأول قبل رحيل الفرنج بأسبوع فَوَقع رَوْعه من الْكفْر فِي كل رُوع قُلت وَبَلغنِي من شدَّة اهتمام نور الدّين رَحمَه الله بامر الْمُسلمين حِين نزل الفرنج على دمياط أَنه قرىء عَلَيْهِ جُزْء من حَدِيث كَانَ لَهُ بِهِ رِوَايَة فجَاء فِي جملَة تِلْكَ الْأَحَادِيث حَدِيث مسلسل بالتبسُّم فَطلب مِنْهُ بعض طلبة الحَدِيث أَن يتبسم لتتم السلسة على مَا عرف من عَادَة أهل الحَدِيث فَغَضب من ذَلِك وَقَالَ إِنِّي لأستحيي من الله تَعَالَى أَن يراني مُتَبَسِّمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج وَبَلغنِي أَن إِمَامًا لنُور الدّين رأى لَيْلَة رحيل الفرنج عَن دمياط فِي مَنَامه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لَهُ أعلم نور الدّين أَن الفرنج رحلوا عَن دمياط فِي هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ يَا رَسُول الله رُبمَا لَا يصدقني فاذكر لي عَلامَة يعرفهَا فَقَالَ قل لَهُ بعلامة مَا سجدت على تل حارم وَقلت يَا رب انصر دينك وَلَا تنصر مَحْمُودًا من هُوَ مَحْمُود الْكَلْب حَتَّى ينصر قَالَ فانتبهت وَنزلت إِلَى الْمَسْجِد وَكَانَ من عَادَة نور الدّين أَنه ينزل إِلَيْهِ بِغَلَس وَلَا يزَال يتركع فِيهِ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح قَالَ فتعرضت لَهُ فَسَأَلَنِي عَن أَمْرِي فَأَخْبَرته بالمنام وَذكرت لَهُ الْعَلامَة إِلَّا أنني لم أذكر لَفْظَة الْكَلْب فَقَالَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى اذكر الْعَلامَة كلهَا وألح عَليّ فِي ذَلِك فقلتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فَبكى رَحمَه الله وصدَّق الرُّؤْيَا وأرخت تِلْكَ اللَّيْلَة فجَاء الْخَبَر برحيل الفرنج بعد ذَلِك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فصل أرسل نور الدّين كتابا إِلَى العاضد صَاحب الْقصر يهنيه برحيل الفرنج عَن ثغر دمياط وَكَانَ قد ورد عَلَيْهِ كتاب العاضد بالاستقالة من الأتراك فِي مصر خوفًا مِنْهُم والاقتصار على صَلَاح الدّين وألزامه وخواصه فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين يمدح الأتراك ويعلمه أَنه مَا أرسلهم وَاعْتمد عَلَيْهِم إِلَّا لعلمه بِأَن قنطاريات الفرنج لَيْسَ لَهَا إِلَّا سِهَام الأتراك فَإِن الفرنج لَا يرعبون إِلَّا مِنْهُم ولولاهم لزاد طمعهم فِي الديار المصرية ولحصلوا مِنْهَا على الأمنية فَلَعَلَّ الله تَعَالَى أَن ييسر فتح الْمَسْجِد الْأَقْصَى مُضَافا إِلَى نعمه الَّتِي لَا تحصى قلت ولعمارة اليمني من قصيدة (من شَاكر وَالله أعظم شَاكر ... مَا كَانَ من نُعمى بني أَيُّوب) (طلب الْهدى نصرا فَقَالَ وَقد أَتَوا ... حسبي فَأنْتم غَايَة الْمَطْلُوب) (جلبوا إِلَى دمياط عِنْد حصارها ... عز القويِّ وذلة المغلوب) (وجلوا عَن الْإِسْلَام فِيهَا كربَة ... لَو لم يجلُّوها أَتَت بكروب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 (فَالنَّاس فِي أَعمال مصر كلهَا ... عتقاؤهم من نازح وَقَرِيب) (إِن لم تظن النَّاس قشراً فَارغًا ... وهم اللّبَاب فَأَنت غير لَبِيب) وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة (وَلَا غرو أَن عَاد الفرنج هزيمَة ... وَلَو لم تعد لم يبْق للشرك سَاحل) (فقد أيقنت أعداؤه أَن حظهم ... لَدَيْهِ رماح أشرعت أَو سلاسل) (وَلما أَتَوا دمياط كالبحر طامياً ... وَلَيْسَ لَهُ من كَثْرَة الْقَوْم سَاحل) (يزِيد عَن الإحصاء وَالْعد جمعهم ... أُلُوف أُلُوف خيلهم والرواحل) (رَأَوْا دونهَا أسدا بِأَيْدِيهِم القنا ... وبيضا رقاقا أحكمتها الصيافل) (وداروا بهَا فِي الْبَحْر من كل جَانب ... وَمن دونهَا سد من الْمَوْت حَائِل) (رجا الْكَلْب ملك الرّوم إِذْ ذَاك فتحهَا ... فخاب فَأم الْملك وَالروم هابل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 (فعادوا على الأعقاب مِنْهَا هزيمَة ... كَأَنَّهُمْ ذلا نعام جوافل) (وَمَا أمَّلوا أَن يلْحقُوا ببلادهم ... لتعصمهم مِمَّا رَأَوْهُ المعاقل) قَالَ الْعِمَاد وسألني كريم الْملك أَن أعمل لَهُ أبياتاً فِي صَلَاح الدّين تهنئة بالنصر فِي دمياط فَعمِلت قصيدة مِنْهَا (يَا يُوسُف الْحسن وَالْإِحْسَان يَا ملكا ... بجده صاعداً أعداؤه هَبَطُوا) (حللت من وسط العلياء فِي شرف ... ومركز الشَّمْس من أفلاكها الْوسط) (هنيت صونك دمياط الَّتِي اجْتمعت ... لَهَا الفرنج فَمَا حلوا وَلَا ربطوا) (مصر بيوسفها أضحت مشرَّفة ... وكل أَمر لَهَا بِالْعَدْلِ منضبط) (وَحين وافى صَلَاح الدّين أصلحها ... فللمصالح من أَيَّامه نمط) قَالَ وَمِمَّا سيَّرته إِلَى صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا (كَأَن قلبِي وحبَّ مَالِكه ... مصر وفيهَا المليك يوسفها) (هَذَا بسلب الْفُؤَاد يظلمني ... وَهُوَ بقتل الْأَعْدَاء ينصفها) (الْملك النَّاصِر الَّذِي أبدا ... بعز سُلْطَانه يُشرِّفها) (قَامَ بأحوالها يدبرها ... حسنا واثقالها يخففها) (بعدله وَالصَّلَاح يعمرها ... وبالندى والجميل يكنفها) (من دنس الغادرين يرحضها ... وَمن خباث العدى ينظفها) (وَإِن مصرا بِملك يوسفها ... جنَّة خلد يروق زخرفها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 (وَإنَّهُ فِي السماح حاتمها ... وَإنَّهُ فِي الْوَقار أحنفها) (يُوسُف مصر الَّذِي ملاحمها ... جَاءَت بأوصافه تعرفها) (كتب التواريخ لَا يزينها ... إِلَّا بأيامه مصنفها) وَمِنْهَا (وحُطت دمياط إِذْ أحَاط بهَا ... من برجوم الْبلَاء يقذفها) (لاقت غواة الفرنج خيبتها ... فَزَاد من حسرة تأسفها) (أوردت قلُب الْقُلُوب أرشيةً ... من القنا للدماء تنزفها) (وليتها سفكها فعاملها ... عاملها والسنان مشرفها) (يُمضي لَك الله فِي قِتَالهمْ ... عَزِيمَة للْجِهَاد ترهفها) وَله فِيهِ من أُخْرَى (قد اسْتَقَرَّتْ أموري ... فِيهِ بِحَسب اقتراحي) (كَمَا اسْتَقر صَلَاح الدُّنْيَا ... بِملك الصّلاح) (تنير شمس أياديه ... فِي سَمَاء السماح) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 (وأمْرُه مُسْتَفَاد ... من الْقَضَاء المتاح) وأرسله نور الدّين إِلَى خلاط ومتوليها حِينَئِذٍ ظهير الدّين سمكان الْمَعْرُوف بشاه أرمن قَالَ فَلَمَّا كنت بماردين كتبت إِلَى بعض المعارف (قد نزلنَا فِي جوارك ... وطلبنا قرب دَارك) (وسرينا فِي الدياجي ... فهدانا ضوء نارك) (فتدارك أمرنَا الْيَوْم ... بطول متدارك) (وَتفرد باغتنام الشُّكْر ... من غير مشارك) قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة خرج نور الدّين إِلَى دارياً فَأَعَادَ عمَارَة جَامعهَا وَعمر مشْهد أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي وشتَّى بِدِمَشْق فصل فِي مسير نجم الدّين أَيُّوب إِلَى مصر بباقي أَوْلَاده وَأَهله وَقد وصف ذَلِك عمَارَة فِي قصيدة مدح بهَا السُّلْطَان صَلَاح الدّين تقدم بَعْضهَا يَقُول فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 (صحَّت بِهِ مصر وَكَانَت قبله ... تَشْكُو سقاماً لم يعن بطبيب) (عجبا لمعجزة أَتَت فِي عصره ... والدهر ولاَّد لكل عَجِيب) (رد الْإِلَه بِهِ قَضِيَّة يُوسُف ... نسقاً على ضرب من التَّقْرِيب) (جَاءَتْهُ إخْوَته ووالده إِلَى ... مصر على التدريج وَالتَّرْتِيب) (فاسعد بأكرم قادم وبدولة ... قد ساعدتك رياحها بهبوب) قَالَ الْعِمَاد لما دخل فصل النيروز اسْتَأْذن الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب نور الدّين فِي قصد وَلَده صَلَاح الدّين وَالْخُرُوج من دمشق إِلَى مصر بأَهْله وجماعته وسبده ولبده وخيَّم بِظَاهِر الْبَلَد إِلَى أَن بَان وضوح جدده وَسَار فِي حفظ الله تَعَالَى فوصل إِلَى مصر فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَقضى صَاحب الْقصر العاضد من حق قدومه مَا وَجب وَركب لاستقباله وَزَاد إقبال الْبِلَاد بإقباله وَلما عزم على التَّوَجُّه إِلَى مصر شرع فِي تَفْرِيق أملاكه وتوفير مَاله فِيهِ شركَة على أشراكه وَمَا استصحب مَعَه شَيْئا من موجوده وَجعله نهبة لجوده قلت ووقف رِبَاطًا دَاخل الدَّرْب الَّذِي بِقرب العوينة بِبَاب الْبَرِيد ثمَّ قَالَ الْعِمَاد وَلما نصب نجم الدّين أَيُّوب لقصد مصر مضاربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وسحب للعلا على روض الرِّضَا سحائبه خرج نور الدّين إِلَى رَأس المَاء بعسكره وخيامه وأرهف للْجدّ فِي الْجِهَاد حد اعتزامه ثمَّ أَقَامَ بعد توديعه وَالْوَفَاء بِحَق تشييعه إِلَى أَن اجْتمعت إِلَيْهِ عساكره وَحضر بَادِي جنده وحاضره وعب بحره وماج زاخره ثمَّ توجهنا إِلَى بِلَاد الكرك مستهل شعْبَان ونزلنا أَيَّامًا بالبلقاء على عَمّان وأقمنا على الكرك أَرْبَعَة أَيَّام نحاصرها ونصبنا عَلَيْهَا منجنيقين فورد الْخَبَر أَن الفرنج قد تجمعُوا ووصلوا إِلَى مَا عين فَقَالَ نور الدّين نرى أَن نعطف أعنتنا وَبِاللَّهِ نستعين فَإنَّا إِذا كسرناهم وقسرناهم وقتلناهم وأسرناهم أدركنا المُرَاد وملكنا الْبِلَاد فرحلنا إِلَيْهِم فَوَلوا مُدبرين حِين سمعُوا برجوعنا وَقَالُوا رحيلهم عَن الْحصن قد حصل وَهُوَ مقصودنا وَعَاد نور الدّين إِلَى حوران فخيم بعشترا وَصَامَ رَمَضَان وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ سَبَب حصر نور الدّين الكرك أَن نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين سَار عَن دمشق إِلَى مصر فسير مَعَه نور الدّين عسكراً فَاجْتمع مَعَهم من التُّجَّار وَمن كَانَ لَهُ مَعَ صَلَاح الدّين أنس ومودة مَا لايعد فخاف نور الدّين عَلَيْهِم فَسَار إِلَى الكرك فَنزل عَلَيْهِ وحصره وَسَار نجم الدّين أَيُّوب وَمن مَعَه سَالِمين وَنصب نور الدّين على الكرك المجانيق فَأَتَاهُ الْخَبَر أَن الفرنج قد جمعُوا وَسَارُوا إِلَيْهِ وَأَن ابْن الهنفري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وفليب بن الرفيق وهما فَارِسًا الفرنج فِي وقتهما فِي الْمُقدمَة إِلَيْهِ فَرَحل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى نَحْوهمَا للقائهما وَمن مَعَهُمَا قبل أَن يلْحق بهما بَاقِي الفرنج وَكَانَا فِي مئتي فَارس وَألف تركبلي وَمَعَهُمْ من الراجل خلق كثير فَلَمَّا قاربهما رجعا الْقَهْقَرِي إِلَى من وَرَاءَهُمْ من الإفرنج وَقصد نور الدّين وسط بِلَادهمْ وَنهب مَا كَانَ على طَرِيقه وَنزل بعشترا وَأقَام ينْتَظر حَرَكَة الفرنج ليقاهم فَلم يبرحوا من مكانهم خوفًا مِنْهُ وَقَالَ ابْن شَدَّاد أنفذ صَلَاح الدّين فِي طلب وَالِده ليكمل لَهُ السرُور وَيجمع الْقِصَّة مشاكلة مَا جرى للنَّبِي يُوسُف الصّديق عَلَيْهِ السَّلَام فوصل وَالِده نجم الدّين إِلَيْهِ وسلك مَعَه من الْأَدَب مَا كَانَ عَادَته وَألبسهُ الْأَمر كُله فَأبى أَن يلْبسهُ وَقَالَ يَا وَلَدي مَا اختارك الله لهَذَا الْأَمر إِلَّا وَأَنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 كف لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَن يُغير موقع السَّعَادَة فحكمَّه فِي الخزائن كلهَا وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى كَرِيمًا يُطلق وَلَا يرد وَلم يزل صَلَاح الدّين وزيراً محكماً إِلَى أَن مَاتَ العاضد أَبُو مُحَمَّد عبد الله وَبِه ختم أَمر المصريين وَقَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي أرسل الْخَلِيفَة المستنجد بِاللَّه من بَغْدَاد إِلَى نور الدّين يعاتبه فِي تَأْخِير إِقَامَة الدعْوَة لَهُ بِمصْر فأحضر الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب وألزمه الْخُرُوج إِلَى وَلَده بِمصْر بذلك وحملَّه رِسَالَة مِنْهَا وَهَذَا أَمر يجب الْمُبَادرَة إِلَيْهِ لتحظى بِهَذِهِ الْفَضِيلَة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الْمَوْت وَحُضُور الْفَوْت لَا سِيمَا وَإِمَام الْوَقْت متطلع إِلَى ذَلِك بكليته وَهُوَ عِنْده من أهم أمْنِيته وَسَار نجم الدّين وأصحبه نور الدّين هَدِيَّة سنية للْملك النَّاصِر وَخرج العاضد لتلقيه إِلَى ظَاهر بَاب الْفتُوح عِنْد شَجَرَة الإهليلج وَلم تجر بذلك عَادَة لَهُم وَكَانَ من أعجب يَوْم شهده النَّاس وخلع العاضد عَلَيْهِ ولقبَّه الْملك الْأَفْضَل وَحمل إِلَيْهِ من الْقصر الألطاف والتحف والهدايا وَأظْهر السُّلْطَان من بره وتعظيم أمره مَا أحرز بِهِ الشُّكْر وَالْأَجْر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وأفرد لَهُ دَارا إِلَى جَانب دَاره وأقطعه الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط والبحيرة وأقطع شمس الدولة أَخَاهُ قوص وأسوان وعيذاب وَكَانَت عبرتها فِي هَذِه السّنة مئتي ألف وَسِتَّة وَسِتِّينَ ألف دِينَار وَسَار شمس الدولة إِلَى قوص وولاها شمس الْخلَافَة مُحَمَّد بن مُخْتَار وَكَانَ السُّلْطَان قبل إقطاعها شمس الدولة قد سيَّر رسْلَان بن دغمش لجباية خراجها فَخرج عَلَيْهِ عَبَّاس بن شاذي فِي جمَاعَة من الْأَعْرَاب وَالْعَبِيد فِي مرج بني هميم فغنمه رسْلَان وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَفِي هَذِه السّنة لَيْلَة عيد الْفطر رزق السُّلْطَان ولد الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عليا وَفَرح بِهِ فَرحا عَظِيما وخلع وَأعْطى وَتصدق بِمَا بهر بِهِ الْعُقُول وَمن قصيدة للحكيم عبد الْمُنعم تقدم بَعْضهَا (فِي مشرق الْمجد نجم الدّين مطلعه ... وكل أبنائه شهب فَلَا أفلوا) (جاؤوا كيعقوب والأسباط إِذْ وردوا ... على الْعَزِيز من أَرض الشَّام واشتملوا) (لكنَّ يُوسُف هَذَا جَاءَ إخْوَته ... وَلم يكن بَينهم نزع وَلَا زلل) (وملكوا ملك مصر فِي شماخته ... وَمثلهَا لرجال مثلهم نزل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فصل فِي ذكر الزلزلة الْكُبْرَى قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ثَانِي عشر شَوَّال كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة لم ير النَّاس مثلهَا عَمت أَكثر الْبِلَاد من الشَّام ومصر والجزيرة والموصل وَالْعراق وَغَيرهَا إِلَّا أَن أَشدّهَا وَأَعْظَمهَا كَانَ بِالشَّام فخربت بعلبك وحمص وحماة وشيرز وبعرين وَغَيرهَا وتهدمت أسوارها وقلاعها وَسَقَطت الدّور على أَهلهَا وَهلك من النَّاس مَا يخرج عَن الْعد والإحصاء فَلَمَّا أَتَى نور الدّين خَبَرهَا سَار إِلَى بعلبك ليعمر مَا انْهَدم من أسوارها وقلعتها وَكَانَ لم يبلغهُ خبر غَيرهَا فَلَمَّا وَصلهَا أَتَاهُ خبر بَاقِي الْبِلَاد بخراب أسوارها وخلوها من أَهلهَا فرتب ببعلبك من يحميها ويعمرها وَسَار إِلَى حمص فَفعل مثل ذَلِك ثمَّ إِلَى حماة ثمَّ إِلَى بارين وَكَانَ شَدِيد الحذر على الْبِلَاد من الفرنج لَا سِيمَا قلعة بارين فَإِنَّهَا مَعَ قربهَا مِنْهُم لم يبْق من سورها شَيْء الْبَتَّةَ فَجعل فِيهَا طَائِفَة صَالِحَة من الْعَسْكَر مَعَ أَمِير كَبِير ووكل بالعمارة من يحث عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ثمَّ أَتَى مَدِينَة حلب فَرَأى فِيهَا من آثَار الزلزلة مَا لَيْسَ بغَيْرهَا من الْبِلَاد فَإِنَّهَا كَانَت قد أَتَت عَلَيْهَا وَبلغ الرعب بِمن نجا كل مبلغ فَكَانُوا لايقدرون يأوون إِلَى بُيُوتهم السالمة من الخراب خوفًا من الزلزلة فَإِنَّهَا عاودتهم غير مرّة وَكَانُوا يخَافُونَ يُقِيمُونَ بِظَاهِر حلب من الفرنج فَلَمَّا شَاهد مَا صنعت الزلزلة بهَا وبأهلها أَقَامَ فِيهَا وباشر عمارتها بِنَفسِهِ وَكَانَ هُوَ يقف على اسْتِعْمَال الفعلة والبنائين وَلم يزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 كَذَلِك حَتَّى أحكم أسوارها وَجَمِيع الْبِلَاد وجوامعها وَأخرج من الْأَمْوَال مَا لَا يقدر قدره وَأما بِلَاد الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَإِنَّهَا أَيْضا فعلت بهَا الزلزلة قَرِيبا من هَذَا وهم أَيْضا يخَافُونَ نور الدّين على بِلَادهمْ فاشتغل كل مِنْهُم بعمارة بِلَاده عَن قصد الآخر قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت قلاع الفرنج الْمُجَاورَة لبارين كحصن الأكراد وصافيثا والعُريمة وعرقا فِي بَحر الزلازل غرقي لَا سِيمَا حصن الأكراد فَإِنَّهُ لم يبْق لَهُ سور وَقد تمّ عَلَيْهِم فِيهِ دحور وثبور فشغلهم سوؤهم عَن سواهُ وكل اشْتغل بِمَا دهاه وتواصلت الْأَخْبَار من جَمِيع بِلَاد الشَّام بِمَا أحدثته الزلزلة من الانهداد والانهدام قَالَ وَمَا سكنت النُّفُوس من رعبها وسلت الْقُلُوب عَن كربها إِلَّا بِمَا دهم الْكفَّار من أمرهَا وعراهم من ضرها فَلَقَد خصتهم بالأمضِّ الأشق وأخذتهم الرجفة بِالْحَقِّ فَإِنَّهَا وَافَقت يَوْم عيدهم وهم فِي الْكَنَائِس فَأَصْبحُوا للردى فرائس شاخصة أَبْصَارهم ينظرُونَ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العْذَابُ منْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون} ثمَّ ذكر الْعِمَاد قصيدة فِي مدح نور الدّين وَوصف الزلزلة مطْلعهَا (هَل لعاني الْهوى من الْأسر فادي ... ولساري ليل الصبابة هادي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 (جنِّبوني خطب البعاد فسهلُ ... كل خطب سوى النَّوَى والبعاد) (كنت فِي غَفلَة من الْبَين حَتَّى ... صَاح يَوْم الأثيل بالبين حادي) (قد حللتم من مهجتي فِي السويداء ... وَمن مقلتي مَحل السوَاد) (وبخلتم من الْوِصَال بإسعافي ... أما كُنْتُم من الأجواد) (وبعثتم نسيمكم يتلافاني ... فَعَاد النسيم من عُوّادي) (سُمتموني تجلداً واشتياقاً ... ومحال تجمع الأضداد) (أبقاء بعد الْأَحِبَّة يَا قلبِي ... مَا هَذِه شُرُوط الوداد) (ذاب قلبِي وسال فِي الدمع لما ... دَامَ من نَار وجده فِي اتقاد) (مَا الدُّمُوع الَّتِي تحدرها الأشواق ... إِلَّا فتائت الأكباد) (حبذا ساكنو فُؤَادِي وعهدي ... بهمُ يسكنون سفح الْوَادي) (أَتَمَنَّى بِالشَّام أَهلِي بِبَغْدَاد ... وَأَيْنَ الشآم من بَغْدَاد) (مَا اعتياضي عَن حبهم يعلم الله ... تَعَالَى إِلَّا بحب الْجِهَاد) (واشتغالي بِخِدْمَة الْملك الْعَادِل ... محمودٍ الْكَرِيم الْجواد) (أَنا مِنْهُ على سَرِير سروري ... راتع الْعَيْش فِي مُرَاد مرادي) (قيدتني بِالشَّام مِنْهُ الأيادي ... والأيادي للْحرّ كالأقياد) (قد وَردت الْبَحْر الخضم وخلفت ... مُلُوك الدُّنْيَا بِهِ كالثماد) (هُوَ نعم الملاذ من نَائِب الدَّهْر ... وَنعم المعاذ عِنْد الْمعَاد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 (جلّ رزء الفرنج فاستبدلوا مِنْهُ ... بلبسُ الْحَدِيد لبس الْحداد) (فرَّق الرعب مِنْهُ فِي أنفس الْكفَّار ... بَين الْأَرْوَاح والأجساد) (سطوة زلزلت بسكانها الأَرْض ... وهدت قَوَاعِد الأطواد) (أخذتهم بِالْحَقِّ رَجْفَة بَأْس ... تَركتهم صرعى صروف العوادي) (خفضت من قلاعها كل عَال ... وأعادت تلاعها كالوهاد) (أنفذ الله حكمه فَهُوَ مَاض ... مظْهرا سر غيبه فَهُوَ بَادِي) (آيَة آثرت ذَوي الشّرك بالهلك ... وَأهل التَّوْحِيد بالإرشاد) (والأعادي جرى عَلَيْهِم من التدمير ... مَا قد جرى على قوم عَاد) (أشركت فِي الْهَلَاك بَين الْفَرِيقَيْنِ ... دعاة الْإِشْرَاك والإلحاد) (وَلَقَد حَاربُوا الْقَضَاء فَأمْضى ... حكمه فيهم بِغَيْر جلاد) (والإله الرؤوف فِي الشَّام عَنَّا ... دَافع لطفه بلَاء الْبِلَاد) قَالَ الْعِمَاد وَمِنْهَا معنى مبتكر ابتدعته فِي الزلزلة وَهُوَ (وبحق أُصِيبَت الأَرْض لما ... سكنت من مقَام أهل الْفساد) (علمت أَنَّهَا جنت فعراها ... حذرا من سطاك شبه ارتعاد) قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة عِنْد وصولنا إِلَى حلب فِي الْخدمَة النورية كنت مقرظا للفضائل الشهروزية وَكَانَ الْحَاكِم بهَا القَاضِي محيي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد ابْن قَاضِي قُضَاة الشَّام كَمَال الدّين أبي الْفضل مُحَمَّد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 عبد الله بن الْقَاسِم الشَّهْرَزَوْرِي وَكَانَ كَمَال الدّين قد عذق بِهِ تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَإِلَيْهِ أُمُور الدِّيوَان وَهُوَ ذُو المكانة والإمكان فِي بسط الْعدْل وَالْإِحْسَان ومحيي الدّين وَلَده يَنُوب عَنهُ فِي الْقَضَاء بحلب وبلدانها وَينظر أَيْضا فِي أُمُور ديوانها وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان وهما حاكمان متحكمان وَكَانَ هَذَا محيي الدّين من أهل الْفضل وَله نظم ونثر وخطب وَشعر وَكَانَت معرفتي بِهِ فِي أَيَّام التفقه بِبَغْدَاد فِي الْمدرسَة النظامية مُنْذُ سنة خمس وَثَلَاثِينَ والمدرس شَيخنَا معِين الدّين سعيد بن الرزّاز وَكَانَ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِعِلْمِهِ مُعلماً مَذْهَب الطّراز وَكَانَت الزلزلة بحلب قد خربَتْ دَار محيي الدّين وسلبت قراره وغلبت اصطباره وجلبت أفكاره فَكتبت إِلَيْهِ قصيدة مطْلعهَا (لَو كَانَ من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معديا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَمِنْهَا (مَاتَ الرَّجَاء فَإِن أردْت حَيَاته ... ونشوره فارجُ الإِمَام المحييا) (أقضى الْقُضَاة مُحَمَّد بن مُحَمَّد ... من لست مِنْهُ للفضائل محصيا) (قاضٍ بِهِ قَضَت الْمَظَالِم نحبها ... وَغدا على آثارهن معفيا) (يَا كاشفاً للحق فِي أَيَّامه ... غُررا يَدُوم لَهَا الزَّمَان مغطيا) (لم تنعش الشَّهْبَاء عِنْد عثارها ... لَو لم تَجِد لطود حلمك مرسيا) (رجفت لسطوتك الَّتِي أرسلتها ... نَحْو الطغاة لحد عزمك ممهيا) (وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل إجارتهاعليها مبقيا) (أنفت من الثُّقَلَاء فِيهَا إِذا رمت ... أثقالها ورأتك مِنْهَا ملجيا) (حَلَبُ لَهَا حلب المدامع مُسبل ... أَن لاقت الْخطب الفظيع المبكيا) (وبعدل نور الدّين عاود أفقها ... من بعد غيم الْغم جوا مصحيا) (أضحى لبهجتها معيدا بَعْدَمَا ... ذهبت وللمعروف فِيهَا مبديا) (لأمورها متدبراً لشتاتها ... متألفاً لصلاحها مُتَوَلِّيًا) (فالشرع عَاد بعدله مستظهراً ... وَالْحق عَاد بظله مستذرياً) (والدهر لَاذَ بعفوه مُسْتَغْفِرًا ... مِمَّا جناه مطرقا مستحييا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فصل فِي غَزْوَة صَاحب البيرة ووفاة صَاحب الْموصل قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ شهَاب الدّين مُحَمَّد بن إلْيَاس بن إيلغازي بن أرتق صَاحب قلعة البيرة قد سَار فِي عسكره وهم مئتا فَارس إِلَى الْخدمَة النورية وَهُوَ بعشترا فَلَمَّا وصل إِلَى اللبوة وَهِي من أَعمال بعلبك ركب متصيدا فصادف ثَلَاث مئة فَارس من الفرنج قد سَارُوا للغارة على بِلَاد الْإِسْلَام وَذَلِكَ سَابِع عشر شَوَّال فَوَقع بَعضهم على بعض واقتتلوا وصبر الْفَرِيقَانِ لَا سِيمَا الْمُسلمُونَ لِأَن ألف فَارس مِنْهُم لَا تصبر لحملة ثَلَاث مئة فَارس من الفرنج وَكثر الْقَتْلَى بَينهم وَانْهَزَمَ الفرنج وعمهم الْقَتْل والأسر فَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا من لَا يعْتد بِهِ {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لَيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كاَنَ مَفْعُولا} وَسَار شهَاب الدّين بالأسرى ورؤوس الْقَتْلَى إِلَى نور الدّين فَركب هُوَ وَعَسْكَره إِلَى لِقَائِه واستعرض الأسرى ورؤوس الْقَتْلَى فَرَأى فِيهَا رَأس مقدم الإسبتارية صَاحب حصن الأكراد وَكَانَت الفرنج تعظمه لشجاعته وَدينه عِنْدهم وَلِأَنَّهُ شجي فِي حلوق الْمُسلمين وَكَذَلِكَ أَيْضا رأى رَأس غَيره من مشهوري الفرنج فازداد سُرُورًا وَللَّه الْحَمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 قَالَ وَفِي شَوَّال سنة خمس وَسِتِّينَ توفّي الْملك قطب الدّين مودود بن زنكي بالموصل وَكَانَ لما أَشْتَدّ مَرضه أوصى بِالْملكِ بعده لوَلَده عماد الدّين زنكي بن مودود وَهُوَ أكبر أَوْلَاده وأعزهم عَلَيْهِ وأحبهم إِلَيْهِ وَكَانَ النَّائِب عَن قطب الدّين حِينَئِذٍ والقيم بِأَمْر دولته فَخر الدّين عبد الْمَسِيح وَكَانَ يكره عماد الدّين زنكي لِأَنَّهُ كَانَ قد أَكثر الْمقَام عِنْد عَمه الْملك الْعَادِل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وخدمه وَتزَوج ابْنَته وَكَانَ عزيزه وحبيبه وَكَانَ نور الدّين يبغض عبد الْمَسِيح لظلم كَانَ فِيهِ ويذمه وَيَلُوم أَخَاهُ قطب الدّين على تَوليته الْأُمُور فخاف عبد الْمَسِيح أَن يتَصَرَّف عماد الدّين فِي أُمُوره عَن أَمر عَمه فيعزله ويبعده فاتفق هُوَ والخاتون ابْنة حسام الدّين تمرتاش زَوْجَة قطب الدّين فَردُّوهُ عَن هَذَا الرَّأْي فَلَمَّا كَانَ الْغَد أحضر الْأُمَرَاء واستحلفهم لوَلَده سيف الدّين غَازِي وَتُوفِّي وَقد جَاوز عمره أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ تَامّ الْقَامَة كَبِير الْوَجْه أسمر اللَّوْن وَاسع الْجَبْهَة جَهورِي الصَّوْت وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصفا وَلما توفّي اسْتَقر سيف الدّين فِي الْملك ورحل عماد الدّين إِلَى عَمه نور الدّين شاكياً ومستنصراً وَكَانَ عبد الْمَسِيح هُوَ متولى أُمُور سيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الدّين وَيحكم فِي مَمْلَكَته وَلَيْسَ لسيف الدّين من الْأَمر إِلَّا اسْمه لِأَنَّهُ فِي عنفوان شبابه وغرة حداثته قَالَ وهذ حَادِثَة تَحت على الْعدْل من جملَة أَعمال جَزِيرَة ابْن عمر قَرْيَة تسمى العُقَيمة مُقَابل الجزيرة من الْجَانِب الشَّرْقِي يفصل بَينهمَا دجلة لَهَا بساتين كَثِيرَة بَعْضهَا تمسح أرضه وَيُؤْخَذ على كل جريب من الأَرْض الَّتِي قد زرعت شَيْء مَعْلُوم وَبَعضهَا عَلَيْهِ خراج وَلَا مساحة عَلَيْهِ وَبَعضهَا مُطلق مِنْهُمَا فالممسوح مِنْهَا لَا يحصل لأَصْحَابه مِنْهُ إِلَّا الْقدر الْقَرِيب وَكَانَ لنا بهَا عدَّة بساتين فَحكى لي وَالِدي قَالَ جَاءَنَا كتاب فَخر الدّين عبد الْمَسِيح إِلَى الجزيرة وَأَنا حِينَئِذٍ أتولى ديوانها يَأْمر بِأَن تجْعَل بساتين العقيمة كلهَا ممسوحة فشق ذَلِك عليَّ لأجل أَصْحَابهَا فَفِيهَا نَاس صَالِحُونَ ولي بهم أنس وهم فُقَرَاء فراجعته وَقلت لَهُ لَا تظن أَنِّي أَقُول هَذَا لأجل ملكي لَا وَالله إِنَّمَا أُرِيد أَن يَدُوم النَّاس على الدُّعَاء للْمولى قطب الدّين وَأَنا أَمسَح ملكي جَمِيعه قَالَ فَأَعَادَ الْجَواب يَأْمر بالمساحة وَيَقُول تمسح أَولا ملكك ليقتدي بك غَيْرك وَنحن نطلق لَك مَا يكون عَلَيْهِ فشرع النواب يمسحون وَكَانَ بالعقيمة رجلَانِ صالحان وبيني وَبَينهمَا مَوَدَّة اسْم أَحدهمَا يُوسُف وَالْآخر عبَادَة فحضرا عِنْدِي وتضورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 من هَذِه الْحَال وسألاني الْمُكَاتبَة فِي الْمَعْنى فأظهرت لَهما كتاب عبد الْمَسِيح جَوَابا عَن كتابي فشكراني وَقَالا وَأَيْضًا تعودُ تراجعهُ فعاودت القَوْل فأصر على المساحة فعرفتهما الْحَال فَلَمَّا مضى عدَّة أَيَّام عدت يَوْمًا إِلَى دَاري وَإِذا هما قد صادفاني على الْبَاب فَقلت لنَفْسي عجبا لهذين الشَّيْخَيْنِ قد رَأيا مراجعتي وهما يطلبان مني مَا لَا أقدر عَلَيْهِ فَقلت لَهما وَالله إِنِّي لأستحيي مِنْكُمَا كلما جئتما فِي هَذَا الْمَعْنى وَقد رَأَيْتُمَا الْحَال كَيفَ هُوَ فَقَالَا صدقت وَلم نحضر إِلَّا لنعرفك أَن حاجتنا قضيت قَالَ فَظَنَنْت أَنَّهُمَا قد أرسلا إِلَى الْموصل من شفع لَهما فَدخلت دَاري وأدخلتهما معي وسألتهما عَن الْحَال كَيفَ هُوَ وَمن الَّذِي سعى لَهما فَقَالَا إِن رجلا من الصَّالِحين الأبدال شَكَوْنَا إِلَيْهِ حَالنَا فَقَالَ قد قضيت حَاجَة أهل العقيمة جَمِيعهم قَالَ فَوَقع عِنْدِي من هَذَا وَلَكِن تَارَة أصدقهما لما أعلم من صَلَاح أحوالهما وَتارَة أعجب من سَلامَة صدرهما كَيفَ يعتمدان على هَذَا القَوْل ويعتقدانه وَاقعا لَا شكّ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام وصل قَاصد من الْموصل بِكِتَاب يَأْمر فِيهِ بِإِطْلَاق مساحة العقيمة وَإِطْلَاق كل مسجون وبالصدقة فَسَأَلت القاصد عَن السَّبَب فَأخْبرنَا أَن قطب الدّين شَدِيد الْمَرَض قَالَ فأفكرت فِي قَوْلهمَا وتعجبت مِنْهُ ثمَّ توفّي بعد يَوْمَيْنِ من هَذَا قَالَ وَرَأَيْت وَالِدي إِذا رأى أحد الرجلَيْن يُبَالغ فِي إكرامه ويحترمه وَيَقْضِي أشغاله واتخذهما صديقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قَالَ وَكَانَ قطب الدّين من أحسن الْمُلُوك وأعفَّهم عَن أَمْوَال رَعيته محسنا إِلَيْهِم كثير الإنعام عَلَيْهِم محبوباً إِلَى صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ حَلِيمًا عَن المذنبين مِنْهُم سريع الانفعال للخير حدَّثني وَالِدي قَالَ استدعاني يَوْمًا وَهُوَ بالجزيرة وَكنت أتولى أَعمالهَا فلامني فِي بعض الْأَمر فَقلت أَخَاف من الِاسْتِقْصَاء لودعي على بعض هَؤُلَاءِ الْمُلُوك وأومأت إِلَى أَوْلَاده لكَانَتْ شَعْرَة مِنْهُ تَسَاوِي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلنَا مَوَاضِع تحْتَمل الْعِمَارَة يتَحَصَّل مِنْهَا أَضْعَاف هَذَا فَقَالَ جَزَاك الله خيرا لقد نصحت وَأديت الْأَمَانَة فاشرع فِي عمَارَة هَذِه الاماكن فَفعلت وَكَبرت منزلتي عِنْده وَلم يزل يثني عليّ قَالَ وَكَانَ كثير الصَّبْر وَالِاحْتِمَال من أَصْحَابه لقد صَبر من نوابه زين الدّين وجمال الدّين وَغَيرهمَا على مَا لم يصبر عَلَيْهِ سواهُ وَكَانَ حسن الِاتِّفَاق مَعَ اخيه الْملك الْعَادِل نور الدّين كثير المساعدة لَهُ والإنجاد بِنَفسِهِ وَعَسْكَره وأمواله حضر مَعَه المصافَّ بحارم وَفتحهَا وَفتح بانياس وَكَانَ يخْطب لَهُ فِي بِلَاده بِاخْتِيَارِهِ من غير خوف وَكَانَ إحسانه إِلَى أَصْحَابه مُتَتَابِعًا من غير طلب مِنْهُم وَلَا تَعْرِيض وَكَانَ يبغض الظُّلم وَأَهله ويعاقب من يَفْعَله قَالَ وَبِاللَّهِ أقسم إِذا فَكرت فِي الْمُلُوك أَوْلَاد زنكي سيف الدّين وَنور الدّين وقطب الدّين وَمَا جمع الله فيهم من مَكَارِم الْأَخْلَاق ومحاسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الْأَفْعَال وَحسن السِّيرَة وَعمارَة الْبِلَاد والرفق بالرعية إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي يحْتَاج الْملك إِلَيْهَا أذكر قَول الشَّاعِر (من تلقَ مِنْهُم تقلْ لاقيت سيدهم ... مثل النُّجُوم الَّتِي يسري بهَا السَّاري) قلت وقرأت بِخَط الشَّيْخ عمر الملاء رَحمَه الله فِي كتاب كتبه إِلَى بعض الصَّالِحين وَسَأَلَهُ فِيهِ الدُّعَاء لقطب الدّين صَاحب الْموصل وَقَالَ فِيهِ يَا أخي لَو ذهبت أشرح لَك سيرته فِي بِلَاده وعيش رَعيته فِي ولَايَته أطلت وأضجرت غير أَنِّي أذكر لَك مَا خصّه الله بِهِ من الْأَخْلَاق الصَّالِحَة هُوَ من أَكثر النَّاس رَحْمَة وأشدهم حَيَاء وأعظمهم تواضعاً وَأَقلهمْ طَمَعا وأزهدهم فِي الظُّلم وَأَكْثَرهم صبرا وأبعدهم غَضبا وأسرعهم رضَا وَهُوَ من هَذِه الْأَخْلَاق على حد أحبه أَنا محبَّة لَا أقدر أصفها وبيني وَبَينه إخاء ومزاورة يزورني وأزوره فصل قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما بلغ نور الدّين وَفَاة أَخِيه قطب الدّين وَملك وَلَده سيف الدّين بعده واستيلاء عبد الْمَسِيح واستبداده بالأمور وَحكمه على سيف الدّين أنف من ذَلِك وَكبر لَدَيْهِ وشق عَلَيْهِ وَكَانَ يبغض عبد الْمَسِيح لما يبلغهُ من خشونته على الرّعية وَالْمُبَالغَة فِي إِقَامَة السياسة وَكَانَ نور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الدّين رَحمَه الله تَعَالَى لينًا رَفِيقًا عادلا فَقَالَ أَنا أولى بتدبير أَوْلَاد أخي وملكهم ثمَّ سَار من وقته فَعبر الْفُرَات عِنْد قلعة جعبر أول محرم ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَقصد الرقة فَامْتنعَ النَّائِب بهَا شَيْئا من الِامْتِنَاع ثمَّ سلمهَا على شَيْء اقترحه فاستولى نور الدّين عَلَيْهَا وَقرر أمورها وَسَار إِلَى الخابور فملكه جَمِيعه ثمَّ ملك نَصِيبين وَأقَام بهَا يجمع العساكر فَإِنَّهُ كَانَ قد سَار جَرِيدَة فَأَتَاهُ بهَا نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان صَاحب الْحصن وديار بكر وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر وَقد كَانَ ترك أَكثر عسكره بِالشَّام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وَغَيرهم فَلَمَّا اجْتمعت العساكر سَار إِلَى سنجار فحصرها وَأقَام عَلَيْهَا وَنصب المجانيق وَكَانَ بهَا عَسْكَر كَبِير من الْموصل فكاتبه عَامَّة الْأُمَرَاء الَّذين بالموصل يحثونه على السُّرعة إِلَيْهِم ليسلموا الْبَلَد إِلَيْهِ وأشاروا بترك سنجار فَلم يقبل مِنْهُم وَأقَام حَتَّى ملك سنجار وَسلمهَا إِلَى ابْن أَخِيه الْأَكْبَر عماد الدّين زنكي ثمَّ سَار إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الْموصل فَأتى مَدِينَة بَلَد وَعبر دجلة فِي مخاضة عِنْدهَا إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي وَسَار فَنزل شَرْقي الْموصل على حصن نِينَوَى ودجلة بَينه وَبَين الْموصل قَالَ وَمن الْعجب أَنه يَوْم نُزُوله سقط من سور الْموصل بَدَنَة كَبِيرَة وَكَانَ عبد الْمَسِيح قد سيَّر عز الدّين مَسْعُود بن قطب الدّين إِلَى أتابك إيلدكز صَاحب بِلَاد الْجَبَل وأذربيحان وأرّان وَغَيرهَا يستنجده فَأرْسل إيلْدِكِز رَسُولا إِلَى نور الدّين ينهاه عَن قصد الْموصل وَيَقُول لَهُ إِن هَذِه الْبِلَاد للسُّلْطَان وَلَا سَبِيل لَك إِلَيْهَا فَلم يَلْتَفت نور الدّين إِلَى رسَالَته وَكَانَ بسنجار فَسَار إِلَى الْموصل وَقَالَ للرسول قل لصاحبك أَنا أرْفق ببني أخي مِنْك فَلَا تدخل نَفسك بَيْننَا وَعند الْفَرَاغ من إصلاحهم يكون الحَدِيث مَعَك على بَاب همذان فَإنَّك قد ملكت نصف بِلَاد الْإِسْلَام وأهملت الثغور حَتَّى غلب الكُرْج عَلَيْهَا وَقد بليت أَنا وحدي بأشجع النَّاس الفرنج فَأخذت بِلَادهمْ وأسرت مُلُوكهمْ فَلَا يجوز لي أَن أتركك على مَا أَنْت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يجب علينا الْقيام بِحِفْظ مَا أهملت من بِلَاد الْإِسْلَام وَإِزَالَة الظُّلم عَن الْمُسلمين فَعَاد الرَّسُول بِهَذَا الْجَواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وَحصر نور الدّين الْموصل فَلم يكن بَينهم قتال وَكَانَ هوى كل من بالموصل من جندي وعامي مَعَه لحسن سيرته وعدله وكاتبه الْأُمَرَاء يعلمونه أَنهم على الْوُثُوب على عبد الْمَسِيح وَتَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْهِ فَلَمَّا علم عبد الْمَسِيح ذَلِك راسله فِي تَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْهِ وَتَقْرِيره على سيف الدّين وَيطْلب الْأمان وإقطاعاً يكون لَهُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَقَالَ لَا سَبِيل إِلَى إبقائه بالموصل بل يكون عِنْدِي بِالشَّام فَإِنِّي لم آتٍ لأخذ الْبِلَاد من أَوْلَادِي إِنَّمَا جِئْت لأخلص النَّاس مِنْك وأتولى أَنا تربية أَوْلَادِي فاستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك وسلمت الْموصل إِلَيْهِ فَدَخلَهَا ثَالِث عشر جمادي الأولى وَسكن القلعة وَأقر سيف الدّين غَازِي على الْموصل وَولى بقلعتها خَادِمًا يُقَال لَهُ سعد الدّين كمشتكين وَجعله دُزداراً فِيهَا وَقسم جَمِيع مَا خَلفه أَخُوهُ قطب الدّين بَين أَوْلَاده بِمُقْتَضى الْفَرِيضَة وَلما كَانَ يحاصر الْموصل جَاءَتْهُ خلعة من الْخَلِيفَة فلبسها فَلَمَّا دخل الْموصل خلعها على سيف الدّين وَأطلق المكوس جَمِيعهَا من الْموصل وَسَائِر مَا فَتحه من الْبِلَاد وَأمر بِبِنَاء الْجَامِع النوري بالموصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فَبنِي وأقيمت الصَّلَاة فِيهِ سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَأقَام بالموصل نَحْو عشْرين يَوْمًا وَسَار إِلَى الشَّام فَقيل لَهُ إِنَّك تحب الْموصل وَالْمقَام بهَا ونراك أسرعت الْعود فَقَالَ قد تغير قلبِي فِيهَا فَإِن لم أفارقها ظلمت ويمنعني أَيْضا أنني هَهُنَا لاأكون مرابطاً لِلْعَدو وملازماً للْجِهَاد ثمَّ أقطع نَصِيبين والخابور العساكر وأقطع جَزِيرَة ابْن عمر سيف الدّين غَازِي ابْن أَخِيه مَعَ الْموصل وَعَاد إِلَى الشَّام وَمَعَهُ عبد الْمَسِيح فَغير اسْمه وَسَماهُ عبد الله وأقطعه إقطاعا كثيرا وَقَالَ الْعِمَاد واستدعاني نور الدّين وَنحن بِظَاهِر الرقَّة وَقَالَ لي قد أنست بك وَأمنت إِلَيْك وَأَنا غير مُخْتَار للفرقة لَكِن المهم الَّذِي عرض لَا يبلغ فِيهِ غَيْرك الْغَرَض فتمضي إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز جَرِيدَة وَتُؤَدِّي عني رِسَالَة سديدة سعيدة وتنُهي أَنِّي قصدت بَيْتِي وَبَيت وَالِدي ومغنَي طريفي وتالدي وَأَنا كبيره ووارثه وَالَّذِي لَهُ حَدِيثه وحادثه فَامْضِ وَخذ لي إِذْنا فَإِنِّي أعد كل جارحة لي لما أخاطب بِهِ أُذناً وأمثل مَا يصلني من الْمِثَال لدفع كل مَكْرُوه ركنا وَأمر نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه أَن يسيرني إِلَى الرحبة فِي رجال مأموني الصُّحْبَة وسرت مِنْهَا على الْبَريَّة غربي الْفُرَات بخفير من بني خفاجة فَذكر أَنه وصل وَقضى الْحَاجة ثمَّ رَجَعَ من عِنْد الْخَلِيفَة المستنجد إِلَى نور الدّين وَهُوَ يحاصر سنجار فَأَخذهَا وملكها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَسلمهَا إِلَى ختنه ابْن أَخِيه عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي قَالَ ثمَّ رَحل على عزم الْموصل وَقصد بلد واستوضح فِيهَا الجدد ودُلَّ هُنَاكَ فِي دجلة على مخاضة وَكَانَ ذَا أَخْلَاق وهمم مرتاضة فاستسهل من خوضها والعبور فِيهَا مَا ظن مستصعبا وَسَهل الله لنا ذَلِك ورأيناه أمرا عجبا وَجَاء دَلِيل تركماني قدامنا وَهُوَ يقطع دجلة تَارَة طولا وَتارَة عرضا أمامنا وَنحن وَرَاءه كخيط وَاحِد لَا نَمِيل يَمِينا وَلَا يسارا وَلَا نجد لنا فِي سوى ذَلِك الْمجَاز اخْتِيَارا حَتَّى عبرنا من الْجَانِب الغربي إِلَى الْجَانِب الشَّرْقِي برجالنا وأثقالنا وخيلنا وبغالنا وجمالنا وأقمنا بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم حَتَّى تمَّ عبور الْقَوْم ثمَّ رحلنا ونزلنا على الْموصل من شرقيها وخيمنا على تلِّ تَوْبَة فاستعظم أَهلهَا تِلْكَ النّوبَة وَمَا خطر ببالهم أننا نعبر بِغَيْر مراكب وأنَّا نَأْخُذ عَلَيْهِم ذَلِك الْجَانِب فعرفوا أَنهم محصورون مقهورون محسورون وانقطعت عَنْهُم السبل من الشرق وَتعذر عَلَيْهِم الرقع لاتساع الْخرق وَبسط الْعَطاء وكشف الغطاء وَتكلم فِي الْمصلحَة والمصالحة الوسطاء ومُد الجسر وَقضى الْأَمر وأنعم نور الدّين على أَوْلَاد أَخِيه ومثلوا بناديه وَأقر سيف الدّين غازياً على قَاعِدَة أَبِيه وَألبسهُ التشريف الَّذِي وَصله من أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء ثمَّ دخل قلعة الْموصل وَأقَام بهَا سَبْعَة عشر يَوْمًا وجدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذَوي الْمَرَاتِب من الْقَضَاء والنقابة وَغَيرهمَا وَأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 بِإِسْقَاط جَمِيع المكوس والضرائب وَأَنْشَأَ بذلك منشوراً يقْرَأ على النَّاس فَمِنْهُ قد قنعنا من كنز الْأَمْوَال باليسير من الْحَلَال فسحقاً للسحت ومحقاً لِلْحَرَامِ الْحقيق بالمقت وبعداً لما يبعد من رضَا الرب ويقصي من مَحل الْقرب وَقد استخرنا الله وتقربنا إِلَيْهِ وتوكلنا فِي جَمِيع الْأَحْوَال عَلَيْهِ وتقدمنا بِإِسْقَاط كل مكس وضريبة فِي كل ولَايَة لنا بعيدَة أَو قريبَة وَإِزَالَة كل جِهَة مشتبهة مشوبة ومحو كل سنَّة سَيِّئَة شنيعة وَنفي كل مظْلمَة مظْلمَة فظيعة وإحياء كل سنة حَسَنَة وانتهاز كل فرْصَة فِي الْخَيْر مُمكنَة وَإِطْلَاق كل مَا جرت الْعَادة بِأَخْذِهِ من الْأَمْوَال المحظورة خوفًا من عواقبها الردية المحذورة فَلَا يبْقى فِي جَمِيع ولايتنا جور جَائِر جَارِيا وَلَا عمل لَا يكون بِهِ الله رَاضِيا إيثاراً للثَّواب الآجل على الحطام العاجل وهذ حق لله قضيناه وواجب علينا أديناه بل هِيَ سنة حَسَنَة استنناها ومحجة وَاضِحَة بيناها وَقَاعِدَة محكمَة مهدناها وَفَائِدَة مغتنمة أفدناها فصل قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ بالموصل شيخ صَالح يعرف بعمر الملاء سمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يمْلَأ تنانير الجص بِأُجْرَة يتقوَّت بهَا وكل مَا عَلَيْهِ من قَمِيص ورداء وَكِسْوَة وَكسَاء قد ملكه سواهُ واستعاره فَلَا يملك ثَوْبه وَلَا إزَاره وَكَانَ لَهُ شَيْء فوهبه لأحد مريديه وَهُوَ يتجر لنَفسِهِ فِيهِ فَإِذا جَاءَهُ ضيف قراه ذَلِك المريد وَكَانَ ذَا معرفَة بِأَحْكَام الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وَكَانَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء والملوك والأمراء يزورونه فِي زاويته ويتبركون بهمته ويتيمنَّون ببركته وَله كل سنة دَعْوَة يحتفل بهَا فِي أَيَّام مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحضرهُ فِيهَا صَاحب الْموصل ويحضر الشُّعَرَاء وينشدون مدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك المحفل وَكَانَ نور الدّين من أخص محبيه يستشيره فِي حُضُوره ويكاتبه فِي مصَالح أُمُوره وَكَانَت بالموصل خربة وَاسِعَة فِي وسط الْبَلَد أشيع عَنْهَا أَنه مَا شرع فِي عمارتها إِلَّا من ذهب عمره وَلم يتم على مُرَاده أمره فَأَشَارَ الشَّيْخ عمر على نور الدّين بابتياعها وَرفع بنائها جَامعا تُقَام فِيهِ الْجمع وَالْجَمَاعَات فَفعل وَأنْفق فِيهِ أَمْوَالًا كَثِيرَة ووقف عَلَيْهِ ضَيْعَة من ضيَاع الْموصل ورتب فِيهِ خَطِيبًا ومدرساً وَكَانَ قد وصل فِي تِلْكَ السّنة وافدا الْفَقِيه عماد الدّين أَبُو بكر النوقاني الشَّافِعِي من أَصْحَاب الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى فَسَأَلَهُ أَن يكون مدرساً فِي ذَلِك الْجَامِع وَكتب لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 بِهِ منشوراً قَالَ وَحضر مُجَاهِد الدّين قايماز صَاحب إربل فِي الْخدمَة النورية فِي الْموصل وَكَانَ دُخُولهمْ إِيَّاهَا فِي بحبوحة الشتَاء فَكتب الْعِمَاد إِلَى بعض كبراء الْموصل قصيدة مِنْهَا (مَا يمْنَع الْخَادِم من قَصده الْخدمَة ... غير الطّرق والوحل) (كَأَنَّمَا موصلكم مقطع ... مَا يَهْتَدِي فِيهِ إِلَى وصل) (وكلّ مَعْرُوف بهَا مُنكر ... كَمَا ترَاهُ ضيّق السّبل) (وكل من حلّ بهَا لَا يرى ... فِي زمن الخصب سوى الْمحل) (ومذ دخلناها حصلنا بهَا ... كَرهاً على خرج بِلَا دخل) (أصعب مَا نَلْقَاهُ من أَهلهَا ... قَول بِلَا أهل وَلَا سهل) (وَكنت أهواها ولكنني ... لقِيت مِنْهَا كلّ مَا يسلى) (وانت من أصبح إحسانه ... حلية هَذَا الزَّمن العُطل) قَالَ وَعَاد نور الدّين إِلَى سنجار فَأَعَادَ عمَارَة أسوارها ثمَّ أَتَى حرّان وَقد اقتطعها عَن صَاحب الْموصل هِيَ ونصيبين والخابور والْمِجْدل وَوصل حلب فِي خَامِس رَجَب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وَقَالَ ابْن شدّاد دخل حلب فِي شعْبَان وزوّج صَاحب الْموصل ابْنَته قَالَ الْعِمَاد وفوّض الْقَضَاء والحُكم بنصيبين وسنجار والخابور إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون فولّى بهَا نوابه وحكّم فِيهَا أَصْحَابه وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما صَارَت الْموصل إِلَى سيف الدّين ابْن أخي نور الدّين كَانَ قد استولى عَلَيْهِ وَتَوَلَّى أَمر الْبَلَد رجل يُقَال لَهُ عبد الْمَسِيح كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم وَقيل إِنَّه كَانَ بَاقِيا على نصرانيته وَله بيعَة فِي دَاره وتتبع أَرْبَاب الْعلم والدّين وشتتّهم وأبعدهم وآذى الْمُسلمين فَبلغ نور الدّين ذَلِك وكُتب لَهُ قصَص فِي ذَلِك فَسَار وَنزل على الْموصل من جَانب الشط والشط بَينه وَبَينهَا وَقَالَ لَا أقَاتل هَذِه الْبَلدة وأهتك حرمتهَا وَهِي لوَلَدي وراسل سيف الدّين وَقَالَ لَهُ أَنا لَيْسَ مقصودي الْبَلَد وَإِنَّمَا مقصودي حفظ الْبَلَد لَك فَإِنَّهُ قد كتب إِلَيّ فِي عبد الْمَسِيح كَذَا وَكَذَا ألف قصَّة بِمَا يفعل مَعَ الْمُسلمين وَإِنَّمَا مقصودي أزيل هَذَا النَّصْرَانِي عَن ولَايَة الْمُسلمين قَالَ وَعبد الْمَسِيح يدبر الْبَلَد ويدور فِيهِ وَالْأَمر إِلَيْهِ وبذل الصُّلْح لنُور الدّين فَقَالَ نور الدّين أَنا قد جِئْت وَلَا بُد لي من دُخُول الْبَلَد فَقَالَ نعم لَا يدْخل إِلَّا من بَاب السِّر فَقَالَ نور الدّين مَا أَدخل إِلَّا من بَاب السِّرّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فجرت بَين نور الدّين وَبَين ابْن أَخِيه مراسلات إِلَى أَن علم أَن نِيَّته صَالِحَة فَصَالحه فِي السِّرّ وَركب عبد الْمَسِيح وَخرج يَدُور بَين السورين فَجَاءَهُ بعض أَصْحَابه وَقَالَ لَهُ أَنْت نَائِم دمُك قد رَاح وَأَنت غافل فَقَالَ مَا الْخَبَر فَقَالَ سيف الدّين قد صَالح عَمه وَأَنت فِي مُقَابلَة نور الدِّين فجَاء وَدخل على سيف الدّين وَألقى شربوشه بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْت قد صالحت عمك وَقد علمت مَا عملت فِي حفظ بلدك وَمَا لي طَاقَة بِمُقَابلَة نور الدّين فَالله الله فِي دمي فَقَالَ لَهُ مَا لي طَاقَة بِدَفْعِهِ عَنْك وَلَكِن عَلَيْك بالشيخ عمر الملاء فَقَالَ وَالله لَو مضيت إِلَيْهِ لم يفتح لي لعلمه بِمَا جرى مِنْهُ فِي حق الْمُسلمين وَلَكِن تسير أَنْت إِلَيْهِ لم يفتح لي لعلمه بِمَا جرى مِنْهُ فِي حق الْمُسلمين وَلَكِن تسيِّر أَنْت إِلَيْهِ فسير سيف الدّين إِلَيْهِ واستحضره وَكَانَ معتكفا فَقَالَ لَهُ مَا الْخَبَر فَقَالَ سيف الدّين لعبد الْمَسِيح مِنْك إِلَيْهِ فَوقف بَين يَدَيْهِ يبكي فَالْتَفت إِلَيْهِ عمر وَقَالَ من يعادى الرِّجَال يبكي مثل النِّسَاء فَقَالَ لَهُ قد تمسكت بك وأطلب مِنْك حقن دمي فَقَالَ أَنْت آمن على دمك فَقَالَ وعَلى مَالِي فَقَالَ وعَلى مَالك قَالَ وعَلى أَهلِي فَقَالَ وعَلى أهلك وَكَانَ شرف الدّين بن أبي عصرون مَعَ نور الدّين حِينَئِذٍ فَقَالَ سيف الدّين لعمر الملاء تخرج تحلِّف نور الدّين فأحضر الْفُقَهَاء وَعمِلُوا لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 نُسْخَة يَمِين ونسخة يَمِين لعبد الْمَسِيح فَأَخذهُمَا عمر وَخرج إِلَى نور الدّين فَقَامَ نور الدّين وَخرج من خيمته والتقاه وأكرمه فَقَالَ لَهُ عمر النَّاس يعلمُونَ حُسْن عقيدتك فيّ وَقد خرجت فِي كَذَا وَكَذَا وناوله النُّسْخَة الَّتِي تتَعَلَّق بِسيف الدّين فقرأها وناولها لِابْنِ أبي عصرون فَقَالَ نُسْخَة جَيِّدَة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عمر الملاء إيش تَقول فِي هَذِه النُّسْخَة فَقَالَ جَيِّدَة فَقَالَ إِذا حلف بهَا على هَذَا الْوَجْه أَلَيْسَ أَنَّهَا تقع لَازِمَة فَقَالَ بلَى فَقَالَ للحاضرين اشْهَدُوا على الشَّيْخ بذلك يُشِير إِلَى أَن نور الدّين كَانَ تجْرِي مِنْهُ أَيْمَان فِي وقائع وَكَانَ ابْن أبي عصرون يفتيه بِالْخرُوجِ مِنْهَا فقيَّد عَلَيْهِ القَوْل فَأجَاب نور الدّين إِلَى ذَلِك فَقَالَ لَهُ قد علم النَّاس حسن عقيدتك فيّ وَأَن قولي مسموع عنْدك وَقد خرجت إِلَيْك وَلَا بُد لي من ضِيَافَة قَالَ كَيفَ لي بذلك وَأَنت لَا تَأْكُل طَعَامي وَلَا تقبل مني شَيْئا فَقَالَ تحلف لي بِهَذِهِ النُّسْخَة فَوقف عَلَيْهَا وَتغَير وَجهه وَقَالَ أَنا مَا جِئْت فِي هَذَا لأخلص الْمُسلمين مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عمر فَمَا نطلب مِنْك أَن توليه على الْمُسلمين فَقَالَ قد أمنته على نَفسه فَقَالَ وعَلى أَهله فَقَالَ وَمن أَهله قَالَ نَصَارَى فَقَالَ أمنتهم فَقَالَ وعَلى مَاله فَقَالَ وَمن أَيْن لهَذَا الْكَلْب مَال هَذَا مَمْلُوك لنا فَقَالَ قد أُعتق وَمَاله لَهُ وَهُوَ الْيَوْم كَانَ صَاحب الْموصل فَقَالَ قد أمنته على مَاله فَحلف على ذَلِك جَمِيعه واستقرّ الصُّلْح وَخرج سيف الدّين إِلَى خدمَة نور الدّين فَوقف بَين يَدَيْهِ فَأكْرمه نور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 الدّين وَكَانَ وَصله خلعة أَمِير الْمُؤمنِينَ فخلعها عَلَيْهِ فَدخل إِلَى الْموصل بهَا وانتقل إِلَى جَانب الشط الآخر وَلم يدْخل إِلَى الْموصل إِلَى أَن جَاءَ مطر شَدِيد جدّاَ فَدخل من بَاب السِّرّ إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ورتب أمورها وَولي فِيهَا كمشتكين فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات لَيْلَة فِي الْمَنَام وَهُوَ يَقُول لَهُ جِئْت إِلَى بلدك وطاب لَك الْمقَام بِهِ وَتركت الْجِهَاد وقتال أَعدَاء الدّين فَاسْتَيْقَظَ من مَنَامه وَسَار سحرة ذَلِك الْيَوْم وَلم يلبث وَلم يعلم بِهِ أَكثر النَّاس حَتَّى خرج ولحقوه رَحمَه الله تَعَالَى فصل وصل الْخَبَر بِمَوْت الإِمَام المستنجد بِاللَّه أبي المظفر يُوسُف بن المقتفي ونورُ الدّين مخيم بشرقي الْموصل بتل تَوْبَة وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت تَاسِع ربيع الآخر وبويع ابْنه المستضيء بِأَمْر الله أَبُو مُحَمَّد الْحسن وَكَانَ مولد المستنجد مستهل ربيع الآخر سنة عشر وَخمْس مئة وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى عشرَة سنة وَسِتَّة أَيَّام وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ من خلفاء بني الْعَبَّاس وَهَذَا الْعدَد لَهُ بِحِسَاب الجمَّل اللَّام وَالْبَاء وَفِيه يَقُول بعض الأدباء (أَصبَحت لب بني الْعَبَّاس كلهم ... إِن عددت بِحِسَاب الجمَّل الخلفا) وَكَانَ أسمر تَامّ الْقَامَة طَوِيل اللِّحْيَة وَكَانَ من أحسن الْخُلَفَاء سيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 مَعَ الرّعية كَانَ عادلا فيهم كثير الرِّفْق بهم وَأطلق من المكوس كثيرا وَلم يتْرك بالعراق مكسا وَكَانَ شَدِيدا على أهل العيث وَالْفساد والسعاية بِالنَّاسِ قَالَ ابْن الْأَثِير بَلغنِي أَنه قبض على إِنْسَان كَانَ يسْعَى بِالنَّاسِ وَيكْتب فيهم السِّعايات فَأطَال حَبسه فَحَضَرَ بعض أَصْحَابه وشفع فِيهِ وبذل عَنهُ عشرَة آلَاف دِينَار فَقَالَ لَهُ أَنا أُعْطِيك عشرَة آلَاف دِينَار وتحضر لي إنْسَانا آخر مثله أحبسه لأكفَّ شَره عَن النَّاس وَتُوفِّي فِي أَيَّامه شيخ الشُّيُوخ إِسْمَاعِيل بن أبي سعد وَصَارَ بعده ابْنه صدر الدّين عبد الرَّحِيم شيخ الشُّيُوخ وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين توفّي مُحَمَّد بن نصر القيسراني وَأحمد بن مُنِير الشاعران وَقد تقدم ذَلِك وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين توفّي الْحَكِيم أَبُو الحكم الشَّاعِر الأندلسي وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين توفّي الوأواء الشَّاعِر الْحلَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ توفّي الشَّيْخ أَبُو النجيب الصُّوفِي الْفَقِيه الْوَاعِظ قَالَ الْعِمَاد وجاءنا رسل دَار الْخلَافَة مبشرين بخلافة المستضيء وَاتفقَ ذَلِك يَوْم عبور دجلة وَركب يَوْم النُّزُول على تل تَوْبَة فِي الأهبة السَّوْدَاء وَالْيَد الْبَيْضَاء وَذَلِكَ بمرأى ومنظر من أهل الْموصل الحدباء ثمَّ أرسل الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون إِلَى بَغْدَاد نَائِبا عَنهُ فِي خدمَة الإِمَام وَمِمَّا نظمه الْعِمَاد فِيهِ (قد أَضَاء الزَّمَان بالمستضيء ... وَارِث الْبرد وَابْن عَم النبيء) (جَاءَ بِالْحَقِّ والشريعة وَالْعدْل ... فيا مرْحَبًا بِهَذَا الْمَجِيء) (فهنيئاً لأهل بَغْدَاد فازوا ... بعد بؤس بِكُل عَيْش هنيء) (ومضيء إِن كَانَ فِي الزَّمن المظلم ... فالعود فِي الزَّمَان المضيء) وَله من قصيدة أُخْرَى (لهفي على زمن الشَّبَاب فإنني ... بسوى التأسف عَنهُ لم أتعوض) (نقضت عهود الغانيات وَإِنَّهَا ... لَوْلَا انْقِضَاء شبيبتي لم تنقض) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 (يَا حسن أَيَّام الصِّبَا وَكَأَنَّهَا ... أَيَّام مَوْلَانَا الإِمَام المستضى) (ذُو الْبَهْجَة الزهراء يشرق نورها ... والطلعة الغراء وَالْوَجْه الوضيَ) (قَسَم السَّعَادَة والشقاوة ربُّنا ... فِي الْخلق بَين محبِّه والمبغض) وَمِنْهَا (فضل الخلائف وَالْخَلَائِق بالتقي ... وَالْفضل والإفضال والخُلق الرضي) (فانعم أَمِير الْمُؤمنِينَ بدولة ... مَا تَنْتَهِي وسعادة مَا تَنْقَضِي) قَالَ وَوصل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى دمشق وَأدّى فرض الصّيام وَخرج بعد الْعِيد إِلَى الْخيام وَأخرج سرادقه إِلَى جسر الْخشب وسرنا إِلَى عشترا ثمَّ ذكر الْعِمَاد هُنَا سيرة سرّية صَاحب البيرة الأرتقي باللبوة وَقد مَضَت فِي أَخْبَار سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ فَثَمَّ ذكرهَا ابْن الْأَثِير فصل فِيمَا جرى بِمصْر فِي هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد كَانَ بِمصْر حبس للشحن يعرف بدار المعونة فَأَعَادَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 صَلَاح الدّين مدرسة للشَّافِعِيَّة فِي أول سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَعمل فِي النّصْف من الْمحرم دَار الْغَزل مدرسة للمالكية وَولى صدر الدّين عبد الْملك بن درباس الْقَضَاء وَالْحكم بِمصْر والقاهرة وأعمالها وَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من جمادي الْآخِرَة ثمَّ خرج إِلَى الْغُزَاة وأغار على الرملة وعسقلان وهجم ربض غَزَّة ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ وَصله الْخَبَر بِخُرُوج قافلة من دمشق فِيهَا أَهله فأشفق عَلَيْهَا وَأحب أَن يجْتَمع بهَا شَمله فَخرج فِي النّصْف من ربيع الأول وَكَانَت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بأيلة قلعة فِي الْبَحْر قد حصنها أهل الْكفْر فعمر لَهَا مراكب وَحملهَا إِلَى ساحلها على الْجمال وركبها الصنّاع هُنَاكَ وشحنها بِالرِّجَالِ وَفتح القلعة فِي الْعشْر الأول من ربيع الآخر واستحلها واستباح بِالْقَتْلِ والأسر أَهلهَا وملأها بِالْعدَدِ وَالْعدَد وحصَّنها بِأَهْل الجلاد وَالْجَلد وَاجْتمعَ بأَهْله عَلَيْهَا وَسَار بهم على سمت الْقَاهِرَة ودخلوا فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جمادي الأولى إِلَيْهَا وَسَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان ليشاهدها ويرتب قواعدها وَهِي أول دفْعَة سَار إِلَيْهَا فِي أَيَّام سُلْطَانه وَعم أَهلهَا بإحسانه وَأمر بعمارة أسوارها وابراجها وابدانها وَفِي النّصْف من شعْبَان اشْترى تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه وَهُوَ ابْن أخي صَلَاح الدّين منَازِل الْعِزّ بِمصْر وَجعلهَا مدرسة للشَّافِعِيَّة وَاشْترى الرَّوْضَة وحمام الذَّهَب وَغَيرهمَا من الْأَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وَفِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة أغار شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان بالصعيد على العربان ثمَّ دخل الْقَاهِرَة فِي عَاشر شهر رَمَضَان وَفِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من جمادي الْآخِرَة توفّي القَاضِي الْمُوفق أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْخلال وَكَانَ من الأماثل الأفاضل وَلم يزل صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء إِلَى أَن كبر وَكَانَ الْأَجَل الْفَاضِل يُوصل إِلَيْهِ كل مَا كَانَ لَهُ وَقَامَ بِهِ مُدَّة حَيَاته يكرم عَهده ويكفله وَقَالَ فِي الخريدة هُوَ نَاظر ديوَان مصر وإنسان ناظره وجامع مفاخره وَكَانَ إِلَيْهِ الْإِنْشَاء وَله قُوَّة على الترسل يكْتب مَا يَشَاء عَاشَ كثيرا وعطل فِي آخر عمره وأضر وَلزِمَ بَيته إِلَى أَن تعوض مِنْهُ الْقَبْر وَمن شعره (يَا أَخا الْغرَّة حسب الدَّهْر من ... عظة الْمَغْرُور مَا أصبح يُبْدِي) (تُؤثر الدُّنْيَا فَهَل نلْت بهَا ... لَحْظَة تخلص من همّ وكدِّ) قلت وَذكر ضِيَاء الدّين أَبُو الْفَتْح نصر الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْأَثِير الْجَزرِي فِي أول كِتَابه الْمُسَمّى بالوشي المرقوم فِي حل المنظوم قَالَ حَدثنِي عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني رَحمَه الله تَعَالَى بِمَدِينَة دمشق فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ كَانَ فن الْكِتَابَة بِمصْر فِي زمن يَعْنِي بني عبيد غضا طريا وَكَانَ لَا يَخْلُو ديوَان المكاتبات من رَأس يرأس مَكَانا وبيانا وَيُقِيم لسلطانه بقلمه سُلْطَانا وَكَانَ من الْعَادة أَن كلا من أَرْبَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الدَّوَاوِين إِذا نَشأ لَهُ ولد وشدا شَيْئا من علم الْأَدَب أحضرهُ إِلَى ديوَان المكاتبات ليتعلم فن الْكِتَابَة ويتدرب وَيرى وَيسمع قَالَ فأرسلني وَالِدي وَكَانَ إِذْ ذَاك قَاضِيا بثغر عسقلان إِلَى الديار المصرية فِي أَيَّام الْحَافِظ وَهُوَ أحد خلفائها وَأَمرَنِي بالمصير إِلَى ديوَان المكاتبات وَكَانَ الَّذِي يرأس بِهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّام رجلا يُقَال لَهُ ابْن الْخلال فَلَمَّا حضرت الدِّيوَان ومثلت بَين يَدَيْهِ وعرّفته من أَنا وَمَا طلبتي رحبَّ بِي وَسَهل ثمَّ قَالَ مَا الَّذِي أَعدَدْت لفن الْكِتَابَة من الْآلَات فَقلت لَيْسَ عِنْدِي شَيْء سوى أَنِّي أحفظ الْقُرْآن الْعَزِيز وَكتاب الحماسة فَقَالَ فِي هَذَا بَلَاغ ثمَّ أَمرنِي بملازمته فَلَمَّا ترددت إِلَيْهِ وتدربت بَين يَدَيْهِ أَمرنِي بعد ذَلِك أَن أحلّ شعر الحماسة فحللته من أَوله إِلَى آخِره ثمَّ أَمرنِي بِأَن أحله مرّة ثَانِيَة فحللته وَقَالَ ابْن أبي طيّ فِي هَذِه السّنة شرع السُّلْطَان يَعْنِي صَلَاح الدّين فِي عمَارَة سور الْقَاهِرَة لِأَنَّهُ كَانَ قد تهدم أَكْثَره وَصَارَ طَرِيقا لَا يرد دَاخِلا ولاخارجاً وولاه لقراقوش الْخَادِم وَقبض على الْقُصُور وَسلمهَا إِلَيْهِ وَأمر بتغيير شعار الاسماعيلية وَقطع من الْأَذَان حيّ على خير الْعَمَل وَشرع فِي تمهيد أَسبَاب الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وفيهَا طلب شمس الدولة من أَخِيه السُّلْطَان ربع الْكَامِل بِالْقَاهِرَةِ وازداد على إقطاعه بوش وأعمال الجيزة وسمنود وَغَيرهَا قلت وَقد وقفت على كتاب فاضلي وصف فِيهِ غزَاة غَزَاهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي زمَان وزارته وَكَانَ الْكتاب إِلَى مَدِينَة قوص وأظن هَذِه الْغُزَاة هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْعِمَاد فِي اثناء كَلَامه السَّابِق أوّل الْكتاب {فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يمسسهم سُوءُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَان اللهِ واللهِ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} وَفِيه توجهنا من بركَة الْجب يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس عشر من ربيع الأول ووصلنا بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور والعساكر بالسهل والوعر منتظمة والهمم على السهل والصّعب مزدحمة وجنود الله فِي الأَرْض المُعْلمة قد أيّدتها جنود السَّمَاء المسوّمة وصابحنا الديّر يَوْم الْأَرْبَعَاء بِقِتَال جعل كلّ من فِي حصن الدّير رَاهِبًا ونصبنا عَلَيْهِ منجنيقا لَا يزَال بشهاب الْقَذْف ضَارِبًا فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَار ملكنا ربضه وأطلقنا فِيهِ النيرَان ورملنا الرِّجَال بِالدَّمِ وأرملنا النسوان وزحفنا إِلَى أبراجه وَهِي أبراج قد استعدت للبلاء جلبابا فَجعلنَا لكلّ وَاحِد جورة مُفْردَة وبابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وسرحنا إِلَيْهِم رسل المنايا من النشاب وقصدنا أَخذ الأبراج والبيوت تُؤْتى فِي الْحَرْب من غير الْأَبْوَاب وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم نقابة الحلبية فباتت لَيْلَتهَا تساوره وتراجعه بألسنة المعاول وتشاوره وأسفر الصُّبْح وَقد أمكن تَعْلِيقه وتيسر تحريقه فأودعنا تِلْكَ الْعُقُود آلَات الْوقُود فَلم يكن إِلَّا مِقْدَار اشتعالها حَتَّى خرّ صَرِيعًا سَرِيعا وعفرّ بَين أَيْدِينَا سَامِعًا مُطيعًا وانتظمت الرِّجَال على أحجاره وتواثبت إِلَى أَمْثَاله من الأبراج وأنظاره فحصلت فِي القبضة وَعجز من كَانَ فِيهَا عَن النهضة واحتكم فِيهَا الْعَذَاب بِالسَّيْفِ وَالنَّار وضاق عَلَيْهِم مجَال النَّفس والقرار واستقبلنا يَوْم الْخَمِيس نقب القلعة وَتَقْدِيم المنجنيق وتيسير السَّبِيل لِلْقِتَالِ وتخليص الطَّرِيق هَذَا والكسوب والنهوب قد امتارت مِنْهَا العساكر وَخرجت فِيهَا مكنونات الذَّخَائِر وأشبه الْيَوْم يَوْم تُبلى السرائر وطهر الأَرْض مِنْهُم بِالدَّمِ المائر فَلَمَّا كَانَ بكرَة الْجُمُعَة وردتنا الْأَخْبَار بِأَن الْملك قد زحف من غَزَّة فِي فارسه وراجله ورامحه ونابله وحشود دياره وجنود أنصاره فَرَكبْنَا مستبشرين بزحفه موقنين بحتفه ولقيناه فأحطنا من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وناوشته الْخَيل الطِّراد وَأَحْدَقَتْ بِهِ أحداق الأغلال بالأجياد وانتظرت حَملته الَّتِي كَانَ لَهَا قبل ذَلِك الْيَوْم موقع وصدمته الَّتِي لَهَا من رجال الْحَرْب مَوضِع فَمَلَأ الله قلبه رعْبًا وثنى صدقه كذبا وَلم يزل يخاتل وَلَا يُقَاتل ويواصل الْمسير وَلَا يصاول وَالْقَتْل فِي أعقابه وأيدي السيوف وسواعد الرماح لَا تني فِي عِقَابه حَتَّى تحصّل فِي الدَّيْر هُوَ وخيله وَرجله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وَلم يبْق لَهُ من ملك الشَّام إِلَّا مَا وطئته رجله فناصبناه الْحصار فِي لَيْلَة السبت مستهل ربيع الآخر بالركوب إِلَيْهِ وَالْوُقُوف عَلَيْهِ لَعَلَّه يبرز ويبارز وَيخرج وَلَا يحاجز فخرست غماغمه واستذابت ضراغمه فتركناه وَرَاء ظُهُورنَا وَجَعَلنَا بِلَاده أَمَام صدورنا فَكُنَّا فِي تَوليته مرضين لله تَعَالَى سُبْحَانَهُ لَا مغضبين وَفِي تَركه وَرَاء ظُهُورنَا ومباعدته من الله متقربين وواجهنا غَزَّة بعساكرنا المنصورة وأطفنا بهَا فِي أحسن صُورَة وَهِي على مَا علم من كَونهَا بكرا لم تفترعها الْحَوَادِث وحصانا لم يطمثها أمل طامث وَهِي معقل الديوية الَّذين هم جَمْرَة الشّرك وداهية الْإِفْك وأتى الله ببنيانها من الْقَوَاعِد وأنجز فِيهَا من النّصر صَادِق المواعد ووردناها بأيمن الْمَوَارِد وفتحناها من عدَّة جَوَانِب ووطئناها وَإِذا هِيَ كأمس الذَّاهِب فألْقَت إِلَيْنَا أفلاذ كَبِدهَا وذخيرة يَدهَا فَمن بَين مواش تخرب الْبِلَاد الَّتِي مِنْهَا خرجت وخيول مسومة كَأَنَّهَا لركوبنا أُسرجت وأُلجمت وحوامل أثقال وزوامل خففت عَن عساكرنا وفرجت وميرة كَثِيرَة تمكنت فِيهَا يَد الأجناد وأفرجت وأسارى الْمُسلمين فكوا من الْقَيْد وَالْقد وأنقذوا بلطف الله من سوء الملكة وَشدَّة الْجهد وَأما الرؤوس المقطوعة وأسارى الفرنج الَّذين أَيْديهم إِلَى أَعْنَاقهم مَجْمُوعَة فَإِن الفضاء الفضي تعصفر من دِمَائِهِمْ وَتذهب وَجرى مِنْهَا مَا بِهِ اضطرم وَقد الْجَحِيم وتلهب وَفِي الْحَال أمرنَا بالنَّار أَن تشتغل بهَا وتشتعل وبالهدم أَن ينْقل عَنْهَا معاوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وينتقل {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ} أَو تنظر إِلَّا طلولا على عروشها خاوية وعراصا من سكانها خَالِيَة قد بقيت عِبْرَة للعابر وذكرى للذاكر وموعظة سارة للْمُسلمِ مرغمة للْكَافِرِ ثمَّ عدنا بَقِيَّة يَوْم السبت إِلَى الْملك خذله الله تَعَالَى راجين أَن يحملهُ الثكل على الْإِقْدَام ويخرجه حر النَّار إِلَى مقَام الانتقام فَإِذا شَيْطَانه قد نصحه وَقتل أَصْحَابه قد جرحه فبِتْنا عَلَيْهِ والألسنة بقراره تعيره واستتاره يقرعه ويقَرِّره واصبحنا يَوْم الْأَحَد ثَانِي شهر ربيع الآخر وَالْكَسْب قد أثقل الْمُقَاتلَة وَنصر الله قد بلغ الْغَايَة المستأصلة ورحلنا والسلامة لصغير عسكرنا وكبيره شَامِلَة والعدو قد غزى فِي عُقره وعُقر وأذل فِي دَار ملكه واحتقر ووصلنا إِلَى مُسْتَقر سلطاننا فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور فَاسْتقْبلنَا من مَوْلَانَا صلوَات الله عَلَيْهِ وتشريفه واستقلال ركابه ومشافهتنا بمقبول دُعَائِهِ الشريف ومحابه مَا عظمت بِهِ النعم وجلّت وزالت بِهِ وعثاء الطَّرِيق وتجلّت وجادتها سَمَاء إنعامه الَّتِي لم تزل تجودنا واستهلت قلت وَمن قصيدة لعمارة فِي مدح صَلَاح الدّين أَولهَا (فؤاد بِنَار الشوق والوجد محرق ... ) يَقُول فِيهَا (لَعَلَّ بني أَيُّوب إِن علمُوا بِمَا ... تظلمت مِنْهُ أَن يرقوا ويشفقوا) (غزوا عُقر دَار الْمُشْركين بغزةٍ ... جهاراً وطرف الشّرك خزيان مطرق) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 (وزاروا مصلّى عسقلان بأرعن ... يفِيض إِنَاء الْبر مِنْهُ ويفهق) (وَكَانَت على مَا شَاهد النَّاس قبلكُمْ ... طرائق من شوك القنا لَيْسَ تُطرق) (وَمَا عصمتهم مِنْك إِلَّا معاقل ... تأنوا على تحصينها وتأنقوا) (جلبت لَهُم من سُورَة الْحَرْب مَا التقى ... بوادره سور عَلَيْهِم وَخَنْدَق) (وأخربت من أَعْمَالهم كل عَامر ... يمر بِهِ طيف الخيال فَيُفَرق) (أضفت إِلَى أجر الْجِهَاد زِيَارَة الْخَلِيل ... فأبشر أَنْت غازٍ مُوفق) (وهيجت للبيت المقدّس لوعة ... يطول بهَا مِنْهُ إِلَيْك التشوق) (تَنْشَق من ملقاك أعطر نفحة ... تطيب على قلب الْهدى حِين تَنْشَق) (وغزوك هَذَا سُلم نَحْو فَتحه ... قَرِيبا وَإِلَّا رائد ومطرق) (هُوَ الْبَيْت إِن تفتحه وَالله فَاعل ... فَمَا بعده بَاب من الشَّام مغلق) ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة واستفتحها صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بِإِقَامَة الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة الأولى مِنْهَا بِمصْر لبني الْعَبَّاس وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة خطب لَهُم بِالْقَاهِرَةِ وَانْقطع ذكر خلفاء مصر مِنْهَا وَتُوفِّي العاضد يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة بانتهاء مَا دَامَ لَهَا من الْعَصْر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَذكر الْعِمَاد أَيْضا فِي أَخْبَار سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين كَمَا سَيَأْتِي أنّ الَّذِي خطب بِمصْر لبني الْعَبَّاس أَولا هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المحسن بن الْحُسَيْن بن أبي المضاء البعلبكي وَذكر ذَلِك أَيْضا ابْن الدبيثي فِي تَارِيخه وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي الْفَاضِل فِي كتاب لَهُ إِلَى وَزِير بَغْدَاد سَيَأْتِي ذكره وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لما ثبتَتْ قدمه فِي مصر وَزَالَ المخالفون لَهُ وَضعف أَمر العاضد وَهُوَ الْخَلِيفَة بهَا وَلم يبْق من العساكر المصرية أحد كتب إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود يَأْمُرهُ بِقطع الْخطْبَة العاضدية وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية فَاعْتَذر صَلَاح الدّين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الْإِجَابَة إِلَى ذَلِك لميلهم إِلَى العلويين فَلم يصغ نور الدّين إِلَى قَوْله وَأرْسل إِلَيْهِ يلْزمه بذلك إلزاما لَا فسحة لَهُ فِيهِ وَاتفقَ أَن العاضد مرض وَكَانَ صَلَاح الدّين قد عزم على قطع الْخطْبَة لَهُ فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاء كَيفَ يكون الِابْتِدَاء بِالْخطْبَةِ العباسية فَمنهمْ من أقدم على المساعدة وَأَشَارَ بهَا وَمِنْهُم من خَافَ ذَلِك إِلَّا أَنه لم يُمكنهُ إِلَّا امْتِثَال أَمر نور الدّين وَكَانَ قد دخل إِلَى مصر إِنْسَان أعجمي يعرف بالأمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الْعَالم وَقد رَأَيْنَاهُ بالموصل كثيرا فَلَمَّا رأى مَا هم فِيهِ من الإحجام قَالَ أَنا ابتدىء بهَا فَلَمَّا كَانَ أول جُمُعَة من الْمحرم صعد الْمِنْبَر قبل الْخَطِيب ودعا للمستضيء بِأَمْر الله فَلم يُنكر أحد ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَة الثَّانِيَة أَمر صَلَاح الدّين الخطباء بِمصْر والقاهرة بِقطع خطْبَة العاضد وَإِقَامَة الْخطْبَة للمستضيء بِأَمْر الله فَفَعَلُوا ذَلِك وَلم ينتطح فِيهَا عنزان وَكتب بذلك إِلَى سَائِر الديار المصرية وَكَانَ العاضد قد اشْتَدَّ مَرضه فَلم يُعلمهُ أَهله وَأَصْحَابه بذلك وَقَالُوا إِن سلم فَهُوَ يعلم وَإِن توفّي فَلَا يَنْبَغِي أَن ننغص عَلَيْهِ هَذِه الْأَيَّام الَّتِي قد بقيت من أَجله فَتوفي يَوْم عَاشُورَاء وَلم يعلم قَالَ وَلما توفّي جلس صَلَاح الدّين للعزاء وَاسْتولى على قصره وعَلى جَمِيع مَا فِيهِ وَكَانَ قد رتب فِيهِ قبل وَفَاة العاضد بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ خصيُّ لحفظه وَجعله كأستاذ دَار العاضد فحفظ مَا فِيهِ حَتَّى تسلمه صَلَاح الدّين وَنقل أهل العاضد إِلَى مَكَان مُنْفَرد ووكل بحفظهم وَجعل أَوْلَاده وعمومته وأبناءهم فِي الإيوان فِي الْقصر وَجعل عِنْدهم من يحفظهم وَأخرج من كَانَ بِالْقصرِ من العبيد وَالْإِمَاء فَأعتق الْبَعْض ووهب الْبَعْض وَبَاعَ الْبَعْض وأخلى الْقصر من أَهله وسكانه فسبحان من لايزول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ملكه وَلَا يُغَيِّرهُ ممر الْأَيَّام وتعاقب الدهور قَالَ وَلما أَشْتَدّ مرض العاضد أرسل يَسْتَدْعِي صَلَاح الدّين فَظن أَن ذَلِك خديعة فَلم يمض إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي علم صدقه فندم على تخلفه عَنهُ قلت أَخْبرنِي الْأَمِير أَبُو الْفتُوح بن العاضد وَقد اجْتمعت بِهِ وَهُوَ مَحْبُوس مُقَيّد سنة ثَمَان وَعشْرين وست مئة بقلعة الْجَبَل بِمصْر أَن أَبَاهُ فِي مَرضه استدعى صَلَاح الدّين فَحَضَرَ قَالَ وأحضرنا يَعْنِي أَوْلَاده وهم جمَاعَة صغَار فَأَوْصَاهُ بِنَا فالتزم إكرامنا واحترامنا رَحمَه الله وَأما ندمُ صَلَاح الدّين فبلغني أَنه كَانَ على استعجاله بِقطع خطبَته وَهُوَ مَرِيض وَقَالَ لَو علمت أَنه يَمُوت من هَذَا الْمَرَض مَا قطعتها إِلَى أَن يَمُوت قَالَ الْعِمَاد وَجلسَ السُّلْطَان للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وَبلغ الْغَايَة فِي إِجْمَال أمره والتوديع لَهُ إِلَى قَبره ثمَّ تسلم الْقصر بِمَا فِيهِ من خزائنه ودفائنه وَكَانَ مذ نَافق مؤتمن الْخلَافَة وَقتل صُرف مَنْ هُوَ زِمَام الْقصر وعُزل ووكل بهاء الدّين قراقوش بِالْقصرِ وَجعله زمامه واستنابه مقَام نَفسه وأقامه فَمَا دخل إِلَى الْقصر شَيْء وَلَا خرج إِلَّا بمرأى مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ومسمع وَلَا حصل أهل الْقصر بعد ذَلِك على صفو مشرع فَلَمَّا توفّي العاضد بطلت تِلْكَ الْقَوَاعِد ووهت المقاعد وَأمر السُّلْطَان بِالِاحْتِيَاطِ على أَهله وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر مَا يكون لَهُم برسم الكسوات والأقوات والأزواد قلت أَخْبرنِي أَبُو الْفتُوح أَنه جعلهم فِي دَار برجوان فِي الحارة المنسوبة إِلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وَهِي دَار كَبِيرَة وَاسِعَة كَانَ عيشهم فِيهَا طيبا ثمَّ نقلوا بعد الدولة الصلاحية مِنْهَا وأبعدوا عَنْهَا قَالَ الْعِمَاد وهم إِلَى الْيَوْم فِي حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره يكلؤهم ويحرسهم بِعَين حزمه فِي ليله ونهاره وَجمع البَاقِينَ من عمومتهم وعترتهم من الْقصر فِي إيوَان وَاحْترز عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْمَكَان بِكُل إِمْكَان وَأبْعد عَنْهُم النِّسَاء لِئَلَّا يتناسلوا فيكثروا وهم إِلَى الْآن محصورون محسورون لم يظهروا وَقد نقص عَددهمْ وقلص مددهم ثمَّ عرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد والعدّة والعديد والطريف والتليد فَوجدَ أكثرهن حرائر فأطلقهن وَجمع الْبَاقِيَات فوهبهن وفرقهن وأخلى دوره وأغلق قصوره وسلّط جوده على الْمَوْجُود وأبطل الْوَزْن وَالْعد عَن الْمَوْزُون والمعدود وَأخذ كل مَا صلح لَهُ ولأهله ولأمرائه وخواص مماليكه وأوليائه من أخاير الذَّخَائِر وزواهر الْجَوَاهِر ونفائس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدّرة الْيَتِيمَة والياقوتة الْعَالِيَة الغالية الْقيمَة والمصوغات التبريّة والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعوذ والتمائم والعقود والنقود والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش وَمَا لايعد إحصاء وَلَا يحد استقصاء فَوَقع فِيهَا الفناء وكشف عَنْهَا الغطاء وأسرف فِيهَا الْعَطاء وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغال وكل مَنْقُول ومحمول ومصنوع ومعمول وَاسْتمرّ البيع فِيهَا مُدَّة عشر سِنِين وتنقلت إِلَى الْبِلَاد بأيدي الْمُسَافِرين الواردين والصادرين ونقلت من ديوَان الْعِمَاد بِخَطِّهِ قَالَ وَلما وصل الْخَبَر بِمَوْت العاضد الَّذِي كَانَ بِمصْر فِي الْقصر موسوماً بِالْأَمر فِي لَيْلَة عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ بعد الْخطْبَة بهَا للمستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عملت هَذِه الأبيات فَذكر قصيدة مِنْهَا (توفّي العاضد الدّعي فَمَا ... يفتح ذُو بدعةٍ بِمصْر فَمَا) (وعصر فرعونها انْقَضى وَغدا ... يوسُفها فِي الْأُمُور محتكما) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 (وانطفأت جَمْرَة الغواة وَقد ... باخ من الشّرك كل مَا اضطرما) (وَصَارَ شَمل الصّلاح ملتئما ... بهَا وَعقد السداد منتظما) (لما غَدا مُعْلنا شعار بني الْعَبَّاس ... حَقًا وَالْبَاطِل اكتتما) (وَبَات دَاعِي التَّوْحِيد منتصرا ... وَمن دُعاة الْإِشْرَاك منتقما) (وظلّ أهل الضلال فِي ظلل ... داجية من غيابة وعمى) (وارتبك الجاهلون فِي ظلم ... لما أَضَاءَت مَنَابِر العُلما) (وَعَاد بالمستضيء ممتهدا ... بناءُ حق قد كَانَ منهدما) (واعتلت الدولة الَّتِي اضطهدت ... وانتصر الدّين بَعْدَمَا اهتضما) (واهتز عطف الْإِسْلَام من جذل ... وافتر ثغر الْإِيمَان وابتسما) (واستبشرت أوجه الْهدى فَرحا ... فليقرع الكُفر سِنّهُ ندما) (عَاد حَرِيم الْأَعْدَاء منهتك الْحمى ... وفيء الطغاة مقتسما) (قُصُور أهل الْقُصُور أخربها ... عَامر بَيت من الْكَمَال سما) (أزعج بعد السّكُون ساكنها ... وَمَات ذلا وَأَنْفه رُغما) وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِلَى وَزِير بَغْدَاد على يَد الْخَطِيب شمس الدّين بن أبي المضاء فِي بعض السنين كتب الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من مستقره وَدين الْوَلَاء مَشْرُوع وَعلم الْجِهَاد مَرْفُوع وسؤدد السوَاد متبوع وَحكم السداد بَين الْأمة مَوْضُوع وَسبب الْفساد مَقْطُوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 مَمْنُوع وَقد توالت الْفتُوح غرباً ويمناً وشآما وَصَارَت الْبِلَاد بل الدُّنْيَا والشهر بل الدَّهْر حرما حَرَامًا وأضحى الدّين وَاحِدًا بَعْدَمَا كَانَ أديانا والخلافة إِذا ذكر بهَا أهل الْخلاف لم يخروا عَلَيْهَا صُمَّاً وعُميانا والبدعة خاشعة وَالْجُمُعَة جَامِعَة والمذلة فِي شيع الضلال شائعة ذَلِك بِأَنَّهُم أتخذوا عباد الله من دونه أَوْلِيَاء وَسموا أَعدَاء الله أصفياء وتقطعوا أَمرهم بَينهم شيعًا وَفرقُوا أَمر الْأمة وَكَانَ مجتمعا وكذبوا بالنَّار فعجلت لَهُم نَار الحتوف وَنَثَرت أَقْلَام الظبى حُرُوف رؤوسهم نثر الأقلام للحروف ومزقوا كل ممزق وَأخذ مِنْهُم كل مخنق وَقطع دابرهم وَوعظ آتيهم غابرهم ورغمت أنوفهم ومنابرهم وحقت عَلَيْهِم الْكَلِمَة تشريدا وقتلا وتمَّت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً وَلَيْسَ السَّيْف عَمَّن سواهُم من كفار الفرنج بصائم وَلَا اللَّيْل عَن سير إِلَيْهِم بنائم وَلَا خَفَاء عَن الْمجْلس الصاحبي أَن من شدّ عقد خلَافَة وحلّ عقد خلاف وَقَامَ بدولة وَقعد بِأُخْرَى قد عجز عَنْهَا الأخلاف والأسلاف فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى أَن يُشكر مَا نصح ويُقلَّد مَا فتح ويبَّلغ مَا أقترح وَيقدم حَقه وَلَا يطرَّح وَيقرب مَكَانَهُ وَإِن نزح وتأتيه التشريفات الشَّرِيفَة وتتواصل إِلَيْهِ أَمْدَاد التقويات الجليلة اللطيفة وتُلَّبى دَعوته بِمَا أَقَامَ من دَعْوَة وتوصل غزوته بِمَا وصل من غَزْوَة وترفع دونه الْحجب المعترضة وَترسل إِلَيْهِ السحب المروضة فَكل ذَلِك تعود عوائده وتبدو فَوَائده بالدولة الَّتِي كشف وَجهه لنصرها وجرد سَيْفه لرفع منارها وَالْقِيَام بأمرها وَقد أَتَى الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَطلب النجعة من سحابها ووعد آماله الواثقة بِجَوَاب كتابها وأنهض لإيصال ملطفاته وتنجز تشريفاته خطيب الخطباء بِمصْر وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لصعود دَرَجَة الْمِنْبَر وَقَامَ بِالْأَمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قيام من برّ واستفتح بلباس السوَاد الْأَعْظَم الَّذِي جمع الله عَلَيْهِ السوَاد الْأَعْظَم أملا أَنه يعود إِلَيْهِ بِمَا يطوي الرَّجَاء فضل عقبه ويخلد الشّرف فِي عقبه ولصاحبنا مجد الدّين مُحَمَّد بن الظهير الإربلي من قصيدة فِي مدح بعض ذُرِّيَّة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى (مليك من الْقَوْم الَّذين رماحهم ... دعائم هَذَا الدّين فِي كل مشْهد) (هم نصروا التَّوْحِيد نصرا مؤزرا ... بِهِ عزّ فِي الْآفَاق كلّ موحد) (وهم قهروا غُلب الفرنج ببأسهم ... فدانوا لَهُم بالرغم لَا عَن تودد) (وردوا إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس نُوره ... وَقد كَانَ فِي ليل من الشّرك أسود) (وهم سهلوا سبل الحجيج وآمنوا ... بهَا الركب خوف الْكَافِر المتشدد) (وَقد ركبت فرسانه بَحر أَيْلَة ... يَخُوضُونَ فِي بَحر من الكيد مُزبد) (وهم رجعُوا مصرا إِلَى دَعْوَة الْهدى ... بعزمٍ وَرَأى فِي العظائم محصد) (وهم شيّدوا ركن الْخلَافَة بالذّي ... أعادوه من حقّ طريفٍ ومتلد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 (وهم شرفوا قدر المنابر باسمها ... وَذكر مَنُوط بالرسول ممجد) (وهم وهبوا غر الممالك واكتفوا ... بسُمر العوالي والْعَلَاء المشيد) (فَسَل عَن ظباهم يَوْم حطين كم قَضَت ... بمرّ مُرَاد الله فِي كل أّصيد) (وَضّعَّفْ حَدِيث الْعدْل والبأس والندى ... إِذا كَانَ عنْ أيامهم غَير مُسند) وَقَالَ ابْن أبي طيّ الْحلَبِي قد قدمنَا ذكر مُكَاتبَة نور الدّين رَحمَه الله وإلحاحه على صَلَاح الدّين فِي إِقَامَة الْخطْبَة بِمصْر للعباسيين وَأَنه أنفذ إِلَيْهِ أَبَاهُ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب لأجل ذَلِك لما كتب الْخَلِيفَة المستنجد إِلَى نور الدّين فِي ذَلِك وَلما ولي ابْنه المستضيء أقبل أَيْضا على مُكَاتبَة نور الدّين فِيهِ وألح نور الدّين على صَلَاح الدّين فِي طلبه وأفضى بِهِ الْأَمر إِلَى أَنه اتهمَ صَلَاح الدّين وشنع عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَأكْثر القَوْل فِي ذَلِك وَلما قدم الْأَمِير نجم الدّين حداه على فعل ذَلِك فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَن أَحْوَاله لم تَسْتَقِر بعد وأموره مضطربة وأعداؤه كَثِيرُونَ وَأَن المصريين لَهُم جمَاعَة كَبِيرَة مُتَفَرِّقَة فِي بِلَاد مصر من السودَان وَغَيرهم وَأَن هَذَا الْأَمر وَإِن لم يُؤْخَذ على التدريج وإلاَّ فَسدتْ أَحْوَاله فَلَمَّا أوقع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بالسودان والأرمن ونكب أُمَرَاء المصريين وَقطع أخبارهم وَنزل أجناده فِي دُورهمْ ثمَّ قطع إقطاع العاضد وَقبض جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ من الْبِلَاد وَاسْتولى على الْقُصُور ووكل بهَا وبمن فِيهَا قراقوش الْخَادِم وخلت لَهُ بِلَاد مصر من معاند ومنابذ ثمَّ شرع وأبطل من الْأَذَان حيّ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 خير الْعَمَل وَأنكر على من يتسم بمذهبهم الانتساب إِلَيْهِم فَلَمَّا رأى أُمُوره مواتية وأعداؤه قَلِيلُونَ شرع حِينَئِذٍ فِي الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَلما عول على ذَلِك أَمر وَالِده الْأَمِير نجم الدّين بالنزول إِلَى الْجَامِع فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وأمراء دولته وَذَلِكَ فِي أول جُمُعَة من السّنة وَأمره أَن يحضر الْخَطِيب إِلَيْهِ ويأمره بِمَا يختاره وَإِنَّمَا فعل الْملك النَّاصِر ذَلِك ووكل الْأَمر إِلَى غَيره استظهارا وخوفا من فادحة رُبمَا طرأت أَو عَدو رُبمَا ثار فَيكون هُوَ معتذرا من ذَلِك وَلما حصل نجم الدّين بالجامع أحضر الْخَطِيب وَقَالَ لَهُ إِن ذكرت هَذَا الْمُقِيم بِالْقصرِ ضربت عُنُقك فَقَالَ فَلِمَنْ أَخطب قَالَ للمستضيء العباسي فَلَمَّا صعد الْمِنْبَر وخطب وَوصل إِلَى ذكر العاضد لم يذكر أحدا لكنه دَعَا للأئمة المهديين وللسلطان الْملك النَّاصِر وَنزل فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ مَا علمت اسْم المستضيء وَلَا نعوته وَلَا تقرر معي فِي ذَلِك شَيْء قبل الْجُمُعَة وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة أفعل إِن شَاءَ الله مَا يجب فعله فِي تَحْرِير الِاسْم والألقاب على جاري الْعَادة فِي مثل ذَلِك قَالَ وَقيل إِن العاضد لما اتَّصل بِهِ مَا فُعل من قطع اسْمه من الْخطْبَة قَالَ لمن خُطب قيل لَهُ لم يخْطب لأحد مُسَمّى قَالَ فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى يخطبون لرجل مُسَمّى وَاتفقَ أَنه مَاتَ قبل الْجُمُعَة الثَّانِيَة قيل إِنَّه أفكر وَاسْتولى عَلَيْهِ الْفِكر والهم حَتَّى مَاتَ وَقيل إِنَّه لما سمع أَنه قطعت خطبَته اهتم وَقَامَ ليدْخل إِلَى دَاره فعثر وَسقط فَأَقَامَ متعللاَ خَمْسَة أَيَّام وَمَات وَقيل إِنَّه امتص فص خَاتمه وَكَانَ تَحْتَهُ سم فَمَاتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وَلما أتصل مَوته بِالْملكِ النَّاصِر قَالَ لَو علمنَا أَنه يَمُوت فِي هَذِه الْجُمُعَة مَا غصصناه بِرَفْع اسْمه من الْخطْبَة فحُكي أَن القَاضِي الْفَاضِل قَالَ للسُّلْطَان لَو علم أَنكُمْ مَا ترفعون اسْمه من الْخطْبَة لم يمت أَشَارَ إِلَى أَن العاضد قتل نَفسه وَكَانَ مَوته يَوْم عَاشُورَاء قَالَ وَحكى ابْن المارستانية فِي سيرة ابْن هُبَيْرَة الْوَزير قَالَ إِنَّه من عَجِيب مَا جرى فِي أَمر المصريين أَنه رأى إِنْسَان من أهل بَغْدَاد فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة كَأَن قمرين أَحدهمَا أنور من الآخر والأنور مِنْهُمَا مُسامت للْقبْلَة وَله لحية سَوْدَاء فِيهَا طول ويهب أدنى نسيم فيحركها وَأثر حركتها وظلها فِي الأَرْض وَكَانَ الرجل يتعجب من ذَلِك وَكَأَنَّهُ سمع أصوات جمَاعَة يقرؤون بألحان وأصوات لم يسمع قطّ مثلهَا وَكَأَنَّهُ سَأَلَ بعض من حضر فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا قد استبدل النَّاس بإمامهم قَالَ وَكَانَ الرجل قد اسْتقْبل الْقبْلَة وَهُوَ يَدْعُو الله أَن يَجعله إِمَامًا برَّا تقياً واستيقظ الرجل وَبلغ هَذَا الْمَنَام ابْن هُبَيْرَة الْوَزير إِذْ ذَاك بِبَغْدَاد فَعبر الْمَنَام بِأَن الإِمَام الَّذِي بِمصْر يسْتَبْدل بِهِ وَتَكون الدعْوَة لبني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الْعَبَّاس لمَكَان اللِّحْيَة السَّوْدَاء وقوى هَذَا عِنْده حَتَّى كَاتب نور الدّين حِين دخل أَسد الدّين إِلَى مصر فِي أول مرّة بِأَنَّهُ يظفر بِمصْر وَتَكون الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس بهَا على يَده وقيلت فِي ذَلِك الزَّمَان أشعار فِي هَذَا مِنْهَا قصيدة شمس الْمَعَالِي أبي الْفَضَائِل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن ترْكَان وَكَانَ صَاحب ابْن هُبَيْرَة قَالَهَا حِين سمع تَأْوِيله الْمَنَام (لتهنك يَا مولى الْأَنَام بِشَارَة ... بهَا سيف دين الله بِالْحَقِّ مرهف) (ضربت بهَا هام الأعادي بهمة ... تقاصر عَنْهَا السمهري المثقف) (بعثت إِلَى شَرق الْبِلَاد وغربها ... بعوثا من الآراء تحيي وتتلف) (فَقَامَتْ مقَام السَّيْف وَالسيف قاطر ... ونابت مناب الرمْح وَالرمْح يرعف) (وقدت لَهَا جَيْشًا من الروع هائلا ... إِلَى كل قلب من عداتك يزحف) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 (ملكت بِهِ أقْصَى المغارب عنْوَة ... وكادت بِمن فِيهَا الْمَشَارِق ترجف) (لِيَهنك يَا مولَايَ تَتَابَعَت ... إِلَيْك بِهِ خوص الركائب توجف) (أخذت بِهِ مصرا وَقد حَال دونهَا ... من الشّرك بَأْس فِي لهى الْحق يقذف) (وَقد دنست مِنْهَا المنابر عصبَة ... يعاف التقي وَالدّين مِنْهُم ويأنف) (فطهرّها من كل شرك وبدعة ... أغر غرير بالمكارم يشغف) (فَعَادَت بِحَمْد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل الْبِلَاد وتشرف) (وَلَا غرو أَن دَانَتْ ليوسف مصره ... وَكَانَت إِلَى عليائه تتشوف) (تَملكهَا من قَبْضَة الْكفْر يُوسُف ... وخلصها من عصبَة الرَّفْض يُوسُف) قَالَ يحيى بن أبي طيّ يُرِيد بِيُوسُف الأول يُوسُف الصّديق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبيوسف الثَّانِي المستنجد بِاللَّه الْخَلِيفَة يَوْمئِذٍ وَقَالَهُ على سَبِيل الفأل أَلا ترَاهُ قَالَ بعد هَذَا الْبَيْت (فشابهته خلقا وخلقا وعفة ... وكل عَن الرَّحْمَن فِي الأَرْض يخلف) وَجرى الفأل فِي الْبَيْت باسم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لِأَن المستنجد مَاتَ قبل تَغْيِير الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَهَذَا من عَجِيب الِاتِّفَاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 قلت وَذكر ابْن المارستانية فِي السِّيرَة الْمَذْكُورَة قَالَ وَكَانَ هَذَا الْمَنَام سَببا إِلَى أَن كَاتب الْوَزير ابْن هُبَيْرَة نور الدّين بن زنكي يحثه على التَّعَرُّض لمصر والبعث إِلَيْهَا وَاتفقَ فِي اثناء ذَلِك نوبَة شاور وَزِير صَاحب الْقصر وقدومه هَارِبا مِنْهُ إِلَى نور الدّين فحرك ذَلِك مَا كَانَ تخمر فِي نَفسه مِمَّا كَانَ كَاتبه بِهِ ابْن هُبَيْرَة فاستطلع من شاور الْأَسْبَاب الَّتِي يُمكن بهَا الدُّخُول على المصريين فشرحها وأوضحها فسير إِلَيْهَا أَسد الدّين كَمَا سبق ذكره قَالَ وَلما قطعت خطْبَة العاضد استطال أهل السّنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم وصاروا لَا يقدرُونَ على الظُّهُور من دروهم وَإِذا وجد أحد من الأتراك مصريا أَخذ ثِيَابه وعظمت الأذية بذلك وجلا أَكثر أهل مصر عَنْهَا إِلَى الْبِلَاد وَفَرح النَّاس بذلك وكتبت الْكتب بِهِ إِلَى الأقطار وتحدث بِهِ السُّمار وَلما وصل خبر ذَلِك إِلَى نور الدّين ندب للبشارة بِهِ إِلَى بَغْدَاد شهَاب الدّين أَبَا الْمَعَالِي المطّهر بن أبي عصرون وَكتب مَعَه نُسْخَة بِشَارَة تقْرَأ بِكُل مَدِينَة يمر بهَا يَقُول فِيهَا اصدرنا هَذِه الْمُكَاتبَة إِلَى جَمِيع الْبِلَاد الإسلامية عَامَّة بِمَا فتح الله على أَيْدِينَا رتاجه وأوضح لنا منهاجه وَهُوَ مَا اعتمدناه من إِقَامَة الدعْوَة الهادية العباسية بِجَمِيعِ المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية والإسكندرية ومصر والقاهرة وَسَائِر الْأَطْرَاف الدانية والقاصية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 والبادية والحاضرة وانتهت إِلَى الْقَرِيب والبعيد وَإِلَى قوص وأسوان بأقصى الصَّعِيد وَهَذَا شرف لزماننا هَذَا وَأَهله يفتخر بِهِ على الْأَزْمِنَة الَّتِي مَضَت من قبله وَمَا بَرحت هممنا إِلَى مصر مصروفة وعَلى افتتاحها مَوْقُوفَة وعزائمنا فِي إِقَامَة الدعْوَة الهادية بهَا مَاضِيَة والأقدار فِي الْأَزَل بِقَضَاء آرابنا ونجاز مواعدنا قاضية حَتَّى ظفرنا بهَا بعد يأس الْمُلُوك مِنْهَا وقدرنا عَلَيْهَا وَقد عجزوا عَنْهَا وطالما مرت عَلَيْهَا الحقب الخوالي وآبت دونهَا الْأَيَّام والليالي وَبقيت مئتين وَثَمَانِينَ سنة ممنوَّة بدعوة المبطلين مملوَّة بحزب الشَّيَاطِين سابغة ظلالها للضلال مقفرة الْمحل إِلَّا من الْمحَال مفتقرة إِلَى نصْرَة من الله تَملكهَا ونظرة ستدركها رَافِعَة يَدهَا فِي إشكائها متظلمة إِلَيْهِ ليكفل بإعدائها على أعدائها حَتَّى أذن الله لغُمتها بالانفراج ولعلتها بالعلاج وسبَّب قصد الفرنج لَهَا وتوجههم إِلَيْهَا طَمَعا فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَاجْتمعَ داءان الْكفْر والبدعة وَكِلَاهُمَا شَدِيد الروعة فملكنا الله تِلْكَ الْبِلَاد ومكنّ لنا فِي الأَرْض وأقدرنا على مَا كُنَّا نؤمله فِي إِزَالَة الالحاد والرفض من إِقَامَة الْفَرْض وتقدمنا إِلَى من استنَبنْاه أَن يستفتح بَاب السَّعَادَة ويستنجح مَا لنا من الْإِرَادَة وَيُقِيم الدعْوَة الهادية العباسية هُنَالك ويورد الأدعياء ودعاة الْإِلْحَاد بهَا المهالك وَهُوَ كتاب طَوِيل اخْتَرْت مِنْهُ الْغَرَض وَهُوَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 قَالَ وَسَار شهَاب الدّين بن أبي عصرون إِلَى جِهَة بَغْدَاد وَلم يتْرك مَدِينَة إِلَّا دَخلهَا بِهَذِهِ الْبشَارَة الجليلة الْقدر وَقَرَأَ فِيهَا هَذَا المنشور الْعَظِيم الْخطر وَالذكر حَتَّى وصل إِلَى بَغْدَاد فَخرج الموكب إِلَى تلقيه وَجَمِيع أهل بَغْدَاد مكرمين لخطير وُرُوده معظمين لجليل موروده وَنَثَرت عَلَيْهِ دَنَانِير الإنعام وحُبى بِكُل إِحْسَان وإكرام وَأرْسلت التشريفات إِلَى نور الدّين وَصَلَاح الدّين كَمَا سَيَأْتِي ذكره وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ صَلَاح الدّين لَا يخرج عَن أَمر نور الدّين وَيعْمل لَهُ عمل القوى الْأمين وَيرجع فِي جَمِيع مَصَالِحه إِلَى رَأْيه المتين وَقد كَانَ كَاتبه نور الدّين فِي شَوَّال سنة سِتّ وَسِتِّينَ بتغيير الْخطْبَة وتذليل أمورها الصعبة وافتراع بكر هَذِه الْقَضِيَّة وَفرع الرُّتْبَة وأيقن أَن أمره متبوع وَقَوله مسموع وَحكمه مَشْرُوع ونطقت بذلك قبل التَّمام ألسُن الْخَواص والعوام فسيَّر نور الدّين شهَاب الدّين بن أَبَا الْمَعَالِي المطهر بن الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون بِهَذِهِ الْبشَارَة وإشاعة مَا تقدم لَهُ بهَا من الإشاعة وَأَمرَنِي بإنشاء بِشَارَة عَامَّة تقْرَأ فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام وَبشَارَة خَاصَّة للديوان الْعَزِيز بِحَضْرَة الإِمَام فِي مَدِينَة السَّلَام ثمَّ ذكر نُسْخَة الْكِتَابَيْنِ ثمَّ قَالَ ونظمت قصيدة مُشْتَمِلَة على الْخطْبَة بِمصْر أَولهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 (قد خَطَبنَا للمستضيء بِمصْر ... نَائِب الْمُصْطَفى إِمَام الْعَصْر) (وخذلنا لنصرة الْعَضُد العاضد ... والقاصر الَّذِي بِالْقصرِ) أَرَادَ بالعضد وَزِير بَغْدَاد عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الخريدة قصدت بالعضد والعاضد المجانسة ونصرة وزيرالخليفة كنصرته ثمَّ قَالَ (وأشعْنا بهَا شعار بني الْعَبَّاس ... فاستبشرت وُجُوه النَّصْر) (وَتَركنَا الدَّعي يَدْعُو ثبورا ... وَهُوَ بالذل تَحت حجر وَحصر) (وتباهت مَنَابِر الدّين بِالْخطْبَةِ ... للهاشمي فِي أَرض مصر) (ولدينا تضاعفت نعم الله ... وجلّت عَن كل عدّ وَحصر) (فاغتدى الدّين ثَابت الرُّكْن فِي مصر ... محوط الْحمى مصون الثغر) (واستنارت عزائم الْملك الْعَادِل ... نور الدّين الْكَرِيم الْأَغَر) (وَبَنُو الْأَصْفَر القوامص مِنْهُ ... بِوُجُوه من المخافة صُفر) (عرف الحقَّ أهل مصر وَكَانُوا ... قبله بَين مُنكر ومقر) (قل لداعي الدعي حَسبك فَالله ... أقرّ الْحُقُوق خير مقرّ) (هُوَ فتح بكر وَدون البرايا ... خصنا الله بافتراع الْبكر) (وحصلنا بِالْحَمْد وَالْأَجْر والنصر ... وَطيب الثنا وَحسن الذّكر) (ونشرنا أعلامنا السود قهرا ... للعدى الرزق بالمنايا الْحمر) (واستعدنا من أدعياء حقوقا ... تدعيّ بَينهم لزيد وَعَمْرو) (وَالَّذِي يَدعِي الْإِمَامَة بِالْقَاهِرَةِ ... انحط فِي حضيض الْقَهْر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 (خانه الدَّهْر فِي مَنَاة ولايطمع ... ذُو اللب فِي وَفَاء الدَّهْر) (مَا يُقَام الإِمَام إِلَّا بِحَق ... مَا تحاز الْحَسْنَاء إِلَّا بِمهْر) (خلفاء الْهدى سراة بني الْعَبَّاس ... والطيبون أهل الطُّهْر) (بهمُ الدّين ظافر مُسْتَقِيم ... ظَاهر قُوَّة قوى الظّهْر) (كشموس الضُّحَى كَمثل بدور التم ... كالسحب كَالنُّجُومِ الزهر) (قد بلغنَا بِالصبرِ كل مُرَاد ... وبلوغ المُرَاد عُقبى الصَّبْر) (لَيْسَ مُثرى الرِّجَال من ملك المَال ... ولكنما أَخُو اللب مثرى) (وَلِهَذَا لم ينْتَفع صَاحب الْقصر ... وَقد شَارف الدُّثُور بدثر) (دَامَ نصر الْهدى بِملك بني الْعَبَّاس ... حَتَّى يقوم يَوْم الْحَشْر) قَالَ الْعِمَاد فِي ديوانه ونقلته من خطه قَالَ وَوصل الْخَبَر بِالْخطْبَةِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة يَوْم الْجُمُعَة سَابِع شهر رَمَضَان وَفِي مصر والقاهرة يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشري شهر رَمَضَان لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وإشاعة شعار بني الْعَبَّاس بهَا فَقلت وَنحن نزُول بجسر الْخشب من دمشق فِي عَاشر شَوَّال وكتبت بهَا إِلَى بَغْدَاد فَذكر هَذِه القصيدة وَقَالَ فِي الْبَرْق وَوصل من دَار الْخلَافَة فِي جَوَاب هَذِه الْبشَارَة عماد الدّين صندل وَهُوَ من أكَابِر الخدم المقتفوية من ذَوي الروية والهمَّة القوية وَتَوَلَّى أستاذية الدَّار العزيزة بعد عزل كَمَال الدّين بن عضد الدّين عَنْهَا فَأكْرم نور الدّين بإرسال مثله إِلَيْهِ وعول فِي هَذَا الْأَمر المهم عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَهُوَ أكْرم رَسُول وصل فأنجح الأمل وَجَاء بالتشريف الشريف لنُور الدّين مكملا مُعظما مُجملا بأهبته السَّوْدَاء العراقية وحلله الموشية وطوقه الثقيل ولوائه الْجَلِيل وَعين يَوْم يحضر فِيهِ الرَّسُول ونصوا على من يحضر فِي مجْلِس نور الدّين وأغفلوا ذكر الْعِمَاد فَطَلَبه نور الدّين لما حَضَرُوا وَقَامَ لقِيَام الرُّسُل لَهُ لما حضر وَقصد أَن يعرفهُمْ مَنْزِلَته عِنْده وناوله الْكتاب ليقرأه قَالَ فتناوله منى الْمُوفق بن القيسراني خَالِد وَكَانَ عِنْده فِي مقَام الْوَزير وَله انبساط زَائِد فداريته وماريته وَتركته يقْرَأ وَأَنا أرد عَلَيْهِ وأرشده فِي التِّلَاوَة إِلَى مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ حَتَّى أنهاه وَأَنا على افتئاته عليّ لَا أنهاه فأعجب نور الدّين صمتي وسمتي وَأحمد مني فضل التأتي واجتاب الأهبة وَلبس الفرجية فَوْقهَا وتقلد مَعَ تقلد السيفين طوقها وَخرج وَركب من دَاخل القلعة وَهُوَ حالٍ بِمَا عَلَيْهِ من الخلعة واللواء منشور والنضار منثور والمركبان الشريفان أَحدهمَا مركوبه وَالْآخر بحليته مجنوبه قَالَ وَسَأَلت عَن معنى تَقْلِيده السيفين واشتماله بالنجادين فَقيل هما للشام ومصر وَالْجمع لَهُ بَين البلادين وَخرج إِلَى ظَاهر دمشق حَتَّى انْتهى إِلَى مُنْتَهى الميدان الْأَخْضَر ثمَّ عَاد شرِيف المفخر جميل المنظر جليل الْمحْضر حميد الْمخبر سعيد المورد والمصدر لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر وَكَانَ وزن الطوق مَعَ أكرته ألف دِينَار من الذَّهَب الْأَحْمَر وحملوا لصلاح الدّين تَشْرِيفًا فَاضلا فائقاً رائعا رائقاً لجماله وكماله لائقاً لَكِن تشريف نور الدّين أميز وَأفضل وأجمل وأكمل فسير تشريفه برمتِهِ إِلَيْهِ بِمصْر ليجتابه وسير أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بخلع من عِنْده يكرم بهَا أَصْحَابه ووصلت تِلْكَ الخلعة إِلَيْهِ ولبسها وَأنس من السَّعَادَة الدائمة قبسها وَطَاف بهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب وَهِي أول أهبة عباسية دخلت الديار المصرية يَعْنِي بعد اسْتِيلَاء بني عبيد عَلَيْهَا قَالَ وَكَانَت وصلت مَعَ الرُّسُل أَعْلَام وبنود ورايات سود وأُهب عباسية للخطباء فِي الديار المصرية فسيُرّت إِلَى صَلَاح الدّين ففرقها على الْمَسَاجِد والجوامع والخطباء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَالْحَمْد لله على مَا أنعم وَأولى ووهب وَأعْطى قَالَ ابْن أبي طيّ وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر الْخطْبَة أَمر بِالْقَبْضِ على الْقُصُور وَجَمِيع مَا فِيهَا من مَال وذخائر وفرش وَسلَاح وَغير ذَلِك فَلم يُوجد من المَال كَبِير أَمر لِأَن شاور كَانَ قد ضيّعه فِي إِعْطَائِهِ الفرنج فِي المرات الَّتِي قدمنَا ذكرهَا وَوجد فِيهَا ذخائر جليلة من ملابس وفرش وخيول وخيام وَكتب وجوهر وَمن عَجِيب مَا وجد فِيهِ قضيب زمرد طوله شبر وكَسْر قِطْعَة وَاحِدَة وَكَانَ سمت حجمه مِقْدَار الْإِبْهَام وَوجد فِيهِ طبل للقولنج وَوجد فِيهِ إبريق عَظِيم من الْحجر الْمَانِع وَوجد فِيهِ سبع مئة يتيمة من الْجَوْهَر فَأَما قضيب الزمرد فَإِن السُّلْطَان أَخذه وأحضر صائغا ليقطعه فَأبى الصَّائِغ قطعه فَرَمَاهُ السُّلْطَان فَانْقَطع ثَلَاث قطع وفرَّقه السُّلطان على نِسَائِهِ وَأما طبل القولنج فَإِنَّهُ وَقع إِلَى بعض الأكراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 فَلم يَدْر مَا هُوَ فَكَسرهُ لِأَنَّهُ ضرب بِهِ فحبق وَأما الأبريق فأنفذه السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد واحتاط السُّلْطَان على أهل العاضد وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر لَهُم مَا يكفيهم وَجعل أَمرهم إِلَى قراقوش الْخَادِم وفرّق بَين النِّسَاء وَالرِّجَال ليَكُون ذَلِك أسْرع إِلَى انقراضهم واستعرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد وَالْعدة والعديد والطريف والتليد فَأطلق مَنْ كَانَ مِنْهُم حرا وَأعْتق من رأى إِعْتَاقه ووهب من أَرَادَ هِبته وَفرق على الْأُمَرَاء وَالْأَصْحَاب من نفائس الْقصر وذخائره شَيْئا كثيرا وَحصل هُوَ على اليتيمات وَقطع البلخش والياقوت وقضيب الزمرد وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق فَأَقَامَ البيع فِي الْقصر مدّة عشر سِنِين قَالَ وَمن جملَة مَا باعوا خزانَة الْكتب وَكَانَت من عجائب الدُّنْيَا وَيُقَال إِنَّه لم يكن فِي جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام دَار كتب أعظم من الدَّار الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ فِي الْقصر وَمن عجائبها أَنه كَانَ بهَا ألف ومئتان وَعِشْرُونَ نُسْخَة بتاريخ الطَّبَرِيّ وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت تحتوى على ألفي ألف وست مئة ألف كتاب وَكَانَ فِيهَا من الخطوط المنسوبة أَشْيَاء كَثِيرَة وَحصل القَاضِي الْفَاضِل نخبها وَذَلِكَ أَنه دخل إِلَيْهَا واعتبرها فكلّ كتاب صلح لَهُ قطع جلده ورماه فِي بركَة كَانَت هُنَاكَ فَلَمَّا فرغ النَّاس من شِرَاء الْكتب اشْترى تِلْكَ الْكتب الَّتِي أَلْقَاهَا فِي الْبركَة على انها مخرومات ثمَّ جمعهَا بعد ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَمِنْهَا حصل مَا حصّل من الْكتب كَذَا أَخْبرنِي جمَاعَة من المصريين مِنْهُم الْأَمِير شمس الْخلَافَة مُوسَى بن مُحَمَّد واقتسم النَّاس بعد ذَلِك دور الْقصر وَأعْطى السُّلْطَان الْقصر الشمالي لِلْأُمَرَاءِ فسكنوه وأسكن أَبَاهُ نجم الدّين فِي اللؤلؤة وَهُوَ قصر عَظِيم على الخليج الَّذِي فِيهِ الْبُسْتَان الكافوري وَنقل الْملك الْعَادِل إِلَى مَكَان آخر مِنْهُ وَأخذ بَاقِي الْأُمَرَاء دور من كَانَ ينتمي إِلَيْهِم وَزَاد الْأَمر حَتَّى صَار كل من اسْتحْسنَ دَارا أخرج مِنْهَا صَاحبهَا وسكنها وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة برمتها وَذَهَبت تِلْكَ الْأَيَّام بجملتها بعد أَن كَانُوا قد احتووا على الْبِلَاد واستخدموا الْعباد مئتين وَثَمَانِينَ سنة كسورا قَالَ وَحكى أَن الشريف الجليس وَهُوَ رجل كَانَ قَرِيبا من العاضد يجلس مَعَه ويحدثه عمل دَعْوَة لشمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان بعد الْقَبْض على الْقُصُور وَأخذ مَا فِيهَا وانقراض دولتهم وَغرم هَذَا الشريف على هَذِه الدعْوَة مَالا كثيرا وأحضرها أَيْضا جمَاعَة من أكَابِر الْأُمَرَاء فَلَمَّا جَلَسُوا على الطَّعَام قَالَ شمس الدولة لهَذَا الشريف حدّثني بِأَعْجَب مَا شاهدته من أَمر الْقَوْم قَالَ نعم طلبني العاضد يَوْمًا ولجماعة من الندماء فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ وجدنَا عِنْده مملوكين من التّرْك عَلَيْهِم أقبية مثل أقبيتكم وقلانس كقلانسكم وَفِي أوساطهم مناطق كمناطقكم فَقُلْنَا لَهُ يَا أَمِير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الْمُؤمنِينَ مَا هَذَا الزي الَّذِي مَا رَأَيْنَاهُ قطّ فَقَالَ هَذِه هَيْئَة الَّذين يملكُونَ دِيَارنَا وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالنَا وذخائرنا قَالَ الْعِمَاد وَأخذت ذخائر الْقصر ففصلها كَمَا سبق ثمَّ قَالَ وَمن جُمْلَتهَا الْكتب فَإِنِّي أخذت مِنْهَا جملَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَكَانَت خزائنها مُشْتَمِلَة على قريب مئة وَعشْرين ألف مجلدة مُؤَبّدَة من الْعَهْد الْقَدِيم مخلدة وفيهَا بالخطوط المنسوبة مَا اختطفته الْأَيْدِي واقتطعه التعديّ وَكَانَت كالميراث مَعَ أُمَنَاء الْأَيْتَام يتَصَرَّف فِيهَا بشره الانتهاب والالتهام ونقلت مِنْهَا ثَمَانِيَة أحمال إِلَى الشَّام وتقاسم الْخَواص بِدُور الْقصر وقُصوره وَشرع كل من سكن فِي تخريب معموره وانتقل إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل سيف الدّين لما نَاب عَن أَخِيه واستمرت سكناهُ فِيهِ وخطب لإمامنا المستضيء فِي قوص وأسوان والصعيد والقاصي والداني والقريب والبعيد وشاعت البشائر وذاعت المفاخر وَسَار بهَا البادي والحاضر وتملك السُّلْطَان أَمْلَاك أشياعهم وَضرب الألواح على دُورهمْ ورباعهم ثمَّ ملكهَا أمراءه وَخص بهَا أولياءه وَبَاعَ مِنْهَا أَمَاكِن ووهب مِنْهَا مسَاكِن وعفّى الْآثَار الْقَدِيمَة واستأنف السّنَن الْكَرِيمَة وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما استولى صَلَاح الدّين على الْقصر وأمواله وذخائره اخْتَار مِنْهُ مَا أَرَادَ ووهب أَهله وأمراءه وَبَاعَ مِنْهُ كثيرا وَكَانَ فِيهِ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الْجَوَاهِر والأعلاق النفيسة مَا لم يكن عِنْد ملك من الْمُلُوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور فَمِنْهُ الْقَضِيب الزمرد طوله نَحْو قَبْضَة وَنصف والجبل الْيَاقُوت وَغَيرهمَا وَمن الْكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نَحْو مئة ألف مُجَلد فصل وَلما خطب بالديار المصرية لبني الْعَبَّاس وَمَات العاضد انقرضت تِلْكَ الدولة وزالت عَن الْإِسْلَام بِمصْر بانقراضها الذلة وَاسْتولى على مصر صَلَاح الدّين وَأَهله ونوابه وكلُّهم من قبل نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى هم أمراؤه وخدمه وَأَصْحَابه وَفِيهِمْ يقُول العرقلة (أصبح الْملك بعد آل عليّ ... مشرقا بالملوك من آل شاذي) (وَغدا الشرق يحْسد الغرب للْقَوْم ... ومصرُ تزهو على بغداذ) (مَا حوَوْها إِلَّا بحزم وعزم ... وصليل الفولاذ فِي الفولاذ) (لَا كفرعون والعزيز وَمن كَانَ ... بهَا كالخصيب والأستاذ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 يَعْنِي بالأستاذ كافور الإخشيدي وَقَوله بعد آل عَليّ يَعْنِي بذلك بني عبيد المستخلفين بهَا أظهرُوا للنَّاس أَنهم شرفاء فاطميون فملكوا الْبِلَاد وقهروا الْعباد وَقد ذكر جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء أَنهم لم يَكُونُوا لذَلِك أَهلا وَلَا نسبهم صَحِيحا بل الْمَعْرُوف أَنهم بَنو عبيد وَكَانَ وَالِد عبيد هَذَا من نسل القداح الملحد الْمَجُوسِيّ وَقيل كَانَ وَالِد عبيد هَذَا يَهُودِيّا من أهل سَلَمْية من بِلَاد الشَّام وَكَانَ حدادا وَعبيد هَذَا كَانَ اسْمه سعيداً فَلَمَّا دخل الْمغرب تسمى بعبيد الله وَزعم أَنه علويّ فاطميّ وَادّعى نسبا لَيْسَ بِصَحِيح لم يذكرهُ أحد من مصنفي الْأَنْسَاب العلوية بل ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء بِالنّسَبِ خِلَافه وَهُوَ مَا قدمنَا ذكره ثمَّ ترقت بِهِ الْحَال إِلَى أَن ملك وَتسَمى بالمهدي وَبني المهدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 بالمغرب ونسبت إِلَيْهِ وَكَانَ زنديقاً خبيثاً عدوًّا لِلْإِسْلَامِ متظاهراً بالتشيع متستراً بِهِ حَرِيصًا على إِزَالَة الملّة الإسلامية قتل من الْفُقَهَاء والمحدثين وَالصَّالِحِينَ جمَاعَة كَثِيرَة وَكَانَ قَصده إعدامهم من الْوُجُود ليبقى الْعَالم كَالْبَهَائِمِ فيتمكن من إِفْسَاد عقائدهم وضلالتهم {وَالله متمّ نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ونشأت ذريّته على ذَلِك منطوين يجهرون بِهِ إِذا أمكنتهم الفرصة وَإِلَّا أسرُّوه والدعاة لَهُم منبثون فِي الْبِلَاد يضلون من أمكنهم إضلاله من الْعباد وَبَقِي هَذَا الْبلَاء على الْإِسْلَام من أول دولتهم إِلَى آخرهَا وَذَلِكَ من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين ومئتين إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَفِي أيامهم كثرت الرّافضة واستحكم أَمرهم وَوضعت المكوس على النَّاس واقتدى بهم غَيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الْجبَال الساكنين بثغور الشَّام والحشيشية نوع مِنْهُم وَتمكن دعاتهم مِنْهُم لضعف عُقُولهمْ وجهلهم مَا لم يتمكنوا من غَيرهم وَأخذت الفرنج أَكثر الْبِلَاد بِالشَّام والجزيرة إِلَى أَن منَّ الله على الْمُسلمين بِظُهُور الْبَيْت الأتابكي وتقدمه مثل صَلَاح الدّين فاستردّوا الْبِلَاد وأزالوا هَذِه الدولة عَن رِقَاب الْعباد وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر مستخلفاً ثَلَاثَة مِنْهُم بإفريقية وهم الملقبون بالمهدي والقائم والمنصور وَأحد عشر بِمصْر وهم الملقبون بالمعزّ والعزيز وَالْحَاكِم وَالظَّاهِر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 يدعونَ الشّرف ونسبتهم إِلَى مَجُوسِيّ أَو يَهُودِيّ حَتَّى أشتهر لَهُم ذَلِك بَين الْعَوام فصاروا يَقُولُونَ الدولة الفاطمية والدولة العلوية وَإِنَّمَا هِيَ الدَّولة الْيَهُودِيَّة أَو الْمَجُوسِيَّة الباطنية الملحدة وَمن قحتهم أَنهم كَانُوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر ويكتبونه على جدران الْمَسَاجِد وَغَيرهَا وخطب عبدهم جَوْهَر الَّذِي أَخذ لَهُم الديار المصرية وَبنى لَهُم الْقَاهِرَة المعزية بِنَفسِهِ خطْبَة طَوِيلَة قَالَ فِيهَا اللَّهُمَّ صلّ على عَبدك ووليك ثَمَرَة النُّبُوَّة وسليل العترة الهادية المهدية معدّ أبي تَمِيم الإِمَام الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ كَمَا صليت على آبَائِهِ الطاهرين وسلفه المنتخبين الْأَئِمَّة الرَّاشِدين كذب عدوّ الله اللعين فَلَا خير فِيهِ وَلَا فِي سلفه أَجْمَعِينَ وَلَا فِي ذُريَّته البَاقِينَ والعترة النَّبَوِيَّة الطاهرة مِنْهُم بمعزل رَحْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى أمثالهم من الصَّدْر الأول وَقد بيّن نسبهم هَذَا وأوضح محالهم وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من التمويه وعداوة الْإِسْلَام جمَاعَة مِمَّن سلف من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء وكل متورع مِنْهُم لَا يسميهم إِلَّا بني عبيد الأدعياء أَي يدعوّن من النّسَب مَا لَيْسَ لَهُم وَرَحْمَة الله على القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب فَإِنَّهُ كشف فِي أول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 كِتَابه الْمُسَمّى بكشف أسرار الباطنية عَن بطلَان نسب هَؤُلَاءِ إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأَن القدّاح الَّذِي انتسبوا إِلَيْهِ دَعيُّ من الأدعياء ممخرق كَذَّاب وَهُوَ أصل دعاة القرامطة لعنهم الله وَأما القَاضِي عبد الْجَبَّار الْبَصْرِيّ فَإِنَّهُ استقصى الْكَلَام فِي أصولهم وَبَينهَا بَيَانا شافيا فِي أَوَاخِر كتاب تثبيت النُّبُوَّة لَهُ وَقد نقلت كَلَامهمَا فِي ذَلِك وَكَلَام غَيرهمَا فِي مُخْتَصر تَارِيخ دمشق فِي تَرْجَمَة عبد الرَّحِيم بن إلْيَاس وَهُوَ من تِلْكَ الطَّائِفَة الَّذين هم بئس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 النَّاس وَهَذَانِ إمامان كبيران من أَئِمَّة أصُول دين الْإِسْلَام وَأظْهر عبد الْجَبَّار القَاضِي فِي كِتَابه بعض مَا فَعَلُوهُ من الْمُنْكَرَات والكفريات الَّتِي يقف الشّعْر عِنْد سماعهَا وَلَكِن لَا بُد من ذكر شَيْء من ذَلِك تنفيرا لِمَن لَعَلَّه يعْتَقد إمامتهم وخفي عَنهُ محالهم وَلم يعلم قحتهم ومكابرتهم وليعذر من أَزَال دولتهم وأمات بدعتهم وقلل عدّتهم وأفنى أمتهم وأطفأ جمرتهم ذكر عبد الْجَبَّار القَاضِي أَن الملقب بالمهدي لَعنه الله كَانَ يتَّخذ الْجُهَّال ويسلطهم على أهل الْفضل وَكَانَ يُرْسل إِلَى الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فَيذبحُونَ فِي فرُشهم وَأرْسل إِلَى الرّوم وسلطهم على الْمُسلمين وَأكْثر من الْجور واستصفاء الْأَمْوَال وَقتل الرِّجَال وَكَانَ لَهُ دعاة يضلون النَّاس على قدر طبقاتهم فَيَقُولُونَ لبَعْضهِم هُوَ الْمهْدي ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحجَّة الله على خلقه وَيَقُولُونَ لآخرين هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحجَّة الله على خلقه وَيَقُولُونَ لطائفة أُخرى هُوَ الله الْخَالِق الرازق لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ تبَارك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَلما هلك قَامَ ابْنه الْمُسَمّى بالقائم مقَامه وَزَاد شرّه على شَرّ أَبِيه أضعافاً مضاعفة وجاهر بشتم الْأَنْبِيَاء فَكَانَ يُنَادي فِي أسواق المهدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَغَيرهَا ألعنوا عَائِشَة وبَعْلَها ألعنوا الْغَار وَمن حوى اللَّهُمَّ صل على نبيك وَأَصْحَابه وأزواجه الطاهرين والعن هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة الفجرة الْمُلْحِدِينَ وَارْحَمْ من أزالهم وَكَانَ سَبَب قلعهم وَمن جرى على يَدَيْهِ تَفْرِيق جمعهم وأصلهم سعيراً ولَقِّهم ثبوراً وأسكنهم النَّار جَمِيعًا واجعلهم مِمَّن قلت فيهم {الَّذين ضل سَعْيُهم فِي الحَيْاة الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبون أَنَّهم يحسنون صنعا} رَجعْنَا إِلَى الأَصْل وَبعث إِلَى أبي طَاهِر القرمطي الْمُقِيم بِالْبَحْرَيْنِ وَبَعثه على قتل الْمُسلمين وإحراق الْمَسَاجِد والمصاحف وَقَامَ بعده ابْنه الْمُسَمّى بالمنصور فَقتل أَبَا يزِيد مخلداً الَّذِي خرج على أَبِيه يُنكر عَلَيْهِ قَبِيح فعله الْمُقدم ذكره وسلخه وصلبه واشتغل بِأَهْل الْجبَال يقتلهُمْ ويشردهم خوفًا من أَن يثور عَلَيْهِ ثَائِر مثل أبي يزِيد وَقَامَ بعده ابْنه الْمُسَمّى بالمعز فَبَثَّ دعاته فَكَانُوا يَقُولُونَ هُوَ الْمهْدي الَّذِي يملك وَهُوَ الشَّمْس الَّتِي تطلع من مغْرِبهَا وَكَانَ يسره مَا ينزل بِالْمُسْلِمين من المصائب من أَخذ الروّم بِلَادهمْ واحتجب عَن النَّاس أياماُ ثمَّ ظهر وأوْهم أَن الله رَفعه إِلَيْهِ وَأَنه كَانَ غَائِبا فِي السَّمَاء وَأخْبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 النَّاس بأَشْيَاء صدرت مِنْهُم كَانَ ينقلها إِلَيْهِ جواسيس لَهُ فأمتلأت قُلُوب الْعَامَّة والجهال مِنْهُ وَهَذَا أول خلفائهم بِمصْر وَهُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْقَاهِرَة واستدعى بفقيه الشَّام أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن سهل الرّملي وَيعرف بِابْن النابلسي فحمُل إِلَيْهِ فِي قفص خشب فَأمر بسلخه فسلخ حَيا وحشى جلده تبنا وصلب رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ سَمِعت أَبَا الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ يذكرهُ ويبكي وَيَقُول كَانَ يَقُول وَهُوَ يسلخ {كَاَنَ ذَلِكَ فِي الكِتِابِ مَسْطُوراً} قلت وَفِي أَيَّام الملقب بالحاكم مِنْهُم أَمر بكتب سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على حيطان الْجَوَامِع والقياسر والشوارع والطرقات وَكتب السجلات إِلَى سَائِر الْأَعْمَال بالسبّ ثمَّ أَمر بقلع ذَلِك وَأَنا رَأَيْته مقلوعاً فِي بعض أَبْوَاب دمشق فِي الأسكفة الْعليا منقوراً فِي الْحجر ودلّني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 أول الْكَلَام وَآخره على ذَلِك ثمَّ جدّد ذَلِك الْبَاب وأزيل ذَلِك الْحجر وَفِي أَيَّامه طوف بِدِمَشْق رجل مغربي وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من يحبّ أَبَا بكر وَعمر ثمَّ ضربت عُنُقه وَكَانَ يجْرِي فِي أيامهم من نَحْو هَذَا أَشْيَاء مثل قطع لِسَان أبي الْقَاسِم الوَاسِطِيّ أحد الصَّالِحين وَكَانَ أَذّن بِبَيْت الْمُقَدّس وَقَالَ فِي أَذَانه حيّ على الْفَلاح فأُخذ وَقطع لِسَانه ذكر ذَلِك وَمَا قبله من قتل المغربي وَأبي بكر النابلسي الحافظُ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه وَمَا كَانَت ولَايَة هَؤُلَاءِ الملاعين إِلَّا محنة من الله تَعَالَى وَلِهَذَا طَالَتْ مدتهم مَعَ قلَّة عِدتهم فَإِن عدتهمْ عدَّة خلفاء بني أُميَّة أَرْبَعَة عشر وَأُولَئِكَ بقوا نيّفاً وَتِسْعين سنة وَهَؤُلَاء بقوا مئتي سنة وثمانياً وَسِتِّينَ سنة فَالْحَمْد لله على مَا يسر من هُلكهم وإبادة ملكهم وَرَضي الله عَمَّن سعى فِي ذَلِك وأزالهم ورِحم مَنْ بيّن مَخْرقتهم وكذبهم ومحِالهم وَقد كشف أَيْضا حَالهم الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحمن بن عَليّ بن أبي نصر الشَّاشِي فِي كتاب الرَّدِّ على الباطنية وَذكر قبائح مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْكفْر والمنكرات وَالْفَوَاحِش فِي أَيَّام نزار وَمَا بعده وَوصل الْأَمر إِلَى أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وصف بَعضهم مَا كَانُوا فِيهِ فِي قصيدة سَمَّاهَا الْإِيضَاح عَن دَعْوَة القدّاح أوَّلها (حيَّ على مصر إِلَى خلع الرَّسَنْ ... فثمَّ تَعْطِيل فروض وَسنَن) وَقَالَ لَو وُفّق مُلُوك الْإِسْلَام لصرفوا أَعِنَّة الْخَيل إِلَى مصر لغزو الباطنية الملاعين فَإِنَّهُم من شَرّ أَعدَاء دين الْإِسْلَام وَقد خرجت من حد الْمُنَافِقين إِلَى حدّ المجاهرين لما ظهر فِي ممالك الْإِسْلَام من كفرها وفسادها وتعيّن على الكافة فرض جهادها وضرر هَؤُلَاءِ أَشد على الْإِسْلَام وَأَهله من ضَرَر الْكفَّار إِذْ لم يقم بجهادها أحد إِلَى هَذِه الْغَايَة مَعَ الْعلم بعظيم ضررها وفسادها فِي الأَرْض وَالله الْمُوفق قلت ثمَّ إنيّ لم يقنعني هَذَا من بَيَان أَحْوَالهم فأفردت كتابا لذَلِك سميته كشف مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنو عبيد من الْكفْر وَالْكذب وَالْمَكْر والكيد فَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيل أَحْوَالهم فَعَلَيهِ بِهِ فَإِنِّي بِتَوْفِيق الله تَعَالَى جمعت فِيهِ مَا ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المصنفون وَغَيرهم ووقفت على كتاب كَبِير صنفه الشريف الْهَاشِمِي رَحمَه الله وَكَانَ فِي أَيَّام الملقب بالعزيز ثَانِي خلفاء مصر فَبين فِيهِ أصولهم أتم بَيَان وأوضح كَيْفيَّة ظُهُورهمْ وغلبتهم على الْبِلَاد وتتبع ذكر فضائحهم وَمَا كَانَ يصدر مِنْهُم من أَنْوَاع الزندقة وَالْفِسْق والمخرقة فنقلت مِنْهُ إِلَى مَا كنت جمعته قِطْعَة كَبِيرَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَمَا أحسن مَا قَالَ فيهم من مدح بعض بني أَيُّوب بقصيدة مِنْهَا (ألَسْتم مزيلي دولة الْكفْر من بني ... عبيد بِمصْر إِن هَذَا هُوَ الْفضل) (زنادقة شِيعِيَّة باطنية ... مجوس وَمَا فِي الصَّالِحين لَهُم أصل) (يُسِرُّون كفرا يظهرون تشيَّعاً ... ليستتروا شَيْئا وعمهم الْجَهْل) وَمَا فعله هَؤُلَاءِ من الانتساب إِلَى عليّ رضوَان الله عَلَيْهِ والتستر بالتشيع قد فعله جمَاعَة القرامطة وَصَاحب الزنج الْخَارِج بِالْبَصْرَةِ وَغَيرهم من المفسدين فِي الأَرْض على مَا عرف مِنْ سيرهم من وقف على أَخْبَار النَّاس وَكلهمْ كذبة فِي ذَلِك وَإِنَّمَا غرضهم التَّقَرُّب إِلَى الْعَوام والجهال واستتباعهم لَهُم واستجلابهم إِلَى دعوتهم بذلك الْبلَاء {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَلَا يغتر بِأَبْيَات الشريف الرضي فِي ذَلِك فقد حصل الْجَواب عَنْهَا فِي كتاب الْكَشْف بِوُجُوه حَسَنَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقد صنف الشريف العابد الدِّمَشْقِي رَحمَه الله كتابا فِي إبِْطَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 نسبهم إِلَى عليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَفصل ذَلِك تَفْصِيلًا حسنا وَأَطْنَبَ فِي ذكر أَخْبَار إخْوَانهمْ من القرامطة لعنهم الله تَعَالَى فصل فِي ذكر غَزْو الفرنج فِي هَذِه السّنة قَالَ ابْن شَدَّاد واستمرت الْقَوَاعِد على الاسْتقَامَة وَصَلَاح الدّين كلما استولى على خزانَة مَال وَهبهَا وَكلما فتح لَهُ خَزَائِن ملك أنهبها وَلَا يبقي لنَفسِهِ شَيْئا وَشرع فِي التأهب للغزاة وَقصد بِلَاد الْعَدو وتعبئة الْأَمر لذَلِك وَتَقْرِير قَوَاعِده وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ عزم على الْغُزَاة واستدعى صَاحب الْموصل ابْن أَخِيه فوصل بالعساكر إِلَى خدمته وَكَانَت غَزْوَة عرقة فَأَخذهَا نور الدّين وَمَعَهُ ابْن أَخِيه فِي الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ وَقَالَ ابْن أبي طي جمع نور الدّين عساكره وَخرج إِلَى عرقة ونازلها وقاتلها أَيَّامًا حَتَّى فتحهَا واحتوى على جَمِيع مَا فِيهَا وغنم النَّاس غنيمَة عَظِيمَة قَالَ ابْن الْأَثِير خرجت مراكب من مصر إِلَى الشَّام فَأخذ الفرنج فِي اللاذقية مركبين مِنْهَا مملوءين من الْأَمْتِعَة والتجار وغدروا بِالْمُسْلِمين وَكَانَ نور الدّين قد هادنهم فَنَكَثُوا فَلَمَّا سمع نور الدّين الْخَبَر استعظمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وراسل الفرنج فِي ذَلِك وَأمرهمْ بِإِعَادَة مَا أَخَذُوهُ فغالطوه وَاحْتَجُّوا بِأُمُور مِنْهَا أَن المركبين كَانَا قد دخلهما مَاء الْبَحْر لكسر فيهمَا وَكَانَت الْعَادة بَينهم أَخذ كل مركب يدْخلهُ المَاء وَكَانُوا كاذبين فَلم يقبل مغالطتهم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ لَا يهمل أمرا من أُمُور رَعيته فَلم يردوا شَيْئا فَجمع العساكر من الشَّام والموصل والجزيرة وَبث السَّرَايَا فِي بِلَادهمْ بَعضهم نَحْو أنطاكية وَبَعْضهمْ نَحْو طرابلس وَحصر هُوَ حصن عرقة وأخرب ربضه وَأرْسل طَائِفَة من الْعَسْكَر إِلَى حصني صافيثا وعريمة فَأَخذهُمَا عنْوَة وَكَذَلِكَ غَيرهمَا وَنهب وخرّب وغنم الْمُسلمُونَ الْكثير وعادوا إِلَيْهِ وَهُوَ بعرقة فَسَار فِي العساكر جَمِيعهَا إِلَى قريب طرابلس يخرب وَيحرق وينهب وَأما الَّذين سَارُوا إِلَى أنطاكية فَإِنَّهُم فعلوا فِي ولايتها مثل مَا فعل من النهب وَالتَّحْرِيق والتخريب بِولَايَة طرابلس فراسله الفرنج وبذلوا إِعَادَة مَا أَخَذُوهُ من المركبين ويجدد مَعَهم الْهُدْنَة فأجابهم وَكَانُوا فِي ذَلِك كَمَا يُقَال الْيَهُودِيّ لَا يُعْطي الْجِزْيَة حَتَّى يُلطم فَكَذَلِك الفرنج مَا أعادوا أَمْوَال التُّجَّار بِالَّتِي هِيَ أحسن فلمّا نُهبت بِلَادهمْ وَخَربَتْ أعادوها قَالَ وَكَانَ لوالدي فِي المركبين تِجَارَة مَعَ شَخْصَيْنِ فَلَمَّا أعادوا إِلَى النَّاس أَمْوَالهم لم يصل إِلَى كل إِنْسَان إِلَّا الْيَسِير وَكَانَ يُحمل الْمَتَاع فَكل من اسْمه على ثوب أَخذه وَكَانَ فِي النَّاس من يَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ وَكَانَ أحد هذَيْن المضاربين فِيهِ أَمَانَة وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَلم يَأْخُذ إِلَّا مَا عَلَيْهِ اسْمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وعلامته فَذهب من مَاله ومالنا شَيْء كثير بِهَذَا السَّبَب وَكَانَ الَّذِي حصل من مالنا أَكثر من الَّذِي حصل لَهُ فَلَمَّا عَاد إِلَيْنَا سلّم الَّذِي لنا إِلَى وَالِدي فَامْتنعَ من أَخذه وَقَالَ خُذ أَنْت الْجَمِيع فَإنَّك أحْوج إِلَيْهِ وَأَنا فِي غنى عَنهُ فَلم يفعل فَقَالَ خُذ النّصْف وَأَنا النّصف واجتهد بِهِ وَالِدي فَلم يفعل فَلَمَّا كَانَ بعض الْأَيَّام وَإِذا قد جَاءَ الْغُلَام وَمَعَهُ عدَّة من الأثواب السُّوسِي وَغَيرهَا وَقَالَ هَذَا من قماشنا قد حضر الْيَوْم وَسبب حُضُوره أَن إنْسَانا فقاعياً من أهل تبريز كَانَ مَعنا فِي الْمركب وَقد أعادوا عَلَيْهِ مَاله فَرَأى هَذِه الأثواب واسمى عَلَيْهَا فَلم يسهل عَلَيْهِ يردهَا يَعْنِي عَلَيْهِم وَسَأَلَ عني وَقد قصدني وَهِي معي وَحضر عِنْدِي السَّاعَة وَسلمهَا إليّ وَقَالَ قد تركت طريفي لتبرأ ذِمَّتِي فأخذنا نَحن مَا عَلَيْهِ اسمنا بعد الْجهد وَطلب وَالِدي الرجل وَسَأَلَهُ أَن يُقيم عندنَا ليسلم إِلَيْهِ مَالا يتجر فِيهِ فَلم يفعل وَعَاد إِلَى بَلَده قَالَ وَهَذَانِ رجلَانِ نادران فِي هَذَا الزَّمَان فصل فِي عزم نور الدّين على الدُّخُول إِلَى مصر قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ صَلَاح الدّين واعده نور الدّين أَن يجتمعا على الكرك والشوبك يتشاوران فِيمَا يعود بالصلاح الْمُشْتَرك فَخرج من الْقَاهِرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم بالعزم الأجزم والرأي الأحزم فاتفق للاجتماع عائق وَلم يقدر للاتفاق قدر مُوَافق فلقي فِي تِلْكَ السفرة شدَّة وَعدم خيلا وظهرا وعُدة وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة فِي النّصْف من ربيع الأول وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ أَيْضا جرى مَا أوجب نفرة نور الدّين من صَلَاح الدّين وَكَانَ الْحَادِث أَن نور الدّين أرسل إِلَى صَلَاح الدّين يَأْمُرهُ بِجمع العساكر المصرية والمسير بهَا إِلَى بِلَاد الفرنج وَالنُّزُول على الكرك ومحاصرته ليجمع هُوَ أَيْضا عساكره ويسير إِلَيْهِ ويجتمعا هُنَاكَ على حَرْب الفرنج والاستيلاء على بِلَادهمْ فبرز صَلَاح الدّين من الْقَاهِرَة فِي الْعشْرين من الْمحرم وَكتب إِلَى نور الدّين يعرفهُ أَن رحيله لَا يتَأَخَّر وَكَانَ نور الدّين قد جمع عساكره وتجهز وَأقَام ينْتَظر وُرُود الْخَبَر من صَلَاح الدّين برحيله ليرحل هُوَ فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَر بذلك رَحل من دمشق عَازِمًا على قصد الكرك فوصل إِلَيْهِ وَأقَام ينْتَظر وُصُول صَلَاح الدّين إِلَيْهِ فَأَتَاهُ كِتَابه يعْتَذر فِيهِ عَن الْوُصُول باختلال الْبِلَاد وَأَنه يخَاف عَلَيْهَا مَعَ الْبعد عَنْهَا فَعَاد إِلَيْهَا فَلم يقبل نور الدّين عذره وَكَانَ سَبَب تقاعده أَن أَصْحَابه وخواصه خوّفوه من الِاجْتِمَاع بِنور الدّين فَحَيْثُ لم يمتثل أَمر نور الدّين شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَعظم عِنْده وعزم على الدُّخُول إِلَى مصر وَإِخْرَاج صَلَاح الدّين عَنْهَا فَبلغ الْخَبَر إِلَى صَلَاح الدّين فَجمع أَهله وَفِيهِمْ وَالِده نجم الدّين وخاله شهَاب الدّين الحارمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وَمَعَهُمْ سَائِر الْأُمَرَاء وأعلمهم مَا بلغه من عزم نور الدّين على قَصده وَأخذ مصر مِنْهُ واستشارهم فَلم يجبهُ أحد مِنْهُم بِشَيْء فَقَامَ ابْن أَخِيه تقيّ الدّين عمر وَقَالَ إِذا جَاءَنَا قَاتَلْنَاهُ وصددناه عَن الْبِلَاد وَوَافَقَهُ غَيره من أَهله فشتمهم نجم الدّين أَيُّوب وَأنكر ذَلِك واستعظمه وَكَانَ ذَا رأى ومكر وَكيد وعقل وَقَالَ لتقيّ الدّين اقعد وسبَّه وَقَالَ لصلاح الدّين أَنا أَبوك وَهَذَا شهَاب الدّين خَالك أتظنّ فِي هَؤُلَاءِ كلِّهم مَنْ يحبك وَيُرِيد لَك الْخَيْر مثلنَا فَقَالَ لَا فَقَالَ وَالله لَو رَأَيْت أَنا وَهَذَا خَالك نور الدّين لم يمكنا إِلَّا أَن نترجل إِلَيْهِ ونقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَلَو أمرنَا بِضَرْب عُنُقك بِالسَّيْفِ لفعلنَا فَإِذا كنّا نَحن هَكَذَا كَيفَ يكون غَيرنَا وكلّ من ترَاهُ من الْأُمَرَاء والعساكر لَو رأى نور الدّين وَحده لم يتجاسر على الثَّبَات على سَرْجه وَلَا وَسعه إِلَّا النُّزُول وتقبيل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَهَذِه الْبِلَاد لَهُ وَقد أقامك فِيهَا فَإِن أَرَادَ عزلك فَأَي حَاجَة بِهِ إِلَى الْمَجِيء يَأْمُرك بِكِتَاب مَعَ نجاب حَتَّى تقصد خدمته ويولي بِلَاده من يُرِيد وَقَالَ للْجَمَاعَة كلهم قومُوا عَنَّا فَنحْن مماليك نور الدّين وعبيده وَيفْعل بِنَا مَا يُرِيد فتّفرقوا على هَذَا وَكتب أَكْثَرهم إِلَى نور الدّين بالْخبر وَلما خلا نجم الدّين أَيُّوب بِابْنِهِ صَلَاح الدّين قَالَ لَهُ أَنْت جَاهِل قَلِيل الْمعرفَة تجمع هَذَا الْجمع الْكثير وتطلعهم على مَا فِي نَفسك فَإِذا سمع نور الدّين أَنَّك عازم على مَنعه من الْبِلَاد جعلك أهمّ الْأُمُور إِلَيْهِ وأولاها بِالْقَصْدِ وَلَو قصدك لم تَرَ مَعَك من هَذَا الْعَسْكَر أحدا وَكَانُوا أسلموك إِلَيْهِ وَأما الْآن بعد هَذَا الْمجْلس فسيكتبون إِلَيْهِ ويعرفونه قولي وتكتب أَنْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 إِلَيْهِ وَترسل فِي هَذَا الْمَعْنى وَتقول أيّ حَاجَة إِلَى قصدي يَجِيء نجاب يأخذني بِحَبل يَضَعهُ فِي عنقِي فَهُوَ إِذا سمع هَذَا عدل عَن قصدك واشتغل بِمَا هُوَ أهم عِنْده وَالْأَيَّام تندرج وَالله كل وَقت فِي شَأْن فَفعل صَلَاح الدّين مَا أَشَارَ بِهِ وَالِده فَلَمَّا رأى نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الْأَمر هَكَذَا عدل عَن قَصده وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ نجم الدّين توفّي نور الدّين وَلم يَقْصِدهُ وَلَا أزاله وَكَانَ هَذَا من أحسن الآراء وأجودها فصل فِي الحَمَام قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ أَمر الْملك الْعَادِل نور الدّين باتخاذ الْحمام الهوادي وَهِي المناسيب الَّتِي تطير من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى أوكارها فاتخذت فِي سَائِر بِلَاده وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه اتسعت بِلَاده وطالت مَمْلَكَته فَكَانَت من حد النّوبَة إِلَى بَاب همذان لَا يتخللها سوى بِلَاد الفرنج وَكَانَ الفرنج لعنهم الله رُبمَا نازلوا بعض الثغور فَإلَى أَن يصله الْخَبَر ويسير إِلَيْهِم يكونُونَ قد بلغُوا بعض الْغَرَض فَحِينَئِذٍ أَمر بذلك وَكتب بِهِ إِلَى سَائِر بِلَاده وأجرى الجرايات لَهَا ولمربيها فَوجدَ بهَا رَاحَة كَبِيرَة كَانَت الْأَخْبَار تَأتيه لوَقْتهَا لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي كل ثغر رجال مرتبون وَمَعَهُمْ من حمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الْمَدِينَة الَّتِي تجاورهم فَإِذا رَأَوْا أَو سمعُوا أمرا كتبوه لوقته وعلقوه على الطَّائِر وسرحوه فيصل إِلَى الْمَدِينَة الَّتِي هُوَ مِنْهَا فِي سَاعَته فتنقل الرقعة مِنْهُ إِلَى طَائِر آخر من الْبَلَد الَّذِي يجاورهم فِي الْجِهَة الَّتِي فِيهَا نور الدّين وَهَكَذَا إِلَى أَن تصل الْأَخْبَار إِلَيْهِ فانحفظت الثغور بذلك حَتَّى إِن طَائِفَة من الفرنج نازلوا ثغراً لَهُ فَأَتَاهُ الْخَبَر ليومه فَكتب إِلَى العساكر الْمُجَاورَة لذَلِك الثغر بالاجتماع والمسير بِسُرْعَة وكبس الْعَدو فَفَعَلُوا ذَلِك فظفروا والفرنج قد أمنُوا لبُعد نور الدّين عَنْهُم فرحم الله نور الدّين وَرَضي عَنهُ فَمَا كَانَ أحسن نظره للرعايا والبلاد وَقَالَ الْعِمَاد وَكَانَ نور الدّين لَا يُقيم فِي الْمَدِينَة أَيَّام الرّبيع والصيف مُحَافظَة على الثغر وصوناً من الحيف ليحمي الْبِلَاد من الْعَدو بِالسَّيْفِ وَهُوَ متشوف إِلَى أَخْبَار مصر وَأَحْوَالهَا وَتَحْقِيق اعتدالها بتمحيق اعتلالها فَرَأى اتِّخَاذ الْحمام المناسيب وتدريجها على الطيران لتحمل إِلَيْهِ الْكتب بأخبار الْبلدَانِ وَتقدم إِلَى بكتب منشور لأربابها وإعزاز أَصْحَابهَا وَهُوَ حِينَئِذٍ بِظَاهِر دمشق مخيم بوادي اللّوان وَنحن مستظهرون فِي ذَلِك الأوان عادُون على أهل الْعدوان وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة من السّنة ثمَّ ذكر نُسْخَة المنشور وَوصف فِيهِ الْحمام فَقَالَ هِيَ برائد الأنباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 والمخصوصة بفضيلة الإلهام والإيحاء وَهِي فيوج الرسائل المأمونة الإبطاء والسابقات الهُوج فِي الاهتداء والحاملات مُلطَّفات الْأَسْرَار فِي أقرب مُدَّة إِلَى أبعد غَايَة والموصّلات مهمات الْأَخْبَار فِي وَقتهَا من أقاصي الْأَمْصَار بأكمل هِدَايَة والقاطعات فِي ساعاتها إِلَى الْبِلَاد أجواز القفار والموامي والنافذات بنجح المرام بِعُود السِّهَام إِلَى المرامي وَهِي تطوي الفراسخ الْبَعِيدَة والأشواط فِي سَاعَة وتنتهي إِلَى أقْصَى غايات الطَّاعَة بأتم استطاعة وَقد عمّ بهَا نفع المرابطين للغزاة والمجاهدين فِي سَبِيل الله فِي إهداء أَخْبَار الْكَفَرَة إِلَيْهِم من أماكنها دَالَّة على مكايدها ومكامنها طائرة بكتبهم إِلَى من وَرَاءَهُمْ من الطَّلَائِع والسّرايا مظهرة لَهُم من أحوالها خبايا الْأُمُور الخفايا وَإِنَّهَا لميمونة المطار مَأْمُونَة العثار سَالِمَة على الأخطار مهدية فِي الْأَسْفَار أمينة على الْأَسْرَار سَابِقَة إِلَى الأوكار صادرة بالأوطار سائرة إِلَى الْمُؤمنِينَ بأنباء الْكفَّار قلت وكل هَذِه أَوْصَاف حَسَنَة وعبارات مستحسنة وَقد بَلغنِي عَن القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله تَعَالَى أَنه وصفهَا بألطف من هَذِه الْأَوْصَاف وأخصر فَقَالَ الطُّيُور مَلَائِكَة الْمُلُوك يُشِير إِلَى أَن نُزُولهَا على الْمُلُوك من جوّ الْهَوَاء نزُول الْمَلَائِكَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 السَّمَاء مَعَ فرط مَا فِيهَا من الْأَمَانَة لايتوهم من جِهَتهَا خِيَانَة فَلَقَد أحسن فِيمَا وصف وأبدع فِيمَا استنبط وأنصف وَهُوَ بذلك أولى وَأعرف رحم الله الْجَمِيع فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَرَأت نُسْخَة سجل بِإِسْقَاط المكوس بِمصْر قرىء على الْمِنْبَر بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثَالِث صفر سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة عَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فِي أَيَّام نور الدّين رَحمَه الله فَهُوَ كَانَ الْآمِر وَذَاكَ الْمُبَاشر يَقُول فِيهِ أما بعد فَإنَّا نحمد الله سُبْحَانَهُ على مَا مكن لنا فِي الأَرْض وحسّنه عندنَا من أَدَاء كل نَافِلَة وَفرض ونصبنا لَهُ من إِزَالَة النّصب عَن عباده واختارنا لَهُ من الْجِهَاد فِي الله حق جهاده وزهدنا فِيهِ من مَتَاع الدّنيا الْقَلِيل وألهمنا من محاسبة أَنْفُسنَا على النّقير والفتيل وأولانا من شجاعة السماحة فيوماً نهب مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ الدَّوَاوِين وَيَوْما نقطع مَا سقَاهُ النّيل فالبشائر فِي أيامنا تترى شفعاً ووترا والمسارُّ كنظام الْجَوْهَر تتبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الْوَاحِدَة مِنْهَا الْأُخْرَى والمسامحات قد مَلَأت المسامع والمطامع وأسخطت الْخَيْمَة والصناعة وأرضت الْمِنْبَر وَالْجَامِع وَلما تقلدنا أُمُور الرّعية رَأينَا المكوس الديوانية بِمصْر والقاهرة أولى مَا نقلناها من أَن تكون لنا فِي الدُّنْيَا إِلَى أَن تكون لنا فِي الْآخِرَة وَأَن نتجرد مِنْهَا لنلبس أَثوَاب الْأجر الفاخرة ونطهر مِنْهَا مكاسبنا ونصون عَنْهَا مطالبنا ونكفي الرّعيّة ضرّهم الَّذِي يتَوَجَّه إِلَيْهِم وَنَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُم وَالأَغْلالَ الَّتي كَانَت عَلَيْهم ونعيدها الْيَوْم كأمس الذَّاهِب ونضعها فَلَا ترفعها من بعد يَد حاسب وَلَا قلم كَاتب فاستخرنا الله وعجلنا إِلَيْهِ ليرضى ورأينا فرْصَة أجر لَا تغض عَلَيْهَا بصائر الْأَبْصَار وَلَا تغضى وَخرج أمرنَا بكتب هَذَا المنشور بمسامحة أهل الْقَاهِرَة ومصر وَجَمِيع التُّجَّار المترددين إِلَيْهِمَا وَإِلَى سَاحل الْمقسم والمنية بِأَبْوَاب المكوس صادرها وواردها فَيَرِدُ التَّاجِر ويُسفر ويغيب عَن مَاله ويحضر ويقارض ويتجر براَ وبحراً مركبا وظهرا سرّا وجهرا لَا يحل مَا شده وَلَا يحاول مَا عِنْده وَلَا يكْشف مَا ستره وَلَا يسْأَل عَمَّا أوردهُ وأصدره وَلَا يستوقف فِي طَرِيقه وَلَا يشرق بريقه وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ طعمه وَلَا يستباح لَهُ حرمه وَالَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ الْمُسَامحَة فِي السّنة من الْعين مئة ألف دِينَار مُسَامَحَة لَا يتعقبها تَأْوِيل وَلَا يتخونها تَحْويل وَلَا يعتريها زَوَال وَلَا يعتورها انْتِقَال دائمة بدوام الْكَلِمَة قَائِمَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 مَا قَامَ دين القيِمَة مَنْ عارضها ردّت أَحْكَامه وَمن ناقضها نقض إبرامه وَمن أزالها زلَّت قدمه وَمن أحالها حل دَمه وَمن تعقبها خلدت اللَّعْنَة فِيهِ وَفِي عقبه وَمن احتاط لدنياه فِيهَا أحَاط بِهِ الْجَحِيم الذَّي هُوَ من حطبه فَمن قَرَأَهُ أَو قرىء عَلَيْهِ من كَافَّة وُلَاة الْأَمر من صَاحب سيف وقلم ومشارف أَو نَاظر فليمتثل مَا مثل من الْأَمر ولْيُمْضه على ممر الدَّهْر مُرضياً لرَبه ممضياً لما أَمر بِهِ وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ أَبُو بكر يحيى بن سعدون الْقُرْطُبِيّ المقرىء النَّحْوِيّ وَهُوَ نزيل الْموصل رَحمَه الله وفيهَا ولد الْعَزِيز وَالظَّاهِر ابْنا صَلَاح الدّين والمنصور مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وفيهَا فِي ثَالِث شَوَّال توفّي أَبُو الْفتُوح نصر بن عبد الله الإسكندري الْمَعْرُوف بِابْن قلاقس الشَّاعِر بعيذاب ومولده بالإسكندرية رَابِع ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة فَيكون عمره نَحوا من خمس وَثَلَاثِينَ سنة ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخمْس مئة فَفِيهَا توفّي ملك النُّحَاة الْحسن بن صافي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وفيهَا ترَتّب الْعِمَاد الْكَاتِب مشرفا بديوان نور الدّين مُضَافا إِلَى كِتَابَة الْإِنْشَاء قَالَ وَكَانَ نور الدّين ذكيا ألمعيا فطنا لوذعيا لَا تشتبه عَلَيْهِ الْأَحْوَال وَلَا يتبهرج عَلَيْهِ الرِّجَال وَلَا يتأهل لغير أهل الْفضل مِنْهُ الإفضال قَالَ وَلما عرض صَلَاح الدّين بعد العاضد خزائنه واستخرج دفائنه سير مِنْهَا عدَّة من الْأَمْتِعَة المستحسنة والآلات المثمنة وَقطع البلور واليشم والأواني الَّتِي لَا يتَصَوَّر وجودهَا فِي الْوَهم وَمَعَهَا ثَلَاث قطع من البلخش أكبرها نَيف وَثَلَاثُونَ مِثْقَالا وَالثَّانيَِة ثَمَانِيَة عشر وَالْأُخْرَى دونهَا وَقرن بهَا من اللآلىء مصونها ومكنونها وَحمل مَعهَا من الذَّهَب سِتِّينَ ألف دِينَار ووصلت من غرائب المصنوعات مَا لَا يجْتَمع مثله فِي أعصار وأعمار وَمن الطّيب والعطر مَا لم يخْطر ببال عطار فَشكر نور الدّين همته وَذكر بِالْكَرمِ شيمته وَوصف فضيلته وَفضل صفته وَقَالَ مَا كَانَت بِنَا حَاجَة إِلَى هَذَا المَال وَلَا نسد بِهِ خلة الإقلال فَهُوَ يعلم أَنا مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 أنفقنا الذَّهَب فِي ملك مصر وبنا إِلَى الذَّهَب فقر وَمَا لهَذَا الْمَحْمُول فِي مُقَابلَة مَا جُدْنا بِهِ قدر وتمثل بقول أبي تَمام (لم يُنفق الذَّهَب المُرْبى بكثرته ... على الْحَصَى وَبِه فقر إِلَى الذَّهَب) لكنه يعلم أَن ثغور الشَّام مفتقرة إِلَى السداد ووفور الْأَعْدَاد من الأجناد وَقد عَم بالفرنج بلَاء الْبِلَاد فَيجب أَن يَقع التعاقد على الْإِمْدَاد بالمعونة والمعونة بالإمداد فاستنزره وَمَا استغزره واستقل الْمَحْمُول فِي جنب مَا حَرَّره وتروى فِيمَا يدبره وأفكر فِيمَا يقدمهُ من هَذَا المهم ويؤخره قَالَ ابْن أبي طيّ لم تقع هَذِه الْهَدِيَّة من نور الدّين بموقع وجرد الْمُوفق بن القيسراني وزيره إِلَى مصر وَأمره بِعَمَل حِسَاب الْبِلَاد واستعلام أَخْبَارهَا وارتفاعها وَأَيْنَ صرفت أموالها فَإِذا حصل جَمِيع ذَلِك قرر على صَلَاح الدّين وَظِيفَة يحملهَا فِي كل سنة وعظُم على نور الدّين أَمر مصر وَأَخذه من إستيلاء صَلَاح الدّين عَلَيْهَا الْمُقِيم المقعد وَأكْثر فِي مراسلته فِي حمل الْأَمْوَال حَدثنِي أبي قَالَ لم يخف حَال نور الدّين فِي كَرَاهِيَة الْملك النَّاصِر وَلَقَد علم ذَلِك جَمِيع الأجناد والأمراء وتحدث بِهِ الْعَوام وَلَا سِيمَا حِين أنفذ هَذِه الْهَدِيَّة وَاشْتَدَّ بعد ذَلِك فِي مراسلته وأنفذ ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 القيسراني لكشف الحوال وَلَو طَال عمره لم يكن لَهُ بدُّ من الدُّخُول إِلَى مصر قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ نور الدّين مذُ مُلكت مصر وَتوجه لَهُ فِيهَا النَّصْر يُؤثر أَن يُقرر لَهُ فِيهَا مَال للْحَمْل يَسْتَعِين بِهِ على كلف الْجِهَاد وَتَخْفِيف مَاله من الثّقل وَالْأَيَّام تماطله والأعوام تطاوله وَهُوَ ينْتَظر أَن صَلَاح الدّين يبتدىء من نَفسه بِمَا يُريدهُ وَهُوَ لايستدعي مِنْهُ وَلَا يستزيده فَلَمَّا حمل من أخاير الذَّخَائِر وَالْمَال الْحَاضِر مَا حمله وَعرف مجمله ومفصله تقدم إِلَى الْمُوفق خَالِد بن القيسراني أَن يمْضِي وَيُطَالب وَيَقْتَضِي وَيعْمل أَيْضا بِالْأَعْمَالِ المصرية جزازة وَلَا يبْقى فِي نفوس ديوانه من أمرهَا حزازة وَأرْسل مَعَه الْهَدَايَا والتحف والسنايا وَأقَام الْعِمَاد مقَامه فِي ديوَان الِاسْتِيفَاء فَجمع بَين الإشراف والاستيفاء ومنصب الْإِنْشَاء ثمَّ كَانَ من أمره مَا سَيَأْتِي ذكره قَالَ الْعِمَاد وَخرج صَلَاح الدّين فِي النّصْف من شَوَّال وَمَعَهُ الْفِيل والحمارة الْعَتَّابِيَّةِ والذخائر النفيسة الَّتِي كَانَ انتخبها من خَزَائِن الْقصر وَهِي مَعْدُودَة من محَاسِن الْعَصْر وَقد سبق ذكر تسييرها إِلَى نور الدّين وقُوبلت بِالْإِحْسَانِ والتحسين ووصلت الحمارة وَكَثُرت لَهَا النظارة وَأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الْفِيل فَإِنَّهُ وصل إِلَيْنَا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَنحن بحلب بالميدان الْأَخْضَر وأهداه نور الدّين إِلَى ابْن أَخِيه سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل مَعَ شَيْء من تحفه الثِّيَاب وَالْعود العنبر ثمَّ سيره سيف الدّين غَازِي إِلَى بَغْدَاد هَدِيَّة للخليفة مَعَ مَا سيّره مَعَه من التحف اللطيفة وسير نور الدّين الحمارة الْعَتَّابِيَّةِ إِلَى بَغْدَاد مَعَ هَدَايَا وتحف سنايا فصل فِي جِهَاد السلطانين للفرنج فِي هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَنزل صَلَاح الدّين على الكرك والشوبك وَغَيرهمَا من الْحُصُون فبرح بهَا وَفرق عَنْهَا عربها وَخرب عماراتها وشنت على أَعمالهَا سراياه بغاراتها وَوصل مِنْهُ كتاب بالمثال الفاضلي سَبَب هَذِه الْخدمَة إِلَى مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل أعز الله سُلْطَانه وَمد أبدا إحسانه وَمكن بالنصر إِمْكَانه وشيد بالتأييد مَكَانَهُ وَنصر أنصاره وأعان أعوانه علم الْمَمْلُوك بِمَا يؤثره الْمولى بِأَن يقْصد الْكفَّار بِمَا يقص أجنحتهم ويفلل أسلحتهم وَيقطع موادهم وَيخرب بِلَادهمْ وأكبر الْأَسْبَاب الْمعينَة على مَا يرومه من هَذِه الْمصلحَة أَلا يبْقى فِي بِلَادهمْ أحدُ من العربان وَأَن يَنْتَقِلُوا من ذل الْكفْر إِلَى عز الْإِيمَان وَمِمَّا اجْتهد فِيهِ غَايَة الِاجْتِهَاد وعده من أعظم أَسبَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الْجِهَاد ترحيل كثير من أنفارهم والحرص فِي تَبْدِيل دَارهم إِلَى أَن صَار الْعَدو الْيَوْم إِذا نَهَضَ لَا يجد بَين يَدَيْهِ دَلِيلا وَلَا يَسْتَطِيع حِيلَة وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا ثمَّ ذكر بَاقِي الْكتاب قَالَ ابْن شَدَّاد وَهَذِه أول غَزْوَة غَزَاهَا صَلَاح الدّين من الديار المصرية وَإِنَّمَا بَدَأَ بِبِلَاد الكرك والشوبك لِأَنَّهَا كَانَت أقرب إِلَيْهِ وَكَانَت فِي الطَّرِيق تمنع من يقْصد الديار المصرية وَكَانَ لايمكن أَن تصل قافلة حَتَّى يخرج هُوَ بِنَفسِهِ يعبرها بِلَاد الْعَدو فَأَرَادَ توسيع الطَّرِيق وتسهيله لتتصل الْبِلَاد بَعْضهَا بعض وتسهل على السابلة فَخرج قَاصِدا لَهَا فِي أثْنَاء سنة ثَمَان وَسِتِّينَ فحاصرها وَجرى بَينه وَبَين الفرنج وقعات وَعَاد عَنْهَا وَلم يظفر مِنْهَا بِشَيْء فِي تِلْكَ الدفعة وَحصل ثَوَاب الْقَصْد وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ فتح مرعش فِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة وَأخذ بهسني فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَقَالَ الْعِمَاد حضرت عِنْد الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق فِي الْعشْرين من صفر وَوَجهه بِنور الْبشر قد سفر والْحَدِيث يجْرِي فِي طيب دمشق وَحسن آلائها ورقَّة هوائها وبهجة بهائها وإزهار أرْضهَا كزهر سمائها وكلّ منا يمدحها وبحبه يمنحها وكلّ منا يطريها فَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 نور الدّين أَنا حُبّ الْجِهَاد يسليني عَنْهَا فَمَا أَرغب فِيهَا فارتجلت هَذَا الْمَعْنى فِي الْحَال فَقلت (لَيْسَ فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا ... بلدةُ مثل دمشق) (ويسليني عَنْهَا ... فِي سَبِيل الله عشقي) (والتقى الأَصْل وَمن يَتْرُكهَا ... يَشْقَى ويُشْقي) (كم رشيقٍ شاغل عَنهُ ... بِسَهْم الْغَزْو رشقي) (وامتشاق الْبيض يُغني ... عَنهُ بالإقلام مشقي) قَالَ وسألني نور الدّين أَن أعمل دوبيتيات فِي معنى الْجِهَاد على لِسَانه فَقلت (للغزو نشاطي وَإِلَيْهِ طربي ... مَالِي فِي الْعَيْش غَيره من أرب) (بالجد وبالجهاد نجح الطّلب ... والراحة مستودعة فِي التَّعَب) وَقلت أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 (لَا رَاحَة فِي الْعَيْش سوى أَن أغزو ... سَيفي طَربا إِلَى الطلي يَهْتَز) (فِي ذل ذَوي الْكفْر يكون الْعِزّ ... وَالْقُدْرَة فِي غير جهادٍ عجز) وَقلت أَيْضا (أَقْسَمت سوى الْجِهَاد مَالِي أرب ... والراحة فِي سواهُ عِنْدِي تَعب) (إِلَّا بالجد لَا ينَال الطّلب ... والعيش بِلَا جدِّ جهادٍ لعب) قَالَ وَاتفقَ خُرُوج كلب الرّوم اللعين فِي جنود الشَّيَاطِين يقْصد الْغَارة على زرَّا من نَاحيَة حوران وهم فِي جمع غلبت كثرته الْخَبَر والعيان ونزلوا بقرية تعرف بشمسكين فَركب نور الدّين وَهُوَ نَازل بالكسوة إِلَيْهِم وأقدم بعساكره عَلَيْهِم فَلَمَّا عرفُوا وُصُوله رحلوا إِلَى الفوار ثمَّ إِلَى السوَاد ثمَّ نزلُوا بالشلالة وَنزل نور الدّين عشترا وَقد سرَّه مَا جرى فأنفذ سريّة إِلَى أَعمال طبرية واغتنم خلّوها فأدلجت تِلْكَ اللَّيْلَة وحمدت فِي شن الْغَارة غدوها فَلَمَّا عَادَتْ لحقها الفرنج عِنْد المخاضة فَوقف الشجعان وَثَبت من ثبته الْإِيمَان حَتَّى عبرت السّريَّة وانفصلت تِلْكَ الْقَضِيَّة ورحل نور الدّين من عشترا فَنزل بِظَاهِر زرَّا قَالَ الْعِمَاد وَكنت رَاكِبًا فِي لقائهم مَعَ الْملك الْعَادِل وَهُوَ يَقُول لي كَيفَ تصف مَا جرى فمدحته بقصيدة مِنْهَا (عُقدت بنصرك راية الْإِيمَان ... وبدت لعصرك آيَة الْإِحْسَان) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 (يَا غَالب الغلب الْمُلُوك وصائد الصَّيْد ... اللُّيوث وَفَارِس الفرسان) (يَا سالب التيجان من أَرْبَابهَا ... حُزت الفخار على ذَوي التيجان) (محمودُ الْمَحْمُود مَا بَين الورى ... فِي كل إقليم بِكُل لِسَان) (يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مُشارك ... أَقْسَمت مَالك فِي البسيطة ثَانِي) (أحلى أمانيك الجهادُ وإنهُ ... لَك مؤذنُ أبدا بِكُل أَمَان) (كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من ... حَرْب لقمع الْمُشْركين عَوان) (كم وقعةٍ لَك بالفرنج حَدِيثهَا ... قد سَار فِي الْآفَاق والبلدان) (قمصت قومصهم رِدَاء من ردى ... وقرنت رَأس برنسهم بسنان) (وملكت رقّ مُلوكهم وتركتهم ... بالذل فِي الأقياد والأسجان) (وَجعلت فِي أَعْنَاقهم أغلالهم ... وسحبتهم هُوناً على الأذقان) (إِذْ فِي السوابغ تحطم السمر القنا ... وَالْبيض تخضب بالنجيع القاني) (وعَلى غناء المشرفية فِي الطلى ... والهام رقص عوالي المّران) (وَكَأن بَين النَّقْع لمع حديدها ... نارُ تألقُ من خلال دُخان) (فِي مأزق ورد الوريد مكفل ... فِيهِ برىّ الصارم الظمآن) (غطى العجاج بِهِ نُجُوم سمائه ... لتنوب عَنْهَا أنجم الخرصان) (أَو مَا كفاهم ذَاك حَتَّى عاودوا ... طُرُق الضلال ومركب الطغيان) (يَا خيبة الإفرنج حِين تجمعُوا ... فِي حيرة وَأتوا إِلَى حوران) وَمِنْهَا (وجلْوتَ نور الدّين ظلمَة كفرهم ... لما أتيت بواضح البُرهان) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 (وهزمتهم بِالرَّأْيِ قبل لقائهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان) (أَصبَحت لِلْإِسْلَامِ رُكناً ثَابتا ... وَالْكفْر مِنْك مضعضع الْأَركان) (قوضت آساس الضلال بعزمك الْمَاضِي ... وشدْت مباني الْإِيمَان) (قُل أَيْن مثلك فِي الْمُلُوك مُجَاهِد ... لله فِي سِر وَفِي إعلان) (لم تلقهم ثِقَة بِقُوَّة شوْكةٍ ... لَكِن وثقت بنصرة الرحمان) (مَا زَالَ عزمك مُسْتقِلّا بِالَّذِي ... لايستقل بثقله الثَّقَلَان) (وَبَلغت بالتأييد أقْصَى مبلغ ... مَا كَانَ فِي وسع وَلَا إِمْكَان) (دَانَتْ لَك الدُّنْيَا فقاصيهما إِذا ... حققته لنفاذ أَمرك داني) (فَمن الْعرَاق إِلَى الشآم إِلَى ذرا ... مصر إِلَى قوص إِلَى أسوان) (لم تله عَن بَاقِي الْبِلَاد وَإِنَّمَا ... ألهاك فرض الْغَزْو عَن همذان) (للروم والإفرنج مِنْك مصائب ... بِالتّرْكِ والأكراد والعربان) (أذعنت لله الْمُهَيْمِن إِذْ عنت ... لَك أوجه الْأَمْلَاك بالإذعان) (أَنْت الَّذِي دون الْمُلُوك وجدته ... ملآن من عرف وَمن عرفان) (فِي بَأْس عَمْرو فِي بسالة حيدرٍ ... فِي نطق قس فِي تقى سلمَان) (سير لَو أَن الْوَحْي ينزل أنزلت ... فِي شَأْنهَا سورُ من الْقرَان) (فَاسْلَمْ طَوِيل العُمْر ممتد المدى ... صافي الْحَيَاة مخلد السُّلْطَان) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَهِي قصيدة طَوِيلَة وصف فِيهَا أمراءه الْحَاضِرين الْجِهَاد مَعَه ومدحهم فصل فِي فتح بِلَاد النّوبَة قَالَ الْعِمَاد وَفِي جمادي الأولى غزا شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب أَخُو صَلَاح الدّين بِلَاد النّوبَة وأراهم سطاه المرهوبة وَفتح حصناً لَهُم يعرف بإبريم وآلى أَلا يريم وَهِي بلادُ عديمة الجدوى عَظِيمَة الْبلوى ثمَّ جمع السبْيّ وَعَاد بِهِ إِلَى أسوان وفرّق على أَصْحَابه فِي الْغَنَائِم السودَان وَقَالَ ابْن أبي طيّ الْحلَبِي وَفِي هَذِه السّنة اجْتمع السّودان وَالْعَبِيد من بِلَاد النّوبَة وَخَرجُوا فِي أُمَم عَظِيمَة قَاصِدين ملك بِلَاد مصر وصاروا إِلَى أَعمال الصَّعِيد وصمموا على قصد أسوان وحصارها وَنهب قراها وَكَانَ بهَا ألأمير كنز الدولة فأنفذ يُعلم الْملك النَّاصِر وَطلب مِنْهُ نجدة فأنفذ قِطْعَة من جَيْشه مَعَ الشجاع البعلبكي فَلَمَّا وصل إِلَى أسوان وجد العبيد قد عَادوا عَنْهَا بعد أَن أخربوا أرْضهَا فأتبَّعهم الشجاع والكنز فجرت حربُ عَظِيمَة قُتل فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم وَرجع الشجاع إِلَى الْقَاهِرَة وَأخْبر بفعال العبيد وتمكنهم من بِلَاد الصَّعِيد فأنفذ الْملك النَّاصِر أَخَاهُ شمس الدولة فِي عَسْكَر كثيف فَوَجَدَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 قد دخلُوا بِلَاد النّوبَة فَسَار قَاصِدا بِلَادهمْ وشحن مراكب كَثِيرَة فِي الْبَحْر بِالرِّجَالِ والميرة وأمرها بلحاقه إِلَى بِلَاد النّوبَة وَسَار إِلَيْهَا وَنزل على قلعة إبريم وافتتحها بعد ثَلَاثَة أَيَّام وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من المَال والكُراع والميرة وخلص جمَاعَة من الأسرى وَأسر من وجده فِيهَا وهرب صَاحبهَا وَكتب إِلَى السُّلْطَان بذلك فَأَنْشد السُّلْطَان أَبُو الْحسن بن الذروي يهنئه بِفَتْح إبريم قصيدة مِنْهَا (فقدّم العَزْم فَذا مُبتداه ... يقصر ملك الأَرْض عَن منتهاه) (واسحب ذيول الْجَيْش حَتَّى أرى ... أنجمه طالعة عَن دُجاه) (سواك من ألْقى عَصَاهُ بهَا ... قناعةً لما اسْتَقَرَّتْ نَوَاه) (عَلَيْك بالروم ودع صَاحب التَّاج ... إِذا شِئْت وتورانشاه) (فقد غَدَتْ إبريم فِي ملكه ... تُبرم أمرا فِيهِ كبْتُ العداه) (لابد للنوبة من نوبَة ... ترضي بسخط الْكفْر دين الْإِلَه) (تظل من سوبة منسوبة ... لعزمةٍ كامنة فِي أناه) (تكسو الْغُزَاة القاطني أرْضهَا ... مَا نسجت للحرب أَيدي الغُزاه) (سود وتحمر الظبى حولهَا ... كأعين الرُّمد بَدَت للأساه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 (أَولا فسُمرُ يحتميها القنا ... مثل دنان بزلتها السقاه) (لله جَيش مِنْك لَا ينثني ... إِلَّا بنصر دميت شفرتاه) (مَا بَين عقبان وَلكنهَا ... خيل وفرسان كَمثل البزاه) (آساد حَرْب فَوق أَيْديهم ... أساود الطعْن فهم كالحواه) (تقلّدوا الْأَنْهَار واستلأموا الغدران ... فالنيران تجْرِي مياه) قَالَ ثمَّ رَجَعَ شمس الدولة إِلَى أسوان ثمَّ إِلَى قوص وَكَانَ فِي صحبته أَمِير يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم الْكرْدِي فَطلب من شمس الدولة قلعة إبريم فأقطعه إِيَّاهَا وأنفذ مَعَه جمَاعَة من الأكراد البطالين فَلَمَّا حصلوا فِيهَا تفرّقوا فرقا وَكَانُوا يشنون الغارات على بِلَاد النّوبة حَتَّى برحوا بهم واكتسبوا أَمْوَالًا كَثِيرَة حَتَّى عفت أَرْزَاقهم وَكَثُرت مَوَاشِيهمْ وأتفق أَنهم عدّوا إِلَى جَزِيرَة من بِلَاد النّوبَة تعرف بِجَزِيرَة دندان فغرق أَمِيرهمْ إِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى قلعة إبريم وَأخذُوا جَمِيع مَا كَانُوا فِيهَا وأخلوها بعد مقامهم بهَا سنتَيْن فَعَاد النّوبَة إِلَيْهَا وملكوها وأنفذ ملك النّوبَة رَسُولا إِلَى شمس الدولة وَهُوَ مُقيم بقوص وَمَعَهُ كتاب فِيهِ طلب الصُّلْح وَمَعَ الرَّسُول هَدِيَّة عبد وَجَارِيَة فَكتب لَهُ جَوَاب كِتَابه وَأَعْطَاهُ زَوجي نشاب وَقَالَ مَا لَك عِنْدِي جَوَاب إِلَّا هَذَا وجهز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 مَعَه رَسُولا يعرف بمسعود الْحلَبِي وأوصاه أَن يكْشف لَهُ خبر الْبِلَاد ليدخلها فَسَار الْحلَبِي مَعَ الرَّسول حَتَّى وصل دنقله وَهِي مَدِينَة الْملك قَالَ مَسْعُود فَوجدت بلادا ضيقَة لَيْسَ لَهُم زرع إِلَّا الذّرة وَعِنْدهم نخل صغَار مِنْهُ إدَامهمْ وَوصف ملكهم بأوصاف مِنْهَا أَن قَالَ خرج علينا يَوْمًا وَهُوَ عُرْيَان قد ركب فرسا عريا وَقد التف فِي ثوب أطلس وَهُوَ أَقرع لَيْسَ على رَأسه شعر قَالَ فَأتيت فَسلمت عَلَيْهِ فَضَحِك وتغاشى وَأمر بِي أَن تكوى يَدي فكوى عَلَيْهَا هَيْئَة صَلِيب وَأمر لي بِقدر خمسين رطلا من الدَّقِيق ثمَّ صرفني قَالَ وَأما دنقلة فَلَيْسَ فِيهَا عمَارَة إِلَّا دَار الْملك فَقَط وباقيها أخصاص فصل فِي وَفَاة نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين وطرف من أخباره قَالَ الْعِمَاد وَركب نجم الدّين أَيُّوب فشب بِهِ فرسه بِالْقَاهِرَةِ عِنْد بَاب النَّصْر وسط المحجَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة وَحمل إِلَى منزله وعاش ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ توفّي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَكَانَ كَرِيمًا رحِيما عطوفا حَلِيمًا وبابه مزدحم الْوُفُود وَهُوَ متْلف الْمَوْجُود ببذل الْجُود وَكَانَ وَلَده صَلَاح الدّين عَنهُ غَائِبا وَفِي بِلَاد الكرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 والشوبك على الْغُزَاة مواظبا فَدفن إِلَى جَانب قبر أَخِيه أَسد الدّين فِي بَيت فِي الدَّار السُّلْطَانِيَّة ثمَّ نقلا بعد سِنِين إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل الصَّلَاة والسّلام والتحية وَالْإِكْرَام والإجلال والإعظام وعَلى آله وَصَحبه وَسلم قلت وقبرهما فِي تربة الْوَزير جمال الدّين الْأَصْفَهَانِي وَزِير الْموصل الْمُقدم ذكره رَحِمهم الله تَعَالَى وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما عَاد صَلَاح الدّين من غزاته بلغه قبل وُصُوله إِلَى مصر وَفَاة أَبِيه نجم الدّين فشقّ ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ لم يحضر وَفَاته وَكَانَ سَبَب وَفَاته وُقُوعه من الْفرس وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى شَدِيد الرّكض ولعاً بلعب الكرة بِحَيْثُ من رَآهُ يلْعَب بهَا يَقُول مَا يَمُوت إِلَّا من وُقُوعه عَن ظهر الْفرس وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين فرخشاه بِمصْر يَقُول فِيهِ صحّ من الْمُصَاب بالمولى الدارج غفر الله لَهُ ذَنبه وَسَقَى بِالرَّحْمَةِ تربه مَا عظمت بِهِ اللوعة واشتدت الروعة وتضاعفت لغيبتنا عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 مشهده الْحَسْرَة فاستنجدنا بِالصبرِ فَأبى وأنجدت الْعبْرَة فياله فقيداً فقد عَلَيْهِ العزاء وهانت بعده الأرزاء وانتثر شَمل الْبركَة بفقده فَهِيَ بعد الِاجْتِمَاع أَجزَاء (وتخطفته يَد الردى فِي غيبتي ... هبني حضرت فَكنت مَاذَا أصنع) قَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي هُوَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي وَلَا يعرف فِي نسبه أَكثر من وَالِده شاذي وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ كَانَ تَقِيّ الدّين عمر يزِيد فَيَقُول شاذي بن مَرْوَان قلت وَسمعت أَنا من يَقُول شاذي بن مَرْوَان بن يَعْقُوب قَالَ ابْن أبي طي وَقد أدّعى ابْن سيف الْإِسْلَام لما ملك الْيمن أَنهم من بني مَرْوَان بن مُحَمَّد الْجَعْدِي الْمَعْرُوف بالحمار يعْنى آخر خلفاء بني أُميَّة قَالَ وَقد نقبت عَن ذَلِك فأجمع الْجَمَاعَة من آل أَيُّوب أَن هَذَا كذب وَأَن جَمِيع آل أَيُّوب لايعرفون جدَّاً فَوق شاذي وَكَذَلِكَ أَخْبرنِي السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر رَحمَه الله تَعَالَى قلت وَدَلِيل صِحَة ذَلِك أنني وقفت على كتاب وقف الرّباط النجمي بِدِمَشْق وَلم يزدْ فِيهِ على نجم الدّين أَبُو سعيد أَيُّوب بن شاذي العادلي وَابْن سيف الْإِسْلَام هَذَا هُوَ أَبُو الْفِدَاء اسماعيل بن طغتكين بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 أَيُّوب بن شاذي ابْن أخي السُّلْطَان صَلَاح الدّين ملك الْيمن بعد أَبِيه وتعاظم إِلَى أَن ولي نَفسه الْخلَافَة وَادّعى أَنه من بني أُميَّة وعزم على إِعَادَة الْخلَافَة من بني هَاشم إِلَى بني أُميَّة وَله فِي ذَلِك أشعار كَثِيرَة وتلقب بِالْإِمَامِ الْهَادِي بِنور الله الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ومدحه كثير من الشُّعَرَاء بذلك وزينوا لَهُ فعله وَمَا هُوَ فِيهِ فَمن شعره (وَإِنِّي أَنا الْهَادِي الْخَلِيفَة وَالَّذِي ... أدوس رِقَاب الغُلب بالضُّمَّر الجرد) (وَلَا بُد مِنْ بَغْدَاد أطوي ربوعها ... وأنشرها نشر السماسر للبرد) (وأنصب أعلامي على شرفاتها ... وأُحيي بهَا مَا كَانَ أسسه جدّي) (ويُخطبُ لي فِيهَا على كل مِنْبَر ... وَأظْهر دين الله فِي الْغَوْر والنّجد) ثمَّ قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَ نجم الدّين أَيُّوب عدلا مرضيا كثير الصَّلَاة والصلات غزير الْفضل والخيرات يحبّ الْعلمَاء ويميل إِلَى الْفُضَلَاء وَكَانَ ممدحا مدحه الْعِمَاد الْكَاتِب بعدة قصائد قَالَ وَكَانَ مولد نجم الدّين أَيُّوب بِبَلَد شبختان كَذَا حَكَاهُ مؤيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 الدّين ابْن منقذ وحدّثني جمَاعَة أَن مولد نجم الدّين كَانَ بجبل جور وربى فِي بلد الْموصل وَنَشَأ شجاعا باسلا وخدم السُّلْطَان مُحَمَّد بن ملكشاه فَرَأى مِنْهُ أَمَانَة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاّه قلعة تكريت فَقَامَ فِي ولايتها أحسن قيام وضَبَطها أكْرم ضبط وَأجلى من أرْضهَا المفسدين وقطاع الطَّرِيق وَأهل العيث حَتَّى عمرت أرْضهَا وَحسن حَال أَهلهَا وَأمنت سبلها فَلَمَّا ولي السُّلْطَان مَسْعُود الْملك أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز الْخَادِم شحنة بَغْدَاد ومُتولي الْعرَاق وَكَانَ هَذَا بهروز أَمِيرا ينفذ أمره فِي جَمِيع الْعرَاق إِلَى الْبَصْرَة إِلَى الْموصل إِلَى أصفهان وَكَانَت خيله خَمْسَة الآف فَارس فَأقر الْأَمِير نجم الدّين فِي ولَايَة تكريت وأضاف إِلَيْهِ النّظر فِي جَمِيع الْولَايَة المتاخمة لَهُ وَقرر أمره عِنْد السُّلْطَان مَسْعُود وَجعل بهروز قلعة تكريت خزانَة أَمْوَاله وَبَيت عقائله وَجعل جَمِيع ذَلِك مَنُوطًا بالأمير نجم الدّين ومعذوقا بهمته وَكَانَ نجم الدّين عَظِيما فِي أنفس النَّاس بِالدّينِ وَالْخَيْر وَحسن السياسة وَكَانَ لَا يمر أحد من أهل الْعلم وَالدّين بِهِ إِلَّا حمل إِلَيْهِ المَال والضيافة الجليلة وَكَانَ لَا يسمع بِأحد من أهل الدّين فِي مَدِينَة إِلَّا أنفذ إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَقد ذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي سيرة السلجوقية الْأَمِير نجم الدّين وقرظة وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر من دينه وعفته ووفور أَمَانَته وَكَثْرَة خَيره أَشْيَاء حَسَنَة وَحكى قَضِيَّة عمّه الْعَزِيز حِين حبس عِنْده بقلعة تكريت من جِهَة الْوَزير الدركزيني وَأمره بقتْله فَأبى نجم الدّين إِلَى أَن قَتله بهروز بِنَفسِهِ بِأَمْر الدركزيني ثمَّ إِن السُّلْطَان مسعوداً حشد وَخرج فِي أَخذ السلطنة وطمع هُوَ وأتابك زنكي بن آق سنقر فِي بَغْدَاد وجردا عسكراً ضخما وسارا إِلَى تكريت طامعين فِي بَغْدَاد واتصل هَذَا الْخَبَر بقراجه السّاقي وَهُوَ أتابك ابْن السُّلْطَان مَحْمُود فَجرد ألف فَارس للقاء زنكي ثمَّ أردفهم بعسكر ضخم فَانْهَزَمَ زنكي وقُتل جمَاعَة من أَصْحَابه وَنهب جَمِيع مَا كَانَ فِي عسكره ولجأ إِلَى سور تكريت وَبِه عدَّة جراحات وَعلم مَكَانَهُ الْأَمِير نجم الدّين وَأَخُوهُ شيركوه فمتحاه إِلَى القلعة بحبال وداويا جراحاته وخدماه أحسن خدمَة وتقربا إِلَيْهِ فَأَقَامَ عِنْدهمَا بتكريت خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ سَار إِلَى الْموصل وأعوزه الظّهْر فأعطياه جَمِيع مَا كَانَ عِنْدهمَا من الظّهْر حَتَّى إنَّهُمَا أعطياه جملَة من الْبَقر حمل عَلَيْهَا مَا سلم مَعَه من امتعته فَكَانَ زنكي يرى لأيوب هَذِه الْيَد وَيعرف لَهُ هَذِه الصنيعة ويواصله بالهدايا والألطاف مُدَّة مُقامه فِي تكريت فَلَمَّا انْفَصل عَنْهَا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 مَا سَنذكرُهُ تَلقاهُ زنكي بالرحب وَالسعَة واحترامه احتراماً عَظِيما وأقطعه عدَّة قطائع وَكَانَ نجم الدّين قد سَاس النَّاس بتكريت أحسن سياسة حَتَّى ملك بذلك حبّات قُلُوبهم وَكَانَ أَخُوهُ شيركوه مَعَه فِي القلعة وَكَانَ شجاعاً باسلا ينزل من القلعة ويصعد إِلَيْهَا فِي أَسبَابه وحاجاته وَكَانَ نجم الدّين لَا يُفَارق القلعة وَلَا ينزل مِنْهَا فاتفق أَن أَسد الدّين نزل من القلعة يَوْمًا لبَعض شَأْنه ثمَّ عَاد إِلَيْهَا وَكَانَ بَينه وَبَين كَاتب صَاحب القلعة قوارص وَكَانَ رجلا نَصْرَانِيّا فاتفق فِي ذَلِك الْيَوْم أَن النَّصْرَانِي صَادف أَسد الدّين صاعداً إِلَى القلعة فعبث بِهِ بِكَلِمَة مُمضة فَجرد أَسد الدّين سَيْفه وَقتل النَّصْرَانِي وَصعد إِلَى القلعة وَكَانَ مهيباً فَلم يتجاسر أحدُ على معارضته فِي أَمر النَّصْرَانِي بِشَيْء وأُخذ النَّصْرَانِي بِرجلِهِ فألُقي من القلعة وَبلغ بهروز صَاحب قلعة تكريت مَا جرى وَحضر عِنْده من خَوفه جُرأة أَسد الدّين وَأَنه ذُو عشيرة كَبِيرَة وَأَن أَخَاهُ نجم الدّين قد استحوذ على قُلُوب الرعايا وَأَنه رُبمَا كَانَ مِنْهُمَا أمرُ تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فَكتب إِلَى نجم الدّين يُنكر عَلَيْهِ مَا جرى من أَخِيه ويأمره بِتَسْلِيم القلعة إِلَى نَائِب سيره صَحبه الْكتاب فَأجَاب نجم الدّين ذَلِك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَأنزل من القلعة جَمِيع مَا كَانَ لَهُ بهَا من أهل وَمَال وَاجْتمعَ هُوَ وَأَخُوهُ أَسد الدّين وصمما على قصد عماد الدّين زنكي بالموصل وَقيل إِن أَسد الدّين كَانَ خرج إِلَى الْموصل قبل نجم الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وَأعظم أهل تكريت خُرُوج نجم الدّين من بَين أظهرهم وَلم يبْق أحدُ إِلَّا خرج لتوديعه وَأظْهر الْبكاء والأسف على مُفَارقَته وَلما أتصل بأتابك زنكي قُدومُهما أفرحه ذَلِك وَأمر الموكب بلقائهما وأكرمهما إِكْرَاما عَظِيما وأقطعهما من بلد شهرزور إقطاعاً سنيّا وَقيل إِنَّه أقطع أَسد الدّين بالموزر وَجرى بَين أَسد الدّين وجمال الدّين الْوَزير مَوَدَّة عَظِيمَة حَتَّى حلف كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر أَنه يقوم بأَمْره فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته وتجرد جمال الدّين فِي أَمر أَسد الدّين وَأمر أَخِيه نجم الدّين حَتَّى قربهما من قلب أتابك وجعلهما عِنْده بالمنزلة الْعَظِيمَة وخرجا مَعَه إِلَى الشَّام وشهدا مَعَه حروب الْكفَّار وقتال الفرنج لعنهم الله تَعَالَى وَكَانَ لأسد الدّين فِي تِلْكَ الوقائع الْيَد الْبَيْضَاء والفَعْلَةُ الغراء وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي سعد الدولة أَبُو الميامن المؤملي وَكَانَ أحد أَصْحَاب نجم الدّين أَيُّوب قَالَ وحَدثني أَيْضا بِهَذِهِ الْحِكَايَة مجد الدّين ابْن داية الْملك الصَّالح قَالَ حَدثنِي حسام الدّين سنقر غُلَام الْأَمِير نجم الدّين أبي طَالب وَكَانَ سنقر هَذَا يخْدم مَعَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي قَالَ كنت فِي صحابة الْأَمِير نجم الدّين لما نفذه نور الدّين بن زنكي إِلَى ابْنه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى مصر من أجل قطع خطْبَة المصريين وَإِقَامَة دَعْوَة بني الْعَبَّاس فِي أول سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَاتفقَ أَنِّي كنت حَاضرا وَقد اجْتمع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ووالده الْأَمِير نجم الدّين فِي دَار الوزارة وَقد قعدا على طُرّاحة وَاحِدَة والمجلس غاصُّ بأرباب الدولتين وَعند النَّاس من الْفَرح وَالسُّرُور مَا قد أذهل الْعُقُول فَبينا النَّاس كَذَلِك إِذْ تقدم كَاتب نَصْرَانِيّ كَانَ فِي خدمَة الْأَمِير نجم الدّين فَقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر ووالده الْأَمِير نجم الدّين والتفت إِلَى نجم الدّين وَقَالَ لَهُ يَا مولَايَ هَذَا تَأْوِيل مَقَالَتي لَك بالْأَمْس حِين وُلد هَذَا السُّلْطَان فَضَحِك نجم الدّين وَقَالَ صدقت وَالله ثمَّ أَخذ فِي حمد الله وشكره وَالثنَاء عَلَيْهِ والتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّذين حوله من أكَابِر الْعلمَاء والقضاة والأمراء وَقَالَ لكَلَام هَذَا النَّصْرَانِي حِكَايَة عَجِيبَة وَذَلِكَ أنني لَيْلَة رزقت هَذَا الْوَلَد يَعْنِي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَمرنِي صَاحب قلعة تكريت فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بالرّحلة عَنْهَا بِسَبَب الفعلة الَّتِي كَانَت من أخي أَسد الدّين شيركوه رَحمَه الله وَقَتله النَّصْرَانِي وَكنت قد ألفت القلعة وَصَارَت لي كالوطن فثقل عَليّ الْخُرُوج مِنْهَا والتحول عَنْهَا إِلَى غَيرهَا واغتممت لذَلِك وَفِي ذَلِك الْوَقْت جَاءَنِي البشير بولادته فتشاءمت بِهِ وتطيرت لما جرى عَليّ وَلم أفرح بِهِ وَلم أستبشر وَخَرجْنَا من القلعة وَأَنا على طيرتي بِهِ لَا أكاد أذكرهُ وَلَا أُسَمِّيهِ وَكَانَ هَذَا النَّصْرَانِي معي كَاتبا فَلَمَّا رأى مَا نزل بِي من كَرَاهِيَة الطِّفْل والتشاؤم بِهِ استدعى مني أَن آذن لَهُ فِي الْكَلَام فَأَذنت لَهُ فَقَالَ لي يَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مولَايَ قد رَأَيْت مَا قد حدث عنْدك من الطَّيرَة بِهَذَا الصَّبِي وَأي شَيْء لَهُ من الذَّنب وَبِمَ اسْتحق ذَلِك مِنْك وَهُوَ لَا ينفع ولايضر وَلَا يُغني شَيْئا وَهَذَا الَّذِي جرى عَلَيْك قَضَاء من الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَقدر ثمَّ مَا يدْريك أَن هَذَا الطِّفْل يكون ملِكاً عَظِيم الصيت جليل الْمِقْدَار فعطفني كَلَامه عَلَيْهِ وَهَا هُوَ قد وقفني على مَا كَانَ قَالَه فتعجب الْجَمَاعَة من هَذَا الِاتِّفَاق وَحمد السُّلْطَان ووالده الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وشكراه قلت ولعُمارة فِي نجم الدّين مدائح ومراثٍ مِنْهَا قَوْله (ثغر الزَّمَان بِنَجْم الدّين مبتسم ... وَوَجهه بدوام الْعِزّ متسم) يَقُول فِيهَا (أضحى بك النّيل محجوبا ومعتمرا ... كَأَنَّمَا حلّ فِيهِ الحلّ وَالْحرم) (جَاءَت بنوك وَشَمل الدّين منتثر ... فقارعوا عَنهُ فَهُوَ الْيَوْم مُنْتَظم) (وَمَا درى أحدُ من قبل رُؤْيَتهمْ ... أَن الحظوظ بلثم الأَرْض تقتسم) (نَامَتْ عُيُون الورى فِي عدل سيرتهم ... كَأَن يقظتنا فِي عصرهم حلم) (والناصر ابْنك كَاف كلِّ معضلة ... إِذا الْحَوَادِث لم يُكشف لَهَا غمم) (أعز بالبأس وَالْإِحْسَان حوزتنا ... فَلم يُلّم بِنَا خوف وَلَا عدم) (تَبَسم الدّست من أَيُّوب عَن ملك ... تنحطّ عَن قدره والأقدار والهمم) وَقَالَ فِي مرثيته (هِيَ الصدمةُ الأولى فَمن بَان صبره ... على هول ملقاها تضَاعف أجره) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 (أذمُّ صباح الْأَرْبَعَاء فَإِنَّهُ ... تَبَسم عَن ثغر الْمنية فجره) (أصَاب الْهدى فِي نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجوّ مِنْهَا ونسره) (فَلَا تعذلونا واعذرونا فَمن بَكَى ... على فقد أيوبٍ فقد بَان عُذره) (أَقَامَ بأعمال الْفُرَات وخيله ... يُراع بهَا نيل الْعَزِيز ومصره) (إِلَى أَن رَمَاهَا من أَخِيه بضيغم ... فرى نابه أهل الصَّلِيب وظفره) (فَلَمَّا قضى نحبي حَيَاة ودولة ... بِأَمْرك فِي إِدْرَاكهَا تمّ أمره) (تعاقبتما مصرا تعاقب وابل ... يبيت بقطر النّيل ينهل قطره) (نزلت بدار حلهَا فحللتها ... فمغناك مغناة وقطرك قطره) (وواخيته فِي البرّ حيّا وميتّا ... فقبرك فِي دَار الْقَرار وقبره) (وَقد شخصت أهل البقيع إلَيْكُمَا ... وَإِلَّا فسكان الْحجُون وحجره) (هَنِيئًا لملك مَاتَ والعزّ عزه ... وقُدْرته فَوق الرّجال وَقدره) (وَأدْركَ من طول الْحَيَاة مُرَاده ... وَمَا طَال إِلَّا فِي رضَا الله عمره) (وأسعد خلق الله من مَاتَ بَعْدَمَا ... رأى فِي بني أبنائه مَا يسره) (شَهِيد تلقى ربه وَهُوَ صَائِم ... فَكَانَ على أجر الشَّهَادَة فطره) مِنْهَا (مضى وَهُوَ رَاض عَنْك لم ترم صَدره ... بِضيق وَلَا جَاشَتْ من الغيظ قدره) (حمى حوزة الْإِسْلَام وَالدّين بعده ... ثَمَانِيَة من أَجلهم عزّ نَصره) (فَكيف بخيس آل أَيُّوب أسده ... لقد بَان خوف الدَّهْر مِنْهُ وذعره) (رعى الله نجماً تعرف الشَّمْس أَنه ... أَبوهَا وَنور الْبَدْر مِنْهَا وزهره) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 (وَأبقى الْمقَام الناصريّ فَإِنَّهُ ... لدولتكم كنز الرّجاء وذخره) وَقَالَ أَيْضا (صفو الْحَيَاة وَإِن طَال المدى كدر ... وحادث الْمَوْت لَا يبْقى وَلَا يذر) (وَمَا يزَال لِسَان الدَّهْر ينذرنا ... لَو أثرت عندنَا الْآيَات وَالنّذر) (فَلَا تقل غرت الدُّنْيَا مطامعنا ... فَمَا مَعَ الْمَوْت لَا غش وَلَا كدر) (كأس إِذا مَا الردى حَيا الْحَيَاة بهَا ... لم ينج من سكرها أُنْثَى وَلَا ذكر) (كم شامخ الْعِزّ لَاقَى الذل من يَدهَا ... مَا أَضْعَف الْقدر إِن ألوى بِهِ القَدَر) (فِي كل جيلٍ وعصر من وقائعها ... شعواء يقطر مِنْهَا الناب وَالظفر) (أودى عليُّ وَعُثْمَان بمخلبها ... وَلم يفتها أَبُو بكر وَلَا عمر) (وَمن أَرَادَ التأسِّي فِي مصيبته ... فللورى برَسُول الله مُعْتَبر) (نجمُ هوى من سَمَاء الدّين منكدرا ... والنجم من أفقه يهوى وينكدر) (منظومة أنجم الجوزاء من جزع ... لَهُ وَعقد الثريا مِنْهُ منتثر) (وَكَيف يُنسى محياه الْكَرِيم وَمن ... نُعماه فِي كلّ عَيْش صَالح أثر) (جددت من أَسد الدّين الشَّهِيد لنا ... حُزنا بِهِ يتساوى الصَّبْر وَالصَّبْر) (قد كَانَ للدّين وَالدُّنْيَا بعزمكما ... ذكر يعبر عَنهُ الصارم الذّكر) (إِن فاح نشر كَلَام تُمدحان بِهِ ... مِسكاً فعترة أَيُّوب هِيَ العتر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 (تخفى ذبال مصابيح إِذا طلعوا ... صُبحاً وتنسى مُلوك الأَرْض إِن ذكرُوا) (كَأَنَّمَا صّور الله الْكَمَال بهم ... شخصا ويوسفُ مِنْهُ السّمع وَالْبَصَر) (لاشوبك مِنْهُ مَعْصُوم ولاكرك ... وَلَا خَلِيل وَلَا قدس وَلَا زغر) (لم يرتحل قَافِلًا إِلَّا وساكنها ... إِمَّا مباحُ حماه أَو دمُ هدر) (مَا مَاتَ أَيُّوب إِلَّا بعد معْجزَة ... فِي الْمجد لم يؤتها من جنسه بشر) (مضى سعيدا من الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ ... فِي رُتْبَة أربُ باقٍ وَلَا وطر) (وطوّل الله مِنْهُ بَاعَ أَرْبَعَة ... مِنْهَا النَّدى والتقي وَالْملك والعُمُر) (وأشرف الْملك مَا امتَدَّت مسافته ... فِي صِحَة أَخَوَاهَا الْعقل وَالْكبر) (وَمن سعادته أَن مَاتَ لَا سأم ... يشكوه مِنْهُ مَعَانِيه وَلَا ضجر) فصل قَالَ الْعِمَاد وَسَار نور الدّين قَاصِدا جَانب الشمَال لتسديد مَا أختل هُنَاكَ من الْأَحْوَال فَسَار إِلَى بعلبك وَمِنْهَا إِلَى حمص ثمّ حلب وَفعل فِي كلّ مِنْهَا من الْمصَالح مَا وَجب وَقصد بِلَاد قليج أرسلان ملك الرّوم فَفتح مرعش فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة ثمَّ فتح بهسنى وَاتبع فِي كل مِنْهُمَا الطَّرِيقَة الْحسنى وَكتب الْعِمَاد إِلَى صديقٍ لَهُ بِدِمَشْق وَكَانَ سَافر عَنْهَا مَعَ نور الدّين فِي أطيب فصولها وَهُوَ زمن المشمش (كتابي فديتُك من مرعش ... وَخَوف نوائبها مرعشي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 (وَمَا مر فِي طرقها مبصر ... صَحِيح النواظر إِلَّا عشي) (وَمَا حلّ فِي أرْضهَا آمن ... من الضيّم والضر إِلَّا خشى) (ترنحني نشوات الغرام ... كَأَنِّي من كأسه منتشى) (أُسِرُّ وأُعلن برح الجوى ... فقلبي يُسرُّ ودمعي يشي) (بذلت لكم مهجتي رشوةً ... فحاكم حبّكم مرتشي) (وَكَيف يلذّ الْكرَى مغرم ... بِنَار الغرام حشاه حشي) (بمرعش أبغي وبلوطها ... مضاهاة جلق والمشمش) قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة فسارت هَذِه الْقطعَة ونُمى حَدِيثهَا إِلَى نور الدّين فاستنشدنيها فأنشدتها إِيَّاه وَنحن سائرون فِي وادٍ كثير الْأَشْجَار مَعَ بَيْتَيْنِ بدهت بهما فِي الْحَال وهما (وبالملك الْعَادِل استأنست ... نجاحاً مُنى كل مستوحش) (وَمَا فِي الْأَنَام كريمُ سواهُ ... فَإِن كنت تنكر ذَا فتش) وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ سَار نور الدّين نَحْو ولَايَة الْملك عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان بن سُلَيْمَان السلجوقي وَهِي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا عَازِمًا على حربه وَأخذ بِلَاده مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن ذَا النُّون بن دانشمند صَاحب ملطية وسيواس وَغَيرهمَا من تِلْكَ الْبِلَاد قَصده قليج أرسلان وَأخذ بِلَاده وَأخرجه عَنْهَا طريداً فريداً فَسَار إِلَى نور الدّين مستجيرا بِهِ وملتجئاً إِلَى ظله فَأكْرم نزله وَأحسن إِلَيْهِ وَحمل لَهُ مَا يَلِيق أَن يحمل للملوك ووعده النَّصْر وَالسَّعْي فِي رد ملكه إِلَيْهِ وَكَانَت عَادَة نور الدّين أَنه لَا يقْصد ولَايَة أحد من الْمُسلمين إِلَّا ضَرُورَة إِمَّا ليستعين بهَا على قتال الفرنج أَو للخوف عَلَيْهَا مِنْهُم كَمَا فعل بِدِمَشْق ومصر وَغَيرهمَا فَلَمَّا قَصده ذُو النُّون راسل قليج أرسلان وشفع إِلَيْهِ فِي إِعَادَة مَا غَلبه عَلَيْهِ من بِلَاده فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك فَسَار نور الدّين نَحوه فابتدأ بكيسون وبهسنى ومرعش ومرزبان فملكها وَمَا بَينهَا من الْحُصُون وسيّر طَائِفَة من عسكره إِلَى سيواس فملكوها وَكَانَ قليج أرسلان لما بلغه قصد نور الدّين بِلَاده قد سَار من اطرافها الَّتِي تلِي الشَّام إِلَى وَسطهَا خوفًا وفرقاً وراسل نور الدّين يستعطفه ويسأله الصُّلْح والصفح عَنهُ فتوقف نور الدّين عَن قَصده رَجَاء أَن ينصلح الْأَمر بِغَيْر حَرْب فَأَتَاهُ من الفرنج مَا أزعجه فَأَجَابَهُ إِلَى الصُّلْح وَكَانَ فِي جملَة رِسَالَة نور الدّين إِلَيْهِ إِنَّنِي أُرِيد مِنْك أموراً وقواعد وَمهما تركت مِنْهَا فَلَا أترك ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن تجدّد إسلامك على يَد رَسُولي حتّى يحلّ لي إقرارك على بِلَاد الْإِسْلَام فَإِنِّي لاأعتقدك مُؤمنا وَكَانَ قليج أرسلان يتهم باعتقاد مَذَاهِب الفلاسفة وَالثَّانِي إِذا طلبت عسكرك إِلَى الْغُزَاة تسيره فَإنَّك قد ملكت طرفا كَبِيرا من بِلَاد الْإِسْلَام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وَتركت الرّوم وجهادهم وهادنتهم فإمَّا أَن تكون تُنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وَإِمَّا أَن تُجَاهِد من يجاورك من الرّوم وتبذل الوسع والجهد فِي جهادهم وَالثَّالِث أَن تزوّج ابْنَتك لسيف الدّين غَازِي ولد أخي وَذكر أموراً غَيرهَا فَلَمَّا سمع قليج أرسلان الرسَالَة قَالَ مَا قصد نور الدّين إِلَّا الشناعة علىّ بالزندقة وَقد أَجَبْته إِلَى مَا طلب أَنا أجددّ إسلامي على يَد رَسُوله وَاسْتقر الصُّلْح وَعَاد نور الدّين وَترك عسكره فِي سيواس مَعَ فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فِي خدمَة ذِي النُّون فَبَقيَ الْعَسْكَر بهَا إِلَى أَن مَاتَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَرَحل الْعَسْكَر عَنْهَا وَعَاد قليج أرسلان وملكها قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وصل الْفَقِيه الإِمَام الْكَبِير قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَهُوَ فَقِيه عصره ونسيج وَحده فسر نور الدّين بِهِ وأنزله بحلب بمدرسة بَاب الْعرَاق ثمَّ أطلعه إِلَى دمشق فدرس بزاوية الْجَامِع الغربية الْمَعْرُوفَة بالشيخ نصر الْمَقْدِسِي رَحمَه الله تَعَالَى وَنزل بمدرسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الجاروخ وَشرع نور الدّين فِي إنْشَاء مدرسة كَبِيرَة للشَّافِعِيَّة لفضله وأدركه الْأَجَل دون إِدْرَاك عَملهَا لأَجله قلت هِيَ الْمدرسَة العادلية الْآن الَّتِي بناها بعده الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب أَخُو صَلَاح الدّين وفيهَا تربته وَقد رَأَيْت أَنا مَا كَانَ بناه نور الدّين وَمن بعده مِنْهَا وَهُوَ مَوضِع الْمَسْجِد والمحراب الْآن ثمَّ لمّا بناها الْملك الْعَادِل أَزَال تِلْكَ الْعِمَارَة وبناها هَذَا الْبناء المتقن الْمُحكم الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي بُنيان الْمدَارِس وَهِي المأوى وَبهَا المثوى وفيهَا قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جمع هَذَا الْكتاب فَلَا أقفر ذَلِك الْمنزل وَلَا أقوى وَبَقِي قطب الدّين إِلَى أَن توفّي فِي الْأَيَّام الناصرية فِي سنة ثَمَان وَسبعين ووقف كتبه على طلبة الْعلم ونقلت بعد بِنَاء هَذِه الْمدرسَة إِلَيْهَا فَمَا فاتها ثَمَرَته إِذْ فاتها مُبَاشَرَته رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ وَفد فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه فَأقبل عَلَيْهِ نور الدّين وَأَمرَنِي بإنشاء منشور لَهُ بمشيخة الصُّوفِيَّة ورغبه فِي الْمقَام بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 بِالشَّام وَمن جملَة مَا أتحفه بِهِ عِمَامَة بأعمدة ذهبية نفذها صَلَاح الدّين من مصر فبذل فِيهَا ألف دِينَار بزنة ذهبها فَلم يجب من سامها إِلَى طلبَهَا قلت وَقد سبق ذكر هَذِه الْعِمَامَة فِي أَخْبَار نور الدّين أول الْكتاب من كَلَام ابْن الْأَثِير وَابْن الْمُعْطى إِيَّاهَا وَهُوَ الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الله رَحِمهم الله تَعَالَى ثمَّ ذكر الْعِمَاد نُسْخَة المنشور وَفِيه فَلْينْظر فِي رِبَاط السميساطي وقبة الطواويس ورباط الطاحونة وَغَيرهَا من ربط الصُّوفِيَّة بِدِمَشْق المعمورة وبعلبك ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنه فِي آخر شعْبَان من هَذِه السّنة قبل الرحيل من دمشق كَانَ أهْدى إِلَى صديقه الْفَاضِل الأديب علم الدّين الْحسن بن سعيد الشاتاني قطائف وَكتب إِلَيْهِ (مَا راقدات فِي صحون ... مستوطنات فِي سُكُون) (يجلين أَمْثَال العرائس ... بَين أبكار وَعون) (أَو كالعقائل فِي الْخُدُور ... قد اعتقلن على دُيُون) (هن اللذيذات اللوائذ ... بالسهول من الحزون) (أَو كالتمائم للصحاف ... وَمَا نسبن إِلَى جُنُون) (السكريات الغريقات ... الغلائل والشؤون) (صرعى وَمَا دارت لَهَا ... يَوْمًا رحى الْحَرْب الزبون) (لُفّفن فِي أكفانهن ... على المنى لَا للمنون) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 (يحيين بالتغريق بل ... يسمن فِي ضيق السجون) (المستطابات الظُّهُور ... المستلذات الْبُطُون) (نضدن بالترصيع فِي الجامات ... كالدر المصون) (المستقيمات الصُّفُوف ... وقفن كالخيل الصفون) (وَقد اشتملن من اللطائف ... وَالصِّفَات على فنون) (اسْمَع حَدِيثي فِي انبساطي ... فَالْحَدِيث أَخُو شجون) وَهِي أَكثر من هَذَا فصل قَالَ الْعِمَاد قد سبق ذكر مليح بن لاون مقدم بِلَاد الأرمن والتجائه إِلَى نور الدّين وتطاوله بقوته على الرّوم والأرمن وَكَانَت الدروب أُذُنه والمصيصة وسيواس يحميها كلب الرّوم ويضبظها بجنده حَتَّى استولى عَلَيْهَا مليح بن لاون فكسرهم وَقتل وَأسر وسَاق لنُور الدّين من مقدمي الرّوم ثَلَاثِينَ أَسِيرًا فَأرْسل نور الدّين القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري بالأسرى والهدايا إِلَى الْخَلِيفَة المستضيء بِأَمْر الله وَمَعَهُ كتاب يشْرَح هَذِه الكسرة وَمَا فتح من الْبِلَاد وَيَقُول فِيهِ وقسطنطينية والقدس يجريان إِلَى أمد الْفتُوح فِي مضمار المنافسة وَكِلَاهُمَا فِي وَحْشَة ليل الظلام المدلهم على انْتِظَار صباح المؤانسة وَالله تَعَالَى بكرمه يدني قطاف الفتحين لأهل الْإِسْلَام ويوفق الْخَادِم لحيازة مراضى الْأَمَام وَفِي آخِره وَمن جملَة حَسَنَات هَذِه الْأَيَّام الزاهرة مَا تسنى فِي هَذِه النَّوبة من افْتِتَاح بعض بِلَاد النّوبَة والوصول إِلَى مَوَاضِع مِنْهَا لم تطرقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 سنابك الْخَيل الإسلامية فِي العصور الخالية وَكَذَلِكَ استولت عَسَاكِر مصر أَيْضا على برقة وحصونها وتحكموا فِي مُحكم معاقلها ومصونها حَتَّى بلغُوا إِلَى حُدُود الْمغرب فظفروا من السؤل بعنقاء مغرب قلت كَانَ اتّفق فِي هَذِه السّنة وُصُول قراقوش غُلَام تَقِيّ الدّين من الديار المصرية مَعَ طَائِفَة من التّرْك وانضم إِلَيْهِم جمَاعَة من الْعَرَب فاستولى على طرابلس وَكثير من بِلَاد إفريقية مَا خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وَفِي آخر ذَلِك الْكتاب ونسأل الله التَّوْفِيق لاستدناء قواصي المنى وإقصاء عَبدة الصَّلِيب الأنجاس من الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَأَن يَجْعَل فتح الْبَيْت الْمُقَدّس مفتتح مُرَاده ومقتدح زناده ومقترحه فِي جهاده وَأَن يملكهُ السَّاحِل بِجَمِيعِ بِلَاده وسير الْعِمَاد مَعَه قصيدة مِنْهَا (بالمستضيء أبي مُحَمَّد الْحسن ... رجعت أُمُور الْمُسلمين إِلَى السّنَن) (فِي أَرض مصر دَعَا لَهُ خطباؤها ... وَأَتَتْ لتخطب بكر خطبَته عدن) (فالمغرب الْأَقْصَى لذَلِك مشرق ... وبنصر مصر مُحَقّق يمن الْيمن) (وَرَأى الْإِلَه المستضيء لشرعه ... وعباده نعم الْأمين المؤتمن) (سر النُّبُوَّة كامن فِيهِ وَمن ... فطر الْإِمَامَة مشرق نور الفطن) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 (تقوى أبي بكر وَمن عمر الْهدى ... وحياءُ عُثْمَان وَعلم أبي الْحسن) (وبجده عرفت مقَالَة حيدر ... لامن دَد أَنا لَا وَلَا مني الددن) (كم من عَدو ميت فِي جلده ... رعْبًا وخوفا فَهُوَ حَيّ فِي كفن) وَمِنْهَا فِي مدح نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى (هَل مثل مَحْمُود بن زنكي مخلص ... متوحدُ يَبْغِي رضاك بِكُل فن) (ورعٌ لَدَى الْمِحْرَاب أروع محرب ... فِي حالتيه إِن أَقَامَ وَإِن ظغن) (يُمْسِي وَيُصْبِح فِي الْجِهَاد وَغَيره ... يضحى رَضِيع سلافة وضجيج دَنّ) (وبعزة الْإِسْلَام منتصراً حرٍ ... وبذلة الْإِشْرَاك منتقماً قمن) قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا وصل شهَاب الدّين بن أبي عصرون من بَغْدَاد وَمَعَهُ توقيع لنُور الدّين بدرب هَارُون وصريفين وَخمسين دِينَارا من دَنَانِير النثار الَّتِي نثرت يَوْم دخل الشهَاب إِلَى بَغْدَاد بالبشارة بِالْخطْبَةِ فِي مصر وزن كل دِينَار عشرَة دَنَانِير قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت ناحيتا درب هَارُون وصريفين من أَعمال الْعرَاق لزنكي وَالِد نور الدّين قَدِيما من إنعام أَمِير الْمُؤمنِينَ فَسَأَلَ نور الدّين إحْيَاء ذَلِك الرَّسْم فِي حَقه فأنعم بهما الْخَلِيفَة عَلَيْهِ وَوجه بهما مثالُه الشريف إِلَيْهِ وَكَانَ من مُرَاده أَن يستوهب بِبَغْدَاد على شاطىء دجلة أَرضًا يبنيها مدرسة للشَّافِعِيَّة وَيقف عَلَيْهَا الناحيتين طلبا لِلْأجرِ ولحسن الذّكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الْبَاقِي على الدَّهْر فَقيل لَهُ مَا ثمَّ مَوضِع لهَذَا إِلَّا دَار التَّمْر فعاقه أَمر الْقدر عَن قدرته على الْأَمر ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَنور الدّين قد فتح من حصون الرّوم مرعش وَغَيرهَا ومليح بن لاون متملك الأرمن فِي خدمته وَوصل إِلَى خدمته أَيْضا ضِيَاء الدّين مَسْعُود بن قفجاق صَاحب ملطية وَكَانَ فِي خدمته أَيْضا الْأُمَرَاء من المجِدْل فسرّحهم بالعطاء الأجزل والسمت الأجمل وَأظْهر أَنه ينزل على قلعة الرّوم على الْفُرَات فَتقبل مستخلف الأرمن بِالْبَرَاءَةِ وَحمل خمسين ألف دِينَار على سَبِيل الْجِزْيَة مصانعة بذل وصغار وَعَاد إِلَى حلب وَقد أنجح فِي كل مَا طلب وَأَرَادَ أَن يسْرع إِلَى دمشق فالتاث سرة لالتياث سريَّته وحظى بِمَرَض الْقلب لمَرض جسم حظيته وَجَرت شكايته شكاية جَارِيَته فَتصدق عَنْهَا بألوف وَالْتزم لله فِي شفائها بنذور ووقوف ثمَّ سَيرهَا فِي محفة تحمل على أَيدي الرِّجَال فِي خفَّة وسارت على الطَّرِيق المهيع مَعَ الْعَسْكَر يحملهَا من الخدم والخواص المعشر بعد المعشر فَمَا تُقرِّب إِلَيْهِ بِمثل حملهَا وَالْمَشْي مَعهَا وَتقدم بِحَق لَازم من بخدمته شيعها وَتَأَخر نور الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فِي جَرِيدَة مَعَ عدَّة من مماليكه وأمرائه المماحضين فِي ولائه وَتقدم إلىّ أَن أسايره فِي طَرِيقه وأحاوره وأحاضره فِي مَنَازِله وأسامره وسرنا على طَرِيق قبَّة ملاعب والمشهد وسلمية فَجَاءَهُ الْخَبَر أَن الفرنج قد أغارت على حوران فَثنى إِلَى الْجِهَاد الْعَنَان وَسمع الفرنج بِهِ فَتَفَرَّقُوا وقلقوا بَعْدَمَا كَانُوا أقلقوا ودخلنا دمشق قلت وَفِي جمادي الأولى أبطل نور الدّين رَحمَه الله فَرِيضَة الأتبان وَرَأَيْت منشوره بذلك وعلامته عَلَيْهِ بِخَطِّهِ الْحَمد لله يَقُول فِيهِ وَبعد فَإِن من سنتنا العادلة وسير أيامنا الزاهرة وعوائد دولتنا الْقَاهِرَة إِشَاعَة الْمَعْرُوف وإغاثة الملهوف وإنصاف الْمَظْلُوم وإعفاء رسم مَا سنه الظَّالِمُونَ من جائرات الرسوم وَمَا نزال نجدد للرعية رسما من الْإِحْسَان يرتعون فِي رياضه ويرتوون من حياضه ونستقري أَعمال بِلَادنَا المحروسة ونصفيها من الشّبَه والشوائب ونلحق مَا نعثر عَلَيْهِ من بواقي رسومها الضائرة بِمَا أسقطناه من المكوس والضرائب تقربا إِلَى الله تَعَالَى الكافل لنا بسبوغ الْمَوَاهِب وبلوغ المطالب وَقد أطلقنا جَمِيع مَا جرت الْعَادة بِأَخْذِهِ من فريضه الأتبان المقسطة على أَعمال دمشق المحروسة وضياع الغوطة والمرج وجبل سَنيِر وَقصر حجاج والشاغور والعقيبة ومزارعها الْجَارِيَة فِي الْأَمْلَاك وَجَمِيع مَا يقسط بعد الْمُقَاسَمَة من الأتبان على الضّيَاع الْخَواص والمقطعة بِسَائِر الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة ووفرناه على أربابه طلبا لمرضاة الله وعظيم أجره وثوابه وهربا من انتقامه وأليم عِقَابه وسبيل النّواب إِطْلَاق ذَلِك على الدَّوَام وتعفيه آثاره والاستعفاء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 أوزاره والاحتراز من التدنس بأوضاره وَإِبْطَال رسمه من الدَّوَاوِين لاستقبال سنة تسع وَسِتِّينَ وَمَا بعْدهَا على تعاقب الْأَيَّام والسنين فصل فِي فتح الْيمن قَالَ الْعِمَاد وَفِي رَجَب توجه تورانشاه أكبر إخْوَة صَلَاح الدّين إِلَى الْيمن فملكها وَكَانَ يحثه على الْمسير إِلَيْهَا عُمارة اليمني شَاعِر الْقصر وَكَانَ كثير الْمَدْح لتورانشاه فتجهزّ وَسَار إِلَى مَكَّة ثمَّ إِلَى زبيد فملكها وَقبض على الْخَارِجِي بهَا وأهلكه نَائِبه سيف الدولة مبارك بن منقذ وَمضى إِلَى عدن فَأَخذهَا واستناب فِيهَا عز الدّين عُثْمَان الزنجيلي وَفتح حصن تعزّ وَغَيره من القلاع فَفتح إقليما ومنح ملكا عَظِيما وافترع بكرا وشيع ذكرا وَقَالَ ابْن شَدَّاد وَلما كَانَ سنة تسع وَسِتِّينَ رأى صَلَاح الدّين قُوَّة عسكره وَكَثْرَة عدد إخْوَته وقوّة بأسهم وَكَانَ بلغه أَن بِالْيمن إنْسَانا استولى عَلَيْهَا وَملك حصونها وَهُوَ يخْطب لنَفسِهِ يُسمى عبد النّبي بن مهْدي وَيَزْعُم أَنه ينتشر ملكه إِلَى الأَرْض كلهَا واستتب أمره فَرَأى أَن يسير إِلَيْهَا أَخَاهُ الْأَكْبَر الْملك الْمُعظم تورانشاه وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا حسن الْأَخْلَاق سَمِعت مِنْهُ يعْنى من صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الثَّنَاء على كرمه ومحاسن أخلاقه وترجيحه إِيَّاه على نَفسه فَمضى إِلَيْهَا وَفتح الله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 يَدَيْهِ وَقتل الْخَارِجِي الَّذِي كَانَ بهَا وَقلت وَكَانَ أَخُو هَذَا الْخَارِجِي قد خرج بِالْيمن قبله ذكر عمَارَة اليمني فِي أول كِتَابه فِي وزراء مصر فِي أثْنَاء كَلَام لَهُ قَالَ وَكَانَ جمَاعَة من أماثل النَّاس مثل بَرَكَات بن المقرىء وَعلي بن مُحَمَّد النيلي والفقيه أبي الْحسن عَليّ بن مهْدي الْقَائِم الَّذِي قَامَ بِالْيمن وأزال دولة أهل زبيد وَغَيرهم قد سبقوني يَعْنِي إِلَى صَاحب عدن فَذكر كلَاما يتَعَلَّق بِهِ وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة الْمهْدي بن عَليّ بن مهْدي ملك الْيمن فِي زَمَاننَا هَذَا وَسَفك الدِّمَاء وسبى الْمُسلمين وَأَقْبل على شرب الْخمر وادّعى الْملك والإمامة ودعا إِلَى نَفسه وَكَانَ يحدث نَفسه بِالْمَسِيرِ إِلَى مَكَّة فَمَاتَ سنة سِتِّينَ وَتَوَلَّى بعده أَخُوهُ وَله شعر حسن يدل على عُلّو همته قَالَ ابْن أبي طيّ كَانَ سَبَب خُرُوج شمس الدولة إِلَى الْيمن أَنه كَانَ كَرِيمًا جوادا وَكَانَ إقطاعه بِمصْر لايقوم بفتوته وَلَا ينْهض بمروّته وَكَانَ قد انتظم فِي سلكه عُمارة الشَّاعِر وَكَانَ من أهل الْيمن وَكَانَ ورد إِلَى مصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ومدح أَصْحَابهَا ونفق عَلَيْهِم فَلَمَّا زَالَت دولتهم انضوى إِلَى شمس الدولة ومدحه وَكَانَ إِذا خلا بِهِ يصف لَهُ بِلَاد الْيمن وَكَثْرَة أموالها وَخَيرهَا وَضعف من فِيهَا وَأَنَّهَا قريبَة المأخذ لمن طلبَهَا قلت فَمن جملَة شعره فِي ذَلِك قَوْله فِي القصيدة الَّتِي أَولهَا (الْعلم مذ كَانَ مُحْتَاج إِلَى الْعلم ... وشفرة السَّيْف تَسْتَغْنِي عَن الْقَلَم) (كم يتْرك الْبيض فِي الأجفان ظامئة ... إِلَى الْمَوَارِد فِي الْأَعْنَاق والقمم) (أمامك الْفَتْح من شام وَمن يمن ... فَلَا ترد رُؤُوس الْخَيل باللجم) (فعمُّك الْملك الْمَنْصُور سوّمها ... من الْفُرَات إِلَى مصر بِلَا سأم) (فاخلق لنَفسك ملكا لَا تُضَاف بِهِ ... إِلَى سواك وأوْرِ النَّار فِي الْعلم) (هَذَا ابْن تومرت قد كَانَت بدايته ... كَمَا يَقُول الورى لَحْمًا على وَضم) (وَقد ترامى إِلَى أَن أَمْسَكت يَده ... من الْكَوَاكِب بالأنفاس والكظم) (حاسب ضميرك عَن رَأْي أَتَاك وَقل ... نصيحة وَردت من غير متهّم) وَله من أُخْرَى (أفاتح أَرض النِّيل وَهِي منيعة ... على كلّ راجٍ فتحهَا ومؤمل) (مَتى توقد النَّار الَّتِي أَنْت قَادِح ... بغمدان مشبوبا سناها بمندل) (وتفتح مَا بَين الْحصين وَأبين ... وَصَنْعَاء من حصنٍ حُصَيْن وَمَعْقِل) (وتملك من مخلاف طرف وجعفر ... نقيضين من حَزْن خصيب ومُسهل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 (وتخلق ملكا لاتُحيل بفخره ... على أحد إِلَّا على عزمك الْعلي) وَله من قصيدة أُخْرَى (قَالُوا إِلَى الْيمن الميمون رحلته ... فَقلت مَا دونه شَيْء سوى السّفر) (سيْرٌ يَسُرُّ بني الدُّنْيَا وَطيب ثَنَا ... وَطول عمر كَذَا يحْكى عَن الْخضر) (لَا توقدن لَهَا النَّار الَّتِي خمدت ... خفض عَلَيْك تنَلْ مَا شِئْت بالشرر) (المَال ملىء يَد وَالْقَوْم ملك يَد ... وَلَا أطيل وَهَذَا جملَة الْخَبَر) قَالَ ابْن أبي طيّ وَوَافَقَ ذَلِك أَنه كَاتبه رجل من أهل الْيمن شرِيف يُقَال لَهُ هَاشم بن غَانِم وأطمعه فِي المعاونة لِأَن صَاحب الْيمن عبد النَّبِي كَانَ قد تعدى على هَذَا الشريف هَاشم فَأعْلم شمس الدولة أَصْحَابه بعزمه على الْيمن فَأَجَابُوهُ وتجهز ثمَّ دخل على أَخِيه السُّلْطَان واستأذنه فِي دُخُول الْيمن فَأذن لَهُ وَأطلق لَهُ مُغَلّ قوص سنة وزوده فَوق مَا كَانَ فِي نَفسه وأصحبه جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَمِقْدَار ألف فَارس خَارِجا عمّن سيره من حلقته وَسَار فِي الْبر وَالْبَحْر فِي الْبر العساكر وَفِي الْبَحْر الأسطول يحمل الأزواد وَالْعدَد والآلات فوصل إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى فَدَخلَهَا زَائِرًا ثمَّ خرج مُتَوَجها مِنْهَا إِلَى الْيمن فوصل زبيد فِي أَوَائِل شَوَّال فَنزل عَلَيْهَا ولقيه الشريف هَاشم بن غَانِم الحسني وَجَمِيع الْأَشْرَاف بَنو سُلَيْمَان فِي جمع جم وَعدد كثير فهجم زبيد وتسلمها واحتوى على مَا فِيهَا وَقبض على صَاحب الْيمن عبد النبيّ أخي عَليّ بن مهْدي ثمَّ رَحل إِلَى عدن وَفِي صحبته ابْن مهْدي فَفَتحهَا عنْوَة وولاها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 عز الدّين بن الزنجيلي ثمَّ سَار إِلَى المخلاف وتسَّلم الْحُصُون الَّتِي كَانَت فِي يَد ابْن مهْدي كتعز وَغَيرهمَا وَسَار إِلَى صنعاء بعد فتح مَدِينَة الْجند وَغَيرهَا فأحرقت صنعاء فذخلها شمس الدولة فَلم يجد بهَا إِلَّا شَيخا وَامْرَأَة عجوزا فَأَقَامَ بهَا ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ لم يسْتَطع الْمقَام لقلَّة الْميرَة فَرجع إِلَى زبيد فَوجدَ ابْن منقذ قد قتل عبد النَّبِي ابْن مهْدي وَكَانَ شمس الدولة قد استناب بزبيد الْأَمِير سيف الدولة الْمُبَارك بن منقذ وَأمره بِحمْلِهِ فَلَمَّا بُعد شمس الدولة خَافَ ابْن منقذ من فَسَاد أمره فَرَأى الْمصلحَة فِي قَتله فَقتله ابْن منقذ بزبيد فَلَمَّا بلغ شمس الدولة قَتله استصوبه وَلما حصل شمس الدولة فِي زبيد أنفذ إِلَيْهِ صَاحب طمار وَصَالَحَهُ هُوَ وَبَاقِي الْمُلُوك على أَدَاء المَال ثمَّ تتبع تِلْكَ الْحُصُون والقلاع فاحتوى عَلَيْهَا جَمِيعهَا وَكتب بذلك إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر فَأرْسل إِلَى نور الدّين يُخبرهُ بِمَا أَفَاضَ الله عَلَيْهِ من الْإِحْسَان وخوّله من ملك الْبلدَانِ فَأرْسل نور الدّين مهذب الدّين أَبَا الْحسن عليّ بن عِيسَى النقاش بالبشارة بذلك إِلَى بَغْدَاد فصل ذكر الْعِمَاد هَهُنَا الْأَمِير مجد الدّين سيف الدولة الْمُبَارك بن كَامِل بن منقذ المستناب بزبيد وَوَصفه بِأَنَّهُ من الكفاة الكرماء والدّهاة ذوى الآراء وَهُوَ فَاضل من أهل بَيت فضل كتب إِلَى الْعِمَاد من شعره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 (لما نزلت الدّير قلت لصاحبي ... قُم فاخطب الصَّهْبَاء من شماسه) (فَأتى وَفِي يمناه كأس خلتها ... مقبوسةً فِي اللَّيْل من نبراسه) (وَكَأن مَا فِي كأسه من خَدّه ... وَكَأن مَا فِي خَدّه من كاسه) (وَكَأن لَذَّة طعمها من رِيقه ... وأريجها الفيّاح من أنفاسه) (لم أنس لَيْلَة شربهَا بفنائه ... إِذْ بَات يجلوها على جُلاّسه) (إِذْ قَامَ يسقينا المدام وَكلما ... عاتبته ردَّ الْجَواب براسه) قلت ومدحه أَبُو الْحسن بن الذروي الْمصْرِيّ بقصيدة غراء ذالية مَا أَظن أَنه نظم على قافية الذَّال أرق مِنْهَا لفظا وأروق معنى أوّلها (لَك الْخَيْر عرّج بِي على ربعهم فذى ... ربوع يفوح الْمسك من عرفهَا الشذى) يَقُول فِيهَا (مَبَارِكُ عِيسِ الْوَفْد بابُ مباركٍ ... وَهل منقذ القُصاد غيرُ ابْن منقذ) قَالَ الْعِمَاد ثمَّ سير نور الدّين إِلَى بَغْدَاد بِشَارَة بأمرين أَحدهمَا فتح الْيمن وَالْآخر كسر الرّوم مرّة ثَانِيَة ومقدمهم الدوقس كلمان وَكَانَ قَدِيما أَسِيرًا عِنْد نور الدّين من نوبَة حارم وفداه بِخَمْسَة وَخمسين ألف دِينَار وَخمْس مئة وَخمسين ثوبا أطلسا وسيّر مَعَه أسرى من الرّوم وَذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 شعْبَان هَذِه السّنة وَمِمَّا تضمنه كتاب الْبشَارَة وَلم ينج من عشرَة آلَاف غير عشرَة حمر مستنفرة فرت من قسورة وقبِل ذَلِك بشهرين سيّرت قصيدة للعماد فِي جُمَادَى الْآخِرَة على لِسَان نور الدّين إِلَى بَغْدَاد أوّلها (أطَاع دمعي وصبري فِي الغرام عَصَي ... وَالْقلب جرّع من كأس الْهوى غصصا) (وَإِن صفو حَياتِي مَا يكدره ... إِلَّا اشتياقي إِلَى أحبابي الخلصا) (مَا أطيب الْعَيْش بالأحباب لَو وصلوا ... وأسعد الْقلب من بلواه لَو خلصا) وَمِنْهَا (من ذَا الَّذِي سَار سيري فِي ولائكم ... غَدَاة قَالَ العدى لاسير عِنْد عَصا) (قد نَالَ عَبدك محمودٌ بهَا ظفرا ... مَا زَالَ يرقبهُ من قبل مرتبصا) (مِنْ خوف سطوته أَن العدوّ إِذا ... أم الثغور على أعقابه نكصا) قَالَ الْعِمَاد وكلّف نور الدّين فِي هَذِه السّنة بإفادة الألطاف وَالزِّيَادَة فِي الْأَوْقَاف وتكثير الصَّدقَات وتوفير النَّفَقَات وَكِسْوَة النسْوَة الْأَيَامَى فِي أَيَّامهَا وإغناء فُقَرَاء الرّعية وإنجادها بعد أعدامها وصون الْأَيْتَام والأرامل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ببذله وعوْن الضُّعَفَاء وتقوية المقوين بعدله ثمَّ ذكر مَا قدمنَا ذكره فِي أول الْكتاب من مَنَاقِب نور الدّين وأفعاله الْكَرِيمَة قَالَ الْعِمَاد وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع شهر رَمَضَان ركب نور الدّين على الْعَادة وَجَلَسْنَا نَحن فِي ديوانه حافلين فِي إيوانه لبسط عدله وإحسانه وتنفيذ أوَامِر سُلْطَانه فَجَاءَنِي من أَخْبرنِي أَن نور الدّين نزل إِلَى الْمدرسَة الَّتِي تتولاها وَبسط سجادته فِي قبلتها لسُنة الضُّحَى وصلاّها فَقُمْت من الْحَال ومضيت على الاستعجال فَلَقِيته فِي الدهليز خَارِجا فِي أجر الْعِبَادَة ناجحا ولنهج السَّعَادَة ناهجا فَلَمَّا رَآنِي توقف ولقولي تشوف فَقلت لَهُ إِن الْموضع قد تشرف أما ترى أَنه من أَيَّام الزلزلة قد تشعث فَلَمَّا رأى حَاله تلبث وَقَالَ نعيده إِلَى الْعِمَارَة ونكسوه حلل النضارة ثمَّ حملت لَهُ وُجُوه سكر وشيئا من ثِيَاب وَطيب وَعَنْبَر وكتبت مَعهَا هَذِه الأبيات (عِنْد سُلَيْمَان على قدره ... هَدِيَّة النملة مقبوله) (ويصغر الْمَمْلُوك عَن نملة ... عنْدك وَالرَّحْمَة مأموله) (رقِّي لمولانا وملكي لَهُ ... وذمتي بالشكر مشغوله) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 (وَكَيف يقْضِي الْحق ذُو منَّة ... ضَعِيفَة بِالْعَجزِ مغلوله) (وَإِنَّمَا شِيمَة مولى الورى ... طَاهِرَة بِالْخَيرِ مجبولة) قَالَ وَكَانَ رَأْي قبْلَة الْمدرسَة غير مُفصصة وبالترخيم والتذهيب والتهذيب غير مخصصة فنفذ لي لعمارتها فصوصا مذهبَة وذهبا ثمَّ حم مَقْدُور حمامه وعاق الْقدر عَن إِتْمَامه وَدفعت إِلَى الْموصل فرأيته فِي الْمَنَام وَهُوَ يجاريني فِي الْكَلَام وَيَقُول مَا يعود إِلَى الْمدرسَة مَعْنَاهُ وَقَالَ الصَّلَاة الصَّلَاة فَعرفت أَنه أَشَارَ إِلَى الْمِحْرَاب وَأَنه الْآن على هَيْئَة الخراب فَكتبت إِلَى الْفَقِيه الَّذِي كَانَ عِنْده الذَّهَب أَن يشرع فِي عِمَارَته وَدخلت دمشق يَوْم فرَاغ الصَّانِع مِنْهُ فصل قَالَ ابْن أبي طيّ وَفِي هَذِه السّنة وصل رَسُول نور الدّين الْمُوفق بن القيسراني إِلَى الديار المصرية وأجتمع بالسلطان الْملك النَّاصِر وأنهى إِلَيْهِ رِسَالَة نور الدّين وطالبه بِحِسَاب جَمِيع مَا حصله وارتفع إِلَيْهِ من ارْتِفَاع الْبِلَاد فصعب ذَلِك على السُّلْطَان وَأَرَادَ شقّ الْعَصَا لَوْلَا مَا ثاب إِلَيْهِ من السكينَة ثمَّ أَمر النواب بِعَمَل الْحساب وَعرضه على ابْن القيسراني وَأرَاهُ جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم وكميات جامكياتهم ورواتب نفقاتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 فَلَمَّا حصل عِنْده جَمِيع ذَلِك أرسل مَعَه هَدِيَّة إِلَى نور الدّين على يَد الْفَقِيه عِيسَى قَالَ ووقفت على برنامج شرحها بِخَط الْمُوفق بن القيسراني وَهِي خمس ختمات إِحْدَاهمَا ختمة ثَلَاثُونَ جُزْءا مغشاة بأطلس أَزرق مضببة بصفائح ذهب وَعَلَيْهَا أقفال ذهب مَكْتُوبَة بِذَهَب بِخَط يانس وختمة بِخَط رَاشد مغشاة بديباج فُسْتُقى عشرَة أَجزَاء وختمة بِخَط ابْن البواب مُجَلد وَاحِد بقفل ذهب وختمة بِخَط مهلهل جُزْء وَاحِد وختمة بِخَط الْحَاكِم الْبَغْدَادِيّ ثَلَاثَة أَحْجَار بلخش حجر وَزنه اثْنَان وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وَحجر وَزنه اثْنَا عشر مِثْقَالا وَحجر وَزنه عشرَة مَثَاقِيل وَنصف سِتّ قصبات زمرد قَصَبَة وَزنهَا ثَلَاثَة عشر مِثْقَالا وَثلث وَربع وقصبة وَزنهَا ثَلَاثَة مَثَاقِيل وقصبة وَزنهَا مثقالان وَنصف وقصبة وَزنهَا مثقالان وَربع وَسدس وقصبة وَزنهَا مثقالان وَثلث وَحجر ياقوت وَزنه سَبْعَة مَثَاقِيل وَحجر أَزْرَق وَزنه سِتَّة مَثَاقِيل وَسدس مئة عقد جَوْهَر مختومة وَزنهَا جَمِيعهَا ثَمَانِي مئة وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ مِثْقَالا خَمْسُونَ قَارُورَة دهن بِلِسَان عشرُون قِطْعَة بلور أَرْبَعَة عشر قِطْعَة جزع وَذكر تفصيلها إبريق يشم طشت يشم سقرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مينا مَذْهَب صحون صيني وزبادي وسكارج أَرْبَعُونَ قِطْعَة عود طيب قطعتان كبار كرتان وزن إِحْدَاهمَا ثَلَاثُونَ رطلا بالمصري وَالْأُخْرَى أحد وَعِشْرُونَ رطلا مئة ثوب أطلس أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بقيارا مذهبَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ثوبا حريري أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ثوبا من الوشي حريرية بيض حلَّة فلفلي مذهبَة حلَّة مرايش صفراء مذهبَة وَذكر غير ذَلِك أنواعا من القماش قيمتهَا مئتان وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار مصرية وعدّة من الْخَيل والغلمان والجواري وشيئاً كثيرا من السِّلَاح على اخْتِلَاف ضروبه قَالَ وَخَرجُوا بِهَذِهِ الْهَدِيَّة فَلم تصل إِلَى نور الدّين لأَنهم أتصل بهم وَفَاته فَمِنْهَا مَا أُعِيد وَمِنْهَا مَا اسْتهْلك لِأَن الْفَقِيه عِيسَى وَابْن القيسراني وضعا عَلَيْهَا من نهبها واستَّبَدا بأكثرها وَقيل إِنَّهَا وصلت جَمِيعهَا إِلَى السُّلْطَان لِأَنَّهُ اتَّصل بِهِ خبر موت نور الدّين فأنفذ من ردّها قَالَ وحَدثني من شَاهد هَذِه الْهَدِيَّة أَنه كَانَ مَعهَا عشرَة صناديق مَالا لم يعلم مِقْدَاره وَقَالَ الْعِمَاد وَلما وصل إِلَى صَلَاح الدّين رَسُول نور الدّين وَهُوَ الْمُوفق خَالِد أطلعه على كل مَا هُوَ فِيهِ وأحصى لَهُ الطريف والتالد وَقَالَ هَؤُلَاءِ الأجناد فاعرضهم وَأثبت أخبازهم وَمَا يضْبط مثل هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الإقليم إِلَّا بِالْمَالِ الْعَظِيم ثمَّ أَنْت تعرف أكَابِر الدولة وعظماءها وَأَنَّهُمْ اعتادوا على السعَة والدعة نعماءها وَقد تصرفوا فِي مَوَاضِع لَا يُمكن انتزاعها وَلَا يسمحون بِأَن ينقص ارتفاعها فالموارد مشفوهة والشدائد مَكْرُوهَة والمقاصد بردعها مجبوهة والهمم بهَا مشدوهة وَشرع فِي جمع مَال يسيره ويحمله بِجهْد يبذله وبخطر يحْتَملهُ وَحصل لخَالِد مِنْهُ مَا لم يكن فِي خلده وَجَاء مطرف غناهُ أَضْعَاف متلده فصل فِي صلب عمَارَة اليمني الشَّاعِر وَأَصْحَابه قَالَ الْعِمَاد وَاجْتمعَ جمَاعَة من دعاة الدولة المصرية المتعصبة المتشددة المتصلبة وتوازروا وتزاوروا فِيمَا بَينهم خيفة وخفية واعتقدوا أُمْنِية عَادَتْ بالعقبى عَلَيْهِم منية وعينوا الْخَلِيفَة والوزير وأحكموا الرَّأْي وَالتَّدْبِير وبيّتوا أَمرهم بلَيْل وستروا عَلَيْهِ بذيل وَكَانَ عمَارَة اليمني الشَّاعِر عقيدهم ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم وَكَانُوا قد أودعوا سرّهم عِنْد من أذاعه واستحفظوا من أضاعه وأدخلوا عدّة من أنصار الدولة الناصرية فِي جُمْلَتهمْ وعرفوهم بجهلتهم وَكَانَ الْفَقِيه الْوَاعِظ زين الدّين عَليّ بن نجا يُناجيهم فِيمَا زين لَهُم من سوء أَعْمَالهم ويداخلهم فِي عزم خُرُوجهمْ مطلعا على أَحْوَالهم وتقاسموا الدّور والأملاك وكادت آمالهم تَدْنُو من الْإِدْرَاك فجَاء زين الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 الْوَاعِظ وأطلع صَلَاح الدّين على فسادهم وَمَا سولوه من مُرَاد مُرَادهم وَطلب مالابن كَامِل الدَّاعِي من الْعقار والدور وكلّ مَاله من الْمَوْجُود والمذخور فبدل لَهُ السُّلْطَان كل مَا طلبه وَأمره بمخالطتهم ورغبه ثمَّ أَمر السُّلْطَان بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإِقَامَة السياسة فيهم وصلب يَوْم السبت ثَانِي شهر رَمَضَان جمَاعَة مِنْهُم بَين القصرين مِنْهُم عمَارَة وأفنى بعد ذَلِك من بَقِي مِنْهُم وَمَات بموتهم الْخَبَر عَنْهُم وَكَانَ مِنْهُم دَاعِي الدعاة ابْن عبد الْقوي وَكَانَ عَارِفًا بخبايا الْقصر وكنوزه فباد وَلم يسمع بإبدائها وَبقيت تِلْكَ الخزائن مدفونة وَتلك الدفائن مخزونة قد دفن دافنها وخزن تَحت الثرى خازنها إِلَى أَن يَأْذَن الله فِي الْوُصُول إِلَيْهَا والاطلاع عَلَيْهَا وَجمع من أَمْوَال هَؤُلَاءِ مَا يحمل إِلَى الشَّام للاستعانة بِهِ على حماية ثغور الْإِسْلَام قَالَ ابْن أبي طيّ وَفِي هَذِه السّنة اجْتمع جمَاعَة من دعاة المصريين والعوام وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم خُفْيَة وَبكوا على أنقراض دولة المصريين وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ من الذل والفقر ثمَّ أَجمعُوا آراءهم على أَن يقيموا خَليفَة ووزيرا ويجتمعوا هم وَجَمَاعَة عينوهم من الْأُمَرَاء وَغَيرهم وَأَن يكاتبوا الفرنج ويثبوا بِالْملكِ النَّاصِر وأدخلوا مَعَهم فِي هَذَا الْأَمر ابْن مصال وواعدوا جمَاعَة من شيعَة المصريين لَيْلَة عينوها وكاتبوا الفرنج بذلك وقرروا مَعَهم الْوُصُول إِلَيْهِم فِي ذَلِك الزَّمَان الْمُقَرّر فخانهم ابْن مصال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 فِيمَا عاهدهم عَلَيْهِ ونكث فِي الْيَمين وكفّر عَنْهَا وَصَارَ إِلَى الْملك النَّاصِر وعرفه بجلية مَا جرى فأحضرهم وَاحِدًا وَاحِدًا وقررهم على هَذِه الْحَالة فأقروا واعترفوا وَاعْتَذَرُوا بكونهم قطعت أَرْزَاقهم وَأخذت أَمْوَالهم فأحضر السُّلْطَان الْعلمَاء واستفتاهم فِي أَمرهم فأفتوه بِقَتْلِهِم وصلبهم ونفيهم فَأمر بصلبهم وَقيل إِن الَّذِي أذاع سرهم زين الدّين عَليّ الْوَاعِظ وَطلب جَمِيع مَا لِابْنِ الدَّاعِي من الْعقار وَالْمَال فَأعْطَاهُ جَمِيع ذَلِك وَكَانَ الَّذين صلبوا مِنْهُم الْمفضل بن كَامِل القَاضِي وَابْن عبد الْقوي الدَّاعِي والعوريس وَكَانَ قد تولى النّظر ثمَّ الْقَضَاء بعد ذَلِك وشبرما كَاتب السِّرّ وَعبد الصَّمد القشة أحد أُمَرَاء المصريين ونجاح الحمامي وَرجل منجم نَصْرَانِيّ أرمني كَانَ قَالَ لَهُم إِن أَمرهم يتم بطرِيق علم النُّجُوم وعُمارة اليمني الشَّاعِر قلت وَبَلغنِي أنّ عُمارة إِنَّمَا كَانَ تحريضه لشمس الدولة على الْمسير إِلَى الْيمن ليتم هَذَا الْأَمر لِأَن فِيهِ تقليلا لعسكر صَلَاح الدّين وإبعاداً لِأَخِيهِ وناصريه عَنهُ قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة وَوَقعت أتفاقات عَجِيبَة من جُمْلَتهَا أَنه نسب إِلَيْهِ بَيت من قصيدة ذكرُوا أَنه لَهُ يَعْنِي فِي القصيدة الَّتِي حرض فِيهَا شمس الدولة على الْمسير إِلَى الْيمن أَولهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 (الْعلم مذ كَانَ مُحْتَاج إِلَى الْعلم ... ) وَقد تقدم ذكرهَا وَأما الْبَيْت فَهُوَ (قد كَانَ أول هَذَا الدّين من رجل ... سعى إِلَى أَن دَعوه سيّد الْأُمَم) قَالَ الْعِمَاد وَيجوز أَن يكون هَذَا الْبَيْت مَعْمُولا عَلَيْهِ فَأفْتى فُقَهَاء مصر بقتْله وحرضوا السُّلْطَان على الْمثلَة بِمثلِهِ قَالَ ولعمارة فِي مصلوب بِمصْر يُقَال لَهُ طرخان وَكَانَ خرج على الصَّالح بن زريك فظفر بِهِ الصَّالح وصلبه وَكَانَ يستحسن أَبْيَات عُمارة فِيهِ وَهِي (أَرَادَ عُلو مرتبَة وَقدر ... فَأصْبح فَوق جذع وَهُوَ عالي) (ومُد على صَلِيب الْجذع مِنْهُ ... يَمِين لاتطول على الشمَال) (ونكس رَأسه لعتاب قلب ... دَعَاهُ إِلَى الغواية والضلال) قَالَ الْعِمَاد فَكَأَنَّهُ وصف حَاله وَمَا آل إِلَيْهِ أمره وَقَالَ فِي الْبَرْق وَوصل من صَلَاح الدّين يَوْم وَفَاة نور الدّين إِلَى دمشق كتاب يتَضَمَّن هَذِه الْقَضِيَّة وَهُوَ بِخَط ابْن قُرَيْش يَعْنِي المرتضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وَقَالَ ابْن أبي طيّ وَقد كتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى نور الدّين كتابا شرح فِيهِ قَضِيَّة المصلَّبين فَقَالَ بعد مطلع الْكتاب قصر هَذِه الْخدمَة على متجددٍ سَار لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَبشَارَة مؤذنة بِظُهُور وعد الله فِي إِظْهَاره على الدّين كُله بعد أَن كَانَت لَهَا مُقَدمَات عَظِيمَة إِلَّا أَنَّهَا أسفرت عَن النُّجح وأوائل كالليلة الْبَهِيمَة إِلَّا أَنَّهَا انفرجت عَن الصُّبْح فالإسلام ببركاته الْبَادِيَة وفتكاته الْمَاضِيَة قد عَاد مستوطنا بعد أَن كَانَ غَرِيبا وَضرب فِي الْبِلَاد بجرانه بعد أَن كَاد الْكفْر يتم عَلَيْهِ تخيلا عجيبا إِلَّا أنّ الله سُبْحَانَهُ أطلع على أمرهَا من أَوله وَأظْهر على سرها من مستقبله والمملوك يَأْخُذ فِي ذكر الْخَبَر ويعرض عَن ذكر الْأَثر لم يزل يتُوسم من جند مصر وَمن أهل الْقصر بَعْدَمَا أَزَال الله من بدعتهم وَنقض من عُرى دولتهم وخفض من مَرْفُوع كلمتهم أَنهم أَعدَاء وَإِن قعدت بهم الْأَيَّام وأضداد وَإِن وَقعت عَلَيْهِم كلمة الْإِسْلَام وَكَانَ لَا يحتقر مِنْهُم حَقِيرًا وَلَا يستبعد مِنْهُم شرا كَبِيرا وعيونه لمقاصدهم موكلة وخطراته فِي التَّحَرُّز مِنْهُم مستعملة لاتخلو سنة تمر وَلَا شهر يكرّ من مكر يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ وَفَسَاد يتسرعون إِلَيْهِ وحيلة يبرمونها ومكيدة يتممونها وَكَانَ أَكثر مَا يتعللون بِهِ ويستريحون إِلَيْهِ المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إِلَى الفرنج خذلهم الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الَّتِي يُوسعُونَ لَهُم فِيهَا سبل المطامع ويحملونهم فِيهَا على العظائم الفظائع ويزينون لَهُم الْإِقْدَام والقدوم ويخلعون فِيهَا ربقة الْإِسْلَام خلع الْمُرْتَد المخصوم وَيَد الفرنج بِحَمْد الله قَصِيرَة عَن إجابتهم إِلَّا أَنهم لَا يقطعون حَبل طمعهم على عَادَتهم وَكَانَ ملك كلما سوّلت لَهُ نَفسه الاستتار فِي مراسلتهم والتحيل فِي مفاوضتهم سير جرج كَاتبه رَسُولا إِلَيْنَا ظَاهرا وإليهم بَاطِنا عارضا علينا الْجَمِيل الَّذِي مَا قبلته قطّ أَنْفُسنَا وعاقداً مَعَهم الْقَبِيح الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهِ فِي وقته علمنَا وَلأَهل الْقصر والمصريين فِي أثْنَاء هَذِه المدد رسل تَتَرَدَّد وَكتب إِلَى الفرنج تتجدد ثمَّ قَالَ وَالْمولى عَالم أَن عَادَة أوليائه المستفادة من أدبه أَلا يبسطوا عقَابا مؤلما وَلَا يعذبوا عذَابا محكما وَإِذا طَال لَهُم الاعتقال وَلم ينجع السُّؤَال أطلق أطلق سراحهم وخلى سبيلهم فَلَا يزيدهم الْعَفو إِلَّا ضراوة وَلَا الرقة عَلَيْهِم إِلَّا قساوة وَعند وُصُول جرج فِي هَذِه الدفعة الْأَخِيرَة رَسُولا إِلَيْنَا بِزَعْمِهِ ورد إِلَيْنَا كتاب مِمَّن لَا نرتاب بِهِ من قومه يذكرُونَ أَن رَسُول مخاتلة لَا رَسُول مجاملة وحامل بلية لَا حَامِل هَدِيَّة فأوهمناه الإغفال عَن التيقظ لكل مَا يصدر مِنْهُ وَإِلَيْهِ فتوصل مرّة بِالْخرُوجِ لَيْلًا وَمرَّة بالركوب إِلَى الْكَنِيسَة وَغَيرهَا نَهَارا إِلَى الِاجْتِمَاع بحاشية الْقصر وخدامه وبأمراء المصريين وأسبابهم وَجَمَاعَة من النَّصَارَى وَالْيَهُود وكلابهم وكتابهم فدسسنا إِلَيْهِم من طائفتهم من داخلهم فَصَارَ ينْقل إِلَيْنَا أخبارهم وَيرْفَع إِلَيْنَا أَحْوَالهم وَلما تكاثرت الْأَقْوَال وَكَاد يشْتَهر علمنَا بِهَذِهِ الْأَحْوَال استخرنا الله تَعَالَى وقبضنا على جمَاعَة مفْسدَة وَطَائِفَة من هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الْجِنْس متمردة قد اشْتَمَلت على الاعتقادات المارقة والسرائر المنافقة فكلاًّ أَخذ الله بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أقرّ طَائِعا عِنْد إِحْضَاره وَمِنْهُم من أقرّ بعد ضربه فَانْكَشَفَتْ أُمُور أخر كَانَت مكتومة ونوب غير الَّتِي كَانَت عندنَا مَعْلُومَة وتقريرات مُخْتَلفَة فِي المُرَاد متفقة فِي الْفساد ثمَّ ذكر تَفْصِيلًا حَاصله أَنهم عينوا خَليفَة ووزيرا مُخْتَلفين فِي ذَلِك فَمنهمْ من طلب إِقَامَة رجل كَبِير السن من بني عَم العاضد وَمِنْهُم من جعل ذَلِك لبَعض أَوْلَاد العاضد وَإِن كَانَ صَغِيرا وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي تعْيين وَاحِد من وَلدين لَهُ وَأما بَنو رزيك وَأهل شاور فَكل مِنْهُم أَرَادَ الوزارة لبيتهم من غير أَن يكون لَهُم غَرَض فِي تعْيين الْخَلِيفَة ثمَّ قَالَ وَكَانُوا فِيمَا تقدم والمملوك على الكرك والشوبك بالعسكر قد كاتبوهم وَقَالُوا لَهُم إِنَّه بعيد والفرصة قد أمكنت فَإِذا وصل الْملك الفرنجي إِلَى صدر أَو إِلَى أَيْلَة ثارت حَاشِيَة الْقصر وكافة الْجند وَطَائِفَة السودَان وجموع الأرمن وَعَامة الاسماعيلية وفتكت بأهلنا وأصحابنا بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ قَالَ وَلما وصل جرج كتبُوا إِلَى الْملك الفرنجي أَن العساكر متباعدة فِي نواحي إقطاعاتهم وعَلى قرب من موسم غلاتهم وَأَنه لم يبْق فِي الْقَاهِرَة إِلَّا بَعضهم وَإِذا بعثت أسطولا إِلَى بعض الثغور أنهض فلَان من عِنْده وَبَقِي فِي الْبَلَد وَحده فَفَعَلْنَا مَا تقدم ذكره من الثورة ثمَّ قَالَ وَفِي اثناء هَذِه الْمدَّة كاتبوا سِنَانًا صَاحب الحشيشية بِأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الدعْوَة وَاحِدَة والكلمة جَامِعَة وَأَن مَا بَين أَهلهَا خلاف إِلَّا فِيمَا لَا يفْتَرق بِهِ كلمة وَلَا يجب بِهِ قعُود عَن نصْرَة واستدعوا مِنْهُ يُتمم على الْمَمْلُوك غيلَة أَو يبيت لَهُ مكيدة وحيلة {وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ} وَكَانَ الرَّسُول إِلَيْهِم عَن المصريين خَال ابْن قرجلة الْمُقِيم الْآن هُوَ وَابْن أُخْته عِنْد الفرنج وَلما صَحَّ الْخَبَر وَكَانَ حكم الله أولى مَا أَخذ بِهِ وأدب الله أمضى فِيمَن خرج عَن أدبه وتناصرت من أهل الْعلم الْفَتَاوَى وتوالت من أهل المشورة بِسَبَب تَأْخِير الْقَتْل فيهم المراجعات والشكاوى قتل الله بِسيف الشَّرْع المطهر جمَاعَة من الغواة الغلاة الدعاة إِلَى النَّار الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الْفجار وشنقوا على أَبْوَاب قصورهم وصلبوا على الْجُذُوع المواجهة لدورهم وَوَقع التتبع لأتباعهم وشردت طَائِفَة الاسماعيلية وَنَفَوْا ونودى بِأَن يرحل كَافَّة الأجناد وحاشية الْقصر وراجل السودَان إِلَى أقْصَى بِلَاد الصَّعِيد فَأَما من فِي الْقصر فقد وَقعت الحوطة عَلَيْهِم إِلَى أَن ينْكَشف وَجه رَأْي يمْضِي فيهم وَلَا رَأْي فَوق رَأْي الْمولى وَالله سُبْحَانَهُ مستخار وَهُوَ مستشار وَعِنْده من أهل الْعلم من تطيب النَّفس بتقليده وتمضي الْحُدُود بتحديده وَرَأى الْمَمْلُوك إخراجهم من الْقصر فَإِنَّهُم مهما بقوا فِيهِ بقيت مَادَّة لَا تنحسم الأطماع عَنْهَا فَإِنَّهُ قبْلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 للضلال مَنْصُوبَة وبيعة للبدع محجوجة قَالَ الْمُؤلف لَعَلَّهَا محجوجة وَمِمَّا يطرف بِهِ الْمولى أَن ثغر الْإسْكَنْدَريَّة على عُمُوم مَذْهَب السّنة فِيهِ أطلع الْبَحْث أَن فِيهِ دَاعِيَة خبيثا أمره محتقرا شخصه عَظِيما كفره يُسمى قديد القفاص وَأَن الْمَذْكُور مَعَ خموله فِي الديار المصرية قد فَشَتْ فِي الشَّام دَعوته وطبقت عقول أهل مصر فتنته وَأَن أَرْبَاب المعايش فِيهِ يحملون إِلَيْهِ جُزْءا من كسبهم والنسوان يبْعَثْنَ إِلَيْهِ شطرا وافيا من أموالهن وَوجدت فِي منزله بالإسكندرية عِنْد الْقَبْض لَهُ والهجم عَلَيْهِ كتب مُجَرّدَة فِيهَا خلع العذار وصريح الْكفْر الَّذِي مَا عَنهُ اعتذار ورقاع يُخَاطب بهَا فِيهَا مَا تقشعر مِنْهُ الْجُلُود وَكَانَ يدعى النّسَب إِلَى أهل الْقصر وَأَنه خرج مِنْهُ طفْلا صَغِيرا وَنَشَأ على الضَّلَالَة كَبِيرا وَبِالْجُمْلَةِ فقد كفى الْإِسْلَام أمره وحاق بِهِ مكره وصرعه كفره قلت وَفِي قَضِيَّة عُمارة هَذِه يَقُول العلاّمة تَاج الدّين الْكِنْدِيّ رَحمَه الله تَعَالَى ونقلته من خطه (عُمارة فِي الْإِسْلَام أبدى جِنَايَة ... وَبَايع فِيهَا بيعَة وصليبا) (وَأمسى شريك الشّرك فِي بُغض أَحْمد ... فَأصْبح فِي حب الصَّلِيب صليبا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 (وَكَانَ خَبِيث الْمُلْتَقى إِن عجمته ... تَجِد مِنْهُ عودا فِي النِّفَاق صليبا) (سيلقى غَدا مَا كَانَ يسْعَى لأَجله ... ويسقى صديدا فِي لظى وصليبا) قلت الصَّلِيب الأول صَلِيب النَّصَارَى وَالثَّانِي بِمَعْنى مصلوب وَالثَّالِث من الصلابة وَالرَّابِع ودك الْعِظَام وَقيل هُوَ الصديد أَي يسقى مَا يسيل من أهل النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَكَانَ عُمارة مستشعراً من الغز وهم أَيْضا مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ من أَتبَاع الدولة المصرية وَمِمَّنْ انْتفع بهَا واختل أمره بعْدهَا فَلم تصف الْقُلُوب بَعْضهَا لبَعض وَصَارَ يظْهر فِي فلتات لِسَانه فِي نظمه ونثره مَا يَقْتَضِي التَّحَرُّز مِنْهُ وإبعاده وَهُوَ يرى ذَلِك مِنْهُم فَيَزْدَاد فَسَادًا فِي نِيَّته وَإِن مدحهم تكلّف ذَلِك وصرّح وعرّض فِيهِ بِمَا فِي ضَمِيره وَقد قَالَ فِي كتاب الوزراء المصرية ذكر الله أيامهم بِحَمْد لَا يكل نشاطه وَلَا يطوى بساطه فقد وجدت فقدهم وهنت بعدهمْ وَقَالَ من قصيدة مدح بهَا نجم الدّين أَيُّوب (وَكَانَ لي فِي مُلُوك النّيل قبلكمُ ... مكانة عرفتها الْعَرَب والعجم) (وَكَانَ بيني وَبَين الْقَوْم ملحمة ... فِي حربها ألسن الْأَدْيَان تختصم) (وَمَا تزَال إِلَى دَاري عوارفهم ... يسْعَى إلىّ بهَا الإنعام وَالْكَرم) (تركت قصدك لماّ قيل إِنَّك لَا ... تجود إِلَّا على من مَسّه الْعَدَم) (وَلست بِالرجلِ الْمَجْهُول مَوْضِعه ... وَلَا لنزر من الْإِحْسَان أغتنم) (وَلَا إِلَى صدقَات المَال أطلبها ... وَلَا عمى نَالَ أعضائي وَلَا صمم) (وَإِنَّمَا أَنا ضيف للملوك ولى ... دون الضيوف لِسَان نَاطِق وفم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وَقَالَ من قصيدة مدح بهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى (قررت لي أَبنَاء رزيك رزقا كَانَ فِي عصرهم مسنيًّ مهنا) (وَأَتَتْ بعدهمْ مُلُوك فسنوا ... فِي مَا كَانَ صالحُ الْقَوْم سنّا) (ورعوني إِمَّا اقْتِدَاء بماض ... أَو لِمَعْنى فكلهم بِي يَعْنِي) وَله من أُخْرَى (فقد صَارَت الدُّنْيَا إِلَيْكُم بأسرها ... فَلَا تشبعوا مِنْهَا وَنحن جِيَاع) (إِذا لم تزيدونا فكونوا كمن مضى ... فَفِي النَّاس أَخْبَار لَهُم وَسَمَاع) (وَلَيْسَ على مر الْفِطَام إِقَامَة ... فَهَل فِي ضروع المكرمات رضَاع) وَقَالَ فِي قصيدة مدح بهَا تقيّ الدّين (هَل تأذنون لمن أَرَادَ عتابكم ... أم لَيْسَ فِي أعتابكم من مطمع) (ضيعتّم من حق ضيفكم الَّذِي ... مَا زَالَ قبل الْيَوْم غير مضيع) (وتغافل السُّلْطَان عنيّ حِين لم ... أكشف قناع مذلة وتضرّع) (ورجوت نفعك بالشفاعة عِنْده ... فسمحت لي بشفاعة لم تَنْفَع) (وَإِذا نطاق الرزق ضَاقَ مجاله ... أَمْسَى مجَال النُّطْق غير موسع) وَقَالَ أَيْضا (تيممت مصرا أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما فِي ظلّ عَيْش ممنع) (وزرت مُلُوك النّيل أرتاد نيلهم ... فَأَحْمَد مرتادي وأخضب مربعي) (وفزت بِأَلف من عَطِيَّة فائز ... مواهبه للصنع لَا للتصنع) (وَكم طرقتني من يَد عاضدية ... سرت بَين يقظى من عُيُون وهجع) (وجاد ابْن رزيك من الجاه والغنى ... بِمَا زَاد عَن مرمى رجائي ومطمعي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 (وَأوحى إِلَى سَمْعِي ودائع شعره ... فحبرته منى بأكرم مُودع) (وَلَيْسَت أيادي شاور بذميمة ... وَلَا عهدها عِنْدِي بِعَهْد مضيع) (ملوكٌ رَعَوا لي حُرْمَة صارنبتها ... هشيما رعته النائبات وَمَا رعى) (مذاهبهم فِي الْجُود مَذْهَب سنّة ... وَإِن خالفوني باعتقاد التَّشَيُّع) (فَقل لصلاح الدّين وَالْعدْل شَأْنه ... من الْحَاكِم المصغى إلىّ فأدعى) (أَقمت لكم ضيفاً ثَلَاثَة أشهر ... أَقُول لصدري كلما ضَاقَ وسع) (وَكم فِي ضيوف الْبَاب مِمَّن لِسَانه ... إِذا قطعوه لايقوم بأصبعي) (فيا راعي الْإِسْلَام كَيفَ تركتنا ... فريقي ضيَاع من عرايا وجوع) (دعوناك من قرب وبعدٍ فَهَب لنا ... جوابك فالباري يُجيب إِذا دعى) وَقَالَ أَيْضا (أسفى على زمن الإِمَام العاضد ... أَسف الْعَقِيم على فِرَاق الْوَاحِد) (جالست من وزرائه وصحبت من ... أمرائه أهل الثَّنَاء الخالد) (لهفي على حجرات قصرك إِذْ خلت ... يَا ابْن النبيّ من ازدحام الْوَافِد) (وعَلى انفرادك من عساكرك الَّذِي ... كَانُوا كأمواج الخضم الراكد) (قلّدت مؤتمن الْخلَافَة أَمرهم ... فكبا وَقصر عَن صَلَاح الْفَاسِد) (فَعَسَى اللَّيَالِي أَن ترد إِلَيْكُم ... مَا عودتكم من جميل عوائد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَقَالَ أَيْضا (قست رأفة الدُّنْيَا فَلَا الدَّهْر عاطف ... عليّ وَلَا عبد الرَّحِيم رَحِيم) (عَفا الله عَن آرائه كل فَتْرَة ... كَلَام العدى فِيهَا عليّ كلوم) (وسامحه فِي قطع رزق بفضله ... وصلت إِلَيْهِ وَالزَّمَان ذميم) (أَلا هَل لَهُ عطف عَليّ فإنني ... فَقير إِلَى مَا اعْتدت مِنْهُ عديم) عبد الرَّحِيم هُوَ القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله تَعَالَى وَبَلغنِي أَن عمَارَة لما مروا بِهِ ليُصلب عبر بِهِ على جِهَة دَار الْفَاضِل فَطلب الِاجْتِمَاع بِهِ فَقيل لَيْسَ إِلَيْهِ طَرِيق فَقَالَ (عبد الرَّحِيم قد احتجب ... إِن الْخَلَاص هُوَ الْعجب) وَقَالَ وَهَذِه القصيدة تحقق مَا رُمى بِهِ من الِاجْتِمَاع على مُكَاتبَة الفرنج والخوض فِي فَسَاد الدولة بل الْملَّة وتوضح عذر السُّلْطَان فِي قَتله وَقتل من شَاركهُ فِي ذَلِك (رميت يَا دهر كف الْمجد بالشلل ... وجيده بعد حلى الْحسن بالعطل) (سعيت فِي مَنْهَج الرَّأْي العثور فَإِن ... قدرت من عثرات الْبَغي فاستقل) (جدعت مَا رنك الأقنى فأنفك لَا ... يَنْفَكّ مَا بَين نقص الشين والخجل) (هدمت قَاعِدَة الْمَعْرُوف عَن عجل ... سُقيت مُهْلاً أما تمشى على مَهَل) (لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتنا فِي أكْرم الدول) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 (قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم مَا أربي على الأمل) (قوم عرفت بهم كسب الألوف وَمن ... كمالها أَنَّهَا جَاءَت وَلم أسل) (وَكنت من وزراء الدّست حَيْثُ سما ... رَأس الحصان بهاديه على الكفل) (ونلت من عُظَمَاء الْجَيْش تكرمة ... وخلّة حرست من عَارض الْخلَل) (يَا عاذلي فِي هوى أَبنَاء فَاطِمَة ... لَك الْمَلَامَة إِن قصَّرت فِي عذلي) (بِاللَّه زُر ساحة القصرين وابك معي ... عَلَيْهِمَا لَا على صفّين والجمل) (وَقل لأهلهما وَالله مَا التحمت ... فِيكُم قروحي وَلَا جرحي بمندمل) (مَاذَا ترى كَانَت الإفرنج فاعلة ... فِي نسل آل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ) (هَل كَانَ فِي الْأَمر شَيْء غير قسْمَة مَا ... مُلِّكتم بَين حكم السبّي وَالنَّفْل) (وَقد حصلتم عَلَيْهَا وَاسم جدكم ... مُحَمَّد وأبيكم غير منتقل) (مَرَرْت بِالْقصرِ والأركان خَالِيَة ... من الْوُفُود وَكَانَت قبْلَة الْقبل) (فملت عَنْهَا بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي وَوجه الودّ لم يمل) (أسبلت من أَسف دمعي غَدَاة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل) (أبْكِي على مأثراتٍ من مكارمكم ... حَال الزَّمَان عَلَيْهَا وَهِي لم تحل) (دَار الضِّيَافَة كَانَت أنس وافدكم ... وَالْيَوْم أوحش من رسم وَمن طلل) (وفطرة الصَّوْم إِن أصغت مكارمكم ... تَشْكُو من الدَّهْر حيفا غير مُحْتَمل) (وَكِسْوَة النَّاس فِي الْفَصْلَيْنِ قد درست ... ورث مِنْهَا جَدِيد عَنْهُم وبلي) (وموسم كَانَ فِي كسر الخليج لكم ... يَأْتِي تجمّلكم فِيهِ على الْجمل) (وَأول الْعَام والعيدان كَانَ لكم ... فِيهِنَّ من وبل جود لَيْسَ بالوشل) (وَالْأَرْض تهتز فِي عيد الغدير لما ... يَهْتَز مابين قصريكم من الأسل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 (وَالْخَيْل تعرض من وشيٍ وَمن شية ... مثل العرائس فِي حلي وَفِي حلل) (وَلَا حملتم قرى الأضياف من سَعَة الأطباق ... إِلَّا على الْأَعْنَاق والعجل) (وَمَا خصصتم ببرٍ أهل ملتكم ... حَتَّى عممتم بِهِ الْأَقْصَى من الْملَل) (كَانَت رواتبكم للذمتين وللضيف ... الْمُقِيم وللطاري من الرُّسُل) (وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصّدر فِي علم وَفِي عمل) (وَرُبمَا عَادَتْ الدُّنْيَا لمعقلها ... مِنْكُم وأضحت بكم محلولة الْعقل) وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن عبد الله بن كَامِل كَانَ دَاعِي الدعاة بِمصْر للأدعياء وقاضي الْقُضَاة لأولئك الأشقياء يلقبونه بفخر الْأُمَنَاء وَهُوَ عِنْدهم فِي الْمحلة العلياء والمرتبة الشماء والمنزلة فِي السَّمَاء حَتَّى انكدرت نجومهم وتغيرت رسومهم وأقيم قاعدهم وعضد عاضدهم وأخيلت مِنْهُم مصرهم وَأجلى عَنْهُم قصرهم فحرّك ابْن كَامِل نَاقص الذب عَنْهُم والشدّ مِنْهُم فمالأ قوما على الْبيعَة لبَعض أَوْلَاد العاضد ليبلغوا بِهِ مَا تخيلوه من الْمَقَاصِد وسوّلوه من المكايد فأثمرت بجثثهم الْجُذُوع وأقفرت من جسومهم الربوع وأحكمت فِي حُلُوقهمْ النسوع وَهَذَا أوّل من ضمه حَبل الصلب وَأمه فاقرة الصلب وَهَذَا صنع الله فِيمَن ألحد وَكفر النِّعْمَة وَجحد وَذَلِكَ غرَّة رَمَضَان سنة تسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وَسِتِّينَ وَخمْس مئة سَمِعت الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يذكرهُ وَقد ذَكرُوهُ عِنْده بِالْفَضْلِ وَالْأَدب ونسبوا إِلَيْهِ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي غُلَام رفاء وأنشدهما الْملك النَّاصِر وَذكر انه كَانَ ينكرهما (يَا رافيا خرق كل ثوب ... وَيَا رشا حبه اعتقادي) (عَسى بكف الْوِصَال ترفو ... مَا مزق الهجر من فُؤَادِي) فصل فِي التَّعْرِيف بِحَال عمَارَة وَنسبه وشعره قَالَ الْعِمَاد وَقد أوردت شعر عمَارَة بن أبي الْحسن اليمني فِي كتاب خريدة الْقصر وجريدة الْعَصْر ونقلت إِلَى هَذَا الْكتاب يَعْنِي كتاب الْبَرْق الشَّامي لمعاً من ذَلِك فَمن ذَلِك مَا أنشدنيه نجم الدّين أَبُو مُحَمَّد بن مصال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 (لَو أَن قلبِي يَوْم كاظمة معي ... لملكته وكظمت غيظ الأدمع) قَالَ الْعِمَاد إِنَّمَا أَنْشدني فيض الأدمع فَرَأَيْت غيظ الأدمع أليق بالكظم (قلب كَفاك من الصبابة أَنه ... لبّى نِدَاء الظاعنين وَمَا دعِي) (وَمن الظنون الفاسدات توهميّ ... بعد الْيَقِين بَقَاءَهُ فِي أضلعي) (مَا الْقلب أوّل غادر فألومه ... هِيَ شِيمَة الْأَيَّام مُذْ خلقت معي) قَالَ وأنشدني لعمارة أَيْضا (ملك إِذا قابلت بشر جَبينه ... فارقته والبشر فَوق جبيني) (وَإِذا لثمت يَمِينه وَخرجت من ... أبوابه لثم الْمُلُوك يَمِيني) قَالَ وأنشدني لَهُ عضد الدّين أَبُو الفوارس مرهف بن أُسَامَة منقذ (لي فِي هوى الرشأ العذري أعذار ... لم يبْق لي مذ أقرّ الدمع إِنْكَار) (لي فِي القدود وَفِي لثم الخدود وَفِي ... ضم النهود لبانات وأوطار) (هَذَا اخْتِيَاري فَوَافَقَ إِن رضيت بِهِ أَولا فَدَعْنِي وَمَا أَهْوى وأختار) (لمُنى جزَافا وسامحني مصارفة ... فَالنَّاس فِي دَرَجَات الْحبّ أطوار) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 (وخل عذلي فَفِي دَاري ودائرتي ... من المها دُرَّة قلبِي لَهَا دَار) قلت ويُروى (وغُرَّ غَيْرِي فَفِي أسرى ودائرتي ... ) والأبيات العينية من قصيدة فِي مدح تقيّ الدّين والنونية فِي مدح نجم الدّين أَيُّوب والرائية فِي مدح شمس الدولة بن أَيُّوب وَكَانَ عمَارَة هَذَا عَرَبيا فَقِيها أديباً وَله كتاب صَغِير ذكر فِيهِ أخباره وأحواله بِالْيمن ثمَّ بِمصْر فَذكر أَنه أَقَامَ بزبيد ثَلَاث سِنِين يقْرَأ عَلَيْهِ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ ولى فِي الْفَرَائِض مُصَنف يقْرَأ بِالْيمن وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ زارني وَالِدي وَخَمْسَة من إخوتي إِلَى زبيد فَأَنْشَدته شَيْئا من شعري فَاسْتَحْسَنَهُ ثمَّ قَالَ تعلَّم وَالله أَن الْأَدَب نعْمَة من نعم الله عَلَيْك فَلَا تكفرها بذم النَّاس واستخلفني أَلا أهجو مُسلما بِبَيْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 شعر فَحَلَفت لَهُ على ذَلِك ولطف الله تَعَالَى بِي فَلم أهج أحدا مَا عدا إنْسَانا هجاني بِحَضْرَة الْملك الصَّالح يَعْنِي ابْن رزيك ببيتي شعر فأقسم الصَّالح عليّ أَن أجيببه فَفعلت متأولا قَول الله عز وَجل {وَلَمَن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبيِل} وَقَوله تَعَالَى {فَمَن اعتَدى عَلَيْكُم فاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثِل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} قَالَ وَلم يكن شَيْء غير هَذَا وَحَجَجْت مَعَ الملكة أم فاتك ملك زبيد وَكَانَت تقوم لأمير الْحَرَمَيْنِ بِجَمِيعِ مَا يتَنَاوَلهُ من حاجّ الْيمن برا وبحرا وبجميع خفارات الطَّرِيق فَذكر أَنه حصل لَهُ وجاهة عندنَا فَانْتَفع بهَا حَتَّى أثرى وَكثر مَاله وجاهه ثمَّ طرأت أمورٌ اقْتَضَت أَن هرب من الْيمن وَحج سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قَالَ وَفِي موسم هَذِه السّنة مَاتَ أَمِير الْحَرَمَيْنِ هَاشم بن فليتة وَولى الْحَرَمَيْنِ وَلَده قَاسم بن هَاشم فألزمني السّفارة عَنهُ والرسالة مِنْهُ إِلَى الدولة المصرية فقدمتها فِي شهر ربيع الأول سنة خمسين والخليفة بهَا يَوْمئِذٍ الفائز بن الظافر والوزير لَهُ الْملك الصَّالح طلائع بن رزّيك فَلَمَّا حضرت للسلام عَلَيْهِمَا فِي قاعة الذَّهَب من قصر الْخَلِيفَة أنشدتهما (الْحَمد للعيس بعد الْعَزْم والهمم ... حمدا يقوم بِمَا أولت من النعم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 (لاأجحد الْحق عِنْدِي للركاب يَد ... تمنت اللجم فِيهَا رُتْبَة الخطم) (قرّبن بعد مَزَار الْعِزّ من نَظَرِي ... حَتَّى رَأَيْت إِمَام الْعَصْر من أُمَم) (ورُحن من كعبة الْبَطْحَاء وَالْحرم ... وَفْدًا إِلَى كعبة الْمَعْرُوف وَالْكَرم) (فَهَل دري الْبَيْت أَنِّي بعد زورته ... مَا سرت من حرم إِلَّا إِلَى حرم) (حَيْثُ الْخلَافَة مَضْرُوب سرادقها ... بَين النقيضين من عَفْو وَمن نقم) (وللإمامة أنوارٌ مُقَدَّسَة ... تجلو البغيضين من ظلم وَمن ظُلَم) (وللنبوّة آيَات تنص لنا ... على الخفيين من حكم وَمن حكم) (وللمكارم أَعْلَام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بَأْس وَمن كرم) (وللعلا ألْسُنٌ تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل وَمن شيم) (وَرَايَة الشّرف البذاخ ترفعها ... يَد الرفيعين من مجد وَمن همم) (أَقْسَمت بالفائز الْمَعْصُوم مُعْتَقدًا ... فوز النجَاة وَأجر البّر فِي الْقسم) (لقد حمى الدِّين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصَّالح الفراج للغمم) (اللاّبس الْفَخر لم تنسج غلائله ... إِلَّا يَد الصنعتين السَّيْف والقلم) (وُجُوده أوجد الْأَيَّام مَا اقترحت ... وَجُوده أعدم الشاكين للعدم) (قد ملكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثريا عزّة الشمم) (أرى مقَاما عَظِيم الشَّأْن أوهمني ... فِي يقظتي أَنَّهَا من جملَة الحُلم) (يَوْم من الْعُمر لم يخْطر على أمل ... وَلَا ترقت إِلَيْهِ رَغْبَة الهمم) (لَيْت الْكَوَاكِب تَدْنُو لي فأنظمها ... عُقُود مدح فَمَا أرْضى لكم كلمي) (ترى الوزارة فِيهِ وَهِي باذلة ... عِنْد الْخلَافَة نصحا غير مُتَّهم) (عواطف أعلمتنا أَن بَينهمَا ... قرَابَة من جميل الرَّأْي لَا الرَّحِم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 (خَليفَة ووزير مدّ عَدْلُهما ... ظلاًّ على مفرق الْإِسْلَام والأمم) (زِيَادَة النّيل نقص عِنْد فيضهما ... فَمَا عَسى نتعاطى منَّة الديم) قَالَ وعهدي بالصالح وَهُوَ يستعيدها فِي حَال النشيد مرَارًا والأستاذون والأمراء والكبراء يذهبون فِي الِاسْتِحْسَان كل مَذْهَب ثمَّ أفيضت عليّ خلع من ثِيَاب الْخلَافَة مذهبَة وَدفع إِلَيّ الصَّالح خمس مئة دِينَار وَإِذا بعض الأستاذين قد خرج لي من عِنْد السيدة بنت الإِمَام الْحَافِظ بِخمْس مئة دِينَار أُخْرَى وَحمل المَال معي إِلَى منزلي وأطلقت لي من دَار الضِّيَافَة رسوم لم تطلق لأحد قبلي وتهادتني أُمَرَاء الدولة إِلَى مَنَازِلهمْ للولائم واستحضرني الصَّالح للمجالسة ونظمني فِي سلك أهل المؤانسة وانثالت عليّ صلَاته وغمرني برّه وَوجدت بِحَضْرَتِهِ من أَعْيَان أهل الْأَدَب الشَّيْخ الجليس أَبَا الْمَعَالِي بن الْجبَاب والموفق أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن الْخلال صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء وَأَبا الْفَتْح مَحْمُود بن قادوس والمهذب أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن الزبير وَغَيرهم وَمَا من هَذِه الحلبة أحد إِلَّا وَيضْرب فِي الْفَضَائِل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب وَمَا زلت أحذو على طرائقهم حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 نظموني فِي سلك فرائدهم وَقلت (لياليّ بالفسطاط من شاطئي مصر ... سقى عَهْدك الْمَاضِي عهاد من الْقطر) (لَيَال هِيَ الْعُمر السعيد وكلّ مَا ... مضى فِي سواهَا لايعدّ من الْعُمر) (أفادتني الأقدار فِيهَا مواليا ... صفت بهم الْأَيَّام من كدر الْغدر) (تواصوا على أَلا تردّ إرادتي ... وَلَو سمتهم نثر الْكَوَاكِب فِي حجري) وَله فِي الصَّالح بن رزيك من قصيدة (وَلَو لم يكن أَدْرِي بِمَا جهل الورى ... من الْفضل لم تنْفق لَدَيْهِ الْفَضَائِل) (لَئِن كَانَ منا قاب قوسٍ فبيننا ... فراسخ من إجلاله ومراحل) قَالَ وأنشدت الصَّالح وَهُوَ بالقبو من دَار الوزارة قصيدة مِنْهَا (دعوا كل برق شمتم غير بارق ... يلوح على الْفسْطَاط صَادِق بشره) (وزوروا الْمقَام الصالحيَّ فَكل من ... على الأَرْض ينسى ذكره عِنْد ذكره) (وَلَا تجْعَلُوا مقصودكم طلب الْغنى ... فتجنوا على مجد الْمقَام وفخره) (وَلَكِن سلوا مِنْهُ الْعلَا تظفروا بهَا ... فَكل امرىء يُرْجَى على قدر قدره) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 قَالَ وَلما جلس شاور فِي دَار الذَّهَب قَامَ الشُّعَرَاء والخطباء ولفيف النَّاس إِلَّا الْأَقَل ينالون من بني رزيك وضرغام نَائِب الْبَاب وَيحيى بن الْخياط الأسفهسلار فَأَنْشَدته (صحّت بدولتك الْأَيَّام من سقم ... وَزَالَ مَا يشتكيه الدَّهْر من ألم) وَمِنْهَا (زَالَت ليَالِي بني رزيك وانصرمت ... وَالْحَمْد والذم فِيهَا غير منصرم) (كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وعادلهم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد وَلم يقم) (كُنَّا نظن وَبَعض الظَّن مأثمة ... بِأَن ذَلِك جمع غير مُنْهَزِم) (فمذ وَقعت وُقُوع النسْر خَانَهُمْ ... من كَانَ مجتمعا من ذَلِك الرّخم) (وَلم يَكُونُوا عدوَّا ذل جَانِبه ... وَإِنَّمَا غرقوا فِي سيلك العرم) (وَمَا قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تَعْظِيم شَأْنك فاعذرني وَلَا تلم) (وَلَو شكرت لياليهم مُحَافظَة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم) (وَلَو فتحت فمي يَوْمًا بذمهم ... لم يرض فضلك إِلَّا أَن يسدّ فمي) (وَالله يَأْمر بِالْإِحْسَانِ عارفة ... مِنْهُ وَينْهى عَن الْفَحْشَاء فِي الْكَلم) قَالَ فشكرني شاور وأبناؤه على الْوَفَاء لبني رزيك قلت وَشعر عمَارَة كثير حسن وَعِنْدِي من قَوْله الْحَمد للعيس وَإِن كَانَت القصيدة فائقة نفرة عَظِيمَة فَإِنَّهُ أَقَامَ ذَلِك مقَام قَوْلنَا الْحَمد لله وَلَا يَنْبَغِي أَن يفعل ذَلِك مَعَ غير الله تَعَالَى عزّ وَجل فَلهُ الْحَمد وَله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الشُّكْر فَهَذَا اللَّفْظ كالمتعين لجِهَة الربوبية المقدسة على ذَلِك اطرد اسْتِعْمَال السّلف وَالْخلف رَضِي الله عَنْهُم فصل فِي وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله قَالَ الْعِمَاد وَأمر نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بتطهير وَلَده الْملك الصَّالح اسماعيل يَوْم عيد الْفطر واحتفلنا لهَذَا الْأَمر وغلقت محَال دمشق أَيَّامًا قَالَ ونظمت للهناء بالعيد وَالطُّهْر قصيدة مِنْهَا (عيدَان فطر وطهر ... فتح قريب وَنصر) (كِلَاهُمَا لَك فِيهِ ... حَقًا هناء وَأجر) (وَفِيهِمَا بالتهاني ... رسم لنا مُسْتَمر) (طَهَارَة طَابَ مِنْهَا ... أصل وَفرع وَذكر) (نجل على الطُّهْر نامٍ ... زكا لَهُ مِنْك نجر) (مَحْمُود الْملك الْعَادِل ... الْكَرِيم الْأَغَر) (وبابنه الْملك الصَّالح ... الْعُيُون تقر) (مولى بِهِ اشْتَدَّ للدّين ... والشريعة أزر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 (نور تجلى عيَانًا ... مَا دونه الْيَوْم ستر) (أضحت مساعيك غرا ... كَمَا أياديك غزر) (وكل قصدك رشد ... وكل فعلك بر) (وَإِن حبك دين ... وَإِن بغضك كفر) (لنا بيمناك يمن ... كَمَا بيسراك يسر) (وللموالين نفع ... وللمُعادين ضرّ) (وللسماء سَحَاب ... وسحب كفيك عشر) (ناديك بالرفد رحب ... نداك للوفد بَحر) (للبحر مدّ وجزر ... وَمَا لجودك جزر) (عدل عميم وجود ... غمر وَيسر وَبشر) (وَفِي الْعَطِيَّة حُلْو ... وَفِي الحمية مر) (قد اسْتَوَى مِنْك تقوى الْإِلَه ... سرّ وجهر) (تقاك وَالْملك عِنْد الْقيَاس ... عقد وَنحر) (يَا أعظم النَّاس قدرا ... وَهل لغيرك قدر) (وساهرا حِين نَامُوا ... وَقَائِمًا حِين قروا) (مَا اعْتدت إِلَّا وَفَاء ... وَعَادَة الْقَوْم غدر) (وفعلك الدَّهْر غَزْو ... للْمُشْرِكين وقهر) (وَفعل غَيْرك ظلم ... للْمُسلمين وقسر) (يفتر من كل ثغر ... إِلَى ابتسامك ثغر) (روم بِهِ وفرنج ... فِي شفعهم لَك وتر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 (حَرْب عوان وَفتح ... على مرادك بكر) (بَنو الأصافر من خشيَة ... انتقامك صفر) (لم يبْق للكفر ظفر ... لاكان للكفر ظفر) (وَمَا دجا ليل خطب ... إِلَّا وعزمك فجر) (أَصبَحت بالغزو صبا ... وَعنهُ مَالك صَبر) (لكسر كل يَتِيم ... إسعاف برك جبر) (فِي كل قلب حسود ... من حر بأسك جمر) (تملَّ تَطْهِير مَلْكَ ... لَهُ الْمُلُوك تَخِر) (يزهى سَرِير وتاج ... بِهِ ودست وَصدر) (وَكَيف يعْمل للطاهر ... المطهر طهر) (هَذَا الطّهُور ظُهُور ... على الزَّمَان وَأمر) (وَذَا الْخِتَان ختام ... بمسكه طَابَ نشر) (رزقت عمرا طَويلا ... مَا طَال للدهر عمر) قَالَ وَفِي يَوْم الْعِيد يَوْم الْأَحَد ركب نور الدّين على الرَّسْم الْمُعْتَاد محفوفا من الله بالإسعاد مكنوفا من السَّمَاء وَالْأَرْض بالأجناد وَالْقدر يَقُول لَهُ هَذَا آخر الأعياد ووقف فِي الميدان الْأَخْضَر الشمالي لطعن الْحلق وَرمى القبق وَكَانَ قد ضرب خيمته فِي الميدان القبلي الْأَخْضَر وَأمر بِوَضْع الْمِنْبَر وخطب لَهُ القَاضِي شمس الدّين ابْن الْفراش قَاضِي الْعَسْكَر بعد أَن صلى بِهِ وذكّر وَعَاد إِلَى القلعة طالع الْبَهْجَة بهيج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الطلعة وأنهب سماطه الْعَام على رسم الأتراك وأكابر الْأَمْلَاك ثمَّ حَضَرنَا على خوانه الْخَاص وَله عقد كَمَال مصون من الانتقاض والانتقاض وَمَا أوضح بشره وأضوع نشره وأضحك سنه وأبرك يمنه وَفِي يَوْم الأثنين ثَانِي الْعِيد بكر وَركب وجمل الموكب وَكَأن الْفلك بنيره جَار والطود الثَّابِت يمرّ مرّ السَّحَاب فِي وقار وَكَأَنَّهُ الْقَمَر فِي هالته وَالْقدر فِي جلالته والبدر فِي دائرته سَائِر بَين سيارته وَدخل الميدان والعظماء يسايرونه والفهماء يحاورونه وَفِيهِمْ همام الدّين مودود وَهُوَ فِي الأكابر مَعْدُود وَكَانَ قَدِيما فِي أول دولته والى حلب وَقد جرب الدَّهْر بحنكته ولأشطره حلب فَقَالَ لنُور الدّين فِي كَلَامه عظة لمن يغتر بأيامه هَل نَكُون هَهُنَا فِي مثل هَذَا الْيَوْم فِي الْعَام الْقَابِل فَقَالَ نور الدّين قل هَل نَكُون بعد شهر فَإِن السّنة بعيدَة فَجرى على منطقهما مَا جرى بِهِ الْقَضَاء السَّابِق فَإِن نور الدّين لم يصل إِلَى الشَّهْر والهمام لم يصل إِلَى الْعَام ثمَّ شرع نور الدّين فِي اللّعب بالكرة مَعَ خواصه البررة فاعترضه فِي حَاله أَمِير آخر اسْمه يرنقش وَقَالَ لَهُ باش فأحدث لَهُ الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذْهبه الْكَرِيم وخلقه الْحَلِيم فزجره وزبره وَنَهَاهُ ونهره وسَاق وَدخل القلعة وَنزل واحتجب وَاعْتَزل فَبَقيَ أسبوعا فِي منزله مَشْغُولًا بنازله مَغْلُوبًا عَن عاجله بِحَدِيث آجله وَالنَّاس من الْخِتَان لاهون بأوطارهم فِي الأوطان فَهَذَا يروح بجوده وَذَاكَ يجود بِرُوحِهِ فَمَا انْتَهَت تِلْكَ الأفراح إِلَّا بالأتراح وَمَا صلح الْملك بعده إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 بِملك الصّلاح قَالَ واتصل مرض نور الدّين وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء بالفصد فَامْتنعَ وَكَانَ مهيبا فَمَا رُوجِعَ وانتقل حادي عشر شَوَّال يَوْم الْأَرْبَعَاء من مربع الفناء إِلَى مرتع الْبَقَاء وَلَقَد كَانَ من أَوْلِيَاء الله الْمُؤمنِينَ وعباده الصَّالِحين وَصَارَ إِلَى جنَّات عدن أعدت لِلْمُتقين وَكَانَت لَهُ صُفَّة فِي الدَّار الَّتِي على النَّهر الدَّاخِل إِلَى القلعة من الشمَال وَكَانَ جُلُوسه عَلَيْهَا فِي جَمِيع الْأَحْوَال فَلَمَّا جَاءَت سنة الزلزلة بنى بِإِزَاءِ تِلْكَ الصفّة بَيْتا من الأخشاب مَأْمُون الِاضْطِرَاب فَهُوَ يبيت فِيهِ وَيُصْبِح ويخلو بِعِبَادَتِهِ ولايبرح فَدفن فِي ذَلِك الْبَيْت الَّذِي اتَّخذهُ حِميً من الْحمام وَأذن بِنَاؤُه لبانيه بالانهدام قَالَ الْعِمَاد وَقلت فِي ذَلِك (عجبت من الْمَوْت كَيفَ اهْتَدَى ... إِلَى ملك فِي سجايا ملك) (وَكَيف ثوى الْفلك المستدير ... فِي الأَرْض وَالْأَرْض وسط الْفلك) وَله فِيهِ رحمهمَا الله تَعَالَى (يَا ملكا أَيَّامه لم تزل ... لفضله فاضلة فاخرة) (غاضت بحار الْجُود مذ غيبت ... أنملك الفائضة الزاخرة) (ملكت دنياك وخلفتها ... وسرت حَتَّى تملك الْآخِرَة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قَالَ ابْن شَدَّاد وَكَانَت وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بِسَبَب خوانيق اعترته عجز الْأَطِبَّاء عَن علاجها وَلَقَد حكى لي صَلَاح الدّين قَالَ كَانَ يبلغنَا عَن نور الدّين أَنه رُبمَا قصدنا بالديار المصرية وَكَانَت جمَاعَة أَصْحَابنَا يشيرون بِأَن نكاشف وَنُخَالِف ونشق عَصَاهُ ونلقى عسكره بمصاف يردهُ إِذا تحقق قَصده قَالَ وَكنت وحدي أخالفهم وَأَقُول لَا يجوز أَن يُقَال شَيْء من ذَلِك وَلم يزل النزاع بَيْننَا حَتَّى وصل الْخَبَر بوفاته رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ نور الدّين قد شرع بتجهيز الْمسير إِلَى مصر لأخذها من صَلَاح الدّين لِأَنَّهُ رأى مِنْهُ فتورا عَن غَزْو الفرنج من ناحيته فَأرْسل إِلَى الْموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطْلب العساكر ليتركها بِالشَّام لمَنعه من الفرنج ليسير هُوَ بعساكره إِلَى مصر وَكَانَ الْمَانِع لصلاح الدّين من الْغَزْو الْخَوْف من نور الدّين فَإِنَّهُ كَانَ يعْتَقد أَن نور الدّين مَتى زَالَ عَن طَرِيقه الفرنج أَخذ الْبِلَاد مِنْهُ فَكَانَ يحتمي بهم عَلَيْهِ وَلَا يُؤثر استئصالهم وَكَانَ نور الدّين لَا يرى إِلَّا الجدّ فِي غزوهم بِجهْدِهِ وطاقته فَلَمَّا رأى إخلال صَلَاح الدّين بالغزو وَعلم غَرَضه فتجهز للمسير إِلَيْهِ فَأَتَاهُ أَمر الله الَّذِي لَا يرد قلت وَلَو علم نور الدّين مَاذَا ذخر الله تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ من الْفتُوح الجليلة على يَدي صَلَاح الدّين من بعده لقرت عينه فَإِنَّهُ بنى على مَا أسسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 نور الدّين من جِهَاد الْمُشْركين وَقَامَ بذلك على أكمل الْوُجُوه وأتمها رحمهمَا الله تَعَالَى قَالَ وَحكى لي طَبِيب بِدِمَشْق يعرف بالرحبي وَهُوَ من حذاق الْأَطِبَّاء قَالَ استدعاني نور الدّين فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ مَعَ غَيْرِي من الْأَطِبَّاء فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيت صَغِير بقلعة دمشق وَقد تمكنت الخوانيق مِنْهُ وقارب الْهَلَاك فَلَا يكَاد يسمع صَوته وَكَانَ يَخْلُو فِيهِ للتعبد فِي أَكثر أوقاته فابتدا بِهِ الْمَرَض فِيهِ فَلم ينْتَقل عَنهُ فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ ورأينا مَا بِهِ قلت لَهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن لايؤخَّر إحضارنا إِلَى أَن يشْتَد بك الْمَرَض إِلَى هذاالحد فَالْآن يَنْبَغِي أَن تنْتَقل إِلَى مَكَان فسيح فَلهُ أثر فِي هَذَا الْمَرَض وشرعنا فِي علاجه فَلم ينجع فِيهِ الدَّوَاء وَعظم الدَّاء وَمَات عَن قريب رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ أسمر طَوِيل الْقَامَة لَيْسَ لَهُ لحية إِلَّا فِي حنكه وَكَانَ وَاسع الْجَبْهَة حسن الصُّورَة حُلْو الْعَينَيْنِ وَكَانَ قد اتَّسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ملكه جدا فَملك الْموصل وديار الجزيرة وأطاعه أَصْحَاب ديار بكر وَملك الشَّام والديار المصرية واليمن وخُطب لَهُ بالحرمين الشريفين مَكَّة وَالْمَدينَة وطبّق الأَرْض ذكره بِحسن سيرته وعدله وَلم يكن مثله إِلَّا الشاذ النَّادِر رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بَعْدَمَا ذكر أَوْصَاف نور الدّين الجليلة الْمُتَقَدّمَة مفرقة ومجموعة فِي هَذَا الْكتاب هَذَا مَعَ مَا جمع الله لَهُ من الْعقل المتين والرأي الثاقب الرصين والاقتداء بسيرة السّلف الماضين والتشبه بالعلماء وَالصَّالِحِينَ والاقتفاء بسيرة من سلف مِنْهُم فِي حسن سمتهم والاتباع لَهُم فِي حفظ حَالهم ووقتهم حَتَّى روى حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأسمعه وَكَانَ قد استجيز لَهُ مِمَّن سَمعه وَجمعه حرصا مِنْهُ على الْخَيْر فِي نشر السّنة بِالْأَدَاءِ والتحديث ورجاء أَن يكون مِمَّن حفظ على الْأمة أَرْبَعِينَ حَدِيثا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث فَمن رَآهُ شَاهد من جلال السلطنة وهيبة الْملك مَا يبهره فَإِذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مَا يحيره يحب الصَّالِحين ويؤاخيهم ويزور مساكنهم لحسن ظَنّه فيهم وَإِذا احْتَلَمَ مماليكه أعتقهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وَزوج ذكرانهم بإنائهم ورزقهم وَمَتى تَكَرَّرت الشكاية إِلَيْهِ من أحد من ولاته أمره بالكف عَن أَذَى تظلم بشكاته فَمن لم يرجع مِنْهُم إِلَى الْعدْل قابله بِإِسْقَاط الْمنزلَة والعزل فَلَمَّا جمع الله لَهُ من شرِيف الْخِصَال تيَسّر لَهُ جَمِيع مَا يَقْصِدهُ من الْأَعْمَال وَسَهل على يَدَيْهِ فتح الْحُصُون والقلاع ومُكن لَهُ فِي الْبلدَانِ وَالْبِقَاع ثمَّ قَالَ بعد كَلَام كثير ومناقبه خطيرة وممادحه كَثِيرَة ومدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَأَكْثرُوا وَلم يبلغُوا وصف الآئه بل قصروا وَهُوَ قَلِيل الابتهاج بالشعر زِيَادَة فِي تواضعه لعلّو الْقدر ومولده على مَا ذكر لي كَاتبه أَبُو الْيُسْر شَاكر بن عبد الله وَقت طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَتُوفِّي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي عشر من شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسَة مئة وَدفن بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى تربة تجاور مدرسته الَّتِي بناها لأَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ جوَار الخواصين فِي الشَّارِع الغربي رَحمَه الله تَعَالَى قلت وَفِي هَذِه الْمدرسَة يَقُول العرقلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 (ومدرسة سيدرس كل شَيْء ... وَتبقى فِي حمى علم ونسك) (تضوع ذكرهَا شرقا وغربا ... بِنور الدّين مَحْمُود بن زنكي) (يَقُول وَقَوله حقٌّ وَصدق ... بِغَيْر كنايةٍ وَبِغير شكّ) (دمشق فِي الْمَدَائِن بَيت مُلكي ... وهذي فِي الْمدَارِس بَيت مِلكي) وَلما اشْتهر بِهِ من قلَّة ابتهاجه بالمدح لما علم من تزيد الشُّعَرَاء وَهِي طَريقَة عمر بن عبد الْعَزِيز زاهد الْخُلَفَاء قَالَ يحيى بن مُحَمَّد الوهراني فِي مقامة لَهُ وَقد سُئِلَ فِي بَغْدَاد عَن نور الدّين هُوَ سهم للدولة سديد وركن للخلافة شَدِيد وأمير زاهد وَملك مُجَاهِد تساعده الأفلاك وتعضده الجيوش والأملاك غير أَنه عرف بالمرعى الوبيل لِابْنِ السَّبِيل وبالمحل الجديب للشاعر الأديب فَمَا يرزى وَلَا يعزى وَلَا لشاعر عِنْده من نعْمَة تجزى وإيَّاه عَنى أُسَامَة بن منقذ بقوله (سلطاننا زاهد وَالنَّاس قد زهدوا ... لَهُ فكلُّ على الْخيرَات منكمش) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 (أيَّامه مثل شهر الصَّوْم طَاهِرَة ... من الْمعاصِي وفيهَا الْجُوع والعطش) قلت رَحمَه الله مَا كَانَ يبْذل أَمْوَال الْمُسلمين إِلَّا فِي الْجِهَاد وَمَا يعود نَفعه على الْعباد وَكَانَ كَمَا قيل فِي حق عبد الله بن محيريز وَهُوَ من سَادَات التَّابِعين بِالشَّام قَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ حَدثنَا ضَمرَة عَن السيباني قَالَ كَانَ ابْن الديلمي من أنْصر النَّاس لأخوانه فَذكر ابْن محيريز فِي مَجْلِسه فَقَالَ رجل كَانَ بَخِيلًا فَغَضب ابْن الدّيلمي وَقَالَ كَانَ جوادا حَيْثُ يحب الله وبخيلا حَيْثُ تحبون وَأما شعر ابْن منقذ فَلَا اعْتِبَار بِهِ فَهُوَ الْقَائِل فِي لَيْلَة الميلاد يمدح نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى (فِي كل عَام للبرية لَيْلَة ... فِيهَا تشب النَّار بالإيقاد) (لَكِن لنُور الدّين من دون الورى ... ناران نَار قرى ونار جِهَاد) (أبدا يصرّفها نداه وبأسه ... فالعام أجمع لَيْلَة الميلاد) (ملك لَهُ فِي كل جيد منّة ... أبهى من الأطواق فِي الأجياد) (أَعلَى الْمُلُوك يدا وأمنعهم حمى ... وأمدهم كفَّا ببذل تلاد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 (يعْطى الجزيل من النوال تَبَرعا ... من غير مَسْأَلَة وَلَا ميعاد) (لازال فِي سعد وَملك دَائِم ... مَا دَامَت الدُّنْيَا بِغَيْر نفاد) وَقد تقدم فِي شعر ابْن مُنِير وَابْن القيسراني والعماد الْكَاتِب وَغَيرهم من مدح نور الدّين بِالْكَرمِ والجود مَا قَلِيل مِنْهُ يرّد قَول الوهراني وَابْن منقذ على أَن ابْن منقذ قد رددنا شعره بِشعرِهِ كَمَا ترَاهُ وَإِنَّمَا الشُّعَرَاء وَأكْثر النَّاس كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف قوم {فإنْ أُعْطُوا مِنْها رّضُوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوا مِنْها إذَا هم يَسْخَطون} وَمَا كلّ وَقت ينْفق الْعَطاء وَيفْعل الله مَا يَشَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 فصل قَالَ ابْن الْأَثِير لما توفّي نور الدّين جلس ابْنه الْملك الصَّالح اسماعيل فِي الْملك وحُلِف لَهُ وَلم يبلغ الحُلم وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والمقدمون بِدِمَشْق وَأقَام بهَا وأطاعه النَّاس فِي سَائِر بِلَاد الشَّام وصلاحُ الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 بِمصْر وخطب لَهُ بهَا وَضرب السِّكَّة باسمه فِيهَا وتولّى تَرْبِيَته الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم قَالَ الْعِمَاد وأخرجوا يَوْم وَفَاة نور الدّين وَلَده الْملك الصَّالح اسماعيل وَقد أبدى الْحزن والعويل وَهُوَ مجزوز الذوائب مشقوق الجيب حاسر حافٍ مِمَّا فجأه وفجعه من الرّيب وأجلسوه فِي الأيوان الشمالي من الدّست والتخت الْبَاقِي من عهد تَاج الدولة تتش فاستوحى كل قلب حزنه واستوحش فَوقف النَّاس يضطرمون ويضطربون ويتلهفون ويتلهبون وَلما كفّن بحلة الْكَرَامَة وَدفن فِي رَوْضَة بَابهَا إِلَى بَاب رضوَان من دَار المقامة وقضوا الْجزع وقوضوا الْفَزع وغيبوا الدمعة وأحضروا الرّبعة حضر القَاضِي كَمَال الدّين وشمس الدّين بن الْمُقدم وجمال الدولة ريحَان وَهُوَ أكبر الخدم وَالْعدْل أَبُو صَالح بن العجمي أَمِين الْأَعْمَال وَالشَّيْخ اسماعيل خَازِن بَيت المَال وتحالفوا على أَن تكون أَيْديهم وَاحِدَة وعزائمهم متعاقدة وَأَن ابْن الْمُقدم مقدم الْعَسْكَر وَإِلَيْهِ الْمرجع فِي المورد والمصدر قَالَ وأنشأت فِي ذَلِك الْيَوْم كتابا عَن الْملك الصَّالح إِلَى صَلَاح الدّين فِي تعزيته بِنور الدّين تَرْجَمته إِسْمَاعِيل بن مَحْمُود وَفِيه أَطَالَ الله بَقَاء سيدنَا الْملك النَّاصِر وَعظم أجرنا وأجره فِي والدنا الْملك الْعَادِل ندب الشَّام بل الْإِسْلَام حَافظ ثغوره وملاحظ أُمُوره وَعدم الْجِهَاد مقتني فضيلته ومؤدي فريضته ومحيي سنته وأورثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 بِالِاسْتِحْقَاقِ ملكه وسريره على أَنه يعزّ أَن يرى الزَّمَان نَظِيره وَمَا هَهُنَا مَا يشغل السِّرّ وَيقسم الْفِكر إِلَّا أَمر الفرنج خذلهم الله وَمَا كَانَ اعْتِمَاد مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل عَلَيْهِ وسكونه إِلَيْهِ إِلَّا لمثل هَذَا الْحَادِث الجلل وَالصرْف الكارث المذهل فقد ادخره لكفايات النوائب وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب وأمله ليومه ولغده ورجاه لنَفسِهِ ولولده ومكنّه قُوَّة لعضده فَمَا فقد رَحمَه الله تَعَالَى إِلَّا صُورة وَالْمعْنَى بَاقٍ وَالله تَعَالَى حَافظ لبيته واق وَهل غَيره دَامَ سموهُ من مؤازر وَهل سوى السيّد الْأَجَل النّاصر من نَاصِر وَقد عَرفْنَاهُ المقترح ليروض بِرَأْيهِ من الْأَمر مَا جمح والأهم شغل الْكفَّار عَن هَذِه الديار بِمَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ من قصدهم والنكاية فيهم على البدار وَيجْرِي على الْعَادة الْحسنى فِي إحْيَاء ذكر الْوَالِد هُنَاكَ بتجديد ذكرنَا رَاغِبًا فِي اغتنام ثنائنا وشكرنا قلت وَكَانَ قد بلغ صَلَاح الدّين خبر نور الدّين فَأرْسل كتابا بالمثال الفاضلي فِيهِ ورد خبر من جَانب الْعَدو اللعين عَن الْمولى نور الدّين أعاذ الله تَعَالَى فِيهِ من سَماع الْمَكْرُوه وَنور بعافيته الْقُلُوب وَالْوُجُوه وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَمر وضاق بِهِ الصَّدْر وانقصم بحادثه الظّهْر وعزّ فِيهِ التثبت وأعوز الصَّبْر فَإِن كَانَ وَالْعِيَاذ بِاللَّه قد تمّ وخصّه الحكم الَّذِي عَم فللحوادث تذخر النصال وللأيام تصطنع الرِّجَال وَمَا رتب الْمُلُوك ممالكها إِلَّا لأولادها وَلَا اسْتوْدعت الأَرْض الْكَرِيمَة الْبذر إِلَّا لتؤدي حَقّهَا يَوْم حصادها فَالله الله أَن تخْتَلف الْقُلُوب وَالْأَيْدِي فتبلغ الْأَعْدَاء مرادها وتعدم الآراء رشادها وتنتقل النعم الَّتِي تعبت الْأَيَّام إِلَى أَن أَعْطَتْ قيادها فكونوا يدا وَاحِدَة وأعضاداً متساعدة وَقُلُوبًا يجمعها ودّ وسيوفا يضمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 غمد وَلَا تختلفوا فتنكلوا {وَلَا تنازعوا فتفشلوا} وَقومُوا على أمشاط الأرجل وَلَا تَأْخُذُوا الْأَمر بأطراف الأنمل فالعدواة محدقة بكم من كل مَكَان وَالْكفْر مُجْتَمع على الْإِيمَان وَلِهَذَا الْبَيْت منا نَاصِر لَا يَخْذُلهُ وقائم لَا يُسلمهُ وَقد كَانَت وَصيته إِلَيْنَا سبقت ورسالته عندنَا تحققت بِأَن وَلَده الْقَائِم بِالْأَمر وَسعد الدّين كمشتكين الأتابك بَين يَدَيْهِ فَإِن كَانَت الْوَصِيَّة ظَهرت وَقبلت وَالطَّاعَة فِي الْغَيْبَة والحضور أدّيت وَفعلت وَإِلَّا فَنحْن لهَذَا الْوَلَد يدُ على من ناواه وَسيف على من عَادَاهُ وَإِن أَسْفر الْخَبَر عَن معافاة فَهُوَ الْغَرَض الْمَطْلُوب وَالنّذر الَّذِي يحل على الْأَيْدِي والقلوب قَالَ الْعِمَاد وَورد كتاب صَلَاح الدّين بالمثال الفاضلي معزيا لِابْنِ نور الدّين وَفِي آخِره وَأما الْعَدو خذله الله تَعَالَى فوراءه من الْخَادِم من يَطْلُبهُ طلب ليل لنهاره وسيل لقراره إِلَى أَن يزعجه من مجاثمه ويستوقفه عَن مَوَاقِف مغانمه وَذَلِكَ من أقلّ فروض الْبَيْت الْكَرِيم وأيسر لوازمه أصدر هَذِه الْخدمَة يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ذِي الْقعدَة وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي أُقِيمَت فِيهِ الْخطْبَة بِالِاسْمِ الْكَرِيم وَصرح فِيهِ بِذكرِهِ فِي الْموقف الْعَظِيم وَالْجمع الَّذِي لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تأثيم وأشبه يَوْم الْخَادِم أمسه فِي الْخدمَة ووفى مَا لزمَه من حُقُوق النِّعْمَة وَجمع كلمة الْإِسْلَام عَالما أَن الْجَمَاعَة رَحْمَة وَالله تَعَالَى يخلد ملك الْمولى الْملك الصَّالح وَيصْلح بِهِ وعَلى يَدَيْهِ ويؤكد عهود النَّعْماء الراهنة لَدَيْهِ وَيجْعَل لِلْإِسْلَامِ واقية بَاقِيَة عَلَيْهِ ويوفق الْخَادِم لما ينويه من تَوْثِيق سُلْطَانه وتشييده ومضاعفة ملكة ومزيده وتيسير منال كل أملٍ صَالح وتقريب بعيده إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَمن كتاب آخر الْخَادِم مُسْتَمر على بَدأته من الاستشراف لأوامرها والتعرض لمراسمها وَالرَّفْع لكلمتها والإيالة لعسكرها والتحقق بخدمتها فِي بواطن الْأَحْوَال وظواهرها والتّرقب لِأَن يُؤمر فيمتثل ويكلف فَيحْتَمل وَأَن يرْمى بِهِ فِي فِي نحر عدوه فيتسدد بِجهْدِهِ ويوفى أَيَّام الدولة الْعَالِيَة يَوْمًا يكْشف الله فِيهِ للْمولى للْمولى ضمير عَبده قَالَ الْعِمَاد وَلما توفّي نور الدّين أختل أَمْرِي واعتل سرّي وعلت حسادي وَبلغ مُرَادهم أضدادي وَكَانَ الْملك الصَّالح صَغِيرا فَصَارَ الْعدْل ابْن العجمي لَهُ وزيرا وَتصرف المتحالفون فِي الخزانة والدولة كَمَا أَرَادوا وولَّوْا وصرفوا ونقصوا وَزَادُوا واقتصروا لي على الْكِتَابَة محروم الدعْوَة من الْإِجَابَة وَمِمَّا نظمته فِي مرثية نور الدّين قصيدة مِنْهَا (لفقد الْملك الْعَادِل ... يبكي الْملك وَالْعدْل) (وَقد أظلمت الْآفَاق ... لَا شمس وَلَا ظلّ) مِنْهَا (وَلما غَابَ نور الدّين ... عَنَّا أظلم الحفل) (وَزَالَ الخصب وَالْخَيْر ... وَزَاد الشَّرّ وَالْمحل) (وَمَات الْبَأْس والجود ... وعاش الْيَأْس وَالْبخل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 (وَعز النَّقْص لما هان ... أهل الْفضل والفضلُ) (وَهل ينْفق ذُو علم ... إِذا مَا نفق الْجَهْل) (وَمَا كَانَ لنُور الدّين ... لَوْلَا نجلُه مثل) فصل قَالَ الْعِمَاد وَاتفقَ نزُول الفرنج بعد وَفَاة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى على الثغر وقصدهم بانياس ورجوا أَن يتم لَهُم الْأَمر ثمَّ ظَهرت خيبتهم وَبَان الياس وَذَلِكَ أَن شمس الدّين بن الْمُقدم خرج وراسل الفرنج وخوّفهم بِقصد صَلَاح الدّين لبلادهم وَأَنه قد عزم على جهادهم وَتَكَلَّمُوا فِي الْهُدْنَة وَقطع مواد الْحَرْب والفتنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها وعدة من أساراهم استطلقوها وتمّت الْمُصَالحَة وَبلغ ذَلِك صَلَاح الدّين فَأنكرهُ وَلم يُعجبهُ وَكتب إِلَى جمَاعَة الْأَعْيَان كتُباً دالّة على التوبيخ والملام وَمن جُمْلَتهَا كتاب بالمثال الفاضلي إِلَى الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون يُخبرهُ فِيهِ أَنه لما أَتَاهُ كتاب الْملك الصَّالح بِقصد الفرنج تجهّز وَخرج وَسَار أَربع مراحل ثمَّ جَاءَهُ الْخَبَر بالهدنة المؤذنة بذُل الْإِسْلَام من دفع القطيعة وَإِطْلَاق الْأُسَارَى وَسَيِّدنَا الشَّيْخ أولى من جرّد لِسَانه الَّذِي تُغمد لَهُ السيوف وتُجرّد وَقَامَ فِي سَبِيل الله قيام من يقطّ عَادِية من تعدّى وتمرّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وَفِي آخِره وَكتب من الْمنزل بفاقوس وَالْفَجْر قَدْ هَمّ أنْ يشقّ ثوب الصَّباح لَوْلَا أَن الثّريا تعرضت تعرض أثْنَاء الوشاح وَهَذِه اللَّيْلَة سافرة عَن نَهَار يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة بلغه الله فِيهِ أمله وَقبل عمله بَالغا أَسْنَى المُرَاد وأفضله وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما توفّي نور الدّين قَالَ الْأُمَرَاء مِنْهُم شمس الدّين بن الْمُقدم وحسام الدّين الْحُسَيْن بن عِيسَى الجراحي وَغَيرهمَا من أكَابِر الْأُمَرَاء قد علمْتُم أَن صَلَاح الدّين من مماليك نور الدّين ونوابه والمصلحة أَن نشاوره فِيمَا نفعله وَلَا نخرجهُ من بَيْننَا فَيخرج عَن طَاعَة الْملك الصَّالح وَيجْعَل ذَلِك حجَّة علينا وَهُوَ أقوى منا لِأَن لَهُ مثل مصر وَرُبمَا أخرجنَا وَتَوَلَّى هُوَ خدمَة الْملك الصَّالح فَلم يُوَافق أغراضهم هَذَا القَوْل وخافوا أَن يدْخل صَلَاح الدّين ويخرجوا قَالَ فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى وصلت كتب صَلَاح الدّين إِلَى الْملك الصَّالح يهنئه بِالْملكِ ويعزيه بِأَبِيهِ وَأرْسل دَنَانِير مصريه عَلَيْهَا اسْمه ويعرفه أَن الْخطْبَة وَالطَّاعَة لَهُ كَمَا كَانَت لوالده فلّما سَار سيف الدّين غَازِي ابْن عَمه قطب الدّين وَملك الديار الجزرية وَلم يُرْسل من مَعَ الْملك الصَّالح من الْأُمَرَاء إِلَى صَلَاح الدّين وَلَا أعلموه الْحَال كتب إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الْملك الصَّالح يعتبه حَيْثُ لم يُعْلِمه قصد سيف الدّين بِلَاده ليحضر فِي خدمته ويمنعه وَكتب إِلَى الْأُمَرَاء يَقُول إِن الْملك الْعَادِل لَو علم أَن فِيكُم من يقوم مقَامي أَو يَثِق إِلَيْهِ مثل ثقته بِي لَسَلَّم إِلَيْهِ مصر الَّتِي هِيَ أعظم ممالكه وولاياته وَلَو لم يعجل عَلَيْهِ الْمَوْت لم يعْهَد إِلَى أحد بتربية وَلَده وَالْقِيَام بخدمته سواي وأراكم قد تفردتم بِخِدْمَة مولَايَ وَابْن مولَايَ دوني فَسَوف أصلُ إِلَى خدمته وأجازي إنعام وَالِده بِخِدْمَة يظْهر أَثَرهَا وأقابل كلاًّ مِنْكُم على سوء صَنِيعه وإهمال أَمر الْملك الصَّالح ومصالحه حَتَّى أخذت بِلَاده فَأَقَامَ الصَّالح بِدِمَشْق وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء لم يمكنوه من الْمسير إِلَى حلب لِئَلَّا يَغْلِبهُمْ عَلَيْهِ شمس الدّين عَليّ ابْن الدّاية فَإِنَّهُ كَانَ أكبر الْأُمَرَاء النُّورية وَإِنَّمَا تَأَخّر عَن خدمَة الْملك الصَّالح بعد وَفَاة نور الدّين لمَرض لحقه وَكَانَ هُوَ وَإِخْوَته بحلب وأمرها إِلَيْهِم وعسكرها مَعَهم فِي حَيَاة نور الدّين وَبعده وَلما عجز عَن الْحَرَكَة أرسل إِلَى الْملك الصَّالح يَدعُوهُ إِلَى حلب ليمنع الْبِلَاد سيف الدّين ابْن عَمه وَأرْسل إِلَى الْأُمَرَاء يَقُول لَهُم إِن سيف الدّين قد ملك إِلَى الْفُرَات وَلَئِن لم تُرْسِلُوا الْملك الصَّالح إِلَى حلب حَتَّى يجمع العساكر وَيسْتَرد مَا أَخذ مِنْهُ وَإِلَّا عبر سيف الدّين الْفُرَات إِلَى حلب وَلَا نقوى على مَنعه فَلم يرسلوه وَلَا مكنوه من قصد حلب قَالَ وَكَانَ نور الدّين قبل أَن يمرض قد أرسل إِلَى الْبِلَاد الشرقية كالموصل وَغَيرهَا يَسْتَدْعِي العساكر مِنْهَا فَسَار سيف الدّين فِي عساكره فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق أَتَاهُ الْخَبَر بِمَوْت عمّه نور الدّين فَعَاد إِلَى نَصِيبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فملكها وَأرْسل الشحن إِلَى بلد الخابور فاستولوا عَلَيْهَا وَسَار هُوَ إِلَى حران فحصرها عدَّة أَيَّام ثمَّ أَخذهَا وَملك الرّها والرقة وسروج واستكمل ملك سَائِر ديار الجزيرة سوى قلعة جعبر فَقَالَ لَهُ فَخر الدّين عبد الْمَسِيح وَكَانَ قد فَارق سيواس بعد وَفَاة نور الدّين وَقصد سيف الدّين ظنَّا مِنْهُ أَن سيف الدّين يرْعَى لَهُ خدمته وقيامه فِي أَخذ الْملك لَهُ من وَالِده قطب الدّين على مَا ذَكرْنَاهُ أَولا فَلم يجن ثَمَرَة مَا غرس وَكَانَ عِنْده كبعض الْأُمَرَاء لَيْسَ بِالشَّام من يمنعك فاعبر الْفُرَات واملك الْبِلَاد فَأَشَارَ أَمِير آخر مَعَه وَهُوَ أكبر أمرائه قد ملكت أَكثر من والدك والمصلحة أَن تعود فَرجع إِلَى الْموصل فصل قَالَ ابْن الْأَثِير قد سبق أَن نور الدّين كَانَ قد جعل بقلعة الْموصل لمّا ملكهَا دُزْداراً لَهُ وَهُوَ سعد الدّين كمشتكين بعض خدمه الخصيان فَلَمَّا سَار سيف الدّين إِلَى الشَّام كَانَ فِي مقدمته على مرحلة فَلَمَّا أَتَاهُ خبر وَفَاة نور الدّين هرب وَأرْسل سيف الدّين فِي أَثَره فَلم يدْرك فنهب بَرْكه ودوابه وَسَار إِلَى حلب وَتمسك بِخِدْمَة شمس الدّين ابْن الداية وَإِخْوَته وَاسْتقر بَينهم وَبَينه أَن يسير إِلَى دمشق ويحضر الْملك الصَّالح فَسَار إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 دمشق فَأخْرج إِلَيْهِ ابْن الْمُقدم عسكرا لينهبه فَعَاد مُنهزما إِلَى حلب فأخلف عَلَيْهِ شمس الدّين ابْن الداية مَا أَخذ مِنْهُ وجهزه وسيره إِلَى دمشق وعَلى نَفسهَا تجني براقش فَلَمَّا وَصلهَا سعد الدّين دَخلهَا وَاجْتمعَ بِالْملكِ الصَّالح والأمراء وأعلمهم مَا فِي قصد الْملك الصَّالح إِلَى حلب من الْمصَالح فَأَجَابُوا إِلَى تسييره فَسَار إِلَيْهَا فَلَمَّا وَصلهَا وَصعد إِلَى قلعتها قبض الْخَادِم سعد الدّين على شمس الدّين ابْن الداية وَإِخْوَته وعَلى ابْن الخشاب رَئِيس حلب قَالَ ابْن الْأَثِير وَلَوْلَا مرض شمس الدّين لم يتَمَكَّن مِنْهُ وَلَا جرى من ذَلِك الْخلف والوهن شَيْء {وَكَانَ أَمر الله قدرا مقدوُراً} واستبد سعد الدّين بتدبير أَمر الْملك الصَّالح فخافه ابْن الْمُقدم وَغَيره من الْأُمَرَاء الَّذين بِدِمَشْق فكاتبوا سيف الدّين ليسلموا إِلَيْهِ دمشق فَلم يفعل وَخَافَ أَن تكون مكيدة عَلَيْهِ ليعبر الْفُرَات ويسير إِلَى دمشق فَيمْنَع عَنْهَا ويقصده ابْن عَمه من وَرَاء ظَهره فَلَا يُمكنهُ الثَّبَات فراسل الْملك الصَّالح وَصَالَحَهُ على إِقْرَار مَا أَخذه بِيَدِهِ وَبَقِي الْملك الصَّالح بحلب وَسعد الدّين بن يَدَيْهِ يدبره أمره وتمكّن مِنْهُ تمَكنا عَظِيما يُقَارب الْحجر عَلَيْهِ وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ كمشتكين الْخَادِم النَّائِب بالموصل قد سمع بِمَرَض نور الدّين فأخفاه وَاسْتَأْذَنَ فِي الْوُصُول إِلَى الشَّام فَطلب سيف الدّين غَازِي رِضَاهُ فَخرج وَسَار مرحلَتَيْنِ وَسمع النّعْي فأغذ السّير وَالسَّعْي وَنَجَا بِمَالِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وبحاله وَنَدم صَاحب الْموصل على الرِّضَا بترحاله وَكَانَت عِنْده بوفاة عَمه بِشَارَة وَظَهَرت على صفحاته مِنْهَا أَمارَة فَإِنَّهُ لم يزل من كمشتكين متشكيا فَإِنَّهُ كَانَ لجمر الْأَمر عَلَيْهِ مّذْكيا وَكَانَ المرحوم قد أَمر بإراقة الْخُمُور وَإِزَالَة الْمَحْظُور وَإِسْقَاط المكوس وإعدام أقساط البوس فَنُوديَ فِي الْموصل يَوْم وُرُود الْخَبَر بالفسحة فِي الشّرْب جهادرا لَيْلًا وَنَهَارًا وَزَالَ الْعرف وَعَاد النكر وَأنْشد قَول ابْن هانىء (وَلَا تَسْقِنِي سرا فقد أمكن الْجَهْر ... ) وَقيل أَخذ الْمُنَادِي على يَده دنّا وَعَلِيهِ قدح وزمر وَزعم أَنه خرج بِهَذَا أَمر فَلَا حرج على من يُغني وَيشْرب ويسكر ويطرب وعادت الضرائب وَضربت العوائد وَأما كمشتكين فَإِنَّهُ وصل إِلَى حلب بعد عبور الْقرى وتمثل عِنْد الصَّباح يحمد الْقَوْم السّري وَاجْتمعَ هُنَاكَ بالأمير شمس الدّين عَليّ وَإِخْوَته إخْوَة مجد الدّين وَأظْهر أَنه لَهُم من المخلصين وَكَانَ مجد الدّين أَبُو بكر أخوهم رَضِيع نور الدّين وَقد ترّبى مَعَه وَلَزِمَه وَتَبعهُ إِلَى أَن ملك الشَّام بعد وَالِده ففّوض إِلَى مجد الدّين جَمِيع مقاصده من طريفه وتالده وحكّمه فِي الْملك ونظمه فِي السلك فَلَا يُحلّ وَلَا يُعقد إِلَّا بِرَأْيهِ وَكَانَت حصونه محصّنة وَهُوَ يسكن عِنْده فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 قلعة حلب والحاضر عِنْده صباحا وَمَسَاء إِذا طلب وشيزر مَعَ أَخِيه شمس الدّين عَليّ وقلعة جعبر وتلّ بَاشر مَعَ سَابق الدّين عُثْمَان وحارم مَعَ بدر الدّين حسن وَعين تَابَ وعزاز وَغَيرهمَا نوّابه فِيهَا وَهُوَ يصونها ويحميها ولمّا توفّي جرت إخْوَته فِي الْقرب والانبساط على عَادَته وهم أَعْيَان الدولة وأعضادها وأبدال أرْضهَا وأوتادها وأمجادها وأجوادها فَلَمَّا توفّي نور الدّين لم يشكوا فِي أَنهم يكفلون وَلَده ويرّبونه ويحبهم لأجل سابقتهم وَيُحِبُّونَهُ فَأَقَامَ شمس الدّين عليّ وَهُوَ أكبرهم وأوجههم وَدخل قلعة حلب وَبهَا واليها شاذبخت وسكنها وَأسر مصلحَة الدولة وأعلنها وَعرف مَا جرى بِدِمَشْق من الِاجْتِمَاع واتفاق ذوى الأطماع فكاتبهم وَأمرهمْ بالوصول إِلَيْهِ فِي خدمَة الْملك الصَّالح وَنفذ أَخَاهُ سَابق الدّين عُثْمَان وَكَانَ قَلِيل الْخِبْرَة بَعيدا من التحرُّز والدّهاء فاستقرّ الْأَمر على أَن يحملوا الْملك الصَّالح إِلَيْهِ ويقدموا بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ يتسلم ممالكه وَيكون أتابكه وَوصل كمشتكين إِلَى دمشق فِي تِلْكَ الْأَيَّام فوافقهم على مَا دبروه من المرام وَسَار الصَّالح وَمَعَهُ كمشتكين وَالْعدْل ابْن العجمي واسماعيل الخازن فبغُتوا إخْوَة مجد الدّين الثَّلَاثَة فقبضوهم واعتقلوهم وَجَاء ابْن الخشاب أَبُو الْفضل مقدّم الشِّيعَة فسفكوا دَمه وَأقَام شمس الدّين بن الْمُقدم بِدِمَشْق على عساكرها مقدما وَفِي مصالحها محكّما وجمال الدّين ريحَان وَالِي القلعة والشِّحن من قبله وَالْأَمر إِلَيْهِ بتفصيله وجمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وَالْقَاضِي كَمَال الدّين الشهرزوري الْحَاكِم النَّافِذ حكمه الصائب سَهْمه الثاقب نجمه وَكَانَ مسير الْملك الصَّالح من دمشق فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وغاظ صَلَاح الدّين مَا فُعل بأخوة مجد الدّين وَقَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي لما مَاتَ نُور الدّين اجْتمع أُمَرَاء دولته وتعاقدوا على أَن يَكُونُوا فِي خدمَة الْملك الصَّالح بن نور الدّين وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَبيا وحلفوا لَهُ على منابذة الْملك النَّاصِر وَقبض أَصْحَابه الَّذين بِالشَّام وَمُصَالَحَة الفرنج وَجعلُوا ابْن الْمُقدم شمس الدّين مقدم العساكر وَتمّ ذَلِك وَاسْتقر وَركب الْملك الصَّالح بِدِمَشْق وخطب لَهُ وَكَانَت الفرنج قد تحركت إِلَى قصد دمشق فَخرج ابْن الْمُقدم وَنزل على بانياس فِي عَسَاكِر نور الدّين وراسل الفرنج فِي الْهُدْنَة فَأَجَابُوهُ بعد أَن قطعُوا قطيعة على الْمُسلمين فَعجل حملهَا إِلَيْهِم وَتمّ أَمر الصُّلْح وعادت الفرنج إِلَى بلادها وَابْن الْمُقدم إِلَى دمشق واتصل خبر هَذِه الْهُدْنَة بِالْملكِ النَّاصِر وَكَانَ قد خرج من مصر أَربع مراحل فأعظم أمرهَا وأكبره واستصغر أَمر أهل الشَّام وَعلم ضعفهم فراسل ابْن الْمُقدم وَغَيره من الْأُمَرَاء بإنكار ذَلِك والتوبيخ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي كِتَابه إِلَى ابْن أبي عصرون ورد الْخَبَر بصلح بَين الفرنج والدمشقيين وبقيةُ بِلَاد الْمُسلمين مَا دخلت فِي العقد وَلَا انتظمت فِي سلك هَذَا الْقَصْد والعدو لَهما وَاحِد وَصرف مَال الله الَّذِي أُعد لمغنم الطّاعة ومصلحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الْجَمَاعَة فِي هَذِه الْمعْصِيَة المغضبة لله وَلِرَسُولِهِ ولصالحي الْأمة وَكَانَ مذخورا لكشف الْغُمَّة فَصَارَ عونا وَأَن أُسَارَى من طبرية وفرسانها كَانَت وطأتهم شَدِيدَة وشوكتهم حَدِيدَة دُفعوا فِي القطيعة وَجعلُوا إِلَى السّلم السَّبَب والذريعة فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر وقفنا بِهِ بَين الْورْد والصدر إِن أتممنا ظن بِنَا غير مَا نُرِيد وَإِن قعدنا فالعدو من بَقِيَّة الثغور الَّتِي لم تدخل فِي الْهُدْنَة غير بعيد وَإِن فرّقنا العساكر لدينا فاجتماعها بعد افتراقها شَدِيد فَرَأَيْنَا أَن سيرنا إِلَى حَضْرَة الْأَمِير شمس الدّين أبي الْحسن عَليّ وَإِخْوَته من يعرفهُمْ قدر خطر هَذَا الإرتباك وَأَنه أَمر رُبمَا عُجز عَن الِاسْتِدْرَاك وَأَن العدوّ طَالب لَا يغْفل وجاد لَا ينكل وَلَيْث لَا يضيع الفرصة مجد لَا يمِيل إِلَى الرُّخْصَة فَإِن كَانَت الْجَمَاعَة ساخطين فَيظْهر أَمَارَات السخط والتغيير وَلَا يمسك فِي الأول فيعجز عَن الْأَخير لَا سِيمَا وَنحن نغار لله ونغير ونقصد للْمُسلمين مَا يجمع بِهِ صَلَاح الرَّأْي وصواب التَّدْبِير وَقد منعنَا عساكرنا أَن تفترق خوفًا أَن يقْصد الْعَدو نَاحيَة حارم بِالْمَالِ الَّذِي قويت بِهِ قوته وثرت بِهِ ثروته وانبسطت بِهِ خطوته فَإِنَّهُ مَا دَامَ يعلم أَنا مجتمعون وعَلى طلبه مجمعون لَا يُمكنهُ أَن يزايل مراكزه وَلَا يُبَادر مناهزه قَالَ وَكَانَ مُتَوَلِّي قلعة حلب شاذبخت الْخَادِم النّوري وَكَانَ شمس الدّين عَليّ أَخُو مجد ابْن الداية إِلَيْهِ أُمُور الْجَيْش والديوان إِلَى أَخِيه بدر الدّين حسن الشحنكية وَكَانَ بِيَدِهِ وَيَد إخْوَته جَمِيع المعاقل الَّتِي حول حلب فَلَمَّا بلغ عليا موت نور الدّين صعد إِلَى القلعة وَكَانَ مُقْعَداً واضطرب الْبَلَد ثمّ سكنه ابْن الخشاب وكوتب ابْن الخشاب من دمشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 بِحِفْظ الْبَلَد وعول أَوْلَاد الداية على الِاسْتِيلَاء على حلب وَحلف لَهُم جمَاعَة من القلعيين والحلبيين وأنفذوا خلف أبي الْفضل بن الخشاب فَامْتنعَ من الصعُود إِلَيْهِم وترددت بَينهم الرسَالَة وتحزب النَّاس بحلب السّنة مَعَ بني الداية والشيعة مَعَ أبن الخشاب وَجَرت أَسبَاب اقْتَضَت أَن أنزل حسن ابْن الداية جمَاعَة من القلعيين وَأهل الْحَاضِر وزحفوا إِلَى دَار ابْن الخشاب فملكوها ونهبوها واختفى ابْن الخشاب وأتصلت هَذِه الْأَخْبَار بِمن فِي دمشق فَأخذُوا الْملك الصَّالح وَسَارُوا إِلَى حلب فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الحجَّة وَسَار مَعَ الْملك الصَّالح سعد الدّين كمشتكين وجرديك وَإِسْمَاعِيل الخازن وسابق الدّين عُثْمَان ابْن الدّاية وَقد وكلت الْجَمَاعَة بِهِ وَهُوَ لايعلم وَسَارُوا إِلَى حلب وَخرج النَّاس إِلَى لقائهم وَكَانَ حسن قد رتّب فِي تِلْكَ اللَّيْلَة جمَاعَة من الحلبيين ليُصبح ويصلبهم فلمَّا خرج للقاء الْملك الصَّالح وَوَقعت عينه عَلَيْهِ ترجَّل ليخدم هُوَ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه فَتقدم جرديك وَأخذ بِيَدِهِ وَشَتمه وجذبه فأركبه خَلفه رديفاً وقُبض سَابق الدّين أَخُوهُ فِي الْحَال وتُخُطَّفت أَصْحَابهم جَمِيعهم واحتيط عَلَيْهِم وَسَارُوا مجدّين حَتَّى سبقوا الْخَبَر إِلَى القلعة وصعدوا إِلَيْهَا وقبضوا على شمس الدّين عَليّ ابْن الداية من فرَاشه وَحمل إِلَى بَين يَدي الْملك الصَّالح فَاسْتَقْبلهُ أحد مماليك نور الدّين الْمَعْرُوف بالجفينة فركله بِرجلِهِ ركلة دحاه بهَا على وَجهه فانشقت جَبهته ثمَّ صفدوا جَمِيعًا وحبسوا فِي جُبّ القلعة وقبضوا على جَمِيع الأجناد الَّذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 حلفوا لأَوْلَاد الداية وأُخرجوا جَمِيعًا من القلعة قلت وَفِي آخر هَذِه السّنة توفّي مرّي الفرنجي الْملك الَّذِي كَانَ حاصر الْقَاهِرَة وأشرف على أَخذ الديّار المصرّية وَفِي كتاب فاضلي ورد كتاب من الدّاروم يذكر أَنه لما كَانَ عَشِيَّة الْخَمِيس تَاسِع ذِي الْحجَّة هلك مرّي ملك الفرنج لَعنه الله وَنَقله إِلَى عَذَاب كاسمه مشتقا وأقدمه على نَار تلظى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى} ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخمْس مئة قَالَ ابْن أبي طيّ فَفِي أولّها ضمن القطب ابْن العجمي أَبُو صَالح وَابْن أَمِين الدّولة لجرديك إِن قتل ابْن الخشاب ردوا عَلَيْهِ جَمِيع مَا نهب لَهُ فِي دَار ابْن أَمِين الدولة فَدخل على الْملك الصَّالح وتحدّث مَعَه وَأخذ خَاتمه أَمَانًا لِابْنِ الخشاب وَنُودِيَ عَلَيْهِ فَحَضَرَ وَركب إِلَى القلعة فَقتل وعلّق رَأسه على أحد أبراج القلعة وَبَقِي الْملك الصَّالح فِي قلعة حلب وَمضى الْعِمَاد الْكَاتِب إِلَى الْموصل قَالَ وعزمت على خدمَة سيف الدّين صَاحبهَا وَقد أَخذ من بِلَاد الجزيرة إِلَى حدّ الْفُرَات وَمضى إِلَيْهِ ابْن العجمي للإصلاح فَأصْلح بَين ابْني الْعم وغلق رهن إخْوَة مجد الدّين فِي الاعتقال وضيّقوا عَلَيْهِم فِي الْقُيُود والأغلال وألزموهم بِتَسْلِيم الْحُصُون وَتَقْدِيم الرهون إِلَى أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 غصبوا دُورهمْ وخربوا معمورهم قَالَ وَكَانَ المّوفق خَالِد بن القيسراني قد وصل وَنحن بِدِمَشْق من مصر فَلَزِمَ دَاره وَلم يدْخل مَعَ الْقَوْم فَأَما صَلَاح الدّين فَإِنَّهُ اعْتقد أَن ولد نور الدّين يَتَوَلَّاهُ بعده إخْوَة مجد الدّين فَلَمَّا جرى مَا جرى سَاءَهُ وَقَالَ أَنا أحقّ برعى العهود والسعيّ الْمَحْمُود فَإِنَّهُ إِن استمرت ولَايَة هَؤُلَاءِ تَفَرَّقت الْكَلِمَة المجتمعة وَضَاقَتْ المناهج المتسعة وانفردت مصر عَن الشَّام وطمع أهل الْكفْر فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَكتب إِلَى ابْن المقدّم يُنكر مَا أقدموا عَلَيْهِ من تَفْرِيق الْكَلِمَة وَكَيف اجترؤوا على أعضاد الدّولة وأركانها بل أَهلهَا وإخوانها وَأَنه يلْزمه أَمرهم وأمرها ويضره ضرهم وضرها فَكتب ابْن الْمُقدم إِلَيْهِ يردعه عَن هَذِه الْعَزِيمَة ويقبح لَهُ اسْتِحْسَان هَذِه الشيمة وَيَقُول لَهُ لَا يُقَال عَنْك إِنَّك طمعت فِي بَيت من غرسك وربّاك وأسسك وأصفى مشربك وأضفى ملبسك وَأجلى سكونك لملك مصر وَفِي دسته أجلسك فَمَا يَلِيق بحالك ومحاسن أخلاقك وخلالك غير فضلك وأفضالك فَكتب إِلَيْهِ صَلَاح الدّين بالإنشاء الفاضلي إِنَّا لانؤثر لِلْإِسْلَامِ وَأَهله إِلَّا مَا جمع شملهم وَألف كلمتهم وللبيت الأتابكي أَعْلَاهُ الله تَعَالَى إِلَّا مَا حفظ أَصله وفرعه وَدفع ضرّه وجلب نَفعه فالوفاء إِنَّمَا يكون بعد الْوَفَاة والمحبة إِنَّمَا تظهر آثارها عِنْد تكاثر أطماع العداة وَبِالْجُمْلَةِ إِنَّا فِي وَاد والظانون بِنَا ظن السوء فِي وَاد وَلنَا من الصّلاح مُرَاد وَلمن يبعدنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 عَنهُ مُرَاد وَلَا يُقَال لمن طلب الصّلاح إِنَّك قَادِح وَلمن ألْقى السِّلَاح إِنَّك جارح فصل قَالَ الْعِمَاد ثمَّ عزم السُّلْطَان على أَن يُسَارع إِلَى تلافي الْأَمر فاعترضه أَمْرَانِ أَحدهمَا وُصُول أسطول صقلية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وإدراكه وَالثَّانِي نوبَة الْكَنْز ونفاقه وهلاكه أما وُصُول الأسطول فَكَانَ يَوْم الْأَحَد السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَانْهَزَمَ فِي أول الْمحرم سنة سبعين ثمَّ ذكر كتابا وصل من صَلَاح الدّين إِلَى بعض الْأُمَرَاء بِالشَّام بشرح الْحَال وَحَاصِله أَن أول الأسطول وصل وَقت الظّهْر وَلم يزل متواصلا متكاملا إِلَى وَقت الْعَصْر وَكَانَ ذَلِك على حِين غَفلَة من المتوكلين بِالنّظرِ لَا على حِين خَفَاء من الْخَبَر فَأمر ذَلِك الأسطول كَانَ قد أشتهر ورُوع بِهِ ابْن عبد الْمُؤمن فِي الْبِلَاد المغربية وهدد بِهِ فِي الجزائر الرومية صَاحب قسطنطينية فشوهد فِي الثغر من وفور عُدّته وَكَثْرَة عدَّته وعظيم الهمّة بِهِ وفرط الاستكثار مِنْهُ مَا مَلأ الْبَحْر وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَمر فحمى أهل الثغر عَلَيْهِم البّر ثمَّ أُشير عَلَيْهِم أَن يقربُوا من السّور فَأمكن الأسطول النُّزُول فاستنزلوا خيولهم من الطرائد وراجلهم من المراكب فَكَانَت الْخَيل ألفا وَخمْس مئة رَأس وَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألف مقَاتل مَا بَين فَارس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وراجل وَكَانَت عدَّة الطرائد سِتا وَثَلَاثِينَ طريدة تحمل الْخَيل وَكَانَ مَعَهم مئتا شيني فِي كل شيني مئة وَخَمْسُونَ رَاجِلا وَكَانَت عدَّة السّفن الَّتِي تحمل الآت الْحَرْب والحصار من الأخشاب الْكِبَار وَغَيرهَا سِتّ سفن وَكَانَت عدَّة المراكب الْحمالَة برسم الأزواد للرِّجَال أَرْبَعِينَ مركبا وفيهَا من الراجل المتفرق وغلمان الخيالة وصناع المراكب وأبراج الزَّحْف ودباباته والمنجنيقية مَا يتمم خمسين ألف راجل وَلما تكاملوا نازلين على الْبر خَارِجين من الْبَحْر حملُوا على الْمُسلمُونَ حَملَة أوصلتهم إِلَى السُّور وفقد من أهل الثغر فِي وَقت الحملة مَا يناهز سَبْعَة من أنفس وَاسْتشْهدَ مَحْمُود بن البصارو بِسَهْم جرخ وجدفت مراكب الفرنج دَاخِلَة إِلَى الميناء وَكَانَ بِهِ مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة فسبقهم أَصْحَابنَا إِلَيْهَا فخسفوها وغرقوها وغلبوهم على أَخذهَا وأحرقوا مَا احْتَرَقَ مِنْهَا واتصل الْقِتَال إِلَى الْمسَاء فَضربُوا خيامهم بِالْبرِّ وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاث مئة خيمة فَلَمَّا أَصْبحُوا زحفوا وضايقوا وحاصروا ونصبوا ثَلَاث دبابات بكباشها وَثَلَاثَة مجانيق كبار الْمَقَادِير تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية وتعجب أَصْحَابنَا من شدَّة أَثَرهَا وَعظم حجرها وَأما الدبابات فَإِنَّهَا تشبه الأبراج فِي جفَاء أخشابها وارتفاعها وَكَثْرَة مقاتلتها واتساعها وزحفوا بهَا إِلَى أَن قاربت السّور ولجّوا فِي الْقِتَال عَامَّة النَّهَار الْمَذْكُور وَورد الْخَبَر إِلَى منزلَة العساكر بفاقوس يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث يَوْم نزُول العدوّ على جنَاح الطَّائِر فاستنهضنا العساكر إِلَى الثغرين إسكندرية ودمياط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 احْتِرَازًا عَلَيْهَا واحتياطا فِي أمرهَا وخوفا من مُخَالفَة الْعَدو إِلَيْهَا وَاسْتمرّ الْقِتَال وقدمت الدبابات وَضربت المنجنيقات وزاحمت السّور إِلَى أَن صَارَت مِنْهُ بِمِقْدَار أماج فاتفق أَصْحَابنَا على أَن يفتحوا أبواباً قبالتها من السُّور ويتركوها معقلة بالقشور ثمَّ فتحُوا الْأَبْوَاب على غَفلَة وَخَرجُوا مِنْهَا على غرَّة وَركب من هُنَاكَ من الْأُمَرَاء وَخَرجُوا من الْأَبْوَاب وتكاثر صائح أهل الثغر من كل الْجِهَات فأحرقوا الدبابات المنصوبة وَصَدقُوا عِنْدهَا الْقِتَال وَأنزل الله على الْمُسلمين النّصر وعَلى الْكفَّار الخذلان والقهر واتصل الْقِتَال إِلَى الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم وَقصرت عزائمهم وفتر حربهم وأحرقت آلَات قِتَالهمْ واستحر الْقَتْل والجراح فِي رِجَالهمْ وَدخل الْمُسلمُونَ إِلَى الثغر لأجل قَضَاء فَرِيضَة الصَّلَاة وَأخذ مَا بِهِ قوام الْحَيَاة وهم على نيّة المباكرة والعدوّ على نِيَّة الْهَرَب والمبادرة ثمَّ كرّ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم بَغْتَة وَقد كَاد يخْتَلط الظلام فهاجموهم فِي الْخيام فتسلموها بِمَا فِيهَا وفتكوا فِي الرّجالة أعظم فتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وتسلموا الخيالة وَلم يسلم مِنْهُم إِلَّا من نزع لبسه وَرمى فِي الْبَحْر نَفسه وتقحم أَصْحَابنَا فِي الْبَحْر على بعض المراكب فخسفوها وأتلفوها فَوَلَّتْ بَقِيَّة المراكب هاربة وجاءتها أَحْكَام الله الْغَالِبَة وَبَقِي العدوّ بَين قتل وغرق وَأسر وَفرق واحتمى ثَلَاث مئة فَارس فِي رَأس تلّ فَأخذت خيولهم ثمَّ قتلوا وأسروا وَأخذ من الْمَتَاع والآلات والأسلحة مَا لَا يملك مثله وأقلع هَذَا الاسطول عَن الثغر يَوْم الْخمسين وَذكر ابْن شَدَّاد أَن نزُول هَذَا الْعَدو كَانَ فِي شهر صفر وَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا فِي سِتّ مئة قِطْعَة مَا بَين شيني وطرادة وبطسة وَغير ذَلِك فصل وَأما نوبَة الْكَنْز فَقَالَ ابْن شَدَّاد الْكَنْز إِنْسَان مقدم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 المصريين كَانَ قد انتزح إِلَى أسوان فَأَقَامَ بهَا وَلم يزل يدبره أمره وَيجمع السودَان عَلَيْهِ ويُخِّيل لَهُم أَنه يملك الْبِلَاد وَيُعِيد الدولة مصرية وَكَانَ فِي قُلُوب الْقَوْم من المهاواة للمصريين مَا تستصغر هَذِه الْأَفْعَال عِنْده فَاجْتمع عَلَيْهِ خلق كثير وَجمع وافر من السودَان وَقصد قوص وأعمالها فَانْتهى خَبره إِلَى صَلَاح الدّين فَجرد لَهُ عسكرا عَظِيما شاكين فِي السِّلَاح من الَّذين ذاقوا حلاوة ملك الديار المصرية وخافوا على فَوت ذَلِك مِنْهُم وقدّم عَلَيْهِم أَخَاهُ سيف الدّين وَسَار بهم حَتَّى أَتَى الْقَوْم فَلَقِيَهُمْ بمصاف فكسرهم وَقتل مِنْهُم خلقا عَظِيما واستأصل شأفتهم وأخمد نائرتهم وَذَلِكَ فِي السّابع من صفر سنة سبعين واستقرت قَوَاعِد الْملك قَالَ الْعِمَاد وَفِي أول سنة سبعين مستهلها قَامَ الْمَعْرُوف بالكنز فِي الصَّعِيد وَجمع من كَانَ فِي الْبِلَاد من السودَان وَالْعَبِيد وَعدا ودعا من الْقَرِيب والبعيد وَكَانَ عِنْده من الْأُمَرَاء أَخ لحسام الدّين بن أبي الهيجاء السّمين ففتك بِهِ وبمن هُنَاكَ من المقطعين فغارت حمية أَخِيه وثارت للثأر وساعده أَخُو السُّلْطَان سيف الدّين وَعز الدّين موسك ابْن خَاله وعدة من أمرائه وَرِجَاله وجاؤوا إِلَى مَدِينَة طود فاحتمت عَلَيْهِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وامتنعت فأسرعت البلية إِلَيْهَا وَبهَا وَقعت وأتى السَّيْف على أَهلهَا وباءت بعد عزها بذّلها ثمَّ قصد الْكَنْز وَهُوَ فِي طغيانه وعدوانه وسوئه وسودانه فسُفك دَمه وَظهر بعد ظُهُور وجوده عَدمه وأريقت دِمَاء سوده وهجم غابه على أسوده وَلم يبْق للدولة بعد كنزها كنز وطلّ دَمه وَلم ينتطح فِيهِ عنز وارتدع المارقون فَمَا رقوا بعده سلم نفاق وَالله لناصري دينه نَاصِر واق وَقَالَ ابْن أبي طيّ وَاتفقَ أَيْضا أَن خرج بقرية من قرى الصَّعِيد يُقَال لَهَا طود رجل يعرف بعباس بن شاذي وثار فِي بِلَاد قوص ونهبها وخربها وَأخذ أَمْوَال النَّاس واتصل ذَلِك بِالْملكِ الْعَادِل سيف الدّين أبي بكر بن أَيُّوب وَكَانَ السُّلْطَان قد استنابه بِمصْر فَجمع لَهُ العساكر وأوقع بِهِ وبدّد شَمله وفض جموعه وَقَتله ثمَّ قصد بعده كنز الدولة الْوَالِي بأسوان وَكَانَ قصد بلد طود فَقتل أَكثر عسكره وهرب فأدركه بعض أَصْحَاب الْملك الْعَادِل فَقتله فصل فِي توّجه صَلَاح الدّين إِلَى دمشق ودخوله إِلَيْهَا فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ آخر شهر ربيع الأول قَالَ الْعِمَاد لمّا خلا باله مِمَّا تقدم ذكر تجهز لقصد الشَّام فَخرج إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الْبركَة مستهل صفر وَأقَام حَتَّى اجْتمع الْعَسْكَر ثمَّ رَحل إِلَى بلبيس ثَالِث عشر ربيع الأول وَكَانَت رسل شمس الدِّين صَاحب بصرى صديق ابْن جاولي وشمس الدّين بن الْمُقدم عِنْده تَسْتَورى فِي الْحَث والبعث زنده وتستقدمه وجنده وَسَار على صَدْر وأيْلة وَوصل السيّر بالسُّرى حَتَّى أَنَاخَ على بصرى بَصيرًا بالعلا نَصِيرًا للهدى فَاسْتَقْبلهُ صَاحب بصرى وَشد أزره وسدّد أمره واستضاف إِلَى بصرى صرخد وَتفرد بِالسَّبقِ إِلَى الْخدمَة وتوَّحد وَسَار فِي الْخدمَة مَعَه إِلَى الْكسْوَة وَبكر صَلَاح الدّين يَوْم الِاثْنَيْنِ انسلاخ الشَّهْر وَسَار فِي موكب قوى بِالْعدَدِ وَالْعدَد وَحسب أَن يمْتَنع عَلَيْهِ الْبَلَد وَأَن الْأَطْرَاف توثق والأبواب تغلق فَأقبل وَهُوَ يَسُوق وإقباله يشوق حَتَّى دخل دمشق وخرقها وَكَانَ الله تَعَالَى لَهُ خلقهَا وَدخل إِلَى دَار العقيقي مسكن أَبِيه وَبَقِي جمال الدّين ريحَان الْخَادِم فِي القلعة على تأبِّيه فراسله حَتَّى استماله وأغزر لَهُ نواله وَملك الْمَدِينَة والقلعة وَنزل بالقلعة سيف الْإِسْلَام أَخُو السّلطان صَلَاح الدّين وَملك ابْن المقّدم دَاره وكل مَا حواليها وبذل لَهُ طلبته الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا وَنَصّ عَلَيْهَا وَأظْهر أَنه قد جَاءَ لتربية الْملك الصَّالح وحِفْظ مَالَه من الْمصَالح وتدبير ملكه فَهُوَ أحقّ بصيانة حقّه وَاجْتمعَ بِهِ أعيانها وخلص لولائه إسرارها وإعلانها وَأصْبح وَهُوَ سلطانها وزاره القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري فوفاه حقّه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الاحترام ووفّر لَهُ حَظّ التبجيل والإعظام ونفذت الْكتب بالأمثلة الْفَاضِلِيَّةِ إِلَى مصر بِهَذَا الْفَتْح والنصر وَفِي بَعْضهَا يَوْم وصولنا إِلَى بصرى وَقَبله وفدت وَهَاجَرت وتزاحمت وتكاثرت وتوافت الْأُمَرَاء والأجناد والأتراك والأكراد والعربان وراجل الْأَعْمَال وأعيان الرِّجَال وَورد كتاب من دمشق بعد كتاب وكلٌّ مخبر وذاكر وَهُوَ غَائِب بكتابه حَاضر يذكر أَن الْبِلَاد مُمكنَة القياد مذعنة إِلَى المُرَاد وأمّا الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَإنَّا فِي هَذِه السفرة الْمُبَارَكَة نزلنَا فِي بِلَادهمْ نزُول المتحكم وأقمنا بهَا إِقَامَة الْحَاضِر المتخيم وأدلجنا وعيونهم متناومة وجزنا وأنوفهم راغمة ووطئنا ورقابهم صغر ومررنا وعيشهم مر وَالله يزيدهم ذلاً وَيجْعَل عَدَاوَة الْإِسْلَام فِي صُدُورهمْ غِلاًّ وَفِي أَعْنَاقهم غُلاًّ وَفِي كتاب آخر وَكَانَ رحيلنا من بصرى يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَقد توجه صَاحبهَا من بَين أَيْدِينَا قَائِما بِشُرُوط الْخدمَة ولوازمها ثمَّ لَقينَا الْأَجَل نَاصِر الدّين بن الْمولى أَسد الدّين رَحْمَة الله عَلَيْهِ وأدام نعْمَته والأمير سعد الدّين بن انر فِي السبت السَّابِع وَالْعِشْرين ونزلنا يَوْم الْأَحَد بجسر الْخشب والأجناد الدمشقية إِلَيْنَا متوافية وَالْوُجُوه على أبوابنا مترامية وَلم يتَأَخَّر إِلَّا من أبقى وَجهه وراقب صَاحبه وَمن اعْتقد بالقعود أَنه قد نظر لنَفسِهِ فِي الْعَاقِبَة وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر ركبنَا على خيرة الله تَعَالَى وَعرض دون الدُّخُول عدد من الرِّجَال فدعستهم عساكرنا المنصورة وصدمتهم وعرفتهم كَيفَ يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 اللِّقَاء وعلمتهم ودخلنا الْبَلَد واستقرت بِنَا دَار والدنا رَحْمَة الله عَلَيْهِ قريرة عيوننا مُسْتَقرًّا سُكُون الرّعية وسكوننا وأذعنا فِي أرجاء الْبَلَد النداء بإطابة النُّفُوس وَإِزَالَة المكوس وَكَانَت الْولَايَة فيهم قد ساءت وأسرفت وَالْيَد المتعدية قد امتدت إِلَى أَحْوَالهم وأجحفت فشرعنا فِي امْتِثَال أَمر الشَّرْع برفعها وإعفاء الْأمة مِنْهَا بوضعها قَالَ ابْن الْأَثِير لما خَافَ من بِدِمَشْق من الْأُمَرَاء أَن يقصدهم كمشتكين وَالْملك الصَّالح من حلب فيعاملهم بِمَا عَامل بِهِ بني الداية راسلوا سيف الدّين غَازِي ليسلموها إِلَيْهِ فَلم يجبهم فحملهم الْخَوْف على أَن راسلوا صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بِمصْر وَكَانَ كَبِيرهمْ فِي ذَلِك شمس الدّين بن الْمُقدم وَمن أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم فَلَمَّا أَتَتْهُ الرُّسُل لم يتَوَقَّف وَسَار إِلَى الشَّام فَلَمَّا وصل دمشق سلمهَا إِلَيْهِ من بهَا من الْأُمَرَاء ودخلها وَاسْتقر بهَا وَلم يقطع خطْبَة الْملك الصَّالح وَإِنَّمَا أظهر أَنِّي إِنَّمَا جِئْت لأخدمه واسترد لَهُ بِلَاده الَّتِي أَخذهَا ابْن عَمه وَجَرت أُمُور آخرهَا أَنه اصْطلحَ هُوَ وَسيف الدّين وَالْملك الصَّالح على مَا بِيَدِهِ وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما تحقق صَلَاح الدّين وَفَاة نور الدّين وَكَون وَلَده طفْلا لَا ينْهض بأعباء الْملك وَلَا يسْتَقلّ بِدفع عَدو الله عَن الْبِلَاد تجهّز لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّام إِذْ هُوَ أصل بِلَاد الْإِسْلَام فتجهزّ بِجمع كثير من العساكر وخلّف بالديار المصرية من يسْتَقلّ بحفظها وحراستها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ونظم أمورها وسياستها وَخرج هُوَ سائرا مَعَ جمع من أَهله وأقاربه وَهُوَ يُكَاتب أهل الْبِلَاد وأمراءها وَاخْتلفت كلمة اصحاب الْملك الصَّالح واختلت تدبيراتهم وَخَافَ بَعضهم من بعض وَقبض الْبَعْض على جمَاعَة مِنْهُم وَكَانَ ذَلِك سَبَب خوف البَاقِينَ مِمَّن فعل ذَلِك وسببا لتنفير قُلُوب النّاس عَن الصَّبِي فَاقْتضى الْحَال أَن كَاتب ابنُ الْمُقدم صَلَاح الدّين فوصل إِلَى الْبِلَاد مطالبا بِالْملكِ الصَّالح ليَكُون هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى أمره ويربّ حَاله فَدخل دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء سلخ ربيع الآخر وَكَانَ أوّل دُخُوله إِلَى دَار أَبِيه وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ وفرحوا بِهِ وَأنْفق فِي ذَلِك الْيَوْم فِي النّاس مَالا طائلا وَأظْهر الْفَرح وَالسُّرُور بالدمشقيين وأظهروا الْفَرح بِهِ وَصعد القلعة واستقرّ قدمه فِي ملكهَا فَلم يلبث أَن سَار فِي طلب حلب فنازل حمص وَأخذ مدينتها فِي جماى الأولى وَلم يشْتَغل بقلعتها وَسَار حَتَّى أَتَى حلب ونازلها سلخ جُمَادَى الْمَذْكُور وَهِي الدفعة الأولى قَالَ ابْن أبي طيّ بلغ السُّلْطَان أَن ابْن الْمُقدم نقض عهد الْملك الصَّالح وَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي خُرُوج سيف الدّين صَاحب الْموصل واستيلائه على الْبِلَاد الشرقية ومضايقته للْملك الصَّالح فِي ممالكه وَقيل إِن ابْن الْمُقدم كَاتب السُّلْطَان وَدعَاهُ إِلَى الْخُرُوج وَقيل إِنَّمَا خرج إِلَى الشَّام خوفًا من حَرَكَة تنشأ من جَانب الفرنج بِسَبَب اخْتِلَاف أُمَرَاء الشَّام وشغل بَعضهم بِبَعْض ولجواب ممُض ورد من ابْن الْمُقدم إِلَيْهِ وَلما تَيَقّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ابْن الْمُقدم خُرُوج السّلطان إِلَى جِهَة دمشق أشْفق من ذَلِك واستدرك مَا بدا مِنْهُ وتذلل لَهُ ووعده تَسْلِيم دمشق إِلَيْهِ قَالَ وَلما حصل على دمشق وقلعتها واستوطن بُقعتها نشر علم الْعدْل وَالْإِحْسَان وعّفى أثار الظُّلم والعدوان وأبطل مَا كَانَ الْوُلَاة استجدوه بعد موت نور الدّين من القبائح والمنكرات والمؤن والضرائب الْمُحرمَات قلت وَكَانَ قد كتب إِلَيْهِ أُسَامَة بن منقذ قصيدة بعد مصَاف عسقلان أَولهَا (تهن يَا أطول الْمُلُوك يدا ... فِي بسط عدلٍ وسطوةٍ وندى) (أجرا وذكرا من ذَلِك الشُّكْر فِي الدُّنْيَا ... وَمن ذَلِك الْجنان غَدا) (لَا تستقل الَّذِي صنعت فقد ... قُمْت بِفَرْض الْجِهَاد مُجْتَهدا) (وجست أَرض العدى وأفنيت من ... أبطالهم مَا يُجَاوز العددا) (وَمَا رَأينَا غزا الفرنج من الْمُلُوك ... فِي عقر دَارهم أحدا) (فسر إِلَى الشَّام فالملائكة الْأَبْرَار ... يلقاك جَمْعهم مدَدا) (فَهُوَ فَقير إِلَيْك يأملُ أنْ ... تُصلح بِالْعَدْلِ مِنْهُ مَا فسدا) (وَالله يعطيك فِيهِ عَاقِبَة النَّصْر ... كَمَا فِي كِتَابه وَعدا) (فَمَا حباك الورى وألهمك الْعدْل ... وأعطاك مَا ملكت سدى) ومدح وحيش الْأَسدي صَلَاح الدّين عِنْد أَخذه دمشق بقصيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 أَولهَا (قد جَاءَك النَّصْر والتوفيق فاصطحبا ... فَكُن لأضعاف هَذَا النَّصْر مرتقبا) (لله أَنْت صَلَاح الدّين من أَسد ... أدنى فريسته الْأَيَّام إِن وثبا) (رَأَيْت جلق ثغرا لَا نَظِير لَهُ ... فجئتها عَامِرًا مِنْهَا الَّذِي خربا) (نادتك بالذل لما قل ناصرها ... وأزمع الْخلق من أوطانها هربا) (أحييْتها مثل مَا أَحييت مصر فقد ... أعدت من عدلها مَا كَانَ قد ذَهَبا) (هَذَا الَّذِي نصر الْإِسْلَام فاتضحت ... سَبيله وأهان الْكفْر والصُّلبا) (وَيَوْم شاور والإيمانُ قد هزمت ... جيوشه كَانَ فِيهِ الجحفل اللجبا) (أَبَت لَهُ الضيم نفس مرّة وَيَد ... فعالة وفؤاد قطّ مَا وجبا) (يستكثر الْمَدْح يُتْلَى فِي مكارمه ... زهدا ويستصغر الدُّنْيَا إِذا وهبا) (وَيَوْم دمياط والإسكندرية قد ... أصارهم مثلا فِي الأَرْض قد ضربا) (وَالشَّام لَو لم تدارك أَهله اندرست ... آثاره وعفت آيَاته حقبا) فصل فِيمَا جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحماة وحصار حلب قَالَ ابْن أبي طيّ لما أتصل بِمن فِي حلب حُصُول دمشق للْملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 النَّاصِر وميل النَّاس إِلَيْهِ وانعكافهم عَلَيْهِ خَافُوا وَأَشْفَقُوا وَأَجْمعُوا على مراسلته فحّملوا قطب الدّين ينَال بن حسان رِسَالَة أرعدوا فِيهَا وأبرقوا وَقَالُوا لَهُ هَذِه السيوف الَّتِي ملكّتك مصر بِأَيْدِينَا والرماح الَّتِي حويت بهَا قُصُور المصريين على أكتافنا وَالرِّجَال الَّتِي وَردت عَنْك تِلْكَ العساكر هِيَ ترّدك وعمّا تصديت لَهُ تصدّك وَأَنت فقد تعدّيت طورك وتجاوزت حدك وَأَنت أحد غلْمَان نور الدّين وَمِمَّنْ يجب عَلَيْهِ حفظه فِي وَلَده قَالَ وَلما بلغ السُّلْطَان وُرُود ابْن حسان عَلَيْهِ رَسُولا تلّقاه بموكبه وبنفسه وَبَالغ فِي إكرامه وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ ثمَّ أحضرهُ بعد ثَالِثَة لسَمَاع الرسَالَة مِنْهُ فَلَمَّا فَاه ابْن حسان بِتِلْكَ الشقاشق الْبَاطِلَة وقعقع بِتِلْكَ التمويهات العاطلة لمُ يُعره السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى طرفا وَلَا سمعا وَلَا رد عَلَيْهِ خفضا وَلَا رفعا بل ضرب عَنهُ صفحا وتغاضيا وَترك جَوَابه إحسانا وتجافيا وَجرى فِي ميدان أريحيته واستن فِي سنَن مروءئه وخاطبه بِكَلَام لطيف رَقِيق وَقَالَ لَهُ يَا هَذَا اعْلَم أنني وصلت إِلَى الشَّام لجمع كلمة الْإِسْلَام وتهذيب الْأُمُور وحياطة الْجُمْهُور وسدّ الثغور وتربية ولد نور الدّين وكف عَادِية الْمُعْتَدِينَ فَقَالَ لَهُ ابْن حسان إِنَّك إِنَّمَا وَردت لأخذ الْملك لنَفسك وَنحن لَا نطاوعك على ذَلِك وَدون مَا ترومه خرط القتاد وفتّ الأكباد وإيتام الْأَوْلَاد فَتَبَسَّمَ السُّلْطَان لمقاله وتزايد فِي احْتِمَاله وَأَوْمى إِلَى رِجَاله بإقامته من بَين يَدَيْهِ بعد أَن كَاد يَسْطُو عَلَيْهِ ونادى فِي عساكره بالاستعداد لقصد الشَّام الْأَسْفَل ورحل مُتَوَجها إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 حمص فتسلم الْبَلَد وَقَاتل القلعة وَلم ير تَضْييع الزَّمَان عَلَيْهَا فَوكل بهَا من يحصرها ورحل إِلَى جِهَة حماة فَلَمَّا وصل إِلَى الرَّسْتَن خرج صَاحبهَا عز الدّين جرديك وَأمر من فِيهَا من الْعَسْكَر بِطَاعَة أَخِيه شمس الدّين على وَأَتْبَاع أمره وَسَار جرديك حَتَّى لَقِي السُّلْطَان وَاجْتمعَ بِهِ بالرَّسْتَن وَأقَام عِنْده يَوْمًا وَلَيْلَة وَظهر من نتيجة اجتماعه بِهِ أَنه سلم إِلَيْهِ حماة وَسَأَلَهُ أَن يكون السّفير بَينه وَبَين من بحلب فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى مُرَاده وَسَار إِلَى حلب وَبَقِي أَخُو جرديك بقلعة حماة قَالَ وَسَار جرديك إِلَى حلب وَهُوَ ظان أَنه قد فعل شَيْئا وحصّل عِنْد من بحلب يدا فَاجْتمع بالأمراء وَالْملك الصَّالح وَأَشَارَ عَلَيْهِم بمصالحة الْملك النَّاصِر فاتهمه الْأُمَرَاء بالمخامرة وردوّا مشورته وأشاروا بِقَبْضِهِ فَامْتنعَ الْملك الصَّالح ولجّ سعد الدّين كمشتكين فِي الْقَبْض عَلَيْهِ فَقبض وَثقل بالحديد وَأخذ بِالْعَذَابِ الشَّديد وَحمل إِلَى الْجب الَّذِي فِيهِ أَوْلَاد الداية قَالَ وَلما قدم جرديك وشدّ فِي وَسطه الْحَبل وأدلى إِلَى الْجب وأحس بِهِ أَوْلَاد الداية قَامَ إِلَيْهِ مِنْهُم حسن وَشَتمه أقبح شتم وسبه ألأم سبّ وَحلف بِاللَّه إِن أنزل إِلَيْهِم ليَقْتُلنه فامتنعوا من تدليته فأُعلم سعد الدّين كمشتكين فَحَضَرَ إِلَى الجبّ وَصَاح على حسن وَشَتمه وتوّعده فسكن حسن وَأمْسك وَأنزل جرديك الجبّ فَكَانَ عِنْد أَوْلَاد الداية وأسمعه حسن كل مَكْرُوه قَالَ وَكتب أبي إِلَى حلب حِين اتَّصل بِهِ فَقبض أَوْلَاد الداية وجرديك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وَكَانُوا تعصّبوا عَلَيْهِ حَتَّى نَفَاهُ نور الدّين من حلب قصيدة مِنْهَا (بُنو فُلَانَة أعوان الضّلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك وَالْقدر) (وَأَصْبحُوا بعد عزّ الْملك فِي صفد ... وقعر مظْلمَة يغشى لَهَا الْبَصَر) (وجرّد الدَّهْر فِي جرديك عزمته ... والدهر لَا ملْجأ مِنْهُ وَلَا وزر) قَالَ وَلم يزل السُّلْطَان مُقيما على الرَّسْتَن ثمَّ طَال عَلَيْهِ الْأَمر فَسَار إِلَى جباب التركمان فَلَقِيَهُ أحد غلْمَان جرديك وَأخْبرهُ بِمَا جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فَرَحل السُّلْطَان من سَاعَته عَائِدًا إِلَى حماة وَطلب من أخي جرديك تَسْلِيم حماة إِلَيْهِ وَأخْبرهُ بِمَا جرى على أَخِيه فَفعل وَصعد السُّلْطَان إِلَى قلعة حماة وَاعْتبر أحوالها وولاها مبارز الدّين عليّ بن أبي الفوارس وَذَلِكَ مستهل جُمَادَى الْآخِرَة وَسَار السُّلْطَان إِلَى حلب وَنزل على أنف جبل جوشن فَوق مشْهد الدكة ثَالِث جُمَادَى وامتدت عساكره إِلَى الخناقية وَإِلَى السعدى وَكَانَ من بحلب يظنون أَن السُّلْطَان لَا يقدم عَلَيْهِم فَلم يرعهم إِلَّا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت فخافوا من الحلبيين أَن يسلمُوا الْبَلَد كَمَا فعل أهل دمشق فأرادوا تطييب قُلُوب الْعَامَّة فأشير على ابْن نور الدّين أَن يجمعهُمْ فِي الميدان وَيقبل عَلَيْهِم بِنَفسِهِ ويخاطبهم بِلِسَانِهِ أَنهم الْوَزَرُ والملجأ فَأمر أَن يُنَادى باجتماع النَّاس إِلَى ميدان بَاب الْعرَاق فَاجْتمعُوا حَتَّى غصّ الميدان بِالنَّاسِ فَنزل الصَّالح من بَاب الدرجَة وَصعد من الخَنْدَق ووقف فِي رَأس الميدان من الشمَال وَقَالَ لَهُم يَا أهل حلب أَنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إِلَيْكُم كبيركم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 عِنْدِي بِمَنْزِلَة الْأَب وشابكم عِنْدِي بِمَنْزِلَة الْأَخ وصغيركم عِنْدِي يحل مَحل الْوَلَد قَالَ وخنقته الْعبْرَة وسبقته الدمعة وَعلا نَشِيجه فَافْتتنَ النَّاس وصاحوا صَيْحَة وَاحِدَة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وَقَالُوا نَحن عبيدك وَعبيد أَبِيك نُقَاتِل بَين يَديك ونبذل أَمْوَالنَا وأنفسنا لَك وَأَقْبلُوا على الدُّعَاء لَهُ والترحم على ابيه وَكَانُوا قد اشترطوا على الْملك الصَّالح أَنه يُعِيد إِلَيْهِم شرقية الْجَامِع يصّلون فِيهَا على قاعدتهم الْقَدِيمَة وَأَن يُجهر بحيّ على خير الْعَمَل وَالْأَذَان والتذكير فِي الْأَسْوَاق وقدّام الْجَنَائِز بأسماء الْأَئِمَّة الاثنى عشر وَأَن يصلوا على أمواتهم خمس تَكْبِيرَات وَأَن تكون عُقُود الْأَنْكِحَة إِلَى الشريف الطَّاهِر أبي المكارم حَمْزَة بن زهرَة الْحُسَيْنِي وَأَن تكون العصبية مُرْتَفعَة والناموس وازع لمن أَرَادَ الْفِتْنَة وَأَشْيَاء كَثِيرَة اقترحوها مِمَّا كَانَ قد أبْطلهُ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فأجيبوا إِلَى ذَلِك قَالَ ابْن أبي طيّ فَأذن المؤذنون فِي مَنَارَة الْجَامِع وَغَيره بحيّ على خير الْعَمَل وَصلى أبي فِي الشرقية مسبلاً وَصلى وُجُوه الحلبيين خَلفه وَذكروا فِي الْأَسْوَاق وقدّام الْجَنَائِز بأسماء الْأَئِمَّة وصلوا على الْأَمْوَات خمس تَكْبِيرَات وَأذن للشريف فِي أَن تكون عُقُود الحلبيين من الإمامية إِلَيْهِ وفعلوا جَمِيع مَا وَقعت الْأَيْمَان عَلَيْهِ فصل قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَت هَذِه السّنة شَدِيدَة الْبرد كَثِيرَة الثلوج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 عَظِيمَة الأمطار هائجة الأهوية وَكَانَ السُّلْطَان قد جعل أَوْلَاد الداية عُلالة لَهُ وسببا يقطع بِهِ أَلْسِنَة من يُنكر عَلَيْهِ الْخُرُوج إِلَى الشَّام وَقصد الْملك الصَّالح وَيَقُول أَنا إِنَّمَا أتيت لاستخلاص أَوْلَاد الداية وَإِصْلَاح شَأْنهمْ وَأرْسل السُّلْطَان إِلَى حلب رَسُولا يعرّض بِطَلَب الصُّلْح فَامْتنعَ كمشتكين فَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ السُّلْطَان فِي قتال الْبَلَد وَكَانَت ليَالِي الْجَمَاعَة عِنْد الْملك الصَّالح لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِنصب الحبائل للسُّلْطَان والفكرة فِي مخاتلته وإرسال الْمَكْرُوه إِلَيْهِ فَأَجْمعُوا آراءهم على مراسلة سِنَان صَاحب الحشيشية فِي إرصاد المتالف للسُّلْطَان وإرسال من يفتك بِهِ وضمنوا لَهُ على ذَلِك أَمْوَالًا جمة وعدة من الْقرى فَأرْسل سِنَان جمَاعَة من فتاك أَصْحَابه لاغتيال السُّلْطَان فجاؤوا إِلَى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر فعرفهم صَاحب بوقبيس لِأَنَّهُ كَانَ مثاغراً لَهُم فَقَالَ لَهُم يَا وَيْلكُمْ كَيفَ تجاسرتم على الْوُصُول إِلَى هَذَا الْعَسْكَر ومثلي فِيهِ فخافوا غائلته فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ فِي مَوْضِعه وَجَاء قوم للدَّفْع عَنهُ فجرحوا بَعضهم وَقتلُوا الْبَعْض وَبدر من الحشيشية أحدهم وَبِيَدِهِ سكينَة مَشْهُورَة ليقصد السُّلْطَان ويهجم عَلَيْهِ فَلَمَّا صَار إِلَى بَاب الْخَيْمَة اعْتَرَضَهُ طغريل أَمِير جاندار فَقتله وطُلب الْبَاقُونَ فَقتلُوا بعد أَن قتلوا جمَاعَة وَقَالَ وَلما فَاتَ من بحلب الْغَرَض من السُّلْطَان بطرِيق الحشيشية كاتبوا قومص طرابلس وضمنوا لَهُ أَشْيَاء كَثِيرَة مَتى رحلَّ السُّلْطَان عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 حلب وَكَانَ لَعنه الله فِي أسر نور الدّين مُنْذُ كسرة حارم وَكَانَ قد بذل فِي نَفسه الْأَمْوَال الْعَظِيمَة فَلم يقبلهَا نور الدّين فَلَمَّا كَانَ قبل موت نور الدّين سعى لَهُ فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي حَتَّى بَاعه نور الدّين بمبلغ مئة وَخمسين ألف دِينَار وفكاك ألف أَسِير وَاتفقَ فِي أول هَذِه السّنة موت ملك الفرنج صَاحب الْقُدس وطبرية وَغَيرهمَا فتكفل هَذَا القمص بِأَمْر وَلَده المجذوم فَعظم شَأْنه وَزَاد خطره فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان فِي أَمر الحلبيين وَأخْبرهُ الرّسول أنّ الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا وَاحِدَة فَقَالَ السُّلْطَان لست مِمَّن يرهب بتألب الفرنج وَهَا أَنا سَائِر إِلَيْهِم ثمَّ أنهد قِطْعَة من جَيْشه وَأمرهمْ بِقصد أنطاكية فغنموا غنيمَة حَسَنَة وعادوا فقصد القمص جِهَة حمص فَرَحل السُّلْطَان من حلب إِلَيْهَا فَسمع الملعون فنكص رَاجعا إِلَى بِلَاده وَحصل الْغَرَض من رحيل السُّلْطَان عَن حلب وَوصل إِلَى حمص فتسلم القلعة ورتب فِيهَا واليا من قبله قَالَ وَفِي فتح قلعة حمص يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من قصيدة وَسَتَأْتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 (إياب ابْن أَيُّوب نَحْو الشآم ... على كلّ مَا يرتجيه ظُهُور) (بِيُوسُف مصر وأيامه ... تقرّ الْعُيُون وتشفى الصّدور) (رَأَتْ مِنْك حمص لَهَا كَافِيا ... فواتاك مِنْهَا القويّ العسير) وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى زين الدّين بن نجا الْوَاعِظ يَقُول فِي وصف قلعة حمص وَالشَّيْخ الْفَقِيه قد شَاهد مَا يشْهد بِهِ من كَونهَا نجما فِي سَحَاب وعُقابا فِي عِقَاب وَهَامة لَهَا الغمامة عِمَامَة وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال مِنْهَا قلامة عاقدة حبوة صالحها الدَّهْر على أَلا يحلهَا بقرعه عاهدة عصمَة صافحها الزَّمن على أَلا يروعها بخلعه فاكتنفت بهَا عقارب منجنيقات لَا تطبع طبع حمص فِي العقارب وَضربت حِجَارَة بهَا الْحِجَارَة فأظهرت فِيهَا الْعَدَاوَة الْمَعْلُومَة بَين الْأَقَارِب فَلم يكن غير ثَالِثَة من الْحَد إِلَّا وَقد أثرت فِيهَا جدريا بضربها وَلم تصل إِلَى السَّابِع إِلَّا والبحران منذرٌ بنقبها واتسع الْخرق على الراقع وَسقط سعدها عَن الطالع إِلَى مولد من هُوَ إِلَيْهَا الطالع وَفتحت الأبراج فَكَانَت أبوابا وسيُرت الْجبَال بهَا فَكَانَت سرابا فهنالك بَدَت نقوب يرى قَائِم من دونهَا مَا وَرَاءَهَا وحُشيت فِيهَا النَّار فلولا الشعاع من الشعاع أضاءها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل قد اجْتمع عندنَا إِلَى هَذِه الْغَايَة مَا يزاحم سَبْعَة آلَاف فَارس وتكاثفت الجموع إِلَى الحدّ الَّذِي يخرج عَن العَّدَّ وبَعْد أَن نُرَتِّب أَحْوَال حمص حرسها الله تَعَالَى نتوجه إِلَى حماة وَإِلَى مَا بعْدهَا وَالله الْمعِين على مَا ننويه من الرّشاد وننظفه من طرق الْجِهَاد وَقَالَ الْعِمَاد لما سمع المدبّرون للْملك الصَّالح بإقبال صَلَاح الدّين الْمُؤَذّن بإدبارهم سُقط فِي أَيْديهم وراسلوا المواصلة وكاتبوهم وَأَرْسلُوا إِلَى صَلَاح الدّين بالإغلاظ والإحفاظ وَكَانَ الْوَاصِل مِنْهُم قطب الدّين ينَال بن حسان وَقد تجنب فِي قَوْله الْإِحْسَان وَقَالَ لَهُ هَذِه السيوف الَّتِي مَلكتك مصر وَأَشَارَ إِلَى سَيْفه إِلَيْهَا تردُّك وعمَّا تصدّيت لَهُ تصدك فحلم عَنهُ السُّلْطَان واحتمله وتغافل كرماً وأغفله وخاطبه بِمَا أَبى أَن يقبله وَذكر أَنه وصل لترتيب الْأُمُور وتهذيب الْجُمْهُور وسدّ الثغور وتربية ولد نور الدّين واستنقاذ إخْوَة مجد الدّين فَقَالَ لَهُ أَنْت تُرِيدُ الْملك لنَفسك وَنحن لَا ننزع فِي قوسك وَلَا نأنس بأنسك وَلَا نرتاع لجرسك وَلَا نَبْنِي على أُسِّك فَارْجِع حَيْثُ جِئْت أَو أجهد واصنع مَا شِئْت وَلَا تطمع فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مطمع وَلَا تطلع حَيْثُ مَا لسعودك فِيهِ مطلع ونال من تقطيب القطب ينَال كلّ مَا أحَال الْحَال وأبلى البال وَأبْدى لَهُ التبسم وأخفى الِاحْتِمَال ثمَّ إِنَّه استناب أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين بِدِمَشْق وَسَار بالعسكر وَنزل على حمص فَأَخذهَا يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى وامتنعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 القلعة فَأَقَامَ عَلَيْهَا من يحصرها ورحل إِلَى حماة فَأَخذهَا مستهلّ جُمَادَى الْآخِرَة ثمَّ مضى وَنزل على حلب فحصرها ثَالِث الشهّر فلمَّا اشْتَدَّ على الحلبيين الْحصار وأعوزهم الِانْتِصَار اسْتَغَاثُوا بالاسماعيلية وعيّنوا لَهُم ضيَاعًا وبذلوا لَهُم من البذول أنواعا فجَاء مِنْهُم فِي يَوْم بَارِد شات من فُتاكهم كل عَاتٍ فعرفهم الْأَمِير نَاصح الدّين خمارتكين صَاحب بوقبيس وَكَانَ مثاغرا للإسماعيلية فَقَالَ لَهُم لأي شَيْء جئْتُمْ وَكَيف تجاسرتم على الْوُصُول وَمَا خشيتم فَقَتَلُوهُ وَجَاء من يدْفع عَنهُ فأثخنوه وَعدا أحدهم ليهجم على السُّلْطَان فِي مقَامه وَقد شهر سكين انتقامه وطغرل أَمِير جاندار وَاقِف ثَابت سَاكن سَاكِت حَتَّى وصل إِلَيْهِ فَشَمَلَ بالسيَّف رَأسه وَمَا قتل الْبَاقُونَ حَتَّى قتلوا عدَّة ولاقى من لاقاهم شدَّة وعصم الله تَعَالَى حشاشته فِي تِلْكَ النّوبَة من سكاكين الحشيشية فَأَقَامَ إِلَى مستهل رَجَب ثمَّ رَحل إِلَى حمص بِسَبَب أَن الحلبيين كاتبوا قومص طرابلس وَقد كَانَ فِي أسر نور الدّين مذ كسرة حارم وَبَقِي فِي الْأسر أَكثر من عشر سِنِين ثمَّ فدى نَفسه بمبلغ مئة ألف وَخمسين ألف دِينَار وفكاك ألف أَسِير فَتوجه فِي الإفرنجية إِلَى حمص فَلَمَّا سمع بالسلطان رَجَعَ ناكصا على عَقِبَيْهِ خوفًا مِمَّا يَقع فِيهِ وَيتم عَلَيْهِ وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل قد أعلمنَا الْمجْلس أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 العدوَّ خذله الله كَانَ الحلبيون قد استنجدوا بصلبانهم واستطالوا على الْإِسْلَام بعدوانهم وَأَنه خرج إِلَى بلد حمص فوردنا حماة وأخذنا فِي تَرْتِيب الأطلاب لطلبه ولقاه فَسَار إِلَى حصن الأكراد مُتَعَلقا بحبله مفتضحاً بحيله وَهَذَا فتح تفتح لَهُ أَبْوَاب الْقُلُوب وظفر وَإِن كَانَ قد كفى الله تَعَالَى فِيهِ الْقِتَال المحسوب فَإِن الْعَدو قد سَقَطت حشمته وانحطت فِيهِ همته وَولى ظهرا كَانَ صَدره يصونه ونكسّ صليبا كَانَت ترفعه شياطينه وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة وَلما خيّم السُّلْطَان بِظَاهِر حمص قَصده الْمُهَذّب بن أسعد بقصيدة أَولهَا (مَا نَام بعد الْبَين يستحلى الْكرَى ... إِلَّا ليطرقه الخيال إِذا سرى) (كَلِف بقربكم فَلَمَّا عاقه ... بعد المدى سلك الطَّرِيق الأخصرا) (ومودع أَمر التفرُّقُ دمعه ... ونهته رقبُة كاشح فتحيرا) وَمِنْهَا فِي المديح (تُردى الْكَتَائِب كتبُه فَإِذا غَدَتْ ... لم يُدْرَ أنفذ أسطراً أم عسكرا) (لم يحسن الإتراب فَوق سطورها ... إِلَّا لِأَن الْجَيْش يعْقد عثيرا) فَقَالَ القَاضِي الْفَاضِل لصلاح الدّين هَذَا الَّذِي يَقُول (وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التّرْك متروكا ... ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فعجَّل جائزته لتكذيب قَوْله وتصديق ظنِّه فشرِّفه وَجمع لَهُ بَين الخلعة والضَّيْعة وعني الْفَاضِل مَا قَالَه فِي قصيدة فِي مدح الصَّالح بن رزيك الَّتِي أَولهَا (أما كَفاك تلافي فِي تلافيكا ) يَقُول فِيهَا (يَا كعبة الْجُود إِن الْفقر أقعدني ... ورقّة الْحَال عَن مَفْرُوض حجيكا) (من أرتجي يَا كريم الدَّهْر تنعشني ... جدواه إِن خَابَ سعيي فِي رجائيكا) (أأمدح التّرْك أبغي الْفضل عِنْدهم ... وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التُّرك متروكا) (أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... واضيعتا إِن تخطتني أياديكا) (لَا تتركني وَمَا أملَّت فِي سَفَرِي ... سواك أقفلُ نَحْو الْأَهْل صعلوكا) قلت وَقد مضى ذكر ابْن أسعد هَذَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَخمسين وَسَيَأْتِي من شعره أَيْضا فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسبعين وثمان وَسبعين وَمَا أحسن مَا خرج ابْن الدهان من الْغَزل إِلَى مدح ابْن رزيك فِي قَوْله من قصيدة أَولهَا (إِذا لَاحَ برق من جنابك لامع ... أَضَاء لواش مَا تجن الأضالع) يَقُول فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 (تَمَادى بِنَا فِي جَاهِلِيَّة بخلها ... وَقد قَامَ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّاس شَارِع) (وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بَعْدَمَا ... بدا طالعا شمس السخاء طلائع) فصل ثمَّ أرسل السُّلْطَان الْخَطِيب شمس الدّين بن الْوَزير أبي المضاء إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز برسالة ضمنهَا القَاضِي الْفَاضِل كتابا طَويلا رائقا فائقا يشْتَمل على تعداد مَا للسُّلْطَان من الأيادي من جِهَاد الإفرنج فِي حَيَاة نور الدّين ثمَّ فتح مصر واليمن وبلادٍ جمةٍ من أَطْرَاف الْمغرب وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية بهَا يَقُول فِي أَوله للرسول فَإِذا قضى التَّسْلِيم حق اللِّقَاء واستدعى الْإِخْلَاص جهد الدُّعَاء فليعد وليعد حوادث مَا كَانَت حَدِيثا يفترى وجواري أُمُور إِن قَالَ فِيهَا كثيرا فَأكْثر مِنْهُ مَا قد جرى وليشرح صَدرا مِنْهَا لَعَلَّه يشْرَح منا صَدرا وليوضح الْأَحْوَال المستسرة فَإِن الله لَا يعبد سرا (وَمن الغرائب أَن تسير غرائب ... فِي الأَرْض لم يعلم بهَا المأمول) (كالعيس أقتل مَا يكون لَهَا الصدى ... وَالْمَاء فَوق ظُهُورهَا مَحْمُول) فَإنَّا كُنَّا نقتبس النَّار بأكفنا وغيرنا يَسْتَنِير ونستنبط المَاء بِأَيْدِينَا وسوانا يستمير ونلقى السِّهَام بنحورنا وغيرنا يعْتَمد التَّصْوِير ونصافح الصفاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 بصدورنا وغيرنا يَدعِي التصدير وَلَا بُد أَن نسترد بضاعتنا بموقف الْعدْل الَّذِي تُرد بِهِ الغصوب وَتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كَمَا أَخذنَا بحظ الْقُلُوب وَمَا كَانَ العائق إِلَّا أَنا كنّا نَنْتَظِر ابْتِدَاء من الْجَانِب الشريف بِالنعْمَةِ يضاهي ابتداءنا بِالْخدمَةِ وإيجابا للحق يشاكل إيجابنا للسبق وَكَانَ أول أمرنَا أَنا كُنَّا فِي الشَّام نفتتح الْفتُوح مباشرين بِأَنْفُسِنَا ونجاهد الْكفَّار مُتقدمين لعساكرنا نَحن ووالدنا وعمنا فَأَي مَدِينَة فتحت أَو معقل مُلك أَو عَسْكَر لِلْعَدو كُسر أَو مصَاف لِلْإِسْلَامِ مَعَه ضرب لم نَكُنْ فِيهِ فَمَا يجهل أحد صنعنَا وَلَا يجْحَد عدونا أَنا نصطلي الْجَمْرَة ونملك الكرة ونتقدم الْجَمَاعَة ونُرتب الْمُقَاتلَة وندبر التعبئة إِلَى أَن ظَهرت فِي الشَّام الْآثَار الَّتِي لنا أجرهَا وَلَا يضرنا أَن يكون لغيرنا ذكرهَا وَكَانَت أَخْبَار مصر تتصل بِنَا بِمَا الْأَحْوَال عَلَيْهِ فِيهَا من سوء تَدْبِير وَبِمَا دولتها عَلَيْهِ من غَلَبَة صَغِير على كَبِير وَأَن النظام بهَا قد فسد وَالْإِسْلَام بهَا قد ضعف عَن إِقَامَته كل من قَامَ وَقعد والفرنج قد احْتَاجَ من يدبرها إِلَى أَن يقاطعهم بأموال كَثِيرَة لَهَا مقادير خطيرة وَأَن كلمة السّنة بهَا وَإِن كَانَت مَجْمُوعَة فَإِنَّهَا مقموعة وَأَحْكَام الشَّرِيعَة وَإِن كَانَ مُسَمَّاة فَإِنَّهَا متحاماة وَتلك الْبدع بهَا على مَا يعلم وَتلك الضلالات فِيهَا على مَا يُفْتى فِيهِ بِفِرَاق الْإِسْلَام وَيحكم وَذَلِكَ الْمَذْهَب قد خالط من أَهله اللَّحْم وَالدَّم وَتلك الأنصاب قد نصب آلِهَة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم فتعالى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 عَن شبه الْعباد وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا فِي البلادِ فَسَمت همتنا دون همم أهل الأَرْض إِلَى أَن نستفتح مُقفلها ونسترجع لِلْإِسْلَامِ شاردها ونعيد على الدّين ضالته مِنْهَا فسرنا إِلَيْهَا فِي عَسَاكِر ضخمة وجموع جمة وبأموال انتهكت الْمَوْجُود وَبَلغت منا المجهود أنفقناها من حَاصِل ذممنا وَكسب أَيْدِينَا وَثمن اسارى الفرنج الواقعين فِي قبضتنا فعرضت عوارض منعت وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت و {لكل أجلٍ كتابُ} ولكلّ أمل بَاب وَكَانَ فِي تَقْدِير الله تَعَالَى أَنا نملكها على الْوَجْه الْأَحْسَن ونأخذها بالحكم الْأَقْوَى الأمكن فغدر الفرنج بالمصريين غدرة فِي هدنة عظم خطبهَا وخبطها وَعلم أَن استئصال كلمة الْإِسْلَام محطها فكاتبنا الْمُسلمُونَ من مصر فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا كاتبنا الْمُسلمُونَ من الشَّام فِي هَذَا الأوان بِأَنا إِن لم ندرك الْأَمر وَإِلَّا خرج عَن الْيَد وَإِن لم ندفع غَرِيم الْيَوْم لم نمهل إِلَى الْغَد فسرنا بالعساكر الْمَجْمُوعَة وأمراء الْأَهْل الْمَعْرُوفَة إِلَى بِلَاد قد تمهد لنا بهَا أَمْرَانِ وتقرر لنا فِي الْقُلُوب وُدان الأول مَا علموه من إيثارنا للْمَذْهَب الأقوم وإحياء الحقّ الأقدم وَالْآخر مَا يرجونه من فك أسارهم وإقالة عثارهم فَفعل الله مَا هُوَ أَهله وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْعَدو فَانْقَطع حبله وَضَاقَتْ بِهِ سبله وَأَفْرج عَن الديار بعد أَن كَانَت ضياعها ورساتيقها وبلادها وأقاليمها قد نفذت فِيهَا أوامره وخفقت عَلَيْهَا صلبانه ونصبت بهَا أوثانه وأيس من أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 يسترجع مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم حَاصِلا وَأَن يستنقذ مَا صَار فِي ملكهم دَاخِلا ووصلنا الْبِلَاد وَبهَا أجناد عَددهمْ كثير وسوادهم كَبِير وَأَمْوَالهمْ وَاسِعَة وكلمتهم جَامِعَة وهم على حَرْب الْإِسْلَام أقدر مِنْهُم على حَرْب الْكفْر وَالْحِيلَة فِي السّر فيهم أنفذ من الْعَزِيمَة فِي الْجَهْر وَبهَا راجل من السودَان يزِيد على مئة ألف كلهم أغتام أعجام {إِن هم إِلَّا كالأنعام} لَا يعْرفُونَ رَبًّا إِلَّا سَاكن قصره وَلَا قبْلَة إِلَّا مَا يتوجهون إِلَيْهِ من رُكْنه وامتثال أمره وَبهَا عَسْكَر من الأرمن باقون على النَّصْرَانِيَّة مَوْضُوعَة عَنْهُم الْجِزْيَة كَانَت لَهُم شَوْكَة وشكة وحمة وحمية وَلَهُم حواش لقصورهم من بَين دَاع تلطف فِي الضلال مداخله وتصيب الْقُلُوب مخاتله وَمن بَين كُتاب تفعل أقلامهم أَفعَال الأسل وخُدام يجمعُونَ إِلَى سَواد الْوُجُوه سَواد النَّحْل ودولة قد كبر نملها الصَّغِير وَلم يعرف غَيرهَا الْكَبِير ومهابة تمنع من خطرات الضَّمِير فَكيف بخطوات التَّدْبِير هَذَا إِلَى اسْتِبَاحَة للمحارم ظَاهِرَة وتعطيل للفرائض على عَادَة جائرة وتحريفٍ للشريعة بالتأويل وعدول إِلَى غير مُراد الله بالتنزيل وَكفر سُمي بِغَيْر اسْمه وشرعٍ يتستر بِهِ وَيحكم بِغَيْر حكمه فَمَا زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار ونتحيفهم تحيف اللَّيْل وَالنَّهَار للأعمار بعجائب تَدْبِير لَا تحتملها المساطير وغرائب تَقْدِير لَا تحملهَا الأساطير ولطيف توصل مَا كَانَ من حِيلَة الْبشر وَلَا قدرتهم لَوْلَا إِعَانَة الْمَقَادِير وَفِي أثْنَاء ذَلِك استنجدوا علينا الفرنج دفْعَة إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 بلبيس ودفعة إِلَى دمياط وَفِي كلّ دفْعَة مِنْهَا وصلوا بِالْعدَدِ المجهر والحشد الأوفر وخصوصا فِي نوبَة دمياط فَإِنَّهُم نازلوها بحراً فِي ألف مركب مقَاتل وحامل وبرَّا فِي مئتي ألف فَارس وراجل وحصروها شَهْرَيْن يباكرونها ويراوحونها ويماسونه ويصابحونها الْقِتَال الَّذِي يصلبه الصَّلِيب والقراع الَّذِي يُنَادى بِهِ الْمَوْت من كلّ مَكَان قريب وَنحن نُقَاتِل العدوين الْبَاطِن وَالظَّاهِر ونصابر الضدين الْمُنَافِق وَالْكَافِر حَتَّى أَتَى الله بأَمْره وأيدنا بنصره وخابت المطامع من المصريين والفرنج وشرعنا فِي تِلْكَ الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد فأخرجناهم من الْقَاهِرَة تَارَة بالأوامر المرهقة لَهُم وبالأمور الفاضحة مِنْهُم وبالسيوف الْمُجَرَّدَة وبالنار المحرقة حَتَّى بَقِي الْقصر وَمن بِهِ من خدم وَمن ذرّية قد تفرّقت شيعه وتمزقت بدعه وخفتت دَعوته وخَفِيت ضلالته فهنالك تمّ لنا إِقَامَة الْكَلِمَة والجهر بِالْخطْبَةِ وَالرَّفْع للواء الْأسود الْمُعظم وعاجل الله الطاغية الْأَكْبَر بهلاكه وفنائه وبرأنا من عُهدة يَمِين كَانَ إِثْم حنثها أيسر من إِثْم إبقائه لِأَنَّهُ عوجل لفرط رَوْعَته وَوَافَقَ هَلَاك شخصه هَلَاك دولته وَلما خلا ذرعنا ورحب وسعنا نَظرنَا فِي الْغَزَوَات إِلَى بِلَاد الْكفَّار فَلم تخرج سنة إِلَّا عَن سنة أُقِيمَت فِيهَا برا وبحرا مركبا وظهرا إِلَى أَن أوسعناهم قتلا وأسرا وملكنا رقابهم قهرا وقسرا وفتحنا لَهُم معاقل مَا خطر أهل الْإِسْلَام فِيهَا مذ أُخذت من أَيْديهم وَلَا أُوجفت عَلَيْهَا خيلهم وَلَا رِكَابهمْ مذ ملكهَا أعاديهم فَمِنْهَا مَا حكمت فِيهِ يَد الخراب وَمِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فعجَّل جائزته لتكذيب قَوْله وتصديق ظنِّه فشرِّفه وَجمع لَهُ بَين الخلعة والضَّيْعة وعني الْفَاضِل مَا قَالَه فِي قصيدة فِي مدح الصَّالح بن رزيك الَّتِي أَولهَا (أما كَفاك تلافي فِي تلافيكا ) يَقُول فِيهَا (يَا كعبة الْجُود إِن الْفقر أقعدني ... ورقّة الْحَال عَن مَفْرُوض حجيكا) (من أرتجي يَا كريم الدَّهْر تنعشني ... جدواه إِن خَابَ سعيي فِي رجائيكا) (أأمدح التّرْك أبغي الْفضل عِنْدهم ... وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التُّرك متروكا) (أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... واضيعتا إِن تخطتني أياديكا) (لَا تتركني وَمَا أملَّت فِي سَفَرِي ... سواك أقفلُ نَحْو الْأَهْل صعلوكا) قلت وَقد مضى ذكر ابْن أسعد هَذَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَخمسين وَسَيَأْتِي من شعره أَيْضا فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسبعين وثمان وَسبعين وَمَا أحسن مَا خرج ابْن الدهان من الْغَزل إِلَى مدح ابْن رزيك فِي قَوْله من قصيدة أَولهَا (إِذا لَاحَ برق من جنابك لامع ... أَضَاء لواش مَا تجن الأضالع) يَقُول فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 بِحَمْد الله قد تملكنا مِمَّا يجاورنا مِنْهُ بلادا تزيد مسافتها على شهر وسيرنا إِلَيْهَا عسكرا بعد عَسْكَر فَرجع بنصر بعد نصر وَمن الْبِلَاد الْمَشَاهِير والأقاليم الجماهير برقة قَفْصة قسطيلية تَوْزَر كلّ هَذِه تُقَام فِيهَا الْخطْبَة لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام الله عَلَيْهِ وَلَا عهد لِلْإِسْلَامِ بإقامتها وَينفذ فِيهَا الْأَحْكَام بعلمها الْمَنْصُور وعلامتها وَفِي هَذِه السّنة كَانَ عندنَا وفْدُ قد شَاهده وُفُود الْأَمْصَار ورموه بأسماع وأبصار مِقْدَاره سَبْعُونَ رَاكِبًا كلّهم يطْلب لسلطان بَلَده تقليدا ويرجو منا وَعدا وَيخَاف وعيدا وَقد صدرت عَنَّا بِحَمْد الله تقاليدها وألقيت إِلَيْنَا مقاليدها وسيَّرنا الْخلْع والمناشير والألوية بِمَا فِيهَا من الْأَوَامِر والأقضية فَأَما الْأَعْدَاء المحدقون بِهَذِهِ الْبِلَاد وَالْكفَّار الَّذين يقاتلوننا بالممالك الْعِظَام والعزائم الشّداد فَمنهمْ صَاحب قسطنطينية وَهُوَ الطاغية الْأَكْبَر والجالوت الأكفر وَصَاحب المملكة الَّتِي أكلت على الدّهر وشربت وقائم النَّصْرَانِيَّة الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت جَرَت لنا مَعَه غزوات بحريّة ومناقلات ظَاهِرَة وسّرية وَلم نخرج من مصر إِلَى أَن وصلتنا رسله فِي جُمُعَة وَاحِدَة نَوْبتين بكتابين كلّ واحدٍ مِنْهُمَا يظْهر فِيهِ خفض الْجنَاح وإلقاء السِّلَاح والانتقال من معاداة إِلَى مهاداة وَمن مفاضحة إِلَى مناصحة حَتَّى إِنَّه أنذر بِصَاحِب صقلية وأساطليه الَّتِي ترّدد ذكرهَا وعساكره الَّتِي لم يخف أمرهَا وَمن هَؤُلَاءِ الْكفَّار هَذَا صَاحب صقلية كَانَ حِين علم بِأَن صَاحب الشَّام وَصَاحب قسطنطينية قد اجْتمعَا فِي نوبَة دمياط فغلبا وقُسرا وهزما وكُسرا أَرَادَ أَن يظْهر قوته المستقلة فعمر أسطولا استوعب فِيهِ مَاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وزمانه فَلهُ الْآن خمس سِنِين يكثر عدته وينتحب عُدّته إِلَى أَن وصل مِنْهَا فِي السّنة الخالية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة أَمر رائع وخطب هائل مَا أثقل ظهر الْبَحْر مثل حمله وَلَا مَلأ صَدره مثل خيله وَرجله وَمَا هُوَ إِلَّا إقليم بل أقاليم نَقله وجيش مَا احتفل ملك قطّ بنظيره لَوْلَا أَن الله خذله وَمن هَؤُلَاءِ الجيوش البنادقة والبياشنة والجنوية كل هَؤُلَاءِ تَارَة يكونُونَ غزَاة لَا تطاق ضراوة ضرهم وَلَا تطفأ شرارة شرّهم وَتارَة يكونُونَ سُفّاراً يحتكمون على الْإِسْلَام فِي الْأَمْوَال المجلوبة وتقصر عَنْهُم يَد الْأَحْكَام المرهوبة وَمَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ الْآن يجلب إِلَى بلدنا آلَة قِتَاله وجهاده ويتقرب إِلَيْنَا بإهداء طرائف أَعماله وتلاده وَكلهمْ قد قُرّرت مَعَهم المواصلة وانتظمت مَعَهم المسالمة على مَا نُرِيد ويكرهون وعَلى مَا نؤثر وهم لَا يؤثرون وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ بالوفاة النورية وَكُنَّا فِي تِلْكَ السّنة على نيّة الْغُزَاة والعساكر قد تجهزت وَالْمُضَارب قد برزت وَنزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها ورأوها فرْصَة مدُّوا يَدَ انتهازها استصرخ بِنَا صَاحبهَا فسرنا مراحل اتَّصل بالعدوّ أمرهَا وعوجل بالهدنة الدمشقية الَّتِي لَوْلَا مسيرنا مَا انتظم حكمهَا ثمَّ عدنا إِلَى الْبِلَاد وتوافت إِلَيْنَا الْأَخْبَار بِمَا المملكة النورية عَلَيْهِ من تشعُّب الآراء وتوزعها وتشتُّت الْأُمُور وتقطعها وَأَن كلّ قلعة قد حصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 فِيهَا صَاحب وكلّ جَانب قد طمح إِلَيْهِ طَالب والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بهَا الْأَطْرَاف الإسلامية ويضايقون بهَا الْبِلَاد الشامية وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم وعُوقبوا وصودروا والمماليك الأغمار الَّذين خلقُوا للأطراف لَا للصدور وَجعلُوا للْقِيَام لَا للقعود فِي الْمجْلس المحضور قد مدوا الْأَيْدِي والأعين وَالسُّيُوف وَسَاءَتْ سيرتهم فِي الْأَمر بالمنكر والنهيّ عَن الْمَعْرُوف وكلّ وَاحِد يتَّخذ عِنْد الفرنج يدا ويجعلهم لظهره سندا وَعلمنَا أَن الْبَيْت الْمُقَدّس إِن لم تتيسرّ الْأَسْبَاب لفتحه وَأمر الكُفر إِن لم يُجرد الْعَزْم فِي قلعه وَإِلَّا نَبتَت عروقه واتسعت على أهل الدّين خُروقه وَكَانَت الْحجَّة لله قَائِمَة وهمم القادرين بالقعود آثمة وَإِنَّا لَا نتمكن بِمصْر مِنْهُ مَعَ بعد الْمسَافَة وَانْقِطَاع الْعِمَارَة وكلال الدَّوَابّ الَّتِي بهَا على الْجِهَاد الْقُوَّة وَإِذا جاورناه كَانَت الْمصلحَة بادية وَالْمَنْفَعَة جَامِعَة وَالْيَد قادرة والبلاد قريبَة والغزوة مُمكنَة والميرة متسعة وَالْخَيْل مستريحة والعساكر كَثِيرَة الجموع والأوقات مساعدة وأصلحنا مَا فِي الشَّام من عقائد معتّلة وَأُمُور مختلة وأراء فَاسِدَة وأمراء متحاسدة وأطماع غالبة وعقول غَائِبَة وحفظنا الْوَلَد الْقَائِم بعد أَبِيه فَأَنا بِهِ أولى من قوم يَأْكُلُون الدّنيا باسمه ويُظهرون الْوَفَاء فِي خدمته وهم عاملون بظلمه وَالْمرَاد الْآن هُوَ كلّ مَا يقوّي الدولة ويؤكد الدعْوَة وَيجمع الْأمة ويحفظ الألفة وَيضمن الرأفة وَيفتح بَقِيَّة الْبِلَاد وَأَن يطبق بِالِاسْمِ العباسي كل مَا تطبقه العهاد وَهُوَ تَقْلِيد جَامع بِمصْر واليمن وَالْمغْرب وَالشَّام وكل مَا تشْتَمل عَلَيْهِ الْولَايَة النورية وكلّ مَا يَفْتَحهُ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 تَعَالَى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا وَلمن نقيمه من أَخ أَو ولد من بَعدنَا تقليدا يضمن للنعمة تخليدا وللدعوة تجديدا مَعَ مَا ينعم بِهِ من السمات الَّتِي فِيهَا الْملك وَبِالْجُمْلَةِ فالشام لَا تنتظم أُمُوره بِمن فِيهِ وَالْبَيْت الْمُقَدّس لَيْسَ لَهُ قرنٍ يقوم بِهِ ويكفيه والفرنج فهم يعْرفُونَ منا خصما لَا يمل الشَّرّ حَتَّى يملوا وقرنا لَا يزَال محرم السَّيْف حَتَّى يحلوا وَإِذا شدّ رَأينَا حسن الرَّأْي ضربنا بِسيف يقطع فِي غمده وبلغنا المنى بِمَشِيئَة الله تَعَالَى ويّدُ كلّ مُؤمن تَحت برده واستنقذنا أَسِيرًا من الْمَسْجِد الَّذِي أسرى الله إِلَيْهِ بِعَبْدِهِ وَمن كتاب آخر فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى الدّيوان فِي تعداد مَاله من الأيادي قَالَ وَالَّذِي أجراه الله تَعَالَى على يَد الْمَمْلُوك من الممالك الَّتِي دوخها وَسنَن الضلال الَّتِي نسخهَا وعقود الْإِلْحَاد الَّتِي فَسخهَا ومنابر الْبَاطِل الَّتِي رَحَضَها وحجج الزندقة الَّتِي دحضها فَللَّه عَلَيْهِ الْمِنَّة فِيهِ إذْ أَهله لشرف مشهده وَمَا فعله إِلَّا لوجهه ويدُ الله كَانَت عون يَده وَإِلَّا فقد مَضَت اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على تِلْكَ الْأُمُور وَمَا تحركت للفلك فِي قلعهَا نابضة وغبرت الْأَحْوَال على تِلْكَ الْبِدْعَة وَمَا ثارت لأفراسها رابضة فَشكر يَد الله تَعَالَى فِيمَا أجراه على يَده مِنْهَا أَن يجْتَهد فِي أُخْرَى مثلهَا فِي الْكفَّار وَقد عَاد الْإِسْلَام إِلَى وَطنه وصوّحت من الْكفْر خضراء دمنه وَمن كتاب آخر للفاضل يذكر فِيهِ إِعَادَة صَلَاح الدّين الْخطْبَة بِمصْر للدولة العباسية يَقُول فِيهِ حَتَّى أَتَى الدّنيا ابْن بجدتها فَقضى من الْأَمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 مَا قضى وأسخط من لله فِي سخطه رضَا وَجعل وَجه لابسي السوَاد مُبيضا فَأدْرك لَهُم بثأرٍ نَامَتْ عَنهُ الهمم ودوّخت عَلَيْهِ الْأُمَم وشفى الصُّدُور وَجَاء بِالْحَقِّ إِلَى من غره بِاللَّه الْغرُور واستبضع إِلَى الله تَعَالَى تِجَارَة لن تبور وَمن كتاب آخر قد بورك للخادم فِي الطَّاعَة الَّتِي لبس الْأَوْلِيَاء شعارها وأمضى فِي الْأَعْدَاء شفارها وَجمع عَلَيْهَا الدّين وَكَانَ أديانا واستقامت بهَا الْقُلُوب على صبغة التَّكَلُّف وَكَانَت ألوانا وَمن كتاب آخر لم يكن سَبَب خُرُوج الْمَمْلُوك من بَيته إِلَّا وعد كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي أَن يتجاذبا طرفِي الْغُزَاة من مصر وَالشَّام الْمَمْلُوك بعسكري برّه وبحره وَنور الدّين من جَانب سهل الشَّام ووعره فَلَمَّا قضى الله بالمحتوم على أَحدهمَا وَحدثت بعد الْأُمُور أُمُور اشتهرت للْمُسلمين عورات وضاعت ثغور وتحكمت الآراء الْفَاسِدَة وفُورقت المحاج القاصدة وَصَارَت الباطنية بطانة من دون الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار مَحْمُولَة إِلَيْهَا جزى الْمُسلمين والأمراء الَّذين كَانُوا لِلْإِسْلَامِ قَوَاعِد وَكَانَت سيوفهم للنصر موارد يَشكونَ ضيق حلقات الأسار وتطرق الْكفَّار بِالْبِنَاءِ فِي الْحُدُود الإسلامية وَلَا خَفَاء أَن الفرنج بعد حلولنا بِهَذِهِ الخطة قَامُوا وقعدوا واستنجدوا علينا أنصار النَّصْرَانِيَّة فِي الأقطار وسيروا الصَّلِيب وَمن كسى مذابحهم بقمامة وهددوا طاغية كفرهم بأشراط الْقِيَامَة ونفذوا البطارقة والقسيسين برسائل صور من يصورّونه مِمَّن يسمونهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 القديسين وَقَالُوا إِن الْغَفْلَة إِن وَقعت أوقعت فِيمَا لَا يسْتَدرك فارطه وَإِن كلا من صَاحب قسطنطينية وَصَاحب صقلية وَملك الألمان وملوك مَا وَرَاء الْبَحْر وَأَصْحَاب الجرائر كالبندقية والبيشانية والجنوية وَغَيرهم قد تأهبوا بالعمائر البحرية والأساطيل القوية وَالْإِسْلَام يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعز ناصرا لاسيما وهم ينْصرُونَ بَاطِلا وَهُوَ ينصر حَقًا وَهُوَ يعبد خَالِقًا وهم يعْبدُونَ خلقا فصل قَالَ الْعِمَاد وَكنت بالموصل فَسُئِلت نظم مرثية فِي نور الدّين فنظمت بعد عوْدي إِلَى دمشق فِي رَجَب (الدّين فِي ظُلَم لغيبة نوره ... والدهر فِي غُمم لفقد أميره) (فليندبُ الإسلامُ حامي أَهله ... وَالشَّام حَافظ ملكه وثغوره) (مَا أعظم الْمِقْدَار فِي أخطاره ... إِذْ كَانَ هَذَا الْخطب فِي مقدوره) (مَا أَكثر المتأسفين لفقد مَنْ ... قَرَّتْ نواظرهم بفقد نَظِيره) (مَا أغوص الْإِنْسَان فِي نسيانه ... أَو مَا كَفاهُ الْمَوْت فِي تذكيره) (مَن للمساجد والمدارس بانيا ... لله طَوْعًا عَن خلوص ضَمِيره) (من ينصر الْإِسْلَام فِي غَزَوَاته ... فَلَقَد أُصِيب برُكنه وظهيره) (مَنْ للفرنج وَمن لأسر مُلُوكهَا ... من للْهُدى يَبْغِي فكاك أسيره) (من للخطوب مذلِّلاً لجماحها ... من للزمان مُسَهّلا لوعوره) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 (من كاشفُ للمعضلات بِرَأْيهِ ... من مشرقٌ فِي الداجيات بنوره) (من للكريم وَمن لنعش عثاره ... منْ للْيَتِيم وَمن لجبْر كسيره) (من للبلاد وَمن لنصر جيوشها ... من للْجِهَاد وَمن لحفظ أُمُوره) (منْ للفتوح محاولا أبكارها ... برَواحه فِي غَزوه وبُكوره) (منْ للعلا وعُهودها منْ للندى ... ووفوده من للحجا ووفوره) (مَا كنت أَحسب نور دين مُحَمَّد ... يخبو وليل الشّرك فِي ديجوره) (أعْزِزْ عليّ بليث غابٍ للهدى ... يَخْلُو الشرى من زوره زئيره) (أعْزِزْ عليّ بأنْ أرَاهُ مُغّيباً ... عنْ محفل متشرف بِحُضُورِهِ) (لهفي على تِلْكَ الأنامل إِنَّهَا ... مُذْ غّيبت غاض النّدى ببحوره) (وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُجري رسمه ... فضع الْعَلامَة مِنْك فِي منشوره) (وَلَقَد أَتَى من كنت تكشف كربه ... فارفع ظلامته بنصر عشيره) (وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُؤمن سربه ... وقِّع لَهُ بالأمن مِنْ محذوره) (وَلَقَد أَتَى منْ كنت تُؤثر قربه ... فأدم لَهُ التّقريب فِي تَقْرِيره) (والجيش قد ركب الْغَدَاة لعرضه ... فاركب لتُبْصِرَه أوَانَ عبوره) (أَنْت الذَّي أَحييت شرع مُحَمَّد ... وقضيت بعد وَفَاته بنشُوره) (كم قد أَقمت من الشَّرِيعَة مَعْلما ... هُوَ مُنْذ غبت معرّضٌ لِدثُوره) (كم قد أمرت بِحَفر خَنْدَق معقلٍ ... حَتَّى سكنت اللّحد فِي محفوره) (كم قيصرٍ للرُّوم رُمت بقسره ... إرْواء بيض الْهِنْد من تاموره) (أُوتيت فتح حصونه وملكت عقر ... بِلَاده وسبيت أهل قصوره) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 (أزَهِدت فِي دَار الفناء وَأَهْلهَا ... ورَغبت فِي الْخلد الْمُقِيم وحوره) (أوما وعدت الْقُدس أَنَّك منْجزٌ ... ميعاده فِي فَتحه وظهوره) (فَمَتَى تجير الْقُدس من دنس العدى ... وتقدس الرَّحْمَن فِي تَطْهِيره) (يَا حاملين سَرِيره مهلا فَمن ... عجبٍ نهوضُكم بحمْل ثبيره) (يَا عابرين بنعشه أَنَشَقْتُمُ ... من صَالح الْأَعْمَال نشر عبيره) (نزلت مَلَائِكَة السّماء لدفنه ... مستجمعين على شَفير حفيره) (وَمن الْجفَاء لَهُ مُقامي بعده ... هلاّ وفيت وسرت عِنْد مسيره) (حيّاك معتّل الصِّبا بنسيمه ... وسَقاك مُنْهلُّ الحَيْا بدُروره) (ولبست رضوَان المهْيمن ساحباً ... أذيال سُنْدس خزّه وحريره) (وسكنت عِّلِّيين فِي فردوسه ... حلْف المسّرة ظافرا بأجوره) قَالَ الْعِمَاد وَجَاء نجاب إِلَى الْموصل وَذكر أَنه فَارق صَلَاح الدّين بِقرب دمشق بالكسوة وَهُوَ الْآن يستكمل من ملك دمشق الحُظوة فهاجني الطَّرب لقصده لسابق مَعْرفَته وقديم ودّه فَقدمت دمشق على طَرِيق الْبَريَّة وَالسُّلْطَان على حلب وَكَانَ الْعِمَاد فِي عقابيل ألم فَلَمَّا شُفي وَعَاد السّلطان إِلَى حمص قَصده فِيهَا وَقد تسلم قلعتها فِي شعْبَان فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ قَالَ وَكنت نظمت قصيدة فِي الشوق إِلَى دمشق والتأسف عَلَيْهَا ثمَّ جعلت مدح السّلطان مخلصها وَهِي طَوِيلَة أَولهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 (أجيران جيرون مَالِي مجير ... سوى عطفكم فاعدلوا أَو فجوروا) (وَمَالِي سوى طيفكم زائر ... فَلَا تمنعوه إِذا لمْ تزوروا) (يعزّ عَليّ بِأَن الْفُؤَاد ... لديكم أَسِير وعنكم أَسِير) (وَمَا كنت أعلم أَنِّي أعيش ... بعد الْأَحِبَّة إِنِّي صَبُور) (وفتْ أدمعي غير أنّ الْكرَى ... وقلبي وصبري كلُّ غَدُور) (إِلَى نَاس باناس لي صبوةٌ لَهَا الوجد داعٍ وذكرى مثير) (يزِيد اشتياقي وينمو كَمَا ... يزِيد يزِيد وثورا يثور) (من بردى بَرْدُ قلبِي المشوق ... فها أَنا من حره مستجير) (وبالمرج مرْجُوُّ عْيشي الَّذِي ... على ذكره العذْب عيشي مرير) (فقدتكم ففقدت الْحَيَاة ... وَيَوْم اللِّقَاء يكون النشور) (تطاول لسؤلي عِنْد الْقصير ... فَعَن نيله الْيَوْم باعي قصير) (وَكن لي بريداً بِبَاب الْبَرِيد ... فَأَنت بأخبار شوقي خَبِير) (مَتى تَجِد الرّيّ بالقريتين ... خوامس أثر فِيهَا الهجير) (وَنَحْو الجليجل أُزْجى المطيَّ ... لقد جلّ هَذَا المرام الخطير) (تراني أُنيخ بِأَدْنَى ضمير ... مطايا براها الوجا والضمور) (وَعند القطيفة المشتهاة ... قُطوف بهَا للأماني سفور) (وَمِنْهَا بُكوري نَحْو القُصَير ... ومنية عمري ذَاك البكور) (وَيَا طِيب بُشراي من جلق ... إِذا جَاءَنِي بالنجاح البشير) (ويستبشر الأصدقاء الكرامُ ... هُنَالك بِي وتُوفي النذور) (ترى بالسلامة يَوْمًا يكون ... بِبَاب السَّلامَة منّي عبور) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 (وَإِن جوازي بِبَاب الصَّغِير ... لَعَمْري من العُمر حظّ كَبِير) (وَمَا جنَّة الْخلد إِلَّا دمشق ... وَفِي الْقلب شوق إِلَيْهَا سعير) (ميادينها الْخضر فيحّ الرّحاب ... وسلسالها العذب صافٍ نمير) (وجامعها الرحب والقبة المنيفة ... والفلك المستدير) (وَفِي قبّة النسْر لي سادة ... بهم للمكارم أفق مُنِير) (وَبَاب الفراديس فرْدوسها ... وسُكانها أحسن النَّاس حور) (والارزة فالسّهم فالنيربان ... فجنات مزتها فالكفور) (كَأَن الجواسق مأهولةً ... بروجٌ تطلع مِنْهَا البدور) (بنيربها تتبرا الهموم ... بربوتها يتربى السرُور) (وَمَا غر فِي الربوة العاشقين ... بالْحسنِ إلاّ الرّبيب الغرير) (وَعند المغارة يَوْم الْخَمِيس ... أغار على الْقلب منيّ مغير) (وَعند المنيبع عين الْحَيَاة ... مدى الدَّهْر نابعة مَا تغور) (بجسر ابْن شواش تمّ السّكُون ... لنَفْسي بنفسي تِلْكَ الجسور) (وَمَا أنس لَا أنس أُنْس العبور ... على جسر جسرين إِنِّي جسور) (وَكم بت ألهو بِقرب الحبيب ... فِي بَيت لِهْيا ونام الغيور) (فَأَيْنَ اغتباطيَ بالغوطتين ... وَتلك اللَّيَالِي وَتلك العصور) (وأشجار سطرا بَدَت كالسطور ... نمقَهُنّ البليغ الْبَصِير) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 (وأيْن تأملْت فُلكٌ يَدُور ... وعينٌ تفورُ وبحرٌ يمور) (وَأَيْنَ نظرت نسيمٌ يرِقّ ... وزهرٌ يروق وَروض نضير) (إلام القساوة يَا قاسيون ... وَبَين السّنا يتجلّى سَنير) (ومنذ ثوى نور دين الْإِلَه ... لم يبْق للدّين والشّام نور) (وللنّاس بِالْملكِ النَّاصِر الصّلاح ... صلاحٌ ونصرٌ وَخير) (هُوَ الشَّمْس أفلاكه فِي الْبِلَاد ... ومطلعه سَرْجه والسرير) (إِذا مَا سَطَا أَو حبا واحتبى ... فَمَا اللَّيْث من حاتمٌ مَا ثبير) (بِيُوسُف مصر وأيامه ... تقر الْعُيُون وتشفى الصُّدُور) (ملكت فأسْجح فَمَا للبلاد ... سواك مجيرٌ وَمولى نصير) (وَفِي مِعْصم الْملك للعزّ مِنْك ... سوارٌ ومنك عَليّ الديِّن سُور) (لَك الله فِي كل مَا تبتغيه ... بحقٍ ظهيرٌ وَنعم الظّهير) (أما المفسدون بِمصْر عصْوك ... وهذي دِيَارهمْ الْيَوْم قور) (أما الأدعياء بهَا إِذْ نشطت ... لإبعادهم زَالَ مِنْك الفتور) (وَيَوْم الفرنج إِذا مَا لقوك ... عبوس برغمهم قمطرير) (نهوضا إِلَى الْقُدس يشفى الغليل ... بِفَتْح الْفتُوح وماذا عسير) (سَلِ الله تسهيل صَعب الخطوب ... فَهُوَ على كل شَيْء قدير) (إِلَيْك هجرت مُلُوك الزَّمَان ... فَمَا لَك وَالله فيهم نَظِير) (وفجرك فِيهِ الْقرى والقُران ... جَمِيعًا وفجر الْجَمِيع الْفُجُور) (وَأَنت تريق دِمَاء الفرنج ... وَعِنْدهم لَا تراق الْخُمُور) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 فصل فِي فتح بعلبك قَالَ الْعِمَاد وَلما فرغ السُّلْطَان من حمص وحصنها سَار إِلَى بعلبك فتسلمها فِي رَابِع شهر رَمَضَان قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَ بهَا خَادِم يُقَال لَهُ يمن فَلَمَّا شَاهد كَثْرَة عَسَاكِر السّلطان اضْطربَ فِي أمره وراسل مَنْ بحلب على جنَاح طَائِر فَلم يرجع إِلَيْهِ مِنْهُم خبر فَطلب الْأمان وَسلم بعلبك إِلَى السُّلْطَان قَالَ الْعِمَاد وهنأته بِأَبْيَات مِنْهَا (بفتوح عصرك يَفْخر الْإِسْلَام ... وبنُور نصرك تُشرق الْأَيَّام) (وبفتح قلعة بعلبك تهذّبت ... هذي الممالك واستقام الشّام) (وَبكى الْحسُود دَمًا وثغر الثّغر من ... فَرح بنصرك للهدى بَسَّام) (فتح تَسنّى فِي الصيّام كأننا ... شكرا لما منح الْإِلَه صِيَام) (من ذَا رأى فِي الصّوم عيد سَعَادَة ... حلّت لنا وَالْفطر فِيهِ حرَام) (أسدي صَلَاح الدّين والدّنيا يدا ... بنوالها سوقُ الرّجاء تُقَام) (فتملّ فتحك واقصد الْفَتْح الَّذي ... بحصوله لفتُوحك الْإِتْمَام) (دُمْ للعُلا حَتَّى يَدُوم نظامها ... واسلْم يعزَّ بنصرك الْإِسْلَام) قَالَ ولزمت خدمته أرحل برحيله وَأنزل بنزوله وَكنت لَيْلَة عِنْده وَهُوَ يذكر جمَاعَة من شعراء الزَّمَان وَعِنْده ديوَان الْأَمِير مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن سديد الْملك عَليّ بن منقذ وَهُوَ بِهِ مشغوف وخاطره على تَأمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 مَوْقُوف وَإِلَى استحسانه مَصْرُوف وَقد اسْتحْسنَ قصيدة لَهُ طائية لَو عَاشَ الطائيان لأقرَّا بفضلها وَإِن خواطر المبتكرين لتقصر عَن مثلهَا على أَن الشُّعَرَاء الْمُحدثين مَا مِنْهُم إِلَّا من نظم على رويها ووزنهاواستمد خصب خاطره من مُزنها فَمنهمْ المعري وَابْن أبي حَصِينَة والأرجاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 والصالح بن رزيك وَقد أوردت جَمِيعهَا فِي كتاب الخريدة ومطلع قصيدة المعرّي (لمن جيرة سيموا النوال فَلم ينطوا ... ) فنظمت فِي السُّلْطَان وَنحن على بعلبك بتاريخ انسلاخ شعْبَان قصيدة طائية مِنْهَا (عَفا الله عَنْكُم مالكم أَيهَا الرّهط ... قسطتم وَمن قلب المحبّ لكم قسط) (شرطتم لنا حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم مَا هَكَذَا الودّ وَالشّرط) (جعلتم فؤاد المُسْتهام بكم لكم ... محطا فَعَنْهُ ثقل همكم حطوا) (ملتكم فأنكرتم قديم موَّدتي ... كَأَن لم يكن فِي الْبَين معرفَة قطّ) (فدت مهجتي من لَا يذم لمهجتي ... إِذا حاكمته وَهُوَ فِي الحكم مشتط) (وَمَا كنت أَدْرِي قبل سطوة طرفه ... بِأَن ضَعِيفا فاترا مثله يَسْطُو) (وأهيف للإشفاق من ضعف خصره ... يحلُّ نطاقا للقلوب بِهِ ربط) (يلازم قلبِي فِي الْهوى الْقَبْض مِثْلَمَا ... يلازم كفَّ النَّاصر الْملك الْبسط) (مليكٌ حوى الْملك الْعَقِيم بضبطه ... كريمٌ وَمَا لِلْمَالِ فِي يَده ضبط) (إِذا لُثمت أَيدي الْمُلُوك فَعنده ... مدى الدَّهْر إجلالا لَهُ تلثم الْبسط) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 (عَنَّا لَك طَوْعًا نيلُ مصر ودجلةُ الْعِراق ... ودان العُرب والعُجم والقبط) (وللنيل شطٌ يَنْتَهِي سيبه بِهِ ... ونَيْلُك للرَّاجين نِيلٌ وَلَا شطُّ) (عدوُّك مثل الشّمع فِي نَار حقده ... لَهُ عنق إصْلَاح فاسده القط) وَهِي ثَمَانِيَة وَثَمَانُونَ بَيْتا ولسعادة الْأَعْمَى قصيدة طائية فِي السُّلْطَان سَيَأْتِي ذكرهَا قَالَ الْعِمَاد وَلما وصلتُ إِلَى السُّلْطَان ورغبت مِنْهُ فِي الْإِحْسَان وجدته لأمري مغفلا ولشغلي مهملا ثمَّ عرفت أنّ حسّادي قَالُوا لَهُ مَتى أعدت ديوَان الْكِتَابَة إِلَى الْعِمَاد وَهُوَ لَا شكّ بِمحل الوثوق والاعتماد وَهَذَا منصب الْأَجَل الْفَاضِل وَهُوَ عِنْده فِي أجل الْمنَازل رُبمَا ضَاقَ صَدره وتشعّث سرّه فَلَمَّا عرفت هَذَا الْمَعْنى لجأت إِلَى الْفضل الفاضليّ لِأَنَّهُ بِهِ يعْنى فَقَامَ بأَمْري ونوّه بقدري وأراح سرّي وشدّ أزري فصل فِيمَا جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مَعَ السُّلطان فِي هَذِه السّنة قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما أحسّ سيف الدّين صَاحب الْموصل بِمَا جرى علم أَن الرّجل قد استفحل أمره وَعظم شَأْنه وعَلَت كَلمته وَخَافَ أَنه إِن غفل عَنهُ استحوذ على الْبِلَاد واستقرّ قدمه فِي الْملك وتعدّى الْأَمر إِلَيْهِ فَجهز عسكرا وافراً وجيشاً عَظِيما وقدّم عَلَيْهِم أَخَاهُ عز الدّين مسعودا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وَسَارُوا يُرِيدُونَ لِقَاء السُّلْطَان وَضرب المصاف مَعَه وردّه عَن الْبِلَاد فوصل إِلَى حلب وَالسُّلْطَان بحمص وانضم إِلَيْهِم من كَانَ بحلب من الْعَسْكَر وَخَرجُوا فِي جمع عَظِيم وَلما عرف السّلطان بمسيرهم سَار حَتَّى وافاهم بقرون حماة وراسلهم وراسلوه واجتهد أَن يصالحهم فَمَا صالحوه وَرَأَوا أنّ المصاف رُبمَا نالوا بِهِ الْغَرَض الْأَكْبَر وَالْمَقْصُود الأوفر وَالْقَضَاء يجرّ إِلَى أمورٍ وهم بهَا لايشعرون وَقَامَ المصاف بَين العسكرين فَقضى الله تَعَالَى أَن انكسروا بَين يَدَيْهِ وأَسر جمَاعَة مِنْهُم ومنّ عَلَيْهِم وأطلقهم وَذَلِكَ عِنْد قُرُون حماة فِي تَاسِع عشر شهر رَمَضَان ثمّ سَار عقيب انكسارهم وَنزل على حلب وَهِي الدفعة الثَّانِيَة وصالحوه على أَن أَخذ المعرّة وَكفر طَابَ وبارين وَقَالَ الْعِمَاد لما تسلم السُّلْطَان قلعة بعلبك عَاد إِلَى حمص وَقد وصل عز الدّين مَسْعُود أَخُو صَاحب الْموصل إِلَى حلب نجدة وَلما عرفُوا أَن السُّلْطَان مَشْغُول بالحصون جاؤوا إِلَى حماة فحصروها وراسلوا فِي الصُّلْح فَقدم السُّلْطَان فِي خف من اصحابه وَجَاء كُمُشتكين وَابْن العجمي وَغَيرهمَا وأجابهم السُّلْطَان إِلَى مَا طلبُوا وَأَن يردّ عَلَيْهِم الْحُصُون وَأَن يقنع بِدِمَشْق نَائِبا عَن الْملك الصَّالح وَله خاطباً وعَلى الانتماء إِلَيْهِ مواظباً وَأَن يردّ كلّ مَا أَخذه من الخزانة وَأَن يسْلك فِيهِ سَبِيل الْأَمَانَة فلّما رَأَوْهُ مجيباً لكلّ مَا يلْتَمس مِنْهُ وَهُوَ فِي عَسْكَر خَفِيف قَالُوا مَا خَبره ضحيح فشرعوا فِي الاشتطاط وطلبوا الرّحبة وأعمالها فَقَالَ هِيَ لِابْنِ عمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه وَكَيف أُلحق بِهِ فِي رضاكم الْمَكْرُوه فنفروا وجفلوا وَأَصْبحُوا على الرحيل إِلَى جَانب العَاصِي قَرِيبا من شيزر وجمعوا الْعَسْكَر وأظهروا أَنهم على المصاف وعزم الانتصاف فعبَّر السّلطان إِلَى سفح قُرُون حماة خيامه وركز على مقابلتهم أَعْلَامه وَوصل الْعَسْكَر المصريّ فِي عشرَة من المقدّمين مِنْهُم فرخشاه وَأَخُوهُ تقيّ الدّين والتقوا فَهَزَمَهُمْ السُّلْطَان وَنزل على مَنْزِلَتهمْ قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا نظمت فِي هَذِه الْوَقْعَة فِي مدح نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه قصيدة فقد كَانَ لَهُ فِيهَا غناء وبلاء حسن مِنْهَا (ولَقَدْ ألِفتُ نِفارها وهَوَيْتها ... إِذْ لَيْسَ يُنكر للظباء نفار) (يَا جَارة للقلب جائرة دَعِى ... ظُلمي وإلاّ قلتُ جَار الْجَار) (قلبِي كطرفك مَا يفِيق إفاقة ... سَكرَان مَا دارت عَلَيْهِ عقار) (صَبُّ بصب الدمع محترق الحشا ... خطرت ببال بلائه الأخطار) (لم يخْش من خطر الْهوى حَتَّى حمى ... ذَاك القوام شبيهه الخطار) (يذرى الدُّمُوع كأنهنّ عوارفٌ ... لاِبْن المملّك شيركوه غزار) (من آل شاذي الشائدين بنى الْعلَا ... أركانهن لهاذمٌ وشفار) (حسنت بهم للدولة الْأَيَّام والأعمال ... وَالْأَحْوَال والْآثَار) (قد حَاز ملك الشَّام يوسفٌ الذّي ... فِي مصر تغبط عصره الْأَعْصَار) (نصرَ الهُدى فتوطد الْإِسْلَام فِي ... أَيَّامه وتضعضع الْكفَّار) (لما لقِيت جموعهم منظومة ... صيرت ذَاك النّظم وَهُوَ نثار) (فِي حالتي جُودٍ وبأسٍ لم يزل ... للتّبر والأعداء مِنْك تبار) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 (تهب الألوف وَلَا تهاب ألوفهم ... هان الْعَدو عَلَيْك وَالدِّينَار) (لما جرى العَاصِي هُنَالك طَائِعا ... بدمائهم فخرت بِهِ الْأَنْهَار) (وتحطمت عِنْد الْقُرُون قرونهم ... بل كلت الأنياب والأظفار) (عبروا المعرة مالكين معرّة ... والعار يملك تَارَة ويعار) (أَو مَا كفاهم يَوْم حمص وكفّهم ... فِي بعلبك بِمِثْلِهَا الْإِنْذَار) قَالَ وهنأت الْملك المظفر تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بقصيدة مِنْهَا (لَا تفن من فرق الْفِرَاق الأدمعا ... فَهِيَ الشُّهُود على الغرام المدّعى) (واستبق صبرك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهُ ... عون لقلبك إِن هُما ثبتا مَعًا) (قلبٌ أَصَابَته الْعُيُون وَلم يزل ... من مسّها بالهاجسات مروعا) (مَا باله قد صدّ عِنْد صدودهم ... عنّي وَلما ودّعوني ودعا) (وَمن التحيّر أنني أبصرته ... فِي ظعنهم وَسَأَلت عَنهُ الأضلعا) (أَصبَحت إِذْ شيّعتهم لثَلَاثَة ... صبري وغمضي والفؤاد مشيعا) وَمِنْهَا (أَو مَا اتقيتم حِين رعتم سر بِهِ ... فِيهِ تقيّ الدّين ذَاك الأروعا) (عمر بن شاهنشاه من هُوَ عامرٌ ... أَرْكَان ملك الشَّام حِين تضعضعا) (خضع العدوّ وذلّ بعد تعزز ... لكم وَحقّ عَدوكُمْ أَن يخضعا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 (من معشر غر يرَوْنَ جَمِيع مَا ... لم يبذلوه فِي السَّماح مضيعا) (فِي مصر واليمن اجتلينا مِنْهُم ... فِي عصرنا تبعا ليوسف تُبعا) (الحاويان بِملك مصر ومكةٍ ... وَالشَّام واليمن الحظايا الأربعا) (لما عصى الْأَعْدَاء بالعاصي جرى ... بدمائهم طَوْعًا سيولا دُفَّعا) وَقَالَ ابْن أبي طي لما تسلم السطان بعلبك وأزاح عللها عَاد إِلَى حمص وَنزل بهَا فاتصل بِهِ وُرُود عزّ الدّين مَسْعُود أخي سيف الدّين صَاحب الْموصل نجدةً للْملك الصَّالح وَكَانَ سَبَب وُرُوده أَن جمَاعَة أُمَرَاء حلب لما كَانَ السُّلْطَان نازلا على حلب أَجمعُوا على آرائهم وكاتبوا سيف الدّين وألزموه نجدة ابْن عَمه وَأَخْبرُوهُ أَن السُّلْطَان مَتى ملك حلب لم يكن لَهُ قصد إِلَّا الْموصل وَأَرْسلُوا بذلك أَمِين الدّين هاشماً خطيب حلب وقطب الدّين ينَال بن حسان وغرس الدّين قليج وَكَانَ سيف الدّين منازلا لسنجار وفيهَا أَخُوهُ عماد الدّين زنكي وَكَانَ عماد الدّين قد أظهر الانتماء إِلَى السُّلْطَان فأنجده السُّلْطَان بِقِطْعَة من جَيْشه فكسرهم ونهبهم عماد الدّين بهم وبعسكره فَلَمَّا وصلت رِسَالَة الحلبيين إِلَى سيف الدّين صَالح أَخَاهُ عماد الدّين وحشد عسكره وأنفذ نخبهم مَعَ أَخِيه عز الدّين مَسْعُود فورد حلب بعد رحيل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى بعلبك فاغتنم الحلبيون بُعد السُّلْطَان عَنْهُم فاحتشدوا وَخَرجُوا جَمِيعًا حَتَّى خيموا على حماة وَأخذُوا فِي حصارها واتصل بالسلطان ذَلِك فَرَحل من بعلبك إِلَى حمص وَبلغ عز الدّين فَعَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 عَن حماة وَنزل قَرِيبا من جباب التركمان إِلَى جِهَة العَاصِي إِلَى قريب من شيزر وراسل النَّائِب بحماة عَليّ بن أبي الفوارس يَقُول لَهُ إِنَّمَا وصلت فِي إصْلَاح الْحَال وَوضع أوزار الْقِتَال وَسَأَلَهُ مُكَاتبَة السُّلْطَان فِيمَا يجمع الْكَلِمَة ويلم شعث الْفرْقَة فَكتب ابْن أبي الفوارس بذلك إِلَى السُّلْطَان وحَسَّن لَهُ الصُّلح وتلطف فِي ذَلِك غَايَة التلطف وَقدم أَبُو صَالح بن العجمي وَسعد الدّين كمشتكين لطلب الصُّلْح فأجابهما السُّلْطَان إِلَى مَا أَرَادَا وتقرر الْأَمر على أَنه يرد إِلَيْهِم جَمِيع الْحُصُون والبلاد ويقنع بِدِمَشْق وَحدهَا وَيكون نَائِبا للْملك الصَّالح فَلَمَّا عاين سعد الدّين إِجَابَة السُّلْطَان إِلَى الصُّلْح وَالنُّزُول عَن جَمِيع الْحُصُون الَّتِي أَخذهَا حمص وحماة وبعلبك طمع فِي جَانب السُّلْطَان وَتجَاوز الْحَد فِي الاقتراح وَطلب الرحبة وأعمالها فَقَالَ هِيَ لإبن عمي وَلَا سَبِيل إِلَى أَخذهَا فَقَامَ سعد الدّين من بَين يَدَيْهِ نافرا وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي أبي صَالح ابْن العجمي لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه فاجتهد السُّلْطَان بِهِ أَن يرجع فَلم يفعل وَخرج إِلَى عز الدّين مَسْعُود وَكَانَ بعدُ نازلا على حماة وحدثه مَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان وهون عَلَيْهِ أَبُو صَالح أَمر السُّلْطَان وَأخْبرهُ بقلّة من مَعَه وَكَانَ السُّلْطَان لما كُوتِبَ فِي أَمر الصُّلْح سَار فِي خفّ من أَصْحَابه فَلَمَّا علمُوا بذلك طمعوا فِي جَانِبه وعوّلوا على لِقَائِه وانتهاز الفرصة فِي أمره فكاتب بَاقِي أَصْحَابه واستعدّ لحربهم وَسَار إِلَى أَن نزل على قُرُون حماة وَأخذ فِي مدافعة الْأَيَّام حَتَّى يقدم عَلَيْهِ بَاقِي عسكره وراسلهم فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 التلطف للأحوال فَلم ينجع فيهم حَال وَكَانُوا فِي كلّ يَوْم يعزمون على لِقَائِه وقتاله فَيبْطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عسكره وَكَانَت هيبته قد مَلَأت صُدُور الْقَوْم وَلَوْلَا ذَلِك لكانوا قد ناهزوا الفُرصة ونالوا مِنْهُ الْغَرَض قَالَ وَفِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر شهر رَمَضَان الْتَقَوْا وَلم يكن بعد وصل السُّلْطَان من عسكره أحد فتجمع أَصْحَاب السُّلْطَان كردوسا وَاحِدًا وَأخذُوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الْأَوْقَات رَجَاء أَن يتَّصل بهم بعض الْعَسْكَر وضرى عَسْكَر حلب والعسكر الموصليّ على أَصْحَاب السُّلْطَان حِين شاهدوا قلتهم واجتماعهم وَكَاد أَصْحَاب السُّلْطَان يولون الإدبار فوصل تَقِيّ الدّين عمر عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ لتَمام سَعَادَة السُّلْطَان فَإِنَّهُ لَو تَأَخّر سَاعَة انْكَسَرَ عسكره فوصل تقيّ الدّين فِي عَسْكَر مصر وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وهم غير عَالمين بِأَن الْحَرْب قَائِمَة فَلَمَّا رَأَوْا النَّاس فِي الكرّ وَالضَّرْب الهبر حملُوا جَمِيعًا بعد أَن افْتَرَقُوا فِي الميمنة والميسرة فصدموا عَسْكَر الْموصل صدمة ضعضعتهم وَكَانَ السُّلْطَان فِي هَذِه الْمدَّة قد كَاتب جمَاعَة من عَسْكَرهمْ واستفسدهم إِلَيْهِم وَحمل إِلَيْهِم الْأَمْوَال وَهَذَا هُوَ الَّذِي بطأ بهم إِلَى أَن وصلت عساكره وَإِلَّا لَو كَانَ عَسْكَر حلب نصح لم يقدر السُّلْطَان على الثُّبُوت سَاعَة فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَال لم تنصح الْجَمَاعَة الَّتِي كاتبها السُّلْطَان بل كَانُوا مثبطين مخوفين لمن قرُب مِنْهُم ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك انْهَزمُوا وتبعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 عَسْكَر السُّلْطَان واستباحوا أَمْوَالهم وخيامهم وَأمر السُّلْطَان أَصْحَابه أَلا يوغلوا فِي طَلَبهمْ وَلَا يقتلُوا من رَأَوْهُ مُنْهَزِمًا وَلَا يذففوا على جريح ورحل حَتَّى نزل فِي مَنْزِلَتهمْ ثمَّ سَار من وقته مجداً حَتَّى نزل بمرج قرا حِصَار وَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى عيّد عيد الْفطر فَجَاءَتْهُ رسل الْملك الصَّالح يسألونه المهادنة وَأَن يُقرّر الْملك الصَّالح على مَا فِي يَده وَمَا هُوَ جارٍ تَحت حكمه من الشَّام الْأَسْفَل إِلَى بلد حماة فَلم يرض بذلك فَجعلُوا لَهُ حماة المعرة وَكفر طَابَ فرضى بذلك وَحلف على نُسْخَة رَأَيْتهَا وَعَلَيْهَا خطه قَالَ وَكَانَ فِي جملَة الْيَمين أَنه مَتى قصد الْملك الصَّالح عدوٌّ حضر بِنَفسِهِ وجيوشه ودافع عَنهُ وَألا يُغير الدّعاء لَهُ من جَمِيع مَنَابِر الْبِلَاد الَّتِي تَحت يَد السُّلْطَان وولايته وَولَايَة أَصْحَابه وَأَن تكون السِّكَّة باسمه وَلما حلف السُّلْطَان وَالْملك الصَّالح وأمراؤه عَاد السُّلْطَان قَاصِدا دمشق فَلَمَّا وصل إِلَى حماة وصلت إِلَيْهِ رسل الْخَلِيفَة المستضيء وَمَعَهُمْ التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيعٌ من الدِّيوَان بالسلطنة بِبِلَاد مصر وَالشَّام وَفِي هَذِه الْخلْع يَقُول ابْن سَعْدَان الْحلَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 (يَا أَيهَا الْملك الغزير فَضله ... لقد غَدَوْت بالعُلا مَلِيًّا) (كفى أَمِير الْمُؤمنِينَ شرفا ... أَنَّك أَصبَحت لَهُ وليّا) (طارحك الودّ على شحط النّوى ... فَكنت ذَاك الصّادق الوّفيا) (أوْلاكَ من لِبَاسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدَمِيًّا) (ناسبت الرّوض سنا وبهجة ... حَتَّى حكته رونقاً وزيّا) قَالَ ورحل السُّلْطَان من حماة إِلَى بعرين وَكَانَ فِيهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزّعفراني وَكَانَ خرج إِلَى السُّلْطَان لما وصل إِلَى الشَّام وتطارح عَلَيْهِ وخدمه وظنّ أَن السُّلْطَان يقدمهُ على عساكره فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ فَترك السُّلْطَان وَعَاد إِلَى حصن بعرين فأغضب السُّلْطَان ذَلِك وَسَار إِلَيْهِ وحاصره حَتَّى تسلم حصنه وَقَالَ الْعِمَاد نزل السُّلْطَان قراحصار بنيَّة الْحصار فَجَاءَت رسلهم بالانقياد وَأَجَابُوا إِلَى المُرَاد وَقَالُوا اقنعوا بِمَا أخذتموه إِلَى حماة وَلَا تشمتوا بِنَا العداة فاستزدنا عَلَيْهِم كفر طَابَ والمعرّة واستوفينا عَلَيْهِم الْأَيْمَان المستّقرة وسألهم فِي المعتقلين إخْوَة مجد الدّين فَأَجَابُوا وأفرجوا عَنْهُم وتمّ الصُّلْح وعمّ النجح ورحلنا ظَاهِرين ظافرين ونزلنا حماة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر شَوَّال وَبهَا وصلت إِلَيْهِ رسل الدِّيوَان الْعَزِيز بالتشريفات والتقليد بِمَا أَرَادَ من الولايات وأفاضوا على السُّلْطَان وأقاربه الْخلْع وَخص نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بمزيد تَفْضِيل على أقَارِب السُّلْطَان وَكَأَنَّهُ رِعَايَة لحق وَالِده أَسد الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 ثمَّ تسلم السُّلْطَان حصن بعرين وَكَانَ بيد الْأَمِير فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي وَهُوَ من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شَوَّال وأقطع مَدِينَة حماة خَاله وصهره الْأَمِير شهَاب الدّين مَحْمُودًا وأنعم بحمص على ابْن عَمه نَاصِر الدّين قَالَ الْعِمَاد وأذكر أنَّا عبرنا نهر العَاصِي عائدين وَقد انكسفت الشَّمْس وادلّهم النَّهَار وَغلب على الْقُلُوب الاستشعار وطاحت الْأَنْوَار وخفيت الرّسوم وَظَهَرت النُّجُوم وَجِئْنَا حمص ثمَّ بعلبك ثمَّ الْبِقَاع ووصلنا دمشق فِي ذِي الْقعدَة فصل قَالَ الْعِمَاد قد سبق ذكر مَا قَرَّرَهُ حُسّادي فِي خاطر السُّلْطَان وَقَالُوا شُغله الْمُكَاتبَة وَهِي منصب الْأَجَل الْفَاضِل وَهُوَ يَسْتَنِيب فِيهِ من يرَاهُ من الأفاضل وَهَذَا تَصْرفُه برِفدٍ جزيل ووجهٍ جميل وَالسُّلْطَان مَعَ شدّة رغبته مُتَوَقف وَإِلَى ظُهُور وَجه النّجاح فِي أَمْرِي متشوف وَكنت قد أنست مُدَّة مقَامي بالمعسكر بِذِي الْمجد والمفخر ومورد الْكَرم والمصدر الْأَمِير نجم الدّين بن مصال وَهُوَ ذُو فضل وإفضال وَقبُول وإقبال وَله من السُّلْطَان وَمن الْفَاضِل لجلالة قدره إجلال وَقد مَال إِلَى لفضله ونباهته ونبله وَكَانَ أَبوهُ قد وزر لِلْحَافِظِ فِي آخر عَهده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 متفرّدا بسؤدده ومجده وَكَانَ من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والتّقى والورع والعفاف وَالطَّاعَة وَله يدٌ عِنْد السُّلْطَان فِي النُّوب الَّتِي قصدُوا فِيهَا مصر وأجزل عِنْده الْإِحْسَان والبّر لاسيما عِنْد كَونه بالإسكندرية محصورا وَكَانَ إحسانه مشكورا واعتناؤه لحفظه مَشْهُورا فَلَمَّا ملك أحبّه وَاخْتَارَ قربه فلزْمت لَهُ التودد وَإِلَيْهِ التَّرَدُّد وَجَعَلته الْوَسِيط بيني وَبَين الْأَجَل الْفَاضِل واتخذته من الْحجَج والوسائل ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا ورسالة وشعرا فَمن ذَلِك مَا كتبته إِلَيْهِ (لَعَلَّ نجم الدّين ذَا الْفضل ... يذكرالفاضل فِي شُغلي) (إنّ أجلّ النَّاس قدرا فَتى ... بفضله يتْعب من أَجلي) (ومثلُه من يعتنى بالعلا ... ويستديم الْحَمد من مثلي) قَالَ وَأول مَا أهديته للفاضل مِدْحَة حِين لَقيته بحمص فِي شعْبَان مِنْهَا (عَايَنت طود سكينَة وَرَأَيْت شمس ... فَضِيلَة ووردت بَحر فواضل) (وَرَأَيْت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لِوَائِل) (أَبْصرت قُسّا فِي الفصاحة معجزا ... فَعرفت أَنِّي فِي فهامه بَاقِل) (حلف الحصافة والفصاحة والسماحة ... والحماسة والتقى والنائل) (بَحر من الْفضل الغزير خِضّمُّه ... طامي العُباب وَمَاله من سَاحل) (وجميعُ مَا فِي الأَرْض سَبْعَة أبحر ... وبحوره تُسْمى بِعشر أنامل) (فِي كَفه قلم يعجل جريه ... مَا كَانَ من أجل ورزق اجل) (يجْرِي وَلَا جري الحسام إِذا جرى ... حدّاه بل جرْى الْقَضَاء النَّازِل) (نابت كِتَابَته مناب كَتِيبَة ... كفلت يهْزم كتائب وجحافل) (فَعدُوّه فِي عدوه ووليّه ... فِي عدله أكرمْ بِعادٍ عَادل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 (ريّان من مَاء التّقي صادٍ إِلَى ... كسب المحامد وَهِي خير مناهل) (يَا وَاحِد الْعَصْر الَّذِي بذ الورى ... فضلا بِغَيْر مشابه ومشاكل) (مَالِي وجاه الْجَاهِلين فأغنني ... عَنْهُم كفيتهم وَجُدْ بالجاه لي) (أرجوك معتنيا لَدَى السُّلْطَان بِي ... كرماً فمثُلك بعتني بأماثلي) (قرّر لي الشّغل المبجل مُخليا ... بالي من الهمّ الْمُقِيم الشاغل) قَالَ فَدخل الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان وعرّفه أَنه فيّ رَاغِب وَقَالَ أَنا لَا يمكنني الْمُلَازمَة الدائمة فِي كل سفرة وَغدا يكاتبك مُلُوك الْأَعَاجِم وَلَا تَسْتَغْنِي فِي الْملك عَن عقد الملطفات وحلّ التّراجم والعماد يَفِي بذلك وَلَك أختاره وَقد عُرف فِي الدولة النّورية مِقْدَاره وَأخذ لي خطّ السُّلْطَان بِمَا قَرَّرَهُ لي من شغلي وَقد عرف أَن الْأَجَل الْفَاضِل قد أجلّ فضلي قَالَ وخدمت أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء فِي ذِي الْقعدَة مَعَ الرّسل بِهَذِهِ القصيدة (أصح عُيُون الغانيات مريضها ... وأفتك الحاظ الحسان غضيضها) يَقُول فِي مديحها (وَمن عجب صلت لقبلة بأسهم ... رُؤُوس أعادٍ من ظباهم محيضها) قَالَ ابْن أبي طيّ وَظهر فِي مشغرا قَرْيَة من قرى دمشق رجل ادّعى النّبوة وَكَانَ من أهل الْمغرب وَأظْهر من التخاييل والتمويهات مَا فتن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 بِهِ النَّاس واتبّعه عَالم عَظِيم من الفلاحين وَأهل السوَاد وَعصى على أهل دمشق ثمَّ هرب من مشغرا فِي اللَّيْل وَصَارَ إِلَى بلد حلب وَعَاد إِلَى إفسادعقول الفلاحيّن بِمَا يُرِيهم من الشعبذة والتخاييل وَهوى امْرَأَة وعلّمها ذَلِك وادعّت أَيْضا النبّوة قَالَ وفيهَا توفّي شهَاب الدّين إلْيَاس الأرتقي صَاحب البيرة وَأوصى إِلَى الْملك النَّاصِر بولده شهَاب الدّين مُحَمَّد ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان نَازل بمرج الصفر من دمشق فَجَاءَهُ رَسُول الفرنج يطْلب الْهُدْنَة فأجابهم السُّلْطَان بعد أَن اشْترط عَلَيْهِم أموراً فالتزموها وَكَانَ الشَّام ذَلِك الْعَام جدباً فَأذن السُّلْطَان للعساكر المصرية فِي الرحيل إِلَى بِلَادهمْ وَإِذا استغلوها خَرجُوا إِلَيْهِ وَسَار مَعَهم الْفَاضِل وَاعْتمد على الْعِمَاد فِيمَا كَانَ بصدده وواظب السُّلْطَان على الْجُلُوس فِي دَار الْعدْل وعَلى الصَّيْد ومدحه الْعِمَاد بقصيدة مِنْهَا (سواك لسهم الْعلَا لن يريشا ... فنسأل رب الْعلَا أَن تعيشا) (من النَّاس بالبّرِ صِدْت الْكِرَام ... وبالبأس فِي البِّر صدت الوحوشا) (وكمْ سرت من مصر نَحْو الْعَريش ... فهدّمت للْمُشْرِكين العُروشا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 (سراياك تبْعَث قُدّامها ... من الرعب نَحْو الأعادي جيوشا) (وَيَوْم حماة تركت العداة ... كَمَا طيرت بالفلا الرِّيحُ ريشا) قَالَ ومدحت مستهل ربيع الأول تقيّ الدّين بقصيدة موسومة وَكَانَ قد فوض إِلَيْهِ ولَايَة دمشق وَمِنْهَا بيتان ابتكرت الْمَعْنى فيهمَا وَلم أُسبق إِلَيْهِمَا وهما (يُفِيد الْعَاقِل اليقظ التّغابي ... ليدرك فِي الْغنى حظّ الغبيّ) (وَلم تصب السّهام على اعْتِدَال ... بهَا لَوْلَا اعوجاجٌ فِي القسيّ) (فَقل للدهر يقصر عَن عنادي ... أما هُوَ يتّقي بَأْس التّقيّ) (حَلَفت بِرَبّ مَكَّة والمصلى ... وثاوى تُرب طيبَة والغري) (لَأَنْتُم يَا بني أَيُّوب خير الورى ... بعد الإِمَام المستضي) قَالَ وَفِي أول هَذِه السّنة وصل إِلَى دمشق الْجَمَاعَة الَّذين خَرجُوا من بَغْدَاد مُوَافقَة لقطب الدّين قايماز فَأخذُوا لأَنْفُسِهِمْ بالالتجاء إِلَى السُّلْطَان الِاحْتِرَاز وَكَانَ قايماز هَذَا مُحكَّما فِي الدولة الإمامية من أول الْأَيَّام المستنجدية وقوى فِي الْأَيَّام المستضيئية على وَزِير الْخَلِيفَة عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء وسامه أَنْوَاع الْبلَاء وأخافه ورام إِتْلَافه حَتَّى استعاذ مِنْهُ برباط صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ فَسلم بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ثمَّ إِن قايماز خَالف الْخَلِيفَة وشقّ الْعَصَا وعنّ لَهُ حِصَار الداّر فَأمر الْخَلِيفَة بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَلم ينج لما أحيط بداره إِلَّا بِفَتْح بَاب فِي جِدَاره وَانْهَزَمَ فوصل إِلَى الْحلَّة فِي اوائل ذِي الْقعدَة سنة سبعين وَهُوَ فِي موسم الحجّ فَجمع رِجَاله وتوّجه إِلَى الْموصل وخانه إخوانه وخذله أَصْحَابه فَتوفي فِي بعض قرى الْموصل وتفرق أَصْحَابه فِي الْبِلَاد فَمنهمْ من رَجَعَ إِلَى بَغْدَاد وَمِنْهُم من أَتَى الشَّام مِنْهُم حسام الدّين تميرك وَعز الدّين أقبوري بن ازغش وَكَانَ صهر السُّلْطَان قَدِيما وَعِنْده كَرِيمًا فأقطعه فِي الديار المصرّية وَكتب فِي حقّه إِلَى الدِّيوَان شَفَاعَة فِي تَخْلِيص مَاله واستقامة حَاله وَكَانَ ذَا خَزَائِن مملوة وخيْلٍ مسَّومة فَلم يكن ذَنبه عِنْدهم فِي مُتَابعَة قايماز مِمَّا يقبل الصفح وَكَانَ أقبوري زوج أُخْت السُّلْطَان وَالسُّلْطَان خَال بنته وَهِي زَوْجَة عز الدّين فرخشاه ابْن أخي السُّلْطَان قلت وَفِي بعض الْكتب عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد بالمثال الفاضليّ وَمَا نحسب أَنا مَعَ الْمُوَالَاة المشتهرة والنصرة المستظهرة والمساعي الَّتِي كَانَت لثارات هَذِه الدولة بَالِغَة ولأعدائهم دامغة ولمنازعيهم الْأَمر قاصمة ولمجاذبيهم الحقَّ واقمة وبحقوق الله تَعَالَى الْوَاجِبَة لَهُم قَائِمَة وكوننا مَا أعنَّا مِنْهَا بنجدة من رجال وَلَا بمادة من مَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وَلَا بإعانة بِحَال من الْأَحْوَال يردّ سؤالنا من الدّولة أَعْلَاهَا الله فِي ذِي قربى لَا نستطيع دَفعه وَلَا يقبل أَسبَاب النَّفْع إِذا أردنَا نَفعه فالأخباز عندنَا وَاسِعَة والأعواض لدينا غير متعذرة والولايات الَّتِي نفوضها إِلَيْهِ عَن كِفَايَته غير مستغنية وَلكنه مَا بَاعَ بمكانه من الْخدمَة مَكَانا وَلَا آثر غير سُلْطَانه سُلْطَانا وَله أعذار لَا بَأْس أَن نُعيره فِيهَا لِسَانا وبيانا ثمَّ ذكرهَا ثمَّ قَالَ وَهَذَا الْأَمِير جُزْء منَّأ فَكيف يعد جُزْء منا عَاصِيا وبألسنتنا وسيوفنا يُدْعى الْخلق إِلَى الطَّاعَة وَكَيف تَخْلُو دَار الْخلَافَة من وَاحِد من أهلنا يَنُوب عَنَّا وَعَن بَقِيَّة الْجَمَاعَة فَنحْن فِي أَنْفُسنَا نشفع وَعَن جاهنا ندفع وَفِي مَكَاننَا نسْأَل وبحظنا الَّذِي لَا نسمح بِهِ لِلْإِسْلَامِ نبخل وَأَنت أَيهَا الْأَمِير السَّائر ثَالِث رَسُول ندب فِي أَمر هَذَا الْأَمِير وَالله وليّ التّدبير وَقَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة كنت جَالِسا بَين يَدي الْملك النَّاصِر صَلَاح الدِّين بِدِمَشْق فِي دَار الْعدْل أنفذُ مَا يَأْمر بِهِ من الشّغل فَحَضَرَ سَعَادَة الْأَعْمَى من أهل حمص وَكَانَ مَمْلُوكا لبَعض الدمشقيين مولدا وَيكْتب على قصائده سعيد بن عبد الله فَوقف ينشد هَذِه القصيدة فِي عَاشر شعْبَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَهِي (حيتك أعطاف القدود ببانها ... لما انْثَنَتْ تيهاً على كثبانها) ثمَّ ذكر القصيدة وغزلها فِي وصف دمشق ثمَّ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 (سلطانها الْملك ابْن أَيُّوب الَّذِي ... كَفاهُ لَا تنكف عَن هطلانها) (بمواهبٍ لوْ لمْ أكنْ نُوحاً لما ... نُجيّت يَوْم نداه من طوفانها) (سمحٌ يروح إِلَى الندىّ براحة ... قد أعشب الْمَعْرُوف بَين بنانها) (وفتىً إِذا زخرت بحارُ نواله ... غرقت بحار الأَرْض فِي خلجانها) (تِلْكَ السيوف المرهفات بكفه ... أمضى على الْأَيَّام من حدثانها) (ملك إِذا جليت عرائس ملكه ... رصعت فريد الْعدْل فِي تيجانها) (فَاسْلَمْ صَلَاح الدّين وابْق لدولة ... ذلّت لدولتها مُلُوك زمانها) (وانهض إِلَى فتح السّواحل نهضة ... قادت لَك الْأَعْدَاء بعد حرانها) وَهِي طَوِيلَة قَالَ وَقَامَ الْيَوْم الذّي يَلِيهِ وَقد جلس السُّلْطَان للعدل فأنشده يَعْنِي قصيدة مِنْهَا (هَل بعد جِلِّق إِلَّا أَن ترى حَلَبا ... وَقد تحللّ مِنْهَا مُشكل عقد) (وَقد أتتك كَمَا تخْتَار طَائِعَة ... وَقد عَنَا لَك مِنْهَا الْحصن والبلد) قَالَ وَكَانَ سَعَادَة سَافر إِلَى مصر فِي أول مملكة الْملك النَّاصِر فمدحه بقصيدة طائية فَأعْطَاهُ ألف دِينَار فَمِنْهَا يصف غارته على غزّة وَعوده من ذَلِك الْغَزْو بِالْعِزَّةِ (فَتى مذ غزا بِالْخَيْلِ والرَّجل غَزَّة ... نأى عَن نَوَاحِيهَا الرّضا ودنا السخط) (رَمَاهَا بأُسد مالهن مَرابضٌ ... وَلَا أجم إِلَّا الَّذِي ينْبت الْخط) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 (وعاث ضواحيها ضحى بكتائب ... من التّرْك لَا نوب طغام وَلَا قبط) وَله فِي السُّلْطَان قصائد أخر قَالَ وَقَامَ الْبَهَاء السنجاري وَأنْشد الْملك النّاصر قصيدة فِي دَار الْعدْل بِدِمَشْق سنة إِحْدَى وَسبعين فِي شعْبَان مِنْهَا (يَا ظَبْيَة الهرمين من مصر على الرّبع ... السَّلام وَإِن تقوض أَو عَفا) (أصبْو إِلَى عصر تقادم عَهده ... فأزيدُ مِنْ وَلَهٍ عَلَيْهِ تلُّهفا) (أحبابنا بِالْقصرِ لَو قصرتمُ ... فِي الهجر مَا شمت الحسود وَلَا اشتفى) وَمِنْهَا (أَشْكُو إِلَى الْوَادي فيحنو بانهُ ... من رقة الشكوى عليّ تعطفا) (وَجرى بِي الأملُ الطموح فَأم بِي ... سلطانَ أَرض الله طرًّا يُوسفا) (الناهب الْأَرْوَاح فِي طلب الْعلَا ... والواهب الْآجَال فِي حسن الوفا) فصل فِيمَا تجدّد للمواصلة والحلبيين قد سبق ذكر الصُّلْح الَّذِي جرى بَين السُّلْطَان والحلبيين فَلَمَّا سمع بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 المواصلة عتبوا عَلَيْهِم ووبخوهم ونسبوهم إِلَى العجلة فِي ذَلِك وسلوك غير طَرِيق الحزم فحملوهم على النقْض والنّكث وأنفذوا من أَخذ عَلَيْهِم المواثيق وَتوجه ذَلِك الرَّسُول مِنْهُم إِلَى دمشق ليَأْخُذ للمواصلة من السُّلْطَان عَهده ويكشف أَيْضا مَا عِنْده فَلَمَّا خلا بِهِ طَالبه السُّلْطَان بنسخة الرَّأْي فغلط وَأخرج من كمه نُسْخَة يَمِين الحلبيين لَهُم وناولها إِيَّاه فتأملها وأخفى سرّه وَمَا أبداه واطلع على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وردهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لعلّها قد تبدلت فَعرف الرّسول أَنه قد غلط وَلم يُمكنهُ تلافي مَا فرط وَقَالَ السُّلْطَان كَيفَ حلف الحلبيون للمواصلة وَمن شَرط أَيْمَانهم أَنهم لَا يعتمدون أمرا إِلَّا بمراجعتهم لنا واستئذانهم وَعرف من ذَلِك الْيَوْم أَن الْعَهْد منقوض وَالْوَفَاء مرفوض وشاع الْخَبَر عَن المواصلة بِالْخرُوجِ فِي الرّبيع فَكتب السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَهُوَ نَائِبه بِمصْر يُعلمه بذلك ويأمره أَن يَأْمر العساكر بالاستعداد لِلْخُرُوجِ فِي شعْبَان قلت وَفِي كتاب طَوِيل فاضلي جليلٍ إِلَى بَغْدَاد عَن السُّلْطَان يطالع بِأَن الحلبيين والموصليين لما وضعُوا السِّلَاح وخفضوا الْجنَاح اقتصرنا بعد أَن كَانَت الْبِلَاد فِي أَيْدِينَا على اسْتِخْدَام عَسْكَر الحلبيين فِي البيكارات إِلَى الْكفْر وعرضنا علينا الْأَمَانَة فحملوها والأيمان فبذلوها وَسَار رَسُولنَا وَحلف صَاحب الْموصل بِمحضر من فُقَهَاء بَلَده وأمراء مشهده يَمِينا جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الله فِيهَا حكما وضيق فِي نكثها المجال على من كَانَ حَنِيفا مُسلما وَعَاد رَسُوله ليسمع منا الْيَمين فَلَمَّا حضر وأحضر نسختها أومى بِيَدِهِ ليخرجها فَأخْرج نُسْخَة يَمِين كَانَت بَين الموصليين والحلبيين مضمونها الِاتِّفَاق على حزبنا والتداعي إِلَى حربنا والتساعد على إِزَالَة خَطَبنَا والاستنفار لمن هُوَ على بَعدنَا وقربنا وَقد حلف بهَا كمشتكين الْخَادِم بحلب وَجَمَاعَة مَعَه يَمِينا نقضت الأولى فَرددْنَا الْيَمين إِلَى يَمِين الرَّسُول وَقُلْنَا هَذِه يَمِين عَن الْأَيْمَان خَارِجَة وَأَرَدْت عمرا وَأَرَادَ الله خَارِجَة وَانْصَرف الرَّسول عَن بابنا وَقد نزّهنا الله أَن يكون اسْمه معرضًا للحنث الْعَظِيم والنّكث الذّميم وَعلمنَا أنّ النَّاقِد بَصِير والآخذ قدير والمواقف الشرّيفة النَّبَوِيَّة أَعْلَاهَا الله مستخرجة الْأَوَامِر إِلَى الموصليّ إِمَّا بِكِتَاب مُؤَكد بِأَن لَا ينْقض عهد الله من بعد ميثاقه وَإِمَّا أَن تكون الفسحة وَاقعَة لنا فِي تضييق خناقه ثمَّ ذكر أَمر الفرنج ثمّ قَالَ والمملوك بَين عدوّ إِسْلَام يشاركونه فِي هَذَا الِاسْم لفظا وَلَا ينوون لما استحفظوا حفظا وعدوّ كفر فَمَا يجاورهم إِلَّا بِلَاده وَلَا يقارعهم إِلَّا أجناده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ثمَّ طلب خُرُوج الْأَمر بخطاب جَمِيع مُلُوك الْأَطْرَاف أَن يَكُونُوا للمملوك على الْمُشْركين أعوانا وَأَن يمتثل أَمر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن يَكُونُوا بنيانا فيعضدوه إِذا سعى ويلبوه إِذا دَعَا وَلَا يقعدوا عَن المعاضدة فِي فتح الْبَيْت المقدّس الَّذِي طابت النُّفُوس عَن ثاره وتطأطأت الرؤوس تَحت عاره وَصَارَت الْقُلُوب صَخْرَة لَا ترق على صخرته والعزائم قاصية عَن تَطْهِير أقصاه من رِجْس الشّرك ومعرّته فَإِن قعدت بهم العزائم وأخذتهم فِي الله لومةُ لائم فَلَا أقلّ من أَلا يَكُونُوا أعوانا عَلَيْهِ يلفتونه عَن قَصده حريصين على إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَيْهِ وَقَالَ ابْن شَدَّاد لمّا وَقعت الْوَقْعَة الأولى مَعَ الحلبيين والمواصلة كَانَ سيف الدّين صَاحب الْموصل على سنجار يُحاصر أَخَاهُ عماد الدّين بِقصد أَخذهَا مِنْهُ ودخوله فِي طَاعَته وَكَانَ أَخُوهُ قد أظهر الانتماء إِلَى السّلطان صَلَاح الدّين واعتصم بذلك وَاشْتَدَّ سيف الدّين فِي حِصَار الْمَكَان وضربْه بالمنجنيق حتّى استُهدم من سوره ثلُم كَثِيرَة وأشرف على الْأَخْذ فَبَلغهُ وُقُوع هَذِه الْوَاقِعَة فخاف أَن يبلغ ذَلِك أَخَاهُ فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله فِي الصّلح فَصَالحه ثمَّ سَار من وقته إِلَى نَصِيبين واهتمّ بِجمع العساكر والإنفاق فِيهَا وَسَار حَتَّى أَتَى الْفُرَات وَعبر بالبيرة وخيّم على جَانب الْفُرَات الشَّامي وراسل كمشتكين وَالْملك الصَّالح حَتَّى تَسْتَقِر قَاعِدَة يصل عَلَيْهَا إِلَيْهِم فوصل كمشتكين إِلَيْهِ وَجَرت مراجعات كَثِيرَة عزم فِيهَا على العوّد مرَارًا حَتَّى أستقرّ اجتماعه بِالْملكِ الصَّالح وسمحوا بِهِ وَسَار وَوصل حلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وَخرج الصَّالح إِلَى لِقَائِه بِنَفسِهِ فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إِلَيْهِ وَبكى ثمَّ أمره بِالْعودِ إِلَى القلعة فَعَاد إِلَيْهَا وَسَار هُوَ حَتَّى نزل بِعَين الْمُبَارَكَة وَأقَام بهَا مدّة وعسكر حلب يخرج إِلَى خدمته فِي كل يَوْم وَصعد القلعة جَرِيدَة وَأكل فِيهَا خبْزًا وَنزل وَسَار راحلا إِلَى تل السّلطان وَمَعَهُ جمع كثير وَأهل ديار بكر وَالسُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى قد أنفذ فِي طلب العساكر من مصر وَهُوَ يرقب وصولها وَهَؤُلَاء يتأخرون فِي أُمُورهم وتدابيرهم وهم لايشعرون أنّ فِي التَّأْخِير تدميراً حَتَّى وصل عَسْكَر مصر فَسَار رَحمَه الله تَعَالَى حَتَّى أَتَى قُرُون حماة فَبَلغهُمْ أَنه قد قَارب عَسْكَرهمْ فأخرجوا اليزك ووجهّوا من كشف الْأَخْبَار فوجدوه قد وصل جَرِيدَة إِلَى جباب التركمان وتفرّق عسكره يسقى فَلَو أَرَادَ الله نُصْرتهم لقصدوه فِي تِلْكَ السَّاعَة لكنْ صَبَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى سقى خيله هُوَ وَعَسْكَره واجتمعوا وتعبّوا تعبئة الْقِتَال وَأصْبح الْقَوْم على مصَاف وَذَلِكَ بكرَة الْخَمِيس الْعَاشِر من شوّال فَالتقى العسكران وتصادما وَجرى قتال عَظِيم وانكسرت ميسرَة السُّلْطَان بِابْن زين الدّين مظفر الدّين فَإِنَّهُ كَانَ فِي ميمنة سيف الدّين وَحمل السُّلْطَان بِنَفسِهِ فانكسر الْقَوْم وَأسر مِنْهُم جمعا عَظِيما من كبار الْأُمَرَاء مِنْهُم فَخر الدّين عبد الْمَسِيح فمنّ عَلَيْهِم وأطلقهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وَعَاد سيف الدّين إِلَى حلب فَأخذ مِنْهَا خزانته وَسَار حَتَّى عبر الْفُرَات وَعَاد إِلَى بِلَاده وَأمْسك هُوَ رَحمَه الله عَن تتبع الْعَسْكَر وَنزل فِي بقيّة ذَلِك الْيَوْم فِي خيم الْقَوْم فَإِنَّهُم كَانُوا قد أبقْوا الثّقل على مَا كَانَ عَلَيْهِ والمطابخ قد عملت فَفرق الاصطبلات ووهب الخزائن وَأعْطى خيمة سيف الدّين عزّ الدّين فرخشاه وَقَالَ الْعِمَاد رحلنا فِي شهر رَمَضَان من دمشق مستأنفين فعبْرنا العَاصِي لله طائعين وَإِلَى المسِّار مسارعين فَمَا عرّجنا على بلد وَلَا انتظرنا مَا وَرَاءَنَا من مدد ونزلنا الغّسُولة وجُزنا حماة وخيّمنا فِي مرج بوقبيس وَجَاء الْخَبَر أَنهم فِي عشْرين ألف فَارس سوى سوادهم وَمَا وَرَاءَهُمْ من أمدادهم وَأَنَّهُمْ موعودون من الفرنج بالنجدة وَأَنَّهُمْ يزِيدُونَ فِي كلّ يَوْم قوّة وشدّة وَمَا كَانَ اجْتمع من عسكرنا سوى سِتَّة آلَاف فَارس فرتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 السُّلْطَان عسكره وقوى بِقُوَّة قلبه قلبه وأمد الله بحزب مَلَائكَته حزبه وَلما وصل المواصلة إِلَى حلب أطْلقُوا من كَانَ فِي الْأسر من مُلُوك الفرنج مِنْهُم أرناط إبرنس الكرك وجوسلين خَال الْملك وقرّروا مَعَهم أَن يدخلُوا من مساعدتهم فِي الدّرك فَلَمَّا عيّدنا وصل إِلَى السُّلْطَان الْخَبَر بوصولهم إِلَى تلّ السُّلْطَان فعبرْنا العَاصِي عِنْد شَيْزَر ورتّبنا الْعَسْكَر وأعدنا الأثقال إِلَى حماة ثمَّ وصف الْوَقْعَة إِلَى أَن قَالَ وَركب السُّلْطَان أكتافهم فشل مِئِيِهْم وآلافهم حَتَّى أخرجهم عَن خيامهم وأشْرَقهم بمائهم ووكل بسرادق سيف الدّين غَازِي ومضاربه ابْن أَخِيه فرخشاه وركض وَرَاءه حَتَّى علم أَنه تعدّاه وَوَقع فِي الْأسر جمَاعَة من الْأُمَرَاء المقدمين ثمَّ مَنَّ عَلَيْهِم بِالْخلْعِ بعد أَن نقلهم إِلَى حماة وأطلقهم ثمّ نزل فِي السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه واصطبلاته ومطابخه وَرَواسي عِزّه ورواسخه فَبسط فِي جَمِيع ذَلِك أَيدي الجُود وفرّقها على الْحُضُور وَالشُّهُود وَأبقى مِنْهَا نَصِيبا للرُّسل والوفود وَرَأى فِي بَيت الشّراب بل فِي السّرادق الخاصّ طيوراً من القماري والبلابل والهزار والببغاء فِي الأقفاص فاستدعى أحد الندماء مظفرا الْأَقْرَع فآنسه وَقَالَ خُذْ هَذِه الأقفاص واطلب بهَا الْخَلَاص واذهب بهَا إِلَى سيف الدّين فأوصلها إِلَيْهِ وسلّم منّا عَلَيْهِ وَقل لَهُ عدْ إِلَى اللّعب بِهَذِهِ الطُّيُور فَهِيَ سليمَة لَا توقعك فِي مثل هَذَا الْمَحْذُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 قَالَ وَلما كسر الْقَوْم وولوا مُدبرين ركضوا إِلَى حلب فَلم يقف بَعضهم على بعض وظنوا أَن العساكر وَرَاءَهُمْ ركضا وَرَاء ركض فتبعجت خيولهم وتموّجت سيولهم وَمَا صدّقوا كَيفَ يصلونَ إِلَى حلب ويغلقون أَبْوَابهَا ويسكنون اضطرابها وَأما سيف الدّين فَإِنَّهُ ركض فِي يَوْمه من تلّ السُّلْطَان إِلَى بزاعة وَجَاوَزَ فِي سوقه الِاسْتِطَاعَة وَفرق فَارق الْجَمَاعَة وَفِي كتاب ابْن أبي طيّ أَن ميسرَة سيف الدّين انْكَسَرت فتحرّك إِلَى جَانبهَا ليَكُون ردْءًا لَهَا ومدداً فَظن بَاقِي الْعَسْكَر انه قد انهزم فَانْهَزَمُوا فحقق مَا كَانَ وهما فَسَار على وَجهه هَارِبا لَا يلوي على شَيْء وتبعهم السُّلْطَان فَهَلَك مِنْهُم جمَاعَة قتْلاً وغرقا وأُسر جمَاعَة كَبِيرَة من وُجُوههم وأمرائهم ثمَّ رَجَعَ وَأمر أَصْحَابه بِرَفْع السَّيْف عَن النَّاس وترْك التّعرّض لمن وُجد مِنْهُم بقتل أَو نهب وَفرق مَا وجد فِي خَزَائِن سيف الدّين وسيَّر جواريه وحظاياه إِلَى حلب وَأرْسل إِلَيْهِ بالأقفاص وَقَالَ لَهُ عد إِلَى اللّعب بِهَذِهِ الطُّيُور فَإِنَّهَا ألذّ من مقاساة الْحَرْب وَوجد السُّلْطَان عَسْكَر الْموصل كالحانة من كَثْرَة الْخُمُور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 قَالَ واشتهر أَنه كَانَ مَعَ سيف الدّين أَكثر من مئة مغنية وَأَن السُّلْطَان أرى ذَلِك لعساكره واستعاذ من هَذِه البلية وَكَانَ أنفذ الْأُمَرَاء الذّين أسرهم إِلَى حماة ثمَّ ردّهم وخلعّ عَلَيْهِم وأرسلهم إِلَى حلب وهنأ الْعِمَاد السّلطان رَحمَه الله تَعَالَى بقصيدة مِنْهَا (فَالْحَمْد لله الَّذِي إفضالهُ ... حلْوُ الجنا عالي السَّنا وضاحه) (عَاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... فِي ليل ويلٍ قد خبا مصباحه) (وجنى عَلَيْهِ جَهله بِوُقُوعِهِ ... فِي قَبْضَة الْبَازِي فَهِيضَ جنَاحه) (حمل السِّلَاح إِلَى الْقِتَال وَمَا درى ... أَن الَّذِي يجنى عَلَيْهِ سلاحه) (أضحى يُرِيد مواصليه صدوده ... وَغدا يجيد رثاءه مدّاحه) (إِن أفسد الدّين الغلاة يحنثهم ... فالناصر الْملك الصّلاح صَلَاحه) (قد كَانَ عزمك للإله مصمما ... فيهم فلاح كَمَا رَأَيْت فلاحه) (وكأنني بالسَّاحل الْأَقْصَى وَقد ... ساحت ببحر دم الفرنجة ساحه) (فاعبُر إِلَى الْقَوْم الْفُرَات ليشربوا الْمَوْت ... الأجاج فقد طمى طفاحه) (لتفك من أَيْديهم رهن الرُّها ... عجلاً وَيدْرك لَيْلهَا إصباحه) (وابغوا لحرَّان الْخَلَاص فكم بهَا ... حرّان قلبٍ نحوكم ملتاحه) (نَجوا الْبِلَاد من البلاءِ بعدلكم ... فالظلم بادٍ فِي الْجَمِيع صراحه) (واستفتحوا مَا كَانَ من مستغلق ... فِيهَا قربكم لكم فتاحه) (أَنْتُم رجال الدّهر بل فرسانه ... وَلِذِي الحلوم الطائشات رجاحه) (فُتَّاكه نُسّاكه ضُرّاره ... نُفّاعه مُنّاعه مُنّاحه) (وَأَبُو المظفر يُوسُف مطعامه ... مِطْعانُه مِقْدامُه جَحْجَاحه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 (وَإِذا انتدى فِي محفل فحيِيُّه ... وَإِذا غَدا فِي جحفل فوقاحه) قَالَ وَكَانَ لعزّ الدّين فرخشاه فِي هَذِه الْوَقْعَة يَد بَيْضَاء وَهُوَ محب للفضل وَأَهله باعثُ للخواطر على مدحه ببذله فنظمت فِيهِ قصيدة مِنْهَا (نصرٌ أنار لملككُمْ بُرهانه ... وَعلا لذلة شانئيكم شانه) (مَا أسعد الْإِسْلَام وَهُوَ مظفر ... وَأَبُو المظفّر يوسفٌ سُلْطَانه) (الملكُ مرفوعٌ لكم مِقْدَاره ... وَالْعدْل موضوعٌ بكم مِيزَانه) (والدهر لَا يَأْتِي بِغَيْر مرادكم ... فَهَل الْقَضَاء لأجلكم جَرَيَانه) (وكأنما لله فِي أَحْكَامه ... فلكٌ على إيثاركم دورانه) (فخراً بني أَيُّوب إِن فخاركم ... بذَّ الْمُلُوك السَّابِقين رهانه) (يكفى حسودكم اعتقالا همة ... فَكَأَنَّمَا أشجانه أسجانه) (الدّين عزّ الدّين عزّ بنصركم ... وَالْكفْر ذل بعونكم أعوانه) (قد كَانَ جيشهم كبحرٍ زاخر ... واللابسون جواشناً حيتانه) (فطمى لهلكهم عَلَيْهِم بحركم ... بَأْسا وغرّق فلكهم طوفانه) (فضل الْمُلُوك الأكرمين بفضله ... فعلا زمانهم البهيج زَمَانه) (فِي فَضله فِي عدله فِي حلمه ... صديقّه فاروقه عثمانه) (هُوَ فِي السماح وَفِي اللِّقَاء عليّه ... هُوَ فِي العفاف وَفِي التقى سلمانه) (من آل شاذي الشائدين لمجده ... ببنيه بَيْتا عَالِيا بُنْيَانه) (بَيت من العلياء سامٍ سامقٌ ... يبْنى على كيوانها إيوانه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 (يَا سالب التِّيجان من أَرْبَابهَا ... وَمن الثَّنَاء مصوغةٌ تيجانه) (وَالْحَمْد مالٌ أَنْتُم بُذَّاله ... وَالْمَال حمدٌ أَنْتُم خزانه) قَالَ ثمَّ إِن صَاحب الْموصل أسْرع عودته وواصل لذّته والحلبيون أوثقُوا الْأَسْبَاب وغلقوا الْأَبْوَاب وسُقط فِي أَيْديهم حِين أفرطوا فِي تعديهم وتهيئوا للحصار وخافوا من الْبَوَار وتبلدوا وتلددوا وتجادلوا ثمَّ تجلدوا وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي من جملَة قصيدة يهنىء بهَا السُّلْطَان بِهَذِهِ الكسرة (وَمَا شكّ قوم حِين قُمْت عَلَيْهِم ... غَدَاة التقى الْجَمْعَانِ أَنَّك غَالب) (وَلَو لم تقد تِلْكَ المقانب لاغتدى ... لنَفسك فِي نفس الْعَدو مقانب) قَالَ ابْن أبي طيّ وَأما سيف الدّين فَإِنَّهُ امتدت بِهِ الْهَزِيمَة إِلَى بزاعا فَأَقَامَ بهَا حَتَّى تلاحق بِهِ من سلم من أَصْحَابه ثمَّ خرج مِنْهَا حَتَّى قطع الْفُرَات وَصَارَ إِلَى الْموصل وَصَارَ بَاقِي عَسْكَر حلب إِلَى حلب فِي سَابِع شَوَّال فِي أقبح حَال وأسوئه عُرَاة حُفَاة فُقَرَاء يتلاومون على نقض الْأَيْمَان والعهود وَخَافَ أهل حلب من قصد السُّلْطَان لَهُم فَأخذُوا فِي الاستعداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 للحصار وَجَاء السُّلْطَان وخيّم عَلَيْهَا أَيَّامًا ثمَّ قَالَ الرَّأْي أَن نقصد مَا حولهَا من الْحُصُون والمعاقل والقلاع فنفتحها فَإنَّا إِذا فعلنَا ذَلِك ضعفت حلب وَهَان أمرهَا فصوّبوا رَأْيه فنزلوا على بزاعا فتسلّمها بالأمان وولاها عز الدّين خشترين الْكرْدِي فصل فِي فتح جملَة من الْبِلَاد حوالي حلب قَالَ الْعِمَاد ثمَّ نزل السُّلْطَان على حصن بُزاعة وتسلّمه فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال ثمَّ فتح منبج فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَكَانَ فِيهَا الْأَمِير قطب الدّين ينَال بن حسان وَالسُّلْطَان لَا ينَال بِهِ إِحْسَان بل كَانَ فِي جرّ عَسْكَر الْموصل إِلَيْهِ أقوى سَبَب وَلَا يماذقه وَلَا يحفظ مَعَه شَرط أدب ويواجهه بِمَا يكره فسلّم القلعة بِمَا فِيهَا وقوّم مَا كَانَ سلمه بِثَلَاث مئة ألف دِينَار مِنْهَا عين ونقود ومصوغ ومطبوع ومصنوع ومنسوج وغلات وسامه على أَن يخْدم فَأبى وأنف وَكَبرت نَفسه فتعب سرُّه وَذهب مَا جمعه وَمضى إِلَى صَاحب الْموصل فأقطعه الرَّقة فبقى فِيهَا إِلَى أَن أَخذهَا السُّلْطَان مِنْهُ مرّة ثَانِيَة فِي سنة ثَمَان وَسبعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وَقَالَ الْعِمَاد (نزولك فِي منبج ... على الظفر الْمُبْهِج) (ونجحك فِي المرتجى ... وفتحك للمرتج) (دَلِيل على كلّ مَا ... تحاول أَو ترتجي) (أمورك فِيمَا تروم ... وَاضِحَة المنهح) (وشانيك دامي الشؤون ... مِنْك شقيّ شجى) (وَمن كَانَ فِي حصنه ... وَمن قبل لم يخرج) (يُقَال لَهُ لَيْسَ ذَا ... بعشك قُم فادرج) (فرأيك يسْتَنْزل النُّجُوم ... من الأبرُج) (فعجِّل عبور الْفُرَات ... وأسرِ وَسِر وادْلُج) (وعُجْ نَحْو تِلْكَ الْبِلَاد ... وَعَن غَيرهَا عرج) (فحران والرقتان ... تاليتا منبج) (وَجل عَن الْمُسلمين ليلهم المّدجى ... ) قَالَ ابْن أبي طيّ لما ملك السُّلْطَان منبج وتسلم الْحصن صعد إِلَيْهِ وَجلسَ يستعرض أَمْوَال ابْن حسان وذخائره فَكَانَ فِي جملَة أَمْوَاله ثَلَاثَة مئة ألف دِينَار وَمن الْفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر مَا يناهز ألفي ألف دِينَار فحان من السُّلْطَان التفاتة فَرَأى على الأكياس والآنية مَكْتُوبًا يُوسُف فَسَأَلَ عَن هَذَا الِاسْم فَقيل لَهُ ولدٌ يحبُّه ويؤثره اسْمه يُوسُف كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 يذخر هَذِه الْأَمْوَال لَهُ فَقَالَ السُّلطان أَنا يوسُف وَقد أخذت مَا خبىء لي فتعجب النَّاس من ذَلِك قَالَ ولمَّا فرغ من منبح نزل على عزاز وَنصب عَلَيْهَا عدّة مجانيق وجدّ فِي الْقِتَال وبذل الْأَمْوَال قَالَ الْعِمَاد ثمَّ نزل السُّلطان على حصن عزاز وَقطع بَين الحلبيين وَبَين الفرنج الْجَوَاز وَهُوَ حصن منيع رفيع فحاصره ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَ السُّلطان قد أشْفق على هَذَا الْحصن من مُوَافقَة الحلبيين للفرنج فَإِن الغيظ حملهمْ على مهادنة الفرنج وَإِطْلَاق مُلُوكهمْ الذّين تَعب نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي أسرهم فَرَأى السُّلطان أَن يحْتَاط على المعاقل ويصُونها صون العقائل فتسلّمها حادي عشر ذِي الْحجَّة بعد مُدَّة حصارها الْمَذْكُورَة وَقَالَ الْعِمَاد قصيدة مِنْهَا (أعطَاهُ ربّ الْعَالمين دولة ... عزّةُ أهل الدّين فِي إعزازها) (حَاز العُلا ببأسه وجوده ... وَهُوَ أَحَق الْخلق باحتيازها) (بجوده أفنى كنوزا فني الْمُلُوك ... فِي الجدّ على اكتنازها) (مهلك أهل الشِّرك طرا رومها ... أرمنها إفرنجها أبخازها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 (تفاخر الْإِسْلَام من سُلْطَانه ... تفاخر الْفرس بأبروازها) (تهن من فتح عزازٍ نصْرَة ... أوقعت العداة فِي اعتزازها) (وَالْيَوْم ذلت حلب فَإِنَّهَا ... كَانَت تنَال العزَّ من عزازها) (وحلب تَنْفِي كمشتكينها ... كَمَا انْتَفَت بَغْدَاد من قيمازها) (برزت فِي نصر الْهدى بحجَّة ... وضوحُ نهج الحقّ فِي إبرازها) (كم حاملٍ للرمح عَاد مبديا ... عجز عَجُوز الحيّ عَن عكازها) (ارْفَعْ حظوظي من حضيض نَقصهَا ... وعدِّ عَن همازها لمازها) (وَالشعر لَا بُد لَهُ من باعث ... كحاجة الْخَيل إِلَى مهمازها) قَالَ وأغار عَسْكَر حلب على عسكرنا فِي مُدَّة مقامنا على عزاز فَأخذُوا على غرّة وغفلة مَا تعجلّوه وعادوا فَركب أَصْحَابنَا فِي طَلَبهمْ فَمَا أدركوا إِلَّا فَارِسًا وَاحِدًا فَأمر السُّلْطَان بِقطع يَده بِحكم حرده فَقلت للْمَأْمُور وَذَلِكَ بمسمع من السُّلْطَان تمهّل سَاعَة لعلّه يقبل مني شَفَاعَة ثمَّ قلت هَذَا لَا يحل وقدرك بل دينك عَن هَذَا يجل وَمَا زلت أكرر عَلَيْهِ الحَدِيث حَتَّى تَبَسم وعادت عاطفته ورحم وَأمر بحبسه وسرّني سَلامَة نَفسه وَدخل نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين وَقَالَ مَا هَذَا الفشل والونى وَإِن سكتم أَنْتُم فَمَا أسكت أَنا ودمدم وزمجر وَغَضب وزأر وَقَالَ لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 لَا يقتل هَذَا الرّجل ولماذا اعتقل فوعظه السّلطان واستعطفه وسكنَّ غيظه وتعطفه وتلا عَلَيْهِ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى} وأُطلق سراحه وتمَّ فِي نجاته نجاحه فصل فِي وثوب الحشيشية على السُّلْطَان مرّة ثَانِيَة على عزاز وَكَانَت الأولى على حلب قَالَ الْعِمَاد وَفِي حادي عشر ذِي الْقعدَة قفز الحششية على السُّلْطَان لَيْلَة الْأَحَد وَهُوَ نَازل على عزاز وَكَانَ للأمير جاولي الْأَسدي خيمة قريبَة من المنجنيقات وَكَانَ السُّلْطَان يحضر فِيهَا كلّ يَوْم لمشاهدة الْآلَات وترتيب الْمُهِمَّات وحضّ الرّجال والحث على الْقِتَال وَهُوَ بارٌ ببث أياديه قارٌ على الدَّهْر بكف عواديه والحشيشية فِي زِيّ الأجناد وقُوف والرّجال عِنْده صُفُوف إِذْ قفز واحدٌ مِنْهُم فَضرب رَأسه بسكينه فعاقته صَفَائِح الْحَدِيد المدفونة فِي كمته عَن تَمْكِينه ولفحت المدية خدّه فخدشته فقوّى السُّلْطَان قلبه وحاش رَأس الحشيشي إِلَيْهِ وجذبه وَوَقع عَلَيْهِ وَركبهُ وأدركه سيف الدّين يازكوج فَأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه وقطعه وَجَاء آخر فاعترضه الْأَمِير دَاوُد بن منكلان فَمَنعه وجرحه الحشيشي فِي جنبه فَمَاتَ بعد أَيَّام وَجَاء آخر فعانقه الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس وضمه من تَحت إبطَيْهِ وَبقيت يدُ الحشيشي من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من الضَّرْب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ كشف مَا عراه من الكرب فَنَادَى اقتلوني مَعَه فقد قتلني وأذهب قوّتي وأذهلني فطعنه نَاصِر الدّين بن شيركوه بِسَيْفِهِ وَخرج آخر من الْخَيْمَة مُنْهَزِمًا وعَلى الفتك بِمن يُعَارضهُ مُقْدما فثار عَلَيْهِ أهل السُّوق فقطعوه وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب وَجَاء إِلَى سرادقه وَقد خرعه الْحَادِث وقرعه الكارث وصوته جَهورِي وزئيره قسوّري وَدم خَدّه سَائل وَعطف روعه مائل وطوق كزاغنده بِتِلْكَ الضَّرْبَة مفكوك ونهج سَلَامَته مسلوك وَكَانَ سلا سَلَامَته وَأقَام الْقَوْم قِيَامَته وَمن بعد ذَلِك رعب ورهب وَاحْترز واحتجب وَضرب حول سرادقه على مِثَال خشب الخركاة تأزيرا وَوَثَّقَهُ تحجيرا وَجلسَ فِي بَيت الْخشب وبرز للنَّاس كالمحتجب وَمَا صرف إِلَّا من عرفه وَمن لم يعرفهُ صرفه وَإِذا ركب وَأبْصر من لَا يعرفهُ فِي موكبه أبعده ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَإِن كَانَ مستسعفا أَو مستسعدا أسعفه وأسعده وَمن كتاب فاضلي إِلَى الْعَادِل السَّلامَة شَامِلَة والرّاحة بِحَمْد الله للجسم الشريف الناصري حَاصِلَة وَلم ينله من الحشيشي الملعون إِلَّا خدش قطرت مِنْهُ قطرات دم خَفِيفَة انْقَطَعت لوَقْتهَا واندملت لساعتها وَالرُّكُوب على رسمه والحصار لأعزاز على حكمه وَلَيْسَ فِي الْأَمر بِحَمْد الله مَا يضيق صَدرا وَلَا مَا يشغل سرا وَقَالَ ابْن أبي طي لما فتح السُّلْطَان حصن بزاعا ومنبج أَيقَن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 بحلب بِخُرُوج مَا فِي أَيْديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إِلَى عَادَتهم فِي نصب الحبائل للسُّلْطَان فكاتبوا سِنَانًا صَاحب الحشيشية مرّة ثَانِيَة ورغبوه بالأموال والمواعيد وَحَمَلُوهُ على إِنْفَاذ من يفتك بالسلطان فَأرْسل لَعنه الله جمَاعَة من أَصْحَابه فجاؤوا بزِي الأجناد ودخلوا بَين الْمُقَاتلَة وباشروا الْحَرْب وأبلوا فِيهَا أحسن الْبلَاء وامتزجوا بأصحاب السُّلْطَان لَعَلَّهُم يَجدونَ فرْصَة ينتهزونها فَبَيْنَمَا السُّلْطَان يَوْمًا جَالس فِي خيمة جاولي وَالْحَرب قَائِمَة وَالسُّلْطَان مَشْغُول بِالنّظرِ إِلَى الْقِتَال إِذْ وثب عَلَيْهِ أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رَأسه وَكَانَ رَحمَه الله محترزا خَائفًا من الحشيشية لَا ينْزع الزردية عَن بدنه وَلَا صَفَائِح الْحَدِيد عَن رَأسه فَلم تصنع ضَرْبَة الحشيشي شَيْئا لمَكَان صَفَائِح الْحَدِيد وأحس الحشيشي بصفائح الْحَدِيد على رَأس السُّلْطَان فسبح يَده بِالسَّكِينَةِ إِلَى خد السُّلْطَان فجرحه وَجرى الدَّم على وَجهه فتعتع السُّلْطَان لذَلِك وَلما رأى الحشيشي ذَلِك هجم على السُّلْطَان وجذب رَأسه حَتَّى وَضعه على الأَرْض وَركبهُ لينحره وَكَانَ من حول السُّلْطَان قد أدركتهم دهشة أخذت بعقولهم وَحضر فِي ذَلِك الْوَقْت سيف الدّين يازكوج وَقيل إِنَّه كَانَ حَاضرا فاخترط سَيْفه وَضرب الحشيشي فَقتله وَجَاء آخر من الحشيشية أَيْضا يقْصد السُّلْطَان فاعترضه الْأَمِير منكلان الْكرْدِي وضربه بِالسَّيْفِ وَسبق الحشيشي إِلَى منكلان فجرحه فِي جَبهته وَقَتله منكلان وَمَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 منكلان من ضَرْبَة الحشيشي بعد أَيَّام وَجَاء آخر من الباطنية فَحصل فِي سهم الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس فهجم على الباطني وَدخل الباطني فِيهِ ليضربه فَأَخذه عَليّ تَحت إبطه وَبقيت يَد الباطني من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من ضربه فصاح عَليّ اقْتُلُوهُ واقتلوني مَعَه فجَاء نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بِسَيْفِهِ وَمَا زَالَ يُخضخضه فِيهِ حَتَّى سقط مَيتا وَنَجَا ابْن أبي الفوارس وَخرج آخر من الحشيشية مُنْهَزِمًا فَلَقِيَهُ الْأَمِير شهَاب الدّين مَحْمُود خَال السُّلْطَان فتنكب الباطني عَن طَرِيق شهَاب الدّين فقصده أَصْحَابه وقطعوه بِالسُّيُوفِ وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب من وقته إِلَى سرادقه وَدَمه على خَدّه سَائل وَأخذ من ذَلِك الْوَقْت فِي الاحتراس والاحتراز وَضرب حول سرادقه مِثَال الخركاه وَنصب لَهُ فِي وسط سرادقه برجا من الْخشب كَانَ يجلس فِيهِ وينام وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا من يعرفهُ وَبَطلَت الْحَرْب فِي ذَلِك الْيَوْم وَخَافَ النَّاس على السُّلْطَان واضطرب الْعَسْكَر وَخَافَ النَّاس بَعضهم من بعض فألجأت الْحَال إِلَى ركُوب السُّلْطَان ليشاهده النَّاس فَركب حَتَّى سكن الْعَسْكَر وَعَاد إِلَى خيمته وَأخذ فِي قتال عزاز فقاتلها مُدَّة ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا حَتَّى عجز من كَانَ فِيهَا وسألوا الْأمان فتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة وَصعد إِلَيْهَا وَأصْلح مَا تهدم مِنْهَا ثمَّ أقطعها لِابْنِ أَخِيه تقيّ الدّين عمر وَكَانَت عزاز أَولا للجفينة غُلَام نور الدّين فَلَمَّا ملك السُّلْطَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 منبج أَخذهَا مِنْهُ الْملك الصَّالح وقوّاها لَعَلَّه يحفظها من الْملك النَّاصِر فَلم يبلغ ذَلِك وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر عزاز حقد على من بحلب لما فَعَلُوهُ من أَمر الحشيشية فَسَار حَتَّى نزل على حلب خَامِس عشر ذِي الْحجَّة وَضربت خيمته على رَأس الياروقية فَوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها وضيق على أَهلهَا وَلم يفسح لعسكره فِي مقاتلتها بل كَانَ يمْنَع أَن يدْخل إِلَيْهَا شَيْء أَو يخرج مِنْهَا أحد وَكَانَ سعد الدّين كمشتكين فِي حارم وَكَانَت إقطاعه فِي يَد نوابه وَكَانَ انتزعها من يَد أَوْلَاد الداية بعد أَن عصى نائبها وَكَانَ سَبَب خُرُوجه إِلَيْهَا أنّ السُّلْطَان لما نزل على عزاز خَافَ كمشتكين أَن ينْتَقل مِنْهَا إِلَى حارم فَخرج إِلَيْهَا فَلَمَّا نزل السُّلْطَان على حلب نَدم كمشتكين على كَونه خَارِجا فِي حارم وَخَافَ أَن يجْرِي بَين السُّلْطَان وَبَين الْأُمَرَاء الحلبيين صلح فَلَا يكون لَهُ فِيهِ ذكر وَلَا اسْم فراسل السُّلْطَان يتلطف مَعَه الْحَال وَيَقُول لَو فسح لي فِي الدُّخُول إِلَى حلب لسارعت فِي الْخدمَة وأصلحت الْأَمر على مَا يرومه السُّلْطَان وراسل أَيْضا الْملك الصَّالح والأمراء بحلب يَقُول لَهُم قد حصلت خَارِجا وَقد بلغتني أُمُور وَلَا بُد من طلبي من الْملك النَّاصِر ليأذن لي فِي الصيرورة إِلَيْكُم فَإِن الَّذِي قد حصل عِنْدِي لَا يمكنني الْكَلَام فِيهِ فراسل الْملك الصَّالح السُّلْطَان فِي الْأذن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى حلب فَأذن لَهُ وطلبوا الرهائن مِنْهُ فنفذ السُّلْطَان إِلَيْهِم رهينة شمس الدّين بن أبي المضاء الْخَطِيب والعماد كَاتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الْإِنْشَاء وأنفذوا من حلب إِلَى السُّلْطَان رهينةً نصْرَة الدّين بن زنكي وَحكى الْعِمَاد الْكَاتِب قَالَ لما حصلنا دَاخل حلب أُخذنا بِرَأْي الْعدْل ابْن العجمي وَجَعَلنَا فِي بَيت وَمنع منا غلماننا وَلم يحضر لنا طَعَام وَلَا مِصْبَاح وبتنا فِي أنكد عَيْش وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة دخل كمشتكين إِلَى حلب فَلَمَّا أَصْبحُوا أُحضرت انا وَابْن أبي المضاء إِلَى مجْلِس الْملك الصَّالح وَكَانَ عِنْده ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَجَمَاعَة من أَرْبَاب الدولة وَكَانَ صَاحب الْكَلَام الْعدْل ابْن العجمي فَأخذ يتحدث بلثغته ويترجم بلكنته وَيضْرب صفحا عني ويوهم الْجَمَاعَة أَنِّي بِأَنِّي (وَمَا درى الغِمرُ بِأَنِّي امْرُؤ ... أُميّز التبر من الترب) (قد عارك الْأَهْوَال حَتَّى غَدا ... بَين الورى كالصارم العضب) (قد راضه الدّهر فَلْو أمَّه ... بخطبه مَا ريع للخطب) قَالَ وَعرضت نُسْخَة الْيَمين علينا وصرفنا وَلم يلْتَفت إِلَيْنَا فَلَمَّا صَارا إِلَى السُّلْطَان وأخبراه بِمَا جرى فِي حَقّهمَا من الهوان علم أَن ذَلِك كَانَ حِيلَة عَلَيْهِ حَتَّى دخل كمشتكين إِلَى حلب فَأطلق نصْرَة الدّين وَقَاتل أهل حلب وَلم يزل منازلا لحلب إِلَى انسلاخ سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة ثمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَدخُول قراقوش إِلَى الْمغرب قَالَ الْعِمَاد وَفِي سَابِع شوّال وصل أَخُو السُّلْطَان شمس الدولة من الْيمن إِلَى دمشق وَذكر ابْن شَدَّاد أَنه قدم فِي ذِي الْحجَّة قلت ولمّا سمع السُّلْطَان بقدُومه أرسل إِلَيْهِ بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله {أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ علينا} وَقَالَ فِي آخِره وَلَقَد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طُلُوع الْفجْر قبل شمسه وغرس فِي الْقُلُوب مَا يسرّنا ويسرّه جنى غرسه قَالَ ابْن أبي طيّ كَانَ سَبَب خُرُوجه من الْيمن كَرَاهِيَة الْبِلَاد والشّوق إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر وَأَن يرى مُلُوك الشَّام وَغَيرهَا وأمراء العساكر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من النّعم وَالْأَمْوَال قَالَ وَحكى أَنه لما تحدّث النَّاس بِخُرُوج شمس الدّولة من الْيمن كَانَ بِالْيمن رجل يُقَال لَهُ عَبَّاس وَكَانَ صهر يَاسر بن بِلَال الحبشي صَاحب عدن وَكَانَ بَين عَبَّاس وياسر عَدَاوَة فافتعل عَبَّاس كتابا على لِسَان يَاسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وزوّر عَلَيْهِ علامته إِلَى زيد بن عَمْرو بن حَاتِم صَاحب صنعاء يَقُول فِيهِ إِن شمس الدولة سَائِر إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر إِلَى الشَّام وَسبب خُرُوجه ضعفه عَن الْيمن فأمسكوا مَا كُنْتُم تحملون إِلَيْهِ من الأتاوة والرشوة يبْق لكم واحتال حتّى وصل الْكتاب إِلَى شمس الدولة وَكَانَ نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره فَلَمَّا وقف شمس الدولة على الْكتاب استدعى ياسراً وَقَالَ لَهُ هَذَا خطك وعلامتك قَالَ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ فَبِأَي شَيْء استحققت مِنْك هَذَا وَقد قرّبت منزلتك وأبقيت عَلَيْك بلادك وَرفعت بضبعك على أهل إقليمك وَأرَاهُ الْكتاب فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ يَاسر حلف أَنه مَا كتبه وَلَا يعرفهُ وَلَا أملاه لأحد وَلم يعلم خَبره فَلم يصدقهُ شمس الدولة وَأمر بِهِ فَقتل صبرا بَين يَدَيْهِ فهاب شمس الدولة مُلُوك الْيمن وحملوا إِلَيْهِ الْأَمْوَال وحلفوا لَهُ على الطَّاعَة ثمَّ إِن شمس الدولة خرج إِلَى تهَامَة وَتوجه إِلَى الشَّام واستخلف على تهَامَة سيف الدولة مبارك بن كَامِل بن منقذ وَعُثْمَان بن عَليّ الزنجيلي على عدن وَتوجه إِلَى حَضرمَوْت فَفَتحهَا واستناب عَنهُ بهَا رجلا كرديا يُسمى هَارُون وَكَانَ مقَامه بشبام واستمرّ الْكرْدِي بهَا مُدَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ثمَّ أَن صَاحب حَضرمَوْت تحرّك وَجمع فَقتل وعاث هَارُون فِي تِلْكَ الْبِلَاد واستقام أمره وَولى شمس الدولة ثغر تعز مَمْلُوكه ياقوت وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْجند وَولى قلعة تعكر مَمْلُوكه قايماز قَالَ وَكَانَ وُصُول شمس الدولة إِلَى السُّلْطَان قبل وقْعَة المواصلة وكسرتهم وَكَانَ شمس الدولة هُوَ سَبَب الظفر وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان سرادق سيف الدّين صَاحب الْموصل بِمَا كَانَ فِيهِ من الْفرش والأثاث والالات وولاه دمشق وأعمالها والشَّام وَأمره أَن يكون فِي وَجه الفرنج لِأَن السُّلْطَان خَافَ من الحلبيين أَن يكاتبوا الفرنج كعادتهم قَالَ وفيهَا قتل صدّيق بن جَوْلَة صَاحب بُصرى وصَرْخد قَتله ابنُ أَخِيه وَملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا فكاتبه شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان وَحلف لَهُ على مَا يُريدهُ من إقطاع واقترح شمس الدولة أَن يكْتب هُوَ مَا يُريدهُ ليحلف عَلَيْهِ فأنفذ من بُصْرى نُسْخَة يَمِين كتبهَا قَاضِي بصرى وَكَانَ قَلِيل الْمعرفَة بالفقه والتصرّف فِي القَوْل فَلم يستقص فِيهَا وُجُوه التَّأْوِيل فَلَمَّا استوثق بهَا من شمس الدولة وَخرج إِلَيْهِ تأوَّل عَلَيْهِ شمس الدولة فِي الْيَمين وَقَبضه ثمَّ أقطعه عشْرين ضَيْعَة ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ بعد أَيَّام قَالَ وفيهَا عصى الْأَمِير غرس الدّين قليج بتلّ خَالِد بِسَبَب كَلَام جرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 بَينه وَبَين كمشتكين فأنهد إِلَيْهِ من حلب عسكرا فحاصروه أَيَّامًا وَسلم الْحصن وصلحت حَاله قَالَ وَلما ملك شمس الدّولة الْيمن سمت نفس ابْن أَخِيه تقيِّ الدِّين إِلَى الْملك وَجعل يرتاد مَكَانا يحتوى عَلَيْهِ فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هِيَ فَم درب الْمغرب وَكَانَت خرابا فأشير عَلَيْهِ بعمارتها وَقيل لَهُ مَتى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة وَإِذا ملكت برقة ملك مَا وَرَاءَهَا فأنفذ مَمْلُوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جمَاعَة من أجناده ومماليكه فصاروا إِلَى القلعة الْمَذْكُورَة وشرعوا فِي عمارتها وَاجْتمعَ بقراقوش رجل من الْمغرب فحدّثه عَن بِلَاد الجريد وفزّان وَذكر لَهُ كَثْرَة خَيرهَا وغزارة أموالها وَضعف أَهلهَا ورغبّه فِي الدُّخُول إِلَيْهَا فَأخذ جمَاعَة من أَصْحَابه وَسَار فِي حادي عشر المحرّم من هَذِه السّنة فَكَانَ يكمن النَّهار ويسير اللَّيْل مدّة خَمْسَة أَيَّام وأشرف على مَدِينَة أوجلة فَلَقِيَهُ ملكهَا وأكرمه واحترمه وَسَأَلَهُ الْمقَام عِنْده ليعتضد بِهِ ويزوجه بنته ويحفظ الْبِلَاد من الْعَرَب وَله ثلث ارتفاعها فَفعل قراقوش ذَلِك فَحصل لَهُ من ثلث الِارْتفَاع ثَلَاثُونَ ألف دِينَار فَأخذ عشرَة آلَاف لنَفسِهِ وفرّق على رِجَاله عشْرين ألفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَكَانَ إِلَى جَانب أوجلة مَدِينَة يُقَال لَهَا الأزراقية فَبلغ أَهلهَا صَنِيع قراقوش فِي أوجلة وَأَنه حرس غلالهم فصاروا إِلَيْهِ ووصفوا لَهُ بلدهم وَكَثْرَة خَيره وَطيب هوائه ورغبوه فِي الْمصير إِلَيْهِم على انهم يملكونه عَلَيْهِم فَأجَاب إِلَى ذَلِك واستخلف على أوجلة رجلا من أَصْحَابه يُقَال لَهُ صباح وَمَعَهُ تِسْعَة فوارس من أَصْحَابه فَحصل لقراقوش أَمْوَال كَثِيرَة وَاتفقَ أنّ صَاحب أوجلة مَاتَ فَقتل أهل أوجلة أَصْحَاب قراقوش فجَاء قراقوش وحاصرها حَتَّى افتتحها عنْوَة وَقتل من أَهلهَا سبع مئة رجل وغنم أَصْحَابه مِنْهَا غنيمَة عَظِيمَة وَاسْتولى على الْبَلَد ثمّ إِن أَصْحَابه رَغِبُوا فِي الرّجوع إِلَى مصر وخشى قراقوش أَن يُقيم وَحده فَرجع مَعَهم فَلَمَّا حصل بِمصْر طَابَ لَهُ الْمقَام وَثقل عَلَيْهِ الْعود وزوّجه تقيّ الدّين بِإِحْدَى جواريه وَكَانَ استناب بأوجلة وَقَالَ لأَهْلهَا أَنا أمضى إِلَى مصر لتجديد رجال وأعود إِلَيْكُم قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَسبعين استوزر سيف الدّين صَاحب الْموصل جلال الدّين أَبَا الْحسن عَليّ بن جمال الدّين الْوَزير رحمهمَا الله تَعَالَى ومكنّه فِي ولَايَته فظهرت مِنْهُ كِفَايَة لم يُظَّنها النَّاس وبدا مِنْهُ معرفَة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين وَتَقْرِير الْأُمُور والاطلاع على دقائق الحسبانات وَالْعلم بصناعة الْكِتَابَة الحسابية والإنشاء حيّرت الْعُقُول وَوضع فِي كِتَابَة الإنشاد وضعا لم يعرفوه وَكَانَ عمره حِين ولي الوزارة خمْسا وَعشْرين سنة ثمّ قبض عَلَيْهِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 شعْبَان سنة ثَلَاث وَسبعين وشفع فِيهِ كَمَال الدّين بن نيسان وَزِير صَاحب آمد وَكَانَ قد زوجه بنته فأُطلق وَسَار إِلَيْهِ وَبَقِي بآمد يَسِيرا مَرِيضا ثمَّ فَارقهَا وتُوفي بدنيسر سنة أَربع وَسبعين وحُمل إِلَى الْموصل فَدفن بهَا ثمّ حُمل مِنْهَا فِي موسم الحجّ إِلَى الْمَدِينَة وَدفن عِنْد وَالِده وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وَمعنى رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ ثمّ إِن سيف الدّين استناب دُزْدَاراً بقلعة الْموصل الْأَمِير مُجَاهِد الدّين قايماز فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وردّ إِلَيْهِ أزمة الْأُمُور فِي الحلّ وَالْعقد وَالرَّفْع والخفض وَكَانَ بِيَدِهِ قبل هَذِه الْولَايَة مَدِينَة إربل وأعمالها وَمَعَهُ فِيهَا ولدٌ صَغِير لزين الدَّين على لقبه أَيْضا زين الدِّين فَكَانَ الْبَلَد لولد زين الدِّين اسْما لَا معنى تَحْتَهُ وَهُوَ لمجاهد الدِّين صُورَة وَمعنى قلت وَفِي حادي عشر رَجَب توفيّ حَافظ الشَّام أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن عَسَاكِر صَاحب التَّارِيخ الدِّمَشْقِي رَحمَه الله تَعَالَى وَحضر السُّلْطَان صَلَاح الدّين جنَازَته وَدفن فِي مَقَابِر بَاب الصَّغِير وفيهَا قدم دمشق أَبُو الْفتُوح عبد السَّلام بن يُوسُف بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 مُحَمَّد بن مقلد الدّمشقي الأَصْل الْبَغْدَادِيّ المولد التنوخي الجماهري الصُّوفِي ابْن الصُّوفِي ذكره الْعِمَاد فِي الخريدة وَقَالَ كَانَ صديقي وَجلسَ للوعظ وَحضر عِنْده صَلَاح الدّين وَأحسن إِلَيْهِ وَعَاد إِلَى بَغْدَاد وَذكر الْعِمَاد من أشعاره مقطعات مِنْهَا فِي الْحَقَائِق وأنشدها فِي مَجْلِسه (يَا مَالِكًا مهجتي يَا مُنْتَهى أملي ... يَا حَاضرا شَاهدا فِي الْقلب والفكر) (خلقتني من تُرَاب أَنْت خالقه ... حَتَّى إِذا صرتُ تمثالاً من الصُّور) (أجريت فِي قالبي رُوحاً منورة ... تمرُّ فِيهِ كَجَرْي المَاء فِي الشّجر) (جمعت بَين صفا روح منورة ... وهيكل صغته من مَعْدن كدر) (إِن غبت فِيك فيافخري وَيَا شرفي ... وَإِن حضرت فيا سَمْعِي وَيَا بَصرِي) (أَو احْتَجَبت فَسرِّي مِنْك فِي ولهٍ ... وإنْ خطرتُ فقلبي مِنْك فِي خطر) (تبدو فتمحوُ رسومي ثمَّ تثبتُها ... وَإِن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد والسّلطان مُقيم بِظَاهِر حلب فَعرف أَهلهَا أنّ العقُوبة أليمة وَالْعَاقبَة وخيمة فَدَخَلُوا من بَاب التذلل ولاذوا بالتوسل وخاطبوا فِي التّفّضل وطلبوا الصُّلح فأجابهم وَعَفا وعفّ وَكفى وكفّ وَأبقى للْملك الصَّالح حلب وأعمالها واستقرى كل عَثْرَة لَهُم وأقالها وَأَرَادَ لَهُ الإعزاز فَرد عَلَيْهِ عزاز وَقَالَ ابْن شَدَّاد أخرجُوا إِلَيْهِ ابْنة لنُور الدّين صَغِيرَة سَأَلت مِنْهُ عزاز فَوَهَبَهَا إِيَّاهَا قَالَ ابْن أبي طيّ لما تمّ الصُّلْح وانعقدت الْأَيْمَان عوّل الْملك الصَّالح على مراسلة السُّلْطَان وَطلب عزاز مِنْهُ فَأَشَارَ الْأُمَرَاء عَلَيْهِ بإنفاذ أُخْته وَكَانَت صَغِيرَة فأُخرجت إِلَيْهِ فأكرمها السُّلْطَان إِكْرَاما عَظِيما وَقدم لَهَا أَشْيَاء كَثِيرَة وَأطلق لَهَا قلعة عزاز وَجَمِيع مَا فِيهَا من مَال وَسلَاح وميرة وَغير ذَلِك وَقَالَ غَيره بعث الْملك الصَّالح أُخْته الخاتون بنت نور الدّين إِلَى صَلَاح الدّين فِي اللَّيْل فَدخلت عَلَيْهِ فَقَامَ قَائِما وقبّل الأَرْض وَبكى على نور الدّين فَسَأَلت أَن يرد عَلَيْهِم أعزاز فَقَالَ سمعا وَطَاعَة فَأَعْطَاهَا إِيَّاهَا وقدّم لَهَا من الْجَوَاهِر والتحف وَالْمَال شَيْئا كثيرا وَاتفقَ مَعَ الْملك الصَّالح أنّ لَهُ من حماة وَمَا فَتحه إِلَى مصر وَأَن يُطلق الْملك الصَّالح أَوْلَاد الداية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 قَالَ الْعِمَاد وحلفوا لَهُ على كل مَا شَرطه وَاعْتَذَرُوا عَن كلّ مَا أسخطه وَكَانَ الصُّلح عَاما لَهُم وللمواصلة وَأهل ديار بكر وكُتب فِي نُسْخَة الْيَمين أَنه إِذا غدر مِنْهُم واحدٌ وَخَالف وَلم يفِ بِمَا عَلَيْهِ حَالف كَانَ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ يدا وَاحِدَة وعزيمة متعاقدة حَتَّى يفِيء إِلَى الْوَفَاء والوفاق وَيرجع إِلَى مرافقة الرّفاق فَلَمَّا انتظم الصُّلْح ذكر السُّلْطَان ثَأْره عِنْد الاسماعيلية وَكَيف قصدوه بِتِلْكَ البلية فَرَحل يَوْم الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من المحرّم فحصر حصنهمْ مصياث وَنصب عَلَيْهِ المجانيق الْكِبَار وأوسعهم قتلا وأسراً وسَاق أبقارهم وخرّب دِيَارهمْ وَهدم أعمارهم وهتك أستارهم حتّى شفع فيهم خَاله شهَاب الدّين مَحْمُود بن تكش صَاحب حماة وَكَانُوا قد راسلوه فِي ذَلِك لأَنهم جِيرَانه فَرَحل عَنْهُم وَقد انتقم مِنْهُم قَالَ وَكَانَ الفرنج قد أَغَارُوا على الْبِقَاع فَخرج إِلَيْهِم شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك الْمَعْرُوف بِابْن الْمُقدم وَهُوَ مُتَوَلِّي بعلبك ومقطع أَعمالهَا ومدبّر أحوالها والمتحكم فِي أموالها فَقتل مِنْهُم وَأسر أَكثر من مئتي أَسِير وأحضرهم عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ على حِصَار مصياث فجدّد مِنْهُ إِلَى غَزْو الفرنج الانبعاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 قَالَ ابْن أبي طي وهذ أكبر الدَّوَاعِي فِي مصالحة السُّلْطَان لسنان وَخُرُوجه من بِلَاد الاسماعيلية لِأَن السُّلْطَان خَافَ أَن تهيج الفرنج فِي الشَّام الْأَعْلَى وَهُوَ بعيد عَنهُ فرُبما ظفروا من الْبِلَاد بطائل فَصَالح سِنَانًا وَعَاد إِلَى دمشق قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ قد خرج شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان من دمشق حِين سمع أَن الفرنج على الْخُرُوج وباسطهم عِنْد عين الْجَرّ فِي تِلْكَ المروج وَوَقع من أَصْحَابه عدّة فِي الأسار مِنْهُم سيف الدّين أَبُو بكر بن السلار وَوصل السُّلْطَان إِلَى حماة وَقد اسْتكْمل الظَّفر وَاجْتمعَ فِيهَا بأَخيه شمس الدولة ثَانِي صفر وَهُوَ أول لِقَائِه بَعْدَمَا أزمع عَنهُ إِلَى الْيمن السّفر وتعانق الأخوان فِي المخيّم بالميدان وتحدّثا فِي الْحدثَان وروعات الْفِرَاق ولوعات الأشواق وَكَانَ قد وصل إِلَى السُّلْطَان من أَخِيه هَذَا عِنْد مُفَارقَته بِلَاد الْيمن كتاب ضمنّه أبياتا أظنها من شعر ابْن المنجم الْمصْرِيّ أَولهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 (الشوق أولع بالقلوب وأوجع ... فَعَلاَمَ أدفَع مِنْهُ مَا لايدفع) مِنْهَا (وحملت من وجد الْأَحِبَّة مُفردا ... مَا لَيْسَ تحمله الْأَحِبَّة أجمع) (لَا يسْتَقرّ بيَ النّوى فِي مَوضِع ... إِلَّا تقاضاني التَّرَّحلَ مَوضِع) (فَإلَى صَلَاح الدّين أَشْكُو أنني ... من بعده مُضْنى الجوانح موجع) (جزعا لبعد الدَّار مِنْهُ وَلم أكن ... لَوْلَا هَوَاهُ لبعد دارٍ أجزع) (فلأركبنَّ إِلَيْهِ متن عزائمي ... ويُخبّ بِي ركبُ الغرام وَيُوضَع) (حتّى أشاهد مِنْهُ أسعد طلعة ... من أفقها صبح السَّعَادَة يطلع) قَالَ الْعِمَاد فَسَأَلَنِي السُّلْطَان أَن أكتب لَهُ فِي جوابها على رَوِيها ووزنها فَقلت فَذكر قصيدة مِنْهَا (مولَايَ شمس الدولة الْملك الَّذِي ... شمس السِّيَادَة من سناه تطلع) (مَالِي سواك من الْحَوَادِث ملجأُ ... مَالِي سواك من النّوائب مفزع) (وَلأَنت فَخر الدّين فخري فِي الْعلَا ... وملاذُ آمالي ورُكني الأمنع) (إِلَّا بخدمتك الْمجلة موقعي ... وَالله مَا للْملك عِنْدِي موقع) (وَبِغير قُربك كلُّ مَا أرجوه من ... دَرك المُنى مُتَعَذر متمنع) (النَّصْر إِن أَقبلت نحوي مُقْبل ... واليمنُ إِن أسرعت نحوي مسرع) قَالَ ثمّ سرنا إِلَى دمشق ووصلنا إِلَيْهَا سَابِع عشر صفر وفوّض ملك دمشق إِلَى أَخِيه الْملك الْمُعظم شمس الدولة وعزم إِلَى مصر السّفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 فصل فِي ذكر جمَاعَة من الْأَعْيَان تجدّد لَهُم مَا أقتضى ذكرهُ فِي هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد فِي السَّادِس من المحرّم توفيّ بِدِمَشْق القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري وعمره ثَمَانُون سنة لِأَن مولده فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة وَكَانَ فِي الْأَيَّام النُّورية بِدِمَشْق هُوَ الْحَاكِم المتحكم وَصَلَاح الدّين إِذا ذَاك يتَوَلَّى الشحنكية بِدِمَشْق وَكَمَال الدّين يعكس مقاصده بتوخيّه الْأَحْكَام الشرّعية وَرُبمَا كسر أغراضه وَأبْدى عَن قبُوله إعراضه ويقصد فِي كلّ مَا يعرض لَهُ اعتراضه وَكم صَبر على جماحه بِحمْلِهِ وراضه إِلَى أنْ نَقله الله سُبْحَانَهُ من نِيَابَة الشحنكية إِلَى المُلك وَصَارَ كَمَال الدّين من قُضَاة ممالكه المنتظمة فِي السلك وَكَانَ فِي قلبه مِنْهُ مَا فِيهِ وَمَا فرط مِنْهُ فَاتَ وَقت تلافيه فَلَمَّا ملك دمشق أجراه على حكمه ولمْ يؤاخذه بجرمه واحترم نوّابه وَأكْرم أَصْحَابه وَفتح للشرّع بَابه وخاطبه وَاسْتحْسن جَوَابه وَلم يزل يستفتيه ويستهديه ويعرض على رَأْيه مَا يُعِيدهُ ويبديه وَكَانَ ابْن أَخِيه ضِيَاء الدّين بن تَاج الدّين الشهرزوري قد هَاجر إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 صَلَاح الدّين بِمصْر فِي ريعان ملكه وأذنت هجرته فِي دَرك إِرَادَته بإدارة فلكه وأنعم عَلَيْهِ هُنَاكَ بِجَزِيرَة الذَّهَب وَمن دَار الْملك بِمصْر بدار الذَّهَب ووفرَّ حَظه من الذَّهَب وَملكه دَارا بِالْقَاهِرَةِ نفيسةً جميلَة جليَّة جليلة ورتّب لَهُ وظائف وخصّه بلطائف وَوصل مَعَ صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام وَأمره جارٍ على النظام وَلما أَشْتَدّ بِكَمَال الدّين الْمَرَض وَكَاد يُفَارق جوهره الْعرض أَرَادَ أنْ يبْقى الْقَضَاء فِي ذويه فوّصى مَعَ حُضُور وَلَده بِالْقضَاءِ لضياء الدّين ابْن أَخِيه علما مِنْهُ بِأَن السُّلْطَان يُمضي حُكمه لأجل سوالفه ويجعله عِنْده من عوائد عوارفه وَمَات وَلم يخلف مثله وَمن شَاهده شَاهد الْعقل وَالْفضل كلّه بارًّا بالأبرار مُخْتَارًا للأخيار مكرما للكرام مَاضِيا فِي الْأَحْكَام وَقد قوّاه نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَولده فِي أَيَّامه وسدد مرامي مرامه وَهُوَ الَّذِي سنّ دَار الْعدْل لتنفذ أَحْكَامه بِحَضْرَة السُّلْطَان فَلَا يبْقى عَلَيْهِ مغمز وَلَا ملمز لِذَوي الشنآن وَهُوَ الَّذِي تولى لَهُ بِنَاء أسوار دمشق ومدارسها والبيمارستان فاستمرت عَادَته واستقرت قَاعِدَته فِي دولة السُّلْطَان وَتُوفِّي وَنحن بحلب محاصرون وَذكر الْعِمَاد فِي الخريدة لِابْنِهِ محييّ الدّين قصيدة فِي مرثيته مِنْهَا (ألِمُّوا بِسَفْحِي قاسيون فَسَلمُوا ... على جدثٍ بَادِي السنا وترحموا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 (وبالرغم مني أَن أناجيه بالمنى ... وأسأل مَعَ بعد المدى من يُسلم) (لقد عدمت مِنْك الْبَريَّة والدا ... أحن من الْأُم الرؤوف وأرحم) (وَلَا سِيمَا إخْوَان صدق بجلق ... همُ فِي سَمَاء الْمجد والجود أنجم) (نشرت لِوَاء الْعدْل فَوق رؤوسهم ... فَمَا كَانَ فيهم من يضام وَيظْلم) (لقِيت من الرّحمن عفوا وَرَحْمَة ... كَمَا كنت تَعْفُو مَا حييت وترحم) قَالَ الْعِمَاد وَجلسَ ابْن أَخِيه ضِيَاء الدّين مَكَانَهُ وَأحسن إحسانه وَأبقى نُوّاب عَمه وأنفذ أَحْكَامه بنافذ حكمه وَكَانَ الْفَقِيه شرف الدّين أَبُو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هَاجر من حلب إِلَى السُّلْطَان وَقد أنزلهُ عِنْده بِدِمَشْق فِي ظلّ الْإِحْسَان وَهُوَ شيخ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ والأقوم بالفتيا وأعرفهم بِمَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَة من أَمر الدّين والدُّنيا وَالسُّلْطَان يُؤثر أَن يفوّض إِلَيْهِ منصب الْقَضَاء وَلَا يرى عزل الضياء فأفضى بسرّ مُرَاده إِلَى الْأَجَل الْفَاضِل وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى أَيْضا يتعصب لشيخه فاستشعر الضياء من الْعَزْل وأشير عَلَيْهِ بالاستعفاء فَفعل فأعفى وَبقيت عَلَيْهِ الْوكَالَة الشَّرْعِيَّة عَنهُ فِي بيع الْأَمْلَاك قَالَ الْعِمَاد وَأول مَا أشتريت مِنْهُ بوكالة السُّلْطَان الأَرْض الَّتِي ببستان بقر الْوَحْش الَّتِي بنيت فِيهَا الْمَوَاضِع من الْحمام والدور والاصطبل والخان وَكنت قد احتكرتها فِي الْأَيَّام النورية فملكتها فِي الْأَيَّام الصلاحية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 قلت قد خربَتْ هَذِه الْأَمَاكِن فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وست مئة بِسَبَب الْحصار واستمرّ خرابها وعفت آثارها وَصَارَت طَرِيقا على حافة بردى وَأَنت خَارج من جسر الصفي خَارج بَاب الْفرج مارًّا إِلَى نَاحيَة الميدان قَالَ فَلَمَّا استعفى ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري من الْقَضَاء لم يبْق فِي منصب الْقَضَاء إِلَّا فَقِيه يعرف بالأوحد دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن بِلَال الشَّافِعِي وَكَانَ يَنُوب عَن كَمَال الدّين فَأمره السُّلْطَان أَن يجْرِي على رسمه ويتصّرف فِي حكمه وَكَانَ السُّلْطَان لإحياء الْقَضَاء فِي الْبَيْت الزكوي مؤثرا وَلذكر مناقبه مكثرا وَقد سبق مِنْهُ الْوَعْد للشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَهُوَ راج وبطلب نجاز عِدَته مناج ففوض إِلَيْهِ الْقَضَاء وَالْحكم والإنفاذ والإمضاء على أَن يتَوَلَّى محيي الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن زكي الدّين والأوحد دَاوُد قاضيين فِي دمشق يحكمان وهما عَن نيابته يوردان ويصدران وتوليتهما بتوقيع من السُّلْطَان وَلم يزل الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون مُتَوَلِّيًا للْقَضَاء مُنْفَردا بالحكم والإمضاء سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاث وَسبعين فِي ولَايَة أخي السُّلْطَان الْملك الْمُعظم فَخر الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 فَلَمَّا عدنا إِلَى الشَّام تكلم النَّاس فِي ذهَاب نور بَصَره وَأَنه لايقوم فِي الْقَضَاء بورده وصدره ففوض السُّلْطَان الْقَضَاء بِالْإِشَارَةِ الْفَاضِلِيَّةِ إِلَى ابْنه محيي الدّين أبي حَامِد مُحَمَّد كَأَنَّهُ نَائِب أَبِيه وَلَا يظْهر للنَّاس صرفه عَمَّا هُوَ متوليه وَاسْتمرّ الْقَضَاء لَهُ إِلَى انْقِضَاء أشهر من سنة سبع وَثَمَانِينَ ثمَّ صُرف واستقلّ بِهِ ابْن زكي الدّين فَأَقَامَ فِي مُدَّة ولَايَته للشَّرْع الْقَوَاعِد والقوانين وفوّض ديوَان الْوُقُوف بِجَامِع دمشق وَغَيره من الْمَسَاجِد والمشاهد إِلَى أَخِيه مجد الدّين بن الزكي فتولاه إِلَى أَن انْتقل من أَعمال الْوُقُوف إِلَى موقف اعْتِبَار الْأَعْمَال وتوّلاها بعده أَخُوهُ محيي الدّين على الِاسْتِقْلَال إِلَى آخر عهد السُّلْطَان وَبعده قلت وَفِي صفر وقف السُّلْطَان قَرْيَة حزم باللوى من حوران على الْجَمَاعَة الَّذين يشتغلون بِعلم الشَّرِيعَة أَو بِعلم يحْتَاج إِلَيْهِ الْفَقِيه أَو يحضر لسَمَاع الدُّرُوس بالزاوية الغربية من جَامع دمشق الْمَعْرُوفَة بالفقيه الزَّاهِد نصر الْمَقْدِسِي رَحمَه الله تَعَالَى وعَلى من هُوَ مدرّسهم بِهَذَا الْموضع من أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَجعل النّظر لقطب الدّين النَّيْسَابُورِي رَحمَه الله وَرَأَيْت كتاب الْوَقْف بذلك على هَذِه الصُّورَة وَعَلِيهِ عَلامَة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى الْحَمد لله وَبِه توفيقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 قَالَ الْعِمَاد وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي عشر من صفر وَنحن فِي طَرِيق الْوُصُول إِلَى دمشق توفّي شمس الدّين ابْن الْوَزير أبي المضاء بِدِمَشْق وَهُوَ أول خطيب بالديار المصرية للدولة العباسية وَكَانَ يتَوَلَّى الرسَالَة إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز ويقصده الشُّعَرَاء ويحضره الكرماء فيكثر خلعهم وجوائزهم وَيبْعَث على مدحه غرائزهم فَحمل السُّلْطَان همه وقرّب وَلَده وجبر بِتْربيته يُتْمه ثمَّ تعين ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري بعده للرسالة إِلَى الدِّيوَان وَصَارَت منصبا لَهُ ينافس عَلَيْهِ واستتبت لَهُ هَذِه السفارة إِلَى آخر الْعَهْد السلطاني وَذَلِكَ بعد الْمُضِيّ إِلَى مصر وَالْعود إِلَى الشَّام فَإِنَّهُ بعد ذَلِك خَاطب فِي هَذَا المرام فَأَما فِي هَذِه السّنة فَإِنَّهُ كَانَ فِي مسيرنا إِلَى مصر الصُّحْبَة وَهُوَ متودد إِلَيّ بصفاء الْمحبَّة وَفِي آخر صفر تزوّج السُّلْطَان بالخاتون المنعوته عصمَة الدّين بنت الْأَمِير معِين الدّين أنر وَكَانَت فِي عصمَة نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَلَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 توفّي أَقَامَت فِي منزلهَا بقلعة دمشق رفيعة الْقدر مُسْتَقلَّة بأمرها كَثِيرَة الصَّدقَات والأعمال الصَّالِحَات فَأَرَادَ السُّلْطَان حفظ حرمتهَا وصيانتها وعصمتها فأحضر شرف الدّين بن أبي عصرون وعُدُوله وزوجه إِيَّاهَا بحضرتهم أَخُوهَا لأَبِيهَا الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن أنر بِإِذْنِهَا وَدخل بهَا وَبَات عِنْدهَا وَقرن بسعده سعدها وَخرج بعد يَوْمَيْنِ إِلَى مصر وَذكر الْعِمَاد بعد وَفَاة ابْن الشهرزوري وَابْن أبي المضاء الْأَمِير مؤيد الدولة أَبَا الْحَارِث أُسَامَة بن مرشد بن سديد الْملك أبي الْحسن عليّ بن منقذ وَعوده إِلَى الشَّام عِنْد علمه بوصول السُّلْطَان فَقَالَ هَذَا مؤيد الدولة من الْأُمَرَاء الْفُضَلَاء والكرماء الكبراء والسادة القادة العظماء وَقد متعهُ الله بالعمر وَطول الْبَقَاء وَهُوَ من الْمَعْدُودين من شجعان الشَّام وفرسان الْإِسْلَام وَلم يزل بَنو منقذ ملاك شيزر وَقد جمعُوا السِّيَادَة والمفخر وَلما تفرّد بالمعقل مِنْهُم من تولاه لم يرد أَن يكون مَعَه فِيهِ سواهُ فَخَرجُوا مِنْهُ فِي سنة أَربع وَعشْرين وَخمْس مئة وَسَكنُوا دمشق وَغَيرهَا من الْبِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَكلهمْ من الأجواد الأمجاد وَمَا فيهم إِلَّا ذُو فضل وبذل وإحسان وَعدل وَمَا مِنْهُم إِلَّا من لَهُ نظمٌ مطبوع وَشعر مَصْنُوع وَمن لَهُ قصيدة وَله مَقْطُوع وَهَذَا مؤيد الدولة أعرقهم فِي الْحسب وأعرفهم فِي الْأَدَب وَكَانَت جرت لَهُ نبوة فِي أَيَّام الدمشقيين وسافر إِلَى مصر وَأقَام هُنَاكَ سِنِين فِي أَيَّام المصريين فتمت نوبَة قتل المنعوت بالظافر وَقتل عَبَّاس وزيرهم إخْوَته وَإِقَامَة المنعوت بالفائز وَمَا ردف ذَلِك من الهزاهز فَعَاد مؤيد الدوّلة إِلَى الشَّام وَسَار إِلَى حصن كيفا وتوطن وَلما سمع بِالْملكِ الصلاحيّ جَاءَ إِلَى دمشق وَذَلِكَ فِي سنة سبعين وَقَالَ (حمدت على طول عمري المشيبا ... وَإِن كنت أكثرت فِيهِ الذنوبا) (لِأَنِّي حييت إِلَى أَن لقِيت ... بعد الْعَدو صديقا حبيبا) قَالَ وَكنت أسمع بفضله وَأَنا بأصبهان فِي أَيَّام الشبيبة وأنشدني لَهُ مجد الْعَرَب العامري بأصفهان فِي سنة خمس وَأَرْبَعين هذَيْن الْبَيْتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وهما من مبتكرات مَعَانِيه فِي سنّ قلعهَا (وَصَاحب لَا أَملَّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي وَيسْعَى سَعي مُجْتَهد) (لم ألقه مُذْ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فُرقة الْأَبَد) قَالَ فَلَمَّا لَقيته بِدِمَشْق فِي سنة سبعين أنشدنيهما لنَفسِهِ مَعَ كثير من شعره المبتكر من جنسه قلت وَمن عَجِيب مَا اتّفق أَنِّي وجدت هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مَعَ بَيْتَيْنِ آخَرين الْمَجْمُوع أَرْبَعَة أَبْيَات فِي ديوَان أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير الأطرابلسي وَمَات ابْن مُنِير سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة قَرَأت فِي ديوانه وَقَالَ فِي الضرس (وَصَاحب لَا أمل الدَّهْر صحبته ... يشقي لنفعي وأجني ضره بيَدي) ثمَّ قَالَ (أدنى إِلَى الْقلب من سَمْعِي وَمن بَصرِي ... وَمن تلادي وَمن مَالِي وَمن وَلَدي) (أَخْلو ببثي من خَال بوجنته ... مداده زَائِد التَّقْصِير للمدد) لم أره مذ تصاحبنا الْبَيْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فالأشبه أَن ابْن مُنِير أخذهما وَزَاد عَلَيْهِمَا وَلِهَذَا غير فيهمَا كَلِمَات وَقد وجدت هَذَا الْبَيْت الأول على صُورَة أُخْرَى حَسَنَة (وَصَاحب نَاصح لي فِي معاملتي ... ) وَيجوز أَن يكون أُسَامَة أنشدهما متمثلاً فنسبا إِلَيْهِ لما كَانَ مَظَنَّة ذَلِك وَيجوز أَن يكون اتِّفَاقًا وَالله أعلم قَالَ الْعِمَاد وشاهدت وَلَده عضد الدّين أَبَا الفوارس مرهفا وَهُوَ جليس صَلَاح الدّين وأنيسه وَقد كتب ديوَان شعر أَبِيه لصلاح الدّين وَهُوَ لشغفه بِهِ يفضله على جَمِيع الدوّاوين وَلم يزل هَذَا الْأَمِير الْعَضُد مرهف مصاحباً لَهُ بِمصْر وَالشَّام وَإِلَى آخر عصره وتوطن بِمصْر فَلَمَّا جَاءَ مؤيد الدولة أَبوهُ أنزلهُ أرحب منزل وَأوردهُ أعذب منهل وَملكه من أَعمال المعرّة ضَيْعَة زعم أَنَّهَا كَانَت قَدِيما تجْرِي فِي أملاكه وَأَعْطَاهُ بِدِمَشْق دَارا وإدراراً وَإِذا كَانَ بِدِمَشْق جالسه وآنسه وذاكره فِي الْأَدَب ودارسه وَكَانَ ذَا رَأْي وتجربة وحنكة مهذبة فَهُوَ يستشيره فِي نوائيه ويستنير بِرَأْيهِ فِي غياهبه وَإِذا غَابَ عَنهُ فِي غَزَوَاته كَاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته ويستخرج رَأْيه فِي كشف مهماته وحلّ مشكلاته وَبلغ عمره ستّا وَتِسْعين سنة فَإِن مولده سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَتُوفِّي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 قلت وَقد تقدم من أخباره فِي قتل الْأسد فِي شبيبته أَيَّام كَونه بشيزر وَذكرت لَهُ أَيْضا تَرْجَمَة حَسَنَة فِي تَارِيخ دمشق فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر خرج من دمشق يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شهر ربيع الأول قَالَ الْعِمَاد وَلما استتمت للسُّلْطَان بِالشَّام أُمُور ممالكه وَأمن على مناهج أمره ومسالكه أزمع إِلَى مصر الإياب وَقد أَمْحَلت بعده من جوده جَود السَّحَاب وتقدمه الْأُمَرَاء والملوك وَخرج بكرَة يَوْم الْجُمُعَة وَنزل بمرج الصّفّر ثمَّ رَحل عَنهُ قبل الْعَصْر إِلَى قريب الصنمين وَخرجت مَعَه وقلبي نزوع إِلَى أَهلِي فَمَا نزلت منزلا إِلَّا نظمت أبياتاً فَقلت يَوْم الْمسير وَقد عبرت بالخيارة (أَقُول لِركبٍ بالخيارةٍ نُزَّل ... أثيروا فَمَا لي فِي الْمقَام خِيَار) (همُ رحلُوا عَنْك الْغَدَاة وَمَا دروا ... بِأَنَّهُم قد خلفوك وَسَارُوا) (حَلِيف اشتياق لَا ترى من تحبّه ... وَفِي الْقلب من نَار الغرام أوار) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 (أجيروا من الْبلوى فُؤَادِي فعندكم ... ذمام لَهُ يَا سادتي وَجوَار) وَقلت وَقد نزلنَا بالفقيع (رَأَيْتنِي بالفقيع مُنْفَردا ... أضيع من فقع قاعها الضائع) (بِعْت بِمصْر دمشق عَن غرر ... مني فيا غبن صَفْقَة البَائِع) (صبْري والقلبُ عاصيان وَمَا ... غير همومي وأدمعي طائع) وَقلت بالفوّار (تحّدر بالفوّار دمعي على الفوْر ... فَقلت لجيراني أجيروا من الْجور) (وأصعب مَا لاقيت أَنِّي قَانِع ... من الطيف مذ بنتم بزور من الزُّور) وَقلت بالزرقاء (ولمَ أنسَ بالزرقاء يَوْم وداعنا ... أنامل تدمى حيْرةً للتندم) (أعدتُك يَا زرقاء حمراءَ إِنَّنِي ... بكيتك حَتَّى شيب ماؤك بِالدَّمِ) (تَأَخّر قلبِي عِنْدهم مُتخلفا ... وخالفتهمُ فِي عزْمتي والتقدم) (فياليت شعري هَل أَعُود إِلَيْهِم ... وَهل لَيْت شعري نافعٌ للمتيم) قَالَ وَقلت وَقد عبرنا على مسالك قريبَة من قلعة الشوبك وفيهَا تخطف الفرنج القاصدين إِلَى مصر (طَرِيق مصر ضيّق المسْلك ... سالكه لَا شكّ فِي مهلك) (وَحب مصر صَار حبا لمن ... أوقعه فِي شَبكَ الشوبك) (لكنما من دونهَا كعبة ... محجوجة مبرورة المنسك) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 (بهَا صَلَاح الدّين يُشكى الَّذِي ... إِلَيْهِ من أَيَّامه يشتكى) قَالَ ونظمت فِي طَرِيق مصر قصيدة مشتمله على ذكر الْمنَازل بالترتيب وإيراد الْبعيد مِنْهَا والقريب وَاتفقَ أَن السُّلْطَان سير إِلَى مصر الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وَكَانَ لايستدعي من شاديه إِلَّا إنشادها فِي نَادِيه ويطرب لسماعها ويعجب بإبداعها وَكَانَ قد فَارق أَهله بِدِمَشْق كَمَا فَارَقت بهَا أَهلِي وَجمع الله بهم بعد ذَلِك شملي وَهِي (هجرتكم لَا عَن ملال وَلَا غدر ... وَلَكِن لمقْدُور أُتيح منَ الْأَمر) (وَأعلم أَنِّي مخطيء فِي فراقكم ... وعّذري فِي ذَنبي وذنبي فِي عُذْري) (أرى نُوباً للدّهر تُحصى وَلَا أرى ... أَشد من الهجران فِي نُوب الدَّهْر) (بعيني إِلَى لقيا سواكم غشاوةٌ ... وسمعي عنْ نجوْى سواكم لذُو وقر) (وقلبي وصبري فارقاني لبُعدكم ... فَلَا صَبر فِي قلبِي وَلَا قلب فِي صَدْرِي) (وَإِنِّي على الْعَهْد الَّذِي تعهدونه ... وسرّي لكم سرّي وجهري لكم جهري) (تجرعت صرف الهمّ من كأس شوقكم ... وَهَا أَنا فِي صحوي نزيف من السّكر) (وَإِن زَمَانا لَيْسَ يعْمر موْطني ... بسُكناكمُ فِيهِ فَلَيْسَ من الْعُمر) (وَأقسم لَو لم يقسم الْبَين بَيْننَا ... جوى الهمّ مَا أمسيت مقتسم الْفِكر) (أَسِير إِلَى مصر وقلبي أسيركمُ ... ومِنْ عجبٍ أسرِي وقَلبيَ فِي أسر) (أخلاي قد شط المزار فأرسلوا الخيال ... وزورُوا فِي الْكرَى واربحوا أجري) (تذكرت أحبابي بجلق بَعْدَمَا ... ترحلت والمشتاق يأنسُ بِالذكر) (وناديت صبري مستغيثا فَلم يجب ... فأسبلت دمعي للبكاء عَلَى صَبْري) (ولمّا قصدنا من دمشق غباغبا ... وبتنا من الشوق المُمِضِّ على الْجَمْر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 (نزلنَا بِرَأْس المَاء عِنْد وداعنا ... موارد من مَاء الدُّمُوع الَّتِي تجْرِي) (نزلنَا بصحراء الفقيع وغودرت ... فواقع من فيض المدامع فِي الْغدر) (ونهنهت بالفوّار فيض مدامعي ... فَفَاضَتْ وباحت بالمكتَّم من سرّي) (سرينا إِلَى الزَّرْقَاء مِنْهَا وَمن يصب ... أواماً يَسِرْ حَتَّى يرى الْوِرد أَو يسري) (تذكرت حمّام القُصير وَأَهله ... وَقد جزت بالحمام فِي الْبَلَد القفر) (وبالقريتين القرْيتَين وَأَيْنَ من ... مغاني الغواني منزل الْأدم والعفر) (وَرْدنا من الزَّيْتُون حسمي وأيلة ... وَلم نسترح حَتَّى صدرنا إِلَى صدر) (غشينا الغواشي وَهِي يابسة الثّرى ... بعيدَة عهد الْقطر بالعهد والقطر) (وضنّ علينا بالندى ثَمد الْحَصَى ... وَمن يرتجى ريَّاً من الثمد النّزْر) (فَقلت اشرحي بالخمس صَدرا مطيّتي ... بصدر وَإِلَّا جادك النّيل للعشر) (رَأينَا بهَا عيْن الْمُوَاسَاة إننا ... إِلَى عين مُوسَى نبذل الزّاد للسّفر) (وَمَا جسرت عَيْني على فيض عبرةٍ ... أكفكفها حَتَّى عبرنا على الجسر) (وملنا إِلَى الأَرْض السّدير وجنّة ... هُنَالك من طلحٍ نضيدٍ وَمن سدر) (وجبنا الفلا حَتَّى أصبْنَا مُبَارَكًا ... على بركَة الجبّ المبشر بِالْقصرِ) (ولمّا بدا الْفسْطَاط بشرت رفقتي ... بِمن يتلقي الْوَفْد بالوفر والبشر) (بَكت أمّ عَمْرو من وشيك ترَّحلي ... فيا خجلتي من أمّ عْمرو وَمِنَ عَمْرو) (تَقول إِلَى مصر تصير تعجبَّا ... وماذا الَّذِي تبغي ومنْ لَك فِي مصر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 (فَقلت ملاذي النَّاصِر الْملك الَّذِي ... حصلت بجدواه على الْملك والنصر) (فَقَالَت أقِم لَا تعدم الْخَيْر عندنَا ... فَقلت وَهل تغني السّواقي عَن الْبَحْر) (ثقي بِرُجُوع يضمن الله نجحه ... وَلَا تقنطي أَن يُبدل العُسر باليسر) (عطيَّته قد ضاعفت مُنَّة الرّجا ... ومنته قد أضعفت مُنَّة الشُّكْر) قَالَ وَكَانَ الدُّخُول إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم السبت سادس عشر ربيع الأول بالزي الأجمل والعزّ الْأَكْمَل وتلّقى السُّلْطَان أَخُوهُ ونائبه الْملك الْعَادِل سيف الدّين إِلَى صدر وَعبر إِلَيْنَا عِنْد بَحر القلزم الجسر وتلقانا خير مصر وجلبت إِلَيْنَا ثمراتها وجليت علينا زهراتها فَظهر بِنَا نشاطها وَزَاد اغتباطها وَدخل السُّلْطَان دَاره ووفق الله فِي جَمِيع الْأُمُور إِيرَاده وإصداره وَكَانَت قد صعبت عليّ مُفَارقَة دمشق وَأَهْلهَا لقلَّة الوثوق بِأَنِّي أحصل بِمِثْلِهَا فنظمت يَوْم خروجي مِنْهَا أبياتا إِلَى نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 شيركوه مِنْهَا (بمهجتي خنث الْعَطف ... مستلد الدّلال) (يَقُول لي بانكسارٍ ... ورقّةٍ واعتلال) (معاتباً بحديثٍ ... أصفى من السلسال) (مَا مصر مثل دمشقٍ ... بعتَ الْهدى بالضلال) (فَقلت عنّت أمورٌ ... عَجِيبَة الأشكال) (أسيرُ فِي طلب العزّ ... مثل سير الْهلَال) (لم يبلغ الْبَدْر لَوْلَا الْمسير ... أوجَ الْكَمَال) (وَكَيف أترك شغلي ... وَإنَّهُ رَأس مَالِي) (صَلَاح حَالي صَلَاح الدّين ... الغزير النّوال) (مَالِي أُفَارِق مَلْكاً ... ملكته آمالي) (يَا نَا صر الدّين قلبِي ... عَلَيْهِ فِي بلبال) ثمَّ ذكر الْعِمَاد الْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وسيّدهم الْمولى الْأَجَل الْفَاضِل وَقد مدحه بقصيدة مِنْهَا (كَيفَ لَا يغتدي لي الدَّهْر عبدا ... وَأَنا عبدُ عبِدْ عَبِدْ الرَّحِيم) (بدوام الْأَجَل سيدنَا الْفَاضِل ... يَا دولة الأفاضل دومي) (إِن آراءه تنوب لَدَى الْملك ... مناب الْأَرْوَاح عِنْد الجسوم) (مَالك الحلّ فِي الممالك وَالْعقد ... وَحكم التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم) (مُعْمِلٌ للنفاذ فِي كلّ قطر ... قَلما حَاكما على إقليم) (يتلَقَّى الملوكُ فِي كل أَرض ... كتبه القادمات بالتعظيم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 (ناحل الْجِسْم ذُو خطاب بِهِ يصغر ... للدهر كلُّ خطب جسيم) ثمَّ ذكر الْأَخَوَيْنِ تَقِيّ الدّين عمر وَعز الدّين فرخشاه وهما أبنا أخي السُّلْطَان وَهُوَ شاهنشاه بن أَيُّوب وَهَمَّام الدّين بزغش الشنباشي والى الْقَاهِرَة ومدح فرخشاه بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا (شادنٌ كالقضيب لدْن المهزه ... سلبت مقلتاه قلبِي بغمزه) (كلّما رُمْت وَصله رام هجري ... وَإِذا زدتُ ذلة زَاد عزه) (للصبا من عذاره نسج حُسن ... رقم الْمسك فِي الشقائق طرزه) (وعزيزٌ عليّ أَن اصْطِبَارِي ... فِيهِ قد عزه الغرام وبزه) (مَا رأى مَا رَأَيْت مجنونُ ليلى ... فِي هَوَاهُ وَلَا كثير عَزّه) (مَا ذكرنَا الْفسْطَاط إِلَّا نَسِينَا ... مَا رَأينَا بالنيربين والارزه) (فمها الجيزة الجوازي لَهَا الميزة ... حسنا على ظباء المزه) (ونصيري عَلَيْهِ نائل عز الدّين ... ذِي الْفضل خلّد الله عزه) (فرّغ الْكَنْز من ذخائر مالٍ ... مالئاً من نفائس الْحَمد كنزه) مِنْهَا (همةٌ مستهامة بالمعالي ... للدَِّنايا أبيّة مشمئزه) قَالَ الْعِمَاد وتوفرنا على الِاجْتِمَاع فِي المغاني لاستماع الأغاني والتنزه فِي الجزيرة والجيزة والأماكن العزيزة ومنازل الْعِزّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وَالرَّوْضَة وَدَار الْملك والنيل والمقياس ومراسي السفن ومجاري الْفلك والقصور بالقرافة وربوع الضِّيَافَة وَرِوَايَة الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والمباحثة فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة والمغاني الأدبية قَالَ واقترحنا على القَاضِي ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري أَن يفرجنا فِي الأهرام فقد كُنَّا شغفنا بأخبارها فِي الشَّام فَخرج بِنَا إِلَيْهَا ودرنا تِلْكَ البرابي والبراري والرمال والصحاري وأحمدنا المقارَّ والمقاري وهالنا أَبُو الهول وضاق فِي وَصفه مجَال القَوْل ورأينا الْعَجَائِب وروينا الغرائب واستصغرنا فِي جنب الهرمين كلَّ مَا استعظمناه وتداولنا الحَدِيث فِي الْهَرم وَمن بناه فَكل يَأْتِي فِي وصفهما بِمَا نَقله لَا بِمَا عقله واجتهدوا فِي الصعُود إِلَيْهِ فَلم يُوجد من توقله وحارت الْعُقُول فِي عقوده وطارت الأفكار عَن توهم حُدُوده فيا لَهُ من مَوْلُود للدهر قبل الطوفان انقرضت الْقُرُون الخالية على آبَائِهِ وجدوده وسمار الْأَخْبَار تذكر حَدِيث أَحْدَاث عَاده وثموده ويُدل إحكامه وعلّوه على همة بانيه فِي بأسه وجوده وَإِن فِي الأَرْض الهرمين كَمَا أَن فِي السَّمَاء الفرقدين وهما كالطودين الراسخين وكالجبلين الشامخين قد فنيت الدُّهور وهما باقيان وتقاصرت الْقُصُور وهما راقيان وكأنهما لأُمّ الأَرْض ثديان وعَلى ترائب التُّرَاب نهدان ولسلطان الْعَالم علمَان وَإِلَى مراقي الْأَمْلَاك سُلمان وهما لِليْل وَالنَّهَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 رقيبان ولرضوي ولشمام نسيبان وَمن زحل والمريخ قريبان ولعوادي الخطوب خطيبان ولثور الْفلك روقان ولشخص الكرة الترابية ساقان قلت ثمَّ ذكر الْعِمَاد جمَاعَة مِمَّن كَانَ يُقيم الضِّيَافَة لَهُ ولمثله من الْفُضَلَاء الْأَعْيَان فَذكر مِنْهُم الناصح مؤدب أَوْلَاد السُّلْطَان وَله دارٌ مشرفة على النّيل وَذكر مِنْهُم اللِّسَان الصُّوفِي الْبَلْخِي وَكَانَ لَهُ صُحْبَة قديمَة بِنَجْم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان وَله دارٌ أَيْضا على شاطىء النّيل برسم ضِيَافَة من نزل بِهِ قَالَ ثمَّ وقف السُّلْطَان دَاره على الصُّوفِيَّة من بعده وانتقل بعد سِنِين إِلَى النَّعيم وخُلده فصل فِي بيع الْكتب وَعمارَة القلعة والمدرسة والبيمارستان قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ لبيع الْكتب فِي الْقصر كلّ أُسْبُوع يَوْمَانِ وَهِي تبَاع بأرخص الْأَثْمَان وخزائنها فِي الْقصر مرتَّبة الْبيُوت مقسمة الرّفوف مفهرسة بِالْمَعْرُوفِ فَقيل للأمير بهاء الدّين قراقوش مُتَوَلِّي الْقصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 والحالّ والعاقد لِلْأَمْرِ هَذِه الْكتب قد عاث فِيهَا العث وتساوى سمينها والغث وَلَا غنى عَن تهويتها ونفضها وإخراجها من بيُوت الخزانة إِلَى أرْضهَا وَهُوَ تركي لاخبرة لَهُ بالكتب وَلَا دربة لَهُ بأسفار الْأَدَب وَكَانَ مَقْصُود دلالي الْكتب أَن يوكسوها ويخرموها ويعكسوها فأخرجت وَهِي أَكثر من مئة ألف من أماكنها وغُربت من مساكنها وخرّبت أوكارها وأذهبت أنوارها وشتت شملها وبتُ حبلها وَاخْتَلَطَ أدبيها بنجوميها وشرعيُّها بمنطقيها وطبيُّها بهندسيِّها وتواريخها بتفاسيرها ومجاهيلها بمشاهيرها وَكَانَ فِيهَا من الْكتب الْكِبَار وتواريخ الْأَمْصَار ومصنفات الْأَخْبَار مَا يشْتَمل كل كتاب على خمسين أَو سِتِّينَ جُزْءا مجلدا إِذا فقد مِنْهَا جُزْء لَا يخلف أبدا فاختلطت واختبطت فَكَانَ الدَّلال يخرج عشرَة عشرَة من كل فن كتبا مبترة فتسام بالدون وتباع بالهُون والدلال يعرف كلّ شدَّة وَمَا فِيهَا من عدَّة وَيعلم أَن عِنْده من أجناسها وأنواعها وَقد شَارك غَيره فِي ابتياعها حَتَّى إِذا لفق كتابا قد تقوم عَلَيْهِ بِعشْرَة بَاعه بعد ذَلِك لنَفسِهِ بمئة قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت الْأَمر حضرت الْقصر واشتريت كَمَا أشتروا ومريت الْأَطِبَّاء كَمَا مروا واستكثرت من الْمَتَاع الْمُبْتَاع وحويت نفائس الْأَنْوَاع وَلما عرف السُّلْطَان مَا ابتعته وَكَانَ بمئين أنعم عليَّ بهَا وَأَبْرَأ ذمَّتى من ذهبها ثمَّ وهب لي أَيْضا من خزانَة الْقصر مَا عينت عَلَيْهِ من كتبهَا وَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا وَبَين يَدَيْهِ مجلدات كَثِيرَة انتقيت لَهُ من الْقصر وَهُوَ ينظر فِي بَعْضهَا وَبسط يَدي لقبضها وَقَالَ كنت طلبت كتبا عينتها فَهَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 فِي هَذِه مِنْهَا شَيْء فَقلت كلهَا وَمَا أستغنى عَنْهَا فأخرجتها من عِنْده بحمال وَكَانَ هَذَا مِنْهُ بِالْإِضَافَة إِلَى سماحه أقل نوال قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان لما تملك مصر رأى أَن مصر والقاهرة لكلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا سور لَا يمْنَعهَا فَقَالَ إِن أفردت كلّ وَاحِدَة بسور احْتَاجَت إِلَى جند مُفْرد يحميها وَإِنِّي أرى أَن أدير عَلَيْهِمَا سورا وَاحِدًا من الشاطىء إِلَى الشاطىء فَأمر بِبِنَاء قلعة فِي الْوسط عِنْد مَسْجِد سعد الدولة على جبل المقطم فابتدأ من ظَاهر الْقَاهِرَة ببرج فِي الْمقسم وانْتهى بِهِ إِلَى أَعلَى مصر ببروج وَصلهَا بالبرج الْأَعْظَم وَوجدت فِي عهد السُّلْطَان ثبتا رَفعه النواب وتكمل فِيهِ الْحساب ومبلغه وَهُوَ دائر البلدين مصر والقاهرة بِمَا فِيهِ من سَاحل الْبَحْر والقلعة بِالْجَبَلِ تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَثَلَاث مئة وذراعان من ذَلِك مَا بَين قلعة الْمقسم على شاطىء النّيل والبرج بالكوم الْأَحْمَر بساحل مصر عشرَة آلَاف وَخمْس مئة ذِرَاع وَمن القلعة بالمقسم إِلَى حَائِط القلعة بِالْجَبَلِ بِمَسْجِد سعد الدولة ثَمَانِيَة آلَاف وَثَلَاث مئة وَاثْنَانِ وَتسْعُونَ ذِرَاعا وَمن جَانب حَائِط القلعة من جِهَة مَسْجِد سعد الدولة إِلَى البرج بالكوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 الْأَحْمَر سبع آلَاف ومئتا ذِرَاع ودائر القلعة بجبل مَسْجِد سعد الدولة ثَلَاثَة آلَاف ومئتان وَعشرَة أَذْرع وَذَلِكَ طول قوسه فِي أبدانه وأبراجه من النّيل إِلَى النّيل على التَّحْقِيق وَالتَّعْدِيل وَذَلِكَ بالذراع الْهَاشِمِي بتولي الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الْأَسدي وَبنى القلعة على الْجَبَل وَأَعْطَاهَا حَقّهَا من إحكام الْعَمَل وَقطع الخَنْدَق وتعميقه وحفر واديه وتضييق طَرِيقه وَهُنَاكَ مَسَاجِد يعرف أَحدهَا بِمَسْجِد سعد الدولة فاشتملت القلعة عَلَيْهَا وَدخلت فِي الْجُمْلَة وحفر فِي رَأس الْجَبَل بِئْرا ينزل فِيهَا بالدرج المنحوتة من الْجَبَل إِلَى المَاء الْمعِين وَلم يتأت لَهُ هَذَا كُله فِي سِنِين مُتَقَارِبَة لَوْلَا أَعَانَهُ ربُّه المعُين وَتُوفِّي السُّلْطَان وَقد بَقِي من السُّور مَوَاضِع والعمارة فِيهِ مستمرة ووظائف نفقاتها مستدرة قَالَ وَأمر بِبِنَاء الْمدرسَة بالتربة المقدسة الشَّافِعِيَّة ورتب قواعدها بفرط الألمعية وتولاها الْفَقِيه الزَّاهِد نجم الدّين الخبوشاني وَهُوَ الشَّيْخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 الصَّالح الْفَقِيه الْوَرع النقي التقي قَالَ وَأمر باتخاذ دَار فِي الْقصر بيمارستانا للمرضى واستغفر الله تَعَالَى بذلك واسترضى ووقف على البيمارستان والمدرسة وقوفاً وَقد أبطل مُنْكرا وأشاع مَعْرُوفا وأضرب عَن ضَرَائِب فمحاها وهبّ إِلَى مواهب فأسداها واهتم بفرائض ونوافل فأداها فصل فِي خُرُوج السُّلْطَان إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَغير ذَلِك من بواقي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد ثمَّ خرج من الْقَاهِرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان واستصحب ولديه الْأَفْضَل عليَّاً والعزيز عُثْمَان وَجعل طَرِيقه على دمياط وَرَأى فِي الْحُضُور بالثغر الْمَذْكُور ومشاهدته الِاحْتِيَاط وَكَانَ لَهُ بهَا سبيّ كثير جلبه الأسطول فمتد بِظَاهِر الْبَلَد يَوْمَيْنِ ووهب لي مِنْهُ جَارِيَة ثمَّ وصلنا إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة وترددنا مَعَ السُّلْطَان إِلَى الشَّيْخ الْحَافِظ أبي طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد السلَفِي وداومنا الْحُضُور عِنْده واجتلينا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وَجهه نور الايمان وسعده وَسَمعنَا عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام الْخَمِيس وَالْجُمُعَة والسبت رَابِع شهر رَمَضَان واغتنمنا الزَّمَان فَتلك الْأَيَّام الثَّلَاثَة هِيَ الَّتِي حسبناها من الْعُمر فَهِيَ آخر مَا اجْتَمَعنَا بِهِ فِي ذَلِك الثغر وشاهدنا مَا استجده السُّلْطَان من السُّور الدائر وَمَا أبقاه من حسن الْآثَار والمآثر وَمَا انْصَرف حَتَّى أَمر بإتمام الثغور وتعمير الأسطول قَالَ ابْن أبي طيّ وَلما نوى السُّلطان الْمقَام بالإسكندرية ليصوم فِيهَا رأى انه لَا يخلي نَفسه من ثَوَاب يقوم لَهُ مقَام الْقَصْد إِلَى بِلَاد الْكفَّار وَالْجهَاد فِي الْمُشْركين فَرَأى الأسطول وَقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته فَأمر بتعمير الأسطول وَجمع لَهُ من الأخشاب والصَّناع أَشْيَاء كَثِيرَة وَلما تمَّ عملُ المراكب أَمر بِحمْل الآلآت فَنقل من السِّلَاح وَالْعدَد مَا يحْتَاج الأسطول إِلَيْهِ وشحنه بِالرِّجَالِ وولىّ فِيهِ أحد أَصْحَابه وأفرد لَهُ إقطاعا مَخْصُوصًا وديوانا مُنْفَردا وَكتب إِلَى سَائِر الْبِلَاد المصرية بِقبُول قَول صَاحب الأسطول وَأَن لَا يمْنَع من أَخذ رِجَاله وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأمر صَاحب الأسطول أَن لَا يبارح الْبَحْر ويغزي إِلَى جزائر الْبَحْر قَالَ الْعِمَاد وَقلت فِي معنى تنقلي فِي الْبِلَاد (يَوْمًا بجي وَيَوْما فِي دمشق وبالفسطاط ... يَوْمًا وَيَوْما بالعراقين) (كَأَن جسمي وقلبي الصبّ مَا خلقا ... إِلَّا ليُقتسما بالشوق والبين) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وَقلت يَوْم الْخُرُوج من الْقَاهِرَة (يَا باخلاً عِنْد الْوَدَاع بوقفة ... لَو سامني روحي بهَا لم أبخل) (مَا كَانَ ضرك لَو وقفت لسائل ... ترك الْفُؤَاد بدائه فِي الْمنزل) (هلاّ وقفت لقلب من أحرقته ... مِقْدَار إطفار الْحَرِيق المشعل) (إِن أسر مرتحلا فَفِي أسر الْهوى ... قلبِي لديك مُقَيّدا لم يرحل) (عذب الْعَذَاب لَدَى فُؤَادِي الْمُبْتَلى ... إِذْ كنت أَنْت معذبي والمبتلي) وَقلت وَقد نزلنَا بَين منية غمر ومنية سمنود (نزلت بِأَرْض المنيتين ومنيتي ... لقاؤكم الشافي ووصلكم المجدي) (سأبلى وَلَا تبلى سريرة ودكم ... وتؤنسني إِن مت فِي وَحْشَة اللَّحْد) قَالَ وعدنا من الْإسْكَنْدَريَّة فِي شهر رَمَضَان فصمنا بَقِيَّة الشَّهْر بِالْقَاهِرَةِ وَالسُّلْطَان متوفر فِي ليله ونهاره على نشر الْعدْل وإنشاره وإفاضة الْجُود واغزاره وَسَمَاع أَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخباره وإشاعة الْعلم والإعلان بأسراره وإبداء شعار الشَّرْع وإظهاره وإبقاء الْمَعْرُوف على قراره وإعدام الْبَاطِل وإنكاره وَقَالَ وَمن مدائحي فِي السُّلْطَان مَا أنشدته إِيَّاه سادس شَوَّال (فديتك من ظَالِم منصف ... وناهيك من باخل مُسْرِف) وَمِنْهَا (أيبلغ دهري قصدي وَقد ... قصدت بِمصْر ذرا يُوسُف) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 (ويوسف مصر بِغَيْر التقى ... وبذل الصَّنَائِع لم يُوصف) (فسر وَافْتَحْ الْقُدس واسفك بِهِ ... دِمَاء مَتى تجرها ينظف) (واهد إِلَى الإسبتار التبار ... وهدّ السقوف على الأسقف) (وخلّص من الْكفْر تِلْكَ الْبِلَاد ... يخلصك الله فِي الْموقف) قَالَ وفيهَا وصل رُسُل المواصلة وصاحبي الْحصن وماردين إِلَى دمشق فاستوثقوا بتحليف أخي السُّلْطَان شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب ثمَّ قصدُوا مصر وَوَقع رَسُول صَاحب حصن كيفا فِي الْأسر قَالَ ابْن أبي طيّ وصل رَسُول الْموصل القَاضِي عماد الدّين بن كَمَال الدّين بن الشهرزوري بهدية وقود فَخرج الموكب إِلَى لِقَائِه وأكرمه السُّلْطَان واحترمه وَقدم بعده رَسُول نور الدّين قرا أرسلان وَرَسُول صَاحب ماردين بِهَدَايَا واجتمعوا فِي دمشق وَخَرجُوا إِلَى السُّلْطَان بِمصْر فاعترضهم الفرنج فَأسر رَسُول صَاحب الْحصن وَلم يزل فِي الْأسر حَتَّى فتح السُّلْطَان بَيت الأحزان فَأَطْلقهُ وَأحسن إِلَيْهِ قَالَ وفيهَا رَجَعَ قراقوش إِلَى أوجلة وَتلك الْبِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 فَجمع أَمْوَالًا وَرجع إِلَى مصر ثمَّ أَرَادَ الرُّجُوع فَمَنعه الْعَادِل ثمَّ خلصه فرخشاه فَرجع وَفتح بِلَاد فزّان بأسرها قَالَ الْعِمَاد ثمَّ خرج السُّلْطَان إِلَى موج فاقوس من اعمال مصر الشرقية لإرهاب العدوّ وَهُوَ يركب للصَّيْد والقنص والتطلع إِلَى أَخْبَار الفرنج لانتهاز الفرص واقترح عليّ أَن أمدح عز الدّين فرخشاه بقصيدة موسومة ألزم فِيهَا الشين قبل الْهَاء فَعمِلت ذَلِك فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة فَقلت (مولَايَ عزَّ الدّين فرخشه ... الدَّهْر من يرجك لَا يخشه) (تَلقاهُ سمح الْكَفّ دفاقها ... طلق المحيَّا كرماً بشه) (إِن شِئْت فوتاً بالرّدى فالقه ... أَو شِئْت فوزاً بالعلا فاغشه) (يديم بِالْأَيْدِي وبالأيد فِي ... حَرْبِيّ لهاه والعدى بطشه) (كم ملكٍ عاداكم لم يبت ... إِلَّا جعلتم عَرْشه نعشه) (خوفتم الشّرك فَلَا قمصه ... أمنتم يَوْمًا وَلَا فنشه) (أورثك السؤدد يَا ابْن الْعلَا ... والدك السَّيِّد شاهنشه) وَقَالَ فِي الخريدة كُنَّا مخيمين بمرج فاقوس مصممين على الْغُزَاة إِلَى غَزَّة وَقد وصلت أساطيل ثغرى دمياط والإسكندرية بسبي الْكفَّار وَقد أوفت على ألف رَأس عدَّة من وصل فِي قيد الأسار فَحَضَرَ ابْن رَوَاحَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 منشداً مهنئاً بعيد النَّحْر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ومعرضا بِمَا وهبه الْملك النَّاصِر من الْإِمَاء وَالْعَبِيد بقصيدة مِنْهَا (لقد خبر التجارب مِنْهُ حزم ... وقلبّ دهره ظهرا لبطن) (فساق إِلَى الفرنج الْخَيل برا ... وأدركهم على بَحر بسفن) (لقد جلب الْجَوَارِي بالجواري ... يمدن بِكُل قدٍ مرجحن) (يزيدهم اجْتِمَاع الشمل بؤسا ... فَمر نان تنوح على مرن) (زهت إسكندرية يَوْم سيقوا ... ودمياط فَمَا منيا بِغَبن) (يرَوْنَ خياله كالطيف يسري ... فَلَو هجعوا أَتَاهُم بعد وَهن) (أبادهم تخوفه فأمسى ... مُنَاهُمْ لَو يبيتهم بأمن) (تملك حَولهمْ شرقا وغربا ... فصاروا لاقتناص تَحت رهن) قَالَ الْعِمَاد يُشِير إِلَى أَنه مَالك الشَّام ومصر والفرنج بَينهمَا (أَقَامَ بآل أَيُّوب رِبَاطًا ... رَأَتْ مِنْهُ الفرنج مضيق سجن) (رجا أقْصَى الْمُلُوك السّلم مِنْهُم ... وَلم ير جهده فِي الْبَأْس يُغني) وَفِي هَذِه السّنة أبطل السُّلْطَان المكس الَّذِي كَانَ بِمَكَّة على الْحَاج وَسَيَأْتِي ذكره فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين قَالَ أبن الْأَثِير وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين شرع مُجَاهِد الدّين يعْنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 قايماز دزدار قلعة الْموصل فِي عمَارَة جَامعه بِظَاهِر الْموصل بِبَاب الجسر وَهُوَ من أحسن الْجَوَامِع ثمَّ بني بعد ذَلِك الرِّبَاط والمدرسة والبيمارستان وَكلهَا متجاورات قَالَ وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول من سنة خمس وَتِسْعين بقلعة الْموصل وَهُوَ متوليها وَالْحَاكِم فِي الدولة الأتابكية النورية وَكَانَ ابْتِدَاء ولَايَته القلعة فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين ثمَّ قبض عَلَيْهِ سنة تسع وَثَمَانِينَ وأعيد إِلَى ولايتها بعد الإفراج عَنهُ وَبَقِي إِلَى الْآن وَكَانَ أَصله من أَعمال شبختان وَأخذ مِنْهَا وَهُوَ طِفْل وَكَانَ عَاقِلا خيّرا دينا فَاضلا يعلم الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ ويحفظ من الْأَشْعَار والحكايات والنوادر والتواريخ شَيْئا كثيرا إِلَى غير ذَلِك من المعارف الْحَسَنَة وَكَانَ يكثر الصَّوْم وَله ورد يصليه كل لَيْلَة وَيكثر الصَّدَقَة وَبنى عدَّة جَوَامِع مِنْهَا الَّذِي بِظَاهِر الْموصل وَبنى عدَّة خانقاهات مِنْهَا الَّتِي بالموصل ومدارس وقناطر على الْأَنْهَار إِلَى غير ذَلِك من الْمصَالح ومناقبه كَثِيرَة قَالَ الْعِمَاد فِي الخريدة نزلنَا ببركة الْجب لقصد فرض الْجِهَاد وَعرض الأجناد فَكتب الأسعد بن مماتي إِلَيّ أبياتا فِي الْملك النَّاصِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 ويعرض بالشطرنج فَإِنَّهُ يشْتَغل بِهِ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين (يَا كريم الخيم فِي الخيم ... أهيف كالريم ذُو شمم) (عجبي للشمس إِذْ طلعت ... مِنْهُ فِي داج من الظُّلم) (كَيفَ لَا تصمي لواحظه ... ورماة الطّرف فِي الْعَجم) (لَا تصد قلب الْمُحب لكم ... لَا يحل الصَّيْد فِي الْحرم) (يَا صَلَاح الدّين يَا ملكا ... قد براه الله للأمم) (أضحت الْكفَّار فِي نقم ... وَغدا الْإِسْلَام فِي نعم) (إِن يَك الشطرنج مشغلة ... لعليّ الْقدر والهمم) (فَهِيَ فِي ناديك تذكرة ... لأمور الْحَرْب وَالْكَرم) (فلكم ضاعفت عدتهَا ... بالعطاء الجم لَا الْقَلَم) (ونصبت الْحَرْب نصبتها ... فانثنت كَفاك بالقمم) (فابق للأقدار ترفعها ... وَأمر الأقدار كالخدم) وفيهَا توفّي بالإسكندرية القَاضِي الشريف أَبُو مُحَمَّد عبد الله العثماني الديباجي من ولد الديباج مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنْهُم وَيعرف بِابْن أبي إلْيَاس من بَيت الْقَضَاء وَالْعلم وَكَانَ وَاسع الباع فِي علم الْأَحَادِيث كثير الرِّوَايَة قيمًا بالأدب متصرفا فِي النّظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 والنثر إِلَّا أَنه مقلّ من النّظم أوحد عصره فِي علم الشُّرُوط وَقَوله هُوَ المقبول على كل الْعُدُول ذكر ذَلِك الْعِمَاد رَحمَه الله فِي الخريدة ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين [ل / 243 / ب] وَخمْس مئة وَالسُّلْطَان مخيم بمرج فاقوس فنظم الْعِمَاد فِي الْأَجَل الْفَاضِل قصيدة ميمية فِي منتصف الْمحرم وخدمه بهَا هُنَاكَ فِي المخيم أَولهَا (ريم هضيم يروم هضمي ... من سقم عَيْنَيْهِ عين سقمي) (ان رمت يَا عاذلي صلاحي ... فخلني والهوى وزعمي) (لومك يذكي الغرام قل لي ... أَنْت نصيحي أم أَنْت خصمي) (أيا زماني الغشوم اقصر ... انك لَا تَسْتَطِيع غشمي) (عبد الرَّحِيم الرَّحِيم اضحى ... عوني على خَطبك الملم) (بالفاضل الافضل الاجل ... الْمفضل الاشرف الاشم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 (غيث غياث وجود جود ... وبحر علم وطود حلم) (يراعه فِي الْيَمين مِنْهُ ... يسْتَخْرج الدّرّ من خضم) قَالَ وَكَانَ عندنَا بالمخيم بالعباسة فِي الْمحرم علم الدّين الشاتاني وَهُوَ من أدباء الْموصل وشعرائها وفصحائها وظرفائها وَفد سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين إِلَى مصر وَأهْدى النّظم والنثر واصطعنه عز الدّين فرخشاه وانزله فِي جواره وَجمع لَهُ من رفده وَمن الامراء الف دِينَار فمدح السُّلْطَان بالمخيم بِكَلِمَة مطْلعهَا (غَدا النَّصْر معقودا برايتك الصفرا ... فسر وَافْتَحْ الدُّنْيَا فَأَنت بهَا احرى) قلت لم يذكر الْعِمَاد من هَذِه القصيدة غير هَذَا الْبَيْت وانه لقائم مقَام قصائد كَثِيرَة والشاتاني هُوَ ابو على الْحسن بن سعيد لَهُ تَرْجَمَة فِي تَارِيخ دمشق وَذكره الْعِمَاد فِي الخريدة وَذكر فِيهَا من هَذِه القصيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 (يَمِينك فِيهَا اليُمن واليُسر فِي اليُسرى ... فبُشرى لمن يَرْجُو النّدى مِنْهُمَا بُشرى) قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت الْأَعْلَام السُّلْطَانِيَّة صفرا لَا يُفَارق نشرها نصرا قلت وفيهَا يَقُول بعض الْفُضَلَاء (إِذا اسود خطب دونه الْمَوْت أَحْمَر ... أَتَت بالأيادي الْبيض أَعْلَامه الصفر) (فمذ ظَهرت مَنْصُوبَة جزمت بهَا ... ظُهُور العدى من رَفعهَا انخفض الْكفْر) (وَلم لَا يحوز الأَرْض شرقاً ومغربا ... وَللَّه فِي إعلاءِ رتْبته سر) وَقَالَ الْعِمَاد وَعَاد السُّلْطَان إِلَى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا ثمَّ اهتمت بالغزاة همتّه إِلَى غَزَّة وعسقلان فَخرج يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث جُمَادَى الأولى بعد الصَّلَاة وخيم بِظَاهِر بلبيس فِي خامسه بخميسه ثمَّ تقدمنا مِنْهُ إِلَى السدير وخيمنا بالمبرز ثمَّ نُودي خُذُوا زَاد عشرَة أَيَّام أُخْرَى زِيَادَة للاستظهار ولإعواز ذَلِك عِنْد توَسط ديار الْكفَّار قَالَ الْعِمَاد فركبت إِلَى سوق الْعَسْكَر للابتياع وَقد أَخذ السّعر فِي الِارْتفَاع فَقلت لغلامي قد بدا لي وَقد خطر الرّجوع من الْخطر ببالي فاعرض للْبيع أجمالي وأثقالي وانتهز فرْصَة هَذَا السّعر الغالي وَأَنا صَاحب قلم لَا صَاحب علم وَقد استشعرت نَفسِي فِي هَذِه الْغَزْوَة من عَاقِبَة نَدم والمدى بعيد والخطب شَدِيد وَهَذِه نوبَة السيوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 لَا نوبَة الأقلام وَفِي سلامتنا سَلامَة الْإِسْلَام وَالْوَاجِب على كل منا أَن يلْزم شغله وَلَا يتَعَدَّى حَده وَلَا يتَجَاوَز مَحَله لَا سِيمَا ونواب الدّيوان قد اسْتَأْذنُوا فِي العودة وأظهروا قلّة العِدّة وأظهرت سرّي للْمولى الْأَجَل الْفَاضِل فسره إشفاقاً عليّ وإحساناً إلىّ وَكَانَ السّلطان أَيْضا يُؤثر إيثاري ويختار اخْتِيَاري فَقَالَ لي أَنْت مَعنا أَو عزمت أَن تدعنا وَلَا تتبعنا فَقلت الْأَمر للْمولى وَمَا يختاره لي فَهُوَ أولى فَقَالَ تعّود وَتَدْعُو لنا وتسأل الله أَن يبلغنَا فِي النَّصْر سؤلنا وَكنت قد كثبت أبياتا إِلَى المخدوم الْفَاضِل وَنحن بالمبرز فِي الْعشْرين من الشَّهْر (قيَل فِي مصر نائلٌ عدد الرمل ... ووفرْ كنيلها الموفور) (فاغتررنا بهَا وسرّنا إِلَيْهَا ... ووقعنا كَمَا ترى فِي الْغرُور) (وحظينا بالرّمل والسيّر فِيهِ ... ومنعنا من نيلها الميسور) (وبرزنا إِلَى المبرز نشكو ... سدرا من نزولنا بالسدير) (قيل لي سِر إِلَى الْجِهَاد وماذا ... بالغٌ فِي الْجِهَاد جهدُ مسيري) (لَيْسَ يقوى فِي الْجَيْش جأشي وَلَا قوسي ... يرى موترا إِلَى موتور) (أَنا للكتب لَا الْكَتَائِب إقدامي ... وللصُّحف لَا الصفاح حضوري) (كَاد فضلي يضيع لَوْلَا اهتمام الْفَاضِل ... الفائض النّدى بأموري) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 (فَأَنا مِنْهُ فِي ملابس جاهٍ ... رافلاً مِنْهُ فِي حبير حبور) (فَهُوَ رقيّ من الحضيض حظوظي ... وسما بِي إِلَى سَرِير السُّرور) وَقَالَ وَمَا انْقَطَعت عَن السُّلْطَان فِي غَزَوَاته إِلَّا فِي هَذِه الْغَزْوَة وَقد عصم الله فِيهَا من النُّبُوَّة وَكَانَت غزوات السُّلْطَان بعْدهَا مؤيدة والسّعادات فِيهَا مجددة وَكنت لما فَارَقت الْقَاهِرَة استوحشت وتشوقت إِلَى أصدقائي وتشوشت وكتبت من المخيم ببلبيس إِلَى القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الفرّاش وَقد أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ صاحباً لي من الْأَيَّام النورية واستشرته فِي التَّأَخُّر عَن السُّلْطَان فَكتب فِي الْجَواب رافقه ولاتفارقه فَكرِهت رَأْيه فَكتبت إِلَيْهِ (إِذا رَضِيتُمْ بمكروهي فَذَاك رضَا ... لَا أَبْتَغِي غير مَا تبغون لي غَرضا) (وَإِن رَأَيْتُمْ شِفَاء الْقلب فِي مرضِي ... فإنني مُستطيبٌ ذَلِك المرضا) (أَنْتُم أشرتم بتعذيبي فصرت لَهُ ... مُسْتعذباً أستلذ الْهم والمضضا) (أَصبَحت ممتعضا من أجل أَنِّي لَا ... أرى صديقا لما أَلْقَاهُ ممتعضا) (إِن رمتم عوضا بِي فِي محبتكم ... فحاش لله أَن أبغى بكم عوضا) (لله عيشٌ تقضَّى عنْدكُمْ وَمضى ... وَكَانَ مثل سحابٍ برْقهُ ومضا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 (الْعَيْش دَان جناه الغضّ عنْدكُمْ ... والقلبُ محترقُ مني بجمر غضا) (مَا كنت أَعهد مِنْكُم ذَا الْجفَاء وَلَا ... حسبت أنّ ودادي عنْدكُمْ رُفضا) (قد أظلم الْأُفق فِي عَيْني لغيبتكم ... فَإِن أَذِنت لشخصي فِي الْحُضُور أضا) (وَلست أول صبّ من أحبتَّه ... لمَّا جفوا مَا قضى أوطاره وَقضى) (مُروا بِمَا شِئْتُم من محنة وأذىً ... فقد رَأَيْت امْتِثَال الْأَمر مفترضا) (طُوبَى لكم مصرُ والدارّ الَّتِي قضيت ... فِيهَا المآرب والعيش الَّذِي خُفضا) (بعيشكم إِن خلوتم بانبساطكم ... تَذكرُوا ضجراً بالعيش منقبضا) (رَضِيتُمْ سَفَرِي عَنْكُم وأعهدكم ... بسفرتي عَنْكُم لَا تظْهرُونَ رضَا) (هلا تكلَّفتم قولا أُسرُّ بِهِ ... هَيْهَات جوهركم قد عَاد لي عرضا) (تفضلوا واشرحوا صَدْرِي بقربكم ... أَو فاشرحوا لي ذَا الْمَعْنى الذَّي غمضا) فَكتب إليَّ فِي جوابها أبياتاً مِنْهَا (لَا تنسبوني إِلَى إِيثَار بعدكم ... فلست أرْضى إِذا فارقتكم عوضا) (ولي ودادٌ تولَّى الصّدق عقدته ... فَمَا ترَاهُ على الْأَيَّام منتقضا) (يلقاك قلبِي على سبل العتاب لَهُ ... بِصِحَّة لَيْسَ يخْشَى بعْدهَا مَرضا) (وصرت كالدَّهر يجنى أَهله أسفا ... ويلتقي من عتاب المذنب المضضا) قَالَ ثمّ ودّعت وعُدْت ونهضوا وَقَعَدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 فصل فِي نوبَة كسرة الرَّملة وَكَانَت على الْمُسلمين بِالْجُمْلَةِ وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة أَو ثَانِيَة ورحل السُّلْطَان بعساكره فَنزل على عسقلان يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى فسبى وسلب وغنم وَغلب وَأسر وقسر وَكسب وَكسر وَجمع هُنَاكَ من كَانَ مَعَه من الأسرى فَضرب أَعْنَاقهم وتفرَّق عسكره فِي الْأَعْمَال مغيرين ومبيدين فَلَمَّا رَأَوْا أَن الفرنج خامدون استرسلوا وانبسطوا وتوَّسط السُّلطان الْبِلَاد واستقل يَوْم الْجُمُعَة مستهلّ جُمَادَى الْآخِرَة بالرّملة راحلاً ليقصد بعض المعاقل فاعترضه نهرٌ عَلَيْهِ تلّ الصافية فازدحمت على العبور أثقال العساكر المتوافية فَمَا شعروا إِلَّا بالفرنج طالبةً بأطلابها حازبةً بأحزابها ذابَّةً بذئابها عاويةً بكلابها وَقد نفر نفيرهم وَزفر زفيرهم وسرايا الْمُسلمين فِي الضّيَاع مُغيرَة ولرِحا الْحَرْب عَلَيْهِم فِي دُورهمْ مديرة فَوقف الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وتلقاهم بصدره وباشرهم ببيضه وسُمره فاستشهد من أَصْحَابه عدَّة من الْكِرَام انتقلوا إِلَى نعيم دَار الْمقَام وَهلك من الفرنج أضعافها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَكَانَ لتقي الدّين ولدٌ يُقَال لَهُ أَحْمد أول مَا طر شَاربه فاستشهد بَعْدَمَا أردى فَارِسًا قَالَ وَكَانَ لتقي الدّين أَيْضا ولد آخر اسْمه شاهنشاه وَقع فِي أسر الفرنج وَذَلِكَ أَن بعض مستأمني الفرنج بِدِمَشْق خدعه وَقَالَ لَهُ تَجِيء إِلَى الْملك وَهُوَ يعطيك الْملك وزور لَهُ كتابا فسكن إِلَى صدقه وَخرج مَعَه فَلَمَّا تفرد بِهِ شدّ وثَاقه وغلّه وقيَّده وَحمله إِلَى الداوية وَأخذ بِهِ مَالا وجدد عِنْدهم لَهُ حَالا وجمالا وَبَقِي فِي الْأسر أَكثر من سبع سِنِين حَتَّى فكّه السُّلْطَان بِمَال كثير وَأطلق للداوّية كلّ من كَانَ لَهُم عِنْده من أَسِير فغلط الْقلب التقوّى على ذَلِك الْوَلَد جرّ هَلَاك أَخِيه وَلما عَاد من الْغَزْوَة زرناه للتعزية فِيهِ قَالَ وَلَو أَن لتقي الدّين ردْءًا لأردى الْقَوْم لَكِن النّاس تفَرقُوا وَرَاء أثقالهم ثمَّ نَجوا برحالهم وصوّب العدوّ بجملتهم حملتهم على السُّلْطَان فَثَبت ووقف على تقدمه من تخلف وسمعته يَوْمًا يصف تِلْكَ النّوبَة ويشكر من جماعته الصُّحْبَة وَيَقُول رَأَيْت فَارِسًا يحثّ نحوي حصانه وَقد صوّب إِلَى نحري سنانه فكاد يبلغنِي طعانه وَمَعَهُ آخرَانِ قد جعلا شَأْنهمَا شانه فَرَأَيْت ثَلَاثَة من أَصْحَابِي خرج كلّ وَاحِد إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم فبادروه وطعنوه وَقد تمكن من قربي فَمَا مكَّنوه وهم إِبْرَاهِيم بن قنابر وَفضل الفيضي وسُويد بن غشم الْمصْرِيّ وَكَانُوا فرسَان الْعَسْكَر وشجعان المعشر وأتفق لسعادة السُّلْطَان أنّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رافقوه وَمَا فارقوه وقارعوا العدوّ دونه وضايقوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 فَمَا زَالَ السُّلْطَان يسير وَيقف حَتَّى لم يبْق من ظنّ أَنه يتَخَلَّف وَدخل اللَّيْل وسلك الرمل وَلَا مَاء وَلَا دَلِيل وَلَا كثير من الزَّاد والعلف وَلَا قَلِيل وتعسفوا السلوك فِي تِلْكَ الرمال والأوعاث والأوعار وبقوا أَيَّامًا وليالي بِغَيْر مَاء وَلَا زَاد حَتَّى وصلوا إِلَى الديار وَأذن ذَلِك بِتَلف الدّواب وترجل الركاب ولُغوب الْأَصْحَاب وفقد كثير مِمَّن لم يعرف لَهُ خبر وَلم يظْهر لَهُ أثر وفقد الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى وَأَخُوهُ الظهير وَمن كَانَ فِي صُحبتهم فضّل الطَّرِيق عَنْهُم وَكَانُوا سائرين إِلَى وَرَاء فَأَصْبحُوا بِقرب الْأَعْدَاء فأكمنوا فِي مغارة وَانْتَظرُوا من يدلهم من بلد الْإِسْلَام على عمَارَة فدّل عَلَيْهِم الفرنج من زعم أَنه يدل بهم وسعى فِي أسرهم وعطبهم فأسروا وَمَا خلص الْفَقِيه عِيسَى وَأَخُوهُ إِلَّا بعد سِنِين بستين سبعين ألف دِينَار وفكاك جمَاعَة من الْكفَّار قَالَ وَمَا اشتدت هَذِه النّوبَة بكسرة وَلَا عدم نُصرة فَإِن النكاية فِي العدوّ وبلاده بلغت مُنْتَهَاهَا وَأدْركت كلُّ نفسٍ مُؤمنَة مُشتهاها لَكِن الْخُرُوج من تِلْكَ الْبِلَاد شتت الشمل وأوعر السهل وسلك مَعَ عدم المَاء وَالدَّلِيل الرمل وَمِمَّا قدره الله تَعَالَى من أَسبَاب السّلامة وَالْهِدَايَة إِلَى الاسْتقَامَة أَن الْأَجَل الْفَاضِل استظهر فِي دُخُول بِلَاد الْأَعْدَاء باستصحاب الكنانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 والأدلاء وانهم مَا كَانُوا يفارقونه فِي الْغَدَاء وَالْعشَاء فَلَمَّا وَقعت الْوَاقِعَة خرج بدوابه وغلمانه وَأَصْحَابه وأدلائه وأثقاله وَبث أَصْحَابه فِي تِلْكَ الرمال والوهاد والتلال حَتَّى أَخذ خبر السُّلْطَان وقصده وأوضح بأدلائه جدده وَفرق مَا كَانَ مَعَه من الأزواد على المنقطين وجمعهم فِي خدمَة السُّلْطَان أَجْمَعِينَ فسُهل ذَلِك الوعر وَأنس بعد الوحشة القفر وجبر الْكسر وَكَانَ النَّاس فِي مبدأ توجُّه السُّلْطَان إِلَى الْجِهَاد وَدخُول الْأَجَل الْفَاضِل مَعَه إِلَى الْبِلَاد رُبمَا تحدثُوا وَقَالُوا لَو قعد وتخلف كَانَ أولى بِهِ فَإِن الْحَرْب لَيست من دأبه ثمّ عُرف أنّ السَّلامة وَالْبركَة والنجاة كَانَت فِي استصحابه وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْقَاهِرَة مَعَ نجابين فَخلع عَلَيْهِم وأركبوا وأُشيع بِأَن السُّلْطَان نَصره الله وَأَن الفرنج خذلهم الله كسروا وغلبوا فركبت لأسْمع حَدِيث النجّابين وَكَيف نصر الله الْمُسلمين وَإِذا هم يَقُولُونَ أَبْشِرُوا فَإِن السُّلْطَان وَأَهله سَالِمُونَ وَإِنَّهُم واصلون غانمون فَقلت لرفيقي مَا بُشر بسلامة السُّلْطَان إِلَّا وَقد تمت كسرة وَمَا ثمَّ سوى سَلَامَته نُصرة وَلما قرب خرجنَا لتلقيه وشكرنا الله على مَا يسره من ترقيه وتوقيه وَدخل الْقَاهِرَة يَوْم الْخَمِيس منتصف الشَّهْر ونابت سَلَامَته مناب النَّصْر وسيرنا بهَا البشائر وأنهضنا ببطاقاتها الطَّائِر لإخراس أَلْسِنَة الأراجيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وإبدال التَّأْمِين من التخويف فقد كَانَت نوبتها هائلة ووقعتها غائلة وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد خرج السُّلْطَان يطْلب السَّاحِل حَتَّى وافى الفرنج على الرّملة وَذَلِكَ فِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى وَكَانَ مقدم الفرنج البرنز أرناط وَكَانَ قد بيع بحلب فَإِنَّهُ كَانَ أَسِيرًا بهَا من زمن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَجرى خللٌ فِي ذَلِك الْيَوْم على الْمُسلمين وَلَقَد حكى السُّلْطَان قدّس الله روحه صُورَة الكسرة فِي ذَلِك الْيَوْم وَذَلِكَ أنّ الْمُسلمين كَانُوا قد تعَبَّوا تعبئة الْحَرْب فَلَمَّا قَارب العدوّ رأى بعض الْجَمَاعَة أَن يُغير الميمنة إِلَى جِهَة الميسرة والميسرة إِلَى جِهَة الْقلب ليكونوا حَال اللِّقَاء وَرَاء ظُهُورهمْ تل مَعْرُوف بِأَرْض الرملة فَبينا اشتغلوا بِهَذِهِ التعبئة هجمهم الفرنج وَقدر الله تَعَالَى كسرهم فانكسروا كسرةً عَظِيمَة وَلم يكن لَهُم حصن قريب يأوون إِلَيْهِ فطلبوا جِهَة الديار المصرية وَضَلُّوا فِي الطَّرِيق وتبددوا وأُسر مِنْهُم جمَاعَة مِنْهُم الْفَقِيه عِيسَى وَكَانَ وَهَناً عَظِيما جبره الله تَعَالَى بوقعة حطين الْمَشْهُورَة وَللَّه الْحَمد قلت وَذَلِكَ بعد عشر سِنِين فكسرة الرّملة هَذِه كَانَت فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وكسرة حطين كَانَت فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وَحَيْثُ كَانَت للْملك المظفر تَقِيّ الدّين فِي هَذِه الْغَزْوَة الْيَد الْبَيْضَاء أنشدته قصيدة مِنْهَا (سقى الله الْعرَاق وساكنيه ... وحيّاه حَيا الْغَيْث الهتون) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 (وجيرانا أمنت الْجور مِنْهُم ... وَمَا فيهم سوى وافٍ أَمِين) (صفوا والدهر ذُو كدرٍ وقدما ... وفوا بالعهد فِي الزَّمن الخؤون) (بَنو أَيُّوب زانوا الْملك مِنْهُم ... بحلية سؤدد وتُقى وَدين) (ملوكٌ أَصْبحُوا خير البرايا ... لخير رعية فِي خير حِين) (أَسَانِيد السِّيَادَة عَن علاهم ... مُعَنْعَنَةٌ مصححةُ الْمُتُون) (بَنو أَيُّوب مثلُ قُرَيْش مجداً ... وَأَنت لَهَا كأنزعها البطين) (أخفت الشّرك حَتَّى الذّعر مِنْهُم ... يُرى قبل الْولادَة فِي الْجَنِين) (ويومَ الرّملة المرهوبَ بَأْسا ... تركت الشّرك منزعج القطين) (وكنتَ لعسكر الْإِسْلَام كهفاً ... أَوَى مِنْهُ إِلَى حصن حُصَيْن) (وَقد عرف الفرنج سطاك لما ... رَأَوْا آثارها عين الْيَقِين) (وَأَنت ثَبت دون الدّين تحمى ... حماه أَوَان ولى كلُّ دون) قَالَ واهتم السُّلْطَان بعد ذَلِك بإفاضة الْجُود وتفريق الْمَوْجُود وافتقاد النَّاس بالنقود والنسايا الصادقة الوعود وجبر الكسير وَفك الْأَسير وتوفير الْعدَد وتكثير المدد وتعويض مَا وقف من الدَّوَابّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 فَسَلُوا مَا نابهم وَلم يأسوا على مَا أَصَابَهُم قَالَ ابْن أبي طيّ وَقَالَ ابْن سَعْدَان الحلبيّ يمدح السُّلْطَان وَيذكر مَا فعله على عسقلان ويهوّن عَلَيْهِ أَمر هَذِه الكسرة من قصيدة (قرَّبت من عسقلان كلّ نائبة ... باتت تقل بوكاف من الأسل) (فاض النجيع عَلَيْهَا وَهِي ممحلة ... فَأَصْبَحت مرتعا للخيل وَالْإِبِل) (قل للفرنجية الخذلى رويدكم ... بالثأر أَو تخرج الشعري من الْحمل) (ترقبوها من الفوار طالعة ... خوارق الأَرْض تمحو رونق الأَصْل) (كأنني بنواصيهنّ يقدمهَا ... كاسٍ من الْجُود عُرْيَان من الْبُخْل) (حسب العدى يَا صَلَاح الدّين حسبهم ... أَن يقرفوك بِجرح غير مندمل) (وَهل يخَاف لِسَان النَّحْل ملتمسٌ ... مرّت على أصبعيه لَذَّة الْعَسَل) فصل فِي وَفَاة كمشتكين وَخُرُوج السُّلْطَان من مصر بِسَبَب حَرَكَة الفرنج قَالَ الْعِمَاد وَقعت المنافسة بَين الحلبيين مدبري الْملك الصَّالح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وَاسْتولى على أمره الْعدْل ابْن العجمي أَبُو صَالح وَكَانَ سعد الدّين كمشتكين الْخَادِم مقدم الْعَسْكَر وأمير المعشر وَهُوَ صَاحب حصن حارم وَقد حسده أَمْثَاله من الْأُمَرَاء والخدام فَسَلمُوا لِابْنِ العجمي الاستبداد بتدبير الدولة فقفز عَلَيْهِ الاسماعيلية يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة فِي جَامع حلب فَقَتَلُوهُ واستقل كمشتكين بِالْأَمر فَتكلم فِيهِ حسّاده وَقَالُوا للْملك الصَّالح مَا قتل وزيرك ومشيرك ابْن العجمي إِلَّا كمشتكين فَهُوَ الَّذِي حسن ذَلِك للاسماعيلية وَقَالُوا لَهُ أَنْت السُّلْطَان وَكَيف يكون لغيرك حُكمٌ أَو أَمر فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قبض عَلَيْهِ وطالبوه بِتَسْلِيم قلعة حارم وأوقعوا بهَا لأَجله العظائم فَكتب إِلَى نوابه بهَا فنبوا وأبوا فَحَمَلُوهُ ووقفوا بِهِ تَحت القلعة وخوّفوه بالصرعة فَلَمَّا طَال أمره قصر عمره واستبد الصغار بعده بالأمور الْكِبَار وامتنعت عَلَيْهِ قلعة حارم وجرد إِلَيْهَا العزائم وَنزل عَلَيْهِ الفرنج ثمَّ رحلوا بقطيعةٍ بذلها لَهُم الْملك الصَّالح واستنزل عَنْهَا أَصْحَاب كمشتكين وَولى بهَا مَمْلُوكا لِأَبِيهِ يُقَال لَهُ سرخك وَقَالَ ابْن الْأَثِير سَار الْملك الصَّالح من حلب إِلَى حارم وَمَعَهُ كمشتكين فعاقبه ليأمرَ من بهَا بِالتَّسْلِيمِ فَلم يجب إِلَى مَا طلب مِنْهُ فعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 منكوسا ودخن تَحت أَنفه فَمَاتَ وَعَاد الْملك الصَّالح عَن حارم وَلم يملكهَا ثمَّ أَنه أَخذهَا بعد ذَلِك قَالَ ابْن شَدَّاد أما الْملك الصَّالح فَإِنَّهُ تخبط أمره وَقبض كمشتكين صَاحب دولته وَطلب مِنْهُ تَسْلِيم حارم إِلَيْهِ فَلم يفعل فَقتله وَلما سمع الفرنج بقتْله نزلُوا على حارم طَمَعا فِيهَا وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة وقابل عَسْكَر الْملك الصَّالح العساكر الإفرنجية وَلما رأى أهل القلعة خطرها من جَانب الفرنج سلموها إِلَى الْملك الصَّالح فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر رَمَضَان وَلما عرف الفرنج ذَلِك رحلوا عَن حارم طَالِبين بِلَادهمْ ثمّ عَاد الصَّالح إِلَى حلب ولمْ يزلْ أَصْحَابه على اخْتِلَاف بميل بَعضهم إِلَى جَانب السُّلْطَان قدّس الله روحه قَالَ الْعِمَاد وَوصل فِي هَذِه السّنة إِلَى السَّاحِل من الْبَحْر كند كَبِير يُقَال لَهُ افلندس أكبر طواغيت الْكفْر واعتقد خلو الشَّام من ناصري الْإِسْلَام وَمن جملَة شُرُوط هدنة الفرنج أَنهم إِذا وصل لَهُم ملك أَو كَبِير مَا لَهُم فِي دَفعه تَدْبِير أَنهم يعاونونه وَلَا يباينونه ويحالفونه وَلَا يخالفونه فَإِذا عَاد عَادَتْ الْهُدْنَة كَمَا كَانَت وهانت الشدَّة ولانت وبحكم هَذَا الشَّرْط حشدوا الحشود وجندوا الْجنُود ونزلوا على حماة فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأولى وصاحبها شهَاب الدّين مَحْمُود الحارمي مَرِيض ونائب السُّلْطَان بِدِمَشْق يَوْمئِذٍ أَخُوهُ الْأَكْبَر تورانشاه وَهُوَ والأمراء مشغولون بلذاتهم وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب بِالْقربِ فَدَخلَهَا وَخرج للحرب وَاجْتمعَ إِلَيْهَا رجال الطعْن وَالضَّرْب وَجَرت ضروبٌ من الحروب وَكَاد الفرنج تهجم الْبَلَد فأخرجوهم من الدروب وَنصر الله أهل الْإِسْلَام بعد حصارهم لَهُم أَرْبَعَة أَيَّام فَانْهَزَمَ الملاعين ونزلوا على حصن حارم كَمَا تقدم ذكره فرحلهم عَنهُ الْملك الصَّالح بعد حصاره أَرْبَعَة أشهر وَمن كتاب فاضليّ إِلَى بَغْدَاد خرج الكفّار إِلَى الْبِلَاد الشَّامية فاسخين لعقد كَانَ محكماً غادرين غدرا صَرِيحًا مقدرين أَن يجهزوا على الشَّام لما كَانَ بالجدب جريحا ونزلوا على ظَاهر حماة يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وزحفوا إِلَيْهَا فِي ثَانِيَة فَخرج إِلَيْهِم أَصْحَابنَا وتضَّمن كتاب سيف الدّين يعْنى المشطوب أَن الْقَتْلَى من الفرنج تزيد على ألف رجل مَا بَين فَارس وراجل شفى الله مِنْهُم الصُّدُور ورزق عَلَيْهِم النَّصْر والظهور ثمَّ انصرفوا مجموعا لَهُم بَين تنكيس الصُّلُب وتحطيم الأصلاب مفرّقة أحزابهم عَن الْمَدِينَة المحروسة كَمَا افْتَرَقت عَن الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة الْأَحْزَاب قَالَ الْعِمَاد وتسامع الحلبيون بِيَوْم رحيلنا من مصر لقصد الشَّام لنُصْرة الْإِسْلَام وَقَالُوا أول مَا يصل صَلَاح الدّين يتسلم حارم فراسلوا الإفرنج وقاربوهم وأرغبوهم وأرهبوهم وَقَالُوا لَهُم صَلَاح الدّين وَاصل وَمَا لكم بعد حُصُوله عنْدكُمْ حَاصِل فَرَحل الفرنج بقطيعة من المَال أخذوها وعدّة من الْأُسَارَى خلَّصوها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 ثمَّ تُوفى خَال السُّلطان شهَاب الدّين مَحْمُود بن تكش الحارمي فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَتُوفِّي وَلَده تكش ابْن خَال السُّلطان قبله بِثَلَاثَة أيَّام وَذَلِكَ أَوَان وقْعَة الرملة وَلما سمع السُّلطان بنزول الفرنج على حارم رَحل من الْبركَة يَوْم عيد الْفطر بعساكره وَوصل أَيْلَة فِي عَاشر الشَّهْر واستناب بِمصْر أَخَاهُ الْعَادِل وَأقَام بهَا أَيْضا القَاضِي الْفَاضِل بنيَّة الْحَج فِي السّنة الْقَابِلَة وَوصل السُّلطان إِلَى دمشق فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من شوّال وَمِمَّا نظمه الْعِمَاد فِي التشوق إِلَى مصر قَوْله (سَاكِني مصر هُنَاكُم طيبها ... إِن عيشي بعدكم لمْ يطب) (لاعدمتم رَاحَة من قربهَا ... فَأَنا من بعْدهَا فِي تَعب) (بعد الْعَهْد بأخباركم ... فَابْعَثُوا أخباركم فِي الْكتب) (لَيْت مصرا عرفت أَنِّي وَإِن ... غبتُ عَنْهَا فالهوى لم يغب) وَمن ذَلِك (تذكرت فِي جلَّقٍ داركم ... بِمصْر وَيَا بُعْد مَا بَيْننَا) (وَمَا أَتَمَنَّى سوى قُربكم ... وَذَلِكَ وَالله كلُّ المنى) (لكم بالجنان وَطيب الْمقَام ... وَحسن النَّعيم بِمصْر الهنا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وَمن ذَلِك (يَا سَاكِني مصر قد فقتم بفضلكم ... ذَوي الْفَضَائِل من سكان أَمْصَار) (لله درّكمُ من عُصْبة كرُمت ... ودرُّ مصركم الْغناء من دَار) وَمن ذَلِك (يَا حبذا مصر وبركتها ... وَصدر والعريش) (فهناك أملاكي الَّذين ... سَمَتْ بعزّهم العُروش) قَالَ وَوصل كتاب من الْفَاضِل يذكر فِيهِ أنّ العدوّ خذله الله تَعَالَى نَهَضَ وَوصل إِلَى صدر وَقَاتل القلعة وَلم يتم لَهُ أَمر فصرف الله شَره وَكفى أمره وَوصل من الفرنج مستأمن وَذكر أنَّهم يُرِيدُونَ الْغَارة على فاقوس فاستقلوا أنفسهم وعرّجوا وَذكر أَنهم مضوا بنية تَجْدِيد الحشد ومعاودة الْقَصْد قَالَ وَأما نوبَة العدوّ فِي الرّملة فقد كَانَت عَثْرَة علينا ظَاهرهَا وعَلى الْكفَّار بَاطِنهَا ولزمنا مَا نسى من اسْمهَا ولزمهم مَا بقى من غرمها وَلَا دَلِيل أدلّ على القوّة من الْمسير بعد شَهْرَيْن من تَارِيخ وقعتها إِلَى الشَّام نَخُوض بِلَاد الفرنج بالقوافل الثَّقِيلَة والحشود الْكَثِيرَة والحريم المستور وَالْمَال الْعَظِيم الموفور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 قَالَ الْعِمَاد وَلما دَخَلنَا دمشق وجدنَا رُسُل دَار الْخلَافَة قد وصلوا بِأَسْبَاب العاطفة والرأفة وَكَانَ حِينَئِذٍ صَاحب المخزن ظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن نصر العطَّار وَهُوَ من ذَوي الأخطار وَله التحكم فِي الْإِيرَاد والإصدار وَقد توفَّر على محبَّة السُّلطان وتربية رجائه وتلبية دُعَائِهِ وَوصل كِتَابه وَرَسُوله بِكُل مَا سر السَّرائر ونوّر البصائر فصل فِي ذكر أَوْلَاد السُّلْطَان قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السَّنة ولد بِمصْر للسُّلطان ابْنه أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد وَكتب الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان يهنئه بِهِ وَيَقُول إِنَّه وُلد لِسَبْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة وَهَذَا الولدُ المُبارك هُوَ المُوفى لاثني عشر ولدا بل لاثني عشر نجماً متوقداً فقد زَاد الله فِي أنجمه على أنجم يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام نجماً ورآهم الْمولى يقظة وَرَأى تِلْكَ الأنجم حلما ورآهم ساجدين لَهُ ورأينا الْخلق لَهُ سجوداً وَهُوَ قادرٌ سُبْحَانَهُ أَن يزِيد جدود الْمولى إِلَى أَن يراهم أباءً وجدوداً قَالَ الْعِمَاد وَكنت فِي بعض اللَّيَالِي عِنْد السُّلطان فِي آخر عَهده وَجرى ذكر أَوْلَاده واعتضاده بهم واعتداده فَقلت لَهُ لَو عرفت أَيَّام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 مواليدهم فِي أعوامها لأنشأت رِسَالَة على نظامها فَذكر لي مَا أثْبته على تَرْتِيب اسنانهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين أَبُو الْحسن عليّ ولدُ بِمصْر لَيْلَة عيد الْفطر عِنْد الْعَصْر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان عماد الدِّين ولد بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ الظافر أَبُو الْعَبَّاس خضر مظفر الدِّين ولد بِمصْر فِي خَامِس شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَهُوَ أَخُو الْأَفْضَل لِأَبَوَيْهِ الظَّاهِر أَبُو مَنْصُور غَازِي غياث الدّين ولد بِمصْر منتصف رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ الْمعز أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق فتح الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبعين. الْمُؤَيد أَبُو الْفَتْح مَسْعُود نجم الدّين وُلد بِدِمَشْق فِي ربيع الأول سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 إِحْدَى وَسبعين وَهُوَ أَخُو الْعَزِيز لِأَبَوَيْهِ الأعزُّ أَبُو يُوسُف يَعْقُوب شرف الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهُوَ لأم الْعَزِيز الزَّاهر أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد مجير الدِّين ولد بِمصْر فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَهُوَ لأم الظَّاهِر الْمفضل أَبُو مُحَمَّد مُوسَى قطب الدِّين ثمَّ نعت بالمظفَّر ولد بِمصْر سنة ثَلَاث وَسبعين وَهُوَ لأم الْأَفْضَل الْأَشْرَف أَبُو عبد الله مُحَمَّد عز الدّين ولد بِالشَّام سنة خمس وَسبعين المحسن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ظهير الدِّين وُلد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَهُوَ لأم الْأَشْرَف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 المعظَّم أَبُو مَنْصُور تورانشاه فَخر الدّين ولد بِمصْر فِي ربيع الأول سنة سبع وَسبعين أَيْضا قلت وَمَات سنة ثَمَان وَخمسين وست مئة وَهِي السّنة الَّتِي أخرب الْعَدو من التتار خذلهم الله تَعَالَى فِيهَا مَدِينَة حلب وَغَيرهَا وَالله أعلم الْجواد أَبُو سعيد أَيُّوب ركن الدِّين ولد فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ لأم الْمعز الْغَالِب أَبُو الْفَتْح ملكشاه نصير الدِّين مولده بالشَّام فِي رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ لأم الْمُعظم الْمَنْصُور أَبُو بكر وَهُوَ أَيْضا أَخُو الْمُعظم لِأَبَوَيْهِ ولد بحرّان بعد وَفَاة السُّلْطَان قلت فَهَذِهِ خَمْسَة عشر ولدا ذكرهم الْعِمَاد فِي هَذَا الْموضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وَقَالَ فِي آخر كتاب الْفَتْح القُدسي على مَا سَنذكرُهُ فِي آخر هَذَا الْكتاب إِن السُّلْطَان لما توفّي خلَّف سَبْعَة عشر ولدا وَابْنَة صَغِيرَة فقد فَاتَهُ هُنَا ذكر اثْنَيْنِ وهما عماد الدّين شاذي لأم ولد ونصرة الدّين مَرْوَان لأم ولد وَأما الْبِنْت فَهِيَ مؤنسة خاتون تزَوجهَا الْملك الْكَامِل مُحَمَّد على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ ابْن عَمها الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وللسلطان غير هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد مِمَّن درج فِي حَيَاته كالملك الْمَنْصُور حسن وَسَيَأْتِي ذكر وَفَاته والأمير أَحْمد وَهُوَ الَّذِي رثاه العرقلة بقوله (أيّ هِلَال كُسفا ... وَأي غصنٍ قصفا) (كَانَ سِرَاجًا قد طفا ... على الورى ثمّ انطفا) (لم يركب الْخَيل وَلم ... يقلدوه مرهفاً) (قل للنحاة وَيحكم ... أحمدكم قد صرفا) (صبرا صَلَاح الدّين يَا ... ربّ السماح والوفا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 قَالَ الْعِمَاد وَورد من الْفَاضِل كتاب تَارِيخه منتصف ذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاث وَسبعين ذكر فِيهِ فصولا مُتعَدِّدَة مِنْهَا للْمولى أولادٌ وَقد صَارُوا رجَالًا وَيجب أَن يستجيد للقلاع رجَالًا كَمَا فعل السَّابِقُونَ أعماراً وأعمالا وَقيل القلاع أنوفٌ من حلهَا شمخ بهَا (مَا فِي الرِّجَال على النِّسَاء أَمِين ... ) وَمِنْهَا أَبْيَات فِي ذكر السَّلَام (مَمْلُوك مَوْلَانَا ومملوكُ ابْنه ... وأخيه وَابْن أَخِيه وَالْجِيرَان) (طيّ الْكتاب إِلَيْهِ مِنْهُ إِجَابَة ... لسلام مَوْلَانَا ابْنه عُثْمَان) (وَالله قد ذكر السَّلَام وَأَنه ... يَجْزِي بِأَحْسَن مِنْهُ فِي الْقُرْآن) (وغريبة قد جِئْت فِيهَا أوّلا ... وَمن اقتفاها كَانَ بعدِي الثَّانِي) (فرسولي السُّلْطَان فِي إرسالها ... وَالنَّاس رسلهم إِلَى السُّلْطَان) قلت وَوصف الْفَاضِل الْملك الْمُؤَيد فِي كتاب آخر فَقَالَ وَقد تمطت بِهِ السن وامتدت وتأهبت السَّعَادَة لخطبته واعتدت وَلَا حظته الْعُيُون بالوقار وطرفت دون جلالته وارتدت وَفِي بعض كتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى وَلَده الْأَفْضَل إعزازه لأهل الْفضل دليلٌ على فَضله وأنّ الأولى أَن تكون كتب الْأَدَب عِنْد أَهله وَمَا أبهجنا إِذْ جال فِي فضاء الْفَضَائِل وخطب من أبكار الْمعَانِي كرائم العقائل وآخى بَين السَّيْف والقلم وَصَارَ فِي موكبه الْعلم وَالْعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وَمن كتاب آخر فِي الْمَعْنى فَلَقَد زَادَت هَذِه المنقبة فِي مناقبه ونظمت عُقُود سؤدد فِي ترائبه (فَمَا ترْجم الْإِنْسَان عَن سرّ فَضله ... بِأَفْضَل من تقريبه لأولى الْفضل) قَالَ الْعِمَاد وَخرج السُّلْطَان للصَّيْد فِي ذِي الْحجَّة نَحْو قارا فشكوت ضرسي وعدمت أنسي فَرَجَعت مَعَ عزّ الدّين فرخشاه لحميّ عرته فَشَكا مِنْهَا أَلا تزور إِلَّا نَهَارا جهارا وَلَا تفارق بعرق بالضد من الحمي الَّتِي وصفهَا أَبُو الطّيب المتنبي فنظمت فِيهِ كلمة طَوِيلَة أَولهَا (يَمِينك دأبها بذل الْيَسَار ... وكفك صوبها بدر النضار) (وَإنَّك من مُلُوك الأَرْض طُرَّا ... بِمَنْزِلَة الْيَمين من الْيَسَار) (وَأَنت الْبَحْر فِي بَث العطايا ... وَأَنت الطود فِي نَادِي الْوَقار) وَمِنْهَا فِي وصف الْحمى (وزائرة وَلَيْسَ بهَا حَيَاء ... فَلَيْسَ تزور إِلَّا فِي النَّهَار) (وَلَو رهبت لَدَى الْإِقْدَام جوري ... لما رغبت جهارا فِي جواري) (أَتَت وَالْقلب فِي وهج اشتياق ... لتظهر مَا أواري من أواري) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 (وَلَو عرفت لظى سطوات عزمي ... لكَانَتْ من سطاي على حذار) (تقيم فحين تبصر من أناتي ... ثبات الطود تسرع فِي الْفِرَار) (تُفَارِقنِي على غير اغتسال ... فَلم أحلل لزورتها إزَارِي) (أيا شمس الْمُلُوك بقيت شمساً ... تنير على الممالك والديار) (أحماك استعارت لفح نَار ... لعزمك لم تزل ذَات اسْتعَار) فصل قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْعشْر الأول من ذِي الْقعدَة قتل عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء وَزِير الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد على أَيدي الْمَلَاحِدَة وَكَانَ قد توجه إِلَى الْحَج فَوقف لَهُ فِي مضيق قطفتا غربي دجلة كهلٌ فِي يَده قصّة يزْعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 أَنه يُرِيد رَفعهَا إِلَى الْوَزير من يَده إِلَى يَده فَأَوْمأ ليوصل قصَّته فانتهز فِيهِ فرصته فَقتله وَبدر كَمَال الدّين أَبُو الْفضل بن الْوَزير فَقتل قَاتل أَبِيه بِسَيْفِهِ وَكَانَ مَعَ ذَلِك الْجَاهِل الملحد رفيقان لَهُ فجرح أَحدهمَا حَاجِب الْبَاب ابْن المعوج فَمَاتَ وجرح آخر ولد قَاضِي الْقُضَاة وَقطع الْمَلَاحِدَة وأحرقوا واستقلَّ ظهير الدّين أَبُو بكر مَنْصُور بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْعَطَّار صَاحب المخزن بالدولة وَكَانَ للسُّلْطَان خدنا مصافيا قلت وَابْن الْعَطَّار هَذَا هُوَ المرجوم المسحوب بعد مَوته بِبَغْدَاد كَمَا سَيَأْتِي ذكره فِي آخر حوادث سنة خمس وَسبعين قَالَ ابْن الْأَثِير وَكنت حِينَئِذٍ بِبَغْدَاد عَازِمًا على الْحَج فَعبر عضد الدّين دجلة فِي شبارة فَلَمَّا ركب دَابَّته وَالنَّاس مَعَه مَا بَين رَاكب وراجل تقدم إِلَيْهِ بعض الْعَامَّة ليدعو لَهُ فَمَنعه أَصْحَابه فزجرهم وَأمرهمْ أَلا يمنعوا أحدا عَنهُ فَتقدم إِلَيْهِ الباطنية فَقَتَلُوهُ بالجانب الغربي وقُتل الباطنية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وأحرقوا وَحمل من مَوْضِعه إِلَى دَار لَهُ بقطفتا فِي الْجَانِب الغربي فَتوفي بهَا قَالَ الْعِمَاد ووردت مطالعة الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان تَتَضَمَّن التوجع لقتل الْوَزير عضد الدّين وفيهَا {وَمَا رَبك بِظَلاَّمٍ للعْبيِد} فقد كَانَ عَفا الله عَنهُ قتل وَلَدي الْوَزير ابْن هُبَيْرَة وأزهق أَنفسهمَا وَجَمَاعَة لَا تحصى (من ير يَوْمًا ير بِهِ ... والدهر لَا يغتر بِهِ) وَهَذَا الْبَيْت بَيت ابْن الْمسلمَة عريق فِي الْقَتْل وجده هُوَ الْمَقْتُول بيد البساسيري فِي وَقت إِخْرَاج الْخَلِيفَة الْقَائِم فِي أَيَّام الملقب بالمستنصر بِمصْر فَهُوَ من ذُرِّيَّة لم تزل قاتلة مقتولة وَمَا زَالَت السيوف عَلَيْهَا وَمِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 مسلولة فهم فِي هَذِه الْحَادِثَة المسمعة المصمة كَمَا قَالَ دُرَيْد (أَبى الْمَوْت إِلَّا آل صمه ... ) والأبيات الْمولى يحفظها وَهِي فِي الحماسة وَقد ختمت لَهُ السَّعَادَة بِمَا ختمت بِهِ لَهُ الشَّهَادَة لَا سِيمَا وَهُوَ خَارج من بَيته إِلَى بَيت الله قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله} (إِن المساءة قد تسرّ وَرُبمَا ... كَانَ السرُور بِمَا كرهت جَدِيرًا) (إِن الْوَزير وَزِير آل مُحَمَّد ... أودى فَمن يشناك كَانَ وزيرا) وَهَذَانِ البيتان قيلا فِي أبي سَلمَة الْخلال أول وَزِير لبني الْعَبَّاس قلت وَبَلغنِي أنّ الْفَاضِل كَانَ ينشد (وَأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حَيَاة تريه مصرع الوزراء) قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ ضِيَاء الدّين بن الشَّهْرَزوْري قد سَار فِي الرسَالَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 إِلَى بَغْدَاد وَتوقف فِي الْموصل لحادثة الْوَزير وَوَافَقَ وُصُوله إِلَى الْموصل وَفَاة ابْن عَمه القَاضِي عماد الدّين أَحْمد ابْن القَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَكَانَ شَابًّا وَجَاء كتاب الْفَاضِل يذكر ذَلِك وَفِيه (يدلى ابْن عشْرين فِي لحده ... وَتسْعُونَ صَاحبهَا راتع) اغتبط الْوَلَد مَعَ نضارة الشَّبَاب المقتبل وعُمرّ الْوَالِد مَعَ ذبول المشيب الْمُشْتَمل (ليُعْلم أَن الشيب لَيْسَ بِمُسلم ... وَأَن الشَّبَاب الغض لَيْسَ بمانع) وليكون العَبْد حذرا من بغتات الْآجَال فِي كلّ الْأَحْوَال وَالله يُطِيل للْمولى الْعُمر كَمَا أَطَالَ لَهُ فِي الْقدر وَيسمع مِنْهُ وَلَا يسمع فِيهِ ويبقيه سنداً للدّين الحنيفي فَإِن بَقَاءَهُ يَكْفِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 آخر الْجُزْء الأول من الأَصْل الْمَنْقُول مِنْهُ الَّذِي هُوَ بِخَط الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى يتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْجُزْء الثَّانِي ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ شمس الدّين بن الْمُقدم من أكَابِر الْأُمَرَاء وَوَافَقَ الْفَرَاغ مِنْهُ فِي سَابِع شهر ذِي الْحجَّة من سنة سِتّ وَسبعين وست مئة غفر الله تَعَالَى لمؤلفه وكاتبه وَصَاحبه والمنتفع بِهِ والمطلع عَلَيْهِ وَجَمِيع الْمُسلمين وَصلى الله على نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ [نجزء الْجُزْء الثَّانِي من كتاب الروضتين ويليه الْجُزْء الثَّالِث وَيبدأ بحوادث سنة (574 هـ) ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ شمس الدّين بن الْمُقدم من أكَابِر الْأُمَرَاء وَهُوَ السَّابِق إِلَى مُكَاتبَة السُّلْطَان فِي تصويب رَأْيه فِي الْوُصُول إِلَى الشَّام وتدارك أَمر الْإِسْلَام وَكَانَ السُّلْطَان عِنْد تسلم بعلبك أنعم بهَا عَلَيْهِ ورد أمورها إِلَيْهِ فَأَقَامَ بهَا مُسْتَقرًّا ولأخلاف أَعمالهَا مستدرا وَلما وصل السُّلْطَان فِي هَذِه النّوبَة إِلَى الشَّام لم يحضر كَمَا جرت الْعَادة للْخدمَة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ كَانَ نمى إِلَيْهِ أَن الْملك الْمُعظم فَخر الدّين شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب طلبَهَا من أَخِيه وَأَنه لَا يُمكنهُ الرَّد فخاف من الْحُضُور أَن تتمّ الْأُمُور وروجع فِي ذَلِك مرَارًا سرا وجهارا وَالْتزم لَهُ أَن يعوض عَنْهَا مَا هُوَ أوفى مِنْهَا فَأبى إِلَّا الإباء وشارف السُّلْطَان مِنْهُ وَمن أَخِيه الْحيَاء وشمس الدولة لَا يقبل عذرا وَلَا يرى عَمَّا طلبه صبرا ثمَّ اسْتَأْذن أَخَاهُ فِي التَّوَجُّه إِلَيْهَا فَأذن لَهُ وَتوجه عز الدّين فرخشاه إِلَى حوران لحفظ الثغور وَسَار السُّلْطَان إِلَى حمص وَنزل على العَاصِي عَازِمًا على الْجِهَاد ووردت من الْفَاضِل كتب من بعض فصولها وَأما سور الْقَاهِرَة فعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 مَا أَمر بِهِ الْمولى شرع فِيهِ وَظهر الْعَمَل وطلع الْبناء وسلكت بِهِ الطَّرِيق المؤدية إِلَى السَّاحِل بالمقسم وَالله يعمر الْمولى إِلَى أَن يرَاهُ نطاقا مستديرا على البلدين وسورا بل سوارا يكون بِهِ الْإِسْلَام محلى الْيَدَيْنِ محلا الضدين والأمير بهاء الدّين قراقوش ملازم الاستحثاث بِنَفسِهِ وَرِجَاله لَازم لما يعنيه بِخِلَاف أَمْثَاله قَلِيل التثقيل مَعَ حمله لأعباء التَّدْبِير وأثقاله وَمِنْهَا فِي حق نقل الْقَضَاء من شرف الدّين بن أبي عصرون لما ذهب بَصَره إِلَى وَلَده لن يَخْلُو الْأَمر من قسمَيْنِ وَالله يخْتَار للْمولى خيرة الْأَقْسَام وَلَا ينسى لَهُ هَذَا التحرج الَّذِي لَا يبلغهُ ملك من مُلُوك الْإِسْلَام إِمَّا إبْقَاء الْأَمر باسم الْوَالِد بِحَيْثُ يبْقى رَأْيه ومشاورته وفتياه وبركته ويتولى وَلَده النِّيَابَة وَيشْتَرط عَلَيْهِمَا المجازاة لأوّل زلَّة وَترك الْإِقَالَة لأوّل عَثْرَة فطالما بعث حب المنافسة الراجحة على اكْتِسَاب الْأَخْلَاق الصَّالِحَة وَإِمَّا أَن يُفَوض الْأَمر إِلَى الإِمَام قطب الدّين فَهُوَ بَقِيَّة الْمَشَايِخ وَصدر الْأَصْحَاب وَلَا يجوز أَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ فِي بلد إِلَّا من هُوَ أرفع طبقَة فِي الْعلم مِنْهُ وَمِنْهَا فِي إِقَامَة عذر التَّأَخُّر عَن الْجِهَاد وَأما تأسف الْمولى على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 أَوْقَات تَنْقَضِي عاطلة من الْفَرِيضَة الَّتِي خرج من بَيته لأَجلهَا وتجدد الْعَوَائِق الَّتِي لَا يُوصل إِلَى آخر حبلها فللمولى نِيَّة رشده وأليس الله الْعَالم بِعَبْدِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يسْأَل الْفَاعِل عَن تَمام فعله لِأَنَّهُ غير مَقْدُور لَهُ وَلَكِن عَن النِّيَّة لِأَنَّهَا مَحل تَكْلِيف الطَّاعَة وَعَن مَقْدُور صَاحبهَا من الْفِعْل بِحَسب الِاسْتِطَاعَة وَإِذا كَانَ الْمولى آخِذا فِي أَسبَاب الْجِهَاد وتنظيف الطّرق إِلَى المُرَاد فَهُوَ فِي طَاعَة قد امتن الله عَلَيْهِ بطول أمدها وَهُوَ مِنْهُ على أمل فِي نجح موعدها وَالثَّوَاب على قدر مشقته وَإِنَّمَا عظم الْحَج لأجل جهده وَبعد شقته وَلَو أَن الْمولى فتح الْفتُوح الْعِظَام فِي أقل الْأَيَّام وَفصل الْقَضِيَّة بَين أهل الْإِسْلَام وأعداء الْإِسْلَام لكَانَتْ تكاليف الْجِهَاد قد قضيت وصحائف الْبر المكتسبة بالمرابطة والانتظار طويت وَمِنْهَا فِي ذكر أَوْلَاد السُّلْطَان وَقبل الْإِجَابَة عَن الْفُصُول فنبشر بِمَا جرت الْعَادة بِهِ لَا قطع الله تِلْكَ الْعَادة من سَلامَة وَصِحَّة وعافية شملت موالينا أَوْلَاده السَّادة أطاب الله الْخَبَر إِلَيْهِم عَن الْمولى وَإِلَى الْمولى عَنْهُم وَعجل لقاءه لَهُم ولقاءهم لَهُ فَإِنَّهُم من يلق مِنْهُم بل كل مِنْهُم ملك دسته برجه وَفَارِس مهده سَرْجه فهم بِحَمْد الله بهجة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَرَيْحَان الْحَيَاة وزهرتها وَإِن فؤادا وسع فراقهم لواسع وَإِن قلبا قنع بأخبارهم لقانع وَإِن طرفا نَام على الْبعد عَنْهُم لهاجع وَإِن ملكا ملك تصبره عَنْهُم لحازم وَإِن نعْمَة الله فيهم لنعمة بهَا الْعَيْش ناعم أما يشتاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 جيد الْمولى أَن يتطوق بدررهم أما تظمأ عينه إِلَى أَن تتروى بنظرهم أما يحن قلبه على قلبه أما يلتقط هَذَا الطَّائِر بتقبيلهم مَا خرج من حبه وللمولى أبقاه الله تَعَالَى أَن يَقُول (وَمَا مثل هَذَا الشوق تحمل مُضْغَة ... وَلَكِن قلبِي فِي الْهوى بقلوب) وَفِي أُخْرَى والملوك الْأَوْلَاد فِي كَفَالَة الْعَافِيَة لَا رفعت عَنْهُم كفالتها وَعَلَيْهِم جلالة السلطنة لَا فَارَقْتهمْ جلالتها وكل من الموَالِي السَّادة الْأُمَرَاء الْأَوْلَاد والقلادة كلهَا جَوْهَر وَكلهمْ الْمُقدم وَلَيْسَ فيهم بِحَمْد الله من يُؤَخر على مَا عود الله من صِحَة وسلامة وكفاية ووقاية وَلُزُوم المستقل مِنْهُم لمشهد الْكتاب ولموقف الأماج ومخايل الخفر فيهم من تَحت ليل الصِّبَا أنور دلَالَة من ضوء السراج وَالله تَعَالَى يمد فِي عمر الْمولى إِلَى أَن يرى من ظُهُورهمْ مَا رأى جدهم رَحمَه الله فِي أهل بَيته من الْبَطن الرَّابِع فوارس الْحَرْب الرائعة وملوك الْإِسْلَام الَّتِي مِنْهُم لِلْإِسْلَامِ أكاسرة وتبابعة (مَا فيهم عِنْد الْعَلَاء صَغِير ... وصغار أَبنَاء الْكِبَار كبار) نُجُوم الأَرْض وذرية بَعْضهَا من بعض وَالْخلف الصَّالح الْمَحْض وهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فرسَان الْقُوَّة والتقى يَوْم الْحَرْب وَيَوْم الْعرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وَمِنْهَا فِي ذمّ مَاء دمشق ووخمها عرف الْمَمْلُوك من الْكتب الْوَاصِلَة التياث جسم الْمولى الْأَمِير عُثْمَان والحقير مِمَّا ينَال ذَلِك الْجِسْم الْكَرِيم يُوقد فِي قُلُوب الْأَوْلِيَاء الْأَثر الْعَظِيم و (قَلِيل قذاة الْعين غير قَلِيل ... ) وماذا يَقُول فِي بلد لَو صحت الحمية من مَائه لكَانَتْ من أكبر أَسبَاب صِحَة المحتمي وشفائه فَإِنَّهُ مَاء يُؤْكَل وَبَقِيَّة الْمِيَاه تشرب ويجد وخامته من ينصف وَلَا يتعصب وَمِنْهَا وَأما الْمَأْمُور بِهِ فِي معنى الْمُنْكَرَات الظَّاهِرَة وَإِزَالَة أَسبَابهَا وإغلاق أَبْوَابهَا وتحصين كل مبتوتة من عصمَة وتطهير كل موسومة بوصمة فَالله يثيب الْمولى ثَوَاب من غضب ليرضيه بغضبه وَحمل الْخلق على منهاج شَرعه وأدبه ثمَّ أورد الْعِمَاد فصولا كَثِيرَة وَقَالَ إِنَّمَا أوردت الْفُصُول الْفَاضِلِيَّةِ لِأَن فِي كل فصل مِنْهَا ذكر سيرة وفوائد كَثِيرَة فصل قَالَ الْعِمَاد وَمن جملَة مَا أغفلته ذكر مَا أسْقطه السُّلْطَان من مكس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 مَكَّة شرفها الله تَعَالَى عَن الْحَاج وتعويض أميرها بجلاب غلَّة تحمل إِلَيْهِ فِي كل سنة وَتَعْيِين ضيَاع مَوْقُوفَة عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ المصرية كَانَ الرَّسْم بِمَكَّة أَن يُؤْخَذ من حَاج الْمغرب على عدد الرؤوس مَا ينْسب إِلَى الضرائب والمكوس فَإِذا دخل حَاج حبس حَتَّى يُؤَدِّي مكسه ويفك بِمَا يطلبونه مِنْهُ نَفسه وَإِذا كَانَ فَقِيرا لَا يملك فَهُوَ يحبس وَلَا يتْرك وتفوته الوقفة بِعَرَفَة وَلَا تدْرك فَقَالَ السُّلْطَان نُرِيد أَن نعوض أَمِير مَكَّة عَن هَذَا المكس بِمَال ونغنيه عَنهُ بنوال وَإِن أعطيناه ضيَاعًا استوعبها ارتفاعا وانتفاعا فَلَا يكون لأهل مَكَّة فِيهَا نصيب فقرر مَعَه أَن يحمل إِلَيْهِ فِي كل سنة مبلغ ثَمَانِيَة آلَاف إِرْدَب قَمح إِلَى سَاحل جدة فَإِن الْأَمِير بهَا يحْتَاج إِلَى بيعهَا للِانْتِفَاع بأثمانها ويثق أهل الْحَرَمَيْنِ من الدولة بدوام إحسانها وَقرر أَيْضا حمل الغلات إِلَى المجاورين بالحرمين والفقراء وَمن هُنَاكَ من الشرفاء ووقف لَهَا وقوفا وخلد بهَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعْرُوفا فَسَقَطت المكوس واغتبطت النُّفُوس وَزَاد الْبشر وَزَالَ العبوس واستمرت النعمى وَمر البوس وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمن كَلَام الْفَاضِل فِي ذَلِك فِي بعض كتبه من البشائر الَّتِي لَا عهد لحاج ديار مصر بِمِثْلِهَا وَلَا عهد لملك من مُلُوك الديار المصرية بالحصول على فخرها وأجرها انْقِطَاع المكاسين عَن جدة وَعَن بَقِيَّة السواحل وَيَكْفِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 أَن تَمام هَذِه المثوبة مُوجب الِاسْتِطَاعَة مُقيم لحجة الله فِي الْحَج فقد كَانَت الْفتيا على سُقُوطه مَعَ وجود الْحَامِل وَمَا أَكثر مَا أجْرى الله لِلْخَلَائِقِ على يَد الْمولى من الأرزاق الَّتِي تفضل عَن الِاسْتِحْقَاق وَمَا أولاه أَن يتوخى بِالْمَعْرُوفِ مَكَانَهُ من هذَيْن الْحَرَمَيْنِ الشريفين المهجورين من إسعاف أهل الاقتدار والمحروم من قدر فيهمَا على خير فأضاع فرصته بترك البدار وَغير خَافَ عَن مَوْلَانَا همة الفرنج بالقدس برا وبحرا ومركبا وظهرا وسلما وحربا وبعدا وقربا وتوافيهم على حمايته وَهُوَ أنف فِي وَجه الْإِسْلَام ومسارعتهم إِلَى نصْرَة أهليه بالأرواح وَالْأَمْوَال على مر الْأَيَّام ومعاذ الله أَن يستبصروا فِي الضلال ونصرف نَحن عَن الْحق وتضيق بِنَا فِي التَّوسعَة على أَهله سَعَة المجال الْمَمْلُوك فِي مستهل رَجَب بِمَشِيئَة الله تَعَالَى يعول على السّفر إِلَى الْحجاز لقَضَاء الْفَرِيضَة قولا وفعلا والسائرون فِي هَذِه السّنة بطمعة وَقْفَة الْجُمُعَة وبفسحة وضع المكس خلق لَا يُحْصى وَالْمولى شريك فِي أجرهم فليهنه أَن الْمُلُوك عمرت بيوتها فخربت وَأَن الْمولى عمر بَيت الله فَمن كرمه سُبْحَانَهُ أَن يعمر بَيت الْمولى وَمَا أَشد خجل الْمُلُوك من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّقْصِير فِي قوت جِيرَانه فِي هَذِه السّنة وَمَا هَكَذَا وصّى ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 اللمطي وَلَكِن للْغَائِب حجَّته قلت وَفِي هَذِه المكرمة الَّتِي فعلهَا صَلَاح الدّين رَحمَه الله بالحاج يَقُول الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جُبَير الأندلسي من قصيدة لَهُ يمدح بهَا صَلَاح الدّين وَسَتَأْتِي فِيمَا بعد أَخْبرنِي بهَا ثِقَة نقلهَا من خطه (رفعت مغارم مكس الْحجاز ... بإنعامك الشَّامِل الغامر) (وَأمنت أكناف تِلْكَ الْبِلَاد ... فهان السَّبِيل على العابر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 (وسحب أياديك فياضة ... على وَارِد وعَلى صادر) (فكم لَك بالشرق من حَامِد ... وَكم لَك بالغرب من شَاكر) (وَكم بِالدُّعَاءِ لكم كل عَام ... بِمَكَّة من معلن جاهر) (وَقد بقيت حسبَة فِي فلَان ... وَتلك الذَّخِيرَة للذاخر) (يعنف حجاج بَيت الْإِلَه ... ويسطو بهم سطوة الجائر) (ويكشف عَمَّا بِأَيْدِيهِم ... وناهيك من موقف صاغر) (وَقد وقفُوا بَعْدَمَا كشفوا ... كَأَنَّهُمْ فِي يَد الآسر) (ويلزمهم حلفا بَاطِلا ... وعقبى الْيَمين على الْفَاجِر) (وَإِن عرضت بَينهم حُرْمَة ... فَلَيْسَ لَهَا عَنهُ من سَاتِر) (أَلَيْسَ يخَاف غَدا عرضه ... على الْملك الْقَادِر القاهر) (أَلَيْسَ على حرم الْمُسلمين ... بِتِلْكَ الْمشَاهد من غائر) (أَلا حَاضر نَافِع زَجره ... فيا ذلة الشَّاهِد الْحَاضِر) (أَلا نَاصح مبلغ نصحه ... إِلَى الْملك النَّاصِر الظافر) (ظلوم تضمن مَال الزَّكَاة ... لقد تعست صَفْقَة الخاسر) (يسر الْخِيَانَة فِي بَاطِن ... ويبدي النَّصِيحَة فِي الظَّاهِر) (فأوقع بِهِ حَادِثا إِنَّه ... يقبح أحدوثة الذاكر) (فَمَا للمناكر من زاجر ... سواك وبالعرف من آمُر) (وحاشاك إِن لم تزل رسمها ... فَمَا لَك فِي النَّاس من عاذر) (ورفعك أَمْثَالهَا موسع ... رِدَاء فخارك للناشر) (وآثارك الغر تبقى بهَا ... وَتلك المآثر للآثر) (نذرت النَّصِيحَة فِي حقكم ... وَحقّ الْوَفَاء على النَّاذِر) (وحبك أنطقني بالقريض ... وَمَا أَبْتَغِي صلَة الشَّاعِر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 (وَلَا كَانَ فِيمَا مضى مكسبي ... وَبئسَ البضاعة للتاجر) (إِذا الشّعْر صَار شعار الْفَتى ... فناهيك من لقب شاهر) (وَإِن كَانَ نظمي لَهُ نَادرا ... فقد قيل لَا حكم للنادر) (ولكنما خطرات الْهوى ... تعن فتلعب بالخاطر) (أما وَقد زَان تِلْكَ الْعلَا ... فقد فَازَ بالشرف الباهر) (وَإِن كَانَ مِنْك قبُول لَهُ ... فَتلك الْكَرَامَة للزائر) (ويكفيه سَمعك من سامع ... ويكفيه لحظك من نَاظر) (ويزهى على الرَّوْض غب الحيا ... بِمَا حَاز من ذكرك العاطر) قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْمحرم من هَذِه السّنة توفّي الْحَكِيم مهذب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى الْمَعْرُوف بِابْن النقاش الْبَغْدَادِيّ بِدِمَشْق وَكَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 كنعته مهذبا وَمن الْمُلُوك لِتَفَرُّدِهِ بفضله مقربا وَهُوَ مبرز فِي فنه حَتَّى إِن من شدا شَيْئا من الطِّبّ تبجح بِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ وَتردد لاستفادته إِلَيْهِ وَقد راضته الْعُلُوم الرياضية وأحكمت أخلاقه المعارف الْحكمِيَّة وَفِي الثَّانِي عشر من جُمَادَى الأولى توفّي الْأَمِير نجم الدّين بن مصال بِمصْر وجاءنا نعيه وَنحن بحمص فجاوز اغتمام السُّلْطَان برزئه حَده وَجلسَ فِي بَيت الْخشب مستوحشا وَحده وَقَالَ لَا يخلف الدَّهْر لي صديقا مثله بعده وأجرى مَا كَانَ لَهُ جَمِيعه لوَلَده وَحفظ عَهده وَكَانَ لجَماعَة من الْأَعْيَان وَالشعرَاء والأماثل والأدباء بعنايته ووساطته من السُّلْطَان رزق بقاه عَلَيْهِم كَأَنَّهُ عَلَيْهِ مُسْتَحقّ وَفِي الْعشْر الأول من ربيع الآخر أغارت طَائِفَة من الفرنج على بلد حماة فَخرج إِلَيْهَا مُتَوَلِّي عَسْكَر حماة الْأَمِير نَاصِر الدّين منكورس بن خمارتكين صَاحب حصن بو قبيس فَأسر المقدمين وَسَفك بِسَيْفِهِ دم البَاقِينَ وَجَاء إِلَى الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بِظَاهِر حمص وسَاق مَعَه الْأُسَارَى فَأمر السُّلْطَان بِضَرْب أَعْنَاقهم وَأَن يتَوَلَّى ذَلِك أهل التقى وَالدّين من الْحَاضِرين فَتقدم إِمَامه الضياء الطَّبَرِيّ وَضرب عنق بَعضهم وتلاه الشَّيْخ سُلَيْمَان المغربي ثمَّ الْأَمِير ايطغان بن ياروق واستدعي الْعِمَاد وَأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بذلك فَلم يفعل وَطلب أَن يملكهُ السُّلْطَان مِنْهُم صَغِيرا فعوض عَنهُ ثمَّ رَحل السُّلْطَان على طَرِيق الزِّرَاعَة إِلَى بعلبك فنازلها محاصرا من غير قتال فطال أمرهَا وَلم يسمح بهَا صَاحبهَا وَدخل فصل الشتَاء فَرَحل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى دمشق ووكل بهَا من يحصرها بِالْمَنْعِ من الْخُرُوج وَالدُّخُول من غير تال وهم جمَاعَة مَعَ طغرل الجاندار وَدخل إِلَى دمشق فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَجَب وَتَمَادَى الْأَمر إِلَى أَن رَضِي ابْن الْمُقدم بحصن بعرين وأعماله وببلد كفرطاب وأعيان نواح وقرى من بلد المعرة وَسلم بِتَسْلِيم بعلبك من الْمضرَّة والمعرة وَكَانَ الَّذِي أَخذه أَكثر وأنفع من الَّذِي خلاه وَمَا خطر بِبَالِهِ مَا حصل لَهُ وَلَا ترجاه وَلَا تمناه فصل كَالَّذي قبله فِي حوادث مُتَفَرِّقَة قَالَ الْعِمَاد وَكتب النواب بِدِمَشْق إِلَى السُّلْطَان أَن الْأَمْوَال ضائعة وَأَن الأطماع فِيهَا راتعة وَأَن فِي أَرْبَاب الصَّدقَات أَغْنِيَاء لَا يستحقونها وَمَا لَهُم رَقَبَة من الله يتقونها وَأَن أَرْبَاب العنايات استوعبوها وَمَا استوجبوها وان الْمصلحَة تَقْتَضِي إِفْرَاد جِهَات لما يسنح من مهمات وَكَانَت الصَّدقَات مبلغ أحد عشر ألف دِينَار فَقَالَ لي اكْتُبْ عَلَيْهَا جَمِيعهَا بالإمضاء وَلَا تكدر على ذَوي الآمال موارد الْعَطاء فَقلت أما أتلو عَلَيْك الْأَسْمَاء فَقَالَ لَا بل نزهني عَن هَذِه الْأَشْيَاء فَبَقيت تِلْكَ الرسوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 دارة والآمال بهَا سارة قَالَ وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة توفّي مُتَوَلِّي المقياس بِمصْر ففوض السُّلْطَان منصبه إِلَى أَخِيه قَالَ وَهَذَا المقياس مَوضِع مَبْنِيّ من عهد خلفاء بني الْعَبَّاس لتعرف زِيَادَة المَاء ونقصانه بِالْقِيَاسِ وَهُنَاكَ عَمُود فِي المَاء مقسوم بالأذرع والأذرع مقسومة بالأصابع فِي مَسْجِد يَنُوب فِي الجزيرة عَن الْجَامِع تصلى فِيهِ الْجَمَاعَات وَالْجمع ويتولاه من الْعَهْد الْقَدِيم متول من بني أبي الرداد مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالنزاهة وَالْعلم والسداد وَله راتب دَار ورسم وقرار قلت بَلغنِي أَن أَبَا الرداد هَذَا كَانَ معلما من أهل الصدْق وَالصَّلَاح رتبه جَعْفَر المتَوَكل على الله فِي ولَايَة المقياس وَبَقِي من بعده على وَلَده وقرأت فِي تَارِيخ الغرباء الَّذين قدمُوا مصر لأبي سعيد بن يُونُس قَالَ عبد الله بن عبد السَّلَام بن الرداد الْعمي بَصرِي قدم مصر وَحدث بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وَكَانَ قد جعل على قياسة النّيل توفّي بِمصْر لسبع بَقينَ من رَجَب سنة سِتّ وَسِتِّينَ ومئتين وَذكره أَبُو سعيد فِي أهل مصر أَيْضا وَقَالَ فِيهِ ولد هُوَ وَأَبوهُ بِمصْر قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة اشْتَدَّ الغلاء وَعم أَكثر الْبِلَاد الْعرَاق ومصر وديار بكر وديار الجزيرة وَالشَّام وَغير ذَلِك من الْبِلَاد ودام إِلَى أَن انْقَضى أَكثر سنة خمس وَسبعين وَخرج النَّاس فِي الْبِلَاد يستسقون فَلم يسقوا ثمَّ إِن الله تَعَالَى رحم عباده ولطف بهم وَأنزل عَلَيْهِم الْغَيْث وأرخص الأسعار وَمن عَجِيب مَا رَأَيْت تِلْكَ السّنة أنني كنت فِي الجزيرة فَأقبل إِنْسَان تركماني قد أثر فِيهِ الْجُوع وَكَأَنَّهُ قد أخرج من قبر فَبكى وشكا الْجُوع فَأرْسلت من اشْترى لَهُ خبْزًا فَتَأَخر إِحْضَاره لعدمه وَهُوَ يبكي ويتمرغ على الأَرْض فتغيمت السَّمَاء وَجَاءَت نقط مطر مُتَفَرِّقَة وضج النَّاس ثمَّ جَاءَ الْخبز فَأكل التركماني وَأخذ الْبَاقِي مَعَه وَمَشى وَاشْتَدَّ الْمَطَر ودام من تِلْكَ السَّاعَة فرخصت الأسعار وَوجدت الأقوات بعد أَن كَانَت مَعْدُومَة ثمَّ تعقب الغلاء وباء شَدِيد كثير وَكَانَ مرض النَّاس شَيْئا وَاحِدًا هُوَ سرسام فَمَاتَ فِيهِ من كل بلد أُمَم لَا يُحصونَ كَثْرَة وَلَقي النَّاس مِنْهُ مَا أعجزهم حمله ثمَّ إِن الله تَعَالَى رَفعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 فِي سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة وَقد ضعضع الْعَالم فصل فِي عمَارَة حصن بَيت الأحزان ووقعة الهنفري قَالَ الْعِمَاد وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان على بعلبك واشتغاله بِهِ انتهز الفرنج الفرصة فبنوا حصنا على مخاضة بَيت الأحزان وَبَينه وَبَين دمشق مَسَافَة يَوْم وَبَينه وَبَين صفد وطبرية نصف يَوْم وَقيل للسُّلْطَان مَتى أحكم هَذَا الْحصن تحكم من الثغر الإسلامي الوهن وغلق الرَّهْن فَيَقُول إِذا أتموه نزلنَا عَلَيْهِ وهدمناه إِلَى الأساس وجعلناه من الرسوم الأدراس فَكَانَ الْأَمر بعد سنة على مَا جرى على لَفظه من عدَّة حَسَنَة فَلَمَّا انْقَضى أَمر بعلبك وصل السُّلْطَان دمشق فَأَقَامَ بهَا وَأمر الْحصن من همه وَقصد حصاره من عزمه وَكَانَ الْعَام مجدبا والجدب عَاما وَقيل للسُّلْطَان لَيْسَ هَذِه سنة جِهَاد فَإِن استمنحوك السَّلامَة فامنح وَإِن جنحوا للسلم فاجنح فَقَالَ السُّلْطَان إِن الله أَمر بِالْجِهَادِ وكفل بالرزق فَأمره وَاجِب الِامْتِثَال ووعده ضَامِن الصدْق فنأتي بِمَا كلفنا لنفوز بِمَا كفله وَمن أغفل أمره أغفله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 قَالَ وَوصل فِي هَذِه السّنة رَسُول دَار الْخلَافَة وَهُوَ الْخَادِم فَاضل وَكَانَ من أفضل الخدم ندب بِأَفْضَل الخدم وَفَرح السُّلْطَان بِهِ واستصحبه مَعَه إِلَى الْغُزَاة ووقف بِهِ على الْحصن الَّذِي استجده الفرنج بالمشهد اليعقوبي وتخطف من حوله من الفرنج جمَاعَة وَأقَام على أهل الْمعْصِيَة بجهاده الطَّاعَة وَعَاد وَقد عرف مَا يعزم عَلَيْهِ من أَمر فَتحه قَالَ وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة كَانَت وقْعَة هنفري ومقتله وَذَلِكَ أَن الْأَخْبَار تَوَاتَرَتْ بِأَن الفرنج قد تجمعُوا فِي جمع عَظِيم وَأَنَّهُمْ عازمون على الْخُرُوج إِلَى الْمُسلمين على غرَّة فَقدم السُّلْطَان ابْن أَخِيه فرخشاه على عَسَاكِر دمشق وَأمره أَن يخرج إِلَى الثغر فَفعل وَأمره إِن علم بخروجهم أَن ينفذ إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بذلك وَلَا يلقاهم بل يتركهم حَتَّى يتوسطوا الْبِلَاد فَلم تشعر طلائع فرخشاه إِلَّا وَقد خالطوهم على غرَّة فَوَقَعت الْوَقْعَة فَقتل صَاحب الناصرة وَجَمَاعَة من مقدميهم وَطلب الْملك فَطرح حصانه وجرح فرسانه وَجَاء الهنفري ليحميه فَوَقَعت فِيهِ جراحات أَحدهَا نشابة وَقعت فِي مارنه فجدعته ونفذت إِلَى فِيهِ وَمَرَّتْ بضرسه فقلعته وَخرجت من تَحت فكه وَوَقعت أُخْرَى فِي مشط رجله فنفذت إِلَى أَخْمُصُهُ وَأُخْرَى فِي ركبته وَضرب بلت فِي جنبه فَكسر لَهُ ضلعين وَقتلت عدَّة من الرجالة والخيالة وَرجعت الفرنج بخزي عَظِيم لَيْسَ فيهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 إِلَّا مَجْرُوح وكل يَوْم ترد بشرى بِمَوْت مقدم من جِرَاحَة أَصَابَته ووردت بطاقة الطير فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى دمشق فَخرج السُّلْطَان فَمَا وصل إِلَى الْكسْوَة إِلَّا ورؤوسهم وأسراؤهم قد جِيءَ بهَا فَرجع مظفرا منصورا وذلت الفرنج بعْدهَا وانكسرت لمَوْت الهنفري ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى الْحصن الَّذِي بنوه فأزعجهم وذعرهم وَعَاد على عزم الْعود إِلَيْهِ قَالَ ثمَّ وَجه السُّلْطَان أَخَاهُ الْأَمِير تورانشاه من الشَّام إِلَى مصر بِمن ضعف من الأجناد لأجل مَحل الْبِلَاد فرتب فِي بعلبك نوابه وودعه السُّلْطَان من مرج الصفر وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة وَمر على بصرى وَمِنْهَا إِلَى الْأَزْرَق وَمِنْه إِلَى الجفر إِلَى أَيْلَة إِلَى صدر وَوصل مَعَه خلق كثير من التُّجَّار وَالرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال فصل قَالَ الْعِمَاد وسافر الْفَاضِل إِلَى الْحَج فِي هَذِه السّنة وَركب الْبَحْر فَكتبت إِلَيْهِ كتابا فِيهِ طُوبَى للحجر والحجون من ذِي الْحجر والحجا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 منيل الجدا ومنير الدجى ولندي الْكَعْبَة من كَعْب الندى وللهدايا المشعرات من مشْعر الْهدى وللمقام الْكَرِيم من مقَام الْكَرِيم وَمن حاطم فقار الْفقر للحطيم وَمَتى رئي هرم فِي الْحرم وحاتم ماتح زَمْزَم وَمَتى ركب الْبَحْر الْبَحْر وسلك الْبر الْبر لقد عَاد قس إِلَى عكاظه وَعَاد قيس لحفاظه وَيَا عجبا لكعبة تقصدها كعبة الْفضل والإفضال ولقبلة تستقبلها قبْلَة الْقبُول والإقبال قلت ومدحه أَبُو الْحسن بن الذروي عِنْد عوده من الْحَج بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا (علم الْبَحْر أَنَّك الْخلق وافاه ... فأمسى حشاه يخْفق رعْبًا) (وَغدا دره لَدَيْهِ حَقِيرًا ... إِذْ رأى الدّرّ مِنْك ينشىء سحبا) (وَلَو اخْتَار قَطْرَة مِنْك يَا بَحر ... لأضحى أجاجه الْملح عذبا) (هائج لم يزل دعاؤك حَتَّى ... هون الله مِنْهُ مَا كَانَ صعبا) (وَلَقَد نَام إِذْ ركبت وللريح ... هبوب وَحَيْثُ أرسيت هبا) (حبذا مَا صَنعته من أياد ... عَاد جَدب الْحجاز مِنْهُنَّ خصبا) (رمت كتمانها فذاعت وَهل يقدر ... غيث يخفي عَن الأَرْض سكبا) (قد رَأَتْ مِنْك كعبة الله لما ... جِئْتهَا حاتما وَإِن شِئْت كَعْبًا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 (بل رأى مِنْك بَيته بَيت مجد ... أحرم الْجُود حوله ثمَّ لبّى) (وَرَأى الرُّكْن من يَمِينك ركنا ... جَاءَ للثم أَبيض اللَّوْن رَضِي الله عَنهُ طِبًّا) (وزهت زَمْزَم بشربك مِنْهَا ... وَعَجِيب أَن يظْهر المَاء عجبا) (وتوجهت للمدينة عَن مكرمَة ... لما تشاركا فِيك حبا) (وأتيت الشَّام تلو فتوح ... سَار شرقا بهَا الهناء وغربا) (إِن تكن غبت عَنهُ وَالله يبقيك ... لأمثاله فَمَا غبت قلبا) (سرت والرأي فِيهِ مِنْك مُقيم ... بعثت الدُّعَاء فِي اللَّيْل كتبنَا) وَقد وقفت على الرقعة الَّتِي كتبهَا القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله بِخَطِّهِ إِلَى السُّلْطَان يلْتَمس مِنْهُ الْأذن لَهُ فِي سفر الْحَج فَأَحْبَبْت نقلهَا هُنَا وَمَا كتبت السُّلْطَان عَلَيْهَا وَمَا كتب بِسَبَبِهَا إِلَى بعض نوابه نقلت من خطّ الْفَاضِل رَحمَه الله بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كتب الْمَمْلُوك هَذِه الرقعة بعد أَن استخار الله سُبْحَانَهُ من مستهل رَجَب فِي أَكثر لياليه وَإِلَى آخر هَذِه السَّاعَة وَهُوَ يُنْهِي أَنه قد شَارف الْأَرْبَعين وَمَا يدْرِي لَعَلَّهَا عقبَة اللِّقَاء وَفرض الله فِي الْحَج قد تعين ووعد الْمولى بِهِ قد سبق عِنْد أَيْلَة وَمُدَّة الْغَيْبَة قَصِيرَة والنائب ينفذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي السّفر والحضر والثقة بِهِ حَاصِلَة فِي المرادين من الْكَاتِب وهما الكتمان والمعرفة وحظ الْمولى فِي حجه وَالله أَضْعَاف حَظه فِي مقَامه لِأَنَّهُ إِن كَانَ ينفع هُنَا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ ينفع هُنَاكَ فِي الْآخِرَة وَإِن لم يكن أَهلا لِأَن يُسْتَجَاب مِنْهُ فَالله أهل لِأَن يُجيب فِي الْمولى والمملوك فَمَا ثقل قطّ فِي سُؤال وَلَيْسَ لِأَن الْمولى لَا يَقْضِيهَا وَلَكِن لِأَنَّهُ يُغْنِيه عَن السُّؤَال فِيهَا وَهَذِه حَاجَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَبعدهَا ينشد (مَتى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَة ... لنَفْسي إِلَّا قد قضيت قضاءها) وَمَا أَرَادَ الْمَمْلُوك أَن يستشفع بِمن يُشَارك الْمولى فِي الْأجر وَمَا يُرِيد إِلَّا دستورا عَن نفس طيبَة ورضى ظَاهر وباطن وَلَا يُرِيد خلاف الْفَرْض فَمَا يقي لَهُ بِقَضَاء المفترض وَالله الْمعِين برحمته الْحَمد لله وَحده وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه وعَلى رَأس الرقعة فِي سطر الْبَسْمَلَة بِخَط السُّلْطَان رَحمَه الله مَا صورته على خيرة الله تَعَالَى يَا لَيْتَني كنت مَعكُمْ فأفوز فوزا عَظِيما نقلته من خطه ونقلت من خطّ بعض الْكتاب مَا نَقله من خطّ السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى بعض النواب فصل من كتاب كريم بالخط العالي الناصري أَعْلَاهُ الله ورد بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة وصلني كتاب القَاضِي الْفَاضِل وَهُوَ يذكر أَنه مصمم على الْحَج الله يَجعله مُبَارَكًا ميمونا وَلَكِن لَا أفسح لَهُ فِيهِ إِلَّا بعد ثِنْتَيْنِ وَاحِدَة أَنه لَا يركب بَحر يسير من الْعَسْكَر إِلَى أَيْلَة وَمِنْهَا يتَوَجَّه وَيُقِيم الْعَسْكَر على أَيْلَة لَيْلَة وعَلى إرم وَدون إرم لَيْلَة وقاطع إرم لَيْلَة فَيكون هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 (مَتى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَة ... لنَفْسي إِلَّا قد قضيت قضاءها) وَمَا أَرَادَ الْمَمْلُوك أَن يستشفع بِمن يُشَارك الْمولى فِي الْأجر وَمَا يُرِيد إِلَّا دستورا عَن نفس طيبَة ورضى ظَاهر وباطن وَلَا يُرِيد خلاف الْفَرْض فَمَا يَفِي لَهُ بِقَضَاء المفترض وَالله الْمعِين برحمته الْحَمد لله وَحده وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه وعَلى رَأس الرقعة فِي سطر الْبَسْمَلَة بِخَط السُّلْطَان رَحمَه الله مَا صورته على خيرة الله تَعَالَى يَا لَيْتَني كنت مَعكُمْ فأفوز فوزا عَظِيما نقلته من خطه ونقلت من خطّ بعض الْكتاب مَا نَقله من خطّ السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى بعض النواب فصل من كتاب كريم بالخط العالي الناصري أَعْلَاهُ الله ورد بتاريخ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة وصلني كتاب القَاضِي الْفَاضِل وَهُوَ يذكر أَنه مصمم على الْحَج الله يَجعله مُبَارَكًا ميمونا وَلَكِن لَا أفسح لَهُ فِيهِ إِلَّا بعد ثِنْتَيْنِ وَاحِدَة أَنه لَا يركب بَحر يسير من الْعَسْكَر إِلَى أَيْلَة وَمِنْهَا يتَوَجَّه وَيُقِيم الْعَسْكَر على أَيْلَة لَيْلَة وعَلى إرم لَيْلَة وَدون إرم لَيْلَة وقاطع إرم لَيْلَة فَيكون هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 قد بعد وَمَا يبْقى عَلَيْهِ خوف إِن شَاءَ الله تَعَالَى وثانية تَأْخُذ يَده وتحلفه برأسي أَنه لَا يجاور وثالثة تعطيه من مَال الجوالي ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَتقول لَهُ لَا بُد مَا تخرج هَذَا عني لَا عَنْك فِي المجاورين بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَفِي أَهلهَا هَذَا أَمر لَا بُد مِنْهُ فَإِن النَّاس لَا بُد لَهُم من الطّلب وَلَا بُد لَك من الْعَطاء وَإِن قَالَ إِن الشَّيْء قَلِيل فَأَنت تقرضني هَذَا الْمبلغ من مَالك وتعطيه إِيَّاه فَلَا بُد وَإِلَّا فَلَا إِذن لَهُ فِي الرواح إِلَى الْحَج إِلَّا على هَذِه الشُّرُوط الَّتِي قد شرطتها وَأما مَجِيئه فَيَجِيء إِلَى الشَّام فَأَنا مَا بَقِي لي دَار إِلَّا هِيَ حَتَّى يقْضِي الله بَيْننَا وَبَين الفرنج {وَهُوَ خير الْحَاكِمين} وَكتب الْفَاضِل إِلَى بعض مَشَايِخ مَكَّة بعد رُجُوعه سقى الله الْحجاز وَحيا كعبته وَيَا طول مَا ترشقني سِهَام الشوق الَّذِي أصبح الذّكر جعبته آها على تِلْكَ المواقف وتبا لمن رَضِي أَن يكون مَعَ الْخَوَالِف فرعيا ونعمى وحسنة وحسنى لمجاوري ذَاك الْحرم ولعامري أَيَّامه الَّتِي هِيَ الْأَيَّام لَا أَيَّام ذِي سلم فيالهف الصُّدُور وَطول غليلها إِلَى وُرُود مَاء زمزمه وطوبى لمن استضاء فِي مضال الظُّلم بِعِلْمِهِ وَمهما نسيت فَلَا أنسى برد الكبد بَحر صيفها وموسم الْأنس بِثَلَاث مناها وخيفها (آها عَلَيْهَا لَيَال مَا تركن لنا ... إِلَّا الأسى وعلالات من الْحلم) (عَسى الرِّيَاح إِذا سَارَتْ مبلغة ... توفّي فقد غدر الأحباب بالذمم) ثمَّ قَالَ فَأَما الطَّرِيق الْمُبَارَكَة فقد جرى فِيهَا خطوب وشؤون وَأَحَادِيث كلهَا شجون وَكَانَت العقبى إِلَى سَلامَة وَلما قاربنا الكرك نَهَضَ الْعَدو فَلم تمكن الرّجْعَة وَلَا التعريج جانبا ثمَّ من الله تَعَالَى بانجلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 النّوبَة ووصلنا إِلَى بِلَاد السُّلْطَان ولقينا ذَلِك الْوَجْه فَلَا عدمنا بشره وَذَلِكَ الْفضل فَلَا فَارَقت أَعيننَا فجره ووجدناه فِي الْغُزَاة جاهدا وللعدو مُجَاهدًا أوقاته مستغرقة وعزماته مُحَققَة فصل فِيمَا فعل مَعَ الفرنج فِي بَاقِي هَذِه السّنة وَأول الْأُخْرَى ووقعة مرج عُيُون قَالَ ابْن أبي طي كَانَت الفرنج قد عمرت بَيت الأحزان وَكَانَ على الْمُسلمين مِنْهُ ضَرَر عَظِيم فراسل السُّلْطَان الفرنج فِي هَدمه فَأَجَابُوا أَنه لَا سَبِيل إِلَى هَدمه إِلَّا أَن يُعْطِينَا مَا غرمنا عَلَيْهِ فبذل لَهُم السُّلْطَان سِتِّينَ ألف دِينَار فامتنعوا فَزَادَهُم إِلَى أَن بلغ مئة ألف دِينَار وَكَانَ هَذَا الْحصن للداوية وَكَانُوا يقوون من فِيهِ بالأموال والنفقات لقطع الطرقات على قوافل الْمُسلمين فَأَشَارَ تَقِيّ الدّين على السُّلْطَان ببذل هَذَا المَال لأجناد الْمُسلمين وَنخرج بهم إِلَى الْحصن ونهدمه فَفعل ذَلِك كَمَا سَنذكرُهُ قَالَ الْعِمَاد وَلما ودع السُّلْطَان أَخَاهُ وَرجع أغار فِي طَرِيقه على بِلَاد الفرنج وَقصد الْحصن الَّذِي بنوه وَرجع بالأسرى والغنائم وخيم السُّلْطَان بمروج الشُّعَرَاء ثمَّ انْتقل إِلَى بانياس وَبَلغت الخيم إِلَى حُدُود بِلَاد الْكَفَرَة وأضرم عَلَيْهِم لَهب النيرَان المستعرة وَكَانَ كل يَوْم يركب بِحجَّة الصَّيْد وَينزل على النَّهر ويجرد فرسَان الجلاد والقهر ويسير قبائل الْعَرَب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 إِلَى بلد صيدا وبيروت حَتَّى يحصدوا غلات الْعَدو وَلَا يبرح مَكَانَهُ حَتَّى يعودوا بجمالهم وأحمالها موثقة بأثقالها حَتَّى خف زرع الْكفَّار قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اقْتضى رَأْي الفرنج أَن يرعبوا الْمُسلمين فِي كل نَاحيَة خوفًا من اجْتِمَاعهم على جِهَة وَاحِدَة فغدر إبرنس أنطاكية وأغار على شيزر وغدر القومص بطرابلس بِجَمَاعَة من التركمان بعد الْأمان فرتب السُّلْطَان ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر فِي ثغر حماة وَمَعَهُ شمس الدّين بن الْمُقدم وَسيف الدّين عَليّ المشطوب ورتب ابْن عَمه نَاصِر الدّين فِي ثغر حمص فِي مُقَابلَة القومص وَكتب السُّلْطَان إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَهُوَ نَائِبه بِمصْر أَن ينتخب لَهُ من عَسْكَر مصر ألفا وَخمْس مئة فَارس يتقوى بهم مَعَ عَسْكَر الشَّام على الْعَدو ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخمْس مئة وَالسُّلْطَان نَازل على تل القَاضِي ببانياس فأجمع رَأْيه مَعَ بَقِيَّة الْمُسلمين على أَن يقتحموا على الْكفَّار دِيَارهمْ ويستوعبوا مَا بَقِي فِي أَيْديهم من الغلات فِي يَوْم وَاحِد ثمَّ يرجِعوا فيرحلوا صوب الْبِقَاع فنهضوا تِلْكَ اللَّيْلَة وَهِي لَيْلَة الْأَحَد ثَانِي محرم فَلَمَّا أصبح السُّلْطَان جَاءَهُ الْخَبَر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 بِأَن الفرنج قد خرجت فالتقاهم وَأنزل الله نَصره على الْمُسلمين وَأسر فرسانهم وشجعانهم وانهزمت رجالتهم فِي أول اللِّقَاء فَكَانَ من جملَة الأسرى مقدم الداوية ومقدم الإسبتارية وَصَاحب طبرية وأخو صَاحب جبيل وَابْن القومصية وَابْن بارزان صَاحب الرملة وَصَاحب جينين وقسطلان يافا وَابْن صَاحب مرقية وعدة كَثِيرَة من خيالة الْقُدس وعكا من البارونية وَغَيرهم من المقدمين الأكابر مَا زَاد على مئتين ونيف وَسبعين سوى غَيرهم ثمَّ قدمت الْأُسَارَى وهم يتهادون كَأَنَّهُمْ سكارى قَالَ الْعِمَاد وَأَنا جَالس بِقرب السُّلْطَان استعرضهم بقلمي وَمن ألطاف الله تَعَالَى أَنا وخواصه الْحَاضِرين لم نزد على عشْرين والأسرى قد أنافوا على سبعين وَقد أنزل الله علينا السكينَة وخصهم بالذلة المستكينة وطلع الصَّباح وَرفع الْمِصْبَاح وقمنا وصلينا بِالْوضُوءِ الَّذِي صلينَا بِهِ الْعشَاء ثمَّ عرض الْبَاقُونَ من الأسرى ثمَّ نقلوا إِلَى دمشق فَأَما ابْن بارزان فَإِنَّهُ بعد سنة بذل فِي نَفسه مئة وَخمسين ألف دِينَار صورية وَإِطْلَاق ألف أَسِير من الْمُسلمين وَكَانَ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى من نوبَة الرملة عِنْدهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 من المأسورين فالتزم إِدْرَاكه وَأَن يُؤَدِّي من قطيعة الْمَذْكُور القطيعة الَّتِي قرر بهَا فكاكه وَأما ابْن القومصية فَإِنَّهُ استفكته أمه بِخَمْسَة وَخمسين ألفا من الدَّنَانِير الصورية وَأما أود مقدم الداوية فَإِنَّهُ انْتقل من سجنه إِلَى سِجِّين فطلبت جيفته فَأَخَذُوهَا بِإِطْلَاق أَسِير من مقدمي الْمُؤمنِينَ وَطَالَ أسر البَاقِينَ فَمنهمْ من هلك وَهُوَ عان وَمِنْهُم من خرج بقطيعة وأمان وَهَذِه هِيَ وقْعَة مرج عُيُون وَكَانَ الْعَدو فِي عشرَة آلَاف مقَاتل وَانْهَزَمَ ملكهم مجروحا وَكَانَ لعزّ الدّين فرخشاه فِي هَذِه الْوَقْعَة بلَاء حسن حكى حسام الدّين تميرك بن يُونُس وَكَانَ مَعَ عز الدّين قَالَ كُنَّا فِي أقل من ثَلَاثِينَ فَارِسًا قد تقدمنا الْعَسْكَر فشاهدنا خيل الفرنج فِي سِتّ مئة فَارس واقفين على جبل وبيننا وَبينهمْ المَاء فَأَشَارَ عز الدّين أَن نعبر النَّهر إِلَيْهِم فَفَعَلْنَا ولحقنا عَسْكَر السُّلْطَان فهزمناهم وَمن أحسن مَا اتّفق أَن الْيَوْم الَّذِي كسرت فِيهِ الفرنج بمرج عُيُون ظفر الأسطول الْمصْرِيّ ببطسة كَبِيرَة فاستولى عَلَيْهَا وعَلى أُخْرَى وَعَاد إِلَى الثغر مستصحبا ألف رَأس من السَّبي فَمَا أقرب مَا بَين النصرين فِي المصرين وَمَا أعذب عَذَاب الفئتين وتجريعهما الْأَمريْنِ الْأَمريْنِ لقد عَم النَّصْر وتساوى فِيهِ الْبر وَالْبَحْر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان فِي هَذَا الْفَتْح مِدْحَة سَيرهَا من مصر إِلَيْهِ فَخر الْكتاب أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ الْعِرَاقِيّ الْجُوَيْنِيّ أَولهَا (لَك رب السَّمَاء خير معِين ... وكفيل بِمَا تحب ضمين) (فَلهُ الْحَمد أَي نصر عَزِيز ... قد حبانا بِهِ وَفتح مُبين) (أدْرك الثأر حِين نازله المغوار ... حتف الْكفَّار لَيْث العرين) (الْهمام الغضنفر الْملك النَّاصِر ... مولى الورى صَلَاح الدّين) (يَا مليكا أضحى الزَّمَان يناجيه ... بِلَفْظ الْمُذَلل المستكين) (قذفت أَهلهَا الْحُصُون إِلَى بأسك ... حَتَّى عوضتهم بالسجون) (وأراهم رب السَّمَاء بأسيافك ... مالم يجل لَهُم فِي ظنون) (لَك قلب عِنْد اللِّقَاء مكين ... وَله من تقاه ألف كمين) (يَا مليكا يلقى الحروب بحول الله ... مستعصما وَصدق الْيَقِين) (إِن هَذَا الْفَتْح الْمُبين شِفَاء ... لصدور وقرة لعيون) (هُوَ يَوْم أضحى كَيَوْم حنين ... سهل الله نَصره فِي الحزون) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ تَقِيّ الدّين غَائِبا عَن هَذِه الْوَقْعَة واشتغل عَنْهَا بغَيْرهَا وَذَلِكَ أَن سُلْطَان الرّوم قليج أرسلان طلب حصن رعبان وَادّعى أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين رَحمَه الله على خلاف مُرَاده وَأَن الْملك الصَّالح وَلَده قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ وَرَضي بعوده إِلَيْهِ فَلم يفعل السُّلْطَان وَكَانَ هَذَا الْحصن مَعَ ابْن الْمُقدم فَأرْسل قليج أرسلان عسكرا مجمعا فِي عشْرين ألفا لحصار الْحصن فَلَقِيَهُمْ تَقِيّ الدّين وَمَعَهُ سيف الدّين عَليّ المشطوب فِي ألف مقَاتل فَهَزَمَهُمْ قَالَ وَلم يزل تَقِيّ الدّين يدل بِهَذِهِ النُّصْرَة فَإِنَّهُ هزم بآحاد ألوفا وأرغم بأعداد من الْأَعْدَاء أنوفا وَقَالَ ابْن أبي طي واتصل بالسلطان أَن قليج أرسلان قد طمع فِي أَخذ رعبان وكيسون فَلَمَّا دخل دمشق وَصله رَسُوله يطلبهما مِنْهُ وَيَدعِي أَن نور الدّين بن زنكي اغتصبهما مِنْهُ وَأَن الْملك الصَّالح قد أنعم عَلَيْهِ بهما فاغتاظ السُّلْطَان وزبر الرَّسُول وتوعد صَاحبه فَعَاد الرَّسُول وَأخْبر قليج أرسلان فَغَضب وسير عسكرا إِلَى رعبان فحاصرها وَسمع السُّلْطَان فندب تَقِيّ الدّين عمر فِي ثَمَانِي مئة فَارس فَسَار فَلَمَّا قَارب رعبان أَخذ مَعَه جمَاعَة من أَصْحَابه مِقْدَار مئتي فَارس وَتقدم عسكره وَسَار حَتَّى أشرف على عَسْكَر قليج أرسلان لَيْلًا فَرَآهُمْ قد سدوا الفضاء وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 قَارون آمنون وادعون فَقَالَ تَقِيّ الدّين لأَصْحَابه هَؤُلَاءِ على مَا ترَوْنَ من الطُّمَأْنِينَة والأمن والغفلة وَقد رَأَيْت أَن نحمل فيهم بعد أَن نتفرق فِي جَوَانِب عَسْكَرهمْ ونصيح فيهم فَإِنَّهُم لَا يثبتون لنا فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فأنفذ وَاحِدًا من أَصْحَابه إِلَى بَاقِي عسكره وَأمرهمْ أَن يتفرقوا أطلابا وَأَن يَجْعَل فِي كل طلب قِطْعَة من الكوسات والبوقات فَإِذا سمعُوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدوا فِي السّير حَتَّى يلْحقُوا بِهِ فَفَعَلُوا مَا أَمرهم ثمَّ إِنَّه حمل فِي عَسْكَر قليج أرسلان وصرخ أَصْحَابه فِي جوانبه وَكَانَ عدَّة عَسْكَر قليج أرسلان ثَلَاثَة آلَاف فَارس فَلَمَّا سمعُوا الضجة وحس الكوسات والبوقات وَشدَّة وَقع حوافر الْخَيل وجلبة الرِّجَال واصطكاك أجرام الْحَدِيد هالهم ذَلِك وظنوا أَنهم قد فوجئوا بعالم عَظِيم فَلم يكن لَهُم إِلَّا أَن جالوا فِي كواثب خيولهم عريا وطلبوا النجَاة وأخذتهم السيوف فتركوا خيامهم وأثقالهم بِحَالِهَا وَأكْثر تَقِيّ الدّين فيهم الْقَتْل والأسر وَحصل على جَمِيع مَا تَرَكُوهُ فَلَمَّا أصبح جمع المأسورين وَمن عَلَيْهِم بِأَمْوَالِهِمْ وكراعهم وسرحهم إِلَى بِلَادهمْ قَالَ وَقيل إِن الْخَبَر بِهَذِهِ الكسرة وصل إِلَى السُّلْطَان فِي الْيَوْم الَّذِي كسر فِيهِ السُّلْطَان الفرنج على مرج عُيُون فتوافت البشارتان إِلَى الْبِلَاد قَالَ وَقد مدح ابْن التعاويذي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بقصيدة أنفذها إِلَيْهِ من بَغْدَاد يذكر فِيهَا وقْعَة مرج عُيُون يَقُول فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 (كَاد الأعادي أَن يصيبك كيدها ... لَو لم تكدك برأيها المأفون) (تخفي عداوتها وَرَاء بشاشة ... فتشف عَن نظر لَهَا مشفون) (دفنت حبائل مكْرها فرددتها ... تدوى بغيظ صدورها المدفون) (وَعلمت مَا أخفوا كَأَن قُلُوبهم ... أفضت إِلَيْك بسرها المخزون) (كمنوا وَكم لَك من كمين سَعَادَة ... فِي الْغَيْب يظْهر من وَرَاء كمين) (فهوت نُجُوم سعودهم وَقضى لَهُم ... بالنحس طائرهم بمرج عُيُون) قلت هَكَذَا أنْشدهُ وَهُوَ حسن وَقد كشفته من نُسْخَة من ديوَان ابْن التعاويذي فَوجدت آخر هَذَا الْبَيْت (طَائِر جدك الميمون ... ) وَأول هَذِه القصيدة (إِن كَانَ دينك فِي الصبابة ديني ... فقف الْمطِي برملتي يبرين) ثمَّ قَالَ بعد تَمام الْغَزل (لَيْت الضنين على الْمُحب بوصله ... لقن السماحة من صَلَاح الدّين) (ملك إِذا علقت يَد بذمامه ... علقت بِحَبل فِي الْحفاظ متين) (قاد الْجِيَاد معاقلا وَإِن اكْتفى ... بمعاقل من رَأْيه وحصون) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 (سهرت جفون عداهُ خيفة ماجد ... خلقت صوارمه بِغَيْر جفون) (لَو أَن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إِلَى غَابَ لَهُ وعرين) (أضحت دمشق وَقد حللت بجوها ... مأوى الطريد وموئل الْمِسْكِين) (لَك عفة فِي قدرَة وتواضع ... فِي عزة وشراسة فِي لين) (وأريتنا بجميل صنعك مَا روى ... الراوون عَن أُمَم خلت وقرون) (وضمنت أَن تحيي لنا أيامهم ... بالمكرمات فَكنت خير ضمين) قَالَ ابْن أبي طي نزل السُّلْطَان على تل القَاضِي ببانياس على المرج الَّذِي يعرف بمرج عُيُون وأنفذ فِي ثَانِي الْمحرم قِطْعَة من عسكره مَعَ عز الدّين فرخشاه لشن الْغَارة على بِلَاد الفرنج فَلَمَّا أصبح ركب يستوكف أَخْبَار فرخشاه فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرج من الخيم حَتَّى رأى أَغْنَام بانياس قد أَقبلت من المراعي هاجة على وجوهها من الغياض والأودية فَقَالَ هَذِه غَارة فَأمر بِلبْس السِّلَاح والاستعداد للحرب فوصل بعض الرُّعَاة فَأخْبر أَن الفرنج قد عبروا وصاروا قَرِيبا مِنْهُ على هَيْئَة المتغفلة فَسَار حَتَّى أشرف على الفرنج فَإِذا هم فِي ألف رمح فَأَخَذتهم السيوف والدبابيس حَتَّى فرشت الأَرْض مِنْهُم وَألقى جمَاعَة مِنْهُم سِلَاحهمْ وسلموا أنفسهم أُسَارَى وَنَجَا ملك الفرنج هنفري هَارِبا وَيُقَال إِنَّه وقف بِهِ فرسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فَحَمله أحد خيالته على ظَهره ثمَّ رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مُعَسْكَره وسيفه يقطر دَمًا وَجلسَ لاستعراض الْأُسَارَى فَذكر نَحْو مَا سبق وَفِي كتاب الْفَاضِل إِلَى صَاحب لَهُ بِمَكَّة وَقد سبق بعضه قَالَ وَجَرت نوبه مِنْهَا نوبَة قتل الهنفري لَعنه الله وَتَمام سبعين فَارِسًا من كبار الخيالة وَطرح ملك الفرنج من على ظهر دَابَّته وتحامله بآخر رَمق مَعَ بَقِيَّة من نجا من خيالته وَمِنْهَا نوبَة وَادي الْحَرِيق وَقد جمع الله الْعَدو فارسه وراجله وَمِنْهَا نصر الله الَّذِي مَا كَانَ قبله لملك من مُلُوك الأَرْض قتل ابْن بارزان ومقدم الداوية وَابْن صَاحب طبرية وأخو أَسْقُف صور وَصَاحب جبيل وَأَصْحَاب الْحُصُون والقلاع ومقطعو الأقاليم والضياع وَحصل تَحت الْيَد الناصرية أَعْلَاهَا الله مئة وَسِتُّونَ كلهم تثنى عَلَيْهِم الخناصر وتقطر بهم العساكر وَمِنْهَا دُخُول العساكر إِلَى عمل بيروت وصور وغارتها على غرَّة من أَهلهَا وَقطع كل شَجَرَة مثمرة من أَصْلهَا قَالَ وَكَانَت الأساطيل المنصورة قد تضاعفت عدتهَا إِلَى أَن بلغت سِتِّينَ شينيا وَعشْرين طريدة فسارت الشواني خَاصَّة فَدخلت الْبِلَاد الرومية ودوخت السواحل الفرنجية وأسرت ألف علج أحضرتهم أسرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فِي قيد الإسار وَقتلت الرفاق الْكِبَار وغنمت من هَذِه الْغَزْوَة أَقوام كَانَت أَعينهم لَا تعرف عين الدِّرْهَم وَلَا وَجه الدِّينَار فصل فِي تخريب حصن بَيت الأحزان وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول قَالَ الْعِمَاد جمع السُّلْطَان جموعا كَثِيرَة من الخيالة والرجالة وَسَار فوصل إِلَى المخاضة يَوْم السبت تَاسِع عشر الشَّهْر والحصن مَبْنِيّ دونهَا من الغرب فخيم مِنْهَا بِالْقربِ وضاق ذَلِك المرج عَن الْعَسْكَر وَاحْتَاجَ إِلَى نصب ستائر لأجل المنجنيقات فَركب السُّلْطَان بكرَة الْأَحَد إِلَى ضيَاع صفد وَكَانَت قلعة صفد يَوْمئِذٍ للداوية وَهُوَ عش البلية وَأمر بِقطع كرومها وَحمل أخشابها فَأخذ كل مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَرجع بعد الظّهْر وزحفوا إِلَى الْحصن بعد الْعَصْر فَمَا أَمْسَى الْمسَاء إِلَّا وهم قد استولوا على الباشورة وانتقلوا بكليتهم إِلَيْهَا وَبَاتُوا طول اللَّيْل يَحْرُسُونَ وخافوا أَن تفتح الفرنج الْأَبْوَاب ويغيروا عَلَيْهِم على غرَّة وَإِذا الفرنج قد أوقدوا خلف كل بَاب نَارا ليأمنوا من الْمُسلمين اغْتِرَارًا فاطمأن الْمُسلمُونَ وَقَالُوا مَا بَقِي إِلَّا نقب البرج ففرقه السُّلْطَان على الْأُمَرَاء فَأخذ فرخشاه الْجَانِب القبلي وَأخذ السُّلْطَان الْجَانِب الشمالي وَقصد نَاصِر الدّين بن شيركوه بِقُرْبِهِ نقبا وَكَذَلِكَ تَقِيّ الدّين وكل كَبِير فِي الدولة جعل لَهُ قسما وَكَانَ البرج مُحكم الْبناء فصعب نقبه لَكِن مَا انْقَضى يَوْم الْأَحَد إِلَّا وَقد تمّ نقب السُّلْطَان وعلق وَحشِي بالحطب لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَحرق وَكَانَ النقب فِي طول ثَلَاثِينَ ذِرَاعا فِي عرض ثَلَاث أَذْرع وَكَانَ عرض السُّور تسع أَذْرع فَمَا تأثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 بذلك فَاحْتَاجَ السُّلْطَان صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ إِلَى إطفاء النيرَان ليتم نقبه وَقَالَ من جَاءَ بقربة مَاء فَلهُ دِينَار قَالَ الْعِمَاد فَرَأَيْت النَّاس للقرب حاملين ولأوعية المَاء ناقلين حَتَّى أغرقوا تِلْكَ النقوب فخمدت فَعَاد نقابوها وَقد بردت فخرقوه وعمقوه وفتحوه وفتقوه وشقوا حجره وفلقوه ثمَّ حشوه وعلقوه واستظهروا فِيهِ يومي الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء ثمَّ أحرقوه وَاشْتَدَّ الْحِرْص عَلَيْهِ لِأَن الْخَبَر أَتَاهُم بِأَن الفرنج قد اجْتَمعُوا بطبرية فِي جمع كثير فَلَمَّا أصبح يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَتَعَالَى النَّهَار انقض الْجِدَار وتباشرت الْأَبْرَار وَكَانَ الفرنج قد جمعُوا وَرَاء ذَلِك الْوَاقِع حطبا فَلَمَّا وَقع الْجِدَار دخلت الرِّيَاح فَردَّتْ النَّار عَلَيْهِم وأحرقت بُيُوتهم وَطَائِفَة مِنْهُم فَاجْتمعُوا إِلَى الْجَانِب الْبعيد من النَّار وطلبوا الْأمان فَلَمَّا خمدت النيرَان دخل النَّاس وَقتلُوا وأسروا وغنموا مئة ألف قِطْعَة من الْحَدِيد من جَمِيع أَنْوَاع الأسلحة وشيئا كثيرا من الأقوات وَغَيرهَا وَجِيء بالأسارى إِلَى السُّلْطَان فَمن كَانَ مُرْتَدا أَو راميا ضربت عُنُقه وَأكْثر من أسر قَتله فِي الطَّرِيق الْغُزَاة المطوعة وَكَانَ عدَّة الْأُسَارَى نَحْو سبع مئة وخلص من الْأسر أَكثر من مئة مُسلم وسير بَاقِي الْأُسَارَى إِلَى دمشق وَأقَام السُّلْطَان بِمَنْزِلَتِهِ حَتَّى هُدُوا الْحصن إِلَى الأساس وطم جب مَاء معِين كَانُوا حفروه فِي وَسطه وَرمى فِيهِ الْقَتْلَى وَكَانَ عِنْد السُّلْطَان رَسُول القومص معافى وَهُوَ يُشَاهد بلية أهل مِلَّته وَقد كَانَ السُّلْطَان بذل لَهُم فِي هَدمه سِتِّينَ ألف دِينَار فَلم يَفْعَلُوا فَزَادَهُم حَتَّى بلغ مئة ألف فَأَبَوا وَكَانَ مُدَّة الْمقَام على الْحصن فِي أَيَّام فَتحه وَبعدهَا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وَبعد ذَلِك سَار السُّلْطَان إِلَى أَعمال طبرية وصور وبيروت وَغَيرهَا فَأَغَارَ عَلَيْهَا وأرجف قُلُوبهم بوصوله إِلَيْهَا وَرجع السُّلْطَان إِلَى دمشق يَوْم الْأَرْبَعَاء وَمرض جمَاعَة من ذَلِك الوباء لِأَن الْحر كَانَ شَدِيدا وأنتنت جيف الْقَتْلَى وَطول السُّلْطَان الْمقَام عَلَيْهِ بعد فَتحه لأجل تتميم هَدمه فَتوفي أَكثر من عشرَة أُمَرَاء وَعَاد المشهد اليعقوبي كَمَا كَانَ مزورا وبتكبير الْمُسلمين وصلاتهم معمورا وهنأ الشُّعَرَاء السُّلْطَان بِفَتْح هَذَا الْحصن فَمن ذَلِك مَا أنْشدهُ نشو الدولة أَحْمد بن نفاذة الدِّمَشْقِي من جملَة مدائحه (هَلَاك الفرنج أَتَى عَاجلا ... وَقد آن تكسير صلبانها) (وَلَو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بَيت أحزانها) وَلأبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن رستم الساعاتي الْخُرَاسَانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي من قصيدة أَولهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 (بجدك أعطاف القنا تتعطف ... وطرف الأعادي دون مجدك يطرف) (شهَاب هدى فِي ظلمَة الشَّك ثاقب ... وَسيف إِذا مَا هزه الله مرهف) (وقفت على حصن الْمَخَاض وَإنَّهُ ... لموقف حق لَا يوازيه موقف) (فَلم يبد وَجه الأَرْض بل حَال دونه ... رجال كآساد الشرى وَهِي تزحف) (وجرداء سلهوب وَدرع مضاعف ... وأبيض هندي ولدن مثقف) (وَمَا رجعت أعلامك الصفر سَاعَة ... إِلَى أَن غَدَتْ أكبادها السود ترجف) (كبا من أعاليه صَلِيب وبيعة ... وشاد بِهِ دين حنيف ومصحف) (صليبة عباد الصَّلِيب ومنزل النزال ... لقد غادرته وَهُوَ صفصف) (أيسكن أوطان النَّبِيين عصبَة ... تمين لَدَى أيمانها وَهِي تحلف) وَمِنْهَا (نصحتكم والنصح فِي الدّين وَاجِب ... ذَروا بَيت يَعْقُوب فقد جَاءَ يُوسُف) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وَمن قصيدة لسعادة الضَّرِير الْحِمصِي (حللت فَكنت الألمعي المسددا ... وسرت فَكنت الشمري المؤيدا) (وَقمت بأعباء الممالك ناهضا ... فأقعدت أَعدَاء وَلم تخش مقْعدا) (تعودت ضرب السَّيْف والطعن بالقنا ... وكل امرىء مغرى بِمَا قد تعودا) (نصرت الْهدى لما تخاذل حزبه ... فناداك حزب الله يَا نَاصِر الْهدى) (غضِبت لدين أَنْت حَقًا صَلَاحه ... فأرضيت لما أَن غضِبت مُحَمَّدًا) (فيا يُوسُف الْخَيْر الَّذِي فِي يَمِينه ... من الْخَيْر مَا قد غَار فِينَا وأنجدا) (وصلت لذِي سلم وصلت لذِي وغى ... ففقت جَمِيع النَّاس بالبأس والندى) (وقدت إِلَى الْأَعْدَاء جَيْشًا عرمرما ... إِذا أبرقت فِيهِ الصوارم أرعدا) (فَلم تبْق للطغيان شملا مجمعا ... وَلم تبْق للْإيمَان شملا مبددا) (فناهيك من جَيش نهضت بعبئه ... فأقعدت لما أَن نهضت بِهِ العدى) (حملت ذبالا فِي ذوابل سمره ... فَلَمَّا دجا ليل العجاج توقدا) (وزرت بِهِ الْحصن الَّذِي لَو تحصنت ... فوارسه بِالنَّجْمِ أوردته الردى) (قصمت بِهِ صلب الصَّلِيب ورعته ... وسهدته لما غفا فتسهدا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 (وفض بِمَا قد فضه من سهامه ... نواجذ ثغر الهنفري وقددا) (هببت إِلَيْهِ هبة يوسفية ... تعيد هباء كل مَا كَانَ جلمدا) قَالَ وَمِنْهُم الْأَمِير نجم الدّين مَحْمُود بن الْحسن بن نَبهَان الْعِرَاقِيّ من أهل الْحلَّة المزيدية كَانَ حَاضرا فِي نوبَة ابْن بارزان لَهُ من قصيدة أَولهَا (هَنِيئًا صَلَاح الدّين بِالْفَتْح والنصر ... ونيل الْأَمَانِي الغر والفتكة الْبكر) (وَمَا حزت فِيهَا من فخار وَمن علا ... وَحسن ثَنَا يبْقى إِلَى آخر الدَّهْر) (سموت لَهَا بالمشرفية والقنا ... سمو أبي لَا ينَام على وتر) (وصلت بهَا حَبل المفاخر مِثْلَمَا ... قطعت بهَا يَوْم الوغى دابر الْكفْر) (سللت بَيَاض الصُّبْح وَهُوَ صوارم ... وخضت سَواد اللَّيْل وَهُوَ دم يجْرِي) (وَقد عرف الإفرنج بأسك فِي الوغى ... وجرعتهم مِنْهُ أَمر من الصَّبْر) (وظنوا بِنَاء الْحصن صونا لملكهم ... فَأصْبح بالشعراء منهتك السّتْر) (فَمَا قبضت مِنْهُم يَد الْغدر قطعت ... أناملها إِلَّا على صَفْقَة الخسر) (هِيَ الفتكة الغراء لَا زلت قَائِما ... بأمثالها للدّين فِي السِّرّ والجهر) (وَأصْبح فِي أقْصَى خُرَاسَان ذكرهَا ... وَفِي كل قلب مِنْهُ جَيش من الذعر) (فَلَا ترض مِنْهُم بعْدهَا بذل طَاعَة ... فَمَا خلقُوا إِلَّا على شِيمَة الْغدر) (وسر واملك الأَرْض الَّتِي لَو تركتهَا ... لأغضت عُيُون الْمجد مِنْهَا على أَمر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 (فيا آل أَيُّوب حويتم مناقبا ... بأخمصها تعلو على الأنجم الزهر) (إِذا عد أَرْبَاب الفخار فَأنْتم ... ذَوُو الفعلات الغر والنائل الْغمر) (وَأَنت الَّذِي أَصبَحت بالبأس والتقى ... وبذل اللهى عالي السنا عطر الذّكر) وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد فِي وصف الْحصن وَقد عرض حَائِطه إِلَى أَن زَاد على عشرَة أَذْرع وَقطعت لَهُ عِظَام الْحِجَارَة كل فص مِنْهَا من سبع أَذْرع إِلَى مَا فَوْقهَا وَمَا دونهَا وعدتها تزيد على عشْرين ألف حجر لَا يسْتَقرّ الْحجر فِي مَكَانَهُ وَلَا يسْتَقلّ فِي بُنْيَانه إِلَّا بأَرْبعَة دَنَانِير فَمَا فَوْقهَا وَفِيمَا بَين الحائطين حَشْو من الْحِجَارَة الصم المرغم بهَا أنوف الْجبَال الشم وَقد جعلت تسقيته بالكلس الَّذِي إِذا أحاطت قَبضته بِالْحجرِ مازجه بِمثل جِسْمه وَصَاحبه بأوثق وأصلب من جرمه وأوعز إِلَى خَصمه من الْحَدِيد بَالا يتَعَرَّض لهدمه وَمِنْه فِي وصف النَّار قَالَ وَبَات النَّاس فِي لَيْلَة الْجُمُعَة مطيفين بالحصن وَالنَّار بِهِ مطيفة وَعَلِيهِ مُشْتَمِلَة وعذبات ألسنتها على تاجه منسدلة وعَلى خَلفه مسبلة ونارهم قد أطفأها الله بِتِلْكَ النَّار الواقدة ومنعتهم قد أذهبها الله بِتِلْكَ الأبرجة الساجدة وبنفسج الظلماء قد اسْتَحَالَ جلنارا والشفق قد عَم اللَّيْلَة فَلم يخْتَص آصالا وَلَا أسحارا ونفحاتها حميمية وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة وَالْبَلَاء يُنَادي بِلِسَان مصابها إياك أَعنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 واسمعي يَا جَارة فولجت النَّار موالج تضيق مِنْهَا الْفِكر وتعجز عَنْهَا الإبر ونقلت النبأ من الْعين إِلَى الْأَثر وَقَالَ الْكفْر إِنَّهَا لإحدى الْكبر وخولف الْمثل إِن السَّعَادَة لتلحظ الْحجر وأغنى ضوؤها لِسَان كل إمعة أَن يسْأَل هَذَا وَهَذَا مَا الْخَبَر وقذفت بشرر كالجمالات الصفر وزفرت بغيظ تعفر لَهُ خدود الْجبَال الصغر وتلحقها بالكثب العفر وَبَات اللَّيْل وَالنَّهَار يشله وَكلما أغمده الخمود جعل الْوقُود يَسلهُ إِلَى أَن بدا الصَّباح كَأَنَّهُ مِنْهَا امتار الْأَنْوَار وَانْشَقَّ الشرق وَمن عصفرها صبغ الْإِزَار فَحِينَئِذٍ تقدم الْخَادِم فاقتلع شده الْأَحْجَار من أسها ومحا حُرُوف الْبُنيان من طرسها وَتَبعهُ الْجَيْش ورفاقه وكافة من اشْتَمَل عَلَيْهِ نطاقه وَفِي كتاب آخر وَكَانَ مَبْنِيا على تل وَفِيه صهريج لما فتح الْمُسلمُونَ الْحصن رموا فِيهِ مَا يناهز ألف قَتِيل ودابة محرقة بالنَّار فَمَا سدت عرصته وَلَا مَلَأت حفرته وَكَانَ فِيهِ نَحْو ألف زردية والمقاتلة ثَمَانُون فَارِسًا بغلمانهم وَخَمْسَة عشر مقدما للرِّجَال مَعَ كل مقدم خَمْسُونَ رجلا هَذَا إِلَى الصناع مَا بَين بِنَاء ومعمار وحداد ونجار وصيقل وسيوفي وصناع أَنْوَاع الأسلحة وَكَانَ بِهِ من أسرى الْمُسلمين مَا يزِيد على مئة رجل نزعت الْقُيُود من أَرجُلهم وَجعلت فِي أرجل الفرنج وَكَانَت فِيهِ أقوات لعدة سِنِين وأنواع اللحوم الطّيبَة والخبيثة فِيهَا بَلَاغ ومتاع إِلَى حِين وَلما قوتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أول يَوْم هجم حوشه وَفِيه جمَاعَة من الْمُقَاتلَة فَضربت رقابهم وَأخذت دوابهم وَفِي الْحَال علقت النقوب على خمس جِهَات وحشيت بالنيران وَتَأَخر وُقُوع الجدران لفرط عرض الْبُنيان وَلم تزل النَّار توقد ثمَّ تخرج ثمَّ تشعل ثمَّ تخمد إِلَى أَن تمكنت النقوب وحشيت بالأحطاب وأطلقت فِيهَا النيرَان فِي يَوْم الْخَمِيس فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة وانشقت الأبرجة فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية وَملك الْمُسلمُونَ الْحصن بِمَا فِيهِ وَمن فِيهِ واشتعلت النيرَان فِي أرجائه ونواحيه وَكَانَ الطاغية مقدم الْحصن يُشَاهد مَا حل ببنيانه وَمَا نزل من الْبلَاء بِأَصْحَابِهِ وأعوانه وَلما وصلت النَّار إِلَى جِهَته ألْقى نَفسه فِي خَنْدَق نَار صَابِرًا على حرهَا فَفِي الْحَال نقلته هَذِه النَّار إِلَى تِلْكَ النَّار وَلما أَخذ أُسَارَى الإفرنج وهم عدَّة تزيد على سبع مئة بعد المقتولين وَمَا تقصر عدتهمْ عَن مثلهَا توفرت الهمة على هدم هَذَا الْحصن وتعفيه أَثَره وَإِزَالَة ضَرَره فألحقت أعاليه بقواعده وَصَارَ أثرا بعد عين فِي عين مشاهده هَذَا والفرنج مجتمعون فِي طبرية يشاهدون الْأَمر عيَانًا وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْحصن قد مَلِيء نيرانا وارتفع دخانا وسارت العساكر إِلَى أَعمال صيدا وبيروت وصور فأنثنت مُغيرَة فاستثارت كل غامضة ووصلت إِلَى كل ذخيرة وَصَارَت بِلَاد الفرنج لَا يسكن مِنْهَا إِلَّا كل قلعة أَو مَدِينَة وَلَا يُقيم فِيهَا إِلَّا من نَفسه لشدَّة الْخَوْف معتقلة فِي نَفسه أَو مشحونة وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد تَأَخّر فلَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 لضرورات مِنْهَا أمراض كَانَت قد عَمت بهَا الْبلوى وَكَثُرت بهَا الشكوى وَكَانَ أَكْثَرهَا خَاصّا بالعائدين من العساكر من نوبَة فتح الْحصن وَكَانَ خَادِمًا الْمجْلس السَّامِي ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وَابْن عَمه نَاصِر الدّين قد جهدا وأثخنا وبلغا حد الْيَأْس وامتحنا وكادا يسقطان من ضمير المنى فَمن الله تَعَالَى بالشفا وَهَذِه الْبُشْرَى بِفَتْح الْحصن وَإِن كَانَت شريفة مواقفها عَامَّة مَنَافِعهَا فقد تَجَدَّدَتْ بعْدهَا بِشَارَة طلعت بِشَارَة رائقة وَجَاءَت فِي مَكَان الرديف لأخرى لَا فرق بَينهمَا إِلَّا أَن تِلْكَ سَابِقَة وَهَذِه لاحقة وَذَلِكَ أَن الأسطول الْمصْرِيّ غزا غَزْوَة أُخْرَى غير الأولى وَتوجه عَن السواحل الإسلامية مرّة أُخْرَى من الله فِيهَا منَّة أُخْرَى وَكَانَت عدته فِي هَذِه السّنة قد أضعفت وقويت واستفرغت فِيهَا عزائم الْجِهَاد واستقصيت واحتلت بِهِ الرِّجَال الَّذين يعْملُونَ فِي الْبَحْر ويفتكون فِي الْبر وَمن هُوَ مَعْرُوف من المغاربة لغزو بِلَاد الْكفْر فسارت على سوار هِيَ كنائن إِلَّا أَنَّهَا تمرق مروق السِّهَام ورواكد هِيَ مَدَائِن إِلَّا أَنَّهَا تمر مر السَّحَاب غير الجهام فَلَا أعجب مِنْهَا تسمى غربانا وتنشر من ضلوعها أَجْنِحَة الْحمام وَتسَمى جواري وَكم مُبشر مجريها من النَّصْر بِغُلَام وطوقت فِي الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى ميناء عكا وَهِي قسطنطينية الفرنج وَدَار كفرهم أبدلها الله من الْكفْر إسلاما وخلع عَنْهَا الشّرك الْبَالِي وخلع عَلَيْهَا من التَّوْحِيد أعلاما وَكَانَت مفروسة فَأَصْبَحت مفترسة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وباتت جَمِيع الفرنج محترسة وغدت مترسة فَمَا هِيَ إِلَّا أَن حذفت والجة على المينا وَفِيه المراكب والبضائع فاستولت على عدَّة من المراكب تحطيما وتكسيرا ونطاحا يقلقل وَلَو كَانَ ثبيرا وأخلت سَاحل الفرنج بقتالها وباشرت مثل المَاء بنزولها ونزالها وَهَذَا مِمَّا لم يعْهَد من الأسطول الإسلامي مثله فِي سالف الدَّهْر لَا فِي حَالَة قُوَّة إِسْلَام وَلَا ضعف كفر وَمِمَّا سَبيله أَن تطرز السّير الْكَرِيمَة بفخره كَمَا طرز الله الصَّحِيفَة الشَّرِيفَة بأجره وَقتل على قلعة عكا ثَلَاثَة نفر بأليم السِّهَام أبعد مَا كَانُوا وقفُوا عَنْهَا وآمن مَا كَانُوا مِنْهَا فصرعتهم الْأَيْدِي والأفواه وخروا سجدا على الجباه سجودا لَا يرفعون مِنْهُ الرؤوس وَلَا ينتقلون مِنْهُ إِلَى حَالَة الْجُلُوس وَلَا يرفع فِيمَا يرفع لَهُم من عمل وَلَا لَهُم فِيهِ من قبْلَة وَلَا لَهُم بِهِ من قبل وأقامت المراكب يَوْمَيْنِ تقَابلهَا وتقاتلها وتناضلها فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة مِنْهَا حجَّة الْفَاضِل الثَّانِيَة ووفاة الْخَلِيفَة المستضيء بِاللَّه وَغير ذَلِك قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْعشْر الْأَخير من شَوَّال خرج الْفَاضِل من دمشق إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد إِلَى مصر من مَكَّة قلت وقفت على نُسْخَة كتاب الْفَاضِل إِلَى الصفي بن الْقَابِض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 يصف لَهُ مَا لَقِي فِي طَرِيقه إِلَى مصر وركوب الْبَحْر وَكَانَت جماله ذهبت بِمَكَّة فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة فَقَالَ خرجنَا من مَكَّة شرفها الله يَوْم الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي هَذِه الْأَيَّام زَاد تبسط المفسدين وإسراف المسرفين وَظهر من هوان أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَمن ضعف نَفسه وانخفاض جنَاحه مَا أطمع الْمُفْسد وأخاف المصلح ووصلنا إِلَى جدة يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وركبنا الْبَحْر يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وبتنا فِيهِ لَيْلَتي الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس ورمتنا الرّيح إِلَى جَزِيرَة بِالْقربِ من بِلَاد الْيمن تسمى دبادب وَكَانَت إِحْدَى الليلتين فِي الْبَحْر من ليَالِي الْبلَاء وَبِاللَّهِ أقسم لقد شَاب بعض رُؤُوس أَصْحَابنَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَيِسُوا من الْأَنْفس وتمنوا معاجلة الْأَمر وتقصير الْعَذَاب وظنوا أَنهم أحيط بهم وعاتبوا أنفسهم ثمَّ احْتَجُّوا عَلَيْهَا بالأقدار الَّتِي لَا حِيلَة فِيهَا وصبرنا إِلَى أَن فرج الله سُبْحَانَهُ ونزلنا الْبَريَّة بِحَيْثُ لَا مَاء يشرب وَلَا جمل يركب وَنفذ إِلَى البجاة النازلين على سَاحل الْبَحْر فأحضروا جمالا ضَعِيفَة أجرتهَا أَكثر من ثمنهَا وَثمن مَا تحمله فَرَكبْنَا ووصلنا إِلَى عيذاب بعد عشرَة أَيَّام وَقد هلكنا ضعفا وتعبا وجوعا وعطشا لِأَن الْخلق كَانُوا كثيرا والزاد يَسِيرا وركبنا الْبَريَّة من عيذاب إِلَى أسوان فَكَانَت أشق من كل طَرِيق سلكناها وَمن كل مَسَافَة قَطعْنَاهَا لأَنا وردنا المَاء فِي إِحْدَى عشرَة لَيْلَة مرَّتَيْنِ وَكَانَت الهمة قَاصِرَة فِي المزاد وَكَانَت الْبلوى عَظِيمَة فِي الْعَطش فَأَما الحزون والوعر فَهِيَ تزيد على مَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 بَريَّة الشَّام بِكَوْنِهَا طَرِيقا بَين جبلين كالدرب المتضايق والزقاق المتقارب وحر الشَّمْس شَدِيد وَقَرِيب الْوَعْد بَينهمَا بعيد ولطف الله إِلَى أَن وصلنا مصر فِي السَّابِع عشر من صفر قلت وللوجيه ابْن الذروي فِي الْفَاضِل (لَك الله إِمَّا حجَّة أَو وفادة ... فَمن مشْهد يُرْضِي الْإِلَه وموسم) (ترى تَارَة بَين الصوارم والقنا ... وطورا ترى بَين الْحطيم وزمزم) (وَكم لَك يَا عبد الرَّحِيم مآثر ... لَهَا فِي سَمَاء الْفَخر إشراق أنجم) (كَأَنَّك لم تخلق لغير عبَادَة ... وَإِظْهَار فضل فِي الورى وتكرم) قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان عماد الدّين بن السُّلْطَان وَكَانَ أحب أَوْلَاده إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي قَامَ بتدبير الْملك بعده وَولد بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة كَمَا سبق ذكره وَكَانَ السُّلْطَان لما قدم الشَّام زَاد شوقه إِلَيْهِ فاستقدمه فَقدم عَلَيْهِ عَاشر رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَأنْشد الْعِمَاد السُّلْطَان عِنْد قدومه قصيدة مِنْهَا (يَا أسدا يحمي عرين الْعلَا ... هنيت جمع الشمل بالشبل) (عُثْمَان ذِي النورين بَين الورى ... من سؤدد سَام وَمن فضل) (يحكيك إقداما وبأسا فَمَا ... أشبه هَذَا الْفَرْع بِالْأَصْلِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 (مخايل الرشد على بشره ... شاهدة بِالْفَضْلِ والنبل) (ملك قضى الله لَهُ أَنه ... على مُلُوك الأَرْض يستعلي) (بِالْملكِ النَّاصِر سلطاننا ... طَالَتْ يَد الْإِحْسَان وَالْعدْل) ثمَّ لم يُفَارِقهُ واستصحبه إِلَى مصر فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ثمَّ عَاد بِهِ مَعَه إِلَى الشَّام فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وَاتخذ لَهُ معلما من مصر وَهُوَ نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن المجاور فَحصل من صحبته رزقا وَاسِعًا لَا سِيمَا فِي عَام الطّهُور فَإِنَّهُ عَم فِيهِ السرُور والحبور وَكَانَ مُتَوَلِّي الْإِنْفَاق فِي الطّهُور صفي الدّين بن الْقَابِض لِأَنَّهُ كَانَ مُتَوَلِّي الخزانة والديوان والأعمال بِدِمَشْق قَالَ وَحج يَعْنِي ابْن الْقَابِض سنة أَربع وَسبعين وفيهَا حج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الْفَاضِل من مصر يَعْنِي حجَّته الأولى وَعَاد إِلَى الشَّام وَمَعَهُ ابْن الْقَابِض قلت فَلَمَّا رجعا مَعًا فِي حجَّة الْفَاضِل الأولى إِلَى الشَّام ثمَّ انْفَرد الْفَاضِل بِالْحَجِّ ثَانِيًا من الْعَام الْمقبل وَهُوَ سنة خمس وَسبعين وَتمّ لَهُ فِي رُجُوعه مَا تمّ كَاتبه بِالْكتاب الَّذِي سبق ذكره يصف لَهُ مَا لَقِي فِي رُجُوعه وَكَانَت حجَّة الْفَاضِل الأولى من مصر وَرجع إِلَى الشَّام وَكَانَت الثَّانِيَة من الشَّام وَرجع إِلَى مصر وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْملك الْمَنْصُور حسن بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين وقبره الْقَبْر القبلي من الْقُبُور الْأَرْبَعَة بالقبة الَّتِي فِيهَا شاهنشاه بن أَيُّوب بالمقبرة النجمية بالعوينة ظَاهر دمشق قَالَ الْعِمَاد وفيهَا خَرجُوا إِلَى بعلبك لتسليمها إِلَى عز الدّين فرخشاه فسلكوا طَرِيق الرواديف وَهِي طَرِيق شاقة وفيهَا أغار عز الدّين على صفد ثامن عشر ذِي الْقعدَة وَكَانَ قد جمع لَهُم من رجال بانياس وَمَا حولهَا وَرجع غانما سالما قَالَ وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة أَو ثَانِيه توفّي بِبَغْدَاد الْخَلِيفَة الإِمَام المستضيء بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ واستخلف وَلَده النَّاصِر لدين الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ رَسُول السُّلْطَان ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري حَاضرا فَحَضَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وَبَايع وَأخْبر بجلية الْحَال فبادر السُّلْطَان إِلَى الْخطْبَة لَهُ فِي جَمِيع الْبِلَاد وَمضى صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل من بَغْدَاد رَسُولا إِلَى بهلوان وألزمه حَتَّى خطب بهمذان وأصفهان وعمت الدعْوَة الهادية فِي جَمِيع بِلَاد خُرَاسَان ثمَّ لما رَجَعَ شيخ الشُّيُوخ جَاءَ إِلَيْنَا رَسُولا فِي سنة سِتّ وَسبعين وَأَخذه السُّلْطَان مَعَه إِلَى مصر وَحج مِنْهَا وَركب الْبَحْر كَمَا سَيَأْتِي ذكره وللعماد فِي مدح الإِمَام النَّاصِر قصائد مِنْهَا قصيدة بائية مدحه بهَا سنة فتح الْقُدس وَسَيَأْتِي مِنْهَا أَبْيَات عِنْد ذكر فَتحه وَمِنْهَا (الدَّهْر ينصرني مَا دَامَ ينسبني ... لخدمة النَّاصِر الْمَنْصُور نساب) (بِطَاعَة النَّاصِر بن المستضيء أبي الْعَبَّاس ... أَحْمد للأيام إصحاب) وَقَالَ مُحَمَّد بن القادسي فِي تذييل تَارِيخ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 مولد المستضيء ثَالِث عشري شعْبَان من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر وواحدا وَعشْرين يَوْمًا بُويِعَ تَاسِع ربيع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَكَانَ كَرِيمًا رحوما بارا بالرعية يعْفُو عَن الجرائم الْكِبَار عادلا ظهر يَوْم مبايعته من رد الْمَظَالِم والأملاك المقبوضة والإفراج عَن المسجونين وَإِسْقَاط الضرائب والمكوس مَا شاع واشتهر قَالَ وَتقدم إِلَى شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم وَإِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ فَصَليَا عَلَيْهِ ثمَّ بَايع النَّاصِر أَخُوهُ الْأَمِير أَبُو مَنْصُور هَاشم ثمَّ بَنو أَعْمَامه وخواصه ثمَّ الْوُلَاة وأرباب المناصب والأعيان والوافدون لِلْحَجِّ من بِلَاد خُرَاسَان وَغَيرهم وَكَانَ وَالِده المستضيء قد عهد إِلَيْهِ قبل وَفَاته بِيَوْم وَاحِد قلت كَذَا نقلته من خطه وَلَعَلَّه أَرَادَ بأسبوع وَاحِد فَسبق بِهِ قلمه فَإِن ابْن الدبيثي ذكر أَنه خطب للناصر بِولَايَة الْعَهْد يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال ثمَّ قَالَ ابْن القادسي وَفِي سَابِع ذِي الْقعدَة قبض على صَاحب المخزن ظهير الدّين أبي بكر بن الْعَطَّار ووكل بِهِ وتتبع أَصْحَابه وَمن يتَعَلَّق بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وَقتل النَّقِيب مَسْعُود الَّذِي كَانَ بَين يَدَيْهِ وَكَانَ أحد الأعوان بِبَاب النوبي قد نزعت الرَّحْمَة من قلبه فَقطع قطعا وربط فِي رجله حَبل وسحبته الْعَامَّة فِي الدروب ثمَّ أحرق بعد ذَلِك قَالَ وَفِي حادي عشره حمل ابْن الْعَطَّار مَيتا وَعلم بِهِ الْعَامَّة فرجموا تابوته بالآجر فَأَلْقَاهُ الحمالون وهربوا فَأَخذه الْعَامَّة وشدوا فِي رجله شريطا وسحب فِي جَمِيع بَغْدَاد ومنافذها ودروبها ومحالها وَقطع لَحْمه قطعا قَالَ وَتوجه شيخ الشُّيُوخ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحِيم إِلَى البهلوان بن إيلدكز شحنة همذان لأجل الْخطْبَة فتوقف عَن ذَلِك فهاجت الْعَامَّة عَلَيْهِ ووثب أهل الْمَذْكُور وخطبوا وَجَاء كتاب شيخ الشُّيُوخ إِلَى الدِّيوَان سطرها فلَان وَالْحَال فِي الجنوح كقصة نوح من قَرَأَ السُّورَة عرف الصُّورَة قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ الغلاء وَكثر الوباء بِبَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَذكر أَن رجلا بواسط ذبح بِنْتا لَهُ وأكلها وَآخر بقر بطن صبي وَأخذ كبده وشواها وأكلها قَالَ وَفِي رَابِع عشر ربيع الآخر زلزلت الأَرْض بعد الْعَتَمَة فَوق بِلَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 إربل فَلَمَّا أصبح النَّاس عَادَتْ الزلزلة فِي الْجبَال فتصادمت وَوَقع مِنْهَا الْحِجَارَة وَسَقَطت قلاع كَثِيرَة وَهَلَكت قرى بِمن فِيهَا وَكَانَ يكون بَين الْجمل والجمل عشرُون ذِرَاعا فتقذفهما الزلزلة فيتصادمان ويعودان إِلَى مكانهما قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أَهلهَا بذلك وَكَانَت إِحْدَى الجوائح الَّتِي أَصَابَت حلب وَأَهْلهَا قَالَ وفيهَا خرج قراقوش التقوي إِلَى طرابلس الْمغرب فَفتح بلادا وَصلى حروبا مَعَ إِبْرَاهِيم السِّلَاح دَار الَّذِي دخل بِلَاد الْمغرب أَيْضا من أَصْحَاب تَقِيّ الدّين لِأَن نَفسه أطمعته أَن يفعل فعل قراقوش فِي تملك الْبِلَاد ثمَّ أصلح بَينهمَا ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة وفيهَا توفّي الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله بالإسكندرية وَقد زرت قَبره بهَا دَاخل الْبَاب الْأَخْضَر قَالَ الْعِمَاد وفيهَا هادن السُّلْطَان صَلَاح الدّين الفرنج وَتوجه إِلَى بلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الرّوم فَأصْلح بَين نور الدّين مُحَمَّد بن قَرَأَ أرسلان بن دَاوُد بن أرتق صَاحب حصن كيفا وَبَين زوج ابْنَته السُّلْطَان عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان واجتمعوا على نهر يُقَال لَهُ كوك سو وَكَثُرت ثمَّ الْهَدَايَا والدعوات والأفراح والهبات وفيهَا دخل السُّلْطَان بِلَاد الأرمن لقلع ملكهم ابْن لاون لِأَنَّهُ كَانَ استمال قوما من التركمان حَتَّى يرعوا فِي مرَاعِي بِلَاده بالأمان ثمَّ صبحهمْ بغدره وحصلوا بأسرهم فِي أسره فَدخل السُّلْطَان بِلَاده وأذل أعوانه وأجناده وَنصر الله الْمُسلمين بِالرُّعْبِ فَأحرق من الْخَوْف قلعة شامخة تعرف بالمانقير وبادر الْمُسلمُونَ إِلَى إِخْرَاج مَا فِيهَا من الْآلَات والغلات فَتَقووْا بهَا وتمموا هدمها إِلَى الأساس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 قَالَ ابْن أبي طي وَوجد الْمُسلمُونَ فِي أرْضهَا صهريجا مملوءا آلَات نُحَاس وَفِضة وَذهب لَهَا زمن طَوِيل قَالَ وبذل للسُّلْطَان جملَة من المَال وَأَنه يُطلق من عِنْده من الْأُسَارَى فَلم يرض السُّلْطَان بِمَا بذله فَزَاد فِي المَال وَأَنه يَشْتَرِي خمس مئة أَسِير من بِلَاد الفرنج ويعتقهم فَأجَاب السُّلْطَان وَأخذ مِنْهُم رهينة على ذَلِك قَالَ الْعِمَاد وأذعن الأرمني وذل وَأطلق مَا بِيَدِهِ من الْأُسَارَى وَرجع السُّلْطَان مؤيدا منصورا وَوصل إِلَى حماة فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ الْجمال الوَاسِطِيّ أَبُو غَالب مُحَمَّد بن سُلْطَان بن الْخطاب المقرىء شَاهدا هَذِه الْغُزَاة فنظم قصيدة فِي السُّلْطَان مِنْهَا (لقد جمل الله مِنْك الورى ... بأوفى مليك وَفِي هجان) (تهش إِلَى نغمات السيوف ... فِي الْهَام لَا نغمات القيان) (أزرت ابْن لاون لأواءه ... فأضحى بِهِ خَبرا عَن عيان) (ودان من الذل لَا يرعوي ... حذارا من الراعفات اللدان) (فَلَا قدم عِنْده للثبات ... وَلَيْسَ لَهُ بسطاكم يدان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 (وأخلى لهيبتك المانقير ... وغادر للهدم تِلْكَ المباني) (وَأرْسل بالأسراء العناة ... يسْأَل إِطْلَاقه فَهُوَ عاني) (رتقت بعزمك والمكرمات ... فتوقا من الأرتقي الهجان) (ورعت ابْن سلجق فِي ملكه ... فقعقع من رعبه بالشنان) قَالَ وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى حمص وخيم بالعاصي أَتَاهُ الْفَقِيه مهذب الدّين عبد الله بن أسعد الْموصِلِي وأنشده وَله فِي السُّلْطَان مدائح مِنْهَا قصيدة غراء مطْلعهَا (أما وجفونك المرضى الصِّحَاح ... وسكرة مقلتيك وَأَنت صاحي) (لقد أَصبَحت فِي العشاق فَردا ... كَمَا أَصبَحت فَردا فِي الملاح) (يهز الْغُصْن فَوق نقى ويرنو ... بِحَدّ ظبى ويبسم عَن أقاح) (وَقد غرس الْقَضِيب على كثيب ... فأثمر بالظلام وبالصباح) (وَمَال مَعَ الوشاة وَلَا عَجِيب ... لغصن أَن يمِيل مَعَ الرِّيَاح) (قَطعنَا اللَّيْل فِي عتب وشكوى ... إِلَى أَن قيل حَيّ على الْفَلاح) (ولاح الصُّبْح يَحْكِي فِي سناه ... صَلَاح الدّين يُوسُف ذَا الصّلاح) (وَلما ضَاقَ حد عَن مداه ... لقيناه بآمال فساح) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 (فَمن هرم وَكَعب وَابْن سعدى ... رعاء الشَّاء وَالنعَم المراح) (جواد بالبلاد وَمَا حوته ... إِذا جادوا بألبان اللقَاح) (ليفد حَيَاء وَجهك كل وَجه ... إِذا سُئِلَ الندى جهم وقاح) (مُلُوك جلهم مغرى بظُلْم ... ومشغول بلهو أَو مزاح) (إِذا مَا جالت الْأَبْطَال ولى ... وَيقدم نَحْو حائلة الوشاح) (وبون بَين مَالك بَيت مَال ... وَمَالك رق أَمْلَاك النواحي) (هم جمعُوا وَقد فرقت لَكِن ... جمعت بِهِ الرِّجَال مَعَ السِّلَاح) (وَمَا خضع الفرنج لديك حَتَّى ... رَأَوْا مَا لَا يُطَاق من الكفاح) (وَمَا سألوك عقد الصُّلْح ودا ... وَلَكِن خوف معلمة رداح) (مَلَأت بِلَادهمْ سهلا وحزنا ... أسودا تَحت غابات الرماح) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَقَالَ ابْن شَدَّاد لما عَاد السُّلْطَان بعد الكسرة يَعْنِي كسرة الرملة إِلَى الديار المصرية وَأقَام فِيهَا ريثما لم النَّاس شعثهم وَعلم تخبط الشَّام عزم على الْعود إِلَيْهِ وَكَانَ عوده للغزاة فوصله رسل قليج أرسلان يَلْتَمِسُونَ مِنْهُ الْمُوَافقَة ويستغيث إِلَيْهِ من الأرمن فَاشْتَمَلَ نَحْو بِلَاد ابْن لاون لنصرة قليج أرسلان عَلَيْهِ وَنزل بقراحصار وَأخذ عَسْكَر حلب فِي خدمته لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْترط فِي الصُّلْح ذَلِك واجتمعوا على نهر الْأَزْرَق بَين بهسنى وحصن مَنْصُور وَعبر مِنْهُ إِلَى النَّهر الْأسود طرف بِلَاد ابْن لاون فَأخذ مِنْهُم حصنا وأخربه وبذلوا لَهُ أُسَارَى والتمسوا مِنْهُ الصُّلْح وَعَاد عَنْهُم ثمَّ راسله قليج أرسلان فِي صلح الشرقيين بأسرهم وَاسْتقر الصُّلْح فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَدخل فِي الصُّلْح قليج أرسلان والمواصلة وَأهل ديار بكر وَكَانَ ذَلِك على نهر سنجة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وَهُوَ نهر يَرْمِي إِلَى الْفُرَات وَسَار السُّلْطَان نَحْو دمشق فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل قَالَ الْعِمَاد وَفِي أَوَائِل هَذِه السّنة توفّي صَاحب الْموصل سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي وَالسُّلْطَان مخيم على كوك سو من حُدُود بِلَاد الرّوم وَجلسَ مَكَانَهُ أَخُوهُ عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَجَاء رَسُول مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ الشَّيْخ الْفَقِيه فَخر الدّين أَبُو شُجَاع بن الدهان الْبَغْدَادِيّ إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يكون مَعَه كَمَا كَانَ مَعَ أَخِيه من إبْقَاء سروج والرها والرقة وحران والخابور ونصيبين فِي يَده فَلم يفعل السُّلْطَان وَقد كَانَت لَهُ بِإِطْلَاق الْخَلِيفَة وَإِنَّمَا جعلهَا فِي يَد سيف الدّين غَازِي بالشفاعة على شَرط أَن يُقَوي السُّلْطَان بالعساكر فَلَمَّا مَاتَ سيف الدّين كتب السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر يُعلمهُ بذلك وَأَن هَذِه الْبِلَاد لم يزل يتقوى بهَا ثغر الشَّام ففوضت إِلَيْهِ على مَا أَرَادَ وَكَانَ الْكتاب إِلَى صدر الدّين عبد الرَّحِيم شيخ الشُّيُوخ من إنْشَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الْعِمَاد وَفِيه قد عرف اختصاصنا من الطَّاعَة والعبودية للدَّار العزيزة النَّبَوِيَّة بِمَا لم يخْتَص بِهِ أحد وامتدت الْيَد منا فِي إِقَامَة الدعْوَة الهادية بِمصْر واليمن وَالْمغْرب بِمَا لم تمتد إِلَيْهِ يَد وأزلنا من الأقاليم الثَّلَاثَة ثَلَاثَة أدعيا وخلفناهم للردى حَيْثُ دعوا بِلِسَان الغواية خلفا وَلَا خَفَاء أَن مصر إقليم عَظِيم وبلد كريم بقيت مئتين وَخمسين سنة مضيمة وعانت كل هضيمة وعاينت كل عَظِيمَة حَتَّى أنقذها الله عز وَجل بِنَا من عبيد بني عبيد وأطلقها بمطلقات أعنتنا إِلَيْهَا من عناء كل قيد وفيهَا شيعَة الْقَوْم وهم غير مأموني الشَّرّ إِلَى الْيَوْم وَطَوَائِف أقاليم الرّوم والفرنج من الْبر وَالْبَحْر بهَا مطيفة فَمن حَقّهَا أَن يتوفر عسكرها فَلَو حصل وَالْعِيَاذ بِاللَّه فتق لأعضل رتقه واتسع على الراقع خرقه واحتجنا لحفظ بِلَاد الشَّام وثغور الْإِسْلَام إِلَى اسْتِصْحَاب الْعَسْكَر الْمصْرِيّ إِلَيْهَا وَله مُدَّة خمس سِنِين فِي بيكارها منتقما من كفارها متحملا لمشاقها على غلاء أسعارها وَإِنَّمَا أحْوج إِلَى ذَلِك أَن بِلَاد هَذَا الثغر قد اقتطعت عَنهُ وعساكرها أخذت مِنْهُ وَكَانَت فِي تولي نور الدّين رَحمَه الله ثمَّ ذكرهَا كَمَا سبق ففوضت إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَقَالَ ابْن الْأَثِير توفّي سيف الدّين يَوْم الْأَحَد ثَالِث صفر سنة سِتّ وَسبعين وَكَانَ مَرضه السل وَطَالَ بِهِ قَالَ وَمن الْعَجَائِب أَن النَّاس لما خَرجُوا يستسقون بالموصل سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 خمس وَسبعين للغلاء الْحَادِث فِي الْبِلَاد خرج سيف الدّين فِي موكبه فثار النَّاس وقصدوه مستغيثين بِهِ وطلبوا مِنْهُ أَن يَأْمر بِالْمَنْعِ من بيع الْخمر فأجابهم إِلَى ذَلِك فَدَخَلُوا الْبَلَد وقصدوا مسَاكِن الخمارين وخربوا أَبْوَابهَا ونهبوها وأراقوا الْخُمُور وكسروا الْأَوَانِي وَعمِلُوا مَا لَا يحل فاستغاث أَصْحَاب الدّور إِلَى نواب السُّلْطَان وخصوا بالشكوى رجلا من الصَّالِحين يُقَال لَهُ أَبُو الْفرج الدقاق وَلم يكن لَهُ فِي الَّذِي فعله النَّاس من النهب فعل إِنَّمَا هُوَ أراق الْخُمُور وَلما رأى فعل الْعَامَّة نَهَاهُم فَلم يسمعوا مِنْهُ فَلَمَّا شكي أحضر بالقلعة وَضرب على رَأسه فَسَقَطت عمَامَته فَلَمَّا أطلق لينزل من القلعة نزل مَكْشُوف الرَّأْس فأرادوا تغطيته بعمامته فَلم يفعل وَقَالَ وَالله لَا غطيته حَتَّى ينْتَقم الله لي مِمَّن ظَلَمَنِي فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى توفّي الدزدار الْمُبَاشر لأذاه ثمَّ بعقبه مرض سيف الدّين ودام مَرضه إِلَى أَن توفّي وَكَانَ عمره نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت ولَايَته عشر سِنِين وشهورا وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة تَامّ الْقَامَة مليح الشَّمَائِل أَبيض اللَّوْن مستدير اللِّحْيَة متوسط الْبدن بَين السمين والدقيق وَكَانَ عَاقِلا وقورا قَلِيل الِالْتِفَات إِذا ركب وَإِذا جلس عفيفا لم يذكر عَنهُ شَيْء من الْأَسْبَاب الَّتِي تنَافِي الْعِفَّة وَكَانَ غيورا شَدِيد الْغيرَة لم يتْرك أحدا من الخدم يدْخل دور نِسَائِهِ إِذا كبر إِنَّمَا يدْخل عَلَيْهِنَّ الخدم الصغار وَكَانَ لَا يحب سفك الدِّمَاء وَلَا أَخذ الْأَمْوَال مَعَ شح فِيهِ قَالَ وَلما اشْتَدَّ مَرضه أَرَادَ أَن يعْهَد بِالْملكِ لوَلَده معز الدّين سنجرشاه فخاف من ذَلِك لِأَن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب كَانَ قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 تمكن بِالشَّام وقويت شوكته وَامْتنع أَخُوهُ عز الدّين من الإذعان والإجابة إِلَى ذَلِك فَأَشَارَ الْأُمَرَاء الْكِبَار وَمُجاهد الدّين قايماز بِأَن يَجْعَل الْملك بعده لِأَخِيهِ لما هُوَ عَلَيْهِ من كبر السن والشجاعة وَالْعقل وَقُوَّة النَّفس وَحسن سياسة الْملك وَأَن يُعْطي ابنيه بعض الْبِلَاد وَيكون مرجعهما إِلَى عَمهمَا عز الدّين ليبقى لَهما ذَلِك فَفعل ذَلِك وَحلف النَّاس لِأَخِيهِ فَلَمَّا توفّي سيف الدّين كَانَ مُجَاهِد الدّين هُوَ الْمُدبر للدولة والنائب فِيهَا والمرجع إِلَى قَوْله ورأيه فَركب إِلَى الْخدمَة العزية وَعَزاهُ وَركبهُ إِلَى دَار المملكة وَمَشى فِي ركابه رَاجِلا فَدَخلَهَا وَجلسَ للعزاء وَكَانَت الرّعية تخافه قبل أَن يملك لإقدامه وجرأته وحدة كَانَت فِيهِ وَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَى أَخِيه سيف الدّين إِذا أَرَادَ أمرا فَلَمَّا تولى تَغَيَّرت أخلاقه وَصَارَ رَفِيقًا بالرعية محسنا إِلَيْهِم قَرِيبا مِنْهُم قَالَ ابْن شَدَّاد وَفِي عَاشر الْمحرم سنة سِتّ وَسبعين بلغ الْملك الصَّالح بن نور الدّين عصيان غرس الدّين قليج بتل خَالِد فَأخْرج إِلَيْهِ الْعَسْكَر ثمَّ بلغه وَفَاة ابْن عَمه صَاحب الْموصل ثَالِث صفر فصل فِي وَفَاة شمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان الْأَكْبَر وقدوم رسل الدِّيوَان بالتفويض إِلَى السُّلْطَان مَا طلبه قَالَ ابْن أبي طي كَانَ السُّلْطَان قد أنفذ أَخَاهُ شمس الدولة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَجعل إِلَيْهِ ولايتها فَلَمَّا حصل بهَا لم توافقه وَكَانَ يعتاده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 القولنج فَهَلَك بِهِ وَدفن بقصر الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ أحد الأجواد الكرماء الْأَفْرَاد شجاعا باسلا عَظِيم الهيبة كَبِير النَّفس وَاسع الصَّدْر ممدحا فِيهِ يَقُول ابْن سَعْدَان الْحلَبِي من قصيدة (هُوَ الْملك إِن تسمع بكسرى وَقَيْصَر ... فَإِنَّهُمَا فِي الْجُود والبأس عبداه) (وَمَا حَاتِم مِمَّن يُقَاس بِمثلِهِ ... فَخذ مَا رَأَيْنَاهُ ودع مَا روينَاهُ) (ولذ بذراه مستجيرا فَإِنَّهُ ... يجيرك من جور الزَّمَان وعدواه) (فَلَا تتحمل للسحائب منَّة ... إِذا هطلت جودا سحائب جدواه) (وَيُرْسل كفيه بِمَا اشتق مِنْهُمَا ... فلليمن يمناه ولليسر يسراه) قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي الْمحرم توفّي بثغر الْإسْكَنْدَريَّة تورانشاه أَخُو صَلَاح الدّين وَوصل الْخَبَر بذلك إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ نَازل بِظَاهِر حمص فَحزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا وَجعل يكثر إنشاد أَبْيَات المراثي وَكَانَ كتاب الحماسة من حفظه وَكَانَ صَلَاح الدّين لما ملك مصر أرْسلهُ إِلَى الْيمن فملكها ثمَّ استناب فِيهَا وَقدم الشَّام سنة إِحْدَى وَسبعين فَلَمَّا وصل تيماء جَاءَ مِنْهُ كتاب وَفِيه أَبْيَات لشاعره ابْن المنجم مِنْهَا (فَهَل لأخي بل مالكي علم أنني ... إِلَيْهِ وَإِن طَال التَّرَدُّد رَاجع) (وَإِنِّي بِيَوْم وَاحِد من لِقَائِه ... لملكي على عظم المزية بَائِع) (وَلم يبْق إِلَّا دون عشْرين لَيْلَة ... وتجني المنى أبصارنا والمسامع) (لَدَى ملك تعنو الْمُلُوك إِذا بدا ... وتخشع إعظاما لَهُ وَهُوَ خاشع) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 (كتبت وأشواقي إِلَيْك بِبَعْضِهَا ... تعلمت النوح الْحمام السواجع) (وَمَا الْملك إِلَّا رَاحَة أَنْت زندها ... تضم على الدُّنْيَا وَنحن الْأَصَابِع) قلت وقبر تورانشاه الْآن بالتربة الحسامية بالعوينة ظَاهر دمشق نقلته إِلَيْهَا أُخْته سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب وَبنت الْقبَّة عَلَيْهِ وعَلى زَوجهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه وَهُوَ ابْن عَمها وعَلى قبرها وقبر ابْنهَا حسام الدّين عمر بن لاجين وَسَيَأْتِي ذكره وَإِلَيْهِ تنْسب التربة فَهِيَ ثَلَاثَة قُبُور القبلي لتورانشاه والأوسط لِابْنِ شيركوه والشامي لست الشَّام وَابْنهَا رَحِمهم الله قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي رَجَب وصلت رسل الدِّيوَان الْعَزِيز الناصري صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحِيم وَمَعَهُ شهَاب الدّين بشير الْخَاص بالتفويض والتقليد والتشريف الْجَدِيد فتلقيناهم بالتعظيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 والتمجيد وَركب السُّلْطَان للتلقي وعَلى صفحاته بشائر الترقي فَلَمَّا ترَاءى لَهُ الرُّسُل الْكِرَام وَوَجَب لَهُ الإجلال والإعظام نزل وترجل وَأبْدى الخضوع وتوجل وَنزل الرُّسُل إِلَيْهِ وسلموا عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ فَتقبل الْفَرْض وَقبل الأَرْض ثمَّ ركبُوا ودخلوا الْمَدِينَة قَالَ ابْن أبي طي وَكَانَت هَذِه أول خلعة قدمت من الإِمَام النَّاصِر على الْملك النَّاصِر وَكَانَت ثوب أطلس أسود وَاسع الْكمّ مَذْهَب وبقيار أسود مَذْهَب وطيلسان أسود مَذْهَب ومشدة سَوْدَاء مذهبَة وطوق وتخت وسرفسار وجواد كميت من مراكب الْخَلِيفَة عَلَيْهِ سرج أسود وسلال أسود وطوق مجوهر وقصبة ذهب وَعلم أسود وعدة خُيُول وبقج وَركب السُّلْطَان بالخلعة وزينت لَهُ دمشق وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما قَالَ الْعِمَاد وظفر السُّلْطَان من صدر الدّين بصديق صَدُوق وَكَانَ قد عزم على قصد الديار المصرية وسلوك طَرِيق أَيْلَة والبرية فَحسن لشيخ الشُّيُوخ مصاحبته ورغبه فِي زِيَارَة قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ قد عزمت فِي هَذِه السّنة على الْحَج فَأصل مَعكُمْ إِلَى الْقَاهِرَة بِشَرْط إِقَامَة يَوْمَيْنِ وَلَا أدخلها وَإِنَّمَا أسكن بالتربة الشَّافِعِيَّة وأسير مِنْهَا إِلَى بَحر عيذاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 فلعلي أدْرك صَوْم رَمَضَان بِمَكَّة فالتزم لَهُ ذَلِك وَأعَاد أَصْحَابه إِلَى بَغْدَاد ليأتوه من طريقها إِلَى الْحجاز وَرجع شهَاب الدّين بشير فِي جَوَاب رسَالَته وَمَعَهُ رَسُوله ضِيَاء الدّين الشهرزوري وَأَنْشَأَ الْعِمَاد كتابا فِي الْجَواب إِلَى الدِّيوَان وَفِيه وَقد توجه الْخَادِم إِلَى الديار المصرية لتجديد النّظر فِيهَا ثمَّ يستخير الله فِي الْحَج وأدائه وَيعود إِلَى مجاهدة أعدائه فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر مرّة ثَانِيَة قَالَ الْعِمَاد وَلما عزم السُّلْطَان على الرحيل استناب بِالشَّام ابْن أَخِيه عز الدّين فرخشاه وَكَانَ عَزِيز الْمثل غزير الْفضل وَقَالَ فِيهِ الْعِمَاد عِنْد توديعه قصيدة مِنْهَا (أسأَل الله ذَا الْعلَا أَن تعيشا ... ألف عَام لنصره مستجيشا) وَمِنْهَا (مَا أكدي شَيْئا سوى فَرْوَة مِنْك ... وأبغي لسفرتي إكديشا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 (كَيفَ يَخْلُو من دفء ظهر وَظهر ... سالك طرق أَيْلَة والعريشا) ووقفت على ثَلَاثَة كتب للفاضل عَن الْملك الْعَادِل إِلَى الْوُلَاة بِالْيمن يعلمهُمْ أَن مُلُوك الشرق قد دخلُوا فِي طَاعَة السُّلْطَان وَأَنه عازم على الْقدوم إِلَى مصر وَصَوْم رَمَضَان بهَا وَالْحج إِلَى بَيت الله الْحَرَام مِنْهَا وَيَأْمُرهُمْ بالاستكثار مِمَّا يحمل لأَجله إِلَى مَكَّة من المَال والأزواد وَالْخلْع مِمَّا تشْتَمل عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَال ووقفت على كتابين أُخْرَيَيْنِ أَحدهمَا إِلَى أَمِير مَكَّة وَالْآخر إِلَى أَمِير يَنْبع يعلمهما بذلك ليتأهبا لقدومه ووقفت على كتاب سادس للفاضل إِلَى السُّلْطَان فِي ذَلِك يَقُول فِيهِ جعل الله الْمُلُوك ذمَّة لسيفه وشرد مَنَام الْأَعْدَاء مِنْهُم بطيفه وَأمن أهل الْإِسْلَام بعدله من جور الدَّهْر وحيفه وأشهده موقف الْحَج الْأَكْبَر وزان بمحضره مشْهد خيفه وَجعل وفده الأكرم وضيف بَيته منتظمين فِي هَذِه السّنة فِي وفده وضيفه ثمَّ هنأه بِمَا فتح الله عَلَيْهِ من محبَّة الْجِهَاد وَمَا أَثَره فِي بِلَاد الأرمن وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَمَا تبع ذَلِك من نِيَّة الْحَج بلغه الله مِنْهُ المُرَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وَدخُول السُّلْطَان بِلَاد الأرمن كَانَ فِي هَذِه السّنة كَمَا سبق فَلَعَلَّهُ سنح لَهُ الْحَج مَعَ شيخ الشُّيُوخ ثمَّ حصل لَهُ مَا مَنعه مِنْهُ قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان إِلَى مصر يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشر رَجَب وَمَعَهُ صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ كَمَا ذكر وَتوجه مِنْهَا إِلَى مَكَّة على الْبَحْر فَأدْرك الصَّوْم قَالَ الْعِمَاد ووصلنا إِلَى الْقَاهِرَة على طَرِيق أَيْلَة ثَالِث عشر شعْبَان واستقبلنا أَهلهَا ولقينا الأكابر والأعيان وَالْملك الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان حِينَئِذٍ بهَا نَائِبه وتلقتنا مواكبه ومواهبه وخدمته بقصيدة ذكرت فِيهَا الْمنَازل والمناهل من يَوْم الرحيل من دمشق إِلَى الْوُصُول بِالْقَاهِرَةِ مِنْهَا (أحبة قلبِي طَال ليلِي بعدكم ... أسى فَمَتَى ألْقى بوجهكم الفجرا) (فقدت حَياتِي مذ فقدت لقاءكم ... فَهَل لحياتي مِنْكُم نشأة أُخْرَى) (أجيران جيرون المجيرين جارهم ... من الْجور حوزوا فِي مشوقكم الأجرا) (محبكم قد خانه الصَّبْر فَاطْلُبُوا ... محبا سواهُ عَنْكُم يحسن الصبرا) (ومذ غبت عَن مقرى مقري قد نبا ... سقى ورعى رَبِّي مقري فِي مقرى) (أحن إِلَى عذرا وعذري وَاضح ... لِأَن الْهوى العذري مني فِي عذرا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 (إِن الْقدر المحتوم من جلق بِنَا ... إِلَى مصر أسرى فالقلوب بهَا أسرى) (رحلنا فَمَا باحت بأسرارنا سوى ... عبارَة عين خوف يَوْم النَّوَى عبرى) (تركنَا دمشقا والجنان وَرَاءَنَا ... وقدامنا بالكسوة الرّفْقَة السفرا) (وَجِئْنَا إِلَى المرج الَّذِي طَابَ نشره ... فَلَا زَالَ من أحبابنا طيبا نشرا) (رحلنا بمرج الصفر العيس غدْوَة ... فسارت وحطت فِي محجتها ظهرا) (وَقد قطعت تبنى إِلَى الدَّيْر بعْدهَا ... وَمَا عرست حَتَّى أناخت على بصرى) (نزلنَا الدناح والجلاعب بعْدهَا ... وبعدهما غدر البشامية الغزرا) (وَرَأس الحسا والقريتين وَكلهَا ... موارد فِيهَا السحب قد غادرت غدرا) (وردنا من الزَّيْتُون حسمى وأيلة ... وجزنا عقَابا كَانَ مسلكها وعرا) (إِلَى قلتة الرَّاعِي إِلَى نابع إِلَى ... جراول فالنخل الَّذِي لم يزل قفرا) (إِلَى منزل فِي رَوْضَة الْجمل اغتدت ... بِهِ عيسنا فِي صدر شَارِحه صَدرا) (وَدون حثا لما حثثنا رِكَابنَا ... عُيُون لمُوسَى لم يزل مَاؤُهَا مرا) (هُنَاكَ تلقانا الْوُفُود ببرهم ... فسروا بِنَا نفسا وَزَادُوا بِنَا بشرا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 (قَطعنَا إِلَى بَحر الندى بَحر قلزم ... وَمن قَصده بَحر الندى يقطع البحرا) (عبرنا إِلَى من كاثر الرمل جوده ... وجزنا إِلَيْهِ ذَلِك الرمل والجسرا) (وَلم يرونا مَاء الثماد بعجرد ... وَلم يقتنع بالقل من يأمل الكثرا) (وَجِئْنَا البويب والمصانع قبله ... إِلَى بركَة الْجب الَّتِي قربت مصرا) (إِلَى عَزمَة فِي الْمجد غير قَصِيرَة ... وَكَانَ قصارى أمرنَا أَن نرى القصرا) (وَلما نزلنَا مصر فِي شهر طوبة ... وردنا بكف الْعَادِل النّيل فِي مسرى) (غَدا قاصرا عَن قصره قصر قَيْصر ... وإيوان كسْرَى عِنْد إيوانه كسرا) قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة بِمصْر عربت كتاب كيمياء السَّعَادَة تصنيف الإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ فِي مجلدين وفزت من تعريبه وَعلم مَا فِيهِ بسعادتين وَذَلِكَ بِأَمْر فاضلي لزمني امتثاله وشملني فِي إِتْمَامه إقباله قَالَ وفيهَا فِي خَامِس عشر شَوَّال توفّي صَاحِبي الْمُعْتَمد إِبْرَاهِيم بِدِمَشْق وَأَنا بِمصْر قلت وَهَذَا غير وَالِي دمشق الْمَعْرُوف بالمبارز إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ويلقب أَيْضا بالمعتمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ورثى الْعِمَاد صَاحبه بقصيدة مِنْهَا (أرى الْحزن لَا يجدي على من فقدته ... وَلَو كَانَ فِي حزني مزِيد لزدته) (تَغَيَّرت الْأَحْوَال بعْدك كلهَا ... فلست أرى الدُّنْيَا على مَا عهدته) (عقدت بك الآمال بالنجح واثقا ... فَحلت يَد الأقدار مَا قد عقدته) (وَكَانَ اعتقادي أَنَّك الدَّهْر مسعدي ... فخانتني الْأَيَّام فِيمَا اعتقدته) (أردْت لَك الْعُمر الطَّوِيل فَلم يكن ... سوى مَا أَرَادَ الله لَا مَا أردته) (وداع دَعَاني باسمه ذَاكِرًا لَهُ ... فأطربني ذكر اسْمه فاستعدته) (فقدت أحب النَّاس عِنْدِي وَخَيرهمْ ... فَمن لائمي فِيهِ إِذا مَا نشدته) قَالَ ورثيته ببيتين وَذكرت العناصر الْأَرْبَعَة فِي وَاحِد مِنْهُمَا (لهفي على من كَانَ صبحي وَجهه ... فعدمت حِين عدمته أنواره) (سكن التُّرَاب وغاض مَاء حَيَاته ... مذ أطفات ريح الْمنية ناره) قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة سَافر قراقوش إِلَى قابس فَذكر محاصرته لجملة من القلاع وَقَتله جمَاعَة من البربر وَمِمَّا ذكره أَنه أسر جمَاعَة على حصن وَأمر بِقَتْلِهِم وَفِيهِمْ صبي أَمْرَد فبذل فِيهِ أهل القلعة عشرَة آلَاف دِينَار على أَن لَا يقْتله فَأبى فزادوه إِلَى مئة ألف فَأبى وَقَتله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 فَمَا استتم قَتله حَتَّى نزل شيخ من القلعة وَمَعَهُ مفاتيحها وقدمها لقراقوش فَسَأَلَهُ عَن الْخَبَر فَقَالَ هَذَا الصَّبِي الَّذِي قَتله وَلَدي وَلم يكن لي سواهُ ولأجله كنت أحفظ هَذِه القلعة فَلَمَّا قتلته علمت إِن بقيت هَذِه القلعة بيَدي ومت صَارَت إِلَى أَوْلَاد أخي وَأَنا أبْغضهُم فَرده إِلَى القلعة وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بِالْقَاهِرَةِ وَقد عين لسَمَاع الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة بِقِرَاءَة الإِمَام تَاج الدّين البندهي المَسْعُودِيّ ميقاتا وَجمع بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 من الْعلم وَالْعُلَمَاء عِنْده أشتاتا وَورد كتاب عز الدّين فرخشاه من الشَّام يذكر مَا من الله بِهِ على الْأَنَام من الإنعام بِكَثْرَة ولادَة التوأم فِي ذَلِك الْعَام وجبر الله بِهِ مَا كَانَ قبله من الوباء وتفاءلوا بِالْخصْبِ بعد الجدب والغلاء قَالَ وَدخلت الْحمام الَّذِي بناه زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن نجا الْوَاعِظ فِي دَاره خَارج بَاب زويلة بِالْقَاهِرَةِ فِي ذِي الْقعدَة فَقلت (مَا منزل من يرى فِيهِ ... غير عَار فعار) (بِهِ تماط الأذايا ... وترخص الأوضار) (والعيش فِيهِ قَرَار ... والطيش فِيهِ وقار) (والسبت فِي كل يَوْم ... لمن يرى مُخْتَار) (نَار تطيب أَلا اعْجَبْ ... لجنة هِيَ نَار) وَله فِيهِ (ومنزل يدْخلهُ ... لشغله كل أحد) (يُوجد فِيهِ السبت فِي ... كل خَمِيس وَأحد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 فصل فِي ذكر وَفَاة الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين رحمهمَا الله وَمَا تمّ فِي بِلَاده بعده وَذَلِكَ بحلب قَالَ ابْن شَدَّاد وَكَانَ مَرضه بالقولنج وَكَانَ أول مَرضه فِي تَاسِع رَجَب وَفِي الثَّالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ أغلق بَاب قلعة حلب لشدَّة مَرضه واستدعى الْأُمَرَاء وَاحِدًا وَاحِدًا واستحلفوا لعز الدّين صَاحب الْموصل وَفِي الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ توفّي رَحمَه الله وَكَانَ لمَوْته وَقع عَظِيم فِي قُلُوب النَّاس وَقَالَ ابْن أبي طي كَانَ سَبَب مَوته أَن علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر سقَاهُ سما فِي عنقود عِنَب وَهُوَ فِي الصَّيْد وَقيل الَّذِي سقَاهُ ياقوت الْأَسدي فِي شراب وَقيل إِنَّه أطْعمهُ خشكنانكه وَهُوَ فِي الصَّيْد قَالَ وَدفن بالْمقَام الْكَبِير الَّذِي فِي القلعة وحزن النَّاس لَهُ حزنا عَظِيما وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وألبقهم أعطافا قلت وَبَلغنِي أَنه كَانَ يُقَال إِن موت الْملك الصَّالح صَغِيرا كَانَ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 كرامات نور الدّين رَحمَه الله فَإِنَّهُ سَأَلَ الله تَعَالَى أَلا يعذب شَيْئا من أَجْزَائِهِ بالنَّار وَولده جزؤه فَمَاتَ قبل أَن يطول عمره على أحسن سيرة وَحَالَة رحمهمَا الله قَالَ ابْن الْأَثِير وَلم يبلغ عشْرين سنة وَلما اشْتَدَّ مَرضه وصف لَهُ الْأَطِبَّاء شرب الْخمر تداويا بهَا فَقَالَ لَا أفعل حَتَّى استفتي الْفُقَهَاء وَكَانَ عِنْده عَلَاء الدّين الكاساني الْفَقِيه الْحَنَفِيّ بِمَنْزِلَة كَبِيرَة يعْتَقد فِيهِ اعتقادا حسنا ويكرمه فاستفتاه فأفتاه بِجَوَاز شربهَا فَقَالَ لَهُ يَا عَلَاء الدّين إِن كَانَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قرب أَجلي هَل يُؤَخِّرهُ شرب الْخمر قَالَ لَا وَالله قَالَ وَالله لَا لقِيت الله تَعَالَى وَقد اسْتعْملت مَا حرمه عَليّ قلت يحْتَمل أَنه ذكر لَهُ أَن من الْعلمَاء من ذهب إِلَى جَوَاز ذَلِك لَا أَنه كَانَ يرى ذَلِك فَإِن مذْهبه بِخِلَافِهِ وَالله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 ثمَّ قَالَ ابْن الْأَثِير فَلَمَّا أيس من نَفسه أحضر الْأُمَرَاء كلهم وَسَائِر الأجناد واستحلفهم لِابْنِ عَمه أتابك عز الدّين وَأمرهمْ بِتَسْلِيم مَمْلَكَته جَمِيعهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم إِن ابْن عمك عز الدّين لَهُ الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد من همذان إِلَى الْفُرَات فَلَو أوصيت بحلب لِابْنِ عمك عماد الدّين لَكَانَ أحسن ثمَّ هُوَ تربية والدك وَزوج أختك وَهُوَ أَيْضا عديم الْمثل فِي الشجَاعَة وَالْعقل وَالتَّدْبِير وَشرف الأعراق وطهارة الْأَخْلَاق والخلال الَّتِي تفرد بهَا فَقَالَ إِن هَذَا لم يغب عني وَلَكِن قد علمْتُم تغلب صَلَاح الدّين على عَامَّة بِلَاد الشَّام سوى مَا بيَدي وَمَعِي فَإِن سلمت حلب إِلَى عماد الدّين يعجز عَن حفظهَا من صَلَاح الدّين وَإِن ملكهَا صَلَاح الدّين فَلَا يبْقى لأهلنا مَعَه مقَام وَإِذا سلمتها إِلَى عز الدّين أمكنه أَن يحفظها لِكَثْرَة عساكره وبلاده وأمواله فَاسْتحْسن الْحَاضِرُونَ قَوْله وَعَلمُوا صِحَّته وعجبوا من جودة رَأْيه مَعَ شدَّة مَرضه وَمن أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم فَلَمَّا توفّي أرسل دزدار حلب وَهُوَ شاذبخت وَسَائِر الْأُمَرَاء إِلَى أتابك عز الدّين يَدعُونَهُ إِلَى حلب ليسلموها إِلَيْهِ فورد الْخَبَر وَمُجاهد الدّين قايماز قد سَار إِلَى ماردين لمهم عرض فلقي القاصدين عِنْدهَا فأخبروه الْخَبَر فَسَار إِلَى الْفُرَات وَأرْسل إِلَى أتابك عز الدّين يعرفهُ الْحَال وَيُشِير بتعجيل الْحَرَكَة وَأقَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 على الْفُرَات ينتظره وَسَار أتابك مجدا فَلَمَّا وصل إِلَى الْمنزلَة الَّتِي بهَا مُجَاهِد الدّين أَقَامَ مَعَه وَأرْسل إِلَى حلب يستحضر الْأُمَرَاء فَحَضَرُوا كلهم عِنْده وجددوا الْيَمين لَهُ فَسَار حِينَئِذٍ إِلَى حلب ودخلها وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَلما عبر الْفُرَات كَانَ تَقِيّ الدّين عمر بن أخي صَلَاح الدّين بِمَدِينَة منبج فَسَار عَنْهَا هَارِبا إِلَى مَدِينَة حماة وثار أهل حماة وَنَادَوْا بشعار أتابك وَكَانَ صَلَاح الدّين بِمصْر فَأَشَارَ عَسْكَر حلب على عز الدّين بِقصد دمشق وأطمعوه فِيهَا وَفِي غَيرهَا من الْبِلَاد الشامية وأعلموه محبَّة أَهلهَا للبيت الأتابكي فَلم يفعل وَقَالَ بَيْننَا يَمِين فَلَا نغدر بِهِ وَأقَام بحلب عدَّة شهور ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى الرقة فَأَقَامَ بهَا وجاءته رسل أَخِيه عماد الدّين يطْلب مِنْهُ أَن يسلم إِلَيْهِ حلب وَيَأْخُذ عوضهَا \ مَدِينَة سنجار فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك ولج عماد الدّين وَقَالَ إِن سلمتم إِلَيّ حلب وَإِلَّا سلمت أَنا سنجار إِلَى صَلَاح الدّين فَأَشَارَ حِينَئِذٍ الْجَمَاعَة بتسليمها إِلَيْهِ وَكَانَ أَكْثَرهم فِي ذَلِك مُجَاهِد الدّين قايماز فَإِنَّهُ لج فِي تَسْلِيمهَا إِلَى عماد الدّين وَلم يُمكن أتابك عز الدّين مُخَالفَته لتمكنه فِي الدولة وَكَثْرَة عساكره وبلاده فوافقه وَهُوَ كَارِه فَسلم حلب إِلَى أَخِيه وتسلم سنجار وَعَاد إِلَى الْموصل وَكَانَ صَلَاح الدّين بِمصْر وَقد أيس من الْعود إِلَى الشَّام فَلَمَّا بلغه ذَلِك برز عَن الْقَاهِرَة إِلَى الشَّام فَلَمَّا سمع أتابك عز الدّين بوصول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام جمع عساكره وَسَار عَن الْموصل خوفًا على حلب من صَلَاح الدّين فاتفق أَن بعض الْأُمَرَاء الأكابر مَال إِلَى صَلَاح الدّين وَعبر الْفُرَات إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى أتابك ذَلِك لم يَثِق بعده إِلَى أحد من أمرائه إِذْ كَانَ ذَلِك الْأَمِير أوثقهم فِي نَفسه فَعَاد إِلَى الْموصل وَعبر صَلَاح الدّين الْفُرَات وَملك الْبِلَاد الجزرية ونازل الْموصل فَلم يتَمَكَّن من النُّزُول عَلَيْهَا وَعَاد إِلَى حلب وحصرها فسلمها عماد الدّين إِلَيْهِ وَسبب ذَلِك أَن عز الدّين لما تسلم حلب لم يتْرك فِي خزائنها من السِّلَاح وَالْأَمْوَال شَيْئا إِلَّا نَقله إِلَى الْموصل وتسلمها عماد الدّين وَهِي كَمَا يُقَال بطن حمَار فَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي تَسْلِيمهَا لصلاح الدّين وَأخذ عوضهَا سنجار والخابور ونصيبين وسروج والرقة وَغير ذَلِك قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما توفّي الْملك الصَّالح سارعوا إِلَى إِعْلَام عز الدّين مَسْعُود بن قطب الدّين بذلك وَبِمَا جرى لَهُ من الْوَصِيَّة إِلَيْهِ وتحليف النَّاس لَهُ فسارع سائرا إِلَى حلب مبادرا خوفًا من السُّلْطَان فَكَانَ أول قادم من أمرائه إِلَى حلب مظفر الدّين بن زين الدّين وَصَاحب سروج وَوصل مَعَهُمَا من حلف جَمِيع الْأُمَرَاء لَهُ وَكَانَ وصولهم فِي ثَالِث شعْبَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَفِي الْعشْرين مِنْهُ وصل عز الدّين إِلَى حلب وَصعد القلعة وَاسْتولى على خزائنها وذخائرها وَتزَوج أم الْملك الصَّالح فِي خَامِس شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ أَقَامَ عز الدّين بقلعة حلب إِلَى سادس عشر شَوَّال وَعلم أَنه لَا يُمكنهُ حفظ الشَّام مَعَ الْموصل لِحَاجَتِهِ إِلَى مُلَازمَة الشَّام لأجل السُّلْطَان وألح عَلَيْهِ الْأُمَرَاء فِي طلب الزِّيَادَات وَرَأَوا أنفسهم أَنهم قد اختاروه وضاق عطنه وَكَانَ صَاحب أمره مُجَاهِد الدّين قايماز وَكَانَ ضيق العطن لم يعْتد مقاساة أُمَرَاء الشَّام فَرَحل من حلب طَالب الرقة وَخَلفه وَلَده ومظفر الدّين بن زين الدّين بهَا فَأتى الرقة ولقيه أَخُوهُ عماد الدّين عَن قَرَار بَينهمَا وَاسْتقر مقايضة حلب بسنجار وَحلف عز الدّين لِأَخِيهِ عماد الدّين على ذَلِك فِي حادي عشر شَوَّال وَسَار من جَانب عماد الدّين من تسلم حلب وَمن جَانب عز الدّين من تسلم سنجار وَفِي ثَالِث عشر الْمحرم سنة ثَمَان وَسبعين صعد عماد الدّين قلعة حلب قلت ووقفت على كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 فرخشاه وَهُوَ نَائِبه دمشق وقفنا على كِتَابه وَعلمنَا مَا تجدّد من الْخَبَر بِمَرَض الْملك الصَّالح واشتداد حَاله وَانْقِطَاع الدَّاخِل عَلَيْهِ ثمَّ أَشَارَ بتنفيذ عَسْكَر إِلَى جِهَة أَخِيه تَقِيّ الدّين على إِظْهَار قَاعِدَة النّظر فِي الْقَضِيَّة يالحادثة بَين أهل ديار بكر وَابْن قرا أرسلان والتوجه لفصلها قَالَ فَيكون ظَاهر حَرَكَة الْعَسْكَر لهَذَا السَّبَب الْمُتَقَدّم وباطنها لهَذَا السَّبَب الْمُتَأَخر وَقد كُوتِبَ الْوَلَد تَقِيّ الدّين أَن يتَوَجَّه إِلَى منبج على الظَّاهِر وَالْبَاطِن الْمَذْكُورين وَأَن يحفظ الْمَغَازِي ويرابط الْفُرَات وَيمْنَع المعابر وَلنَا بالس وقلعة جعبر ومنبج وتل بَاشر وَهِي جُمْهُور الطّرق بل كلهَا وَقد أوعزنا إِلَى تَقِيّ الدّين بِأَن يكون حمام حماة فِي حلب وحمام دمشق فِي حماة وَإِلَى الْأَجَل نَاصِر الدّين بِأَن يكون حمام دمشق فِي حمص وحمام حمص فِي حلب وولدنا عز الدّين يُؤمر بِأَن يكون حمام بصرى فِي دمشق وَقد بعثنَا نجابين يكونُونَ منبجين ببصرى فَإِن تحققت الْوَفَاة فَنحْن أسبق إأليكم من الْجَواب قولا وفعلا ووعدا ونجحا فالعلة مزاحة والعساكر مستريحة وَالظّهْر قد استعد والمصلحة فِي الْحَرَكَة ظَاهِرَة وحجج انتقاد المنتقدين فِي هَذِه الْقَضِيَّة سَاقِطَة وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ قصد السُّلْطَان إصْلَاح حَال الْملك الصَّالح وَأَنه الْقَائِم مقَام أَبِيه فصده عَنهُ مماليكه فَأخذت بِلَاده بلجاجهم ومرضت دولته لسوء علاجهم فَامْتنعَ بحلب إِلَى أَن توفّي وَوصل ابْن عَمه عز الدّين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 مَسْعُود صَاحب الْموصل إِلَى حلب فَجمع ظَاهره وباطنه وَأخذ خزائنه واستخرج دفائنه وأخلى كنائنه ثمَّ إِنَّه عرف أَنه لَا يسْتَقرّ لَهُ بهَا أَمر فَرغب أَخَاهُ عماد الدّين تزنكي صَاحب سنجار فِي تعويضها لَهُ بحلب فَمَال إِلَى بذله وَرغب وَلما سمع السُّلْطَان فِي مصر بوفاة الْملك الصَّالح تحرّك عزمه وَنَدم على النزوح من الشَّام مَعَ قرب هَذَا المرام فَكتب إِلَى ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وَهُوَ يتَوَلَّى لَهُ المعرة وحماة وَأمره بالتأهب والنهوض وَكَذَلِكَ شحذ عزائم نوابه بِالشَّام بتجديد المكاتبات لَهُم وبعثهم على الاستعداد وَحَملهمْ وَكَانَ نَائِبه بِدِمَشْق ابْن أَخِيه عز الدّين مزخشاه قد نَهَضَ فِي مُقَابلَة الفرنج بالكرك فَإِن الإبرنس الكركي كَانَ يحدث نَفسه بِقصد تيماء فِي الْبَريَّة فَمَا زَالَ فرخشاه فِي مُقَابلَته حَتَّى نكص اللعين على عَقِبَيْهِ ذليلا وَلم يجد إِلَى مَا حدثته بِهِ نَفسه سَبِيلا فَعرف السُّلْطَان اشْتِغَاله بِهَذَا المهم فَكتب كتابا بشرح الْحَال إِلَى بَغْدَاد بِاللَّفْظِ الْعِمَادِيّ يَقُول فِيهِ وشاع الْخَبَر بغارة فرنج أنطاكية على حارم وَأتوا من السَّبي والنهب بالعظائم وشاع أَيْضا أَن عَسْكَر حلب أغار على الراوندان وَهِي فِي عَملنَا ورسولهم عِنْد الفرنج يستنجد بهم ويغريهم بِنَا وَقد راسلوا الحشيشية وَالْمرَاد من الرسَالَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 غير خَافَ وَالْعلم بالمعتاد مِنْهُ كَاف وَابْن أخينا غَائِب فِي أقْصَى بِلَاد الفرنج فِي أول بَريَّة الْحجاز فَإِن طاغية مِنْهُم جمع خيله وَرجله وحدثته نَفسه الخبيثة بِقصد تيماء وَهِي دهليز الْمَدِينَة على ساكنها السَّلَام واغتنم كَون الْبَريَّة معشبة مخصبة فِي هَذَا الْعَام وَالْعجب أَنا نحامي عَن قبر النَّبِي صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه مشتغلين بمهمه وَالْمَذْكُور يَعْنِي صَاحب الْموصل يُنَازع فِي ولَايَة هِيَ لنا ليأخذها بيد ظلمه وَكم بَين من يحارب الْكفْر وَيحمل إِلَيْهِم قواصم الْآجَال وَبَين من يتخذهم بطانة دون الْمُؤمنِينَ وَيحمل إِلَيْهِم كرائم الْأَمْوَال هَذَا مَعَ مَا نعد فِي الْملَّة الحنيفية والدولة الهادية العباسية من آثَار لَا يعد مثلهَا أَولا لأبي مُسلم لِأَنَّهُ أقدم ثمَّ خام ووالى ثمَّ ولى وَلَا آخرا لطغرلبك فَإِنَّهُ نصر وَنصب ثمَّ حجر وحجب وَقد عرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 مَا فضلنَا الله بِهِ عَلَيْهِمَا فِي نصر الدولة وَقطع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وتطهير المنابر من رِجْس الأدعياء وَلم نَفْعل مَا فعلنَا لأجل الدُّنْيَا غير أَن التحدث بِنِعْمَة الله وَاجِب والتبجح بِالْخدمَةِ الشَّرِيفَة والافتخار بالتوفيق فِيهَا على السجية غَالب وَلَا غنى عَن بروز الْأَوَامِر الشَّرِيفَة إِلَى الْمَذْكُور بِأَن يلْزم حَده وَلَا يتَجَاوَز حَقه فَإِن دُخُول الْأَيْدِي الْمُخْتَلفَة عَن الْأَعْدَاء المتفقة شاغل وَيحْتَاج إِلَى مغرم ينْفق فِيهِ الْعُمر بِغَيْر طائل فَإِن الْأَعْمَال تمر مر السَّحَاب والفرص تمض ومض السراب وبقاؤنا فِي هَذِه الدَّار الْقَلِيل اللّّبْث الْقصير الْمكْث نؤثر أَنْت نغتنمه فِي مجاهدة الْعَدو الْكَافِر الَّذِي صَار بِهِ الْبَيْت الْمُقَدّس محلا للأرجاس وَمَضَت عَلَيْهِ دهور وملوك لم يحصلوا من رَجَاء تَطْهِيره إِلَّا على الياس وَإِن كَانَ الْقَوْم قد بذلوا للدَّار العزيزة بذولا معارة فقد أسلف الْخَادِم خدمات لَيست بعوار فَإِنَّهُم لَو بذلوا بِلَادهمْ كلهَا مَا وفت بِفَتْح مصر الَّتِي رجل بهَا أسامي الأدعياء الراكبة أعوادها وَأعَاد إِلَى عينهَا بعد بَيَاض عماها من نور الشعار العباسي سوادها فَإِن اقْتَضَت الْأَوَامِر الشَّرِيفَة أَن يوعز للمذكور فِي حلب بتقليد فَالْأولى أَن يُقَلّد الْجَمِيع فَلَا رَغْبَة فِيمَا لَا يُؤمن مَعَه شَرّ الشَّرِيك ولمالك الْأَمر الحكم فِي ممالك المماليك وَكَانَ فِي الْكتاب أَيْضا مَا مَعْنَاهُ إِن حلب من جملَة الْبِلَاد الَّتِي اشْتَمَل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 عَلَيْهَا تَقْلِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء بِأَمْر الله لَهُ وَإِنَّمَا تَركهَا فِي يَد ابْن نور الدّين لأجل أَبِيه والآن فَليرْجع كل إِلَى حَقه وليقنع برز قه وَمن كتاب آخر فاضلي فقد صرف وجهنا فِي هَذَا الْوَقْت عَن جِهَاد لَو كُنَّا بصدده وَعَن فرض لَو وصلنا يَوْمه بغده لَكَانَ الْإِسْلَام قد أعفي من شركَة الشّرك وانفك أَهله من ربقة أهل الْإِفْك ولكانت الْأَسْمَاء الشَّرِيفَة قد قرعت مَنَابِر طالما عزلت الصلب خطباءها ولكان الدّين الْخَالِص قد خلص إِلَى بِلَاد صَار الْمُشْركُونَ متوطنيها والمسلمون غرباءها وَفِي كتاب آخر لَهُ وَقد علم الله سُبْحَانَهُ أَنا لهدنتهم كَارِهُون وَفِي مصلحَة أهل الْإِسْلَام وَفِي مصالحهم راغبون وَلَكنَّا قد بلينا بِقوم كالفراش أَو أخف عقولا وكالأنعام أَو أضلّ سَبِيلا إِن بني مَعَهم فعلى غير أساس وَإِن عدد الْغدر مِنْهُم فَهُوَ أَكثر من الأنفاس وَفِي كتاب آخر وَالْخَادِم وَالْحَمْد لله يعدد سوابق فِي الْإِسْلَام والدولة العباسية لَا تعدها أولية أبي مُسلم لِأَنَّهُ والى ثمَّ وارى وَلَا آخرية طغرلبك لِأَنَّهُ نصر ثمَّ حجر وَالْخَادِم بِحَمْد الله خلع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وأساغ الغصة الَّتِي ذخر الله للإساغة فِي سَيْفه ماءها فَرجل الْأَسْمَاء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فَكسر الْأَصْنَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الْبَاطِنَة بِسَيْفِهِ الظَّاهِر لَا السَّاتِر وَفعل وَمَا فعل للدنيا وَلَا معنى للاعتداد بِمَا هُوَ متوقع الْجَزَاء عَنهُ فِي الْيَوْم الآخر وَمن كتاب آخر عِنْد دُخُول صَاحب الْموصل حلب واستيلائه عَلَيْهَا وَكَانَت دَاخِلَة فِي تَقْلِيد السُّلْطَان السَّابِق فَقَالَ دخل حلب مستوليا وَحصل بهَا معتديا وعقود الْخُلَفَاء لَا تحل وَالسُّيُوف فِي أوجه أَوْلِيَائِهِمْ لَا تسل وَإنَّهُ إِن فتح بَاب الْمُنَازعَة أدني من ندامة وَأبْعد من سَلامَة وخرق مَا يعيي على الراقع وجذب الرِّدَاء فَلم تغن فِيهِ إِلَّا حِيلَة الخالع وَلَيْسَ الِاسْتِيلَاء بِحجَّة فِي الولايات لطالبها وَلَا الدُّخُول إِلَى الدَّار بِمُوجب ملك غاصبها إِلَّا أَن تكون الْبِلَاد كالديار المصرية حِين فتحهَا الْخَادِم وَأَهله حَيْثُ الْجُمُعَة مستريبة والخلافة فِي غير أَهلهَا غَرِيبَة والعقائد لغير الْحق مستجيبة فَتلك الْولَايَة أولى بهَا مِمَّن منحها من فتحهَا وَكَانَ سلطانها من أَدخل فِي خبر كَانَ شيطانها وَأما حلب الَّتِي الْكَلِمَة فِيهَا عالية والمنابر فِيهَا بِالِاسْمِ الشريف حَالية فَإِنَّمَا تكون لمن قلدها لَا لمن توردها وَلمن بِالْحَقِّ تسلمها لَا لمن بِالْبَاطِلِ تسنمها وَلَو كَانَت حلب كَمَا كَانَت مصر لدخلها الْخَادِم وَلم يشاور ولولجها وَلم يناظر وَلكنه أَتَى الْبيُوت من أَبْوَابهَا واستمطر القطار من سحابها ثمَّ ذكر أَن المواصلة راسلوا الْمَلَاحِدَة الحشيشية واتخذوهم بطانة من دون الْمُؤمنِينَ وواسطة بَينهم وَبَين الفرنج الْكَافرين ووعدوهم بقلاع من يَد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 الْإِسْلَام تقلع وبضياع من فَيْء الْمُسلمين تُوضَع وبدار دَعْوَة بحلب ينصب فِيهَا علم الضَّلَالَة وَيرْفَع وياللعجب من الْخصم يهدم دولة حق وَهِي تبنيه وَمن العَبْد يَبْنِي ملكهَا بِنَفسِهِ وَمَاله وَذَوِيهِ وَهِي تراقب أعداءه فِيهِ ودعواه فِي رسائلهم وغوائلهم لَيست بِدَعْوَى لَا يقوم شَاهدهَا وَلَا هِيَ بشناعة لَا يَهْتَدِي قائدها بل هَذَا رسولهم عِنْد سِنَان صَاحب الْمَلَاحِدَة ورسولهم عِنْد القومص ملك الفرنج وَهَذِه الْكتب الْوَاصِلَة بذلك قد سيرت ولاستنجاب الْولَايَة طرق أما السَّبق إِلَى التَّقْلِيد فللخادم السَّبق وَأما الْعَدَالَة وَالْعدْل فَلَو وَقع الْفرق لوقع الْحق وَأما بالآثار بِالطَّاعَةِ فَلهُ فِيهَا مَا لَوْلَا مَعُونَة الْخَالِق فِيهِ لقصرت عَنهُ أَيدي الْخلق وَمَتى استمرت الْمُشَاركَة فِي الشَّام أفضت إِلَى ضعف التَّوْحِيد وَقُوَّة الْإِشْرَاك وترامت إِلَى أخطار تعجز عَنْهَا خواطر الِاسْتِدْرَاك وأحوجت قَابض الأعنة إِلَى أَن يعليها الجدد ويرسلها العراك وَطَرِيق الصّلاح والمصالحات الْأَيْمَان والمشار إِلَيْهِم لَا يلتزمون ربقتها وَلَا يوجبون صفقتها فَكفى بالتجريب ناهيا عَن الْغرَّة وَلَا يلْدغ الْمُؤمن إِلَّا مرّة وَإِذا اجْتمعت فِي الشَّام أيد ثَلَاث يَد عادلة وَيَد ملحدة وَيَد كَافِرَة نَهَضَ الْكفْر بتثليثه وَقصرت عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الْإِسْلَام يَد مغيثه وَلم ينفع الْخَادِم حِينَئِذٍ تَصْحِيح حسابه وتصديق حَدِيثه وَمَا يُرِيد الْخَادِم إِلَّا من تكون يَد الله عَلَيْهِ وَهِي الْجَمَاعَة وَلَا يُؤثر إِلَّا مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ الطَّاعَة وَلَا يتوخى إِلَّا مَا تقوم بِهِ الْحجَّة الْيَوْم وَيَوْم تقوم السَّاعَة وَمن كتاب آخر قد أحَاط الْعلم بِمَا طالع بِهِ أَولا عِنْد وَفَاة ولد نور الدّين رَحمَه الله أَن التَّقْلِيد الشريف المستضيء لما وَصله بالبلاد وَكَانَ قد فتح أَكْثَرهَا قلاعا وأمصارا وحصونا وديارا وَلم يبْق إِلَّا قَصَبَة حلب وَهُوَ على أَخذهَا عدل ولد نور الدّين عَن الْقِتَال إِلَى النوال وَعَن النزال إِلَى الإستنزال وَقصد الْقَصْد الَّذِي مَا أوجبت الْمُحَافظَة أَن يتلَقَّى بِالرَّدِّ فأقره على الْولَايَة فرعا لَا أصلا ونائبا لَا مُسْتقِلّا وَسلم إِلَيْهِ الْبِلَاد وَيَده الْغَالِبَة لَا المغلوبة وسيوفه السالبة لَا المسلوبة وَمَشى الْأَمر مَعَه مُسْتَقِيمًا ومائلا وجائرا وعادلا إِلَى أَن قضى نحبه وَلَقي ربه فَبَدَا من المواصلة نقض الْأَيْمَان والابتداء بالعدوان والتعرض للبلاد وَالتَّصَرُّف فِيهَا بِغَيْر حجَّة يكون عَلَيْهَا الِاعْتِمَاد فطالع الدِّيوَان بالقضية وَاسْتشْهدَ بدلالات قوانينه الجلية فِي هَذَا التَّقْلِيد الَّذِي تهادته المحاضر وأشاعته المنابر وسيرت إِلَى الشرق والغرب نسخه وغلت الْأَيْدِي الَّتِي تحدث أَنْفسهَا أَنَّهَا تفسخه فصل قَالَ الْعِمَاد وَتوجه السُّلْطَان بعد شهر رَمَضَان إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 طَرِيق الْبحيرَة وخيم عِنْد السَّوَارِي وَشَاهد الأسوار الَّتِي جددها والعمارات الَّتِي مهدها وَأمر بالإتمام والاهتمام وَقَالَ السُّلْطَان نغتنم حَيَاة الشَّيْخ الإِمَام أبي طَاهِر بن عَوْف فحضرنا عِنْده وَسَمعنَا عَلَيْهِ موطأ مَالك رَضِي الله عَنهُ بروايته عَن الطرطوشي فِي الْعشْر الْأَخير من شَوَّال وَتمّ لَهُ ولأولاده وَلنَا بِهِ السماع والوالي يَوْمئِذٍ بهَا فَخر الدّين قراجا قلت وَوجدت للْقَاضِي الْفَاضِل كتابا كتبه إِلَى السُّلْطَان تهنئة بِهَذَا السماع يَقُول فِيهِ أدام الله دولة الْمولى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ وأسعده برحلته للْعلم وأثابه عَلَيْهَا وأوصل ذخائر الْخَيْر إِلَيْهِ وأوصله إِلَيْهَا وأوزع الْخلق شكرا لنعمته فِيهِ فَإِنَّهَا نعْمَة لَا يُوصل إِلَى شكرها إِلَّا بإيزاعه وأودع قلبه نور الْيَقِين فَإِنَّهُ مُسْتَقر لَا يودع فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُسْتَندا إِلَى إيداعه وَللَّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 فِي الله رحلتاه وَفِي سَبِيل الله يوماه وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أغر محجل وَالْحَمْد لله الَّذِي جعله ذَا يَوْمَيْنِ يَوْم يسفك دم المحابر تَحت قلمه وَيَوْم يسفك دم الْكَافِر تَحت علمه فَفِي الأول يطْلب حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيجْعَل أَثَره عينا لَا تستر وَفِي الثَّانِي يَجْعَل لنصره شَرِيعَته هداه على الضلال فَيجْعَل عينه أثرا لَا يظْهر وَقد اسْتغْرب النَّاس همم الْعلمَاء فِي رحلتهم لنقل الحَدِيث وسماعه والموالاة فِي طلب ثقته وانتجاعه وصنفوا فِي ذَلِك تصانيف قصدُوا بهَا التحريض للهمم والتنبيه وَالرَّفْع من أقدار أَهله والتنويه فَقَالُوا رَحل فلَان لسَمَاع مُسْند فلَان وَسَار زيد إِلَى عَمْرو على بعد الْمَكَان هَذَا وَصَاحب الرحلة قد نصب نَفسه للْعلم وشغل بِهِ دهره ووقف عَلَيْهِ فكره فَلَا تتجاذب عنان همته الْكَبَائِر فَمَا القَوْل فِي ملك خواطره كأبوابه مطروقة وَأُمُور خلق الله كأمور دينه بِهِ معذوقة إِذْ هَاجر إِلَى بَقِيَّة الْخَيْر فِي أضيق أوقاته وَترك للْعلم أَشد ضروراته ووهب لَهُ أَيَّامًا مَعَ أَنه فِي الْغُزَاة يُحَاسب لَهَا نَفسه على لحظاته وساعاته وَمَا يحْسب الْمَمْلُوك أَن كَاتب الْيَمين كتب لملك قطّ رحْلَة فِي طلب الْعلم إِلَّا للرشيد هَارُون رَحْمَة الله عَلَيْهِ على أَنه خلط زِيَارَة نبوية بِطَلَب ورحل بولديه إِلَى مَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ لسَمَاع هَذَا الْمُوَطَّأ الَّذِي اتّفقت الهمتان الرشيدية والناصرية على الرَّغْبَة فِي سَمَاعه والرحلة لانتجاعه وَقد كَانَ الرشيد سَام مَالِكًا رَحمَه الله أَن يَجْعَل لَهُ ولولديه الْأمين والمأمون مَجْلِسا خَاصّا لإسماع مُصَنفه فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ إِنَّهَا سنة ابْن عمك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيْرك من سترهَا وَمثلك من نشرها فَهَذِهِ رحْلَة ثَانِيَة فِي الزَّمَان وَأولى فِي الْإِيمَان يَكْتُبهَا الله للْمولى بقلم كَاتب الْيَمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وَيقوم فِيهَا مقَام الرشيد وَيقوم عَلَيْهِ وعثمانه مقَام ولديه الْمَأْمُون والأمين وَكَانَ أصل الْمُوَطَّأ بِسَمَاع الرشيد على مَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ فِي خزانَة الْكتب المصرية فَإِن كَانَ قد حصل بالخزانة الناصرية فَهُوَ بركَة عَظِيمَة ومنقبة كَرِيمَة وذخيرة قديمَة وَإِلَّا فليلتمس وَكَذَلِكَ خطّ مُوسَى بن جَعْفَر فِي فتيا الْمَأْمُون رحمهمَا الله كَانَ أَيْضا فِيهَا وَهُوَ مِمَّا يتبرك بِمثلِهِ وَيعلم بِهِ فضل الْعلم لَا خلا الْمولى أبقاه الله من فَضله وقف الْمَمْلُوك على مَا بشر بِهِ من صنع الْمولى وتوفيقه وَصِحَّة مزاجه فِي طَرِيقه وَانْقِطَاع مَا كَانَ من دم واسترواح الْقلب من كل هم وَقد استفتحت هَذِه الطَّرِيق بِكُل فأل مباركة الْبكر والفأل مأثورة عَن سيد الْبشر فَمن ذَلِك صِحَة جِسْمه فلتهنه الصِّحَّة وفسحة قلبه دَامَت لَهُ الفسحة وَانْقِطَاع الدَّم وَطَرِيقه إِلَى الشَّام يَنْقَطِع بهَا الدَّم ويتصل النَّصْر لَهُ وينتظم السّلم وَأُخْرَى أَنه رَحل إِلَى الْمُوَطَّأ رحم الله مَالِكه ويرحل فِيمَا يطْلب من الشَّام إِلَى الْمُوَطَّأ أسعد الله بِهِ ممالكه الله تَعَالَى يُحَقّق الْخَيْر وَيصرف الضير ويبارك لمولانا فِي الْمقَام وَالسير إِن شَاءَ الله قلت هَكَذَا يَقع فِي كتب الْفَاضِل رَحمَه الله كثيرا وَهُوَ أَنه يختمها بالأدعية مُتَّصِلَة بقوله إِن شَاءَ الله وَالتَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ غير لَائِق بالأدعية فَفِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقل أحدكُم اللَّهُمَّ اغْفِر لي إِن شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِن شِئْت اللَّهُمَّ ارزقني إِن شِئْت ليعزم مَسْأَلته فَإِنَّهُ يفعل مَا يَشَاء لَا مكره لَهُ) فصل فِي أُمُور تتَعَلَّق بولاة الْيمن فِي هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد كَانَ الْأَمِير مجد الدّين سيف الدولة مبارك بن كَامِل بن منقذ نَائِبا لشمس الدولة أخي السُّلْطَان بزبيد وَحصل لَهُ من أموالها الطريف والتليد ثمَّ ابْتَاعَ من السُّلْطَان النَّاحِيَة الْمَعْرُوفَة بالعدوية بِمصْر لما عَاد إِلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وَبَقِي أَخُوهُ حطَّان بزبيد واليا عَلَيْهَا فَصنعَ دَعْوَة عَظِيمَة بهَا ذكر الْعِمَاد أَنه حضرها هُوَ وَغَيره من الْفُضَلَاء الْأَعْيَان فَبَيْنَمَا هم عِنْده فِي أسر حَال إِذْ أحدق بهم الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش فَقبض على سيف الدولة واعتقل بِالْقصرِ وَكَانَ سَببه أَن أقَارِب السُّلْطَان وخواصه كَثُرُوا عَلَيْهِ عِنْده أَنه استوعب مَال زبيد وَأَن لَهُ كنوزا لَا تبيد وأشاروا عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ وَهُوَ يدافع عَنهُ إِلَى أَن أَكْثرُوا وَقيل فِيهِ إِن لم تُدْرِكهُ فَاتَ فَأمر بِهِ فاعتقل فسمح للسُّلْطَان خَاصَّة من النَّقْد الْمصْرِيّ بِثَمَانِينَ ألف دِينَار لم يظْهر فِيهَا بيع دَار وَلَا مَتَاع وَلَا استدانة من تجار وَغرم لأخوي السُّلْطَان الْعَادِل وتاج الْمُلُوك مَا حَافظ بِهِ على نهج الْكَرم المسلوك وَخرج مشرفا مكرما مصرفا مُحْتَرما وَزَاد السُّلْطَان فِي تكرمته وَنفذ إِلَيْهِ بِمَا قَبضه مِنْهُ خطّ يَده بِأَن الْمبلغ دين فِي ذمَّته ثمَّ بَاعه أملاكا بِمصْر بِتَقْدِير ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وبذل لَهُ كل مَا طلب عَن إِيثَار وَاخْتِيَار وَزَاد فِي إقطاعه وَبَارك الله لَهُ فِي أشيائه وأشياعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ هَذَا الْأَمِير من رجاحة عقله وحصافة فَضله مَا سَمِعت مِنْهُ شكوى وَلَا حِكَايَة فِي بلوى وَقتل أَخُوهُ حطَّان بزبيد وَأخذ مَاله فَلم يظْهر مِنْهُ للسُّلْطَان كَرَاهَة وكل شيمته نزاهة ونباهة قَالَ وَكَانَ لما توفّي الْملك الْمُعظم شمس الدولة أشْفق السُّلْطَان من نوابه بِالْيمن وَذكر مَا بَين ولاتها من الإحن وَوصل الْخَبَر بِمَا يجْرِي بَين الْأَمِير عُثْمَان بن الزنجيلي وَالِي عدن وَبَين الْأَمِير حطَّان وَالِي زبيد من الْفِتَن فندب إِلَى زبيد عدَّة من الْأُمَرَاء لحفظ الْبِلَاد وَإِصْلَاح الْأُمُور الَّتِي يخْشَى عَلَيْهَا من الْفساد وَمن جُمْلَتهمْ وَالِي مصر صارم الدّين خطلبا وَبقيت الْولَايَة لَهُ بهَا فِي غيبته يقوم بهَا نوابه وَيرجع إِلَى رَأْي أَهله أَصْحَابه فشرعت زَوجته فِي عمَارَة دَار عَظِيمَة سنية وَذكر الْعِمَاد أَنه حصل لَهُ وَلغيره من الْأَعْيَان بهَا ضِيَافَة جليلة اتفاقية وَقَالَ ابْن أبي طي كَانَت نفس سيف الْإِسْلَام طغتكين أخي السُّلْطَان تشرئب إِلَى الْيمن من حَيْثُ مَاتَ أَخُوهُ شمس الدولة ويشتهي أَن يصير إِلَيْهَا فَأمر ابْن سَعْدَان الْحلَبِي أَن يعْمل لَهُ قصيدة يعرض فِيهَا بإنفاذ سيف الْإِسْلَام إِلَى الْيمن فَعمل القصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 (جرد لَهَا السَّيْف الصَّقِيل فتْنَة ... فالسيف لَا يذخر إِلَّا للفتن) (شدّ بِهِ أزر الْعلَا فَإِنَّهُ ... نعم فَتى من شرع الْجُود وَسن) (الْقَائِل المسمع فِي مقاله ... والصادق النّدب الْأمين المؤتمن) (بَادِي الْفُؤَاد كَيْفَمَا سيرته ... حن إِلَى دَار الوغى ثمت أَن) وفيهَا يَقُول (يَا ابْن الْكِرَام النجباء وَالَّذِي ... تلقف العلياء فِيهَا ولقن) (لَا تعد عَيْنَاك عَن الْملك فَمَا ... يُخَاطب العلياء إِلَّا من وَمن) (قد فسد الْملك وَقد طَال العدى ... واقتسموا بعْدك أَمْوَال الْيمن) قَالَ فَلَمَّا سمع السُّلْطَان هَذِه القصيدة أذن لسيف الْإِسْلَام فِي الْمسير إِلَى الْيمن وَقَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة تقرر مَعَ سيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين بن أَيُّوب أَن يمْضِي إِلَى بِلَاد الْيمن وزبيد وعدن وَأَن يقطع بهَا الْفِتَن ويتولاها ويولي ويعزل وَيحسن ويعدل فَسَار بعد مسيرنا إِلَى الشَّام وَجَرت مَمْلَكَته فِيهَا على أحسن نظام وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَوصل إِلَى زبيد وَحط حطَّان عَن رتبته وأمنه وطمنه ثمَّ أذن لَهُ فِي الِانْفِصَال إِلَى الشَّام فَجمع حطَّان كل مَاله من سبد ولبد ومطرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ومتلد ولجين وعسجد وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد وآلات وَعدد وحصن وحجور عراب وَمَال اعتقده من الْيمن بِغَيْر حِسَاب ثمَّ أَنَاخَ جماله ورحل عَلَيْهَا أحماله وَقدم قدامه أثقاله وَظن أَنه نجا وفاز وَركب الأوفاز فزده إِلَيْهِ ليودعه ثمَّ يشيعه ويركب مَعَه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ اعتقله وسير وَرَاء مَاله من أقفله وَإِلَى خزانته نَقله ثمَّ أنفذه إِلَى بعض معاقله فحبسه ثمَّ قَتله وَفِيمَا ذكر للسُّلْطَان من خبر ذهبه وَمَاله الذَّاهِب مَا يعيي بحصر تفاصيل جمله أنمل الحاسب أَن نيفا وَسبعين غلافا من غلف الزرد كَانَت مَمْلُوءَة بِالذَّهَب الْأَحْمَر المنتقد وَقوم الْمَأْخُوذ بِقِيمَة ألف ألف دِينَار وَأما صَاحب عدن الْأَمِير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجيلي فَإِنَّهُ لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 سمع بِسيف الْإِسْلَام توجه إِلَى الشَّام قلت وَلِهَذَا الْأَمِير أوقاف وصدقات بِمَكَّة واليمن ودمشق فإليه تنْسب الْمدرسَة والرباط المتقابلات بِبَاب الْعمرَة بِمَكَّة والمدرسة الَّتِي خَارج بَاب توما بِدِمَشْق رَحمَه الله وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَيْهِ الْبِلَاد لَك فِيهَا عدَّة سِنِين وَأَنت فِيهَا مؤتمن على مَال الله فأده إِلَى من يُجَاهد بِهِ أَعدَاء الله وَيُقِيم بِهِ كلمة الله ويحفظ بِهِ الْبَيْضَة ويذب بِهِ عَن الْملَّة وَيُقَاتل بِهِ أَعدَاء الْقبْلَة وَيضْرب بالأسداد بَين الْكفْر وَالْإِسْلَام وَينصب وَجهه بَين الهجير والزمهرير عَاما فِي إِثْر عَام وَمَا نطلب مِنْك الْبَاطِل الَّذِي لَا يجوز لنا أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 نطلبه وَلَا لَك أَن تَدْفَعهُ وَلَا نُرِيد إِلَّا الْحق الَّذِي لَا يحل لنا أَن نتركه وَلَا لَك أَن تَمنعهُ فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وصل إِلَى السُّلْطَان من دمشق الْعلم خطيب المزة وَكَانَ قد زور على السُّلْطَان مِثَالا يتَضَمَّن لَهُ منالا وَرَفعه إِلَى عز الدّين فرخشاه فَمَا خَفِي تزويره عَلَيْهِ وهم بالإيقاع بِهِ فقصد السُّلْطَان بِمصْر وأطلعه على حَاله فَمَا اكترث بِهِ وَقَالَ نحقق مَا زورت وَأمر أَن يكْتب لَهُ توقيع بِضعْف ذَلِك الإدرار قَالَ وَكَانَ لَهُ إِمَام يُصَلِّي بِهِ وَهُوَ يكْتب مثل خطه فَأطلق بِهِ أَمْوَالًا وَأصْلح وأنجح بتزويره لأصدقائه أحوالا وَمَا يشك صَاحب ديوَان وَلَا مُتَوَلِّي خزانَة فِي أَنه صَحِيح فَلَمَّا دَامَ سِنِين انْكَشَفَ وشارف التّلف وَجلسَ إخْوَة السُّلْطَان وأمراؤه عِنْده يغرونه بِهِ فَقلت لَهُ بالعجمية سرا تهبه لِلْقُرْآنِ فَقَالَ نعم فَنَفْس من خناقه وَأمر بِإِطْلَاقِهِ وَأبقى عَلَيْهِ خَيره حِين استبدل بِهِ غَيره وَصَارَ بعده للعادل إِمَامًا وَبَقِي شغله مَعَه مستداما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 قَالَ وفيهَا غدر الفرنج وَنَقَضُوا عَهدهم واستولوا على تجار فِي الْبَحْر وَغَيرهم وَسَهل الله تَعَالَى بطسة لَهُم عَظِيمَة من المراكب الفرنجية مقلعة من بلد لَهُم يُقَال لَهُ بوليه تحتوي على أَلفَيْنِ وَخمْس مئة نفس من رجال الْقَوْم وأبطالهم وأتباعهم وهم على قصد زِيَارَة الْقُدس فِي السَّاحِل وتكثير حزب الْبَاطِل فألقتهم الرّيح إِلَى ثغر دمياط فغرق مِنْهُم الشّطْر وَشَمل البَاقِينَ الْأسر فَحصل فِي الْأسر مِنْهُم زهاء ألف وست مئة وست وَسبعين نفسا وَاتفقَ ذَلِك أَمَام الاهتمام بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّام قَالَ ابْن أبي طي وفيهَا ولد للسُّلْطَان الْملك الْمُعظم تورانشاه وَالْملك المحسن أَحْمد بَينهمَا سَبْعَة أَيَّام واتصل الْفَرح بهما أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وفيهَا سَار قراقوش إِلَى إفريقية فأوغل فِي بلادها وانتهب مَا قدر عَلَيْهِ وَحَارب عَسْكَر ابْن عبد الْمُؤمن بالقيروان ثمَّ بلغه أَن إِبْرَاهِيم السِّلَاح دَار احتوى على أهل قراقوش وبلده فَرجع إِلَيْهِ فهرب إِبْرَاهِيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وَسَار إِلَى خدمَة ابْن عبد الْمُؤمن وَملك قراقوش مَا كَانَ بيد إِبْرَاهِيم قَالَ ابْن القادسي وفيهَا عَشِيَّة الْخَمِيس ثامن شعْبَان توفّي الإِمَام كَمَال الدّين أَبُو البركات عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي السعادات الْأَنْبَارِي النَّحْوِيّ وَكَانَ فَقِيها نحويا زاهدا عابدا خشن الْعَيْش صبورا على الْفقر وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَلَا يقبل من أحد شَيْئا وَكَانَ يحضر فِي نوبَة الصُّوفِيَّة بدار الْخلَافَة المعظمة فِي الْوَقْت فَينفذ إِلَيْهِ بالتشريف وَالذَّهَب فيعيده وَلَا يقبله وَكَانَ يجْتَهد بِهِ الْوَزير ابْن رَئِيس الرؤساء أَن يقبل لوَلَده شَيْئا فَمَا كَانَ يفعل وَكَانَ يفْطر على الْخبز الخشكار ويبتاع برغيف أرزا وَمَا شَاءَ وَكَانَ بَابه مَفْتُوحًا لطالبي الْعلم يعلمهُمْ لوجه الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا أحضر أحدهم فِي الصَّيف مروحة يتروح بهَا فَإِذا خرج يَقُول لَهُ خُذ مروحتك مَعَك فيجتهد بِهِ ذَلِك أَن يَجْعَلهَا عِنْده إِلَى غَد فَمَا يفعل وصنف تصانيف كَثِيرَة وَدفن فِي تربة أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 رَضِي الله عَنهُ قلت وفيهَا توفّي بِمصْر الشَّاعِر ابْن الذروي وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى الْمصْرِيّ وسنه حول الْأَرْبَعين وَقد تقدم من شعره فِي حج الْفَاضِل وَفِي مدح ابْن منقذ وَغَيرهمَا وَمن ظريف شعره قَوْله فِي أحدب (يَا أخي كَيفَ غيرتنا اللَّيَالِي ... كَيفَ حَالَتْ مَا بَيْننَا بالمحال) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 (حاش لله أَن أصافي خلا ... فيراني فِي وده ذَا اختلال) (زَعَمُوا أنني أتيت بهجو ... فِيك نمقته بِسم خلال) (كذبُوا إِنَّمَا وصفت الَّذِي حزت ... من النبل والسنا والكمال) (لَا تَظنن حدبة الظّهْر عَيْبا ... فَهِيَ لِلْحسنِ من صِفَات الْهلَال) (وكذاك القسي محدودبات ... وَهِي أنكى من الظبى والعوالي) (ودناني الْقُضَاة وَهِي كَمَا تعلم ... كَانَت موسومة بالجمال) (وَإِذا مَا علا السنام فَفِيهِ ... لقروم الْجمال أَي جمال) (وَأرى الإنحناء فِي منسر الكاسر ... يلفى ومخلب الرئبال) (وَأَبُو الْغُصْن أَنْت لَا شكّ فِيهِ ... وَهُوَ رب القوام والإعتدال) (قد تحليت بانحناء فَأَنت الرَّاكِع ... المستمر فِي كل حَال) (وتعجلت حمل وزرك فِي الظّهْر ... فأمنا فِي موقف من الْأَهْوَال) (إِن حمل الذُّنُوب أَهْون فِي الدُّنْيَا ... على أَنه من الأثقال) (كَون الله حدبة فِيك إِن شِئْت ... من الْفضل أَو من الإفضال) (فَأَتَت ربوة على طود حلم ... مِنْك أَو موجة ببحر نوال) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 (مَا رأتها النِّسَاء إِلَّا تمنت ... لَو غَدَتْ حلية لكل الرِّجَال) (عد إِلَى ودنا الْقَدِيم وَلَا تصغ ... لقيل من الوشاة وَقَالَ) فصل فِي عود السُّلْطَان من الديار المصرية إِلَى الشَّام قَالَ الْعِمَاد وعدنا من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة فِي ذِي الْقعدَة وَشرع السُّلْطَان فِي الاستعداد لسفر الشَّام فَجمع العساكر وَالسِّلَاح واستصحب نصف الْعَسْكَر وَأبقى النّصْف الآخر لحفظ ثغور مصر وَأمر قراقوش بإتمام الأسوار الدائرة على مصر والقاهرة قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان عَشِيَّة توديعه لأهل مصر جَالِسا فِي سرادقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وكل ينشده بَيْتا فِي الْوَدَاع فَأخْرج أحد مؤدبي أَوْلَاده رَأسه وَأنْشد مظْهرا لَهُ فَضله ورافعا بِهِ مَحَله (تمتّع من شميم عرار نجد ... فَمَا بعد العشية من عرار) فَلَمَّا سَمعه خمد نشاطه وتبدل بالانقباض انبساطه وَنحن مَا بَين مغضب ومغض ينظر بَعْضنَا إِلَى بعض وَلَا نقضي الْعجب من مؤدب ترك الْأَدَب فَكَأَنَّهُ نطق بِمَا هُوَ كَائِن فِي الْغَيْب فَإِنَّهُ مَا عَاد بعْدهَا إِلَى الديار المصرية حَتَّى اتَّصل بنجح المنى فِي الْمنية قَالَ وَمن جملَة تسمح المعلمين فِي القَوْل مَا حَكَاهُ لنا شَيخنَا أَبُو مُحَمَّد بن الخشاب قَالَ وصلت إِلَى تبريز فأحضرني يَوْمًا رئيسها فِي دَاره وأجلس وَلَده بَين يَدي ليقرا بعض مَا تلقنه عَليّ فَقلت فرخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 البط سابح فَقَالَ معلمه وَكَانَ حَاضرا نعم وجرو الْكَلْب نابح فخجلت من خطاء خطابه وَإِذا بِهِ على دأبه فِي سوء آدابه ومقصوده أَن يذكر قرينَة وَلَا يُبَالِي بِعَيْنِه قريرة أم سخينة ودأب أدباء أَوْلَاد الْمُلُوك لاجترائهم على أعزة أَوْلَادهم الاجتراء على الْآبَاء وَيحْتَمل مَا يصدر مِنْهُم لعزة الْأَبْنَاء وَإِنَّمَا يصلح لمجالسة الْمُلُوك من يتحفظ فِي كَلَامه ويتيقظ حَتَّى فِي مَنَامه ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَفِي خَامِس الْمحرم مِنْهَا رَحل السُّلْطَان من الْبركَة قَاصِدا إِلَى الشَّام وَلم يعد بعْدهَا إِلَى مصر حَتَّى أدْركهُ الْحمام وَأخذ على طَرِيق صدر وأيلة فِي المفاوز فَبَاتَ بالبويب ثمَّ كَانَت مَنَازِله على الجسر ووادي مُوسَى وحثا وَصدر وَبعد خمس لَيَال وصل عقبَة أَيْلَة وَهُنَاكَ سمع باجتماع الْكفَّار بالكرك لقصد قطع الطَّرِيق فاحترز بِحِفْظ الْأَطْرَاف وَجَاز بحسمى ثمَّ عقبَة شتار ثمَّ القريتين وأغار فِي تِلْكَ الْأَيَّام على أَطْرَاف بِلَاد الْعَدو ثمَّ تجرد السُّلْطَان فِي كماته وسلك بهم سمت الكرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 إِلَى الحسا وَأمر أَخَاهُ تَاج الْمُلُوك بوري على النَّاس وَأمره أَن يسير بهم يمنة مِنْهُ ثمَّ اجْتَمعُوا بالسلطان بالأزرق بعد أُسْبُوع وَوصل الْخَبَر بظفر الْملك الْمَنْصُور عز الدّين فرخشاه قَالَ الْعِمَاد ويلقب أَيْضا معز الدّين بِمَا غنمه أَيْضا من بِلَاد الْعَدو وَذَلِكَ أَن الفرنج لما سمعُوا بمسير السُّلْطَان من مصر وَمَعَهُ خلق من التُّجَّار اجْتَمعُوا بالكرك للقرب من الطَّرِيق لَعَلَّهُم ينتهزون فرْصَة فيقتطعون من الْقَافِلَة قِطْعَة فَخرج فرخشاه من دمشق واغتنم خلو دِيَارهمْ فَأَغَارَ على بِلَاد طبرية وعكا وَفتح دبورية وَجَاء إِلَى حبيس جِلْدك بِالسَّوَادِ وَهُوَ شقيف يشرف على بِلَاد الْمُسلمين ففتحه وَأَسْكَنَهُ الْمُسلمين فَبَقيَ عينا على الْكفَّار بَعْدَمَا كَانَ لَهُم وَرجع بالغنائم والأسرى مظفرا منصورا وَمَعَهُ ألف أَسِير وَعِشْرُونَ ألف رَأس من الْأَنْعَام ثمَّ وصل السُّلْطَان بصرى وَدخل دمشق سَابِع عشر صفر قَالَ وَفِي الْعشْر الأول من ربيع الأول خرج السُّلْطَان وأغار على بِلَاد طبرية وبيسان والتحم بَينهم الْقِتَال تَحت حصن كَوْكَب وَاسْتشْهدَ جمَاعَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 من الْمُسلمين وَلَكِن كَانَت الدائرة على الْكَافرين وَرجع السُّلْطَان بِحَمْد الله ظافرا وَكتب بالمثال الفاضلي إِلَى الدِّيوَان كَانَ الْخَادِم طالع بِخُرُوجِهِ من مصر طَالبا للغزاة الْمَفْرُوضَة والمسافة بَين مصر وَالشَّام لمن يرفق فِي الْمسير لَا تقصر عَن ثَلَاثِينَ يَوْمًا فحشد الفرنج ونزلوا بالكرك على إرجاف بالمصاف وَلم يزل الْخَادِم على مداومة الإعمال إِلَى أوساط الْأَعْمَال فَحل بهَا وَشن الْغَارة فأبعد وأذكى النَّار فَأوقد وَطلب المَاء المحمي أزرقه بأزرقهم فأورد وَسَفك دم الخصب بالنَّار وَأخذ فِيهَا عدل السَّيْف الْجَار بالجار وَعلم أَن الفرنج قد تسللوا لِوَاذًا وتعللوا بالحصون احتجازا ولياذا وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتلُون إِلَّا فِي قرى مُحصنَة وَلَا يُقَاتلُون إِلَّا على نجاة متيقنة وسرح الْخَادِم إِلَى تِلْكَ الذَّرَارِي واستنفر لَهَا من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة وَسَارُوا فِي طَرِيق على الْعَدو غير خافية وَمِنْهُم غير خائفة وَركب هُوَ وحمية الْإِسْلَام الحامية الَّتِي تستنهض أَرْوَاح الْكفْر إِلَى نَار الله الحامية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وسلك الْبِلَاد المؤدية أَوديتهَا إِلَى سيول الشّرك الطامية وسيوف الضلال الدامية فجثموا جثوم الكسير وجدعوا أنوف الْأنف جدعا قصر فِيهِ رَأْي قصير وَجَاز الْخَادِم الْمسَافَة الْمُقَابلَة لَهُم الَّتِي كَانَت تجاز فِي يَوْم وَاحِد فِي أَيَّام وَأورد عَلَيْهِم طيف الْخَوْف غير لابس ثِيَاب الأحلام وَيسر الله الْوُصُول ورقاب عصبَة الْكفْر تكَاد تتوثب عَلَيْهَا رقاقها وعيون الْأَعْيَان مِنْهُم قد قيدها للذل إطراقها وَتوجه يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع شهر ربيع الأول وَنزل أَمَام طبرية لَيْلَة الثُّلَاثَاء تَاسِع عشر ربيع الأول فَجَاءَهُ الْخَبَر بِأَن الفرنج رحلوا فِي ليل ركبوه جملا ولبسوه سترا دون اللِّقَاء مسبلا وأصبحت الأطلاب الإسلامية طالبة الْأُرْدُن وأشرف عَلَيْهِم الْمَمْلُوك فرخشاه وَكَانَ على ميسرَة الْإِسْلَام فَمَا خرج مِنْهُم من أخرج كفا وَلَا تطرف مِنْهُم من أجال طرفا وَلَا من ركض طرفا وَلم يزل الْخَادِم مُقيما يُنَادي لِلْخُرُوجِ الصم الَّذين لَا يسمعُونَ الدُّعَاء إِلَى أَن طوى النَّهَار ملاءته وَمد عَلَيْهِم كلاءته فَإِنَّهُ رعى مَا بَينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وَبَين مُنَاسبَة وُجُوههم وصحائفهم بسواده وَلِأَن اللَّيْل يدعى كَافِرًا فهداهم وخبأهم فِي فُؤَاده وانبرى لَهُم من المماليك ذَوُو سِهَام كل رمية مِنْهَا طعنة وكل أنة من قوسها تجاوبها للحين أنة فَاسْتَخْرَجُوا ضمائر كنائنهم وقصدوا بهَا ضمائر ضغائنهم فمرت كَأَن التَّوْفِيق يَقُودهَا إِلَى حَيْثُ أمت فأماتت وطارت جَرَادًا ترعى زرع الْحَيَاة فبتت وَمَا أباتت وَلم يرَوا مضاجع ذَوَات حسك كمضاجع حسكها السِّهَام وَلَا لَيْلَة هم ذَات أَحْلَام كليلة حلمها يقظة الْحمام وأصابت خيولهم صوائبها وتعلقت نصالهم بدهمها فكأنهم فِي ظلماتها كواكبها فَلَمَّا انْشَقَّ الصُّبْح غيظا من شقَاق كفرهم شوهدوا نازلين من حصنهمْ الَّذِي كَانُوا إِلَيْهِ آوين وطالبي التباعد عَنهُ إِلَى حصن الطّور الَّذِي كَانُوا إِلَيْهِ ناوين فساقت إِلَيْهِم أطلاب الميسرة صُحْبَة الْمَمْلُوك فرخشاه وسَاق الْمَمْلُوك عمر من الميمنة طَالبا لحومة الْقِتَال فَرَأَوْا الخطة عَلَيْهِم متضايقة وشهادات الْبلَاء إِلَى فئتهم متناسقة وَأنزل الله النَّصْر من سمائه على مطيعه فِي أرضه ومنح نَافِلَة الموهبة لمن قَامَ فِي الْجِهَاد بفرضه وتوالت من الفرنج حملات ألجأهم إِلَيْهَا الِاضْطِرَار لَا الِاخْتِيَار وَثَبت من دنا مِنْهُم من الْمُسلمين من الأطلاب ولقوهم وهم الْأَعْدَاء لِقَاء الأحباب وتعانقت لغير الوداد فَصَارَت أيديها أوشحة وطارت إِلَى أقرانها فَصَارَت أرجل الْخَيل لَهَا أَجْنِحَة وصرعت للفرنج أبطال وخيالة وتمت الحملة الإسلامية على من كَانَ وَرَاءَهُمْ من الرجالة فَأخذ الْقَتْل كثيرا وقليلا ترك وفر روح الْكَافِر من الْجَسَد وَعلمت النَّار أَنه سلك وألجأهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الْبلَاء إِلَى حصن يعرف بعفربلا وسع الْخَوْف مِنْهُ مَا هُوَ ضيق وَتعلق بِالْحَيَاةِ مِنْهُم من هُوَ بِهِ مُتَعَلق وَلم تَنْصَرِف صُدُور الْخَيل دون أَن اعتقلتهم فِي سجنه وألزمتهم بِهِ فصاروا قرطا فِي أُذُنه وَكَانَ الْيَوْم من الْأَيَّام الَّتِي اضطرمت فِيهَا نيران الْجَحِيم ارتياحا لمن قدمهَا من أَرْوَاح الْكفَّار وَكَانَ قَائِم الظهيرة فِي الْغَوْر قد منع من استتمام عودة المغار ومورد المَاء بعيد من غَرِيمه والري وَلَو أَنه من حميم أحب إِلَى الْمَرْء من حميمه فمالت الْجنُود إِلَى المناهل مُتَفَرِّقَة عَلَيْهَا ومنصرفة إِلَيْهَا وحافة بهَا من حواليها وأذعن الْكفَّار بالحصر والتفادي من الإصحار والاعتماد على المطاولة والأضجار والاستعصام بِمَا لَا يُطَاق من أنفاس الهجير الْحرار وَبَات الْخَادِم والمسلمون على الْحصن الْمَذْكُور الَّذِي يَأْتُوا بِهِ نازلين قد حققوا من أَحْوَال اللِّقَاء مَا كَانُوا بِهِ جاهلين وَفعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِه النّوبَة مَا عواقبه مسفرة عَن المُرَاد ودلائله مُحَققَة لقَوْله تَعَالَى {لَا يغرنك تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد} وَأَن الْكفْر مذ قَامَ قائمه وَالشَّام مذ حلّه ظالمه لم يعبر أحد من وُلَاة الْأَمر هَذَا الْحَد إِلَّا على حِين غَفلَة من أَهله وَلم يواجه الْكفْر وَهُوَ مُجْتَمع فِي خيله فضلا عَن رجله وَلم يهدد الْعَدو بِضَرْب مصَاف إِلَّا واستكانت العزائم لتهديده وَلم يجمع أمره على اللِّقَاء إِلَّا صرفه عَنهُ الْآمِر بصرفه بذهبه لَا بحديده فَأَما الْآن فقد أنس الْمُسلمُونَ بحزبه وتمرنوا بحربه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 فصل فِي مسير السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الْمشرق مرّة ثَانِيَة قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن السُّلْطَان عزم على الْمسير إِلَى حلب وبلغه أَن المواصلة كاتبوا الفرنج ورغبوهم فِي الْخُرُوج إِلَى الثغور ليشغلوا السُّلْطَان عَن قصدهم فَتوجه على سمت بعلبك وخيم بالبقاع وَكَانَ قد وَاعد أسطول مصر أَن يتجهز إِلَى بِلَاد السَّاحِل فَبَلغهُ الْخَبَر أَنه وصل إِلَى بيروت فبادره السُّلْطَان بعسكره جَرِيدَة قبل أَن يفوت فَلَمَّا وصل رأى أَن أَمر بيروت يطول وَكَانَ قد سبى الأسطول مِنْهَا وسلب وظفر من غنيمتها بِمَا طلب فَأَغَارَ السُّلْطَان على تِلْكَ الْبِلَاد وَرجع وَأعَاد فرخشاه إِلَى دمشق ورحل إِلَى بعلبك وَمِنْهَا إِلَى حمص فَخرج الْفَقِيه الْمُهَذّب عبد الله بن أسعد بن الدهان وَله فِي السُّلْطَان مدائح مِنْهَا قصيدة أَولهَا (أعلمت بعْدك وقفتي بالأجرع ... ورضى طلولك عَن دموعي الهمع) (مطرَت غضى فِي منزليك فذاويا ... فِي أَربع ومؤججا فِي أضلع) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 (هَل يعلم المتحملون لنجعة ... أَن الْمنَازل أخصبت من أدمعي) (دَعْنِي وَمَا شَاءَ التَّلَذُّذ والأسى ... وأقصد بلومك من يطيعك أَو يعي) (لَا قلب لي فأعي الملام فإنني ... أودعته بالْأَمْس عِنْد مودعي) (قل للبخيلة بِالسَّلَامِ تورعا ... كَيفَ استبحت دمي وَلم تتورعي) (وبديعة الْحسن الَّتِي فِي وَجههَا ... دون الْوُجُوه عناية للمبدع) (مَا بَال مُعْتَمر بربعك دائبا ... يقْضِي زيارته بِغَيْر تمتّع) وَمِنْهَا (ووعدتني إِن عدت عود وصالنا ... هَيْهَات مَا أبقى إِلَى أَن تَرْجِعِي) (هَل تسمحين ببذل أيسر نائل ... أَن اشتكي وجدي إِلَيْك وتسمعي) (فتيقني أَنِّي بحبك مغرم ... ثمَّ اصنعي مَا شِئْت بِي أَن تصنعي) وَمِنْهَا (فسقى الرّبيع الجون ربعا طالما ... أَبْصرت فِيهِ الْبَدْر لَيْلَة أَربع) (وَلَو اسْتَطَعْت سقيته سبل الْغنى ... من كف يُوسُف بالأدر الأنقع) (بيَدي فَتى لَو أَن جود يَمِينه ... للغيث لم يَك ممسكا عَن مَوضِع) (فَإِذا اتبسم قَالَ يَا جودا ندفق ... فيضا وَيَا سحب الندى لَا تقلعي) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 (وَإِذا تنمر قَالَ يَا أَرض أرجفي ... بالصاهلات وَيَا جبال تزعزعي) (وَإِذا علا فِي الْمجد أَعلَى غَايَة ... قَالَت لَهُ الهمم الجسام ترفع) (كم وَقْفَة لَك فِي الوغى محمودة ... أبدا وَكم جود حميد الْموقع) (وَالنَّاس بعْدك فِي المكارم والندى ... رجلَانِ إِمَّا سَارِق أَو مدعي) قَالَ ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى حماة واستصحب مَعَه ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فَلَمَّا قرب من حلب أقبل مظفر الدّين كوكبري بن عَليّ كوجك صَاحب حران حِينَئِذٍ فَاجْتمع بالسلطان وَصَارَ فِي خدمته من جملَة الأعوان وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يعبر الْفُرَات وَيجوز مَا وَرَاءَهَا وَيتْرك حلب إِلَى مَا بعد ذَلِك لِئَلَّا تشغله عَن غَيرهَا فاستصوب السُّلْطَان رَأْيه وَعبر الْفُرَات وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد نزل السُّلْطَان على حلب فِي ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَسبعين فَأَقَامَ ثَلَاثَة أَيَّام ورحل فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ يطْلب الْفُرَات وَاسْتقر الْحَال بَينه وَبَين مظفر الدّين بن زين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الدّين وَكَانَ صَاحب حران وَكَانَ قد استوحش من جَانب الْموصل وَخَافَ من مُجَاهِد الدّين فالتجأ إِلَى السُّلْطَان وَعبر إِلَيْهِ إِلَى قَاطع الْفُرَات وقوى عزمه على الْبِلَاد وَسَهل أمرهَا عِنْده فَعبر الْفُرَات وَأخذ الرها والرقة ونصيبين وسروج ثمَّ شحن على الخابور وأقطعه وَقَالَ ابْن أبي طي فِي أول السّنة أَرَادَ مظفر الدّين بن زين الدّين وَكَانَ إِلَيْهِ شحنكية حلب الِاسْتِيلَاء على قلعة حلب بِأَن يهجمها فَلم يتَمَكَّن وَظهر أمره وَبعد هَذِه الْوَقْعَة اجْتمع الأخوان عز الدّين وعماد الدّين على الرقة وتحالفا على بِسَاط وَاحِد وَسلم عماد الدّين مَا كَانَ بِيَدِهِ من سنجار وَغَيرهَا إِلَى عز الدّين وَسلم عز الدّين إِلَيْهِ حلب فَسَار إِلَيْهَا ودخلها فَخرج مظفر الدّين عَنْهَا وَصَارَ إِلَى الْفُرَات فَلَمَّا اتَّصل بِهِ قصد السُّلْطَان حلب سَار إِلَى خدمته وَاجْتمعَ بِهِ على جباب التركمان وَأَشَارَ على السُّلْطَان بعبور الْفُرَات والاستيلاء على بِلَاد الشرق وَتَأْخِير أَمر حلب فَفعل ورحل عَن حلب بعد أَن أَقَامَ عَلَيْهَا سِتَّة أَيَّام وَأقَام على تل خَالِد ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ رَحل إِلَى البيرة وفيهَا شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الياس الأرتقي فَنزل إِلَيْهِ وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَسَأَلَهُ الصعُود إِلَى قلعة البيرة فَأَجَابَهُ وَقدم لَهُ مَفَاتِيح القلعة فَردهَا إِلَيْهِ ووعده باستخلاص مَا كَانَ صَاحب ماردين غَلبه عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ورحل السُّلْطَان إِلَى سروج فَنزل إِلَيْهِ صَاحبهَا ابْن مَالك مستأمنا فَأَعَادَهُ إِلَى بَلَده وراسل صَاحب ماردين فِي رد مَا كَانَ تغلب عَلَيْهِ من أَعمال البيرة فَفعل ثمَّ أَخذ الرها ثمَّ الرقة ثمَّ سلم الرها إِلَى ابْن زين الدّين والرقة إِلَى صَاحب الرها لِأَنَّهُ سَأَلَ أَن يكون فِي خدمَة السُّلْطَان وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين فرخشاه يُعلمهُ بِالْحَال وَفِي آخِره ولتعجل بِحمْل مَا هُنَاكَ من الْأَمْوَال فَكلما فتحت الْبِلَاد أَبْوَابهَا قد فتحت المطامع أفواهها واستوعبت الخزائن إخراجا وإنفاقا واستنفدت الحواصل إِعْطَاء وإطلاقا وَقدمنَا على بَحر لَا يسده إِلَّا بَحر وعَلى أيد إِن كَانَ بهَا الْغنى فَفِي أَنْفسهَا الْفقر وَمن كتاب آخر إِلَى الْعَادِل يعلم مِقْدَار الْحَاجة إِلَى الأنفاق وَكَثْرَة الخرج الَّذِي اشْترك فِيهِ أهل الْآفَاق وَأَنه مَتى نضبت الْموَاد وقفت الْأُمُور الَّتِي قد شارفت نهاياتها وَتَفَرَّقَتْ الجموع الَّتِي تناذرت الْأَعْدَاء نكاياتها وَمَا دون تملك الْبِلَاد إِلَّا الْوُصُول إِلَيْهَا وَالنُّزُول عَلَيْهَا قَالَ الْعِمَاد وَقَالَ مظفر الدّين للسُّلْطَان مازلت شوقا إِلَيْك فِي حران حران وَإِلَى الرّيّ من ورد خدمتك ظمآن وَهِي لَك مبذولة وبأوليائك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 من أهل الدّين وَالدُّنْيَا مأهولة والرها لَا يعسر أمرهَا والرقة لرقك وَبَعض حَقك والخابور فِي انْتِظَار خبرك ودارا دَارك ونصيبين نصيبك وَملك الْموصل موصلك إِلَى الْملك وَمَا هَذَا أَوَان الونى فادن إِلَيْنَا وكل بعيد قد دنا قَالَ وَوصل الْبَحْر إِلَى الْفُرَات وخيم عَلَيْهَا من غربي البيرة وَمد الجسر وَكَانَت البيرة قد طمع فِيهَا صَاحب ماردين وَاسْتولى على مَوَاضِع من أَعمالهَا فَلَمَّا سمع بالسلطان تخلى عَنْهَا فَأَعَادَ إِلَيْهَا صَاحبهَا شهَاب الدّين مُحَمَّد بن إلْيَاس الأرتقي وَكتب السُّلْطَان بالمثال الفاضلي إِلَى الدِّيوَان عِنْد عبور الْفُرَات كتابا فائقا طَويلا يَقُول فِيهِ خدم الْخَادِم مُتَوَالِيَة إِلَى الْأَبْوَاب الشَّرِيفَة خلد الله سلطانها شارحا لأحواله ومعتدا بهَا من صَالح أَعماله ومتوقعا من الْأَجْوِبَة عَنْهَا مَا يُهَيِّئ لَهُ من أمره رشدا وَيفرق الْأَعْدَاء إِذْ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا فَإِن الآراء الشَّرِيفَة لَو لم تفصح عَنْهَا الإنشاءات وتتضمنها الإجابات والابتداءات لأفصحت عَنْهَا مُوالَاة الْخَادِم الَّتِي استفتحت الدولة بعقائل الْفتُوح قبل خطبتها وَردت الْأَسْمَاء الشَّرِيفَة إِلَى أوطانها من المنابر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 بعد طول غربتها فَتلك الْأَعْمَال كالهجرة وَلكُل امْرِئ مَا هَاجر إِلَيْهِ وَنِيَّة الْمَرْء ثَوْبه فَلَا يلبس إِلَّا مَا خلعته النِّيَّة عَلَيْهِ وَكتاب الْخَادِم الْآن من البيرة بَعْدَمَا قطع الْفُرَات وَكَانَ من لَا تقرب عَلَيْهِ العزائم مَا هُوَ بعيد وَلَا يلقِي السّمع وَهُوَ شَهِيد يظنّ أَن سَاكن النّيل يحول الْفُرَات بَينه وَبَين قَصده وَأَنه ينسى عَزِيمَة رَأْيه إِذا ذكر طول مدَّته وهول مده وكيفما كَانَ هَذَا الْمخْرج المحرج فقد أَحْسَنت إِلَى الْخَادِم إساءته إِلَيْهِ وقربه من مَحل دَار السَّلَام بل الْإِسْلَام فَمَا أَكثر مَا قَالَ السَّلَام عَلَيْهِ واستشرف جنانه من جنابه أمنا وذعرا أوجبتهما الْمُوَالَاة والمهابة وطالعت عينه أنواء وأنوارا تنْسب إِلَى بركاتها كل سَحَابَة وَكَاد ينزل عَن السُّرُوج والأكوار وَيقبل الثرى لأجل شرف الْجوَار وتستنفد غَلَّته مَاء الْفُرَات لِأَنَّهُ يمر بِتِلْكَ الديار وَيقْرَأ من صفائه صفاء تِلْكَ الخواطر الْعَظِيمَة الأخطار وَمن عذوبته ذَلِك الإنعام الَّذِي هُوَ أَعم وأغمر للأقطار من القطار وتنور دَار الْإِسْلَام من مَنْزِلَته فأدناه النّظر العالي وأسفلته آماله حوز الْفَوْز بِمَا قربه نجيا من قربهَا والآمال أمالي وَالله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 يشرف أَرضًا هُوَ واطئها ويرعى سروجا هُوَ كالئها ويسعد بِهِ أمة هُوَ بارها طَاعَة لمن هُوَ بارئها وَلما تحقق الْخَادِم أَن المواصلة قد واصلوا الفرنج مُوَاصلَة أَخْلصُوا فِيهَا الضمائر وَلم يستطيعوا فِيهَا كتمان السرائر وخصمتهم خطوط الْأَيْدِي المتمسكة بعصم الكوافر وعقدوا مَعَهم عقدا شهده من هُوَ حاضره وَنَقله إِلَى من سَمعه من هُوَ ناظره وَكَانَ عقدهم إِحْدَى عشرَة سنة والمستقر لَهُم فِي كل سنة عشرَة آلَاف دِينَار على أَن تسلم ثغور الْمُسلمين إِلَى الْكفَّار مِنْهَا بانياس وشقيف تيرون وحبيس جِلْدك وأسارى الفرنج فِي كل بَلْدَة بِأَيْدِيهِم وَفِي كل بلد يسترجعونه من الْخَادِم بمساعدة الفرنج وَلما تمّ لَهُم هَذَا العقد وحملوا إِلَى الفرنج ذَلِك النَّقْد ظنُّوا أَن الْحق يجادله الْبَاطِل فيدحضه وَأَن يَد الْكفْر تنبسط إِلَى الْإِسْلَام فتقبضه وَأَن الْخَادِم لَا يُمكنهُ أَن يتَوَجَّه إِلَيْهِم إِلَّا بِأَن تكون الفرنج سلما وَلَا يَسْتَطِيع أَن يقسم العساكر فَيجْعَل بِإِزَاءِ الفرنج قسما وبإزائهم قسما وَعمِلُوا على هَذَا الْوَهم وبنوا على هَذَا الحكم واستنهضوا الفرنج على تثاقل الخطوة واستخرجوهم على مَا بهم من كلوم الْغَزْوَة بعد الْغَزْوَة فتحاملت أرجل الْكفْر على ظلعها وَخرجت على طمعها إِلَى قرعها وأنفقت فِي رجالها مَالا حملوه إِلَيْهِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 جما وَجَرت إِلَى الْإِسْلَام جَيْشًا جهزه من يَدعِي الْإِسْلَام لفظا ويفارقه حكما وتواعد المواصلة مَعَ الفرنج ليطلبوا ولَايَة الْخَادِم من جَانب ويطلبها الفرنج من جَانب ونظروا فِيمَا يُوصل المساءة إِلَى الْخَادِم وَلم ينْظرُوا لِلْإِسْلَامِ فِي العواقب فوصل المواصلة إِلَى نَصِيبين مجدين محفلين وحركوا الفرنج لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّام متطرفين ومتوغلين فَلَا جرم أَن أُمَرَاء جانبهم وخواص صَاحبهمْ لم يسعهم المروق من الدّين وَلَا الْخُرُوج عَن زمرة الْمُوَحِّدين فأرضوا الله بإسخاطهم وَأَشْفَقُوا على دينهم إشفاقا دلّ على تحرزهم لَهُ واحتياطهم فاتبعوا الْحق وسلكوا سَبيله وَرفع لَهُم الْهدى مناره فاقتفوا دَلِيله {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} فاستعان الْخَادِم عَلَيْهِم بِاللَّه الَّذِي استعانوا على دينه بأعدائه وَلما رأى أَنهم قد أملوا النَّصْر من أَرضهم أمله من سمائه فرتب الْخَادِم فِي رَأس المَاء بِدِمَشْق بِإِزَاءِ الفرنج الْمَمْلُوك فرخشاه ابْن أَخِيه وَأبقى عَسْكَر الشَّام وحاميته فِيهِ واستنهض أَخَاهُ من مصر إِلَى مَا يَلِيهِ من بِلَاد الْكفْر فَنَهَضَ وَقَامَ للخادم بِمَا أَقَامَهُ لَهُ وَللَّه عز وَجل بِمَا فرض وَسَار الْخَادِم بالعسكر الْمصْرِيّ إِلَى هَذَا الْجَانِب الَّذِي هُوَ الْآن فِيهِ وَكَانَ أيسره يَكْفِيهِ وتثاقل فِي الطَّرِيق انتظارا لِأَن يَأْتُوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 ويفرجوا عَن الْولَايَة أَيدي اغتصابها وتعتذر إِلَى السَّيْف أَلْسِنَة تشفق على رقابها فَأَبَوا إِلَّا الإباء وَرَأَوا الْملك إِرْثا مَا ادعوا فِيهِ تَقْلِيد الْخُلَفَاء بل الْآبَاء وَلما قرب الْخَادِم من الْفُرَات وصل إِلَيْهِ صَاحب حران ابْن زين الدّين عَليّ كوجك مقدم عَسْكَرهمْ وَابْن أَمِير معشرهم وَكَذَلِكَ صَاحب سروج وَصَاحب البيرة وكل بِيَدِهِ مَفَاتِيح بَلَده وأمامه أَمَان الْخَادِم لَهُ قد استبدله من مقلده ووراءه عسكره على كَمَال عدده وعدده وتوالت كتب أمرائهم الَّذين يَأْخُذُونَ إقطاعاتهم خدما ومصانعات ورعاياهم الَّذين يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم جنايات ومقاطعات ومكوسا وعشورا واحتكارات يرغبون إِلَى الْخَادِم فِي الإنفاذ ويحثونه فِي الْمسير على الأغذاذ ويشكون أَنهم مَعَ جوَار دَار الْخلَافَة المعظمة لَا يسْلك فيهم سننها وَلَا يقتفى فيهم شرائعها وسننها ونمي إِلَى الْخَادِم من تفاصيل المغارم الَّتِي تلْزم الْفَرِيقَيْنِ ويعدل بهَا عَن أقصد الطَّرِيقَيْنِ مَا يروع السَّامع وَيسمع الرائع ويسجل عَلَيْهِم بِالْخِلَافِ وَيشْهد لَهُم بالانحراف لأَنهم إِن ادعوا تقليدا فقد نقضه كَونهم ابتدعوا وَمَا اتبعُوا وَنَقَضُوا وَمَا افترضوا ومثلوا بِالْحَقِّ وَمَا امتثلوا وَأمرُوا بكف الْأَيْدِي وَقد بسطوها وبأخذ الْأَمْوَال من حلهَا وَقد خلطوها وبرعاية أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أسخطوه فِيهَا وأسخطوها وَابْن الدعْوَة العباسية من رعاها لَا من ادَّعَاهَا والعهود وَصَايَا وَمَا الأولى بهَا من سَمعهَا بل من وعاها وَأي عهد لمن لَا عهد لَهُ بِالطَّاعَةِ وَأي ولَايَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 لمأمور بِأَن يجمع أهل الْفرْقَة فَفرق أهل الْجَمَاعَة فالجندي تُؤْكَل الأَرْض باسمه وَلَا شَيْء بيدَيْهِ والعامي يرفع إِلَى السَّمَاء استغاثة مَا لَا يُمْهل الله عَلَيْهِ وَلَقَد تعجب الْخَادِم من إسفاف الْأَنْفس الغنية إِلَّا أَنَّهَا الفقيرة والارتفاق بِتِلْكَ الطّعْم الجليلة وَهِي على الْحَقِيقَة الحقيرة {يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم} الْآيَة هَذَا إِلَى طامة أُخْرَى لَا تقر عَلَيْهَا الْجنُوب وَلَا تدر عَلَيْهَا الحلوب وَلَا ينَام على سهر بارقها وَإِن كَانَ الخلوب وَهُوَ أَن الْخَادِم بلغه أَنهم كاتبوا جِهَة من الْجِهَات الَّتِي الدولة منحرفة عَنْهَا وبذلوا الطَّاعَة لَهَا وَقد أمروا بالامتناع مِنْهَا وَهَذَا نَص فِي الْخلاف لَا يدْخلهُ التَّأْوِيل وَقَول قد أحَاط بِهِ الْعلم فَلَا يختلجه التقويل وكل صَغِيرَة من هَذِه الْكَبَائِر وكل وَاحِد من هَذَا الْجمع المتكاثر ينْقض الْولَايَة ويجرح الْعَدَالَة ويسلب الرشد وَيثبت الضَّلَالَة ويمضي نِيَّة الْوَلِيّ فِيمَا هُوَ لَهُ مَاض وَيبْعَث عزمه فَيَقْضِي مَا هُوَ قَاض ويسخطه وَكَيف لَا يسْخط وَالْمولى غير رَاض ويغيظه بِمَا لَا عذر لَهُ لمغتاظ منغاض وَمَا أنهى الْخَادِم مِمَّا اتَّصل بِهِ الْأَوَائِل والأطراف وَمَا عول إِلَّا على مَا صححته النَّفس دون مَا خيله الإرجاف وَإِذ قد سَاق الله إِلَى هَذِه الْولَايَة حظها من معدلة كَانَ الزَّمَان بهَا طَويلا مطله وأنشأها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 سَحَاب إِحْسَان كَانَ بَعيدا عَلَيْهَا هطله فقد كفيت الخواطر الشَّرِيفَة مَا كَانَت بِهِ على اهتمامها كَمَا يجب للْأمة على إمامها وَإِلَيْهِ بتفويض الله يرجع أمرهَا وَبِيَدِهِ يجلب نَفعهَا ويجلى ضرها وَقد تَجَدَّدَتْ للدولة الشَّرِيفَة قُوَّة واستظهار وبسطة واقتدار وَسيف بِهِ يناضل من يسيء الْجوَار ولسان يُجَادِل بِهِ من يُرِيد الدَّار وَكَانَ الْخَادِم طالع بوصول الأسطول الْمصْرِيّ إِلَى الشَّام الفرنجي وَمَا فعله فِي موانيه وسواحله وَمَا غنمه من مراكبه وقوافله وَورد كتاب من مصر بِأَنَّهُ كسب بطسة فرنجية خرج من فِيهَا هَارِبا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة لفتنة وَقعت فِيهَا بَين رومها وفرنجها فَقتل مِنْهُم خَمْسُونَ ألف فرنجي وأفلتت مِنْهُم بطس مِنْهَا هَذِه البطسة وفيهَا رجال أكَابِر ومقدمون لَهُم فِيهَا ذكر سَائِر وغنم المجاهدون مِنْهُم مَا مَلأ أَيْديهم من سبي وذخائر وانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل وحازت القبضة من الْأُسَارَى مَا يزِيد على أَربع مئة بعد من درج بِالْقَتْلِ فصل قَالَ الْعِمَاد ثمَّ كَاتب السُّلْطَان الْمُلُوك بالوفود للاتفاق فَمن جَاءَ مستسلما سلمت بِلَاده على أَن يكون من أجناد السُّلْطَان وَأَتْبَاعه فِي جِهَاد الْكفَّار فجَاء رَسُول صَاحب حصن كيفا بالإذعان وَهُوَ نور الدّين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 مُحَمَّد بن قرا أرسلان ثمَّ رَحل السُّلْطَان من البيرة وَنزل على الرها وَكَانَ فِيهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزّعفراني فأذعن وانقاد وتسلمها مظفر الدّين مُضَافَة لَهُ إِلَى حران ثمَّ وصل السُّلْطَان إِلَى حران فرتبها وانفصل مِنْهَا إِلَى الرقة وفيهَا الْأَمِير قطب الدّين ينَال بن حسان فأذعن أَيْضا وَسلم وَلم يُوَافق مُرَاعَاة لصَاحبه فأصلحها السُّلْطَان ورحل مِنْهَا إِلَى مشْهد الرُّمَّان ثمَّ إِلَى عرابان فتسلمها وَأصْلح من شَأْنهَا وتواصلت أَخْبَار وُصُول السُّلْطَان الخابور وَمَا نشر من الْعدْل فِي الْبِلَاد الَّتِي فتحهَا ففتحت رَأس الْعين ودورين وماكسين والشمسانية والفدين والمجدل وَالْحصين قَالَ وقطعنا نهر الخابور على قنطرة التنينير إِلَى نَصِيبين فاستعصت قلعتها أَيَّامًا ثمَّ فتحت استسلاما وولاها السُّلْطَان حسام الدّين أَبَا الهيجاء السمين وَولى الخابور جمال الدّين خوشترين ثمَّ سرنا إِلَى الْموصل وقطعنا أَعمال بَين النهرين ثمَّ أَعمال الْبقْعَة ثمَّ سرنا إِلَى بلد وأشرفنا على دجلة وَكُنَّا أوردنا خَيْلنَا فِي أشهر من تِلْكَ السّنة نيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 مصر والفرات ودجلة ثمَّ صممنا على قصد الْموصل فَلَمَّا قربنا من الْوُصُول كبرنا تَكْبِير من ظفر بالسول وَتقدم السُّلْطَان فِي الْأُمَرَاء ذَوي الآراء وَدَار حول السُّور وَعين لكل مقدم مقَاما فَنزل هُوَ وَرَاء الْبَلَد وتقي الدّين من شرقيه وَأَخُوهُ تَاج الْمُلُوك بوري عِنْد بَاب الْعمادِيَّة فحصلت المحاصرة والمضايقة وَتَوَلَّى مُجَاهِد الدّين قايماز حفظ الْبَلَد بِأَحْسَن تَدْبِير وَكَاتب الدِّيوَان الْعَزِيز فِي أَن يشفع لَهُم إِلَى السُّلْطَان فَقدم فِي ذَلِك صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير فِي الشَّفَاعَة فَرَحل السُّلْطَان عَنْهَا فِي شعْبَان وَقصد سنجار وَقدم أَمَامه تَقِيّ الدّين وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ نزُول السُّلْطَان على الْموصل فِي هَذِه الدفعة يَوْم الْخَمِيس حادي عشر رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وَكنت إِذْ ذَاك بالموصل فسيرت رَسُولا إِلَى بَغْدَاد قبيل نُزُوله بأيام قَلَائِل فسرت مسرعا فِي دجلة وأتيت بَغْدَاد فِي يَوْمَيْنِ وساعتين من الْيَوْم الثَّالِث مستنجدا بهم فَلم يحصل مِنْهُم سوى الإنفاذ إِلَى شيخ الشُّيُوخ وَكَانَ فِي صحبته رَسُولا من جانبهم يأمرونه بِالْحَدِيثِ مَعَه وتلطف الْحَال مَعَه وسير إِلَى بهلوان رَسُول من الْموصل يستنجده فَلم يحصل من جَانِبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 سوى تشرط كَانَ الدُّخُول تَحْتَهُ أخطر من حَرْب السُّلْطَان ثمَّ أَقَامَ السُّلْطَان على الْموصل أَيَّامًا وَعلم أَنه بلد عَظِيم لَا يتَحَصَّل مِنْهُ شَيْء بالمحاصرة على هَذَا الْوَجْه وَرَأى أَن طَرِيق أَخذه أَخذ قلاعه وَمَا حوله من الْبِلَاد وإضعافه بطول الزَّمَان فَرَحل عَنهُ وَنزل على سنجار فِي سادس عشر شعْبَان فَأَقَامَ يحاصرها وفيهَا شرف الدّين بن قطب الدّين وَجَمَاعَة وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمر حَتَّى كَانَ ثَانِي شهر رَمَضَان فَأَخذهَا عنْوَة وَخرج شرف الدّين وجماعته محترمين محفوظين إِلَى الْموصل وَأَعْطَاهَا السُّلْطَان ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين ورحل عَنْهَا إِلَى نَصِيبين وَقَالَ الْعِمَاد لما قصد السُّلْطَان سنجار نزل بارنجان فَوجدَ بهَا عسكرا من الْموصل سائرا إِلَيْهَا فأحاط بِهِ وَأخذ خيلهم وعددهم وردهم إِلَى الْموصل رجالة وَوصل إِلَى سنجار وَمَعَهُ رسل دَار الْخلَافَة وَنور الدّين صَاحب حصن كيفا وَكَانَ فِي سنجار شرف الدّين أَخُو صَاحب الْموصل فَامْتنعَ من تَسْلِيمهَا فحوصر ورميت القلعة بالمنجنيق فانهدم مِنْهَا ثلمة من السُّور فَوكل بهَا من يحفظها وَدخل شهر رَمَضَان فَكف السُّلْطَان عَن الْقِتَال ثمَّ جَاءَهُ الْخَبَر لَيْلَة أَن الموكلين بِحِفْظ تِلْكَ الثلمة نيام فَأرْسل إِلَيْهِم من أوثقهم وَحَملهمْ إِلَيْهِ وَكَانَ فيهم جمَاعَة من المقدمين والأعيان فَلَمَّا أصبح صَاحب سنجار أذعن وَسلم ورحل بأَهْله وَمَاله وَدخل السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 القلعة ورتبها وَأمر بعمارتها وولاها الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن أنر وَكَانَ السُّلْطَان يعْتَمد عَلَيْهِ وَأُخْته ابْنة معِين الدّين كَانَت فِي حبالة السُّلْطَان وَكَانَ رُؤَسَاء سنجار بني يَعْقُوب فَتركت الرياسة فيهم وَولى الْقَضَاء مِنْهُم نظام الدّين نصر بن المظفر بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى نَصِيبين فَأَقَامَ بهَا لِأَن الْأَيَّام كَانَت بَارِدَة وَمِنْهَا ودع رسل دَار الْخلَافَة وشكا أهل نَصِيبين من أميرها أبي الهيجاء السمين فاستصحبه السُّلْطَان مَعَه وَسَار إِلَى دَارا وأميرها صمصام الدّين بهْرَام الأرتقي فَتلقى السُّلْطَان بِأَحْسَن ملقى فَأكْرمه وَسَار إِلَى حران وَأقَام بهَا للاستراحة وَعَاد كل إِلَى بَلَده وَسَار تَقِيّ الدّين إِلَى حماة هَذَا والمواصلة فِي جد من جمع الجموع وبغاء الغوائل للسُّلْطَان فصل فِي وَفَاة فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة فِي جُمَادَى الأولى توفّي بِدِمَشْق الْملك الْمَنْصُور عز الدّين فرخشاه وَوصل خَبره إِلَى السُّلْطَان عِنْد عبوره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 الْفُرَات فَأقر السُّلْطَان وَلَده الْملك الأمجد بهرامشاه على بعلبك وأعمالها مَكَان أَبِيه وَنفذ شمس الدّين بن الْمُقدم واليا مَكَانَهُ على دمشق وأعمالها قَالَ ابْن أبي طي كَانَ فرخشاه من أكْرم النَّاس يدا وأطهرهم أَخْلَاقًا وأسدهم رَأيا وأشجعهم قلبا وَمِمَّا يحْكى من كرمه أَنه دخل الْحمام يَوْمًا فَرَأى رجلا قد قعد بِهِ الزَّمَان وَكَانَ يعرفهُ من أهل الْيَسَار وَشَاهد عَلَيْهِ ثيابًا رثَّة يبين مِنْهَا بعض جسده فاستدعى بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج الرجل إِلَى لبسه وببغلة مسرجة وبألف دِينَار وَقَالَ لبَعض غلمانه اجْعَل هَذَا كُله فِي مَوضِع ثِيَاب الرجل وَخذ ثِيَابه وَاجعَل هَذَا الْغُلَام وَالْبَغْلَة لَهُ فَفعل فَلَمَّا تغسل الرجل وَخرج رأى مَوضِع ثِيَابه تِلْكَ الثِّيَاب فَسَأَلَ الحمامي عَن ثِيَابه فَقَالَ انبدلت بِهَذِهِ الثِّيَاب فَتقدم إِلَيْهِ الْغُلَام وَأخْبرهُ بِجَمِيعِ مَا صنعه عز الدّين وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ قد أجْرى عَلَيْهِ معيشة عشْرين دِينَارا فِي كل شهر فَلبس الثِّيَاب وَخرج من الْحمام وَهُوَ من أغْنى النَّاس قَالَ وَكَانَ فرخشاه ممدحا مدحه ابْن سَعْدَان بعدة قصائد من جُمْلَتهَا الَّتِي يَقُول فِيهَا (تخذ السابري لبدا وعود الزَّمَان ... نابا والهندواني ظفرا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 (أعجمي الْأَنْسَاب قصرت الْأَعْرَاب ... عَنهُ سجعا ونظما ونثرا) (هزمت كتبه الْكَتَائِب جفلا ... وأعادت دجى الْحَوَادِث فجرا) (فَهُوَ كالمازني علما وكالأحنف ... حلما وكالفرزدق شعرًا) قَالَ وَكَانَ فرخشاه مُضَافا إِلَى شجاعته عَالما متفننا كثير الْأَدَب مطبوع النّظم والنثر فَمن شعره قَوْله (أَنا فِي أسر السقام ... من هوى هَذَا الْغُلَام) (رشأ ترشق عَيناهُ ... فُؤَادِي بسهام) (كلما أرشفني فَاه ... على حر الأوام) (ذقت مِنْهُ الثَّلج فِي الشهد ... الْمُصَفّى فِي المدام) قلت ونبغ ابْنه الأمجد أَيْضا شَاعِرًا وَكَانَ السُّلْطَان كثير الِاعْتِمَاد على فرخشاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَيْهِ وصل كِتَابه يتَضَمَّن خُرُوج الفرنج وَمَا دبره من الْأَحْوَال وأعده من مكايد الْقِتَال ولسنا نستبعد أَن يدني الله بِهِ كل بعيد من المُرَاد وَأَن يُقَابل بتدبيره تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد وَأَن يجْرِي على يَده أول النَّحْل الَّذِي توعد بِهِ آخر صَاد وَأَن يصب بِهِ على الْمُشْركين سَوط عَذَاب إِن رَبك لبالمرصاد وَقَالَ الْعِمَاد وَكَانَ عز الدّين فرخشاه من أهل الْفضل ويفضل على أَهله ويغني الْكِرَام عَن الابتذال بكرم بذله وَمن أخص خواصه وَذَوي اصطفائه واستخلاصه الصَّدْر الْكَبِير الْعَالم تَاج الدّين أَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ أوحد عصره ونسيج وَحده وقريع دهره وعلامة زَمَانه وَحسان إحسانه ووزير دسته ومشير وقته وجليس أنسه ورفيق درسه وشعاع شمسه وحبِيب نَفسه ولي فِي هَذَا الْملك قصائد مِنْهَا قصيدة هائية موسومة مدحته بهَا فِي أول سنة صَحِبت فِيهَا السُّلْطَان إِلَى مصر وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وعارضها تَاج الدّين أَبُو الْيمن بِكَلِمَة بديعة فِي وَزنهَا ورويها وَحسن زيها فَأَما كلمتي فَهِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 (بَين أَمر حلاوة الْعَيْش الشهي ... وَهوى أحَال غضارة الزَّمن الْبَهِي) (وصبابة لَا أستقل بشرحها ... عَن حصرها حصر البليغ المدره) (أأحبتي إِن غبت عَنْكُم فالهوى ... دَان لقلب بالغرام موله) (أنهِي إِلَيْكُم أَن صبري منتىء ... بل منته والشوق لَيْسَ بمنته) (أما عُقُود مدامعي فَلَقَد وهت ... وأبت عُقُود الود مني أَن تهي) (وَلَقَد دهيت ببينكم فاشتقتكم ... يَا من لمشتاق ببينكم دهي) (فِي شوقكم أَبَد الزَّمَان تفكري ... وبذكركم عِنْد الْكِرَام تفكهي) (لَو قيل لي مَا تشْتَهي من هَذِه الدُّنْيَا ... لَقلت سواكم لَا اشتهي) (مَا كَانَ أرفه عيشتي وألذها ... من ذَا الَّذِي يبْقى بعيش أرفه) (وَمن السفاهة أنني فارقتكم ... من أَيْن ذُو الْحلم الَّذِي لم يسفه) وَمِنْهَا (وعقاب أَيْلَة لَا يُفَارق جلقا ... أحد إِلَيْهَا غير غر أبله) (مَالِي ومصر وللمطامع إِنَّمَا ... ملكت قيادي حَيْثُ لم أتنزه) (لَا تنهني يَا عاذلي فَأَنا الَّذِي ... تبع الْهوى وأتى بِمَا عَنهُ نهي) (قد قلت للحادي وَقد ناديته ... فِي مهمه أقصر وصلت مَه مَه) (حتام جذبك للزمام فأرخه ... فَلَقَد أنخت إِلَى ذرى فرخشه) (متكرم بالطبع لَا متكره ... شتان بَين تكرم وَتكره) (إِحْسَان ذِي مجد وهمة محسن ... مجد وتقوى عَابِد متأله) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَهِي ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ بَيْتا وَالْقَصِيدَة التاجية تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا أَولهَا (هَل أَنْت رَاحِم عِبْرَة وتوله ... ومجير صب عِنْد مأمنه دهي) (هَيْهَات يرحم قَاتل مقتوله ... وسنانه فِي الْقلب غير منهنه) (من بل من دَاء الغرام فإنني ... مذ حل بِي مرض الْهوى لم أنقه) (إِنِّي بليت بحب أغيد سَاحر ... بلحاظه رخص البنان برهره) (أبغي شِفَاء تدلهي من دله ... وَمَتى يرق مدلل لمدله) (يَا مُفردا بالْحسنِ إِنَّك منته ... فِيهِ كَمَا أَنا فِي الصبابة منتهي) (قد لَام فِيك معاشر أفأنتهي ... باللوم عَن حب الْحَيَاة وَأَنت هِيَ) (أبْكِي لَدَيْهِ فَإِن أحس بلوعة ... وتشهق أوما بِطرف مقهقه) (أَنا من محاسنه وحالي عِنْده ... حيران بَين تفكه وتفكه) (ضدان قد جمعا بِلَفْظ وَاحِد ... لي فِي هَوَاهُ بمعنيين موجه) قلت يُقَال تفكهت بالشَّيْء أَي تمتعت بِهِ وتفكهت أَي تعجبت وَيُقَال تندمت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فظلتم تفكهون} فَهُوَ فِي تفكه أَي تمتّع بالمحاسن وَفِي تعجب من حَاله وتندم عَلَيْهَا ثمَّ قَالَ (أَنا عبد من شهد الزَّمَان بعجزه ... عَن أَن يَجِيء لَهُ بند مشبه) (عبد لعز الدّين ذِي الشّرف الَّذِي ... ذل الْمُلُوك لعزه فرخشه) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 (طابت موارده فغص فناؤه ... وشدا الحداة بِذكرِهِ فِي المهمه) (يفديك كل مملك متتايه ... أبدا بألسنة الرعاع ممده) (لَا يفقه النَّجْوَى إِذا حدثته ... وَإِذا بدا بحَديثه لم يفقه) قلت وَذكر الْعِمَاد فِي ديوانه أبياتا حَسَنَة فِي مدح الشَّيْخ تَاج الدّين أبي الْيمن رحمهمَا الله (تَذَاكر من وراد مصر عِصَابَة ... حَدِيث فَتى طَابَ الندي بِذكرِهِ) (وَقَالُوا رَأينَا فَاضلا ذَا نباهة ... أديبا يفوق الفاضلين بفخره) (يدين حبيب والوليد لنظمه ... وَيَحْمَدهُ عبد الحميد لنثره) (وَلَو عَاشَ قس فِي زمَان بَيَانه ... لَكَانَ مشيدا فِي الْبَيَان بشكره) (فضائله كَالشَّمْسِ نورا وَلم تزل ... مناقبه فِي الدَّهْر أعداد زهره) (بَيَان هُوَ السحر الْحَلَال وإننا ... نرى معجزا من فَضله حل سحره) (ذَوُو الْفضل هم عِنْد الْحَقِيقَة أبحر ... وَلَكنهُمْ أضحوا جداول بحره) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 (يضوع مهب الْحَمد من عرف عرفه ... وتأرج أرجاء الرَّجَاء بنشره) (فَقلت لَهُم هَذَا الَّذِي تصفونه ... أَبُو الْيمن تَاج الدّين أوحد عصره) قلت وَبَلغنِي أَن أول معرفَة فرخشاه بِهِ أَنه كَانَ فِي مجْلِس القَاضِي الْفَاضِل بِالْقَاهِرَةِ فجَاء فرخشاه إِلَى الْفَاضِل فَجرى ذكر بَيت من شعر أبي الطّيب المتنبي فَتكلم فِيهِ تَاج الدّين بِمَا يَلِيق بِهِ فأعجب فرخشاه وَسَأَلَ القَاضِي الْفَاضِل عَنهُ فَقَالَ هَذَا فلَان وعرفه بفضله فَلَمَّا قَامَ فرخشاه من مجْلِس الْفَاضِل أَخذ بيد الشَّيْخ تَاج الدّين وَخرج بِهِ وَلَزِمَه إِلَى أَن توفّي رَحِمهم الله أَجْمَعِينَ فصل فِي أَخذ السالكين الْبَحْر لقصد الْحجاز قَالَ الْعِمَاد وَفِي شَوَّال سنة ثَمَان وَسبعين كَانَت نصْرَة الأسطول المتوجه إِلَى بَحر القلزم والمقدم فِيهِ الْحَاجِب حسام الدّين لُؤْلُؤ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 لطلب الفرنج السالكين بَحر الْحجاز وَذَلِكَ أَن الإبرنس صَاحب الكرك لما صَعب عَلَيْهِ مَا توالى عَلَيْهِ من نكاية أَصْحَابنَا المقيمين بقلعة أَيْلَة وَهِي فِي وسط الْبَحْر لَا سَبِيل عَلَيْهَا لأهل الْكفْر أفكر فِي أَسبَاب احتياله وَفتح أَبْوَاب اغتياله فَبنى سفنا وَنقل أخشابها على الْجمال إِلَى السَّاحِل ثمَّ ركب المراكب وشحنها بِالرِّجَالِ وآلات الْقِتَال ووقف مِنْهَا مركبين على جَزِيرَة القلعة فَمنع أَهلهَا من استقاء المَاء وَمضى الْبَاقُونَ فِي مراكب نَحْو عيذاب فَقطعُوا طَرِيق التُّجَّار وشرعوا فِي الْقَتْل والنهب والإسار ثمَّ توجهوا إِلَى أَرض الْحجاز فَتعذر على النَّاس وَجه الِاحْتِرَاز فَعظم الْبلَاء وأعضل الدَّاء وأشرف أهل الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة مِنْهُم على خطر وَوصل الْخَبَر إِلَى مصر وَبهَا الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان فَأمر الْحَاجِب حسام الدّين لُؤْلُؤ فعمر فِي بَحر القلزم مراكب بِالرِّجَالِ البحرية ذَوي التجربة من أهل النخوة للدّين وَالْحمية وَسَار إِلَى أَيْلَة فظفر بالمركب الفرنجي عِنْدهَا فخرق السَّفِينَة وَأخذ جندها ثمَّ عدى إِلَى عيذاب وَشَاهد بِأَهْلِهَا الْعَذَاب وَدلّ على مراكب الْعَدو فتبعها فَوَقع بهَا بعد أَيَّام فأوقع بهَا وواقعها وَأطلق المأسورين من التُّجَّار ورد عَلَيْهِم كل مَا أَخذ لَهُم ثمَّ صعد إِلَى الْبر فَوجدَ أعرابا قد نزلُوا مِنْهُ شعابا فَركب خيلهم وَرَاء الهاربين وَكَانُوا فِي أَرض تِلْكَ الطّرق ضاربين فحصرهم فِي شعب لَا مَاء فِيهِ فأسرهم بأسرهم وَكَانَ ذَلِك فِي أشهر الْحَج فساق مِنْهُم أسيرين إِلَى منى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 كَمَا يساق الْهَدْي وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَمَعَهُ الْأُسَارَى فَكتب السُّلْطَان إِلَيْهِ بِضَرْب رقابهم وَقطع أسبابهم بِحَيْثُ لَا تبقى مِنْهُم عين تطرف وَلَا أحد يخبر طَرِيق ذَلِك الْبَحْر أَو يعرف قلت وَلأبي الْحسن بن الذروي فِي الْحَاجِب لُؤْلُؤ بِسَبَب هَذِه الْوَقْعَة أشعار مِنْهَا (مر يَوْم من الزَّمَان عَجِيب ... كَاد يُبْدِي فِيهِ السرُور الجماد) (إِذا أَتَى الْحَاجِب الْأَجَل بأسرى ... قرنتهم فِي طيها الأصفاد) (بِجَمَال كأنهن جبال ... وعلوج كَأَنَّهُمْ أطواد) (قلت بعد التَّكْبِير لما تبدى ... هَكَذَا هَكَذَا يكون الْجِهَاد) (حبذا لُؤْلُؤ يصيد الأعادي ... وسواه من اللآلي يصاد) وَمِنْهَا (قلت وَقد سَافَرت يَا من غَدا ... جهاده يعضد من حجه) (إِذْ قيل سَار الْحَاجِب المرتجى ... فِي الْبَحْر يَا رب السما نجه) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 (الْبَحْر لَا يعدو على لُؤْلُؤ ... لِأَنَّهُ كَون من لجه) وَمِنْهَا (يَا حَاجِب الْمجد الَّذِي مَاله ... لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الندى حجبه) (وَمن دَعوه لؤلؤا عِنْدَمَا ... صحت من الْبَحْر لَهُ نسبه) (لله مَا تعْمل من صَالح ... فِيهِ وَمَا تظهر من حَسبه) (كفيت أهل الْحَرَمَيْنِ العدى ... وذدت عَن أَحْمد والكعبة) وَمِنْهَا (لَئِن كنت من ذَا الْبَحْر يَا لُؤْلُؤ الْعلَا ... نتجت فَإِن الْجُود فِيك وَفِيه) (وَإِن لم تكن مِنْهُ لأجل مذاقه ... فَإنَّك من بَحر السماح أَخِيه) وَمِنْهَا (إِنَّمَا أَنْت لُؤْلُؤ للمعالي ... جَاءَ من أبحر السماح الْعَذَاب) وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل من كَلَام الْفَاضِل وصل كِتَابه المؤرخ بخامس ذِي الْقعدَة المسفر عَن المسفر من الْأَخْبَار المتبسم عَن المتبسم من الْآثَار وَهِي نعْمَة تَضَمَّنت نعما ونصرة جعلت الْحرم حرما وكفاية مَا كَانَ الله ليؤخر معْجزَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتأخيرها وعجيبة من عجائب الْبَحْر الَّتِي تحدث عَن تسييرها وتسخيرها وَمَا كَانَ الْحَاجِب لُؤْلُؤ فِيهَا إِلَّا سَهْما أصَاب وَحمد مسدده وسيفا قطع وشكر مجرده ورسولا عَلَيْهِ الْبَلَاغ وَإِن لم يجهل مَا أثرته يَده وَقد غبطناه بِأَجْر جهاده ونجح اجْتِهَاده ركب السَّبِيلَيْنِ برا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وبحرا وامتطى السَّابِقين مركبا وظهرا وخطا فأوسع الخطو وغزا فأنجح الْغَزْو وحبذا الْعَنَان الَّذِي فِي هَذِه الْغَزْوَة أطلق وَالْمَال الَّذِي فِي هَذِه الكرة أنْفق وَهَؤُلَاء الْأُسَارَى فقد ظَهَرُوا على عَورَة الْإِسْلَام وكشفوها وتطرقوا بِلَاد الْقبْلَة وتطوفوها وَلَو جرى فِي ذَلِك سَبَب وَالْعِيَاذ بِاللَّه لضاقت الْأَعْذَار إِلَى الله والخلق وَانْطَلَقت الألسن بالمذمة فِي الغرب والشرق وَلَا بُد من تَطْهِير الأَرْض من أرجاسهم والهواء من أنفاسهم بِحَيْثُ لَا يعود مِنْهُم مخبر يدل الْكفَّار على عورات الْمُسلمين وَإِن هَذَا الْعدَد الْقَلِيل قد نَالَ ذَلِك المنال الْجَلِيل وَهَذَا مقَام إِن روعي فِيهِ حراسة الظَّاهِر وَالْوَفَاء للْكَافِرِ حدث الفتق الَّذِي لَا يُمكن فِي كل الْأَوْقَات سَده ورتقه ولدغ الْمُؤمن مرَّتَيْنِ وَالْأولَى تَكْفِي لمن لَهُ فِي النّظر تفقه وَفِي كتاب آخر إِلَى الْعَادِل أَيْضا وَنحن نهنىء الْمجْلس السَّامِي بظفره وَلم لَا نكمله وبنصره وَلم لَا نشكره شكرا نعجله وَلَيْسَ فِي قتل هَؤُلَاءِ الْكفَّار مُرَاجعَة وللشرع فِي إبقائهم فسحة وَلَا فِي اسْتِبْقَاء وَاحِد مِنْهُم مصلحَة وَلَا فِي التغاضي عَنْهُم عِنْد الله عذر مَقْبُول وَلَا حكم الله فِي أمثالهم عِنْد أهل الْعلم بمشكل وَلَا مَجْهُول فليمض الْعَزْم فِي قَتلهمْ ليتناهى أمثالهم عَن فعلهم وَقد كَانَت عَظِيمَة مَا طرق الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا وَقد أَتَى الله بعْدهَا بلطيفة أجراها على يَد من رَآهُ من أَهلهَا وَفِي كتاب آخر إِلَى الْعَادِل وَقد تكَرر القَوْل فِي معنى أُسَارَى بَحر الْحجاز فَلَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا وَلَا توردهم بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 مَاء الْبَحْر إِلَّا نَارا فأقلهم إِذا بَقِي جنى الْأَمر الأصعب وَمَتى لم تعجل الرَّاحَة مِنْهُم وعدت الْعَاقِبَة بالأشق الأتعب وَمن كتاب آخر إِلَى بَغْدَاد وسارت المراكب الإسلامية طالبة شَوْكَة المراكب الحربية المتعرضة للمراكب الحجازية واليمنية وَكَانَت مراكب الْعَدو قد أوغلت فِي الْبَحْر ودلها على عورات الساحلين من الْعَرَب من أشبه ركابهَا فِي الْكفْر فوصلت إِلَى عيذاب فَلم تنَلْ مِنْهَا مرَادا غير أَن مَا وجدته فِي طريقها أَو فِي فرضة عيذاب نَالَتْ مِنْهُ وشعثت وأفسدت فِيهِ وعتت وتمادت فِي السَّاحِل الْحِجَازِي إِلَى رابغ إِلَى سواحل الْحَوْرَاء وَهُنَاكَ وَقع عَلَيْهَا أَصْحَابنَا وأوقعوا بهَا أَشد إِيقَاع وَأخذُوا المراكب الفرنجية على حكم البدار والإسراع وفر فرنجها إِلَى السَّاحِل فَركب أَصْحَابنَا وَرَاءَهُمْ خُيُول العربان الَّتِي وجدوها وَأخذُوا الْكفَّار من شعاب وجبال اعتصموا بهَا وقصدوها وكفي الْمُسلمُونَ أَشد فَسَاد فِي أَرضهم وأقطع قَاطع لفرضهم وانبسطت أمالهم بقبضهم وعميت على الْكفَّار هَذِه الطَّرِيق الَّتِي لَو كشف لَهُم غطاؤها قدما وَلَو أحاطوا بهَا علما لاشتطت نكايتهم واشتدت جنايتهم وَعز على قدماء مُلُوك مصر أَن يصرعوا هَذِه الأقران ويطفؤوا هَذِه النيرَان ويركبوا غوارب اللجج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 ويرخصوا غوالي المهج ويقتنصوا هَذَا الطَّائِر من جوه الَّذِي لَا يُدْرِكهُ لوحه ويدركوا هَذَا الْعَدو الَّذِي لَا يدْرك إِلَّا أَن ينجد عَلَيْهِ مَلَائِكَة الله وروحه وَفِي كتاب آخر إِلَى بَغْدَاد كَانَ الفرنج قد ركبُوا من الْأَمر نكرا وافتضوا من الْبَحْر بكرا وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد وضربوا بهَا سواحل الْيمن والحجاز وأثختوا وأوغلوا فِي الْبِلَاد واشتدت مَخَافَة أهل تِلْكَ الجوانب بل أهل الْقبْلَة لما أومض إِلَيْهِم من خلل العواقب وَمَا ظن الْمُسلمُونَ إِلَّا أَنَّهَا السَّاعَة وَقد نشر مطوي أشراطها وَالدُّنْيَا قد طوي منشور بساطها وانتظر غضب الله لفناء بَيته الْمحرم ومقام خَلِيله الأكرم وتراث أنبيائه الأقدم وضريح نبيه الْأَعْظَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجوا أَن تشحذ البصائر آيَة كآية هَذَا الْبَيْت إِذْ قَصده أَصْحَاب الْفِيل ووكلوا إِلَى الله الْأَمر وَكَانَ حسبهم وَنعم الْوَكِيل وَكَانَ للفرنج مقصدان أَحدهمَا قلعة أَيْلَة الَّتِي هِيَ على فوهة بَحر الْحجاز ومداخله وَالْآخر الْخَوْض فِي هَذَا الْبَحْر الَّذِي تجاوره بِلَادهمْ من ساحله وانقسموا فريقين وسلكوا طَرِيقين فَأَما الْفَرِيق الَّذِي قصد قلعة أَيْلَة فَإِنَّهُ قدر أَن يمْنَع أَهلهَا من مورد المَاء الَّذِي بِهِ قوام الْحَيَاة ويقاتلهم بِنَار الْعَطش المشبوب الشباة وَأما الْفَرِيق القاصد سواحل الْحجاز واليمن فَقدر أَن يمْنَع طَرِيق الْحَاج عَن حجه ويحول بَينه وَبَين فجه وَيَأْخُذ تجار الْيمن وأكارم عدن ويلم بسواحل الْحجاز فيستبيح وَالْعِيَاذ بِاللَّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 الْمَحَارِم ويهيج جَزِيرَة الْعَرَب بعظيمة دونهَا العظائم وَكَانَ الْأَخ سيف الدّين بِمصْر قد عمر مراكب وفرقها على الْفَرِيقَيْنِ وأمرها بِأَن تطوي وَرَاءَهُمْ الشقتَيْنِ فَأَما السائرة إِلَى قلعة أَيْلَة فَإِنَّهَا انْقَضتْ على مرابطي المَاء انقضاض الْجَوَارِح على بَنَات المَاء وقذفتها قذف شهب السَّمَاء مسترقي سمع الظلماء فَأخذت مراكب الْعَدو برمتها وَقتلت أَكثر مقاتلتها إِلَّا من تعلق بهضبة وَمَا كَاد أَو دخل فِي شعب وَمَا عَاد فَإِن العربان اقتصوا آثَارهم والتزموا إحضارهم فَلم ينج مِنْهُم إِلَّا من ينْهَى عَن المعاودة وَمن قد علم أَن أَمر السَّاعَة وَاحِدَة وَأما السائرة إِلَى بَحر الْحجاز فتمادت فِي السَّاحِل الْحِجَازِي إِلَى رابغ إِلَى سواحل الْحَوْرَاء فَأخذت تجارًا وأخافت رفاقا ودلها على عورات الْبِلَاد من الْأَعْرَاب من هُوَ أَشد كفرا ونفاقا وَهُنَاكَ وَقع عَلَيْهَا أَصْحَابنَا وَأخذت المراكب بأسرها وفر فرنجها بعد إِسْلَام المراكب وسلكوا فِي الْجبَال مهاوي المهالك ومعاطن المعاطب وَركب أَصْحَابنَا وَرَاءَهُمْ خيل الْعَرَب يشلونهم شلا ويقتنصونهم أسرا وقتلا وَمَا زَالُوا يتبعونهم خَمْسَة أَيَّام خيلا ورجلا وَنَهَارًا وليلا حَتَّى لم يتْركُوا عَنْهُم مخبرا وَلم يبقوا لَهُم أثرا {وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا} وَقيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 مِنْهُم إِلَى مصر مئة وَسَبْعُونَ أسرا وَمن كتاب آخر وَمن جملَة البشائر الْوَاصِلَة من مصر عود الأسطول مرّة ثَانِيَة كاسرا كاسبا غانما غَالِبا بعد نكايته فِي أهل الجزائر وإخراب مَا وجده فِيهَا من الْأَعْمَال والعمائر وَمن جملَة مَا ظفر بِهِ فِي طَرِيقه بطسة من مراكب الفرنج تحمل أخشابا منجورة إِلَى عكا وَمَعَهَا نجارون ليبنوا مِنْهَا شواني فَأسر النجارون وَمن مَعَهم وهم نَيف وَسَبْعُونَ وَأما الأخشاب فقد انْتفع بهَا المجاهدون وكفي شَرها الْمُؤْمِنُونَ وللخادم فِي الْمغرب عَسْكَر قد بلغت أقْصَى أفريقية فتوحه وعاود بِهِ شخص الدّين فِي تِلْكَ الْبِلَاد روحه فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة وَهِي سنة ثَمَان وَسبعين أنعم السُّلْطَان على نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بأعمال الْهَيْثَم وَكَانَت جَارِيَة فِي عمل الْموصل فَلَمَّا تسلمها جعلهَا من نصِيبه وَقد كَانَ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله حِين توجه إِلَى الْموصل فِي أَوَائِل سنة سِتّ وَسِتِّينَ عِنْد وَفَاة أَخِيه مودود وعد ابْن قَرَأَ أرسلان بقلعة الْهَيْثَم ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 سلمهَا إِلَيْهِ دون أَعمالهَا تَحِلَّة ليمينه ووفاء بوعده الْكَرِيم وَدينه وَلما جَاءَ لمساعدتنا فِي هَذَا الْعَام خصّه السُّلْطَان عَاجلا بِهَذَا الإنعام ثمَّ وهب لَهُ قلعة الجديدة وَهِي قريبَة من نَصِيبين ووعده بِفَتْح آمد لَهُ فوفى بوعده كَمَا سَيَأْتِي قَالَ وَكَانَ شاه أرمن صَاحب خلاط ظهير الدّين سكمان وَهُوَ خَال صَاحب ماردين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش وَصَاحب ماردين هَذَا هُوَ ابْن خَال صَاحب الْموصل عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي فنفذ شاه أرمن يشفع إِلَى السُّلْطَان فِي الْموصل وسنجار وَهُوَ على سنجار وَأرْسل إِلَيْهِ سيف الدّين بكتمر وَهُوَ من أعز أَصْحَابه عَلَيْهِ فَلم يسمع السُّلْطَان شَفَاعَته فَاجْتمع هُوَ وَصَاحب ماردين وَصَاحب الْموصل وَصَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم من عَسْكَر حلب وجمعوا جموعا وعزموا على لِقَاء السُّلْطَان ونزلوا ضَيْعَة من أَعمال ماردين يُقَال لَهَا حرزم فَجمع السُّلْطَان عساكره وجاءه تَقِيّ الدّين من حماة إِلَى حران فِي خمس لَيَال فَسَارُوا إِلَيْهِم بعد الْعِيد الْأَكْبَر فَلَمَّا وصل السُّلْطَان رَأس عين وسمعوا بمجيئه تفَرقُوا وافترقوا وَعَاد الخلاطي إِلَى خلاطه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 باختلاطه وَرجع الْموصِلِي إِلَى موصله لمواصلة احتياطه واعتصم الماردي بحصنه المارد وهتكوا حرز حرزم للصادر والوارد وهاب عَسْكَر حلب الْعود إِلَيْهَا وَنحن على طَرِيقه فآذن جمعه بتفريقه وَمضى معظمهم إِلَى الْموصل فَعبر الْفُرَات عِنْد عانة وَلم يَجدوا إِعَانَة ونسفتهم ريحنا وهم جبال وذهبوا بقلوب النِّسَاء وَقد جاؤوا وهم رجال ثمَّ نزل السُّلْطَان منزلَة الْقَوْم بحرزم وفيهَا قصر لصَاحب ماردين كَانَ يتنزه فِيهِ فَأَقَامَ فِيهِ تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان قَالَ ابْن أَبى طي وَفِي هَذِه السّنة نزل قراقوش على بلد زالوت وقاتله إِلَى أَن ملكه وَانْهَزَمَ مِنْهُ أَهله وَدخل الْمَدِينَة ليقضي بهَا أَيَّام الشتَاء فَأصْبح يَوْمًا فَإِذا حول الْمَدِينَة عَسْكَر مِقْدَاره خَمْسَة آلَاف رجل فَقَامَ وافتقد أَصْحَابه فَلم يجد إِلَّا جمَاعَة من البوابين والركابدارية وَبَاقِي النَّاس سكارى وَرَأى أحد البوقيه فَأمره أَن يضْرب بالبوق وَفتح الْبَاب وَخرج فَظن الْعَسْكَر أَن قراقوش وَعَسْكَره قد شعروا بهم فَانْهَزَمُوا قَالَ ثمَّ إِنَّه قصد طرابلس فحاصرها وضيق عَلَيْهَا وَكَانَ شيخها عبد الْمجِيد بن مطروح قد راسل قراقوش وَطلب مِنْهُ الْأمان وَسَأَلَهُ أَن ينفذ إِلَيْهِ قوما يُقرر مَعَهم أَمر التَّسْلِيم فأنفذ إِلَيْهِ وزيره وَثَلَاثَة من وُجُوه أَصْحَابه فَأَخذهُم عبد الْمجِيد وأنزلهم فِي دَار أخلاها لَهُم وَأمر لَهُم بِجَمِيعِ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَلَمَّا خلا لَهُم اللَّيْل أخذُوا المخاد وتصافعوا بهَا حَتَّى قطعوها وَقَامَ بَعضهم إِلَى صهريج مَمْلُوء مَاء للشُّرْب فأحدث فِيهِ فَأخْبرت الرقباء عبد الْمجِيد بِمَا كَانَ مِنْهُم فأحضر وُجُوه الْبَلَد وقص عَلَيْهِم مَا كَانَ مِنْهُم وَقَالَ إِذا كَانَ هَؤُلَاءِ خيارهم فَمَا ظنكم بشرارهم وَكَانَ أهل الْبَلَد قد أشاروا على عبد الْمجِيد بِتَسْلِيم الْبَلَد فامتنعوا حِينَئِذٍ وَحضر ابْن مطروح من الْغَد إِلَيْهِم إِلَى الدَّار وَمَعَهُ وُجُوه الْبَلَد فَقَالَ لصَاحب ضيافته لم أحضرت لهَؤُلَاء السَّادة مخاد مقطعَة فَقَالَ مَا أحضرت لَهُم إِلَّا مخاد جددا وَلَكِن الْقَوْم أكلُوا طَعَام الصُّوفِيَّة الَّذِي لَا نعرفه فِي بِلَادنَا فاستحيا الْقَوْم وَعَلمُوا أَنهم قد فطنوا بحالهم وَنزل رجل إِلَى الصهريج فَرَأى الْعذرَة على وَجه المَاء فَقَالَ من فعل هَذَا فَلم يرد وَاحِد مِنْهُم جَوَابا فَقَالَ ابْن مطروح يَا قوم مَا أدخلناكم إِلَيْنَا إِلَّا عازمين على تَسْلِيم الْبَلَد إِلَيْكُم وَأَن نَكُون لكم رعايا وَقد شاهدنا مِنْكُم أفعالا مَا نرضاها فَإِن قُلْتُمْ إِن هَذِه الفعلة من غلماننا وعبيدنا فَمَا أقبح هَذِه الأحدوثة عَن خِيَار أَصْحَاب هَذَا الرجل وَإِن كَانَ عِنْده من هُوَ خير مِنْكُم فَلم بعثكم إِلَيْنَا هَذَا طعن فِي عقله ثمَّ أَمر بإخراجهم فأخرجوا من الْمَدِينَة فَلَمَّا صَارُوا إِلَى قراقوش وَعلم الْقِصَّة عظم عَلَيْهِ الْأَمر وَأَرَادَ الفتك بهم وَعلم أَنهم قد فتقوا عَلَيْهِ فتقا لَا يُمكنهُ رتقه أبدا وتيقن أَنه لَا يملك الْبَلَد أبدا وأنفذ عبد الْمجِيد إِلَى قراقوش إِنَّك لست بِقَادِر على أَخذ هَذَا الْبَلَد لأجل مَا نفر بِهِ أَصْحَابك قُلُوب أَهله فَإِن رَأَيْت أَن نجْعَل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 لَك جعَالَة نحملها إِلَيْك فِي كل سنة وترحل عَنَّا فعلنَا فَأجَاب إِلَى ذَلِك ورحل عَنْهُم بعد أَن احتوى عَلَيْهِم قَالَ وتوافت إِلَيْهِ الفرسان من مصر حَتَّى صَار فِي ثَمَانِي مئة فَارس من الأتراك وَسَار من جبل نفوسة إِلَى قابس فِي يَوْمَيْنِ ثمَّ إِلَى قصر الرّوم وَغَيره من الْمَوَاضِع والقلاع فهجم وَنهب وغنم وَغلب وخافه أهل تِلْكَ النواحي فصل فِي فتح آمد قَالَ الْعِمَاد ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى آمد وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْحجَّة بعد أَن اسْتَأْذن الْخَلِيفَة فِي ذَلِك فَأذن لَهُ فنصب السُّلْطَان عَلَيْهَا المجانيق وضايقهم وَطَالَ حصارهم ثمَّ أَخذهَا فِي السّنة الْآتِيَة كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ ابْن أبي طي وَالسُّلْطَان منَازِل لآمد وَاشْتَدَّ قتال الْعَامَّة بهَا فَأمر السُّلْطَان بكتب رقاع فِيهَا إبراق وإرعاد ووعد وإيعاد إِن داموا على الْقِتَال ليستأصلن شأفتهم وَإِن اعتزلوا وسلموا الْبَلَد ليحسنن إِلَيْهِم وليضعن مَا عَلَيْهِم من الكلف والضرائب وَأمر أَن تعلق تِلْكَ الرّقاع على السِّهَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وترمى إِلَى آمد فَرمي من ذَلِك شَيْء كثير فكفوا عَن الْقِتَال وأشاروا على أبن نيسان بِطَلَب الْأمان فأومن على أَن يخرج بِجَمِيعِ أَمْوَاله دون الذَّخَائِر وَالسِّلَاح وأمهل ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا عول على نقل أَمْوَاله قعد بِهِ أَصْحَابه فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان فأنفذ إِلَيْهِ غلمانا ودواب وَضربت لَهُ خيمة بِظَاهِر آمد وَجعل ينْقل مَا يقدر على نَقله من المَال والقماش وآلات الذَّهَب وَالْفِضَّة مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام بعالم عَظِيم كَانُوا يزِيدُونَ على ثَلَاث مئة إِنْسَان وَلم ينْقل عشر مَا كَانَ لَهُ وسرق من أَمْوَاله أَكثر مِمَّا حصل لَهُ لِأَنَّهُ مَا أخرج أحد شَيْئا إِلَّا وَأخذ نصفه أَو أَكثر وَكَانَ ابْن نيسان قد حصل فِي آمد أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن وصفهَا من الأسلحة وَالْأَمْوَال والغلال والكتب وَلما انْقَضى الْأَجَل أَخذ مَا حصل وَسَار قَاصِدا بِلَاد الرّوم وتسلم السُّلْطَان مَدِينَة آمد بأموالها وذخائرها وَنصب أَعْلَامه على سورها وَذَلِكَ فِي رَابِع عشر محرم وَوجد فِيهَا من الغلال وَالسِّلَاح وآلات الْحصار من المناجيق واللعب والعرادات أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن أَن تُوجد فِي يلد مثلهَا وَوجد فِيهَا برج من أبراجها فِيهِ مئة ألف شمعة وبرج مَمْلُوء نصول النشاب وَأَشْيَاء يطول شرحها وَكَانَ فِيهَا خزانَة كتب كَانَ فِيهَا ألف ألف وَأَرْبَعُونَ ألف كتاب فوهب السُّلْطَان الْكتب للْقَاضِي الْفَاضِل فانتخب مِنْهَا حمل سبعين جمازة وَيُقَال إِن ابْن قرا أرسلان بَاعَ من ذخائر آمد وخزائنها مِمَّا لَا حَاجَة لَهُ بِهِ مُدَّة سبع سِنِين حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 امْتَلَأت الأَرْض من ذخائرها وَكَانَ السُّلْطَان لما تسلم آمد وَهبهَا لنُور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بِمَا فِيهَا وَكتب لَهُ بهَا وبأعمالها توقيعا ووفى لَهُ بِمَا وعده بِهِ وَقيل للسُّلْطَان إِنَّك وعدته بآمد وَمَا وعدته بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر وفيهَا من الذَّخَائِر مَا يُسَاوِي ثَلَاثَة آلَاف ألف دِينَار فَقَالَ لَا أضن عَلَيْهِ بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَإِنَّهُ قد صَار من أتباعنا وأصحابنا قَالَ وَفِي فتح آمد يَقُول سعيد الْحلَبِي من قصيدة فِي السُّلْطَان (رمى آمدا بالصافنات فأذعنت ... لَهُ طَاعَة آكامها ووعورها) (فَمَا عز ناديها وَلَا اعتاص ثغرها ... وَلَا جاش طاميها وَلَا رد سورها) (وأنزلت بالكره ابْن نيسان محرجا ... كَمَا أنزل الزباء كرها قصيرها) (نهدت لَهَا حَتَّى إِذا انْقَادَ صعبها ... وقر على طول الشماس نفورها) (سمحت بهَا جودا لمن ظلّ بُرْهَة ... يغاورها طورا وطورا يغيرها) (وملكت مَا ملكت مِنْهَا تخولا ... وَكَانَ قَلِيلا فِي نداك كثيرها) (وَإِن بلادا تجتديك مُلُوكهَا ... لأجدر أَن يَرْجُو نداك فقيرها) وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي يذكر فتح آمد يَقُول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 (فيا سَاكِني الرعناء من سفح آمد ... أرى عارضا ينهل بِالْمَوْتِ هاطله) (لَئِن غضِبت يَوْمًا عَلَيْكُم عروشها ... فَهَذَا ابْن أَيُّوب وهذي معاقله) (وَلَو رامها يَوْمًا سواهُ لَقطعت ... أباهره من دونهَا وأباجله) قلت وَقَالَ آخر (لَو عرفت آمد من جاءها ... يخْطب فِي الْإِسْلَام تَسْلِيمهَا) (لصيرت أَعلَى شراريفها ... لمن على الأَرْض سلاليمها) قَالَ الْعِمَاد وَأما آمد فَحصل فتحهَا يَوْم الْأَحَد فِي الْعشْر الأول من الْمحرم وَكَانَ مُدبر آمد ابْن نيسان فَهُوَ رئيسها والقائم بأمرها وَكَانَ لآمد أَمِير قديم يُقَال لَهُ إيكلدي من أَيَّام السلاطين القدماء وَولده مَحْمُود شيخ كَبِير عِنْده يطعمهُ ويسقيه وَيَدعِي أَنه من غلمانه ومصطنعيه وَأَنه يحفظ الْبَلَد لَهُ وَأَنه لَا يغدر بِهِ وَلَا يُؤثر بدله وَإِذا جَاءَ رَسُول يحضرهُ عِنْد أميره ويسند مَا يدبره إِلَى تَدْبيره وَيَقُول إِنَّه غُلَام وَمَا مَعَه كَلَام وحافظ على سر هَذِه السريرة وَأمن باحتياطه من جور الجيرة بل مَا مِنْهُم إِلَّا من يخَاف مكره ويحفظ مِنْهُ وَكره وينكر عرفه وَيعرف نكره وَلم يزل الْحصار عَلَيْهِم إِلَى أَن أذعنوا للانقياد وَخرجت نِسَاؤُهُم سحرًا إِلَى المخيم الفاضلي يطلبن الْأمان فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على أَنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 يخرجُون بعد ثَلَاث ويحملون مَا قدرُوا عَلَيْهِ من المَال والأثاث وَأَعَانَهُمْ السُّلْطَان على نقل الْأَمْوَال بالدواب وَالرِّجَال فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْأمان تسلمها السُّلْطَان وَسلمهَا إِلَى نور الدّين بن قرا أرسلان وأعمالها وَمَا فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان وعده بهَا قبل ذَلِك فأنجز لَهُ الْوَعْد وَقد كَانَ أَبوهُ عاناها مُدَّة وتمناها فَمَا قدر عَلَيْهَا ثمَّ وصف الْعِمَاد مَا كَانَ فِي قلعة آمد من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال والحواصل والأمتعة وَأَن أَصْحَابهَا لم يقدروا فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة إِلَّا على تَحْويل مَا خف مِنْهَا وَاسْتغْنى المساعدون لَهُم فِي تحويلها إِلَيْهِم وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان بِبَغْدَاد ورد إِلَى الْخَادِم التَّقْلِيد الشريف بِولَايَة آمد فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده قَالَ هَذَا مفتاحها وَسمع الْوَصَايَا فاستضاء بهَا فِي ظلمات الْقَصْد وَقَالَ هَذَا مصباحها وتناوله فَمَا ظَنّه إِلَّا كتابا أنزل عَلَيْهِ من السَّمَاء فِي قرطاس وَمَا تيقنه إِلَّا نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس فَسَار بِهِ وَلَوْلَا الْعَادة مَا استصحب جنديا وعول عَلَيْهِ وَلَوْلَا الزِّينَة مَا تقلد هنديا وطرق بَابه بإقليده ولولاه مَا اسطاع الْأَوْلِيَاء أَن يظهروه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا وناشد الْمُقِيم بتقليده ثَلَاثَة أَيَّام بِثَلَاث رسائل فَلَو كَانَ ذَا سمع أصغى وَلَو كَانَ ذَا لب لبّى فَلَمَّا انْقَضتْ ضِيَافَة أَيَّام النذارة واحتقر من بآمد نَار الْحَرْب جَاهِلا أَن وقودها النَّاس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَالْحِجَارَة عمد لَهَا فِي الْيَوْم الرَّابِع فزلزل عمدها وقاتلها فأزال جلدهَا وزيل جلمدها ثمَّ رأى أَن الشَّوْكَة رُبمَا أَصَابَت غير ذَات الشَّوْكَة من جندها وَأَن الْمُسلم قد آمنهُ الله من عَذَاب الْحَرِيق وَلَا يَأْمَن أَن تحرقه القسي من السِّهَام بشرار زندها فَعدل إِلَى منجنيقه الَّذِي أمل صَاحبهَا مِنْهُ منجى نيقه وَرَأى أَنه سَوط سطوته يضْرب الْحجر وَيضْرب عَن أَن يُبَاشر الْبشر وَتلك الأبرجة قد شمخت بأنفها ونأت بعطفها وتاهت على وامقها وغضت عين رامقها فَهِيَ فِي عِقَاب لوح الجو كالطائر إِلَّا أَن المنجنيق أغرى بهَا عقابيه وضغمها بمخلبيه وجثم أمامها يخاصمها وَقَامَ إِلَى الْغَيْر يحاكمها وَيضْرب بعصاه الْحجر فتنبجس من النقوب أعين لَا ترسل المَاء وَلَكِن تروي العطاش إِلَى منهل الْمَدِينَة وتنهل الظماء كَذَلِك أَيَّامًا حَتَّى محا من الشرفات شنب ثغرها وتناوبها كأس فتك تبين بهز أبراجها آثَار سكرها وعلت الْأَيْدِي الرامية لَهَا وغلت الْأَيْدِي المحامية عَنْهَا فَلم يبْق على سورها من يفتح جفنا وَشن المنجنيق عَلَيْهَا غارته إِلَى أَن صَارَت شنا وفضت صناديق الْحِجَارَة المقفلة وفصلت مِنْهَا أَعْضَاء السُّور الْمُتَّصِلَة وَوَجَب الْقِتَال لِئَلَّا يظنّ بالخادم أَلا جند لَهُ إِلَّا جندله فأوعز بالتقدم إِلَيْهَا وَدخُول النقابين فِيهَا فأثخنت جراحا بالنقوب وهتك الْحجاب من أضالع الْبَلَد فكاد يُوصل إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْقُلُوب وخشيت معرة الْجَيْش فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وَقت هجمه وروسل صَاحبهَا بِأَنَّهُ كشف لَهُ الخذلان حَتَّى بصر على شكه بِعِلْمِهِ فَأَعَادَ الرَّسُول مستكنفا بحجب النجَاة بإرسال ذَوَات الْحجاب وإبرازهن ومستكفا ليد الْقَتْل بِمن لم يكن جَوَابه غير إحرازه وإحرازهن وَلم يُعَارض فِي نَفسه وَلَا فِي قومه وَلَا فِي أَمْوَاله وَهِي مَا هِيَ ذخائر موفرة ومكاسب من أرباح مخسرة كَانَت الْحُقُوق عَنْهَا مذودة والآمال دونهَا مطرودة وغض الْخَادِم كل عين عَن عينه وورقه وصانه فِي مخيمه من الْفقر صيانته فِي ذَات سوره وخندقه وَاسْتوْفى شَرط الْوَفَاء بِمَا أعطَاهُ من موثقه وَهَذِه آمد فَهِيَ مَدِينَة ذكرهَا بَين الْعَالم متعالم وطالما صادم جَانبهَا من تقادم فَرجع مقدوعا أَنفه وَإِن كَانَ فحلا وقرعها فريد الهمة واستصحب حفلا وَرَأى حجرها فَقدر أَنه لَا يفك لَهُ حجر وسوادها فَحسب أَنه لَا ينسخه فجر وحمية أنف أنفها فَاعْتقد أَنه لَا يستجيب لزجر من مُلُوك كلهم طوى صَدره على الغليل إِلَى موردها ووقف بهَا وقُوف الْمُحب الْمسَائِل فَلم يفز بِمَا أمل من جَوَاب معهدها ثمَّ ذكر تَسْلِيمهَا إِلَى ابْن قرا أرسلان ثمَّ قَالَ وَلما رأى صَاحب ميافارقين أَن أُخْت صاحبته قد ابتني بهَا خَافَ أَن يجمع لَهُ بَين الْأُخْتَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فراسل ببذل الْخدمَة الَّتِي يكون فِيهَا لنُور الدّين ثَانِي اثْنَيْنِ ثمَّ ذكر اجْتِمَاع المواصلة وشاه أرمن وَصَاحب ماردين وَصَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم على قصد الْخَادِم ونزلوا تَحت الْجَبَل فَلَمَّا صَحَّ عِنْدهم قَصده ظنُّوا أَنه وَاقع بهم فَأخذُوا أَعِنَّة الْفِرَار بِقُوَّة وَذكروا مَا فِي لِقَائِه من عوائد كَانَت عِنْدهم مخوفة وَعِنْده مرجوة وَسَار كل فريق على طَرِيق بنية عَدو وَفعل صديق وَالْخَادِم يَقُول مهما أَرَادَت فِيهِ الآراء الشَّرِيفَة أَتَاهُ وَمهما نَوَت فِيهِ من إِحْسَان قرب عَلَيْهِ مَا نَوَاه فَهَذِهِ آمد لما أرسل إِلَيْهِ مفتاحها وَهُوَ التَّقْلِيد فتحهَا وَهَذِه الْموصل لما تَأَخّر عَنهُ الْمِفْتَاح منعهَا وَمَا منحها وَلَو أعين بِهِ لعظمت على الْإِسْلَام عائدته وَظَهَرت فِي رفع مناره فَائِدَته لِأَن الْيَد كَانَت تكون بِهِ على عَدو الْحق وَاحِدَة والهمة لآلات النَّصْر واجدة فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُمَيّز بَين أوليائه وَينظر أَيهمْ أبر بأوليائه وَأَشد على أعدائه وأقوم بِحقِّهِ وَحقّ آبَائِهِ وَأثبت رَأيا وروية فِي مَوَاقِف راياته ومجالس آرائه وَأعظم إقداما على ملحدين كلهم كَانَ ينازعه رِدَاء علائه وَكَانَ السَّابِق من وُلَاة الدولة العباسية قَاصِر السَّيْف عَن أَن نسيغ الغصة بمائه وأيهم أترك للْفراش الممهد وأهتك للطراف الممدد وأهجر فِي سَبِيل الله لراحه وأصبر فِي جِهَاد عَدو الله على مضض جراحه وأسلى عَن رَيْحَانَة فؤاد وَأكْثر ممارسة لحية وَاد فيختار لهَذِهِ الْأمة الَّتِي جعله الله لَهَا إِمَامًا وأميرا أسعد من أجْرى فِي طَاعَته ضامرا وملأ بولائه ضميرا فَمن عدله أَن يولي عَلَيْهَا الْعدْل الَّذِي يقر عينهَا وَمن فَضله أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 لَا ينسى الْفضل بَينهَا وَقد ورد ذَلِك المنشور بآمد فأورد الميسور بِأَن ورده المنشور الْمشَار إِلَيْهِ بالجزيرة وَمَا وسقت فَإِنَّهُ نور على نور وَمَا يحْسب الْخَادِم أَن كيدا لِلْعَدو الْكَافِر أكيد وَلَا جهدا لأهل الضلال أجهد وَلَا عَائِدَة بغيظ رُؤَسَاء أهل الْإِلْحَاد أَعُود من تفخيم أَمر الْخَادِم بمزيد الِاسْتِخْدَام وَإِلَّا فَلْينْظر هَل يشق على الْكفَّار مزِيد أحد سواهُ من وُلَاة الْإِسْلَام فَكل ذِي سُلْطَان هُوَ الطاعم الكاسي المحمي بالمناصل لَا الحامي المكفي لَا الْكَافِي يقْضِي عمره وَهُوَ لَا يشْهد الطعْن إِلَّا فِي الميدان وَلَا يتَمَثَّل الْهَام طائرا لَوْلَا الكرة فِي الصولجان وَلَا يشقى بسهمه إِلَّا قرطاسه وَلَا يحظى برفده إِلَّا أكياسه فَأَعَادَ الله بأمير الْمُؤمنِينَ هَذَا الدّين إِلَى معالم حَقه الأولى وَأطَال يَد سُلْطَانه الطُّولى إِلَى أَن تَأْخُذ الْأُمُور مآخذها عدلا واعتدالا وسلما وقتالا فتعود إِلَى الْإِسْلَام عوائد ارتياحه وَأَيَّام منصوره وسفاحه وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد أصدر هَذِه الْوَسِيلَة إِلَى الْمجْلس السَّامِي معولا على كرمه فِيمَا حَملته من اللبانة مستغنيا بشهرة الْحَال المتجددة عَن الْإِبَانَة فَإِن آمد قصر الأمد فِي الظفر بهَا وإنقاذها من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت تلبس نَهَارهَا نقبة غيهبها وَسَار إِلَيْهَا بِبَقِيَّة العساكر يعد الَّذين سَارُوا إِلَى الشَّام وَأَقَامُوا قبالة الْكفَّار بعدة اقْتصر عَلَيْهَا أَكْثَرهَا من عَسَاكِر الديار المصرية على بعد تِلْكَ الديار ليظْهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 لمن نوى المناواة ويتبين لمن كَانَ على مُنَافَاة الملاقاة أَن رجَالًا من مصر فتحُوا آمد بعد سنة من البيكار وَبعد غزوتين قد طولع بهما فِي تواريخهما إِلَى الْكفَّار فَفِي ذَلِك مَا يغص الْحَاسِد ويغض الحاقد وَيعلم أَن فِي أَوْلِيَاء الدولة مَا رد كل مارد فَلَمَّا حل بعقوتها أَرَادَ أَن يجْرِي الْأَمر على صَوَابه ويلج الْأَمر من بَابه وَأَن ينذر المغتر ويوقظه ويعظه بالْقَوْل الَّذِي رأى من الرِّفْق أَلا يغلظه فَبعث إِلَيْهِ أَن يهب من كراه ويعد لضيف التَّقْلِيد قراه وينجو بِنَفسِهِ منجى الذُّبَاب وَلَا يتَعَرَّض لِأَن يكون منتجى للذباب فَإِذا عريكته لَا تلين إِلَّا بالعراك وطريدته لَا تصاد إِلَّا بالأشراك فهناك رأى عَاجلا مَا هُنَاكَ وقوتل حق الْقِتَال فِي يَوْم وَاحِد عرف مَا بعده من الْأَيَّام وَوَقع الإشفاق من روعة الْحَرِيم وَسَفك الدَّم الْحَرَام وَنصب المنجنيقات فَأرْسل عارضها مطره وَفطر السُّور بقدرة الَّذِي فطره وخطب أمامها خطيب خطبه وأغمد الصارم اكْتِفَاء بضربه وترفه أهل الْحَرْب لحسن المناب مِنْهُ عَن حربه فَصَارَ فِي أقرب الْأَوْقَات جبلها كثيبا مهيلا وعفرت الأبرجة وَجها تربا وَنظرت القلعة نظرا كليلا حَتَّى إِذا أمكنت النقوب أَن تُؤْخَذ وكبد السُّور أَن تفلذ رأى الَّذِي لَا يصبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 على بعضه وَاعْتذر إِلَيْهِ الْبناء الَّذِي بِنَاء الْأَمر إِن لم يقضه فَلَا بُد من نقضه وَسَأَلَ فَأُجِيب إِلَى الْأمان على نَفسه وَخرج مِنْهَا وَإِنَّمَا أخرجه الظُّلم وَسلم وَهُوَ يرى السَّلامَة إِمَّا من الْحلم وَإِمَّا من الْحلم ثمَّ قَالَ وَلَوْلَا تَقْلِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ لما فتح لَهُ الْبَاب الَّذِي قرعه وَلَا أنزل عَلَيْهِ النَّصْر الَّذِي أنزل مَعَه وَلَا ساعد سَيْفا ساعد وَلَا نَالَتْ يَد مدت من مصر فَأخذت آمد وَمن بآمد وَلَو قبلت مَسْأَلته فِي تَقْلِيد الْموصل لَكَانَ ولجها وَلَو بدلجة ادلجها وَأَخذهَا وَلَو بحصاة نبذها وَهُوَ يتَوَقَّع فِي جَوَاب هَذَا الْفَتْح أَن يمد بِجَيْش هُوَ الْكَلَام ورماح هِيَ الأقلام وَنصر هُوَ وَافد الْأَمر وترشيد هُوَ فك الْحجر وَلَيْسَ ذَلِك لوسائل تقدّمت من دولة أَقَامَهَا بعد ميل عروشها وَلَا لدَعْوَة قَامَ فِيهَا بِمَا تصاغرت دونه همم جيوشها وَلَكِن لِأَن هَذِه الجزيرة الصَّغِيرَة مِنْهَا تنبعث الجريرة الْكَبِيرَة وَهِي دَار الْفرْقَة ومدار الشقة وَلَو انتظمت فِي السلك لانتظم جَمِيع عَسْكَر الْإِسْلَام فِي قتال الشّرك ولكان الْكفْر يلقِي بيدَيْهِ وينقلب على عَقِبَيْهِ ويغشاه الْإِسْلَام من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ ويغزى من مصر برا وبحرا وَمن الشَّام سرا وجهرا وَمن الجزيرة مدا وجزرا وَيكون خادمه قد وَجب أَن يتَمَثَّل بقوله تَعَالَى {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى} وَمن كتاب آخر كتَابنَا هَذَا وَالْمَدينَة قد فتحت أَبْوَابهَا وعذقت بدولتنا أَسبَابهَا وَتكلم لِسَان علمنَا فِي فَم قلعتها وَبعد أَن لبستها دولتنا وَفينَا بموعد خلعتها فَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ النِّعْمَة بِحَمْدِهِ وينجح الأمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 بِقَصْدِهِ {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} قَالَ الْعِمَاد ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة آمد وَجلسَ فِي دَار الْإِمَارَة وَحلف نور الدّين بن قرا أرسلان على أَنه يظْهر بهَا الْعدْل ويقمع الْجور وَيكون سَامِعًا مُطيعًا للسُّلْطَان من معاداة الْأَعْدَاء ومصافاة الخلان فِي كل وَقت وزمان وَأَنه مَتى استمده من آمد لقِتَال الفرنج وجده لذَلِك يقظان وَإِلَيْهِ عطشان قَالَ وَكَانَ هَذَا نور الدّين فِي خدمَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَعَسْكَره مُنْذُ عبر الْفُرَات ثمَّ إِن رسل مُلُوك الْأَطْرَاف اجْتمعت عِنْد السُّلْطَان كل يطْلب لصَاحبه الْأمان وَأَن يَتَّخِذهُ من جملَة الأعوان مِنْهُم صَاحب ماردين وَصَاحب ميافارقين وهما قَرِيبا ابْن قرا أرسلان فَرد السُّلْطَان كل رَسُول بسوله وَأجَاب إقباله بقبوله ثمَّ رَحل السُّلْطَان من آمد وَعبر الْفُرَات لقصد حلب وولاياتها فتسلم فِي طَرِيقه تل خَالِد بِالرُّعْبِ وَلم يكن مِنْهُم بِالْقربِ فَأقر أَهلهَا فِيهَا ثمَّ نزل على عين تَابَ فبادر صَاحبهَا نَاصح الدّين مُحَمَّد بن خمارتكين إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ بِالْإِحْسَانِ وَقَالَ ابْن أبي طي تسلم السُّلْطَان تل خَالِد فِي رَابِع عشر محرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وَسلمهَا إِلَى بدر الدّين دلدرم وَمن كتاب فاضلي نزلنَا تل خَالِد يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر محرم وَكَانَ قد تقدمنا الْأَجَل تَاج الْمُلُوك إِلَيْهَا وأناخ عَلَيْهَا وقابلها وقاتلها وعالجها وَلَو شَاءَ لعاجلها وَلما أطلت عَلَيْهَا راياتنا ألْقى من فِيهَا بِيَدِهِ وأنجز النَّصْر صَادِق موعده وأرسلتها حلب مُقَدّمَة لفتحها وَقد أنعم الله علينا بنعم لَا نحصيها تعدادا وَلَا نستقصيها اعتدادا وَلَا نستوعبها وَلَو كَانَ النَّهَار طرسا وَالْبَحْر مدادا ورايتنا المنصورة قد صَارَت مغناطيس الْبِلَاد تجذبها بطبعها وسيوفنا قد صَارَت مفاتح الْأَمْصَار تفتحها بنصر الله لَا بحدها وَلَا بقطعها قلت وَمَا أحسن مَا قَالَ التلعفري من قصيدة لَهُ فِي السُّلْطَان (قل للملوك تنحوا عَن ممالككم ... فقد أَتَى آخذ الدُّنْيَا ومعطيها) فصل فِي فتح حلب قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما عَاد السُّلْطَان بَدَأَ بتل خَالِد فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها وَأَخذهَا فِي ثَانِي عشر محرم سنة تسع وَسبعين ثمَّ سَار إِلَى حلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 فَنزل عَلَيْهَا فِي سادس عشري الْمحرم وَكَانَ أول نُزُوله بالميدان الْأَخْضَر وسير الْمُقَاتلَة يُقَاتلُون ويباسطون عَسْكَر حلب ببانقوسا وَبَاب الْجنان غدْوَة وَعَشِيَّة وَفِي يَوْم نُزُوله جرح أَخُوهُ تَاج الْمُلُوك وَكَانَ عماد الدّين زنكي قبل ذَلِك قد خرج وَخرب قلعة عزاز فِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَخرب حصن كفرلاثا وَأَخذهَا من بكمش فَإِنَّهُ كَانَ قد صَار مَعَ السُّلْطَان وَقَاتل تل بَاشر فَلم يقدر عَلَيْهَا وَجَرت غارات من الفرنج على الْبِلَاد بِحكم اخْتِلَاف العساكر قَالَ وَلما نزل السُّلْطَان على حلب استدعى العساكر من الجوانب فَاجْتمع خلق كثير وقاتلها قتالا شَدِيدا وَتحقّق عماد الدّين زنكي أَنه لَيْسَ لَهُ بِهِ قبل وَكَانَ قد ضرس من اقتراح الْأُمَرَاء عَلَيْهِ وجبههم فَأَشَارَ إِلَى حسام الدّين طمان أَن يسفر لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي إِعَادَة بِلَاده وَتَسْلِيم حلب إِلَيْهِ واستقرت الْقَاعِدَة وَلم يشْعر أحد من الرّعية وَلَا من الْعَسْكَر حَتَّى تمّ الْأَمر ثمَّ أعلمهم وَأذن لَهُم فِي تَدْبِير أنفسهم فأنفذوا عَنهُ وَعَن الرّعية عز الدّين جرديك وزين الدّين بلك فبقوا عِنْده إِلَى اللَّيْل واستحلفوه على الْعَسْكَر وعَلى أهل الْبَلَد وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر صفر وَخرجت العساكر إِلَى خدمته إِلَى الميدان الْأَخْضَر ومقدمو حلب وخلع عَلَيْهِم وَطيب قُلُوبهم وَأقَام عماد الدّين بالقلعة يقْضِي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إِلَى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري صفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وَفِيه توفّي تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان من الْجرْح الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ وشق عَلَيْهِ أَمر مَوته وَجلسَ للعزاء قلت وَكَانَ أَصْغَر أَوْلَاد أَيُّوب ذكر ابْن القادسي أَن مولده سنة سِتّ وَخمسين فِي ذِي الْحجَّة فَيكون عمره اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وشيئا وَأنْشد لَهُ شعرًا وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فِي كتاب الخريدة إِنَّه لم يبلغ الْعشْرين سنة وَله نظم لطيف وَفهم شرِيف ثمَّ قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن وَفِي ذَلِك الْيَوْم نزل عماد الدّين إِلَى خدمته وَعَزاهُ وَسَار مَعَه بالميدان الْأَخْضَر وتقررت بَينهمَا قَوَاعِد وأنزله عِنْده بالخيمة وَقدم لَهُ تقدمة سنية وخيلا جميلَة وخلع على جمَاعَة من أَصْحَابه وَسَار عماد الدّين من يَوْمه إِلَى قرا حِصَار سائرا إِلَى سنجار وَأقَام السُّلْطَان بالمخيم بعد مسير عماد الدّين غير مكترث بِأَمْر حلب وَلَا مستعظم لشأنها إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشري صفر ثمَّ صعد فِي ذَلِك الْيَوْم قلعة حلب مَسْرُورا منصورا وَعمل لَهُ حسام الدّين طمان دَعْوَة سنية وَكَانَ قد تخلف لأخذ مَا تخلف لعماد الدّين من قماش وَغَيره وَقَالَ الْعِمَاد وصل السُّلْطَان إِلَى حلب وفيهَا عماد الدّين زنكي بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 مودود الَّذِي كَانَ صَاحب سنجار وَقد تحصن بِكَثْرَة الأجناد وَالْعدَد وَأَرَادَ مُقَابلَة السُّلْطَان ومقاتلته وَأَرَادَ السُّلْطَان أَن يظفر بهَا بِدُونِ ذَلِك من الْقِتَال وعداوة الرِّجَال لَكِن الشَّبَاب وجهال الْأَصْحَاب راموا الْقِتَال وأحبوا النزال وتقدموا وأقدموا وَالسُّلْطَان ينهاهم فَلَا ينتهون وَكَانَ فيهم تَاج الْمُلُوك بوري أَخُو السُّلْطَان فطعن فِي فَخذه ثمَّ مَاتَ بعد ذَلِك بأيام بعد فتح الْبَلَد وَكَانَ السُّلْطَان ذَلِك الْيَوْم قد صنع وَلِيمَة لعماد الدّين زنكي وَكَانَ السُّلْطَان أول مَا نزل على حلب نزل فِي صدر الميدان الْأَخْضَر وَذَلِكَ فِي زمن الرّبيع الأنضر ثمَّ رَحل وَنزل على جبل جوشن وَنهى عَن الْقِتَال وَقَالَ نَحن هَاهُنَا نستغل الْبِلَاد وَمَا علينا من الْحصن الَّذِي بلغ مِنْهُ هَذَا العناد وَنفذ رسل التَّرْهِيب إِلَيْهِم ففكر عماد الدّين زنكي فِي أمره وَرَأى أَن الصَّوَاب مصالحة السُّلْطَان فنفذ سرا إِلَيْهِ حسام الدّين طمان وَصَالَحَهُ وحلفه على أَن يسلم إِلَيْهِ حلب وَيرد عَلَيْهِ بَلْدَة سنجار فَفعل وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج وَاشْترط عَلَيْهِ إرْسَال الْعَسْكَر فِي الْخدمَة للغزاة وَمن كتب فاضلية تسلمنا مَدِينَة حلب وقلعتها بسلم وضعت بِهِ الْحَرْب أَوزَارهَا وَبَلغت بهَا الهمم أوطارها وَعوض صَاحبهَا بِمَا لم يخرج عَن الْيَد لِأَنَّهُ مشترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة بِنَفسِهِ وَعَسْكَره ومختلط بِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أحد الْأَوْلِيَاء فِي مغيبه ومحضره عوض عماد الدّين عَنْهَا من بِلَاد الجزيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فَهُوَ صرف بِالْحَقِيقَةِ أَخذنَا فِيهِ الدِّينَار وأعطينا الدَّرَاهِم ونزلنا عَن المبيحات وأحرزنا العواصم وسرنا أَنَّهَا انجلت وَالْكَافِر الْمُحَارب وَالْمُسلم المسالم واشترطنا على عماد الدّين الْخدمَة والمظاهرة والحضور فِي مَوَاقِف الْغَزْو والمصابرة فانتظم الشمل الَّذِي كَانَ نثيرا وَأصْبح الْمُؤمن بأَخيه كثيرا وَزَالَ الشغب وأخمد اللهب واتصل السَّبَب وَأخذت للغزاة الأهب ووصلت إِلَى غايتها همة الطّلب والألفة وَاقعَة والمصلحة جَامِعَة وأشعة أنوار الِاتِّفَاق شائعة فتحنا مَدِينَة حلب بسلم مَا كشفت لحرمتها قناعا وتسلمنا قلعتها الَّتِي ضمنت أَن نتسلم بعْدهَا بِمَشِيئَة الله قلاعا وَعوض صَاحبهَا من بِلَاد الجزيرة مَا اشْترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة فِي الْجِهَاد بالعدة الموفورة فَهِيَ بيدنا بِالْحَقِيقَةِ لِأَن مرادنا من الْبِلَاد رجالها لَا أموالها وشوكتها لَا زهرتها ومناظرتها لِلْعَدو لَا نضرتها وَأَن تعظم فِي الْعَدو الْكَافِر نكايتها لَا أَن تعذق بالولي الْمُسلم ولايتها والأوامر بحلب نَافِذَة والرايات بأطراف قلعتها آخذة وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون وَقد بلغُوا مَا كَانُوا يؤملون وأمنوا مَا كَانُوا يحذرون وَعوض صَاحبهَا بِبِلَاد من الجزيرة على أَن تكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 العساكر مجتمعة على الْأَعْدَاء مرصدة للاستدعاء فالبلاد بِأَيْدِينَا لنا مغنمها ولغيرنا مغرمها وَفِي خدمتنا مَا لَا نسمح بِهِ وَهُوَ عسكرها وَفِي يَده مَا لَا نضن بِهِ وَهُوَ درهمها شرطنا على عماد الدّين النجدة فِي أَوْقَاتهَا والمظاهرة على العداة عِنْد ملاقاتها فَلم يخرج منا بلد إِلَّا إِلَيْنَا عَاد عسكره وَإِنَّمَا استنبنا فِيهِ من يحمل عَنَّا مُؤْنَته ويدبره وَيكون عساكره إِلَى عساكرنا مُضَافَة ونتمثل قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة} ونشعر الْأَمِير بِمَا من الله بِهِ من فتح مَدِينَة حلب الَّتِي هِيَ مِفْتَاح الْبِلَاد وتسلم قلعتها الَّتِي هِيَ أحد مَا رست بِهِ الأَرْض من الْأَوْتَاد فَللَّه الْحَمد وَأَيْنَ يَقع الْحَمد من هَذِه الْمِنَّة ونسأل الله الْغَايَة الْمَطْلُوبَة بعد هَذِه الْغَايَة وَهِي الْجنَّة وصدرت هَذِه الْبُشْرَى والموارد قد أفضت إِلَى مصادرها وَالْأَحْكَام فِي مَدِينَة حلب نَافِذَة فِي باديها وحاضرها وقلعتها قد أناف لواؤنا على أنفها وقبضت على عقبه بكفها واعتذرت من لِقَائِه أمس برشفها ورأينا أَن نتشاغل بِمَا بورك لنا فِيهِ من الْجِهَاد وَأَن نوسع المجال فِيمَا يضيق بِهِ تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد قلت وَلأبي الْحسن بن الساعاتي فِي مدح السُّلْطَان عِنْد إِرَادَة فتح حلب قصيدة مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 (مَا بعد لقياك للعافين من أمل ... ملك الْمُلُوك وهذي دولة الدول) (فانهض إِلَى حلب فِي كل سَابِقَة ... سُرُوجهَا قلل تغني عَن القلل) (مَا فتحهَا غير إقليد الممالك والداعي ... إِلَيْهِ جَمِيع الْخلق والملل) (وَمَا عَصَتْ مَنْعَة لكنه غضب ... علام أهملتها إهمال مبتذل) (غارت وحقك من جاراتها فشكت ... مَا باله باقتضاضي غير محتفل) قلت وَهَذَا معنى حسن يُشِير إِلَى أَنَّهَا كَانَت من آخر الْبِلَاد الإسلامية فتحا على يَدَيْهِ فَلهَذَا غضِبت إِذْ كَانَ من حَقّهَا لجلالة قدرهَا أَن تخْطب أَولا وللقاضي السعيد ابْن سناء الْملك من قصيدة (بدولة التّرْك عزت مِلَّة الْعَرَب ... وبابن أَيُّوب ذلت بيعَة الصلب) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 (إِن العواصم كَانَت أَي عَاصِمَة ... معصومة بتعاليها عَن الرتب) (جليسة النَّجْم فِي أَعلَى مراتبه ... وطالما غَابَ عَنْهَا وَهِي لم تغب) (وَمَا نَعته كمعشوق تَمنعهُ ... أحلى من الشهد أَو أشهى من الضَّرْب) (فَمر عَنْهَا بِلَا غيظ وَلَا حنق ... وَسَار عَنْهَا بِلَا حقد وَلَا غضب) (تطوي الْبِلَاد وأهليها كتائبه ... طيا كَمَا طوت الْكتاب للكتب) (أَرض الجزيرة لم تظفر ممالكها ... بِمَالك فطن أَو سائس درب) (ممالك لم يدبرها مدبرها ... إِلَّا بِرَأْي خصي أَو بعقل صبي) (حَتَّى أَتَاهَا صَلَاح الدّين فانصلحت ... من الْفساد كَمَا صحت من الوصب) (وَقد حواها وَأعْطى بَعْضهَا هبة ... فَهُوَ الَّذِي يهب الدُّنْيَا وَلم يهب) (ومذ رَأَتْ صده عَن ربعهَا حلب ... وَوَصله لبلاد حلوة الخلب) (غارت عَلَيْهِ ومدت كف مفتقر ... مِنْهَا إِلَيْهِ وأبدت وَجه مكتئب) (واستعطفته فوافتها عواطفه ... وأكثب الصُّلْح إِذْ نادته عَن كثب) (وَحل مِنْهَا بأفق غير منخفض ... للصاعدين وبرج غير مُنْقَلب) (فتح الْفتُوح بلامين وَصَاحبه ... ملك الْمُلُوك ومولاها بِلَا كذب) وَقَالَ ابْن أبي طي وَكَانَ كثير من الشُّعَرَاء يحرضون السُّلْطَان على فتح حلب مِنْهُم أَبُو الْفضل بن حميد الْحلَبِي لَهُ من قصيدة (يَا ابْن أَيُّوب لَا بَرحت مدى الدَّهْر ... رفيع الْمَكَان وَالسُّلْطَان) (حلب الشَّام نَحْو مرآك ولهى ... وَله الصب ريع بالهجران) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي فِي قصيدة (دُونك والحسناء من أم الْقرى ... وبازها الْأَشْهب والطود الأشم) (واركب إِلَى العلياء كل صعبة ... أَبيت لعنا وخلاك كل ذمّ) (وارم فَكل الصَّيْد فِي جَوف الفرا ... لَا صارد السهْم وَلَا نابي الحكم) (مد إِلَى أُخْت السهاء زورة ... لَا فرق يعقبها وَلَا نَدم) (فيا لَهَا شماء مشمخرة ... تطارح الْبَرْق وساحات الديم) (ايه صَلَاح الدّين شدّ أزرها ... واعزم عَلَيْهَا فالزمان قد عزم) (ودونك المنعة من قبابها ... وبابها المغلق فِي وَجه الْأُمَم) قَالَ وَفِي آخر يَوْم السبت ثامن عشر صفر نشر سنجق السُّلْطَان الْأَصْفَر على سور قلعة حلب وَضربت لَهُ البشائر وَفِي ذَلِك الْوَقْت تخفى عماد الدّين وَخرج من القلعة لَيْلًا إِلَى الخيم وَأخذ فِي إِخْرَاج مَا كَانَ لَهُ فِي القلعة من مَال وَسلَاح وأثاث وَكَانَ استناب الْأَمِير حسام الدّين طمان فِي القلعة حَتَّى توافي رسله بِتَسْلِيم سنجار ونصيبين والخابور إِلَى نوابه وَأعْطى السُّلْطَان طمان الرقة لوساطته فِي أَمر عماد الدّين وَكَانَ السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 شَرط أَنه مَا يُرِيد من حلب إِلَّا الْحجر فَقَط وَأذن لعماد الدّين فِي أَخذ جَمِيع مَا فِي القلعة وَمَا يُمكنهُ حمله فَلم يتْرك عماد الدّين فِيهَا شَيْئا وَبَاعَ فِي السُّوق كل مَا لم يتَمَكَّن من حمله وَأطلق لَهُ السُّلْطَان بغالا وجمالا وخيلا برسم حمل مَا يحْتَاج إِلَى حمله وَعمل لَهُ يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر صفر دَعْوَة عَظِيمَة فِي الميدان الْأَخْضَر وأحضرها جَمِيع الْأُمَرَاء ومقدمي حلب قَالَ وبينما السُّلْطَان على لذته بالدعوة وَالْأَخْذ وَالعطَاء والإنعام والحباء إِذْ حضر إِلَيْهِ من عَرَفَة وَفَاة أَخِيه تَاج الْمُلُوك بِسَبَب الضَّرْبَة الَّتِي أَصَابَته على حلب فَلم يتَغَيَّر لذَلِك وَلَا اضْطِرَاب وَلَا انْقَطع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من البشاشة والفرح وبذل الْإِحْسَان وَأمر بستر ذَلِك وتوعد عَلَيْهِ إِن ظهر وكظم حزنه وأخفى رزيته وصبر على مصيبته وَلم يزل على طلاقته وبشاشته إِلَى وَقت الْعَصْر وَفِي ذَلِك الْوَقْت انْقَضتْ الدعْوَة وتفرق النَّاس فَحِينَئِذٍ قَامَ رَحمَه الله واسترجع وَبكى على أَخِيه ثمَّ أَمر بِهِ فَغسل وكفن وَصلى عَلَيْهِ وَأمر بِهِ فَدفن فِي مقَام إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِظَاهِر حلب ثمَّ حمله بعد ذَلِك إِلَى دمشق وَدَفنه بهَا قَالَ وَكَانَ تَاج الْمُلُوك شَابًّا حسن الشَّبَاب مليح الأعطاف عذب الْعبارَة حُلْو الفكاهة مليح الرَّمْي بِالْقَوْسِ والطعن بِالرُّمْحِ وَكَانَ شجاعا باسلا مقداما على الْأَهْوَال وَكَانَ قد جمع إِلَى ذَلِك الْكَرم والتفنن فِي الْأَدَب وَله ديوَان شعر حسن متوسط فَمِنْهُ (يَا هَذِه وأماني النَّفس قربكم ... يَا ليتها بلغت مِنْكُم أمانيها) (إِن كَانَت الْعين مذ فارقتكم نظرت ... إِلَى سواكم فخانتني أماقيها) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 قَالَ وَلما انْقَضتْ تَعْزِيَة السُّلْطَان بأَخيه خلع على النَّاس فِي الْيَوْم الرَّابِع وَفرق فِي وُجُوه الحلبيين الْأَمْوَال وَفِي سادس عشر صفر ورد أَصْحَاب عماد الدّين وأحضروا إِلَيْهِ العلائم بتسلم سنجار ونصيبين والخابور فَفِي ذَلِك الْيَوْم سلم قلعة حلب وَأنزل مِنْهَا الْأَمِير طمان وَأَصْحَابه وَلما سلمهَا إِلَى نواب السُّلْطَان ركب عماد الدّين فِي وُجُوه أَصْحَابه وأمرائه وَخرج إِلَى خدمَة السُّلْطَان ظَاهرا وَركب السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه فاجتمعا عِنْد مشْهد الدُّعَاء الَّذِي بِظَاهِر حلب من جِهَة الشمَال فتسالما وَلم يترجل أحد مِنْهُمَا لصَاحبه ثمَّ جَاءَ بعد عماد الدّين وَلَده قطب الدّين فترجل للسُّلْطَان وترجل السُّلْطَان لَهُ وأعتنقه وعادا فركبا وَسَار هُوَ وَأَبوهُ فِي خدمَة السُّلْطَان إِلَى المخيم بالميدان الْأَخْضَر فأجلس السُّلْطَان عماد الدّين مَعَه على طراحته وَقدم لَهُ تقدمة حَسَنَة عشْرين بقجة صفراء فِيهَا مئة ثوب من العتابي والأطلس وَالْمُعتق والممرش وَغير ذَلِك وَعشرَة جُلُود قندس وَخمْس خلع خَاص برسمه ورسم وَلَده ومئة قبَاء ومئة كمة وحجرتين عربيتين بأداتهما وبغلتين مسروجتين وَعشرَة أكاديش وَخمْس قطر بغال وَثَلَاث قطر جمال عربيات وقطار بخت وَلما فرغ السُّلْطَان من عرض الْهَدِيَّة قدم الطَّعَام فَلَمَّا أصَاب مِنْهُ عماد الدّين نَهَضَ للرُّكُوب وَخرج السُّلْطَان مَعَه وَركب لوداعه وَسَار مَعَه إِلَى قريب من بأبلى وودعه وَعَاد وَسَار عماد الدّين إِلَى بِلَاده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 قَالَ وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر صفر ركب السُّلْطَان وَصعد إِلَى قلعة حلب وَكَانَ صُعُوده إِلَيْهَا من بَاب الْجَبَل وَسمع وَهُوَ صاعد إِلَى قلعة حلب يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء} الْآيَة وَقَالَ وَالله مَا سررت بِفَتْح مَدِينَة كسروري بِفَتْح هَذِه الْمَدِينَة والآن قد تبينت أنني أملك الْبِلَاد وَعلمت أَن ملكي قد اسْتَقر وَثَبت وَقَالَ صعدت يَوْمًا مَعَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى هَذِه القلعة فَسَمعته يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} الْآيَة قَالَ وَلما بلغ السُّلْطَان بَاب دَار عماد الدّين قَرَأَ {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وأرضا لم تطؤوها} ثمَّ صَار إِلَى الْمقَام فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود ثمَّ خرج وَدَار فِي جَمِيع القلعة ثمَّ عَاد إِلَى المخيم وَأطلق المكوس والضرائب وسامح بأموال عَظِيمَة وَجلسَ للهناء بِفَتْح حلب وأنشده جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم يُوسُف البزاعي لَهُ من قصيدة (شرفت بسامي مجدك الشَّهْبَاء ... وتجللتها بهجة وضياء) (أَلْقَت إِلَيْك قيادها وَبهَا على ... كل الْمُلُوك ترفع وإباء) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وَمِنْهُم سعيد بن مُحَمَّد الحريري لَهُ من قصيدة تقدم بَعْضهَا (وصبحت شهباء العواصم مُصْلِتًا ... قواضب عزم لَا يفل شهيرها) (فأمطتك مِنْهَا غازيا فِيك رَاغِبًا ... وَعَاد يَسِيرا فِي يَديك عسيرها) (وأوطأت مِنْهَا أخمصيك تنوفة ... يعز على الشعرى العبور عبورها) (ورد إِلَيْهَا روح عدلك روحها ... وَكَانَت رميما لَا يُرْجَى نشورها) قَالَ وَقَالَ وَالِدي أَبُو طي النجار من قصيدة (حلب شامة الشآم وَقد زيدت ... جلالا بِيُوسُف وجمالا) (هِيَ آس الفخار من نَالَ أَعْلَاهَا ... تَعَالَى فخامة وتغالا) (وَمحل الْعَلَاء من حل فِيهَا ... تاه كبرا وَعزة وجلالا) (من حواها مملكا ملك الأَرْض ... اقتسارا سهولة وجبالا) (فافترعها مهنأ بِمحل ... سمق الأنجم الوضاء وطالا) قَالَ وحَدثني جمَاعَة من الحلبيين مِنْهُم الرُّكْن ابْن جهبل الْعدْل قَالَ كَانَ الْفَقِيه مجد الدّين بن جهبل الشَّافِعِي الْحلَبِي قد وَقع إِلَيْهِ تَفْسِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 الْقُرْآن لأبي الحكم المغربي فَوجدَ فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الرّوم} الْآيَة أَن أَبَا الحكم قَالَ إِن الرّوم يغلبُونَ فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَيفتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَيصير دَارا لِلْإِسْلَامِ إِلَى آخر الْأَبَد وَاسْتدلَّ على ذَلِك بأَشْيَاء ذكرهَا فِي كِتَابه فَلَمَّا فتح السُّلْطَان حلب كتب إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل ورقة تبشره بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس على يَدَيْهِ ويعين فِيهِ الزَّمَان الَّذِي يَفْتَحهُ فِيهِ وَأعْطى الورقة للفقيه عِيسَى فَلَمَّا وقف الْفَقِيه عِيسَى عَلَيْهَا لم يتجاسر على عرضهَا على السُّلْطَان وَحدث بِمَا فِي الورقة لمحيي الدّين بن زكي الدّين القَاضِي الدِّمَشْقِي وَكَانَ ابْن زكي الدّين واثقا بعقل ابْن جهبل وَأَنه لَا يقدم على هَذَا القَوْل حَتَّى يحققه ويثق بِهِ فَعمل قصيدة مدح السُّلْطَان بهَا حِين فتح حلب فِي صفر وَقَالَ فِيهَا (وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... قضى لكم بافتتاح الْقُدس فِي رَجَب) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَلما سمع السُّلْطَان ذَلِك تعجب من مقَالَته ثمَّ حِين فتح السُّلْطَان الْبَيْت الْمُقَدّس خرج إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل مهنئا لَهُ بفتحه وحدثه حَدِيث الورقة فتعجب السُّلْطَان من قَوْله وَقَالَ قد سبق إِلَى ذَلِك محيي الدّين بن زكي الدّين غير أَنِّي أجعَل لَك حظا لَا يزاحمك فِيهِ أحد ثمَّ جمع لَهُ من فِي الْعَسْكَر من الْفُقَهَاء وَأهل الدّين ثمَّ أدخلهُ إِلَى الْقُدس والفرنج بعد مَا خَرجُوا مِنْهُ وَأمره أَن يذكر درسا من الْفِقْه على الصَّخْرَة فَدخل وَذكر درسا هُنَاكَ وحظي بِمَا لم يحظ بِهِ غَيره قلت وَسَيَأْتِي فِي فتح بَيت الْمُقَدّس فِي فصل الْمِنْبَر ذكر مَا قَالَه أَبُو الحكم فِي تَفْسِيره وَغَيره مِمَّا يُنَاسِبه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقَالَ الْعِمَاد تمّ فتح حلب فِي صفر من هَذِه السّنة ومدح القَاضِي محيي الدّين بن الزكي السُّلْطَان بِأَبْيَات مِنْهَا (وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب) فَوَافَقَ فتح الْقُدس كَمَا ذكره فَكَأَنَّهُ من الْغَيْب ابتكره قَالَ وَيُشبه هَذَا أنني فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين طلبت من السُّلْطَان جَارِيَة من سبي الأسطول الْمَنْصُور فِي الأبيات وَهِي (يؤمل الْمَمْلُوك مَمْلُوكَة ... تبدل الوحشة بالأنس) (تخرجه من ليل وسواسه ... بطلعة تشرق كَالشَّمْسِ) (فوحدة الْعزبَة قد حركت ... سواكن البلبال والمس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 (فَلَا تدع يهدم شَيْطَانه ... مَا أحكم التَّقْوَى من الأس) (فَوَقع الْيَوْم بمطلوبه ... مِمَّا سبى الأسطول بالْأَمْس) (لَا زلت وهابا لما حازه ... سَيْفك من حور وَمن لعس) (وإنني آمل من بعْدهَا ... كرائم السَّبي من الْقُدس) قَالَ فجَاء الْأَمر على وفْق الأمل فوهب لي عَام الْقُدس مَا أملت فصل فِيمَا جرى بعد فتح حلب قَالَ ابْن أبي طي كَاتب الْوَالِي بحارم الفرنج واستدعاهم إِلَيْهِ مطمعا لَهُم فِي الِاسْتِيلَاء على حارم بِشَرْط أَن يعصموه من الْملك النَّاصِر وَعلم الأجناد بقلعة حارم بِمَا عزم عَلَيْهِ فتآمروا بَينهم فِي الْقَبْض عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الْوَالِي ينزل من القلعة ويصعد إِلَيْهَا فِي أُمُوره ولذاته فاتفق أَنه نزل مِنْهَا لبَعض شَأْنه فَوَثَبَ أهل القلعة لما خرج وَأَغْلقُوا بَابهَا وَنَادَوْا بشعار السُّلْطَان وَكَانَ السُّلْطَان راسل وَالِي حارم وبذل لَهُ فِي تَسْلِيم حارم إِلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا ولَايَة بصرى وضيعة فِي دمشق يملكهُ إِيَّاهَا وَدَار العقيقي الَّتِي كَانَ نجم الدّين أَيُّوب وَالِد السُّلْطَان يسكنهَا وحمام العقيقي بِدِمَشْق وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار عينا ولأخيه عشرَة آلَاف دِينَار فاشتط فِي السّوم وتغالى فِي الْعِوَض فأنفذ إِلَيْهِ السُّلْطَان وتوعده وتهدده فكاتب الفرنج يطْلب نجدتهم وَقيل إِن نقيب القلعة أَرَادَ أَن تنْفق سوقه عِنْد السُّلْطَان وَيحصل مِنْهُ شَيْئا فكاتب السُّلْطَان بِالْعَمَلِ على الْوَالِي فَكتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 إِلَيْهِ السُّلْطَان بتتميم ذَلِك ووعده بأَشْيَاء سكن إِلَيْهَا وَجرى الْأَمر على مَا ذَكرْنَاهُ من إغلاق الْبَاب فِي وَجه الْوَالِي وَقيل إِن النَّقِيب وَأهل القلعة لما أغلقوا الْبَاب فِي وَجهه شنعوا عَلَيْهِ بمكاتبة الفرنج وَلم يكن فعل ذَلِك إِقَامَة لعذرهم وقذفوه بِالْحِجَارَةِ وَنَادَوْا بشعار السُّلْطَان وَلما اتَّصل بالسلطان هَذِه الْأَحْوَال أنفد تَقِيّ الدّين إِلَى حارم ليتسلمها فَامْتنعَ النَّقِيب وَأهل القلعة من تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فَرَحل السُّلْطَان إِلَيْهَا بِنَفسِهِ جَرِيدَة فَلَمَّا أشرف عَلَيْهَا نزل إِلَيْهِ النَّقِيب ووجوه القلعيين وسلموها إِلَيْهِ فِي تَاسِع عشر صفر وَلما حَضَرُوا عِنْد السُّلْطَان حدثوه بكيفية الْحَال وَكَانَ بدر الدّين حسن ابْن الداية حَاضرا فَقَالَ للسُّلْطَان يَا مَوْلَانَا لَا تلْتَفت إِلَى هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم آذوا هَذَا الْوَالِي وكذبوا عَلَيْهِ حَتَّى فوتوه مَا كَانَ السُّلْطَان وعده بِهِ وَمَا قلت هَذَا إِلَّا عَن تجربة فإنني لما كنت مُتَوَلِّيًا لهَذِهِ القلعة جرى عَليّ من كذبهمْ فِي حَقي وتخرصهم عَليّ أمورا كدت بهَا أهلك مَعَ نور الدّين وهم كَانُوا سَبَب خروجي من هَذِه القلعة وَأَنا أرى أَن السُّلْطَان يقرهم فِي القلعة على هَذِه التجربة فَضَحِك السُّلْطَان وَأمر لَهُم بِمَا كَانَ وعدهم بِهِ وَأفضل عَلَيْهِم وَولى القلعة غَيرهم وَقَالَ لِابْنِ الداية إِن بَين أَيْدِينَا أمكنة نُرِيد أَخذهَا وَمَتى لم نف بِمَا نعد ونجزل الْعَطاء لم يَثِق بِنَا أحد وَبَات السُّلْطَان بقلعة حارم لَيْلَتَيْنِ وَعَاد إِلَى حلب فِي ثَالِث ربيع الأول فرتبها وَقرر وَلَده الظَّاهِر سُلْطَانا بهَا وَقرر لَهُ فِي كل شهر أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَعشْرين كمة وقباء وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام وَغَيره وَجعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 مَعَه واليا سيف الدّين أزكش الْأَسدي وَولى حسام الدّين تميرك الخليفتي شحنة حلب وَولى الدِّيوَان نَاصح الدّين إِسْمَاعِيل بن العميد الدِّمَشْقِي وَدَار الضَّرْب فَضرب الدِّرْهَم الناصري الَّذِي سكته خَاتم سُلَيْمَان وَنقل الخطابة من بني العديم إِلَى أبي البركات بن الْخَطِيب هَاشم بسفارة القَاضِي الْفَاضِل وَولى الْقَضَاء لمحيي الدّين بن زكي الدّين الدِّمَشْقِي فاستناب فِيهِ ابْن عمته أَبَا الْبَيَان نبأ بن البانياسي وَولى الْجَامِع وَالْوُقُوف لأبي عَليّ بن العجمي وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ فِي قلعة صارم مَمْلُوك من مماليك نور الدّين رَحمَه الله فعصى وتأبى عَن تَسْلِيمهَا فَأخْرجهُ مِنْهَا أَهلهَا لما اتَّهَمُوهُ بمكاتبة الفرنج وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان فتسلمها ودبر أمرهَا وأحكمها وَقَالَ ابْن شَدَّاد أنفذ إِلَى حَازِم من يتسلمها ودافعهم الْوَالِي فأنفذ الأجناد الَّذين بهَا يستحلفونه فوصل خبرهم إِلَيْهِ يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشري صفر فَحلف لَهُم وَسَار من وقته إِلَى حارم فوصلها تَاسِع عشري صفر فتسلمها وَبَات بهَا لَيْلَتَيْنِ وَقرر قواعدها وَولى فِيهَا إِبْرَاهِيم بن شروه وَعَاد إِلَى حلب فَدَخلَهَا ثَالِث ربيع الأول ثمَّ أعْطى العساكر دستورا فَسَار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 كل مِنْهُم إِلَى بَلَده وَأقَام يُقرر قَوَاعِد حلب وَيُدبر أمورها قَالَ الْعِمَاد ورجفت أنطاكية بعد ذَلِك رعْبًا فَأرْسل صَاحبهَا جمَاعَة من أُسَارَى الْمُسلمين وانقاد وسارع إِلَى أَمَان السُّلْطَان وَولى السُّلْطَان الْقَضَاء بحلب محيي الدّين بن الزكي فاستناب فِيهَا زين الدّين نبأ بن الْفضل بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن البانياسي وكشف السُّلْطَان عَن حلب الْمَظَالِم وأزال المكوس وَولى قلعتها سيف الدّين يازكوج وَولى الدِّيوَان نَاصح الدّين إِسْمَاعِيل بن العميد وَجعل حلب باسم وَلَده الْملك الظَّاهِر غَازِي وَكَانَ استصحبه من مصر عِنْد وُصُوله إِلَى الشَّام وَأقر عين تَابَ على صَاحبهَا وَأعْطى تل خَالِد وتل بَاشر بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق وَأعْطى قلعة عزاز علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر قلت وَفِي توقيع إِسْقَاط المكوس عَن حلب من كَلَام الْفَاضِل عَن السُّلْطَان وانْتهى إِلَيْنَا أَن بِمَدِينَة حلب رسوما استمرت الْأَيْدِي على تنَاولهَا والألسنة على تداولها وفيهَا بالرعاة إرفاق وبالرعايا إِضْرَار وَلها مِقْدَار إِلَّا عِنْد من كل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار مِنْهَا مَا هُوَ على الأثواب المجلوبة وَمِنْهَا مَا هُوَ على الدَّوَابّ المركوبة وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي المعايش الْمَطْلُوبَة وَقد رَأينَا بِنِعْمَة الله علينا أَن نبطلها ونضعها ونعطلها وندعها ونضرب عَنْهَا فِي أيامنا ونضرب عَلَيْهَا بأقلامنا ونسلك مَا هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 أهْدى سبلا ونقول مَا هُوَ أقوم قيلا ونكره مَا كرهه الله ونحظر مَا حظره الله ونتاجره سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ من ترك لله شَيْئا عوضه الله أَمْثَاله وأربح متجره فِي الرّعية الْيَوْم بِمَا يوضع عَنْهُم من إصرها وَلنَا غَدا بِمَشِيئَة الله بِمَا يرفع من أجرهَا فعلى كَافَّة أوليائنا وولاتنا وأمرائنا والمتصرفين من قبلنَا أَلا يهووا إِلَيْهَا يدا وَلَا يردوا وَلَو بلغ الظمأ مِنْهَا موردا وَلَا يثقلوا بهَا ميزَان المَال فيخف ميزَان الْأَعْمَال وَلَا يَرْغَبُوا فِي كثير الْحَرَام فَإِن الله يُغني عَنهُ بِقَلِيل الْحَلَال وليعلم أَن ذَلِك من الْأَمر الْمُحكم وَالْقَضَاء المبرم والعزم المتمم وَفِي منشور أهل الرقة بِمثل ذَلِك أَشْقَى الْأُمَرَاء من سمن كيسه وأهزل الْخلق وأبعدهم من الْحق من أَخذ الْبَاطِل من النَّاس وَسَماهُ الْحق وَمن ترك شَيْئا عوضه الله وَمن أقْرض الله قرضا حسنا وفاه مَا أقْرضهُ وَلما انْتهى أمرنَا إِلَى فتح الرقة أَشْرَفنَا مِنْهَا على سحت يُؤْكَل وظلم مِمَّا أَمر الله بِهِ أَن يقطع وَأمر الظَّالِمُونَ أَن يُوصل فأوجبنا على أَنْفُسنَا وعَلى كَافَّة الْوُلَاة من قبلنَا أَن يضعوا هَذِه الرسوم بأسرها ويلقوا الرعايا من بشائر أَيَّام ملكنا بأسرها ونعتق بلد الرقة من رقها وَنثْبت أَحْكَام المعدلة فِيهَا بمحو هَذِه الرسوم ومحقها وَقد أمرنَا بِأَن تسد هَذِه الْأَبْوَاب وتعطل وتنسخ هَذِه الْأَسْبَاب وَتبطل وتستمطر سحائب الخصب بِالْعَدْلِ وتستنزل ويعفى خبر هَذِه الضرائب من الدَّوَاوِين ويسامح بهَا جَمِيعهَا جَمِيع الْأَغْنِيَاء وَالْمَسَاكِين مُسَامَحَة مَاضِيَة الْأَحْكَام مستمرة الْأَيَّام دائمة الخلود خالدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 الدَّوَام تَامَّة الْبَلَاغ بَالِغَة التَّمام مَوْصُولَة على الأحقاب مسنونة فِي الأعقاب ملعونا من يطمح إِلَيْهَا ناظره وتتناولها يَده أَو يمسك عَنْهَا الْيَوْم على طمع لَا يوصله إِلَيْهِ غده قَالَ الْعِمَاد وَورد على السُّلْطَان وَهُوَ نَازل على حلب بشارتان إحدهما أَن الأسطول الْمصْرِيّ غزا فِي خَامِس عشر محرم وَرجع بعد تِسْعَة أَيَّام وَقد ظفر ببطسة مقلعة من الشَّام فِيهَا ثَلَاث مئة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ علجا من خيالة وتجار وَالثَّانيَِة أَن فرنج الداروم نهضوا فَنَذر بهم وَالِي الشرقية فَخرج إِلَيْهِم فَالْتَقوا على مَاء يعرف بالعسيلة فاستولى عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ بعد أَن كَادُوا يهْلكُونَ عطشا لِأَن الفرنج كَانُوا قد ملكوا المَاء فأرواهم الله بِمَاء السَّمَاء قلت وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد بِهَاتَيْنِ البشارتين بِفَتْح حلب وحارم كتابا شافيا أَوله أدام الله أَيَّام الدِّيوَان الْعَزِيز وَلَا زَالَت منَازِل مَمْلَكَته منَازِل التَّقْدِيس والتطهير وَالْوُقُوف بأقصى المطارح من أبوابه مُوجبا للتقديم وَالتَّقْدِير وَالْأمة مَجْمُوعَة الشمل بإمامته جمع السَّلامَة لَا جمع التكسير الْخَادِم يُنْهِي أَن الَّذِي يفتتحه من الْبِلَاد ويتسلمه إِمَّا بِسُكُون التغمد أَو بحركة مَا فِي الأغماد إِنَّمَا يعده طَرِيقا إِلَى الاستنفار إِلَى بِلَاد الْكفَّار ويحسبه جنَاحا يُمكنهُ بِهِ المطار إِلَى مَا يلابسه الْكفَّار من الأقطار وعَلى هَذِه الْمُقدمَة فَهُوَ يستفتح بِذكر ظفرين لِلْإِسْلَامِ بري وبحري شَامي ومصري أَحدهمَا وَهُوَ البحري عود أحد الأسطولين اللَّذين أغزاهما أَخُو الْخَادِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 أَبُو بكر بِمصْر وَكَانَت مُدَّة غيبته من حِين خُرُوجه إِلَى وَقت عوده إِلَى دمياط تِسْعَة أَيَّام فظفر ببطسة مقلعة من الشَّام فِيهَا ثَلَاث مئة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ علجا مِنْهُم خيالة ذَوُو شكة وازعة وتجار ذَوُو ثروة وَاسِعَة وَالثَّانِي وَهُوَ الْبري نهوض فرنج الداروم إِلَى أَطْرَاف بعيدَة فَنَذر بهم وَالِي الشرقية فَركب إِلَيْهِم اللَّيْل فرسا كَمَا ركبوه جملا وسروا ثقيلا وسرى رملا فتوافى الْفَرِيقَانِ إِلَى مَاء يعرف بالعسيلة سبق الفرنج إِلَى موردته وَالسَّابِق إِلَى المَاء محاصر للمسبوق ووردوا أزرقه فتغضب لأزرقهم فَظن الْمُؤمن أَن الْكَافِر مَرْزُوق وَاشْتَدَّ بِالْمُسْلِمين الْعَطش ثمَّ ثابوا إِلَى الفرنج بِقُوَّة إنجاد السَّمَاء بِالْمَاءِ فَلم ينج من الفرنج إِلَّا رجلَانِ أَحدهمَا الدَّلِيل وَالثَّانِي الذَّلِيل وَعَاد الْمُسلمُونَ برؤوس عدوهم فِي رُؤُوس القنا وَقد اجتنوا ثمراتها وبأرواحهم فِي رُؤُوس الظبى وَقد أطفؤوا بِمَائِهَا جمراتها ثمَّ قَالَ ويثني الْخَادِم بِذكر مَا امتثله من الْأَوَامِر الْعلية فِي إغماد سيف مجرده من استدعى تجريده ومورده من عرض لَهُ وريده ثمَّ ذكر تسلمه حلب وَأَنه لَا يُؤثر إِلَّا أَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا لَا غير وثغور الْمُسلمين لَهَا الرعايا وَلَا ضير وَلَا يخْتَار إِلَّا أَن تغدوا جيوش الْمُسلمين متحاشدة على عدوها لَا متحاسدة بعتوها وَلَو أَن أُمُور الْحَرْب تصلحها الشّركَة لما عز عَلَيْهِ أَن يكون كثير المشاركين وَلَا سَاءَهُ أَن تكون الدُّنْيَا كَثِيرَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 المالكين وَإِنَّمَا أُمُور الْحَرْب لَا تحْتَمل فِي التَّدْبِير إِلَّا الْوحدَة فَإِذا صَحَّ التَّدْبِير لم يحْتَمل فِي اللِّقَاء إِلَّا الْعدة فعوض عماد الدّين من بِلَاد الجزيرة سنجار وخابورها ونصيبين والرقة وسروج على أَن الْمَظَالِم تَمُوت فَلَا ينشر مقبورها والعساكر تنشر راية غزوها فَلَا يطوى منشورها وَأجَاب الْخَادِم عماد الدّين إِلَى مَا سَأَلَ فِيهِ من أَن يُصَالح المواصلة مهما استقاموا لعماد الدّين لِأَنَّهُ لم يَثِق بهم وَإِن كَانَ لَهُم أَخا وَلم يطمئن إِلَى مجاورتهم إِلَى أَن يضْرب بَينه وَبينهمْ من عنايته برزخا فليلح الْآن عذر الْأَجْنَبِيّ إِذا لم يَثِق ولتكن هَذِه مصحية من عوتب فِي سكره حسن الظَّن فَلم يفق وَمن شَرطه على المواصلة المعونة بعسكرهم فِي غَزَوَاته وَالْخُرُوج عَن الْمَظَالِم فَمَا زَاد على أَن قَالَ سالموا مُسلما وحاربوا كَافِرًا واسكنوا لتَكون الرّعية سَاكِنة وأظهروا ليَكُون حزب الله ظَاهرا وَهَذِه الْمَقَاصِد الثَّلَاثَة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله والكف عَن مظالم عباد الله وَالطَّاعَة لخليفة الله هِيَ مُرَاد الْخَادِم من الْبِلَاد إِذا فتحهَا ومغنمه من الدُّنْيَا إِذا منحها وَالله الْعَالم أَنه لَا يُقَاتل لعيش أَلين من عَيْش وَلَا لغضب يمْلَأ الْعَنَان من نزق وطيش وَلَا يُرِيد إِلَّا هَذِه الْأُمُور الَّتِي قد توسم أَنَّهَا تلْزم وَلَا يَنْوِي إِلَّا هَذِه النِّيَّة الَّتِي هِيَ خير مَا يسطر فِي الصَّحِيفَة ويرقم وَكتب الْخَادِم هَذِه الْخدمَة بعد أَن بَات بحلب لَيْلَة وَخرج مِنْهَا إِلَى حارم وَكَانَت استحفظت مَمْلُوكا لَا يملكهُ دين وَلَا عقل غرا مَا هذبته نفس وَلَا أهل فَاعْتقد أَن يُسَلِّمهَا إِلَى صَاحب أنطاكية يسر الله فتحهَا اعتقادا صرح بِفِعْلِهِ وشهره بكتبه وَرُسُله وواطأ على ذَلِك نَفرا من رجال يعْرفُونَ بالشمسية لَا يعْرفُونَ خَالِقًا إِلَّا من عرفوه رازقا وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لمن يرونه فِي نهر النَّهَار سابحا وَفِي بَحر الظلام غارقا فشعر بِهِ من فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 من الأجناد الْمُسلمين فشردوه وَمن تَابعه على فعله وظفر بِهِ الْمَمْلُوك عمر ابْن أَخِيه فِي ضواحي الْبَلَد فَأَخذه وأرسله إِلَى قلعة حلب وَسَار الْخَادِم إِلَيْهَا فتسلمها ورتب بهَا حامية ورابطة وَلم يعْمل على أَنَّهَا للْعَمَل طرف بل أَنَّهَا للْعقد وَاسِطَة وَالْخَادِم كَمَا طالع بماضيه الَّذِي حازه الأمس الْمَذْكُور يطالع بمستقبله الَّذِي يُنجزهُ بِمَشِيئَة الله الْغَد المشكور فَهُوَ متأهب لِلْخُرُوجِ نَحْو الْكفَّار لَا تسأم رايته النصب وَلَا جِهَة سيره الرّفْع وَلَا جَيْشه الْجَرّ وَلَا يصغي إِلَى قَول خاطر الرَّاحَة المفند لَا تنفرُوا فِي الْحر وَلَا يُجيب دَعْوَة الْفراش الممهد وَلَا يعرج على الظَّن الْمَمْدُود وَلَا دمية الطراف الممدد وَلَا يعْطف على رَيْحَانَة فؤاد يُفَارِقهُ حولا ويلقاه يَوْمًا وَلَا يُقيم على زهرَة ولد اسْتهلّ فَمَتَى ذكره الْفطر على رَاحَته قَالَ {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} وَمن كتاب آخر أنفذه من نَصِيبين سنة ثَمَان وَسبعين إِلَى بَغْدَاد سَبِيل الْخَادِم أَن يبْنى وَلَا يهدم ويوفر جَانِبه وَلَا يثلم وَأَن يفرق بَينه وَبَين من يمسكون أَعِنَّة الْجِيَاد المسومة وَلَا يطلقونها ويكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وَلَا يُنْفِقُونَهَا فقد علم أَن الْخَادِم بيُوت أَمْوَاله فِي بيُوت رِجَاله وَأَن مَوَاطِن نُزُوله فِي مَوَاقِف نزاله ومضارب خيامه لَا أكنة ظلاله وَأَنه لَا يدّخر من الدُّنْيَا إِلَّا شكته وَلَا ينَال من الْعَيْش إِلَّا مسكته وعدو الْإِسْلَام شَدِيد على الْإِسْلَام كَلْبه مضطرم على أَهله لهبه زجل إِذا أصغت أسماع التَّأَمُّل لجبه وَلَو أَن أحد من يَدعِي الْملك مِيرَاثا ويعد الْبِلَاد لَهُ تراثا دفع إِلَى مدافعة هَذَا الْعَدو الْكَافِر وَإِلَى منافرة هَذَا الْفَرِيق النافر لعرفته الْأَيَّام مَا هُوَ جاهله ولقلدته الْحَرْب مَا هُوَ قَاتله ولحملته الْأَهْوَال مَا تخور تَحْتَهُ محامله وَفِي كتاب آخر وَإِذا ولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ ثغرا لم يبت فِي وَسطه وَأصْبح فِي طرفه وَإِذا سوغه بَلَدا هجر فِي ظلّ خيمه وَلم يقم فِي ظلّ غرفه وَإِذا بَات بَات السَّيْف لَهُ ضجيعا وَإِذا أصبح أصبح ومعترك الْقِتَال لَهُ ربيعا لَا كَالَّذِين يغبون أَبْوَاب الْخلَافَة إغباب الاستبداد وَلَا يؤامرونها فِي تصرفاتهم مُؤَامَرَة الاستعباد وَكَأن الدُّنْيَا لَهُم إقطاع لَا إِيدَاع وَكَأن الْإِمَارَة لَهُم تخليد لَا تَقْلِيد وَكَأن السِّلَاح عِنْدهم زِينَة لحامله ولابسه وَكَأن مَال الْخلق عِنْدهم وَدِيعَة فَلَا عذر عِنْدهم لمانعه وَلَا لحابسه وَكَأَنَّهُم فِي الْبيُوت دمى مصورة فِي لُزُوم جدرها لَا فِي مستحسنات صورها راضين من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الدّين بالغزوة اللقبية وَمن إعلاء كَلمته بِمَا يسمعونه على الدَّرَجَات الخشبية وَمن جِهَاد الخارجين على الدولة باستحسان الْأَخْبَار المهلبية وَمن قتال الْكفَّار بِأَنَّهُ فرض كِفَايَة تقوم بِهِ طَائِفَة فَيسْقط عَن الْأُخْرَى فِي أخراها وَمن طَاعَة الْخلَافَة بِذكر اسْمهَا وَالْخُرُوج عَن سيماها فَلَا يقنعون بِأَنَّهُم لَا يجاهدون إِلَى أَن يمنعوا من يُجَاهد عَنْهُم ويثاغر وبأنهم لَا يساعدون الْمُسلمين إِلَى أَن يساعدوا عَلَيْهِم عدوهم الْكَافِر فقد توالوا الشَّيْطَان تليدا وطريفا ووطئوا الْإِسْلَام وَأَهله وطأ عنيفا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة جَاءَ الله بهم فِي زمرة الشَّيْطَان لفيفا وَقَالَ فِي هَذَا الْكتاب إِن المواصلة مَا فزعوا إِلَى دَار الْخلَافَة إِلَّا بعد أَن فزعوا وَإِلَّا فطالما طمع أَوَّلهمْ كَمَا طمعوا وقديما دعوا إِلَى طاعتها فَمَا سمعُوا وسمعوا فَمَا اتبعُوا حَتَّى إِن الْأَوَّلين مِنْهُم علمُوا أَوْلِيَاء الدولة من الأتراك ضد مَا جبلت أَخْلَاقهم عَلَيْهِ من عقوقها وسنوا لَهُم إِضَاعَة حُقُوق الله بإضاعة حُقُوقهَا فَأَيْنَ كَانَ التَّعَلُّق بِالدَّار العزيزة وهم يحاصرون دَار السَّلَام بأحزابهم ويرامون التَّاج الشريف بنشابهم ويمدون محاصريها بالأسلحة والمنجنيقات والأزواد والإقامات ويصافون الْخُلَفَاء مصافة المواقف ويكاشفونهم مكاشفة الْمُخَالف ويغرون دزدار تكريت وَهِي من أَهْون بِلَاد الله بجور الْجوَار ويجعلونها سجنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 لمماليك الْخلَافَة ذَوي الأقدار وَلَو تحرّك الْيَوْم متحرك لكانوا لَهُ كنَانَة ولكانت بِلَادهمْ لَهُ خزانَة ويرجو الْخَادِم بالموصل أَن تكون الْموصل إِلَى الْقُدس وسواحله ومستقر الْكفْر فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة على بعد مراحله وبلاد الكرج فَلَو أَن لَهُم من الْإِسْلَام جارا لاستباح الدَّار وبلاد أَوْلَاد عبد الْمُؤمن فَلَو أَن لَهَا مَاء سيف لأطفأ مَا فِيهَا من النَّار إِلَى أَن تعلو كلمة الله الْعليا وتملأ الْولَايَة العباسية الدُّنْيَا وتعود الْكَنَائِس مَسَاجِد والمذابح المستعبدة معابد والصليب الْمَرْفُوع حطبا فِي المواقد والناقوس الصهل أخرس اللهجة فِي الْمشَاهد ويضيف إِلَى الدِّيوَان بِمَشِيئَة الله مَا يُجَاوز أكنافه ويمد أَطْرَافه مثل تكريت ودقوقا والبوازيج وخوزستان وكيش وعمان وَالَّذِي وَقع أعظم من الَّذِي يتَوَقَّع وَالَّذِي طلع أَكثر من الَّذِي يتطلع وَالَّذِي رئي أمس أكبر من الَّذِي يسمع قلت يَعْنِي أَن مَا فَتحه من الْبِلَاد أعظم من هَذِه الَّتِي يرجوها وَأَشَارَ بِفعل أول المواصلة إِلَى مَا سبق من فعل زنكي فِي حِصَار بَغْدَاد ومساعدته للسلجوقية على الْعَادة فِي ذَلِك الزَّمَان وَالله أعلم وَفِي آخر كتاب فاضلي إِلَى حطَّان بن منقذ بِالْيمن عَن السُّلْطَان فتح الله علينا ممالك وأضافها وبلادا آمنها بِنَا مِمَّا أخافها وبلغنا غرائب صنع لَا نبلغ أوصافها مِنْهَا بِلَاد الشَّام بأسرها ومملكة حلب بجملتها وَالْمَدينَة بقلعتها وبلاد الجزيرة إِلَى دجلتها فَمِنْهَا مَا أُعِيد على من اشْترط عَلَيْهِ اسْتِخْدَام عسكره فِي بيكارنا وَمِنْهَا مَا اسْتمرّ فِي الْيَد وولاته من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 أوليائنا وأنصارنا وَلما لم يبْق فِي الْبِلَاد الإسلامية إِلَّا مَا هُوَ فِي يدنا أَو فِي يَد مُطِيع لنا كَانَ من شكر هَذِه النِّعْمَة أَن نصرف الْقُوَّة ونثني العزمة ونحد الشَّوْكَة ونلبس الشكة للفرنج الملاعين فتنازلهم ونقارعهم ونخاصمهم إِلَى الله وننازعهم فنطهر الأَرْض المقدسة من رجسهم بدمائهم إِلَى أَن ترق السيوف للصخرة الشَّرِيفَة لما مر بهَا من قسوة كفرهم واعتدائهم فَنحْن نرجو أَن نَكُون عين الطَّائِفَة من الْأمة الَّتِي أخبر نَبينَا صلوَات الله عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تزَال على الْحق ظَاهِرَة وبثواب الله وعدوه ظافرة وَالله تَعَالَى يعيننا على مَا يعنينا ويلهمنا الاستجابة لدعوته إِلَى مَا يحيينا فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى دمشق وَخُرُوجه مِنْهَا للغزاة بمخاضة الْأُرْدُن رَحل السُّلْطَان من حلب فَمر على حماة ثمَّ حمص ثمَّ بعلبك ثمَّ دمشق قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لم يقم السُّلْطَان فِي حلب إِلَّا إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَأَنْشَأَ عزما على الْغُزَاة فَخرج فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى الوضيحي مبرزا نَحْو دمشق واستنهض العساكر فَخَرجُوا يتبعونه ثمَّ رَحل فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ إِلَى حماة فوصلها ثمَّ رَحل فِي بَقِيَّة يَوْمه وَلم يزل يواصل بَين الْمنَازل حَتَّى دخل دمشق فِي ثَالِث جُمَادَى الأولى فَأَقَامَ بهَا متأهبا إِلَى السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ ثمَّ برز فِي ذَلِك الْيَوْم وَنزل على جسر الْخشب وتبعته العساكر مبرزة وَأقَام بِهِ تِسْعَة أَيَّام ثمَّ رَحل فِي ثامن جُمَادَى الْآخِرَة حَتَّى أَتَى الفوار وتعبى فِيهِ للحرب وَسَار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 حَتَّى نزل الْقصير فَبَاتَ بِهِ وَأصْبح على الْمَخَاض وَعبر وَسَار حَتَّى أَتَى بيسان فَوجدَ أَهلهَا قد نزحوا عَنْهَا وَتركُوا مَا كَانَ من ثقيل الأقمشة والغلال والأمتعة بهَا فنهبها الْعَسْكَر وغنموا وأحرقوا مَا لم يُمكن أَخذه وَسَار حَتَّى أَتَى الجالوت وَهِي قَرْيَة عامرة وَعِنْدهَا عين جَارِيَة فخيم بهَا وَكَانَ قد قدم عز الدّين جرديك وَجَمَاعَة من المماليك النورية وجاولي مَمْلُوك أَسد الدّين حَتَّى يكشفوا خبر الفرنج فاتفق أَنهم صادفوا عَسْكَر الكرك والشوبك سائرين نجدة للفرنج فَوَقع أَصْحَابنَا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وأسروا مِنْهُم زهاء مئة نفر وعادوا وَلم يفقد من الْمُسلمين سوى شخص وَاحِد يدعى بهْرَام الشاووش فوصل إِلَيْهِ فِي بَقِيَّة يَوْم الكسرة وَهُوَ الْعَاشِر من جُمَادَى الْآخِرَة وَفِي حادي عشرَة وصل الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أَن الفرنج قد اجْتَمعُوا فِي صفورية ورحلوا إِلَى الفولة وَهِي قَرْيَة مَعْرُوفَة وَكَانَ غَرَضه المصاف فَلَمَّا سمع بذلك تعبى لِلْقِتَالِ وَسَار للقاء الْعَدو فَالْتَقوا وَجرى قتال عَظِيم وَقتل من الْعَدو جمَاعَة وجرح جمَاعَة وهم يَنْضَم بَعضهم إِلَى بعض يحمي راجلهم فارسهم وَلم يخرجُوا للمصاف وَلم يزَالُوا سائرين حَتَّى أَتَوا الْعين فنزلوا عَلَيْهَا وَنزل السُّلْطَان حَولهمْ وَالْقَتْل وَالْجرْح يعْمل فيهم لِيخْرجُوا إِلَى المصاف وهم لَا يخرجُون لخوفهم من الْمُسلمين فَإِنَّهُم كَانُوا فِي كَثْرَة عَظِيمَة فَرَأى السُّلْطَان الانتزاح عَنْهُم لَعَلَّهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 يرحلون فَيضْرب مَعَهم مصَاف فَرَحل نَحْو الطّور سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة فَنزل تَحت الْجَبَل مترقبا رحيلهم ليَأْخُذ مِنْهُم فرْصَة فَأصْبح الفرنج رَاجِعين على أَعْقَابهم ناكصين فَرَحل رَحمَه الله نحوهم وَجرى من رمي النشاب واستنهاضهم للمصاف أُمُور عَظِيمَة فَلم يخرجُوا وَلم يزل السُّلْطَان حَولهمْ حَتَّى نزلُوا الفولة رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ وَعَاد السُّلْطَان منصورا وَقد نَالَ مِنْهُم قتلا وأسرا وَخرب عفربلا وبيسان وزرعين وقرى عدَّة فَنزل الفوار وَأعْطى النَّاس دستورا فَسَار من آثر الْمسير وأتى هُوَ دمشق يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الهمة الَّتِي لم يشغلها عَن الْغُزَاة أَخذ حلب وَلَا الظفر بهَا بل كَانَ غَرَضه رَحْمَة الله عَلَيْهِ الِاسْتِعَانَة بالبلاد على الْجِهَاد فَالله يحسن جزاءه فِي الْآخِرَة كَمَا وَفقه للأعمال المرضية فِي الدُّنْيَا وَقَالَ الْعِمَاد خرج السُّلْطَان إِلَى الْغَزْو ورابط الْعَدو بِعَين الجالوت وَعبر المخاضة الحسينية تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة فوصل إِلَى بيسان وَقد أخلاها أَهلهَا فَأطلق النَّاس فِيهَا النيرَان ونهبوا مَا فِيهَا وَكَذَلِكَ فعلوا بأبراج وقلاع غَيرهَا وصادفت مُقَدّمَة العساكر خيلا ورجلا للفرنج عابرين من نابلس ومقدمهم ابْن هنفري فَقتل مِنْهُم وَأسر وتوقل الْبَاقُونَ فِي الْجبَال وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج قد أَقبلُوا فِي ألف وَخمْس مئة رمح وَمثله تركبلي وَخَمْسَة عشر ألف راجل فَأَتَاهُم الْمُسلمُونَ وَذَلِكَ على عين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 الجالوت فَأَخذهُم الرعب وخاموا عَن الْإِقْدَام عَلَيْهِم فخندقوا حَولهمْ وأسندوا ظُهُورهمْ إِلَى الْجَبَل وَأَقَامُوا كَذَلِك خَمْسَة أَيَّام فَلَمَّا رأى الْمُسلمُونَ مِنْهُم ذَلِك رجعُوا عَنْهُم فتنفس خناقهم ونكصوا على أَعْقَابهم إِلَى الناصرة وَعَاد الْمُسلمُونَ بالغنائم وَالْأسَارَى لم يخلص الْعَدو مِنْهَا شَيْئا وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَقد كَانُوا مُدَّة مقامهم يتخطفهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب ويرمونهم بِالنَّبلِ وينتظرون أَن يحملوا أَولا كَمَا هُوَ عَادَتهم فَمَا فعلوا وَفِي كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد لما كَانَ بتاريخ الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة سَار الْخَادِم من أدنى الْمنَازل من بِلَاد الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد الْكفْر وَقد تكاملت جنود الْإِسْلَام وتعينت ميامنه ومياسره وَأخذت أهبه وشحذت قضبه وَبَاعُوا الله مَا اشْتَرَاهُ وَمثل لأعينهم ثَوَابه فَكَأَنَّهَا ترَاهُ وَسَارُوا تَحت ليل عجاج ستر السائر تَحْتَهُ سراه وَأصْبح الْخَادِم وإياهم بِعَين الله فِي سَبيله على مَاء الْأُرْدُن وَهُوَ النَّهر الْفَاصِل بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر والمخاضة الْمَضْرُوب مِنْهَا بسور على ذَلِك الْقطر فَخَاضَ ذَلِك الْبَحْر وَذَلِكَ النَّهر وأمدته نطف الْحَدِيد فَإِذا المَاء يَرْمِي بالشرر ويقذف بالجمر وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي يَوْم الْمسير وَهُوَ تَاسِع الشَّهْر وَلما جَازَ المخاضة أَخذ الْبِلَاد ضرب الْمَخَاض وزلزلت أرْضهَا فَهِيَ بالقوم ترض أَو للقيامة ترَاض وَأخذت رجال الْمُسلمين تنقص الأَرْض من أطرافها وتقلع قلاع الْجبَال وَتَطير رؤوسها من أكتافها فَإِذا الْبِلَاد قد انهزم أَهلهَا فألحقها الْمُسلمُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 مساكنها فِي الْهَزِيمَة وعولوا فِيهَا على سيوف المعاول فَإِذا هِيَ رَاحِلَة وَكَأَنَّهَا مُقِيمَة وَهَذِه الْبِلَاد مدن مَا كَانَ غرم قبل مِنْهَا مدنيا وعمارات مَا كَانَ أمل إِلَيْهَا مفضيا بل طالما كَانَ عَنْهَا مغضيا مثل بيسان وعفربلا وزرعين وجينين كلهَا بِلَاد مشاهير لَهَا قرى مغلة وبساتين مظلة وأنهار مقلة وقلاع مطلة وأسوار قد ضربت على جهاتها وأحاطت بجنباتها واتخذتها المدن سياجا على قصباتها فغنم الْمُسلمُونَ مَا فِيهَا من أقوات مختزنة وشفوا مِنْهَا حزازات الْقُلُوب المضطغنة وأحرقوا أوعية كفرها بالنَّار وعذبوها عَذَاب أَهلهَا من الْكفَّار وقتلوها وَكَانَ الضرام لَهَا دَمًا وَكَتَبُوا عَلَيْهَا الخراب وَكَانَ السَّيْف فِيهَا قَلما فأجلوا عَن حماها حمما وتساقطت جدرها فَكَأَنَّمَا أسارت فِيهَا النَّوَى لمما وَلما كَانَ يَوْم السبت الْحَادِي عشر ورد الْخَبَر بِأَن عَسْكَر الْكَافرين قد ركب من مَكَان مجتمعه وزحف بلابسه ومدرعه فَركب الْخَادِم يبوىء الْمُؤمنِينَ مَوَاقِف الْقِتَال ومنازل النزال فَمن متسرع يطوف عَلَيْهِم بصفاح ليطاف عَلَيْهِ بصحاف وَمن متثبت يمشي إِلَى الْمَوْت مشي الْعَرُوس سَاعَة الزفاف وهنالك منظر ود الْمُؤْمِنُونَ لَو أَن أَمِيرهمْ لَهُ نَاظر كَمَا هُوَ بِهِ أَمر وَلَا غرو أَن يصفه الْخَادِم ليسر المخدوم لَا ليوصف الْخَادِم وَمن وصف ضَرْبَة السَّيْف فَإِنَّمَا وصف الضَّارِب وَلم يصف الصارم وَنزل الْعَدو إِلَى الأَرْض منحطا عَن سَرْجه ومنحازا عَن فجه وسالكا نهجا غير نهجه وأحدق بِهِ راجله وَهُوَ زهاء عشْرين ألف راجل وركز صَلِيب صلبوته فَاسْتَوَى فِي الْعَجز الْمَحْمُول وَالْحَامِل وَنزل محصورا وَخَنْدَق فَكَأَنَّمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 أصبح الْكَافِر فِي حفر ذَلِك الخَنْدَق مقبورا وَأقَام بإزائه خَمْسَة أَيَّام تماسيه الوقائع وتصاحبه وتماشيه الروائع وتصافحه ويفزع فِيهِ إِلَى الحفير ويتكرر إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الْوَاحِد النفير وَيبْعَث إِلَيْهِ السهْم وَهُوَ فِي الْحَرْب السفير فَيقبل تَحِيَّة الضَّرْب مترددة وَلَا يردهَا وتتبسم إِلَيْهِ صفيحة النصل متوددة فَلَا يودها ويجتهد فِي استخراجه وَقد رأى العزائم وَلم يخرج لدعوتها والمكارم وَلم يرحل لبغيتها وَمن كتاب آخر إِلَى وَزِير بَغْدَاد أثاروا على يَوْم الْكفْر لَيْلَة عجاج جعلت ليل من وَرَاءَهُمْ من الْإِسْلَام سكنا وصبروا وَصَابِرُوا فَكَأَنَّمَا كَانَ السَّيْف لَهُم أليفا وَكَانَ المعترك لَهُم وطنا وَأخذت فِي الْبِلَاد النَّار مأخذها ونفذت فِيهَا الْغَيْر منافذها وثلت عروشها وثلت غروسها وجليت فِي مصبغات النيرَان عروسها وأصبحت تناجي الْعُيُون ثواكلها وتصف النَّوَازِل منازلها دمنا على الأطلال مطلولة وصرعى بسيوف الْبلَاء مقتولة وَجَاء الْعَدو فأحدقت بِهِ الْأَبْطَال وتنجزت عَادَة حَملته فمطلت وَمَا كَانَ خلقهَا المطال فَلَمَّا كثر الله الْمُسلمين فِي عيونهم وَرَأَوا بهَا مَا لم يَكُونُوا يرونه قبلهَا بظنوهم وَاسْتَمَدُّوا مغاني الشكوى لتبوح بهَا ألسنتهم إِذا خلوا إِلَى شياطينهم فأخلدوا إِلَى الأَرْض نازلين وقعدوا عَن الحملة ناكلين وَاتَّقَى فارسهم براجله ورامحهم بنابله ولاذ سيفهم بجفنه وَلَا خير فِي حامله ولاذ جفْنه بأطراقه خوفًا من كحله بِسَهْم قَاتله وَأَقَامُوا مَحْصُورين لَا يَسْتَطِيعُونَ وردا وَلَا صَدرا وَلَا يَجدونَ مُتَقَدما وَلَا مُتَأَخِّرًا فَمَا كَانَ للكفر فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ منتصرا وعزف النصل فِي لحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 السَّيْف أَن الشجَاعَة والنكول أَمْرَانِ يقذفهما الله فِي الْقُلُوب فَلَا يقل النَّاس كَيفَ فصل فِي ولَايَة الْملك الْعَادِل حلب وَولَايَة تَقِيّ الدّين مصر وَغير ذَلِك قَالَ الْعِمَاد وَقد كَانَ الْعَادِل نَائِبا بِمصْر فَلَمَّا فتح السُّلْطَان حلب كتب الْعَادِل إِلَيْهِ يطْلبهَا مِنْهُ مَعَ أَعمالهَا ويدع الديار المصرية فَكتب السُّلْطَان إِلَيْهِ أَن يوافيه إِلَى الكرك فَإِنَّهُ سَائِر إِلَى فَتحه فَأَشَارَ القَاضِي الْفَاضِل على السُّلْطَان أَن يَسْتَنِيب فِي الديار المصرية مَوضِع أَخِيه الْعَادِل ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فاستصحبه السُّلْطَان مَعَه إِلَى الكرك فِي رَجَب من هَذِه السّنة وَحَازَ فِي طَرِيقه قبل وُصُوله إِلَيْهَا غَنَائِم وخيم على الربة ثمَّ حصر الكرك ورماه بالمجانيق صباحا وَمَسَاء وتناوب عَلَيْهِ الْأُمَرَاء حَتَّى خرج شهر رَجَب وَمَا حصل مِنْهُ الطّلب لَكِن عظمت النكاية فِي الْكفَّار بِأخذ أَمْوَالهم وتخريب الديار وَوصل الْخَبَر أَن الفرنج قد استجمعوا وتجمعوا بالموضع الْمَعْرُوف بالواله على قصد الْمُسلمين وخلاص الكرك من أَيْديهم وَرَأى السُّلْطَان أَن أَمر حصره يطول فعول على الرحيل إِلَى دمشق وَوصل الْعَادِل إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بعد على الكرك فَجهز تَقِيّ الدّين إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 الديار المصرية واليا عَلَيْهَا وقوى عضده بِصُحْبَة القَاضِي الْفَاضِل لَهُ وَتَوَلَّى الْعَادِل حلب وأعمالها ومنبج وَجَمِيع قلاعها وَسَار إِلَيْهَا فِي رَمَضَان وَرجع مِنْهَا إِلَى دمشق الْملك الظَّاهِر ونواب السُّلْطَان قلت وَكتب الْعَادِل إِلَى الْفَاضِل يستشيره فِي التعوض عَن مصر بحلب فَكتب إِلَيْهِ الْفَاضِل كتابا فِيهِ (إِنَّمَا أَنْت كغيث ماطر ... حَيْثُمَا صرفه الله انْصَرف) وَالْمولى أعلم وبسياسة الدُّنْيَا أقوم وَقد تكَرر الْكتاب الناصري إِلَيْهِ بِمَا نَص عَلَيْهِ وكشف لَهُ الغطاء وسنى لَهُ الْعَطاء وَقَالَت لَهُ المخطوبة هيت لَك وَأدّى إِلَيْهِ مَالك الْأَمر مَا قد ملك فَلَا زَالَت سعادته أنور من شمس وأدور من فلك وَلَا زَالَ رابحا على الدَّهْر إِن امْرُؤ خسر وباقيا إِن امْرُؤ هلك وَمن كتاب آخر إِلَيْهِ أدام الله دولة حامي الْحمى وَثَبت الدولة الناصرية الَّتِي يقوم بهَا ملكان همامان هما هَذَا صَلَاح يمْنَع فَسَادًا وَهَذَا سيف يحقن دَمًا قَالَ ابْن أبي طي كَانَ السُّلْطَان يعظم الْملك الْعَادِل وَيعْمل بِرَأْيهِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 جَمِيع أُمُوره ويتيمن بمشورته وَلَا يعلم بِأَنَّهُ أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَمْر فخالفه حَدثنِي قَاضِي الْيمن جمال الدّين قَالَ كَانَ السُّلْطَان يجمع الْأُمَرَاء للمشورة فَإِن كَانَ الْعَادِل حَاضرا سمع من رَأْيه وَإِن لم يكن حَاضرا لم يقطع أمرا فِي الْمُهِمَّات حَتَّى يكاتبه بجلية الْأَحْوَال ثمَّ يسمع رَأْيه فِيهَا قَالَ وحَدثني أبي قَالَ حَدثنِي جمَاعَة قَالُوا كَانَ السُّلْطَان لَيْسَ لَهُ غناء عَن الْعَادِل وَلَا عَن رَأْيه فَلَمَّا حصل الْعَادِل بِمصْر وَبعد عَن السُّلْطَان هُنَاكَ صَار السُّلْطَان يتَكَلَّف فِي مُكَاتبَته بالأخبار وَيُؤَخر الْأُمُور إِلَى أَن يرد عَلَيْهِ جَوَابه فيفوته بذلك كثير من الْمَنَافِع الْحَاصِلَة للدولة وللجهاد فَلَمَّا حصر الكرك فِي هَذِه السّنة كَاتبه بالحضور إِلَيْهِ بعياله وأمواله وَجَمِيع أَصْحَابه وَولى مصر تَقِيّ الدّين وَلما حصل الْعَادِل عِنْد السُّلْطَان وَقع فِي نَفسه أَن يعوضه عَن ولَايَة مصر ثمَّ حَار فِي أَي ولَايَة يوليه قَالَ وحَدثني علم الدّين قَيْصر الصلاحي قَالَ إِنَّمَا أقدم السُّلْطَان الْعَادِل من مصر لأجل ولَايَة حلب وَبِذَلِك كَاتبه وَلأَجل هَذَا خرج الْعَادِل بأمواله وَعِيَاله وأثقاله قَالَ وحَدثني غَيره قَالَ لما حصل الْعَادِل عِنْد السُّلْطَان بأمواله وأثقاله كَانَت الْأَمْوَال قد قلت على السُّلْطَان وَقد حصلت عِنْده عَسَاكِر عَظِيمَة فأحضر الْعَادِل لَيْلًا وَقَالَ أُرِيد أَن تقرضني مئة وَخمسين ألف دِينَار إِلَى الميسور فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة ثمَّ قَامَ وَخرج من عِنْده وَكتب إِلَيْهِ يَقُول أَمْوَالِي جَمِيعهَا بَين يَديك وَأَنا مملوكك وأشتهي أَن أحمل هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 المَال إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَيكون عوضا عَنهُ مَدِينَة حلب وقلعتها فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِنَّنِي وَالله مَا أقدمتك إِلَّا لأوليك حلب وَإِذ قد اقترحت ذَلِك فقد وَافق مَا عِنْدِي فَلَمَّا أصبح الْعَادِل أنفذ وَسَأَلَ السُّلْطَان أَن يكْتب لَهُ بِمَدِينَة حلب كتابا ويجعله ككتاب البيع والشرى فَامْتنعَ السُّلْطَان وَقَالَ إِنَّمَا تكون حلب إقطاعا وَالْمَال عَليّ لَهُ فَاعْتَذر الْعَادِل إِلَى السُّلْطَان وَلما اجْتمعَا قَالَ لَهُ السُّلْطَان أظننت أَن الْبِلَاد تبَاع أَو مَا علمت أَن الْبِلَاد لأَهْلهَا المرابطين بهَا وَنحن خَزَنَة للْمُسلمين ورعاة للدّين وحراس لأموالهم أَو مَا علمت أَن السُّلْطَان ملكشاه السلجوقي لما وقف طبرية على جَامع خُرَاسَان لم يحكم بِهِ أحد من الْقُضَاة وَلَا من الْفُقَهَاء ثمَّ قرر السُّلْطَان ولَايَة الْعَادِل بحلب وأعمالها إِلَى رعبان إِلَى الْفُرَات إِلَى حماة وَكتب لَهُ التوقيع وَقرر عَلَيْهِ مَالا يحملهُ برسم الزردخاناه وخزانة الْجِهَاد ورجالة من الحلبيين ورحل السُّلْطَان إِلَى دمشق واستدعى وَلَده الظَّاهِر من حلب فَلَمَّا حضر أمره بِالْعودِ إِلَى حلب وتسليمها إِلَى عَمه الْعَادِل فَفعل وَعَاد إِلَى دمشق وَسَار الْعَادِل إِلَى حلب فَالْتَقَيَا بالرستن وباتا فِيهِ فَكَانَت مُدَّة ولَايَة الظَّاهِر بحلب فِي هَذِه النّوبَة نَحْو سِتَّة أشهر وَلما وصل الظَّاهِر إِلَى دمشق أقبل على خدمَة وَالِده والتقرب إِلَيْهِ إِلَّا أَن الانكسار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 لخُرُوج حلب من يَده ظَاهر عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يظْهر شَيْئا إِلَّا الطَّاعَة لوالده والانقياد لمرضاته حَدثنِي أبي عَن مجد الدّين بن الخشاب قَالَ حَدثنِي الْملك الظَّاهِر قَالَ لما بَلغنِي أَن السُّلْطَان أعْطى حلب للْملك الْعَادِل جرى عَليّ مَا قدم وَمَا حدث وأصابني من الْهم مَا لم أقدر على النهوض بِهِ ووددت أَنِّي لم أكن رَأَيْتهَا وَلَا دخلت إِلَيْهَا لِأَن قلبِي أحبها وَقبلهَا وطاب لي هواؤها وَلما فارقتها كنت أحن إِلَيْهَا واشتاقها قَالَ وَدخل الْعَادِل حلب فِي رَمَضَان وخلع على المقدمين والأعيان وَكَانَ قد قدم بَين يَدَيْهِ كَاتبه الْمَعْرُوف بالصنيعة ليسلم حلب وقلعتها من الْملك الظَّاهِر وَولى القلعة صارم الدّين بزغش وَولى الدِّيوَان والإقطاعات شُجَاع الدّين بن الْبَيْضَاوِيّ صباغ دقنه وَولى الْإِنْشَاء وَمَا يتَعَلَّق بِأُمُور السِّرّ للصنيعة ابْن النحال وَكَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ أسلم على يَد الْعَادِل فولى ابْن النحال الْوَظَائِف لجَماعَة من النَّصَارَى وَفِي ذَلِك يَقُول الشَّاعِر (فاق دين الْمَسِيح فِي دولة الْعَادِل ... حَتَّى علا على الْأَدْيَان) (ذَا أَمِير وَذَا وَزِير وَذَا وَال ... وَذَا مشرف على الدِّيوَان) قَالَ وَلم يزل الْعَادِل يهذب أُمُور حلب إِلَى سادس عشر ذِي الْقعدَة ثمَّ خرج مُتَوَجها إِلَى دمشق بِسَبَب أَن السُّلْطَان اجْتمع عِنْده فِي ذِي الْقعدَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 عدَّة رسل مِنْهُم رسل الْخَلِيفَة ورسل طغرل بن البهلوان ورسل قزل أخي البهلوان ورسل شاه آرمن صَاحب خلاط ورسل المواصلة ورسل عماد الدّين صَاحب سنجار ورسل قليج أرسلان صَاحب الشمَال فَأَرَادَ السُّلْطَان إِحْضَار الْعَادِل لسَمَاع الرسائل ولحضور الْأَجْوِبَة عَنْهَا ولتقرير أُمُور الفرنج وَيَوْم وصل الْعَادِل إِلَى دمشق أحضرهُ السُّلْطَان لسَمَاع الرسائل وَسمع مَا عِنْده من الْأَجْوِبَة وَلما قضى أجوبة الرُّسُل ودع السُّلْطَان وَعَاد إِلَى حلب قَالَ وَلما بلغ سيف الْإِسْلَام أَن السُّلْطَان كتب لتقي الدّين عهدا بِولَايَة مصر عتب لأجل ذَلِك فَكتب السُّلْطَان لَهُ عهدا بِبِلَاد الْيمن جَمِيعهَا قَالَ وأقطع السُّلْطَان تَقِيّ الدّين الْإسْكَنْدَريَّة ودمياط وَجعل لخاصته الْبحيرَة والفيوم وبوش ثمَّ عوضه عَن بوش سمنود وحوف رمسيس وَذكر غير ذَلِك قَالَ الْعِمَاد أنعم السُّلْطَان على تَقِيّ الدّين بِالْأَعْمَالِ الفيومية وَسَائِر نَوَاحِيهَا بِجَمِيعِ جهاتها وجواليها وزاده القايات وبوش وَأبقى عَلَيْهِ بالبلاد الشامية مَدِينَة حماة وقلعتها وَجَمِيع أَعمالهَا وَلما وصل تَقِيّ الدّين إِلَى مصر اقْتدى بِالتَّدْبِيرِ الفاضلي وَكَانَ السُّلْطَان لَا يُؤثر مُفَارقَته فَلَمَّا لم يجد من تَوْجِيه تَقِيّ الدّين إِلَى مصر بدا وَكَانَت فِيهِ حِدة لم تكن فِي الْعَادِل احْتَاجَ فِي تقويمه إِلَى تَدْبِير الْأَجَل الْفَاضِل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَقتل على الكرك فِي هَذِه الكرة شرف الدّين بزغش النوري شَهِيدا رَحمَه الله ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهَا مستصحبا أَخَاهُ الْعَادِل إِلَى دمشق فَدخل دمشق فِي رَابِع عشري شعْبَان وَأعْطى الْعَادِل حلب فِي ثَانِي شهر رَمَضَان فَسَار فِي ذَلِك الْيَوْم نَحْوهَا فوصلها وَصعد القلعة فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَكَانَ بهَا ولد السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر وَمَعَهُ سيف الدّين يازكوج يدبر أمره وأبن العميد فِي الْبَلَد وَكَانَ الظَّاهِر أحب أَوْلَاده إِلَى قلبه لما قد خصّه الله بِهِ من الشهامة والفطنة وَالْعقل وَحسن السمت والشغف بِالْملكِ وَظُهُور ذَلِك عَلَيْهِ وَكَانَ من أبر النَّاس بوالده وأطوعهم لَهُ وَلَكِن أَخذ مِنْهُ حلب لمصْلحَة رَآهَا فَخرج من حلب لما دَخلهَا عَمه الْعَادِل هُوَ ويازكوج سائرين إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَدخل دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشري شَوَّال فَأَقَامَ فِي خدمَة وَالِده لَا يظْهر لَهُ إِلَّا الطَّاعَة والانقياد مَعَ انكسار فِي بَاطِنه لَا يخفى عَن نظر وَالِده قَالَ وَفِي ذَلِك الشَّهْر وردنا على السُّلْطَان رسلًا من جَانب الْموصل وَكُنَّا قد ترسلنا إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله فِي إِنْفَاذ شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين رَسُولا وشفيعا إِلَى السُّلْطَان فسيره مَعنا من بَغْدَاد وَكَانَ غزير الْمُرُوءَة عَظِيم الْحُرْمَة فِي دولة الْخلَافَة وَفِي سَائِر الْبِلَاد وَكَانَت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 مكانته عِنْد السُّلْطَان بِحَيْثُ يتَرَدَّد إِلَيْهِ إِذا كَانَ عِنْده فِي مُعظم الْأَيَّام قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ قد وصل إِلَى الْموصل وَسَار مِنْهَا بعد أَن سَار فِي صحبته القَاضِي محيي الدّين بن كَمَال الدّين وَكَانَ بَينهمَا صُحْبَة من الصِّبَا وَكنت مَعَ الْقَوْم وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا دمشق وَخرج السُّلْطَان إِلَى لِقَاء الشَّيْخ وَنحن فِي خدمته وأقمنا أَيَّامًا نراجع فِي فصل حَال فَلم يتَّفق صلح فِي تِلْكَ الدفعة وَخَرجْنَا رَاجِعين إِلَى الْموصل وَخرج السُّلْطَان إِلَى وداع الشَّيْخ إِلَى الْقصير واجتهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم أَن يَنْقَضِي شغل فَلم يتَّفق وَكَانَ الْوُقُوف من جَانب محيي الدّين فَإِن السُّلْطَان اشْترط أَن يكون صَاحب إربل والجزيرة على خيرتهما فِي الانتماء إِلَيْهِ أَو إِلَى صَاحب الْموصل فَقَالَ محيي الدّين لَا بُد من ذكرهمَا فِي النُّسْخَة فَوقف الْحَال وَكَانَ مسيرنا يَوْم الْخَمِيس سَابِع ذِي الْحجَّة قَالَ وَفِي تِلْكَ الدفعة عرض عَليّ السُّلْطَان مَوَاضِع الْبَهَاء الدِّمَشْقِي بِمصْر على لِسَان الشَّيْخ فاعتذرت وَلم أفعل خوفًا من أَن يُحَال توقف الْحَال عَليّ وَمن تِلْكَ الدفعة ثَبت فِي نَفسه الشَّرِيفَة مني أَمر لم أعرفهُ إِلَّا بعد خدمتي لَهُ وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق ترد عَلَيْهِ الرُّسُل من الجوانب فوصله رَسُول سنجر شاه صَاحب الجزيرة فاستحلفه لنَفسِهِ وانتمى إِلَيْهِ ورسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 إربل وَحلف لَهُم وَسَارُوا وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِل يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ عِنْده وَعِيد وَعَاد إِلَى حلب قَالَ الْعِمَاد ووصلت رسل صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي ورسل صَاحب إربل زين الدّين يُوسُف بن عَليّ كوجك بن بكتكين ورسل صَاحِبي الحديثة وتكريت يَشكونَ من صَاحب الْموصل وَيطْلبُونَ أَن يَكُونُوا من أَوْلِيَاء السُّلْطَان المنتمين إِلَيْهِ فَفعل السُّلْطَان ذَلِك وَكَانَ أَبُو سنجر شاه سيف الدّين غَازِي هُوَ صَاحب الْموصل بعد وَالِده مودود كَمَا تقدم ذكره فعهد إِلَى ابْنه سنجرشاه بهَا فغلبه عَلَيْهَا عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود فَبَقيت الجزيرة بيد سنجرشاه وَهُوَ تَحت يَد عَمه وَفِي قلبه مِنْهُ مَا فِيهِ وَكَانَت إربل وأعمالها وَمَا يَليهَا كلهَا مُضَافَة إِلَى الْموصل وَصَاحب الْموصل هُوَ الْحَاكِم على جَمِيعهَا فَمن ثمَّ طلب هَؤُلَاءِ الانحياز إِلَى خدمَة السُّلْطَان فأجابهم وَسمع بذلك صَاحب الْموصل فاستشفع بدار الْخلَافَة إِلَى أَن أرسل مِنْهَا شيخ الشُّيُوخ وشهاب الدّين بشير إِلَى السُّلْطَان أَن يجدد لصَاحب الْموصل الْأَيْمَان وَيكون لَهُ من جملَة الأعوان حَربًا لمن حاربه سلما لمن سالمه وَجَاء رَسُول صَاحب الْموصل قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين أَبُو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 حَامِد مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشَّهْرَزَوْرِي وترفع فِي أَدَاء الرسَالَة وَأَغْلظ فِي الْكَلَام فألان لَهُ السُّلْطَان وَقَالَ أَنا أَقْْضِي حَاجته على مَا أَرَادَ وَلَكِن قد سبق مني يَمِين لأولئك السلاطين فَأَنا أستثنيهم وأردهم إِلَى اختيارهم لي أَو لَهُ فَأبى ذَلِك وَأَرَادَ أَن تكون الصداقة لَهُ دون سَائِر ذَوي الممالك وَأَشَارَ إِلَى أَن لَهُم من ينصرهم من جِهَة البهلوان ملك الْعَجم فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان وَكَانَ ذَلِك محركا لَهُ إِلَى أَن يعود إِلَى الْموصل وَرجعت الرُّسُل على ذَلِك غير ظافرين بطائل وَكَانَ منزل شيخ الشُّيُوخ بالرباط على المنيبع ومنزل القَاضِي محيي الدّين فِي جوسق بُسْتَان الخلخال وشهاب الدّين بشير بجوسق الميدان وَتُوفِّي ولد شيخ الشُّيُوخ بِدِمَشْق وَكَانَ فِي صحبته فدفنه فِي الْمقْبرَة المحاذية للرباط وَحضر عِنْده السُّلْطَان وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء للعزاء فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت شتوة هَذِه السّنة كَثِيرَة الأمطار وَكَثُرت مكاتبات الْعِمَاد للفاضل وَأورد فِي بَعْضهَا أبياتا مِنْهَا (عذر الزَّمَان بِأَيّ وَجه يقبل ... ومحبكم بالصد فِيهِ يقتل) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 (مَا لي سوى إِنْسَان عَيْني مسعدا ... بالدمع إِنْسَان عَلَيْهِ أعول) (الدَّهْر ليل كُله فِي ناظري ... لَا صبح إِلَّا وَجهك المتهلل) (خيرتم بَين الْمنية والمنى ... لَا تهجروا فالموت عِنْدِي أسهل) (يَا غائبين وهم بفكري حضر ... يَا راحلين وهم بقلبي نزل) (مَا للسلو إِلَى فُؤَادِي مَنْهَج ... مَا للصبابة غير قلبِي منهل) (لَا تعدلوا عني فَمَالِي معدل ... عَنْكُم وَلَيْسَ سواكم لي موئل) (كل الخطوب دَفعته بتجلدي ... إِلَّا التَّفَرُّق فَهُوَ خطب معضل) (إِن لم يجدني طيفكم فِي زورة ... فلأنني مِنْهُ أدق وأنحل) (لَا صَبر لي لَا قلب لي لَا غمض لي ... لَا علم لي بالبين مَاذَا أفعل) قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي جُمَادَى الأولى من سنة تسع وَسبعين قبض عز الدّين اتابك على مُجَاهِد الدّين قايماز وَهُوَ حِينَئِذٍ نَائِبه فِي بِلَاده وابتع فِي ذَلِك هوى من أَرَادَ الْمصلحَة لنَفسِهِ وَلم ينظر فِي مضرَّة صَاحبه وَكَانَ الَّذِي أَشَارَ بِهِ عز الدّين مَحْمُود زلفندار وَشرف الدّين أَحْمد بن أبي الْخَيْر الَّذِي كَانَ أَبوهُ صَاحب بلد الغراف وهما من أكَابِر الْأُمَرَاء فَلَمَّا قَبضه كَانَ بِيَدِهِ إربل وشهرزور ودقوقا وجزيرة ابْن عمر وَكَانَ بهَا معز الدّين سنجرشاه بن سيف الدّين صَغِيرا وَالْحكم فِيهَا إِلَى مُجَاهِد الدّين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وَلَهُم أَيْضا قلعة الْعقر فحين قبض امْتنع زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين عَليّ بإربل وَكَانَ فِيهَا لَا حكم لَهُ مَعَ مُجَاهِد الدّين وَامْتنع معز الدّين بالجزيرة وَأرْسل الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله عسكرا حصر دقوقا فملكها وَلم يحصل لعز الدّين من جَمِيع مَا كَانَ لمجاهد الدّين إِلَّا شهرزور وَصَارَت هَذِه الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بِيَدِهِ أضرّ شَيْء على الْموصل وَبَقِي مَقْبُوضا نَحْو عشرَة أشهر وَنَدم أتابك على قَبضه فَأخْرجهُ وَأَعَادَهُ إِلَى ولَايَة قلعة الْموصل إِلَّا أَن الَّذِي أَخذ من الْبِلَاد لم يعد إِلَى طَاعَته وَقبض عز الدّين على من كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَبض مُجَاهِد الدّين قَالَ ابْن الْأَثِير وعَلى الْحَقِيقَة فَلَيْسَ على الدول شَيْء أضرّ من إِزَالَة مُدبر لَهَا وَإِقَامَة غَيره فَإِن الأول يكون كالطبيب الحاذق الْعَارِف بمزاج الْإِنْسَان ومرضه وعلاجه وَمَا يُوَافقهُ ويؤذيه وَيكون الثَّانِي وَإِن كَانَ كَافِيا بِمَنْزِلَة الطَّبِيب الَّذِي لَا يعرف مزاج الْإِنْسَان وَمَا يُوَافقهُ ويؤذيه فَإلَى أَن يعرف حَاله ينفسد أَكثر مِمَّا ينصلح قَالَ ابْن القادسي وَفِي هَذِه السّنة فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الأبله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الشَّاعِر وَهُوَ من أَسمَاء الأضداد واسْمه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن بختيار بن عبد الله وَكَانَ فصيحا هجاء وَله أشعار رقيقَة مِنْهَا (زار من أَحْيَا بزورته ... والدجى فِي لون طرته) (يَا لَهَا من زورة قصرت ... فأماتت طول جفوته) ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَقد تقوض الْبرد فَلَمَّا طَابَ الزَّمَان تجهز السُّلْطَان بالعساكر المنصورة إِلَى الكرك مرّة أُخْرَى وَأرْسل إِلَى تَقِيّ الدّين فجَاء بالعساكر المصرية وَالْأَجَل الْفَاضِل وَتَتَابَعَتْ العساكر المشرقية وَالْملك الْعَادِل وَجَاء نور الدّين بن قرا أرسلان صَاحب الْحصن وآمد وَصَاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 دَارا وأخو صَاحب سنجار وعسكر ماردين فاجتمعت العساكر بِرَأْس المَاء وأشفق السُّلْطَان على ابْن قرا أرسلان من اقتحام المشاق فأقامه بِرَأْس المَاء بحوران إِلَى حِين الْعود وَأمر الْعَادِل بِالْإِقَامَةِ مَعَه وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد سير السُّلْطَان إِلَى العساكر يطْلبهَا فوصل ابْن قرا أرسلان نور الدّين إِلَى حلب ثامن عشر صفر فَأكْرمه الْعَادِل إِكْرَاما عَظِيما وأصعده القلعة وباسطه ورحل مَعَه طَالبا دمشق وَكَانَ السُّلْطَان قد مرض أَيَّامًا ثمَّ شفَاه الله تَعَالَى وَلما بلغه وُصُول ابْن قرا أرسلان خرج إِلَى لِقَائِه وَكَانَ رَحمَه الله يكارم النَّاس مكارمة عَظِيمَة فالتقاه على الجسر بالبقاع فِي تَاسِع ربيع الأول ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَخلف نور الدّين واصلا مَعَ الْعَادِل فتأهب للغزاة وَخرج مبرزا إِلَى جسر الْخشب وَوصل الْعَادِل وَابْن قرا أرسلان دمشق فأقاموا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رحلوا يلتحقون بالسلطان ورحل السُّلْطَان من رَأس المَاء ثَانِي ربيع الآخر طَالبا للكرك فَأَقَامَ قَرِيبا مِنْهَا أَيَّامًا ينْتَظر وُصُول الْملك المظفر من مصر إِلَى تَاسِع عشر الشَّهْر فوصل تَقِيّ الدّين وَاجْتمعَ بِهِ وَمَعَهُ بَيت الْعَادِل وخزائنه فسيرهم إِلَيْهِ وَتقدم إِلَيْهِ وَإِلَى بَقِيَّة العساكر بالوصول إِلَيْهِ إِلَى الكرك فتتابعت العساكر إِلَى خدمته حَتَّى أَحدقُوا بالكرك فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى وَركب المجانيق عَلَيْهِ وَقد الْتَقت العساكر المصرية والشامية والجزرية وَلما بلغ الفرنج ذَلِك خَرجُوا براجلهم وفارسهم إِلَى الذب عَن الكرك وَكَانَ على الْمُسلمين فِيهِ ضَرَر عَظِيم فَإِنَّهُ كَانَ يقطع عَن قصد مصر بِحَيْثُ كَانَت القوافل لَا يُمكنهَا الْخُرُوج إِلَّا مَعَ العساكر الجمة فاهتم السُّلْطَان بأَمْره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 لتَكون الطَّرِيق سابلة وَيسر الله ذَلِك وَله الْحَمد والْمنَّة وَلَكِن كَانَ فتحهَا بعد ذَلِك وَلما بلغ السُّلْطَان خبر خُرُوج الفرنج تعبى لِلْقِتَالِ وَأمر العساكر أَن تخرج إِلَى ظهر الكرك وسير الثّقل نَحْو الْبِلَاد وَبَقِي الْعَسْكَر جَرِيدَة ثمَّ سَار السُّلْطَان يقْصد الْعَدو وَكَانَ الفرنج قد نزلُوا بِموضع يُقَال لَهُ الواله وَسَار حَتَّى نزل بالبلقاء على قَرْيَة يُقَال لَهَا حسبان قبالة الفرنج فِي طريقهم ورحل مِنْهَا إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ ماعين والفرنج مقيمون بالواله إِلَى السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة ثمَّ رحلوا قَاصِدين الكرك فَسَار بعض العساكر وَرَاءَهُمْ فقاتلوهم إِلَى آخر النَّهَار وَلما رأى رَحمَه الله تصميم الفرنج على الكرك أَمر الْعَسْكَر أَن يدْخل السَّاحِل لخلوه عَن العساكر فَهَجَمُوا نابلس ونهبوها وغنموا مَا فِيهَا وَلم يبْق فِيهَا إِلَّا حصناها وَأخذُوا جينين والتحقوا بالسلطان بِرَأْس المَاء قلت وَقد وصف القَاضِي الْفَاضِل حصن الكرك فِي بعض كتبه فَقَالَ هُوَ شجا فِي الْحَنَاجِر وقذى فِي المحاجر قد أَخذ من الآمال بمخنقها وَقعد بأرصاد العزائم وطرقها وَصَارَ ذئبا للدهر فِي ذَلِك الْفَج وعذرا لتارك فَرِيضَة الله من الْحَج وَهُوَ وحصن الشوبك يسر الله الآخر كبيت الواصف للأسدين (مَا مر يَوْم إِلَّا وَعِنْدَهُمَا ... لحم رجال أَو يولغان دَمًا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وَفِي كتاب آخر وَأما الكرك فكفات المنجنيقات عَلَيْهِ متضافرة وحجارتها على من فِيهِ حاجرة وَقد جدعت أنوف الأبرجة وأسبلت قناع الستائر وجوهها المتبرجة وكل جوانبها وعرة المرتقى صعبة المختطى وَالسُّلْطَان يستعذب المشقات الَّتِي تتفادى مِنْهَا الهمم ويباشر جمرات الشتَاء الكالح بِوَجْهِهِ المبتسم وَمن كتاب آخر وَقد جمعت الْحِجَارَة فِي الْإِسْقَاط بَين رُؤُوس الأبراج ورؤوس الأعلاج فرمت الشراريف والواقفين عَلَيْهَا لحمايتها وأرت الفرنج باهتدائها إِلَى أردائها غَايَة غوايتها فَمَا أخرج أحد مِنْهُم رَأْسا إِلَّا دخل فِي عينه نصل وَمَا هجر قرَاب الْإِسْلَام إِلَّا سيف وَله مَعَ رِقَاب الْكفْر عِنْد قطعهَا وصل وَمَا على الْحجر فِي الْإِسْرَاف والتبذير حجر وَلكُل لَيْلَة من نقع الحوافر من سنا الأسنة فجر وَلَقَد أَخذنَا من الْعَدو بالمخنق وشرعنا فِي طم الخَنْدَق والحائط وَاقع والواقعة بهم مُحِيطَة والمدرع بِالسُّيُوفِ مفصلة وبالجروخ مخيطة وَمن كتاب آخر عَذَاب الله بالحصن وَأَهله وَاقع مَا لَهُ من دَافع وَإِن دَلِيل النَّصْر قد ظهر وَمَا دونه من مَانع وَأما المنجنيقات فقد نكأت فِي الأبراج بالهدم وَفِي الأعلاج بالهتك فَلم تبْق لَهَا الْحِجَارَة الطائرة إِلَيْهَا حِجَارَة قَائِمَة وَإِن لَهَا من إمطارها عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا دِيمَة دائمة وأطفنا عَلَيْهَا بالزرجون حَتَّى وَقعت الأسوار من سكرها وضربنا دونهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 الستائر حَتَّى ترنمت لصخرها وعاطتها كفة المنجنيق عقار عقرهَا فالسور الْمُقَابل للمنجنيقات قد انْهَدَمت أبراجه وأبدانه وانهدت قَوَاعِده وأركانه وَلَوْلَا الخَنْدَق الَّذِي هُوَ وَاد من الأودية وَاسع عميق لما تعذر إِلَى الزَّحْف إِلَيْهِم والهجم عَلَيْهِم طَرِيق وَمن كتاب آخر الْحصن الَّذِي نَحن حاضروه وحاصروه فِي حصانة الحصانة قد هدت الْحِجَارَة مِنْهُ مَا أحكموه بِالْحِجَارَةِ وَغدا عَلَيْهِ بالتخريب مَا أعدوه للعمارة فقسي المنجنيقات ترمي وَلَا ترنم سهامها ويستديم من أَعدَاء الله ومعقلهم بِالْقَتْلِ وَالْهدم انتقامها فَمَا قَابل المنجنيقات من الأبراج والأبدان قد أَتَى التخريب على مَا فِيهِ من الْعمرَان فَلم يبْق إِلَّا طم الخَنْدَق وَالْأَخْذ بعد ذَلِك من الْعَدو بالمخنق والقلوب واثقة بِحُصُول الْفَتْح وَقد علم كل وَاحِد منا أَن متجره قد فَازَ بِالرِّبْحِ فَمَا يسمع منا بِحَمْد الله من أحد ملل وَلَا ضجر وَلَا تسفر هَذِه النّوبَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَّا عَن نصر وظفر قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان من رَأس المَاء على طَرِيق الظليل والزرقاء وعمان والبلقاء ثمَّ الرقيم وزيزاء والنقوب واللجون ثمَّ أدر ثمَّ الربة وَذَلِكَ فِي بلد مآب فَلَمَّا تلاحقت العساكر نزل على وَادي الكرك وَنصب عَلَيْهَا تِسْعَة مجانيق صفا قُدَّام الْبَاب فهدمت السُّور الْمُقَابل لَهَا وَلم يبْق مَانع إِلَّا الخَنْدَق الْوَاسِع العميق وَهُوَ من الأودية الهائلة والمهاوي الحائلة والمهالك الغائرة الغائلة وَلم يكن فِي الرَّأْي إِلَّا طمه وملؤه بِكُل مُمكن وردمه فعد ذَلِك من الْأُمُور الصعاب وَتعذر لحزونة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 الأَرْض وتحجرها حفر الأسراب فَأمر السُّلْطَان بِضَرْب اللَّبن وَجمع الأخشاب وَبِنَاء الْحِيطَان الْمُقَابلَة من الربض إِلَى الخَنْدَق وتسقيفها وتلفيق ستائرها وتأليفها فتمت دروبا وَاسِعَة لَا يزحم فِيهَا الجائي الذَّاهِب وتوافدت رجال الْعَسْكَر وَأَتْبَاعه وغلمانه وأشياعه على نقل مَا يرْمى فِي الخَنْدَق وَهَان طم الخَنْدَق بالدبابات الَّتِي قدمت والأسراب الَّتِي بنيت وأحكمت فَوجدَ النَّاس إِلَى الخَنْدَق طَرِيقا مهيعا فهم يزدحمون آمِنين من الْجراح عاملين بانشراح وَالنَّاس تَحت القلعة على شَفير الخَنْدَق لَا يستشعرون حذرا وَلَا يَخْشونَ سَهْما وَلَا حجرا وَقد امْتَلَأَ الخَنْدَق حَتَّى إِن أَسِيرًا مُقَيّدا رمى بِنَفسِهِ إِلَيْهِ وَنَجَا بَعْدَمَا توالى من الفرنج رمي الْحِجَارَة عَلَيْهِ وَفِي بعض الْكتب الْعمادِيَّة وَلَوْلَا الخَنْدَق الْمَانِع من الْإِرَادَة وَأَنه لَيْسَ من الْخَنَادِق الْمُعْتَادَة بل هُوَ وَاد من الأودية وَاسع الأفنية لسهل المشرع وهجم الْموضع فَلم يبْق إِلَّا تَدْبِير طم الخَنْدَق وَالْأَخْذ بعد ذَلِك من الْعَدو بالمخنق فعملنا دبابات قدمناها وبنينا إِلَى شَفير الخَنْدَق ثَلَاثَة أسراب بِاللَّبنِ سقفناها وأحكمناها فَصَارَت مِنْهَا إِلَى طرف الخَنْدَق طرق آمِنَة وَشرع النَّاس فِي طم الخَنْدَق مِنْهَا ونفوسهم مطمئنة وَقُلُوبهمْ سَاكِنة وَكَانَ الشُّرُوع فِيهِ يَوْم الْخَمِيس سَابِع جُمَادَى الأولى وَقد تسنى طمه وتهيأ ردمه وتسارع النَّاس إِلَيْهِ وازدحموا عَلَيْهِ وَلم يبْق صَغِير وَلَا كَبِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 إِلَّا وَهُوَ مُسْتَبْشِرٍ بِالْعَمَلِ منتظر لبشرى نجح الأمل وَقد تجاسروا حَتَّى ازدحموا تَحت القلعة نَهَارا كازدحامهم فِي الْمصلى يَوْم الْعِيد وليلا كحضورهم فِي جَامع دمشق لَيْلَة النّصْف السعيد وهم بِحَمْد الله من الْجراح سَالِمُونَ وبنصر الله موقنون عالمون وَإِن أَبْطَأَ الْعَدو عَن النجدة فالنصر سريع والحصن وَمن فِيهِ صريع وَقد خرقت الْحِجَارَة حجابه وَقطعت بهم أَسبَابه وناولته من الْأَجَل كِتَابه وحسرت لثام سوره وحلت نقابه فآناف الأبرجة مجدوعة وثنايا الشرفات مقلوعة ورؤوس الْأَبدَان محزوزة وحروف العوامل مَهْمُوزَة وبطون السقوف مبقورة وأعضاء الأساقف معقورة ووجوه الْجدر مسلوخة وجلود البواشير منشورة (والنصر أشهر من نَار على علم ... وَالْحَرب أقوم من سَاق على قدم) قَالَ وأشرف السُّلْطَان على أَخذهَا فوصل الْخَبَر أَن الفرنج قد تجمعُوا وجاؤوا منجدين لأهل الكرك ليزحزحوه عَن حصارها فَثنى السُّلْطَان عنان الْعَزْم إِلَيْهِم وَكَانُوا فِي منزلَة الواله وَتلك الْمَوَاضِع ضيقَة صعبة المسلك فانتظر السُّلْطَان أَن يخرجُوا إِلَى أَرض البلقاء وَتقدم عَنْهُم بأميال فَرَجَعُوا وَتَفَرَّقُوا وَلم يقدموا وعَلى قصد الكرك عزموا وَلما رأى السُّلْطَان أَن الفرصة من الفئتين فَاتَت مر على نابلس فَأَغَارَ وغنم وَفِي طَرِيق عوده نزل على سبسطية وفيهَا مشْهد زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام وَقد اتَّخذهُ الفرنج كَنِيسَة وأودعوها أَمْتعَة نفيسة وَبهَا من الفرنج سكان وأقساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وَرُهْبَان فقدوها بِأسَارَى الْمُسلمين ولاذوا بالأمان معتصمين ثمَّ أَنَاخَ على جينين فأهبط أوجها وَهدم برجها وآب بالنهاب والسبايا والمرباع والصفايا وَاجْتمعَ بِأَصْحَابِهِ على الفوار وتحدث بالإنجاد لحوادث الْغَوْر فِي الغوار فصل ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى دمشق للاجتماع برسل الْخلَافَة شيخ الشُّيُوخ وَبشير وَكَانُوا وصلوا وَالسُّلْطَان محاصر الكرك فَاجْتمع بهم وَأكْرمهمْ وَكَانُوا قد مرضوا وَمَات جمَاعَة من أَصْحَابهم وَعَاد السُّلْطَان شيخ الشُّيُوخ كل يَوْم وَلَيْلَة فِي الرِّبَاط بالمنيبع وَاسْتَأْذَنُوا فِي الْعود قبل الشِّفَاء فضاقت الصُّدُور بصدر ذَلِك الصَّدْر على تِلْكَ الْحَالة وعجزت تِلْكَ العثرة كَمَا شَاءَ الله عَن الْإِقَالَة ثمَّ اسْتَقل مودعا وداع الْأَبَد وَكَانَ حسام الدّين طمان مقدم عَسْكَر سنجار مَعَ السُّلْطَان حَاضرا فِي الْجِهَاد فَأذن لَهُ فِي الْعود وَأمره بمرافقة صدر الدّين وَالرسل مَعَه والرفق بهم فِي مَسِيرهمْ فَسَارُوا على سمت الرحبة فاغتنم الْأَمِير طمان بركَة تِلْكَ الصُّحْبَة فأدركت الْمنية شهَاب الدّين بشيرا بالسخنة ووصلوا بشيخ الشُّيُوخ إِلَى الرحبة وَهُنَاكَ لَقِي ربه قَالَ وَلَقَد توفاه الله على الْوَفَاء بعهده والوفاق لعقده مشيم الْكَرم كريم الشيم صَالح الْعَمَل ناجح الأمل مفارقا للدنيا فِي حَيَاته مُقبلا على الْآخِرَة قبل وَفَاته فَهُوَ مِمَّن رفعت سَرِيره الملائك وَوضعت لَهُ فِي عليين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 الأرائك وَكَانَت وَفَاته فِي شعْبَان بوأه الله الْجنان قلت كَانَ صدر الدّين هَذَا أحد السَّادة وَأَبوهُ وجده من أكَابِر الْأَعْيَان وشيوخ مَشَايِخ الزَّمَان وَهُوَ عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعد أَحْمد بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي وَقد ذكرت تَرْجَمَة وَالِده فِي تَارِيخ دمشق وألحقتها من أَخْبَار جده مِمَّا ذكره أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَارِيخه وَقَالَ ابْن القادسي توفّي صدر الدّين فِي رَجَب برحبة مَالك بن طوق وَدفن فِي قبَّة إِلَى جَانب قبر الشَّيْخ موفق الدّين مُحَمَّد بن المتقنة الرَّحبِي وَكَانَ مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَخمْس مئة وَكَانَ شَيخا ماثلا فِي الْعلم وَالدّين والسداد ثَابت الْجنان فِي الْحَوَادِث المزعجة والوقائع الباغتة المجلجلة سديد البديهة صافي الفكرة وَجمع بَين نظم الشّعْر ونثر الترسل وَكَانَ يُرْسل إِلَى الْأَطْرَاف ورتب فِي مشيخة الشُّيُوخ مُنْذُ توفّي وَالِده فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَتَوَلَّى بعده مشيخة الرِّبَاط صفي الدّين إِسْمَاعِيل وَمن شعره يَعْنِي صدر الدّين (وَلم أخضب مشيبي وَهُوَ زين ... لإيثاري جهالات التصابي) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 (وَلَكِن كي يراني من أعادي ... فأرهبه بوثبات الشَّبَاب) قلت ووقفت على كتاب فاضلي إِلَيْهِ جَوَابا عَن كتاب عتب فِيهِ وقف على التَّحِيَّة الطّيبَة والكرامة الصيبة والألفاظ الْعَذَاب إِلَّا أَنَّهَا الغضاب وَالنَّعِيم إِلَّا أَنه الْعَذَاب والمسامحة إِلَّا أَنَّهَا الْحساب والمتشابهات اللواتي تأولها أحسن تَأْوِيلهَا والمحكمات اللواتي هن أُمَّهَات الْكتاب وَيَكْفِي أَنه مزج الصاب بعسله وأرعف قلمه بِمَا لَا يرعفه الشجاع من أنوف أسله وَهَذَا بَاب قد آن سَده وسبيل قد وَجب صده وَعين دهر أَصَابَت هَذِه الْمَوَدَّة وَقد آن لَهَا أَن تنطرف وتنصرف وبادرة هم قد حَان أَن تنكشف وتنكشف فَلَا نظر بعْدهَا للعين الَّتِي أَصَابَت وَلَا خطرات فِي أَثَرهَا للخطرة الَّتِي رابت وَلَا كَانَ للأيام فِي فضل سيدنَا على عَبده نصيب وَلَا عدا أبدا على شباب الرضى عَنهُ مشيب وَلَا تمكن من حبيب وده إِلَى الْقلب رَقِيب وَلَا ملك رقّه غير تِلْكَ الْيَد الْكَرِيمَة وَلَا سَمِعت حَدِيث الْحَوَادِث تِلْكَ الْمَوَدَّة الْقَدِيمَة قَالَ الْعِمَاد وَخَرجْنَا من دمشق فِي شعْبَان وخيمنا على سعسع ودعا تَقِيّ الدّين فَأمره أَن يرجع بالعسكر إِلَى مصر فَسَار فِي منتصف الشَّهْر ثمَّ رَجعْنَا من فرض الْجِهَاد إِلَى فرض الصّيام بِدِمَشْق وَرجع كل عَسْكَر إِلَى مركزه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 ومدح الْعِمَاد تَقِيّ الدّين فِي هَذِه الْمرة بقصيدة ثائية نَحْو خَمْسَة وَثَمَانِينَ بَيْتا أَولهَا (إِذا شئتما عَن غير قلبِي تحدثا ... فَمَا حل فِيهِ الْهم إِلَّا ليلبثا) (خذا شَاهِدي صدق على صِحَة الْهوى ... ضنى ساكتا مني ودمعا مُحدثا) (مريضكما أشفى على الْيَأْس سقمه ... فَلَا تعجلا فِي أمره وتريثا) (رثى لي عدوي من جفَاء أحبتي ... وناهيك من حَال عدوي لَهَا رثى) وَمِنْهَا (عهودكم بعد النَّوَى مَا تشعثت ... وحاشى لذاك الْعَهْد أَن يتشعثا) (وأملك بِالْملكِ المظفر ظافرا ... من الْجد والجدوى قَدِيما ومحدثا) (مخوف السطا صَعب الإبا حسن الثنا ... مرجى الندى سهل الرضى طيب النثا) (صفا آخر العمرين من عمر الَّذِي ... بِهِ الْعمرَان الْيَوْم فِي الْعدْل ثلثا) (هم أَحْدَثُوا قمع الضَّلَالَة بِالْهدى ... فمذ ملكوا لم تلق فِي الدّين مُحدثا) (غثائي وغثي أَنْت حَامِل نَقصه ... بِفَضْلِك إِن الْبَحْر يحْتَمل الغثا) وَمِنْهَا فِي وصف القصيدة (وَقد سهلت والثاء أوعر مرتقى ... فَلَا فرق عِنْدِي بَين رَاء وَبَين ثا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 فصل يحتوي على ذكر المفاضلة بَين مصر وَالشَّام والتعريف بِحَال زين الدّين الْوَاعِظ الَّذِي كَانَ صَلَاح الدّين يكاتبه بوقائعه وَهُوَ الَّذِي نم على عمَارَة وَأَصْحَابه بِمَا كَانُوا عزموا عَلَيْهِ من قلب الدولة الناصرية مصرية كَمَا سبق وَسبب ذكره هُنَا أَنه هُوَ الَّذِي شرع فِي تَفْضِيل مصر بِكِتَاب كتبه إِلَى السُّلْطَان فِي هَذَا الْعَام وَقد تقدم للْقَاضِي الْفَاضِل كَلَام فِي تَفْضِيل مصر وذم الشَّام فِي أَوَائِل أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين وَله من كتاب آخر فدعونا من بعلبك الْبَلَد الأعسر وَمن رَأس عينهَا الضيقة المحجر وَمن ثلجها الَّذِي تنفش الْجبَال بعهنه وَمن بردهَا الَّذِي لَا يشفع الْجَمْر عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ وعودوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم فَإِنَّهَا قد علتها وَحْشَة لقطينها فَسَأَلت مطالع دسوتها عَن أقمار سلاطينها واذْكُرُوا النّيل الَّذِي وفى لكم فِي هَذِه السّنة بنقصه وأبى أَن يكون مَاؤُهُ ذخيرة لغير جودكم الَّذِي أَحْصَاهُ الله وَلم نحصه واذْكُرُوا قُرْطهَا وَمَاء طوبتها فقد كَاد يُقيم الْحجَّة على ثلج الشَّام ووخمه ويتغلغل برده فيسري إِلَى قلب الغليل وَكَأَنَّهُ جَار على غير طَرِيق فَمه واذْكُرُوا صِحَة هوائها وتعصبه لأيامكم حَتَّى أنعم الله عَلَيْكُم قبل صِحَة أجسامنا بِصِحَّة أجسامكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وَمن كتاب آخر وَأما أحوالي فإنني لم أزل ملتاثا مُنْذُ دخلت دمشق لتغير مَائِهَا وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها وأودائها وقراها وقرنائها وَمن لي بِمصْر فَإِنِّي أقنع بِمَا تنبته أرْضهَا من بقلها وقثائها وأبيع بردى وَمَا عساه بِشَربَة من مَائِهَا وأمتطي متن السَّيْف فِي هجر سوادها وسودائها فالطلل هائل وَلَا طائل وَمَا كُنَّا نسْمع بِهِ من تِلْكَ الْفَضَائِل متضائل حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا فَهِيَ بِلَاد تستجدي وَلَا تجدي وَفعل المَال بهَا لَازم للتعدي وَقَالَ الْعِمَاد هَذَا زين الدّين عَليّ بن نجا الْوَاعِظ من أهل دمشق وَمن سَاكِني مصر وَهُوَ ذُو لهجة فِي الْوَعْظ فصيحة وبهجة فِي الْفضل صَبِيحَة وَقبُول من الْقُلُوب وفصول فِي فصل الْخطاب للخطوب وَقد تأثث وتأثل وَقبل وَأَقْبل وَأحسن السُّلْطَان إِلَيْهِ بالأعطيات والإقطاعات وأجمل وَأَعْطَاهُ وأجزل وَأتم لَهُ مُرَاده وأكمل وَكَانَ السُّلْطَان يستشيره ويروقه تَدْبيره ويميل إِلَيْهِ لقديم مَعْرفَته وكريم سجيته وَوصل مِنْهُ فِي هَذِه السّنة كتاب يشوق إِلَى مصر ونيلها وَنَعِيمهَا وسلسبيلها وَدَار ملكهَا ودارة فلكها وبحرها وخليجها ونشرها وأريجها ومقسمها ومقياسها وإيناس ناسها وقصور معزها ومنازل عزها وجيزتها وجزيرتها وخيرتها وجيرتها وبركتها وبركتها وعدوتها وعدويتها وَتعلق الْقُلُوب بقليوبها واستلاب نفائس النُّفُوس بأسلوبها وملتقى الْبَحْرين ومرتقى الهرمين وروضة جنانها وجنة رضوانها ومساجدها وجوامعها ومشاهدها ومرابعها ونواظر بساتينها ومناظر ميادينها وساحات سواحلها وآيات فضائلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 ورحاب شوارعها وحلاب مشارعها وشروق غربيتها وغروب شرقيتها وَطيب طوبتها ومسار مسراها ومجرى فلكها وَمرْسَاهَا وعجائب بناها وغرائب مناها وَبَيَان عيانها بِلِسَان بلسانها وكياسة أخلاقها ونفاسة أعلاقها وشتاؤها فِي الْفَصْل ربيع نضير وغبارها عبير وماؤها كوثري وترابها عنبري ثمَّ وصف الْعِمَاد غير ذَلِك ثمَّ قَالَ وَذكر زين الدّين الْوَاعِظ فِي كِتَابه مَا دلّ بِهِ على فَضِيلَة تِلْكَ الديار من الْآيَات وَالْأَخْبَار والآداب والْآثَار وَلَو ظَفرت بِهِ لأوردته بِلَفْظِهِ وجلوته بوعظه لكنني فقدته فعرمت مَعَانِيه وأحكمت مبانيه قَالَ فَكتبت إِلَى زين الدّين الْوَاعِظ فِي جَوَابه عَن السُّلْطَان عرفنَا طيب الديار المصرية ورقة هوائها وَنحن نسلم لَهُ الْمَسْأَلَة فِي طيبها وتوفر نصِيبهَا ورقة نسيمها ورائق نسيبها لَكِن لَا ريب أَن الشَّام أفضل وَأَن أجر ساكنه أجزل وَأَن الْقُلُوب إِلَى قبله أميل وَأَن الزلَال الْبَارِد بِهِ أعل وأنهل وَأَن الْهَوَاء فِي صيفه وشتائه أعدل وان الزهر بِهِ أشب والنبت بِهِ أكهل وَأَن الْجمال فِيهِ أكمل والكمال فِيهِ أجمل وَأَن الْقلب بِهِ أروح وَالروح بِهِ أقبل ودمشق عقيلته الممشوطة وعقلته المنشوطة وحديقته الناضرة وحدقته الناظرة وَهِي عين إنسانه بل إِنْسَان عينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وصيرفي نقوده فِي عين نضاره ولجينه فمستامها مستهام وَمَا على محبها ملام وَمَا فِي ربوتها رِيبَة وَفِي كل حبوة مِنْهَا جنيبة وَلكُل شائب من نورها شبيبه وعَلى كل ورقة وَرقا وعَلى كل معانقة من قدود البانات عنقًا وشادياتها على الأعواد تطري وتطرب وساجعاتها بالأوراد تعجم وتعرب وَكم فِيهَا من جوَار ساقيات وسواق جاريات وأثمار بِلَا أَثمَان وروح وَرَيْحَان وَفَاكِهَة ورمان وخيرات حسان وَجَمِيع مَا فِي سُورَة الرَّحْمَن وَنحن نتلو عَلَيْهَا آلاءها إِلَى أَن يرجع إِلَيْنَا فنتلو على منكرها {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَقد تمسكنا بِالْآيَةِ وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وغنينا بِهَذِهِ الْأَدِلَّة عَن الاختراع والابتداع أما أقسم الله تَعَالَى بِدِمَشْق فِي قَوْله تَعَالَى {والتين وَالزَّيْتُون} وَالْقسم من الله لَهَا أدل دَلِيل على فَضلهَا المصون أما قاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّام خيرة الله من أرضه يَسُوق الله إِلَيْهَا خيرته من عباده) وَهَذَا أوضح برهَان قَاطع على انه خير بِلَاده أما الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجمعُوا على اخْتِيَار السُّكْنَى بِالشَّام أما فتح دمشق بكر الْإِسْلَام وَمَا ننكر أَن الله تَعَالَى ذكر مصر وسماها أَرضًا فَمَا الذّكر وَالتَّسْمِيَة فِي فَضِيلَة الْقسم وَلَا الْإِخْبَار عَنْهَا دَلِيلا على الْكَرم وَإِنَّمَا اكْتسبت الْفَضِيلَة من الشَّام بِنَقْل يُوسُف الصّديق إِلَيْهَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ الْمقَام بِالشَّام أقرب للرباط وَأوجب للنشاط وَأجْمع للعساكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 السائرة من سَائِر الْجِهَات للْجِهَاد وَأَيْنَ قطوب المقطب من سناء سنير وَأَيْنَ ذرى منف المشرف من ذرْوَة الشّرف المنيف الْمُنِير وَأَيْنَ الْهَرم الْهَرم من الْحرم الْمُحْتَرَم وَبَينهمَا فرق مَا بَين الْفرق والقدم وَهل للنيل مَعَ طول نيله وَطول ذيله واستطالة سيله برد بردى فِي نقع الغليل ونفع العليل وَمَا لذاك الْكثير طلاوة هَذَا الْقَلِيل وسيل هَذَا السلسبيل وَإِذا فاخرنا بالجامع وقبة النسْر ظهر عِنْد ذَلِك قصر الْقصر على أَن بَاب الفراديس فِي الْحَقِيقَة بَاب النَّصْر وَمَا رَأس الطابية كباب الْجَابِيَة وَلَو كَانَ لناسها باناس لم يحتاجوا إِلَى قِيَاس المقياس وَنحن لَا نجفوا الوطن كَمَا جفاه وَلَا نأبى فَضله كَمَا أَبَاهُ وَحب الوطن من الْإِيمَان وَمَعَ هَذَا فَلَا ننكر أَن مصر إقليم عَظِيم الشان وَأَن مغلها كثير وماءها غزير وَأَن عدهَا نمير وَأَن ساكنها ملك أَو أَمِير وَلَكِن نقُول كَمَا قَالَ الْمجْلس السَّامِي الأجلي الفاضلي أسماه الله أَن دمشق تصلح أَن تكون بستانا لمصر وَلَا شكّ أَن أحسن مَا فِي الْبِلَاد الْبُسْتَان وزين الدّين وَفقه الله قد تعرض للشام فَلم يرض أَن يكون الْمسَاوِي حَتَّى شرع وعد الْمسَاوِي وَلَعَلَّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 يرجع إِلَى الْحق وَيُعِيد سعد إسعاده ووفاقه إِلَى الْأُفق إِن شَاءَ الله قلت وَقد قيل فِي وصف دمشق شَيْء كثير من النّظم والنثر واشتمل مَا جمعته فِي أول تَارِيخ دمشق على قِطْعَة حَسَنَة كَبِيرَة من ذَلِك وصنف شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي رَحمَه الله مقامة تشْتَمل على الْمُفَاخَرَة بَين دمشق ومصر وَوصف كلا من البلدين بِمَا يَلِيق بِهِ وَكَانَ أول مَا قدم دمشق يذمها فِي مكاتباته إِلَى مصر نظما ونثرا حبا للوطن ثمَّ لما اسْتَقر فِيهَا قرت عينه وفضلها فِي بعض مكاتباته وَقد ذكرت كل ذَلِك فِي جُزْء مُسْتَقل بِهِ وَأما القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله فقد قَالَ فِي بعض مكاتباته إِلَى مصر وَمِمَّا أسر بِهِ قلبه الْكَرِيم أنني وصلت إِلَى دمشق المحروسة حِين شرد بردهَا وَورد وردهَا واخضل نبتها وَحسن نعتها وَصفا مَاؤُهَا وضفا رداؤها وتغنت أطيارها وتبسمت أزهارها وافتر زهر أقحوانها فَحكى ثغور غزلانها ومالت قضب بانها فانثنت تثني ولدانها فَلَمَّا قربت من بساتينها ولاح لي فيح ميادينها وتوسطت جنَّة واديها وَرَأَيْت مَا أبدعه الله فِيهَا سَمِعت عِنْد ذَاك حَماما يغرد وهزارا يشدو ويردد وقمريا ينوح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وبلبلا بأشجانه يبوح فوقفت أثني على باريها وأكاد بالدمع أباريها أسفا على أَيَّام خلت بَعْدَمَا حلت مِنْهَا وفيهَا فَعِنْدَ ذَلِك عَايَنت روحي وَزَالَ أنيني ولوحي (وَكَانَت النَّفس قد مَاتَت بغصتها ... فَعِنْدَ ذَلِك عَادَتْ روحها فِيهَا) قلت وَوصف أَيْضا دمشق من أهل مصر من يرجع إِلَى قَوْله ويرضى بِحكمِهِ لفضله وفصله وَهُوَ الْوَزير العادلي صفي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن شكر فِي كتاب البصائر لَهُ فَقَالَ دمشق نزهة الْأَبْصَار وعروس الْأَمْصَار ومجرى الْأَنْهَار ومغرس الْأَشْجَار ومعرس السفار ومعبد الْأَبْرَار المستغفرين بالأسحار ظلها الْمَمْدُود ومقامها الْمَحْمُود وماؤها المسكوب وعيبها المسلوب ومحاسنها الْمَجْمُوعَة وفضائلها المروية المسموعة ودرجتها المرفوعة وفاكهتها الْكَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة ونسيمها العليل وهجيرها الْأَصِيل وماؤها السلسبيل وَقد شرفها الله تَعَالَى بِالذكر فِي كِتَابه وآوى إِلَيْهَا من اخْتَار من أنبيائه وأحبابه فَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين {وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين} وَلم تزل مقرّ البركات ومعدن النبوات ومنزل الرسالات ومسكن أَرْبَاب الكرامات وَورد فِي تَفْضِيل بقعتها من الْأَخْبَار مَا لَا يشك فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 صِحَة إِسْنَاده قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّام صفوة الله من بِلَاده فِيهَا خيرة الله من عباده) وَنبهَ فِي خبر آخر على عظم فَضله فَقَالَ (إِن الله تكفل لي بِالشَّام وَأَهله) وَركب فِي سكناهَا أهل الْإِسْلَام بقوله عَلَيْهِ السَّلَام الْبركَة فِي الشَّام وَذهب بعض الْمُفَسّرين من أهل الِاجْتِهَاد إِلَى أَنَّهَا {إرم ذَات الْعِمَاد الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد} قَالَ وَلما أنعم الله تَعَالَى عَليّ بإسكاني فِي فنائها وتخيري لبنائها ونزهني فِي أفنائها وآنسني بإنسانها مضيت إِلَى جَامعهَا الْجَامِع وشفعت بِإِدْرَاك الْبَصَر مِنْهَا إِدْرَاك المسامع فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ وحللت الحبى لَدَيْهِ رَأَيْت مرأى صغر الرِّوَايَة ورونقا حصل من الْحسن على النِّهَايَة ونورا يجلو الْأَبْصَار وجمعا يفضل على جموع الْأَمْصَار وَعبادَة مَوْصُولَة على الِاسْتِمْرَار وقرآنا يُتْلَى فِي آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار ومنقطعين إِلَيْهِ قد أَنْفقُوا فِي الِاعْتِكَاف بِهِ نفائس الْأَعْمَار والبركات تحف بجوانبه والعلوم تنشر فِي زواياه ومحاربه وَالْأَحَادِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسند وتروى والمصاحف بَين أَيدي التالين تنشر وَلَا تطوى وأعلام الْبر فِيهِ ظَاهِرَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فَلَا تخفى وَلَا تزوى والخلق منقسمون إِلَى حلق قد نبذ أَهلهَا مَا وَرَاءَهُمْ من العلق وَالْإِسْلَام فِيهِ فَاش وَالْجهل بِهِ متلاش وَهُوَ مِمَّا بناه الْأَولونَ لعبادتهم وجعلوه ذخْرا لآخرتهم وَمَا برح معبدًا لكل مِلَّة اتخذته الْمَجُوس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى قبل الْإِسْلَام هيكلا وقبلة وَهُوَ بَيت الْمُتَّقِينَ وسوق المتصدقين ليله للمتهجدين ونهاره للْعُلَمَاء الْمُجْتَهدين قَالَ وعاشرت أَهلهَا وباشرتهم ثمَّ كاشرتهم وكاشفتهم فَرَأَيْت سادة أدباء وعلماء نجباء ورأيتهم يتناظرون فِي الْفِقْه مناظرة الْوَالِد مَعَ وَلَده ويقفون عِنْد كتاب الله فَلَا يعدلُونَ عَن وَاضح جدده ويفسرونه عَن علم واستبصار ويحتاطون فِي علمهمْ بِصَحِيح الْأَخْبَار ويتبعون مَا وَردت بِهِ ثِقَات الْآثَار وعامتهم مشغولون بالمعاش آخذون من زينتهم عِنْد كل مَسْجِد أفضل الرياش لَا يَخُوضُونَ فِي لغط وَلَا إكثار وَلَا يَجْتَمعُونَ على فَسَاد نِيَّة فِي مُقيم وَلَا بعيد الدَّار قَالَ فأقمت مِنْهَا فِي أشرف الْبلدَانِ الَّتِي هِيَ أنموذج الْجنان وعنوان الدَّار الَّتِي خازنها رضوَان والقلوب فِيهَا عِنْد ذكر الله حَاضِرَة والنفوس بِالْخَيرِ دون الشَّرّ آمرة فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد كَانَت إربل وَمَا يجْرِي مَعهَا من الْبِلَاد والقلاع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 ولايات الْموصل مَعْدُودَة فَأَرَادَ صَاحب إربل أَن ينْفَرد عَنهُ ويستبد بالبلاد فاعتزى إِلَى السُّلْطَان وكاتبه وَطلب مِنْهُ منشورا ببلاده فَكَتبهُ لَهُ وَفِيه إِن الله لما مكن لنا فِي الأَرْض ووفقنا فِي إعزاز الْحق وإظهاره لأَدَاء الْفَرْض رَأينَا أَن نقدم فرض الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فنوضح سَبيله ونقبل على إعلاء الدّين وننصر قبيله وندعو أَوْلِيَاء الله من بِلَاد الْإِسْلَام إِلَى غَزْو أعدائه ونجمع كلمتهم فِي رفع كَلمته الْعليا فِي أرضه على استنزال نَصره من سمائه فَمن ساعدنا على أَدَاء هَذِه الْفَرِيضَة واقتناء هَذِه الْفَضِيلَة يحظى من عوارفنا الجزيلة بِحسن الصنيعة ونجح الْوَسِيلَة وَمن أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ وَأعْرض عَن حق دينه بالإقبال على بَاطِل دُنْيَاهُ فَإِن أناب قبلناه وَإِن أصر على غوايته أزلنا يَده وعزلناه تَفْصِيل مَا كتب فِي منشوره إربل وقلعتها وأعمالها جَمِيع مَا قطعه الزابي الْكَبِير شهرزور وأعمالها معايش بَيت قفجاق معايش بَيت القرابلي الدشت والزرزارية قَالَ الْعِمَاد وَفِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة توفّي صَاحب ماردين وَهُوَ قطب الدّين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق والأمراء الأرتقية هم الَّذين رتقوا فتوق الْإِسْلَام أَولا وَكَانُوا يتولون بَيت الْمُقَدّس وحموه من الفرنج قبل المصريين وَإِنَّمَا أَخذه الفرنج سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة من المصريين فَبَقيَ السَّاحِل كُله مَعَ أهل الشّرك فحمت الأرتقية ديار بكر وَمَا والاها وحلب وأعمالها وتوارثوا ديار بكر كَابِرًا عَن كَابر إِلَى أَن انْتهى إِلَى هَذَا قطب الدّين أَعمال ميافارقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وماردين فَلَمَّا مَاتَ بقيت على وَلَده وَله عشر سِنِين وانْتهى إِلَى ابْن عَمه نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سكمان بن أرتق حصن كيفا وخرتبرت والبلاد الَّتِي تناسبها وأضاف السُّلْطَان إِلَيْهِ آمد وَقد كَانَ قطب الدّين أَولا على مصافاة صَاحب الْموصل لما بَينهمَا من الْقَرَابَة ثمَّ أذعن للسُّلْطَان وَدخل تَحت طَاعَته قلت وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا توفّي خَليفَة الْمغرب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَولي ابْنه يَعْقُوب قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَبعد عود السُّلْطَان من حِصَار الكرك وصل رسل الْخَلِيفَة وَمَعَهُمْ الْخلْع فلبسها السُّلْطَان وألبس أَخَاهُ الْعَادِل وَابْن أَسد الدّين خلعا جَاءَت لَهما ثمَّ خلع السُّلْطَان خلعة الْخَلِيفَة على نور الدّين بن قرا أرسلان وَأَعْطَاهُ دستورا فَسَار إِلَى بِلَاده ووصلت رسل زين الدّين بن زين الدّين مستصرخا إِلَى السُّلْطَان يخبر أَن عَسْكَر الْموصل وعسكر قزل نزلُوا على إربل مَعَ مُجَاهِد الدّين قايماز وَأَنَّهُمْ نهبوا وأحرقوا وَأَنه نصر عَلَيْهِم وكسرهم فَلَمَّا سمع ذَلِك سَار من دمشق يطْلب الْبِلَاد وَتقدم إِلَى العساكر فتبعته وَسَار على طَرِيق المغار ويبوس الْبِقَاع إِلَى بعلبك وَمرض الْعِمَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 فَانْقَطع بهَا وَسَار السُّلْطَان إِلَى حمص ثمَّ إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن شفي الْعِمَاد ولحقه بهَا وَكَانَ الْأَجَل الْفَاضِل بِدِمَشْق فَأرْسل الْحَكِيم الْمُوفق بن المطران واسْمه أسعد بن إلْيَاس إِلَى الْعِمَاد ببعلبك لما سمع بمرضه فَسَار من دمشق إِلَى بعلبك فِي يَوْم وَلَيْلَة وَعمل مَعَه عمل من طب لمن حب فبرىء بعون الله تَعَالَى فَرجع إِلَى دمشق فَلَمَّا استقام مزاجه رَحل إِلَى السُّلْطَان فوافقه بحماة وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مخيم بِظَاهِر حماة فَسَار إِلَى حلب وتلقاه أَخُوهُ الْعَادِل وَاجْتمعت لَهُ بهَا العساكر فَخرج مِنْهَا فِي صفر لقصد الْموصل فَسَار وَقطع الْفُرَات وَأقَام الْعَسْكَر ثَلَاثَة أَيَّام للعبور بهَا وَكَانَ السُّلْطَان قد سير إِلَى معاقل الْفُرَات وقلاعه ونواحيه وضياعه وَأمر أَهلهَا بعمارة كل سفينة فِي الْفُرَات وزورق ومركب وَجَمعهَا من كل مشرق ومغرب ثمَّ وصل إِلَى حران وفيهَا مظفر الدّين بن زين الدّين وَهُوَ أَخُو زين الدّين يُوسُف صَاحب إربل وَقد كَانَ أول من دخل فِي خدمَة السُّلْطَان أول مَا قصد تِلْكَ الْبِلَاد فِي الْمرة الأولى واقتدى بِهِ أَخُوهُ وَغَيره من أَصْحَاب الْأَطْرَاف فِي الانتماء إِلَى السُّلْطَان وَحضر مَعَه حِصَار عدَّة بِلَاد كالموصل وسنجار وآمد وحلب وَأظْهر من الْمَوَدَّة فَوق مَا كَانَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 الْحساب وَهُوَ كَانَ كثير الْحَث للسُّلْطَان على الْمسير إِلَى الْموصل هَذِه الْمرة بِرَسُولِهِ وَكتابه وَقَالَ رَسُوله للسُّلْطَان إِن مظفر الدّين إِذا عبرتم الْفُرَات يسْتَدرك كل مَا فَاتَ وَيقوم بِكُل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من النَّفَقَات والغرامات والأزواد وَيقدم يَوْم الْوُصُول إِلَى حران خمسين ألف دِينَار وَكتب خطه بذلك فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى حران لم ير مِنْهُ مَا الْتَزمهُ الرَّسُول فارتاب بِهِ وَظن أَنه مَال مَعَ المواصلة ووشت الْأَعْدَاء فِيهِ بذلك وَأَن نِيَّته قد تَغَيَّرت فَحلف للسُّلْطَان أَنه لم يتَغَيَّر وَأَن مَا الْتَزمهُ الرَّسُول لم يكن بأَمْره وَهُوَ ابْن ماهان فانعزل عِنْده عَن مرتبته وَهَان فَقبض السُّلْطَان على مظفر الدّين ليتبين أمره وشاور فِيهِ أَصْحَابه فَأَشَارَ بَعضهم بإتلافه وَبَعْضهمْ باستبقائه واستئلافه فَعَفَا السُّلْطَان عَنهُ على أَن يسلم قلعتي الرها وحران فَفعل ذَلِك وَهُوَ مسرور بِبَقَاء نَفسه ثمَّ أُعِيدَت إِلَيْهِ القلعتان فِي آخر السّنة لما رأى السُّلْطَان من حركاته المستحسنة قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَسَار السُّلْطَان حَتَّى أَتَى حران على طَرِيق البيرة والتقاه مظفر الدّين بالبيرة فِي ثَانِي عشر الْمحرم وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَعْنِي الْموصِلِي رَسُولا واسْمه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عبد السَّلَام ويكنى بِأبي الْخَلِيل فَلَقِيَهُ بحماة يعْتَذر مِمَّا جرى فَأعْطَاهُ دستورا بعد أَن أكْرمه وَسَار من غير غَرَض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 قلت وَصَحب ابْن عبد السَّلَام فِي هَذِه السفرة من الْموصل عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة فمدح السُّلْطَان بقصيدة أَولهَا (سَلام مشوق قد براه التشوق ... على الْحَيّ من وَادي الغضا إِذْ تفَرقُوا) فَلَمَّا بلغ من مديحها إِلَى قَوْله (وَقَالَت لي الآمال إِن كنت لاحقا ... بأبناء أَيُّوب فَأَنت الْمُوفق) قَالَ لَهُ السُّلْطَان لقد وفقت وَأَجَازَهُ جَائِزَة سنية ثمَّ قَالَ القَاضِي وَتقدم السُّلْطَان إِلَى سيف الدّين المشطوب أَن يسير فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر إِلَى رَأس عين وَوصل السُّلْطَان حران فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر وَفِي السَّادِس وَالْعِشْرين مِنْهُ قبض على مظفر الدّين لشَيْء كَانَ جرى مِنْهُ وَحَدِيث بلغه عَنهُ رَسُوله وَلم يقف عَلَيْهِ وَأنْكرهُ وَأخذ مِنْهُ حران والرها ثمَّ أَقَامَ فِي الاعتقال تأديبا إِلَى مستهل ربيع الأول ثمَّ خلع عَلَيْهِ وَطيب قلبه وَأعَاد عَلَيْهِ قلعة حران وبلاده الَّتِي كَانَت بِيَدِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى قانونه فِي الاحترام وَالْإِكْرَام وَلم يتَخَلَّف لَهُ سوى قلعة الرها ووعده السُّلْطَان بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 ثمَّ رَحل السُّلْطَان ثَانِي ربيع الأول من حران إِلَى رَأس عين وَوَصله فِي ذَلِك الْيَوْم رَسُول قليج أرسلان يُخبرهُ أَن مُلُوك الشرق بأسرهم قد اتّفقت كلمتهم على قصد السُّلْطَان إِن لم يعد عَن الْموصل وماردين وَأَنَّهُمْ على عزم ضرب المصاف مَعَه إِن أصر على ذَلِك فَرَحل السُّلْطَان يطْلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدّين بن قرا أرسلان وَمَعَهُ عَسْكَر نور الدّين فالتقاهم السُّلْطَان واحترمهم ثمَّ رَحل من دنيسر نَحْو الْموصل حَتَّى نزل بِموضع يعرف بالإسماعيليات قريب الْموصل بِحَيْثُ يصل من الْعَسْكَر كل يَوْم نوبَة جَرِيدَة تحاصر الْموصل فَبلغ عماد الدّين بن قرا أرسلان موت أَخِيه نور الدّين فَطلب من السُّلْطَان دستورا طَمَعا فِي ملك أَخِيه فَأعْطَاهُ دستورا وَقَالَ الْعِمَاد خرج السُّلْطَان من حران فِي ربيع الأول فَمر على رَأس عين ودارا فَخرج أميرها بِأَصْحَابِهِ فِي الْخدمَة وَقدم عماد الدّين أَبُو بكر بن قرا أرسلان بعساكر ديار بكر وآمد نِيَابَة عَن أَخِيه نور الدّين فَإِنَّهُ كَانَ مَرِيضا ثمَّ رَحل إِلَى نَصِيبين وَقدم صَاحب الجزيرة سنجر شاه بن أخي صَاحب الْموصل فَأكْرمه السُّلْطَان ثمَّ سَار من أقرب الطّرق من دجلة وتنكب طَرِيق الدولعية فَنزل على بلد آخر ربيع الأول ثمَّ توجه إِلَى الْموصل وخيم على الإسماعيليات وَقدم على السُّلْطَان زين الدّين صَاحب إربل وَأول مَا بَدَأَ بِهِ السُّلْطَان يَوْم نُزُوله على بلد قبل الإسماعيليات إرْسَال ضِيَاء الدّين أبي الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله بن الشهرزوري إِلَى الْخَلِيفَة بِمَا عزم عَلَيْهِ من حصر الْموصل فَإِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 أَهلهَا يواصلون الْأَعَاجِم وخاطبون لسلطانهم الْقَائِم وناقشو اسْمه فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وَأَنَّهُمْ يتعززون بالبهلوان ويعجزون إِلَّا عَن الطَّاعَة لَهُ والإذعان وَأَنَّهُمْ يرسلون إِلَى الفرنج ويقوون نُفُوسهم على قصد الثغور وتفريق الْجُمْهُور وَأَنه مَا جَاءَ طَمَعا فِي استضافة ملك وَلَا استزادة سلك وَلَا قلع بَيت قديم وَلَا قطع أصل كريم وَإِنَّمَا مَقْصُوده الْأَصْلِيّ ومطلوبه الْكُلِّي ردهم إِلَى طَاعَة الإِمَام ونصرة الْإِسْلَام وكشف مَا اعتادوه واعتوروه من الظُّلم والظلام وفطمهم عَن استحلال الْحَرَام وقطعهم عَن مُوَاصلَة الأعجام وإلزامهم بِمَا يجب عَلَيْهِم من حفظ الْجَار وصلَة الْأَرْحَام فَهَذَا صَاحب الجزيرة وَهُوَ ابْن أخي صَاحب الْموصل ولي عهد أَبِيه لم يرع فِيهِ ذمَّة أَخِيه وأبعده عَمَّا اسْتَحَقَّه بِالْإِرْثِ وَالتَّوْلِيَة وَحرمه مَا يستوجبه من التربية والتلبية وأخاف حرمه وَقطع رَحمَه وَلَو تمكن مِنْهُ لأطاح دَمه وَلَوْلَا خَوفه من جَانِبه وتوقيه من دَبِيب عقاربه لما التجأ إِلَى هَذَا الْجَانِب وَلما اخْتَار الْأَجَانِب على الْأَقَارِب وَهَذَا صَاحب إربل جَار الْموصل أَبوهُ زين الدّين عَليّ هُوَ الَّذِي حفظ بَيتهمْ وَخلف فِي إحيائهم ميتهم وَهَذَا وَلَده فِي جوارهم يشكو جَوْرهمْ وَحَدِيث صَاحب الحديثة فِي حَادِثَة لَا تخفى وَعين من بتكريت من مخافتهم وآفتهم لَا تكرى قلت وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان وَكَانَ قد تحيز إِلَى الْخَادِم فِي وَقت حركته صَاحب تكريت والحديثة وَهُوَ يسْتَأْذن فِي استتباعهما بِحكم التَّقْلِيد الَّذِي تنَاول هَذَا وَغَيره وَلم يسْتَأْذن فِي ذَلِك استئذانا مُخَصّصا إِلَّا لمحلهم من جوَار دَار الْخلَافَة وَلِأَنَّهُمَا مِمَّا يرى الْخَادِم إِضَافَته إِلَى مَا يجْرِي فِي خَاص الدِّيوَان الْعَزِيز مَعَ غَيرهمَا مِمَّا يجْرِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 مجراهما فِي الْقرب من الْجوَار وَالدُّخُول فِي ذمام شرف تِلْكَ الدَّار فَإِن أذن لَهُ استثناهما فِي صلح إِن تمّ مَعَهم أَو حماهما مَعَ مباينته إِن اخْتَار الْمشَار إِلَيْهِم الْبَقَاء عَلَيْهَا وَهَذَا برد شرف قد أعوزه علمه وتاج إِذا أسلمه الْخط الشريف نظم الفخار منتظمه وَمن كتاب آخر وَمَا كُنَّا بِشَهَادَة الله فِي قتال الْمَذْكُورين إِلَّا كقاطع كَفه ليسلم سَائِر جِسْمه وكراكب حد السنان مُضْطَرّا فِي حكمه وأصحب الْعِمَاد الرَّسُول قصيدة مدح بهَا الصاحب مجد الدّين أَبَا الْفَضَائِل أَولهَا (قضى الوجد لي أَن لَا أفِيق من الوجد ... فيا ضلة اللاحي إِذا ظن أَن يهدي) (محبكم جلد على كل حَادث ... وَلَكِن على هجرانكم لَيْسَ بِالْجلدِ) (بِبَغْدَاد حطوا رحلكم ليخصكم ... أَبُو الْفضل مجد الدّين بِالْفَضْلِ وَالْمجد) (رَآهُ الإِمَام النَّاصِر الدّين ناصرا ... فحاول تعويلا على مجده المجدي) وَمِنْهَا (إِلَيْك صَلَاح الدّين ألجأ أمره ... فحط رُكْنه وَالْعقد بالشد والشد) (مليك على حَرْب الْعَدو مصمم ... وَمَا زَالَ فِيهِ غَالب الْجد والجند) (تساور أَفْوَاه الْجراح رماحه ... مساورة الأميال للأعين الرمد) (يحل المنايا الْحمر بالْكفْر مجريا ... دم الْأَصْفَر الرُّومِي بالأبيض الْهِنْدِيّ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 (وَمَا لأمير الْمُؤمنِينَ كيوسف ... فَتى فِي مراضيه بمهجته يفْدي) قَالَ وَشرع السُّلْطَان فِي إقطاع الْبِلَاد والتوقيع بهَا على الأجناد وسير الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالمشطوب الهكاري وَمَعَهُ الْأُمَرَاء من قبيلته والأكراد من شيعته إِلَى بلد الهكارية وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء الحميدية إِلَى الْعقر وأعمالها لاستفتاح قلاعها واستغلال ضياعها وَنصب الجسر وَملك الْأَمر وَعبر مظفر الدّين صَاحب حران وَغَيره من الْأُمَرَاء وخيموا بالجانب الغربي وَكَانَ الْحر إِذْ ذَاك شَدِيدا فَأمر السُّلْطَان بِالصبرِ عَن الْقِتَال إِلَى أَن يطيب الزَّمَان وَأهل الْموصل فِي الْحصار وأشير عَلَيْهِ بتحويل دجلة وَكَانَ مَاؤُهَا قد قل بطرِيق ذكره خَبِير بهَا زعم أَنه يُمكن سد دجلة وسكرها وبثق فرضة أُخْرَى وَكسرهَا ونقلها وَتَحْوِيلهَا إِلَى دجلة نِينَوَى وتعطش الْموصل إِذا المَاء عَنْهَا انزوى وَعرض ذَلِك على رَأْي الْفَقِيه الْعَالم فَخر الدّين أبي شُجَاع ابْن الدهان الْبَغْدَادِيّ وَكَانَ مهندس زَمَانه وإنسان عين الْفضل وَعين إنسانه وَكَانَ مُنْذُ عهد قديم سكن الْموصل فِي ظلّ كَبِير من أَصْحَاب زين الدّين عَليّ وَلما سمع بكرم السُّلْطَان تفيأ بظله وتعرف إِلَى فَضله فَصدق المشير بذلك وَقَالَ هَذَا مُمكن وَلَا يتَعَذَّر ويتيسر وَلَا يتعسر وَمن كتاب عمادي إِلَى بَغْدَاد وَذكر المهندسون أهل الْخِبْرَة أَنه يسهل تَحْويل دجلة الْموصل عَنْهَا بِحَيْثُ يبعد مستقى المَاء مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يضْطَر أَهلهَا إِلَى تَسْلِيمهَا بِغَيْر قتال وَلَا حُصُول ضَرَر فِي تضييق وَلَا نزال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فصل فِيمَا فعل السُّلْطَان فِي أَمر خلاط وميافارقين وَغَيرهمَا من الْبِلَاد قَالَ الْعِمَاد ثمَّ وصل خبر وَفَاة شاه أرمن صَاحب خلاط فتحول إِلَيْهَا الْعَزْم وترجح بهَا الحزم وَكَانَ وُرُود مَوته فِي الْعشْرين من ربيع الآخر وَكَانَ مَوته فِي التَّاسِع مِنْهُ وَلم يخلف ولدا ولاذا قرَابَة يكون خلفا لَهُ فِيهَا ووردت كتب الْأَوْلِيَاء من أهل بدليس وَغَيرهَا إِلَى السُّلْطَان يخطبونه لَهَا وهم خائفون من الْعَجم أَن يتولوها فَاخْتلف النَّاس على السُّلْطَان فَمن مشير بِالْإِقَامَةِ إِلَى انْفِصَال أَمر الْموصل وَمن مشير بِالْمَسِيرِ إِلَى بِلَاد الأرمن فَإِن الْموصل غير فَائِتَة وَمن قَائِل بانقسام الْعَسْكَر فِي الْجِهَتَيْنِ فترجح رَأْي السُّلْطَان على الْمسير إِلَيْهَا فَكتب إِلَى الْخَلِيفَة يطْلب مِنْهُ كتاب تَقْلِيد بِبِلَاد الأرمن وديار بكر والموصل فَجَاءَهُ بعد فتح ميافارقين مِثَال شرِيف بتقليده النّظر فِي أَمر ديار بكر وَالنَّظَر فِي مصَالح أَيْتَام مُلُوكهَا ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَن الْموصل فِي أَوَاخِر شهر ربيع الآخر وَقدم فِي مقدمته نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه ابْن عَمه ومظفر الدّين صَاحب حران وَأَمرهمَا أَن يَسِيرا إِلَى خلاط من أقرب الطّرق فَلَمَّا وصلا وجدا سيف الدّين بكتمر من مماليك شاه أرمن قد دَخلهَا وحماها وتغلب عَلَيْهَا وَجَاء بهلوان فِي عَسَاكِر الشرق وَهُوَ شمس الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إيلدكز مُتَوَلِّي تِلْكَ الْبِلَاد فَنزل من الْجَانِب الآخر وَكَانَ وَزِير خلاط مجد الدّين بن الْمُوفق بن رَشِيق يظْهر للسُّلْطَان الْمَوَدَّة والمناصحة وَهُوَ على خلاف ذَلِك وَكتب إِلَى نَاصِر الدّين أَن يُقيم على الْقرب فَهُوَ أَشد للإرهاب والرعب فَفعل وَلَو خلاه لسبق إِلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وَقيل إِن هَذَا الْوَزير أنفذ إِلَى بهلوان وَأمره بالإتيان وَأظْهر لَهُ الْمَوَدَّة وَالْإِحْسَان وَلما تَمَادى الزَّمَان وَقرب مِنْهَا البهلوان راسله بكتمر وَحمل إِلَيْهِ مَعَ ابْنَته زَوْجَة شاه أرمن من الْأَمْوَال الَّتِي أودعت المخزن وَندب السُّلْطَان إِلَيْهَا الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى فَدَخلَهَا وتخللها وتأملها وَتكلم مَعَ الْوَزير وشاوره فأحال الْحَال على البهلوان وَأَنه جَاءَ ليتملك الْمَكَان وَلَو استعجلتم لسهل الْأَمر مَا صَعب الْآن وَهَان ثمَّ جرت مراسلة بَين السُّلْطَان والبهلوان وانفصل الْأَمر كَأَنَّهُ مَا كَانَ وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي ربيع الآخر توفّي صَاحب خلاط وَولي بعده غُلَام لَهُ يدعى بكتمر وَهُوَ الَّذِي كَانَ وصل رَسُولا إِلَى خدمَة السُّلْطَان بسنجار فَعدل وَأحسن إِلَى أهل خلاط وَكَانَ متصونا فِي طَرِيقَته فأطاعه النَّاس ومالوا إِلَيْهِ وَلما ملك خلاط امتدت نَحوه الأطماع فَسَار نَحوه البهلوان بن الدكز فَلَمَّا بلغه ذَلِك سير إِلَى خدمَة السُّلْطَان من يُقرر مَعَه تَسْلِيم خلاط إِلَيْهِ واندراجه فِي جملَته فطمع السُّلْطَان بخلاط وارتحل عَن الْموصل مُتَوَجها نَحْوهَا وسير إِلَيْهِ الْفَقِيه عِيسَى وغرس الدّين قليج لتقرير الْقَاعِدَة وتحريرها فوصلت الرُّسُل وبهلوان وَقد قَارب الْبِلَاد جدا فخوف بهلوان من السُّلْطَان وَأَشْعرهُ أَنه إِن قَصده سلم الْبِلَاد إِلَى السُّلْطَان فَطلب بهلوان إِصْلَاحه وزوجه ببنت لَهُم وولاه وَأعَاد الْبِلَاد إِلَيْهِ وَاعْتذر إِلَى رسل السُّلْطَان وعادوا من غير زبدة وَكَانَ السُّلْطَان قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 نزل على ميافارقين فحاصرها وقاتلها قتالا عَظِيما وَنصب عَلَيْهَا مجانيق وملكها فِي آخر جُمَادَى الأولى قَالَ الْعِمَاد واستشعر مُلُوك ديار بكر من حَرَكَة السُّلْطَان وَكَانَ قد مَاتَ صَاحب ماردين كَمَا تقدم وَبقيت الْولَايَة لوَلَده الْكَبِير وَله عشر سِنِين وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه نظام الدّين بن البقش وَمَات أَيْضا صَاحب آمد نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان رَابِع عشر ربيع الأول من هَذِه السّنة وَتَوَلَّى ابْنه قطب الدّين سكمان فاحترزوا من السُّلْطَان وخافوا أَن يسْتَردّ بِلَاد آمد مِنْهُم فنفذ السُّلْطَان إِلَيْهِم شمس الدّين بن الْفراش ليختبر حَالهم فِي الْمُحَاربَة والمسالمة فَوَجَدَهُمْ على الطَّاعَة مقيمين وَإِلَيْهِ راغبين وَمِنْه راهبين وَوصل السُّلْطَان فِي جُمَادَى الأولى إِلَى ميافارقين وَكَانَ قد دَخلهَا من أُمَرَاء صَاحب ماردين أَسد الدّين يرنقش واستعصى فِيهَا على السُّلْطَان فحاصره وقاتله ثمَّ رأى أَن الْقِتَال يطول فراسل أميرها الْأسد ورغبه فِي الْمُوَادَعَة وَنَهَاهُ عَن المقاطعة وَكَانَ فِي الْمَدِينَة خاتون ابْنة قرا أرسلان وَهِي زَوْجَة قطب الدّين صَاحب ماردين الَّذِي توفّي فأحال الْأسد الْأَمر على الخاتون فراسلها السُّلْطَان ورغبها وَضمن لَهَا كل مَا تطلبه مِنْهُ ووعدها أَن يصاهر إِلَيْهَا فَمَا زَالَ بهَا وبالأسد حَتَّى لانا فقرر السُّلْطَان لَهَا كل مَا كَانَ باسمها وَاسم خدامها وَطلبت حصن الهتاخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 ليَكُون لَهَا عشا للأفراخ وَزوج السُّلْطَان ابْنه معز الدّين إِسْحَاق بِإِحْدَى كرائمها وأبرم الْعَهْد وَأحكم العقد وسارع السُّلْطَان إِلَى بذل كل مَا اقترحوه وَفتحت ميافارقين وَأَقْبل صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن نور الدّين على صغر سنه إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأكْرمه وَأَعَادَهُ إِلَى منصبه وَكَانَ مَعَه وزيره قوام الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سماقة وَقتل غيلَة فِي رَمَضَان من هَذِه السّنة كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ سَار السُّلْطَان لقصد الْموصل وَولى تِلْكَ الديار مَمْلُوكه حسام الدّين سنقر الخلاطي فَنزل السُّلْطَان على دجلة بِكفْر زمار بِقرب الْموصل فِي شعْبَان وعزم على أَن يشتي فِي ذَلِك الْمَكَان فَخرجت من الْموصل نسَاء أتابكيات معرضات للشفاعة فأكرمهن السُّلْطَان ووعدهن بِالْإِحْسَانِ وَقَالَ قد قبلت شفاعتكن لَكِن لَا بُد من مصلحَة تتمّ وَمُصَالَحَة نَفعهَا يعم وَاسْتقر الْأَمر على أَن يكون عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار أَخُو صَاحب الْموصل وَسِيطًا فِي الْبَين وَحكما فِيمَا يعود بمصلحة الْجَانِبَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَت شَفَاعَته سَابِقَة وَرَأى بِهَذَا الرَّأْي قَضَاء الْحَقَّيْنِ وَتعطف وتلطف لأجلهن وإجلالهن وأتى من الْكَرَامَة بِمَا يَلِيق بأمثالهن وَكن ظنن أَنه لَا يُقيم لحُرْمَة قصدهن وَيصدق ظنونهن وَأَنه يعرف حقوقهن وَيَقْضِي بمكارمه ديونهن وَلَا يشْتَغل بِأَمْر لَا يُؤذن بمرادهن دونهن فدخلن الْبَلَد متلومات متذممات وبلطف الله لائذات معتصمات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فصل فِي انتظام الصُّلْح مَعَ أهل الْموصل وَمرض السُّلْطَان المرضة الْمَشْهُورَة بحران قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لما دخل شهر رَمَضَان داوم قِرَاءَة الْقُرْآن وَحفظه واشتغل بالصيام والتقليل من الطَّعَام فَظهر انزعاجه وَتغَير مزاجه وَتعذر علاجه وَطَالَ مَرضه وَنَدم على رد الشوافع وسير إِلَى عماد الدّين صَاحب سنجار فِي إِنْفَاذ رسله ليوعز بِكُل مَا يعود بسؤله فوصل وزيره شمس الدّين بن الْكَافِي وَكَانَ من قبل قد سبق القَوْل فِي تَسْلِيم بِلَاد شهرزور وقلاعها وحصونها وضياعها وَكَذَلِكَ مَا وَرَاء الزابين من البوازيج والرستاق وبلد القرابلية وَبني قفجاق فَدخل شمس الدّين بن الْكَافِي وشمس الدّين قَاضِي الْعَسْكَر من جانبنا إِلَى الْموصل لأخذ الْعَهْد على هَذَا الْمُلْتَزم ورحل السُّلْطَان قبل عيد الْفطر بِيَوْم وَهُوَ من بَحر بحرانه فِي عوم وخيمنا على نَصِيبين فِي شَوَّال وَلم نترقب عود الرَّسُول بنجاز الاشغال بل كَانَ الارتحال على الارتجال ثمَّ اسْتمرّ الصُّلْح وَصلح الْأَمر وخطب فِي جَمِيع بِلَاد الْموصل للسُّلْطَان بعد قطع خطْبَة السلجوقية وَفِي ديار بكر أَيْضا والولايات الأرتقية وَضرب باسمه الدِّينَار وَالدِّرْهَم وانحل الْإِشْكَال وانكشف الْمُبْهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وَكتب الْعِمَاد عَن السُّلْطَان كتابا إِلَى أَخِيه سيف الْإِسْلَام بِالْيمن بشرح الْحَال وَفِيه وَنزل لنا صَاحب الْموصل عَن جَمِيع مَا وَرَاء الزاب من الْبِلَاد والقلاع والحصون والضياع وشهرزور ومعاقلها وأعمالها وَولَايَة بني قفجاق وَولَايَة القرابلي والبوازيج وعانة وقررنا عَلَيْهِ الْموصل وأعمالها على أَنه يكون بحكمنا وَينفذ عسكره إِلَى خدمتنا وَتَكون الْخطْبَة وَالسِّكَّة باسمنا وَأَن يُطلق الْمَظَالِم وَلَا يرتكب المآثم وَقد حصل لنا من صَاحب الْموصل وَمن جَمِيع من بالجزيرة وديار بكر الطَّاعَة وَالسِّكَّة وَالْخطْبَة وعمت الهيبة والرهبة والعزائم إِلَى الْجِهَاد فِي سَبِيل الله نوازع وَقد زَالَت الْعَوَائِق وَارْتَفَعت الْمَوَانِع قَالَ وَنفذ السُّلْطَان إِلَى شهرزور مَمْلُوكه مُجَاهِد الدّين أياز سربك فتملا بهَا وتملك ونال الْمَقَاصِد وَأدْركَ وَكَانَ التركمان الإيوانية مستولية بهَا فشتت شملها وَندب للنَّظَر فِي تِلْكَ الْأَعْمَال القَاضِي شمس الدّين بن الْفراش وأقطع البوازيج لبَعض خواصه المماليك وسير إِلَى الْبِلَاد نوابه ورتب فِيهَا لإِقَامَة سنَن الْعدْل وَالْإِحْسَان أَصْحَابه ووقف ضَيْعَة بالبوازيج تعرف ببافيلا على وَرَثَة شيخ الشُّيُوخ بِبَغْدَاد وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما أيس السُّلْطَان من أَمر خلاط وَعَاد إِلَى الْموصل فَنزل بَعيدا عَنْهَا وَهِي الدفعة الثَّالِثَة بِموضع يُقَال لَهُ كفر زمار وَكَانَ الْحر شَدِيدا فَأَقَامَ مُدَّة وَفِي هَذِه الْمنزلَة أَتَاهُ سنجر شاه من الجزيرة وَاجْتمعَ بِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَده وَمرض السُّلْطَان بِكفْر زمار مَرضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 شَدِيدا خَافَ من غائلته فَرَحل طَالب حران وَهُوَ مَرِيض وَكَانَ يتجلد وَلم يركب فِي محفة وَوصل حران شَدِيد الْمَرَض وَبلغ إِلَى غَايَة الضعْف وأيس مِنْهُ وأرجف بِمَوْتِهِ وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَادِل من حلب وَمَعَهُ الْأَطِبَّاء قَالَ وَكَانَ سَبَب صلحه مَعَ المواصلة أَن عز الدّين صَاحب الْموصل سيرني إِلَى الْخَلِيفَة يستنجد بِهِ فَلم يحصل مِنْهُ زبدة وسير إِلَى الْعَجم فَلم يحصل مِنْهُم زبدة فَلَمَّا وصلت من بَغْدَاد وَأديت جَوَاب الرسَالَة أيس من نجدة فَلَمَّا بَلغهُمْ مرض السُّلْطَان رَأَوْا ذَلِك فرْصَة وَعَلمُوا رقة قلبه وَسُرْعَة انقياده فِي ذَلِك الْوَقْت فندبوني لهَذَا الْأَمر وبهاء الدّين الربيب وفوض إِلَيّ أَمر النُّسْخَة وَقَالُوا أمض مَا يصل جهدكم وطاقتكم إِلَيْهِ فسرنا حَتَّى أَتَيْنَا الْعَسْكَر وَالنَّاس كلهم آيسون من السُّلْطَان وَكَانَ وصولنا فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة فاحترمنا احتراما عَظِيما وَجلسَ لنا وَكَانَ أول جُلُوسه من مَرضه وَحلف فِي يَوْم عَرَفَة وأخذنا مِنْهُ بَين النهرين أَخذهَا من سنجر شاه وَأَعْطَاهَا المواصلة وحلفته يَمِينا تَامَّة وَحلفت أَخَاهُ الْعَادِل وَمَات قدس الله روحه وَهُوَ على ذَلِك الصُّلْح لم يتَغَيَّر عَنهُ وسرنا عَنهُ وَهُوَ بحران قد تماثل وَوَصله خبر موت ابْن أَسد الدّين صَاحب حمص وَكَانَت وَفَاته يَوْم عَرَفَة وَنحن فِي الْعَسْكَر وَجلسَ الْعَادِل فِي العزاء وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام كَانَت وقْعَة التركمان والأكراد وَقتل بَينهم خلق عَظِيم وَفِي هَذَا الشَّهْر وصل خبر وَفَاة بهلوان بن الدكز وَكَانَت وَفَاته فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 سلخ ذِي الْحجَّة قَالَ الْعِمَاد وَأقَام السُّلْطَان على نَصِيبين أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ رَحل إِلَى حران فألقينا بهَا عَصا النَّوَى والقلوب بِمَرَض السُّلْطَان متخاذلة القوى متواصلة الجوى وَالْفضل خَائِف من كساده آسَف على عتاده مُشفق من انخفاض قدره وانقراض عصره والسماح يَقُول هَذَا أَوَان كسوف سمائي ونضوب مائي وَالدّين ينْدب وَالْملك يصخب وَالْأَيْدِي إِلَى الله تَعَالَى مَرْفُوعَة والنيات بالإخلاص مشفوعة وَالْكفْر فِي أراجيف وَالْقدر فِي تصاريف وَالسُّلْطَان كلما زَاد ألمه زَاد فِي لطف الله أمله وَكلما بَان ضعفه قوي على الله توكله وَأَنا ملازمه لَيْلًا وَنَهَارًا سرا وجهارا وَهُوَ يملي عَليّ فِي كل وَقت وَصَايَاهُ وَيفرق بقلمي على عفاته عطاياه وَمن جملَة ذَلِك أَنه اشتدت بِهِ الْحَال لَيْلَة أيس بهَا مِنْهُ الْأَطِبَّاء وَغلب الْقنُوط وَعدم الرَّجَاء فَلَمَّا أصبح اجْتمع المعتفون والوافدون إِلَى بَابه والقاصدون المرتجون جنى جنابه وضجوا ضجة ارتجت مِنْهَا الدهماء ولانت لسماعها الصَّخْرَة الصماء فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل هَؤُلَاءِ وفدك قد اجْتَمعُوا على بابك متأسفين على مابك فدعاني وَأَمرَنِي بكتب اسمائهم وتفريق مَا اجْتمع فِي خزائنه من الْأَمْوَال عَلَيْهِم وأمسينا وَمَا على الْبَاب سَائل وَكُنَّا نظن أَن مَا بِهِ من الْأَلَم شغل شاغل فَوجدَ بِتِلْكَ السماحة رَاحَة وَاسْتمرّ مُدَّة اسْتِمْرَار مَرضه على بذل جَوْهَر مَاله وَعرضه وَكَانَ خلقه أحسن مَا كَانَ فِي حَال الصِّحَّة يخاطبنا بسجاياه السهلة السمحة وَلَا يَخْلُو مَجْلِسه من أولي فضل وَذَوي نباهة ونبل يتجاذبون بِحَضْرَتِهِ أَطْرَاف الْفَوَائِد ويهزون لمكارمه أعطاف المحامد فَتَارَة فِي أَحْكَام شَرْعِيَّة ومسائل فقهية وآونة فِي صناعات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 شعرية وألفاظ عَرَبِيَّة وَمَعَان أدبية وَمرَّة فِي أَحَادِيث الأجواد وشيم الأمجاد ودفعة فِي ذكر فَضَائِل الْجِهَاد وفرائض التأهب لَهُ والاستعداد وينذر أَنه إِن خلصه الله من نبوة هَذِه النّوبَة وأعفاه من كدر هَذِه المرضة ومرارتها بالعافية الصافية الحلوة اشْتغل بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس وَلَو ببذل نفائس الْأَمْوَال والأنفس وَأَنه لَا يصرف بَقِيَّة عمره إِلَّا فِي قتال أَعدَاء الله وَالْجهَاد فِي سَبيله وإنجاد أهل الْإِسْلَام والإقبال على قبيله وَأَنه لَا يتْرك شِيمَة الْجُود والسماحة بالموجود وَالْوَفَاء بِالْعُقُودِ والمحافظة على العهود وإنجاز الْمَوْعُود قَالَ وَرُبمَا استروح فِي بعض سَاعَات اللَّيْل أَو النَّهَار إِلَى السماع لإشارة الْأَطِبَّاء بِهِ لأجل التَّفْرِيج والإمتاع وَلَقَد كَانَ ذَلِك الْمَرَض تمحيصا من الله للذنوب وتنزيها وَتَذْكِرَة موقظة من سنة الْغَفْلَة وتنبيها قَالَ وَلما سمع الْعَادِل فِي حلب بِمَرَض أَخِيه السُّلْطَان ووصوله إِلَى حران بَادر بالوصول وصادف وَقت الْقبُول وَقَامَ بضبط الْأُمُور وسياسة الْجُمْهُور وَالْجُلُوس فِي كل يَوْم فِي النوبتية السُّلْطَانِيَّة لتولي مصَالح الرّعية وَإِقَامَة وَظِيفَة السماط وَالْعَمَل فِي كل يَوْم بِالِاحْتِيَاطِ والتصدي لكشف الْمَظَالِم وَبث المكارم وتنفيذ مَا يخرج من المراسم ورقع كل خرق ورتق كل فتق وَحفظ المهابة وَالْقِيَام عَن السُّلْطَان فِي كل مُهِمّ بِحسن النِّيَابَة وَلَقَد نفعنا حُضُوره ورفعنا تَدْبيره فقد كُنَّا على خوف من إرجاف يقوى وانتشار خبر سوء لَا يطوى لَا سِيمَا إِذا خرج الْأَطِبَّاء وَقَالُوا مَا فِيهِ أمل وَلكُل عمر أجل فهناك ترى النَّاس يستشعرون وبإبعاد مَا يعز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 عَلَيْهِم من أعلاقهم ودوابهم يستظهرون فَزَالَ بِحُضُور الْعَادِل كل مَخَافَة وَسلم الله برأفته من كل آفَة وَكَانَ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ولد السُّلْطَان مَعَ أَبِيه مقتد بمعاليه مقتف لمراضيه وَكَانَ من جملَة وَصَايَاهُ عِنْد إشفائه وإرجاء ترجي شفائه إِن أدركني المحتوم ودنا الْيَوْم الْمَعْلُوم فقد خلفت أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعليا وَكلهمْ أرَاهُ بمرادي فِي إِقَامَة الْجِهَاد مَلِيًّا فعنى بِأبي بكر سيف الدّين أَخَاهُ وبعمر تَقِيّ الدّين ابْن أَخِيه وبعثمان وَعلي ولديه الْملكَيْنِ الْعَزِيز وَالْأَفْضَل وَرَأى عَلَيْهِمَا بكفالة سيف الدّين وتقي الدّين فِي الشَّام ومصر الْمعول وَأقَام الْعَادِل إِلَى أَن وضح الْمِنْهَاج وَصَحَّ المزاج وَطَابَتْ الْقُلُوب وَغَابَتْ الكروب ثمَّ وصل مَعَ أَخِيه إِلَى حلب وَتمّ مَعَه إِلَى حمص ودمشق وهب لَهُ نسيم مصر فاستجد إِلَى نشره النشق وَسَيَأْتِي ذكر مضيه إِلَى مصر مَعَ الْملك الْعَزِيز فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ووصول الْملك الْأَفْضَل من مصر وَبعده الْملك المظفر تَقِيّ الدّين قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت صدقاته الرَّاتِبَة دارة وبالأبرار بارة على أَن جوده مستوعب الْمَوْجُود وَلَا يتْرك فضلا للوفود وَلما مرض وَعرض لَهُ من الْأَلَم مَا عرض قَالَ لي اكْتُبْ إِلَى الْوُلَاة والنواب بالديار المصرية والشامية أَن يتصدقوا على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من المَال الْمعد للْحَمْل بِمَا نَص على قدره فِي التَّعْيِين فَلم يبْق فِي الممالك إِلَّا من وصل إِلَيْهِ نصيب ودعا بالصالحات من الله لدعائه مُجيب فَدفع بِالصَّدَقَةِ الْبلَاء وَرفع للصدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الْوَلَاء وَنظر الله إِلَى النيات وأسنى سناء مننه السنيات وَمن جملَة تِلْكَ الصَّدقَات أَنه أَمرنِي أَن أكتب إِلَى نَائِبه بِدِمَشْق الصفي بن الْقَابِض أَن يتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار صورية فَقلت مَا عِنْده غير دَنَانِير مصرية فَقَالَ يتَصَدَّق بهَا مصرية خَمْسَة آلَاف لنفوز من الثَّوَاب بأضعاف قَالَ وَلما امْتَدَّ زمَان مَرضه أَمر بِبِنَاء دَار عِنْد سرادقه وحمام فبنيت فِي أَرْبَعَة خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ قد استحضر من دمشق ولديه الصغيرين تورانشاه وملكشاه وأمهما وأسكنهم فِيهَا مُدَّة مقَامه وسماها دَار الْعَافِيَة للبرء فِيهَا من سقامه ثمَّ خَلاهَا لمن ينزل بهَا ضيفا وَجعلهَا للآوين إِلَيْهَا وَقفا وَبعدهَا اتَّصَلت المواصلة بَين السُّلْطَان والمواصلة وَأهْدى السُّلْطَان لَهُم هَدَايَا عَظِيمَة لصَاحب الْموصل ولوالدته ولصاحبته ولابنة نور الدّين رَحمَه الله وَقوم مَا سيره إِلَيْهِم بِمَا يُربي على عشرَة آلَاف دِينَار سوى الْخَيل وَالطّيب وَالشَّيْء البديع والغريب وَجرى أَمر المواصلة على السداد وتجهزوا فِي النُّصْرَة الناصرية على مَا سَيَأْتِي شَرحه إِلَى الْجِهَاد وَأول بَرَكَات الِاتِّفَاق فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَسَائِر الْبِلَاد وتجددت الْفتُوح وأنجدت الْمَلَائِكَة وَالروح وامتحت باليسر الْعسرَة وَصحت بحطين الكسرة وَخص الله السُّلْطَان بفضيلة فتح الْقُدس وَقضى حاجاته الَّتِي كَانَت فِي النَّفس وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله شرح كل فتح فِي مَوْضِعه وَكَيف أشرق سنا النَّصْر فِي مطلعه وَكتب الْفَاضِل من دمشق إِلَى تَقِيّ الدّين بِمصْر إِن الْعَافِيَة الناصرية قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 استفاضت أَخْبَارهَا وفاضت أنوارها وآثارها وَوَلَّتْ الْعلَّة وَللَّه الْحَمد وأطفئت نارها وانجلى غبارها وخمد شِرَارهَا وَمَا كَانَت إِلَّا فلتة وقى الله شَرها وعظيمة كفي الْإِسْلَام أمرهَا ونوبة امتحن الله بهَا نفوسنا فَرَأى أقل مَا عندنَا صبرها وَمَا كَانَ الله لِيُضيع الدُّعَاء وَقد أخلصته الْقُلُوب وَلَا ليوقف الْإِجَابَة وَإِن سدت طريقها الذُّنُوب وَلَا ليخلف وعد فرج وَقد أيس الصاحب والمصحوب (نعي زَاد فِيهِ الدَّهْر ميما ... فَأصْبح بعد بؤساه نعيما) (وَمَا صدق النذير بِهِ لِأَنِّي ... رَأَيْت الشَّمْس تطلع والنجوما) وَقد اسْتقْبل مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الْعَافِيَة غضة جَدِيدَة والعزمة مَاضِيَة حَدِيدَة والنشاط إِلَى الْجِهَاد وَالْجنَّة مبسوطة الْبسَاط وَقد انْقَضى الْحساب وجزنا الصِّرَاط وعرضنا نَحن على الْأَهْوَال الَّتِي من خوفها كَاد الْجمل يلج فِي سم الْخياط وَمن كتاب آخر الْأَحْوَال بالحضرة مُسْتَقِيمَة وَالنعْمَة بالعافية عَظِيمَة عَظِيمَة والبقية الْمَوْهُوبَة من الْعُمر الناصري كَرِيمَة الْقيمَة عرف وَعرف النَّاس قدرهَا وَلزِمَ ولزموا شكرها فسيوف الْجِهَاد قد كَادَت تهتز فِي أغمادها وخيل الله قد كَادَت تنادي أَهلهَا ارْكَبِي لميعاد طرادها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى مُبشر تأنيسه بِمَا استوحش مِنْهُ من الْقُرْآن وتطهيره مِمَّا استولى عَلَيْهِ من رِجْس الصلبان فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَمن توفّي فِيهَا من الْأَعْيَان قَالَ الْعِمَاد فِي هَذِه السّنة توفيت الخاتون العصمية بِدِمَشْق فِي ذِي الْقعدَة وَهِي عصمَة الدّين ابْنة معِين الدّين أنر وَكَانَت فِي عصمَة الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله فَلَمَّا توفّي وَخَلفه السُّلْطَان بِالشَّام فِي حفظ الْبِلَاد ونصرة الْإِسْلَام تزوج بهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهِي من أعف النِّسَاء وأعصمهن وأجلهن فِي الصيانة وأحزمهن مستمسكة من الدّين بالعروة الوثقى وَلها أَمر نَافِذ ومعروف وصدقات ورواتب للْفُقَرَاء وإدرارات وَبنت للفقهاء والصوفية بِدِمَشْق مدرسة ورباطا قلت وَكِلَاهُمَا ينْسب إِلَيْهَا فالمدرسة دَاخل دمشق بمحلة حجر الذَّهَب قريب الْحمام الشركسي والرباط خَارج بَاب النَّصْر رَاكب على نهر باناس فِي أول الشّرف القبلي وَأما مَسْجِد خاتون فِي آخر الشّرف القبلي من الغرب فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى خاتون أُخْرَى قديمَة تقدم ذكرهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وَهِي زمرد بنت جاولي أُخْت الْملك دقاق لأمه وَزوج زنكي وَالِد نور الدّين رَحِمهم الله قَالَ الْعِمَاد وَذَلِكَ سوى وقوفها على معتقيها وعوارفها وأياديها وَكَانَ السُّلْطَان حِينَئِذٍ بحران فِي بَحر الْمَرَض وبحرانه وعنف الْأَلَم وعنفوانه فَمَا أخبرناه بوفاتها خوفًا من تزايد علته وتوقد غَلَّته وَهُوَ يَسْتَدْعِي فِي كل يَوْم درجا وَيكْتب إِلَيْهَا كتابا طَويلا ويلقي على ضعفه من تَعب الْكِتَابَة والفكر حملا ثقيلا حَتَّى سمع نعي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه ابْن عَمه فنعيت إِلَيْهِ الخاتون وَقد تعدت عَنهُ إِلَيْهِمَا الْمنون وَكَانَت وَفَاة نَاصِر الدّين بحمص فِي تَاسِع ذِي الْحجَّة فَجْأَة من غير مرض وأجرى السُّلْطَان أَسد الدّين شيركوه وَلَده على مَا كَانَ لوالده ومقابلته بِأَحْسَن عوائده قلت وقبر الخاتون الْمَذْكُورَة فِي التربة المنسوبة إِلَيْهَا بسفح جبل قاسيون قبلي الْمقْبرَة الشركسية وَأما نَاصِر الدّين فنقلته زَوجته ابْنة عَمه سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب فدفنته فِي مقبرتها بمدرستها بالعوينة فَهُوَ الْقَبْر الْأَوْسَط بَين قبرها وقبر أَخِيهَا رَحِمهم الله وَكَانَت سِتّ الشَّام كَثِيرَة الْمَعْرُوف وَالْبر وَالصَّدقَات وَكتب الْفَاضِل إِلَى تَقِيّ الدّين ورد الْخَبَر عَشِيَّة يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 عشر من ذِي الْحجَّة من حمص بِأَنَّهُ لما كَانَ عَشِيَّة يَوْم الْأَحَد وَقت الوقفة انْتقل إِلَى رَحْمَة الله ورضوانه الْمولى الْأَجَل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْمولى أَسد الدّين رحمهمَا الله بِمَرَض حاد أعجل من لمح الْبَصَر ومرد النّظر فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَشَاهد الْمَمْلُوك كتابا من وَلَده أَسد الدّين شيركوه أَحْيَاهُ الله إِلَى كَاتب أَبِيه رَحمَه الله يَقُول فِي وكتبته وَقد صَار فِي حفرته وَاسْتقر فِي قَبره فنسأل الله حسن الْمرجع وكفاية هول المطلع والمعونة على سَاعَة هَذَا المصرع ونشكر الله ثمَّ نشكره ونذكره بِأَحْسَن مَا يذكرهُ بِهِ من يذكرهُ إِذْ وقى النَّفس الْكَرِيمَة الْعَالِيَة الشَّرِيفَة الناصرية وَقدم قبلهَا من لَا يسره التَّقَدُّم بَين يَدَيْهِ وَجعل الله أَنْفُسنَا فداها فَإِن تِلْكَ نعْمَة علينا كَمَا هِيَ نعْمَة عَلَيْهِ وَلَا فرق الله لهَذَا الْبَيْت شملا وَلَا قضب لَهُ حبلا وَأعظم الله أجر الْملك المظفر فِي ابْن عَمه وأمتعه بِبَقَاء عَمه وأعاذه من مُقَابلَة مَقْدُور الله بهمه وهمه فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيم لما لَا يَسْتَطِيع الْخلق لَهُ دفعا وتفويض أَمر هَذِه الْأَنْفس إِلَيْهِ تَعَالَى فَإنَّا لَا نملك لَهَا ضرا وَلَا نفعا ولخوف الْمَمْلُوك أَن يلتبس الْخَبَر فِي مطالعه ويحرف الْكَلم عَن موَاضعه عجل بالإنهاء والإشعار وَسبق بِمَا لَا يسره السَّبق بِهِ من هَذِه الْأَخْبَار قَالَ الْعِمَاد وفيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي أَخُو الخاتون الْمَذْكُورَة سعد الدّين مَسْعُود بن أنر وَنحن قد فتحنا ميافارقين بهَا وَلَقَد كَانَ من الأكارم الأكابر وَمن ذَوي المآثر والمفاخر وَمَا رَأَيْت أحسن مِنْهُ خلقا وأزكى عرقا وَلم يزل فِي الدولتين النورية والصلاحية أَمِيرا مقدما وعظيما مكرما ولسفور فضائله ووفور فواضله وجد شهامته وحد صرامته رغب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 السُّلْطَان وَهُوَ زوج أُخْته أَن يكون هُوَ أَيْضا زوج أُخْته فَزَوجهُ بِالَّتِي تزَوجهَا مظفر الدّين كوكبري بعده قلت وَهِي ربيعَة خاتون بنت أَيُّوب عمرت إِلَى أَن توفيت بِدِمَشْق بدار أَبِيهَا وَهِي دَار العقيقي فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وست مئة وَهِي آخر أَوْلَاد أَيُّوب لصلبه موتا وَكَانَ يحترمها الْمُلُوك من أَوْلَاد أخوتها وَأَوْلَادهمْ ويزورونها فِي دارها قَالَ وفيهَا توفّي الْأَمِير عز الدّين جاولي وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء وَله مَوَاقِف حميدة فِي الهيجاء ومقامات فِي الْغُزَاة حَقِيقَة بالثناء وَهُوَ أكبر أَمِير للأسدية وَلم يزل فِي الهيجاء يحسن بلاؤه وَيصدق غناؤه وَلما عدنا بعد فتح ميافارقين إِلَى الْموصل طرقه الْبلَاء فِي طَرِيقه قفز بحصانه بعض السواقي فعثر بِهِ وانكسرت رجله ثمَّ عملت عَلَيْهِ قدمه وَاشْتَدَّ ألمه وَطَالَ بِهِ سقمه وانتقل إِلَى دمشق وَتُوفِّي بهَا فِي آخر هَذِه السّنة أَو فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَلَقَد فجع الْإِسْلَام مِنْهُ بذمر مشيح لذمار الْكفْر مُبِيح قَالَ وفيهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن رَمَضَان قتل بآمد وَزِير ابْن قرا أرسلان وَهُوَ قوام الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سماقة قتلته مماليك مخدومه غيلَة وتمحلوا لَهُ فِي مباغتته بِالْقَتْلِ حِيلَة وَذَلِكَ أَنه كَانَ جَالِسا فِي ديوانه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وإيوانه متصدرا بمكانته فِي مَكَانَهُ وَعِنْده الأكابر والأماثل فَدخل عَلَيْهِ وَاحِد مِنْهُم وَقَالَ لَهُ الْملك يَدْعُوك وَحدك فَقَامَ فَدخل الدهليز وَقد أغلق الْبَاب الَّذِي يصل مِنْهُ إِلَى الْأَمِير وأغلق وَرَاءه الْبَاب الآخر وقتلوه ثمَّ أخرجُوا الصّلاح من حَبسه وَهُوَ أحد الْأُمَرَاء الأكابر فَقتل أُولَئِكَ القاتلين وَكَانُوا بِهِ واثقين قَالَ وفيهَا توفّي الْفَقِيه مهذب الدّين عبد الله بن أسعد الْموصِلِي بحمص وَكَانَ الْمدرس بهَا وَكَانَ عَلامَة زَمَانه فِي علمه ونسيج وَحده فِي نظمه وَقد أوردت من شعره فِي صدر الْكتاب مَا يسْتَدلّ بِهِ على فَضله وَأَنه مِمَّن عقم الدَّهْر بِمثلِهِ واشتريت كتبه بأغلى الْأَثْمَان وَلكم أخرج بحره قلائد اللُّؤْلُؤ والمرجان قَالَ وَفِي هَذِه السّنة رد السُّلْطَان قلعتي الرها وحران إِلَى مظفر الدّين كوكبوري بن زين الدّين لتوفره فِي الْخدمَة على حفظ القوانين وَظهر مِنْهُ كل مَا حقق بِهِ الِاسْتِظْهَار وَأوجب لأَمره الإمرار وَرغب فِي مصاهرة السُّلْطَان وقلده طوق الامتنان قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد سكنت نَفسه بالْمقَام وَأَرَادَ أَن تكون حركته بعد استكمال السّكُون وَعِنْده أَوْلَاده الأصاغر وَالْملك الْعَزِيز وَالْملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 الظَّاهِر بِدِمَشْق وَالْأَفْضَل بِمصْر فَلَمَّا ورد نعي الخاتون وناصر الدّين وخلا شبله أَسد الدّين بعده فِي العرين وَخيف على بِلَاده لصِغَر أَوْلَاده واحتيج أَيْضا إِلَى الِاحْتِيَاط على مَا فِي خزائنه واستخراج دفائنه وَكَذَلِكَ الخاتون خلفت أملاكا وتراثا وأوقافا وأمتعة وأثاثا لم يكن من الْحَرَكَة بُد وَقدم الْكتب إِلَى الْبِلَاد بِمَا صمم عَلَيْهِ عزمه وأجرى بِهِ حكمه وَأمر بالاستعداد لترقب الاستدعاء ووصاهم فِي سَائِر الْمَقَاصِد والأنحاء وَكتب إِلَى ولد نَاصِر الدّين قد عرفنَا الْمُصَاب بوالده رَحمَه الله وَأعظم أجرنا وأجره فِيهِ وَإِن مضى لسبيله فولدنا أَسد الدّين أَحْيَاهُ الله نعم الْخلف الصَّالح وَإِن انْتقل وَالِده إِلَى دَار الْبَقَاء فَهُوَ فِي مَكَانَهُ المستقر من الْمجد والْعَلَاء والولايات والبلاد والمعاقل بَاقِيَة عَلَيْهِ مسلمة إِلَيْهِ مقررة فِي يَدَيْهِ وَمَا مضى من وَالِده رَحمَه الله إِلَّا عينه وولدنا قُرَّة الْعُيُون وَبِه اسْتِقْرَار السّكُون وَالْحَمْد لله الَّذِي جبر بِهِ كسر الْمُصَاب وألبسنا وإياه ثوب الثَّوَاب فليشرح ولدنَا صَدره وَلَا يشغل سره وَيعرف خواصه وَأَصْحَابه وولاته ونوابه بحمص والرحبة وَغَيرهمَا أَنهم باقون على عَادَتهم وَكَانَ الْمَنْدُوب إِلَيْهِ القَاضِي نجم الدّين أَبُو البركات بن الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَلم يُفَارق الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة فِي هَذِه السّنة قَالَ وَفِي هَذِه السّنة لما كُنَّا على ميافارقين وَقد فتحناها ورد للسُّلْطَان مِثَال شرِيف إمامي ناصري بتفويض ولَايَة ماردين والحصن وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 حصن كيفا والعلامة الشَّرِيفَة الناصرية فِي ثَانِي سطره بالقلم الشريف النَّاصِر الله قلت وفيهَا فِي جُمَادَى الأولى توفّي الْحَافِظ أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد الْمَدِينِيّ الْأَصْبَهَانِيّ مُحدث مَشْهُور لَهُ تصانيف كَثِيرَة وَفِي هَذِه السّنة توفّي بِمصْر فِي شعْبَان الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو الْفَتْح أَبُو الثَّنَاء أَبُو مُحَمَّد مَحْمُود بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن المحمودي الْمَعْرُوف بِابْن الصَّابُونِي وَدفن بِسَارِيَة من القرافة ومولده بِبَغْدَاد سنة خمس مئة وجد أَبِيه لأمه شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي فِيهِ عرف بِابْن الصَّابُونِي وَكَانَ جده صحب السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه ونسبته بالمحمودي إِلَيْهِ وَدخل ابْن الصَّابُونِي هَذَا دمشق زمن الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله وَاجْتمعَ بِهِ وَنزل إِلَى زيارته وَسَأَلَهُ الْإِقَامَة بِدِمَشْق فَذكر لَهُ أَن قَصده زِيَارَة الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِمصْر فجهزه وسيره صُحْبَة الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين سنة سَار إِلَى وَلَده بِمصْر وَصَارَ بَينه وَبَينه صُحْبَة أكيدة ومحبة عَظِيمَة بِحَيْثُ أَنه مَا كَانَ يصبر عَنهُ سَاعَة وَاحِدَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وَأَقْبل عَلَيْهِ وَلما ملك وَلَده الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين رَحمَه الله مصر لم يُمكنهُ من الْعود إِلَى الشَّام ووقف عَلَيْهِ وَقفا بالديار المصرية وعَلى عقبه وَهُوَ بَاقٍ بِأَيْدِيهِم إِلَى الْآن وقرأت بِخَط صَلَاح الدّين رَحمَه الله مَا كتبه فِي حَقه إِلَى أَخِيه الْملك الْعَادِل لما كَانَ نَائِبه بِمصْر الْأَخ الْأَجَل الْملك الْعَادِل أدام الله دولته غير خَافَ عَنهُ قَضِيَّة الْوَقْف الَّذِي أوقفهُ الْوَالِد نجم الدّين تغمده الله برحمته ورضوانه على الشَّيْخ الْفَقِيه ابْن الصَّابُونِي وَأَنه لما جرى لَهُ من الْمُخَاصمَة مَعَ الشَّيْخ الْفَقِيه نجم الدّين يَعْنِي الخبوشاني مَا جرى اقْتَضَت الْمصلحَة لتسكين الْفِتْنَة وَقطع الْكَلَام انْتِقَاله إِلَى مَوضِع غَيره لنقطع الْفِتْنَة وَالْخُصُومَة بَينهم بأمرنا إِلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْوَقْف فِي تصرفه وَتصرف من عِنْده من الْفُقَهَاء وَالْأَخ الْأَجَل الْملك الْعَادِل يتَقَدَّم بمراعاته وَحفظ جَانِبه وتمكينه من التَّصَرُّف فِي الْوَقْف الْمشَار إِلَيْهِ وَمنع من يَعْتَرِضهُ فِيهِ بِوَجْه من وُجُوه التأويلات وحسم مَادَّة الشكوى مِنْهُ مِمَّن يتَعَدَّى عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وقرأت بِخَط الشَّيْخ عمر الملاء الْموصِلِي رَحمَه الله كتابا كتبه إِلَى ابْن الصَّابُونِي هَذَا بشيراز يطْلب مِنْهُ فِيهِ الدُّعَاء ويصف حَاله أَوله أَخُوهُ عمر بن مُحَمَّد الملاء يَقُول فِيهِ وَبعد فَالَّذِي يتطلع إِلَيْهِ من معرفَة أحوالي فجملتها خير وسلامة غارق فِي بحار النعماء ومغمور فِي هواطل الآلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 غير أَن أَيدي الْبلوى بِالنعَم ترفعني تَارَة إِلَى مقَام الصديقين وتضعني تَارَة أُخْرَى إِلَى مقامات المتخلفين وَمَعَ هَذَا فَطلب النجَاة لَا يفتر وَالْحَرَكَة فِي طلب الْفَوْز لَا تسكن والعمر يَنْقَضِي بالعنا والمنى وَمَا أشبه حَالي بِحَال الْقَائِل (آمل فِي يومي إِدْرَاك المنى ... حَتَّى إِذا ولى تمنيت غَدا) (لَا وطرا أَقْْضِي من الدُّنْيَا وَلَا ... أفعل لِلْأُخْرَى فعال السعدا) (والعمر يمْضِي بَين هَاتين فَلَا ... ضَلَالَة خَالِصَة وَلَا هدى) يَا أخي مَا أَخْبَرتك بأحوالي هَذِه إِلَّا رَجَاء أَن تتحرك همتك لي بالشفقة والرأفة فتدعو الله لي بقلب حَاضر منور بِنور الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة ويؤمن على دعائك من حضر من السَّادة الأخوان وَتقول اللَّهُمَّ عَبدك الضَّعِيف عمر بن مُحَمَّد الملاء يَدْعُوك وَيَقُول (لَا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عَادَة منقطعه) وَقد توسل بِنَا إِلَيْك نَسْأَلك أَن تبلغه آماله وَأَن تحييه حَيَاة السُّعَدَاء وَأَن تميته موت السُّعَدَاء وتحشره فِي زمرة السُّعَدَاء وَأَن تجْعَل خير عمره آخِره وَخير أَعماله خواتيمها وَخير أَيَّامه يَوْمًا يلقاك فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد فَرَحل السُّلْطَان إِلَى الشَّام وودع مظفر الدّين صَاحب حران من الْفُرَات ورحل صوب حلب والعادل صَاحبهَا على الْمُقدمَة وَقد هيأ أَسبَاب التكرمة فوصل حلب فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم ثمَّ رتب الْعَادِل فِي حلب نوابه وَصَحب السُّلْطَان فوصلوا حماة وفيهَا نَائِب تَقِيّ الدّين نَاصِر الدّين منكورس بن نَاصح الدّين خمارتكين وَهُوَ صَاحب بوقبيس وَقد جمع النهضة وَالْأَمَانَة ثمَّ وصل السُّلْطَان إِلَى حمص وَقرر أَمر الْمُجَاهِد أَسد الدّين أبي الْحَارِث شيركوه بن نَاصِر الدّين وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك ثَلَاث عشرَة سنة سَمَّاهُ أَبوهُ باسم جده ولقبه بلقبه وَكتب لَهُ منشورا بِمَا قرر عَلَيْهِ من الْبِلَاد وَذَلِكَ حمص وسلمية وتدمر ووادي بني حُصَيْن والرحبة وزلبيا وَكتب منشورا آخر بِإِسْقَاط المكوس بالرحبة وَفِيه وَهَذَا دأب السُّلْطَان فِي جَمِيع الْبِلَاد اقْتصر مِنْهَا على الرسوم الَّتِي يبيحها الشَّرْع وَهِي الْخراج والأجور وَالزَّرْع وَاعْتمد على الْأَمِير الْحَاجِب بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن شروه الهكاري فِي ولَايَة قلعة حمص ثمَّ نَقله إِلَى قلعة حلب فَبَقيَ واليا بهَا سِتّ سِنِين ورتبه الْعَزِيز فِي آخر عهد السُّلْطَان بقوص قَالَ ورتب السُّلْطَان مَعَ أَسد الدّين بحمص أَمِيرا من الأَسدِية يعرف بأرسلان بوغا فقدمه على أَصْحَابه بتولي مصَالح بَابه حَتَّى تفرد الْأسد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 بِالْأَمر لسداده وَبلغ مدى رشاده ونعت بِالْملكِ الْمُجَاهِد ونهض بمحامل المحامد قَالَ وأقمنا بحمص حَتَّى استعرضنا خَزَائِن نَاصِر الدّين وَقَسمنَا مِيرَاثه وَكَانَت أُخْت السُّلْطَان الحسامية زَوْجَة نَاصِر الدّين وَهِي مُسْتَحقَّة الثّمن وَالْبَاقِي بَين الْبِنْت وَالِابْن وَخلف عينا وورقا مجتمعا ومفترقا ومبلغ التراث فِي الْملك وَالْعين والأثاث عظم أَن يقدر بِمِقْدَار وأناف على ألف ألف دِينَار فَمَا أَعَارَهُ السُّلْطَان طرفه بل تَركه على أهل التَّرِكَة قَالَ وَلما شاع بِدِمَشْق خبر دنونا احتفل أَهلهَا وَاجْتمعَ بالمسار شملها وطلعت أعيانها ونبعت عيونها ووافت أبكارها وعونها وَظهر مكنونها ومخزونها وترامت إِلَيْنَا ثمراتها ومكرماتها سهولها وحزونها ودخلنا الْمَدِينَة وزينة الدُّنْيَا خَارِجَة وسكينة النعمى فارجة ودمشق كالهدي مزفوفة وبالهدى محفوفة وبالحسن مَوْصُوفَة وَكَانَ النَّاس قد ساءهم خبر الْمَرَض فسرهم عيان السَّلامَة وأسهرهم الْهم للإشفاق فراجعوا للشفاء كرى الْكَرَامَة وَمَا ألذ الرَّجَاء بعد الإبلاس والثراء غب الإفلاس والأمل عقيب الياس وَأَنَّهُمْ ظفروا فِي حَالَة الإيحاش بالإيناس وأمنوا بمشاهدة الْأَنْوَار السُّلْطَانِيَّة حنادس الوسواس وَاجْتمعَ السُّلْطَان فِي القلعة بأَهْله وأقلع المرجف عَن جَهله وَحسنت الْأَحْوَال وَأمنت الْأَهْوَال وشاهدنا الْفضل وَالْكَرم بِالْمُشَاهَدَةِ الْفَاضِلِيَّةِ الْكَرِيمَة وعدنا إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 عَادَة السَّعَادَة الْقَدِيمَة وَاجْتمعَ السُّلْطَان بِهِ فبثه أسراره واستزال بصفو رَأْيه أكداره وَدخل جنته وجنى ثماره وزاره مرّة واستزاره وراجعه فِي مصَالح دولته واستشاره وَجلسَ السُّلْطَان فِي دَار الْعدْل لكشف الْمَظَالِم وَبث المكارم وإحياء المعالم وَإِقَامَة مواسم المراسم وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما وجد السُّلْطَان نشاطا من مَرضه رَحل يطْلب جِهَة حلب وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم الْأَحَد رَابِع عشر الْمحرم وَكَانَ يَوْمًا مشهودا لشدَّة فَرح النَّاس بعافيته ولقائه فَأَقَامَ بهَا أَرْبَعَة أَيَّام ثمَّ رَحل فِي ثامن عشره نَحْو دمشق فَلَقِيَهُ أَسد الدّين شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بتل السُّلْطَان وَمَعَهُ أُخْته وَقد صَحبه خدمَة عَظِيمَة وَقرب زَائِدَة وَمن عَلَيْهِ بحمص وَأقَام أَيَّامًا يعْتَبر تَرِكَة أَبِيه ثمَّ سَار يطْلب جِهَة دمشق وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا فِي ثَانِي ربيع الأول وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فَرحا وسرورا فصل فِي ذكر مَا استأنفه السُّلْطَان بِمصْر وَالشَّام من نقل الولايات بَين أَوْلَاده قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لملازمة أَخِيه الْعَادِل لَهُ قد مَال إِلَى رَأْيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وَكَانَ الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بِمصْر وَهُوَ وَلَده الْأَكْبَر وَقد بَدَأَ يظْهر وعَلى تجويد الْخط وَالْأَدب وَسَمَاع الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة يتوفر وَقد مَالَتْ إِلَيْهِ بِمصْر جمَاعَة وَله مِنْهُم طَاعَة وَرُبمَا نقم تَقِيّ الدّين النَّائِب هُنَاكَ من أحد أمرا فَوَقَعت مِنْهُ فِيهِ شَفَاعَة فَكتب يشكو من اختلال أمره واشتغال سره وَكَانَ فِي نفس السُّلْطَان أَن ينْقل وَلَده الْملك الْعَزِيز عُثْمَان إِلَى مصر ليَكُون عزيزها وليحرز مملكتها ويحوزها وَهُوَ مفكر فِي طَرِيق تَدْبيره وَوجه تَقْرِيره حَتَّى بدا لَهُ نقل الْأَفْضَل إِلَى الشَّام فَكتب إِلَيْهِ يتشوقه ويستدعيه بِجَمِيعِ أَهله وجماعته ووالدته وحشمه وَأَصْحَابه فَخرج وَوصل دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وَخرج السُّلْطَان لاستقباله وأنزله بالقلعة فِي دَار رضوَان وَكتب إِلَى تَقِيّ الدّين أَنه قد اسْتَقل أمره وَزَالَ عذره فابتهج بتفرده وخفي عَنهُ أَنه كَانَ فِي ذمَّة ولد السُّلْطَان وعصمته وَأَن تَمام حرمته بحرمته قَالَ وَلما وصلنا إِلَى دمشق كَانَ بهَا من أَوْلَاد السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر غَازِي غياث الدّين فزاره عَمه الْعَادِل وَهُوَ صهره وَقد اشْتَدَّ بمصاهرته ظَهره فَقَالَ لَهُ قد نزلت عَن حلب لَك وَأَنا قَانِع من أخي بإقطاع أَيْن كَانَ وألزم الْخدمَة وَلَا أُفَارِق السُّلْطَان فاطلبها من أَبِيك إِن كَانَت ترضيك وَجَاء إِلَى السُّلْطَان وَقَالَ هَذِه حلب مَعَ رغبتي فِيهَا ومحبتي لتوليها أرى أَن أحد أولادك بهَا أَحَق وَهَذَا ولدنَا الْملك الظَّاهِر أحب أَن أوثره بهَا فَقَالَ السُّلْطَان المهم الْآن تَدْبِير أَمر وَلَدي الْملك الْعَزِيز فَإِن مصر لَا بُد أَن يكون لي بهَا ولد أعْتَمد عَلَيْهِ وَأسْندَ ملكهَا إِلَيْهِ ورحل إِلَى الزَّرْقَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وَمَعَهُ ولداه الْعَزِيز وَالظَّاهِر وَأَخُوهُ الْعَادِل فالتمس الْعَادِل عوض حلب بلادا عينهَا ونواحي بِمصْر بَينهَا وَكَانَ قد مَال الْملك الْعَزِيز إِلَيْهِ لإشفاقه عَلَيْهِ فَسَأَلَ أَبَاهُ أَن يسير مَعَه الْعَادِل فَإِنَّهُ نعم الْكَافِي الكافل فَأعْطَاهُ السُّلْطَان بِمصْر الْبِلَاد الْمَعْرُوفَة بالشرقية وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي نيابته فِي سَائِر الممالك المصرية وَلما سمع تَقِيّ الدّين هَذَا الْخَبَر نبا وَنَفر وذم الْغَيْر واستبدل من الصفو الكدر وغار من تغير الرَّأْي فِيهِ وَإِذا تولى أَبُو بكر فَلَا عمر فَعبر إِلَى الجيزة مظْهرا أَنه يمْضِي إِلَى بِلَاد الْمغرب ليملكها وَكتب وَسَأَلَ السُّلْطَان أَن لَا يمنعهُ من سلوك مسلكها وسمت همته إِلَى مملكة جَدِيدَة وأقاليم ذَات ظلال مديدة وبلاد وَاسِعَة ومدن شاسعة وَقد كَانَ أحد مماليكه الْمَعْرُوف بقراقوش قد جمع من قبل الجيوش وَسَار إِلَى بِلَاد برقة فملكها وهدته الأمنية إِلَى النفائس من بِلَاد نفوسة فأدركها وَتجَاوز إِلَى إفريقية وَهُوَ يكْتب أبدا إِلَى مَالِكه الْملك المظفر يرغبه فِي تِلْكَ المملكة وَيَقُول إِن الْبِلَاد سائبة فَلَمَّا تجدّد لتقي الدّين مَا تجدّد وتمهد لِعَمِّهِ الْعَادِل مَا تمهد عَاد لَهُ ذكر الْمغرب فَعبر بعسكره ومالت إِلَيْهِ عَسَاكِر مصر لبذله وَقدم مَمْلُوكه يوزبا فِي الْمُقدمَة فَلَمَّا انْتهى إِلَى السُّلْطَان خبر عزمه قَالَ لعمري إِن فتح الْمغرب مُهِمّ لَكِن فتح الْبَيْت الْمُقَدّس أهم والفائدة بِهِ أتم والمصلحة مِنْهُ أخص وأعم وَإِذا توجه تَقِيّ الدّين واستصحب مَعَه رجالنا الْمَعْرُوفَة ذهب الْعُمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فِي اقتناء الرِّجَال وَإِذا فتحنا الْقُدس والساحل طوينا إِلَى تِلْكَ الممالك المراحل وَعلم لجاج تَقِيّ الدّين فِي ركُوب تِلْكَ اللجة فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ وجهز وَلَده الْعَزِيز إِلَى مصر وَقرر لَهُ قوص وأعمالها وَسَار وَمَعَهُ عَمه الْعَادِل فدخلا الْقَاهِرَة فِي خَامِس شهر رَمَضَان وَأما الْملك الظَّاهِر فسيره السُّلْطَان إِلَى حلب وأنعم عَلَيْهِ بهَا وبسائر قلاعها وأقاليمها وَندب مَعَه الْحَاجِب شُجَاع الدّين عِيسَى بن بلاشو وَعَاد السُّلْطَان وَمَعَهُ الْأَفْضَل وَقدم تَقِيّ الدّين فِي آخر شعْبَان وتلقاه السُّلْطَان وخيم على الْمصْرِيّ فَوق قصر أم حَكِيم فَلَمَّا قرب ركب إِلَى موكبه ورحب بِهِ وَدخل دمشق وَعَاد إِلَى مَا كَانَ لَهُ من الْبِلَاد حماة ومنبج والمعرة وَسَائِر أَعمالهَا ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ ميافارقين وَجَمِيع مَا فِي ذَلِك الإقليم من المعاقل وَكتب إِلَى مصر باستدعاء رِجَاله وإعلامهم بِتَأْخِير عزم الْمغرب بل إِبْطَاله فامتثلوا الْأَمر وفارقوا إِلَى الشَّام مصر سوى مَمْلُوكه زين الدّين يوزبا فَإِنَّهُ رتب لَهُ عسكرا إِلَى الْمغرب فَمضى واستصحبه وَغلب على بِلَاد إفريقية ثمَّ قَصده صَاحب الْمغرب فَأَخذه مأسورا ثمَّ أغزاه مَعَ الغز فِي ثغر من الثغور فألفاه مَشْهُورا مشكورا فقدمه عَلَيْهِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 قلت وَكتب الْفَاضِل إِلَى تَقِيّ الدّين سَبَب هَذِه الْخدمَة مَا اتَّصل بالمملوك من تردد رسائل مَوْلَانَا فِي التمَاس السّفر إِلَى الْمغرب والدستور إِلَيْهِ (يَكْفِي الزَّمَان فمالنا نستعجل ... ) يَا مَوْلَانَا مَا هَذَا الْوَاقِع الَّذِي وَقع وَمَا هَذَا الْغَرِيم من الْهم الَّذِي مَا انْدفع بالْأَمْس مَا كَانَ لكم من الدُّنْيَا إِلَّا الْبلْغَة وَالْيَوْم قد وهب الله هَذِه النِّعْمَة وَقد كَانَ الشمل مجموعا والهم مَقْطُوعًا مَمْنُوعًا أفتصبح الْآن الدُّنْيَا ضيقَة علينا وَقد وسعت والأسباب بِنَا مَقْطُوعَة وَلَا وَالله مَا انْقَطَعت يَا مَوْلَانَا إِلَى أَيْن وَمَا الْغَايَة وَهل نَحن فِي ضائقة من عَيْش أَو فِي قلَّة من عدد أَو فِي عدم من بِلَاد أَو فِي شكوى من عدم كَيفَ نَخْتَار على الله وَقد اخْتَار لنا وَكَيف ندبر لأنفسنا وَهُوَ دبر لنا وَكَيف ننتجع الجدب وَنحن فِي دَار الخصب وَكَيف نعدل إِلَى حَرْب الْإِسْلَام الْمنْهِي عَنْهَا وَنحن فِي الْمَدْعُو إِلَيْهَا من حزب أهل الْحَرْب معاشر الخدام والجلساء وأرباب الْعُقُول والآراء {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد} (تعقب الرَّأْي وَانْظُر فِي أواخره ... فطالما اتهمت قدما أَوَائِله) لَا زَالَ مَوْلَانَا يمْضِي الآراء صائبة ويلحظها بادية وعاقبة وَلَا خلت مِنْهُ دَار إِن خلت فهيهات أَن تعمر وَلَا عدمته أَيَّام إِن لم تطلع فِيهَا شمس وَجهه دخلت فِي عداد اللَّيَالِي فَلم تذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي سَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وصل الْملك الْأَفْضَل إِلَى دمشق وَلم يكن رأى الشَّام قبل ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان رأى رواح الْملك الْعَادِل إِلَى مصر فَإِنَّهُ كَانَ آنس بأحوالها من الْملك المظفر فَمَا زَالَ يفاوضه فِي ذَلِك وَهُوَ على حران مَرِيض وَحصل ذَلِك فِي نفس الْعَادِل فَإِنَّهُ كَانَ يحب الديار المصرية فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق وَمن الله بعافيته سير يطْلب الْعَادِل إِلَى دمشق فَخرج من حلب جَرِيدَة وَأقَام بِدِمَشْق فِي خدمَة السُّلْطَان يجْرِي بَينهمَا أَحَادِيث ومراجعات فِي قَوَاعِد تقرر إِلَى جُمَادَى الْآخِرَة فاستقر عود الْعَادِل إِلَى مصر وَيسلم بِلَاد حلب إِلَى الْملك الظَّاهِر وَسلم السُّلْطَان إِلَيْهِ وَلَده الْملك الْعَزِيز وَجعله أتابكه قَالَ وَلَقَد قَالَ لي الْملك الْعَادِل لما اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْقَاعِدَة اجْتمعت بِخِدْمَة الْملك الْعَزِيز وَالْملك الظَّاهِر وَجَلَست بَينهمَا وَقلت للعزيز اعْلَم يَا مولَايَ أَن السُّلْطَان قد أَمرنِي أَن أَسِير فِي خدمتك إِلَى مصر وَأَنا أعلم أَن المفسدين كثير وَغدا فَمَا يَخْلُو مِمَّن يَقُول عني مَا لَا يجوز ويخوفك مني فَإِن كَانَ لَك عزم تسمع فَقل لي حَتَّى لَا أجيء فَقَالَ لَا أسمع وَكَيف يكون ذَلِك ثمَّ الْتفت وَقلت للْملك الظَّاهِر أَنا أعرف أَن أَخَاك رُبمَا سمع فِي أَقْوَال المفسدين وَأَنا فَمَالِي إِلَّا أَنْت وَقد قنعت مِنْك بمنبج مَتى ضَاقَ صَدْرِي من جَانِبه فَقَالَ مبارك وَذكر كل خير ثمَّ إِن السُّلْطَان سير وَلَده الظَّاهِر إِلَى حلب وأعادها إِلَيْهِ وَكَانَ رَحمَه الله يعلم أَن حلب هِيَ أصل الْملك وجرثومته وقاعدته وَلِهَذَا دَاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فِي طلبَهَا ذَلِك الدأب وَلما حصلت أعرض عَمَّا عَداهَا من بِلَاد الشرق وقنع مِنْهُم بِالطَّاعَةِ والمعونة على الْجِهَاد فسلمها إِلَيْهِ علما مِنْهُ بحذاقته وحزمه وَحفظه فَسَار إِلَيْهَا حَتَّى أَتَى الْعين الْمُبَارَكَة وسير فِي خدمته شحنة حسام الدّين بِشَارَة وواليا شُجَاع الدّين عِيسَى بن بلاشو وَنزل يَوْم الْجُمُعَة بِالْعينِ الْمُبَارَكَة وَخرج النَّاس إِلَى لِقَائِه بكرَة يَوْم السبت تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وَصعد القلعة ضاحي نَهَاره وَفَرح النَّاس بِهِ فَرحا شَدِيدا وَمد على النَّاس جنَاح عدله وأفاض عَلَيْهِم وابل فَضله وَأما الْملك الْعَزِيز والعادل فَإِن السُّلْطَان قرر حَالهمَا وَكتب إِلَى الْملك المظفر يُخبرهُ بمسيرهما إِلَى مصر ويأمره بالوصول إِلَى الشَّام فشق ذَلِك عَلَيْهِ حَتَّى ظهر للنَّاس وعزم على الْمسير إِلَى ديار الغرب إِلَى برقة فقبح ذَلِك عَلَيْهِ جمَاعَة من أكَابِر الدولة وعرفوه أَن عَمه السُّلْطَان يخرج من يَده فِي الْحَال وَالله يعلم مَا يكون مِنْهُ بعد ذَلِك فَرَأى الْحق يعين البصيرة وَأجَاب بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَسلم الْبِلَاد ورحل واصلا إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَسَار السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه فَلَقِيَهُ بمرج الصفر وَفَرح بوصوله فَرحا شَدِيدا وَذَلِكَ فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان وَأَعْطَاهُ حماة وَسَار إِلَيْهَا وَكَانَ عقد بَين الظَّاهِر وَبَعض بَنَات الْعَادِل عقد نِكَاح فتمم ذَلِك وَدخل بهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان وَدخل الْملك الْأَفْضَل على زَوجته بنت نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فِي شَوَّال من هَذِه السّنة وَمن كتاب فاضلي إِلَى السُّلْطَان الْملك الْعَادِل وَالْملك المظفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 الْمَذْكُورَان مَا هما أَخ وَلَا ابْن أَخ بل هما ولدان لَا يعرفان إِلَّا الْمولى والدا ومنعما وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ عش كثير الْفِرَاخ وَبَيت كرقعة الشطرنج فِيهِ صغَار وكبار كالبياذق والرخاخ فَلَا يقنع كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا طرف يملكهُ وإقليم ينْفَرد بِهِ فيدبر مَوْلَانَا فِي ذَلِك بِمَا يَقْتَضِيهِ صَدره الْوَاسِع وجوده الَّذِي مَا نظر مثله النَّاظر وَلَا سمع السَّامع وَلَا ينس قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مرو الْقَرَابَة أَن يتزاوروا وَلَا يتجاوروا وَمَا على مَوْلَانَا عجلة فِي تَدْبِير يدبره وَلَا فِي أَمر يبته وستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت عَارِفًا وَفِي غَد مَا لَيْسَ فِي الْيَوْم وَللَّه أقدار وَلها أمد وَقد رزق الله مَوْلَانَا ذُرِّيَّة تود لَو قدمت أَنْفسهَا بَين يَدَيْهِ وَلَو اكتحلت أجفانها بغبار قَدَمَيْهِ مَا فِيهَا من يشتكى مِنْهُ إِلَّا التزيد فِي الطّلب وَهُوَ من بَاب الثِّقَة بكرم الْمُنعم وَلَهُم أَوْلَاد وَالْمولى مد الآمال لَهُم كَمَا قَالَ مولى الْأمة لَهَا تناكحوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم طالما قَالَ لَهُم الْمولى لدوا وَعلي تجهيز الْإِنَاث وغنى الذُّكُور وَسَوَاء على أفق هَذَا الْبَيْت طُلُوع الشموس والبدور قَالَ الْعِمَاد ومدحت تَقِيّ الدّين بقصيدة سينية سنية قطوفها دانية جنية تشْتَمل على مئة وَأَرْبَعين بَيْتا أنشدته إِيَّاهَا فِي ثَالِث شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة بِدِمَشْق وأوردت بَعْضهَا ومطلعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 (عَفا الله عَن ذَوي الشوق نفسوا ... فقد تلفت منا قُلُوب وأنفس) وَمِنْهَا (ألم تعلمُوا أَنِّي من الشوق مُوسر ... ألم تعلمُوا أَنِّي من الصَّبْر مُفلس) (ظننتم بعيني أَنَّهَا تألف الْكرَى ... فَهَلا بعثتم طيفكم يتجسس) (وَلَيْسَ لقلبي فِي السرُور تصرف ... فقلبي على الأحزان وقف محبس) وَمِنْهَا (لفتك محبيه تيقظ طرفه ... وتحسبه من سقم عَيْنَيْهِ يَنْعس) (لَهُ نَاظر عِنْد الْخلاف مناظر ... يَقُول دَلِيل الدل عِنْدِي أَقيس) (إِذا درست ألحاظه السحر أَصبَحت ... رسوم اصْطِبَارِي حِين تدرس تدرس) (وَلم أنس أنسي بالحمى رعي الْحمى ... عَشِيَّة لي مجنى ومجلى ومجلس) (لحا الله أَبنَاء الزَّمَان فكلهم ... صَحِيفَته أودى بهَا المتلمس) (وَلَوْلَا ابتسامات المظفر بالندى ... لما راق نَفسِي صبحه المتنفس) (جلت شمس لقيَاهُ الحنادس بَعْدَمَا ... عرتنا وَهل يبْقى مَعَ الشَّمْس حندس) (وَصَارَ بِهِ هَذَا الزَّمَان جَمِيعه ... نَهَارا فَمَا للنَّاس ليل معسعس) (إِذا صال فالمغلول ألف مدرع ... وَإِن جاد فالمبذول ألف مكيس) (وَلَيْسَ بمغبون على فضل رَأْيه ... ويغبن فِي الْأَمْوَال مِنْهُ ويبخس) (إِذا أطلق الْملك المظفر فِي الوغى ... أعنته فالشمس بالنقع تحبس) (فدَاك مُلُوك لَا يلبون دَاعيا ... وَكلهمْ عَن دَعْوَة الْحق يخنس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 (تشكى إِلَيْك الغرب جور ملوكه ... فأشكيته والجور بِالْعَدْلِ يعكس) (سيهدى إِلَى المهدية النَّصْر وَالْهدى ... بهديكم فِيهَا وتونس تؤنس) (رددت كراديس الفرنج وَكلهمْ ... لَدَى الْأسر فِي غل الصغار مكردس) (وبيضت وَجه الدّين يَوْم لقيتهم ... وأبيضكم من أسود الْقصر أشوس) (أَفَادَ دم الأنجاس طهر سُيُوفكُمْ ... وَمَا تستفيد الطُّهْر لَوْلَا التنجس) (شموس ظبى تَغْدُو لَهَا الْهَام سجدا ... فَللَّه نَصْرَانِيَّة تتمجس) (وَكم كفي الْإِسْلَام سوءا بملككم ... كفيتم على رغم المعادين كل سو) (وَلَا يفتح الْبَيْت الْمُقَدّس غَيْركُمْ ... وبيتكم من كل عَابَ مقدس) (لَهُم كل يَوْم فِي جِهَاد مثلث ... إِذا نصروا التَّوْحِيد فَيْء مخمس) (إِذا مَا تَقِيّ الدّين صال تساقطت ... لأقدامه من عصبَة الشّرك أرؤس) (وَمَا عمر إِلَّا شَبيه سميه ... شَدِيد على اللأواء ثَبت عمرس) فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد كَانَ المنجمون فِي جَمِيع الْبِلَاد يحكمون بخراب الْعَالم فِي هَذِه السّنة فِي شعْبَان عِنْد اجْتِمَاع الْكَوَاكِب السِّتَّة فِي الْمِيزَان بطوفان الرّيح فِي سَائِر الْبلدَانِ وخوفوا من ذَلِك من لَا وثوق لَهُ بِالْيَقِينِ وَلَا إحكام لَهُ فِي الدّين من مُلُوك الْأَعَاجِم وَالروم وأشعروهم من تأثيرات النُّجُوم فشرعوا فِي حفر مغارات فِي التخوم وتعميق بيُوت فِي الأسراب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وتوثيقها وسد منافسها على الرّيح وَقطع طريقها ونقلوا إِلَيْهَا المَاء والأزواد وانتقلوا إِلَيْهَا وَانْتَظرُوا الميعاد وَكلما سمعنَا بأخبارهم استغربنا فِي الضحك من عُقُولهمْ وسلطاننا متنمر من أباطيل المنجمين موقن أَن قَوْلهم مَبْنِيّ على الْكَذِب والتخمين فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي عينهَا المنجمون لمثل ريح عَاد وَقد شارفنا الميعاد وَنحن جُلُوس عِنْد السُّلْطَان فِي فضاء وَاسع وناد للشموع الزاهرات جَامع وَمَا يَتَحَرَّك لنا نسيم وَلَا لسرح الْهَوَاء فِي رعي منابت الْأَنْوَار مسيم وَمَا رَأينَا لَيْلَة مثلهَا فِي ركودها وركونها وهدوها وهدونها قَالَ ابْن القادسي وَحكم أَصْحَاب النُّجُوم أَن فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة تقترن الْكَوَاكِب السيارة الْخَمْسَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي برج الْمِيزَان ويؤثر ذَلِك هَوَاء عَظِيما وخيما سموميا وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين تهْلك الْبِلَاد وَيحمل الرمل ونسبوا ذَلِك إِلَى الخازمي وَقَالُوا يكون أَشد ذَلِك من لَيْلَة الثُّلَاثَاء إِلَى نصف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فاستعد لذَلِك أَقوام فِي الْبِلَاد وجمعوا الكعك وحفروا السراديب فَأهل رَجَب وَمَا جرى مِمَّا قَالُوا شَيْء فخزي أهل التنجيم لذَلِك وَلم يهب فِي ذَلِك الْيَوْم هَوَاء الْبَتَّةَ وَكَانَ الزَّمَان حارا وَاشْتَدَّ الْحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 فِي ذَلِك الْيَوْم وَبعده وَلم يظْهر مِمَّا قَالُوا شَيْء وَعمل الشُّعَرَاء فِي ذَلِك شعرًا يزرون عَلَيْهِم فِي حكمهم مِنْهُم أَبُو الْغَنَائِم مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمعلم الهرثي وفخر الدّين عِيسَى بن مودود دزدار قلعة تكريت وَأَبُو الْفَتْح سبط ابْن التعاويذي قَالَ أَبُو الْغَنَائِم بن الْمعلم (قل لأبي الْفضل قَول معترف ... مضى جُمَادَى وجاءنا رَجَب) (وَمَا جرت زعزعا كَمَا حكمُوا ... وَلَا بدا كَوْكَب لَهُ ذَنْب) (كلا وَلَا أظلمت ذكاء وَلَا ... أبدت أَذَى فِي قرانها الشهب) (يقْضِي عَلَيْهَا من لَيْسَ يعلم مَا ... يقْضى عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْعجب) (فارم بتقويمك الْفُرَات والإصطرلاب ... خير من صفره الْخشب) (قد بَان كذب المنجمين وَفِي ... أَي مقَال قَالُوا فَمَا كذبُوا) (مُدبر الْأَمر وَاحِد لَيْسَ للسبعة ... فِي كل حَادث سَبَب) (لَا المُشْتَرِي سَالم وَلَا زحل ... بَاقٍ وَلَا زهرَة وَلَا قطب) (تبَارك الله حصحص الْحق وانجاب ... التَّمَادِي وزالت الريب) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 (فليبطل المدعون مَا وضعُوا ... فِي كتبهمْ ولتخرق الْكتب) وَقَالَ عِيسَى بن مودود (مزق التَّقْوِيم والزيج ... فقد بَان الخفاء) (إِنَّمَا التَّقْوِيم والزيج ... هباء وهواء) (قلت للسبعة إبرام ... وَمنع وَعَطَاء) (وَمَتى ينزلن فِي الْمِيزَان ... يستولي الْهَوَاء) (وتثير الرمل حَتَّى ... يمتلي مِنْهُ الفضاء) (ويعم الأَرْض خسف ... وخراب وبلاء) (وَيصير القاع كالقف ... وكالطود العراء) (وحكمتم فَأبى الْحَاكِم ... إِلَّا مَا يَشَاء) (مَا أَتَى الشَّرْع وَلَا جَاءَت ... بِهَذَا الْأَنْبِيَاء) (فبقيتم ضحكة تضحك ... مِنْهَا الْعلمَاء) (حسبكم خزيا وعارا ... مَا يَقُول الشُّعَرَاء) (ثمَّ مَا أطمعكم فِي الحكم ... إِلَّا الْأُمَرَاء) (لَيْت إِذْ لم يحسنوا فِي الدّين ... ظنا مَا أساؤوا) (فعلى اصطرلاب بطليموس ... والزيج العفاء) (وَعَلِيهِ الخزي مَا جَادَتْ ... على الأَرْض السَّمَاء) وَلم يذكر شعر سبط ابْن التعاويذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 قَالَ وَفِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن بري بن عبد الْجَبَّار النَّحْوِيّ وَكَانَ آيَة فِي النَّحْو ثِقَة عَالما صَالحا وَكَانَ مبلدا فِي أَمر دُنْيَاهُ حدث عَن ابْن الْحطاب ومرشد أبي صَادِق وَغَيرهمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة جَاءَ نعي أتابك شمس الدّين مُحَمَّد بن أتابك الدكز الْمَعْرُوف بالبهلوان وَهُوَ الَّذِي كَانَ نزل على خلاط فِي الْعَام الْمَاضِي وَكَانَت حَيَاته مُتَّصِلَة الْجد والجدا واضطربت من بعده تِلْكَ الممالك واحتربت أصفهان وَإِلَى الْيَوْم من سنة أَربع وَتِسْعين مَا وضعت أَوزَارهَا وَتَوَلَّى بعده أَخُوهُ قزل أرسلان فأزال مهابة الْملك السلجقي وسلك السعيد نهج الشقي إِلَى أَن ذهب فاتضع الْملك وَانْقطع السلك واتسع الهلك وطمعت خُرَاسَان فِي الْعرَاق وعدمت الْإِفَاقَة من الْآفَاق وأظلمت مطالع الْإِشْرَاق قَالَ واشتغل السُّلْطَان فِي بَقِيَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بِدِمَشْق بالصيد والقنص والانتهاز فِيهِ لبوادر الفرص وَكَانَ يركب إِلَى تل راهط للصَّيْد بالبزاة والشواهين مَعَ مماليكه الْخَواص الميامين وَله شاهين بحري كَأَنَّهُ بَحر إِذا حلق فشرار وَإِن أحرق فجمر فكم صَاد ليوسف يعقوبا وعقر بإنجاز وعد صَيْده عرقوبا فطلبته من السُّلْطَان فَقَالَ أَنْت للقلم والدواوين فَمَا لَك وللبزاة والشواهين فَقلت يكون فِي ملكي وكل مَا يقنصه يَأْمر لي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 بِهِ الْمولى وَهَذَا أربح لي وأنفع وَأولى فَقَالَ نعم فَلَمَّا أصبح سير لي سبع عشرَة قِطْعَة من طير وحجل وَقَالَ هَذَا صيد شاهينك فِي طلق وَاحِد على عجل فملكت ذَلِك الشاهين خمس سِتّ سِنِين وَالسُّلْطَان يصطاد بِهِ ولي قنصه لَهُ مطلعه ولي مخلصه فَمَا زَالَ لي على هَذَا الْحق محافظا ولهذه النُّكْتَة ملاحظا إِلَى أَن أودى الْجَارِح وانقطعت تِلْكَ المنايح فيالله دره من سُلْطَان لم ينس ذكر هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي أعَاد مزحها جدا واعتده لي حَقًا معدا فدون حَقه على مثله أَن يؤسف وَمن حَقنا بعده أَن نتلو {يَا أسفى على يُوسُف} قَالَ وَلما دخل شهر رَمَضَان نوع أَقسَام الإنعام وَاتفقَ أَن بعض التُّجَّار كَانَت بضاعته بقايير رفيعة وَمَا لَهَا نفاق وَهِي أَكثر من مئة قِطْعَة فحملها إِلَى الخزانة السُّلْطَانِيَّة فِي بضاعات وَقَالَ خذوها واكتبوا لي بأثمانها فِي مصر على بعض الْجِهَات فاشتريت مِنْهُ بِمَا كَانَ يرجوه من الرِّبْح وَكَانَ من كرم شيم السُّلْطَان إِذا عرف فِي خزانته مَوْجُودا أَنه لَا يَسْتَطِيب تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى يفرقه جودا فَقَالَ لي قد اجْتمعت لنا بقايير وعمائم وَقد تقاضتني بخلعها على أهل الْفضل المكارم فنبدأ بِأَهْل الدّين وَالتَّقوى ونجعل لَهُم أوفر حَظّ من الجدوى وَكَانَ فِي الوافدين وَمن أهل الْبَلَد وعاظ وعلماء وحفاظ فَيكون كل يَوْم بكرَة نوبَة لمن يتَكَلَّم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 على الْمِنْبَر ويذكرنا بالحلال وَالْحرَام والبعث والمحشر ثمَّ يخلع عَلَيْهِم وعَلى الْقُرَّاء فاشتغل مُدَّة أسبوعين بالمواعظ وَوضع الْمِنْبَر فِي إيوَان القلعة فَقلت بَقِي إِحْضَار الْفُقَهَاء فِي الْمدَّة الْبَاقِيَة من الشَّهْر فَقَالَ إِنَّهُم يُفْضِي بهم الْخلاف إِلَى التشاحن والتضاغن فَقلت أَنا أضمنهم وَلَا يحضر إِلَّا أوقرهم وأوزنهم فاستدل أول يَوْم برهَان الدّين مَسْعُود مدرس الْحَنَفِيَّة فِي الْمدرسَة المعمورة النورية وَاعْترض عَلَيْهِ الْعِمَاد الْكَاتِب وَفِي الْيَوْم الثَّانِي اسْتدلَّ أكبر مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة بدر الدّين عَسْكَر وَاعْترض عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين بن الزكي فَكَانَ السُّلْطَان يجلس فِي كل يَوْم لطائفة فَلَمَّا دنا الْعِيد أَمر بابتياع العمائم وَغَيرهَا وصرفها إِلَيْهِم قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي شهر ربيع الأول من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَقعت وقعات كَثِيرَة بَين التركمان والأكراد بِأَرْض نَصِيبين وَغَيرهَا وَقتل من الفئتين خلق عَظِيم وَبلغ السُّلْطَان أَن معِين الدّين بن معِين الدّين قد عصى بالراوندان فَكتب إِلَى عَسْكَر حلب أَن حاصروه وَكَانَ نزولهم عَلَيْهِ فِي الْعشْر الأول من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأعْطى برج الرصاص لتميرك فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 بَقِيَّة ذَلِك الشَّهْر وَفِي ثامن جُمَادَى الأولى وصل معِين الدّين من الراوندان وَقد سلمهَا إِلَى علم الدّين سُلَيْمَان ثمَّ مضى إِلَى خدمَة السُّلْطَان قَالَ ابْن القادسي وَقدم الْحَاج فِي عَاشر صفر فَأخْبرُوا أَن سيف الْإِسْلَام أَخا صَلَاح الدّين ملك مَكَّة وَضرب الدَّنَانِير فِيهَا باسم أَخِيه وَمنع من قَوْلهم حَيّ على خير الْعَمَل وَشرط على العبيد أَن لَا يؤذوا الْحَاج وَأخْبر الْحَاج أَن قفل بَاب الْكَعْبَة تعسر حَتَّى فتح وَلما فتح مَاتَ فِي الدوسة أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ شخصا من بَين رجل وَامْرَأَة قَالَ وَوصل الْخَبَر أَن ريحًا هبت بِالْبَصْرَةِ فَكسرت نخيلا كثيرا وَمَاتَتْ بهائم كَثِيرَة وَوصل الْخَبَر إِلَى بَغْدَاد بقتل البهلوان وَأَن الْقِتَال وَقع هُنَاكَ وأحرقت الْمحَال ونهبت الْأَمْوَال واقتتل أهل الْمذَاهب واحترقت مدارس وَبَقِي الْأَمر على ذَلِك من سَابِع محرم إِلَى ربيع الآخر فأحصوا من الْقَتْلَى أَرْبَعَة آلَاف رجل وَسبع عشرَة امْرَأَة بعد أَن أحترق أَطْفَال فِي المهود بِاللَّيْلِ وَقَامَ قزل أَخُو البهلوان فَكف النَّاس وَكَانَ قزل قد رتب شحنة فِي أصفهان بعد الْفِتْنَة الَّتِي وَقعت بهَا وَمَعَهُ ألف فَارس فَمَا زَالَ يهذب الْبَلَد والرساتيق بِالْقَتْلِ والصلب وصادرهم وأشير على قزل بِأَن يلْزم أهل الْبَلَد سبعين ألف دِينَار فَقَالَ لَهُ الشّحْنَة أهل الْبَلَد فُقَرَاء فَقَالَ بعض الْمُصَالحَة لقزل مَا نَأْخُذ إِلَّا من الْأَغْنِيَاء فَوَثَبَ عيار فَقتل المصلحي وَكَانَ الْعيار مُتَعَلقا على قَاضِي الْبَلَد فَوكل الشّحْنَة بدار القَاضِي فجَاء ابْن الخجندي إِلَى دَار القَاضِي فَحسن لَهُ إِخْرَاج الموكلين بهَا وتحالفا على إِخْرَاج الشّحْنَة من الْبَلَد وَأَن يقطعوا خطْبَة السُّلْطَان الَّذِي نَصبه قزل فَفعل ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 فِي سَابِع شَوَّال ثمَّ كثر الْقَتْل فِي الْبَلَد فَكل من فِي قلبه على أحد شَرّ وثب عَلَيْهِ فَقتله من رجل أَو امْرَأَة وَكَانَ الْقَتْل الْكثير فِي أَصْحَاب ابْن الخجندي وَكَانَ الْحَرِيق والنهب وإحراق الدّور فِي أَصْحَاب القَاضِي وَجرى الْقِتَال يَوْم عَرَفَة وَيَوْم الْعِيد ودام وَبَطل النَّاس من المعايش وَخَربَتْ الْأَسْوَاق وَوَقع الغلاء وَمَات النَّاس من الْجُوع وَبَقِي أهل أصفهان على قدم الْخَوْف وَأخذت ثِيَاب النَّاس فَلَا يتجاسر أحد أَن يلبس ثوبا جَدِيدا والعيارون يَأْخُذُونَ أَمْوَال النَّاس مقاواة وهرب النَّاس من أصفهان فصل قَالَ الْعِمَاد مِمَّا قدره الله تَعَالَى من أَسبَاب نصْرَة الْإِسْلَام ووهن الْكفْر أَن قومص طرابلس رغب فِي مصافاة السُّلْطَان والالتجاء إِلَيْهِ والمساعدة لَهُ على أهل مِلَّته بِسَبَب أَنه كَانَ تزوج بالقومصية صَاحِبَة طبرية وَكَانَ أَخُوهَا الْملك المجذوم لما هلك أوصى بِالْملكِ لِابْنِ أُخْته هَذِه وَهُوَ صَغِير فَتزَوج القومص أمه ورباه فَمَاتَ الصَّغِير وانتقل الْملك إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 أمه ثمَّ إِنَّهَا مدت عينهَا إِلَى بعض المقدمين من الغرب فتزوجته وفوضت الْملك إِلَيْهِ فشرع يطْلب حِسَاب الْبِلَاد من القومص فَوَقع الِاخْتِلَاف بَينهم لذَلِك فالتجأ القومص إِلَى ظلّ السُّلْطَان فَصَارَ لَهُ من جملَة الأتباع فَقبله السُّلْطَان وَقواهُ وَشد عضده بِإِطْلَاق من كَانَ فِي الْأسر من أَصْحَابه فَقَوِيت مناصحته للْمُسلمين حَتَّى كَاد لَوْلَا خوف أهل مِلَّته يسلم وَصَارَ بدولة السُّلْطَان وَملكه يقسم وَمَال إِلَيْهِ من الفرنج جمَاعَة وَظَهَرت لَهُ مِنْهُم للطماعية طَاعَة وَدخلت إِلَى بِلَادهمْ من جَانِبه السَّرَايَا وَخرجت بالغنائم والسبايا وَأعْطى الدنية فِي دينه بِمَا استدناه من العطايا فَصَارَ الفرنج يدْفَعُونَ شَره ويحذرون مكره فَتَارَة يدارونه وآونة يمارونه وللقومص قوم صدق يساعدونه فِي كل حق وباطل فبلي مِنْهُم أهل السَّاحِل بشغل شاغل وَهَذَا الْملك المجذوم هُوَ ابْن الْملك أماري بن فلك وَهُوَ مري الَّذِي تقدم ذكره وَتُوفِّي أماري فِي آخر سنة تسع وَسِتِّينَ سنة مَاتَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَخلف الملعون هَذَا الْوَلَد المجذوم فَبَقيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 بَينهم زهاء عشر سِنِين ملكا مُطَاعًا فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت أوصى لِابْنِ أُخْته بِالْملكِ قَالَ وَكَانَ إبرنس الكرك أرناط أغدر الفرنجية وأخبثها وأفحصها عَن الردى والرداءة وأبحثها وأنقضها للمواثيق المحكمة والأيمان المبرمة وأنكثها وأحنثها وَمَعَهُ شرذمة لَهَا شَرّ ذمَّة وَهِي من شَرّ أمة وهم على طَرِيق الْحجاز وَمن نهج الْحَج على الْمجَاز وَكُنَّا فِي كل سنة نغزوه وبالبوائق نعروه ويصيبه منا الْمَكْرُوه فأظهر أَنه على الْهُدْنَة وجنح للسلم وَأخذ الْأمان لبلده وَأَهله وَقَومه وروحه وَبَقِي الْأَمْن لَهُ شَامِلًا والقفل من مصر فِي طَرِيق بَلَده متواصلا وَهُوَ يمكس الجائي والذاهب حَتَّى لاحت لَهُ فرْصَة فِي الْغدر فَقطع الطَّرِيق وأخاف السَّبِيل وَوَقع فِي قافلة ثَقيلَة مَعهَا نعم جليلة فَأَخذهَا بأسرها وَكَانَ مَعهَا جمَاعَة من الأجناد فأوقعهم فِي الشّرك وَحَملهمْ إِلَى الكرك وَأخذ خيلهم وَالْعدة وسامهم الشد والشدة فَأَرْسَلنَا إِلَيْهِ وذممنا فعاله وقبحنا احتياله واغتياله فَأبى إِلَّا الْإِصْرَار والإضرار فَنَذر السُّلْطَان دَمه ووفى فِي إِرَاقَة دَمه بِمَا الْتَزمهُ وَذَلِكَ فِي السّنة الْآتِيَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق بَقِيَّة هَذِه السّنة وَهُوَ فِي الاستعداد للْجِهَاد وَقد أرسل فِي طلب العساكر من الْبِلَاد المشرقية والمصرية فانتظمت أُمُوره على أحسن قَضِيَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وَمن كتاب فاضلي إِلَى بعض إخوانه كتبت هَذِه الْمُكَاتبَة من جسر الْخشب ظَاهر دمشق وَقد ورد السُّلْطَان أعز الله أنصاره للغزاة إِلَى بِلَاد الْكفْر فِي عَسْكَر فِيهِ عَسَاكِر وَفِي جمع البادي فِيهِ كَأَنَّهُ حَاضر وَفِي حشد يتَجَاوَز أَن يحصله النَّاظر إِلَى أَن لَا يحصله الخاطر وَقد نهضت بِهِ همة لَا يُرْجَى غير الله لإنهاضها ونجحت بِهِ عَزمَة الله المسؤول فِي حسم عوارض اعتراضها وَبَاعَ الله نفسا يسْتَمْتع أهل الْإِسْلَام بهيئتها وَيذْهب الله الشّرك بهيبتها وَأَرْجُو أَن يتمخض عَن زبدة تستريح الْأَيْدِي بعْدهَا عَن المخض وَأَن يكون الله قد بعث سفتجة نصْرَة الْإِسْلَام وسلطانه قد نَهَضَ للقبض ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَهِي سنة كسرة حطين وَفتح السَّاحِل وَالْأَرْض المقدسة للْمُسلمين قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق وَهِي السّنة الْحَسَنَة المحسنة وَالزَّمَان الَّذِي تقضت على انْتِظَار إحسانه الْأَزْمِنَة وطهر فِيهِ الْمَكَان الْمُقَدّس الَّذِي سلمت بسلامته الْأَمْكِنَة وخلصت بمنحة الله من المحنة الأَرْض المقدسة الممتحنة وَكفى الله شَرّ الشّرك وَحكم على دِمَاء الْكَفَرَة بالسفك ونصرت الدولة الناصرية وخذلت الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وانتقم التَّوْحِيد من التَّثْلِيث وشاع فِي الدُّنْيَا بمحاسن الْأَيَّام الصلاحية حسن الْأَحَادِيث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 ثمَّ ذكر فِي كتابي الْفَتْح والبرق مَا جملَته أَن قَالَ فبرز السُّلْطَان من دمشق يَوْم السبت أول الْمحرم فِي الْعَسْكَر العرمرم وَمضى بِأَهْل الْجنَّة لجهاد أهل جَهَنَّم فَلَمَّا وصل إِلَى رَأس المَاء أَمر وَلَده الْملك الْأَفْضَل بِالْإِقَامَةِ هُنَاكَ ليستدني إِلَيْهِ الْأُمَرَاء الواصلين والأملاك وَيجمع الْأَعْرَاب والأعاجم والأتراك وَسَار السُّلْطَان إِلَى بصرى وخيم على قصر السَّلامَة وَأقَام على ارتقاب اقتراب الْحجَّاج وَكَانَ فيهم حسام الدّين مُحَمَّد بن عمر بن لاجين ووالدته أُخْت السُّلْطَان مَعَ جمَاعَة من الْخَواص وَقد تقدم ذكر غدر إبرنس الكرك وَهُوَ على طريقي الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَالْحجاج وَوصل الْحَاج فِي آخر صفر وخلا سر السُّلْطَان من شغلهمْ ثمَّ سَار وَنزل على الكرك وأخاف أَهله وَأخذ مَا كَانَ حوله ورعى زرعهم وَقطع أَشْجَارهم وكرمهم ثمَّ سَار إِلَى الشوبك وَفعل بِهِ مثل ذَلِك وَوصل عَسْكَر مصر فَتَلقاهُ بالقريتين وفرقه على أَعمال القلعتين وَأقَام على هَذِه الْحَالة فِي ذَلِك الْجَانِب شَهْرَيْن وَالْملك الْأَفْضَل وَلَده مُقيم بِرَأْس المَاء فِي جمع عَظِيم من العظماء وَعِنْده الجحافل الحافلة والحواصل الْحَاصِلَة والعساكر الكاسرة والقساور القاسرة وَهُوَ ينْتَظر أمرا من أَبِيه وَيكْتب إِلَيْهِ ويقتضيه وانقضى من السّنة شَهْرَان وَطَالَ بهم انْتِظَار السُّلْطَان فأنهض مِنْهُم سَرِيَّة سَرِيَّة وأمرها بالغارة على أَعمال طبرية ورتب على خيل الجزيرة وَمن جَاءَ من الشرق وديار بكر مظفر الدّين كوكبري صَاحب حران وعَلى عَسْكَر حلب والبلاد الشامية بدر الدّين دلدرم بن ياروق وعَلى عَسْكَر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 دمشق وبلادها صارم الدّين قايماز النجمي فَسَارُوا مدججين وسروا مدلجين وصبحوا صفورية وساء صباح الْمُنْذرين فَخرج إِلَيْهِم الفرنج فِي حشدهم فآتاهم الله النَّصْر الهني وَالظفر السّني وشفوا مِنْهُم حنين الحنايا وأدركوا فيهم منى المنايا وفازوا وظفروا وَقتلُوا وأسروا وَهلك مقدم الإسبتار وَحصل جمَاعَة من فرسانهم فِي قَبْضَة الإسار وأفلت مقدم الداوية وَله حصاص وَوَقع الْبَاقُونَ وَلم يكن لَهُم من الْهَلَاك خلاص وعادوا سَالِمين سالبين غَانِمِينَ غَالِبين فَكَانَت هَذِه النّوبَة باكورة البركات ومقدمة مَا بعْدهَا من ميامن الحركات وجاءتنا الْبُشْرَى وَنحن فِي نواحي الكرك والشوبك فَسَار السُّلْطَان وَوصل السّير بالسرى وخيم بعشترا وَالْقدر يَقُول لَهُ تعيش وَترى وَقد غصت بخيل الله الوهاد والذرى وامتد الْعَسْكَر فراسخ عرضا وطولا وملأ بالملأ حزونا وسهولا وَمَا رَأَيْت عسكرا أبرك مِنْهُ وَلَا أكبر وَلَا أكرث للكفر وَلَا أَكثر وَكَانَ يَوْم عرضه مذكرا بِيَوْم الْعرض وَمَا شَاهده إِلَّا من تَلا {وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَعرض الْعَسْكَر فِي اثْنَي عشر ألف مدجج فِي ليل العجاج مُدْلِج وَلما تمّ الْعرض وحم الْفَرْض وسالت بأفلاك السَّمَاء الأَرْض وَتعين الْجِهَاد وَتبين الِاجْتِهَاد ثمَّ رتب السُّلْطَان الْعَسْكَر أطلابا وَحزبه أحزابا وَسَار يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر ربيع الآخر عَازِمًا على دُخُول السَّاحِل فَأَنَاخَ لَيْلَة السبت على خسفين ثمَّ سَار فِي الْأُرْدُن إِلَى ثغر الأقحوانة وَأقَام هُنَاكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 خَمْسَة أَيَّام وَقد عين مَوَاقِف الْأُمَرَاء وشعارهم وأحاط ببحيرة طبرية بحره الْمُحِيط وضاق ببسائط خيامه ذَلِك الْبَسِيط وَلما سمع الفرنج باجتماع كلمة الْإِسْلَام عَلَيْهِم وسير تِلْكَ العساكر إِلَيْهِم علمُوا أَنه قد جَاءَهُم مَا لَا عهد لَهُم بِمثلِهِ وَأَن الْإِيمَان كُله قد برز إِلَى الشّرك كُله فَاجْتمعُوا واصطلحوا وحشدوا وجمعوا وانتخوا وَدخل القومص مَعَهم بعد أَن دخل عَلَيْهِ الْملك وَرمى بِنَفسِهِ عَلَيْهِ وصفوا راياتهم بصفورية ولووا الألوية وحشدوا الْفَارِس والراجل والرامح والنابل وَرفعُوا صَلِيب الصلبوت فَاجْتمع إِلَيْهِ عباد الطاغوت وضلال الناسوت واللاهوت وَنَادَوْا فِي نوادي أهل أقاليم أهل الأقانيم وصلبوا للصليب الْأَعْظَم بالتعظيم وَمَا عصاهم من لَهُ عَصا وَخَرجُوا عَن الْعد والإحصا وَكَانُوا عدد الْحَصَى وصاروا فِي زهاء خمسين ألفا وَيزِيدُونَ ويكيدون مَا يكيدون قد توافوا على صَعِيد ووافوا من قريب وبعيد وهم هُنَاكَ مقيمون لَا يريمون وَالسُّلْطَان فِي كل صباح يسير إِلَيْهِم ويشرف عَلَيْهِم ويراميهم وينكي فيهم ويتعرض لَهُم ليتعرضوا لَهُ ويردوا عَن رقابهم سيوفه وَعَن شعابهم سيوله فربضوا مَا نبضوا وقعدوا وَمَا نهضوا فَلَو برزوا للمصاف لطالت عَلَيْهِم يَد الانتصاف فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أَنهم لَا يبرحون وَمن قرب صفورية وَلَا ينزحون أَمر أمراءه أَن يقيموا فِي مقابلتهم ويدوموا على عزم مُقَاتلَتهمْ وَنزل هُوَ فِي خواصه العبسية على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 مَدِينَة طبرية وَعلم أَنهم إِذا علمُوا بنزوله عَلَيْهَا بَادرُوا للوصول إِلَيْهَا فَحِينَئِذٍ يتَمَكَّن من قِتَالهمْ ويجهد فِي استئصالهم ثمَّ أحضر الجاندارية والنقابين والخراسانية والحجارين وأطاف بسورها وَشرع فِي تخريب معمورها وَأخذ النقابون النقب فِي برج فهدوه وهدموه وتسلقوا فِيهِ وتسلموه وَدخل اللَّيْل وصباح الْفَتْح مُسْفِر وليل الويل على الْعَدو معتكر وامتنعت القلعة بِمن فِيهَا من القومصية صَاحِبَة طبرية وبنيها وَلما سمع القومص بِفَتْح طبرية وَأخذ بَلَده سقط فِي يَده وَخرج عَن جلد جلده وسمح للفرنج بسبده ولبده وَقَالَ لَهُم لَا قعُود بعد الْيَوْم وَلَا بُد لنا من لِقَاء الْقَوْم وَإِذا أخذت طبرية أخذت الْبِلَاد وَذَهَبت الطراف والتلاد وَمَا بَقِي لي صَبر وَمَا بعد هَذَا الْكسر من جبر وَكَانَ الْملك قد حالفه فَمَا خَالفه وَوَافَقَهُ فَمَا نافقه ورحل بجمعه وَأَتْبَاعه وشياطينه وأشياعه فمادت الأَرْض بحركته وغامت السَّمَاء من غبرته وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا ووثبوا ففرح السُّلْطَان وَقَالَ جَاءَنَا مَا نُرِيد وَنحن أولُوا بَأْس شَدِيد وَإِذا صحت كسرتهم فطبرية وَجَمِيع السَّاحِل مَا دونه مَانع وَلَا عَن فَتحه وازع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 واستخار الله تَعَالَى وَسَار وَعدم الْقَرار وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري ربيع الآخر والفرنج سائرون إِلَى طبرية بقضهم وقضيضهم وهم كالجبال السائرة والبحار الزاخرة أمواجها ملتطمة وأفواجها مزدحمة فرتب السُّلْطَان فِي مقابلتهم أطلابه وَحصل بعسكره قدامهم وحجز بَينهم وَبَين المَاء وَالْيَوْم قيظ وَلِلْقَوْمِ غيظ وحجز اللَّيْل بَين الْفَرِيقَيْنِ وحجرت الْخَيل على الطَّرِيقَيْنِ وهيئت دركات النيرَان وهنئت دَرَجَات الْجنان وانتظر مَالك واستبشر رضوَان فَهِيَ لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر تنزل فِيهَا الْمَلَائِكَة وَالروح وَفِي سحرها نشر الظفر يفوح وَفِي صباحها الْفتُوح فَمَا أبهجنا بِتِلْكَ اللَّيْلَة الفاخرة فقد كُنَّا مِمَّن قَالَ الله تَعَالَى فيهم {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} وبتنا وَالْجنَّة معروضة وَالسّنة مَفْرُوضَة والكوثر واقفة سقاته والخلد قاطفة جناته والسلسبيل وَاضح سَبيله والإقبال ظَاهر قبيله والظهور قَائِم دَلِيله وَالله نَاصِر الْإِسْلَام ومديله وسهر السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى عين الجاليشية من كل طلب وملأ جعابها وكنائنها بالنبال وَكَانَ مَا فرقه من النشاب أَربع مئة حمل ووقف سبعين جمازة فِي حومة الوغى يَأْخُذ مِنْهَا من خلت جعابه وَفرغ نشابه حَتَّى إِذا أَسْفر الصَّباح خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النَّار ورنت القسي وغنت الأوتار ذَاك وَالْيَوْم ذَاك والجيش شَاك وللقيظ عَلَيْهِم فيض وَمَا للغيظ مِنْهُم غيض وَقد وَقد الْحر واستشرى الشَّرّ وَوَقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الْكر والفر والسراب طافح والظمأ لافح والجو محرق والجوى مقلق ولأولئك الْكلاب من اللهب لهث وبالغيث عَبث وَفِي ظنهم أَنهم يردون المَاء فاستقبلتهم جَهَنَّم بشرارها واستظهرت عَلَيْهِم الظهيرة بنارها وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة بجموع أَهلهَا المجتمعة ووراء عسكرنا بحيرة طبرية والورد عد وَمَا مِنْهُ بعد وَقد قطعت على الفرنج طَرِيق الْوُرُود وبلوا من الْعَطش بالنَّار ذَات الْوقُود فوقفوا صابرين مصابرين مكابرين مضابرين فكلبوا على ضراوتهم وَشَرِبُوا مَا فِي إداوتهم وشفهوا مَا حَولهمْ من موارد المصانع واستنزفوا حَتَّى مَاء المدامع وأشرفوا على الْمصير إِلَى المصارع وَدخل اللَّيْل وَسكن السَّيْل وَبَاتُوا حيارى وَمن الْعَطش سكارى وهم على شعف الْبحيرَة بحيرة وقووا أنفسهم على الشدَّة واستعدوا بالعزائم المحتدة وَقَالُوا غَدا نصب عَلَيْهِم مَاء المواضي ونقاضيهم إِلَى القواضب القواضي فأحدوا عزم الْبلَاء وطلبوا الْبَقَاء بالتورط فِي الفناء وَأما عسكرنا فَإِنَّهَا اجترأت وَمن كل مَا يعوقها بَرِئت فَهَذَا لسنانه شاحذ وَهَذَا لعنانه آخذ وَهَذَا سهم مفوق وَهَذَا شهم موفق وَهَذَا مكثر للتكبير ومنتظر للتبكير وَهَذَا نَاجٍ للسعادة وَهَذَا راج للشَّهَادَة فيالله تِلْكَ من لَيْلَة حراسها الْمَلَائِكَة وَمن سحرة أنفاسها ألطاف الله المتداركة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وَالسُّلْطَان رَحمَه الله قد وثق بنصر الله فَهُوَ يمْضِي بِنَفسِهِ على الصُّفُوف ويحضهم ويعدهم من الله بنصره المألوف ويغري المئين بالألوف وهم بمشاهدته إيَّاهُم يجيدون ويجدون ويصدون الْعَدو ويردون وَكَانَ للسُّلْطَان مَمْلُوك اسْمه منكورس حمل فِي أول النَّاس وَكَانَ حصانه قوي الراس فأبعد عَن إخوانه وَلم يُتَابِعه أحد من أقرانه فَانْفَرد بِهِ الفرنج فَأثْبت فِي مستنقع الْمَوْت رجله وَقَاتل إِلَى أَن بلغُوا قَتله فَلَمَّا أخذُوا رَأسه ظنُّوا أَنه أحد أَوْلَاد السُّلْطَان وانتقل الشَّهِيد إِلَى جوَار الرَّحْمَن وَلما شَاهد الْمُسلمُونَ استشهاده وَجلده وجلاده حميت حميتهم وخلصت لله نيتهم وَأصْبح الْجَيْش على تعبئته والنصر على تلبيته وَذَلِكَ يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَهُوَ يَوْم النُّصْرَة وَوُقُوع الكسرة وبرح بالفرنج الْعَطش وأبت عثرتها تنتعش وَكَانَ النسيم من أمامها والحشيش تَحت أَقْدَامهَا فَرمى بعض مطوعة الْمُجَاهدين النَّار فِي الْحَشِيش فتأجج عَلَيْهِم استعارها وتوهج أوارها فبلوا وهم أهل التَّثْلِيث من الدُّنْيَا بِثَلَاثَة الْأَقْسَام فِي الاصطلاء والاصطلام نَار الضرام ونار الأوام ونار السِّهَام فرجا الفرنج فرجا وَطلب طَلَبهمْ المحرج مخرجا فَكلما خَرجُوا جرحوا وبرح بهم حر الْحَرْب فَمَا برحوا وهم ظماء وَمَا لَهُم مَاء سوى مَا بِأَيْدِيهِم من مَاء الفرند مَاء فشوتهم نَار السِّهَام وأشوتهم وصممت عَلَيْهِم قُلُوب القسي القاسية وأصمتهم وأعجزوا وأزعجوا وأحرجوا وأخرجوا وَكلما حملُوا ردوا وأردوا وَكلما سَارُوا وشدوا أَسرُّوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وشدوا وَمَا ذبت مِنْهُم نملة وَلَا ذبت عَنْهُم حَملَة واضطرموا واضطربوا والتهفوا والتهبوا وناشبهم النشاب فَعَادَت أسودهم قنافذ وضايقتهم السِّهَام فوسعت فيهم الْخرق النَّافِذ فآووا إِلَى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار فأحاطت بحطين بوارق الْبَوَار ورشفتهم الظبى وفرشتهم على الربى ورشقتهم الحنايا وقشرتهم المنايا وقرشتهم البلايا ورقشتهم الرزايا وَلما أحس القومص بالكسرة حسر عَن ذِرَاع الْحَسْرَة واقتال من الْعَزِيمَة واحتال فِي الْهَزِيمَة وَكَانَ ذَلِك قبل اضْطِرَاب الْجمع واضطرام الْجَمْر فَخرج بِطَلَبِهِ يطْلب الْخُرُوج واعوج إِلَى الْوَادي وَمَا ود أَن يعوج وَمضى كومض الْبَرْق ووسع خطى خرقه قبل اتساع الْخرق وأفلت فِي عدَّة مَعْدُودَة وَلم يلْتَفت إِلَى ردة مَرْدُودَة وَكَانَ قَالَ لأَصْحَابه أَنا أسبق بالحملة وأفصلهم من الْجُمْلَة فَاجْتمع هُوَ ومؤازروه وَجَمَاعَة من المقدمين هم مضافروه وَصَحبه صَاحب صيدا وباليان بن بارزان وَتَآمَرُوا على أَنهم يحملون ويبلغون الطعان فَحمل القومص وَمن مَعَه على الْجَانِب الَّذِي فِيهِ الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وَهُوَ مؤيد من الله بالتوفيق والتمكين فَفتح لَهُم طَرِيقا وَرمى من أتباعهم فريقا فَمَضَوْا على رؤوسهم ونجوا بنفوسهم وَلما عرف الفرنج أَن القومص أَخذ بالعزيمة وَنفذ فِي الْهَزِيمَة وهنوا وهانوا ثمَّ اشتدوا وَمَا لانوا وثبتوا على مَا كَانُوا واستقبلوا واستقتلوا واستلحموا وحملوا ووقعنا عَلَيْهِم وُقُوع النَّار فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 الحلفاء وصببنا مَاء الْحَدِيد للإطفاء فَزَاد فِي الإذكاء فحطوا خيامهم على غارب حطين حِين رأونا بهم محيطين فأعجلناهم عَن ضرب الْخيام بِضَرْب الْهَام ثمَّ استحرت الْحَرْب واشتجر الطعْن وَالضَّرْب وأحيط بالفرنج من حواليهم ودارت الدَّوَائِر عَلَيْهِم وترجوا خيرا فترجلوا عَن الْخَيل وجرفهم السَّيْف جرف السَّيْل وَملك عَلَيْهِم الصَّلِيب الْأَعْظَم وَذَاكَ مصابهم الْأَعْظَم وَلما شاهدوا الصَّلِيب سليبا ورقيب الردى قَرِيبا أيقنوا بِالْهَلَاكِ وأثخنوا بِالضَّرْبِ الدراك فَمَا برحوا يؤسرون وَيقْتلُونَ ويخمدون ويخملون وللوثوب يخفون وبالجراح يثقلون وَمن مصَارِع الْقَتْل إِلَى معاصر الْأسر ينقلون ووصلنا إِلَى مقدمهم وملكهم وإبرنسهم فتم أسر الْملك وإبرنس الكرك وَأخي الْملك جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري بن هنفري وَابْن صَاحب إسكندرونة وَصَاحب مرقية وَأسر من نجا من الْقَتْل من الداوية ومقدمها وَمن الإسبتارية ومعظمها وَمن البارونية وَمن أخطأه الْبَوَار فَأَصَابَهُ وسآءه الإسار وَأسر الشَّيْطَان وَجُنُوده وَملك الْملك وكنوده وجبر الْإِسْلَام بكسرتهم وَقتلُوا وأسروا بأسرهم فَمن شَاهد الْقَتْلَى قَالَ مَا هُنَاكَ أَسِير وَمن عاين الأسرى قَالَ مَا هُنَاكَ قَتِيل ومذ استولى الفرنج على سَاحل الشَّام مَا شفي للْمُسلمين كَيَوْم حطين غليل فَالله عز وَجل سلط السُّلْطَان وأقدره على مَا أعجز عَنهُ الْمُلُوك وهداه من التَّوْفِيق لامتثال أمره وَإِقَامَة فَرْضه النهج المسلوك ونظم لَهُ فِي حتوف أعدائه والفتوح لأوليائه السلوك وَخَصه بِهَذَا الْيَوْم الْأَغَر والنصر الأبر واليمن الْأسر والنجح الأدر وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا فَضِيلَة هَذَا الْيَوْم لَكَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 متفردا على الْمُلُوك السالفة فَكيف مُلُوك الْعَصْر فِي السمو والسوم غير أَن هَذِه النّوبَة الْمُبَارَكَة كَانَت لِلْفَتْحِ الْقُدسِي مُقَدّمَة ولمعاقد النَّصْر وقواعده مبرمة محكمَة وَمن عجائب هَذِه الْوَقْعَة وغرائب هَذِه الدفعة أَن فارسهم مَا دَامَ فرسه سالما لم يدل للصرعة فَإِنَّهُ من لبسه الزردي من قرنه إِلَى قدمه كَأَنَّهُ قِطْعَة حَدِيد ودراك الضَّرْب وَالرَّمْي إِلَيْهِ غير مُفِيد لَكِن فرسه إِذا هلك فرس وَملك فَلم يغنم من خيلهم ودوابهم وَكَانَت ألوفا مَا هُوَ سَالم وَمَا ترجل فَارس إِلَّا والطعن وَالرَّمْي لمركوبه كالم وغنمنا مَا لَا يحصر من بيض مَكْنُون وزغف موضون وبلاد وحصون وسهول وحزون وابتذلنا مِنْهُم بِهَذَا الْفَتْح كل إقليم مصون وَذَلِكَ سوى مَا استبيح من مَال مخزون واستخرج من كنز مدفون وَصحت هَذِه الكسرة وتمت هَذِه النُّصْرَة يَوْم السبت وَضربت ذلة أهل السبت على أهل الْأَحَد وَكَانُوا أسودا فعادوا من النَّقْد فَمَا أفلت من تِلْكَ الآلاف إِلَّا آحَاد وَمَا نجا من أُولَئِكَ الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وامتلأ الملا بالأسرى والقتلى وانجلى الْغُبَار عَنْهُم بالنصر الَّذِي تجلى وقيدت الْأُسَارَى فِي الحبال وَاجِبَة الْقُلُوب وفرشت الْقَتْلَى فِي الوهاد وَالْجِبَال وَاجِبَة الْجنُوب وحطت حطين تِلْكَ الْجِيَف عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 متنها وطاب نشر النَّصْر بنتنها وعبرت بهَا فألفيتها مَحل الِاعْتِبَار وشاهدت مَا فعل أهل الإقبال بِأَهْل الإدبار وعاينت أعيانهم خَبرا من الْأَخْبَار وَرَأَيْت الرؤوس طائرة والنفوس بائرة والعيون غائرة والجسوم رمستها السوافي والرسوم درستها العوافي وأشلاء المشلولين فِي الْمُلْتَقى ملقاة بالعراء عُرَاة ممزقة بالمآزق مفصلة المفاصل مفرقة الْمرَافِق مفلقة المفارق محذوفة الرّقاب مقصوفة الأصلاب مقطعَة الْهَام موزعة الْأَقْدَام مجدوعة الآناف منزوعة الْأَطْرَاف مفقوءة الْعُيُون مبعوجة الْبُطُون منصفة الأجساد مقصفة الأعضاد مقلصة الشفاه مخلصة الجباه سَائِلَة الأحداق مائلة الْأَعْنَاق عديمة الْأَرْوَاح هشيمة الأشباح كالأحجار بَين الْأَحْجَار عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار وَلما أَبْصرت خدودهم ملصقة بِالتُّرَابِ وَقد قطعُوا آرابا تلوث قَول الله تَعَالَى {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} فَمَا أطيب نفحات الظفر من ذَلِك الْخبث وَمَا ألهب عذبات الْعَذَاب فِي تِلْكَ الجثث وَمَا أحسن عمارات الْقُلُوب بقبح ذَلِك الشعث وَمَا أَجْزَأَ صلوَات البشائر بِوُقُوع ذَلِك الْحَدث هَذَا حِسَاب من قتل فقد حصرت أَلْسِنَة الْأُمَم عَن حصره وعده وَأما من أسر فَلم تكف أطناب الخيم لقيده وشده وَلَقَد رَأَيْت فِي حَبل وَاحِد ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين يقودهم فَارس وَفِي بقْعَة وَاحِدَة مئة ومئتين يحميهم حارس وهنالك العتاة عناة والعداة عُرَاة وذوو الأسرة أسرى وَأولُوا الأثرة عثرى والقوامص قنائص والفوارس فرائس وغوالي الْأَرْوَاح رخائص ووجوه الداوية عوابس والرؤوس تَحت الأخامص فكم أصيد صيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وقائد قيد وَقيد وَملك مَمْلُوك وهاتك مهتوك وحر فِي الرّقّ ومبطل فِي يَد المحق وَلم يؤسر الْملك حَتَّى أَخذ صَلِيب الصلبوت وَأهْلك دونه الطاغوت وَهُوَ الَّذِي إِذا نصب وأقيم وَرفع سجد لَهُ كل نَصْرَانِيّ وَركع وهم يَزْعمُونَ أَنه من الْخَشَبَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَنه صلب عَلَيْهَا معبودهم وَقد غلفوه بِالذَّهَب الْأَحْمَر وكللوه بالدر والجوهر وأعدوه ليَوْم الروع الْمَشْهُود ولموسم عَلَيْهِم الْمَوْعُود فَإِذا أخرجته القسوس وَحَمَلته الرؤوس تبَادرُوا إِلَيْهِ وانثالوا عَلَيْهِ وَلَا يسع أحدهم عَنهُ التَّخَلُّف وَلَا يسوغ للمتخلف عَن اتِّبَاعه فِي نَفسه التَّصَرُّف وَأَخذه عِنْدهم أعظم من أسر الْملك وَهُوَ أَشد مصاب لَهُم فِي ذَلِك المعترك فَإِن الصَّلِيب السليب مَا لَهُ عوض وَلَا لَهُم فِي سواهُ غَرَض والتأله لَهُ عَلَيْهِم مفترض فَهُوَ إلههم وتعفر لَهُ جباههم وتسبح لَهُ أَفْوَاههم يتغاشون عِنْد أحضاره ويتعاشون لإبصاره ويتلاشون لإظهاره ويتغاضون إِذا شاهدوه ويتواجدون إِذا وجدوه ويبذلون دونه المهج وَيطْلبُونَ بِهِ الْفرج بل صاغوا على مثله صلبانا يعبدونها ويخشعون لَهَا فِي بُيُوتهم ويشهدونها فَلَمَّا أَخذ هَذَا الصَّلِيب عظم مصابهم ووهت أصلابهم وَكَانَ الْجمع المكسور عَظِيما والموقف الْمَنْصُور كَرِيمًا فكأنهم لما عرفُوا إِخْرَاج هَذَا الصَّلِيب لم يتَخَلَّف أحد عَن يومهم العصيب فهلكوا قتلا وأسرا وملكوا قهرا وقسرا وَلما صَحَّ الْكسر وَقضي الْأَمر وَتمكن النَّصْر وَسكن الْبَحْر ضرب السُّلْطَان فِي تِلْكَ الحومة دهليز السرادق وتوافت إِلَيْهِ حماة الْحَقَائِق وَنزل السُّلْطَان وَصلى للشكر وَسجد وجدد الاستبشار بِمَا وجد وأحضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 عِنْده من الْأُسَارَى الْملك والبرنس وأجلس الْملك بجنبه وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان لعرض أكَابِر الْأُسَارَى وهم يتهادون فِي الْقُيُود تهادي السكارى فَقدم بداية مقدم الداوية وعدة كَثِيرَة مِنْهُم وَمن الاسبتارية وأحضر الْملك كي وَأَخُوهُ جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري والإبرنس أرناط صَاحب الكرك وَهُوَ أول من وَقع فِي الشّرك وَكَانَ السُّلْطَان نذر دَمه وَقَالَ لأعجلن عِنْد وجدانه عَدمه فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ أجلسه إِلَى جنب الْملك وَالْملك بجنبه وقرعه على غدره وَذكره بِذَنبِهِ وَقَالَ لَهُ كم تحلف وتحنث وتعهد وتنكث وتبرم الْمِيثَاق وتنقض وَتقبل على الْوِفَاق ثمَّ تعرض فَقَالَ الترجمان عَنهُ إِنَّه يَقُول قد جرت بذلك عَادَة الْمُلُوك وَمَا سلكت غير السّنَن المسلوك وَكَانَ الْملك يَلْهَث ظمأ ويميل من سكرة الرعب منتشيا فآنسه السُّلْطَان وحاوره وفثأ سُورَة الوجل الَّذِي ساوره وَسكن رعبه وَأمن قلبه وَأمر لَهُ بِمَاء مثلوج فشربه وأطفأ بِهِ لهبه ثمَّ ناول الْملك الإبرنس الْقدح فاستشفه وَبرد بِهِ لهفه فَقَالَ السُّلْطَان للْملك لم تَأْخُذ فِي سقيه مني إِذْنا فَلَا يُوجب ذَلِك لَهُ مني أمنا ثمَّ ركب وخلاهما وبنار الوهل أصلاهما وَلم ينزل إِلَى أَن ضرب سرادقه وركزت أَعْلَامه وبيارقه وعادت إِلَى الْحمى عَن الحومة فيالقه فَلَمَّا دخل سرادقه استحضر الإبرنس فَقَامَ إِلَيْهِ وتلقاه بِالسَّيْفِ فَحل عَاتِقه وَحين صرع أَمر بِرَأْسِهِ فَقطع وجر بِرجلِهِ قُدَّام الْملك حِين أخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 فارتاع الْملك وانزعج فَعرف السُّلْطَان أَنه خامره الْفَزع وساوره الْهَلَع وسامره الْجزع فاستدعاه واستدناه وأمنه وطمنه ومكنه من قربه وسكنه وَقَالَ لَهُ وَذَاكَ رداءته أردته وغدرته كَمَا ترَاهُ غادرته وَقد هلك بغيه وبغيه ونبا زند حَيَاته ووردها عَن ريه ووريه ثمَّ جمع الْأُسَارَى المعروفين وسلمهم إِلَى وَالِي قلعة دمشق الناصح الغيدي فَقَالَ لَهُم أَنْتُم تَحت قيدي وسلمهم إِلَى أَصْحَابه فتسلمتهم الْأَيْدِي وَأمرهمْ أَن يَأْخُذُوا خطّ الصفي بن الْقَابِض فِي دمشق بوصولهم ويحتاط عَلَيْهِم فِي أغلالهم وكبولهم فَتفرق الْعَسْكَر بِمن ضمته أَيدي السَّبي أَيدي سبا وهادتهم الوهاد والربى قَالَ وَلما أصبح السُّلْطَان يَوْم الْأَحَد استقام على الجدد وخيم على طبرية وراسل القومصية وأخرجها من حصنها بالأمان ووفى لَهَا وللفرسان بنيها بِشُرُوط الْأمان فَخرجت بمالها ورحالها ونسائها ورجالها وسارت إِلَى طرابلس بلد زَوجهَا القومص بمالها وحالها وَولى طبرية قايماز النجمي وَكَانَت طبرية فِي عهد الفرنج تقاسم على نصف مغل الْبِلَاد من الصَّلْت والبلقاء وجبل عَوْف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وَمَا يقربهَا إِلَى بلد حوران فخلصت المناصفات وصفت الصفاة وَأمنت الْآفَات هَذَا وَالسُّلْطَان نَازل ظَاهر طبرية وَقد طب الْبَريَّة وَعَسْكَره قد طبق الْبَريَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 فَلَمَّا أصبح يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْفَتْح بيومين طلب الْأُسَارَى من الداوية والاستبارية وَقَالَ أَنا أطهر الأَرْض من هَذِه الجنسين النجسين فَمَا جرت عَادَتهمَا بالمفاداة وَلَا يقلعان عَن المعاداة وَلَا يخدمان فِي الْأسر وهما أَخبث أهل الْكفْر فَتقدم بإحضار كل أَسِير داوي واسبتاري ليمضي فِيهِ حكم السَّيْف وَرَأى البقيا عَلَيْهِم عين الحيف ثمَّ علم أَن كل من عِنْده أَسِير لَا يسمح بِهِ وَأَنه يضن بعطبه فَجعل لكل من يَأْتِيهِ بأسير مِنْهُمَا من الدَّنَانِير الْحمر خمسين فَأتوهُ فِي الْحَال بمئين فَأمر بإعطابهم وَضرب رقابهم ومحو حسابهم وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ جمَاعَة من المتطوعة المتورعة والمتصونة المتصوفة والمتعممة المتصرفة وَمن يمت بالزهد والمعرفة فَسَأَلَ كل وَاحِد فِي قتل وَاحِد وسل سَيْفه وحسر عَن ساعد وَالسُّلْطَان جَالس وَوَجهه بَاشر وَالْكفْر عَابس والعساكر صُفُوف والأمراء فِي السماطين وقُوف فَمنهمْ من فرى وبرى وشكر وَمِنْهُم من أَبى ونبا وَعذر وَمِنْهُم من يضْحك مِنْهُ وينوب سواهُ عَنهُ وشاهدت هُنَاكَ الضحوك الْقِتَال وَرَأَيْت مِنْهُ القوال الفعال فكم وعد أنجزه وَحمد أحرزه وَأجر استدامه بِدَم أجراه وبر أعنق إِلَيْهِ بعنق براه وسير ملك الفرنج وأخاه وهنفري وَصَاحب جبيل ومقدم الداوية وَجَمِيع أكابرهم المأسورين إِلَى دمشق ليودعوا السجون وتستبدل حركاتهم السّكُون وَتَفَرَّقَتْ العساكر بِمَا حوت أَيْديهم من السَّبي وَسبق بهم إِلَى الْبِلَاد النَّاس وَلم يَقع على عَددهمْ الْقيَاس فَكتب إِلَى الصفي بن الْقَابِض نَائِبه بِدِمَشْق أَن يضْرب عنق من يجد من الداوية والاسبتارية فامتثل الْأَمر فِي إزهاقهم وَضرب أَعْنَاقهم فَمَا قتل إِلَّا من عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 فَأبى أَن يسلم وَمَا أسلم إِلَّا آحَاد حسن إسْلَامهمْ وتأكد بِالدّينِ غرامهم قَالَ الْعِمَاد وَمَا زلت أبحث عَن سَبَب نذر السُّلْطَان إِرَاقَة دم الإبرنس حَتَّى حَدثنِي الْأَمِير الْعَزِيز عبد الْعَزِيز بن شَدَّاد بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس وَهُوَ ذُو الْبَيْت الْكَبِير والحسب الْجَلِيل وَكَانَ جده صَاحب إفريقية والقيروان وَكَانُوا يتوارثون ملكه إِلَى قريب من هَذَا الزَّمَان ذكر أَن الْأَجَل الْفَاضِل حَدثهُ أَن السُّلْطَان لما عَاد إِلَى دمشق من حران بعد المرضة الَّتِي صَار بهَا كل قلب عَلَيْهِ حران وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ من عقابيل سقمه لَا يُفَارق الأنين فَقلت لَهُ مَا مَعْنَاهُ قد أيقظك الله وَمَا يعيذك من هَذَا السوء سواهُ فانذر أَنَّك إِذا أبللت من هَذَا الْمَرَض تقوم بِكُل مالله من المفترض وَأَنَّك لَا تقَاتل من الْمُسلمين أحدا أبدا وَتَكون فِي جِهَاد أَعدَاء الله مُجْتَهدا وَأَنَّك إِذا نصرك الله فِي المعترك وظفرت بالقومص وإبرنس الكرك تتقرب إِلَى الله بإراقة دمهما فَمَا يتم وجود النَّصْر إِلَّا بعدمهما فَأعْطَاهُ يَده على هَذَا النّذر ونجاه الله ببركة هَذَا الْعذر من الذعر وخلصه إخلاصه فِي مرضاة الله فأبل من مرضته واستقل بنهضته واستقبل السّنة الْقَابِلَة بِسنة الْغَزْو وفريضته ثمَّ جرى من مُقَدمَات الْجِهَاد ونتائجها مَا جرى وخيم السُّلْطَان فِي جموع الْإِسْلَام بعشترا وَركب يَوْمًا فِي عسكره وعزم على نشر القساطل وطي المراحل وَدخُول السَّاحِل وَالْقَذْف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فَبَدَأَ بلقاء الطلعة الْمُبَارَكَة من الْأَجَل الْفَاضِل فَقَالَ لَهُ ليكن نذرك على ذكرك واستزد نعْمَة الله عِنْده بمزيد شكرك وَلَا تخطر غير قمع أهل الْكفْر بفكرك فَمَا أنقذك الله من تِلْكَ الورطة ونعشك من تِلْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 السقطة إِلَّا ليوفر حظك من هَذِه الْغِبْطَة فتوكل على الله عَازِمًا وَجَاز الْأُرْدُن حازما وأرعب جأش الْكفْر وَكسر جيوشه وثل عروشه وَوَقع فِي الشّرك إبرنس الكرك فوفى بِضَرْب عُنُقه نَذره وَأما القومص فَإِنَّهُ أَخذ فِي الْمُلْتَقى بالهزيمة حذره وَلما وصل إِلَى طرابلس أخافه فِي مأمنه الْقدر وفجأة فِي صَفوه الكدر وتسلمه مَالك إِلَى سقر فصل هَذَا الَّذِي تقدم من وصف كسرة حطين هُوَ عين مَا ذكره عماد الدّين رَحمَه الله فِي كِتَابيه الْفَتْح والبرق اختصرته مِنْهُمَا وَهُوَ مطول فيهمَا وَقد وقفت على كَلَام لغيره فِي ذَلِك فَأَحْبَبْت إِيرَاده على وَجهه لما فِيهِ من شرح مَا تقدم وتقويته وَرُبمَا اشْتَمَل على زيادات من فَوَائِد تتَعَلَّق بذلك لم يتَعَرَّض لَهَا أَو مُخَالفَة لبَعض مَا ذكره قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن بن شَدَّاد لما كَانَ الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ عزم السُّلْطَان على قصد الكرك فسير إِلَى حلب من يستحضر الْعَسْكَر وبرز من دمشق فِي منتصف الْمحرم فَسَار حَتَّى نزل بِأَرْض الكرك منتظرا لِاجْتِمَاع العساكر المصرية والشامية وَأمر العساكر المتواصلة إِلَيْهِ بشن الْغَارة على مَا فِي طريقهم من الْبِلَاد الساحلية فَفَعَلُوا ذَلِك وَأقَام رَحمَه الله بِأَرْض الكرك حَتَّى وصل الْحَاج الشَّامي إِلَى الشَّام وأمنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 غائلة الْعَدو وَوصل قفل مصر وَمَعَهُ بنت الْملك المظفر وَمَا كَانَ لَهُ بالديار المصرية وتأخرت عَنهُ العساكر الحلبية بِسَبَب اشتغالها بالفرنج بِأَرْض أنطاكية وبلاد ابْن لاون وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد مَاتَ ووصى لِابْنِ أَخِيه لاون بِالْملكِ وَكَانَ الْملك المظفر بحماة وَبلغ الْخَبَر السُّلْطَان فَأمره بِالدُّخُولِ إِلَى بِلَاد الْعَدو وإخماد نائرته فوصل تَقِيّ الدّين حلب وَنزل فِي دَار الْعَفِيف ابْن زُرَيْق وانتقل إِلَى دَار طمان وَفِي تَاسِع صفر خرج بعسكر حلب إِلَى حارم ليعلم الْعَدو أَن هَذَا الْجَانِب لَيْسَ بمهمل وَعَاد السُّلْطَان فوصل إِلَى السوَاد وَنزل بعشترا سَابِع عشر ربيع الأول ولقيه وَلَده الْأَفْضَل ومظفر الدّين وَجَمِيع العساكر وَكَانَ تقدم إِلَى الْملك المظفر بمصالحة الْجَانِب الْحلَبِي مَعَ الفرنج ليتفرغ البال مَعَ الْعَدو فِي جَانب وَاحِد فَصَالحهُمْ وَتوجه إِلَى حماة يطْلب خدمَة السُّلْطَان للغزاة فسارت العساكر الشرقية فِي خدمته وهم عَسْكَر الْموصل مقدمهم مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي وعسكر ماردين إِلَى أَن أَتَوا عشترا فَلَقِيَهُمْ السُّلْطَان وَأكْرمهمْ ثمَّ عرض السُّلْطَان العساكر منتصف ربيع الآخر على تل يعرف بتل تسيل ورتبهم واندفع قَاصِدا إِلَى بِلَاد الْعَدو فِي وسط نَهَار الْجُمُعَة وَكَانَ أبدا يقْصد بوقعاته الْجمع لَا سِيمَا أَوْقَات صَلَاة الْجُمُعَة تبركا بِدُعَاء الخطباء على المنابر فَرُبمَا كَانَت أقرب إِلَى الْإِجَابَة وبلغه أَن الفرنج اجْتَمعُوا فِي مرج صفورية بِأَرْض عكا فقصد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 نحوهم للمصاف مَعَهم فَسَار وَنزل على بحيرة طبرية عِنْد قَرْيَة تسمى الصنبرة ورحل من هُنَاكَ وَنزل على غربي طبرية على سطح الْجَبَل لتعبئة الْحَرْب منتظرا أَن الفرنج إِذا بَلغهُمْ ذَلِك قصدوه فَلم يتحركوا من مَنْزِلَتهمْ فَنزل جَرِيدَة على طبرية وَترك الأطلاب على حَالهَا قبالة وَجه الْعَدو ونازل طبرية وزحف عَلَيْهَا فهجمها وَأَخذهَا فِي سَاعَة من نَهَار وامتدت الْأَيْدِي إِلَيْهَا بالنهب والأسر والحريق وَالْقَتْل واحتمت القلعة وَحدهَا فَرَحل الفرنج وقصدوا طبرية للدَّفْع عَنْهَا فَأخْبرت الطَّلَائِع الإسلامية الْأُمَرَاء بحركة الفرنج فسيروا إِلَى السُّلْطَان من عرفه ذَلِك فَترك على طبرية من يحفظ قلعتها وَلحق الْعَسْكَر هُوَ وَمن مَعَه فَالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي مِنْهَا وَحَال اللَّيْل بَين الفئتين فباتتا على مصَاف شاكين فِي السِّلَاح إِلَى صَبِيحَة الْجُمُعَة فَركب العسكران وتصادما وَذَلِكَ بِأَرْض قَرْيَة تسمى اللوبيا وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن حَال بَينهم الظلام وَجرى فِي ذَلِك الْيَوْم من الوقائع الْعَظِيمَة والأمور الجسيمة مَا لم يحك عَمَّن تقدم وَبَات كل فريق فِي سلاحه ينْتَظر خَصمه فِي كل سَاعَة وَقد أقعده التَّعَب عَن النهوض حَتَّى كَانَ صباح السبت الَّذِي بورك فِيهِ فَطلب كل من الْفَرِيقَيْنِ مقَامه وَعلمت كل طَائِفَة أَن الْمَكْسُورَة مِنْهَا مدحورة الْجِنْس مَعْدُومَة النَّفس وَتحقّق الْمُسلمُونَ أَن من ورائهم الْأُرْدُن وَمن بَين أَيْديهم بِلَاد الْقَوْم وَلَا ينجيهم إِلَّا الله وَكَانَ الله قد قدر نَصره للْمُسلمين فيسره وأجراه على وفْق مَا قدره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 فَحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وَحمل الْقلب وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوب الْكَافرين {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} وَكَانَ القومص ذكي الْقَوْم وألمعيهم فَرَأى أَمَارَات الخذلان قد نزلت بِأَهْل دينه وَلم يشْغلهُ ظن محاسنة جنسه عَن يقينه فهرب فِي أَوَائِل الْأَمر قبل اشتداده وَأخذ طَرِيقه نَحْو صور وَتَبعهُ جمَاعَة من الْمُسلمين فنجا وَحده وَأمن الْإِسْلَام كَيده واحتاط أهل الْإِسْلَام بِأَهْل الْكفْر والطغيان من كل جَانب وانهزمت مِنْهُم طَائِفَة فتبعها أبطال الْمُسلمين فَلم ينج مِنْهَا وَاحِد واعتصمت الطَّائِفَة الْأُخْرَى بتل حطين وَهِي قَرْيَة عِنْده وَعِنْدهَا قبر النَّبِي شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام فضايقهم الْمُسلمُونَ على التل وأشعلوا حَولهمْ النيرَان وقتلهم الْعَطش وضاق بهم الْأَمر حَتَّى كَانُوا يستسلمون للأسر خوفًا من الْقَتْل فَأسر مقدموهم وَقتل الْبَاقُونَ وأسروا وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم الْعَظِيم يخلد إِلَى الْأسر خوفًا على نَفسه وَلَقَد حكى لي من أَثِق بقوله أَنه لَقِي بحوران شخصا وَاحِدًا وَمَعَهُ طُنب خيمة وَفِيه نَيف وَثَلَاثُونَ أَسِيرًا يجرهم وَحده لخذلان وَقع عَلَيْهِم وَأما القومص الَّذِي هرب فَإِنَّهُ وصل إِلَى طرابلس وأصابه ذَات الْجنب فَأَهْلَكَهُ الله بهَا وَأما مقدمو الإسبتارية والداوية فَإِن السُّلْطَان اخْتَار قَتلهمْ فَقتلُوا عَن بكرَة أَبِيهِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وَأما البرنز أرناط فَكَانَ السُّلْطَان قد نذر أَنه إِن ظفر بِهِ قَتله وَذَلِكَ انه كَانَ عبر بِهِ بالشوبك قفل من الديار المصرية فِي حَالَة الصُّلْح فنزلوا عِنْده بالأمان فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الله وَالصُّلْح الَّذِي بَينه وَبَين الْمُسلمين فَقَالَ مَا يتَضَمَّن الاستخفاف بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ قُولُوا لمحمدكم يخلصكم وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَحَمله الدّين وَالْحمية على أَنه نذر إِن ظفر بِهِ قَتله فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ بالنصر وَالظفر جلس فِي دهليز الْخَيْمَة فَإِنَّهَا لم تكن نصبت وَالنَّاس يَتَقَرَّبُون إِلَيْهِ بالأسارى وبمن وجدوه من المقدمين ونصبت الْخَيْمَة وَجلسَ فَرحا مَسْرُورا شاكرا لما أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ استحضر الْملك جفري وأخاه والبرنز أرناط وناول الْملك شربة من جلاب بثلج فَشرب مِنْهَا وَكَانَ على أَشد حَال من الْعَطش ثمَّ ناول بَعْضهَا البرنز أرناط فَقَالَ السُّلْطَان للترجمان قل للْملك أَنْت الَّذِي تسقيه وَإِلَّا أَنا ماسقيته وَكَانَ على جميل عَادَة الْعَرَب وكريم أَخْلَاقهم أَن الْأَسير إِذا أكل أَو شرب من مَال من أسره أَمن فقصد بذلك الجري على مَكَارِم الْأَخْلَاق ثمَّ أَمر بمسيرهم إِلَى مَوضِع عين لنزولهم فَمَضَوْا وأكلوا شَيْئا ثمَّ عَاد واستحضرهم وَلم يبْق عِنْده أحد سوى بعض الخدم فَأقْعدَ الْملك فِي الدهليز واستحضر البرنز أرناط وَأَوْقفهُ على مَا قَالَ وَقَالَ لَهُ هَا أَنا أنتصر لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَلم يفعل ثمَّ سل النمجاة وضربه بهَا فَحل كتفه وتمم عَلَيْهِ من حضر وَعجل الله بِرُوحِهِ إِلَى النَّار فَأخذ وَرمي على بَاب الْخَيْمَة فَلَمَّا رَآهُ الْملك قد أخرج على تِلْكَ الصُّورَة لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 يشك فِي أَنه يثني بِهِ فَاسْتَحْضرهُ وَطيب قلبه وَقَالَ لم تجر عَادَة الْمُلُوك أَن يقتلُوا الْمُلُوك وَأما هَذَا فَإِنَّهُ جَاوز حَده فَجرى مَا جرى وَبَات النَّاس تِلْكَ اللَّيْلَة على أتم سرُور وأكمل حبور ترْتَفع أَصْوَاتهم بِالْحَمْد لله وَالشُّكْر لَهُ وَالتَّكْبِير والتهليل حَتَّى طلع الصُّبْح فِي يَوْم الْأَحَد فَنزل رَحمَه الله على طبرية وتسلم فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم قلعتها وَأقَام بهَا إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء قلت وَذكر مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه أَنه ورد فِي هَذِه السّنة كتب إِلَى بَغْدَاد فِي وصف هَذِه الْوَقْعَة مِنْهَا كتاب من عبد الله بن أَحْمد الْمَقْدِسِي يَقُول فِيهِ كتبت هَذَا الْكتاب من عسقلان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَفِيه وَلَو حمدنا الله عز وَجل طول أعمارنا مَا وَفينَا بِعشر معشار نعْمَته الَّتِي أنعم بهَا علينا من هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم فَإنَّا خرجنَا إِلَى عَسْكَر صَلَاح الدّين وتلاحق الأجناد حَتَّى جَاءَ النَّاس من الْموصل وديار بكر وإربل فَجمع صَلَاح الدّين الْأُمَرَاء وَقَالَ هَذَا الْيَوْم الَّذِي كنت أنتظره وَقد جمع الله لنا العساكر وَأَنا رجل قد كَبرت وَمَا أَدْرِي مَتى أَجلي فاغتنموا هَذَا الْيَوْم وقاتلوا لله تَعَالَى لَا من أَجلي فَاخْتَلَفُوا فِي الْجَواب وَكَانَ رَأْي أَكْثَرهم لِقَاء الْكفَّار فَعرض جنده ورتبهم وَجعل تَقِيّ الدّين فِي الميمنة ومظفر الدّين فِي الميسرة وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَجعل بَقِيَّة الْعَسْكَر فِي الجناحين ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 سَارُوا على مَرَاتِبهمْ حَتَّى نزلُوا الأقحوانة فتركوا بهَا أثقالهم وَسَارُوا حَتَّى نزلُوا بِكفْر سبت فأقاموا يَوْمَيْنِ ينتظرون أَن يبرز لَهُم الْكفَّار وَكَانَ عَسْكَر الْكفَّار على صفورية فَلم يبرزوا فَعَاد صَلَاح الدّين حَتَّى نزل على طبرية فَتقدم فرسانه وحماته ورماته والنقابون فَدَخَلُوا حَتَّى الْحصن فَلَمَّا تمكن النقب مِنْهُ انهار من غير وقود نَار وَدخل الْمُسلمُونَ فانتهبوا يَوْم الْخَمِيس وَأَصْبحُوا فِي يَوْم الْجُمُعَة فشرعوا فِي نقب القلعة فَلَمَّا كَانَ وَقت الصَّلَاة جَاءَ الْخَبَر أَن الْكفَّار قد توجهوا إِلَيْنَا فارتحل صَلَاح الدّين على صفوفه فَلَقِيَهُمْ ثمَّ لم يزَالُوا يتقدمون حَتَّى صَار الْمُسلمُونَ محيطين بهم وَصَارَ قلب الْمُسلمين خَلفهم فتراموا سَاعَة وَبَات كل فريق على مَصَافهمْ ثمَّ أَصْبحُوا فَسَار الْكفَّار يقصدون طبرية والمسلمون حَولهمْ يلحون عَلَيْهِم بِالرَّمْي فاقتلع الْمُسلمُونَ مِنْهُم فوارس وَقتلُوا خيالة ورجالة فانحاز الْمُشْركُونَ إِلَى تل حطين فنزلوا عِنْده ونصبوا الْخيام وَأقَام النَّاس حَولهمْ إِلَى أَن انتصف النَّهَار وهبت الرِّيَاح فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فَانْهَزَمُوا لَا يلوون على شَيْء وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا نَحْو من مئتين وَكَانُوا كَمَا قيل اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَقيل ثَلَاثَة وَعشْرين ألفا لم يتْركُوا فِي بِلَادهمْ من يقدر على الْقِتَال إِلَّا قَلِيلا وَكَانَ الَّذِي أسر الْملك درباس الْكرْدِي وَغُلَام الْأَمِير إِبْرَاهِيم المهراني أسر الإبرنس وَقتل صَلَاح الدّين الإبرنس بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قد غدر وَأخذ قافلة من طَرِيق مصر ثمَّ عَاد صَلَاح الدّين إِلَى طبرية فَأخذ قلعتها بالأمان ثمَّ ضرب أَعْنَاق الأسرى الَّذين كَانُوا فِي الْعَسْكَر وَأرْسل إِلَى دمشق فَضربت أَعْنَاق الَّذين بهَا مِنْهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 قَالَ وَورد كتاب آخر فِيهِ هَذِه الْفتُوح الَّتِي مَا سمع بهَا قطّ وَهَذَا ذكر بَعْضهَا مُخْتَصرا مَعَ أَنه لَا يقدر أحد يصف ذَلِك لِأَن الْأَمر أكبر من ذَلِك الَّذِي يبشر بِهِ الْمُسلمُونَ أَن مَدِينَة طبرية فتحت بِالسَّيْفِ وَأخذت قلعتها بالأمان وَاجْتمعَ عَسْكَر الفرنج جَمِيعهم والتقوا بِالْمُسْلِمين عِنْد قبر شُعَيْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقتل من الإفرنج ثَلَاثُونَ ألفا وَكَانَ عدد الإفرنج ثَلَاثَة وَسِتِّينَ ألفا بَين فَارس وراجل وَأسر مِنْهُم ثَلَاثُونَ ألفا وَبلغ ثمن الْأَسير بِدِمَشْق ثَلَاثَة دَنَانِير وَاسْتغْنى عَسْكَر الْإِسْلَام من الأسرى وَالْأَمْوَال والغنائم بِحَيْثُ لَا يقدر أحد يصف ذَلِك وَمَا سلم من عَسْكَر الفرنج سوى قومص إطرابلس مَعَ أَرْبَعَة نفر وَهُوَ مَجْرُوح ثَلَاث جراحات وَأخذ جَمِيع أُمَرَاء الفرنج وَكم قد سبي من النِّسَاء والأطفال يُبَاع الرجل وَزَوجته وَأَوْلَاده فِي المناداة بيعَة وَاحِدَة وَلَقَد بيع بحضوري رجل وَامْرَأَة وَخَمْسَة أَوْلَاد ثَلَاث بَنِينَ وابنتان بِثَمَانِينَ دِينَارا وَأخذ صَلِيب الصلبوت فعلق على قنطارية مُنَكسًا وَدخل بِهِ القَاضِي ابْن أبي عصرون إِلَى دمشق وكل يَوْم يرى من رُؤُوس الفرنج مثل الْبِطِّيخ وَأخذ من الْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال مَا لم يَجِيء من يَشْتَرِيهَا من كَثْرَة السَّبي والغنائم قَالَ وَفِي كتاب آخر وَكَانَ الفرنج خَمْسَة وَأَرْبَعين ألفا فَلم يسلم مِنْهُم سوى ألف وَقتل الْبَاقُونَ واستأسروهم وَكَذَلِكَ الْمُلُوك قلت وَبَلغنِي أَن بعض فُقَرَاء الْعَسْكَر وَقع بِيَدِهِ أَسِير وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى نعل فَبَاعَهُ بهَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أردْت أَن يذكر ذَلِك وَيُقَال بلغ من هوان أسرى الفرنج وكثرتهم أَن بيع وَاحِد مِنْهُم بنعل وَللَّه الْحَمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وَمَا أحسن مَا قَالَ أَبُو الْحسن بن الذروي الْمصْرِيّ من قصيدة (شرحت صَلَاح الدّين بالسمر والظبى ... من الْمجد معنى كَانَ من قبل يغمض) (وَمَا كَاد جَيش الرّوم يبرم كَيده ... إِلَى أَن سرت مِنْك المهابة تنقض) (حميت ثغور الْمُسلمين فَأَصْبَحت ... ثغورا بأمواه الْحَدِيد تمضمض) (أسرت مُلُوك الْكفْر حَتَّى تركته ... وَمَا فِيهِ عرق عَن قوى النَّفس ينبض) وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل غَائِبا عَن هَذِه الكسرة بِدِمَشْق فَلَمَّا بلغته كتب إِلَى السُّلْطَان لِيهن الْمولى أَن الله قد أَقَامَ بِهِ الدّين الْقيم وَأَنه كَمَا قيل أَصبَحت مولَايَ وَمولى كل مُسلم وَأَنه قد أَسْبغ عَلَيْهِ النعمتين الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وأورثه الْملكَيْنِ ملك الدُّنْيَا وَملك الْآخِرَة كتب الْمَمْلُوك هَذِه الْخدمَة والرؤوس إِلَى الْآن لم ترفع من سجودها والدموع لم تمسح من خدودها وَكلما فكر الْمَمْلُوك أَن البيع تعود وَهِي مَسَاجِد وَالْمَكَان الَّذِي كَانَ يُقَال فِيهِ إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة يُقَال الْيَوْم فِيهِ إِنَّه وَاحِد جدد لله شكرا تَارَة يفِيض من لِسَانه وَتارَة يفِيض من جفْنه وجزى يُوسُف خيرا عَن إِخْرَاجه من سجنه والمماليك ينتظرون أَمر الْمولى فَكل من أَرَادَ أَن يدْخل الْحمام بِدِمَشْق قد عول على دُخُول حمام طبرية (تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن ... وَذَلِكَ الْفَتْح لَا عمان واليمن) (وَذَلِكَ السَّيْف لَا سيف ابْن ذِي يزن ... ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وللألسنة بعد فِي هَذَا الْفَتْح سيح طَوِيل وَقَول جليل وللعماد رَحمَه الله قصائد يذكر فِيهَا وقْعَة حطين لم يذكر مِنْهَا شَيْئا هُنَا بل ذكر بَعْضهَا عِنْد ذكر فتح نابلس وَبَعضهَا عِنْد ذكر فتح الْقُدس فنقلت مِنْهَا إِلَى هَذَا الْمَكَان مَا يتَعَلَّق بِهِ وَالْبَاقِي يذكر فِي مَكَانَهُ إِن شَاءَ الله قَالَ (يَا يَوْم حطين والأبطال عابسة ... وبالمعجاجة وَجه الشَّمْس قد عبسا) (رَأَيْت فِيهِ عَظِيم الْكفْر محتقرا ... معفرا خَدّه وَالْأنف قد تعسا) (يَا طهر سيف بَرى رَأس الْبُرْنُس فقد ... أصَاب اعظم من بالشرك قد نجسا) (وغاص إِذْ طَار ذَاك الرَّأْس فِي دَمه ... كَأَنَّهُ ضفدع فِي المَاء قد غطسا) (مَا زَالَ يعطس مزكوما بغدرته ... وَالْقَتْل تسميت من بالغدر قد عطسا) (عرى ظباه من الأغماد مهرقة ... دَمًا من الشّرك رداها بِهِ وكسا) (من سَيْفه فِي دِمَاء الْقَوْم منغمس ... من كل من لم يزل فِي الْكفْر منغمسا) (أفناهم قَتلهمْ والأسر فانتكسوا ... وَبَيت كفرهم من خبثهمْ كنسا) وَقَالَ أَيْضا يُخَاطب صَلَاح الدّين رَحمَه الله (سحبت على الْأُرْدُن ردنا من القنا ... ردينية ملدا وخطية ملسا) (حططت على حطين قدر مُلُوكهمْ ... وَلم تبْق من أَجنَاس كفرهم جِنْسا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 (وَنعم مجَال الْخَيل حطين لم تكن ... معاركها للجرد ضرسا وَلَا دهسا) (غَدَاة أسود الْحَرْب تعتقل القنا ... أساود تبغي من نحور العدى نهسا) (أتواشكس الْأَخْلَاق خشنا فلينت ... حُدُود الرقَاق الخشن أخلاقها الشكسا) (طردتهم فِي الْمُلْتَقى وعكستهم ... مجيدا بِحكم الْعَزْم طردك والعكسا) (فَكيف مكست الْمُشْركين رؤوسهم ... ودأبك فِي الْإِحْسَان أَن تطلق المكسا) (كسرتهم إِذْ صَحَّ عزمك فيهم ... ونكستهم إِذْ صَار سهمهم نكسا) (بواقعة رجت بهَا الأَرْض تَحْتهم ... دمارا كَمَا بست جبالهم بسا) (بطُون ذئاب الأَرْض صَارَت قُبُورهم ... وَلم ترض أَرض أَن تكون لَهُم رمسا) (وطارت على نَار المواضي فراشهم ... ضلالا فزادت من خمودهم قبسا) (وَقد خَشَعت أصوات أبطالها فَمَا ... يعي السّمع إِلَّا من صليل الظبى همسا) (تقاد بَدَأَ مَاء الدِّمَاء مُلُوكهمْ ... أُسَارَى كسفن اليم نطت بهَا القلسا) (سَبَايَا بِلَاد الله مَمْلُوءَة بهَا ... وَقد شريت بخسا وَقد عرضت نخسا) (يُطَاف بهَا الْأَسْوَاق لَا رَاغِب لَهَا ... لكثرتها كم كَثْرَة توجب الوكسا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 (شكا يبسا رَأس الْبُرْنُس الَّذِي بِهِ ... تندى حسام حاسم ذَلِك اليبسا) (حسا دَمه ماضي الغرار لغدره ... وَمَا كَانَ لَوْلَا غدره دَمه يحسى) (فَللَّه مَا أهْدى يدا فتكت بِهِ ... وأطهر سَيْفا معدما رجسه النجسا) (نسفت بِهِ رَأس الْبُرْنُس بضربة ... فَأشبه رَأْسِي رَأسه العهن والبرسا) (تبوغ فِي أوداجه دم بغيه ... فصَال عَلَيْهِ السَّيْف يلحسه لحسا) (بعثت أَمَام أمة النَّار نَحْوهَا ... إمَامهمْ أرناطها ذَلِك الجبسا) (وَللَّه نَص النَّصْر جَاءَ لنصله ... فَلَا قونسا أبقى لرأس وَلَا قنسا) (حكى عنق الداوي صل بضربة ... طرير الشبا عودا بمضرابه حسا) (أيوم وغى يَدعُوهُ أم يَوْم نائل ... وَأَنت وهبت الْغَانِمين بِهِ الخمسا) (وَقد طَابَ ريانا على طبرية ... فيا طيبها ريا وَيَا حسنها مرسى) وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة سَيَأْتِي بَعْضهَا فِي مدح صَلَاح الدّين رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 (جَاشَتْ جيوش الشّرك يَوْم لقيتهم ... يتدامرون على متون الضمر) (أوردت أَطْرَاف الرماح صُدُورهمْ ... فولغن فِي علق النجيع الْأَحْمَر) (فهناك لم ير غير نجم مقبل ... فِي إِثْر عفريت رجيم مُدبر) (فَمن الَّذِي من جيشهم لم يخترم ... وَمن الَّذِي من جَمِيعهم لم يؤسر) (حَتَّى لقد بِيعَتْ عقائل أرهقت ... بِالسَّبْيِ بِالثّمن الأخس الأحقر) (سقت المماليك الْكِرَام مُلُوكهمْ ... كأسا بِهِ سقت اللَّئِيم الهنفري) (وعجمت عود صليبهم فَكَسرته ... وَسوَاك ألفاه صَلِيب المكسر) (أغْلى الأداهم من أسرت وأرخصت ... بيض الصوارم من نهاب الْعَسْكَر) (وَجعلت شَرق الأَرْض يحْسد غربها ... بك فَهُوَ دَاع دَعْوَة الْمُسْتَنْصر) (لَا يعدمنك الْمُسلمُونَ فكم يَد ... أوليتهم معروفها لم يُنكر) (أمنت سربهم وصنت حريمهم ... ودرأت عَنْهُم قاصمات الْأَظْهر) (مَا إِن رآك الله إِلَّا آمرا ... فيهم بِمَعْرُوف ومنكر مُنكر) (متواضعا لله جلّ جَلَاله ... وَبِك اضمحلت سطوة المتكبر) (لم تخل سمعا من هناء مهنىء ... للْمُسلمين وَمن سَماع مُبشر) (واستعظم الْأَخْبَار عَنْك معاشر ... فاستصغروا مَا استعظموا بالمخبر) (مَضَت الْمُلُوك وَلم تنَلْ عشر الَّذِي ... أُوتِيتهُ من منجح أَو مفخر) وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الساعاتي فِي فتح طبرية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 (جلت عزماتك الْفَتْح المبينا ... فقد قرت عُيُون المؤمنينا) (رددت أخيذة الْإِسْلَام لما ... غَدا صرف الْقَضَاء بهَا ضمينا) (وَهَان بك الصَّلِيب وَكَانَ قدما ... يعز على العوالي أَن يهونا) (يُقَاتل كل ذِي ملك رِيَاء ... وَأَنت تقَاتل الْأَعْدَاء دينا) (غَدَتْ فِي وجنة الْأَيَّام خالا ... وَفِي جيد الْعلَا عقدا ثمينا) (فيالله كم سرت قلوبا ... ويالله كم أبكت عيُونا) (وَمَا طبرية إِلَّا هدي ... ترفع عَن أكف اللامسينا) (حصان الذيل لم تقذف بِسوء ... وسل عَنْهَا اللَّيَالِي والسنينا) (فضضت ختامها قسرا وَمن ذَا ... يصد اللَّيْث أَن يلج العرينا) (لقد أنكحتها صم العوالي ... فَكَانَ نتاجها الْحَرْب الزبونا) (منال بذ أهل الأَرْض طرا ... سواك وَمَعْقِل أعيا القرونا) (قست حَتَّى رَأَتْ كُفؤًا فَلَانَتْ ... وَغَايَة كل قَاس أَن يلينا) (قضيت فَرِيضَة الْإِسْلَام مِنْهَا ... وصدقت الْأَمَانِي والظنونا) (تهز معاطف الْقُدس ابتهاجا ... وترضي عَنْك مَكَّة والحجونا) (فَلَو أَن الجماد يُطيق نطقا ... لنادتك ادخلوها آمنينا) (جعلت صباح أهليها ظلاما ... وأبدلت الزئير بهَا أنينا) (تخال حماة حوزتها نسَاء ... بموضون الْحَدِيد مقنعينا) (لبيضك فِي جماجمهم غناء ... لذيذ علم الطير الحنينا) (تميل إِلَى المثقفة العوالي ... فَهَل أمست رماحا أم غصونا) (يكَاد النَّقْع يذهلها فلولا ... بروق القاضبات لما هدينَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 (فكم حازت قدود قناك مِنْهَا ... قدودا كالقنا لونا ولينا) (وغيدا كالجآذر آنسات ... كغيد نداك أَبْكَارًا وعونا) (وَلما باكرتها مِنْك نعمى ... بنان تفضج الْغَيْث الهتونا) (أعدت بهَا اللَّيَالِي وَهِي بيض ... وَقد كَانَت بهَا الْأَيَّام جونا) (فَلَيْسَ بعادم مرعى خصيبا ... أَخُو سغب وَلَا مَاء معينا) (فَلَا عدم الشَّام وساكنوه ... ظبى تشفي بهَا الدَّاء الدفينا) (سهاد جفونها فِي كل فتح ... سهاد يمنح الغمض الجفونا) (فألمم بالسواحل فَهِيَ صور ... إِلَيْك وَألْحق الْهَام المتونا) (فَقلب الْقُدس مسرور وَلَوْلَا ... سطاك لَكَانَ مكتئبا حَزينًا) (أدرت على الفرنج وَقد تلاقت ... جموعهم عَلَيْك رحى طحونا) (فَفِي بيسان ذاقوا مِنْك بؤسا ... وَفِي صفد أتوك مصفدينا) (لقد جَاءَتْهُم الْأَحْدَاث جمعا ... كَأَن صروفها كَانَت كمينا) (وخانهم الزَّمَان وَلَا ملام ... فلست بمبغض زَمنا خؤونا) (لقد جردت عزما ناصريا ... يحدث عَن سناه طور سينا) (فَكنت كيوسف الصّديق حَقًا ... لَهُ هوت الْكَوَاكِب ساجدينا) (لقد أَتعبت من طلب الْمَعَالِي ... وحاول أَن يسوس المسلمينا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 (وَإِن تَكُ آخرا وخلاك ذمّ ... فَإِن مُحَمَّد فِي الآخرينا) قَالَ ابْن أبي طي حَدثنِي وَالِدي حميد النجار قَالَ كنت بالموصل فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة فزرت الشَّيْخ عمر الملاء فَدخل إِلَيْهِ رجل فَقَالَ أَيهَا الشَّيْخ رَأَيْت البارحة فِي النّوم كَأَنِّي بِأَرْض غَرِيبَة لَا أعرفهَا وَكَأَنَّهَا مَمْلُوءَة بالخنازير وَكَأن رجلا بِيَدِهِ سيف وَهُوَ يقتل الْخَنَازِير وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَقلت لرجل هَذَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَذَا الْمهْدي قَالَ لَا فَقلت من هَذَا قَالَ هَذَا يُوسُف مَا زادني على ذَلِك قَالَ فتعجبت الْجَمَاعَة من هَذِه الرُّؤْيَا وَقَالُوا إِنَّه سيقتل النَّصَارَى رجل يُقَال لَهُ يُوسُف وحدست الْجَمَاعَة أَنه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن صَاحب الْمغرب وَكَانَ المستنجد بِاللَّه قد ولي الْخلَافَة تِلْكَ السّنة فحدس بعض الْجَمَاعَة عَلَيْهِ قَالَ وأنسيت أَنا هَذِه الْوَاقِعَة فَلَمَّا كَانَت سنة كسرة حطين ذكرتها وَكَانَ يُوسُف الْملك النَّاصِر رَحمَه الله قَالَ وحَدثني ظئر لي من نسَاء الحلبيين كَانَت تدَاخل أُخْت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر قَالَت كَانَت وَالِدَة السُّلْطَان تخبر أَنَّهَا أتيت فِي نومها وَهِي حَامِل بالسلطان فَقيل لَهَا إِن فِي بَطْنك سَيْفا من سيوف الله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 فصل فِي فتح عكا وَغَيرهَا وَهِي بِالْألف الممدودة وَيدل على ذَلِك أَنه يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا عكاوي وَقد وجدت ذَلِك فِي شعر قديم وَمِنْهُم من يَقُول عكه بِالْهَاءِ وَمثل ذَلِك حصن عرقه وَبَعْضهمْ يَقُول عرقا بِالْألف ونهر ثورا وَبَعْضهمْ يَقُول نهر ثوره بِالْهَاءِ قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان طَالبا عكا وَكَانَ نُزُوله عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ ربيع الآخر وقاتلها بكرَة الْخَمِيس مستهل جُمَادَى الأولى فَأَخذهَا واستنقذ من كَانَ فِيهَا من الْأُسَارَى وَكَانُوا زهاء أَرْبَعَة آلَاف نفر وَاسْتولى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر والبضائع والتجائر فَإِنَّهَا كَانَت مَظَنَّة التُّجَّار وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي بِلَاد السَّاحِل يَأْخُذُونَ الْحُصُون والقلاع والأماكن المنيعة فَأخذُوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وَكَانَ ذَلِك لخلو الرِّجَال بِالْقَتْلِ والأسر قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء والتوحيد ظَاهر على التَّثْلِيث وَالطّيب قد امتاز من الْخَبيث وَنزل بِأَرْض لوبية عَشِيَّة وأعادها بأزهار بنوده وأنوار جُنُوده رَوْضَة موشية ثمَّ أصبح سائرا إِلَى عكا سارا سره وبارا بِأَهْل الدّين بره وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة صلوَات الله على ساكنها فِي موكبه فَكَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سير للْفَقِير إِلَى نصرته من يثرى بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 من يثربه وَهَذَا الْأَمِير عز الدّين أَبُو فليتة الْقَاسِم بن المهنا الْحُسَيْنِي قد وَفد فِي تِلْكَ السّنة أَوَان عود الْحَاج وَهُوَ ذُو شيبَة تقد كالسراج وَمَا برح مَعَ السُّلْطَان ماثور المآثر مَيْمُون الصُّحْبَة مَأْمُون الْمحبَّة مبارك الطلعة مشاركا فِي الْوَقْعَة فَمَا تمّ فتح فِي تِلْكَ السنين إِلَّا بِحُضُورِهِ وَلَا أشرق مطلع من النَّصْر إِلَّا بنوره فرأيته فِي ذَلِك الْيَوْم للسُّلْطَان مسايرا وَرَأَيْت السُّلْطَان لَهُ مشاورا محاورا وَأَنا أَسِير مَعَهُمَا وَقد دَنَوْت مِنْهُمَا ليسمعاني وأسمعهما ولاحت أَعْلَام عكا وَكَأن بيارق الفرنج المركوزة عَلَيْهَا أَلْسِنَة من الْخَوْف تتشكى وَكَأن عذبات النيرَان تصاعدت لعذاب أَهلهَا وَقد توافرت عَسَاكِر الْإِسْلَام إِلَيْهَا من وعرها وسهلها وَلما أَشْرَفنَا عَلَيْهَا مستبشرين أيقنا بِفَتْحِهَا مسبشرين فَمَا كَانَ فِيهَا من يحميها فَمَا صدقنا كَيفَ نملكها ونحويها وَظهر على السُّور أَهلهَا لأجل الممانعة والثبات على المدافعة وخفقان ألويتها يشْعر بقلوبها الخافقة وأرواح جلدهمْ الزاهقة ووقفنا نتأمل طلولها ونؤمل حُصُولهَا وخيم السُّلْطَان بقربها وَرَاء التل وانبثت عساكره فِي الوعث والسهل وبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد هزتنا الأطراب ونقول مَتى يجْتَمع الصَّباح وَالْأَصْحَاب فَمَا هجدنا وَلَا غرارا وَلَا وجدنَا من الْفَرح قرارا وَالسُّلْطَان جَالس وَنحن عِنْده وَهُوَ يحض جنده ويقدح مَعَهم فِي اقتباس الآراء زنده وَمنا من يستنجز وعده وَمنا من يستميح رفده وَمنا من يواصله بِالدُّعَاءِ وَمنا من يشافهه بالهناء وَأصْبح يَوْم الْخَمِيس وَركب فِي خميسه ووقف كالأسد فِي عريسه ووقفنا بِإِزَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 الْبَلَد صُفُوفا وأطللنا على أطلاله وقوفا فَخرج أهل الْبَلَد يطْلبُونَ الْأمان ويبذلون الإذعان فآمنهم وَخَيرهمْ بَين الْمقَام والإنتقال ووهب لَهُم عصمَة الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وَكَانَ فِي ظنهم أَنه يستبيح دِمَاءَهُمْ وَيَسْبِي ذُرِّيتهمْ ونساءهم وأمهلهم أَيَّامًا حَتَّى ينْتَقل من يخْتَار النقلَة فاغتنموا تِلْكَ المهلة وَفتح الْبَاب للخاصة وَاسْتغْنى بِالدُّخُولِ إِلَى الْبَلَد جمَاعَة من ذَوي الْخَصَاصَة فَإِن الْقَوْم مَا صدقُوا من الْخَوْف المزعج وَالْفرق المحرج كَيفَ يتركون دُورهمْ بِمَا فِيهَا ويسلمون وَعِنْدهم أَنهم إِذا نَجوا بِأَنْفسِهِم أَنهم يغنمون فَلَمَّا دخل الْجند ركز كل على دَار رمحه وأسام فِيهَا سرحه فحصلوا على دور أخلاها أَرْبَابهَا وأموال خَلاهَا أَصْحَابهَا وَكُنَّا لأجل الْأمان نهابها فطاب لاولئك نهابها وَجعل السُّلْطَان للفقيه عِيسَى الهكاري كل مَا كَانَ للداوية من منَازِل وضياع ومواضع وَربَاع فَأَخذهَا بِمَا فِيهَا من غلال ومتاع وَاسْتَخْرَجُوا الدفائن وولجوا المخازن وداروا الْأَمَاكِن وَكَذَلِكَ مماليك الْملك الْأَفْضَل وَأَصْحَابه وولاته ونوابه نبشوا المحارز وفتشوا المراكز واستباحوا الأهراء واجتاحوا الْأَشْيَاء وَكَانَ السُّلْطَان قد فوض عكا وضياعها ومعاقلها وقلاعها إِلَى وَلَده الْأَكْبَر الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنْوَاع مَا استولوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال ثمَّ قَالَ وَمن جملَة ذَلِك أَنهم احتاطوا بِغَيْر علمي على دَار باسمي فباعوا مِنْهَا مَتَاعا بِسبع مئة دِينَار وأخلوها مِمَّا كَانَ فِيهَا من آلَات وأدخار وقلدوني الْمِنَّة فِي تَحْصِيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 تِلْكَ الدَّار فَإِنَّهَا كَانَت من أنفس الْعقار وسلموها إِلَى غُلَام صديق لي ليصونها وَيقوم بحفظها والذب عَنْهَا والدفاع دونهَا فَذكر أَن الْغُلَام انْتفع من آلاتها بعد خلوها بِمَا قِيمَته سَبْعُونَ دِينَارا وَأَن الْأَوَّلين نقلوا مِنْهَا من الذخر أوقارا قَالَ وَإِنَّمَا وصفت هَذَا ليعلم مَا غنموه والتهبوا على حيازته والتهموه وَتصرف الْملك المظفر تَقِيّ الدّين فِي دَار السكر فأفنى قنودها واستوعب موجودها وَنقل قدورها وأنقادها وحوى جواهرها وأعراضها وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وخلى سكان الْبَلَد دُورهمْ ومخزونهم ومذخورهم وتركوها لمن أَخذهَا ونبذوا مَا حووه لمن حواها وَمَا نبذها وافتقر من الفرنج أَغْنِيَاء وَاسْتغْنى من أجنادنا فُقَرَاء وَلَو ذخرت تِلْكَ الحواصل وحصلت تِلْكَ الذَّخَائِر وَجمع لبيت المَال ذَلِك المَال الْمَجْمُوع الوافر لَكَانَ عدَّة ليَوْم الشدائد وعمدة لنجح الْمَقَاصِد فرتعت فِي خضرائها بل صفرائها وبيضائها سروح الأطماع وَطَالَ لمستحليها ومستجليها الإمتاع بذلك الْمَتَاع قَالَ فِي الْبَرْق وقرىء على السُّلْطَان لَيْلَة من كتاب الْفَتْح وَنحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 بالقدس نعني هَذَا الْمَكَان وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَقَالَ السُّلْطَان هَذِه رفيعة على ثَلَاثَة اثْنَان مِنْهُم فِي جوَار الرَّحْمَة وَالْآخر بَاقٍ فِي مقرّ الْعِصْمَة يَعْنِي بالاثنين الْفَقِيه عِيسَى وتقي الدّين وبالآخر الْبَاقِي وَلَده نور الدّين قَالَ ولعمري هُوَ كَمَا ذكره لَكِن الْأَفْضَل مَا حصل لَهُ لخاصه بل لِذَوي اخْتِصَاصه واستخلاصه وفتحوا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة مستهل جُمَادَى الأولى فَجِئْنَا إِلَى كنيستها الْعُظْمَى فأزحنا عَنْهَا البؤسى بالنعمى وَحضر الْأَجَل الْفَاضِل فرتب بهَا الْمِنْبَر والقبلة وَهِي أول جُمُعَة أُقِيمَت بالسَّاحل بعد يَوْم الْفَتْح وَكَانَ الْخَطِيب وَالْإِمَام فِيهَا الْفَقِيه جمال الدّين عبد اللَّطِيف بن الشَّيْخ أبي النجيب السهروردي وولاه السُّلْطَان مناصب الشَّرِيعَة بعكا تولى الخطابة وَالْقَضَاء والحسبة وَالْوَقْف وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد بعد فتح عكا يصف كسرة حطين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 صبح الْخَادِم طبرية فاقتض عذرتها بِالسَّيْفِ وهجم عَلَيْهَا هجوم الطيف وتفرق أَهلهَا بَين الْأسر وَالْقَتْل وعاجلهم الْأَمر فَلم يقدروا على الخداع والختل وَجَاء الْملك وَمن مَعَه من كفاره وَلم يشْعر أَن ليل الْكفْر قد آن وَقت إسفاره فأضرم الْخَادِم عَلَيْهِم نَارا ذَات شرار أذكرت بِمَا أعد الله لَهُم فِي دَار الْقَرار فترجل هُوَ وَمن مَعَه عَن صهوات الْجِيَاد وتسنموا هضبة رَجَاء أَن تنجيهم من حر السيوف الْحداد ونصبوا للْملك خيمة حَمْرَاء وضعُوا على الشّرك عمادها وتولت الرِّجَال حفظ أطنابها فَكَانُوا أوتادها فَأخذ الْملك أَسِيرًا {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} وَأسر الإبرنس لَعنه الله فحصد بذره وَقَتله الْخَادِم بِيَدِهِ ووفى بذلك نَذره وَأسر جمَاعَة من مقدمي دولته وكبراء ضلالته وَكَانَ الْقَتْلَى تزيد على أَرْبَعِينَ ألفا وَلم يبْق أحد من الداوية فَللَّه. هُوَ من يَوْم تصاحب فِيهِ الذِّئْب والنسر وتداول فِيهِ الْقَتْل والأسر أصدر الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من ثغر عكا وَالْإِسْلَام قد اتَّسع مجاله وَتصرف أنصاره وَرِجَاله وَالْكفْر قد ثبتَتْ أوجاله وَدنت آجاله قَالَ الْعِمَاد وَمن جملَة البشائر بكسرة حطين وَلما أحيط بالقوم آوى ملكهم إِلَى جبل يعصمه من العوم فأسمعه السَّيْف لَا عَاصِم الْيَوْم وَاسْتولى الخذلان عَلَيْهِم بأسرهم وَبَردت أَيدي الْمُؤمنِينَ بَحر قَتلهمْ وأسرهم وَلم يبْق لَهُم بَاقِيَة وغصت بقتلاهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَرض الله الواسعة ونار الله الحامية فَمَا يطَأ من يصل إِلَى خيمنا إِلَّا على رممهم البالية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وَأسر الْملك وَأَخُوهُ وبارونيته ومقدموه وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا القومص وَهُوَ مسلوب وَلَا بُد ان ندركه فَهُوَ مَطْلُوب وَقد كُنَّا نذرنا ضرب رَقَبَة الإبرنس صَاحب الكرك الغدار كَافِر الْكفَّار ونشيدة النَّار فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ ضربنا عُنُقه سَرِيعا وسرنا إِلَى عكا وَهِي بَيْضَة ملكهم وواسطة سلكهم ومركز دَائِرَة كفرهم وَمجمع جمع برهم وبحرهم فتسلمناها بالأمان والصخرة المقدسة الْآن بِنَا تصرخ وتستغيث وَعباد الله الصالحون قد وصلت إِلَيْهِم بوعد الله الصَّادِق الْمَوَارِيث والبشارة بِفَتْح الْقُدس لَا تتأخر والهمم بعد هَذَا الْفَتْح السّني على ذَلِك تتوفر وَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ الصَّالِحَات بِحَمْدِهِ {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} فصل فِي فتح نابلس وَجُمْلَة من الْبِلَاد الساحلية بعد فتح عكا وطبرية وَذكر بعض كتب البشائر الشاهدة لذَلِك قَالَ الْعِمَاد أَقَامَ السُّلْطَان أَيَّامًا بِبَاب عكا بعد فتح عكا على التل مخيما وعَلى فتح سَائِر بِلَاد السَّاحِل مصمما وَكَانَ قد كتب إِلَى أَخِيه الْعَادِل بِمصْر بِمَا فَتحه الله عَلَيْهِ فوصل بعسكره وَفتح فِي طَرِيقه حصن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 مجدل يابا ومدينة يافا عنْوَة فقصده من عسكرنا القصاد ووفد إِلَيْهِ الوفاد وَأمره السُّلْطَان أَن يُقيم فِي ذَلِك الْجَانِب جَامعا للكتائب ليجتمع بِهِ الواصلون من مصر الآملون مَعَه النَّصْر قَالَ وَتوجه عدَّة من الْأُمَرَاء والعسكرية إِلَى الناصرة وقيسارية والبلاد الْمُجَاورَة لعكا وطبرية وَمضى كل فريق فِي صوب وآبوا بِالْغَنِيمَةِ والسبي خير أَوب قَالَ فَأَما الفولة فَهِيَ قلعة للداوية حَصِينَة وفيهَا ذخائرهم فَلَمَّا خرج الداوية مِنْهَا وَقتلُوا لم يبْق فِيهَا إِلَّا أَتبَاع وغلمان فسلموها وَجَمِيع مَا يجاورها كدبورية وجينين وزرعين وَالطور وَزَاد فِي كتاب الْفَتْح واللجون وبيسان والقيمون وَجَمِيع مَا لعكا وطبرية من الولايات والزيب ومعليا والبعنة وإسكندرونة ومنواث قَالَ وَتوجه مظفر الدّين كوكبري إِلَى الناصرة فاستباحها وصفرت صفورية من سكانها وَتوجه بدر الدّين دلدرم وغرس الدّين قليج وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء إِلَى قيسارية فافتتحوها بِالسَّيْفِ وتسلمت بعْدهَا حيفا وأرسوف وَاسْتولى على تِلْكَ الشموس والأقمار الْكُسُوف والخسوف وحيفا بَين عكا وقيسارية على الْبَحْر قَالَ وَأما نابلس فَإِن أهل ضياعها ومعظم أَهلهَا كَانُوا مُسلمين وَفِي سلك الرّعية مَعَ الفرنج منتظمين وهم يجبونَ كل عَام مِنْهُم قرارا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 وَلَا يغيرون لَهُم شرعا وَلَا شعارا فَلَمَّا عرفُوا كسرتهم وَأَنَّهُمْ لَا يرجون جبرهم خَافُوا من مساكنة الْمُسلمين فَتَفَرَّقُوا وكبسهم أهل الضّيَاع فِي الدّور والرباع وغنموا مَا وجدوه من الذَّخَائِر وَالْمَتَاع وأوقعوا بضعفائهم وضايقوا الْحُصُون على أقويائهم وطلبها من السُّلْطَان ابْن أُخْته حسام الدّين عمر بن مُحَمَّد بن لاجين وَهُوَ عَزِيز عِنْد خَاله مَلِيء بفضله وأفضاله فأقطعة السُّلْطَان نابلس وأعمالها وضياعها ونواحيها وقلاعها فَتوجه إِلَيْهَا بعسكره فَأول مَا أَنَاخَ على سبسطية وَبهَا مشْهد زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام قد اتَّخذهُ الأقساء كَنِيسَة مُنْذُ فَارقه الْإِسْلَام وَهُوَ متعبدهم الْمُعظم والمشهد المكرم وَقد حجبوه بالأستار وحلوه بِالْفِضَّةِ والنضار وعينوا لَهُ مواسم الزوار وقومته من الرهابين فِيهِ مُقِيمَة وَلَا يُؤذن فِي الزِّيَارَة إِلَّا لمن مَعَه هَدِيَّة لَهَا قيمَة فدخله وحوى مَا فِيهِ وَأبقى مَا لَا يحسن أَن يَخْلُو من مثله الْمَسْجِد وَفتح للْمُسلمين أبوابه وَأظْهر للمصلين محرابه ثمَّ سَار إِلَى نابلس فَفَتحهَا بالأمان واستمال من سكانها من صرف عَلَيْهِ الْجِزْيَة بعد زمَان وأجراهم على مَالهم من الْعِمَارَة والبنيان وَبقيت بِيَدِهِ إِلَى آخر عَهده وعمرت بعدله ورفده قَالَ الْعِمَاد وأنشدته يَوْم فتح الْقُدس قصيدة أَولهَا (استوحش الْقلب مذ غبتم فَمَا أنسا ... وأظلم الْيَوْم مذ بنتم فَمَا شمسا) (مَا طبت نفسا وَلَا استحسنت بعدكم ... شَيْئا نفيسا وَلَا استعذبت لي نفسا) (قلبِي وصبري وغمضي والشباب وَمَا ... ألفتم من نشاطي كُله خلسا) (وَكَيف يصبح أَو يُمْسِي محبكم ... وشوقكم يَتَوَلَّاهُ صباح مسا) (عَادَتْ معاهدكم بالجزع دارسة ... وَإِن معهدكم فِي الْقلب مَا درسا) (وَكنت أحدس مِنْكُم كل داهية ... وَمَا دهانا من الهجران مَا حدسا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 (لما هدت نَار شوقي ضيف طيفكم ... قريته بالكرى إِذْ زار مقتبسا) (ورمت تأنيسه حَتَّى وهبت لَهُ ... إِنْسَان عَيْني أفديه فَمَا أنسا) (أَنا الخيال نحولا فالخيال إِذا ... مَا زارني كَيفَ يلقى من بِهِ التبسا) (لهفي على زمن قَضيته طَربا ... إِذْ لم أكن من صروف الدَّهْر محترسا) (عَسى يعود شَبَابِي ناضرا وَمَتى ... أَرْجُو نضارة عود للشباب عَسى) (وشادن يفرس الآساد ناظره ... فديته شادنا للأسد مفترسا) (فِي الْعَطف لين وَفِي أخلاقه شوس ... يَا لين عطفيه جنب خلقه الشوسا) وَمِنْهَا (إِن نَاب لبس مضينا لاجئين إِلَى الْفَتى ... الحسام ابْن لاجين بنابلسا) (يُمِيت أعداءه بَأْسا ونائله ... يحيي رَجَاء الَّذِي من نجحه أيسا) (ممزق المازق المنسوج عثيره ... وَقد محا الْيَوْم ليل النَّقْع فانطمسا) (لَا زلت مستويا فَوق الحصان وَفِي ... حصن الْحفاظ وَمن عاداك منتكسا) وَهِي طَوِيلَة وَقد تقدّمت مِنْهَا أَبْيَات فِي وصف كسرة حطين وَسَيَأْتِي مِنْهَا أَيْضا أَبْيَات عِنْد فتح الْقُدس فِي مدح السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله وَمن كتاب عَن السُّلْطَان إِلَى سيف الْإِسْلَام أَخِيه كاتبنا أخانا الْعَادِل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 أَن يدْخل بالعسكر الْمصْرِيّ من ذَلِك الْجَانِب فَلَمَّا بشر بِكَسْر الفرنج وَفتح عكا وطبرية كَانَ قد وصل إِلَى السوَاد فَجَاز الْعَريش وزار الداروم وأجفلت قدامه الْبِلَاد وَوصل إِلَى يافا فَفَتحهَا عنْوَة ثمَّ حصر مجدل يابا فطلبت مِنْهُ الْأمان وَقد اشْتَمَل الْفَتْح على الْبِلَاد الْمعينَة وَهِي طبرية عكا الزيب معليا إسكندرونه تبنين هونين الناصرة الطّور صفورية الفولة جينين زرعين دبورية عفربلا بيسان سبسطية نابلس اللجون أرِيحَا سنجل البيرة يافا أرسوف قيسارية حيفا وصرفند صيدا بيروت قلعة أبي الْحسن جبيل مجدل يابا جبل الْجَلِيل مجد حباب الداروم غَزَّة عسقلان تل الصافية التل الْأَحْمَر الأطرون بَيت جِبْرِيل جبل الْخَلِيل بَيت لحم لد الرملة قرتيا الْقُدس صوبا هُرْمُز سلع عفرى الشقيف قَالَ وَلم نذْكر مَا تخللها من الْقرى والضياع والأبراج الحصينة الْجَارِيَة مجْرى الْحُصُون والقلاع وَلكُل وَاحِدَة من الْبِلَاد الَّتِي ذَكرنَاهَا أَعمال وقرى ومزارع وأماكن ومواضع قد جاس الْمُسلمُونَ خلالها واستوعبوا ثمارها وغلالها قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا أنشأته فِي هَذَا التَّارِيخ من شرح الْفتُوح وكتبت بِهِ إِلَى الدِّيوَان وبدأت بقوله تَعَالَى {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} الْحَمد لله على مَا أنْجز من هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 الْوَعْد وعَلى نصرته لهَذَا الدّين الحنيف من قبل وَمن بعد وَجعل بعد عسر يسرا وَقد أحدث الله بعد ذَلِك أمرا وهون الْأَمر الَّذِي مَا كَانَ الْإِسْلَام يَسْتَطِيع عَلَيْهِ صبرا وخوطب الدّين بقوله {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى} فَالْأولى فِي عصر النَّبِي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة وَالْأُخْرَى هَذِه الَّتِي عتق فِيهَا من رق الكآبة فَهُوَ قد أصبح حرا رَيَّان الكبد الحرى وَالزَّمَان كَهَيْئَته اسْتَدَارَ وَالْحق ببهجته قد استنار وَالْكفْر قد رد مَا كَانَ عِنْده من الْمُسْتَعَار فَالْحَمْد لله الَّذِي أعَاد الْإِسْلَام جَدِيدا ثَوْبه بعد أَن كَانَ جذيذا حبله مبيضا نَصره مخضرا نصله متسعا فَضله مجتمعا شَمله وَالْخَادِم يشْرَح من نبأ هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والنصر الْكَرِيم مَا يشْرَح صُدُور الْمُؤمنِينَ ويمنح الحبور لكافة الْمُسلمين ويورد الْبُشْرَى بِمَا أنعم الله بِهِ من يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الآخر إِلَى يَوْم الْخَمِيس منسلخه وَتلك سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما سخرها الله على الْكفَّار {فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت الْبِلَاد على عروشها خاوية ورأيتها إِلَى الْإِسْلَام ضاحكة كَمَا كَانَت من الْكفْر باكية فَيوم الْخَمِيس الأول فتحت طبرية وَيَوْم الْجُمُعَة والسبت نوزل الفرنج فكسروا الكسرة الَّتِي مَا لَهُم بعْدهَا قَائِمَة وَأخذ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 أعدائه بأيدي أوليائه أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة وَفِي يَوْم الْخَمِيس منسلخ الشَّهْر فتحت عكا بالأمان وَرفعت بهَا أَعْلَام الْإِيمَان وَهِي أم الْبِلَاد وَأُخْت إرم ذَات الْعِمَاد وَقد اصدر هَذِه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور وقلب ملك الْكفْر الْأَسير بجيشه المكسور مكسور وَالْحَدِيد الْكَافِر الَّذِي كَانَ فِي يَد الْكفْر يضْرب وَجه الْإِسْلَام قد صَار حديدا مُسلما يعوق خطوَات الْكفْر عَن الْإِقْدَام وأنصار الصَّلِيب وكباره وكل من المعمودية عمدته والدير دَاره قد أحاطت بِهِ يَد القبضة وغلق رَهنه فَلَا يقبل فِيهِ القناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وطبرية قد رفعت أَعْلَام الْإِسْلَام عَلَيْهَا وَنَكَصت من عكا مِلَّة الْكفْر على عقبيها وعمرت إِلَى أَن شهِدت يَوْم الْإِسْلَام وَهُوَ خير يوميها وَقد صَارَت البيع مَسَاجِد يعمرها من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَصَارَت المذابح مَوَاقِف لخطباء المنابر واهتزت أرْضهَا لموقف الْمُسلم فِيهَا وطالما ارتجت لموقف الْكَافِر فَأَما الْقَتْلَى والأسرى فَإِنَّهَا تزيد على ثَلَاثِينَ ألفا وَأما فرسَان الداوية والاسبتار فقد أمضى حكم الله فيهم وَقطع بهم سوق نَار الْجَحِيم ورحل الراحل مِنْهُم إِلَى الشَّقَاء الْمُقِيم وَقتل الإبرنس الْكفَّار ونشيدة النَّار من يَده فِي الْإِسْلَام كَمَا كَانَت يَد الكليم والبلاد والمعاقل الَّتِي فتحت طبرية عكا الناصرة صفورية قيسارية نابلس حيفا معليا الفولة الطّور الشقيف وقلاع بَين هَذِه كَثِيرَة وَالْملك المظفر تَقِيّ الدّين ظفره الله مضايق لصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 وحصن تبنين وَالْأَخ الْعَادِل سيف الدّين نَصره الله قد كُوتِبَ بالوصول بِمن عِنْده من العساكر وَينزل فِي طَرِيقه على غَزَّة وعسقلان ويجهز مراكب الأسطول المنصورة إِلَى عكا وَمَا يتَأَخَّر النهوض إِلَى الْقُدس فَهَذَا هُوَ أَوَان فَتحه وَلَقَد دَامَ عَلَيْهِ ليل الضلال وَقد آن أَن يسفر فِيهِ الْهدى عَن صبحه فصل فِي فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل وَغَيرهَا ومجيء المركيس إِلَى صور قَالَ الْعِمَاد أرسل السُّلْطَان إِلَى تبنين ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فضايقها وَكتب إِلَى السُّلْطَان أَن يَأْتِيهِ بِنَفسِهِ فوصل إِلَيْهَا فِي ثَلَاث مراحل وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى فراسلوا السُّلْطَان وسألوا الْأمان واستمهلوا خَمْسَة أَيَّام لينزلوا بِأَمْوَالِهِمْ فأمهلوا وبذلوا رهائن من مقدميهم ووفوا بِمَا بذلوا وتقربوا بِإِطْلَاق الْأُسَارَى من الْمُسلمين فَخرج الْأُسَارَى مسرورين فسر بهم السُّلْطَان وسربهم وأقرهم وقربهم وكساهم وحباهم وآتاهم بعد ردهم إِلَى مغانيهم غناهم وَهَذَا دأبه فِي كل بلد يَفْتَحهُ وَملك يربحه أَنه يبْدَأ بالأسارى فيفك قيودها وَيُعِيد بعد عدمهَا وجودهَا فخلص تِلْكَ السّنة من الْأسر أَكثر من عشْرين ألف أَسِير وَوَقع فِي أسره من الْكفَّار مئة ألف وَلما خلوا القلعة وأخلو الْبقْعَة سيرهم وَمَعَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 من الْعَسْكَر الْمَنْصُور من أوصلهم إِلَى صور وتسلمها يَوْم الْأَحَد الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى وَكَانَ شَرط عَلَيْهِم تَسْلِيم الْعدَد وَالدَّوَاب والخزائن وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد فتحهَا السُّلْطَان عنْوَة وَكَانَ بهَا رجال أبطال شديدون فِي دينهم فاحتاجوا إِلَى معاناة شَدِيدَة وَنَصره الله عَلَيْهِم وَأسر من بَقِي بهَا بعد الْقَتْل ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى مَدِينَة صيدا فَنزل عَلَيْهَا وَمن الْغَد تسلمها وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعشْرُونَ قَالَ الْعِمَاد سنحت لَهُ صيدا فتصدى لصيدها وَكَانَت همته فِي قيدها وبادرها إشفاقا من مكر العداة وكيدها ووصلنا فِي يَوْمَيْنِ إِلَى صيدا إِلَى منهل فتحهَا صادين وَعَن حمى الْحق دونهَا لأهل الْبَاطِل صادين وَلما نزلنَا من الوعر إِلَى السهل سهل مَا توعر وَصفا من الْأَمر مَا ظن أَنه تكدر فصرفنا الأعنة إِلَى صرفند وَهِي مَدِينَة لَطِيفَة على السَّاحِل مورودة المناهل ذَات بساتين وأشجار ورياحين وأزهار فأخذناها وخيمنا على صيدا وَقد جَاءَت رسل صَاحبهَا بمفاتيحها وَقد طلعت الرَّايَة الصَّفْرَاء على أسوارها وأقيمت بهَا الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة واستديمت بهَا بدل الْعِصْيَان لله الطَّاعَة ثمَّ سَار فِي يَوْمه على سمت بيروت فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْخَمِيس وضايقها وحاصرها ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وتسلمها يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وَمرض الْعِمَاد فأملى كتاب صلح بيروت وَرجع إِلَى دمشق للمداواة ثمَّ وجد الشِّفَاء وَعَاد إِلَى السُّلْطَان يَوْم فتح الْقُدس كَمَا سَيَأْتِي قَالَ وسلمت بيروت بحضوري فَكَانَ من سَبَب إبلالي سروري بِفَتْحِهَا وحبوري وَخرج مِنْهَا وَمن قلعتها الفرنج وامتلأ بهم إِلَى صور النهج وَعَاد الْإِسْلَام الْغَرِيب فِيهَا إِلَى وَطنه وتوطن الدّين بهَا فِي مأمنه وَسكن فِي مَسْكَنه وَأما جبيل فَإِن صَاحبهَا أوك كَانَ فِي جملَة من نقل إِلَى دمشق مَعَ الْملك الْأَسير فَضَاقَ ذرعا بسجنه الَّذِي تعجل لَهُ فِيهِ عَذَاب السعير فَتحدث مَعَ الصفي بن الْقَابِض فِي أمره وباح إِلَيْهِ بسره وَقَالَ مالكم فِي اسري فَائِدَة وَلَا غنيمَة على فتح جبيل زَائِدَة وانا أسلمها بِشَرْط سلامتي فخذوها وَلَا تقعدوني فقد قَامَت قيامتي فأنهى الصفي حَاله واستصوب مَا قَالَه فَأمر بإحضاره فِي قَيده والاحتراز من كَيده فوصل بِهِ وَنحن على بيروت فَسلم جبيل وَسلم وَربح نجاته وغنم وَمضى إِلَيْهَا من تولاها وانسل مِنْهَا صَاحبهَا وسلاها وتبعها فتح بيروت وتلاها فانتظمت هَذِه الْبِلَاد المتناسقة بالسَّاحل فِي سلك من الْفتُوح متسق وَأمر من الاسْتقَامَة مُتَّفق وَكَانَ مُعظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مُسلمين مَسَاكِين لمساكنة الفرنج مستسلمين فذاقوا الْعِزَّة بعد الذلة وفاقوا الْكَثْرَة بعد الْقلَّة وصدقت البشائر وصدحت المنابر وَظهر عيب البيع وَشهر جمع الْجمع وقرىء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 الْقُرْآن واستشاط الشَّيْطَان وخرست النواقيس وَبَطلَت النواميس وَرفع الْمُسلمُونَ رؤوسهم وَعرفُوا نُفُوسهم وَكَانَ كل من استأمن من الْكفَّار يمْضِي إِلَى صور محمي الذمار فَصَارَت صور عش غشهم ووكر مَكْرهمْ وملجأ طريدهم ومنجى شريدهم وَهِي الَّتِي فر القومص إِلَيْهَا يَوْم كسرتهم بل يَوْم حسرتهم وَلما عرف القومص قرب السُّلْطَان مِنْهَا أخلاها وخلاها وآوى إِلَى طرابلس وثواها فَمَا متع بِمَا ملك وَكَانَ كَمَا قيل (رَاح يَبْغِي نجوة ... من هَلَاك فَهَلَك) وتعوضت صور عَن القومص بالمركيس كَمَا يتعوض عَن الشَّيْطَان بإبليس فَأدْرك ذماء الْكفْر بَعْدَمَا أشفى وَأَيْقَظَ روع الروع بَعْدَمَا أغفى وَضبط صور بِمن فِيهَا من مهزومي الفرنج ومنفيها وَكَانَ المركيس من أكبر طواغيت الْكفْر وأغوى شياطينه وأضرى سراحينه وأخبث ذئابه وانجس كلابه وَهُوَ الطاغية الداهية الَّذِي خلقت لَهُ ولأمثاله الهاوية وَلم يكن وصل إِلَى السَّاحِل قبل هَذَا الْعَام وَاتفقَ وُصُوله إِلَى ميناء عكا وَهُوَ بِفَتْحِهَا جَاهِل وَعَمن فِيهَا من الْمُسلمين ذاهل فعزم على إرساء الشيني بالمينا ثمَّ تعجب وَقَالَ مَا نرى أحدا من أَهلهَا يلتقينا وَرَأى زِيّ النَّاس غير الَّذِي يعرفهُ فارتاب وارتاع وَحدث عَن الدُّخُول توقفه وَبَان تندمه وَتَأَخر تقدمه وَسَأَلَ عَن الْحَال فَأخْبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 بهَا ففكر فِي النجَاة والهواء راكد وَالْقَضَاء عَنهُ رَاقِد فَإِنَّهُ لَو خرج إِلَيْهِ مركب لأَخذه وَلَو وقف لَهُ قَاصد لوقذه فاحتال كَيفَ يخرج بسفينته وَلَا يدْخل مَعَ فقد سكينته فَسَأَلَ عَن مُتَوَلِّي الْبَلَد وَقَالَ خُذُوا لي مِنْهُ أَمَانًا حَتَّى أَدخل وَأَرْفَع مَا معي من الْمَتَاع وأنقل فجيء إِلَيْهِ من الْأَفْضَل بالأمان فَقَالَ مَا أَثِق إِلَّا بِخَط يَده وَلَا أنزل إِلَّا بعهده إِلَى بَلَده وَهُوَ ينْتَظر هبوب الرّيح الْمُوَافقَة فَمَا زَالَ يردد الرُّسُل وَيُدبر الْحِيَل حَتَّى وافقته الرّيح فأقلع وأفلت من الشّرك بَعْدَمَا وَقع وَصَارَ فِي صور فزم الْأُمُور وجرأ الْكفْر بعد خوره وبصر الشَّيْطَان بعد عماه وعوره وَأرْسل رسله إِلَى الجزائر وَذَوي الجرائر يَسْتَعْدِي ويستدعى ويستودع مِلَّة الصَّلِيب عباده ويسترعي ويستثير ويستزير ويستنفر ويستنصر وَثَبت فِي صور وَنبت وَجمع إِلَيْهِ من الفرنج من تشَتت وَمَا فتح بلد بالأمان إِلَّا سَار أَهله فِي حفظ السُّلْطَان حَتَّى يصيروا بصور ويأمنوا الْمَحْذُور فَاجْتمع إِلَيْهَا أهل الْبِلَاد الْمَفْتُوحَة بالقلوب المقفلة المغلقة المقروحة فامتلأت وَكَانَت خاليه وانتشأت وَكَانَت بالية وتعللت وَكَانَت معتلة وتعقدت وَكَانَت منحلة وَلم يحتفل بهَا فَأخر فتحهَا فاستجدت رمقا بالمهلة وتصعبت بعد مقادتها السهلة وألهى عَن طلبَهَا طلب مَا هُوَ أشرف وَهُوَ الْبَيْت الْمُقَدّس فَإِن فَتحه من كل فتح أنفس والمركيس فِي أثْنَاء ذَلِك يحْفر الخَنْدَق ويحكمه ويعقد الموثق ويبرمه وَيجمع المتفرق وينظمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 فصل فِي فتح عسقلان وغزة والداروم وَغَيرهَا قَالَ الْعِمَاد لما فرغ السُّلْطَان من فتح بيروت وجبيل ثنى عنانه عَائِدًا على صيدا وصرفند وَجَاء إِلَى صور نَاظرا إِلَيْهَا وعابرا عَلَيْهَا غير مكترث بأمرها وَلَا متحدث فِي حصرها ودلته الفراسة على أَن محاولتها تصعب ومزاولتها تتعب وَلَيْسَ بالسَّاحل بلد مِنْهَا أحصن فعطف الأعنة إِلَى مَا هُوَ مِنْهَا أَهْون وَكَانَ قد استحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية فِي قيودهما وَشرط مَعَهُمَا واستوثق مِنْهُمَا أَن يطلقهما من الْأسر والبلية مَتى تمكن بإعانتهما من الْبِلَاد الْبَقِيَّة وَعبر والعيون صور إِلَى صور وَمَا شكّ المركيس أَنه بهَا محسور مَحْصُور فَلَمَّا أرْخى من وثَاقه واتسع ضيق خناقه حلق فِي مطار أوطاره وحرك لغواته أوتار أوتاره وَاجْتمعَ السُّلْطَان بأَخيه الْعَادِل واتفقا على طي المراحل وَنشر القساطل فَنزل على عسقلان يَوْم الْأَحَد سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وشديدها قد لَان فتجلد من بهَا على الْحصار وتربصوا وتصبروا فنصب السُّلْطَان عَلَيْهَا مجانيق وَرَمَاهُمْ بهَا وجسر النقاب فحسر الثقاب وباشر الباشورة فَرفع الْحجاب وَاشْتَدَّ الْقِتَال واحتد المصال وراسلهم عِنْد ذَلِك الْملك المأسور وَقَالَ قد بَان عذركم حِين نقب السُّور وَجَرت حالات وتكررت حوالالت وترددت رسالات وَقَالَ لَهُم الْملك الْأَسير لَا تخالفوا مَا بِهِ أُشير واحفظوا رَأْسِي فَهُوَ رَأس مالكم وَلَا تخطروا غَيْرِي ببالكم فَإِنِّي إِذا تخلصت خلصت وَإِذا استنقذت استنقذت وَخرج مقدمون وشاوروا الْملك ونهجوا فِي التَّسْلِيم نهجا سلك وسلموا عسقلان على خُرُوجهمْ بِأَمْوَالِهِمْ سَالِمين واستوفوا بذلك الْمِيثَاق وَالْيَمِين وَذَلِكَ يَوْم السبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 لانسلاخ جُمَادَى الْآخِرَة وَخَرجُوا بنسائهم وَأَمْوَالهمْ وَمِمَّنْ اسْتشْهد على عسقلان من الْأُمَرَاء الكبراء حسام الدّين إِبْرَاهِيم بن حُسَيْن المهراني وَهُوَ أول أَمِير افْتتح بِالشَّهَادَةِ واختتم بالسعادة وَكَانَ السُّلْطَان قد أَخذ فِي طَرِيقه إِلَيْهَا الرملة ويبنى وَبَيت لحم والخليل وَأقَام بهَا حَتَّى تسلم حصون الداوية غَزَّة والنطرون وَبَيت جِبْرِيل وَكَانَ قد استصحب مَعَه مقدم الداوية وَشرط مَعَه أَنه مَتى سلم معاقلهم أطلقهُ فَسلم هَذِه الْمَوَاضِع الْوَثِيقَة لما اخذ موثقه كَذَا قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح وَقَالَ فِي كتاب الْبَرْق وَمَا برح السُّلْطَان مُقيما بِظَاهِر عسقلان حَتَّى تسلم المعاقل الْمُجَاورَة لَهَا والبلاد فَذكر الداروم وغزة والرملة ويبنى وَبَيت لحم ومشهد الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام ولد وَبَيت جِبْرِيل والنطرون قَالَ ابْن شَدَّاد وَلما فرغ بَال السُّلْطَان من هَذَا الْجَانِب يَعْنِي نَاحيَة بيروت رأى قصد عسقلان وَلم ير الِاشْتِغَال بصور بعد أَن نزل عَلَيْهَا ومارسها لِأَن الْعَسْكَر كَانَ قد تفرق فِي السَّاحِل وَذهب كل إِنْسَان يَأْخُذ لنَفسِهِ شَيْئا وَكَانُوا قد ضرسوا من الْقِتَال وملازمة الْحَرْب وَكَانَ قد اجْتمع فِي صور يسر الله فتحهَا كل فرنجي بَقِي فِي السَّاحِل فَرَأى قصد عسقلان لِأَن أمرهَا كَانَ أيسر وتسلم فِي طَرِيقه مَوَاضِع كَثِيرَة كالرملة ويبنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 والداروم فَأَقَامَ عَلَيْهَا المنجنيقات وقاتلها قتالا شَدِيدا وتسلمها سلخ جُمَادَى الْآخِرَة وَأقَام عَلَيْهَا إِلَى أَن تسلم أَصْحَابه غَزَّة وَبَيت جبرين والنطرون بعد قتال قَالَ وَكَانَ بَين فتح عسقلان وَأخذ الفرنج لَهَا من الْمُسلمين خمس وَثَلَاثُونَ سنة فَإِن الْعَدو ملكهَا فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَذكر ابْن القادسي نُسْخَة كتاب كتبه السُّلْطَان إِلَى بعض أَهله وَفِيه انتقلنا إِلَى الْجَانِب الَّذِي فِيهِ الْقُدس وعسقلان ففتحنا قلاعه كلهَا وحصونه جَمِيعهَا ومعاقله بجملتها ومدنه بأسرها حيفا وقيسارية وأرسوف ويافا والرملة ولد وتل الصافية وَبَيت جِبْرِيل والدير والخليل ونازلنا عسقلان وَهِي المعقل المنيع والحصن الْحصين والتل الرفيع وَفِيهِمْ من الْقُوَّة وَالْعدة وَالْعدَد مَا تتقاصر الآمال عَن نيل مثلهَا فافتتحناها سلما لتَمام أَرْبَعَة عشر يَوْمًا من يَوْم نزولنا عَلَيْهَا ونصبت أَعْلَام التَّوْحِيد على أبراجها وأسوارها وعمرت بِالْمُسْلِمين وخلت من مشركيها وكفارها وَكبر المؤذنون فِي أقطارها وَلم يبْق فِي السَّاحِل من جبيل إِلَى أَوَائِل حُدُود مصر سوى الْقُدس وصور والعزم مصمم على قصد الْقُدس فَالله يسهله ويعجله فَإِذا يسر الله تَعَالَى فتح الْقُدس ملنا إِلَى صور وَالسَّلَام وَفِي كتاب آخر تقدم ذكر بعضه قَالَ وَقد تفرق الْعَسْكَر قوم إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 الْقُدس وَابْن زين الدّين وتقي الدّين نازلان على صور وَفتحت هونين بِالسَّيْفِ وتبنين بِالسَّيْفِ وإسكندرونة بِالسَّيْفِ وَفِي كتاب آخر ونزلوا على صور وكاتبهم ملك بَيت الْمُقَدّس يطْلب الْأمان فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين أَنا أجيء إِلَيْكُم فَقَالَ لَهُ المنجمون على نجمك أَن تدخل بَيت الْمُقَدّس وَتذهب عين وَاحِدَة مِنْك فَقَالَ قد رضيت بِأَن أعمى وآخذ الْبَلَد قَالَ وَلم يمنعهُ من ذَلِك إِلَّا فتح صور وَمَا هِيَ شَيْء يقف عَلَيْهِ وَقد خطب لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله على ثَلَاثِينَ منبرا من بِلَاد الفرنج قَالَ الْعِمَاد وفوض السُّلْطَان الْقَضَاء وَالْحكم والخطابة وَجَمِيع الْأُمُور الدِّينِيَّة بِمَدِينَة عسقلان وأعمالها إِلَى جمال الدّين أبي مُحَمَّد عبد الله بن عمر الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بقاضي الْيمن قَالَ وَوصل إِلَى السُّلْطَان من مصر وَلَده الْملك الْعَزِيز عُثْمَان وَاجْتمعَ بِهِ على عسقلان فقرت عينه بولده واعتضد بعضده وَوضع يَده بتأييد الله فِي يَده وَكَانَ قد استدعى بالأساطيل المنصورة فوافت كالفتخ الكواسر بالفلك المواخر وَجَاءَت كَأَنَّهَا أمواج تلاطم أمواجا وأفواج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 تزاحم أَفْوَاجًا تدب على الْبَحْر عقاربها وتخب كَقطع اللَّيْل سحائبها والحاجب لُؤْلُؤ مقدمها ومقدامها وضرغام غابها وهمامها فَطَفِقَ يكسر ويكسب ويسل ويسلب وَيقطع الطَّرِيق على سفن الْعَدو ومراكبه وَيقف لَهُ فِي جزائر الْبَحْر على مذاهبه وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فتح الْبَيْت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما تسلم السُّلْطَان عسقلان والأماكن الَّتِي هِيَ مُحِيطَة بالقدس شمر عَن سَاق الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي قَصده وَاجْتمعت إِلَيْهِ العساكر الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي السَّاحِل بعد قَضَاء لبانتها من النهب والغارة فَسَار نَحوه مُعْتَمدًا على الله مفوضا أمره إِلَى الله منتهزا فرْصَة فتح بَاب الْخَيْر الَّذِي حث على انتهازه إِذا فتح بقوله عَلَيْهِ السَّلَام من فتح لَهُ بَاب خير فلينتهزه فَإِنَّهُ لَا يعلم مَتى يغلق دونه وَكَانَ نُزُوله عَلَيْهِ قدس الله روحه يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب فَنزل بالجانب الغربي وَكَانَ مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وَلَقَد تحازر أهل الْخِبْرَة عدَّة من كَانَ فِيهِ من الْمُقَاتلَة بِمَا يزِيد على سِتِّينَ ألفا مَا عدا النِّسَاء وَالصبيان ثمَّ انْتقل رَحمَه الله لمصْلحَة رَآهَا إِلَى الْجَانِب الشمالي وَكَانَ انْتِقَاله يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من رَجَب وَنصب عَلَيْهِ المنجنيقات وضايقه بالزحف والقتال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وَكَثْرَة الرُّمَاة حَتَّى أَخذ النقب فِي السُّور مِمَّا يَلِي وَادي جَهَنَّم فِي قرنة شمالية وَلما رأى أَعدَاء الله مَا نزل بهم من الْأَمر الَّذِي لَا ينْدَفع وَظَهَرت لَهُم أَمَارَات نصْرَة الْحق على الْبَاطِل وَكَانَ الله قد ألْقى فِي قُلُوبهم الرعب بِمَا جرى على أبطالهم ورجالهم من السَّبي وَالْقَتْل والأسر وَمَا جرى على حصونهم من الِاسْتِيلَاء وَالْأَخْذ علمُوا أَنهم إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ صائرون وبالسيف الَّذِي قتل بِهِ إخْوَانهمْ يقتلُون فاستكانوا وأخلدوا إِلَى طلب الْأمان واستقرت الْقَاعِدَة بالمراسلة بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَكَانَ تسلمه لَهُ يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَلَيْلَته كَانَت لَيْلَة الْمِعْرَاج الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن الْمجِيد فَانْظُر إِلَى هَذَا الِاتِّفَاق العجيب كَيفَ يسر الله عوده إِلَى أَيدي الْمُسلمين فِي مثل زمَان الْإِسْرَاء بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه عَلامَة قبُول هَذِه الطَّاعَة من الله تَعَالَى قلت هَذَا أحد الْأَقْوَال فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج وَفِي ذَلِك اخْتِلَاف كثير ذَكرْنَاهُ فِي مَوَاضِع غير هَذَا وَالله أعلم ثمَّ قَالَ القَاضِي وَكَانَ فتوحا عَظِيما شهده من أهل الْعلم خلق عَظِيم وَمن أَرْبَاب الْخرق والحرق وَذَلِكَ أَن النَّاس لما بَلغهُمْ مَا من الله بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 على يَده من فتوح السَّاحِل شاع قَصده للقدس فقصده الْعلمَاء من مصر وَالشَّام بِحَيْثُ لم يتَخَلَّف مَعْرُوف عَن الْحُضُور وَارْتَفَعت الْأَصْوَات بالضجيج وَالدُّعَاء والتهليل وَالتَّكْبِير وخطب فِيهِ وَصليت فِيهِ الْجُمُعَة يَوْم فَتحه وَحط الصَّلِيب الَّذِي كَانَ على قبَّة الصَّخْرَة وَكَانَ شكلا عَظِيما وَنصر الله الْإِسْلَام نصر عَزِيز مقتدر وَكَانَ قَاعِدَة الصُّلْح أَنهم قطعُوا على أنفسهم عَن كل رجل عشرَة دَنَانِير وَعَن كل امْرَأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن كل صَغِير ذكر اَوْ أُنْثَى دِينَارا وَاحِدًا قلت كَذَا قَالَ وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْعِمَاد أَن على كل صَغِير دينارين وَكَذَا قَالَ أَن الْجُمُعَة صليت بِبَيْت الْمُقَدّس يَوْم فَتحه وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْعِمَاد التَّصْرِيح بِأَن يَوْم الْفَتْح ضَاقَ عَن ذَلِك فَصليت فِي يَوْم الْجُمُعَة الْآتِي ثمَّ قَالَ القَاضِي فَمن أحضر القطيعة سلم بِنَفسِهِ وَإِلَّا أَخذ أَسِيرًا وَفرج الله عَمَّن كَانَ فِيهِ من أسرى الْمُسلمين وَكَانُوا خلقا عَظِيما زهاء ثَلَاثَة آلَاف أَسِير وَأقَام عَلَيْهِ رَحْمَة الله يجمع الْأَمْوَال ويفرقها على الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء ويوصل من دفع قطيعته مِنْهُم إِلَى مأمنه وَهُوَ صور قَالَ وَلَقَد بَلغنِي انه رَحمَه الله رَحل عَنهُ وَلم يبْق مَعَه من ذَلِك المَال شَيْء وَكَانَ مئتي الف دِينَار وَعشْرين ألفا وَكَانَ رحيله عَنهُ يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 كَمَا سَيَأْتِي فصل هَذَا الَّذِي ذكره القَاضِي فِي أَمر فتح بَيت الْمُقَدّس مُخْتَصر مُجمل وَقد بَسطه الْعِمَاد فَقَالَ رَحل السُّلْطَان من عسقلان للقدس طَالبا وبالعزم غَالِبا وللنصر مصاحبا ولذيل الْعِزّ ساحبا وَالْإِسْلَام يخْطب من الْقُدس عروسا ويبذل لَهَا فِي الْمهْر نفوسا وَيحمل إِلَيْهَا نعمى ليحمل عَنْهَا بوسى وَيهْدِي بشرا ليذْهب عبوسا وَيسمع صرخة الصَّخْرَة المستدعية المستعدية لإعدائها على أعدائها وَإجَابَة دعائها وتلبية ندائها وإطلاع زهر المصابيح فِي سمائها وإعادة الْإِيمَان الْغَرِيب مِنْهَا إِلَى وَطنه ورده إِلَى سكونه وسكنه وإقصاء الَّذين أَقْصَاهُم الله تَعَالَى بلعنته من الْأَقْصَى وجذب قياد فَتحه الَّذِي استعصى وإسكات الناقوس مِنْهُ بإنطاق الْأَذَان وكف كف الْكفْر عَنهُ بأيمان الْإِيمَان وتطهيره من أنجاس تِلْكَ الْأَجْنَاس وأدناس أدنى النَّاس وطار الْخَبَر إِلَى الْقُدس فطارت قُلُوب من بِهِ رعْبًا وطاشت وخفقت أفئدتهم خوفًا من جَيش الْإِسْلَام وجاشت وتمنت الفرنج لما شاعت الْأَخْبَار أَنَّهَا مَا عاشت وَكَانَ بِهِ من مقدمي الفرنج باليان بن بارزان وَهُوَ وملكهم فِي التسلط سيان والبطرك الْأَعْظَم وَهُوَ الشاني الْعَظِيم الشان وَالَّذين أغفلتهم حياطة حطين من الفرسان الداوية والاسبتارية والبارونية من ذَوي الْكفْر والشنان وَقد حشروا وحشدوا ونشروا ونشدوا وحميت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 حميتهم وأبت الضيم أبيتهم وحارت غيرتهم وَغَارَتْ خيرتهم وتبلدوا وتلددوا وَقَامُوا وقعدوا وصوبوا وصعدوا فاشتغل بَال باليان واشتعل بالنيران وخمدت نَار بطر البطرك وَضَاقَتْ بالقوم مَنَازِلهمْ فَكَأَن كل دَار مِنْهَا شرك للمشرك وَقَامُوا للتدبير فِي مقَام الأدبار وتقسمت أفكار الْكفَّار وأيس الفرنج من الْفرج وَأَجْمعُوا على بذل المهج وَقَالُوا هَاهُنَا نطرح الرؤوس ونسبك النُّفُوس ونسفك الدِّمَاء ونهلك الدهماء وَنَصْبِر على اقتراح القروح واجتراح الجروح ونسمح بالأرواح شحا بِمحل الرّوح فَهَذِهِ قمامتنا فِيهَا مقامتنا وَمِنْهَا تقوم قيامتنا وتصيح هامتنا وَتَصِح ندامتنا وتسيح علامتنا وتسح غمامتنا وَبهَا غرامنا وَعَلَيْهَا غرامتنا وبإكرامها كرامتنا وبسلامتها سلامتنا وباستقامتها استقامتنا وَفِي استدامتها استدامتنا وَإِن تخلينا عَنْهَا لَزِمت لآمتنا وَوَجَبَت ملامتنا فَفِيهَا المصلب وَالْمطلب والمذبح والمقرب وَالْمجْمَع والمعبد والمهبط والمصعد والمرقى والمرقب وَالْمشْرَب والملعب والمموه وَالْمذهب والمطلع والمقطع والمربى والمربع والمرخم والمخرم والمحلل وَالْمحرم والصور والأشكال والأنظار والأمثال والأشباه والأشباح والأعمدة والألواح والأجسام والأرواح وفيهَا صور الحواريين فِي حوارهم والأحبار فِي أخبارهم والرهابين فِي صوامعهم والأقساء فِي مجامعهم والسحرة وحبالها والكهنة وخيالها وَمِثَال السيدة وَالسَّيِّد والهيكل والمولد والمائدة والحوت والمنعوت والمنحوت والتلميذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 والمعلم والمهد وَالصَّبِيّ الْمُتَكَلّم وَصُورَة الْكَبْش وَالْحمار وَالْجنَّة وَالنَّار والنواقيس والنواميس قَالُوا وفيهَا صلب الْمَسِيح وَقرب الذَّبِيح وتجسد اللاهوت وتأله الناسوت واستقام التَّرْكِيب وَقَامَ الصَّلِيب وَنزل النُّور وَزَالَ الديجور وازدوجت الطبيعة بالأقنوم وامتزج الْمَوْجُود بالمعدوم وعمدت معمودية المعبود ومخضت البتول بالمولود وأضافوا إِلَى متعبدهم من هَذِه الضلالات مَا ضلوا فِيهِ بالشبه عَن نهج الدلالات وَقَالُوا دون مَقْبرَة رَبنَا نموت وعَلى خوف فَوتهَا منا نفوت وعنها ندافع وَعَلَيْهَا نقارع ومالنا أَلا نُقَاتِل وَكَيف لَا ننازع وَلَا ننازل ولأي معنى نتركهم حَتَّى يَأْخُذُوا وندعهم حَتَّى يستخلصوا مَا استخلصناه مِنْهُم ويستنقذوا وتأهبوا وتباهوا وَمَا انْتَهوا بل تناهوا ونصبوا المجانيق على الأسوار وستروا بظلمات الستائر وُجُوه الْأَنْوَار واستشاطت شياطينهم وسرحت سراحينهم وطغت طواغيتهم وأصليت مصاليتهم وهاج هائجهم وماج مائجهم وحضتهم قسوسهم وحرضتهم رؤوسهم وحركتهم نُفُوسهم وجاءتهم بجوى السوء جواسيسهم ونصبوا على كل نيق منجنيقا وحفروا فِي الخَنْدَق حفرا عميقا وشادوا فِي كل جَانب ركنا وثيقا وَفرقُوا على كل برج فريقا وَجعلُوا إِلَى كل طَارق بالردى للرَّدّ طَرِيقا وأعادوا كل نهج وَاسع بِمَا وعروه وعوروه بِهِ مضيقا وَتحمل كل مِنْهُم مَا لم يكن لَهُ من قبل مطيقا وَخرج جمَاعَة مِنْهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 على سَبِيل اليزك فأدلجوا لَيْلًا واعترضوا عدَّة من أَصْحَابنَا غَارة على طَرِيق السَّلامَة مارة وَكَانَ قد شَذَّ من الْمُقدمَة المنصورة أَمِير تقدم وَمَا تحرز وَلَا تحزم وَمَا ظن أَن قدامه من لَهُ جرْأَة الْإِقْدَام وَمن يعْتَقد أَن ربح كفره خسارة الْإِسْلَام وَهُوَ الْأَمِير جمال الدّين شروين بن حسن الزرزاري فوقعوا عَلَيْهِ فِي مَوضِع يعرف بالقبيبات فاستشهد رَحمَه الله وَلما بلغ السُّلْطَان خَبره سَاءَهُ وغمه ثمَّ أقبل بإقبال سُلْطَانه وأبطال شجعانه وأقيال أَوْلَاده وإخوانه وأشبال مماليكه وغلمانه وكبار أمرائه وَعِظَام أوليائه وَأصْبح يسْأَل عَن الْأَقْصَى وَطَرِيقه الْأَدْنَى وفريقه الْأَسْنَى وَيذكر مَا يفتح الله عَلَيْهِ بِحسن فَتحه من الْحسنى وَقَالَ إِن أسعدنا من الله على إِخْرَاج أعدائه من بَيته الْمُقَدّس فَمَا أسعدنا وَأي يَد لَهُ عندنَا إِذا أيدنا وَإنَّهُ مكث فِي أَيدي الْكفْر إِحْدَى وَتِسْعين سنة لم يتَقَبَّل الله فِيهِ من عَابِد حَسَنَة ودامت همم الْمُلُوك دونه متوسنة وخلت الْقُرُون عَنهُ متخلية وخلت الفرنج بِهِ متولية فَمَا ادخر الله فَضِيلَة فَتحه إِلَّا لآل أَيُّوب ليجمع لَهُم بِالْقبُولِ الْقُلُوب وَكَيف لَا يهتم بافتتاح الْبَيْت الْمُقَدّس وَالْمَسْجِد الاقصى المؤسس على التَّقْوَى وَهُوَ مقَام الْأَنْبِيَاء وموقف الْأَوْلِيَاء ومعبد الأتقياء ومزار أبدال الأَرْض وملائكة السَّمَاء وَمِنْه الْمَحْشَر والمنشر ويتوافد إِلَيْهِ من أَوْلِيَاء الله بعد المعشر المعشر وَفِيه الصَّخْرَة الَّتِي صينت جدة أبهاجها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الإنهاج وَمِنْهَا منهاج الْمِعْرَاج وَلها الْقبَّة الشماء الَّتِي هِيَ على رَأسهَا كالتاج وَفِيه ومض البارق وَمضى الْبراق وأضاءت لَيْلَة الْإِسْرَاء بحلول السراج الْمُنِير فِيهِ الْآفَاق وَمن أبوابه بَاب الرَّحْمَة الَّذِي يسْتَوْجب دَاخله إِلَى الْجنَّة بِالدُّخُولِ الخلود وَفِيه كرْسِي سُلَيْمَان ومحراب دَاوُد وَفِيه عين سلوان الَّتِي تمثل لواردها من الْكَوْثَر الْحَوْض المورود وَهُوَ أول الْقبْلَتَيْنِ وَثَانِي البنيتين وثالث الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ أحد الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي جَاءَ فِي الْخَبَر النَّبَوِيّ انها تشد إِلَيْهَا الرّحال وتعقد الرَّجَاء بهَا الرِّجَال وَلَعَلَّ الله يُعِيدهُ بِنَا إِلَى أحسن صُورَة كَمَا شرفه بِذكرِهِ مَعَ أشرف خلقه فِي أول سُورَة فَقَالَ عز من قَائِل {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} وَله فَضَائِل ومناقب لَا تحصى وَمِنْه كَانَ الْإِسْرَاء ولأرضه فتحت السَّمَاء وَعنهُ تُؤثر أنباء الْأَنْبِيَاء وآلاء الْأَوْلِيَاء ومشاهد الشُّهَدَاء وكرامات الكرماء وعلامات الْعلمَاء وَفِيه مبارك المبار ومسارح المسار وصخرتها الطُّولى الْقبْلَة الأولى وَمِنْهَا تعالت الْقدَم النَّبَوِيَّة وتوالت الْبركَة العلوية وَعِنْدهَا صلى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنبيين وَصَحب الرّوح الْأمين وَصعد مِنْهَا إِلَى أَعلَى عليين وَفِيه محراب مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام الَّذِي قَالَ الله فِيهِ {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب} ولنهاره التَّعَبُّد ولليله الْمحيا وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 الَّذِي أسسه دَاوُد وَأوصى ببنائه سُلَيْمَان وَلأَجل إجلاله أنزل الله سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ} وَهُوَ الَّذِي افتتحه الْفَارُوق وافتتحت بِهِ سُورَة من الْفرْقَان فَمَا أَجله وأعظمه وأشرفه وأفخمه وَأَعلاهُ وَأَجْلَاهُ وأسماه وأسناه وأيمن بركاته وأبرك ميامنه وَأحسن حالاته وَأحلى محاسنه وأزين مباهجه وأبهج مزاينه وَقد أظهر الله طوله وَطوله بقوله {الَّذِي باركنا حوله} وَكم فِيهِ من الْآيَات الَّتِي أَرَاهَا الله نبيه وَجعل مسموعنا من فضائله مرئية وَوصف للسُّلْطَان من خَصَائِصه ومزاياه مَا وثق على استعادة آلائه مواثيقه وألاياه وَأقسم لَا يبرح حَتَّى يبر قسمه وَيرْفَع بأعلاه علمه وتخطو إِلَى زِيَارَة مَوضِع الْقدَم النَّبَوِيَّة قدمه ويصغي إِلَى صرخة الصَّخْرَة وَسَار واثقا بِكَمَال النُّصْرَة فصل فِي نزُول السُّلْطَان على الْبَيْت الْمُقَدّس وحصره وَمَا كَانَ من أمره قَالَ الْعِمَاد نزل السُّلْطَان على غربي الْقُدس يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 رَجَب وَكَانَ فِي الْقُدس حِينَئِذٍ من الفرنج سِتُّونَ ألف مقَاتل من فَارس وراجل وسائف ونابل فاستهدفوا للسهام واستوقفوا للحمام وَقَالُوا كل وَاحِد منا بِعشْرين وكل عشرَة بمئتين وَدون الْقِيَامَة تقوم الْقِيَامَة ولحب سلامتها تقلى السَّلامَة وَأقَام السُّلْطَان خَمْسَة أَيَّام يَدُور حول الْبَلَد وَيقسم على حصاره أهل الْجلد وَأبْصر فِي شماليه أَرضًا رضيها للحصار متسعة لمجال الأسماع والأبصار مُمكنَة للدنو من النقب إِن صَار من حيّز الْأَنْصَار فانتقل إِلَى الْمنزل الشمالي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من شهر رَجَب فَمَا أصبح يَوْم السبت إِلَّا على منجنيقات قد نصبت بِلَا نصب فدام الْقِتَال والنزال وفرسانهم فِي كل يَوْم يباشرون دون الباشورة أَمَام جموعهم المحصورة المحسورة المحشورة ويبرزون ويبارزون ويطاعنون ويحاجزون والمطيعون لله عَلَيْهِم يحملون وَمن دِمَائِهِمْ ينهلون وينهلون كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَمِمَّنْ اسْتشْهد مبارزا وَلم يشْهد بَينه وَبَين الْجنَّة حاجزا الْأَمِير عز الدّين عِيسَى بن مَالك كَانَ أَبوهُ صَاحب قلعة جعبر فَإِنَّهُ حَاز بِشَهَادَتِهِ فِي الْمَحْشَر المفخر وَأكْثر وُرُود الْمَوْت إِلَى أَن ورد الْكَوْثَر وَكَانَ فِي كل يَوْم يفرس فوارس ويلقى ببشر وَجهه وُجُوه الْمنون العوابس فَاغْتَمَّ الْمُسلمُونَ من صرعته وَهَان عَلَيْهِم إِتْلَاف المهج بعد تلاف مهجته فَرَكبُوا أكتاف الرهج حَتَّى وصلوا إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 الخَنْدَق فخرقوه وبددوا جمعه وفرقوه والتصقوا بالسور فنقبوه وعلقوه وحشوه وأحرقوه وَصَدقُوا وعد الله فِي الْقِتَال لأعدائه فصدقوه وَلما عضتهم الْحَرْب وَقع السُّور واتسع النقب فصعب عَلَيْهِم الهين وَهَان لنا الصعب عقدوا مَا بَينهم مشورة وقعدوا مَا بَينهم ضَرُورَة وَقَالُوا مالنا إِلَّا الاستئمان فقد أَخذ لنا بِخَطِّهِ الخذلان والحرمان وأخرجوا كبراءهم ليؤخذ لَهُم الْأمان فَأبى السُّلْطَان إِلَّا قِتَالهمْ وتدميرهم واستئصالهم وَقَالَ مَا آخذ الْقُدس إِلَّا كَمَا أَخَذُوهُ من الْمُسلمين مُنْذُ إِحْدَى وَتِسْعين سنة فَإِنَّهُم استباحوا الْقَتْل وَلم يتْركُوا طرفا يستزير سنة فَأَنا أفني رِجَالهمْ قتلا وأحوي نِسَائِهِم سبيا فبرز ابْن بارزان ليأمن من السُّلْطَان بموثقه وَطلب الْأمان لِقَوْمِهِ وتمنع السُّلْطَان وتسامى فِي سومه وَقَالَ لَا أَمن لكم وَلَا أَمَان وَمَا هوانا إِلَّا أَن نديم لكم الهوان وَغدا نملككم قسرا ونوسعكم قتلا وأسرا ونسفك من الرِّجَال الدِّمَاء ونسلط على الذُّرِّيَّة وَالنِّسَاء السباء وأبى فِي تأمينهم إِلَّا الإباء فتعرضوا للتضرع وخوفوا عَاقِبَة التسرع وَقَالُوا إِذا أيسنا من أمانكم وخفنا من سلطانكم وخبنا من إحسانكم وأيقنا أَنه لَا نجاة وَلَا نجاح وَلَا صلح وَلَا صَلَاح وَلَا سلم وَلَا سَلامَة وَلَا نعْمَة وَلَا كَرَامَة فَإنَّا نستقتل فنقاتل قتال الدَّم والندم ونقابل الْوُجُود بِالْعدمِ ونلقي أَنْفُسنَا على النَّار وَلَا نلقي بِأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَة والعار وَلَا يجرح منا وَاحِد حَتَّى يجرح عشرَة وَإِنَّا نحرق الدّور ونخرب الْقبَّة وونترك عَلَيْكُم فِي سبينَا السبة ونقلع الصَّخْرَة ونوجدكم عَلَيْهَا الْحَسْرَة وقبة الصَّخْرَة نرميها وَعين سلوان نعميها والمصانع نخسفها والمطالع نكسفها وَعِنْدنَا من الْمُسلمين خَمْسَة آلَاف أَسِير مَا بَين غَنِي وفقير وكبير وصغير فنبدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 بِقَتْلِهِم وشت شملهم وَأما الْأَمْوَال فَأَنا نعطبها وَلَا نعطيها وَأما الذَّرَارِي فَإنَّا نسارع إِلَى إعدامها وَلَا نستبطيها فَلَا يحصل لكم سبي وَلَا يقبل لكم سعي وَلَا يسلم عمر وَلَا عمَارَة وَلَا نضار وَلَا نضارة وَلَا نسَاء وَلَا صبيان وَلَا جماد وَلَا حَيَوَان فَأَي فَائِدَة لكم فِي هَذَا الشُّح وكل خسر لكم فِي هَذَا الرِّبْح وَرب خيبة جَاءَت من رَجَاء النجح وَلَا يصلح السوء سوى الصُّلْح فَشَاور السُّلْطَان أَصْحَابه فَقيل لَهُ الصَّوَاب أَن نحسبهم أسارانا فنبيعهم نُفُوسهم ونعمم بصغار الْجِزْيَة رؤوسهم وَيدخل فِي القطيعة مرؤوسهم وَرَئِيسهمْ وَاسْتقر بعد مراودات ومعاودات ومفاوضات وتفويضات وضراعات من الْقَوْم وشفاعات على قطيعة تكمل بهَا الْغِبْطَة وَيحصل مِنْهَا الحوطة اشْتَروا بهَا منا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وخلصوا بهَا رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ وأطفالهم على أَنه من عجز بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَمَّا لزمَه أَو امْتنع مِنْهُ وَمَا سلمه ضرب عَلَيْهِ الرّقّ وَثَبت فِي تملكه لنا الْحق وَهُوَ عَن كل رجل عشرَة دَنَانِير وَعَن كل امْرَأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن كل صَغِيرَة أَو صَغِير دِينَارَانِ الذّكر وَالْأُنْثَى فِي ذَلِك سيان وَدخل ابْن بارزان والبطرك ومقدما الداوية والاسبتار فِي هَذَا الضَّمَان وبذل ابْن بارزان ثَلَاثِينَ ألف دِينَار عَن الْفُقَرَاء وَقَامَ بِالْأَدَاءِ وَلم ينكل عَن الْوَفَاء فَمن سلم خرج من بَيته أمنا وَلم يعد إِلَيْهِ سَاكِنا وسلموا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب على هَذِه القطيعة وردوه بالرغم رد الْغَصْب لَا الْوَدِيعَة وَكَانَ فِيهِ أَكثر من مئة ألف إِنْسَان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 رجال وَنسَاء وصبيان فأغلقت دونهم الْأَبْوَاب ورتب لعرضهم واستخراج مَا يلْزمهُم النواب ووكل بِكُل بَاب أَمِير ومقدم كَبِير يحصر الخارجين ويحصي الوالجين فَمن استخرج مِنْهُ خرج وَمن لم يقم بِمَا عَلَيْهِ قعد فِي الْحَبْس وَعدم الْفرج وَلَو حفظ ذَلِك المَال حق حفظه لفاز مِنْهُ بَيت المَال بأوفر حَظه لكنما تمّ التَّفْرِيط وَعم التَّخْلِيط فَكل من رشا مَشى وتنكب الْأُمَنَاء نهج الرشد بالرشا فَمنهمْ من أدلي من السُّور بالحبال وَمِنْهُم من حمل مخفيا فِي الرّحال وَمِنْهُم من غيرت لبسته فَخرج مخفيا فِي زِيّ الْجند وَمِنْهُم من وَقعت فِيهِ شَفَاعَة مطاعة لم تقَابل بِالرَّدِّ والثقات الأكابر استنابوا أصاغر فأقاموا فِي تقصيرهم المعاذر وقنوا لأَنْفُسِهِمْ الذَّخَائِر وأدعى مظفر الدّين كوكبوري أَن مِنْهُم جمَاعَة من أرمن الرها وعددها ألف نسمَة فَجعل إِلَيْهِ أمرهَا وَكَذَلِكَ صَاحب البيرة ادّعى بالعدة الْكَثِيرَة زهاء خمس مئة أرمني ذكر أَنهم من بَلَده وَأَن الْوَاصِل مِنْهُم إِلَى الْقُدس لأجل متعبده وَكَذَلِكَ كل من استوهب عدَّة استطلقها وَحصل لَهُ مرفقها ثمَّ تولى الْملك الْعَادِل استخراجهم وَقوم على الْأَدَاء منهاجهم وَسَهل على السُّلْطَان لفرط جوده الاستخراج والإخراج وتوفر لعامة النَّاس وخاصتهم ببهجة سماحه الابتهاج وَمَا فِينَا إِلَّا من فَازَ بأوفى نصيب ورعى مِنْهُ فِي مرعى خصيب وَكَانَ السُّلْطَان قد رتب عدَّة دواوين فِي كل ديوَان مِنْهَا عدَّة من النواب المصريين وَفِيهِمْ من الشاميين فَمن أَخذ من أحد الدَّوَاوِين خطا بِالْأَدَاءِ انْطلق مَعَ الطُّلَقَاء بعد عرض خطه على من بِالْبَابِ من الْأُمَنَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 والوكلاء فَذكر لي من لَا أَشك فِي مقاله أَنه كَانَ يحضر فِي الدِّيوَان ويطلع على حَاله فَرُبمَا كتبُوا خطا لمن نَقده فِي كيسهم وتلبس أَمر تلبيهم فَكَانُوا شُرَكَاء بَيت المَال لَا أمناءه وخانوه على مَا حصل لكل من الْغنى والنفع وَمَا أضرّ غناءه وَمَعَ ذَلِك حصل لبيت المَال مَا يُقَارب مئة ألف دِينَار وَبَقِي من بَقِي تَحت رق وإسار ينْتَظر بِهِ انْقِضَاء الْمدَّة المضروبة وَالْعجز عَن الْوَفَاء بالقطيعة الْمَطْلُوبَة وَكَانَت بالقدس ملكة رُومِية متعبدة مترهبة فِي عبَادَة الصَّلِيب متصلبة وعَلى مصابها متلهبة وَفِي التَّمَسُّك بملتها متعصبة متعصبة أنفاسها متصاعدة للحزن وعبراتها متحدرة تحدر القطرات من المزن وَلها حَال وَمَال ومتاع وَأَشْيَاء وأشياع وَأَتْبَاع فعاذت بالسلطان فأعاذها وَمن عَلَيْهَا وعَلى كل من مَعهَا بالإفراج وَأذن فِي إِخْرَاج كل مَا لَهَا فِي الأكياس والإخراج وَأبقى عَلَيْهَا من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها فَخرجت بِجَمِيعِ مَالهَا وحالها ونسائها ورجالها وأسفاطها وأعدالها والصناديق بأقفالها وتبعها من لم يكن من أتباعها فراحت فرحى وَإِن كَانَت من شجنها قرحى وَكَذَلِكَ خرجت زَوْجَة الْملك المأسور كي وَهِي ابْنة الْملك أماري وَكَانَت مُقِيمَة فِي جوَار الْقُدس مَعَ مَالهَا من الخول والخدم والجواري فاستأذنت فِي الْإِلْمَام بزوجها وَكَانَ بقيده مُقيما فِي برج نابلس موكلا بِهِ ليَوْم وعد تسريحه فَأذن لَهَا فخلصت هِيَ وَمن تبعها وأقامت عِنْد زَوجهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 وَكَذَلِكَ خرجت الإبرنساسة أم هنفري وَهِي ابْنة فليب وَزَوْجَة الإبرنس الَّذِي سفك دَمه يَوْم حطين وَهِي صَاحِبَة الكرك والشوبك وَهِي بنوابها محوطة وبرأيها منوطة فَجَاءَت سَائِلَة فِي وَلَدهَا العاني فوعدت أَنَّهَا إِن سمحت بحصنها سمح لَهَا بابنها ثمَّ أعفيت وأطلقت وعصمت واستحضر ابْنهَا هنفري بن هنفري من دمشق إِلَيْهَا وَأقر بِرُؤْيَتِهِ عينيها وَسَار مَعهَا من الْأُمَرَاء والأمناء من يتسلم مِنْهُم تِلْكَ المعاقل فَخرجت فمضت إِلَى حصونها لتسلمها فمانعها أَهلهَا ودافعوها وردوها ذليلة خائبة فسكنت صور واستودعت السُّلْطَان ابْنهَا المأسور ووعدها بِإِطْلَاقِهِ إِذا تسلم تِلْكَ الْحُصُون فصل فِي ذكر يَوْم الْفَتْح وَبَعض كتب البشائر إِلَى الْبِلَاد قَالَ الْعِمَاد تسلم الْمُسلمُونَ الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة أَوَان وجوب صلَاتهَا وطلعت الرَّايَات الناصرية على شرفاتها وأغلقت أَبْوَابهَا لحفظ ناسها فِي طلب القطيعة والتماسها وضاق وَقت الْفَرِيضَة وَتعذر أَدَاؤُهَا وللجمعة مُقَدمَات وشروط لم يُمكن استيفاؤها وَكَانَ الْأَقْصَى لَا سِيمَا محرابه مَشْغُولًا بالخنازير والخنا مملوءا بِمَا أَحْدَثُوا من الْبَنَّا مسكونا مِمَّن كفر وغوى وضل وظلم وجنى مغمورا بالنجاسات الَّتِي حرم علينا فِي تَطْهِيره مِنْهَا الونى فَوَقع الإشتغال بالأهم الأنفع والأتم الأنجح الأنجع وَهُوَ حفظهم وضبطهم إِلَى أَن يُوجد شرطهم وَيُؤْخَذ قسطهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وَاتفقَ فتح الْبَيْت الْمُقَدّس فِي يَوْم كَانَ فِي مثل ليلته مِنْهُ الْمِعْرَاج وَتمّ بِمَا وضح من منهاج النَّصْر الابتهاج وَجلسَ السُّلْطَان بالمخيم ظَاهر الْقُدس للهناء وللقاء الأكابر والأمراء والمتصوفة وَالْعُلَمَاء وَهُوَ جَالس على هَيْئَة التَّوَاضُع وهيبة الْوَقار بَين الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم جُلَسَائِهِ الْأَبْرَار وَوَجهه بِنور الْبشر سَافر وأمله بعز النجح ظافر وبابه مَفْتُوح ورفده ممنوح وحجابه مَرْفُوع وخطابه مسموع ونشاطه مقبل وبساطه مقبل ومحياه يلوح ورياه يفوح وَقد جلت لَهُ حَالَة الظفر وَكَأن دسته بِهِ هَالة الْقَمَر والقراء جُلُوس يقرؤون ويرشدون وَالشعرَاء وقُوف ينشدون وينشدون والأعلام تبرز لتنشر والاقلام تزبر لتبشر والعيون من فرط المسرة تَدْمَع والقلوب للفرح بالنصرة تخشع والألسنة بالابتهال إِلَى الله تضرع وَبشر الْمَسْجِد الْحَرَام بخلاص الْمَسْجِد الْأَقْصَى وتلي {شرع لكم من الدّين مَا وصّى} وهنئ الْحجر الْأسود بالصخرة الْبَيْضَاء ومنزل الْوَحْي بِمحل الْإِسْرَاء ومقر سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين بمقر الرُّسُل والأنبياء ومقام إِبْرَاهِيم بِموضع قدم الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وأدام أهل الْإِسْلَام بشرف بنيته مستمتعين وتسامع النَّاس بِهَذَا النَّصْر الْكَرِيم وَالْفَتْح الْعَظِيم فوفدوا للزيارة من كل فج عميق وسلكوا إِلَيْهِ فِي كل طَرِيق وأحرموا من الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق وتنزهوا من زهر كراماته فِي الرَّوْض الأنيق وَقد سبق أَن الْعِمَاد كَانَ توجه إِلَى دمشق وَالسُّلْطَان على بيروت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 للألم الَّذِي ألم بِهِ فَلَمَّا سمع بنزول السُّلْطَان على الْقُدس أبل من مَرضه وَتوجه إِلَيْهِ فوصل يَوْم السبت ثَانِي يَوْم الْفَتْح قَالَ وطلعت عَلَيْهِ صبحا عِنْد طُلُوع الصُّبْح فَاسْتَبْشَرَ بقدومي وخلع على البشير قبل رؤيتي وَكَانَ أَصْحَابه يطالبونه بكتب البشائر ليغربوا بهَا ويشرقوا وَهُوَ يَقُول لهَذِهِ الْقوس بار ولهذه المأدبة قار قَالَ فَكتبت فِي ذَلِك الْيَوْم سبعين كتاب بِشَارَة كل كتاب بِمَعْنى بديع وَعبارَة فَمِنْهَا الْكتاب إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بِبَغْدَاد أفتتحه بِهَذِهِ الْآيَة {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} الْحَمد لله الَّذِي أنْجز لِعِبَادِهِ الصَّالِحين وعد الِاسْتِخْلَاف وقهر بِأَهْل التَّوْحِيد أهل الشّرك وَالْخلاف وَخص سُلْطَان الدِّيوَان الْعَزِيز بِهَذِهِ الْخلَافَة وَمكن دينه المرتضى وَبدل الْأَمْن من المخافة وَذخر هَذَا الْفَتْح الْأَسْنَى والنصر الأهنى للعصر الإمامي النَّبَوِيّ الناصري على يَد الْخَادِم أخْلص أوليائه وأخص من اعتزازه باعتزائه إِلَيْهِ وانتمائه وَهَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والنجح الْكَرِيم قد انقرض من الْمُلُوك الْمَاضِيَة والقرون الخالية على حسرة تمنيه وحيرة ترجيه ووحشة الْيَأْس من تسنيه وتقاصرت عَنهُ طوال الهمم وتخاذلت عَن الِانْتِصَار لَهُ أَمْلَاك الْأُمَم فَالْحَمْد لله الَّذِي أعَاد الْقُدس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 إِلَى الْقُدس وأعاذه من الرجس وحقق من فَتحه مَا كَانَ فِي النَّفس وَبدل وَحْشَة الْكفْر فِيهِ من الْإِسْلَام بالأنس وَجعل عز يَوْمه ماحيا ذل الأمس وَأَسْكَنَهُ الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء بعد الْجُهَّال والضلال من البطرك والقس وَعَبدَة الصَّلِيب ومستقبلي الشَّمْس وَقد أظهر الله على الْمُشْركين الضَّالّين جُنُوده الْمُؤمنِينَ الْعَالمين وَقطع دابر الْقَوْم الظَّالِمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَكَأَن الله شرف هَذِه الْأمة وَقَالَ لَهُم اعزموا على اقتناء هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي بهَا فَضلكُمْ وحقق فِي حَقهم امْتِثَال أمره فِي قَوْله الْكَرِيم {ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} وَهَذَا الْفَتْح قد أقدره الله على افتضاضه بِالْحَرْبِ الْعوَان وَجعل مَلَائكَته المسومة لَهُ من أعز الْأَنْصَار وَأظْهر الأعوان وَأخرج يَوْم الْجُمُعَة من بَيته الْمُقَدّس أهل الْأَحَد وقمع من كَانَ يَقُول إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة بِمن يَقُول هُوَ الله أحد وأعان الله بإنزال الْمَلَائِكَة وَالروح وأتى بِهَذَا النَّصْر الممنوح الَّذِي هُوَ فتح الْفتُوح وَقد تَعَالَى أَن يُحِيط بِهِ وصف البليغ نظما ونثرا وَعبد الله فِي الْبَيْت الْمُقَدّس سرا وجهرا وملكت بِلَاد الْأُرْدُن وفلسطين غورا ونجدا وَبرا وبحرا وملئت إسلاما وَكَانَت قد ملئت كفرا وتقاضى الْخَادِم دين الدّين الَّذِي غلق رَهنه دهرا وَالْحَمْد لله شكرا حمدا يجدد لِلْإِسْلَامِ كل يَوْم نصرا وَيزِيد وُجُوه أَهله ببشرى فتوحه بشرا وأبى الْخَادِم إِلَّا اسْتِبَاحَة أَمْوَالهم وأرواحهم وحسم دَاء اجتراحهم باجتياحهم وَأَنه لَا بُد من تَطْهِير الأَرْض المقدسة برجس دِمَائِهِمْ وَقتل رِجَالهمْ وَسبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ذَرَارِيهمْ وَنِسَائِهِمْ وَلما أيسوا من النجَاة وَفتح أَبْوَابهَا المرتجة من أَسبَابهَا المرتجاة خوفوا بقتل الْأُسَارَى الْمُسلمين وهم أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف وَأَنَّهُمْ يفسدون جَمِيع مَا فِي الْبَلَد من مَال وَبِنَاء بهدم وإحراق وَإِتْلَاف وَعرف أَن جهلهم على كل نكر شنيع وَأَنَّهُمْ تدعوهم فظاظتهم إِلَى كل ضرّ فظيع وبذلوا إِطْلَاق الأسرى وشرطوا حمل مَال الفدا وَمَا زَالُوا يبتهلون ويضرعون ويذلون ويخشعون حَتَّى اسْتَقر الْأَمر أَنهم يفادون وأجيبت الصَّخْرَة المقدسة عِنْد استصراخها وبركت الْبركَة الناهضة إِلَيْهَا فِي مناخها وغسلت من أوضارها وأوزارها بعبرات الْعُيُون وَرجع اضطرابها إِلَى السّكُون وفديت بنواظر أهل الْإِيمَان وصوفحت للوفاء بعهدها المجدد بالأيمان وَذكرت فِي يَوْم خلاصها من رَجَب بليلة الْمِعْرَاج وتجلى إظلامها بإنارة سنا السراج وأعيدت الْكَنَائِس مدارس وأضحت بإحياء رَمِيم التَّوْحِيد رسوم الْكفْر عَافِيَة دوارس وزالت ضجرة الصَّخْرَة ونعشها الله من العثرة وَبدل بالأنس فِيهَا مَا كَانَ من الوحشة وَالْحَسْرَة فَالْحَمْد لله على هَذِه النُّصْرَة والْمنَّة لَهُ على هَذِه المبرة وَقد تسلمنا مَعَ بَيت الْمُقَدّس جَمِيع المعاقل من حد الداروم إِلَى حد طرابلس وكل مَا كَانَ جَارِيا فِي مملكة ملك الْقُدس ونابلس وَلم يبْق إِلَّا صور فَإِنَّهَا قد تَأَخّر انتزاعها وَتقدم امتناعها والفرنج فِيهَا قد ضريت بآمالها أطماعها وَهِي بتأييد الله مستفتحة والقلوب بتذليل جامحها منشرحة وَمن كتب أخر فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي عجز الْمُلُوك عَن تمنيه فَكيف تسنيه وَمَاتَتْ الأطماع دونه فَلم تطمع فِيهِ فَمن الله علينا بتذليل صعبه وإعذاب شربه وتسهيل وعره وَتَحْصِيل فخره وَقضى الْمُلُوك فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 ليله وَجِئْنَا نَحن عِنْد إسفار فجره وَقد كَانَت الصَّخْرَة مستصرخة ومطايا الْكفْر بكلاكلها عَلَيْهَا منوخة فأجيبت دعوتها وأصينت حظوتها وتناثرت على حجرها يَوَاقِيت الشفاه وقوبلت قبلتها بقبل الأفواه ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى للقاصي والداني وَزَالَ رين العائن وقرت عين الراني هَذَا فتح عَظِيم قدره جسيم فخره فَاضل عصره كَامِل نَصره غير منسي إِلَى يَوْم الْحَشْر ذكره وَقد اقتض بِنَا بكره واقتضي بسيفنا وتره وزهر زهره وَظهر قهره وَهلك الْكَافِر وكفره وَجَاء من نعم الله مَا لزم على الْأَبَد شكره أَبينَا إِلَّا إحراقهم بنيران الصوارم وإغراقهم فِي أمواه الطلى والجماجم وتسلمنا الْقُدس فِي يَوْم كَانَت فِي مثل ليلته لَيْلَة الْمِعْرَاج وحنت الصَّخْرَة حنين جذع المعجزة الأولى فِي ظلمَة لَيْلهَا إِلَى ذَلِك السراج الْوَهَّاج وَالْحَمْد لله على سلوك مَا وضح من الْمِنْهَاج ونضوب مَا كَانَ نبع من الأجاج وخلا بَيت الله لقصد الْحَاج وَصدق الْحَاج مبشرة بِمَا فضل الله بِهِ عصرنا وَعجل بِهِ نصرنَا ونظم بِهِ سلكنا وطرز بِهِ ملكنا وَهُوَ فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق رَهنه دهرا واغتصبت من الْإِسْلَام قهرا وارتد كفرا وامتدت بِهِ الْأَيَّام عمرا فعمرا وتقاصرت الهمم عَن استفتاحه وأصلد زند الْمُلُوك فِيهِ فعجزوا عَن اقتداحه ونزلوا بالرغم على التمَاس الْكفْر واقتراحه وَاحْتَملُوا لحفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 مواضعهم نكاية اجترامه واجتراحه فَلَا جرم أعده الله لأيامنا وذخره لمواسم اعتزامنا وفتحه بِنَا إِظْهَارًا لفضيله هَذِه الْأَيَّام وإيثارا لما نَحن نؤثره من إعلاء كلمة الْإِسْلَام فأصرخنا الصَّخْرَة وأهدينا إِلَيْهَا النُّصْرَة ومكنا من قَلبهَا وَإِن كَانَ من الْحجر المسرة وتسلمنا الْقُدس يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وقضينا من حق هَذَا الْبَيْت مَا وَجب وَجَاء الْقُدس إِلَى الْقُدس وَزَالَ الرجس وَذهب وَتَوَلَّى فِيهِ الْإِسْلَام وَتَوَلَّى عَنهُ الْكفْر وَعظم الْأجر وفخم الْفَخر وطاب النشر وَزَاد الْبشر ومحي الرجس وَثَبت الطُّهْر وَهلك الْمُشرك وذل البطرك وأقصي من الْمَسْجِد الْأَقْصَى الساجد إِلَى الشَّمْس وتجلى الْحق بنوره الكاشف للبس عَاد بَيت الله الْمُقَدّس إِلَى طَهَارَته ونطق مِنْهُ لِسَان التَّقْدِيس بعبارته وتهلل وَجه السعد بنضارته وخصنا الْقدر فِي إتْمَام أمره بخطابه وإشارته وزادت الْوُجُوه بشرا ببشارته وَقد أعَاد الله إِلَى الْإِسْلَام الْمَسْجِد الْأَقْصَى وملكنا أدناه وأقصاه وأسنى دولتنا بِمَا سناه من فَتحه وهناه وَعَلمُوا أَنهم هالكون وَأَنا لَهُم بالقهر مالكون وَفِي سَبِيل الْقَتْل والأسر والسبي سالكون فَخَرجُوا يطْلبُونَ الْأمان ويبذلون الإذعان حَتَّى يسلمُوا الْمَكَان فَقيل لَهُم الْآن وَقد عصيتم ورضيتم بِمَا فِيهِ هلاكهم وَأَبَيْتُمْ فروعوا بقتل أُسَارَى الْمُسلمين وهم أُلُوف وعرفنا أَنهم لَا يقصرون عَن شَرّ فَإِن جهلهم مَعْرُوف فتضرعوا وتشفعوا وتعفروا فِي تُرَاب الذل ووقعوا وتقرر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 عَلَيْهِم مَال اشْتَروا بِهِ أنفسهم فنزعوا بِهِ من الْخَوْف ملبسهم وسلموا الْقُدس فأعدناه إِلَى الْقُدس وطهرناه من الرجس وأجبنا دَعْوَة الصَّخْرَة وغسلنا عَنْهَا وضر الْكفْر بعبرات الْعبْرَة فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق رَهنه وَطَالَ فِي يَد الْكفْر أسره وسجنه واستهل بغر أيامنا مزنه وأنار يمنه وَعَاد بإحساننا حسنه وَزَالَ بِنَا خَوفه وَزَاد أَمنه وَبَقِي قريب مئة سنة فِي يَد الْكفْر مسجونا وبرجس الشّرك مشحونا حَتَّى أعَاد الله بِنَا رونقه وأذهب قلقه وأعدم فرقه وَهَذَا فتح لم يكن مُنْذُ عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَهُ نَظِير وأفق الدّين بِهِ منيف مُنِير وَشرف أيامنا بِهِ كَبِير وَهُوَ إِمَام فتوحنا المدخرة لنا وَمَا لَهَا بتأييد الله تَأْخِير فتح الْبَيْت الْمُقَدّس الَّذِي لم يخْطر تمنيه بخاطر الْمُلُوك وتوعر على عزائمهم نهج طَرِيقه المسلوك وحالت دونه قنطاريات الفرنج وطوارقها وجنت على الْإِسْلَام فِيهِ حوادث اللَّيَالِي وطوارقها حَتَّى دَعَانَا الله لفتحه فأجبناه ووعدنا بالفوز فأصبناه وأوردنا مشرع صفائه فاستعذبناه وعرفنا طيب عرفه فاستطبناه وَذخر لعصرنا هَذَا الْفَتْح فاستقبلناه رَأَوْا أَحْجَار المنجنيقات قد أنزلت الأسوار بالأسوار وَغَارَتْ الصخور للصخرة الْمُبَارَكَة فجدت فِي إنقاذها من الأسار وهتمت ثنايا الأبراج وأعضل بهَا فِي علاج دَاء العلاج فعاينوا الْحمام وشاهدوا الْمَوْت الزؤام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 أَقَامَت المنجنيقات على حصانته جد الرَّجْم وواقعت ثنايا شرفاته بالهتم وتطايرت الصخور من نصْرَة الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة وحجرت على حكم السُّور بِسَفَه الْأَحْجَار المتداركة وحسرت النقوب عَن عروس الْبَلَد نقب الأسوار وانكشفت للعيون انكشاف الْأَسْرَار نهضت لإصراخ الصَّخْرَة المقدسة الصخور وطارت من أوكار المجانيق كَأَنَّهَا الصقور مَا أسر الْبَيْت الْحَرَام بفكاك أَخِيه من الْأسر وإجراء مَاء الْإِسْلَام فِيهِ لغسل أوضار الْكفْر وإنقاذ الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة مِمَّن قُلُوبهم كالحجارة أَو أَشد قسوة وإلحافها من الْبَهَاء والرونق والعز الإسلامي كسْوَة وَلَقَد غسلت من أدران الْكفْر وأدناسه وطهرت من أرجاس أنجاسه بمياه الْعُيُون الَّتِي بهَا قذفت وصقلت بشفاه الْمُؤمنِينَ وطالما بأيدي الْكفْر صديت وأعيد إِلَيْهَا ذكر الله تَعَالَى بعد طول الغربة وتذكرت بِصُحْبَة الاولياء مَا سلف لَهَا فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من حسن الصُّحْبَة ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى فأقصي مِنْهُ الساجد للشمس وَسكن الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء فِي مَوَاطِن البطرك والقس وأبدل الناقوس بِالْأَذَانِ بل الْكفْر بِالْإِيمَان وَصلى محراب الْإِسْلَام فِي الْمِحْرَاب الَّذِي أسلم وَقد سنى الله تَعَالَى هَذَا الْفَتْح الْأَعْظَم والنجح الأفخم وَقد ندب فلَان فِي الرسَالَة القدسية والبشارة العرسية الَّتِي تمّ بهَا ماتم الْكفْر وعرس الْإِسْلَام وَعَاد بهَا الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى مداناة الْمَسْجِد الْحَرَام وتجلت عروس الصَّخْرَة لعيون الناظرين وفاضت عَلَيْهَا مياه أحداق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 الْأَوْلِيَاء فرحضت عَنْهَا أوضار الْكَافرين وَكَانَ الْإِسْلَام مِنْهُ غَرِيبا فَرجع إِلَى وَطنه وَسكن مِنْهُ إِلَى التوطن فِي مَسْكَنه وزالت مخاوفه وَعَاد إِلَى مأمنه وفاض الْعرف من منبعه وأنار التَّوْحِيد من مطلعه وَعلا سنا السّنة وحلا جنى الْجنَّة وخلصت مَوَاضِع المخلصين من أَوْلِيَاء الْأمة وَخرج البطاركة والقسيسون من مَسَاجِد الْأَئِمَّة وعادت الْكَنَائِس مدارس وآيات التَّثْلِيث بهَا دوارس ووجوه الْإِيمَان باشرة ووجوه أهل الصَّلِيب عوابس ومحت أيامن هَذِه الْأَيَّام تِلْكَ اللَّيَالِي الدوامس وَقد أُقِيمَت الْجمع وَالْجَمَاعَات ونظفت بل طهرت تِلْكَ الساحات وَصلى فِي محرابه المحرب ودرس فِيهِ الْخلاف وَالْمذهب فَالْحَمْد لله الَّذِي تسنى بفضله هَذَا الْمطلب وتيسر بتأييده الْأَمر الأصعب فصل قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الْمولى الْأَجَل الْفَاضِل مُتَأَخِّرًا بِدِمَشْق لعَارض من الله بشفائه فَمن جملَة مَا كتب السُّلْطَان إِلَيْهِ أما الْفَتْح فَمن جملَة بَرَكَات همته وآثار جذبات عزمته فَأن الله تَعَالَى سهل مَا سجل أهل الدَّهْر بِأَنَّهُ صَعب وَأهب نسيم النَّصْر إبان يُقَال لَيْسَ لَهُ مهب وخصنا بِهَذَا الشّرف وألحقنا فِي هَذِه الْفَضِيلَة بصالحي السّلف وَقد بدل الْكفْر بِالْإِيمَان والناقوس بِالْأَذَانِ وَجلسَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء فِي مجَالِس الرهبان وَفتحت بِهَذَا الْفَتْح من بَيت الله الْمُقَدّس أَبْوَاب الْجنان وتزاحم الخارجون من الْبَلَد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 من الفرنج وَالنَّصَارَى فِي دُخُول أَبْوَاب النيرَان وَصلى محَارب الدّين فِي الْمِحْرَاب وَرفع الْمَلَائِكَة مَا كَانَ تكاثف بِأَنْفَاسِ الْكفْر من الْحجاب وغسلت الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة من أوضارها بِمَاء الْعُيُون الفائض الْفَائِق غزارة الأمواه وَقبلت بالشفاه وبوشرت بالأفواه وطهرت بِأَهْل الْعلم والحلم من أدناس أهل الْجَهْل والسفاه وَالْحَمْد لله ثمَّ الْحَمد لله وَمَا كَانَ يعوزنا ويعوزه إِلَّا حُضُور الْمجْلس السَّامِي أسماه الله فَمَا لهَذَا الْأَمر رواء إِلَّا بروائه وَلَا للأنس لِقَاء إِلَّا بأنس لِقَائِه وَكَاد يصحف الْفَتْح لَوْلَا صَالح دُعَائِهِ وَحسن آلائه وَالْحَمْد لله الَّذِي خصنا بِهَذِهِ الخاصية وفضلنا بالنصرة القدسية وَذخر لنا هَذَا الْبر الَّذِي عجز بل قصر عَنهُ مُلُوك الْبَريَّة وَالْحَمْد لله على هَذِه النِّعْمَة السّنيَّة فَمَا أشوقنا وأشوق الْقُدس إِلَى قدومه وَمَا أظمأنا وأظمأه إِلَى خُصُوص الرّيّ بِهِ وعمومه وَيَا حَظّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي هُوَ أَخُو الْبَيْت الْحَرَام من زيارته وَمَا آنق روضه وأوفق رِضَاهُ إِذا فَازَ بنظره ونضارته وَنحن نَعْرِف أَن همته الْعَالِيَة تحدوه وَأَن دينه إِلَى إِجَابَة دَعوته تَدعُوهُ ونسأل الله تَعَالَى أَن يكمل صِحَّته وينعش نهضته وَيُقَوِّي قوته وَمَا أَقَمْنَا بِهَذَا الْبَلَد إِلَّا لتطهيره وترتيب أمره وتدبيره وَمن كتب أخر نصرنَا الله بملائكته المسومين وأوليائه الْمُؤمنِينَ واستخلصنا بتأييده الْبِلَاد وانتزعناها واقتضضناها بالبيض الذُّكُور من الْحَرْب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 الْعوَان أبكار الْفتُوح وافترعناها وَهَذِه موهبة مذهبَة ومنقبة لَا تبلغ إِلَى وصفهَا بلاغة موجزة وَلَا مسهبة ونوبة مَا لِلْإِسْلَامِ بعْدهَا نبوة وحظوة فِي مذاق أهل التَّقْوَى وَالْمَغْفِرَة حلوة وبشرى تجلو الْوُجُوه ببشرها وتضوع مهاب المحاب بنشرها ويغرق أهل الشرق والغرب سِجَال غربها وتقر عين الْمُؤمنِينَ فِي الْبعد والقرب بأنوار قربهَا عَاد التَّقْدِيس إِلَى الأَرْض الَّتِي بِهِ وصفت وأحاطت الْبركَة بالبقعة الَّتِي بقوله تَعَالَى {باركنا حوله} عرفت وَظَهَرت الصَّخْرَة المقدسة وطهرت وزهيت أيامن هَذِه الْأَيَّام وزهرت وقمعت الطَّائِفَة الباغية من أهل التَّثْلِيث بِأَهْل التَّوْحِيد وقهرت واستبشر الْمِحْرَاب والمنبر بخطبته وإمامه وافتخر الزَّمَان بعصر مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأيامه وَقد تملكنا الْبِلَاد الساحلية وتسلمناها حصنا حصنا ونقضنا من الْكفْر ركنا ركنا وأجلينا الْكفَّار مِنْهَا فاجتلينا بهَا من الْحسنى حسنا فتح شرف الله بِهِ هَذِه الْأمة وجلا بِهِ الْغُمَّة وكشف الملمة بل شرفنا بفخره وأعدنا لذخره وخصنا بفضيلته فِي عصره وأجرى لنا مَا كَانَ قد أَبْطَأَ من عَادَة نَصره وقمع بِأَهْل دينه من عساكرنا أهل كفره وَقَامَت بواترنا بوتره وغرق الْبِلَاد الساحلية من دم الْكفْر ببحره وأصرخت الصَّخْرَة وحفت بهَا النُّصْرَة وزالت عَنْهَا الْمضرَّة وعادت إِلَيْهَا المبرة ونعشت مِنْهَا العثرة وفاضت لَهَا من عين الْمُؤمنِينَ الْعبْرَة وزفت عروسها الْبكر مُحصنَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 لم تقتض مِنْهَا الْعذرَة وحالت العرة ولاحت الْغرَّة وَظَهَرت من صدف قبتها الدرة وصوفحت آثَار الْقدَم النَّبَوِيَّة بِالْإِيمَان وجددت بعهدها صَفْقَة الْإِيمَان وَبَطل الناقوس بِحَق الْأَذَان وَفتحت أَبْوَاب الْجنان لأَهْلهَا وَأخرج مِنْهَا أهل النيرَان وَالْحَمْد لله على هَذَا الْإِحْسَان حمدا مستمرا على مر الزَّمَان وَمن كتاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن فتح بَيت الله الْمُقَدّس الَّذِي غلق نيفا وَتِسْعين سنة مَعَ الْكفْر رَهنه وَطَالَ فِي أسره سجنه واستحكم وهنه وَقَوي نكره وَضعف رُكْنه وَزَاد حزنه وَزَالَ حسنه وأجدبت من الْهدى أرضه وأخلف مزنه وواصله خَوفه وفارقه أَمنه واشتغل خاطر الْإِسْلَام بِسَبَبِهِ وساء ظَنّه وَذكر فِيهِ الْوَاحِد الْأَحَد الَّذِي تَعَالَى عَن الْوَلَد أَن الْمَسِيح ابْنه وَربع فِيهِ التَّثْلِيث فعز صليبه وصلبه وأفرد عَنهُ التَّوْحِيد فكاد يهي مَتنه ودرج الْمُلُوك المتقدمون على تمني استنقاذه فَأبى الشَّيْطَان غير استيلائه واستحواذه وَكَانَ فِي الْغَيْب الإلهي أَن معاده فِي الْآخِرَة إِلَى معاذه وطنت أوطانه وبقراءة الْقُرْآن وَرِوَايَة الحَدِيث وَذكر الدُّرُوس وجليت الصَّخْرَة المقدسة جلوة الْعَرُوس وزارها شهر رَمَضَان مضيفا لَهَا نَهَار صَومهَا بالتسبيح وليل فطرها بالتراويح وَمن كتب أخر الْبَيْت الْمُقَدّس صَار مقدسا وَأصْبح لِلْإِسْلَامِ معرسا وَرجع أهل التَّقْوَى إِلَيْهِ فقد كَانَ بهَا مؤسسا وخرس الجرس وَذهب الدنس وَبَطل الناقوس وَخرج القسوس وَزَالَ الْأَذَى بِالْأَذَانِ وصوفحت الصَّخْرَة المقدسة بأيمان أهل الْإِيمَان وَمَا صلت فِي محراب الْبَيْت الْمُقَدّس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 التقاة حَتَّى صلت فِي محاريب رِقَاب الْكفْر المشرفيات وَمَا تمّ الرضى بِفَتْح الْمَسْجِد الْأَقْصَى حَتَّى أقصي مِنْهُ من أقصاه الله عَن رِضَاهُ وَمَا تبوأ الْمُسلم الْمُصَلِّي فِيهِ مثواه من الْجنَّة حَتَّى تبوأ الْكَافِر الْمصلى بالنَّار مثواه صوفح مَوضِع الْقدَم الْمُبَارَكَة لَيْلَة الْمِعْرَاج بِالْأَيْدِي وَقَالَ لأولياء الله أهل الْإِخْلَاص أَهلا بكم فَمَا أحسن الْخَلَاص من ولَايَة أهل التَّعَدِّي وَعَاد الْمَسْجِد الْأَقْصَى للمصلين المقربين جنَّة ومنارا بعد أَن كَانَ للمقصين المضلين نَارا ودارا وتسلم محرب الْإِسْلَام محرابه وأصبحت لألافه لما ألفى أَصْحَابه وترنح الْمِنْبَر لترنم الْخَطِيب وانجبر الدّين بانكسار صلب عَابِد الصَّلِيب السليب خلا باله من أَمر الْقُدس بإعادته إِلَى قدسه وإخلائه من رجز الشّرك ورجسه وإجلاء داويه واسيتاره وبطركه وقسه وتعويضه من وَحْشَة الضَّلَالَة من الْهدى بأنسه ورد الْإِسْلَام الْغَرِيب إِلَى بَيته الْمُقَدّس وَنفي الْكَافِر مِنْهُ كاسف البال راغم المعطس وَنصب الْمِنْبَر بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لإِقَامَة الْخطْبَة الإمامية وَرفع مَا رفع قدره من الْأَعْلَام العباسية والإفراج عَن محرابه بهدم مَا بني دونه من مباني الشّرك وكشف أَسْتَار الْكَفَرَة الَّتِي حجبت بالهتك والفتك وَإِقَامَة الْجمع فِيهِ وَالْجَمَاعَات وإدامة أوراد الْعِبَادَات بِهِ ووظائف الطَّاعَات وَغسل الصَّخْرَة المقدسة بِدَم الْكَافِر ودمع الْمُؤمن وَنزع لِبَاس بَأْس الْمُسِيء عَنْهَا بإفاضة ثوب ثَوَاب المحسن وتنزيه تِلْكَ الْجنَّة من دنس أهل النَّار وإعلاء مَا كَانَ درس من معالم الْأَبْرَار ومطالع الْأَنْوَار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وَقد رَجَعَ الْإِسْلَام الْغَرِيب مِنْهُ إِلَى دَاره وَخرج قمر الْهدى بِهِ من سراره وَذَهَبت ظلم الضَّلَالَة بأنواره وعادت الأَرْض المقدسة إِلَى مَا كَانَت مَوْصُوفَة بِهِ من التَّقْدِيس وَأمنت المخاوف فِيهَا وَبهَا فَصَارَت صباح السرى ومناخ التَّعْرِيس وَقد اقصي عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى الأقصون من الله الأبعدون وتوافى إِلَيْهِ المصطفون الأقربون وَالْمَلَائِكَة المقربون وخرس الناقوس بزجل المسبحين وَخرج المفسدون بِدُخُول المصلحين وَقَالَ الْمِحْرَاب لأَهله مرْحَبًا وَأهلا وَشَمل جمَاعَة الْمُسلمين من إِقَامَة الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة مَا جمع لِلْإِسْلَامِ فِيهِ شملا وَرفعت الْأَعْلَام العباسية على منبره فَأخذت من بره أوفى نصيب وتلت بألسنة عذبها {نصر من الله وَفتح قريب} وغسلت الصَّخْرَة الْمُبَارَكَة بدموع الْمُتَّقِينَ من دنس الْمُشْركين وَبعد أهل الْأَحَد من قربهَا بِقرب الْمُوَحِّدين فَذكر بهَا مَا كَاد ينسى من عهد الْمِعْرَاج النَّبَوِيّ وأقامت بدلائلها براهين الإعجاز المحمدي عَاد الْإِسْلَام بِإِسْلَام الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى تقديسه وَرجع بُنْيَانه من التَّقْوَى إِلَى تأسيسة وَزَالَ ناموس ناقوسه وَبَطل بِنَصّ النَّصْر قِيَاس قسيسه وَفتح بَاب الرَّحْمَة لأَهْلهَا وَدخلت فِيهِ الصَّخْرَة لفضلها وباشرت الْحَيَاة بهَا مَوَاضِع سجودها وصافحت أَيدي الْأَوْلِيَاء آثَار الْقدَم النَّبَوِيَّة بتجديد عهودها وَشهد مقَام الْمِعْرَاج وموطئ براقه ورؤيء نور الْإِسْلَام ومطلع إشراقه ودنا الْمَسْجِد الْأَقْصَى للراكع والساجد وامتلأ ذَلِك الفضاء بالأتقياء الأماجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد تقلص ظلّ الْكَافِر الْمَبْسُوط وَصدق الله أهل دينه فَلَمَّا وَقع الشَّرْط وَقع الْمَشْرُوط وَجَاء أَمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمة وأدلجت السيوف والآجال نَائِمَة واسترد الْمُسلمُونَ تراثا كَانَ عَنْهُم آبقا وظفروا يقظة بِمَا لم يصدقُوا أَنهم يظفرون بِهِ طيفا على النأي طَارِقًا وَمِنْه فِي وصف نقب السُّور فأخلي السُّور من السيارة وَالْحَرب من النظارة وَأمكن النقاب أَن يسفر للحرب النقاب وَأَن يُعِيد الْحجر إِلَى سيرته من التُّرَاب فَتقدم إِلَى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله وَحل عقده بضربه الأخرق الدَّال على لطافة أنمله وأسمع الصَّخْرَة الشَّرِيفَة حنينه فاستغاثته إِلَى أَن كَادَت ترق لمقتله وتبرأ بعض الْحِجَارَة من بعض وَأخذ الخراب عَلَيْهَا موثقًا فَلَنْ يبرح الأَرْض ثمَّ قَالَ واستقرت على الْأَعْلَى أَقْدَامهم وخفقت على الْأَقْصَى أعلامهم وتلاقت على الصَّخْرَة قبلهم وشفيت بهَا وَإِن كَانَت صَخْرَة كَمَا يشفى بِالْمَاءِ غللهم وَملك الْإِسْلَام خطة كَانَ عَهده بهَا دمنة سكان فخدمها الْكفْر إِلَى أَن صَارَت رَوْضَة جنان لَا جرم أَن الله أخرجهم مِنْهَا وأهبطهم وأرضى أهل الْحق وأسخطهم وأوعز الْخَادِم برد الْأَقْصَى إِلَى عَهده الْمَعْهُود وَأقَام لَهُ من الْأَئِمَّة من يُوفيه ورده المورود وأقيمت الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شعْبَان فَكَادَتْ السَّمَوَات للسجوم يتفطرن وَالْكَوَاكِب مِنْهَا للطرب ينتثرن وَرفعت إِلَى الله كلمة التَّوْحِيد وَكَانَت طريقها مسدودة وطهرت قُبُور الْأَنْبِيَاء وَكَانَت بالنجاسات مكدودة وأقيمت الْخمس وَكَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 التَّثْلِيث يقعدها وجهرت الألسن بِاللَّه أكبر وَكَانَ سحر الْكفْر يعقدها وجهر باسم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي وَطنه الْأَشْرَف من الْمِنْبَر فَرَحَّبَ بِهِ ترحيب من بر بِمن بر وخفق علماه فِي حفافيه فَلَو طَار سُرُورًا لطار بجناحيه وَكَانَ الْخَادِم لَا يسْعَى سَعْيه إِلَّا لهَذِهِ الْعُظْمَى وَلَا يقاسي تِلْكَ البؤسى إِلَّا رَجَاء هَذِه النعمى وَلَا يحارب من يستظلمه إِلَّا لتَكون الْكَلِمَة مَجْمُوعَة فَتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وليفوز بجوهر الْآخِرَة لَا بِالْعرضِ الْأَدْنَى من الدُّنْيَا وَكَانَت الألسن رُبمَا سلقته فأنضج قلوبها بالأحتقار وَكَانَت الخواطر رُبمَا رُبمَا غلت عَلَيْهِ مراجلها فأطفأها بِالِاحْتِمَالِ والاصطبار وَمن طلب خطيرا خاطر وَمن رام صَفْقَة رابحة جاسر وَمن سما لِأَن يجلي غمرة غامر وَوصف فِيهِ يَوْم حطين فَقَالَ وَكَانَ الْيَوْم مشهودا وَكَانَت الْمَلَائِكَة لَهُ شُهُودًا وَكَانَ الصَّلِيب صَارِخًا وَكَانَ الْإِسْلَام مولودا وَأسر الْملك وَبِيَدِهِ أوثق وثائقه وآكد وَصله بِالدّينِ وعلائقه وَهُوَ صَلِيب الصلبوت وقائد أهل الجبروت مَا دهموا قطّ بِأَمْر إِلَّا وَقَامَ بَين دهمائهم يحرضهم يبسط لَهُم بَاعه وَكَانَ مد الْيَدَيْنِ فِي هَذِه الدفعة وداعه لَا جرم أَنه يتهافت على ناره فراشهم ويجتمع فِي ظلّ ظلامه خشاشهم ويقاتلون تَحت ذَلِك الصَّلِيب أَصْلَب قتال وأصدقه ويرونه ميثاقا يبنون عَلَيْهِ أَشد عقد وأوثقه ويعدونه سورا تحفر حوافر الْخَيل خندقه وَلم يفلت مِنْهُم مَعْرُوف إِلَّا القومص وَكَانَ لَعنه الله مَلِيًّا يَوْم الظفر بِالْقِتَالِ ومليا يَوْم الخذلان بالاحتيال فنجا وَلَكِن كَيفَ وطار خوفًا من أَن يلْحقهُ منسر الرمْح وَجَنَاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 السَّيْف ثمَّ أَخذه الله بعد أَيَّام بِيَدِهِ وأهلكه لموعده وَكَانَ لعدتهم فَذَلِك وانتقل من ملك الْمَوْت إِلَى مَالك وَبعد الكسرة مر الْخَادِم على الْبِلَاد فطواها بِمَا نشر عَلَيْهَا من الرَّايَة السَّوْدَاء صبغا الْبَيْضَاء صنعا الخافقة هِيَ وَقُلُوب أعدائها الْعَالِيَة هِيَ وعزائم أوليائها فصل قَالَ الْعِمَاد وَمن قصائدي الَّتِي هنأت بهَا السُّلْطَان بِفَتْح الْقُدس وَهُوَ مخيم عَلَيْهِ (أطيب بِأَنْفَاسِ تطيب لكم نفسا ... وتعتاض من ذكراكم وحشتي أنسا) (وأسأل عَنْكُم عافيات دوارس ... غَدَتْ بِلِسَان الْحَال ناطقة خرسا) (معاهدكم مَا بالها كعهودكم ... وَقد كررت من درس آثارها درسا) (وَقد كَانَ فِي حدسي لكم كل طَارق ... وَمَا جئْتُمْ من هجركم خَالف الحدسا) (أرى حدثان الدَّهْر ينسى حَدِيثه ... وَأما حَدِيث الْغدر مِنْكُم فَلَا ينسى) (تَزُول الْجبَال الراسيات وثابت ... رسيس غرام فِي فُؤَادِي لكم أرسى) (حسبت حَبِيبِي قاسي الْقلب وَحده ... وقلب الَّذِي يهوى بِحمْل الْهوى أقسى) (أما لكم يَا مالكي الرّقّ رقة ... يطيب بهَا مملوككم مِنْكُم نفسا) (وَإِن سروري كنت أسمع حسه ... فمذ سرت عَنْكُم مَا سَمِعت لَهُ حسا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 (وَأَن نهاري صَار لَيْلًا لبعدكم ... فَمَا أَبْصرت عَيْني صباحا وَلَا شمسا) (بَكَيْت على مستودعات قُلُوبكُمْ ... كَمَا قد بَكت قدما على صخرها الخنسا) (فَلَا تحبسوا عني الْجَمِيل فإنني ... جعلت على حبي لكم مهجتي حبسا) (رَأَيْت صَلَاح الدّين أشرف من غَدا ... وَأفضل من أضحى واكرم من أَمْسَى) (وَقيل لنا فِي الأَرْض سَبْعَة أبحر ... ولسنا نرى إِلَّا أنامله الخمسا) (سجيته الْحسنى وشيمته الرِّضَا ... وبطشته الْكُبْرَى وعزته القعسا) (فَلَا عدمت أيامنا مِنْهُ مشرقا ... ينير بِمَا يولي ليالينا الدمسا) (جنودك أَمْلَاك السَّمَاء وظنهم ... عداتك جن الأَرْض فِي الفتك لَا الإنسا) (فَلَا يسْتَحق الْقُدس غَيْرك فِي الورى ... فَأَنت الَّذِي من دونهم فتح القدسا) (وَمن قبل فتح الْقُدس كنت مقدسا ... فَلَا عدمت أخلاقك الطُّهْر والقدسا) (وطهرته من رجسهم بدمائهم ... فأذهبت بالرجس الَّذِي ذهب الرجسا) (نزعت لِبَاس الْكفْر عَن قدس أرْضهَا ... وألبستها الدّين الَّذِي كشف اللبسا) (وعادت بِبَيْت الله أَحْكَام دينه ... فَلَا بطركا أبقيت فِيهَا وَلَا قسا) (وَقد شاع فِي الْآفَاق عَنْك بِشَارَة ... بِأَن أَذَان الْقُدس قد بَطل النقسا) (جرى بِالَّذِي تهوى الْقَضَاء وظاهرت ... مَلَائِكَة الرَّحْمَن أجنادك الحمسا) (وَكم لبني أَيُّوب عبد كعنتر ... فَإِن ذكرُوا بالبأس لَا يذكرُوا عبسا) (وَقد طَابَ ريانا على طبرية ... فياطيبها مغنى وَيَا حسنها مرسى) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 (وعكا وَمَا عكا فقد كَانَ فتحهَا ... لإجلائهم عَن مدن ساحله كنسا) (وصيدا وبيروت وتبنين كلهَا ... بسيفك ألفى أَنفه الرغم والتعسا) (ويافا وأرسوف ويبنى وغزة ... تخذت بهَا بَين الطلى والظبى عرسا) (وَفِي عسقلان الْكفْر ذل بملككم ... فمنظره بل أمره أَرْبَد وأرجسا) (وَصَارَ بصور عصبَة يرقبونكم ... فَلَا تبطئوا عَنْهَا وحسوهم حسا) (توكل على الله الَّذِي لَك أَصبَحت ... كلاءته درعا وعصمته ترسا) (وَدَمرَ على البَاقِينَ واجتث أصلهم ... فَإنَّك قد صيرت دينارهم فلسًا) (وَلَا ينس شرك الشرق غربك مرويا ... بِمَاء الطلى من صاديات الظبى الخمسا) (وَإِن بِلَاد الشرق مظْلمَة فَخذ ... خُرَاسَان والنهرين وَالتّرْك والفرسا) (وَبعد الفرنج الكرج فاقصد بِلَادهمْ ... بعزمك واملأ من دِمَائِهِمْ الرسا) (أَقَامَت بغاب الساحلين أسودكم ... وَقد طردت عَنهُ ذئابهم الطلسا) وَهِي طَوِيلَة وَقد تقدم بَعْضهَا فِي ذكر كسرة حطين وللعماد أَيْضا من جملَة القصيدة الَّتِي مدح بهَا حسام الدّين بن لاجين وَقد تقدم بَعْضهَا (قل للمليك صَلَاح الدّين أكْرم من ... يمشي على الأَرْض أَو من يركب الفرسا) (من بعد فتحك بَيت الْقُدس لَيْسَ سوى ... صور فَإِن فتحت فاقصد طرابلسا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 (أثر على يَوْم أنطرسوس ذَا لجب ... وأبعث إِلَى ليل أنطاكية العسسا) (وأخل سَاحل هَذَا الشَّام أجمعه ... من العداة وَمن فِي دينه وكسا) (وَلَا تدع مِنْهُم نفسا وَلَا نفسا ... فَإِنَّهُم يَأْخُذُونَ النَّفس والنفسا) (نزلت بالقدس فاستفتحته وَمَتى ... تقصد طرابلسا فَانْزِل على قدسا) وَمن قصيدة أُخْرَى لَهُ نفذها إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر (أبشر بِفَتْح أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتَى ... وَصيته فِي جَمِيع الأَرْض جَوَاب) (مَا كَانَ يخْطر فِي بَال تصَوره ... واستصعب الْفَتْح لما أغلق الْبَاب) (وخام عَنهُ الْمُلُوك الأقدمون وَقد ... مَضَت على النَّاس أحقاب وأحقاب) (وَجَاء عصرك وَالْأَيَّام مقبلة ... فَكَانَ فِيهِ لفيض الْكفْر إنضاب) (نصر أعَاد صَلَاح الدّين رونقه ... إيجازه ببليغ القَوْل إسهاب) (قرع الظبى بالظبى فِي الْحَرْب يطربه ... لَا قينة صنع باللحن مطراب) (أَحْيَا الْهدى وأمات الشّرك صارمه ... لقد تجلى الْهدى والشرك منْجَاب) (بفتحه الْقُدس لِلْإِسْلَامِ قد فتحت ... فِي قمع طاغية الْإِشْرَاك أَبْوَاب) (فَفِي مُوَافقَة الْبَيْت الْمُقَدّس للبيت ... الْحَرَام لنا تيه وَإِعْجَاب) (والصخرة الْحجر الملثوم جَانِبه ... كِلَاهُمَا لاعتمار الْخلق محراب) (نفى من الْقُدس صلبانا كَمَا نفيت ... من بَيت مَكَّة أزلام وأنصاب) وَكثر مدح الْفُضَلَاء للسُّلْطَان عِنْد فتح الْقُدس وَقد ذكر الْعِمَاد من ذَلِك جملَة فِي أَوَاخِر كتاب الْبَرْق فَرَأَيْت تَقْدِيم مَا اخترته مِنْهَا هُنَا وزدت عَلَيْهِ مَا لم يذكرهُ فَمن ذَلِك قصيدة الْحَكِيم أبي الْفضل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 عبد الْمُنعم بن عمر بن حسان الأندلسي الجلياني مِنْهَا (أَبَا المظفر أَنْت المجتنى لهدى ... أُخْرَى الزَّمَان على خبر بخبرته) (فَلَو رآك وَقد حزت الْعلَا عمر ... فِي قلَّة التل قضى كنه عبرته) (وَلَو رآك وَأهل الْقُدس فِي وَله ... أَبُو عُبَيْدَة فدى من مسرته) (غَدَاة جزوا النواصي فِي قمامته ... وأعولوا بالتباكي حول صخرته) (دارت بك الْملَّة الْحسنى فَنحْن على ... عهد الصَّحَابَة فِي اسْتِمْرَار مرته) (وَأَنت كأسمك صديق وَصَاحبه الْملك ... المظفر سَام فِي مبرته) (وَفِي السلالة عُثْمَان يُؤَيّدهُ ... علا عَليّ على إِيثَار نصرته) (وَكم لديك ذَوي قربى رقوا شرفا ... وَكم بعيد رأى الزلفى بهجرته) (يشبه القبج مَا بَين البزاة لقى ... ملك الفرنج أخيذا بَين عترته) (أما رَأَيْت معالي يُوسُف نسقت ... حَتَّى رمت كل ذِي ملك بحسرته) (أضحى لنشر الْهدى فِي فتح منهجه ... وَبَات يطوي العدى فِي سد ثغرته) (واستقبح الرجس ممنوا بمشهده ... فَاسْتَفْتَحَ الْقُدس محشوا بزمرته) (لَكِن بَأْس صَلَاح الدّين أذهلهم ... بوقعة التل واستشرى بسورته) (تعيا الْجَوَارِح والفرسان وَهُوَ على ... بَدْء النشاط عشيا مثل بكرته) (يَا فاتح الْمَسْجِد الْأَقْصَى على بهم ... وقانص الْجَيْش لَا يُحْصى بقفزته) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 (أبشر بِملك كَظهر الشَّمْس مطلع ... على البسيطة فتاح بنشرته) (حَتَّى يكون لهَذَا الدّين ملحمة ... تحكي النُّبُوَّة فِي أَيَّام فترته) قَالَ وَنفذ من مصر نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن ابْن المجاور الْوَزير العزيزي قصيدة وعرضتها على السُّلْطَان بالقدس وفيهَا ذكر الإنكليز وَفتح يافا وَذكر الْهُدْنَة الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا فِي آخر الْكتاب فَمِنْهَا وَسَيَأْتِي الْبَاقِي الْمُخْتَار أَيْضا (الْوَقْت أضيق من سَماع قصيدة ... موسومة بِصِفَات أغيد أهيف) (الْجد فِي هَذَا الزَّمَان مُبين ... والهزل فِيهِ مَعَ الغواية مختف) (بالناصر الْمهْدي وَالْهَادِي إِلَى ... سبل الْجِهَاد أبي المظفر يُوسُف) (المستعين بربه والواثق الْمَنْصُور ... والمستظهر الْبر الوفي) (شدت قوى أَرْكَان مِلَّة أَحْمد ... وتجملت بجهاده فِي الْموقف) (ملك إِذا أم الْمُلُوك جنابه ... لاذوا بأكرم من يؤم وأشرف) (وَإِذا أَتَوا أسرى إِلَى أبوابه ... وقفُوا بأعظم من يصول وأرأف) (مولى غَدا للدّين أكْرم وَالِد ... حدب على أبنائه مترفرف) (عزل الفرنجة ثمَّ ولى جَيْشه ... أعظم بِهِ من صَارف ومصرف) (قد أنصف التَّوْحِيد من تثليثهم ... وَأقَام فِي الْإِنْجِيل حد الْمُصحف) (مغرى بتجريح الرِّجَال لانه ... يروي أَحَادِيث العوالي الرعف) (ملك لَهُ فِي الْحَرْب تفقه ... وَله غَدَاة السّلم زهد تصوف) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 (وَعَلِيهِ أنزل فِي الْجِهَاد مفصل ... فلذاك يَقْرَؤُهُ بسبعة أحرف) (عزم وحلم أنسيا مَا كَانَ من ... عزم ابْن مرداس وحلم الْأَحْنَف) (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي لطباعه ... وسيوفه خلقا رضى وتعسف) (لله يَوْم عرُوبَة إِذْ أعربت ... ساعاته عَن نصرك المتعرف) (سنت سيوفك فِي الرؤوس ختانة ... ذهبت بمهجة كل علج أقلف) (آفاتهم وآفت يأخذك مِنْهُم ... يافا فكم من حسرة وتاسف) (أَو مَا رأى الأعلاج حِين دعوتها ... بِلِسَان سيف فِي الكريهة ملحف) (لم تستطع عصيان أَمرك بل أَتَت ... منقادة طَوْعًا وَلم تتخلف) (فاستدع جارتها وثن بأختها ... وكذاك حَتَّى الْأَرْبَعين ونيف) (مَا للسواحل غير بحرك حَافظ ... بشبا سِنَان أَو بصفحة مرهف) (هَذَا الطّراز الْأَخْضَر استفتحته ... فزها بِثَوْب من علاك مسجف) (أَحييت دين مُحَمَّد وأقمته ... وسترته من بعد طول تكشف) (وضبطت ديوَان الْجِهَاد بعامل ... من عَامل وبمشرف من مشرفي) (وبجهبذ الْعَزْم الَّذِي لَا ينثني ... وبناظر الرَّأْي الَّذِي لم يطرف) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 (فَخذ الْخراج من البسيطة كلهَا ... واستأد فَرضِي جِزْيَة وموظف) (واقبض على الدُّنْيَا بكف زهادة ... وابسط لرحمتها جنَاح تعطف) (جَاءَت جنود الله تطلب ثأرها ... وصدورها بك عَن قَلِيل تشتفي) (فانهض بهَا وتقاض حَقك موقنا ... أَن الْإِلَه بِمَا تؤمله حفي) (هم فتية الأتراك كل مجفجف ... يغشى الكريهة فَوق كل مجفجف) (قوم يَخُوضُونَ الْحمام شجاعة ... لَا ينظرُونَ إِلَيْهِ من طرف خَفِي) (إِن صبحوا الْأَعْدَاء فِي أوطانهم ... تركُوا دِيَارهمْ كقاع صفصف) (أَنْت اصطفيتهم لنصرة ديننَا ... لله در الْمُصْطَفى والمصطفي) قلت وَذكرت بقوله هَذَا الطّراز الْأَخْضَر استفتحته حِكَايَة حَسَنَة لائقة بِالْحَال حَدثنِي بهَا شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي قَالَ قَرَأت بِخَط شَيخنَا أبي الْفَضَائِل بن رَشِيق بِمصْر عقيب مَوته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخمْس مئة قَالَ رأى إِنْسَان كَأَن شخصا ذَا جهامة وَاقِف على حَائِط بِجَامِع دمشق يُسمى النسْر وَهُوَ يَقُول (ملك الصَّيَاصِي والنواصي نَاصِر ... للدّين بعد إياسه أَن ينصرا) (وسيفتح الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... يطوى الطّراز لَهُ وَيقتل قيصرا) قلت وَهَذَا قبل أَن يفتح صَلَاح الدّين الْبِلَاد بِعشر سِنِين وقرأت بِخَط بعض أَصْحَابنَا قَالَ وجدت على حَاشِيَة كتاب يرْوى عَن خطيب كَانَ بالرقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 أَنه رأى من ينشده هَذَا الشّعْر فِي النّوم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة فَذكر الْبَيْتَيْنِ وَهَذَا قبل الْفَتْح بِاثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَقبل مولد صَلَاح الدّين بِسنة وَالْمعْنَى بالطراز بِلَاد السَّاحِل المصطفة على بِلَاد الْبَحْر من الداروم وغزة وعسقلان وعكا وصيدا وبيروت وجبيل وَغير ذَلِك وَلم يبْق من الطّراز فِي أثْنَاء ذَلِك سوى صور بَين صيدا وعكا وَهَكَذَا كَانَ الْأَمر على مَا سبق بَيَانه فتح هَذَا الطّراز أَولا ثمَّ فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وكنى بقيصر عَن الإبرنس الَّذِي قَتله بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ من رُؤُوس الْكفْر وملوكهم وغلاتهم فِي معاداة الْإِسْلَام وَالله أعلم قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ فَخر الْكتاب أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ الْجُوَيْنِيّ الْمُقِيم بِمصْر من أهل بَغْدَاد ينفذ إِلَيّ قصائده لأعرضها فَرَأَيْت أَن أثبت لَهُ هَذِه القصيدة فِي الْفَتْح وَهِي مُشْتَمِلَة على ذكر مُلُوك الْإِسْلَام وإهمالهم لَهُ تسعين عَاما حَتَّى تجرد لَهُ سلطاننا فَذكر مِنْهَا (جند السَّمَاء لهَذَا الْملك أعوان ... من شكّ فيهم فَهَذَا الْفَتْح برهَان) (مَتى رأى النَّاس مَا نحكيه فِي زمن ... وَقد مَضَت قبل أزمان وأزمان) (هذي الْفتُوح فتوح الْأَنْبِيَاء وَمَا ... لَهَا سوى الشُّكْر بالأفعال أَثمَان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 (أضحت مُلُوك الفرنج الصَّيْد فِي يَده ... صيدا وَمَا ضعفوا يَوْمًا وَمَا هانوا) (كم من فحول مُلُوك غودروا وهم ... خوف الفرنجة ولدان ونسوان) (استصرخت بملكشاة طرابلس ... فخام عَنْهَا وَصمت مِنْهُ آذان) (هَذَا وَكم ملك من بعده نظر ... الْإِسْلَام يطوى ويحوى وَهُوَ سَكرَان) (تسعون عَاما بِلَاد الله تصرخ ... وَالْإِسْلَام نصاره صم وعميان) (فَالْآن لبّى صَلَاح الدّين دعوتهم ... بِأَمْر من هُوَ للمعوان معوان) (للناصر ادخرت هذي الْفتُوح وَمَا ... سمت لَهَا همم الْأَمْلَاك مذ كَانُوا) (حباه ذُو الْعَرْش بالنصر الْعَزِيز فَقَالَ ... النَّاس دَاوُد هَذَا أم سُلَيْمَان) (فِي نصف شهر غَدا للشرك مصطلما ... فطهرت مِنْهُ أقطار وبلدان) (فاين مسلمة عَنْهَا وَإِخْوَته ... بل أَيْن والدهم بل أَيْن مَرْوَان) (وعد عَمَّا سواهُ فالفرنجة لم ... يبذهم من مُلُوك الأَرْض إِنْسَان) (لَو أَن ذَا الْفَتْح فِي عصر النَّبِي لقد ... تنزلت فِيهِ آيَات وَقُرْآن) (يَا قبح أوجه عباد الصَّلِيب وَقد ... غَدا يبرقعها شُؤْم وخذلان) (خزنت عِنْد إِلَه الْعَرْش سَائِر مَا ... ملكته وملوك الأَرْض خزان) (فَالله يبقيك لِلْإِسْلَامِ تحرسه ... من أَن يضام ويلفى وَهُوَ حيران) (وَهَذِه سنة أكْرم بهَا سنة ... فالكفر فِي سنة والنصر يقظان) (يَا جَامعا كلمة الْإِيمَان قامع من ... معبوده دون رب الْعَرْش صلبان) (إِذا طوى الله ديوَان الْعباد فَمَا ... يطوى لأجر صَلَاح الدّين ديوَان) وللشريف النسابة الْمصْرِيّ مُحَمَّد بن أسعد بن عَليّ بن معمر الْحُسَيْنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 الْمَعْرُوف بالجواني نقيب الْأَشْرَاف بالديار المصرية من قصيدة (أَتَرَى مناما مَا بعيني أبْصر ... الْقُدس يفتح والفرنجة تكسر) (وقمامة قُمْت من الرجس الَّذِي ... بزواله وزوالها يتَطَهَّر) (ومليكهم فِي الْقَيْد مصفود وَلم ... ير قبل ذَاك لَهُم مليك يؤسر) (قد جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح الَّذِي ... وعد الرَّسُول فَسَبحُوا وَاسْتَغْفرُوا) (فتح الشآم وطهر الْقُدس الَّذِي ... هُوَ فِي الْقِيَامَة للأنام الْمَحْشَر) (من كَانَ هَذَا فَتحه لمُحَمد ... مَاذَا يُقَال لَهُ وماذا يذكر) (يَا يُوسُف الصّديق أَنْت لفتحها ... فاروقها عمر الإِمَام الأطهر) (ولأنت عُثْمَان الشَّرِيعَة بعده ... ولأنت فِي نصر النُّبُوَّة حيدر) (ملك غَدا الْإِسْلَام من عجب بِهِ ... يختال وَالدُّنْيَا بِهِ تتبختر) (نثر ونظم طعنه وضرابه ... فالرمح ينظم والمهند ينثر) (حَيْثُ الرّقاب خواضع حَيْثُ الْعُيُون ... خواشع حَيْثُ الجباه تعفر) (غاراته جمع فَإِن خطبت لَهُ ... فِيهَا السيوف فَكل هام مِنْبَر) (إِذْ لَا ترى إِلَّا طلى بسنابك ... تحذى نعالا أَو دِمَاء تهدر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 (وصوافنا تخْتَار أَن تطَأ الثرى ... فيصدها عَنهُ طلى وسنور) (تمشي على جثث العدى عرجا وَلَا ... عرج بهَا لَكِنَّهَا تتعثر) وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن جُبَير الأندلسي (أطلت على أفقك الزَّاهِر ... سعود من الْفلك الدائر) (فأبشر فَإِن رِقَاب العدى ... تمد إِلَى سَيْفك الباتر) (وَعَما قريب يحل الردى ... بكندهم الناكث الغادر) (وخصب الورى يَوْم تَسْقِي الثرى ... سحائب من دَمهَا الهامر) (وَكم لَك من فتكة فيهم ... حكت فتكة الْأسد الخادر) (كسرت صليبهم عنْوَة ... فَللَّه دَرك من كاسر) (وغيرت آثَارهم كلهَا ... فَلَيْسَ لَهَا الدَّهْر من جَابر) (وأمضيت جدك فِي غزوهم ... فتعسا لجدهم العاثر) (وَأدبر ملكهم بالشآم ... وَولى كأمسهم الدابر) (جنودك بِالرُّعْبِ منصورة ... فناجز مَتى شِئْت أَو صابر) (فكلهم غرق هَالك ... بتيار عسكرك الذاخر) (ثأرت لدين الْهدى فِي العدى ... فآثرك الله من ثَائِر) (وَقمت بنصر إِلَه الورى ... فسماك بِالْملكِ النَّاصِر) (وجاهدت مُجْتَهدا صَابِرًا ... فَللَّه أجرك من صابر) (تبيت الْمُلُوك على فرشهم ... وترفل فِي الزرد السابري) (وتؤثر جَاهد عَيْش الْجِهَاد ... على طيب عيشهم الناضر) (وتسهر ليلك فِي حق من ... سيرضيك فِي جفنك الساهر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 (فتحت الْمُقَدّس من أرضه ... فَعَادَت إِلَى وصفهَا الطَّاهِر) (وَجئْت إِلَى قدسه المرتضى ... فخلصته من يَد الْكَافِر) (وأعليت فِيهِ منار الْهدى ... وأحييت من رسمه الداثر) (لكم ذخر الله هذي الْفتُوح ... من الزَّمن الأول الغابر) (وخصك من بعد فاروقه ... بهَا لاصطناعك فِي الآخر) (محبتكم ألقيت فِي النُّفُوس ... بِذكر لكم فِي الورى طَائِر) (فكم لَهُم عِنْد ذكر الْمُلُوك ... لمثلك من مثل سَائِر) وَبَاقِي القصيدة تقدم فِي أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الساعاتي (أعيا وَقد عاينتم الْآيَة الْعُظْمَى ... لأية حَال تذخروا النثر والنظما) (وَقد سَاغَ فتح الْقُدس فِي كل منطق ... وشاع إِلَى أَن أسمع الأسل الصما) (حبا مَكَّة الْحسنى وثنى بِيَثْرِب ... وأطرب ذياك الضريح وَمَا ضما) (فليت فَتى الْخطاب شَاهد فتحهَا ... فَيشْهد أَن السَّيْف من يُوسُف أصمى) (وَمَا كَانَ إِلَّا الدَّاء أعيا دواؤه ... وَغير الحسام العضب لَا يحسن الحسما) (وَأصْبح ثغر الدّين جذلان باسما ... وألسنة الأغماد توسعه لثما) (سلو السَّاحِل المغشي عَن سطواته ... فَمَا كَانَ إِلَّا ساحلا صَادف اليما) وَله من قصيدة أُخْرَى فِي السُّلْطَان (عصفت بِهِ ريح الخطوب زعارعا ... فلقين طودا لَا تخف أناته) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 (هُوَ منقذ الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... طَالَتْ فَمَا وجد الشفا شكاته) (بَيت تأسس بِالسُّكُونِ وَإِنَّمَا ... عِنْد الزحاف تحركت سكناته) (أمشتت الْأَعْدَاء وَهِي جحافل ... عَن شَمل دين جمعت أشتاته) (أُوتيت عزما فِي الحروب مُسَددًا ... لَا زيغه يخْشَى وَلَا هفواته) (أَحْسَنت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق ويثرب ... وَلَك الفعال كَثِيرَة حَسَنَاته) (هذي سيوفك مُحرمَات دونه ... لبكائهن تبسمت حجراته) وَله من قصيدة أُخْرَى (هُوَ الفاتح الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... تحامته سَادَات الدنا ومسودها) (فَضِيلَة فتح كَانَ ثَانِي خَليفَة ... من الْقَوْم مبديها وَأَنت معيدها) وَله من قصيدة فِي بعض أقَارِب السُّلْطَان (أَلَسْت من الْقَوْم الألى بسيوفهم ... ثنوا صَخْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس مَسْجِدا) وللعماد الْكَاتِب من قصيدة مدت بهَا الْملك الْأَفْضَل (والقدس أعضل داؤه من قبلكُمْ ... فوفيتم بشفاء ذَاك المعضل) (درج الْمُلُوك على تمني فَتحه ... زَمنا وغلتهم بِهِ لم تبلل) (وأتى زمانكم فَأمكن آخرا ... مَا قد تعذر فِي الزَّمَان الأول) (مَا كَانَ قطّ وَلَا يكون كفتحكم ... للقدس فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبل) (أوجدتم مِنْهُ الَّذِي عدم الورى ... وفعلتم فِي الْفَتْح مَا لم يفعل) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 (أَيدي الْمُلُوك تقاصرت عَن مفخر ... طلتم بِهِ فبلوا بعض الأنمل) (أحييتم شرع الْكِرَام وَلم يزل ... نصر المحق بكم وقهر الْمُبْطل) وَله من قصيدة فِي مدح الْملك الْمُؤَيد مَسْعُود بن صَلَاح الدّين (وَكم لبني صَلَاح الدّين فِينَا ... على الْإِسْلَام من حق تَأَكد) (وَإِن لَهُم على الْأَمْلَاك طرا ... بِفَتْح الْقُدس فضلا لَيْسَ يجْحَد) وَله من أُخْرَى فِي مدح الْملك الظَّاهِر غَازِي (هم الْمُلُوك ذَوُو بَأْس ومكرمة ... إِن سالموا أمنُوا أَو حَاربُوا خيفوا) (أغناهم الْقُدس عَن قَول الورى فتحت ... عكا وصيدا وبيروت وأرسوف) (جَيش الفرنج إِذا لَاقَى سوابقهم ... كانه جبل بِالرِّيحِ منسوف) وقرأت على شَيخنَا أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي رَحمَه الله من جملَة قصيدة مدح بهَا بعض ولد السُّلْطَان أَظُنهُ الْملك المحسن ظهير الدّين أَحْمد بن صَلَاح الدّين رحمهمَا الله (ملك بِهِ وَأَبِيهِ يفتخر الْعلَا ... ويفوق فخرهما السها والفرقدا) (مَا يُوسُف مِمَّن يُقَاس بحاتم ... أَنى وَقد وهب الْحُصُون وأصفدا) (أَو أَن يُقَال كَأَنَّهُ يَوْم الوغى ... والروع كالأسد الهصور إِذا عدا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 (أَو من يشبه جوده بغمامة ... أَو من يُقَال لمثله غمر الردا) (بل مَالك الدُّنْيَا ومالىء رحبها ... خيلا ورجلا ناصرا دين الْهدى) (ومخلص الْبَيْت الْمُقَدّس بَعْدَمَا ... رفع الصَّلِيب على ذراه ومجدا) (وَمن الْمُلُوك الصَّيْد تلقاهم إِذا ... رفع السرادق راكعين وَسجدا) (وَبِه أَتَى الْبَيْت الْحَرَام وفوده ... من كل فج آمِنين المردا) (من بعد مَا درست معالم سبله ... دهرا وَعز لخوفها أَن يقصدا) فصل فِي صفة إِقَامَة الْجُمُعَة بالأقصى شرفه الله تَعَالَى فِي رَابِع شعْبَان ثامن يَوْم الْفَتْح وَقد وهم مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه فِيمَا قرأته بِخَطِّهِ فَإِنَّهُ قَالَ فتح صَلَاح الدّين بَيت الْمُقَدّس وخطب على الْمِنْبَر فِيهِ بِنَفسِهِ وَصلى فِيهِ وَلبس خلعة سَوْدَاء وَلم يكن السُّلْطَان هُوَ الَّذِي بَاشر الْخطْبَة على مَا سَنذكرُهُ وَقد تقدم أَن يَوْم الْفَتْح وَإِن كَانَ يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن الْوَقْت ضَاقَ عَن إِقَامَة فرض صَلَاة الْجُمُعَة فِيهِ قَالَ الْعِمَاد لما تسلم السُّلْطَان الْقُدس أَمر بِإِظْهَار الْمِحْرَاب وَكَانَ الداوية قد بنوا فِي وَجهه جدارا وتركوه للغلة هريا وَقيل كَانُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 اتخذوه مستراحا عُدْوانًا وبغيا وَكَانُوا قد بنوا من غربي الْقبْلَة دَارا وسيعة وكنيسة رفيعة فأوعز بِرَفْع ذَلِك الْحجاب وكشف النقاب عَن عروس الْمِحْرَاب وَهدم مَا قدامه من الْأَبْنِيَة وتنظيف مَا حوله من الأفنية بِحَيْثُ يجْتَمع النَّاس للْجُمُعَة فِي الْعَرَصَة المتسعة وَنصب الْمِنْبَر وَأظْهر الْمِحْرَاب المطهر وَنقض مَا أحدثوه بَين السَّوَارِي وفرشوا تِلْكَ البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الْحصْر والبواري وعلقت الْقَنَادِيل وتلي التَّنْزِيل وَحقّ الْحق وَبَطلَت الأباطيل وَتَوَلَّى الْفرْقَان وعزل الْإِنْجِيل وصفت السجادات وصفت الْعِبَادَات وأقيمت الصَّلَوَات وأديمت الدَّعْوَات وتجلت البركات وانجلت الكربات وانجابت الغيابات وانثابت الهدايات وتليت الْآيَات وأعليت الرَّايَات ونطق الْأَذَان وخرس الناقوس وَحضر المؤذنون وَغَابَ القسوس وَزَالَ العبوس والبوس وَطَابَتْ الأنفاس والنفوس وَأَقْبَلت السُّعُود وأدبرت النحوس وَعَاد الْإِيمَان الْغَرِيب مِنْهُ إِلَى موطنه وَطلب الْفضل من معدنه وَورد الْقُرَّاء وقرىء الأوراد وَاجْتمعَ الزهاد والعباد والأبدال والأوتاد وَعبد الْوَاحِد ووحد العابد وتوافد الرَّاكِع والساجد والخاشع والواجد والزاهي والزاهد وَالْحَاكِم وَالشَّاهِد والجاهد والمجاهد والقائم والقاعد والمتهجد والساهد والزائر والوافد وصدح الْمِنْبَر وصدع الْمُذكر وانبعث المعشر وَذكر الْبَعْث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 والمحشر وأملى الْحفاظ وابكى الوعاظ وتذاكر الْعلمَاء وتناظر الْفُقَهَاء وتحدثت الروَاة وروى المحدثون وتحنف الهداة وَهدى المتحنفون وأخلص الداعون ودعا المخلصون وَأخذ بالعزيمة المترخصون ولخص الْمُفَسِّرُونَ وَفسّر الملخصون وانتدى الْفُضَلَاء وانتدب الخطباء وَكثر المتوحشون للخطابة المتوشحون بالإصابة المعروفون بالفصاحة الموصوفون بالحصافة فَمَا فيهم إِلَّا من خطب الرُّتْبَة ورتب الْخطْبَة وَأَنْشَأَ معنى شائقا ووشى لفظا رائقا وَسوى كلَاما بالموضع لائقا وروى مبتكرا من البلاغة فائقا وَفِيهِمْ من عرض عَليّ خطبَته وَطلب مني نصبته وَتمنى أَن ترجح فضيلته وتنجح وسيلته وتسبق منيته فِيهَا أمنيتهم وَكلهمْ طَال إِلَى الالتهاء بهَا عُنُقه وسال من الالتهاب عَلَيْهَا عرقه وَمَا مِنْهُم إِلَّا من يتأهب ويترقب ويتوسل ويتقرب وَفِيهِمْ من يتَعَرَّض ويتضرع ويتشوف ويتشفع وكل قد لبس وقاره وَوقر لِبَاسه وَضرب فِي أخماسه أسداسه وَرفع لهَذِهِ الرياسة راسه وَالسُّلْطَان لَا يعين وَلَا يبين وَلَا يخص وَلَا ينص وَمِنْهُم من يَقُول لَيْتَني خطبت فِي الْجُمُعَة الأولى وفزت بِالْيَدِ الطُّولى وَإِذا ظَفرت بطالع سعدي فَمَا أُبَالِي بِمن خطب بعدِي فَلَمَّا دخل يَوْم الْجُمُعَة رَابِع شعْبَان أصبح النَّاس يسْأَلُون فِي تعْيين الْخَطِيب السُّلْطَان وامتلأ الْجَامِع واحتفلت المجامع وتوجست الْأَبْصَار والمسامع وفاضت لرقة الْقُلُوب المدامع وراعت لحلية تِلْكَ الْحَالة وبهاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 تِلْكَ الْبَهْجَة الروائع وغصت بالسابقين إِلَيْهَا الْمَوَاضِع وتوسمت الْعُيُون وتقسمت الظنون وَقَالَ النَّاس هَذَا يَوْم كريم وَفضل عميم وموسم عَظِيم هَذَا يَوْم تجاب فِيهِ الدَّعْوَات وتصب البركات وتسال العبرات وتقال العثرات ويتيقظ الغافلون ويتعظ الْعَامِلُونَ وطوبى لمن عَاشَ حَتَّى حضر هَذَا الْيَوْم الَّذِي فِيهِ انْتَعش الْإِسْلَام وارتاش وَمَا أفضل هَذِه الطَّائِفَة الْحَاضِرَة والعصبة الطاهرة وَالْأمة الظَّاهِرَة وَمَا أكْرم هَذِه النُّصْرَة الناصرية والأسرة الإمامية والدولة العباسية والمملكة الأيوبية والدولة الصلاحية وَهل فِي بلد الْإِسْلَام أشرف من هَذِه الْجَمَاعَة الَّتِي شرفها الله بالتوفيق لهَذِهِ الطَّاعَة وَتَكَلَّمُوا فِيمَن يخْطب وَلمن يكون المنصب وتفاوضوا فِي التَّفْوِيض وتحدثوا بالتصريح والتعريض والأعلام تعلى والمنبر يكسى ويجلى والأصوات ترْتَفع وَالْجَمَاعَات تَجْتَمِع والأفواج تزدحم والأمواج تلتطم وللعارفين من الضجيج مَا فِي عَرَفَات للحجيج حَتَّى حَان الزَّوَال وَزَالَ الِاعْتِدَال وحيعل الدَّاعِي وَأعجل السَّاعِي نصب السُّلْطَان الْخَطِيب بنصه وَأَبَان عَن اخْتِيَاره بعد فحصه وأوعز إِلَى القَاضِي محيي الدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن زكي الدّين عَليّ الْقرشِي بِأَن يرقى ذَلِك المرقى وَترك جباه البَاقِينَ بتقديمه عرقى فأعرته من عِنْدِي أهبه سَوْدَاء من تشريف الْخلَافَة حَتَّى يكمل لَهُ شرف الْإِفَاضَة وَالْإِضَافَة فرقي الْعود وَلَقي السُّعُود واهتزت أعطاف الْمِنْبَر واعتزت أَطْرَاف المعشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وخطب وأنصتوا ونطق وسكتوا وأفصح وأعرب وأبدع وَأغْرب وأعجز وأعجب وأوجز وأسهب وَوعظ فِي خطبتيه وخطب بموعظتيه وَأَبَان عَن فضل الْبَيْت الْمُقَدّس وتقديسه وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى من أول تأسيسه وتطهيره بعد تنجيسه وإخراس ناقوسه وَإِخْرَاج قسيسه ودعا للخليفة وَالسُّلْطَان وَختم بقوله تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} وَنزل وَصلى فِي الْمِحْرَاب وافتتح بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أم الْكتاب فَأم بِتِلْكَ الْأمة وَتمّ نزُول الرَّحْمَة وكمل وُصُول النِّعْمَة وَلما قضيت الصَّلَاة انْتَشَر النَّاس واشتهر الإيناس وانعقد الْإِجْمَاع واطرد الْقيَاس وَكَانَ قد نصب للوعظ تجاه الْقبْلَة سَرِير ليفرعه كَبِير فَجَلَسَ عَلَيْهِ زين الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن نجا فَذكر من خَافَ وَمن رجا وَمن سعد وَمن شقي وَمن هلك وَمن نجا وَخَوف بِذِي الْحجَّة ذَوي الحجا وجلا بِنور عظاته من ظلم الشُّبُهَات مَا دجا وأتى بِكُل عظة للراقدين موقظة وللظالمين محفظة ولأولياء الله مرققة ولأعداء الله مُغَلّظَة وضج المتباكون وعج المتشاكون ورقت الْقُلُوب وحقت الكروب وتصاعدت النعرات وتحدرت العبرات وَتَابَ المذنبون وأناب المتحوبون وَصَاح التوابون وناح الأوابون وَجَرت حالات جلت وجلوات حلت ودعوات علت وضراعات قبلت وفرص من الْولَايَة الإلهية انتهزت وحصص من الْعِنَايَة الربانية أحرزت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وَصلى السُّلْطَان فِي قبَّة الصَّخْرَة والصفوف على سَعَة الصحن بهَا مُتَّصِلَة وَالْأمة إِلَى الله بدوام نَصره مبتهلة وَالْوُجُوه الموجهة إِلَى الْقبْلَة عَلَيْهِ مقبلة وَالْأَيْدِي إِلَى الله مَرْفُوعَة والدعوات لَهُ مسموعة ثمَّ رتب فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى خَطِيبًا استمرت خطبَته واستقرت نصبته قلت هَذِه أَلْفَاظ الْعِمَاد فِي هَذَا الْفَصْل من كتاب الْفَتْح وَذكره فِي كتاب الْبَرْق بِعِبَارَة أُخْرَى تشْتَمل على فَوَائِد زَائِدَة وَفِي تكْرَار مَا تقدم أَيْضا بِغَيْر تِلْكَ الْعبارَة فَائِدَة فَإِنَّهَا معَان جليلة كلما كررت حلت فصل قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة التالية لجمعة الْفَتْح تقدم السُّلْطَان فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى ببسط العراص وإخلائها لأهل الْإِخْلَاص وتنظيفها من الأدناس وكنس مَا فِي أرجائها من الأرجاس وَقد كَانَ سبق أمره من مبدأ الْأَمر بهدم مَا هُنَاكَ من أبنية الْكفْر وإبراز الْمِحْرَاب الْقَدِيم وإعادة مَوْضِعه إِلَى الْوَضع الْكَرِيم فقد كَانَ الداوية بنوا غربية دَارا وادخلوه فِيهَا وخلطوه بمبانيها وَاتَّخذُوا مِنْهُ جانبا مستراحا للأعلال وجانبا هريا للغلال فَأمر فِي العاجل بكشف قناعه وَرفع الوضيع من أوضاعه وَنقل مَا وَقع من أنقاضه وَنقض مَا اعتور ذَلِك الْجَوْهَر النفيس من أعراضه حَتَّى طهر مَوضِع الْمِنْبَر والمحراب وَاسْتظْهر بِإِزَالَة مَا قدامه من الْحجاب وَاجْتمعَ الْخلق فِي ذَلِك الْأُسْبُوع على تَفْرِيق ذَلِك الْهدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 الْمَجْمُوع وتعاونوا حَتَّى كشفوه ونظفوه ورشوه وفرشوه وَكَانَ قد أَمر باتخاذ مِنْبَر فِي تِلْكَ الْأَيَّام فنجزوه وركبوه وَلما أَصْبَحْنَا يَوْم الْجُمُعَة وجدنَا الْعِلَل مزاحة والهمم مراحة والخواطر إِلَى وردهَا ملتاحة مرتاحة وَهُنَاكَ فضلاء بلغاء وعلماء أتقياء وكل مِنْهُم قد سبق بِخطْبَة الْخطْبَة وأمل الْفَوْز بفضيلة تِلْكَ الرُّتْبَة وَأعد لذَلِك الْمقَام مقَالا ونشط بشقشقة فَصَاحَته من قرم حصافته عقَالًا حَتَّى إِذا حيعل الدَّاعِي وَتعين الْفَرْض على السَّاعِي حضر السُّلْطَان للصَّلَاة قبَّة الصَّخْرَة بادية على أساريره أسرار سروره بالأسرة وامتلأت تِلْكَ العراص والصحون واستعبرت للفرح بِمَا يسره الله الْعُيُون وآن لدين الله أَن تقضى لَهُ الدُّيُون وَتَفُك الرهون ووجلت الْقُلُوب وخشعت الْأَصْوَات وَحسنت الظنون وَعين السُّلْطَان القَاضِي محيي الدّين أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي الزكي بن الزكي للصَّلَاة وَالْخطْبَة وَفرع تِلْكَ الرُّتْبَة فَصَعدَ وَسعد وَحمد وَأحمد وَأَدت الْمعَانِي الشَّرِيفَة أَلْفَاظه وَنبهَ الأقاصي والأداني إيقاظه وجلا المسامع وجلت المدامع وأتى بالخطبتين المفروضتين على الْوَجْه الْمَشْرُوع والمنهج الْمَتْبُوع وَالشّرط الْمَوْضُوع وَذكر فِي الْفَتْح الْبكر مَا اقتض بِهِ أبكار الأستعارات بأبدع البراعات وأبرع الْعبارَات وصدح بِالصّدقِ ونطق بِالْحَقِّ وفاز بِالسَّبقِ وَحَازَ الْفَضِيلَة على فضلاء الغرب والشرق فَهُوَ لنشر الْمعَانِي أضم خطيب لَهُ بنشر الْمَعَالِي أضمخ طيب فَأَيْنَ قس فِي عكاظة من قِيَاس أَلْفَاظه وَأَيْنَ سحبان من سجعاته وَابْن نَبَاته من نَبَاته وَلَو عاشا لافتقرا إِلَى فقره واحتقرا أعراضهما عِنْد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 جوهره ودعا لأمير الْمُؤمنِينَ ثمَّ لسلطان الْمُسلمين وَنزل وَقَامَ إِمَامًا أكمل بِصَلَاتِهِ الْفَرْض وأرضى بسمت دعواته والطمأنينة فِي ركعاته وسجداته أهل السَّمَاء وَالْأَرْض وسر السُّلْطَان بنصبه وَرَفعه وامتلأ صَدره حبورا مِنْهُ بجلاء بَصَره وسَمعه فقد أخذت بالأبصار أشعة أنوار الْخطْبَة فِي سَواد الأهبة وعظمت أخطار المهابة فِي خواطر الْمحبَّة وكرمت سرائر الزلفى إِلَى الله والقربة ثمَّ رتب السُّلْطَان بعده خَطِيبًا تستمر إِقَامَته للْجمع وَالْجَمَاعَات وتستقر ملازمته لأَدَاء الصَّلَوَات وَلما قضيت الصَّلَاة تِلْكَ الْجُمُعَة نصب سَرِير للوعظ أبقى تِلْكَ الْأمة المجتمعة وَتقدم السُّلْطَان إِلَى زين الدّين الْوَاعِظ ليفرع السرير وينفع بعظاته الصَّغِير وَالْكَبِير وَحضر الْمجْلس بمرأى مِنْهُ ومسمع فَكَانَ أنور مجْلِس ومجلى وأشرف جمع وَمجمع فحقق ورقق وَأشْهد وأشهق وحلب بعباراته الحلوة العبرات وشار الْعَسَل بمعسول الإشارات وَبشر الْبشر بِشَارَة البشارات وَذكر الْفَتْح وبكارته والقدس وطهارته وَالدّين وجسارته وَالْكفْر وخسارته وَالْقدر وإعانته وَالظفر وإبانته والصخرة وإصراخها والروعة وإفراخها وَالنَّار وصراطها وَالْقِيَامَة وأشراطها وَالرَّحْمَة وبابها من بَاب الرَّحْمَة وَالْجنَّة وجناها لهَذِهِ الزحمة وَمَا أعده الله لهَذِهِ الطَّائِفَة وَمَا أنزلهُ من الْأَمْن على الْقُلُوب الخائفة وَوصف ببلاغته مَا لَا يبلغ إِلَيْهِ نطق الْأَلْسِنَة الواصفة وَوصف الْجِهَاد وفرائضه وفضائله وَالْخَيْر ودلائله والنجح ووسائله وَالشَّرْع ومسائله والذنب وغوائله وإحسان السُّلْطَان وفواضله وَالْبَحْر وساحله وَالدّين وَحقه وَالْكفْر وباطله وَكَانَ يَوْمًا راجحا وسوما رابحا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 فصل فِي إِيرَاد مَا خطب بِهِ القَاضِي محيي الدّين رَحمَه الله قَالَ الْعِمَاد وخطب القَاضِي محيي الدّين بن زكي الدّين أَربع خطب فِي أَربع جمع كلهَا من إنشائه وأودعها سر بلاغة عنيت بإفشائه وَذكرت الْخطْبَة الأولى وَيَد الفصاحة فِيهَا طولى افتتاحها بِهَذِهِ الْآيَات {فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} {الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين} {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور} {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} الْآيَة {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب} {قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى} {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} {الْحَمد لله فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَالْخطْبَة الْحَمد لله معز الْإِسْلَام بنصره ومذل الشّرك بقهره ومصرف الْأُمُور بأَمْره ومديم النعم بشكره ومستدرج الْكَافرين بمكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 الَّذِي قدر الْأَيَّام دولا بعدله وَجعل الْعَاقِبَة لِلْمُتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله وَأظْهر دينه على الدّين كُله القاهر فَوق عباده فَلَا يمانع وَالظَّاهِر على خليقته فَلَا يُنَازع وَالْأَمر بِمَا يَشَاء فَلَا يُرَاجع وَالْحَاكِم بِمَا يُرِيد فَلَا يدافع أَحْمَده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه وَنَصره لأنصاره وتطهيره بَيته الْمُقَدّس من أدناس الشّرك وأوضاره حمد من استشعر الْحَمد بَاطِن سره وَظَاهر جهاره وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْأَحَد الصَّمد الَّذِي {لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} شَهَادَة من طهر بِالتَّوْحِيدِ قلبه وأرضى بِهِ ربه وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله رَافع الشَّك وداحض الشّرك وراحض الْإِفْك الَّذِي أسرِي بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى هَذَا الْمَسْجِد الْأَقْصَى وعرج بِهِ مِنْهُ إِلَى السَّمَوَات الْعلَا إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى مَا زاع الْبَصَر وَمَا طَغى صلى الله عَلَيْهِ وعَلى خَلِيفَته أبي بكر الصّديق السَّابِق إِلَى الْإِيمَان وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب أول من رفع عَن هَذَا الْبَيْت شعار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 الصلبان وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان ذِي النورين جَامع الْقُرْآن وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب مزلزل الشّرك ومكسر الْأَوْثَان وعَلى آله وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَيهَا النَّاس أَبْشِرُوا برضوان الله الَّذِي هُوَ الْغَايَة القصوى والدرجة الْعليا لما يسره الله على أَيْدِيكُم من اسْتِرْدَاد هَذِه الضَّالة من الْأمة الضَّالة وردهَا إِلَى مقرها من الْإِسْلَام بعد ابتذالها فِي أَيدي الْمُشْركين قَرِيبا من مئة عَام وتطهير هَذَا الْبَيْت الَّذِي أذن الله أَن يرفع وَأَن يذكر فِيهِ أُسَمِّهِ وإماطة الشّرك عَن طرقه بعد أَن أمتد عَلَيْهَا رواقه وَاسْتقر فِيهَا رسمه وَرفع قَوَاعِده بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ بني عَلَيْهِ وبالتقوى فَإِنَّهُ أسس على التَّقْوَى من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ فَهُوَ موطن أبيكم إِبْرَاهِيم ومعراج نَبِيكُم مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وقبلتكم الَّتِي كُنْتُم تصلونَ إِلَيْهَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَهُوَ مقرّ الْأَنْبِيَاء ومقصد الْأَوْلِيَاء ومفر الرُّسُل ومهبط الْوَحْي ومنزل تنزل الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ فِي أَرض الْمَحْشَر وصعيد المنشر وَهُوَ فِي الأَرْض المقدسة الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه الْمُبين وَهُوَ الْمَسْجِد الَّذِي صلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَلَائِكَةِ المقربين وَهُوَ الْبَلَد الَّذِي بعث الله إِلَيْهِ عَبده وَرَسُوله وكلمته الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروحه عِيسَى الَّذِي شرفه الله برسالته وَكَرمه بنبوته وَلم يزحزحه عَن رُتْبَة عبوديته فَقَالَ تَعَالَى {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله} وَقَالَ {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 وَهُوَ أول الْقبْلَتَيْنِ وَثَانِي المسجدين وثالث الْحَرَمَيْنِ لَا تشد الرّحال بعد المسجدين إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا تعقد الخناصر بعد الموطنين إِلَّا عَلَيْهِ وَلَوْلَا أَنكُمْ مِمَّن اخْتَارَهُ الله من عباده واصطفاه من سكان بِلَاده لما خصكم بِهَذِهِ الْفَضِيلَة الَّتِي لَا يجاريكم فِيهَا مجار وَلَا يباريكم فِي شرفها مبار فطوبى لكم من جَيش ظَهرت على أَيْدِيكُم المعجزات النَّبَوِيَّة والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية جددتم لِلْإِسْلَامِ أَيَّام الْقَادِسِيَّة والوقعات اليرموكية والمنازلات الْخَيْبَرِية والهجمات الخالدية فجزاكم الله عَن نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْجَزَاء وشكر لكم مَا بذلتموه من مهجكم فِي مقارعة الْأَعْدَاء وَتقبل مِنْكُم مَا تقربتم بِهِ إِلَيْهِ من مهراق الدِّمَاء وأثابكم الْجنَّة فَهِيَ دَار السُّعَدَاء فاقدروا رحمكم الله هَذِه النِّعْمَة حق قدرهَا وَقومُوا لله تَعَالَى بِوَاجِب شكرها فَلهُ النِّعْمَة عَلَيْكُم بتخصيصكم بِهَذِهِ النِّعْمَة وترشيحكم لهَذِهِ الْخدمَة فَهَذَا هُوَ الْفَتْح الَّذِي فتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء وتبلجت بأنواره وُجُوه الظلماء وابتهج بِهِ الْمَلَائِكَة المقربون وقر بِهِ عينا الْأَنْبِيَاء والمرسلون فَمَاذَا عَلَيْكُم من النِّعْمَة بِأَن جعلكُمْ الْجَيْش الَّذِي يفتح عَلَيْهِ الْبَيْت الْمُقَدّس فِي آخر الزَّمَان والجند الَّذِي تقوم بسيوفهم بعد فَتْرَة من النُّبُوَّة أَعْلَام الْإِيمَان فيوشك أَن تكون التهاني بِهِ بَين أهل الخضراء أَكثر من التهاني بِهِ بَين أهل الغبراء أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي ذكره الله فِي كِتَابه وَنَصّ عَلَيْهِ فِي خطابه فَقَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي باركنا حوله) الْآيَة أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي عَظمته الْمُلُوك وأثنت عَلَيْهِ الرُّسُل وتليت فِيهِ الْكتب الْأَرْبَعَة الْمنزلَة من إِلَهكُم عز وَجل أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي أمسك الله عز وَجل الشَّمْس على يُوشَع لأَجله أَن تغرب وباعد بَين خطواتها ليتيسر فَتحه وَيقرب أَلَيْسَ هُوَ الْبَيْت الَّذِي أَمر الله مُوسَى أَن يَأْمر قومه باستنقاذه فَلم يجبهُ إِلَّا رجلَانِ وَغَضب عَلَيْهِم لأَجله فألقاهم فِي التيه عُقُوبَة للعصيان فاحمدوا الله الَّذِي أمضى عزائمكم لما نكلت عَنهُ بَنو إِسْرَائِيل وَقد فَضلهمْ على الْعَالمين ووفقكم لما خذل فِيهِ من كَانَ قبلكُمْ من الْأُمَم الماضين وَجمع لأَجله كلمتكم وَكَانَت شَتَّى وأغناكم بِمَا أمضته كَانَ وَقد عَن سَوف وَحَتَّى فليهنكم أَن الله قد ذكركُمْ بِهِ فِيمَن عِنْده وجعلكم بعد أَن كُنْتُم جُنُودا لأهويتكم جنده وشكركم الْمَلَائِكَة المنزلون على مَا أهديتم إِلَى هَذَا الْبَيْت من طيب التَّوْحِيد وَنشر التَّقْدِيس والتحميد وَمَا أمطتم عَن طرقهم فِيهِ من أَذَى الشّرك والتثليث والاعتقاد الْفَاجِر الْخَبيث فَالْآن يسْتَغْفر لكم أَمْلَاك السَّمَوَات وَتصلي عَلَيْكُم الصَّلَوَات المباركات فاحفظوا رحمكم الله هَذِه الموهبة فِيكُم واحرسوا هَذِه النِّعْمَة عنْدكُمْ بتقوى الله الَّتِي من تمسك بهَا سلم وَمن اعْتصمَ بعروتها نجا وعصم وإحذروا من اتِّبَاع الْهوى وموافقة الردى وَرُجُوع الْقَهْقَرَى والنكول عَن العدى وخذوا فِي انتهاز الفرصة وَإِزَالَة مَا بَقِي من الغصة وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده وبيعوا عباد الله أَنفسكُم فِي رِضَاهُ إِذْ جعلكُمْ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 عباده وَإِيَّاكُم أَن يستزلكم الشَّيْطَان وَأَن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أَن هَذَا النَّصْر بسيوفكم الْحداد وبخيولكم الْجِيَاد وبجلادكم فِي مَوَاطِن الجلاد لَا وَالله {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم} واحذروا عباد الله بعد أَن شرفكم بِهَذَا الْفَتْح الْجَلِيل والمنح الجزيل وخصكم بِهَذَا الْفَتْح الْمُبين وأعلق أَيْدِيكُم بحبله المتين أَن تقترفوا كَبِيرا من مناهيه وَأَن تَأْتُوا عَظِيما من مَعَاصيه فتكونوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا وَالَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين وَالْجهَاد الْجِهَاد فَهُوَ من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم انصروا الله ينصركم اذْكروا الله يذكركم اشكروا الله يزدكم ويشكركم جدوا فِي حسم الدَّاء وَقطع شأفه الْأَعْدَاء وتطهير بَقِيَّة الأَرْض الَّتِي أغضبت الله وَرَسُوله واقطعوا فروع الْكفْر واجتثوا أُصُوله فقد نادت الْأَيَّام بالثارات الإسلامية وَالْملَّة المحمدية الله أكبر فتح الله وَنصر غلب الله وقهر أذلّ الله من كفر وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن هَذِه فرْصَة فانتهزوها وفريسة فناجزوها ومهمة فأخرجوا لَهَا هممكم وبرزوها وسيروا إِلَيْهَا سَرَايَا عزماتكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وجهزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أَظْفَرَكُم الله بِهَذَا الْعَدو المخذول وهم مثلكُمْ أَو يزِيدُونَ فَكيف وَقد أضحى فِي قبالة الْوَاحِد مِنْهُم مِنْكُم عشرُون وَقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} أعاننا الله وَإِيَّاكُم على اتِّبَاع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشر الْمُسلمين بنصر من عِنْده {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده} وَتَمام الْخطْبَة وَالْخطْبَة الثَّانِيَة قريب مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة وَقَالَ بعد الدُّعَاء للخليفة اللَّهُمَّ وأدم سُلْطَان عَبدك الخاضع لهيبتك الشاكر لنعمتك الْمُعْتَرف بموهبتك سَيْفك الْقَاطِع وشهابك اللامع والمحامي عَن دينك المدافع والذاب عَن حَرمك الممانع السَّيِّد الْأَجَل الْملك النَّاصِر جَامع كلمة الْإِيمَان وقامع عَبدة الصلبان صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين مطهر الْبَيْت الْمُقَدّس أبي المظفر يُوسُف بن أَيُّوب محيي دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ اللَّهُمَّ عَم بدولته البسيطة وَاجعَل ملائكتك براياته مُحِيطَة وَأحسن عَن الدّين الحنيفي جزاءه واشكر عَن الْملَّة المحمدية عزمه ومضاءه اللَّهُمَّ أبق لِلْإِسْلَامِ مهجته ووق للْإيمَان حوزته وانشر فِي الْمَشَارِق والمغارب دَعوته اللَّهُمَّ كَمَا فتحت على يَده الْبَيْت الْمُقَدّس بعد أَن ظنت الظنون وابتلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 الْمُؤْمِنُونَ فافتح على يَده أداني الأَرْض وأقاصيها وَملكه صياصي الْكَفَرَة ونواصيها فَلَا تَلقاهُ مِنْهُم كَتِيبَة إِلَّا مزقها وَلَا جمَاعَة إِلَّا فرقها وَلَا طَائِفَة بعد طَائِفَة إِلَّا ألحقها بِمن سبقها اللَّهُمَّ اشكر عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَعْيه وأنفذ فِي الْمَشَارِق والمغارب أمره وَنَهْيه اللَّهُمَّ وَأصْلح بِهِ أوساط الْبِلَاد وأطرافها وأرجاء الممالك وأكنافها اللَّهُمَّ ذلل بِهِ معاطس الْكفَّار وأرغم بِهِ أنوف الْفجار وانشر ذوائب ملكه على الْأَمْصَار وابثث سَرَايَا جُنُوده فِي سبل الأقطار اللَّهُمَّ ثَبت الْملك فِيهِ وَفِي عقبه إِلَى يَوْم الدّين واحفظه فِي بنيه وَبني أَبِيه الْمُلُوك الميامين وَاشْدُدْ عضده ببقائهم واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم اللَّهُمَّ كَمَا أجريت على يَده فِي الْإِسْلَام هَذِه الْحَسَنَة الَّتِي تبقى على الْأَيَّام وتتخلد على مر الشُّهُور والأعوام فارزقه الْملك الأبدي الَّذِي لَا ينْفد فِي دَار الْمُتَّقِينَ وأجب دعاءه فِي قَوْله (رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين) ثمَّ دَعَا بِمَا جرت بِهِ الْعَادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 فصل فِي الْمِنْبَر قَالَ الْعِمَاد لما فتحنا الْقُدس أَمر بتعمير الْمِحْرَاب وترخيمه وتكميل حسنه وتتميمه وَوضع مِنْبَر رسمي فِي أول يَوْم قضى بِهِ الْفَرْض واحتيج بعد ذَلِك إِلَى مِنْبَر حسن رائق بحسنه لَائِق وبجماله شائق وبكماله فائق فَذكر السُّلْطَان الْمِنْبَر الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله لبيت الْمُقَدّس قبل فَتحه بنيف وَعشْرين سنة وأودعه لَهُ من ذخائره عِنْد الله حَسَنَة فَأمر أَن يكْتب إِلَى حلب وَيطْلب فَحمل وَعمل على مَا أَمر بِهِ وامتثل فجَاء كالروض النَّضِير والوشي الحبير عديم النظير وَكَانَ من حَدِيث إحداثه مَا ألهم الله نور الدّين رَحمَه الله لَا رتياح خاطره إِلَيْهِ وانبعاثه وَقد أوقع فِي روعه من النُّور الفائض من ينبوع ضلوعه أَن الْبَيْت الْمُقَدّس بعده سيفتح وَأَن صُدُور الْمُسلمين الحرجة لأَجله ستشرح وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله الملهمين وعباده الْمُحدثين الْمُكرمين وَكَانَ بحلب نجار يعرف بالأختريني من ضَيْعَة تعرف بأخترين لم يلف لَهُ فِي براعته وصنعته قرين فَأمره نور الدّين بِعَمَل مِنْبَر لبيت الله الْمُقَدّس وَقَالَ لَهُ اجْتهد أَن تَأتي بِهِ على النَّعْت المهندم والنحت المهندس فَجمع الصناع وَأحسن الإبداع وأتمه فِي سِنِين وَاسْتحق بِحسن إحسانه التحسين وَالنَّاس يَقُولُونَ هَذَا أَمر مُسْتَحِيل وَحكم مَاله دَلِيل وَذكر جميل وَأجر جزيل لَو كَانَ إِلَيْهِ سَبِيل وهيهات أَن يعود الْقُدس إِلَى الْإِسْلَام وَيَقْضِي الإصباح فِيهِ على الإظلام فَإِن الفرنج مستولون مستعلون ويكثرون على الْأَيَّام وَلَا يقلون أما ناصفونا على أَكثر أَعمال حوران وَقَابَلُوا بالْكفْر الْإِيمَان وَقد أعجزوا مُلُوك الْإِسْلَام إِلَى الْيَوْم فَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 أصعب وأتعب وقم الْقَوْم وَيَقُول من لَهُ قُوَّة الْيَقِين وَعرف أَن الله كافل بنصره الدّين اصْبِرُوا فلسر هَذِه الْأمة نبأ وَهُوَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {ويصنع الْفلك وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ} وَلم يزل لنُور الدّين فِي قلبه من الدّين نور وَأثر تقواه لِلْمُتقين مأثور أزهد الْعباد وأعبد الزهاد وَمن الْأَوْلِيَاء الْأَبْرَار والأتقياء الأخيار وَقد نظر بِنور الفراسة أَن الْفَتْح قريب وَأَن الله لدعائه وَلَو بعد وَفَاته مُجيب ويزيده قُوَّة عزمه جدا وتمده بحياء الْحَيَاة الربانية مدا قد طهره الله من الْعَيْب وأطلعه على سر الْغَيْب ونزهه من الريب لنقاء الجيب وشملت الْإِسْلَام بعده بركته وختمت بافتتاح ملك صَلَاح الدّين مَمْلَكَته وَهُوَ الَّذِي رباه ولياه وأحبه وحباه وَهُوَ الَّذِي سنّ الْفَتْح وسنى النجح وَاتفقَ أَن جَامع حلب فِي الْأَيَّام النورية احْتَرَقَ فاحتيج إِلَى مِنْبَر ينصب فنصب ذَلِك الْمِنْبَر وَحسن المنظر وَتَوَلَّى حِينَئِذٍ النجار عمل الْمِحْرَاب على الرقم وشابه الْمِحْرَاب الْمِنْبَر فِي الرَّسْم وَمن رأى حلب الْآن شَاهد مِنْهُ على مِثَال الْمِنْبَر الْقُدسِي الْإِحْسَان وَلما فتح السُّلْطَان الْقُدس تقدم بِحمْلِهِ وَصَحَّ بِهِ فِي الْمِحْرَاب الْأَقْصَى اجْتِمَاع شَمله وَظهر سر الْكَرَامَة فِي فوز الْإِسْلَام بالسلامة وتناصرت الألسن بِالدُّعَاءِ لنُور الدّين بِالرَّحْمَةِ ولصلاح الدّين بالنصرة وَالنعْمَة وَقَالَ الْعِمَاد فِي مَوضِع آخر من كتاب الْبَرْق وَكَانَ الْملك الْعَادِل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله فِي عَهده عرف بِنور فراسته فتح الْبَيْت الْمُقَدّس من بعده فَأمر فِي حلب باتخاذ مِنْبَر للقدس تَعب النجارون والصناع والمهندسون فِيهِ سِنِين وأبدعوا فِي تركيبه الإحكام والتزيين وَأنْفق فِي إبداع محاسنه وإبداء مزاينه ألوفا وَكَانَ لترديد النّظر فِيهِ على الْأَيَّام ألوفا وَبَقِي ذَلِك الْمِنْبَر بِجَامِع حلب مَنْصُوبًا سَيْفا فِي صوان الْحِفْظ مقروبا حَتَّى أَمر السُّلْطَان فِي هَذَا الْوَقْت بِالْوَفَاءِ بِالنذرِ النوري وَنقل الْمِنْبَر إِلَى مَوْضِعه الْقُدسِي فَعرفت بذلك كرامات نور الدّين الَّتِي أشرق نورها بعده بسنين وَكَانَ من الْمُحْسِنِينَ الَّذين قَالَ الله فيهم {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} قلت وَهَذَا الَّذِي نسبه إِلَى نور الدّين رَحمَه الله من أَنه كَرَامَة من كراماته لَائِق بمحله ومنزلته من الدّين وَلَيْسَ بالبعيد من مثل ذَلِك وَكَانَ رَحمَه الله قد بَدَت لَهُ مخايل ذَلِك بِمَا تسنى لَهُ من فتح الْبِلَاد الشامية والمصرية وقهر الْعَدو بَين يَدَيْهِ مرَارًا وَكَانَ فتح الْقُدس فِي همته من اول ملكه فَإِن لم يكن حصل لَهُ مُبَاشرَة فقد حصل لَهُ تسببا فَإِن الفاتحين لَهُ رَحِمهم الله بنوا على مَا أسسه لَهُم من الْملك وَالتَّدْبِير وهم أمراؤه وَأَتْبَاعه وأجناده وأشياعه ثمَّ يحْتَمل أَن يكون رَحمَه الله وقف على مَا ذكره أَبُو الحكم بن برجان الأندلسي فِي تَفْسِيره فَإِنَّهُ أخبر عَن فتح الْقُدس فِي السّنة الَّتِي فتح فِيهَا وَعمر نور الدّين إِذْ ذَاك إِحْدَى عشرَة سنة وَقد رَأَيْت أَنا ذَلِك فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 كِتَابه ذكر فِي تَفْسِير أول سُورَة الرّوم أَن الْبَيْت الْمُقَدّس استولت عَلَيْهِ الرّوم عَام سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَأَشَارَ إِلَى أَنه يبْقى بِأَيْدِيهِم إِلَى تَمام خمس مئة وَثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة قَالَ وَنحن فِي عَام اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخمْس مئة فَلم يستبعد نور الدّين رَحمَه الله لما وقف عَلَيْهِ أَن يَمْتَد عمره إِلَيْهِ فَهَيَّأَ أَسبَابه حَتَّى مِنْبَر الخطابة فِيهِ تقربا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا يبديه من طَاعَته ويخفيه وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو الحكم الأندلسي فِي تَفْسِيره من عجائب مَا اتّفق لهَذِهِ الْأمة المرحومة وَقد تكلم عَلَيْهِ شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد فِي تَفْسِيره الأول فَقَالَ وَقد وَقع فِي تَفْسِير أبي الحكم الأندلسي فِي أول سُورَة الرّوم إِخْبَار عَن فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَأَنه ينْزع من أَيدي النَّصَارَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ وَقَالَ لي بعض الْفُقَهَاء إِنَّه استخرج ذَلِك من فَاتِحَة السُّورَة قَالَ فَأخذت السُّورَة وكشفت عَن ذَلِك فَلم أره أَخذ ذَلِك من الْحُرُوف وَإِنَّمَا أَخذه فِيمَا زعم من قَوْله تَعَالَى {غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} فَبنى الْأَمر على التَّارِيخ كَمَا يفعل المنجمون ثمَّ ذكر انهم يغلبُونَ فِي سنة كَذَا ويغلبون فِي سنة كَذَا على مَا تَقْتَضِيه دوائر التَّقْدِير قَالَ وَهَذِه نجامة وَافَقت إِصَابَة إِن صَحَّ أَنه قَالَ ذَلِك قبل وُقُوعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وَكَانَ فِي كِتَابه قبل حُدُوثه وَلَيْسَ ذَلِك بمأخوذ من الْحُرُوف وَلَا هُوَ من قبيل الكرامات أَيْضا فَإِن الْكَرَامَة لَا تكتسب بِحِسَاب وَلَا تفْتَقر إِلَى تَارِيخ وَلذَلِك لم يُوَافق الصَّوَاب لما أدَار الْحساب على الْقِرَاءَة الْأُخْرَى الشاذة الَّتِي هِيَ بِفَتْح الْغَيْن من {غلبت الرّوم} ويوضح ذَلِك أَنه قَالَ فِي سُورَة الْقدر لَو علم الْوَقْت الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن لعلم الْوَقْت الَّذِي يرفع فِيهِ فصل قَالَ الْعِمَاد وَأما الصَّخْرَة المقدسة فَإِن الفرنج كَانُوا بنوا عَلَيْهَا كَنِيسَة وأعادوا رسومها الْقَدِيمَة دريسة وستروها بالأبنية وعوجوا أوضاعها بزعم التَّسْوِيَة وكسوها صورا هِيَ أشنع من التعرية وملؤوها بتصاريف التصاوير ونبتوا فِي ترخيمها أشباه الْخَنَازِير وَجعلُوا المذبح لَهَا مذبحا وَلم يتْركُوا فِيهَا للأيدي المتبركة وَلَا للعيون المدركة ملمسا وَلَا مطمحا وَقد زينوها بالصور والتماثيل وعينوا بهَا مَوَاضِع الرهبان ومحط الْإِنْجِيل وكملوا بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 أَسبَاب التَّعْظِيم والتبجيل وأفردوا فِيهَا لموْضِع الْقدَم قبَّة صَغِيرَة مذهبَة بأعمدة الرخام منصبة وَقَالُوا مَحل قدم الْمَسِيح وَهُوَ مقَام التَّقْدِيس وَالتَّسْبِيح وَكَانَ فِيهَا صور الْأَنْعَام منبتة فِي الرخام والصخرة الْمَقْصُودَة المزورة بِمَا عَلَيْهَا من الْأَبْنِيَة مستورة وبتلك الْكَنِيسَة المعمورة مغمورة فَأمر السُّلْطَان بكشف نقابها وَرفع حجابها وحسر لثامها وقشر رخامها ومحي صورها ورحض وضرها وَنقض أبنيتها وَنقل حجرها وإبرازها للزائرين وإظهارها للناظرين فَبَانَت من الشين وَبَانَتْ للعين وحبيت بالقبل وفديت بالمقل فَعَادَت كَمَا كَانَت فِي الزَّمن الْقَدِيم وَشهِدت حِين شوهدت بحسبها الْكَرِيم وَمَا كَانَ يظْهر مِنْهَا قبل الْفَتْح إِلَّا قِطْعَة من تحتهَا وَقد أَسَاءَ الْكفْر فِي نحتها وَظَهَرت الْآن احسن ظُهُور وسفرت أَيمن سفور وأشرقت الْقَنَادِيل من فَوْقهَا نورا على نور وعملت عَلَيْهَا حَظِيرَة من شبابيك حَدِيد والاعتناء بهَا إِلَى كل يَوْم فِي مزِيد قَالَ وَكَانَ الفرنج قد قطعُوا من الصَّخْرَة قطعا وحملوا مِنْهَا إِلَى قسطنطينية ونقلوا مِنْهَا إِلَى صقلية وَقيل باعوها بوزنها ذَهَبا وَاتَّخذُوا ذَلِك مكسبا وَلما طهرت ظَهرت موَاضعهَا وَقطعت الْقُلُوب لما بَانَتْ مقاطعها فَهِيَ الْآن مبرزة للعيون بحزها بَاقِيَة على الْأَيَّام بعزها مصونة لِلْإِسْلَامِ فِي خدرها وحرزها وَقَالَ فِي الْبَرْق وَلما ظَهرت الصَّخْرَة وجدناها وَقد أبقت لَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 النوائب حزوزا وأودعت ضميرها من شَرّ أهل الشّرك سرا مرموزا فَإِن الفرنج نقلوا إِلَى بِلَادهمْ قطعا وأبدعوا فِيهَا بدعا حَتَّى قيل إِنَّهَا بِيعَتْ بوزنها ذَهَبا وأفضى الْأَمر بهَا أَن يكون حجرها منتهبا فغطاها بعض مُلُوكهمْ إشفاقا عَلَيْهَا لِئَلَّا تمتد يَد ضيم إِلَيْهَا فأبقت حزوزها فِي الْقلب حزازات وَسَار حَدِيث حادثها فِي الْآفَاق بروايات وإجازات وتولاها بعد ذَلِك الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى فصانها بشبابيك من حَدِيد وَثَبت أَرْكَانهَا بِكُل تسديد وَقَالَ فِي الْفَتْح ورتب السُّلْطَان فِي قبَّة الصَّخْرَة إِمَامًا حسنا ووقف عَلَيْهِ دَارا وأرضا وبستانا وَحمل إِلَيْهَا وَإِلَى محراب الْمَسْجِد الْأَقْصَى مصاحف وختمات وربعات معظمات لَا تزَال بَين أَيدي الزائرين على كراسيها مَرْفُوعَة وعَلى أسرتها مَوْضُوعَة ورتب لهَذِهِ الْقبَّة خَاصَّة وللبيت الْمُقَدّس عَامَّة قومه من العارفين العاكفين القائمين بِالْعبَادَة الواقفين فَمَا أبهج لَيْلهَا وَقد حضرت الجموع وزهرت الشموع وَبَان الْخُشُوع ودان الخضوع وَدرت من الْمُتَّقِينَ الدُّمُوع واقشعرت من العارفين الضلوع فهناك كل ولي يعبد ربه ويؤمل بره وكل أَشْعَث اغبر لَا يؤبه لَهُ لَو أقسم على الله لَأَبَره وَهُنَاكَ كل من يحيي اللَّيْل ويقومه ويسمو بِالْحَقِّ ويسومه وَهُنَاكَ كل من يخْتم الْقُرْآن ويرتله ويطرد الشَّيْطَان ويبطله وَمن عَرفته لمعرفته الأسحار وَمن ألفته لتهجده الأوراد والأذكار وَمَا أسعد نَهَارهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 حِين تسْتَقْبل الْمَلَائِكَة زوارها وتلحق الشَّمْس أنوارها وَتحمل الْقُلُوب إِلَيْهَا أسرارها قَالَ وتنافس مُلُوك بني أَيُّوب فِيمَا يؤثرونه فِيهَا من الْآثَار الْحَسَنَة وَفِيمَا يجمع لَهُم ود الْقُلُوب وشكر الْأَلْسِنَة فَمَا مِنْهُم إِلَّا من أجمل وَأحسن وَفعل مَا أمكن وجلى وَبَين وحلى وزين وأتى الْعَادِل أَبُو بكر بِكُل صنع بكر وتقي الدّين عمر بِكُل مَا عَم وغمر وَمن جملَة أَفعاله المشكورة ومكرماته الْمَشْهُورَة أَنه حضر يَوْمًا فِي قبَّة الصَّخْرَة وَمَعَهُ من مَاء الْورْد أحمال وَلأَجل الصَّدَقَة والرفد مَال فانتهز فرْصَة هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي ابتكرها وَتَوَلَّى بِيَدِهِ كنس تِلْكَ الساحات والعراص ثمَّ غسلهَا بِالْمَاءِ مرَارًا حَتَّى تطهرت ثمَّ أتبع المَاء بِمَاء الْورْد صبا حَتَّى تعطرت وَكَذَلِكَ طهر حيطانها وَغسل جدرانها ثمَّ أَتَى بمجامر الطّيب فتبخرت وتضوعت ثمَّ فرق ذَلِك المَال فِيهَا على ذَوي الِاسْتِحْقَاق وافتخر بِأَن فاق الْكِرَام بِالْإِنْفَاقِ وَجَاء الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بِكُل نور جلي وكرم ملي وَبسط بهَا الصنيعة وفرش فِيهَا الْبسط الرفيعة وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك مَا اعْتَمدهُ من بِنَاء أسوار الْقُدس وحفر خنادقه وأعجز بِمَا أعجب من سوابق معروفه ولواحقه وَأما الْملك الْعَزِيز عُثْمَان فَإِنَّهُ لما عَاد إِلَى مصر ترك خزانَة سلاحه بالقدس كلهَا وَلم ير بعد حُصُولهَا بِهِ نقلهَا وَكَانَت أحمالا بأموال وأثقالا كجبال وذخائر وافية وعددا واقية وَكَانَ من جملَة مَا شَرط على الفرنج أَن يتْركُوا لنا خيلهم وعدتهم فتوفر بذلك عدد الْبَلَد وَاسْتغْنى بِهِ عَمَّا يصل من المدد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 قَالَ وَأما محراب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خَارج الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَإِنَّهُ فِي حصن عِنْد بَاب الْمَدِينَة منيع وَمَوْضِع عَال رفيع وَهُوَ الْحصن الَّذِي يُقيم بِهِ الْوَالِي فرتب السُّلْطَان لَهُ إِمَامًا ومؤذنين وقواما وَهُوَ مثابة الصَّالِحين ومزار الغادين والرائحين فأحياه وجدده ونهج لقاصديه جدده وَأمر بعمارة جَمِيع الْمَسَاجِد وصون الْمشَاهد وإنجاح الْمَقَاصِد وإصفاء الْمَوَارِد للقاصد والوارد وَكَانَ مَوضِع هَذِه القلعة دَار دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام وَكَانَ ينتابهما فيهمَا الْأَنَام وَكَانَ الْملك الْعَادِل نازلا فِي كَنِيسَة صهيون وأجناده على بَابهَا مخيمون وفاوض السُّلْطَان جُلَسَاؤُهُ من الْعلمَاء الْأَبْرَار والأتقياء الأخيار فِي مدرسة للفقهاء الشَّافِعِيَّة ورباطا للصلحاء الصُّوفِيَّة فعين للمدرسة الْكَنِيسَة الْمَعْرُوفَة بصند حنة عِنْد بَاب أَسْبَاط وَعين دَار البطرك وَهُوَ بِقرب كَنِيسَة قمامة للرباط ووقف عَلَيْهِمَا وقوفا وأسدى بذلك إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعْرُوفا وارتاد أَيْضا مدارس للطوائف ليضيفها إِلَى مَا أولاه من العوارف فصل قَالَ فِي الْبَرْق وَشرع الفرنج فِي إخلاء الْبيُوت وَبيع مَا ذخروه من الأثاث والقوت وأمهلوا حَتَّى باعوا بأرخص الْأَثْمَان وَكَانَ خُرُوجهَا شَبِيها بالمجان لَا سِيمَا مَا تعذر لثقله نَقله وصعب حمله وَكَانَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {كم تركُوا من جنَّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين كَذَلِك وأورثناها قوما آخَرين} فباعوا مَا تهَيَّأ على البيع إِخْرَاجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 رخيصا وابقوا مَا لم يَجدوا من تَركه محيصا وغلبوا على مَا فِي الدّور من الماعون والمذخور وَأما الصناديق والأخشاب والرخام وَمَا يجْرِي مجْراهَا مِمَّا توفرت مِنْهُ الْأَنْوَاع والأقسام فَإِنَّهَا بقيت بِحَالِهَا متروكة وَلمن يسكن تِلْكَ الْأَمَاكِن مَمْلُوكَة وَكَانَت قمامة وَهِي كنيستهم الْعُظْمَى ومتعبدهم الَّتِي يَجْتَمعُونَ بهَا للدّين وَالدُّنْيَا مفروشة بالبسط الرفاع مكسوة بالستور النسيج وَالْحَرِير الممزوج من سَائِر الْأَنْوَاع وَالَّذِي يذكرُونَ أَنه قبر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام محلى بصفائح الْفضة وَالْعين ومصوغات الذَّهَب واللجين مصفح بالنضار مثقل من نفائس الْحلِيّ بالأوقار فَأَعَادَهُ البطرك مِنْهُ عاطلا وَتَركه طللا ماثلا فَقلت للسُّلْطَان هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أخذُوا الْأمان على أَمْوَالهم فَمَا بَال هَذَا المَال وَهُوَ بألوف يحملونه فِي أثقالهم فَقَالَ هم مَا يعْرفُونَ هَذَا التَّأْوِيل وينسبون إِلَيْنَا لما حرمناه التَّحْلِيل وَيَقُولُونَ إِنَّهُم لم يحفظوا الْعَهْد وَلم يلحظوا العقد وَنحن نجريهم على ظَاهر الْأمان ونغريهم بِذكر محَاسِن الْإِيمَان وَكَانَت المهلة أَنه من عجز بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَن أَدَاء مَا عَلَيْهِ من القطيعة ضرب عَلَيْهِ الرّقّ بِحكم الشريطة ووفق الشَّرِيعَة فتولاهم النواب بعد خروجنا من الْقُدس وَبَقِي مِنْهُم مِمَّن ضرب عَلَيْهِ الرّقّ زهاء خَمْسَة عشر ألفا فِي الْحَبْس ففرقهم السُّلْطَان وَتَنَاهَتْ بهم الْبلدَانِ وَحصل لي مِنْهُم سَبَايَا نسوان وصبيان وَذَلِكَ بعد أَن وفى ابْن بارزان بِالضَّمَانِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وَأدّى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَأخرج من ذكر أَنه فَقير بِحَسب الْإِمْكَان وَكَانُوا تَقْدِير ثَمَانِيَة عشر ألفا واعتقد أَنه لم يبْق فَقير وَبَقِي بعد أَدَائِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ كثير وَأما النَّصَارَى الساكنون بالقدس فَإِنَّهُم بذلوا مَعَ القطيعة الْجِزْيَة ليسكنوا وَلَا يزعجوا ويؤمنوا وَلَا يخرجُوا فأقروا بِوَاسِطَة الْفَقِيه وَأقر من قسوس النَّصَارَى أَرْبَعَة قوام لقمامة وأعفاهم وَلم يكلفهم الغرامة وَأقَام بِمَدِينَة الْقُدس وأعمالها مِنْهُم أُلُوف فشمروا وعمروا وعرشوا وغرسوا فَلهم مِنْهَا مجان وقطوف وَكَانَت لأمراء الفرنج ومقدميهم مجاورة للصخرة وَعند بَاب الرَّحْمَة مَقْبرَة وقباب معمرة فعفينا آثارها ورحضنا أوضارها وَقَالَ فِي الْفَتْح وَأمر السُّلْطَان بإغلاق كَنِيسَة قمامة وَحرم على النَّصَارَى زيارتها وَلَا إلمامة وتفاوض النَّاس عِنْده فِيهَا فَمنهمْ من أَشَارَ بهدم مبانيها وتعفية آثارها وتعمية نهج مزارها وَقَالُوا إِذا هدمت ونبشت الْمقْبرَة وعفيت وحرثت أرْضهَا وَدَمرَ طولهَا وعرضها انْقَطَعت عَنْهَا أَمْدَاد الزوار وانحسمت عَن قَصدهَا مواد أطماع أهل النَّار وَمهما استمرت الْعِمَارَة استمرت الزِّيَارَة وَقَالَ أَكثر النَّاس لَا فَائِدَة فِي هدمها وهدها فَإِن متعبدهم مَوضِع الصَّلِيب والقبر لَا مَا يُشَاهد من الْبناء وَلَا يَنْقَطِع عَنْهَا قصد أَجنَاس النَّصْرَانِيَّة وَلَو نسفت أرْضهَا فِي السَّمَاء وَلما فتح أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْقُدس فِي صدر الْإِسْلَام أقرهم على هَذَا الْمَكَان وَلم يَأْمر بهدم الْبُنيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 قَالَ وَأقَام السُّلْطَان على الْقُدس حَتَّى تسلم مَا بقربها من حصون واستباح كل مَا للكفر بهَا من مصون ثمَّ عمد إِلَى مَا جمعه ففرقه وَأخرجه فِي ذَوي الِاسْتِحْقَاق وأنفقه فَأَكْثرُوا عذله على بذله واستكثروا مَا فضه بفضله فَقَالَ كَيفَ أمنع الْحق مستحقيه وَهَذَا الَّذِي أنفقهُ هُوَ الَّذِي أبقيه وَإِذا قبله الْمُسْتَحق فالمنة لَهُ عَليّ فِيهِ فَإِنَّهُ يخلصني من الْأَمَانَة ويطلقني من وثاقها فَإِن الَّذِي فِي يَدي وَدِيعَة أحفظها لِذَوي اسْتِحْقَاقهَا وَقيل لَهُ لَو ذخرت هَذَا المَال لِلْمَالِ فَقَالَ أملي قوي من الله الكافل بنجح الآمال وَجمع الأسراء المطلقين وَكَانُوا ألوفا من الْمُسلمين فكساهم وأساهم وواساهم وأذهب أساهم فَانْطَلق كل مِنْهُم إِلَى وَطنه ووطره ناجيا من ضره وضرره وَقَالَ فِي الْبَرْق وَسمعت الْملك الْعَادِل يَوْمًا فِي أثْنَاء حَدِيثه فِي نَادِيه وَهُوَ يجْرِي ذكر إفراط السُّلْطَان فِي أياديه يَقُول إِنِّي توليت اسْتِيفَاء قطيعة الْقُدس فأنفذت لَهُ لَيْلَة سبعين ألف دِينَار فَجَاءَنِي خازنه بكرَة وَقَالَ نُرِيد الْيَوْم مَا نخرجهُ فِي الْإِنْفَاق فَمَا عندنَا مِمَّا كَانَ بالْأَمْس بَاقٍ فنفذت لَهُ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار أُخْرَى فِي الْحَال ففرقتها على رجال الرَّجَاء يَد النوال فصل قَالَ الْعِمَاد وللحكيم أبي الْفضل قصائد قدسيات طوال كَثِيرَة الْفَوَائِد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 قلت قد وقفت على بَعْضهَا وَقدم قبل ذَلِك أَن قَالَ لم أزل من أول مَا ولي الْملك النَّاصِر الْأَمر فِي مصر أعلم أَنه مؤيد بعناية من الله سُبْحَانَهُ فامتدحته فِي سنة خمس وَسِتِّينَ بقصيدة تنيف على مئة بَيت مِنْهَا فِي التباشير (لتظفرن بِمَا لم يحوه ملك ... أَبَا المظفر حظا خطه الْأَزَل) (دَلِيل ذَلِك آراء لَك اقترنت ... بالحزم والعزم لم يخصص بهَا الأول) وفيهَا (قد سَاد إسكندر أهل الزَّمَان مَعًا ... فِي سنّ عشْرين وامتدت لَهُ الْحِيَل) (وافى الثَّلَاثِينَ والأقطار أجمعها ... طَوْعًا لَهُ وملوك الأَرْض والملل) قَالَ ومدحته سنة سبع وَسِتِّينَ عِنْد قفوله من غزَاة غَزَّة بقصيدة مِنْهَا (أَبَا المظفر فاهنأ حَظّ منتخب ... أُخْرَى الزَّمَان لدين كَاد ينبتر) (زهدت فِيمَا سبى الْأَمْلَاك منكدرا ... علما بِملك نعيم مَاله كدر) (وطبت نفسا عَن الدُّنْيَا وزخرفها ... وَجئْت تقدم حَيْثُ الهول والخطر) قَالَ ومدحته سنة ثَمَان وَسِتِّينَ بقصيدة تنيف أَيْضا على مئة بَيت مِنْهَا فِي التباشير (أرى الرَّايَة الصَّفْرَاء يَرْمِي اصطفاقها ... بني أصفر بالراعفات اللهاذم) (فتسبي فلسطينا وتجبي جزائرا ... وتملك من يونان أَرض الأساحم) (وتعنوا لَهَا الْأَمْلَاك شرقا ومغربا ... بذا حكمت حذاق أهل الْمَلَاحِم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 قَالَ وَبعثت إِلَيْهِ فِي غرَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ على حمص بقصيدة هناته فِيهَا بالعافية مِنْهَا (فيا ملكا لم يبْق للدّين غَيره ... وهت عمد الْإِسْلَام فاشدد لَهَا دعما) (فشؤم فريق الشّرك فِي الشَّام طَائِر ... فَقص جناحيه بأقصى القوى قصما) (خصصت بتمكين فَعم العدى ردى ... فَإِنَّهُم يَأْجُوج أفرغ بهَا ردما) (إِذا صفرت من آل الْأَصْفَر ساحة ... الْمُقَدّس ضاهت فتح أم الْقرى قدما) (فَذا الْمَسْجِد الْأَقْصَى وهمتك العلى ... وعزمتك القصوى ورميتك الأصمى) (فَمَا هُوَ إِلَّا أَن تهم وَقد أَتَت ... فتوح كَمَا فاض الخضم الَّذِي طما) (وَإِن أَنْت لم ترد الفرنج بوقعة ... فَمن ذَا الَّذِي يقوى لبنيانها هدما) (وَمَا كل حِين تمكن الْمَرْء فرْصَة ... وَلَا كل حَال أمكنت تَقْتَضِي غنما) (وَلَيْسَ كفتح الْقُدس منية قَادر ... وَمَا آن يلقاها سوى يُوسُف حزما) قَالَ وأنشأت قصيدة أُخْرَى فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَحَضَرت بهَا بَين يَدَيْهِ مِنْهَا (الله أكبر أَرض الْقُدس قد صفرت ... من آل الْأَصْفَر إِذْ حِين بِهِ حانوا) (أَسْبَاط يُوسُف من مصر أَتَوا وَلَهُم ... من غير تيه بهَا سلوى وأمنان) (لَهُم فلسطين إِن يخرج عداتهم ... عَنْهَا وَإِلَّا عدت بيض وخرصان) (حَتَّى بنيت رتاج الْقُدس منفرجا ... ويصعد الصَّخْرَة الغراء عُثْمَان) (واستقبل النَّاصِر الْمِحْرَاب يعبد من ... قد تمّ من وعده فتح وَإِمْكَان) (وَجَاز بعض بنيه الْبَحْر تجفل من ... غاراته الرّوم والصقلاب واللان) (حَتَّى يوحد أهل الشّرك قاطبة ... ويرهب القَوْل بالثالوث رُهْبَان) (وَلابْن أَيُّوب فِي الإفرنج ملحمة ... دلّت عَلَيْهَا أساطير وحسبان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 (وَمن أَحَق بِملك الأَرْض من ملك ... كَأَنَّهُ ملك فِي الْخلق حنان) ثمَّ قَالَ وَأما القصيدة الفتحية الناصرية فأولها (فِي بَاطِن الْغَيْب مَا لَا تدْرك الْفِكر ... فذو البصيرة فِي الْأَحْدَاث يعْتَبر) (مَالِي أرى ملك الإفرنج فِي قفص ... أَيْن القواضب والعسالة السمر) (والاسبتار إِلَى الداوية التأموا ... كَأَنَّهُمْ سد يَأْجُوج إِذا اشتجروا) (وَالنَّفس مولعة عجبا بسيرتها ... وَفِي الْمَقَادِير مَا تسلى بِهِ السّير) (يَا وقْعَة التل مَا أبقيت من عجب ... جحافل لم يفت من جمعهَا بشر) (وَيَا ضحى السبت مَا للْقَوْم قد سبتوا ... تهودوا أم بكأس الطعْن قد سَكِرُوا) (وَيَا ضريح شُعَيْب مَالهم جثموا ... كمدين أم لقوا رجفا بِمَا كفرُوا) (حطوا بحطين ملاكا فيا عجبا ... فِي سَاعَة زَالَ ذَاك الْملك وَالْقدر) (أَهْوى إِلَيْهِم صَلَاح الدّين مفترسا ... وَهُوَ الغضنفر أعدى ظفره الظفر) (أمْلى عَلَيْهِم فصاروا وسط كفته ... كسرب طير حواها القانص الذّكر) (وأنجز الله للسُّلْطَان موعده ... ونذره فِي كفور دينه البطر) (وعاين الْملك الإبرنس فِي دَمه ... فَمَاتَ حَيا وَحيا وَهُوَ يعْتَذر) (رأى مليكا مُلُوك الأَرْض تتبعه ... والنجم يَخْدمه وَالشَّمْس وَالْقَمَر) (إِذا بدا تبهر الْأَعْيَان هيبته ... ويختفي وَهُوَ فِي الأذهان مشتهر) (تقدم الجيل فِي أُخْرَى الزَّمَان بِهِ ... على صُدُور علا من قبلنَا صدرُوا) (أما رَأَيْتُمْ فتوح الْقَادِسِيَّة فِي ... أكناف لوبية تجلى وَذَا عمر) (وَالْحق يعرس والطغيان منتحب ... وَالْكفْر يطمس وَالْإِيمَان مزدهر) (هَذَا المليك الَّذِي بشرى النَّبِي بِهِ ... فِي فتْنَة الْبَغي لِلْإِسْلَامِ ينتصر) (أنسى ملاحم ذِي القرنين وَاعْتَرَفت ... لَهُ الروَاة بِمَا لم ينمه أثر) (أعين إسكندر بالخضر وَهُوَ لَهُ ... عون من الله يَسْتَغْنِي بِهِ الْخضر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 (وصنع ذِي الْعَرْش إبداع بِلَا سَبَب ... فَلَا تقل كَيفَ هَذَا الْحَادِث الْخطر) (بَينا سباياه تجلى فِي دمشق إِذا ... ملك الفرنج مَعَ الأتراك محتجر) (إزاءه زعماء الساحلين مَعًا ... مصفدين بِحَبل الْقَهْر قد أَسرُّوا) (يتلوهم صلبوت سيق منتكسا ... وَحَوله كل قسيس لَهُ زبر) (وَنحن فِي ذَا إِذا طير صَحِيفَته ... بِفَتْح عكا الَّتِي سدت بهَا الثغر) (تغزو أساطيلنا مِنْهَا صقلية ... فيذعر الرّوم والصقلاب والخزر) (من ذَا يَقُول لَعَلَّ الْقُدس منفتح ... إِلَيْك بل سبت يَعْقُوب لَهُ السّفر) (أَبُو المظفر ينويها فَخذ سفنا ... من بَاب عكا إِلَى طرطوس تَنْتَشِر) (يسبي فرنجة من أقطارها وَله ... مَعَ الْمَجُوس حروب قدحها سعر) (وَبَعض أبنائه بالقدس منتدب ... وَبَعْضهمْ رومة الْكُبْرَى لَهُ وطر) (براية تخرق الأَرْض الْكَبِيرَة فِي ... جمع تَقول لَهُ الْأَجْسَام لَا وزر) (قَالُوا أطلت مديحا فِيهِ قلت كَمَا ... بدأت فالصب للمحبوب مدكر) وَأما القصائد القدسيات الَّتِي لَهُ فَمِنْهَا التائية وَقد تقدم ذكرهَا وَمِنْهَا القدسية الْكُبْرَى عَددهَا مئة وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ بَيْتا أَولهَا (تصاريف دهر أعربت لمن اهْتَدَى ... وبسطة أَمر أغربت من تمردا) (لسرعة فتح الْقُدس سر مغيب ... وَفِي صرعة الإفرنج مُعْتَبر بدا) (أَتَوا بجبال أبرمت لإسارنا ... فسقناهم فِيهَا قطينا محددا) (وساموا تجارًا تشترينا غواليا ... فبعناهم بالرخص جَهرا على الندا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 (وجروا جيوشا كالسيول على الصوى ... فاضت غثاء فِي البطاح مبددا) (وَقَالُوا مُلُوك الأَرْض طوع قيادنا ... إِذا الْكل مِنْهُم فِي الْقُيُود معبدًا) (وَقد أقطع الكند الْعرَاق موقعا ... فأودع سجنا وسط جلق موصدا) (وَأقسم أَن يسْقِي بدجلة خيله ... فَمَا ورد الْأُرْدُن إِلَّا مصفدا) (فكم واثق خجلان قهقه خَصمه ... وَكم سَابق عجلَان قهقر مقْعدا) (أَتَى الكند من بيسان يحمي قمامة ... فَكَانَ تقضى ملكه قبل يبتدا) (فَمَا عقد الرَّايَات إِلَّا محللا ... وَلَا حلل الرَّايَات إِلَّا معقدا) (ووقعة يَوْم التل إِذْ قبضت بِهِ ... جبابرة الإفرنج حيرى وشردا) (عَلَيْهِم من الْبلوى سرادق ذلة ... وَمن ذل مَاتَت نَفسه فتقيدا) (ترى المنسر الديوي يلقِي سلاحه ... وينساق مَا بَين السبايا ملهدا) (يباعون أسرابا شرائح أحبل ... كشكة عُصْفُور من الريش جردا) (فَتلقى نَصَارَى جلق فِي مآتم ... يسرونها إِلَّا شجى وتنهدا) (ألم تَرَ للسُّلْطَان صدق نَذره ... دم الغادر الإبرنس فاقتيد أربدا) (وباشره بِالْقَتْلِ وسط خبائه ... وعاينه الكند المليك فأرعدا) (وَضَاقَتْ بِنَفس القومص الأَرْض مهربا ... فأدركه الْمَوْت المفاجىء مكمدا) (وَمَا طرق الأسماع من عهد آدم ... كملحمة التل الَّتِي تلت العدى) (أَتَوا وَاديا مَا زَالَ يَنْفِي خبائثا ... ويصفي بعقبى الدَّار طَائِفَة الْهدى) (بِهِ جثمت أَصْحَاب ليكة وَهِي فِي ... ذراه وَذَا فِيهِ شُعَيْب تأيدا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 (أرى الله فِيهِ معجز النَّصْر مخلصا ... لأمر صَلَاح الدّين فِي النَّاس مخلدا) (وأعدى جنود الرعب تردى عداته ... وَسلم جمع الْمُسلمين مجندا) (وَمن عجب خَمْسُونَ ألف مقَاتل ... سبتهم جيوش لَيْسَ فِيهَا من ارتدا) وللرشيد بن بدر النابلسي (هَذَا الَّذِي كَانَت الآمال تنْتَظر ... فليوف لله أَقوام بِمَا نذروا) (بِمثل ذَا الْفَتْح لَا وَالله مَا حكيت ... فِي سالف الدَّهْر أَخْبَار وَلَا سير) (حِين بِهِ حَان هلك الْمُشْركين فيا ... لله طيب العشايا مِنْهُ وَالْبكْر) (الْآن قرت جنوب فِي مضاجعها ... ونام من لم يزل حلفا لَهُ السهر) (يَا بهجة الْقُدس إِن أضحى بِهِ علم ... الْإِسْلَام من بعد طي وَهُوَ منتشر) (يَا نور مَسْجده الْأَقْصَى وَقد رفعت ... بعد الصَّلِيب بِهِ الْآيَات والسور) (شتان مَا بَين ناقوس يدان بِهِ ... وَبَين ذِي منطق يصغي لَهُ الْحجر) (الله أكبر صَوت تقشعر لَهُ ... شم الذرى وتكاد الأَرْض تنفطر) (يَا مَالك الأَرْض مهدها فَمَا أحد ... سواك من قَائِم للمهد ينْتَظر) (مَا اخضر هَذَا الطّراز الساحلي ثرى ... إِلَّا لتعلو بِهِ أعلامك الصفر) (أضحى بَنو الْأَصْفَر الأنكاس موعظة ... فِيهَا لأعدائك الْآيَات وَالنّذر) (صَارُوا حَدِيثا وَكَانُوا قبل حَادِثَة ... على الورى يتقيها البدو والحضر) (سلبتهم دولة الدُّنْيَا وعيشتها ... حَتَّى لقد ضجرت من وفدهم سقر) (هَذَا الَّذِي سلب الإفرنج دولتهم ... وملكهم يَا مُلُوك الأَرْض فاعتبروا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 (مراكز مَا اختطاها الْخَوْف مذ مئة ... عَاما وَلَا ريع أهلوها وَلَا ذعروا) (وَلم أصرح بأسماء الْبِلَاد فقد ... اسهبت وَالْقَائِل المنطيق يختصر) (يُغْنِيك مُجمل قولي عَن مفصله ... فِي لَفْظَة الْبَحْر معنى تَحْتَهُ الدُّرَر) وَهِي طَوِيلَة وَله من قصيدة أُخْرَى (ألمم بدار النَّاصِر الْملك الَّذِي ... فِي كَفه للجود سَبْعَة أبحر) (فَإِذا مَرَرْت بِملكه وفتوحه ... فاسخر بِمَا يرْوى عَن الْإِسْكَنْدَر) (وَإِذا بصرت بجأشه وجيوشه ... فاحث التُّرَاب على ذؤابة سنجر) (كسرت على كسْرَى لعدلك دولة ... قصرت مهابتها تطاول قَيْصر) وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة (أهْدى صَلَاح الدّين لِلْإِسْلَامِ إِذْ ... أردى قبيل الْكفْر مَا لم يكفر) (رب الْمَلَاحِم لم يؤرخ مثلهَا ... الْعلمَاء قدما فِي قديم الأعصر) (خلعت عَلَيْهِ خلعة الْملك الَّتِي ... زيدت بهاء بالطراز الْأَخْضَر) (راياته صفرا يردن وتنثني ... حمرا تمج نجيع آل الْأَصْفَر) (لم لم تدن شوس الْمُلُوك لَهُ وَقد ... ملك السواحل فِي ثَلَاثَة أشهر) (واستنقذ الْبَيْت المطهر عنْوَة ... من كل ذِي نجس بِكُل مطهر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 (وأريتهم لما التقى الْجَمْعَانِ ... بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس هول يَوْم الْمَحْشَر) (ورددت دين الله بعد قطوبه ... بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِوَجْه مُسْفِر) (وأعدت مَا أبداه قبلك فاتحا ... عَمْرو فَأَنت شَرِيكه فِي المتجر) (حَتَّى جمعت لمعشر الْإِسْلَام ... بَين الصَّخْرَة الْعُظْمَى وَبَين الْمشعر) (فلصخرة الْبَيْت الْمُقَدّس كفؤها ... الْحجر الْمفضل عِنْد أفضل معشر) (فَكَأَنَّهُ إِنْسَان عين صُورَة ... يلقاك أسوده بِمَعْنى أنور) فصل فِي حِصَار صور وَفتح هونين وَغير ذَلِك قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن السُّلْطَان مَا زَالَ مُقيما بِظَاهِر الْقُدس يُحَقّق الآمال وَيفرق الْأَمْوَال حَتَّى وَردت كتب سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب وَكَانَ نَائِب السُّلْطَان لصيدا وبيروت وهما مجاورتان لصور فَكتب يحرض السُّلْطَان على حِصَار صور فَرَحل السُّلْطَان عَن الْقُدس يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان وَأخذ صوب عكا وَسَبقه إِلَيْهَا الْأَفْضَل وتقي الدّين وودع السُّلْطَان وَلَده الْعَزِيز ورده إِلَى مصر فَكَانَ آخر عَهده بِهِ واستصحب السُّلْطَان أَخَاهُ الْعَادِل فوصلا إِلَى عكا مستهل رَمَضَان فَأصْلح من شَأْنهَا ثمَّ رَحل فَنزل على صور يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَمَضَان وخيم بِإِزَاءِ السُّور بَعيدا مِنْهُ على النَّهر ومعظم الْبَلَد فِي الْبَحْر وَهِي مَدِينَة حَصِينَة متوسطة فِي الْبَحْر كَأَنَّهَا سفينة وَكَانَ المركيس الَّذِي فِي صور قد حفر لَهَا خَنْدَقًا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وَبنى بواشيره وَأحكم فِي التَّعْمِير تَدْبيره وَاسْتظْهر بتكثير الْعدَد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وَالْعدَد واغتنم اشْتِغَال السُّلْطَان بِفَتْح الْقُدس فَأَقَامَ السُّلْطَان بِتِلْكَ الْمنزلَة على صور ثَلَاثَة عشر يَوْمًا حَتَّى تلاحقت الأمداد وَكَثُرت الْعدَد وآلات الْجِهَاد ورتبت المنجنيقات ثمَّ حول السُّلْطَان مضاربه إِلَى تل قريب من السُّور يشرف مِنْهُ ثمَّ حَاصَرَهُمْ وَقبل كلا من الْمُلُوك بِجَانِب يَكْفِيهِ مِنْهُم الْأَفْضَل والعادل وتقي الدّين فحاصروهم وضايقوهم وَوصل فِي تِلْكَ الْأَيَّام من حلب الْملك الظَّاهِر غَازِي ولد السُّلْطَان بعسكره الْحلَبِي فاستظهر السُّلْطَان بِهِ واستدعى الأسطول الْمصْرِيّ وَكَانَ بعكا فجَاء مِنْهُ عشرَة شواني وَكَانَ للفرنج فِي الْبَحْر مراكب وحراريق وفيهَا رُمَاة الجروخ والزنبوركات يرْمونَ من دنا من الْبَحْر فَلَمَّا جَاءَ أسطول السُّلْطَان استطال عَلَيْهَا وأبعدها فأحاط بهم الْمُسلمُونَ وقاتلوهم برا وبحرا فَبَيْنَمَا هم فِي أحلى ظفر وأهنأ ورد وَصدر إِذْ ملك الفرنج خَمْسَة من شواني الْمُسلمين وأسروا مقدميها ورئيسها عبد السَّلَام المغربي ومتوليه بدران الْفَارِس وَألقى جمَاعَة أنفسهم فِي الْبَحْر فَمن نَاجٍ وهالك وَذَلِكَ أَنهم سهروا تِلْكَ اللَّيْلَة بِإِزَاءِ ميناء صور إِلَى السحر ثمَّ غلبهم النّوم فَمَا انتبهوا إِلَّا والفرنج قد ركبتهم ونكبتهم فَأصْبح الْمُسلمُونَ وَقد وجموا وأتاهم من الْأَمر مَا لم يعلمُوا وَنفذ السُّلْطَان إِلَى المراكب الْبَاقِيَة أَن يَسِيرُوا إِلَى بيروت وَخَافَ عَلَيْهَا لقلتهَا أَن يستولي عَلَيْهَا عَبدة الطاغوت فنجا مِنْهَا شيني رَئِيس جبيل وَالْبَاقُونَ نظرُوا إِلَى الفرنج وَرَاءَهُمْ فَألْقوا أنفسهم فِي المَاء وَخَرجُوا إِلَى الْبر على وُجُوههم ثمَّ إِن الفرنج بعد هَذَا طمعت فَخرجت يَوْمًا وَقت الْعَصْر مستعدة لِلْقِتَالِ فالتقاهم الْمُسلمُونَ فَكَانَت الدائرة على الْكَافرين واسر مقدم كَبِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 لَهُم وَظن أَنه المركيس فسلمه السُّلْطَان إِلَى وَلَده الظَّاهِر ليحفظه فَضرب عُنُقه وَكَانَ اللَّيْل قد دخل فَلَمَّا أَصْبحُوا تبين لَهُم ان المركيس بعد فِي الْحَيَاة فطال حصاره حَتَّى ضجر كثير من أُمَرَاء الْمُسلمين لأَنهم رَأَوْا مَا لم يألفوه من تعسر الْفَتْح عَلَيْهِم فأشاروا على السُّلْطَان بالرحيل لِئَلَّا تفنى الرِّجَال وتقل الْأَمْوَال وَكَانَ الْبرد قد اشْتَدَّ عَلَيْهِم وَكَانَ رَأْي السُّلْطَان والأتقياء من الْأُمَرَاء كالفقيه عِيسَى وحسام الدّين طمان وَعز الدّين جرديك النوري الثَّبَات إِلَى الْفَتْح لِئَلَّا يضيع مَا تقدم من الْأَعْمَال وإنفاق الْأَمْوَال وَقَالَ السُّلْطَان قد هدمنا السُّور وقاربنا الْأُمُور فَاصْبِرُوا تُفْلِحُوا وَصَابِرُوا تفتحوا وَلَا تعجلوا فأظهروا الْمُوَافقَة وَفِي انفسهم مَا فِيهَا فَلم يصدقُوا الْقِتَال وتعللوا بِأَن الرِّجَال جرحى والعلوفات قد قلت فَلم يسع السُّلْطَان بعد ذَلِك إِلَّا الرحيل فَأمر بِنَقْل الأثقال فَحمل بَعْضهَا إِلَى صيدا وبيروت وأحرق الْبَاقِي لِئَلَّا يَنَالهُ الْعَدو ورحل فِي أخر شَوَّال وَهُوَ أول يَوْم من كانون الأول وَسَار تَقِيّ الدّين إِلَى دمشق على طَرِيق هونين واستصحب مَعَه عَسَاكِر الشرق وديار بكر والموصل والجزيرة وسنجار وماردين ورحل السُّلْطَان إِلَى عكا فوصلها فِي ثَلَاث مراحل لِأَنَّهُ سلك طَرِيق الناقورة وَهِي طَرِيق ضيقَة مطلة على الْبَحْر بهَا يضْرب الْمثل لَا يعبر بهَا إِلَّا جمل جمل فعبرت بهَا الأثقال والأحمال فِي أُسْبُوع وَكَانَ عين يَوْم رحيله من صور أُمَرَاء يُقِيمُونَ عَلَيْهَا إِلَى أَن يعرفوا عبور الثّقل وخيم السُّلْطَان عِنْد التل وَسَار الْعَادِل إِلَى مصر وَالظَّاهِر إِلَى حلب وَبدر الدّين دلدرم الياروقي إِلَى بِلَاده قَالَ وَفِي مُدَّة رحيل السُّلْطَان عَن صور جَاءَهُ خبر سيف الدّين مَحْمُود أخي عز الدّين جاولي أَنه اسْتشْهد فِي عفربلا تَحت حصن كَوْكَب كبسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 الفرنج فِيهَا لَيْلًا وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد بَقِي على السُّلْطَان بَعْدَمَا فتح من بِلَاد الْعَدو من جملَة أَعمال طبرية والغور حصنا صفد وكوكب وَكَانَ فِي صفد جَمْرَة الداوية وَفِي كَوْكَب جَمْرَة الاسبتارية فَاحْتَاجَ السُّلْطَان فِي فتحهما إِلَى المطاولة فَوكل بصفد جمَاعَة يعْرفُونَ بالناصرية مقدمهم مَسْعُود الصلتي ووكل بكوكب هَذَا الْأَمِير سيف الدّين مَحْمُودًا فَأَقَامَ فِي حصن عفربلا وَهُوَ قريب من حصن كَوْكَب ونغص على المقيمين فِيهِ الْمطعم وَالْمشْرَب وضيق عَلَيْهِم الْمَذْهَب إِلَى أَن دخل الشتَاء فاختلت الحراسة واعتلت السياسة فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة آخر شَوَّال وَكَانَت بَارِدَة ماطرة حرس أَصْحَاب سيف الدّين حَتَّى ضجروا فَغَلَبَهُمْ النعاس فَمَا استيقظوا إِلَّا وفرنج كَوْكَب عَلَيْهِم باركة فدافعوا عَن أنفسهم حَتَّى اسْتشْهدُوا واخذ الفرنج غنيمَة الْمُسلمين ودخلوا بهَا كَوْكَب وَكَانَ هَذَا الْأَمِير مَحْمُود ذَا دين متين وَمَكَان من النّسك مكين وَهُوَ يسهر اكثر ليله متهجدا وَقد جعل منزله مَسْجِدا فَجمع بَين التَّهَجُّد وَالْجهَاد وَكَانَ كثير الِاجْتِهَاد فَاغْتَمَّ السُّلْطَان بمصابه وَزَاد تألما إِلَى مابه وَتقدم إِلَى صارم الدّين قايماز النجمي أَن يرابط كَوْكَب فِي خمس مئة فَارس فَفعل وَلم يزل بهَا إِلَى ان فتحت كَمَا سياتي قَالَ وَفتحت هونين وَالسُّلْطَان محاصر صور وَكَانَ لما فتح تبنين قد امْتنعت عَلَيْهِ هونين فَوكل بهَا من رابطها وضايقها حَتَّى طلبُوا الْأمان وَجَاء خَبَرهَا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ على صور فنفذ الْأَمِير بدر الدّين دلدرم فَفَتحهَا وَخرج الفرنج مِنْهَا سَالِمين آمِنين وَكَانَ قد بَقِي أَيْضا من عمل صيدا قلعة أبي الْحسن وشقيف أرنون وَأقَام السُّلْطَان بِظَاهِر عكا نَاظرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 فِي أُمُور رَعيته ثمَّ دَخلهَا وَسكن بالقلعة وَسكن الْأَفْضَل برج الداوية وَولى عكا عز الدّين جرديك ووقف دَار الاسبتار نِصْفَيْنِ نصفا على الْفُقَهَاء وَنصفا على الصُّوفِيَّة ووقف دَار الأسقف بيمارستان ووقف على كل من ذَلِك كِفَايَته واظهر بِهِ عنايته وَسلم جَمِيع ذَلِك إِلَى قاضيها جمال الدّين بن الشَّيْخ أبي النجيب وَهُوَ فِي ذَلِك مُصِيب فصل فِي وُرُود رسل التهاني من الْآفَاق وقدوم الرَّسُول العاتب من الْعرَاق قَالَ الْعِمَاد ووردت رسل الْآفَاق من الرّوم وخراسان وَالْعراق وَكلهمْ يهني السُّلْطَان بِمَا أفرده الله بِهِ من الْفَضِيلَة وأقدره عَلَيْهِ من نجح الْوَسِيلَة وَهُوَ فتح الْقُدس الَّذِي درج على حسرته الْقُرُون الأولى وتقاصرت عَنهُ أَيْديهم المتطاولة وتمكنت مِنْهُ يَده الطُّولى فَمَا مِنْهُم إِلَّا من يعْتَرف بيمنه ويغترف من يمه ويقر بِحكم التَّنْزِيل لَهُ وَينزل على حكمه ويخطب صداقته ويتقرب بِالْوَفَاءِ والوفاق ويتباعد عَن الشَّقَاء والشقاق فَمن جُمْلَتهمْ رَسُول صَاحب الرّيّ وَرَسُول المستولي على ممالك همذان وأذربيجان وأران فَمَا من يَوْم يمْضِي وَشهر يَنْقَضِي إِلَّا ويصل مِنْهُم رَسُول ويتصل بِهِ سَوَّلَ وَذكر الْعِمَاد فِي الْبَرْق انه وصل إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بعكا رَسُول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 أتابك مظفر الدّين قزل أرسلان وَهُوَ عُثْمَان بن أتابك إيلدكز المستولي على بِلَاد الْعَجم بعد أَخِيه البهلوان ثمَّ ذكر من خرقه فِي كرمه شَيْئا كثيرا ثمَّ قَالَ وَهَذَا كُله لَا يكون فِي بَحر سلطاننا جدولا كَانَ السُّلْطَان مَذْهَب الْمَذْهَب ظَاهر المحفل والموكب قد خصّه الله بالصدر الأرحب والنصر الْأَغْلَب عزمه إِلَى الْجِهَاد مَصْرُوف وخلقه بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف وهمه بالسماح مشغوف مَا يَفْتَحهُ بِالسَّيْفِ فِي الْبِلَاد يَهبهُ لمن يضْرب مَعَه بِالسَّيْفِ فِي الْجِهَاد وللخالق تقواه وللمخلوقين جدواه وَإِنَّمَا يُرِيد للآخرة دُنْيَاهُ فَلَا جرم ختم الله بِالْحُسْنَى عقباه قَالَ وَلم يكن فِي الْمُلُوك السالفة أمضى مِنْهُ عزما وأجدى فضلا واعم جدوى واكمل جهدا فِي الْجِهَاد وأملك جلدا على الجلاد فَإِنَّهُ بَاشر بِنَفسِهِ الْحَرْب ومارس الصعب وَقذف بِالْحَقِّ حِين حَقَّقَهُ على الْبَاطِل فأزهقه وَلَا حد وَلَا عد لما فِي سَبِيل الله من نفائس النُّفُوس وَالْأَمْوَال أنفقهُ وَمن أول هَذَا الْعَام إِلَى منتهاه لم يجِف لورده لبد وَلم ينضب من ورده عد وَلم يقر لَهُ جنب بل لَقِي فِي فَصلي القيظ والقر مض الْحر وعض الْبرد بَحر وَجهه الْكَرِيم وَقضى حق الدّين موفيا بِصدق غرامه حق الْغَرِيم وكل مَا تمّ من النَّصْر يَوْم حطين وَفتح الْقُدس وتسلم بِلَاد السَّاحِل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 إِنَّمَا تسنى بِشَهْر سَيْفه فِي فصل الصَّيف وشهوره واستظهاره بِظُهُور الْإِسْلَام وَشد طهوره وَأنْشد الْعِمَاد للْقَاضِي الْفَاضِل فِي وصف أسيافه (ماضيات على الدَّوَام دوامي ... هِيَ فِي النَّصْر نجدة الْإِسْلَام) (فِي يَمِين السُّلْطَان إِن جردتها ... أشبهتها صواعق فِي غمام) (تنثر الْهَام كالحروف فَمَا ... أشبه هذي السيوف بالأقلام) (فِي محاريب حربه الْبيض صلت ... وركوع الظبى سُجُود الْهَام) وَذكر من كَلَامه فِي التَّوَسُّط بَين الأصدقاء مَا أَدخل بَيْنكُم إِلَّا كدخول المرود فِي الأجفان يرد إِلَيْهَا مَا ذهب مِنْهَا من النُّور والغمض أَو كالنسيم بَين الأغصان يعْطف بَعْضهَا على بعض قَالَ الْعِمَاد وَوصل أخي تَاج الدّين أَبُو بكر حَامِد من دَار الْخلَافَة برسالة فِي العتب على أَحْدَاث ثقلت وَأَحَادِيث نقلت ووشايات أثرت وسعايات فِي السُّلْطَان شعثت وَذَلِكَ فِي شَوَّال وَنحن على حِصَار صور وَسبب ذَلِك أَنه لما تمّ الْفَتْح الْأَكْبَر وَخص وَعم النجح الْأَظْهر وَقطع دابر الْمُشْركين وَحط إقبال الْمُسلمين أوزار أدبار الْكَافرين بحطين أَمرنِي السُّلْطَان بإنشاء كتب البشائر إِلَى الْآفَاق وَتَقْدِيم الْبُشْرَى بِهِ إِلَى الْعرَاق فَقلت هَذَا فتح كريم ومنح من الله عَظِيم فَلَا يَنْبَغِي ان يكون مُبشر دَار الْخلَافَة بِمَا أنزلهُ الله علينا من الرَّحْمَة والرأفة إِلَّا من هُوَ عندنَا أجل وَأجلى وَأعلم وَأَعْلَى وَأجْمع لفنون الْفَضَائِل وَأعرف بأَدَاء الرسائل فَلَا يرفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 الْعَظِيم إِلَّا بالعظيم الرفيع فَإِن الشريف يتضع شرفه بمقارنة الوضيع فَقَالَ هَذِه نصْرَة مبتكرة وموهبة مبشرة بدرت وندرت فَنحْن نعجل بهَا بشيرا ونؤخر للإجلال كَمَا ذكرت سفيرا وَكَانَ فِي الْخدمَة شَاب بغدادي من الأجناد قد هَاجر للاسترفاد وَتوجه بعد وُصُوله وَنبهَ بعد خموله فَسَأَلَ فِي الْبشَارَة إِلَى بَغْدَاد وَزعم أَنه يداوم إِلَيْهَا الإغذاذ وشفع لَهُ جمَاعَة من الأكابر حَتَّى خص بأشرف البشائر فَقلت هَذَا لَا يحصل لَهُ وَقع وَلَا يصل إِلَيْهِ نفع وَالْوَاجِب أَن يسير فِي مثل هَذَا الخطير خطير وَفِي هَذِه النُّصْرَة الْكُبْرَى كَبِير ثمَّ سَار الْمَنْدُوب وشغلت عَن إرْسَال سواهُ الْفتُوح والحروب وَلما فتح الْبَيْت الْمُقَدّس أرسل ببشارته نجاب وَنفذ بهَا كتاب وَوصل البشير الجندي فحقروه وَمَا وقروه فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدهم بِعَين فنظروه بِتِلْكَ الْعين وحبوه بِمَا يَلِيق من الرقة وَالْعين ونقم على السُّلْطَان إرْسَال مثله وتسمح الْمَنْدُوب بِكَلَام أَخذ عَلَيْهِ وبدرت مِنْهُ أَحَادِيث نسبت إِلَيْهِ وَقَالَ فِي سكره وَحَالَة نكره مَا نعرض عَن ذكره فخيل وموه وتنكر وَتكره وَظن أَن لكَلَامه أصلا ولقطعه منا وصلا وأنهيت إِلَى الْعرض الْأَشْرَف مقالاته وَعلمت جهالاته وتجني على السُّلْطَان بإرساله وطرق إِلَى هداه مَا أنكروه من مقَال الْمَذْكُور وضلاله وَوجد الْأَعْدَاء حِينَئِذٍ إِلَى السّعَايَة طَرِيقا وطلبوا لشمل استسعاده بِالْخدمَةِ تفريقا واختلقوا أضاليل ولفقوا أباطيل وَقَالُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 هَذَا يزْعم أَنه يقلب الدولة ويغلب الصولة وَأَنه ينعَت بِالْملكِ النَّاصِر نعت الإِمَام النَّاصِر وَيدل بِمَالِه من الْقُوَّة والعساكر فأشفق الدِّيوَان الْعَزِيز على السُّلْطَان من هَذِه وبرز الْأَمر المطاع بإرسال أخي وإنفاذه وَقَالُوا هَذَا تَاج الدّين أَخُو الْعِمَاد يكفل لنا فِي كشف سر الْأَمر بالمراد فَإِن أَخَاهُ هُنَاكَ مطلع على الْأَسْرَار وَهُوَ مُنْتَظم فِي سلك الْأَوْلِيَاء الْأَبْرَار وعول عَلَيْهِ الدِّيوَان فِي السفارة ورد مَعَه جَوَاب الْبشَارَة وكتبت لَهُ تذكرة بموجبات مَقَاصِد العتب ومكدرات موارد الْقرب والمخاطبة فِيهَا وَإِن كَانَت حَسَنَة خشنة والمعاتبة مَعَ شدتها للعواطف الإمامية لينَة فَسَار الْأَخ إِلَى دمشق وَكَانَ قد عَاد الْمَنْدُوب نادبا عاديا جاحدا للنعمة شاكيا وَقَالَ أَخُو الْعِمَاد قد وصل بِكُل عتب وَغَضب وَلَفظ فظ وَمَعَهُ الملامات المؤلمات فَقلت لَهُ اسْكُتْ واصمت وَقلت للسُّلْطَان سمعا وَطَاعَة لأمر الدِّيوَان فَإِن إِظْهَار سر العتب لَك من غَايَة الْإِحْسَان فَقَالَ نعم مَا قلت وَلما قرب أخي أَصبَحت لقدومه أنتخي فَأمر السُّلْطَان الْأُمَرَاء على مَرَاتِبهمْ باستقباله وَتقدم لجلالة قدومه بإحلاله وتلقاه الْمُلُوك الْحَاضِرُونَ الْعَادِل والمظفر وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر ثمَّ ركب وتلقاه بِنَفسِهِ وَخَصه من تقريبه بأنسه وَلم يزل حَتَّى أرَاهُ مَوَاضِع الْحصار ومصارع الْكفَّار ثمَّ نزل وأنزله بِالْقربِ ثمَّ حضر عِنْده وَقد أخلى مَجْلِسه لي وَله وَحده فَأدى الْأَمَانَة فِي مشافهته وَوجه مقاصده فِي مواجهته وأحضر التَّذْكِرَة وَقد جمعت الْمعرفَة والنكرة فقرأتها عَلَيْهِ وَكَانَت فِي الْكتب غلظة عدت من الْكَاتِب غلطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 وخيلت سقطه وجلبت سخطه وَقَالَ إِن الإِمَام أجل أَن يَأْمر بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ الفظاظ والأسجاع الْغِلَاظ فقد أمكن إِيدَاع هَذِه الْمعَانِي فِي أرق مِنْهَا لفظا وأرفق وأوفى مِنْهَا فضلا وأوفق ومعاذ الله أَن يحبط عَمَلي أَو يهْبط أملي وامتعض وارتمض ثمَّ أعرض عَمَّا عرض وَرجع إِلَى الاستعطاف وانتجع بأرق الاستسعاف وَقَالَ أما مَا تمحله الْأَعْدَاء وَعدا بِهِ المتمحلون فَمَا عرف مني إِلَّا الِاعْتِرَاف بالعارفة وَذكر السُّلْطَان أياديه السالفة فِي الفتوحات وَإِقَامَة الدعْوَة العباسية بِمصْر واليمن وَإِزَالَة الأدعياء وإبادة الْأَعْدَاء وَفتح الْبَيْت الْمُقَدّس قَالَ وَأما النَّعْت الَّذِي أنكر وَنبهَ على مَوضِع الْخَطَأ فِيهِ وَذكر فَهَذَا من عهد الإِمَام المستضيء والآن كل مَا يشرفني بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ من السمة فَإِنَّهُ أسمي الَّذِي هُوَ أسمى وأشرف وَأَرْفَع وَأعرف وَمَا عزمي إِلَّا استكمال الْفتُوح لأمير الْمُؤمنِينَ وَقطع دابر الْمُنَافِقين وَالْمُشْرِكين ثمَّ ندب مَعَ أخي من سَار فِي خدمته لزيارة الْقُدس ثمَّ ودعه وأودعه من شفاهه كل مَا فِي النَّفس وَظَهَرت بعد ذَلِك بِالْقبُولِ أثار الرضى وَمضى مَا مضى وَكَانَ جمَاعَة من الْمُلُوك والأمراء كالعادل ومظفر الدّين قد نخوه لما قيل فِي حَقه وَأَرَادُوا أَن يغضبوه فَمَا غضب بل غاض غيظه ونضب وتلقى ذَلِك بصدر رحيب وَلَفظ مُصِيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 قلت ووقفت على كتاب كتبه الصاحب قوام الدّين بن زِيَادَة من الدِّيوَان الْعَزِيز بِبَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَكَانَ قوام الدّين يَوْمئِذٍ أستاذ الدَّار العزيزة يَقُول فِيهِ لَوْلَا مَكَان صَلَاح الدّين من الْخدمَة وَالشح بِهِ والمنافسة فِيهِ لما جَوْهَر بالعتاب وَلَا رفع دونه هَذَا الْحجاب بل كَانَ يتْرك مَعَه الْأَمر على اختلاله ويدمل الْجرْح على اعتلاله وَقد ذكرت الْأَسْبَاب الَّتِي أَخذهَا الدِّيوَان الْعَزِيز عَلَيْهِ واستغرب وُقُوعهَا من كَمَاله ليرعيها سَمعه الْكَرِيم ويستوري فِيهَا رَأْيه الْأَصِيل وينصف فِي استماعها والإجابة عَنْهَا غير عائج على الجدل وَلَا مؤتم بالمراء المذمومين عقلا وَشرعا بل يحمل قولي هَذَا على سَبِيل المماحضة والانتصاح وَصدق النِّيَّة فِي رأب الثأي والإصلاح فَإِن إبجار الدَّوَاء الْمقر لَا يتهم فِيهِ الطَّبِيب المجتلب للعافية ثمَّ ذكر من تِلْكَ الْأُمُور ان من انتقى من الْعرَاق بِسَبَب من الْأَسْبَاب لَجأ إِلَى صَلَاح الدّين فَوجدَ عِنْده الإقبال عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَدَب يُوجب إبعاد من أبعده عَنهُ وتقريب من قربه إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَإِن مِمَّا أضْحك ثغر الاستعبار مَا انْتهى عَن الْعَوام وَأَشْبَاه الْأَنْعَام وطغام الشَّام من الْخَوْض فِي الْمذَاهب والانتهاء فِي التشنيع إِلَى اخْتِلَاق كل قَول كَاذِب وَمِنْهَا مَا جرى من سيف الْإِسْلَام بالحجاز من إزعاج الْحجَّاج وإرهاج تِلْكَ الفجاج والإقدام على مَنَاسِك الله وشعائره وَإِيقَاد سعير الْفِتْنَة فِيهَا ونوائره واحتذاء السِّيرَة القاسطة وإحياء بدع القرامطة مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 نفر مِنْهُ كل طبع ومجه كل سمع فَكيف جَازَ لصلاح الدّين أَن يُرْخِي عنان أَخِيه فِيمَا يقْرض سوابقه وأواخيه وَمِنْهَا مَا قضى النَّاس مِنْهُ الْعجب وفورق فِيهِ الحزم وَالْأَدب وَهُوَ مَا أوجب التلقب باللقب الَّذِي اسْتَأْثر بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ قَالَ وَقد ساوق زمَان الدولة العباسية ثبتها الله خوارج دوخوا الْبِلَاد وأسرفوا فِي العناد وجاسوا خلال الديار وأخافوا المسالك واستضاموا الممالك واقتحموا من الشقاق أشق المهالك فَمَا انْتهى أحدهم فِيمَا احتقب وارتكب إِلَى الْمُشَاركَة فِي اللقب وَمن الحكم الذائعة فِي وجيز الْكَلَام الَّذِي يصلح للْمولى على العَبْد حرَام وَمِنْهَا مُكَاتبَة كل طرف يتاخم أَعمال الدِّيوَان من مَوَاطِن التركمان والأكراد ومراسلتهم ومهاداتهم وقرع أسماعهم بِمَا يعود باستزلال أَقْدَامهم وفل عزائمهم وهم لَا يعْرفُونَ إِلَّا أَنهم رعية للعراق وخول للديوان يَرِثُونَ الطَّاعَة خالفا عَن سالف ثمَّ قَالَ فِي آخر الْكتاب وَهَذَا كُله لَا أقوله إنكارا لجلائل مقامات صَلَاح الدّين ومشاهير مَوَاقِف جهاده فِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أدام الله علوه رجل وقته ونسيج وَحده والمربي على من سلف من صنائع الدولة على من يَأْتِي بعده وَهُوَ الْوَلِيّ المخلص الَّذِي عهد فوفى واستكفي فَكفى وطب فشفى فَكيف يجوز لَهُ بسعادته أَن يهجن مساعيه الغر المحجلة وَيخرج من مكانته المكرمة المبجلة وَتبطل حُقُوقه الثَّابِتَة المسجلة ثمَّ قَالَ فقد علم كل من نظر فِي التواريخ والْآثَار ونصحته بصيرته فِي التبصر وَالِاعْتِبَار أَن هَذَا الْبَيْت الْعَظِيم مَا زَالَ يرفع الأقدار الخاملة فينزون عَلَيْهِ بطرا فيغار الله لَهُ منتصرا ويعقبه عَلَيْهِم إظفارا وظفرا كدأب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 آل طولون وَآل سامان وَآل بويه وَآل سجلوق وقرونا بَين ذَلِك كثيرا فَمن الَّذِي زلزلوه فَثَبت وَمن الَّذِي حصدوه فنيت وَأي نَار أوقدوها فَمَا خبت ثمَّ قَالَ فِي آخِره اللَّهُمَّ هَل بلغت وللرأي الصلاحي علوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَذكر ابْن القادسي أَن الجندي الَّذِي أرْسلهُ صَلَاح الدّين بالبشارة يعرف بالرشيد بن البوشنجي قَالَ وَكَانَ صَبيا كثير الإدبار مشمرا فِي دروب بَغْدَاد ثمَّ توجه إِلَى الشَّام هَارِبا من الْفقر فحين وصل إِلَى بَغْدَاد رَسُولا قَامَت الْقِيَامَة برسالته وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين بالإنكار عَلَيْهِ وَقيل لَهُ مَا كَانَ فِي أَصْحَابك أميز من هَذَا ترسله إِلَى الدِّيوَان فَاعْتَذر صَلَاح الدّين ووصلت كتبه بالاعتذار وَقبل عذره وَأما ابْن البوشنجي فَإِنَّهُ حِين وُصُوله إِلَى الشَّام أَكثر الْكَلَام عِنْد صَلَاح الدّين فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا مضى الْأُسْبُوع جَاءَتْهُ نشابة ذبحته فصل فِي بَاقِي حوادث سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ فَفِيهَا قتل الْأَمِير شمس الدّين بن الْمُقدم وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الْملك يَوْم عَرَفَة بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان لما فرغ من فتح الْقُدس ودنا موسم الْحَج قَالَ الموفقون نحرم من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام ونفوز بِالْحَجِّ مَعَ إِدْرَاك فَضِيلَة فتح الْبَيْت الْمُقَدّس فِي هَذَا الْعَام فالحج وَالْجهَاد ركنا الْإِسْلَام فَاجْتمع جمع جم من أهل ديار بكر والجزيرة وَالشَّام وَسَار بهم الْأَمِير شمس الدّين بن الْمُقدم شيخ أُمَرَاء الْإِسْلَام الْكِرَام فودعه السُّلْطَان على كره من مُفَارقَته واستمهله ليحج فِي السّنة الْأُخْرَى على مرافقته فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إِن الْعُمر قد فرغ والأمد قد بلغ والشيب قد أنذر وَالْفَرْض قد أعذر فأغتنم فرْصَة الْإِمْكَان قبل أَن يتَعَذَّر فَمضى والسعادة تقوده وَالشَّهَادَة تروده حَتَّى وصل إِلَى عَرَفَات وَمَا عرف الْآفَات وشاع وُصُوله وراع قبُوله وَضربت طبوله وسالت سيوله وجالت خيوله وَضربت خيامه وخفقت أَعْلَامه فَلَمَّا أَصْبحُوا نقرت على الْعَادة نقاراته ونعرت بوقاته فغاظ ذَلِك أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ فَركب إِلَيْهِ فِي أحزابه فأوقع بِهِ وبأصحابه وأبلاهم بجراحه ونهابه وَجرى حكم الله الَّذِي كَانَ ضرب الطبل أوكد أَسبَابه وَقتل جمَاعَة من حَاج الشَّام وجرحوا وهتكت أستارهم وافتضحوا وَنقل أَمِير الْحَاج طاشتكين شمس الدّين بن الْمُقدم إِلَى خيمته وَهُوَ مَجْرُوح وَفِيه روح وَحمله مَعَه إِلَى منى فَقضى وَدفن بالمعلى وَتمّ ذَلِك بِقَضَاء الله وَقدره فِي تقلب حوادث الدَّهْر وَغَيره وارتاع أَمِير الْحَاج بِمَا اجترمه وَكَيف لم يراقب الله وَأحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 حرمه وَكَيف عدا على الْحَاج العائذ بِاللَّه وَسَفك دَمه فَكتب محضرا على مَا اقترحه بِعُذْرِهِ فِيمَا اجترحه وألزم أَعْيَان الْحَاج من سَائِر الْبِلَاد بِوَضْع خطوطهم على مَا عينه من المُرَاد فَكَتَبُوا مكرهين غير مشتهين وَكَانَ عذره أَنه أنكر عَلَيْهِ ضرب الطبل فَأبى فَلَمَّا انْتَهَت تِلْكَ الْحَالة إِلَى الْخَلِيفَة أنكرها إنكارا شَدِيدا ونسبها إِلَى طيش طاشتكين وَلم يجد لَهُ رَأيا سديدا فَلَا جرم اتضع عِنْده قدره واتضح لَهُ وزره ووهى أمره وَذُخْرهَا لَهُ حَتَّى نكبه بهَا بعد سِنِين وحبسه وَأطَال سجنه ثمَّ عَفا عَنهُ بعد مُدَّة مديدة وَشدَّة شَدِيدَة وولاه حَرْب بِلَاد خوزستان وخراجها وَولى إِمَارَة الْحَاج غَيره وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان خبر استشهاد ابْن الْمُقدم وجماعته لامه على ترك الحزم وإضاعته فاحتسبه عِنْد الله غازيا شَهِيدا ساعيا إِلَى الْجنَّة بقدمه سعيدا وَأقَام ابْنه عز الدّين إِبْرَاهِيم فِي بِلَاده مقَامه وَأقر عَلَيْهِ إنعامه وَقَالَ مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه ونقلته من خطه أَرَادَ أَمِير الْحَاج بِالشَّام وَهُوَ ابْن الْمُقدم أَن يرفع علما على الْجَبَل بالموقف فَمَنعه أَمِير الْحَاج طاشتكين وَجَرت بَينهمَا مراجعات أفضت إِلَى الْخُصُومَة بَين حَاج الْعرَاق وحاج الشَّام وَنهب الْبَعْض للْبَعْض وَجَرت جراحات فجرح ابْن الْمُقدم وَلم تغير الْعَادة فِي ذَلِك وأفاض النَّاس وَمَات ابْن الْمُقدم بمنى فِي الْيَوْم الثَّانِي ووصلت النجابة من مَكَّة فَأخْبرُوا بِمَا جرى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 أَصْحَاب ابْن الْمُقدم وَقد شهد الشُّهُود بذلك من الْحجَّاج فقرىء ذَلِك بِجَامِع الْقصر الشريف قَالَ وَفِي ثَانِي شَوَّال من هَذِه السّنة توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبيد الله بن عبد الله سبط ابْن التعاويذي الشَّاعِر وَكَانَ كَاتبا بديوان المقاطعات وخدم بَيت ابْن رَئِيس الرؤساء وأضر فِي آخر عمره ومولده عَاشر رَجَب سنة تسع عشرَة وَخمْس مئة قَالَ وَفِي خَامِس رَمَضَان توفّي الْفَقِيه الْحَنْبَلِيّ أَبُو الْفَتْح نصر بن فتيَان بن مطر الْمَعْرُوف بِابْن الْمَنِيّ وَكَانَ فَقِيها زاهدا صَالحا عَالما مولده سنة إِحْدَى وَخمْس مئة وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة من أَئِمَّة الْحَنَابِلَة كالحافظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 عبد الْغَنِيّ بن عبد الْوَاحِد بن سرُور وأخيه إِبْرَاهِيم وَالشَّيْخ الْمُوفق عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة وَمُحَمّد بن خلف بن رَاجِح والناصح عبد الرَّحْمَن بن نجم بن عبد الْوَهَّاب وَعبد الرَّزَّاق بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي وَغَيرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد فَخرج السُّلْطَان من عكا فَنزل على كَوْكَب فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم فحاصرها وصابرها أَيَّامًا فَلم يتَمَكَّن مِنْهَا لمنعتها وحصانتها وَرَآهَا تحْتَاج إِلَى طول مصابرة ومرابطة وَلم يكن مَعَه جَمِيع أمرائه وأوليائه وَإِنَّمَا كَانَ فِي خواصه فَوكل بهَا قايماز النجمي ووكل بصفد طغرل الجاندار كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي خمس مئة وسير إِلَى الكرك والشوبك سعد الدّين كمشبة الْأَسدي وَكَانَت هَذِه الْحُصُون الْأَرْبَعَة ضيقَة المسلك صعبة الْمدْرك قَالَ ثمَّ إِن السُّلْطَان اشْتغل بلقاء الرُّسُل الواصلين من جُمْلَتهمْ رَسُول صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان وَكَانُوا خَائِفين على آمد أَن يسترجعها مِنْهُم السُّلْطَان لِأَنَّهَا كَانَت لَهُم من مواهبه كَمَا سبق فاستوثقوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 بالوصلة باحدى بَنَات الْعَادِل وَكَانَ الْعَادِل قد وكل أَخَاهُ السُّلْطَان فِي ذَلِك لما سَار إِلَى مصر وَقدم رسولهم فِي ذَلِك فتمت الوصلة بَينهمَا قَالَ وَأول من وصل وَالسُّلْطَان بكوكب اخْتِيَار الدّين حسن بن غفراس مُدبر دولة قليج أرسلان بالروم وَكَانَ هَذَا الرَّسُول مغرى بِلبْس الْحلِيّ والديباج والوشي وَفِي يَدَيْهِ زنود وخواتيم مرصعة بزينة ثَقيلَة بجواهر ويواقيت ثمينة وَفِي عقودها درة يتيمة وَفِي يَده عَمُود من العسجد وكل عدته تبرها مجوهر وَكَانَ إِذا شَاهده السُّلْطَان تَبَسم وعامله بخلقه وَقَالَ هَذَا سَافر بنضاره لينْظر وبديناره ليبصر وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ رأى السُّلْطَان الِاشْتِغَال بِأخذ هَذِه الْحُصُون الْبَاقِيَة لَهُم مِمَّا يضعف قُلُوب من فِي صور ويهي أمرهَا بِهِ فاشتغل بذلك وَنزل رَحمَه الله على كَوْكَب فِي أَوَائِل الْمحرم وَكَانَ سَبَب بداءته بكوكب أَنه كَانَ قد جعل حولهَا جمَاعَة يحفظونها من أَن تدخل إِلَيْهِم قُوَّة أَو جمَاعَة فَخرج الفرنج لَيْلًا وَأخذُوا غرتهم وكبسوهم بعفربلا وَقتلُوا مقدمهم وَكَانَ من الامراء يعرف بِسيف الدّين أخي جاولي وَأخذُوا أسلحتهم فَسَار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 رَحمَه الله من عكا وَنزل عَلَيْهَا بِمن كَانَ بَقِي مَعَه من خواصه بعكا فَإِنَّهُ كَانَ قد أعْطى العساكر دستورا وَلَقي فِي طَرِيقه شدَّة من الثَّلج وَالْبرد فَحملت السُّلْطَان مَعَ ذَلِك الحمية على النُّزُول عَلَيْهَا وَأقَام يقاتلها مُدَّة قَالَ وَفِي تِلْكَ الْمنزلَة وصلت إِلَى خدمته فَإِنِّي كنت قد حججْت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَكَانَت وقْعَة ابْن الْمُقدم وجرح يَوْم عَرَفَة على عَرَفَة لخلف جرى بَينه وَبَين أَمِير الْحَاج طاشتكين على ضرب الكوس والدبدبة فان أَمِير الْحَاج نَهَاهُ عَن ذَلِك فَلم ينْتَه ابْن الْمُقدم وَكَانَ من أكبر أُمَرَاء الشَّام وَكَانَ كثير الْخَيْر كثير الْغُزَاة فَقدر الله أَنه جرح بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة ثمَّ حمل إِلَى منى مجروحا فَمَاتَ بمنى يَوْم الْخَمِيس يَوْم عيد الله الْأَكْبَر وَصلي عَلَيْهِ فِي مَسْجِد الْخيف فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَدفن بالمعلى وَهَذَا من أتم السعادات وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان قدس الله روحه فشق عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ اتّفق لي الْعود من الْحَج على الشَّام لقصد الْقُدس وزيارته وَالْجمع بَين زِيَارَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة أَبِيه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فوصلت إِلَى دمشق ثمَّ خرجت إِلَى الْقُدس فَبَلغهُ خبر وصولي فَظن أَنِّي وصلت من جَانب الْموصل فِي حَدِيث فاستحضرني عِنْده وَبَالغ فِي الْإِكْرَام والاحترام وَلما ودعته ذَاهِبًا إِلَى الْقُدس خرج إِلَيّ بعض خواصه وأبلغني تقدمه إِلَيّ بِأَن أَعُود أمثل فِي خدمته عِنْد الْعود من الْقُدس فَظَنَنْت أَنه يوصيني بمهم إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الْموصل وانصرفت إِلَى الْقُدس الشريف يَوْم رحيله عَن كَوْكَب ورحل رَحمَه الله لِأَنَّهُ علم أَن هَذَا الْحصن لَا يُؤْخَذ إِلَّا بِجمع العساكر عَلَيْهِ وَكَانَ حصنا قَوِيا وَفِيه رجال شَدَّاد من بقايا السَّيْف وميرة عَظِيمَة فَرَحل إِلَى دمشق وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا فِي سادس ربيع الأول وَفِي ذَلِك الْيَوْم أتفق دخولي إِلَى دمشق عَائِدًا من الْقُدس فَأَقَامَ رَحمَه الله فِي دمشق خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ لَهُ غَائِبا عَنْهَا سِتَّة عشر شهرا قَالَ وَفِي الْيَوْم الْخَامِس بلغه خبر الفرنج أَنهم قصدُوا جبيل واغتالوها فَخرج منزعجا سَاعَة بُلُوغ الْخَبَر وَكَانَ قد سير إِلَى العساكر يستدعيها من سَائِر الجوانب وَسَار يطْلب جبيل فَلَمَّا عرف الفرنج بِخُرُوجِهِ كفوا عَن ذَلِك وَكَانَ بلغه وُصُول عماد الدّين وعسكر الْموصل ومظفر الدّين إِلَى حلب قَاصِدين الْخدمَة للغزاة فَسَار نَحْو حصن الأكراد فِي طلب السَّاحِل الفوقاني وَلما كَانَ مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ثمَّ سير إِلَى الْملك الظَّاهِر وَلَده وَالْملك المظفر بِأَن يجتمعا وينزلا بتيزين قبالة أنطاكية لحفظ ذَلِك الْجَانِب ففعلا وسارت عَسَاكِر الشرق حَتَّى اجْتمعت بِخِدْمَة السُّلْطَان فِي هَذِه الْمنزلَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ووصلت اليه رَحمَه الله فِي هَذِه الْمنزلَة فَإِنَّهُ كَانَ قد سير إِلَيّ إِلَى دمشق يَقُول تلحقنا نَحْو حمص فَخرجت على عزم الْمسير إِلَى الْموصل متجهزا لذَلِك فوصلت إِلَيْهِ إمتثالا لأَمره فَلَمَّا حضرت عِنْده فَرح بِي وأكرمني وَكنت قد جمعت لَهُ كتابا فِي الْجِهَاد بِدِمَشْق مُدَّة مقَامي فِيهَا يجمع آدابه وَأَحْكَامه فقدمته بَين يَدَيْهِ فأعجبه وَكَانَ يلازم مطالعته وَمَا زلت أطلب دستورا فِي كل وَقت وَهُوَ يدافعني عَن ذَلِك ويستدعيني للحضور فِي خدمته فِي كل وَقت ويبلغني على أَلْسِنَة الْحَاضِرين ثَنَاؤُهُ عَليّ وَذكره إيَّايَ بالجميل فَأَقَامَ فِي مَنْزِلَته تِلْكَ شهر ربيع الآخر أجمع وَصعد فِي أَثْنَائِهِ إِلَى حصن الأكراد وحاصره يَوْمًا يجسه بِهِ فَمَا رأى الْوَقْت يحْتَمل حصاره وَاجْتمعت العساكر من الجوانب وأغار على بلد طرابلس فِي هَذَا الشَّهْر دفعتين وَدخل الْبِلَاد مغيرا ومختبرا لمن بهَا من العساكر وتقوية للعساكر بالغنائم ثمَّ نَادَى فِي النَّاس فِي أَوَاخِر الشَّهْر إِنَّا داخلون إِلَى السَّاحِل وَهُوَ قَلِيل الأزواد وَهُوَ مُحِيط بِنَا فِي بِلَاده من سَائِر الجوانب فاحملوا زَاد شهر ثمَّ سير إِلَيّ مَعَ الْفَقِيه عِيسَى وكشف لي أَنه لَيْسَ فِي عزمه أَن يمكنني من الْعود إِلَى بلادي وَكَانَ الله تَعَالَى قد أوقع فِي قلبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 محبته مُنْذُ رَأَيْته وَحب الْجِهَاد فأجبته إِلَى ذَلِك وخدمته من تَارِيخ مستهل جُمَادَى الأولى وَهُوَ يَوْم دُخُوله السَّاحِل الْأَعْلَى وَجَمِيع مَا حكيته من قبل إِنَّمَا هُوَ روايتي عَمَّن أَثِق بِهِ مِمَّن شاهدوه وَمن هَذَا التَّارِيخ مَا أسطر إِلَّا مَا شاهدته أَو أَخْبرنِي بِهِ من أَثِق بِهِ خَبرا يُقَارب العيان وَالله الْمُوفق فصل قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ جمَاعَة من أهل الحزم وأولي الْعَزْم قد أشاروا على السُّلْطَان لما فتح عكا بتخريبها وتعفية آثارها وَأَن يبْقى المرابطون المحامون مَكَانهَا فَلَا نَأْمَن عود الفرنج إِلَيْهَا وتملكها وَأَن تبنى قلعة القيمون فكاد يُجيب فَقيل لَهُ هَذِه مَدِينَة كَبِيرَة وَعمارَة كَثِيرَة فأشير عَلَيْهِ بتبقيتها وَأَن تعمر وتحصن فولى أَمر عمارتها وتدبيرها الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ الَّذِي أدَار السُّور على مصر والقاهرة فاستدعاه من مصر وَأمره أَن يَسْتَنِيب فِي تِلْكَ الْعِمَارَة فَقدم عَلَيْهِ وَهُوَ بكوكب ففوض إِلَيْهِ عمَارَة عكا فشرع فِي تَجْدِيد سورها وتعلية أبراجها وَكَانَ قدم من مصر وَمَعَهُ أُسَارَى الْعَمَل وأنفاره وآلاته ودوابه وأبقاره قَالَ وَلما رتب السُّلْطَان الْأُمُور على كَوْكَب رَحل مستهل ربيع الأول وَدخل دمشق فِي سادسه وَكَانَ الْعَسْكَر الْغَائِب على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 مواعدة المعاودة فِي الرّبيع وَأَنه يجْتَمع على حمص بِالْجَمِيعِ وَكَانَت طَرِيق السُّلْطَان على بحيرة طبرية من شرقيها وتجنب عقبَة فيق لاستصعاب رقيها وَلما قَارب السُّلْطَان دمشق تَلقاهُ النَّاس أحسن لِقَاء فقد كَانُوا متعطشين إِلَى رُؤْيَته ومتشوقين إِلَى طلعته لِأَنَّهُ غَابَ عَنْهُم سنة وشهرين وَخَمْسَة أَيَّام فَكسر فِيهَا الْكفْر ونصرالإسلام وَفتح فِيهَا الأَرْض المقدسة وأشباهها من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بأوضار الْكفْر نَجِسَة فَأَصْبَحت بالايمان مؤسسة فَلَمَّا اسْتَقر قراره أَمر بإنشاء الْكتب لاستدعاء الأجناد من الْجِهَات للْجِهَاد من سَائِر الْبِلَاد وابتدأ بِالْجُلُوسِ فِي دَار الْعدْل وبحضرته الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء من أهل الْفضل قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى دمشق بدر الدّين مودودا الْمَعْرُوف بالشحنة وَهُوَ أَخُو عز الدّين فرخشاه لأمه وفوض إِلَيْهِ فِي هَذِه الْأَيَّام ولَايَة الدِّيوَان وَكَانَ مَعَ الصفي بن الْقَابِض مبقيت مَعَه الخزانة وَحدهَا وَكَانَ الصفي قد بنى للسُّلْطَان دَارا مطلة على الشرفين بالقلعة وَأنْفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وَبَالغ فِي تحبيرها وتحسينها وَظن أَنَّهَا تقع من السُّلْطَان بمَكَان فَمَا أعارها طرفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَلَا استحسنها وَكَانَت من جملَة ذنُوبه عِنْد السُّلْطَان الَّتِي أوجبت عَزله عَن الدِّيوَان وَقَالَ مَا يصنع بِالدَّار من يتَوَقَّع الْمَوْت وَمَا خلقنَا إِلَّا لِلْعِبَادَةِ وَالسَّعْي للسعادة وَمَا جِئْنَا دمشق لنقيم وَمَا نروم أَن لَا نريم قَالَ ثمَّ هم بالغزاة فَبَدَأَ بزيارة القَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ مُقيما بجوسق ابْن الْفراش بالشرف الْأَعْلَى فِي بستانه فاستضاء بِرَأْيهِ فِيمَا يُرِيد فعله وَكَانَ لَا يَأْتِي أمرا إِلَّا من بَابه فَأَقَامَ عِنْده إِلَى الظّهْر ثمَّ ودعه ورحل قلت وَمَا أحسن مَا قَالَ ابْن الذروي فِي الآراء الْفَاضِلِيَّةِ من قصيدة مدحه بهَا (لرأيك هَذَا النَّصْر للدّين ينتمي ... فَلَا يَنْتَحِلهُ كل عضب ولهذم) (وَإِن كَانَ فِيهِ للأسنة والظبى ... مساعدة فالفضل للمتقدم) (تُشِير على الْإِسْلَام مِنْك فراسة ... لَهَا حزم طب واحتراز منجم) (وتحميه أَلْفَاظ لديك كَأَنَّهَا ... قواطع بتر أَو نوافذ أسْهم) (أَلا حبذا فتح نشرت لِوَاءُهُ ... وَقلت لخيل ألله يَا خيل أقدمي) (وَقمت وَقد نَام الْأَنَام مناجيا ... لمولاي نج الْمُسلمين وَسلم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فصل فِي دُخُول السُّلْطَان رَحمَه الله السَّاحِل الآخر وَفتح مَا يسر الله تَعَالَى من بِلَاده قَالَ الْعِمَاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان فسلك فِي جبل يبوس إِلَى عين الْجَرّ إِلَى الدلهمية على الْبِقَاع وأتى بعلبك وخيم بمرج عدوسة ثمَّ رَحل على سمت اللبوة ثمَّ أَتَى الزِّرَاعَة وَوصل الْخَبَر بوصول عماد الدّين صَاحب سنجار فِي جموعه وَجُنُوده ونزوله على قدس من عمل حمص على نهر العَاصِي وَلما ترَاءى موكبه لموكب السُّلْطَان تقَابل القمران ثمَّ تقارن النيرَان وَاجْتمعَ السعدان وَسعد الْجَمْعَانِ فخيم السُّلْطَان عِنْد مخيمه وَسَأَلَ أَن يزوره السُّلْطَان بموكبه فَأجَاب دَعوته ثمَّ رتب السُّلْطَان يَوْمًا لحضوره عِنْده وتهاديا وتصافيا وَكَانَ أَيَّام المشمش وَقد وصل من دمشق فَأَفْرَح قدومه وطلعت فِي أبراج الأطباق نجومه كَأَنَّهَا كرات من التبر مصوغة أَو بالورس مصبوغة صفر كَأَنَّهَا ثَمَر الرَّايَات الناصرية حلا منْظرًا وذوقا وَلَو نظم جوهره لَكَانَ طوقا كَأَنَّمَا خرط من الصندل وخلط بالمندل وجمد من الثَّلج وَالْعَسَل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وتصاحب هُوَ وَالسُّلْطَان فِي الرّكُوب وَالْجُلُوس والتناجي بِمَا فِي النُّفُوس وتكررت الْمُشَاورَة فِي الْموضع الَّذِي يبتدأ بِقَصْدِهِ وَاتَّفَقُوا على عرقا وعقرها وَالنُّزُول بعقرها وَأَنَّهَا اذا ملكت ملكت طرابلس فأقاموا بقدس إِلَى آخر الشَّهْر حَتَّى اجْتمعت الجموع ووصلت قبائل العربان ثمَّ سَار السُّلْطَان أول ربيع الآخر وخيم بِقرب حصن الأكراد على البقيعة ثمَّ شن الاغارة على نواحي الْحصن وصافيثا والعريمة وَتلك الْحُصُون فاستخرج مَا فِيهَا من المخزون وَفتح حصن يحمور وسامه الدمور وَلم تزل الاغارات والغنائم وهم فِي تِلْكَ الْمنزلَة إِلَى آخر الشَّهْر فوصل قَاضِي جبلة مَنْصُور بن نبيل وَجَمَاعَة مَعَه فَأَشَارَ على السُّلْطَان بقصدها وتكفل بِفَتْحِهَا وَفتح اللاذقية وَتلك الْحُصُون والمعاقل الشمالية وَكَانَت تِلْكَ الْبِلَاد قد سلمهَا إِلَيْهِ ابرنس أنطاكية وعول عَلَيْهِ فِيهَا وَقَالَ إِن الِاشْتِغَال بطرابلس مَعَ احتراسها يذهب الزَّمَان ويفوت الامكان والمسلمون بجبلة مجبولون على التَّسْلِيم مؤملون أَن يتبدل شقاؤهم مِنْك بالنعيم فأصغى السُّلْطَان إِلَى قَوْله وأصفى لَهُ ورد طوله وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ مقدمو جبل بهرا فوفر لَهُم رواتبهم وأجرى فندبوا إِلَى أتباعهم وَكَتَبُوا إِلَى أشياعهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فصل فِي فتح أنطرطوس قَالَ الْعِمَاد وَأجْمع السُّلْطَان على دُخُول السَّاحِل بِتِلْكَ العساكر والجحافل فَرَحل يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الأولى فسرنا فِي آجام مؤتشبة وآكام معشبة وحزون وسهول وشعاب وتلول حَتَّى خرجنَا إِلَى ساحة السَّاحِل ونزلنا بهَا وسرنا السَّاحِل السَّاحِل فِي ثَلَاث مراحل حَتَّى وصلنا أنطرطوس سادس الشَّهْر فأحدقنا بهَا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر فأخلى الفرنج الْبَلَد وَمَا أحوجوا إِلَى الْحصْر واجتمعوا فِي برجين عظيمين هما لأنطرطوس كالقلعتين ونقلوا إِلَيْهِمَا من الْأَمْوَال مَا قدرُوا عَلَيْهِ فحصر مظفر الدّين كوكبري أحد البرجين حَتَّى أنزلهم بالأمان ثمَّ نقبه من أساسه وألقاه على أم راسه وَعجل دماره وَألقى فِي الْبَحْر أحجاره وَملك جَمِيع مَا فِيهِ وَامْتنع البرج الآخر وَفِيه الداوية وشوكتهم ومقدمهم الَّذِي أسر يَوْم حطين وَأطلق لما سلم مَا اشْترط عَلَيْهِ من الْبِلَاد ثمَّ اجْتمع بِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا البرج وَقواهُ بالآت الْحصْر فَامْتنعَ فَتحه فاشتغل الْمُسلمُونَ بتعفية الْبَلَد واخلائه وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد دخل السُّلْطَان السَّاحِل على تعبية لِقَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الْعَدو ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أَولا ومقدمها عماد الدّين زنكي وَالْقلب فِي الْوسط والميسرة فِي الْأَخير ومقدمها مظفر الدّين بن زين الدّين وَسَار الثّقل فِي وسط العسكرحتى أَتَى الْمنزل فبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة فِي بلد الْعَدو ثمَّ رَحل فِي صَبِيحَة السبت وَنزل على العريمة فَلم يقاتلها وَلم يعرض لَهَا وَلَكِن أَقَامَ عَلَيْهَا بَقِيَّة يَوْمه ورحل يَوْم الْأَحَد وَوصل أنطرطوس فَوقف قبالتها ينظر إِلَيْهَا وَكَانَ فِي عزمه الاجتياز إِلَى جبلة فاستهان بأمرها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جَانب الْبَحْر وَأمر الميسرة بالنزول على الْبَحْر من الْجَانِب الآخر فَمَا استتم نصب الخيم حَتَّى صعد النَّاس السُّور وغنم الْعَسْكَر جَمِيع من بهَا وَمَا بهَا وَخرج النَّاس والأسرى بِأَيْدِيهِم وَأَمْوَالهمْ وَترك الغلمان نصب الخيم وَاشْتَغلُوا بِالْكَسْبِ والنهب ووفى بقوله رَحمَه الله فَإِنَّهُ كَانَ قد عرض عَلَيْهِ الْغَدَاء فَقَالَ نتغدى بأنطرطوس إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَعَاد إِلَى خيمته فَرحا مَسْرُورا وحضرنا عِنْده للهناء بِمَا جرى وَمد الطَّعَام وَحضر النَّاس وأكلوا على عَادَتهم ورتب على البرجين الباقيين الْحصار فَسلم أَحدهمَا إِلَى مظفر الدّين فَمَا زَالَ يحاصره حَتَّى أخربه وَأخذ من كَانَ فِيهِ وَأمر السُّلْطَان باخراب سور الْبَلَد وقسمه على الْأُمَرَاء وَكَانَ البرج الآخر حصينا منيعا مَبْنِيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 بِالْحجرِ النحيت وَقد اجْتمع من كَانَ فِيهَا من الخيالة والمقاتلة فِيهِ وخندقه فِيهِ المَاء وَفِيه جروخ كَثِيرَة تجرح النَّاس عَن بعد فَرَأى السُّلْطَان تَأْخِير أمره والاشتغال بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ فَاشْتَدَّ فِي خراب السُّور حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ وَخرب الْبيعَة وَهِي بيعَة عَظِيمَة عِنْدهم محجوج إِلَيْهَا من أقطار بِلَادهمْ وَأمر بِوَضْع النَّار فِي الْبَلَد فَأحرق جَمِيعه والأصوات مُرْتَفعَة بالتهليل وَالتَّكْبِير وَأقَام عَلَيْهَا يخربها إِلَى رَابِع عشر الشَّهْر وَسَار يُرِيد جبلة وَعرض لَهُ وَلَده الظَّاهِر فِي أثْنَاء طَرِيق جبلة وَمَعَهُ العساكر الَّتِي كَانَت بتيزين فصل فِي فتح جبلة وَغَيرهَا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ وُصُول السُّلْطَان إِلَى جبلة يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر الشَّهْر وَمَا استتم نزُول الْعَسْكَر حَتَّى أَخذ الْبَلَد وَكَانَ فِيهِ مُسلمُونَ مقيمون فِيهِ وقاض يحكم بَينهم وَكَانَ قد عمل على الْبَلَد فَلم يمْتَنع وَبقيت القلعة ممتنعة وَنزل الْعَسْكَر محدقا بِالْبَلَدِ وَقد دخله الْمُسلمُونَ واشتغل بِقِتَال القلعة فقوتلت قتلا يُقيم عذرا لمن كَانَ فِيهَا وسلمت بالأمان يَوْم السبت تَاسِع عشر الشَّهْر وَأقَام عَلَيْهَا إِلَى الثَّالِث وَالْعِشْرين وَسَار عَنْهَا يطْلب اللاذقية وَقَالَ الْعِمَاد بعد فتح أنطرطوس وصل إِلَيْنَا رجال حماة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 فَرَحل السُّلْطَان يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر الشَّهْر وَنزل على مرقية وَقد أخلاها سكانها فخيم فِيهَا أهل الْإِسْلَام وطاب لَهُم فِيهَا الْمقَام وَكَانَت الطَّرِيق إِلَى جبلة على السَّاحِل ضيقَة المسالك صعبة المراحل وَهُنَاكَ للفرنج الاسبتارحصن يُقَال لَهُ المرقب مأهول معمور وَلَا طَرِيق إِلَّا تَحت تله وَاتفقَ أَن طاغية صقلية لما شجاه مَا تمّ على الفرنج فِي السَّاحِل جهز أسطولا يشْتَمل من الشواني على سِتِّينَ قِطْعَة تحسب كل وَاحِدَة مِنْهَا قلعة أَو تلعة وَقدم عَلَيْهَا طاغية يُقَال لَهُ المرغريط فوصل وَمَا ضرّ وَلَا نفع فَإِن فرنج السَّاحِل مَا رفعوا بِهِ رَأْسا وتضجروا مِنْهُ وَكَانَ فِي عشرَة آلَاف رجل يَحْتَاجُونَ إِلَى ميرة وكلف كَبِيرَة فَصَارَ إِلَى صور ثمَّ رَجَعَ إِلَى طرابلس وَتردد فِي الْبَحْر وتلدد وأبلس واضطرب أشهرا لَا يظْهر لَهُ رَأْي وَلَا يرى لَهُ مظْهرا فَلَمَّا سمع بعبور عَسَاكِر الْمُسلمين على السَّاحِل إِلَى جبلة جَاءَ بالشواني وصفهَا على موازاة الطَّرِيق ومباراة الْمضيق وفيهَا الرُّمَاة فَأمر السُّلْطَان بِنَقْل الجفاتي إِلَى هُنَاكَ وتصفيفها وتكثير ستائرها وأجلس الرُّمَاة من وَرَائِهَا فَمَا زَالَ الْأَمر على ذَلِك وَالرُّمَاة ترمي وتصمي وَعَامة الْمُسلمين فِي سلوك ذَلِك الْمضيق حَتَّى خفت الأثقال وعبرت الْأَحْمَال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وخلص الْمُسلمُونَ من ذَلِك الشق بِغَيْر مشقة وجازوا على مَدِينَة يُقَال لَهَا بلنياس وَقد انجلى عَنْهَا النَّاس فخيم الْمُسلمُونَ فِيهَا ثمَّ اصبحوا على الرحيل فاعترضهم نهر عريض عميق مَا فِيهِ طَرِيق وَهُوَ مطرد من الْجَبَل إِلَى الْبَحْر وَفِيه قنطرة وَاحِدَة فتنكبها السُّلْطَان بالجحفل وَمضى يَمِينا إِلَى الْجَبَل وَأبْعد حَتَّى عبر فَوق رَأس الْعين واحتاطت العساكر بالنهر من الْجَانِبَيْنِ وتزاحمت الأثقال على القنطرة فَمَا خلصوا تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى آخرهَا وَنزل السُّلْطَان قبل وُصُول الأثقال على بَلْدَة وَهِي بَلْدَة كاسمها بَلْدَة وَهِي بليدَة من غربي النَّهر وعَلى شاطىء الْبَحْر وجانباها الْآخرَانِ خَنْدَق يلتقي فِيهِ البحران وَقد أخلاها أَيْضا أَهلهَا وتفرق شملها وَأصْبح السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر جُمَادَى الأولى على جبلة فتسلمها الْمُسلمُونَ فِي الْوَقْت وَذَلِكَ أَن قاضيها كَانَ قد سبق ودخلها وَقرن بالنجح للْمُسلمين أملهَا فَلَمَّا وصلوا أَعلَى الْأَعْلَام الناصرية على سورها وخلص الْمُسلمُونَ بهَا من مساكنة الْكَفَرَة وتحصن الفرنج بحصنيها واحتموا بقلعتيها فَمَا زَالَ قَاضِي جبلة يخوفهم ويرغبهم حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ بِشَرْط أَن يسترهنهم إِلَى أَن يردوا من أنطاكية رهائن جبلة من الْمُسلمين فضبط عِنْده جمَاعَة من رُؤُوس الفرنج والمقدمين حَتَّى أعَاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 صَاحب أنطاكية الرهائن الَّتِي عِنْده ففك بهَا رهائنه وَتَوَلَّى قَاضِي جبلة الْأَمر فاستخرج ذخائر الْكفْر ودفائنه واستنظفهم من كل سلَاح وعدة وخيل وَقُوَّة وَجَاء مقدمو الْجَبَل سَامِعين مُطِيعِينَ وَفِي الْجَبَل على سمت طَرِيق حماة حصن يعرف ببكسرائيل وَكَانَ أهل الْجَبَل استعادوه من الفرنج مُنْذُ سِنِين فتسلمه السُّلْطَان أَيْضا مِنْهُم ثمَّ سلم جبلة إِلَى سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وبجل قَاضِي جبلة وشرفه وَحبس عَلَيْهِ ملكا نفيسا وَوَقفه وَصَرفه فِي أَمْلَاك آبَائِهِ وَحكمه فِي ولَايَة حكمه وقضائه فصل فِي فتح اللاذقية قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهِي بلد مليح خَفِيف على الْقلب غير مسور وَله ميناء مَشْهُور وَله قلعتان متصلتان على تل يشرف على الْبَلَد فَنزل السُّلْطَان رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى محدقا بِالْبَلَدِ وَأخذ العسكرمنازلهم مستديرين على القلعتين من جَمِيع نَوَاحِيهَا إِلَّا من نَاحيَة الْبَلَد وَاشْتَدَّ الْقِتَال وَعظم الزَّحْف وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَقَوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 الضجيج إِلَى آخر النَّهَار وَأخذ الْبَلَد دون القلعتين وغنم النَّاس مِنْهُ غنيمَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ كَانَ بلد التُّجَّار وَفرق بَين النَّاس اللَّيْل وهجومه وَأصْبح يَوْم الْجُمُعَة مُقَاتِلًا مُجْتَهدا فِي أَخذ النقوب من شمَالي القلاع وَتمكن مِنْهَا النقب حَتَّى بلغ طوله على مَا حكى لي من ذرعه عشْرين ذِرَاعا وَعرضه أَربع أَذْرع فَاشْتَدَّ الزَّحْف عَلَيْهِ حَتَّى صعد النَّاس الْجَبَل وقاربوا السُّور وتواصل الْقِتَال حَتَّى صَارُوا يتحاذفون بحجارة الْيَد فَلَمَّا رأى عَدو الله مَا حل بِهِ من الصغار والبوار اسْتَغَاثُوا بِطَلَب الْأمان وطلبوا قَاضِي جبلة يدْخل إِلَيْهِم ليقرر لَهُم قَاعِدَة الْأمان فأجيبوا إِلَى ذَلِك وَكَانَ رَحمَه الله مَتى طلب مِنْهُ الْأمان لَا يبخل بِهِ فَعَاد النَّاس عَنْهُم إِلَى خيامهم وَقد أَخذ مِنْهُم التَّعَب فَبَاتُوا إِلَى صَبِيحَة السبت وَدخل قَاضِي جبلة إِلَيْهِم وَاسْتقر الْحَال مَعَهم على أَنهم يطلقون بِأَنْفسِهِم وذراريهم وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ خلا الغلال والذخائر وآلات السِّلَاح وَالدَّوَاب وَأطلق لَهُم دَوَاب يركبونها إِلَى مأمنهم ورقي عَلَيْهَا الْعلم الإسلامي الْمَنْصُور فِي بَقِيَّة يَوْم السبت وأقمنا عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى وَقَالَ الْعِمَاد رَحل السُّلْطَان إِلَى اللاذقية يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى فَبَاتَ بِالْقربِ مِنْهَا وصبحها يَوْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 الْخَمِيس وَقد لَاذَ أَهلهَا بقلاعها وَهِي ثَلَاث قلاع متلاصقات على طول التل متناسقات كأنهن على رَأس راس راسخ وذروة أَشمّ شامخ فسهل الله لنا فرعها وشرعنا نستأصل أَصْلهَا وفرعها فطلبوا السنجق الناصري ونصبوه على السُّور عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة فَلَمَّا أَصْبحُوا صعد إِلَيْهِم قَاضِي جبلة وأنزلهم بالأمان وتسلمت تِلْكَ القلاع بِمَا فِيهَا من عدَّة وذخيرة وأسلحة وميرة وخيل ودواب كَثِيرَة وأمنوا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وَانْصَرفُوا بنسائهم ورجالهم وذريتهم وأطفالهم وخفوا من أثقالهم وَدخل جمَاعَة مِنْهُم فِي عقد الذِّمَّة وتمسكوا بِحَبل الْعِصْمَة وانتقل الْبَاقُونَ إِلَى أنطاكية ثمَّ ولى السُّلْطَان بهَا مَمْلُوكه سنقر الخلاطي وَركب السُّلْطَان إِلَى الْبَلَد وطافه وهز إِلَى إحسانه اعطافه وأمنه بَعْدَمَا أخافه قَالَ ورأيتها بَلْدَة وَاسِعَة الأفنية جَامِعَة الْأَبْنِيَة متناسقة المغاني متناسبة الْمعَانِي فِي كل دَار بُسْتَان وَفِي كل قطر بُنيان أمكنتها مخرمَة وأزقتها مرخمة وعقودها محكمَة ومساكنها مهندسة مهندمة وسقوفها عالية وقطوفها دانية وأسواقها فضية وآفاقها مضية وأرجاؤها فسيحة وأهواؤها صَحِيحَة لَكِن الْعَسْكَر شعث عمارتها وأذهب نضارتها وَوَقع من عدَّة من الْأُمَرَاء الزحام على الرخام ونقلوا مِنْهُ أحمالا إِلَى مَنَازِلهمْ بِالشَّام فشوهوا وُجُوه الْأَمَاكِن ومحوا سنا المحاسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 قَالَ وبظاهر اللاذقية كَنِيسَة عَظِيمَة نفيسة قديمَة بأجزاء الأجزاع مرصعة وبألوان الرخام مجزعة وأجناس تصاويرها متنوعة وأصول تماثيلها متفرعة وَهِي متوازية الزوايا متوازنة البنايا قد تخيرت بهَا أشباح الْأَشْبَاه وصورت فِيهَا أمواج الأمواه وزينت لاخوان الشَّيْطَان وعينت لعبدة الْأَوْثَان والصلبان وَلما دَخلهَا النَّاس أخرجُوا رخامها وشوهوا أعلامها وحسروا لثامها وكسروا أجرامها وأهدوا الأسى لهد أساسها وأفاضوا عَلَيْهَا لِبَاس إبلاسها وحكموا بعد الْغنى بافلاسها وافتقرت وأقفرت وَخَربَتْ وتربت ثمَّ لما طابت النُّفُوس وتجلى عَن الْبَلَد بفتحه البوس عَاد إِلَى هَذِه الْكَنِيسَة بالأمان القسوس وَهِي متشوهة متشعثة مستمسكة بأركانها وقواعدها متشبثة قَالَ وَلَقَد كثر أسفي على تِلْكَ العمارات كَيفَ زَالَت وعَلى تِلْكَ الْحَالَات الحاليات كَيفَ حَالَتْ ولكنما زَاد سروري بِأَنَّهَا عَادَتْ لِلْإِسْلَامِ مرابع ولشموسه مطالع فَلَو بقيت بحليتها وحالتها بَعْدَمَا تبدلت رشدها من ضلالتها لشاقت وراقت وكما أفاقت فاقت وَرغب فِي إِعْطَاء الْجِزْيَة سكان الْبَلَد من النَّصَارَى والأرمن حبا للوطن وَلما أَرَادَ السُّلْطَان الرحيل دخل الْمَدِينَة ورد إِلَى سكانها السكينَة وَدَار خلال ديارها وخرق أسواقها فِي سَائِر أقطارها ووقف على الْبَحْر للنَّظَر إِلَى موانيها وشوانيها وأقاصيها وأدانيها وشكر الله على تَمْكِينه من ملكهَا وتخصيصه بملكها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَفِي كتاب عمادي إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن عَن السُّلْطَان قَالَ وَهَذِه اللاذقية مَدِينَة وَاسِعَة وخطة جَامِعَة معاقلها لَا ترام وأعلاقها لَا تستام وَهِي أحسن بِلَاد السَّاحِل وأحصنها وأزيدها أعمالا وضياعا وأزينها وَمَا فِي الْبَحْر مثل ميناها وَلَا للمراكب الْوَارِدَة إِلَيْهِ مثل مرْسَاها وَهِي جنَّة كَانَ يسكنهَا أهل الْجَحِيم وطالما مكثت بالْكفْر دَار بؤس فَعَادَت بِالْإِسْلَامِ دَار نعيم قَالَ وَكَانَت شواني صقلية قد قابلت فِي الْبَحْر اللاذقية طَمَعا فِي امتناعها فَلَمَّا خابت خبت نارها وقصدت لجهلها أَخذ مراكب من يخرج من أَهلهَا حنقا عَلَيْهِم كَيفَ سلمُوا الْبَلدة وسمحوا ببذلها فَكَانَ ذَلِك مقتضيا لبَقَاء ساكنيها بالجزية تؤديها وَلما وقف السُّلْطَان على شاطىء الْبَحْر بعساكره طلب مقدم تِلْكَ الشواني أَمَانه ليصعد ويشاهد سُلْطَانه فَأَمنهُ فَصَعدَ وعفر وَكفر وتروى سَاعَة وتفكر وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ أَنْت سُلْطَان عَظِيم وَملك رَحِيم وَقد شاع عدلك وذاع فضلك وقهر سلطانك وَظهر إحسانك فَلَو مننت على هَذِه الطَّائِفَة الساحلية الخائفة لملكت قيادها إِذا أعدت إِلَيْهَا بلادها وصاروا لَك عبيدا وأطاعوك قَرِيبا وبعيدا وَإِلَّا جَاءَك من وَرَاء الْبحار فِي عدد الأمواج أَفْوَاج بعد أَفْوَاج وَسَار إِلَيْك مُلُوك ذَوي الأقانيم من سَائِر الممالك والأقاليم وَهَؤُلَاء أَهْون مِنْهُم فاتركهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وَاصْفَحْ عَنْهُم فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان قد أمرنَا الله بتمهيد الأَرْض وَنحن قائمون فِي طَاعَته بِالْفَرْضِ وعلينا الِاجْتِهَاد فِي الْجِهَاد وَهُوَ الَّذِي يقدرنا على فتح الْبِلَاد وَلَو اجْتمع أهل الأَرْض ذَات الطول وَالْعرض لتوكلنا على الله فِي اللِّقَاء وَلم نبال بأعداد الْأَعْدَاء فصلب على وَجهه وَركب بكربه وَلم يغن خطابه عَن خطبه فصل فِي فتح صهيون وَغَيرهَا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد رَحل السُّلْطَان عَن اللاذقية ظهيرة الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى طَالب صهيون فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين فَاسْتَدَارَ الْعَسْكَر بهَا من جَمِيع نَوَاحِيهَا بكرَة الْأَرْبَعَاء وَنصب عَلَيْهَا سِتَّة مناجيق وَهِي قلعة حَصِينَة منيعة فِي طرف جبل خنادقها أَوديَة هائلة وَاسِعَة عميقة وَلَيْسَ لَهَا خَنْدَق محفور إِلَّا من جَانب وَاحِد مِقْدَار طوله سِتُّونَ ذِرَاعا وَلَا يبلغ وَهُوَ نقر فِي حجر وَلها ثَلَاثَة أسوار سوران دون ربضها وسور دون الْقلَّة وسور الْقلَّة وَكَانَ على قلتهَا علم طَوِيل مَنْصُوب فحين أقبل الْعَسْكَر الإسلامي شاهدته وَقد وَقع فَاسْتَبْشَرَ بذلك الْمُسلمُونَ وَعَلمُوا أَنه النَّصْر وَالْفَتْح وَاشْتَدَّ الْقِتَال عَلَيْهَا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 سَائِر الجوانب فضربها منجنيق وَلَده الْملك الظَّاهِر وَكَانَ نَصبه قبالة قرينَة من سورها قَاطع الْوَادي وَكَانَ صائب الْحجر فَلم يزل يضْربهَا حَتَّى هدم من السُّور قِطْعَة جَيِّدَة عَظِيمَة تمكن الصاعد فِي السُّور من الترقي إِلَيْهِ مِنْهَا وَلما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة عزم السُّلْطَان على الزَّحْف وَركب وَتقدم وتواترت المنجنيقات بِالضَّرْبِ وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَعظم الضجيج بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى رقي الْمُسلمُونَ على أسوار الربض وَاشْتَدَّ الزَّحْف وَعظم الْأَمر وهجم الْمُسلمُونَ الربض وَلَقَد كنت أشاهد النَّاس وهم يَأْخُذُونَ الْقدر وَقد اسْتَوَى فِيهَا الطَّعَام فيأكلونها وهم يُقَاتلُون القلعة وانضم من كَانَ فِي الربض إِلَى القلعة بِمَا أمكنهم أَن يحملوه من أَمْوَالهم وَنهب الْبَاقِي واستدار الْمُقَاتلَة حول أسوار القلعة فَلَمَّا عاينوا الْهَلَاك اسْتَغَاثُوا بِطَلَب الْأمان فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على أَن يسلمُوا بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ وَيُؤْخَذ من الرجل مِنْهُم عشرَة دَنَانِير وَعَن الْمَرْأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن الصَّغِير دِينَارَانِ فَسلمت القلعة وَأقَام السُّلْطَان حَتَّى تسلم عدَّة قلاع كالعيذو وبلاطنس وَغَيرهمَا من القلاع والحصون فتسلمها النواب فانها كَانَت تتَعَلَّق بصهيون وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ الطَّرِيق إِلَى صهيون فِي أَوديَة وشعاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 ومنافذ صعاب وأوعاث وأوعار وأنجاد وأغوار فقطعنا تِلْكَ الطَّرِيق فِي يَوْمَيْنِ ووصلنا لَيْلَة الثُّلَاثَاء بليلة الأثنين وخيمنا على صهيون يَوْم الثُّلَاثَاء وَهِي قلعة على ذرْوَة جبل بَين واديين عميقيين يَلْتَقِيَانِ عَلَيْهَا ويدوران حواليها والجانب الْجبلي مَقْطُوع مِنْهُ بخندق عَظِيم عميق وسور وثيق مَا إِلَيْهِ سوى للْقَضَاء وَالْقدر من طَرِيق والقلعة ذَات أسوار خَمْسَة كَأَنَّهَا خمس هضاب ممتلئة بذئاب سغاب وَأسد غضاب وأحاط الْعَسْكَر بهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء من نَوَاحِيهَا الْأَرْبَع وَهِي ممتنعة علينا بالركن الأمنع والسمو الأمتع وَنقل السُّلْطَان خيمته إِلَى جَانب الْجَبَل وَأقَام الْملك الظَّاهِر غَازِي صَاحب حلب منجنيقين ونهج بهما من جَانب الْوَادي إِلَى ردى الأعادي طَرِيقين وَكَانَ لَهُ فِي فتح هَذِه القلعة الْجد العالي وَالْجد الْوَالِي فانه اتَّصل بِنَا قبل الْوُصُول إِلَى جبلة من طَرِيق حماة وَقد استصحب الكماة الحماة وَمَعَهُ الرِّجَال الحلبية والمنجنيقية والجرخية والجاندارية والخراسانية واستصحب الحدادين والحجارين والنجارين فأظهر على صهيون الْيَد الْبَيْضَاء وأنار فِي فضاء الْفَضَائِل وأضاء وَكَانَ نازلا على جَانب الْوَادي مُقَابل الْحصن وَشرع الْجِدَار فِي الأنقضاض واصبحنا يَوْم الْخَمِيس وللجلاميد وُقُوع وللسور سُجُود وركوع وَمَا زَالَت المجانيق من جَانِبه وجانبنا ترمي والحنايا بسهام المنايا تصمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 حَتَّى قتل وجرح أَكثر مقاتلة الْحصن وَهَان بِمَا دب فِيهِ من الوهن وأصبحنا يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة وبحر الْحَرْب فِي أمواجه الزاخرة وتطرق اصحابنا من قرنة خفيت عَلَيْهِم من الخَنْدَق لم تحكم عمارتها كَأَن الله أعماهم عَنْهَا حَتَّى يسْلك الحتف إِلَيْهِم مِنْهَا فتعلقوا فِي الصخور وتسلقوا السُّور وملكوا عَلَيْهِم ثَلَاثَة أسوار واحتووا على كل مَا فِيهَا من ذخائر وغلال ودواب وأبقار وازدحم الفرنج فِي الْقلَّة وتفادوا من الْخَوْف لَا من الْقلَّة وصاحوا الْأمان وبذلوا الاذعان وَنَادَوْا مكنونا من السَّلامَة وتسلموا الْمَكَان فَمَا أمنُوا على المَال وَالنَّفس حَتَّى قَررنَا عَلَيْهِم مثل قطيعة الْقُدس وأغلقت دونهم الْأَبْوَاب وسيرت إِلَيْهِم النواب وَمَا اسْتَقر خُرُوجهمْ حَتَّى استخرج الْقَرار وجبي الدِّرْهَم وَالدِّينَار وَعم الصغار الْكِبَار وَالصغَار وَتَوَلَّى ذَلِك شُجَاع الدّين طغرل الجاندار ثمَّ سلم حصن صهيون بِجَمِيعِ أَعماله وَسَائِر مَا حواه من ذخائره وأمواله إِلَى الْأَمِير نَاصِر الدّين منكورس بن خمارتكين صَاحب بوقبيس فأحكمه وحصنه وَحفظه وَحسنه وتسلم يَوْم السبت قلعة العيذو وَيَوْم الْأَحَد قلعة الجماهريين وَيَوْم الِاثْنَيْنِ حصن بلاطنس وَندب إِلَى كل حُصَيْن من تسلمه وسلكه فِي سلك الْفتُوح ونظمه قَالَ وبفتح صهيون حصل الْأَمْن على اللاذقية وَقَوي الأمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 فِي فتح أنطاكية فَإِنَّهُ قفل مُحكم على بَابهَا وَسبب قوي من أَسبَابهَا فَفتح الرتاج ووضح الْمِنْهَاج فصل فِي فتح بكاس والشغر وسرمانية قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا بكاس وَهِي قلعة حَصِينَة على جَانب العَاصِي وَلها نهر يخرج من تحتهَا وَكَانَ النُّزُول بذلك الْمنزل على شاطىء العَاصِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس جُمَادَى الْآخِرَه وَصعد السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى القلعة وَهِي على جبل مطل على العَاصِي فأحدق بهَا من كل جَانب وقاتلها قتالا شَدِيدا بالمنجنيقات والزحف المضايق إِلَى يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَه وَيسر الله فتحهَا عنْوَة وَأسر من فِيهَا بعد قتل من قتل مِنْهُم وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَكَانَ لَهَا قليعة تسمى الشغر قريبَة مِنْهَا يعبر إِلَيْهَا مِنْهَا بجسر وَهِي فِي غَايَة المنعة لَيْسَ إِلَيْهَا طَرِيق فسلطت عَلَيْهَا المنجنيقات من الجوانب وَرَأَوا أَنهم لَا نَاصِر لَهُم فطلبوا الْأمان وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشره وسألوا أَن يؤخروا ثَلَاثَة أَيَّام لاستئذان من بأنطاكية يسر الله فتحهَا فَأذن فِي ذَلِك وَكَانَ تَمام فتحهَا وصعود الْعلم السلطاني على قلتهَا يَوْم الْجُمُعَة سادس عشره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 ثمَّ عَاد السُّلْطَان إِلَى الثّقل وسير وَلَده الظَّاهِر إِلَى قلعة تسمى السرمانية يَوْم السبت سَابِع عشره فقاتلها قتالا شَدِيدا وضايقها مضايقة عَظِيمَة وتسلمها أَيْضا يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشري الشَّهْر الْمَذْكُور قَالَ فاتفق فتوحات السَّاحِل من جبلة إِلَى سرمانية فِي أَيَّام الْجمع وَهِي عَلامَة قبُول دُعَاء خطباء الْمُسلمين وسعادة السُّلْطَان حَيْثُ يسر الله لَهُ الْفتُوح فِي الْيَوْم الَّذِي يُضَاعف فِيهِ ثَوَاب الْحَسَنَات قَالَ وَهَذَا من نَوَادِر الفتوحات فِي الْجمع المتوالية لم يتَّفق مثلهَا فِي تَارِيخ وَقَالَ الْعِمَاد سَار السُّلْطَان ثَانِي يَوْم فتح صهيون على سمت القرشيه وَنزل على العَاصِي فِي طَاعَة الله على تل كشفهان فتسلم حصن بكاس يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع الشَّهْر وحول خيمة خَفِيفَة إِلَى الْجَبَل لحصار قلعة الشغر وَهِي قلَّة شامخة من أَعلَى القلل مطلة على وَاد عميق وَكَانَ الْكفَّار قد أخلوا بكاس من الرعب واحتموا بقلعة الشغر وَهِي عالية حَصِينَة منيعة لَا تصل المجانيق إِلَيْهَا فاستصعب السُّلْطَان أَخذهَا وَخَافَ من طول أمرهَا فَبَيْنَمَا هُوَ مفكر فِي ذَلِك والفرنج قد داخلهم الرعب فأرسلوا فِي طلب الْأمان واستمهلوا ثَلَاثَة أَيَّام فَكبر الْمُسلمُونَ وفرحوا وَأَصْبحُوا يَوْم الْجُمُعَة والشغر شاغر وَالْكفْر صاغر فتسلمها الْمُسلمُونَ وتصرفوا فِيهَا وَفِيمَا تحويه من ذخائر وَعدد ودواب وأنعام وأنعم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 السُّلْطَان بهَا وبقلعة بكاس وَتلك الْأَعْمَال على غرس الدّين قليج وَكَانَ هَذَا قليج قد تسلم كفردبين وَهُوَ معقل حُصَيْن يسكنهُ الأرمن فِي ذَلِك الصقع وبذل فِي استخلاصه غَايَة الوسع فولاه السُّلْطَان تِلْكَ الْحُصُون وحاط بايالته أمرهَا المصون وَعَاد إِلَى مخيمه يَوْم السبت وَهُوَ حسن السمت كريم النَّعْت قَالَ وَكَانَ الْملك الظَّاهِر عِنْد اشتغالنا بِفَتْح قلعة الشغر قد نزل على سرمانية مضايقا لَهَا بالحصر فتسلمها يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشري الشَّهْر وَذَلِكَ بعد قطيعة قررها وَقَبضهَا وَلما أخرجهم مِنْهَا دَخلهَا فَأبْطل عمارتها وعطلها وَهدم بنيانها وهد أَرْكَانهَا وَمَا برح حَتَّى سواهَا بِالْأَرْضِ وخلط طولهَا بِالْعرضِ قَالَ وَهَذِه سِتّ مدن وقلاع فتحت فِي سِتّ جمع تبَاع جبلة واللاذقية وصهيون وبكاس والشغر وسرمانية وَأطلق بهَا الْأَنْفس والنفائس العانية فقد كَانَ فِي هَذِه المعاقل من أُسَارَى الْمُسلمين عدَّة لَوْلَا فتحهَا لما زَالَت عَنْهُم تِلْكَ الشدَّة وَهَذَا أقليم جبلة واللاذقية هُوَ عين أنطاكية الَّتِي فقئت ونحرها الَّذِي عَنهُ حلئت وَلم يبْق لأنطاكية من الْحُصُون سوى ثَلَاثَة الْقصير وبغراس ودربساك وَقد أَصبَحت مَعْدُومَة الْأَطْرَاف قد قطعت أيديها وأرجلها من خلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فصل فِي فتح حصن برزيه قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى قلعة برزيه وَهِي قلعة حَصِينَة فِي غَايَة القوه والمنعة على متن جبل شَاهِق يضْرب بهَا الْمثل فِي جَمِيع بِلَاد الفرنج وَالْمُسْلِمين يُحِيط بهَا أَوديَة من سَائِر جوانبها وذرع علو قلتهَا فَكَانَ خمس مئة ذِرَاع ونيفا وَسبعين ذِرَاعا ثمَّ حرر عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثّقل فَنزل تَحت جبلها وَفِي بكرَة الْأَحَد الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة صعد السُّلْطَان جَرِيدَة مَعَ الْمُقَاتلَة والمنجنيقات والآت الْحصار إِلَى الْجَبَل فأحدق بالقلعة من سَائِر نَوَاحِيهَا وَركب الْقِتَال عَلَيْهَا من كل جَانب وَضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضَّرْب لَيْلًا وَنَهَارًا وقاتلها حَتَّى كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين فقسم الْعَسْكَر ثَلَاثَة أَقسَام ورتب كل قسم يُقَاتل شطرا من النَّهَار ثمَّ يستريح ويتسلم الْقِتَال الشّطْر الآخر بِحَيْثُ لَا يفتر الْقِتَال عَنْهَا أصلا وَكَانَ صَاحب النّوبَة الأولى عماد الدّين صَاحب سنجار فقاتلها قتالا شَدِيدا حَتَّى استوفى نوبَته وضرس النَّاس من الْقِتَال وتراجعوا عَنهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وتسلم النّوبَة الثَّانِيَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَركب وتحرك خطوَات عدَّة وَصَاح فِي النَّاس فحملوا عَلَيْهَا حَملَة الرجل الْوَاحِد وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وقصدوا السُّور من كل جَانب فَلم يكن إِلَّا بعض سَاعَة حَتَّى رقي النَّاس على الأسوار وهجموا القلعة وَأخذت عنْوَة واستغاثوا الْأمان وَقد ملئت الْأَيْدِي مِنْهُم {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} وَنهب جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَأسر جَمِيع من كَانَ بهَا وَكَانَ قد أَوَى إِلَيْهَا خلق عَظِيم وَكَانَت من قلاعهم الْمَذْكُورَة وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما وَعَاد النَّاس إِلَى خيامهم غَانِمِينَ وَعَاد السُّلْطَان إِلَى الثّقل وأحضر بَين يَدَيْهِ صَاحب القلعة وَكَانَ رجلا كَبِيرا مِنْهُم فَكَانَ هُوَ وَمن أَخذ من أهليه سَبْعَة عشر نفسا فَمن عَلَيْهِم السُّلْطَان ورق لَهُم وأنفذهم إِلَى صَاحب أنطاكية استمالة لَهُ فَإِنَّهُم كَانُوا يتعلقون بِهِ وَمن أَهله وَقَالَ الْعِمَاد وصف للسُّلْطَان قلعة برزيه وَأَنَّهَا لحصن أفامية متاخمة وَله مُنَاصَفَة مقاسمة وَأَن الْمُسلمين فِي جوارها فِي جور وَفِي حور بعد كور ووصفوا علوها فَركب السُّلْطَان إِلَيْهَا وأشرف عَلَيْهَا فألفاها كَمَا وصفوها وبالغوا فِيهَا وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 أنصفوها فنصب عَلَيْهَا المجانيق فَوَقَعت أحجارها دونهَا وَلم تحرّك سكونها وَكَيف تهدد الخنساء بصخر والعنقاء بصقر وَحجر الْجَبَل بِحجر ومدار الْفلك بمدر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك قوي رَأْيه على أَن يفرق الْعَسْكَر ثَلَاث فرق ويتناوبون على قِتَالهمْ زحفا ليتعبوهم ويضجروهم فَإِنَّهُ عدد مَحْصُور عَمَّا قَلِيل تفنى عدتهمْ وتقل عدتهمْ فَفعل ذَلِك وَكَانَت النّوبَة الأولى لصَاحب سنجار وَالثَّانيَِة للسُّلْطَان وخواصه ثمَّ امتزجت الثالثه بِالثَّانِيَةِ وعادت رجال النّوبَة الأولى وتناصرت أنصار الله على النزال لاستنزال النَّصْر وأحمدوا عَاقِبَة الصَّبْر فِي الْحصْر فَطلب الْعَدو الْأمان وَأَرْسلُوا إِلَى السُّلْطَان وَكَانَ أَصْحَابنَا خالطوهم وباسطوهم وَأَحَاطُوا بهم وَهُنَاكَ جمَاعَة من دهاة الْعَسْكَر أشاعوا للنَّاس أَن السُّلْطَان يؤمنهم فَرجع الْعَالم عَنْهُم وَلم ينالوا مِنْهُم فَلَمَّا رد السُّلْطَان رسولهم وَلم يؤمنهم سَاق أُولَئِكَ السبايا قدامهم كَمَا يسوقون أغنامهم وخانوا اخوانهم وراموا حرمانهم وَتَفَرَّقُوا بِالسَّبْيِ أَيدي سبأ وسافروا بهَا من الْعَسْكَر إِلَى الْبِلَاد وباعوها فِي سوق الكساد وتسلم السُّلْطَان حصن برزيه ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة وولاه الْأَمِير عز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم وَهُوَ صَاحب حصن أفامية مناظر برزيه وَهُوَ على الثغر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وَمَا بَين الحصنين بحيرة تحجز الْجَانِبَيْنِ وصيادوها الْمُسلمُونَ بأفامية فخلص للاسلام الثغر وَسكن الدَّهْر قَالَ وَكَانَت صَاحِبَة حصن برزيه أُخْت زَوْجَة الابرنس صَاحب أنطاكية وَقد سبيت وخبيت فَمَا زَالَ يطْلبهَا حَتَّى اظهروها وأحضروها وَزوجهَا وَابْنَة لَهَا وَجَمَاعَة من أَصْحَابهَا وصهرها وَكَانَت أمْرَأَة ابرنس أنطاكية تعرف بدام سَبِيل فِي مولاة السُّلْطَان عينا لَهُ على الْعَدو تهاديه وتناصحه وتطلعه على أسرارهم وَالسُّلْطَان يكرمها لذَلِك وَيهْدِي لَهَا أنفس الْهَدَايَا فَلَمَّا فتح حصن برزيه وَحصل فِي أسره هَذِه الْجَمَاعَة وافترقت بهم أَيدي الْمُسلمين تتبعهم السُّلْطَان وخلصهم من الْأسر وأنعم عَلَيْهِم وجهزهم وسيرهم إِلَى أنطاكية لأجل امْرَأَة الابرنس فشكرته على ذَلِك ودامت مودتها ونفعها للْمُسلمين وَفِي بعض كتب البشائر الْعمادِيَّة آخر مَا فتحناه حصن برزيه الَّذِي تضرب بحصانته الْأَمْثَال وَلَا ترقى إِلَى ذرْوَة تمنيه الآمال وَقد أخذناه بِالسَّيْفِ عنْوَة وفتحناه ضحوة فيا لَهَا ضحوة ليَوْم الثُّلَاثَاء أظلمت على أهل التَّثْلِيث وألهى ألله الْمُؤمنِينَ عَن ذكر الْفتُوح الْقَدِيمَة بِحَدِيث هَذَا الْفَتْح الحَدِيث وَلَو وكلنَا ألله إِلَى اجتهادنا فِي الْفَتْح لتعذر وَلكنه سُبْحَانَهُ سهل وَيسر وَمن كتاب فاضلي إِلَى السُّلْطَان وصلت كتب الْبشَارَة بِفَتْح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 حصن برزيه وَهُوَ الَّذِي تضرب بِهِ الْأَمْثَال وتضرب عَنهُ الآمال ويكاد يحرن إِذا قادت أَيدي السلَاسِل أزمة الْجبَال ويكاد يذم ساكنيه من خطرات الأوجال بل من خطوَات الْآجَال وَكَانَ للكفر درعا حَصِينَة طالما كَانَت تهزأ بالنصال فعظمت الْمِنَّة السُّلْطَانِيَّة عِنْد أهل الْإِسْلَام ودعوا بِأَن يفلج الله حجَّة سَيْفه الألد الْخِصَام وَقد كَانَ النَّاس يعدون مواهبه مِمَّا لَا تحصى فقد لحقت بهَا فتوحاته فَهِيَ ايضا لَا تحصر فمرحبا بفتوح يَقُول غائبها الْحَمد لله وحاضرها الله أكبر وَمَا بَقِي الْمَمْلُوك يستبطىء خبر أنطاكية فقد أَلْقَت الأَرْض أفلاذها وَقد ولدت لكرمه ذهبها ولنصره فولاذها وَلم نر فِي نعم الله مثلهَا نعْمَة كَرِيمَة وجيهة وَلَا نَعْرِف بعْدهَا للزمن سَيِّئَة وَلَا كريهة إِلَّا أَنا نرْجِع فِي معرفَة قدرهَا وإخلاص شكرها إِلَى مَا رضيه الله شكرا مِمَّن نجاه من أهوال يَوْم الْقِيَامَة وَأدْخلهُ دارالمقامة بِأَنَّهُم قَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَكَانَ آخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين فَرضِي بِالْحَمْد مِنْهُم وَرَضي عَنْهُم وَأثْنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 عَلَيْهِم بِأَنَّهُم اختتموا بِهِ وافتتحوا وقدسوا بِهِ وسبحوا وثقلت بِهِ مَوَازِين أَعْمَالهم فرجحت ورجحوا وَنحن نقُول الْحَمد لله على بهجة الدُّنْيَا بمولانا ونضرتها وعَلى عزة الْملَّة بِهِ ونضرتها وعَلى بهجة الْقُلُوب بِهِ ومسرتها وعَلى غنى الْأَيْدِي بِهِ وميرتها وعَلى روعة قُلُوب الْأَعْدَاء بِهِ وحسرتها {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} وفتوح مَوْلَانَا من تِلْكَ النعم وَإِن قَصرنَا فِي شكرها فَمَا نقصر فِي ذكرهَا وَإِن عجزنا عَن حصرها فَمَا نعجز عَن الْمعرفَة بِفضل قدرهَا وَتلك النعم بِحَمْد الله منتظمة الْعُقُود مطردَة السُّعُود متوافية الرُّسُل عامرة السبل خارقة العوائد قارنة المساعي بالمساعد كَادَت الْعُيُون قبل وُقُوعهَا تلحظها وكادت المنابر لما يدرس عَلَيْهَا من كتبهَا تحفظها فَمَا يشْرَح صدر من خَبَرهَا فيسمعه ذُو صدر إِلَّا انْشَرَحَ وَمَا يسْأَل النَّاس هَل فتح الْملك النَّاصِر وَإِنَّمَا يُقَال مَا أسم الْبَلَد الَّذِي فتح فَمن عِنْد مَوْلَانَا الْجنان وَمن عندنَا اللِّسَان وَعَلِيهِ الْجهد وعلينا الْحَمد فَهِيَ فتوح كثمرات الْجنَّة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة وأعمالها المبرورة إِلَى الله تَعَالَى مَرْفُوعَة وَمن قصيدة لِلشِّهَابِ فتيَان الشاغوري وَقد تقدم بَعْضهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 (لما ملكت حصون أنطاكية ... يئس الصَّلِيب وَحزبه من مظهر) (أرديت كل مثلث متكبر ... بموحد متواضع فمكبر) (برزت إِلَى برزيه عزمتك الَّتِي ... مدت يدا عَن مطلب لم يقصر) (فتناولته بأيدها من باذخ ... فِي الْأُفق ذِي مثل يروع مسير) (فأنهد لصور فَهِيَ أحسن صُورَة ... فِي هيكل الدُّنْيَا بَدَت لمصور) (مَا سور صور عَاصِم مِنْهُ وَهل ... سور المعاصم عَاصِم لمسور) فصل فِي فتح حصن دربساك قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار السُّلْطَان حَتَّى أَتَى جسر الْحَدِيد وَأقَام عَلَيْهِ أَيَّامًا وَسَار حَتَّى نزل على دربساك يَوْم الْجُمُعَة ثامن شهر رَجَب وَهِي قلعة منيعة قَرِيبه من أنطاكية يسر الله فتحهَا فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها قتالا شَدِيدا بالمنجنيقات وضايقها مضايقة عَظِيمَة وَأخذ النقب تَحت برج مِنْهَا وَتمكن النقب مِنْهُ حَتَّى وَقع وحموه بِالرِّجَالِ والمقاتلة ووقف فِي الثغرة رجال يحمونها عَمَّن يصعد فِيهَا قَالَ وَلَقَد شاهدتهم وَكلما قتل رجل مِنْهُم قَامَ غَيره مقَامه وهم قيام عوض الْجِدَار مكشوفين وَاشْتَدَّ الْأَمر حَتَّى طلبُوا الْأمان واشترطوا مُرَاجعَة أنطاكية وَكَانَت الْقَاعِدَة أَن ينزلُوا بِأَنْفسِهِم وَثيَاب أبدانهم لَا غير ورقي عَلَيْهَا الْعلم الإسلامي يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا ثَانِي عشري رَجَب وَأَعْطَاهَا علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر وَسَار عَنْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 من الْغَد بكرَة السبت وَقَالَ الْعِمَاد ثمَّ عبر نهر العَاصِي إِلَى شرقيه عِنْد شقيف دركوش وَهُوَ ثغر على الْفُرَات لِلْإِسْلَامِ منيع فجزناه وخيمنا على جسر الْحَدِيد أَيَّامًا حَتَّى اسْتكْمل الْعَسْكَر راحاته وتكامل وَنحن بِقرب أنطاكية وَقد صوبنا إِلَيْهَا عزائمنا الناكية ثمَّ قُلْنَا قدامها حصون وحماها بحمايتها مصون فَإِذا ذهبت معاقلها جاءتها غوائلها فنزلنا على دربساك وَهُوَ حصن للداوية وَقد اعتصموا بعصمته وامتنعوا بمنعته فنصبنا عَلَيْهِ المنجنيقات فَمَا زَالُوا يجالدون ويجتلدون إِلَى أَن ضَاقَ بهم الخناق وتسلق النقابون إِلَى الباشورة وهدوا بالنقب برجا ووسعوا للزحف نهجا فطلبوا الْأمان وفدوا أنفسهم بألوف فَأمنُوا على أَنهم يخرجُون بهوانهم وَثيَاب أبدانهم وَيدعونَ كل مَا فِي الْحصن من خيل وعدة وذخيرة وغلة وأثاث وقماش وَذهب وَفِضة وأمهلوا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ اخْرُجُوا من دِيَارهمْ وتسلم السُّلْطَان الْحصن يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب وَفِي بعض الْكتب الْعمادِيَّة الْمُكَاتبَة مبشرة بِالْفَتْح الأهنى والنصر الْأَسْنَى وَهُوَ فتح دربساك الَّذِي لم يكن لأنطاكية إِلَّا بِهِ الامتساك وَقد حص الْآن جناحها وفل سلاحها وَحقّ قرحها وَبَطل اقتراحها وَخرجت بِإِخْرَاج حصونها من ولايتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 أرواحها وَقد بقيت غَرضا للعسكر وعرضا بِلَا جَوْهَر وشبحا بِغَيْر روح وصدرا غير مشروح وَالْكفْر مفجوع بِالنَّفسِ والبلد والأهل وَالْولد وَنحن لَا رَاحَة لنا إِلَّا فِي هَذَا التَّعَب وَلَا أرب لنا فِي غير هَذَا الأرب وَلَا اجْتِهَاد لنا إِلَّا فِي الْجِهَاد وَلَا مغزى لنا غير الْغُزَاة وَمَا نرجو من الله إِلَّا إنجاز العدات فِي جَمِيع العداة فأصبحنا يَوْم الثُّلَاثَاء وَقد سَاءَ صباح المثلثين وَبَان صباح الْمُوَحِّدين وأبينا أمانهم إِلَّا أَن يفدوا نُفُوسهم وينزعوا من الْحَرْب لبوسهم ويخلعوا بأسهم ويلبسوا بوسهم وينجوا بِثِيَاب أبدانهم وَقد أَدّوا خَمْسَة الآف دِينَار من أثمانهم فصل فِي فتح بغراس قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهِي أَيْضا قلعة منيعة أقرب إِلَى أنطاكية من دربساك وَكَانَت كَثِيرَة الْعدة وَالرِّجَال فَنزل الْعَسْكَر فِي مرج لَهَا وأحدق الْعَسْكَر بهَا جَرِيدَة مَعَ أَنا احتجنا فِي تِلْكَ الْمنزلَة إِلَى يزك يحفظ من جَانب أنطاكية لِئَلَّا يخرج مِنْهَا من يهجم على الْعَسْكَر فَضرب يزك الْإِسْلَام على بَاب أنطاكية بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ من يخرج مِنْهَا قَالَ وَأَنا مِمَّن كَانَ فِي اليزك فِي بعض الْأَيَّام لرؤية الْبَلَد وزيارة حبيب النجار المدفون فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يزل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 يُقَاتل بغراس مقاتلة شَدِيدَة حَتَّى طلبُوا الْأمان على اسْتِئْذَان أنطاكية ورقي الْعلم السلطاني عَلَيْهَا فِي ثَانِي شعْبَان وَقَالَ الْعِمَاد وَلما فتحت دربساك لم يبْق لنا همه إِلَّا بغراس وَقد شَارف رَجَاء أَكثر النَّاس فِي فَتحه الْيَأْس وَهُوَ حصن حُصَيْن وَمَكَان مكين هُوَ للداوية وجار ضباعها وَغَابَ سباعها وَهُوَ بِقرب أنطاكية حصاره وحصارها سَوَاء وَمَا لداء داويته دَوَاء فَنزل الْعَسْكَر بَين أنطاكية وَبَينه يتقاضون مِنْهُمَا للدّين دينه ويشنون الغارات ويسنون النكايات وَلَا يبرحون بِإِزَاءِ أنطاكية صفا يرْمونَ لَهَا ولأهلها فتحا وحتفا يتناوبون على سَبِيل اليزك وَيدعونَ العدى إِلَى المعترك وَلَيْسَ بَينهمَا إِلَّا النَّهر فَصَعدَ السُّلْطَان جَرِيدَة إِلَى الْجَبَل وَأمر بِنصب المجانيق حولهَا على تِلْكَ القلل وَنقل إِلَيْهَا أحواض المَاء ورواياه وَبث فِي النواحي سراياه وَفرق على الْجَمِيع عطاياه وأقمنا عَلَيْهِ أسبوعا نجري إِلَيْهِ من كل منجنيق من فيض الْحِجَارَة ينبوعا وَنحن نفكر فِيمَا يكون وَمَتى تتمّ الْحَرَكَة وفيم السّكُون وَهَذَا بيكار يطول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وتعب لَا يَزُول إِذْ رَأينَا بَاب الْحصن وَقد فتح وَخرج من الْحصن من أَخذ الْأمان لأَهله وَسلم الْحصن بِمَا فِيهِ من الْأَمْوَال وَقدر مَا فِيهِ من الْغلَّة تخمينا بِاثْنَيْ عشر ألف غرارة وَسلمهَا السُّلْطَان مَعَ دربساك إِلَى صَاحب عزاز علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر وكتبت عَلَيْهِ جَمِيع مَا فِي القلعتين من الْمَوْجُود من الْمكيل وَالْمَوْزُون والمعدود وَكَانَت الْغلَّة بأنطاكية غَالِيَة السّعر فَقلت كَأَنِّي بِمن تولى القلعة وَقد بَاعَ الْغلَّة وشفى من فقره بهَا الْغلَّة ثمَّ أَشَارَ بتخريبها وهدمها وَلم يلْتَزم بحكمها وَقَالَ إبقاؤها غرر وحفظها على الْمُسلمين ضَرَر وخطر فجَاء الْأَمر على مَا حسبته بعد سِنِين وَعَاد إخلاؤها بمضرة الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أظهر ذَلِك الْوَقْت أَنه أخلاها وَأَنه للتخريب خَلاهَا فجَاء إِلَيْهَا مقدم الأرمن ابْن لاون فَدَخلَهَا وَأتم غارته وكملها وَذَلِكَ فِي سنة وَسبع أَو ثَمَان وَثَمَانِينَ وَهَذَانِ الحصنان دربساك وبغراس كَانَا لأنطاكية جناحين ولطاغية الْكفْر سلاحين فتم للسُّلْطَان فتح هَذِه الْحُصُون الْمَذْكُورَة مَعَ أبراج ومغارات وشقفان كَثِيرَة حَتَّى خلص ذَلِك الاقليم وَتمّ الْفَتْح الْعَظِيم وعادت الْكَنَائِس مَسَاجِد وَالْبيع معابد والصوامع جَوَامِع والمذابح لعبدة الصلبان مصَارِع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 فصل فِي عقد الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية وعود السُّلْطَان قَالَ الْعِمَاد كَانَ السُّلْطَان قد عزم على قصد أنطاكية فَرَأى همم الأجناد لَا سِيمَا الغرباء قد ضعفت ونياتهم فِي الْجِهَاد قد فترت وتشوقوا إِلَى بِلَادهمْ والراحة من جهادهم وَكَانَ صَاحب أنطاكية قد أشرف على الْهَلَاك وَعلم أَنه إِن قصد غلب فنفذ أَخا زَوجته رَسُولا إِلَى السُّلْطَان متذللا يطْلب الْهُدْنَة على أَنه يُطلق من عِنْده من أُسَارَى الْمُسلمين وهم جمع كثير فعقدها مَعَهم مُدَّة يسيرَة ثَمَانِيَة أشهر من تشرين الأول إِلَى انْقِضَاء أيار فَيكون انْقِضَاء الهدنه قبل إِدْرَاك الْغلَّة وَأَوَان حصادها فيستريح فِيهَا الأجناد ويعودون بعْدهَا إِلَى فرض الْجِهَاد فتم كتاب الهدنه وَتوجه شمس الدولة ابْن منقذ لتخليص الأسرى وإنقاذهم مِنْهُ وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم يَعْنِي يَوْم فتح بغراس وَهُوَ ثَانِي شعْبَان عَاد السُّلْطَان إِلَى المخيم الْأَكْبَر وراسله أهل أنطاكية فِي طلب الصُّلْح فَصَالحهُمْ لشدَّة ضجر الْعَسْكَر وَقُوَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 قلق عماد الدّين صَاحب سنجار فِي طلب الدستور وَعقد الصُّلْح بَيْننَا وَبَين أهل أنطاكية لَا غير على أَن يطلقوا جَمِيع أُسَارَى الْمُسلمين الَّذين عِنْدهم وَكَانَ إِلَى سَبْعَة أشهر فَإِن جَاءَهُم من ينصرهم وَإِلَّا سلمُوا الْبَلَد إِلَى السُّلْطَان ثمَّ رَحل عَنهُ يطْلب دمشق وَسَأَلَهُ وَلَده الظَّاهِر صَاحب حلب أَن يجتاز بِهِ فَأَجَابَهُ فَدَخلَهَا فِي حادي عشر شعْبَان وَأقَام بقلعتها ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار إِلَى دمشق فاعترضه ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين وأصعده إِلَى قلعة حماة وَبَات بهَا لَيْلَة وَاحِدَة فَأعْطَاهُ جبلة واللاذقية وَسَار إِلَى بعلبك وَأقَام ببرجها يَوْمًا وَدخل حمامها ثمَّ أَتَى دمشق فَأَقَامَ بهَا حَتَّى دخل شهر رَمَضَان وَمَا كَانَ يرى تبطيل وقته عَن الْجِهَاد مهما أمكنه وَكَانَ قد بَقِي لَهُ من القلاع القريبه من حوران الَّتِي يخَاف عَلَيْهَا من جَانبهَا صفد وكوكب فَرَأى أَن يشغل الزَّمَان بِفَتْح المكانين فِي الصَّوْم وَقَالَ الْعِمَاد وودع السُّلْطَان عماد الدّين صَاحب سنجار والعساكر الغريبة وأتحفهم بالتحف العجيبة وارتاح إِلَى العبور على أرتاح وَوصل إِلَى حلب وَقد خرج كل من بهَا للتلقي مستبشرين بالاقبال المتضاعف المترقي وشاهدنا من النظارة عيُونا للمحاسن ناظرة ووجوها ناضرة وَقُلُوبًا حَاضِرَة وألسنا شاكرة وأيديا فِي بسطها إِلَى الله للإبتهال بِالدُّعَاءِ متظاهرة فَأَقَامَ بقلعتها أَيَّامًا يسيرَة وألفى وَلَده الظَّاهِر قد سَار فِيهَا أحسن سيرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 ثمَّ سَار مِنْهَا على طَرِيق المعرة وَقصد زِيَارَة الشَّيْخ الزَّاهِد أبي زَكَرِيَّا المغربي عِنْد مشْهد عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله فتبرك بزيارة الْمَيِّت والحي ثمَّ وصل إِلَى حماة فَنزل بقلعتها وَمَعَهُ أَمِير المدينه النَّبَوِيَّة على ساكنها السَّلَام وَهُوَ عز الدّين أَبُو فليتة الْقَاسِم بن المهنا وَكَانَ للسُّلْطَان فِي جَمِيع الْغَزَوَات مصاحبا وعَلى معاضدته مواظبا وَمَا حضر مَعنا على بلد أَو حصن إِلَّا فتحناه وَكَانَ السُّلْطَان يستوحش لغيبته ويأنس بشيبته وَكَانَ بِجنب السُّلْطَان جَالِسا ولنظره عَلَيْهِ حابسا وَكَانَت قلعة حماة ذَات تل منبطح فَلَمَّا تولاها تَقِيّ الدّين رفع تلها وعمق خندقها وحصنها فطلع السُّلْطَان تِلْكَ الليله إِلَى القلعة وسر بِمَا رأى من الحصانة والرفعة ووقف الْملك المظفر لِعَمِّهِ وَجرى فِي الْخدمَة على رسمه وَأصْبح السُّلْطَان راحلا وَلم يقم بحمص وَجَاء إِلَى بعلبك على طَرِيق الزِّرَاعَة واللبوة وَوصل إِلَى دمشق قبل رَمَضَان وأشير على السُّلْطَان بِأَن يرِيح عسكره فقد أَحْمد فِي عَامه مورده ومصدره وأربح فِي سَبِيل الله متجره فَقَالَ إِن الْقدر غير مَأْمُون والعمر غير مَضْمُون وللفرص أَوْقَات وللدهر آفَات وَقد بقيت مَعَ الْكفْر هَذِه الْحُصُون وان لم نبادرها اخْتَلَّ أمرنَا المصون لَا سِيمَا صفد وكوكب فانهما للداوية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 والاسبتارية فِي وسط الْبِلَاد والثغور الإسلامية بهما واهية السداد فنخرج ونشتوا عِنْدهمَا ونقصد قصدهما فَإِذا فتحناهما خلصت هَذِه الْبِلَاد وصفت الأوراد قَالَ فَمَا لبث السُّلْطَان وَلَا مكث وَلَا نقض عهد عزمه على الْغُزَاة وَلَا نكث وَقَالَ لَا نبطل الْغَزْوَة وَلَا نعطل هَذِه الشتوة فصل فِي فتح الكرك وحصونه قَالَ الْعِمَاد ووردت الْبُشْرَى بنجح الدَّرك فِي تَسْلِيم حصن الكرك وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي مُدَّة غيبتنا فِي بِلَاد أنطاكية لم تعدم من محاصرتها المضايقة الناكية وَكَانَ الْملك الْعَادِل أَخُو السُّلْطَان مُقيما بتبنين فِي العساكر محترزا على الْبِلَاد من غائلة الْعَدو الْكَافِر أَقَامَهُ السُّلْطَان هُنَالك عِنْد توجهه إِلَى الْبِلَاد الشمالية لقصد جبلة واللاذقية فَأَقَامَ بتبنين مقويا لِلْأُمَرَاءِ المرتبين على الْحُصُون حَافِظًا على الدهماء بحركته فِي الْأُمُور عَادَة السّكُون وَكَانَ صهره سعد الدّين كمشبة بالكرك موكلا وبأهله منكلا قد غلق رَهنه وَبَقِي داؤه معضلا وَأمره مُشكلا حَتَّى فنيت أَزْوَادهم ونفدت موادهم ويئسوا من نجدة تأتيهم وأمحلت عَلَيْهِم مصايفهم ومشاتيهم فتوسلوا بِالْملكِ الْعَادِل وأبدوا لَهُ ضراعة السَّائِل فَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 زَالَت الرسالات تَتَرَدَّد والاقتراحات تتجدد وَالْقَوْم يلينون والعادل يتشدد حَتَّى دخلُوا فِي الحكم وَخَرجُوا على السّلم وسلموا الْحصن وتحصنوا بالسلامة وخلصوا بِإِقَامَة عذرهمْ عِنْد قَومهمْ من الملامه وتسلم سعد الدّين بعْدهَا الْحُصُون الَّتِي بقربها كالشوبك وهرمز والوعر وسلع وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَفِي أثْنَاء شهر رَمَضَان سلمت الكرك من جَانب نواب صَاحبهَا وخلصوه بهَا من الْأسر وَكَانَ أسر فِي وقْعَة حطين الْمُبَارَكَة وَكتب الْعِمَاد فِي بعض البشائر سلم حصن الكرك وَهُوَ الْحصن الَّذِي كَانَ طاغيته يحدث نَفسه بِقصد الْحجاز وَقد نصب أشراك اشراكه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 مِنْهُ على طرق الاجتياز فأذقناه عَام أول كأس الْحمام وملكنا حصنه الَّذِي كَانَ يعتصم بِهِ فِي هَذَا الْعَام واضطر الْكفْر فِي اسلامه إِلَى الْإِسْلَام وَتمّ بِحل هَذَا الْبَيْت أَمن الْبَيْت الْحَرَام وَكتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان شَفَاعَة أدام الله سُلْطَان مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر وثبته وَتقبل عمله بِقبُول حسن وأنبته وَأَخذه عدوه قَائِلا أَو بَيته وأرغم أَنفه بِسَيْفِهِ وكبته خدمَة الْمَمْلُوك هَذِه وَارِدَة على يَد فلَان خطيب عيذاب وَلما نبا بِهِ الْمنزل مِنْهَا وَقل عَلَيْهِ الْمرْفق فِيهَا وَسمع بِهَذِهِ الفتوحات الَّتِي طبق الأَرْض ذكرهَا وَوَجَب على أَهلهَا شكرها وَحصل لمن جرت على يَده أجرهَا هَاجر من هجير عيذاب وملحها ساريا فِي لَيْلَة أمل كلهَا صباح فَلَا يسْأَل عَن صبحها وَقد رغب فِي خطابة الكرك وَهُوَ خطيب وتوسل بالمملوك فِي هَذَا الملتمس وَهُوَ قريب وَنزع من مصر إِلَى الشَّام وَمن عيذاب إِلَى الكرك وَهُوَ عَجِيب والفقر سائق عنيف وَالْمَذْكُور عائل ضَعِيف ولطف الله تَعَالَى بالخلق بِوُجُود مَوْلَانَا لطيف ورأيه أَعلَى ان شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي فتح صفد قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار فِي أَوَائِل رَمَضَان من دمشق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 يُرِيد صفد وَلم يلْتَفت إِلَى مُفَارقَة الْأَهْل وَالْأَوْلَاد والوطن فِي هَذَا الشَّهْر الَّذِي يُسَافر الانسان أَيْن كَانَ ليجتمع فِيهِ بأَهْله فَأَتَاهَا وَهِي قلعة منيعة وَقد تقاطعت حولهَا أَوديَة من سَائِر جوانبها فأحدق الْعَسْكَر بهَا ونصبت عَلَيْهَا المجانيق وَكَانَت الأمطار شَدِيدَة والوحول عَظِيمَة وَلم يمنعهُ ذَلِك عَن جده وَلَقَد كنت لَيْلَة فِي خدمته وَقد عين مَوَاضِع خَمْسَة مجانيق حَتَّى تنصب فَقَالَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مَا ننام حَتَّى ننصب الْخَمْسَة وَسلم كل منجنيق إِلَى قوم وَرُسُله تتواتر إِلَيْهِم يخبرونه ويعرفونهم كَيفَ يصنعون حَتَّى أطلنا الصَّباح وَقد فرغت المنجنيقات وَلم يبْق إِلَّا تركيب خنازيرها فِيهَا فرويت لَهُ الحَدِيث الْمَشْهُور فِي الصِّحَاح وبشرته بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((عينان لَا تمسهما النَّار عين باتت تحرس فِي سَبِيل الله وَعين بَكت من خشيَة الله)) قَالَ وَلم يزل الْقِتَال متواصلا بالنوب مَعَ الصَّوْم حَتَّى سلمت بالأمان فِي رَابِع عشر شَوَّال وَقَالَ الْعِمَاد لما خرج السُّلْطَان من دمشق صَحبه الْفَاضِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وَجعل طَرِيقه على مرج برغوث وَعبر مخاضة الأحزان وَجَاء إِلَى صفد وَقد لَان من فِيهَا من الفرنج وَزَادَهُمْ نفد فَنزل عَلَيْهِ فِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان فضايقها وَنصب المجانيق إِلَى أَن سلمهَا مقدمها فِي ثامن شَوَّال بالأمان وَرَاح إِلَى صور وَقد كَانُوا عدموا الْقُوت ووجدوا الْمَوْت الموقوت وَعَلمُوا أَنهم ان لم تخرج صفد من أَيْديهم دخلت أَرجُلهم فِي الأصفاد فتبرؤوا من الْجِدَار والجلاد وانها كَانَت فِي عين الْإِسْلَام قذى لَا يتَوَقَّع مِنْهَا على الْأَيَّام الا مضرَّة وأذى فسهل الله صعبها وأوطأ هضبها وكشف عَن الْبِلَاد كربها وَقذف فِي قُلُوب أَهلهَا رعبها فَخَرجُوا مذعنين واستسلموا مُسلمين وتبرؤوا من حصنهمْ ونزلوا بهوانهم ووهنهم وأحضروا رهائنهم للاستمهال فِي نقل مَتَاعهمْ وندموا على مَا كَانَ من امتناعهم قَالَ وَاجْتمعَ الفرنج بصور وَنحن نضايق حصن صفد وَقَالُوا مَتى فتحت صفد فَإِن كَوْكَب لَا تمْتَنع وأملنا عَن حفظهَا يَنْقَطِع والرأي أَن نجرد لَهَا نجدة فلعلها تثبت إِلَى أَن توافينا من الْبَحْر مُلُوكنَا فسيروا مئتي رجل فَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ الأودية يكمنون فِي الشعاب والهضاب وَاتفقَ أَن أَمِيرا من أَصْحَابنَا خرج متقنصا فَوَقع أحدهم فِي قنصه وَحصل طَائِر مِنْهُم فِي قفصه فاستغرب وجوده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 فِي ذَلِك الْمَكَان فهدده وتوعده وأقامه للعذاب وَأَقْعَدَهُ حَتَّى دلّ على مكمن ذئابه فَمَا أحسوا إِلَّا بصارم الدّين قيماز النجمي وأجناده وَقد نزلُوا عَلَيْهِم فِي آكام ذَلِك الشّعب ووهاده فتلقطوهم من كل غَار ووجار وَلم يهتد أحد من أُولَئِكَ الضلال إِلَى نهج فرار فَمَا شعرنَا وَنحن على صفد للحصار حَتَّى وصل صَاحب قايماز بالأسارى مُقرنين فِي الأصفاد مقودين فِي الأقياد وَكَانَ فيهم مقدمان من الاسبتار وَقد أشفيا على التبار فان السُّلْطَان رَحمَه الله مَا كَانَ يبقي على أحد من الاسبتارية والداوية فأحضرا عِنْد السُّلْطَان للمنية فأنطقهما الله بِمَا فِيهِ حياتهما وناجياه بِمَا بِهِ نجاتهما وَقَالا عِنْد دخولهما مَا نظن أننا بَعْدَمَا شافهناك يلحقنا سوء فَعرفت أَن بقاءهما مرجو فَمَال إِلَى مقالهما وَأمر باعتقالهما فَإِن تِلْكَ الْكَلِمَة حركت مِنْهُ الْكَرم وحقنت مِنْهُمَا الدَّم وَفتح الله علينا صفد ثامن شَوَّال حِين فَرغْنَا من صَوْم سِتّ مِنْهُ بعد رَمَضَان وجمعنا بَين فضيلتي الصَّوْم وَالْجهَاد وسلمت قلعة صفد إِلَى شُجَاع الدّين طغرل الجاندار واستبشرنا بانعكاس مَا أحكمه الْكفَّار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 فصل فِي فتح حصن كَوْكَب قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ سَار رَحمَه الله عَلَيْهِ يُرِيد كَوْكَب فَنزل على سطح الْجَبَل وجرد الْعَسْكَر وأحدق بالقلعة وضايقها بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ اتخذ لَهُ موضعا يتجاوزه نشاب الْعَدو وَبنى لَهُ حَائِطا من حِجَارَة وطين يسْتَتر وَرَاءه والنشاب يتجاوزه وَلَا يقدر أحد يقف على بَاب خيمته إِلَّا أَن يكون ملبسا وَكَانَت الأمطار متواترة والوحول بِحَيْثُ تمنع الْمَاشِي والراكب إِلَّا بِمَشَقَّة عَظِيمَة وعانى شَدَائِد وأهوالا من شدَّة الرِّيَاح وتراكم الأمطار وَكَون الْعَدو متسلطا عَلَيْهِم بعلو مَكَانَهُ وجرح وَقتل جمَاعَة وَلم يزل رَاكِبًا مركب الْجد رَحمَه الله حَتَّى تمكن النقب من سورها وَلما أحس الْعَدو المخذول بالنقب وَقد تمكن من السُّور علم أَنه مخذول مَأْخُوذ فَطلب الْأمان فَأَمنَهُمْ وتسلمها فِي منتصف ذِي الْقعدَة وَنزل إِلَى الْغَوْر إِلَى الثّقل وَكَانَ قد أنزل الثّقل من شدَّة الوحل وَالرِّيح فِي سطح الْجَبَل وَقَالَ الْعِمَاد وَجِئْنَا إِلَى كَوْكَب ووجدناها فِي منَاط الْكَوْكَب كَأَنَّهَا وكر العنقاء ومنزل العواء قد نزلتها كلاب عاوية ونزغت بهَا ذئاب غاوية وَقَالُوا لَو بَقِي منا وَاحِد لحفظ بَيت الاسبتار وخلصه إِلَى الْأَبَد من الْعَار وَلَا بُد من عود الفرنج إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 هَذِه الديار فنتشدد للانتظار ثمَّ وصف الْقِتَال بِالرَّمْي والمنجنيق والنقب وَالتَّعْلِيق والحفر والتعميق والحصر والتضييق ثمَّ قَالَ وَكَانَ الْوَقْت صعبا والغيث سكبا وتكاثرت السُّيُول وتكاثفت الوحول ودامت الديم لدموعها مريقة وَبقيت الخيم فِي الطين غريقة وَكُنَّا فِي شغل شاغل من تقلع الْأَوْتَاد وتوتد الْأَقْدَام ووهاء الْأَطْنَاب وَوُقُوع الْخيام وَقد عَادَتْ الْخيام مناخل الأنداء والأنوار معدومه لوُجُود الأنواء وَمَاء الشّرْب مَفْقُود مَعَ سيول المَاء والرواحل فِي الطين باركة وَهِي للعلف تاركة والطرق زلقة لزقة وَهِي مَعَ سعتها ضيقَة فَنقل السُّلْطَان خيمته إِلَى قرب الْمَكَان لتقريب وُجُوه الامكان وَبنى لَهُ من الْحِجَارَة مَا صَار لَهُ كالستارة وَنزلت الأثقال والخيم إِلَى أَسْفَل التل بالغور وَأقَام السُّلْطَان على محاصرة الْحصن ومصابرته وَنحن نركب إِلَيْهِ من الْخيام بكرَة وَعَشِيَّة للسلام وتنفيذ المهام حَتَّى بلغ الرِّجَال أَمَاكِن النقوب وَتمكن لَهُم الْمَطْلُوب فشرع الْكَفَرَة فِي التذلل وسلموا الْحصن بالأمان وَعرضه على جمَاعَة فَلم يقبل ولَايَته أحد سوى قايماز النجمي على كره مِنْهُ وَذَلِكَ فِي منتصف ذِي الْقعدَة وَنزل السُّلْطَان إِلَى المخيم بالغور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وَمن كتاب فاضلي إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن عَن السُّلْطَان مِمَّا تجدّد بحضرتنا فتح كَوْكَب وَهِي كرْسِي الاسبتارية وَدَار كفرهم ومستقر صَاحب أَمرهم وَمَوْضِع سِلَاحهمْ وذخرهم وَكَانَ بمجمع الطّرق قَاعِدا ولملتقى السبل راصدا فتغلقت بفتحه بِلَاد الْفَتْح واستوطنت وسلكت طرقها وَأمنت وعمرت بلادها وسكنت وَلم تبْق فِي هَذَا الْجَانِب الا صور وَلَوْلَا أَن الْبَحْر ينجدها والمراكب تردها لَكَانَ قيادها قد أمكن وجماحها قد أذعن وَمَا هم بِحَمْد الله فِي حصن يحميهم بل فِي سجن يحويهم بل هم أُسَارَى وَإِن كَانُوا طلقاء وأمواتا وَإِن كَانُوا أَحيَاء قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تعجل عَلَيْهِم إِنَّمَا نعد لَهُم عدا} وَكَانَ نزولنا على كَوْكَب بعد أَن فتحنا صفد بلد الديوية وفتحنا الكرك وحصونه والمجلس السَّامِي أعلم بِمَا كَانَ على الْإِسْلَام من مُؤْنَته المثقلة وَقَضيته المشكلة وعلته المعضلة وَالله تَعَالَى المشكور على مَا طوى من كلمة الْكفْر وَنشر من كلمة الْإِسْلَام فان بِلَاد الشَّام الْيَوْم لَا يسمع فِيهَا لَغْو وَلَا تأثيم إِلَّا قيلا سَلاما سَلاما فادخلوها بِسَلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وَكَانَ نزولنا على كَوْكَب والشتاء فِي كوكبه وَقد طلع من الأنواء فِي موكبه والثلوج تنشر على الْجبَال ملأها والأودية قد عجت بِمَائِهَا وفاضت عِنْد امتلائها فشمخت أنوفها سيولا فخرقت الأَرْض وَبَلغت الْجبَال طولا والأوحال اعتقلت الطرقات وَمَشى الْمُطلق فِيهَا مشْيَة الْأَسير فِي الحلقات فتجشمنا العناء نَحن وَرِجَال العساكر وكابرنا الْعَدو وَالزَّمَان وَقد يحرز الْحَظ المكابر وَعلم الله النِّيَّة فأنجدها بِفِعْلِهَا وَضمير الْأَمَانَة فَأَعَانَ على حملهَا ونزلنا من رُؤُوس الْجبَال منَازِل كَانَ الِاسْتِقْرَار عَلَيْهَا أصعب من نقلهَا ثمَّ قَالَ والآن فالمجلس السَّامِي يعلم أَن الفرنج لَا يسلون عَمَّا فتحنا وَلَا يصبرون على مَا جرحنا وَأَنَّهُمْ لعنهم الله أُمَم لَا تحصى وجيوش لَا تستقصى و {يَد الله فَوق أَيْديهم} و {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} وَمَا هم إِلَّا كلاب قد تعاوت وشياطين قد تغاوت وَإِن لم يقذفوا من كل جَانب استأسدوا واستكلبوا وَكَانُوا لباطلهم الداحض أنْصر منا لحقنا الناهض وَكتب المستخدمون بالاسكندرية وَصَاحب قسطنطينية والثغور المغربية ينذرون بِأَن الْعَدو قد أجمع أمرا وحاول نكرا وغضبوا زادهم الله غَضبا وأوقدوا نَارا للحرب جعلهَا الله عَلَيْهِم حطبا وسلوا سيوفا للبغي لَا يبعد ان يَكُونُوا أغمادها وتواعدت جموع ضلالتهم أخلف الله ميعادها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وَأما نَحن فبالله ندفع مَا نطيق وَمَا لَا نطيق وَإِلَيْهِ نرغب فِي أَن يثبت قُلُوبنَا إِذْ كَادَت تزِيغ قُلُوب فريق وَنحن الْآن نستجذب أخانا وندعوه إِلَى مَا لَهُ دعينا ونؤمل من الله ان ينصرنا دنيا ودينا وَأَن يمدنا بِنَفسِهِ سَرِيعا وبعسكره جَمِيعًا وبذخره الَّذِي كَانَ لمثله مجموعا وَأَن يلبيها دَعْوَة إِمَّا أَن يُطِيع بهَا ربه لِأَنَّهَا دَعوته وَإِمَّا أَن ينصر بهَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا شَرِيعَته وَإِمَّا أَن يعين بهَا أَخَاهُ فَإِنَّهَا شدَّة الْإِسْلَام لَا شدته هَذَا وَإِن كَانَ الْمجْلس قد قعد عَنَّا وَلم يعدنا فِي مرض الْأَجْسَام فَلَا يقْعد عَنَّا فِي مرض الْإِسْلَام فالبدار البدار فَإِن لم يكن الشَّام لَهُ بدار فَمَا الْيمن لَهُ بدار وَالْجنَّة الْجنَّة فانها لَا تنَال إِلَّا بايقاد الْحَرْب على أهل النَّار والهمة الهمة فان الْبحار لَا تلقى إِلَّا بالبحار والملوك الْكِبَار لَا يقف فِي وجوهها إِلَّا الْمُلُوك الْكِبَار وَفِي هَذِه السّنة ننزل على أنطاكية وَينزل ولدنَا المظفر تَقِيّ الدّين أطرابلس ويستقر الركاب الملكي العادلي بِمصْر لِأَنَّهَا مَذْكُورَة عِنْد الْعَدو وَأَنَّهَا تطرق وَأَن الطّلب على مصر وَالشَّام مِنْهُ يفرق وَلَا غنى عَن أَن يكون الْمجْلس السيفي بحرا فِي بِلَاد السَّاحِل يزخر سِلَاحا ويجرد سَيْفا يكون على مَا فتحناه قفلا وَلما لم يفتح مفتاحا وَمَا يدعى للعظيم إِلَّا الْعَظِيم وَلَا يُرْجَى] لموقف الصَّبْر الْكَرِيم إِلَّا الْكَرِيم هَذَا والأقدار جَارِيَة ومشيئة الله مَاضِيَة فَإِن يَشَأْ ينصرنا على الْعدَد المضعف بِالْعدَدِ الأضعف فَإنَّا لَا نرتاب بِأَن الله تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 مَا فتح علينا هَذِه الْفتُوح ليغلقها وَلَا جمع علينا هَذِه الْأمة ليفرقها وَإِنَّمَا نؤثر أَن يتساهم آل أَيُّوب فِي ميراثهم مِنْهُ مَوَاقِف الصَّبْر ومطالع النَّصْر وَلَا يسرنَا أَن يَنْقَضِي عمره فِي قتال غير الْكَافِر ونزال غير الكفؤ المناظر فَإِنَّمَا هِيَ سفرة قاصدة وزجرة واحده فَإِذا هُوَ قد بيض الصَّحِيفَة وَالْوَجْه وَالذكر فليحضر وليشاهد أَوْلَادًا يستشعرون لفراقه غما قد عاشوا مَا عاشوا وَلَا يعْرفُونَ أَن لَهُم مَعَ عمهم عَمَّا وَله إِلَيْهِ من كتاب آخر وَكَأَنَّهُ بعد اعتذاره عَن الْحُضُور الْمولى على حسب اخْتِيَاره وَإِن سَار فَمثله من سَار وسر وقاد الْجَيْش وجر ونفع الْوَلِيّ وضر الْعَدو الَّذِي أضرّ وَإِن أَقَامَ فالعذر الَّذِي أقعده وإشفاق السُّلْطَان عز نَصره الَّذِي رده عَن وَجهه والرأي الَّذِي ردده فَلَا يكن فِي صَدره من الْأَمريْنِ حرج وَلَا يخف استقصار عزمه إِن ركد أَو خرج فمكانه مَكَانَهُ من الْقلب ووده وده وَله من اللِّسَان حَمده وَهُوَ سيف الْإِسْلَام إِن ضرب بحده أَو صين فِي غمده لَا زَالَ الْمولى منوها باسمه ومرفها فِي جِسْمه ومجردا سيف عزمه وسعيدا بِحكم التَّوْفِيق فَلَا خرج التَّوْفِيق عَن حكمه وَمن كتاب عمادي إِلَى الدِّيوَان بِفَتْح الكرك والشوبك وصفد وكوكب يَقُول فِيهِ والآن فقد خلص جَمِيع مملكة الْقُدس وَحدهَا فِي سمت مصر من الْعَريش وعَلى صوب الْحجاز من الكرك والشوبك وتشتمل على الْبِلَاد الساحلية إِلَى مُنْتَهى أَعمال بيروت وَلم يبْق من هَذِه المملكة إِلَّا صور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَفتح أَيْضا جَمِيع إقليم أنطاكية ومعاقلها الَّتِي للفرنج والأرمن وَحده من أقْصَى بِلَاد جبلة واللاذقية إِلَى بِلَاد ابْن لاون وَبقيت أنطاكية بمفردها والقصير من حصونها وَلم يبْق من الْبِلَاد الَّتِي لم تفتح أَعمالهَا وَلم تحل عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ حَالهَا سوى طرابلس فَإِنَّهَا لم يفتح مِنْهَا إِلَّا مَدِينَة جبيل وَقد سحبت عَلَيْهَا المهلة الذيل ومعاقلها بَاقِيَة وَلَيْسَ لَهَا من عَذَاب الله الْوَاقِع واقية وَالْخَادِم الْآن على التَّوَجُّه إِلَيْهَا وعزم النُّزُول عَلَيْهَا وَأَنه قد رتب الْجَانِب القبلي والبلد الْقُدسِي وشحن الثغور من حد جبيل إِلَى عسقلان بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَال وآلات الْعدَد وَالْعدَد المتواصل المدد ورتب فِيهَا وَلَده الْأَفْضَل عليا لحمايتها وَحفظ ولايتها وقلد وَلَده الْعَزِيز عُثْمَان ولَايَة مصر ومملكة أقاليمها لتهذيب أحوالها وتقويمها فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَلما فرغ السُّلْطَان من شغل القلاع وَنزل إِلَى الوهاد من التلاع تجدّد للأجل الْفَاضِل عزم مصر فَركب السُّلْطَان مَعَه للوداع ثمَّ تحول إِلَى صحراء بيسان وَأقَام بهَا إِلَى مستهل ذِي الْحجَّة ثمَّ رَحل يَوْم الْجُمُعَة مستهل الشَّهْر وَمَعَهُ أَخُوهُ الْعَادِل وسلكا طَرِيق الْغَوْر إِلَى الْقُدس وَوَصله يَوْم الجمعه ثامن الشَّهْر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وَهُوَ يَوْم التَّرويَة وَصلى الْجُمُعَة فِي قبَّة الصَّخْرَة وَعِيد بهَا يَوْم الْأَحَد الْأَضْحَى وَسَار يَوْم الأثنين إِلَى عسقلان للنَّظَر فِي مهامها ونظم أَسبَاب أَحْكَامهَا ثمَّ أذن للعادل فِي الْعود إِلَى مصر لمساعدة وَلَده الْعَزِيز وودعه وَأَعْطَاهُ الكرك وَأخذ مِنْهُ عسقلان قَالَه ابْن شَدَّاد ورحل على سمت عكا بعسكره موفقا فِي مورده ومصدره فَمَا عبر بِبَلَد إِلَّا قوى عدده وَكثر عدده وانفصل الْعِمَاد عَن خدمته إِلَى دمشق عِنْد رحيله من بيسان لعَارض مرض سلبه الامكان وَمَا زَالَ مُنْفَصِلا عَنهُ إِلَى أَن وصل السُّلْطَان دمشق بعد شَهْرَيْن مستهل صفر من السّنة الجديدة وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَمَضَان توفّي الْأَمِير مجد الدّين مؤيد الدولة أُسَامَة بن مرشد بن عَليّ بن منقذ وَكَانَ مولده بشيزر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة فَبلغ عمره سِتا وَتِسْعين سنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وفيهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى توفّي الْحَافِظ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى بن عُثْمَان بن حَازِم الْحَازِمِي الهمذاني بِبَغْدَاد صَاحب المصنفات على صغر سنه مِنْهَا العجالة والناسخ وَغَيرهمَا ومولده سنة ثَمَان أَو تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة رحمهمَا الله تَعَالَى قَالَ الْعِمَاد وَوصل كتاب من مصر وَنحن على حِصَار صفد أَن اثْنَي عشر رجلا أعْلنُوا بشعار أهل الْقصر ودخلوا من بَاب زويلة إِلَى قرب الصياقلة مجذوبي السيوف لادالة الدولة الزاهقة ونصرة الدعْوَة الْبَاطِلَة وهم ينادون بآل عَليّ وَفِي زعمهم أَنهم يقيلون بالصولة ويقلبون بالبأس لِبَاس الدولة ويخالون أَنهم إِذا ثَارُوا أثاروا وَإِذا داروا أداروا فَمَا اكترث بهم مكترث وَلَا انْبَعَثَ إِلَيْهِم منبعث فَلَمَّا تحققوا أَنهم لَا مُجيب لَهُم وَلَا دَاع تفَرقُوا فِي الدروب واضمحلوا وَكَانُوا عقدوا على الْوَفَاء فانحلوا ثمَّ أخذُوا ووقذوا واعتقلوا وَلم يستنقذوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وَلما علم السُّلْطَان بِهَذَا الْأَمر عراه الْهم وتضجر بِمن على بَابه من وُفُود مصر وَقَالَ إِلَى مَتى نتحمل مِنْهُم هَذَا وهم بطردهم وردعهم وردهم وَكَانَ قد وَفد إِلَى الْبَاب السلطاني جمَاعَة من أَوْلَاد الوزراء المصريين والأمراء بهَا المقدمين وَمن أهل الْمَعْرُوف المعروفين وَوَافَقَ ذَلِك دُخُول الْفَاضِل إِلَيْهِ فَأخْبرهُ بالْخبر فَقَالَ لَهُ يجب أَن تشكر الله على هَذِه النِّعْمَة فقد عرفت بِهَذَا طَاعَة رعيتك وموافقة نياتهم لنيتك أَلَيْسَ لم يلب دعوتهم أحد وَلم يكن من ورائهم مدد فطب نفسا وزد بمنزلتك عِنْد الله أنسا فَقَالَ السُّلْطَان كَانَ الْمُلُوك قبلي تخافهم وتهرب مِنْهُم الرّعية وتتوقع مِنْهُم البلية والآن فقد تكاثروا علينا وتوافدوا إِلَيْنَا حَتَّى أضجرونا وأملونا ونفرونا فَإِذا ركبنَا أَو نزلنَا تعاورونا بالقصص وساورونا بالغصص فَقَالَ لَهُ أَنْت أولى بشكر الله على هَذِه العارفة كَانَ بِمصْر من صَاحب الْقصر وأشياعه وخدمه وَأَتْبَاعه وأمرائه وخواصه وَذَوي استخلاصه وجهاته وإلزامه كل من كَانَ يرتع الْخلق فِي رياض إنعامه وَكَانَ بِالشَّام فِي كل بلد وَال وَصَاحب لَهُ على أَهله نعم ومواهب وملوك يلوذ بهم الْأَقَارِب والأجانب وَالْيَوْم أَنْت سُلْطَان الْجَمِيع وَقد رد الله الآمال فِي تِلْكَ الصَّنَائِع كلهَا إِلَى مَا لَك من حسن الصَّنِيع وَقد اجْتمع اولئك المتفرقون على بابك ووفدوا إِلَى جنابك فَلَا يَجدونَ بعد الله إِلَّا وجودك وجودك فَأكْرم وفودك فاغرورقت بالدموع عَيناهُ وبالسماح يَدَاهُ وَأقسم أَنه مَا عَاشَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 لَا يرد قَاصِدا وَلَا يصد وافدا وَتقدم فِي الْحَال بِقَضَاء حُقُوق الوافدين وإنجاح آمال القاصدين قلت وَكتب إِلَى السُّلْطَان فِي هَذَا الْمَعْنى أَبُو الْفَتْح سبط ابْن التعاويذي من بَغْدَاد (فَلَا يضجرنك ازدحام الْوُفُود ... عَلَيْك وَكَثْرَة مَا تبذل) (فَإنَّك فِي زمن لَيْسَ فِيهِ ... جواد سواك وَلَا مفضل) (وَقد قل فِي أَهله المنعمون ... وَقد كثر البائس المرمل) (وَمَا فِيهِ غَيْرك من يستماح ... وَمَا فِيهِ إلاك من يسْأَل) وقرأت رقْعَة بِخَط الْفَاضِل الْمَمْلُوك يُنْهِي وُصُول فَخر الْكتاب الْجُوَيْنِيّ وَقد كَاد يهْلك من لَهب الْحر وَالْمَشَقَّة فِي السّير وَكَيف يكون حَال ابْن السّبْعين مَعَ الْمَرَض اللَّازِم والقولنج الدَّائِم ونحافة الاعضاء وَضعف الْقُوَّة واستشعار انْقِطَاع الرزق الَّذِي هُوَ نَظِير انْقِطَاع الْعُمر وَمَا أَظن أَن الله أجْرى على يَد الْمولى وَلَا فَرح عدوا لَهُ بِأَن يَنْقَطِع رزق مثل هَذَا الْبَقِيَّة الْحَسَنَة والضيف الراحل والأديب الْفَاضِل فِي أَيَّام مَوْلَانَا الَّتِي هِيَ تَارِيخ الْكَرم ومواسم النعم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وَفِي آخرهَا وَمِمَّا يجب أَن يعلم الْمولى أَن أرزاق أَرْبَاب العمائم فِي دولته إقطاعا وراتبا يتَجَاوَز مئتي ألف دِينَار بِشَهَادَة الله وَرُبمَا كَانَت ثَلَاث مئة ألف دِينَار وَفِي الرقعة بالخط الصلاحي وقفت على رقْعَة القَاضِي الْفَاضِل وَمَا نقطع لأحد رزق إِن شَاءَ الله تَعَالَى بل هِيَ علالات نَحن مثل الْغَرِيم المنكسر نرضى لذا بِمَال ذَا وعَلى الْجُمْلَة مَا تقدّمت بِقطع رزق أحد وَقد علمت فِيهَا اكْتُبْ فِيهَا الَّذِي لَهما ولغيرهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ فِي آخر الرقعة ذكر الْجمال الْحَنَفِيّ وَكَأَنَّهُ كَانَ لَهُ مثل حَاجَة الْجُوَيْنِيّ رحم الله الْكل أَجْمَعِينَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان فِي عكا نَافِذ الْأَمر نابه الْقدر فأحكم أمرهَا وكشف ضرها واستحضر جمَاعَة من مصر يحمي بهم الثغر فَمَا انْفَصل حَتَّى وصلوا وَاتبعُوا أمره وامتثلوا وَتقدم بهاء الدّين قراقوش بإتمام العمارات وَولى حسام الدّين بِشَارَة وعول عَلَيْهِ فِي الْولَايَة وَالْحِفْظ والحماية وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد أَقَامَ بعكا مُعظم الْمحرم يصلح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 أحوالها ورتب فِيهَا بهاء الدّين قراقوش واليا وَأمره بعمارة السُّور والإطناب فِيهِ وَمَعَهُ حسام الدّين بِشَارَة وَسَار يُرِيد دمشق فَدَخلَهَا مستهل صفر قَالَ الْعِمَاد وَولى مَمْلُوكه فَارس الدّين كشتفدي شهرزور وأعمالها وَكَانَ قد تزوج بأخت عز الدّين حسن بن يَعْقُوب بن قفجاق فولاه ذَلِك لقرب الْولَايَة القفجاقية من الشهرزورية وَقصد حُصُول المناصرة بِحكم الْمُصَاهَرَة قَالَ وَحكم السُّلْطَان بدر الدّين مودودا فِي ولَايَة دمشق وجدد لَهُ منشورا بإنشائي وَفِيه وَقد قلدناه أَمر دمشق وجهاتها وأعمالها والحشري والزكوات وكل مَا يجْرِي فِي الدِّيوَان وَمَا يبْتَاع للخزانة وَولَايَة المرج والغوطة وَمَا يُضَاف إِلَيْهَا من الْأَعْمَال وَولَايَة الْجَبَل ووادي بردى ويبوس وتولي الشحنكيات وَحفظ الطرقات ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى طبرية فألحقها بمعدلته العمرية ثمَّ وصل وَأقَام بِدِمَشْق شهر صفر وَوجه الدّين بِهِ قد سفر وَعز من آمن وذل من كفر وَبَدَأَ بِحُضُور دَار الْعدْل وَحكم بِالشَّرْعِ المطهر وَوصل فِي ثَانِي عشر صفر رَسُول الدِّيوَان ضِيَاء الدّين عبد الْوَهَّاب بن سكينَة والوزير يَوْمئِذٍ معز الدّين بن حَدِيدَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 يَأْمر بِالْخطْبَةِ لوَلِيّ الْعَهْد عدَّة الدّين أبي نصر مُحَمَّد ابْن الإِمَام النَّاصِر فَاسْتَقْبلهُ السُّلْطَان وَأَوْلَاده وأمراؤه وأجناده وخطب لَهُ بذلك يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشر صفر خطيب دمشق ضِيَاء الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْملك بن زيد الدولعي فَلَمَّا انْقَضتْ الْخطْبَة وَعَاد الرَّسُول سير السُّلْطَان مَعَه رَسُوله ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري وسيرت مَعَه الْهَدَايَا والتحف السنايا وأسارى الفرنج الفوارس وعددها النفائس وتاج ملكهم السليب والملبوس وَالطّيب والصليب وَهُوَ الَّذِي كَانَ فَوق قبَّة الصَّخْرَة المقدسة ليدل على تَطْهِير مَا كَانَ هُنَاكَ من الْأَسْبَاب المدنسة وَسَار الضياآن رسولهم وَرَسُول السُّلْطَان ودخلا بَغْدَاد وأسارى الفرنج على هيئتها يَوْم قراعها راكبة حصنها فِي طوارقها وبيارقها وأدراعها قد نكست بنودها وأتعست أنوفها وهيئت على هَيْئَة فتوحنا حتوفها قلت وَقَالَ ابْن القادسي قدم ابْن الشهرزوري وَمَعَهُ صَلِيب الصلبوت الَّذِي تعظمه النَّصَارَى فَدفن تَحت عتبَة بَاب النوبى الشريف يبين مِنْهُ شَيْء قَلِيل وَكَانَ من نُحَاس وَقد طلي بِالذَّهَب فَجعل يداس بالأرجل ويبصق النَّاس عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي سادس عشر ربيع الآخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 كَذَا قَالَ صَلِيب الصلبوت وَقد نَص الْعِمَاد فِي (الْبَرْق) على أَنه الصَّلِيب الَّذِي كَانَ فَوق الصَّخْرَة وَهَذَا غير ذَلِك وَالله أعلم ثمَّ إِن الْخَلِيفَة النَّاصِر اعتقل ابْنه هَذَا بعد مُدَّة فِي سنة إِحْدَى وست مئة وأراده على خلع نَفسه من ولَايَة الْعَهْد فَفعل وَأشْهد على نَفسه بذلك ثمَّ قضى الله سُبْحَانَهُ أَن أعَاد إِلَيْهِ ولَايَة الْعَهْد فِي أَوَاخِر عمره فَخَطب لَهُ بذلك وَنقش اسْمه على الدِّينَار وَالدِّرْهَم إِلَى أَن توفّي النَّاصِر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتَوَلَّى بعده فَأَقَامَ نَحْو تِسْعَة أشهر ولقب بِالظَّاهِرِ ثمَّ توفّي وَولي ابْنه الْمُسْتَنْصر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمدرسَة بِبَغْدَاد ثمَّ توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَولي ابْنه المستعصم بِاللَّه وَهُوَ الْخَلِيفَة الْآن قَالَ الْمُؤلف ثمَّ أهلكه التتار عَام استولوا على بَغْدَاد فِي أول سنة سِتّ وَخمسين وست مئة وَالله الْمُسْتَعَان فصل فِي فتح شقيف أرنون قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَهُوَ مَوضِع حُصَيْن قريب من بانياس خرج السُّلْطَان من دمشق بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي الثَّالِث من ربيع الأول فَسَار حَتَّى نزل فِي مرج فلوس وَنزل من الْغَد يَوْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 السبت فِي مرج برغوث فَأَقَامَ بِهِ والعساكرتتتابع إِلَى حادي عشره ورحل إِلَى بانياس وَمِنْهَا إِلَى مرج عُيُون فخيم بِهِ وَهُوَ قريب من شقيف أرنون بِحَيْثُ يركب كل يَوْم يشارفه وَيعود والعساكر تَجْتَمِع وتطلبه من كل صوب فَأَقَمْنَا أَيَّامًا نشرف كل يَوْم على الشقيف والعساكر الإسلاميه فِي كل يَوْم تصبح متزايدة الْعدَد وَالْعدَد وَصَاحب الشقيف يرى مَا يتَيَقَّن مَعَه عدم السَّلامَة فَرَأى أَن إصْلَاح حَاله مَعَه قد تعين طَرِيقا إِلَى سَلَامَته فَنزل بِنَفسِهِ وَمَا أحسسنا بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِم على بَاب خيمة السُّلْطَان فَأذن لَهُ فَدخل فاحترمه وأكرمه وَكَانَ من كبار الفرنجية وعقلائها وَكَانَ يعرف بِالْعَرَبِيَّةِ وَعِنْده اطلَاع على شَيْء من التواريخ وَالْأَحَادِيث قَالَ وَبَلغنِي أَنه كَانَ عِنْده مُسلم يقْرَأ لَهُ ويفهمه وَكَانَ عِنْده تأت فَحَضَرَ بَين يَدي السُّلْطَان وَأكل مَعَه الطَّعَام ثمَّ خلا بِهِ وَذكر أَنه مَمْلُوكه وَتَحْت طَاعَته وَأَنه يسلم الْمَكَان إِلَيْهِ من غير تَعب وَاشْترط أَن يعْطى موضعا يسكنهُ بِدِمَشْق فَإِنَّهُ لَا يقدر بعد ذَلِك على مساكنة الفرنج وإقطاعا بِدِمَشْق يقوم بِهِ وبأهله وَأَنه يُمكن من الاقامة بموضعه وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَى الْخدمَة ثَلَاثَة أشهر من تَارِيخ الْيَوْم الَّذِي كَانَ فِيهِ حَتَّى يتَمَكَّن من تَخْلِيص أَهله وجماعته من صور وَيَأْخُذ مغل هَذِه السّنة فَأُجِيب إِلَى ذَلِك كُله وَأقَام يتَرَدَّد إِلَى خدمَة السُّلْطَان فِي كل وَقت ويناظرنا فِي دينه ونناظره فِي بُطْلَانه وَكَانَ حسن المحاورة متأدبا فِي كَلَامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ثمَّ استفاض بَين النَّاس أَن صَاحب الشقيف فعل مَا فعله من المهلة غيلَة لَا أَنه صَادِق فِي ذَلِك وَإِنَّمَا قصد بِهِ تدفيع الزَّمَان وَظَهَرت لذَلِك مخايل كَثِيرَة من الْخَوْض فِي تَحْصِيل الْميرَة وإتقان الْأَبْوَاب فَرَأى السُّلْطَان أَن يصعد إِلَى سطح الْجَبَل ليقرب من الْمَكَان وَيمْنَع من دُخُول نجدة وميرة إِلَيْهِ وَأظْهر أَن سَبَب ذَلِك شدَّة حمو الزَّمَان والفرار من وخم المرج فَنزل صَاحبه وَسَأَلَ أَن يُمْهل تَمام سنة فماطله السُّلْطَان وَمَا آيسه وَقَالَ نفكر فِي ذَلِك ونجمع الْجَمَاعَة ونأخذ رَأْيهمْ ثمَّ وكل بِهِ من حَيْثُ لَا يشْعر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا سنذكر قَالَ وَفِي أثْنَاء ربيع الأول وصل الْخَبَر بِتَسْلِيم الشوبك وَكَانَ قد أَقَامَ السُّلْطَان عَلَيْهِ جمعا عَظِيما يحاصرونه مُدَّة سنة حَتَّى فرغت أَزْوَادهم وسلموه بالأمان وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ الشقيف فِي يَد صَاحب صيدا أرناط وَقد أكمل فِي حفظه الِاحْتِيَاط فَنزل إِلَى خدمَة السُّلْطَان وَسَأَلَ أَن يُمْهل ثَلَاثَة أشهر يتَمَكَّن فِيهَا من نقل من بصور من أَهله وَأظْهر أَنه مُحْتَرز من علم المركيس - لَعنه الله - بِحَالهِ فَلَا يسلم من جَهله وَحِينَئِذٍ يسلم الْموضع بِمَا فِيهِ وَيدخل فِي طَاعَة السُّلْطَان ومراضيه ويخدمه على إقطاع يُغْنِيه وَعَن حب أهل دينه يسليه فَأكْرمه وقربه وَقضى أربه وأجابه إِلَى مَا سَأَلَهُ وَقبل مِنْهُ عَزِيزًا مَا بذله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 بذله واقتنع بقوله وَلم يَأْخُذ رهينة وَوجد إِلَيْهِ سكونا وسكينة فشرع أرناط فِي إذالة حصنه وَإِزَالَة وهنه وترميم مستهدمه وتوفير غلاله وتدبير أَحْوَاله وَنحن فِي غرَّة من تحفظه وَفِي سنة من تيقظه وَكَانَ يبْتَاع من عسكرنا الْميرَة وَيكثر فِيهِ الذَّخِيرَة وَقد أضمر الْغدر وَظن أَن لَهُ النَّصْر وَالسُّلْطَان حسن الظَّن بِهِ يحمل صدق الواشي بِهِ على كذبه وَكَانَ انْتِهَاء الْمدَّة يَوْم الْأَحَد ثامن عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَأقَام السُّلْطَان بالمرج ينْتَظر انسلاخ الْهُدْنَة وَتَسْلِيم الْحصن وَخَافَ إِن فَارقه أَن تَجِيء أَمْدَاد الفرنج إِلَيْهِ وَكَانَ مشفقا أَيْضا من جَانب أنطاكية لانْتِهَاء أشهر هدنتها فَكتب إِلَى تَقِيّ الدّين بالْمقَام فِي تِلْكَ الخطة وسير بذلك الْفَقِيه عِيسَى الهكاري وَلم يستدع إِلَّا صَاحب آمد قطب الدّين سكمان بن قرا أرسلان فجَاء فِي أمداده وأعداده ولازم السُّلْطَان فَلَمَّا قرب انْتِهَاء مُدَّة صَاحب الشقيف أحضرهُ السُّلْطَان فتضرع وَقَالَ إِن قومِي إِلَى الْآن لم يخلصوا من صور وَقد أَنْعَمت فأتمم وَسَأَلَ أَن تكون المهلة سنة فَعرف السُّلْطَان من فحوى الْخطاب أَمَارَات الارتياب فَكَلمهُ بإيناس وَمَا رده بياس فَأرْخى طوله وأرجى أمله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وَأمر السُّلْطَان بتحويل الخيم إِلَى ظهر الْجَبَل ليقرب من الْحصن وَقد بَقِي من الْهُدْنَة يَوْمَانِ فتضور صَاحب الْحصن فَقيل لَهُ تقيم عندنَا فِي كنف الآمان فَبكى وتألم من ضَبطه وانكشفت سَرِيرَته الغادرة فَأمر بِحمْلِهِ إِلَى الشقيف حَتَّى يُسلمهُ ووكل بِهِ وَحفظ من حَيْثُ لَا يعلم وَقيل لَعَلَّه يحسن وَلَا يحوج إِلَى المقابحه وَيسلم وَقيل لَهُ قد بَقِي يَوْمَانِ من الْمدَّة تقيم حَتَّى تَنْتَهِي وتسلم فأبدى ضَرُورَة وضراعة وَقَالَ سمعا وَطَاعَة وَكَانَ لَهُ ملقى وملق وَفِي لِسَانه ذلق وَمَا عِنْده من كل مَا يفرق مِنْهُ فرق وَقَالَ أَنا أنفذ إِلَى نوابي فِي التَّسْلِيم وَهُوَ قد تقدم إِلَيْهِم بِالْوَصِيَّةِ والتعليم فأظهروا عصيانه وَقَالُوا يبْقى مَكَانَهُ فقيد وَحمل إِلَى قلعة بانياس وَبَطل الرَّجَاء فِيهِ وَبَان الياس ثمَّ استحضره فِي سادس رَجَب وهدده وتوعده فَلَمَّا لم يفد خطابه وَلم يجد عَذَابه سيره إِلَى دمشق وسجنه ورتب عدَّة من الْأُمَرَاء بملازمة حصر الْحصن فِي الصَّيف والشتاء إِلَى أَن تسلمه بعد سنة بِحكم السّلم وَأطلق صَاحبه وأجرى عَلَيْهِ حكم الْحلم فصل وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان على مرج عُيُون لمحاصرة شقيف أرنون اجْتمعت الفرنج وَجَرت لَهُم مَعَ الْمُسلمين وقائع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ السُّلْطَان قد اشْترط على نَفسه حِين تسلم عسقلان أَنه إِن أَمر الْملك من بهَا بتسليمها أطلقهُ فَأَمرهمْ بتسليمها وسلموها فطالبه الْملك باطلاقه فَأَطْلقهُ وَفَاء بِالشّرطِ وَنحن على حصن الأكراد أطلقهُ من أنطرطوس وَاشْترط عَلَيْهِ أَن لَا يشهر فِي وَجهه سَيْفا أبدا وَأَن يكون مَمْلُوكه وطليقه فنكث لعنة الله وَجمع الجموع وأتى صور يطْلب الدُّخُول إِلَيْهَا فخيم على بَابهَا يُرَاجع المركيس الَّذِي كَانَ بهَا فِي ذَلِك وَكَانَ المركيس اللعين رجلا عَظِيما ذَا رَأْي وبأس شَدِيد وصرامة عَظِيمَة فَقَالَ لَهُ إِنَّنِي نَائِب الْمُلُوك الَّذين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أذنوا لي فِي تَسْلِيمهَا إِلَيْك وطالت الْمُرَاجَعَة واستقرت الْقَاعِدَة بَينهمَا على أَن يتفقوا جَمِيعًا على الْمُسلمين وتجتمع العساكر الَّتِي بصور وَغَيرهَا من الفرنجية على الْمُسلمين وعسكروا على بَاب صور وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر جُمَادَى الأولى بلغ السُّلْطَان من جَانب اليزك أَن الفرنج قد قطعُوا الجسر الْفَاصِل بَين أَرض صور وَأَرْض صيدا وَهِي الأَرْض الَّتِي نَحن عَلَيْهَا فَركب السُّلْطَان بعسكره نَحْو اليزك فوصل وَقد انفصلت الْوَقْعَة وَذَلِكَ أَن الفرنج عبر مِنْهُم جمَاعَة الجسر فَنَهَضَ إِلَيْهِم يزك الْإِسْلَام وَكَانُوا فِي عدَّة وَقُوَّة فقاتلوهم فَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وجرحوا أَضْعَاف مَا قتلوا ورموا فِي النَّهر جمَاعَة فَغَرقُوا وَلم يقتل من الْمُسلمين إِلَّا مَمْلُوك للسُّلْطَان يعرف بأيبك الأخرش وَكَانَ شجاعا باسلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 مجربا للحرب ممارسا فتقطر بِهِ فرسه فلجأ إِلَى صَخْرَة فقاتل بالنشاب حَتَّى فني ثمَّ بِالسَّيْفِ حَتَّى قتل جمَاعَة ثمَّ تكاثروا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى ركب السُّلْطَان يشرف على الْقَوْم على عَادَته فتبع الْعَسْكَر خلق عَظِيم من الرجالة والغزاة والسوقة وحرص رَحمَه الله فِي ردهم فَلم يَفْعَلُوا وَخَافَ عَلَيْهِم فَإِن الْمَكَان كَانَ حرجا لَيْسَ للراجل فِيهِ ملْجأ ثمَّ هجم الرجالة إِلَى الجسر وناوشوا الْعَدو وَعبر مِنْهُم جمَاعَة إِلَيْهِم وَجرى بَينهم قتال شَدِيد وإجتمع لَهُم من الفرنج خلق عَظِيم وهم لَا يَشْعُرُونَ وكشفوهم بِحَيْثُ علمُوا أَن لَيْسَ وَرَاءَهُمْ كمين فحملوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة على غرَّة من السُّلْطَان فانه كَانَ بَعيدا عَنْهُم وَلم يكن مَعَه عَسْكَر فَإِنَّهُ لم يخرج لِلْقِتَالِ وَإِنَّمَا ركب مستشرفا عَلَيْهِم على الْعَادة فِي كل يَوْم وَلما بَان لَهُ الْوَقْعَة وَظهر لَهُ غبارها بعث إِلَيْهِم من كَانَ مَعَه ليردوهم فوجدوا الْأَمر قد فرط والفرنج قد تكاثروا حَتَّى خَافت مِنْهُم السّريَّة الَّتِي بعثها السُّلْطَان وظفروا بالرجالة ظفرا عَظِيما وأسروا جمَاعَة وعد من قتل من الرجالة فِي ذَلِك الْيَوْم فَكَانَ عدد الشُّهَدَاء مئة وَثَمَانِينَ نَفرا وَقتل أَيْضا من الفرنج عدَّة عَظِيمَة وغرق أَيْضا مِنْهُم عدَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وَكَانَ مِمَّن قتل مِنْهُم مقدم الألمانية وَكَانَ عِنْدهم عَظِيما مُحْتَرما وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم من المعروفين من الْمُسلمين الْأَمِير غَازِي بن سعد الدّين مَسْعُود بن البصار وَكَانَ شَابًّا حسنا شجاعا واحتسبه وَالِده فِي سَبِيل الله وَلم تقطر من عينه عَلَيْهِ دمعة على مَا ذكره جمَاعَة لازموه قَالَ وَهَذِه الْوَقْعَة لم يتَّفق للفرنج مثلهَا فِي هَذِه الوقائع الَّتِي حضرتها وشاهدتها وَلم ينالوا من الْمُسلمين مثل هَذِه الْوَقْعَة فِي هَذِه الْمدَّة وَلما رأى السُّلْطَان مَا حل بِالْمُسْلِمين من هَذِه الْوَقْعَة النادرة جمع أَصْحَابه وشاورهم وَقرر مَعَهم أَنه يهجم على الفرنج ويعبر على الجسر ويقاتلهم ويستأصل شأفتهم وَكَانَ الفرنج قد رحلوا عَن صور ونزلوا قريب الجسر وَبَين الجسر وصور مِقْدَار فَرسَخ وزائد على فَرسَخ فَلَمَّا صمم الْعَزْم على ذَلِك رَحل الفرنج عائدين إِلَى صور ملتجئين إِلَى سورها فَرَأى رَحمَه الله أَن يسير إِلَى عكا ليلحظ مَا بني من سورها ويحث على الْبَاقِي فراح على تبنين وَلم يرجع على مرج عُيُون فَمضى إِلَى عكا فرتب أحوالها وَعَاد إِلَى الْعَسْكَر بمرج عُيُون منتظرا مهلة صَاحب الشقيف وَلما كَانَ يَوْم السبت سادس جُمَادَى الْآخِرَة بلغه أَن جمَاعَة من رجالة الفرنج يتبسطون وَيصلونَ إِلَى جبل تبنين يحتطبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَفِي قلبه من رجالة الْمُسلمين وَمَا جرى عَلَيْهِم أَمر عَظِيم فَرَأى أَن يُقرر قَاعِدَة كمين يرتبه لَهُم وبلغه أَنهم يخرج وَرَاءَهُمْ أَيْضا خيل يحفظهم فَعمل كمينا يصلح للقاء الْجَمِيع ثمَّ أنفذ إِلَى عَسْكَر تبنين أَن يخرجُوا فِي نفر يسير غائرين على تِلْكَ الرجالة وَأَن خيل الْعَدو إِذا تبعتهم ينهزمزن إِلَى جِهَة عينهَا لَهُم وَأَن يكون ذَلِك صَبِيحَة الِاثْنَيْنِ ثامن جُمَادَى الْآخِرَة وَأرْسل إِلَى عَسْكَر عكا أَن يسير حَتَّى يكون وَرَاء عَسْكَر الْعَدو حَتَّى إِن تحركوا فِي نصْرَة أَصْحَابهم قصدُوا خيمهم وَركب هُوَ وجحفله إِلَى الْجِهَة الَّتِي عينهَا لهزيمة عَسَاكِر تبنين حَتَّى قطع تبنين ورتب الْعَسْكَر ثَمَانِيَة أطلاب واستخرج من كل طلب عشْرين فَارِسًا وَأمرهمْ أَن يتراءوا حَتَّى يظهروا إِلَيْهِم ويناوشوهم وينهزموا بَين أَيْديهم حَتَّى يصلوا إِلَى الكمين فَفَعَلُوا ذَلِك وَظهر لَهُم من الفرنج مُعظم عَسْكَرهمْ يقدمهم الْملك لَعنه الله وَجرى بَينهم وَبَين هَذِه السّريَّة الْيَسِيرَة قتال شَدِيد والتزمت السّريَّة الْقِتَال وأنفوا من الانهزام بَين أَيْديهم وحملتهم الحمية على مُخَالفَة السُّلْطَان واتصل الْخَبَر بالسلطان فِي أَوَاخِر الْأَمر وَقد هجم اللَّيْل فَبعث بعوثا كَثِيرَة فَعَاد الفرنج ناكصين على أَعْقَابهم وَقتل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الفرنج عشرَة أنفس وَمن الْمُسلمين سِتَّة اثْنَان من التّرْك وَأَرْبَعَة من الْعَرَب مِنْهُم الْأَمِير زامل وَكَانَ شَابًّا تَاما حسن الشَّبَاب يتَقَدَّم عشيرته وَكَانَ سَبَب قَتله أَنه تقطرت بِهِ فرسه فَفَدَاهُ أبن عَمه بفرسه فتقطرت بِهِ أَيْضا وَأسر هُوَ وَثَلَاثَة من أَهله فَلَمَّا بصر الفرنج بمدد الْعَسْكَر قتلوهم خشيَة الاستنقاذ وجرح خلق كثير من الطَّائِفَتَيْنِ وخيل كَثِيرَة قَالَ وَمن نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة أَن مَمْلُوكا من مماليك السُّلْطَان يُقَال لَهُ أيبك أثخن بالجراح حَتَّى وَقع بَين الْقَتْلَى وجراحاته تثعب دَمًا وَبَات ليله أجمع على تِلْكَ الْحَال إِلَى صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء فتفقده أَصْحَابه فَلم يجدوه فعرفوا السُّلْطَان فَقده وأنفذ من يكْشف عَن حَاله فوجدوه بَين الْقَتْلَى فَحَمَلُوهُ إِلَى المخيم وَعَافَاهُ الله وَعَاد السُّلْطَان إِلَى المخيم يَوْم الْأَرْبَعَاء عَاشر الشَّهْر فَرحا مَسْرُورا وَقَالَ الْعِمَاد أجتمع من كَانَ سلم من الفرنج وَنَجَا على ملكهم الَّذِي خلص من الْأسر وَقَالُوا نَحن فِي جمع جم خَارج عَن الْحصْر وَقد تواصلت إِلَيْنَا أَمْدَاد الْبَحْر فثر بِنَا للثار وأعرنا من هَذَا الْعَار وَجَاء من كَانَ بطرابلس وخيموا على صور وَاتَّفَقُوا على أَنهم يقصدون بَلَدا إسلاميا من السَّاحِل ويقيمون عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 والمركيس يمدهُمْ من صور بالمدد وَالْعدَد ثمَّ جَاءَ الْخَبَر أَنهم على قصد صيدا للحصر وَقد جسروا على عبور الجسر وَوَقعت عَلَيْهِم اليزكية فردوهم وَوَقع فِي الْأسر من سباعهم سَبْعَة فحملوا إِلَى سجن دمشق ثمَّ ذكر قَتلهمْ للغزاة المطوعة على الجسر وَقَالَ لم يصب الْكفَّار من الْمُسلمين مذ أصيبوا غير هَذِه الكره وأذاقونا بعد أَن حلا لنا جنى الفتوحات مرَارَة هَذِه الْمرة فأيقظنا الله من رقدة الْغرَّة وَأخذ النَّاس حذرهم وَقَالُوا بِهَذَا وعد الله حَيْثُ قَالَ {فيقتلون وَيقْتلُونَ} وعباده هم الَّذين يتبعُون أمره ويمتثلون ثمَّ ذكر وقْعَة الكمين قَالَ وَكَانَ مَعَ الْمُسلمين أَرْبَعَة من أُمَرَاء الْعَرَب فحملوا كَمَا وصاهم السُّلْطَان على عزم الطراد ليقصدوا الكمين وسلكوا أَسْفَل الْوَادي وَإِنَّمَا الطَّرِيق أَعْلَاهُ وَلَا خبْرَة لَهُم بِتِلْكَ الأَرْض فَعرف الفرنج أَنهم ضائعون فطاردوهم وردوهم إِلَى الْمضيق وأنفت الْعَرَب من الْهَزِيمَة فاستشهدوا قَالَ وَكَانَ مَعَهم مَمْلُوك للسُّلْطَان يُقَال لَهُ أيبك الساقي فاعتزل إِلَى صَخْرَة واحتمى بهَا ونكب كِنَانَته وَرَمَاهُمْ بنشابها وهم لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 يقدرُونَ على الاقتحام إِلَيْهِ بِالْخَيْلِ فَرَمَوْهُ بالزنبورك حَتَّى كثرت فِيهِ الْجِرَاحَات وظنوا أَنه قد مَاتَ وَوصل الْخَبَر إِلَى الْمُسلمين فأدركوهم ووقفوا على الشُّهَدَاء وقبروهم وجاؤوا إِلَى أيبك فوجدوا فِيهِ الرّوح فنقلوه إِلَى الْخيام وهم يظنون أَنه لَا خلاص لَهُ من الْحمام وَكَانَ فِي أَجله بَاقِيَة فَمن الله عَلَيْهِ بالعافية فصل فِي نزُول الفرنج - خذلهم الله - على عكا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ بلغنَا بعد ذَلِك أَن الفرنج بصور وَمن كَانَ مَعَ الْملك قد سَارُوا نَحْو النواقير يُرِيدُونَ جِهَة عكا وَأَن بَعضهم نزل بإسكندرونه وَجرى بَينهم وَبَين رجالة الْمُسلمين مناوشة وَقتل مِنْهُم الْمُسلمُونَ نَفرا يَسِيرا وَأَقَامُوا هُنَاكَ وَلما بلغ السُّلْطَان حركتهم إِلَى تِلْكَ الْجِهَة عظم عَلَيْهِ وَلم ير المسارعة خوفًا من أَن يكون قصدهم ترحيله عَن الشقيف لَا قصد الْمَكَان فَأَقَامَ مستكشفا للْحَال إِلَى يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر رَجَب فوصل قَاصد أخبر أَن الفرنج فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم رحلوا ونزلوا عين بصة وَوصل أوائلهم إِلَى الزيب فَعظم ذَلِك عِنْده وَكتب إِلَى سَائِر أَرْبَاب الْأَطْرَاف بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى الثّقل أَن سَار بِاللَّيْلِ وَأصْبح هُوَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشر رَجَب سائرا إِلَى عكا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 طَرِيق طبرية اذ لم يكن ثمَّ طَرِيق يسع الْعَسْكَر إِلَّا هُوَ وسير جمَاعَة على طَرِيق تبنين يستشرفون الْعَدو ويواصلون بأخباره وسرنا حَتَّى أَتَيْنَا الحولة منتصف النَّهَار فَنزل بهَا سَاعَة ثمَّ رَحل وَسَار طول اللَّيْل حَتَّى أَتَى موضعا يُقَال لَهُ منية صَبِيحَة الثُّلَاثَاء وَفِيه بلغنَا نزُول الفرنج على عكا وسير صَاحب الشقيف إِلَى دمشق بعد الاهانة الشَّدِيدَة على سوء صَنِيعه وَاشْتَدَّ حنقه عَلَيْهِ بِسَبَب تَضْييع ثَلَاثَة أشهر عَلَيْهِ وعَلى عسكره لم يعملوا فِيهَا شَيْئا وَسَار السُّلْطَان جَرِيدَة من الْمنية حَتَّى اجْتمع بِبَقِيَّة الْعَسْكَر الَّذِي كَانَ أنفذه على طَرِيق تبنين بمرج صفورية فَإِنَّهُ كَانَ واعدهم إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى الثّقل أَن يلْحقهُ إِلَى مرج صفورية وَلم يزل حَتَّى شَارف العدومن الخروبة وَبعث بعض الْعَسْكَر وَدخل عكا على غرَّة من الْعَدو تقويه لمن فِيهَا وَلم يزل يبْعَث إِلَيْهَا بعثا بعد بعث حَتَّى حصل فِيهَا خلق كثير وَسَار من الخروبة إِلَى تل كيسَان فِي أَوَائِل مرج عكا فَنزل عَلَيْهِ وَأمر النَّاس أَن ينزلُوا على التعبية فَكَانَ آخر الميسرة على طرف النَّهر الحلو وَآخر الميمنة مقارب تل العياضية واحتاط الْعَسْكَر الإسلامي بالعدو وَأخذُوا عَلَيْهِم الطّرق من الجوانب وتلاحقت العساكر الإسلامية وَاجْتمعت ورتب اليزك الدَّائِم وَحصر الْعَدو فِي خيامه بِحَيْثُ لَا يخرج مِنْهَا أحد إِلَّا ويجرح أَو يقتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وَكَانَ عَسْكَر الْعَدو على شطر من عكا وخيمة ملكهم على تل المصلبين قَرِيبا من بَاب الْبَلَد وَكَانَ عدد راكبهم ألفي فَارس وَعدد راجلهم ثَلَاثِينَ ألفا قَالَ وَمَا رَأَيْت من نقصهم عَن ذَلِك وَرَأَيْت من حزرهم بِزِيَادَة على ذَلِك ومددهم من الْبَحْر لَا يَنْقَطِع وَجرى بَينهم وَبَين اليزك مقاتلات عَظِيمَة متواترة والمسلمون يتهافتون على قِتَالهمْ وَالسُّلْطَان يمنعهُم من ذَلِك إِلَى وقته والبعوث من عَسَاكِر الْمُسلمين تتواصل والملوك والأمراء من الأقطار تتتابع وَوصل تَقِيّ الدّين من حماة ومظفر الدّين بن زين الدّين وَفِي أثْنَاء هَذِه الْحَال توفّي الحسام سنقر الخلاطي باسهال شَدِيد وَكَانَ شجاعا دينا فأسف الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَلما استفحل أَمر الفرنج استداروا بعكا بِحَيْثُ منعُوا من الدُّخُول وَالْخُرُوج مِنْهَا وَذَلِكَ سلخ رَجَب فَعظم على السُّلْطَان وضاق صَدره وثارت همته الْعَالِيَة فِي فتح الطَّرِيق إِلَى عكا لتستمر السابلة إِلَيْهَا بالميرة والنجدة فباكرهم مستهل شعْبَان وضايقهم مضايقة شَدِيدَة فَكَانَت الحملة بعد صَلَاة الْجُمُعَة وانتشر عَسْكَر الْعَدو إِلَى أَن ملكوا التلول وَكَانَت ميسرَة عَسْكَرهمْ إِلَى النَّهر الحلو آخذة إِلَى الْبَحْر وميمنتهم قبالة القلعة الْوُسْطَى الَّتِي لعكا واتصلت الْحَرْب إِلَى أَن حَال بَين الفئتين هجوم اللَّيْل وَبَات النَّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 على حَالهم من الْجَانِبَيْنِ شاكين فِي السِّلَاح تحرس كل طَائِفَة نَفسهَا من الْأُخْرَى وَأَصْبحُوا ثَانِي شعْبَان يَوْم السبت على الْقِتَال وأنفذ السُّلْطَان طَائِفَة من شجعان الْمُسلمين إِلَى الْبَحْر من شمَالي عكا وَلم يكن هُنَاكَ لِلْعَدو خيم لَكِن عسكره كَانَ قد امْتَدَّ جَرِيدَة شمَالي عكا إِلَى الْبَحْر فَحمل شجعان الْمُسلمين على عَسْكَر الفرنج الْوَاقِف شمَالي عكا فانكسروا بَين أَيْديهم كسرة عَظِيمَة وَقتلُوا مِنْهُم جمعا كَبِيرا وانكف السالمون مِنْهُم إِلَى خيامهم وهجم الْمُسلمُونَ خَلفهم إِلَى أَوَائِل خيامهم ووقف اليزك الإسلامي مَانِعا من أَن يخرج من عَسْكَرهمْ خَارج أَو يدْخل إِلَيْهِ دَاخل وَانْفَتح الطَّرِيق إِلَى عكا من بَاب القلعة الْمُسَمَّاة بقلعة الْملك إِلَى بَاب قراقوش الَّذِي جدده وَصَارَ الطَّرِيق مهيعا يمر فِيهِ السوقى وَمَعَهُ الْحَوَائِج ويمر بِهِ الراجل الْوَاحِد وَالْمَرْأَة واليزك بَين الطَّرِيق وَبَين الْعَدو وَدخل السُّلْطَان فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى عكا ورقي على السُّور وَنظر إِلَى عَسْكَر الْعَدو وتراجع النَّاس عَن الْقِتَال بعد صَلَاة الظّهْر لسقي الدَّوَابّ وَأخذ الرَّاحَة وَلم يعودوا إِلَى الْقِتَال وَأَصْبحُوا يَوْم الْأَحَد فَرَأى بعض الْأُمَرَاء تَأْخِير الْقِتَال إِلَى أَن يدْخل الراجل كُله إِلَى عكا ويخرجوا مَعَ الْعَسْكَر الْمُقِيم بهَا من أَبْوَاب الْبَلَد على الْعَدو من وَرَائه وتركب العساكر من خَارج من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 سَائِر الجوانب ويحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد وَالسُّلْطَان رَحمَه الله يعاني هَذِه الْأُمُور كلهَا بِنَفسِهِ ويصافحها بِذَاتِهِ لَا يتَخَلَّف عَن مقَام من هَذِه المقامات وَهُوَ من شدَّة حرصه ووفور همته كالوالدة الثكلى وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أطبائه أَنه بَقِي من يَوْم الْجُمُعَة إِلَى يَوْم الْأَحَد لم يتَنَاوَل من الْغذَاء إِلَّا شَيْئا يَسِيرا لفرط اهتمامه وفعلوا مَا كَانَ عزموا عَلَيْهِ واشتدت مَنْعَة الْعَدو وَحمى نَفسه فِي خيامه وَلم تزل سوق الْحَرْب قَائِمَة تبَاع فِيهَا النُّفُوس بالنفائس وتمطر سَمَاء حربها الرؤوس من كل رَئِيس ومترائس حَتَّى كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثامن شعْبَان عزم الْعَدو على الْخُرُوج بجموعهم فَخرج راجلهم وفارسهم وامتدوا على التلول وَسَارُوا الهوينا غير مفرطين فِي نُفُوسهم وَلَا خَارِجين من راجلهم والرجالة حَولهمْ كالسور الْمَبْنِيّ يَتْلُو بَعضهم بَعْضًا حَتَّى قاربوا خيام اليزك فصاح السُّلْطَان بالعساكر الإسلامية فَرَكبُوا بأجمعهم وحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد فَعَاد الْعَدو ناكصا على عَقِبَيْهِ وَالسيف يعْمل فيهم فالسالم مِنْهُم جريح والعاطب طريح يَشْتَدُّونَ هزيمَة يعثر جريحهم بقتيلهم وَلَا تلوي الْجَمَاعَة مِنْهُم على قبيلهم حَتَّى لحق بخيامهم من سلم مِنْهُم وانكفوا عَن الْقِتَال أَيَّامًا وَكَانَ قصاراهم أَن يحفظوا نُفُوسهم ويحرسوا رؤوسهم وَاسْتمرّ فتح طَرِيق عكا والمسلمون يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 قَالَ وَكنت مِمَّن دخل ورقي على السُّور ودام الْقِتَال بَين الفئتين مُتَّصِلا اللَّيْل مَعَ النَّهَار حَتَّى كَانَ الْحَادِي عشر من شعْبَان وَرَأى السُّلْطَان رَحمَه الله توسيع الدائرة عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يخرجُون إِلَى مصَارِعهمْ فَنقل الثّقل إِلَى تل العياضية وهوتل قبالة تل المصلبين مشرف على عكا وخيام الْعَدو وَفِي هَذِه الْمنزلَة توفّي حسام الدّين طمان وَكَانَ من شجعان الْمُسلمين وَدفن فِي سطح هَذَا التل وَصليت عَلَيْهِ مَعَ جمَاعَة من الْفُقَهَاء لَيْلَة نصف شعْبَان وَبلغ السُّلْطَان أَن جمعا من الْعَدو يخرجُون للاحتشاش من طرف النَّهر مِمَّا ينْبت عَلَيْهِ فكمن لَهُم جمَاعَة من الْعَرَب وَقصد الْعَرَب لخفتهم على خيلهم فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم خلقا عَظِيما وأسروا جمَاعَة وأحضروا رؤوسا عدَّة بَين يَدَيْهِ وَذَلِكَ يَوْم السبت سادس عشر شعْبَان وَفِي عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَقع بَين الْعَدو وَبَين أهل الْبَلَد حَرْب عَظِيمَة قتل فِيهَا جمع عَظِيم من الطَّائِفَتَيْنِ وَطَالَ الْأَمر بَين الفئتين وَمَا يَخْلُو يَوْم عَن قتل وجرح وَسبي وَنهب وَأنس الْبَعْض بِالْبَعْضِ بِحَيْثُ إِن الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتَا تتحدثان وتتركان الْقِتَال وَرُبمَا غنى الْبَعْض ورقص الْبَعْض لطول المعاشرة ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْقِتَال بعد سَاعَة وسئموا يَوْمًا فَقَالُوا إِلَى كم يتقاتل الْكِبَار وَلَيْسَ للصغار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 حَظّ نُرِيد أَن يصطرع صبيان صبي منا وَصبي مِنْكُم فَأخْرج صبيان من الْبَلَد إِلَى صبين من الفرنج فَوَثَبَ أحد الصَّبِيَّيْنِ الْمُسلمين على أحد الصَّبِيَّيْنِ الْكَافرين فَاحْتَضَنَهُ وَضرب بِهِ الأَرْض وَأَخذه أَسِيرًا فَاشْتَرَاهُ بعض الفرنج بدينارين وَقَالُوا هُوَ أسيرك حَقًا فَأخذ الدينارين وَأطْلقهُ قَالَ وَوصل مركب فِيهِ خيل فهرب مِنْهَا فرس وَوَقع فِي الْبَحْر وَمَا زَالَ يسبح وهم حوله يردونه حَتَّى دخل ميناء عكا وَأَخذه الْمُسلمُونَ قلت وَذكر الْعِمَاد كل هَذِه الوقائع والنوادر فِي كِتَابه بألفاظه المسجوعة وَقَالَ وَكَانَ من رَأْي السُّلْطَان أَن يسايرهم فِي الطَّرِيق ويواقعهم عِنْد الْمضيق ويقطعهم عَن الْوُصُول ويدفعهم عَن النُّزُول فانهم إِذا نزلُوا صَعب نزالهم وأتعب قِتَالهمْ وَقَالُوا - يَعْنِي أمراءه - بل نمضي على أسهل الطّرق فَسَار الثّقل من اللَّيْل على طَرِيق الملاحة وسرنا على جب يُوسُف إِلَى الْمنية وَجِئْنَا عصر يَوْم الثُّلَاثَاء وَالسُّلْطَان نَازل بِأَرْض كفركنا وَنزل يَوْم الْأَرْبَعَاء على جبل الخروبة وَنزل الفرنج على عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر محيطين بهَا للحصر وَضرب الْملك الْعَتِيق خيمة على تل المصلبة وربطت مراكبهم بشاطىء الْبَحْر فَكَانَت كالآجام المؤتشبة ثمَّ عبأ السُّلْطَان جَيْشه وَنزل بمرج عكا على تل كيسَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وصرنا محاصرين للمحاصرين قد أحطنا الْعَدو وَهُوَ بِالْبَلَدِ مُحِيط واستشطنا مِنْهُ وَهُوَ مستشيط وأحطنا بأولئك الْكَفَرَة إحاطة النَّار بِأَهْلِهَا ومنعنا الطّرق من ورائهم فِي وعرها وسهلها ورتبنا بالزيب والنواقير رجَالًا يصدونهم عَن سبلها ودمنا نصدهم ونصدمهم ويوجدهم الْبَحْر ونعدمهم واستدارت الفرنج بعكا كالدائرة بالمركز وَزَادُوا من جانبنا فِي التحرس والتحرز وَذَلِكَ فِي آخر رَجَب لانسلاخه وَالْإِسْلَام ينادينا باستصراخه وَأصْبح السُّلْطَان يَوْم الْجُمُعَة مستهل شعْبَان واتفقت الآراء على أَن يكون اللِّقَاء وَقت الصَّلَاة عِنْد ارْتِفَاع الدَّعْوَات على المنابر الإسلامية فأحاط الْعَسْكَر الإسلامي بجوانبهم فكدر عَلَيْهِم صفو مشاربهم وفلل مضاء مضاربهم وهم فِي مواضعهم واقفون وعَلى مصَارِعهمْ عاكفون وَفِي مواطنهم ثابتون كالبنيان المرصوص مَا فِيهِ خلل وكالحلقة المفرغة مَا إِلَيْهَا مدْخل وكالسور الْمُحِيط مَا عَلَيْهِ متسلق وكالجبل الأشم مَا فِيهِ مُتَعَلق فزحفنا إِلَيْهِم فَلم يبرجوا وقربنا مِنْهُم فَلم ينزحوا وحملنا عَلَيْهِم فَأخذُوا الضَّرْبَة وَلم يعطوها وَكلما قتل وَاحِد وقف آخر مقَامه حَتَّى دخل اللَّيْل وحجز وحملوا من الْغَد من جَانب الْبَحْر شمَالي عكا فَانْهَزَمَ الفرنج إِلَى تل المصلبة نَحْو الْقبَّة وثبتوا عِنْد الوثبة وَانْفَتح لنا طَرِيق عكا فَدَخلَهَا الرِّجَال وحملت إِلَيْهَا الغلال والفرنج قد رهبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وَلَو قدرُوا لهربوا وأصحابنا رَأَوْا أَن انفتاح بَاب الْبَلَد غنيمَة فتوقفوا عَن إتْمَام الْعَزِيمَة وَلَو أَنهم استمروا لبادوا الْعَدو بِسُرْعَة فَإِن للصدمة الأولى فِي الروع روعة فَبَلع الْعَدو رِيقه وَوجد إِلَى الْجلد طَريقَة ووقفوا كالسور من وَرَاء الجنويات والتراس والقنطاريات وصوبوا الجروخ وفوقوها وجمعوا الْعدَد وعَلى الرِّجَال فرقوها وَكَانُوا فِي عدد الرمل ومدد النَّمْل وهم كل يَوْم فِي ازدياد وَالْبَحْر يمدهُمْ بالأمداد وشرعوا فِي حفر الْخَنَادِق وسد المضائق وَنصب الطوارق وَالسُّلْطَان ساهر للْمُسلمين فِي ليلهم قَائِم بأمرهم فِي نهارهم وَمن كتاب فاضلي فِي بعض الوقعات فاستدارت بهم رجال الجاليشية تقذف شياطينهم بشهابها وتهوي إِلَى أوكار أفئدتهم طير نشابها وتجنيهم من القنا والنشاب ثَمَر الردى متشابها وَقد ارْتَفع الْإِسْلَام إِلَى دَرَجَات سَيذكرُ أمرهَا وانخفض الْكفْر إِلَى دركات سيمر ذكرهَا فالنصرخافق علمه وَكتاب الْبشَارَة قد استمد قلمه وَقد وثقنا بلطف الله تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي فتأهبت الخواطر لمعاني المسار وأعدت أَلْفَاظ الْبُشْرَى المهداة إِلَى كَافَّة الْبشر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الاستبشار فَإِن الفرنج محصورون والنازل المحصور كالمركب المكسور والنصر قد أعرب لعسكر الْإِسْلَام وَالْكفْر جَار ومجرور فصل فِي المصاف الْأَعْظَم على عكا وَهِي الْوَقْعَة الْكُبْرَى الَّتِي بدأت بالسوأى وختمت بِالْحُسْنَى قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان تحركت عَسَاكِر الفرنج حَرَكَة لم يكن لَهُم بِمِثْلِهَا عَادَة فارسهم وراجلهم وَكَبِيرهمْ وصغيرهم وَاصْطَفُّوا خَارج خيمهم قلبا وميمنة وميسرة وَفِي الْقلب الْملك وَبَين يَدَيْهِ الانجيل مَحْمُول مَسْتُور بِثَوْب أطلس نقطي يمسك أَرْبَعَة أنفس أَرْبَعَة أَطْرَافه وهم يَسِيرُونَ بَين يَدي الْملك وامتدت الميمنة فِي مُقَابلَة ميسرَة الْمُسلمين من أَولهَا إِلَى آخرهَا وامتدت ميسرَة الْعَدو فِي مُقَابلَة ميمنتنا إِلَى آخرهَا وملكوا رُؤُوس التلال فَكَانَ طرف ميمنتهم إِلَى النَّهر وطرف ميسرتهم إِلَى الْبَحْر وَأمر السُّلْطَان الجاووش أَن يُنَادي فِي النَّاس يَا للاسلام وعساكر الْمُوَحِّدين فَركب النَّاس وَقد باعوا أنفسهم بِالْجنَّةِ وامتدت الميمنة إِلَى الْبَحْر كل قوم يركبون ويقفون بَين يَدي خيامهم والميسرة إِلَى النَّهر كَذَلِك أَيْضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وَكَانَ السُّلْطَان قد أنزل النَّاس فِي الخيم ميمنة وميسرة وَقَلْبًا تعبية الْحَرْب حَتَّى إِذا وَقعت صَيْحَة لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيد تَرْتِيب وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَفِي ميمنة الْقلب وَلَده الْأَفْضَل ثمَّ وَلَده الظافر ثمَّ عَسْكَر المواصلة مقدمهم ظهير الدّين ابْن البلنكري ثمَّ عَسْكَر ديار بكر فِي خدمَة قطب الدّين صَاحب الْحصن ثمَّ حسام الدّين عمر بن لاجين صَاحب نابلس ثمَّ قايماز النجمي وجموع عَظِيمَة متصلين بِطرف الميمنة وَكَانَ فِي طرفها الْملك المظفر تَقِيّ الدّين بجحفله وَعَسْكَره وهومطل على الْبَحْر وَأما أَوَائِل الميسرة فَكَانَ مِمَّا يَلِي الْقلب سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب من كبار مُلُوك الأكراد ومقدميهم والأمير مجلي وَجَمَاعَة المهرانية والهكارية وَمُجاهد الدّين يرنقش مقدم عَسْكَر سنجار وَجَمَاعَة من المماليك ثمَّ مظفر الدّين بن زين الدّين بجحفله وَعَسْكَره وأواخر الميسرة كبار المماليك الأَسدِية كسيف الدّين يازكوج ورسلان بغا وَجَمَاعَة الأَسدِية الَّذين يضْرب بهم الْمثل وَفِي مُقَدّمَة الْقلب الْفَقِيه عِيسَى وَجمعه هَذَا وَالسُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى يطوف على الأطلاب بِنَفسِهِ يحثهم على الْقِتَال ويدعوهم إِلَى النزال ويرغبهم فِي نصْرَة دين الله وَلم يزل الْقَوْم يتقدمون والمسلمون يقدمُونَ حَتَّى علا النَّهَار وَمضى فِيهِ أَربع سَاعَات وَعند ذَلِك تحركت ميسرَة الْعَدو على ميمنة الْمُسلمين وَأخرج لَهُم تَقِيّ الدّين الجاليش وَجرى بَينهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 قلبات كَثِيرَة وتكاثروا على تَقِيّ الدّين وَكَانَ فِي طرف الميمنة على الْبَحْر فتراجع عَنْهُم شَيْئا إطماعا لَهُم لَعَلَّهُم يبعدون عَن أَصْحَابهم فينال مِنْهُم غَرضا فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان قد تَأَخّر ظن بِهِ ضعفا فأمده بأطلاب عدَّة من الْقلب حَتَّى قوي جَانِبه وتراجعت ميسرَة الْعَدو وَاجْتمعت على تل مشرف على الْبَحْر وَلما رأى الَّذين فِي مُقَابلَة الْقلب ضعف الْقلب وَمن خرج مِنْهُ من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نَحْو ميمنة الْقلب وحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد راجلهم وفارسهم قَالَ وَلَقَد رَأَيْت الرجالة تسير سير الخيالة وَلَا يسبقونها وهم يَسِيرُونَ خببا وَجَاءَت الحملة على الدياربكرية كَمَا يَشَاء الله تَعَالَى وَكَانَ بهم غرَّة عَن الْحَرْب فتحركوا بَين يَدي الْعَدو وانكسروا كسرة عَظِيمَة وسرى الْأَمر حَتَّى انْكَسَرَ مُعظم الميمنة وَاتبع الْعَدو المنهزمين إِلَى العياضية فَإِنَّهُم استداروا حول التل وَصعد طَائِفَة من الْعَدو إِلَى خيم السُّلْطَان فَقتلُوا طشت دَار كَانَ هُنَاكَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد إِسْمَاعِيل المكبس وَابْن رَوَاحَة رحمهمَا الله تَعَالَى وَأما الميسرة فَإِنَّهَا ثبتَتْ فَإِن الحملة لم تصادفها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 وَأما السُّلْطَان رَحمَه الله فَإِنَّهُ أَخذ يطوف على الأطلاب ينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الْجِهَاد وينادي فيهم يَا للاسلام وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خَمْسَة أنفس وَهُوَ يطوف ويتخرق الصُّفُوف وَأَوَى إِلَى تَحت التل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْخيام وَأما المنهزمون من الْعَسْكَر فَإِنَّهُم بلغت هزيمتهم إِلَى القحوانة قَاطع جسر طبرية وَتمّ مِنْهُم قوم إِلَى دمشق وَأما المتبعون لَهُم فانهم اتَّبَعُوهُمْ إِلَى العياضية فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قد صعدوا الْجَبَل رجعُوا عَنْهُم عائدين إِلَى عَسْكَرهمْ فَلَقِيَهُمْ جمَاعَة من الغلمان والخربندية والساسة منهزمين على بغال الْحمل فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة ثمَّ جاؤوا على رَأس السُّوق فَقتلُوا جمَاعَة وَقتل مِنْهُم جمَاعَة فَإِن السُّوق كَانَ فِيهِ خلق عَظِيم وَلَهُم سلَاح وَأما الَّذين صعدوا الخيم السُّلْطَانِيَّة فَإِنَّهُم لم يلتمسوا مِنْهَا شَيْئا أصلا سوى أَنهم قتلوا من ذَكرْنَاهُ وهم ثَلَاثَة نفر ثمَّ رَأَوْا ميسرَة الْإِسْلَام ثَابِتَة فَعلم وَا أَن الكسرة لم تتمّ فعادوا منحدرين من التل يطْلبُونَ عَسْكَرهمْ وَأما السُّلْطَان فانه كَانَ وَاقِفًا تَحت التل وَمَعَهُ نفر يسير وَهُوَ يجمع النَّاس ليعودوا إِلَى الحملة على الْعَدو فَلَمَّا رأى الفرنج نازلين من التل أَرَادوا لقاءهم فَأَمرهمْ بِالصبرِ إِلَى أَن ولوا ظُهُورهمْ واشتدوا يطْلبُونَ أَصْحَابهم فصاح فِي النَّاس وحملوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 عَلَيْهِم وطرحوا مِنْهُم جمَاعَة وَاشْتَدَّ الطمع فيهم وتكاثر النَّاس ورائهم حَتَّى لَحِقُوا أَصْحَابهم والطرد وَرَاءَهُمْ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ منهزمين والمسلمون وَرَاءَهُمْ فِي عدد كثير ظنُّوا أَن من حمل مِنْهُم قد قتل وَأَنه إِنَّمَا نجا مِنْهُم هَذَا النَّفر فَقَط وَأَن الْهَزِيمَة قد عَادَتْ عَلَيْهِم فاشتدوا فِي الْهَرَب والهزيمة وتحركت الميسرة عَلَيْهِم وَعَاد الْملك المظفر بجمعه من الميمنة وتحايا الرِّجَال وتداعت وتراجع النَّاس من كل جَانب وَكذب الله الشَّيْطَان وَنصر الايمان وظل النَّاس فِي قتل وَطرح وَضرب وجرح إِلَى أَن اتَّصل المنهزمون السالمون إِلَى عَسْكَر الْعَدو فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فِي الْخيام فَخرج مِنْهُم أطلاب كَانُوا أعدوها - خشيَة من هَذَا الْأَمر - مستريحة فَردُّوا الْمُسلمين وَكَانَ التَّعَب قد أَخذ من النَّاس وَالْخَوْف والعرق قد ألجمهم فتراجع النَّاس عَنْهُم بعد صَلَاة الْعَصْر يَخُوضُونَ فِي الْقَتْلَى وَدِمَائِهِمْ فرحين مسرورين وَعَاد السُّلْطَان وجلسوا فِي خدمته يتذاكرون من فقد مِنْهُم فَكَانَ مِقْدَار من فقد مِنْهُم من الغلمان والمجهولين مئة وَخمسين نَفرا وَمن المعروفين اسْتشْهد فِي ذَلِك الْيَوْم ظهير الدّين أَخُو الْفَقِيه عِيسَى - رَحمَه الله - وَلَقَد رَأَيْته وهوجالس يضْحك وَالنَّاس يعزونه وَهُوَ يُنكر عَلَيْهِم وَيَقُول هَذَا يَوْم الهناء لَا يَوْم العزاء وَكَانَ قد وَقع هُوَ من فرسه - رَحمَه الله - وأركبه وَقتل عَلَيْهِ جمَاعَة من أَقَاربه وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم الْأَمِير مجلي يَعْنِي ابْن مَرْوَان وَزَاد العما والحاجب خَلِيل الهكاري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 ثمَّ قَالَ القَاضِي هَذَا الَّذِي قتل من الْمُسلمين وَأما الْعَدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلَاف نفر ورأيتهم وَقد حملُوا إِلَى شاطىء النَّهر ليلقوا فِيهِ فحرزتهم بِدُونِ سَبْعَة آلَاف وَلما تمّ على الْمُسلمين من الْهَزِيمَة مَا تمّ راى الغلمان خلو الْخيام عَمَّن يعْتَرض عَلَيْهِم فان الْعَسْكَر انقسم إِلَى منهزمين ومقاتلين فَلم يبْق فِي الخيم أحد وَرَأَوا الكسرة قد وَقعت ظنُّوا أَنَّهَا تتمّ وَأَن الْعَدو ينهب جَمِيع مَا فِي الخيم فوضعوا أَيْديهم فِي الخيم ونهبوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَذهب من النَّاس أَمْوَال عَظِيمَة وَكَانَ ذَلِك أعظم من الكسرة وَقعا فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى الخيم وَرَأى مَا قد تمّ على النَّاس من نهب الْأَمْوَال والهزيمة سارع فِي الْكتب وَالرسل فِي رد المنهزمين وتتبع من شَذَّ من الْعَسْكَر وَالرسل يتتابع فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى بلغت عقبَة فيق فردوهم وأخبروهم بالكرة للْمُسلمين فعادوا وَأمر بِجمع الأقمشة من أكف الغلمان وَجمع الأقمشة فِي خيمته حَتَّى جلالات الْخَيل والمخالي وَهُوَ جَالس وَنحن حوله وَهُوَ يتَقَدَّم إِلَى كل من عرف شَيْئا وَحلف عَلَيْهِ يسلم إِلَيْهِ وَهُوَ يتلَقَّى هَذِه الْأَحْوَال بقلب صلب وَصدر رحب وَوجه منبسط ورأي مُسْتَقِيم واحتساب لله تَعَالَى وَقُوَّة عزم فِي نصْرَة دينه وَأما الْعَدو المخذول فانه عَاد إِلَى خيمه وَقد قتلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 شجعانهم وفقدت مُلُوكهمْ وطرحت مقدموهم وَأمر السُّلْطَان أَن يخرج من عكا عجل يسْحَبُونَ عَلَيْهِ] الْقَتْلَى مِنْهُم إِلَى طرف النَّهر ليلقوا فِيهِ قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض من ولي أَمر الْعجل أَنه أَخذ خيطا وَكَانَ كلما أَخذ قَتِيل عقد عقدَة فَبلغ عدد قَتْلَى الميسرة أَرْبَعَة آلَاف ومئة وكسرا وَبَقِي قَتْلَى الميمنة وقتلى الْقلب لم يعدهم فَإِنَّهُ ولي أَمرهم غَيره وَبَقِي من الْعَدو بعد ذَلِك من حمى نَفسه وَأَقَامُوا فِي خيمهم لم يكترثوا بجحافل الْمُسلمين وعساكرهم وتشذب من عَسَاكِر الْمُسلمين خلق كثير بِسَبَب الْهَزِيمَة فَإِنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْهَا إِلَّا رجل مَعْرُوف خَافَ على نَفسه وَالْبَاقُونَ ذَهَبُوا فِي حَال سبيلهم وَأخذ السُّلْطَان فِي جمع الْأَمْوَال المنهوبة وإعادتها إِلَى أَصْحَابهَا وَأقَام المنادية فِي العساكر وَقرن النداء بالوعيد والتهديد وَهُوَ يتَوَلَّى تفرقتها بِنَفسِهِ بَين يَدَيْهِ وَاجْتمعَ من الأقمشة عدد كثير فِي خيمته حَتَّى إِن الْجَالِس فِي أحد الطَّرفَيْنِ لَا يرى الْجَالِس فِي الطّرف الآخر وَأقَام من يُنَادي على من ضَاعَ مِنْهُ شَيْء] فَحَضَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 الْخلق وَصَارَ من عرف شَيْئا وَأعْطى علامته حلف عَلَيْهِ وَأَخذه من الْحَبل والمخلاة إِلَى الْهِمْيَان والجوهرة وَلَقي من ذَلِك مشقة عَظِيمَة وَلَا يرى ذَلِك إِلَّا نعْمَة من الله تَعَالَى يشْكر عَلَيْهَا ويسابق بيد الْقبُول إِلَيْهَا وَلَقَد حضرت يَوْم تَفْرِقَة الأقمشة على أربهابها فَرَأَيْت سوقا للعدل قَائِمَة لم ير فِي الدُّنْيَا أعظم مِنْهَا وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان قَالَ وَعند انْقِضَاء هَذِه الْوَقْعَة وَسُكُون نائرتها أَمر السُّلْطَان بالثقل حَتَّى تراجع إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ الخروبة خشيَة على الْعَسْكَر من أراييح الْقَتْلَى وآثار الْوَقْعَة من الوخم وَهُوَ مَوضِع قريب من مَكَان الْوَقْعَة إِلَّا أَنه أبعد عَنْهَا من الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ بِقَلِيل وَضربت لَهُ خيمة عِنْد الثّقل وَأمر اليزك أَن يكون مُقيما فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ واستحضر الْأُمَرَاء وأرباب المشورة فِي سلخ الشَّهْر ثمَّ أَمرهم بالاصغاء إِلَى كَلَامه وَكنت من جملَة الْحَاضِرين ثمَّ قَالَ بِسم الله وَالْحَمْد الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله اعلموا أَن هَذَا عَدو الله وعدونا قد نزل فِي بلدنا وَقد وطىء أَرض الْإِسْلَام وَقد لاحت لوائح النُّصْرَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد بَقِي فِي هَذَا الْجمع الْيَسِير وَلَا بُد من الاهتمام بقلعه وَالله قد أوجب علينا ذَلِك وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن هَذِه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 عساكرنا لَيْسَ وَرَاءَنَا نجدة ننتظرها سوى الْملك الْعَادِل وَهُوَ وَاصل وَهَذَا الْعَدو إِن بَقِي وَطَالَ أمره إِلَى أَن ينفتح الْبَحْر جَاءَهُ مدد عَظِيم والرأي كل الرَّأْي عِنْدِي مناجزته فليخبرنا كل مِنْكُم مَا عِنْده فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك فِي ثَالِث عشر تشرين - يَعْنِي الثَّانِي - من الشُّهُور الشمسية فانفصلت آراؤهم على أَن الْمصلحَة تَأَخّر الْعَسْكَر إِلَى الخروبة وَأَن يبْقى الْعَسْكَر أَيَّامًا حَتَّى يستجم من حمل السِّلَاح وَترجع نُفُوسهم إِلَيْهِم فقد أَخذ مِنْهُم التَّعَب وَاسْتولى على نُفُوسهم الضجر وتكليفهم أمرا على خلاف مَا تحمله القوى لَا تؤمن غائلته وَالنَّاس لَهُم خَمْسُونَ يَوْمًا تَحت السِّلَاح وَفَوق الْخَيل وَالْخَيْل قد ضجرت من عَرك اللجم وَعند أَخذ حَظّ من الرَّاحَة ترجع نفوسها إِلَيْهَا ويصل الْملك الْعَادِل ويشاركنا فِي الرَّأْي وَالْعَمَل ونستعيد من شَذَّ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا فِي مُقَابلَة الرجالة وَكَانَ بالسلطان - رَحمَه الله - التياث مزاجي قد عراه من كَثْرَة مَا حمل على قلبه وَمَا عاناه من التَّعَب بِحمْل السِّلَاح والفكر فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَوَقع لَهُ مَا قَالُوهُ وَرَآهُ مصلحَة فَأَقَامَ يصلح مزاجه وَيجمع العساكر إِلَى عَاشر رَمَضَان قَالَ وَكَانَ لما بلغه خبر الْعَدو وقصده عكا جمع الْأُمَرَاء وَأَصْحَاب الرَّأْي بمرج عُيُون وشاورهم فِيمَا يصنع وَكَانَ رَأْيه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 رَحمَه الله - أَن قَالَ الْمصلحَة مناجزة الْقَوْم ومنعهم من النُّزُول على الْبَلَد وَإِلَّا إِن نزلُوا جعلُوا الرجالة سورا لَهُم وحفروا الْخَنَادِق وصعب علينا الْوُصُول إِلَيْهِم وَخيف على الْبَلَد مِنْهُم وَكَانَت إِشَارَة الْجَمَاعَة أَنهم إِذا نزلُوا وَاجْتمعت العساكر قلعناهم فِي يَوْم وَاحِد وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ وَالله لقد سَمِعت مِنْهُ هَذَا القَوْل وشاهدت الْفِعْل كَمَا قَالَ وَقَالَ الْعِمَاد عبأ السُّلْطَان ميمنته وميسرته وَطلب من الله نصرته وَهُوَ يمر بالصفوف وَيَأْمُر بِالْوُقُوفِ ويحض على حَظّ الْأَبَد ويحث على الجلاد وَالْجَلد قَالَ وَكنت فِي جمَاعَة من أهل الْفضل قد ركبنَا فِي ذَلِك الْيَوْم ووقفنا على التل نشاهد الْوَقْعَة وَنحن على بغال بِغَيْر أهبة قتال فَرَأَيْنَا الْعَسْكَر موليا والمنهزم عَمَّا تَركه من خيامه ورحله متخليا فوصلنا إِلَى طبرية فِيمَن وصل وَوجدنَا ساكنها قد أجفل فسقنا إِلَى جسر الصنبرة ونزلنا على شرقيه وكل منا ذاهل عَن شبعه وريه وَمن المنهزمين من بلغ عقبَة فيق وَهُوَ غير مُفِيق وَمِنْهُم من وصل إِلَى دمشق وَهُوَ غير معرج على طَرِيق وَوصل جمَاعَة من الفرنج إِلَى خيمة السُّلْطَان وجالوا جَوْلَة ثمَّ رَأَوْا انْقِطَاع أشياعهم عَنْهُم فانحدروا عَن التل واستقبلهم أَصْحَابنَا فَرَكبُوا أكتافهم وحكموا فِي رقابهم أسيافهم وَكَانَ ميسرتنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 عَسْكَر سنجار والأسدية فَمَا زلوا وَلَا زَالُوا بل وصلوا وصالوا وحملت عَلَيْهِم ميمنة الفرنج فَكَأَنَّمَا مرت الرِّيَاح بالجبال وَعَاد من كَانَ من الميمنة مثل تَقِيّ الدّين وقايماز النجمي والحسام بن لاجين وَمن ثَبت من أبطال الْمُجَاهدين فَلم يفلت من الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وَلم ينج من آلافها إِلَّا آحَاد وَفرس مِنْهُم زهاء خَمْسَة آلَاف فَارس مِنْهُم مقدم الداوية الَّذِي كُنَّا أطلقناه وَذكر أَنهم فِي مئة ألف وَعشْرين ألف حِين سألناه ثمَّ ضربنا عُنُقه وقا فِي الْفَتْح وَعشرَة الآف وَقَالَ الْعِمَاد وَمن الْعجب أَن الَّذين ثبتوا منا لم يبلغُوا ألفا فَردُّوا مئة ألف وآتاهم الله قُوَّة من بعد ضعف وَكَانَ الْوَاحِد يَقُول قتلت من المثلثين ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين وتركتهم مصرعين وَكَانَ السُّلْطَان من الثابتين فِي تِلْكَ الجولة الكابتين لأهل الصولة وَقد بَقِي وَحده عِنْد تولي الْمُسلمين وَلَا شكّ أَن الله أنزل مَلَائكَته المسومين حكى بَعضهم قَالَ كنت مُنْهَزِمًا من فَارس مدجج قد لز بقربي حصانه وهز لصلبي سنانه فأيست من الْبَقَاء ثمَّ أَبْطَأت عَليّ طعنته فَالْتَفت فاذا هُوَ وحصانه كِلَاهُمَا ملقى وَمَا بِالْقربِ أحد فَعرفت أَنه نصر إلهي وصنع رباني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قَالَ وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مضاربه وَأمر بموارة الشُّهَدَاء وَمن جُمْلَتهمْ الْفَقِيه أَبُو عَليّ بن رَوَاحه وَكَانَ غزير الْفضل قد أكمل الشجَاعَة والرجاحة وَهُوَ شَاعِر مفلق وفقيه مُحَقّق من ولد عبد الله بن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ الْأنْصَارِيّ فِي الشَّهَادَة وَالشعر معرق فطرفه الْأَعْلَى يَوْم مُؤْتَة مَعَ جَعْفَر الطيار وطرفه الْأَقْرَب يَوْم عكا فِي لِقَاء الْكفَّار قَالَ فِي الْبَرْق وَكَانَ السُّلْطَان قد أنعم عَلَيْهِ فِي حلب بمزرعة وكتبت توقيعه وَأَرَادَ الله تعويقه إِذْ قرب إِلَى الْآخِرَة طَرِيقه وحملت توقيعه إِلَى السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة ليعلم فِيهِ فَمَا علم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وراجعته فِي مَعْنَاهُ فَسكت وَمَا تكلم وَكَانَ سَاعَة الْوَقْعَة رَاكِبًا مَعنا ثمَّ قَالَ وقوفنا يطول فَمضى إِلَى خيمته يتودع فَلَمَّا علم باندفاعنا سَاق وَرَاءَنَا فَقطع عمره قبل أَن يقطع الْوَادي وَكَانَ قَالَ لنا لما أصبح رَأَيْت كَأَن رجلا يحلق رَأْسِي فِي الْمَنَام فَقُلْنَا لَهُ هَذَا من أضغاث الأحلام فنقله الله بعد سَاعَة إِلَى دَار السَّلَام قلت وَلَيْسَ هُوَ من أَوْلَاد ابْن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ ذَاك لم يعقب وَإِنَّمَا فِي أجداده من اسْمه رَوَاحَة وَقد بَيناهُ فِي التَّارِيخ وَالله أعلم قَالَ وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل الصُّوفِي الْأمَوِي المكبس وَشَيخ من الْحَاشِيَة فِي بَيت الطشت وَغُلَام فِي الخزانة أَمِين على الْبَيْت وَآخَرُونَ صودفوا عِنْد التل فجاءتهم السَّعَادَة وفجأتهم الشَّهَادَة وَهَؤُلَاء سوى من وَقع فِي الْوَقْعَة وَذهب قبل الرّجْعَة وَأجْمع السُّلْطَان وذوو الآراء على أَنه يصبح الْقَوْم فتفقدوا الْعَسْكَر فَإِذا هُوَ قد غَابَ لما نَاب من الْأَمر وراب وَذَلِكَ أَن غلْمَان العسكرية والأوباش ظنُّوا أَن تِلْكَ الفورة هزيمَة فنهبوا الاثقال وعدوها غنيمَة فَمن عَاد إِلَى رَحْله وجده منهوبا مسلوبا وَكَانَ فِي ظَنّه أَنه فرغ من لِقَاء خطب فلقي خطوبا وأصبحنا وَإِذا الْعَسْكَر مفترق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وَالثَّابِت قلق والآمن فرق والغني معدم والجريء متندم فَهَذَا خلف مَا ذهب من مَاله ذَاهِب وَهَذَا لمن طلب الطَّرِيق بأثقاله طَالب فتفتر ذَلِك الْعَزْم وَتَأَخر ذَلِك الحكم وانتعش الفرنج فِي تِلْكَ الْمدَّة وانتشلوا من تِلْكَ الشدَّة وجاءتهم فِي البحرمراكب أخلفت من عدم وَبنت مَا هدم وشكونا نَتن رَائِحَة تِلْكَ الْجِيَف فَحملت على الْعجل إِلَى النَّهر ليشْرب من صديدها أهل الْكفْر فَحمل أَكثر من خَمْسَة آلَاف جثة حملت إِلَى النَّار قبل يَوْم الْبعْثَة وأشير على السُّلْطَان بالانتقال إِلَى الخروبة عِنْد خيم الأثقال المضروبة فَسَار إِلَيْهَا رَابِع رَمَضَان وَأمر أهل عكا بإغلاق أَبْوَابهَا وإحكام أَسبَابهَا فَوجدَ الفرنج بذلك الْفرج وشرعوا فِي حفر خَنْدَق على معسكرهم حوالي عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وأخرجوا مَا كَانَ فِي مراكبهم من آلَات الْحصْر وَفِي كل يَوْم يأتينا اليزكية بخبرهم وَبِمَا ظهر من أَثَرهم وَالْجد فِي تعميق الخَنْدَق وتتميم محتفرهم فَكَانَ من قَضَاء الله أَنا أغفلناهم وأمهلناهم بل أهملناهم حَتَّى عمقوا الحفور ووثقوا من ترابها السُّور فَكَانُوا يخندقون ويعمقون ويعملون من تُرَاب الحفرحولهم سورا فَعَاد مخيمهم بَلَدا مَسْتُورا معمورا فملؤوه بالستائر ومنعوه من الطير الطَّائِر وَبَنوهُ وأسسوه وستروه وترسوه ورتبوا عَلَيْهِ رجَالًا وَلم يتْركُوا إِلَيْهِ لواغل مجالا وَتركُوا فِيهِ ابوابا وفروجا ليظهروا مِنْهَا إِذا أَرَادوا خُرُوجًا وَلما فرغوا من هَذَا الْأَمر اشتغلوا بالحصر وانقطعت الطَّرِيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 على الْمُسلمين إِلَى عكا وَبَان ضعف رَأْي الِانْتِقَال فَإِنَّهُ بَعْدَمَا أضْحك أبكى وَجَاء كتاب من الْفَاضِل إِلَى الْعِمَاد جَوَابا عَن كِتَابه الْمخبر فِيهِ بوقعة مرج عكا يَقُول فِيهِ وَعرفت مَا جرى على قَضيته فسبحت الله تَعَالَى فَإِن من عجائب قدرته سَلامَة سيدنَا على ضعف حركته وَالْأَمر كَانَ عَظِيما والمدفع أعظم والسلامة كَانَت غَرِيبَة إِلَّا أَن نقُول وَلَكِن الله سلم وَالسُّلْطَان - أعزه الله - إِذا سلم فَكل النَّاس قد سلمُوا وَإِذا وجد وَقد عدم النَّاس كلهم فقد وجدوا وَمَا عدموا وكل جَوْهَر بالاضافة إِلَيْهِ عرض وَهُوَ جَوْهَر بِالْحَقِيقَةِ مَا عَنهُ من كل جَوْهَر عرض وَمن كتاب لَهُ إِلَى السُّلْطَان أَوله {ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} الْآيَة {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ورد الْكتاب بِخَط مَوْلَانَا من معترك حربه وتوفيق جهاده قبل أَن تضع الْحَرْب أَوزَارهَا وهرع النَّاس إِلَى المجلسين العادلي والعزيزي يَسْتَمِعُون الْأَخْبَار ويستوضحون من وُجُوههمَا الْأَنْوَار ويسألون كَيفَ كَانَ عَاقِبَة أهل الْجنَّة وعاقبة أهل النَّار ويشكرون الله على سَلامَة أديانهم وَقُلُوبهمْ وأبدانهم وسلامة سلطانهم وَمَا أَدْرَاك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 مَا سَلامَة سلطانهم ونصرة كلمة إِيمَانهم وَدَلَائِل الْخَيْر لَا تخفى وَقد يقْرَأ الْكتب وَمَا يلمح قَارِئهَا مِنْهَا حرفا وتصور النَّاس الْأَمر الَّذِي وقاهم الله شَره وكفاهم أمره فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة بمرج عكا وَغَيره قَالَ الْعِمَاد وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث رَمَضَان أَخذ أَصْحَابنَا بعكا مركبا للفرنج إِلَى صور مقلعا محتويا على ثَلَاثِينَ رجلا وأمرأة وَاحِدَة ورزمة من الْحَرِير وَجَاءَت حظوة حلوة وغنيمة صفوة وَقد كَانَ انْكَسَرَ نشاطهم وانقبض انبساطهم فَلَمَّا عثروا بالمركب انتعشوا وصاروا يخرجُون وَيقْتلُونَ ويجرحون وَيُمْسُونَ على الْقِتَال ويصبحون وَنَدم الفرنج على تِلْكَ الْحَرَكَة فَإِنَّهَا أفضت بهم إِلَى الهلكة فَإِنَّهُم مَا داموا رابضين وعَلى يَد الصَّبْر قابضين يتَعَذَّر الْوُصُول إِلَيْهِم وَالدُّخُول عَلَيْهِم وَفِي بعض الْكتب إِلَى بعض الْأَطْرَاف والمرجو من الله سُبْحَانَهُ تَحْرِيك همم الْمُؤمنِينَ فِي تسكين ثائرهم وتخريب عامرهم وَمَا دَامَ الْبَحْر يمدهُمْ وَالْبر لَا يصدهم فبلاء الْبِلَاد بهم دَائِم وَمرض الْقُلُوب بأدوائهم ملازم فَأَيْنَ حمية الْمُسلمين ونخوة أهل الدّين وغيرة أهل الْيَقِين وَمَا يَنْقَضِي عجبنا من تظافر الْمُشْركين وقعود الْمُسلمين فَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 ملبي مِنْهُم لمناد وَلَا مثقف لمناد فانظروا إِلَى الفرنج أَي مورد وردوا وَأي حشد حشدوا وَأي ضَالَّة نشدوا وَأي نجدة أنجدوا وأية أَمْوَال غرموها وأنفقوها وجدات جمعوها وتوزعوها فِيمَا بَينهم وفرقوها وَلم يبْق ملك فِي بِلَادهمْ وجزائرهم وَلَا عَظِيم وَلَا كَبِير من عظمائهم وأكابرهم إِلَّا جارى جَاره فِي مضمار الانجاد وبارى نَظِيره فِي الْجد وَالِاجْتِهَاد واستقلوا فِي صون ملتهم بذل المهج والأرواح وأمدوا أجناسهم الأنجاس بأنواع السِّلَاح مَعَ أكفاء الكفاح وَمَا فعلوا مَا فعلوا وَلَا بذلوا مَا بذلوا إِلَّا لمُجَرّد مُتَّصِلَة مَعَ بَعْضهَا الحمية لمتعبدهم والنخوة لمعتقدهم وَلَيْسَ أحد من الفرنجية يستشعر أَن السَّاحِل إِذا ملك وَرفع فِيهِ حجاب عزهم وهتك يخرج بلد عَن يَده وتمتد يَد إِلَى بَلَده والمسلمون بِخِلَاف ذَلِك قد وهنوا وفشلوا وغفلوا وكسلوا ولزموا الْحيرَة وعدموا الْغيرَة وَلَو انثنى - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - للاسلام عنان أَو خبا سنا ونبا سِنَان لما وجد فِي شَرق الْبِلَاد وغربها وَبعد الْآفَاق وقربها من لدين الله يغار وَمن لنصرة الْحق على الْبَاطِل يخْتَار وَهَذَا أَوَان رفض التواني واستدناء أولي الحمية من الأقاصي والأداني على أَنا بِحَمْد الله لنصره راجون وَله باخلاص السِّرّ وسر الاخلاص مناجون وَالْمُشْرِكُونَ - بِإِذن الله - هالكون والمؤمنون آمنون ناجون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 فصل قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب إِلَى مصر يَسْتَدْعِي بأَخيه الْعَادِل فِي رِجَاله فَقدم عَلَيْهِ منتصف شَوَّال وَكتب ايضا فِي طلب الأسطول الْمصْرِيّ فَقدمت خَمْسُونَ قِطْعَة مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ منتصف ذِي الْقعدَة فَجَاءَت فَجْأَة على مراكب الفرنج وبغتتها وسحقتها وبددتها وكبستها وسلبتها وظفر ببطستين كبيرتين بِمَا فيهمَا من أَمْوَالهم ورجالهم وغلالهم قَالَ وَهَذَا لُؤْلُؤ قد اشتهرت بالْكفْر فتكاته وشكرت فِي الْعَدو نكاياته وَقد تفرد بغزوات لم يُشَارِكهُ فِيهَا أحد وَهُوَ الَّذِي رد الفرنج عَن بَحر الْحجاز ووقف لَهُم على طرق الْمجَاز وَلم يتْرك مِنْهُم عينا تطرف وَلم يبْق لَهُم دَلِيلا يعرف وغزواته مَشْهُورَة وفتكاته مَذْكُورَة وأمواله مبذولة وأكياسه لعقد الانفاق فِي سَبِيل الله محلولة قَالَ وَنقل السُّلْطَان إِلَى الْبَلَد فِي المراكب جمَاعَة من الْأُمَرَاء بأجنادهم وعددهم وأزوادهم وَاسْتظْهر الْبَلَد أَيْضا بِرِجَال الأسطول وَكَانُوا زهاء عشرَة آلَاف هَذَا ورجالة الْمُسلمين يتطرقون إِلَيْهِم لَيْلًا ويذيقونهم من الْقَتْل والأسر وَالسَّرِقَة ويلا حَتَّى كَانَ رجالنا يختفون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 بالحشيش فِي أجراف الْأَنْهَار فَإِذا صادفوا فَارِسًا ورد المَاء فاجؤوه بِالْقَتْلِ والاسار قَالَ وَلما عرف صَاحب الْموصل مَا شرع فِيهِ السُّلْطَان من تَكْثِير الْعدة وتقوية النجدة بِكُل مَا يُمكنهُ من أَسبَاب الْبَأْس والشدة سير من أحمال النفط الْأَبْيَض مَعَ عزة وجوده مَا وجده وَمن التراس والرماح من كل جنس أحكمه وأقومه وأجوده وكتبنا فِي شكره وصل السِّلَاح وَتمّ للاسلام من قُرُوح الْكفْر الاقتراح فَإِن الْحَرْب المتطاولة المدد أَتَت على جَمِيع الْعدَد وَمن الْعجب أَن الْعدة تفنى وَمَا يفنى العداة وتنمو على الْحَصاد كَأَنَّهَا النَّبَات فالبحر يمدهُمْ وَالْكفْر إِلَى الردى يردهم وَمن كتاب إِلَى الدِّيوَان قد مَضَت ثَلَاثَة أشهر شهر بهَا التَّثْلِيث على التَّوْحِيد سلاحه وَبسط الْكفْر جنَاحه وَقتل من الفرنج وَعدم فِي الوقعات الَّتِي روعت والروعات الَّتِي وَقعت أكثرمن عشْرين ألف مقَاتل من فَارس وراجل ورامح ونابل فَمَا أثرذلك فِي نقصهم وَلَا أرث إِلَّا نَار حرصهم وَلَيْسَ هَذَا الْعَدو بِوَاحِد فينجع فِيهِ التَّدْبِير وَيَأْتِي عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 التدمير وَإِنَّمَا هُوَ كل من وَرَاء الْبَحْر وَجَمِيع من فِي دَار الْكفْر فَإِنَّهُ لم يبْق لَهُم مَدِينَة وَلَا بَلْدَة وَلَا جَزِيرَة وَلَا خطة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا جهزت مراكبها وأنهضت كتائبها وتحرك ساكنها وبرز كامنها وثار ثائرها وَسَار سائرها وطار طائرها ونفضت خزائنها وانفضت معادنها وحملت ذخائرها وبذلت أخايرها ونثلت كنائن كنائسها واستخرجت دفائن نفائسها وَخرج يصلبانهم أساقفها وبطاركها وغصت بالأفواج فجاجها ومسالكها وتصلبت للصليب السليب وتعصبت للمصاب الْمُصِيب وَنَادَوْا فِي نواديهم بِأَن الْبلَاء دهم بِلَادهمْ وَأَن إخْوَانهمْ بالقدس أبارهم الْإِسْلَام وأبادهم وَأَنه من خرج من بَيته مُهَاجرا لِحَرْب الْإِسْلَام وهبت لَهُ ذنُوبه وَذَهَبت عَنهُ عيوبه وَمن عجز عَن السّفر سفر بعدته وثروته من قدر فجاؤوا لابسين للحديد بعد أَن كَانُوا لابسين للحداد وتواصلت مِنْهُم الأمداد قَالَ ووصلت فِي مركب ثَلَاث مئة امْرَأَة فرنجية مستحسنة اجْتَمعْنَ من الجزائر وانتدبن للجرائر واغتربن لاسعاف الغرباء وقصدن بخروجهن تسبيل أَنْفسهنَّ للأشقياء وأنهن لَا يمتنعن من العزبان ورأين أَنَّهُنَّ لَا يتقربن بِأَفْضَل من هَذَا القربان وزعمن أَن هَذِه قربَة مَا فَوْقهَا قربَة لَا سِيمَا فِيمَن اجْتمعت فِيهِ عزبة وغربة قَالَ وأبق من عسكرنا من المماليك الأغبياء والمدابير الجهلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 جمَاعَة جذبهم الْهوى وَاتبعُوا من غوى فَمنهمْ من رَضِي للذة بالذلة وَمِنْهُم من نَدم على الزلة فتحيل فِي النقلَة فان يَد من لَا يرْتَد لَا تمتد وَأمر الهارب إِلَيْهِم لاتهامه يشْتَد وَبَاب الْهوى عَلَيْهِ يستد وَمَا عِنْد الفرنج على العزباء إِذا أمكنت مِنْهَا العزب حرج وَمَا أزكاها عِنْد القسوس إِذا كَانَ للعزبان المضيقين من فرجهَا فرج قَالَ ووصلت أَيْضا فِي الْبَحْر امْرَأَة كَبِيرَة الْقدر وافرة الوفر وَفِي جُمْلَتهَا خمس مئة فَارس بخيولهم وأتباعهم وغلمانهم وأشياعهم وَهِي كافلة بِكُل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْمُؤْنَة زَائِدَة بِمَا تنفقه فيهم على المعونة وهم يركبون بركباتها ويحملون بحملاتها ويثبون لوثباتها وَفِي الفرنج نسَاء فوارس لَهُنَّ دروع وقوانس وَكن فِي زِيّ الرِّجَال ويبرزن فِي حومة الْقِتَال ويعملن عمل أَرْبَاب الحجا وَهن ربات الحجال وكل هَذَا يعتقدنه عبَادَة ويخلن أَنَّهُنَّ يعقدن بِهِ سَعَادَة ويجعلنه لَهُنَّ عَادَة فسبحان الَّذِي أضلهن وَعَن نهج الْهدى أزلهن وَفِي يَوْم الْوَقْعَة قلعت مِنْهُنَّ نسْوَة لَهُنَّ بالفرسان أُسْوَة وفيهن مَعَ لينهن قسوة وَلَيْسَ لَهُنَّ سوى السوابغ كسْوَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فَمَا عرفن حَتَّى سلبن وعرين ومنهن عدَّة سبين واشترين وَأما الْعَجَائِز فقد امْتَلَأت بِهن المراكز وَهن يشددن تَارَة ويرخين ويحرضن وينخين وَيَقُلْنَ إِن الصَّلِيب لَا يرضى إِلَّا بالاباء وَإنَّهُ لَا بَقَاء إِلَّا بالفناء وَإِن قبر معبودهم تَحت اسْتِيلَاء الْأَعْدَاء فَانْظُر إِلَى الِاتِّفَاق فِي الضلال بَين الرِّجَال مِنْهُم وَالنِّسَاء قَالَ وَفِي آخر هَذِه السّنة ندب السُّلْطَان الرُّسُل إِلَى الأقطار والأمصار للاستنفار والاستنصار وَبث الْكتب وَكتب بالبث وحث الرُّسُل وراسل بالحث وسرح عدنان النجاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن وَشرح فِي الْكتاب إِلَيْهِ مَا جرى من حوادث الزَّمن وَوصف لَهُ جلية الْحَال وَطلب مِنْهُ الاعانة بِالْمَالِ وكوتب مظفر الدّين قزل أرسلان بهمذان بِمَا دنا مِنْهُ عزمه ودان وَحكم على كل ملك بِحجَّة الايمان وَهدى إِلَى محجة الاحسان وَوصل إِلَى السُّلْطَان رَسُول ابْن أَخِيه لأمه ركن الدّين طغرل بن أرسلان بن طغرل بن مُحَمَّد بن ملكشاه وَهُوَ آخر السلاطين السلجوقية يتظلم من عَمه قزل أرسلان وَيطْلب من السُّلْطَان إعانته فَاعْتَذر السُّلْطَان بِمَا هُوَ فِيهِ من شغل الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار وَأرْسل رَسُولا فِي السفارة بَينه وَبَين عَمه جمال الدّين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 أَبَا الْفَتْح إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد كويه نسيب الْعِمَاد وَكتب إِلَى صَاحب إربل وَإِلَى حسن بن قفجاق ونائبه بشهرزور بالتوفر على خدمته والارتياد لمصلحته وإشاعة معونته قَالَ وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْأَمِير حسام الدّين سنقرالخلاطي أخص مماليك السُّلْطَان وأخلصهم وَقد قدمه على مماليكه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب قَالَ وَفِي ثَالِث عشر شعْبَان توفّي الْأَمِير حسام الدّين طمان صَاحب الرقة وَهُوَ من الْمُجَاهدين الْمُجْتَهدين والأتقياء المتهجدين وَلما حَضرته الْوَفَاة تأسف من مَوته على فرَاشه وَطلب حصانه ليركبه وينتقل سعيدا شَهِيدا إِلَى معاده من معاشه قَالَ وَفِي تَاسِع عشر شعْبَان توفّي الْأَمِير عز الدّين موسك بن جكو الهذباني وَهُوَ ابْن خَال السُّلْطَان وَهُوَ من أكَابِر أَقَاربه ومقدمي كتائبه وَكَانَ لِلْقُرْآنِ حَافِظًا وعَلى الاحسان محافظا ولقضاء حُقُوق النَّاس ملاحظا وَلم يزل للسُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزَوَات ملازما وعَلى قمع جمع الْكفْر عَازِمًا وَلما اشْتَدَّ بِهِ مَرضه اسْتَأْذن فِي الدُّخُول إِلَى دمشق فَمَاتَ بهَا وَدفن فِي جبل قاسيون قَالَ وَفِي حادي عشر رَمَضَان توفّي بِدِمَشْق القَاضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 شرف الدّين بن أبي عصرون ومولده فِي أَوَائِل سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبع مئة فَبلغ عمره ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة وَنصفا وأضر قبل وَفَاته مُدَّة عشر سِنِين وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِدِمَشْق قبالة دَاره بَينهمَا عرض الطَّرِيق وَكَانَ شيخ الْمَذْهَب وَقد ختمت بِهِ الْفتيا وأوحشت غيبته الدّين وَالدُّنْيَا قَالَ وَفِي تَاسِع ذِي الْقعدَة توفّي الْأَمِير الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى الهكاري فِي الْعَسْكَر بِمَنْزِلَة الخروبة وَكَانَ صَاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 أَسد الدّين شيركوه وَمضى مَعَه إِلَى مصر حِين ملكهَا ثمَّ اخْتصَّ بالسلطان بعده وَتَوَلَّى حلّه وعقده وَدرت بوساطته وشفاعته للنَّاس أرزاق وَنقل إِلَى الْقُدس فَدفن بِظَاهِرِهِ وَلَقَد كَانَ من الْأَعْيَان وَمن أهل الْجد فِي نصْرَة الايمان فنقله الله إِلَى الْجنان قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أقطع السُّلْطَان مَمْلُوكه مُجَاهِد الدّين أياز ولَايَة شهرزور وأعمالها وَولى جمال الدّين بن المحسن نقابة الْأَشْرَاف بِدِمَشْق قَالَ وَفِي عَاشر جُمَادَى الأولى مِنْهَا كَانَ مولد نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْملك الْعَزِيز بِمصْر الَّذِي أجتمع عَلَيْهِ أَصْحَابه بعد وَفَاة أَبِيه فِي محرم سنة خمس وَتِسْعين وَورد بذلك إِلَى السُّلْطَان جده كتاب كريم فاضلي من مصر نسخته الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بَين يَدي مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر دَامَ رشاده وإرشاده وَزَاد سعده وإسعاده وَكَثُرت أولياؤه وَعبيدَة وأعداده وَاشْتَدَّ بإعضاده فيهم اعتضاده وأنمى الله عدده حَتَّى يُقَال هَذَا آدم الْمُلُوك وَهَذِه أَوْلَاده وَيُنْهِي أَن الله - وَله الْحَمد - رزق الْملك الْعَزِيز - عز نَصره - ولدا مُبَارَكًا عليا ذكرا سويا برا زكيا تقيا نقيا من ذُرِّيَّة كَرِيمَة بَعْضهَا من بعض وَمن بَيت شرِيف كَادَت ولاته تكون وُلَاة فِي السَّمَاء ومماليكه تكون ملوكا فِي الأَرْض وَكَانَ مقدمه الميمون فِي لَيْلَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 الْأَحَد وَهِي من الْجُمُعَة أولى الْعدَد وَبِه وبآله يعز الله أهل الْجُمُعَة ويذل أهل الْأَحَد ثمَّ ذكر بَاقِي الْكتاب فصل فِي وُرُود خبر خُرُوج ملك الألمان قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما دخل شهر رَمَضَان من سنة خمس وَثَمَانِينَ وصل من حلب كتب من وَلَده الظَّاهِر يخبر فِيهَا أَنه قد صَحَّ أَن ملك الألمان خرج إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي عدَّة عَظِيمَة - قيل مئتا ألف وَقيل مئتان وَسِتُّونَ ألفا - يُرِيد الْبِلَاد الإسلاميه فَاشْتَدَّ ذَلِك على السُّلْطَان وَعظم عَلَيْهِ وَرَأى استنفار النَّاس للْجِهَاد وإعلام خَليفَة الْوَقْت بِهَذِهِ الحادثه فاستندبني لذَلِك وَأَمرَنِي بِالْمَسِيرِ إِلَى صَاحب سنجار وَصَاحب الجزيرة وَصَاحب الْموصل وَصَاحب إربل واستدعائهم إِلَى الْجِهَاد بِأَنْفسِهِم وعساكرهم وَأَمرَنِي بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاد فسرت حادي عشر رَمَضَان وَيسر الله تَعَالَى الْوُصُول إِلَى الْجَمَاعَة وإبلاغ الرسَالَة إِلَيْهِم فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك بنفوسهم وسير صَاحب الْموصل علأ الدّين ابْنه بمعظم عسكره ووعد الدِّيوَان بِكُل جميل وعدت إِلَيْهِ فِي خَامِس ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسبقت العساكر وأخبرته بإجابتهم وتأهبهم للمسير فسر بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وَقَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح ونمى الْخَبَر بوصول ملك الألمان إِلَى قسطنطينية فِي ثَلَاث مئة ألف مقَاتل على قصد العبور إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَقطع بِلَاد الرّوم والأرمن إِلَى الشَّام وَفِيهِمْ سِتُّونَ ألف فَارس مدرع وَمَعَهُمْ مُلُوك وكنود وكل شَيْطَان لرَبه كنُود وَكتب صَاحب قلعة الرّوم مقدم الأرمن وَهُوَ فِي قلعته على الْفُرَات وَبَين أهل الذِّمَّة فِي المأمن يُبْدِي تنصحا وإشفاقا وتخوفا على الْبِلَاد واحتراقا وَيقطع أَن الواصلين فِي كَثْرَة وَأَن الناهضين إِلَى طريقهم فِي عَثْرَة وأبرق فِي كِتَابه وأرعد وأبدع فِي خطابه وَأبْعد وَلَا شكّ أَنه إِلَى جنسه النَّجس مائل وبملاءة أهل مِلَّته قَائِل وَلما وصل هَذَا النبأ وَقيل إِنَّه عَظِيم وَورد هَذَا الْخَبَر وخيل أَنه أَلِيم كَاد النَّاس يضطربون على أَنهم يصدقون ويكذبون وَمن طرف كل حَبل من الرَّأْي يجذبون وَقُلْنَا إِن وضح هَذَا الْخطر وَصَحَّ هَذَا الْخَبَر فالمسلمون يقومُونَ لنا وَلَا يَقْعُدُونَ ويغضبون لله وَلَا يرضون أَنهم لَا يعضدون على أَن الله ناصرنا ومؤازرنا ومظاهرنا وحققنا بِإِظْهَار الْقُوَّة لمن استوحش التأنيس وبثثنا بالارسال إِلَى بِلَاد الرّوم عيُونا وجواسيس وندبنا رسل الاستنصار وبعثنا كتب الاستنفار إِلَى جَمِيع الْأَمْصَار والأقطار وَقُلْنَا مَا هَذِه الْمرة إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 مرّة لَا يسيغها إِلَّا كل مر أبي وَمَا هَذِه الكرة مثل كل كرة وَلَا يحضرها إِلَّا كل كميش كميى قَالَ وعول السُّلْطَان على إرْسَال القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم ليَكُون كِتَابه إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز مَعَ رَسُول كريم وَقَالَ لَهُ مَا أحتاج أوصِي وَأَنت تستوفي القَوْل وتستقصي وَجعل لَهُ إِلَى كل طرف فِي طَرِيقه رِسَالَة وأودعه إِلَيْهِ مقَالَة فَسَار وَوصل إِلَى حلب وَالْقَاضِي ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري رَسُول السُّلْطَان بِبَغْدَاد قد عَاد وَذكر أَنه قد بلغ المُرَاد فَمَا هَذَا الرَّسُول الرَّائِح وَوصل وَهُوَ مغتاظ وَتغَير عَليّ وَنسب إِنْفَاذ القَاضِي بهاء الدّين إِلَيّ ثمَّ اجْتمع بالسلطان وندمه على مَا قدمه وأعلمه بِمَا عمله وَعلمه وَقَالَ لَهُ الشّغل قد فرغ وَالْقَصْد قد بلغ وَقرر مَعَ السُّلْطَان أمرا وَعَاد على النجب إِلَى بَغْدَاد وصادف بهَا القَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد فَلم يسفر أَمر سفارته عَن سداد وَقيل جَوَاب مَا أتيت فِيهِ مَعَ ضِيَاء الدّين نسيره ونندبه فِيمَا نتخيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وَقَالَ فِي كتاب الْبَرْق وصل الْخَبَر بِخُرُوج ملك الألمان من بِلَاده فِي مئتي ألف دارع وَفِي راجل فِي دَبِيب رجل الدبى فِي عدد رمل اللوى فَأَقَامَ بمحشرهم الْقِيَامَة واستثارهم لثأر كنيستهم بالقدس قمامة وَسَارُوا فِي شهور حَتَّى وصلوا قسطنطينية وَكَانَ ملك الرّوم يكْتب إِلَيْنَا بأخبارهم ونبأ خُرُوجهمْ من دِيَارهمْ وَيَقُول أَنا لَا أمكنهم من العبور فَلَمَّا جاؤوا لم يقدر على مَنعهم فصد عَنْهُم الأزواد وحرمهم الاسعاد وعبروا الخليج وَقد كثرت أمدادهم وَقلت أَزْوَادهم وَلما وصلوا إِلَى حُدُود بِلَاد الْإِسْلَام وسلكوا فِي الأودية وَالْآجَام والوهاد والآكام تسلمهم تركمان الأوج وتراكم الثلوج وشتاء الْكلاب فِي كلب الشتَاء واحتاجوا إِلَى أكل الدَّوَابّ وإحراق عَددهمْ لاعواز الأحطاب وعدموا الْعلف وَمَا وجدوا الْخلف ومناهل الزلَال جامدة وهم بالبلاد جاهلون وَمن الْبلَاء ناهلون لَا يقطعون فِي يَوْمَيْنِ فرسخا وَقد أذهب الله عَنْهُم الْبركَة وصعب عَلَيْهِم الْحَرَكَة وَخرج الْأَمر عَن حسابهم وهم كل يَوْم فِي نقص من أنفسهم ودوابهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وَكَانُوا يدفنون من أعلاقهم النفيسة وعددهم الْكَرِيمَة الرئيسة مَا يعجزون عَن نَقله وَلَا يخفون يثقله فاتخذوا لأسرارها من أضلاع تِلْكَ الشعاب وصدور تِلْكَ الوهاد والهضاب ضمائر لَا تبوح بهَا أبدا وَلَا تطلع على مكنونها ومدفونها أحدا هَذَا وبحرهم عباب الموج هباب الفوج فَلَمَّا خلصوا بعد أشهر كَأَنَّهُمْ زخروا بموج سَبْعَة أبحر هَذَا وَقد نقص شطرهم وَانْقطع ظهْرهمْ لكِنهمْ عرضوا فِي سِتِّينَ ألف مدرع مدجج مقنع ذَلِك وَقد باد أَكثر راجلهم وترجل مُعظم أبطال باطلهم وَسَيَأْتِي بَاقِي أخبارهم قلت وَمن قصيدة للحكيم أبي الْفضل الجلياني (يَا منقذ الْقُدس من أَيدي جبابرة ... قد أَقْسمُوا بِذِرَاع الرب تدخله) (فأكذبوا كذبهمْ فِي وصف رَبهم ... وَصدق الْوَعْد مَأْمُونا تحوله) وَمِنْهَا (أما رَأَيْت ابْن أَيُّوب اسْتَقل بِمَا ... يعيي الزَّمَان وأهليه تحمله) (هاج الفرنج وَقد خاروا لفتكته ... فاستنفروا كل مرهوب تغلغله) (لما سبى الْقُدس قَالُوا كَيفَ نتركها ... والرب فِي حُفْرَة مِنْهَا نمثله) (فكم مليك لَهُم شقّ الْبحار سرى ... لينصر الْقَبْر والأقدارتخذله) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 (وَكم ترحل مِنْهُم فيلق بفلا ... إِلَى الخوامع أَلْقَاهُ ترحله) (استصرخوا الْأَهْل والعدوى تمزقهم ... واستكثروا المَال والهيجا تنفله) (هم الْفراش لهيب الْحَرْب تصرعه ... وَكلما لج صدما جلّ مَقْتَله) (سيف أَمَام فلسطين بَرى أمما ... خلف الْبحار لقد أمهاه صيقله) (كم قد أعدُّوا وَكم قد فل جمعهم ... من غير ضرب وَلَا طعن يُزِيلهُ) (وَإِنَّمَا اسْم صَلَاح الدّين يذكر فِي ... جَيش الْعَدو فيسبيهم تخيله) ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد - رَحمَه الله - وَالسُّلْطَان مُقيم بعسكره بِمَنْزِلَة الخروبة فِي خيامه المضروبه على الْحَالة المحبوبة وَعِنْده الْعَادِل وَالْأَفْضَل والمظفر وعكا محصورة وانقرضت هَذِه السّنة وَهُوَ على مرابطة المحاصرين لعكا وَاتفقَ فِي اوائل هَذِه السّنة وَقبلهَا انصراف العساكر الغريبة إِلَى بلادها الْبَعِيدَة والقريبة لهجوم الشتَاء وتوالي الأنداء والأنواء وحالت الوحول عَن الرّكُوب وَالنُّزُول وَكَانَت نوب اليزك مترتبة وَالْأَحْوَال متهذبة وَرُبمَا ركب السُّلْطَان يَوْمًا للقنص بالبزاة ثمَّ يعود لانتهاز فرْصَة الْغُزَاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ثمَّ وَقعت وقْعَة الرمل وَذَلِكَ أَنه ركب يَوْمًا فِي صفر فتصيد وطاب لَهُ قرب القنص فأبعد واليزكية على الرمل وساحل الْبَحْر فَخرج الفرنج فِي وَقت الْعَصْر فِي عدد لَا يدْخل فِي الْحصْر وتسامع أَصْحَابنَا بهم فزحفوا إِلَيْهِم وحكموا عَلَيْهِم وطردوهم إِلَى خيامهم وَأخذُوا عَلَيْهِم من خَلفهم وأمامهم وَلَهُم فِي كل دفْعَة من الْعَدو قلائع وللفرنج فِي كل كرة على الرمل مصَارِع حَتَّى فني النشاب وَبَقِي الانتشاب وشاع نِدَاء الْأَصْحَاب باستدعاء النشاب والفرنج لَا يعجزهم إِلَّا الرماء وَلَا يهتكهم إِلَّا الاصماء فَلَمَّا أنسوا بخلو الجعاب تجاسروا على الدنو من تِلْكَ الشعاب وحملوا حَملَة وَاحِدَة ردوا بهَا أَصْحَابنَا إِلَى النَّهر وكادت تعبث بهم يَد الْقَهْر فَثَبت من العادلية فِي وُجُوه الْقَوْم صف مرصوص الْبُنيان وَاسْتشْهدَ جمَاعَة من الشجعان وَذَلِكَ أَنهم لما ردوا الفرنج قلعوا فُرْسَانًا وصرعوا أقرانا فنزلوا بعد فرسهم لسلب لبسهم فمرت بهم الحملة فِي الأوبة وأعجلتهم عَن الرّكْبَة والوثبة وأظلم اللَّيْل وافترق الْجَمْعَانِ وَكثر التأسف على من فقد وَمِنْهُم الْحَاجِب أيدغمش المجدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 قَالَ وَمن عجائب هَذِه الْوَقْعَة أَن مَمْلُوكا للسُّلْطَان يُقَال لَهُ سراسنقر عثر بِهِ جَوَاده فَقبض من أسره شعره ليجذبه وسل آخر سَيْفه ليضربه فَضرب يَد قَابض شعره فسيبه وَاشْتَدَّ سراسنقر يعدو وهم خَلفه فَلم يدركوه وَعَاد السُّلْطَان من الصَّيْد وَقد انْفَصل الْأَمر قَالَ وَفِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر ربيع الأول تسلم شقيف أرنون بالأمان وَكَانَ الْحصار قد اسْتمرّ عَلَيْهِ حَتَّى فني زَاده وَصَاحبه أرناط فِي الْأسر فسلمه بخلاصه وَصَارَ إِلَى صور قَالَ واغتنم السُّلْطَان هيجان البحروحضور مراكب الأسطول من مصر فَمَا زَالَ يُقَوي عكا بتسيير الغلات والقوات إِلَيْهَا فِي المراكب وملأها بالذخائر والأسلحة والكماة فَلَمَّا سكن البحرعادت مراكب الفرنج إِلَى مراسيها ودبت عقاربها وأفاعيها وشدت مراكبنا فِي موانيها وَانْقطع خبر الْبَلَد وَامْتنع عَلَيْهِ دُخُول المدد فَانْتدبَ الْعَوام بالسباحة وَحَملهمْ على ذَلِك من السُّلْطَان السماحة حَتَّى صَارُوا يحملون نفقات الأجناد على أوساطهم ويخاطرون بِأَنْفسِهِم مَعَ احتياطهم ويحملون كتبا وطيورا ويعودون بكتب وطيور ونكتب ويكتبون إِلَيْهِم إِلَيْنَا على أَجْنِحَة الْحمام بالترجمة المصطلح عَلَيْهَا وَكَانَ فِي الْعَسْكَر من اتخذ حَماما يطوف على خيمته وَينزل فِي مَنْزِلَته وَعمل لَهَا برجا من خشب وهوادي من قصب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 ويدرجها على الطيران من الْبعد وَكُنَّا نقُول مَا لهَذَا الولع بِمَا لَا ينفع حَتَّى جَاءَت نوبَة عكا فنفعت وشفت الغليل ونقعت وَأَتَتْ بالكتب سارحة شارحة وَكُنَّا نطلبها مِنْهُ مَعَ اللَّيْل وَالنَّهَار حَتَّى قل وجودهَا عِنْده لِكَثْرَة الارسال وَلَقَد عطب عوامون فَمَا ارتدع الْبَاقُونَ وَمِنْهُم من سلم مرَارًا من الْقَوْم فاجترأ وَأنس بالعوم فصل فِي قدوم الْمُلُوك وحريق الأبراج قَالَ الْعِمَاد وَلما انْقَضى الشتَاء وَانْفَتح الْبَحْر وحان زمَان الْقِتَال جَاءَت العساكر الإسلامية من الْبِلَاد فَكَانَ أول من وصل الْملك الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص والرحبة وسابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَعز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْمُقدم ووفد مَعَهم جموع من الأجناد والأعيان وحشود من الْعَرَب والتركمان فَرَحل السُّلْطَان وَتقدم وعزم على طلب الْعَدو وصمم وَنزل على تل كيسَان يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ربيع الأول ورتب عسكره فَكَانَ تَقِيّ الدّين فِي آخر الميمنة والعادل فِي آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 الميسرة وَالْأَفْضَل فِي أول ميمنة الْقلب وَأَخُوهُ الظافر فِي أول الميسرة على الْجنب ثمَّ وصل الظَّاهِر فِي عَسَاكِر حلب وعماد الدّين مَحْمُود بن بهْرَام الأرتقي صَاحب دَارا وَغَيرهم من الْمُلُوك والمقاتلين وَوصل رَسُول الْخَلِيفَة يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشر ربيع الأول وَهُوَ الشريف فَخر الدّين نقيب مشْهد بَاب التِّبْن بِبَغْدَاد وَوصل مَعَه حملان من النفط الطيار وحملان من القنا الخطار وتوقيع بِعشْرين ألف دِينَار يقترض على الدِّيوَان الْعَزِيز من التُّجَّار وَخَمْسَة من الزراقين النفاطين المتقنين صناعَة الاحراق بالنَّار فاعتد السُّلْطَان بِكُل مَا أحضرهُ وأخلص الدُّعَاء للديوان الْعَزِيز وشكره غير أَنه أبدى رد التوقيع وَقَالَ كل مَا معي من نعْمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَوْلَا صرف أَمْوَال هَذِه الْبِلَاد إِلَى الْجِهَاد لكَانَتْ مَحْمُولَة إِلَى الدِّيوَان وأركب الرَّسُول مَعَه مرَارًا وَأرَاهُ مبارك النزال ومعارك الْقِتَال حَتَّى يشْهد بِمَا يُشَاهد ويتبين لَهُ الْمُجْتَهد والمجاهد وَأقَام طَويلا ثمَّ اسْتَأْذن فِي الْعود فَرجع وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد قبل السُّلْطَان جَمِيع مَا وصل مَعَ الرَّسُول واستعفى من الرقعة والتثقيل بهَا قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم بلغ السُّلْطَان أَن الفرنج قد زحفوا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 الْبَلَد وضايقوه فَركب إِلَيْهِم ليشغلهم بِالْقِتَالِ عَن الْبَلَد فَقَاتلهُمْ قتالا شَدِيدا إِلَى اللَّيْل وَخَافَ السُّلْطَان أَن يهجم الْعَدو الْبَلَد فانتقل إِلَى تل الحجل فِي خَامِس عشر ربيع الأول للقرب قَالَ وَفِي صَبِيحَة هَذَا الْيَوْم وصل من الْبَلَد عوام مَعَه كتب تَتَضَمَّن أَنه قد طم الْعَدو بعض الخَنْدَق وَقد قوي عزم الْعَدو على منازلة الْبَلَد ومضايقته فجدد السُّلْطَان الْكتب إِلَى العساكر بالحث على الْوُصُول وَفِي سحر لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع عشري ربيع الأول وصل وَلَده الظَّاهِر وَفِي آخر ذَلِك الْيَوْم وصل مظفر الدّين وَكَانَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - مَا تقدم عَلَيْهِ عَسْكَر إِلَّا ويعرضهم ويسير بهم إِلَى الْعَدو وَينزل بهم فِي خيمته ويمد لَهُم الطَّعَام وينعم عَلَيْهِم بِمَا تطيب بِهِ قُلُوبهم إِذا كَانُوا أجانب ثمَّ تضرب خيامهم حَيْثُ يَأْمر وينزلون بهَا مكرمين قَالَ وَكَانَ الْعَدو قد اصْطنع ثَلَاثَة أبرجه من خشب وحديد وألبسها الْجُلُود المسقاة بالخل على مَا ذكر بِحَيْثُ لَا تنفذ فِيهَا النيرَان وَكَانَت هَذِه الأبراج كَأَنَّهَا الْجبَال نشاهدها من مواضعنا عالية على الأسوار وَهِي مركبة على عجل يسع الْوَاحِد مِنْهَا من الْمُقَاتلَة مَا يزِيد على خمس مئة نفر على مَا قيل ويتسع سطحه لِأَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ينصب عَلَيْهِ منجنيق وَكَانَ ذَلِك قد عمل فِي قُلُوب الْمُسلمين وأودعها من الْخَوْف على الْبَلَد مَالا يُمكن شَرحه وأيس النَّاس من الْبَلَد بِالْكُلِّيَّةِ وتقطعت قُلُوب الْمُقَاتلَة فِيهِ وَكَانَ قد فرغ عَملهَا وَلم يبْق إِلَّا جرها إِلَى قريب السُّور وَكَانَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - قد أعمل فكرة فِي إحراقها وإهلاكها وَجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وباحثهم فِي الِاجْتِهَاد فِي إحراقها وَوَعدهمْ عَلَيْهِ بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة وَضَاقَتْ حيلهم عَن ذَلِك وَكَانَ من جملَة من حضر شَاب نُحَاس دمشقي فَذكر أَن لَهُ صناعَة فِي إحراقها وَأَنه إِن مكن من الدُّخُول إِلَى عكا وَحصل لَهُ الْأَدْوِيَة الَّتِي يعرفهَا أحرقها فَحصل لَهُ جَمِيع مَا طلبه وَدخل إِلَى عكا وطبخ تِلْكَ الْأَدْوِيَة مَعَ النفط فِي قدور من النّحاس حَتَّى صَار الْجَمِيع كَأَنَّهُ جَمْرَة نَار ثمَّ ضرب البرج الْوَاحِد يَوْم وُصُول الْملك الظَّاهِر بقدرفاشتعل من سَاعَته وَوَقته وَصَارَ كالجبل الْعَظِيم من النَّار طالعة ذؤابته نَحْو السَّمَاء فاستغاث الْمُسلمُونَ بالتهليل وَالتَّكْبِير وغلبهم الْفَرح حَتَّى كَادَت عُقُولهمْ تذْهب فَبَيْنَمَا النَّاس ينظرُونَ ويتعجبون إِذْ رمى البرج الثَّانِي بِالْقُدْرَةِ الثَّانِيَة وَالثَّالِث بالثالثة فاحترقا كَالْأولِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وَركب السُّلْطَان والعساكر وَسَار إِلَيْهِم وانتظرأن يخرجُوا فيناجزهم عملا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فتح لَهُ بَاب خير فلينتهزه فَلم يظْهر الْعَدو من خيامهم وَحَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ اللَّيْل وَاسْتمرّ ركُوب السُّلْطَان إِلَيْهِم فِي كل يَوْم وَطلب نزالهم وقتالهم وهم لَا يخرجُون من خيامهم لعلمهم بتباشير النَّصْر وَالظفر بهم والعساكر الإسلامية تتواتر وتتواصل فوصل فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صَاحب سنجار وَهُوَ ابْن أخي نور الدّين - رَحمَه الله - وصهره زوج ابْنَته فَلَقِيَهُ السُّلْطَان بالاحترام والتعظيم ورتب لَهُ الْعَسْكَر فِي لِقَائِه وَسَار بِهِ حَتَّى وَقفه على الْعَدو وَعَاد مَعَه إِلَى خيمته وأنزله عِنْده وَكَانَ صنع لَهُ طَعَاما لائقا بذلك الْيَوْم فَحَضَرَ هُوَ وَجَمِيع أَصْحَابه وَقدم لَهُ من التحف واللطائف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ غَيره وَكَانَ قد أكْرمه بِحَيْثُ طرح لَهُ طراحة مُسْتَقلَّة إِلَى جَانِبه وَبسط لَهُ ثوبا اطلس عِنْد دُخُوله وَضربت خيمته على طرف الميسرة على جَانب النَّهر وَفِي سَابِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن أَخِيه صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي فَلَقِيَهُ السُّلْطَان وأنزله إِلَى جَانب عَمه عماد الدّين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن صَاحب الْموصل وَهُوَ عَلَاء الدّين خرم شاه بن عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي نَائِبا عَن أَبِيه ففرح السُّلْطَان بِهِ فَرحا شَدِيدا وتلقاه عَن بعيد هُوَ وَأَهله وَاسْتحْسن أدبه واستنجبه وأنزله عِنْده فِي الْخَيْمَة وكارمه مكارمة عَظِيمَة وَقدم لَهُ تحفا حَسَنَة وَأمر بِضَرْب خيمته بَين ولديه الْأَفْضَل وَالظَّاهِر وَفِي أَوَاخِر الشَّهْر وصل صَاحب إربل زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين عَليّ فَأكْرمه السُّلْطَان وأنزله عِنْد أَخِيه مظفر الدّين يَعْنِي فِي الميسرة وَذكر الْعِمَاد قدوم هَؤُلَاءِ الْمُلُوك بِمَعْنى مَا تقدم قَالَ وَكَانَ الفرنج مذ نزلُوا على عكا صمموا على الْإِقَامَة والحصر فشرعوا فِي بِنَاء الأبراج الْعِظَام الْعَالِيَة ونقلوا فِي الْبَحْر آلاتها وأخشابها الجافية وأقطاع الْحَدِيد وبنوا ثَلَاثَة أبراج عالية فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من أقطار الْبَلَد فتعبوا فِيهَا سَبْعَة أشهر فَلم يفرغوا مِنْهَا إِلَّا فِي ربيع الأول فعلت كَأَنَّهَا ثَلَاثَة أطواد قد ملئت طبقاتها بِعَدَد وأعداد وكل برج لَا بُد لَهُ فِي أَرْكَانه من أَربع أسطوانات عاليات غِلَاظ جافيات طول كل وَاحِدَة خَمْسُونَ ذِرَاعا ليشرف على ارْتِفَاع سور الْبَلَد وبسطوها على دوائر الْعجل ثمَّ كسوها بعد الْحَدِيد والوثوق الشَّديد بجلود الْبَقر والسلوخ وكل يَوْم يقربونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وَلَو ذِرَاعا على حسب التَّيْسِير فِي تيسيرها وسقوها بالخل وَالْخمر وكشفوا من جوانبها الثَّلَاثَة سور الْبَلَد وشرعوا فِي طم الخَنْدَق وَجَاء عوام من عكا فَأخْبر السُّلْطَان فَركب بالعسكر ولازمهم من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يقاتلهم صباحا وَمَسَاء ليشغلهم فافترقوا قسمَيْنِ فريق لِلْقِتَالِ وفريق آخر مَعَ الأبراج فأشفى الْبَلَد وَبَقِي لَهُ رَمق ضَعِيف ورميت الأبراج بِكُل قَارُورَة نفط فَمَا أثرت وَلم نشعر يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالأبراج إِلَّا وَقد اشتعلت والتهبت وَوَقعت وَكَانَت آيَة من قدرَة الله تَعَالَى ظَهرت وَذَلِكَ أَنه كَانَ بعكا شَاب من أهل دمشق يعرف بعلي ابْن عريف النحاسين وَكَانَ أبدا بِجمع آلَات الزراقين مُولَعا ولتحصيل عقاقيرها متتبعا وكل من عرفه عذله وينكر عمله وَكَانَ قد ألف مِنْهَا مقادير وقدورا وملأ بغيظ من أهل تِلْكَ الصِّنَاعَة صدورا وَلم يكن النفط من صناعته وَلَكِن الله وَفقه لسعادته فَلَمَّا كَانَ يَوْم حريقها جَاءَ إِلَى أَمِير قراقوش وَهُوَ مغتاظ وأخلاقه فظاظ غِلَاظ وَقَالَ تَأذن لي فِي تصويب المنجنيق لأحرق البروج وَالله ولي التَّوْفِيق فزجره وزبره وَنَهَاهُ ونهره وَقَالَ صناع هَذَا الشّغل قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 خاروا وحاروا وَبَعْدَمَا أنجدوا غاروا فَقَالَ النَّاس دَعه وشأنه وَمَا يدْريك أَن الله وَفقه وأعانه فَرمى ابْن العريف البرج الأول قدور نفط خَالِيَة من نَار حَتَّى عرف أَنه سقَاهُ وَرَوَاهُ ثمَّ رَمَاه بِقدر محرقة وأردفها بِأُخْرَى مزهقة فتسلطت النَّار على طبقاتها فأضرم على أهل السعير سعيرا وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا ثمَّ أحرق الثَّانِي وَالثَّالِث فَاجْتمع عَلَيْهِ الْأَصْحَاب يفدونه وَمن أَوْلِيَاء الله يعدونه وَحَمَلُوهُ بعد ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَلم يقبل عَطاء وَقَالَ عملته لله فَمَا أُرِيد بِهِ سواهُ جَزَاء وَقيل احْتَرَقَ فِي البرج الأول سَبْعُونَ فَارِسًا بعدتها فحبطت أَعْمَالهم وخابت آمالهم وَخرج رجالنا من الْبَلَد فنظفوا الخَنْدَق وسدوا الثغر وأظهروا الْقدر بِظُهُور الْقدر وجاؤوا إِلَى مَوَاضِع الأبراج وأماكنها وَاسْتَخْرَجُوا الْحَدِيد من مكامنها ونبشوا الرماد عَن الزرديات الَّتِي انسبكت وكشفوا عَن الستائر الَّتِي تهتكت فَأخذُوا مَا وجدوا وحصلوا مَا نشدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب بالاستظهار من شواني الأسطول والاسراع بِهِ فِي الْوُصُول فوصل الْخَبَر بوصوله يَوْم الْخَمِيس ثامن الشَّهْر فاستظهر بِهِ الأسطول الأول الَّذِي بالثغر فَركب السُّلْطَان بِجَمِيعِ كتائبه وأحاط بالْكفْر من جَمِيع جوانبه واشتغل الفرنج عَنَّا بِمَا دهمهم فِي الْبَحْر فجدوا فِي الْأَمر وجهزوا أسطولا بِعَدَد الرِّجَال وَعدد الْقِتَال وَخرج لتلقي الأسطول الْوَاصِل وَقَابَلُوا الْحق بِالْبَاطِلِ وَجَاءَت شواني الْمُسلمين فنطحت وطحنت وَأخذت مركبا لِلْعَدو بِرِجَالِهِ وَأخذُوا لنا قِطْعَة وَمَا زَالَت الْحَرْب قرعَة وقرعة وصرعة وصرعة حَتَّى دخل اللَّيْل فتحاجز الْفَرِيقَانِ وتفرق الأسطولان وَكَانَت المقتلة فِي الْكفْر شَدِيدَة والسطوة مبيدة وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما كَانَ ظهيرة يَوْم وُصُول عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل ظَهرت فِي الْبَحْر قلوع كَثِيرَة وَكَانَ رَحمَه الله فِي نظرة وُصُول الأسطول من مصر فَإِنَّهُ كَانَ قد أَمر بتعميره ووصوله فَعلم أَنه هُوَ فَركب وَالنَّاس فِي خدمته وتعبى تعبية الْقِتَال وَقصد مضايقة الْعَدو ليشغله عَن قصد الأسطول وَلما علم الْعَدو بالأسطول استعد لَهُ وَعمر أسطوله لقتاله وَمنعه من دُخُول عكا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وَخرج أسطول الْعَدو وَاشْتَدَّ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ من خَارج وَسَار النَّاس على جَانب الْبَحْر تَقْوِيَة للأسطول وايناسا لَهُ ولرجاله والتقى الأسطولان فِي الْبَحْر والعسكران فِي الْبر واضطرمت نَار الْحَرْب واستعرت وَبَاعَ كل فريق روحه براحته الأخروية وَجرى قتال شَدِيد أقشع عَن نصْرَة الأسطول الإسلامي وَأخذ مِنْهُ شيني وَقتل من بِهِ وَنهب جَمِيع مَا فِيهِ وظفر من الْعَدو بمركب أَيْضا كَانَ واصلا من قسطنطينية وَدخل الأسطول الْمَنْصُور إِلَى عكا وَكَانَ قد صَحبه مراكب من السَّاحِل فِيهَا مير وذخائر وَطَابَتْ قُلُوب أهل الْبَلَد بذلك وانشرحت صُدُورهمْ فَإِن الضائقة كَانَت قد أخذت مِنْهُم واتصل الْقِتَال بَين العسكرين من خَارج الْبَلَد إِلَى أَن فصل بَينهمَا اللَّيْل وَعَاد كل فريق إِلَى خيمه وَقد قتل من عَدو الله وجرح فِي ذَلِك الْيَوْم خلق عَظِيم فَإِنَّهُم قَاتلُوا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فَإِن أهل الْبَلَد اشتدوا فِي قِتَالهمْ ليشغلوهم عَن الأسطول أَيْضا والأسطولان يتقاتلان والعسكر من الْبر يقاتلهم وَكَانَ النَّصْر بِحَمْد الله للْمُسلمين قَالَ الْعِمَاد وقتلنا مِنْهُم مُدَّة مقامنا على عكا فِي سنتَيْن أَكثر من سِتِّينَ ألف وزرناهم بِكُل حتف وَكلما بادوا فِي الْبر زادوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 الْبَحْر وَكم جسروا فخسروا وَقتلُوا وأسروا وهزموا وكسروا وخلفهم خلف وَيقوم مقَام مئتهم ألف وَقد أفنينا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وقطعنا أَرْزَاقهم ووصلنا آجالهم فصل فِيمَا كَانَ من أَمر ملك الألمان قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ تواصلت الْأَخْبَار بوصول ملك الألمان إِلَى بِلَاد قليج أرسلان وَأَنه انتهض للقائه جمع عَظِيم من التركمان وقصدوا مَنعه من عبور النَّهر وَأَنه أعجزهم لِكَثْرَة خلقه وَعدم مقدم لَهُم يجمع كلمتهم وَكَانَ قليج أرسلان يظْهر شقاقه وَهُوَ فِي الْبَاطِن قد أضمر وفاقه ثمَّ لما عبر إِلَى الْبِلَاد أظهر مَا كَانَ أضمره وَوَافَقَهُ وَأَعْطَاهُ رهائن مَعَه على أَنه ينفذ مَعَه من يوصله إِلَى بِلَاد ابْن لاون وأنفذ مَعَه أَدِلَّة يدلون بِهِ وعراهم فِي الطَّرِيق جوع عَظِيم وأعوزهم الزَّاد وَقل بهم الظّهْر حَتَّى إِنَّهُم ألقوا بعض أقمشتهم وَلَقَد بلغنَا وَالله أعلم أَنهم جمعُوا عددا كَثِيرَة من زرديات وخوذ وآلات وَسلَاح عجزوا عَن حملهَا وجعلوها بيدرا وَاحِدًا وأضرموا فِيهَا النَّار لتتلف وَلَا ينْتَفع بهَا أحد وَأَنَّهَا بقيت بعد ذَلِك رابية من حَدِيد وَسَارُوا على هَذِه الْحَال حَتَّى وصلوا إِلَى طرسوس فأقاموا على نهر ليعبروه وَأَن ملكهم الملعون عَن لَهُ أَن يسبح فِيهِ وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 مَاء شَدِيد الْبرد وَكَانَ ذَلِك عقيب مَا ناله من التَّعَب وَأَنه عرض لَهُ بِسَبَب ذَلِك مرض عَظِيم اشْتَدَّ بِهِ إِلَى أَن قَتله وَلما رأى مَا حل بِهِ أوصى إِلَى ابْنه الَّذِي كَانَ فِي صحبته وَلما مَاتَ أَجمعُوا رَأْيهمْ على أَنهم سلقوه فِي خل وجمعوا عِظَامه فِي كيس حَتَّى يحملوه إِلَى الْقُدس الشريف ويدفنوه فِيهِ وترتب ابْنه مَكَانَهُ على خلف من أَصْحَابه فَإِن وَلَده الْأَكْبَر كَانَ خَلفه فِي بِلَاده وَكَانَ جمَاعَة من أَصْحَابه يميلون إِلَيْهِ واستقرت قدم وَلَده الْحَاضِر فِي تقدمه فِي الْعَسْكَر وَلما أحس لافون بِمَا جرى عَلَيْهِم من الْخلَل وَمَا حل بهم من الْجُوع وَالْمَوْت والضعف بِسَبَب موت ملكهم مَا رأى أَن يلقِي نَفسه بَينهم فانه لَا يعلم كَيفَ يكون الْأَمر وهم فرنج وَهُوَ أرمني فاعتصم عَنْهُم فِي بعض قلاعه المنيعة وَلَقَد وصل إِلَى السُّلْطَان كتاب الكاغيكوس وَهُوَ مقدم الأرمن وهوصاحب قلعة الرّوم الَّتِي على طرف الْفُرَات وَمعنى هَذَا الِاسْم الْخَلِيفَة ونسخة الْكتاب كتاب الدَّاعِي المخلص الكاغيكوس مِمَّا أطالع بِهِ عُلُوم مَوْلَانَا ومالكنا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر جَامع كلمة الايمان رَافع علم الْعدْل والاحسان صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين من أَمر ملك الألمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وَمَا جرى لَهُ عِنْد ظُهُوره وَذَلِكَ أَنه أول مَا خرج من دياره دخل بِلَاد الهنكر غصبا ثمَّ دخل أَرض مقدم الرّوم وَفتح الْبِلَاد ونهبها وأحوج ملك الرّوم إِلَى أَن أطاعه وَأخذ رهائنه وَلَده وأخاه وَأَرْبَعين نَفرا من خلصائه وَأخذ مِنْهُ خمسين قِنْطَارًا ذَهَبا وَخمسين قِنْطَارًا فضَّة وَثيَاب طلس مبلغا عَظِيما واغتصب المراكب وعدى بهَا إِلَى هَذَا الْجَانِب وصحبته الرهائن إِلَى أَن دخل حُدُود بِلَاد الْملك قليج أرسلان ورد الرهائن وَبَقِي ثَلَاثَة أَيَّام سائرا وتركمان الأوج يلقونه بالأغنام والأبقار وَالْخَيْل والبضائع فتداخلهم الطمع وجمعوا من جَمِيع الْبِلَاد وَوَقع الْقِتَال بَين التركمان وَبينهمْ وضايقوه ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ سَائِر وَلما قرب من قونية جمع قطب الدّين ولد قليج أرسلان العساكر وقصده وَضرب مَعَه مصافا عَظِيما فظفر بِهِ ملك الألمان وكسره كسرة عَظِيمَة وَسَار حَتَّى أشرف على قونية فَخرج إِلَيْهِ جموع عَظِيمَة من الْمُسلمين فردهم مكسورين وهجم قونية بِالسَّيْفِ وَقتل مِنْهَا عَالما عَظِيما من الْمُسلمين وَالْفرس وَأقَام بهَا خَمْسَة أَيَّام فَطلب قليج أرسلان مِنْهُ الْأمان فَأَمنهُ الْملك وَاسْتقر بَينهم قَاعِدَة أكيدة وَأخذ مِنْهُ الْملك رهائن عشْرين من أكَابِر دولته وَأَشَارَ على الْملك أَن يَجْعَل طَرِيقه على طرسوس والمصيصة فَفعل وَقبل وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد نفذ كِتَابه وَرَسُوله يشْرَح حَاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَأَيْنَ قَصده وَمَا لقِيه فِي طَرِيقه وَأَنه لابد مجتاز بِهَذِهِ الْبِلَاد اخْتِيَارا أَو كرها فَاقْتضى الْحَال انفاذ الْمَمْلُوك خَاتم وصحبته مَا سَأَلَ وَمَعَهُ من الْخَواص جمَاعَة للقاء الْملك فِي جَوَاب كِتَابه وَكَانَت الْوَصِيَّة مَعَهم أَن يحرفوه عَن بِلَاد قليج أرسلان إِن أمكن فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِالْملكِ الْكَبِير وأعادوا عَلَيْهِ الْجَواب وعرفوه الْأَحْوَال أَبى الانحراف ثمَّ كثر عَلَيْهِ العساكر والجموع وَنزل على شط بعض الْأَنْهُر وَأكل خبْزًا ونام سَاعَة وانتبه فتاقت نَفسه إِلَى الاستحمام فِي المَاء الْبَارِد فَفعل ذَلِك وَخرج وَكَانَ أَمر الله أَنه تحرّك عَلَيْهِ مرض عَظِيم من المَاء الْبَارِد فَمَكثَ أَيَّامًا قَلَائِل وَمَات وَأما لافون فَكَانَ سائرا يلتقي الْملك فَلَمَّا جرى هَذَا المجرى هرب الرُّسُل من الْعَسْكَر وتقدموا إِلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِالْحَال فَدخل فِي بعض حصونه واحتمى هُنَاكَ وَأما ابْن الْملك فَكَانَ أَبوهُ مُنْذُ توجه لقصد هَذِه الديار نصب وَلَده الَّذِي مَعَه عوضه وتأطدت قَوَاعِده وبلغه هرب رسل لافون فأنفذ واستعطفهم وأحضرهم وَقَالَ إِن أبي كَانَ شَيخا كَبِيرا وَإِنَّمَا قصد هَذِه الديار لأجل حج بَيت الْمُقَدّس وَأَنا الَّذِي دبرت الْملك وعانيت المشاق فِي هَذِه الطَّرِيق فَمن أَطَاعَنِي وَإِلَّا بدأت بِقصد دياره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 واستعطف لافون وَاقْتضى الْحَال الِاجْتِمَاع بِهِ ضَرُورَة وَفِي الْجُمْلَة هم فِي عدد كثير وَلَقَد عرض عسكره فَكَانَ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف مجفجف وَأما الرجالة فَلَا يُحْصى عَددهمْ وهم أَجنَاس متفاوته وَخلق غَرِيبَة وهم على قصد عَظِيم وجد فِي أَمرهم وسياسة هائلة حَتَّى إِن من جنى مِنْهُم جِنَايَة لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا أَن يذبح مثل الشَّاة وَلَقَد بَلغهُمْ أَن بعض اكابرهم أَنه جنى على غُلَام لَهُ وَجَاوَزَ الْحَد فِي ضربه فاجتمعت القسوس للْحكم عَلَيْهِ فَاقْتضى الْحَال وَالْحكم الْعَام ذبحه وشفع إِلَى الْملك مِنْهُم خلق عَظِيم فَلم يلْتَفت إِلَى ذَلِك وذبحه وَقد حرمُوا الملاذ على أنفسهم حَتَّى إِن من بَلغهُمْ عَنهُ بُلُوغ لَذَّة هجروه وعزروه وكل ذَلِك كَانَ حزنا على بَيت الْمُقَدّس وَلَقَد صَحَّ عَن جمع مِنْهُم أَنهم هجروا الثِّيَاب مُدَّة طَوِيلَة وحرموها على أنفسهم وَلم يلبسوا إِلَّا الْحَدِيد حَتَّى أنكر عَلَيْهِم الأكابر ذَلِك وهم من الصَّبْر على الذل والشقاء والتعب على حَال عَظِيم وَقَالَ الْعِمَاد لما قاربوا بِلَاد عز الدّين قليج أرسلان نَهَضَ إِلَيْهِم ابْنه قطب الدّين ملكشاه فَوَقع بَينهم الْحَرْب ثمَّ انْدفع عَنْهُم إِلَى مَدِينَة قونية فساقوا وَرَاءه ودخلوها وحرقوا أسواقها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 ونزلوها فنفذوا إِلَى السُّلْطَان قليج أرسلان إِنَّا لم نصل لأخذ بلادك وَإِنَّمَا ثرنا لثأر بَيت الْمُقَدّس ونفذوا إِلَيْهِ هَدَايَا وطلبوا الْهُدْنَة فهادنهم فَتَقووْا من تِلْكَ الْبِلَاد بِمَا أَرَادوا من الْعدَد والأزواد وَنفذ قليج أرسلان وَابْنه يعتذران إِلَى السُّلْطَان من تمكينهم من العبور وَأَنَّهُمْ غلبوا على ذَلِك ثمَّ إِن الألمانية طلبُوا من قليج أرسلان إِنْفَاذ جمَاعَة من الْأُمَرَاء مَعَهم يمنعونهم من لصوص التركمان حَتَّى يصلوا إِلَى بِلَاد الأرمن فنفذ مَعَهم خَمْسَة وَعشْرين وَوَافَقَ ذَلِك غَرَض قطب الدّين فَإِنَّهُ كَانَ كَارِهًا لجَماعَة من المقدمين فَتقدم إِلَيْهِم بِأَن يَكُونُوا فِي صُحْبَة ملك الألمان فحملهم على الْخطر وأوقعهم فِي الْغرَر وورطهم فِي الضَّرَر فَإِنَّهُم مَا قدرُوا فِي الطَّرِيق على دفع كل سَارِق وَقد تبعتهم اللُّصُوص حَتَّى وصلوا إِلَى بِلَاد الأرمن ومقدمهم لافون بن اصطفانة بن لاون فَأخذُوا أُولَئِكَ الرهائن وقيدوهم وجعلوهم فِي الْأسر وجردوهم فَمنهمْ من خلص بعد حِين بِمَال جزيل وَمِنْهُم من بَقِي مأسورا حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين وَوصل مقدم الأرمن إِلَى خدمته وَدخل فِي طَاعَته وهداهم لمقصدهم وَأقَام لَهُم بالضيافات والعلوفات وَذَلِكَ فِي طرسوس فتمكثوا بهَا ليريحوا النُّفُوس فَعَن لملك الألمان أَن يسبح فِي النَّهر لاماطة مَا بِهِ من الضَّرَر فَعرض لَهُ مرض سلك بِهِ فِي سقر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وَقيل لما عبرت جموعه النَّهر ازدحموا والتطم الموج بهم واقتحموا وَطلب هُوَ موضعا يعبر فِيهِ وَحده ويتبعه من بعده فَنزل على مخاضة ذَات مَخَافَة لَا يَخْلُو من هجمها من آفَة فَجرى إِلَيْهَا واجترى عَلَيْهَا فجذبته سُورَة المَاء إِلَى شَجَرَة شجت رَأسه ومحت أنفاسه وأخرجوه وَنَفسه على الْخُرُوج وعمره على الدروج فتسلم مَالك ملك الألمان بألمه وَحمله إِلَى جهنمه وَجلسَ ابْنه مَكَانَهُ وَاتبع شَأْنه واستتبع رِجَاله وفرسانه وَقيل عرض فِي نَيف وَأَرْبَعين ألف كمي وَانْقطع عَنهُ ابْن لاون وَاخْتلف عَلَيْهِ أَصْحَاب أَبِيه ميلًا مِنْهُم إِلَى أَخِيه وَسَارُوا على سمت أنطاكية فِي فرق ثَلَاث كَأَنَّهُمْ من الْمَرَض قد نبشوا من أجداث وَأَكْثَرهم حَملَة عَصا وركاب حمير وكل بِالْأَرْضِ الَّتِي يسلكها غير خَبِير فتبرم بهم صَاحب أنطاكية وثقلت عَلَيْهِ وطأتهم المفاجية وَحسن لَهُم طَرِيق بِلَاد حلب فَلم يرَوا لَهُم فِي ذَلِك الأرب وَطلب مِنْهُ الْملك قلعة أنطاكية لينقل إِلَيْهَا مَاله وخزائنه وأثقاله فأخلاها لَهُ وَسلمهَا إِلَيْهِ طَمَعا فِي مَاله وأموال رِجَاله وَكَانَ على مَا حدسه فانه لم يعد إِلَيْهَا وَاسْتولى الابرنس بأنطاكية عَلَيْهَا وَجَاءَت فرقة مِنْهُم لَيْلًا إِلَى حصن بغراس وظنوا أَنه فِي أَيدي أجناسهم الأنجاس فَفتح وَالِي القلعة الْبَاب وَأخرج الْأَصْحَاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وتسلم تِلْكَ الْأَمْوَال بأحمالها والصناديق بأقفالها وَأسر مِنْهُم وَقتل كثير وَخرج بعد ذَلِك أهل حلب وجندها إِلَى طرقهم وَفرقُوا بَين فرقهم والتقطوهم من الْخمر والغياض وَكَانَ الْوَاحِد يستأسر مِنْهُم ثَلَاثَة وَلَا يرى وَرَاءَهُمْ من رفقائهم إغاثة فهانت الألمانية بعد تِلْكَ المهابة فِي الْأَنْفس وباعوهم فِي الْأَسْوَاق بِالثّمن الأبخس وَلما تَكَامل وُصُول السالمين إِلَى أنطاكية سلكوا إِلَى طَرِيق طرابلس جبلة واللاذقية فَخرج عَلَيْهِم رجالها فَقتلُوا مِنْهُم وأسروا فَمَا وصلوا إِلَى طرابلس إِلَّا فِي خف وَلم يصف مِمَّن جَاءَ مَعَ الْملك غير ألف وجاؤوا إِلَى النازلين على عكا فَغَرقُوا فِي لجهم وخمدوا فِي وهجهم ثمَّ هلك على عكا بعد انْقِضَاء مُدَّة واقتضاء شدَّة بتاريخ ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَقَالَ فِي الْفَتْح وَجبن الْملك عَن الْمسير على الطَّرِيق لما لقِيت جموعه فِي طرقاتهم من التَّفْرِيق فَركب فِي الْبَحْر فِي عدد يسير لَا يزِيد على الْألف برعب قلب وقصور يَد وَرَغمَ أنف وَاخْتَلَطَ مَعَ الفرنج على عكا فَسقط اسْمه وَسخط حكمه وَهلك بعد قَلِيل وَلم يحظ بنقع غليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد مرض ولد ملك الألمان الَّذِي قَامَ مقَامه مَرضا عَظِيما وَأقَام بِموضع يُسمى التينات من بِلَاد لافون وَأقَام مَعَه خَمْسَة وَعِشْرُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ داويا وجهز عسكره نَحْو أنطاكية حَتَّى يقطعوا الطَّرِيق ورتبهم ثَلَاث فرق لكثرتهم ثمَّ إِن الْفرْقَة الأولى اجتازت تَحت قلعة بغراس ومقدمها كند عَظِيم عِنْدهم وَأَن عَسْكَر بغراس مَعَ قلته أَخذ مِنْهُم مئتي رجل نهبا وقهرا وَكَتَبُوا يخبرون عَنْهُم بالضعف الْعَظِيم وَالْمَرَض الشَّديد وَقلة الْخَيل وَالظّهْر وَالْعدَد والآلات وَلما اتَّصل هَذَا الْخَبَر بالنواب فِي الْبِلَاد الشامية أنفذوا إِلَيْهِم عسكرا يكشفون أخبارهم فَوَقع الْعَسْكَر على جمع عَظِيم قد خَرجُوا لطلب العلوفة فَأَغَارُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا وأسروا زهاء خمس مئة نفس وَلَقَد حضرت من يخبر السُّلْطَان عَنْهُم وَيَقُول هم عدد كثير لكِنهمْ ضعفاء قليلو الْخَيل وَالْعدة وَأكْثر ثقلهم على حمير وخيل ضَعِيفَة قَالَ وَلَقَد وقفت على جسر يعبرون عَلَيْهِ لأعتبرهم فَعبر مِنْهُم جمع عَظِيم مَا وجدت مَعَ وَاحِد مِنْهُم طارقة وَلَا رمحا إِلَّا النَّادِر فسألتهم عَن ذَلِك فَقَالُوا أَقَمْنَا بمرج وخم أَيَّامًا وَقلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 أزوادنا وأحطابنا فأوقدنا مُعظم عددنا وَمَات منا خلق عَظِيم واحتجنا إِلَى الْخَيل فذبحناها وأكلناها وَمَات الكند الَّذِي وصل إِلَى أنطاكية وطمع لافون فيهم حَتَّى عزم على أَخذ مَال الْملك لمرضه وَضَعفه وَقلة جمعه الَّذِي تَأَخّر مَعَه وَلم تزل أخبارهم تتواتر بالضعف وَالْمَرَض قَالَ وَلما تحقق السُّلْطَان وُصُول ملك الألمان إِلَى بِلَاد لافون وقربه من الْبِلَاد الإسلامية جمع أُمَرَاء دولته وأرباب الآراء وشاورهم فِيمَا يصنع فاتفق الرَّأْي على أَن الْعَسْكَر يسير بعضه إِلَى الْبِلَاد المتاخمة لطريق عَسْكَر الْعَدو الْوَاصِل وَأَن يُقيم هُوَ رَحمَه الله على منازلة الْعَدو بباقي الْعَسْكَر الْمَنْصُور فَكَانَ أول من سَار صَاحب منبج نَاصِر الدّين بن تَقِيّ الدّين ثمَّ عز الدّين ابْن الْمُقدم صَاحب كفر طَابَ وبارين وَغَيرهمَا ثمَّ مجد الدّين صَاحب بعلبك ثمَّ سَابق الدّين صَاحب شيزر ثمَّ الياروقية من جملَة عَسْكَر حلب ثمَّ عَسْكَر حماة وَسَار إِلَى دمشق وَلَده الْأَفْضَل لمَرض عرض لَهُ وَكَذَا بدر الدّين شحنة دمشق ثمَّ سَار الْملك الظَّاهِر إِلَى حلب لايالة الطَّرِيق وكشف الْخَبَر وَحفظ مَا يَلِيهِ من الْبِلَاد وَسَار بعده الْملك المظفر لحفظ مَا يَلِيهِ من الْبِلَاد وتدبير أَمر الْعَدو المجتاز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَلما سَارَتْ هَذِه العساكر خفت الميمنة فَإِن مُعظم من سَار مِنْهَا فَأمر رَحمَه الله الْملك الْعَادِل فانتقل إِلَى منزلَة تَقِيّ الدّين فِي طرف الميمنة وَكَانَ عماد الدّين زنكي فِي طرف الميسرة وَوَقع فِي الْعَسْكَر مرض عَظِيم فَمَرض مظفر الدّين بن زين الدّين صَاحب حران وشفي وَمرض بعده الْملك الظافر ولد السُّلْطَان وشفي وَمرض خلق كثير من الأكابر وَغَيرهم إِلَّا أَن الْمَرَض كَانَ سليما بِحَمْد الله تَعَالَى وَكَانَ الْمَرَض عِنْد الْعَدو أعظم وَأكْثر وَكَانَ مقترنا بموتان عَظِيم وَأقَام السُّلْطَان مصابرا على ذَلِك مرابطا لِلْعَدو قَالَ الْعِمَاد وَتقدم السُّلْطَان بهدم سور طبرية وَهدم يافا وأرسوف وقيسارية وَهدم سور صيدا وجبيل وَنقل أهلهما إِلَى بيروت وَفِي بعض الْكتب السُّلْطَانِيَّة قد عرفنَا خبر الْعَدو المشؤوم الْوَاصِل من جَانب الرّوم وَهَذَا أَوَان تحرّك ذَوي الحمية ونهوض أهل الهمم الأبية الْعلية فَإِن الْقَوْم فِي كَثْرَة مستنون فِي طَرِيق العثرة والسيل إِذا وصل إِلَى الْجَبَل الراسي وقف وَاللَّيْل إِذا بلغ إِلَى الصُّبْح المسفر انْكَشَفَ فَأَيْنَ المؤدون فرض الْجِهَاد الْمُتَعَيّن وَأَيْنَ المهتدون فِي نهج الرشاد المتبين وَأَيْنَ الْمُسلمُونَ وحاشى أَن يَكُونُوا للاسلام مُسلمين وَأَيْنَ المقدمون فِي الدّين ومعاذ الله أَلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 يَكُونُوا فِي نصرته على الْمَوْت مقدمين وَلَوْلَا التقيد بِهَذَا الْعَدو الرابض لأطلقت أَعِنَّة النهضة إِلَى الْعَدو الناهض وَلَا بُد من لِقَائِه قبل تلفق الجمعين وإراءة الملاعين وُجُوه حتفهم ملْء الْعين وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد وَمن خبر الفرنج أَنهم الْآن على عكا يمدهُمْ الْبَحْر بمراكب أَكثر عدَّة من أمواجه وَيخرج للْمُسلمين أَمر من أَجَابَهُ وَقد تعاضدت مُلُوك الْكفْر على أَن ينهضوا إِلَيْهِم من كل فرقة طَائِفَة ويرسلوا إِلَيْهِم من كل سلَاح شَوْكَة فَإِذا قتل الْمُسلمُونَ وَاحِدًا فِي الْبر بعث ألفا عوضه الْبَحْر فالزرع أَكثر من الْحَصاد وَالثَّمَرَة أنمى من الجداد وَهَذَا الْعَدو الْمُقَابل قَاتله الله قد زر عَلَيْهِ من الْخَنَادِق دروعا متينة واستجن من الجنويات بحصون حَصِينَة فَصَارَ مصحرا ومتمنعا حاسرا ومتدرعا مواصلا ومنقطعا وعددهم الجم قد كاثر الْقَتْل ورقابهم الغلب قد قطعت النصل لشدَّة مَا قطعهَا النصل وأصحابنا قد أثرت فيهم الْمدَّة الطَّوِيلَة والكلف الثَّقِيلَة فِي استطاعتهم لَا فِي طاعتهم وَفِي أَحْوَالهم لَا فِي شجاعتهم وكل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 يعرفهُمْ يناشد الله فيهم المناشدة النَّبَوِيَّة فِي الصُّحْبَة البدرية اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة ويخلص الدُّعَاء ويرجو على يَد سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الاجابة وَقد حرم باباهم لعنة الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم كل مُبَاح واستخرج مِنْهُم كل مذخور وأغلق دونهم الْكَنَائِس وَلبس وألبسهم الْحداد وَحكم عَلَيْهِم أَن لَا يزَالُوا كَذَلِك أَو يستخلصوا الْمقْبرَة ويعيدوا القمامة فيا عصبَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخلفه فِي أمته بِمَا تطمئِن بِهِ مضاجعه ووفه الْحق فِينَا فَإنَّا والمسلمون عنْدك ودائعه وَمَا مثل الْخَادِم نَفسه فِي هَذَا القَوْل إِلَّا بِحَالهِ لَو وقف بالعتبات ضارعا وَقبل ترابها خَاشِعًا وناجاها بالْقَوْل صادعا وَلَو رفعت عَنهُ الْعَوَائِق لهاجر وشافه طَبِيب الْإِسْلَام بل مسيحه بالداء الَّذِي خامر وَلَو أَمن عَدو الْإِسْلَام أَن يَقُول قولا آخر لسافر وَلَوْلَا أَن فِي التَّصْرِيح مَا يعود على العدى لَهُ بالتجريح لقَالَ مَا يبكي الْعُيُون وينكي الْقُلُوب وَلكنه صابر محتسب منتظر لنصر الله مرتقب قَائِم من نَفسه بِمَا يجب قَائِل رب إِنِّي لَا املك إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 نَفسِي وَهَا هِيَ فِي سَبِيلك مبذولة وَأخي وَقد هَاجر إِلَيْك هِجْرَة يرجوها مَقْبُولَة وَوَلَدي وَقد بذلت لعدوك صفحات وُجُوههم وَهَان على محبوبك بمكروهي فيهم ومكروههم ونقف عِنْد هَذَا الْحَد {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} فصل فِي الْوَقْعَة العادلية على عكا ظهر يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد علم عَدو الله أَن العساكر قد تَفَرَّقت فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَأَن الميمنة قد خفت لِأَن مُعظم من سَار كَانَ مِنْهَا بِحكم قرب بِلَادهمْ من طَرِيق الْعَدو فَأَجْمعُوا رَأْيهمْ واتفقت كلمتهم على أَنهم يخرجُون بَغْتَة ويهجمون على طرف الميمنة فَجْأَة فَخَرجُوا واستخفوا طرف الميمنة وفيهَا مخيم الْعَادِل فَلَمَّا بصر النَّاس بهم صَاح صائحهم وَخَرجُوا من خيامهم كالأسود من آجامها وَركب السُّلْطَان ونادى مناديه يَا لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ رَحمَه الله أول رَاكب وَلَقَد رَأَيْته وَقد ركب من خيمته وَحَوله نفر يسير من خواصه وَالنَّاس لم يستتم ركوبهم وَهُوَ كالفاقدة وَلَدهَا الثاكلة وَاحِدهَا ثمَّ ضرب الكوس فأجابته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 كوسات الْأُمَرَاء من أماكنها وَركب النَّاس وسارع الفرنج فِي قصد الميمنة حَتَّى وصلوا إِلَى المخيم العادلي قبل استتمام ركُوب العساكر ودخلوا فِي وطاقه وامتدت أَيْديهم فِي السُّوق وأطراف الخيم بالنهب والغارة وَقيل وصلوا إِلَى خيمة الْخَاص وَأخذُوا من شرابخاناته شَيْئا وَركب الْعَادِل واستركب من يَلِيهِ من الميمنة كالطواشي قايماز النجمي وَعز الدّين جرديك النوري وَمن يجْرِي مجْرَاه ووقف وقُوف مخادع حَتَّى يوغل بهم طمعهم فِي المخيم ويشتغلوا بالنهب وَكَانَ كَمَا ظن فَإِنَّهُ عاثت أَيْديهم فِي الْخيام والأقمشة والفواكه وَالطَّعَام فَلَمَّا علم اشتغالهم بذلك صَاح بِالنَّاسِ وَحمل بِنَفسِهِ يقدمهُ وَلَده الْكَبِير شمس الدّين مودود وَحمل بحملته من كَانَ يَلِيهِ من الميمنة واتصل الْأَمر بِجَمِيعِ الميمنة حَتَّى وصل الصائح إِلَى عَسْكَر الْموصل وهجموا على الْعَدو هجمة الْأسود على فرائسها وأمكنهم الله مِنْهُم وَوَقعت الكسرة فعادوا يَشْتَدُّونَ نَحْو خيامهم هاربين وعَلى أَعْقَابهم ناكصين وَسيف الله يقتل فيهم وَصَاح صائح السُّلْطَان فِي النَّاس يَا أبطال الْمُوَحِّدين هَذَا عَدو الله قد أمكن الله مِنْهُ وَقد دَاخله الطمع حَتَّى غشي خيامكم بِنَفسِهِ فبادر إِلَى إجَابَته حلقته وخاصته ثمَّ طلب عَسْكَر الْموصل يقدمهم عَلَاء الدّين ولد عز الدّين ثمَّ عَسْكَر مصر يقدمهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 سنقر الْحلَبِي وَتَتَابَعَتْ العساكر وتجاوبت الْأَبْطَال وَقَامَت سوق الْحَرْب فَلم يكن إِلَّا سَاعَة حَتَّى رَأينَا الْقَوْم صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية وامتدوا مطروحين من خيام الْعَادِل إِلَى خيامهم أَوَّلهمْ فِي الخيم الإسلامية وَآخرهمْ فِي خيم الْعَدو صرعى على التلول والوهاد وَكَانَ مِقْدَار مَا امْتَدَّ فِيهِ الْقَتْلَى بَين المخيمين فرسخا وَرُبمَا زَاد على ذَلِك وَلم ينج من الْقَوْم إِلَّا النَّادِر قَالَ وَلَقَد خضت فِي تِلْكَ الدِّمَاء بدابتي وَاجْتَهَدت على أَن أعدهم فَمَا قدرت على ذَلِك لكثرتهم وتفرقهم وشاهدت مِنْهُم امْرَأتَيْنِ مقتولتين وَحكى لي من شَاهد مِنْهُم أَربع نسْوَة يقاتلن وَأسر مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ وَأسر من الرِّجَال فِي ذَلِك الْيَوْم نفر يسير فَإِن السُّلْطَان كَانَ أَمر النَّاس أَلا يستبقوا أحدا هَذَا كُله فِي الميمنة وَبَعض الْقلب وَأما الميسرة فَمَا اتَّصل الصائح بهم إِلَّا وَقد نجز الْأَمر وَقضي الْقَضَاء على الْعَدو لبعد مَا بَين المسافتين وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة فِيمَا بَين الظّهْر وَالْعصر فَإِن الْعَدو ظهر فِي قَائِم الظهيرة وانفصلت الْحَرْب بعد الْعَصْر وانكسر الْقَوْم حَتَّى دخلت طَائِفَة من الْمُسلمين وَرَاءَهُمْ إِلَى مخيمهم على مَا قيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ثمَّ ان السُّلْطَان أَمر النَّاس بالتراجع وَلم يفقد أحد من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم سوى عشرَة أنفس غير معروفين وَلما أحس جند الله بعكا بِمَا جرى بَين الْمُسلمين وَبَين الْعَدو من الْوَقْعَة فَإِنَّهُم كَانُوا يشاهدون الوقعات من أعالي السُّور خَرجُوا إِلَى مخيم الْعَدو من الْبَلَد وَجرى بَينهم مقتلة عَظِيمَة وَكَانَت النُّصْرَة وَالْحَمْد لله للْمُسلمين بِحَيْثُ هجموا خيام الْعَدو ونهبوا مِنْهَا جمعا من النسوان والأقمشة حَتَّى الْقُدُور وفيهَا الطَّعَام وَوصل كتاب من عكا يخبر بذلك وَاخْتلف النَّاس فِي عدد الْقَتْلَى مِنْهُم فَذكر قوم أَنهم ثَمَانِيَة آلَاف وَقَالَ آخَرُونَ سَبْعَة آلَاف وَلم ينقصهم حازر عَن خَمْسَة آلَاف وَلَقَد شاهدت مِنْهُم خَمْسَة صُفُوف أَولهَا فِي خيم الْعَادِل وَآخِرهَا فِي خيم الْعَدو وَلَقَد لقِيت إنْسَانا عَاقِلا جنديا يسْعَى بَين صُفُوف الْقَتْلَى ويعدهم فَقلت لَهُ كم عددت فَقَالَ إِلَى هَاهُنَا أَرْبَعَة آلَاف ونيفا وَسِتِّينَ قَتِيلا وَكَانَ قد عد صفّين وَهُوَ فِي الصَّفّ الثَّالِث لَكِن مَا مضى من الصُّفُوف أَكثر عددا من الْبَاقِي قَالَ وَجَاء من الْغَد نجاب لَهُ عَن حلب خَمْسَة أَيَّام بِكِتَاب يتَضَمَّن أَن جمَاعَة عَظِيمَة من الْعَدو الشمالي خَرجُوا للنهب بأطراف الْبِلَاد الإسلامية ونهض الْعَسْكَر الْحلَبِي إِلَيْهِم وَأخذ عَلَيْهِم الطَّرِيق فَلم ينج مِنْهُم أحد إِلَّا من شَاءَ الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 قَالَ وَجَاء فِي لَيْلَة ذَلِك الْيَوْم من اليزك من ذكر أَن الْعَدو قد سَأَلَ من جَانب السُّلْطَان من يصل إِلَيْهِم ليسمع مِنْهُم حَدِيثا فِي سُؤال الصُّلْح لضعف حل بهم وَلم يزل الْعَدو من حِينَئِذٍ مكسور الْجنَاح منهاض الْجَانِب حَتَّى وصلهم كند يُقَال لَهُ كندهري وَسَيَأْتِي ذكره وَقَالَ الْعِمَاد وَلما شاع عِنْد الفرنج خبر وُصُول الألمانية قَالُوا إِذا وصل ملكهم وَنكى فِي الْمُسلمين انْكَسَرَ ناموسنا وتطأطأت عِنْده رؤوسنا فَذكر الْوَقْعَة بِمَعْنى مَا تقدم إِلَى أَن قَالَ وَوصل السُّلْطَان وَشَاهد من مساءة الفرنج مَا سره وَعرف لطف الله وبره وَنَصره وعاين هُنَاكَ مصَارِع الْأَعْدَاء ومشارع الْبلَاء وَكَانُوا مفروشين فِي مدى فَرسَخ على الأَرْض وهم فِي تِسْعَة صُفُوف من تلال الرمل إِلَى الْبَحْر بِالْعرضِ وكل صف يزِيد على ألف قَتِيل وشاع الْقَتْل فِي الفرنج فِي كل قبيل وَكَانَت هَذِه النّوبَة بِلَا نائبة والغزوة بِلَا شَائِبَة وَقتل مِنْهُم زهاء عشرَة آلَاف وَلم يبلغ من اسْتشْهد من أَتبَاع الْعَسْكَر عشرَة فاغتنمها تِجَارَة رابحة وغنيمة ميسرَة قَالَ وَلما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثَلَاثِينَ أَرْبَعِينَ كتابا بالبشارات بأبلغ الْمعَانِي وأبرع الْعبارَات وَقلت إِذا نزل السُّلْطَان وجد الْكتب حَاضِرَة ولأرى الْبشَارَة شائرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ركبت أَنا وَالْقَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد لمشاهدة مَا هُنَاكَ من أشلاء صرعى وأجساد فَمَا أعجل مَا سلبوا وأعروا وفروا وفروا وَقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم ورأينا امْرَأَة مقتولة لكَونهَا مقاتلة وسمعناها وَهِي خامدة بالعبرة قائلة وَمَا زلنا نطوف عَلَيْهِم ونعبر ونفكر فيهم ونعتبر حَتَّى ارتدى الْعشَاء بالظلام فعدنا إِلَى الْخيام وأطلنا الْوُقُوف على تِلْكَ الطلول الدارسة واستبشرت الْوُجُوه بِتِلْكَ الْوُجُوه العابسة وحزرناهم بِعشْرَة آلَاف قَتِيل لَا حزر تَكْثِير بل حزر تقليل وَكَانَ الَّذين حملُوا وهزموا وَقتلُوا أقل من ألف فَقتلُوا أضعافا مضاعفة وعدموا مِمَّن وَرَاءَهُمْ مساعدة ومساعفة وَحكي من نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة أَن فرنجيا عقر فَجَثَا للصرعة فعثر بِهِ رَاكب برذون فعرقب الفرنجي فرسه بِسيف فِي يَده فَنزل بجده مستنا فِي جدده وَقتل ذَلِك الفرنجي وروى من دَمه الْهِنْدِيّ وَحل من وَسطه ثَمَانِينَ دِينَارا فَانْقَلَبَ ربحا مَا عده خسارا وامتلأت الْأَيْدِي بالأسلاب والأكساب وَحصل من الْعدَد مَا لم يكن فِي الْحساب وبيعت الزرديات ذَوَات الْأَثْمَان بالرخص قَالَ وَشرع الفرنج فِي الخداع والمراسلة وسألوا فِي الصُّلْح وَأذن لَهُم السُّلْطَان فِي الْخُرُوج للنَّظَر إِلَى أُولَئِكَ الصرعى بِتِلْكَ المروج وَهِي قد تورقت وأنتنت وجافت وحميت الشَّمْس على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 جيفها وحافت وضافتها القشاعم والخوامع عَلَيْهَا أطافت فساءهم مَا سرنا ونفرهم مَا أقرنا فصل قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الرَّأْي بعد هَذِه النُّصْرَة أَن ترد عَلَيْهِم الكرة مرّة بعد مرّة إِلَى أَن يهْلكُوا حسرة ويبيدوا فَلَا يبْقى لَهُم جَمْرَة فاشتغل السُّلْطَان بِمَا جَاءَهُ من المكاتبات بظفر التركمان وَغَيرهم بعسكر الألمان فَجَاءَت للفرنج نجدة من الْبَحْر ومدد أَضْعَاف مَا نقص مِنْهُم من الْعدَد وَالْعدَد فأضحوا كَأَن لم ينكبوا وثبتوا مكانهم وَلم يثبوا وَوصل إِلَيْهِم الْمَعْرُوف بالكندهري فَفرق الْأَمْوَال واستخدم الرِّجَال وَأنْفق فِي عشرَة آلَاف راجل وَأظْهر أَنه يخرج إِلَى لِقَاء عَسْكَر الْإِسْلَام فتحول السُّلْطَان إِلَى منزلَة الخروبة ليوسع عَلَيْهِم الدائرة وَنصب الكند على عكا منجنيقات كَثِيرَة فأحرقها الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم من الفوارس سَبْعُونَ وَأسر عدَّة معروفون ثمَّ نصب منجنيقين فأحرقا أول شعْبَان وَكَانَ الكند قد أنْفق على أَحدهمَا ألفا وَخمْس مئة دِينَار وَمن جملَة من وَقع فِي الْأسر فَارس كَبِير فَمَا أمهلوه حِين أَخَذُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ ونبذوه فَطَلَبه مِنْهُم الفرنج بالأموال وَلم يعرفوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 بِالْحَال فأخرجوه إِلَيْهِم قَتِيلا فَأكْثر الفرنج عَلَيْهِ بعد العويل عويلا فَبَاتُوا يندبونه نوحًا ويذيعون سر تقدمه فيهم بوحا وَحين وَقعت أَعينهم عَلَيْهِ قَتِيلا ضربوا بنفوسهم الأَرْض وحثوا على رؤوسهم التُّرَاب وَوَقعت عَلَيْهِم بِسَبَب ذَلِك خمدة عَظِيمَة وكتموا أمره وَلم يظْهر من كَانَ واستصغر الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك أَمرهم وهجم عَلَيْهِم الْعَرَب من كل جَانب يسرقون وينهبون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ هَذَا والكتب متواصلة من عكا إِلَيْنَا وَمنا إِلَيْهَا على أَجْنِحَة الطُّيُور وأيدي السباح والمراكب اللطاف تخرج لَيْلًا وَتدْخل سَرقَة من الْعَدو قَالَ الْعِمَاد وَوصل من ملك قسطنطينية كتاب يتَضَمَّن استعطافا واستسعافا وَيذكر تَمْكِينه من اقامة الْجُمُعَة فِي جَامع الْمُسلمين بقسطنطينية وَالْخطْبَة وَأَنه مُسْتَمر على الْمَوَدَّة رَاغِب فِي الْمحبَّة وَيعْتَذر عَن عبور الْملك الألماني وَأَنه قد فجع فِي طَرِيقه بالأماني ونال من الشدَّة وَنقص الْعدة مَا أضعفه وأوهاه وَأَنه لَا يصل إِلَى بِلَادكُمْ فينتفع بِنَفسِهِ أَو ينفع وَيكون مصرعه هُنَاكَ وَلَا يرجع ويمت بِمَا بِهِ كاده وَأَنه قد بلغ فِي أَذَاهُ اجْتِهَاده وَيطْلب رَسُولا يدْرك بِهِ من السُّلْطَان سولا فَأُجِيب فِي ذَلِك إِلَى مُرَاده وَوَقع الِاعْتِدَاد بِمَا ذكره من اعتداده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ بَين السُّلْطَان وَبَين ملك قسطنطينية مراسلة ومكاتبة وَكَانَ وصل مِنْهُ رَسُول إِلَى الْبَاب الْكَرِيم السلطاني بمرج عُيُون سنة خمس وَثَمَانِينَ فِي رَجَب فِي جَوَاب رَسُول كَانَ أنفذه السُّلْطَان بعد تَقْرِير الْقَوَاعِد وَإِقَامَة قانون الْخطْبَة فِي جَامع قسطنطينية فَمضى الرَّسُول وَأقَام الْخطْبَة وَلَقي باحترام عَظِيم وإكرام زَائِد وَكَانَ قد أنفذ مَعَه فِي الْمركب الْخَطِيب والمنبر وجمعا من المؤذنين والقراء وَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ إِلَى قسطنطينية يَوْمًا عَظِيما من أَيَّام الْإِسْلَام شَاهده جمع كثير من التُّجَّار ورقي الْخَطِيب الْمِنْبَر وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ المقيمون بهَا والتجار وَأقَام الدعْوَة الإسلامية العباسية ثمَّ عَاد فَعَاد مَعَه هَذَا الرَّسُول يخبر بانتظام الْحَال فِي ذَلِك فَأَقَامَ مُدَّة وَلَقَد شاهدته يبلغ الرسَالَة وَمَعَهُ ترجمان يترجم عَنهُ وَهُوَ شيخ من أحسن مَا يفْرض أَن يكون من صور الْمَشَايِخ وَعَلِيهِ زيهم الَّذِي يخْتَص بهم وَمَعَهُ كتاب وتذكره وَالْكتاب مختوم بِذَهَب وَلما مَاتَ وصل خبر وَفَاته إِلَى ملك قسطنطينية فأنفذ هَذَا الرَّسُول فِي تَتِمَّة ذَلِك ثمَّ وصف القَاضِي الْكتاب وَعبر عَنهُ بألفاظه وَقد عبر الْعِمَاد عَن مَعَانِيه فأغنى عَن ذَلِك ثمَّ قَالَ وَكَانَ من حَدِيث ملك الألمان أَنه بعد أَن اسْتَقر قدمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 فِي أنطاكية أَخذهَا من صَاحبهَا وَحكم فِيهِ وَكَانَ بَين يَدَيْهِ فِيهَا ينفذ أوامره فَأَخذهَا مِنْهُ غيلَة وخديعة وأودعها خزائنه وَسَار عَنْهَا خَامِس عشري رَجَب نَحْو عكا فِي جيوشه وجموعه على طَرِيق اللاذقية حَتَّى أَتَى طرابلس وَكَانَ قد سَار إِلَيْهِ من معسكر الفرنج يلتقيه المركيس صَاحب صور وَكَانَ من أعظمهم حِيلَة وأشدهم بَأْسا وَهُوَ الأَصْل فِي تهييج الجموع وَذَلِكَ أَنه صور الْقُدس فِي ورقة عَظِيمَة وصور فِيهِ صُورَة الْقِيَامَة الَّتِي يحجون إِلَيْهَا ويعظمون شَأْنهَا وفيهَا قبر الْمَسِيح الَّذِي دفن فِيهِ بعد صلبه بزعمهم وَذَلِكَ الْقَبْر هُوَ أصل حجهم وَهُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ نزُول النُّور عَلَيْهِ فِي كل سنة فِي عيد من أعيادهم فصور الْقَبْر وصور عَلَيْهِ فرسا عَلَيْهِ فَارس مُسلم رَاكب وَقد وطىء قبر الْمَسِيح وَقد بَال الْفرس على الْقَبْر وَأبْدى هَذِه الصُّورَة وَرَاء الْبَحْر فِي الْأَسْوَاق والمجامع والقسوس يحملونها ورؤوسهم مكشفة وَعَلَيْهِم المسوح وينادون بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور وللصور عمل فِي قُلُوبهم فَإِنَّهَا أصل دينهم فهاج بذلك خلائق لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَكَانَ من جُمْلَتهمْ ملك الألمان وَجُنُوده فَلَقِيَهُمْ المركيس لكَونه أصلا فِي استدعائهم إِلَى هَذِه الْوَاقِعَة فَلَمَّا اتَّصل بِهِ قوى قلبه وبصره بالطرق وسلك بِهِ السَّاحِل خوفًا من أَنه إِذا أَتَى على بِلَاد حلب وحماة نازلهم الْمُسلمُونَ من كل جَانب وَمَعَ ذَلِك لم يسلمُوا من شن الغارات عَلَيْهِم وَاخْتلف حزر النَّاس لَهُم وَلَقَد وقفت على بعض كتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الخبيرين بِالْحَرْبِ وَقد حزر فارسهم وراجلهم بِخَمْسَة آلَاف بعد أَن كَانُوا قد خَرجُوا على مَا ذكر بمئتي ألف فَانْظُر إِلَى صَنِيع الله مَعَ أعدائه وَلما سَارُوا من اللاذقية يُرِيدُونَ جبلة وجدوا فِي أَعْقَابهم نيفا وَسِتِّينَ فرسا قد عطبت وانتزع لَحمهَا وَلم يبْق فِيهَا إِلَّا الْعِظَام من شدَّة الْجُوع وَضعف الْخَيل وَلم يزَالُوا سائرين وأيدي الْمُسلمين تتخطفهم من حَولهمْ نهبا وأسرا وقتلا حَتَّى أَتَوا طرابلس فَأَقَامَ بهَا حَتَّى استجم عسكره وَأرْسل إِلَى النازلين على عكا يُخْبِرهُمْ بقدومه فوجموا من ذَلِك لِأَن المركيس صَاحب مشورته وَكَانَ الْملك جفري وَهُوَ ملك السَّاحِل بالمعسكر هُوَ الَّذِي يرجع إِلَيْهِ فِي الْأُمُور فَعلم أَن مَعَ قدوم الألماني لَا يبْقى لَهُ حكم وَفِي أَوَاخِر شعْبَان نزل الألماني فِي المراكب هُوَ وَعَسْكَره فثارت عَلَيْهِم ريح أهلكت مِنْهُم ثَلَاثَة مراكب وَسَار الْبَاقُونَ إِلَى صور ثمَّ وصل إِلَى عكا فِي نفر يسير فِي سادس رَمَضَان وَكَانَ لقدومه وَقع عَظِيم عِنْدهم وَوصل خبر وصولهم إِلَى طرابلس ثامن شعْبَان وَالسُّلْطَان ثَابت الجأش راسخ الْقدَم لَا يزعزعه ذَلِك عَن حراسة عكا والحماية لَهَا ومراصدة الْعَسْكَر النَّازِل بهَا وَشن الغارات والهجوم عَلَيْهِم فِي كل وَقت مفوضا أمره إِلَى الله تَعَالَى مُعْتَمدًا عَلَيْهِ منبسط الْوَجْه لقَضَاء حوائج النَّاس مواصلا ببره من نفذ إِلَيْهِ من الْفُقَرَاء وَالْفُقَهَاء والمشايخ والأدباء وَلَقَد كنت إِذا بَلغنِي هَذَا الْخَبَر تأثرت حَتَّى إِذا دخلت عَلَيْهِ أجد من قُوَّة النَّفس وَشدَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الْبَأْس مَا يشْرَح صَدْرِي وأتيقن مَعَه نصْرَة الْإِسْلَام وَأَهله فصل فِي إِدْخَال البطس إِلَى عكا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ رَحمَه الله قد أعد ببيروت بطسة وعمرها وأودعها أَربع مئة غرارة من الْقَمْح وَوضع فِيهَا من الْجُبْن والبصل وَالْغنم وَغير ذَلِك من الْميرَة وَكَانَ الفرنج قد أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لَهَا عَن أَن يدخلهَا مركب للْمُسلمين وَكَانَ قد اشتدت حَاجَة من فِيهَا إِلَى الطَّعَام والميرة فَركب فِي بطسة بيروت جمَاعَة من الْمُسلمين وتزيوا بزِي الفرنج حَتَّى حَلقُوا لحاهم وَوَضَعُوا الْخَنَازِير على سطح البطسة بِحَيْثُ ترى من بعد وعلقوا الصلبان وجاؤوا قاصدي الْبَلَد من الْبعد حَتَّى خالطوا مراكب الْعَدو فَخَرجُوا إِلَيْهِم واعترضوهم فِي الحراقات والشواني وَقَالُوا لَهُم نَرَاكُمْ قَاصِدين الْبَلَد واعتقدوا أَنهم مِنْهُم فَقَالُوا أَو لم تَكُونُوا أَخَذْتُم الْبَلَد فَقَالُوا لَا لم نَأْخُذ الْبَلَد بعد فَقَالُوا نَحن نرد القلوع إِلَى الْعَسْكَر ووراءنا بطسة أُخْرَى فِي هوائها فأنذروهم حَتَّى لَا يدخلُوا الْبَلَد وَكَانَ وَرَاءَهُمْ بطسة فرنجية قد اتّفقت مَعَهم فِي الْبَحْر قَاصِدين الْعَسْكَر فنظروا فرأوها فقصدوها لينذروها فاشتدت البطسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 الإسلامية فِي السّير واستقامت لَهَا الرّيح حَتَّى دخلت ميناء الْبَلَد وسلمت وَللَّه الْحَمد وَكَانَ فرجا عَظِيما فان الْحَاجة كَانَت قد أخذت من أهل الْبَلَد وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الآخر من رَجَب قَالَ وَفِي الْعشْر الْأَوْسَط من شعْبَان كتب بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ وَالِي الْبَلَد والمقدم على الأسطول وَهُوَ الْحَاجِب لُؤْلُؤ يذكران للسُّلْطَان أَنه لم يبْق بِالْبَلَدِ ميرة إِلَّا قدر يَكْفِي الْبَلَد إِلَى لَيْلَة النّصْف من شعْبَان لَا غير فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لخاص وَلَا عَام خشيَة الشُّيُوع وَالْبُلُوغ إِلَى الْعَدو وتضعف بِهِ قُلُوب الْمُسلمين وَكَانَ قد كتب إِلَى مصر بتجهيز ثَلَاث بطس مشحونة بالأقوات والادام والمير وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحصار بِحَيْثُ يكفيهم ذَلِك طول الشتَاء فأقلعت البطس الثَّلَاث من الديار المصرية ولججت فِي الْبَحْر تتوخى النوتية بهَا الرّيح الَّتِي تحملهَا إِلَى عكا فطابت لَهُم الرّيح حَتَّى سَارُوا ووصلوا إِلَى عكا لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَقد فنيت الأزواد وَلم يبْق عِنْدهم مَا يطْعمُون النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم وَخرج عَلَيْهَا أسطول الْعَدو يقاتلها والعساكر الإسلامية تشاهد ذَلِك من السَّاحِل وَالنَّاس فِي تهليل وتكبير وَقد كشف الْمُسلمُونَ رؤوسهم يبتهلون إِلَى الله تَعَالَى فِي الْقَضَاء بسلامتها إِلَى الْبَلَد وَالسُّلْطَان على السَّاحِل كالوالدة الثكلى يُشَاهد الْقِتَال وَيَدْعُو إِلَى ربه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 بنصره وَقد علم من شدَّة الْقَوْم مَا لم يُعلمهُ غَيره وَفِي قلبه مَا فِي قلبه وَالله يُثبتهُ وَلم يزل الْقِتَال يعْمل حول البطس من كل جَانب وَالله يدْفع عَنْهَا وَالرِّيح تشتد والأصوات قد ارْتَفَعت من الطَّائِفَتَيْنِ وَالدُّعَاء يخرق الْحجب حَتَّى وصلوا بِحَمْد الله سَالِمين إِلَى ميناء الْبَلَد وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عَن جذب وأمتاروا بِمَا فِيهَا وَكَانَت لَيْلَة بِليَال وَكَانَ دُخُولهَا الْعَصْر رَابِع عشر شعْبَان وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ السُّلْطَان قد أَمر نواب الاسكندرية بتجهيز بطس كبار وتعميرها من كل ميرة وغلة وتسييرها إِلَى عكا فأبطأت عَن الْمِيقَات وأضر بالمقيمين بِالْبَلَدِ إعواز الأقوات فأفكر فِيمَا يتعجل بِهِ الْغَرَض فَكتب إِلَى مُتَوَلِّي بيروت عز الدّين سامة فَجهز بطسة كَبِيرَة قد ملأها ميرة وغلة كَثِيرَة وأركبها جمَاعَة على زِيّ الفرنج ممسوحي اللحى ممسوخي الحلى وأصحبهم صلبانا وخيل بهم رهبانا وَكَانَت هَذِه البطسة من الفرنج مَأْخُوذَة وَهِي بساحل بيروت منبوذة فَأمر السُّلْطَان بترميمها وتتميمها فملئت بالشحوم واللحوم وَأَرْبع مئة غرارة غلَّة وأحمال من النشاب والنفط ورتب فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 رجال مُسلمُونَ ونصارى من أهل بيروت وَأَرَادُوا أَن تشتبه ببطس الْعَدو فِي الْبَحْر وشدوا زنانير واستصحبوا خنازير وَسَارُوا بهَا فِي الْبَحْر بمراكب الفرنج مختلطين وَإِلَى محادثتهم ومجاذبتهم منبسطين وَلما حاذوا بهَا عكا صوبوا بهَا نَحْوهَا وَالرِّيح تسوقها والفرنج من مراكبها تَقول مَا هَذِه طريقها وَهِي كالسهم النَّافِذ قد سدد فَوْقهَا فَدخلت الثغر واجتزأ الْبَلَد بهَا نصف شهر وَظَهَرت رَابِع عشر شعْبَان من ثبج الْبَحْر ثَلَاثَة مراكب كَأَنَّهَا ثَلَاث هواضب فَجَاءَت فَجْأَة أعلامها كالأعلام طائرة كالسهام وَلم تبال بمراكب الْعَدو فخرقتها وَقربت مِنْهَا سفينة فغرقتها وعبرت وَعين الْكفْر عبرى وامتلأ الثغر بهَا وأثرى فصل قَالَ الْعِمَاد وَوصل ملك الألمان ورام أَن يظْهر بمجيئه وَقعا ويبدي بِهِ نفعا فدبوا فِي راجل كَرجل الدبى وخيل أغصت الوهاد والربى وقربوا من تل العياضية وَعَلِيهِ خيم اليزكية والنوبة فِيهَا للحلقة المنصورة الناصرية والعصبة الموصلية فثارت إِلَيْهِم ودارت عَلَيْهِم وَركب السُّلْطَان وَتقدم إِلَى تل كيسَان وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن جن الظلام وكف الْكفْر وَسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 الْإِسْلَام وَكَانَت الدائرة على الْكَفَرَة قَالَ القَاضِي وَقتل مِنْهُم وجرح خلق عَظِيم وَالسيف يعْمل فِي بَقِيَّتهمْ وهم هاربون حَتَّى وصل المخيم غرُوب الشَّمْس من ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ لَا يعْتَقد سَلامَة نَفسه من شدَّة خَوفه وَقتل من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم اثْنَان وجرح جمَاعَة كَثِيرَة وَمن كتاب إِلَى بَغْدَاد قد بلي الْإِسْلَام مِنْهُم بِقوم قد استطابوا الْمَوْت واستجابوا الصَّوْت وفارقوا المحبوبين الأوطان والأوطار وهجروا المألوفين الْأَهْل والديار وركبوا اللجج ووهبوا المهج كل ذَلِك طَاعَة لقسيسهم وامتثالا لأمر مركيسهم وغيرة لمتعبدهم وحمية لمعتقدهم وتهالكا على مقبرتهم وتحرقا على قمامتهم الظبي لَا يطْلبُونَ مَعَ شدَّة الاملاق مَالا وَلَا يَجدونَ مَعَ كَثْرَة المشاق ملالا بل يتساقطون على نيران الظبي تساقط الْفراش ويقتحمون الردى متدرعي الصَّبْر متثبتي الجاش حَتَّى خرجت النِّسَاء من بلادهن متبرزات وسرن إِلَى الشَّام فِي الْبَحْر وَالْبر متجهزات وَكَانَت مِنْهُنَّ ملكة استتبعت خمس مئة مقَاتل فَارس وراجل رامح ونابل والتزمت بمؤنتهم فصودف مركبها بِقرب الاسكندرية فَأخذت برجالها وأراح الله من شَرّ احتفالها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 ومنهن ملكة وصلت مَعَ ملك الألمان وَذَوَات المقانع من الفرنج مقنعات دارعات يحملن إِلَى الطعان الطوارق والقنطاريات وَقد وجدت فِي الوقعات الَّتِي جرت عدَّة مِنْهُنَّ بَين الْقَتْلَى وَمَا عرفن حَتَّى سلبن وَإِن البابا الَّذِي برومية قد حرم عَلَيْهِم مطاعمهم ومشاربهم وَقَالَ من لَا يتَوَجَّه إِلَى الْقُدس مستخلصا فَهُوَ عِنْدِي محرم لَا منكح لَهُ وَلَا مطعم فلأجل هَذَا يتهافتون على الْوُرُود ويتهالكون على يومهم الْمَوْعُود وَقَالَ لَهُم إِنِّي وَاصل فِي الرّبيع جَامع على الاستنفار شَمل الْجَمِيع وَإِذا نَهَضَ هَذَا الملعون فَلَا يقْعد عَنهُ أحد ويصل مَعَه بأَهْله وَولده كل من يَقُول لله أهل وَولد فَهَذَا شرح هَؤُلَاءِ وتعصبهم فِي ضلالتهم ولجاجتهم فِي غوايتهم بِخِلَاف أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُم يتضجرون وَلَا يصبرون بل يتفللون وَلَا يَجْتَمعُونَ ويتسللون وَلَا يرجعُونَ وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ ببذل نَفَقَة وَإِذا حَضَرُوا حَضَرُوا بقلوب غير متفقة ليعلم أَن الْإِسْلَام من عِنْد الله مَنْصُور وَأَن الْكفْر بارادة الله محسور ومدحور قَالَ القَاضِي وَلما عرف ملك الألمان مَا جرى على أَصْحَابه من اليزك الَّذِي هُوَ من الْعَسْكَر رأى أَن يرجع إِلَى قتال الْبَلَد ويشتغل بمضايقته فَاتخذ من الْآلَات العجيبة والصنائع الغريبة مَا هال النَّاظر إِلَيْهِ وَخيف على الْبَلَد مِنْهُ فمما أحدثه آله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 عَظِيمَة تسمى دبابة يدْخل تحتهَا من الْمُقَاتلَة خلق عَظِيم ملبسة بصفائح الْحَدِيد وَلها من تحتهَا عجل تحرّك بهَا من دَاخل وفيهَا الْمُقَاتلَة حَتَّى يَنْطَح بهَا السُّور وَلها رَأس عَظِيم بِرَقَبَة شَدِيدَة من حَدِيد وَهِي تسمى كَبْشًا يَنْطَح بهَا السُّور بِشدَّة عَظِيمَة لانه يجرها خلق عَظِيم فتهدمه بتكرار نطحها وَآلَة أُخْرَى وَهِي قبو فِيهِ رجال تسحب ذَلِك إِلَّا أَن رَأسهَا محدد على مِثَال السِّكَّة الَّتِي يحرث بهَا وَرَأس الْكَبْش مدور هَذَا يهدم بثقله وَتلك بحدتها وثقلها وَهِي تسمى سفودا وَمن الستائر والسلالم الْكِبَار الهائلة وَأَعدُّوا فِي الْبَحْر بطسة هائلة وصنعوا فِيهَا برجا بخرطوم إِذا أَرَادوا قلبه على السُّور انْقَلب بالحركات وَيبقى طَرِيقا إِلَى الْمَكَان الَّذِي يَنْقَلِب عَلَيْهِ يمشي عَلَيْهِ الْمُقَاتلَة وعزموا على تقريبه إِلَى برج الذبان ليأخذوه بِهِ قَالَ وَنصب الْعَدو على الْبَلَد منجنيقات هائلة حاكمة على السُّور وتواترت حجارتها حَتَّى أثرت فِيهِ أثرا بَينا وَخيف من غائلته فَأخذ سَهْمَان من سِهَام الجرخ الْعَظِيم وأحرق نصلاهما حَتَّى بقيا كالشعلة من النَّار ثمَّ رميا فِي المنجنيق الْوَاحِد فعلقا فِيهِ واجتهد الْعَدو فِي اطفاء النَّار فَلم يقدر على ذَلِك وهبت ريح شَدِيدَة فاشتعل اشتعالا عَظِيما واتصلت لهبته بِالْآخرِ فَأَحْرَقتهُ وَاشْتَدَّ ناراهما بِحَيْثُ لم يقدر أحد أَن يقرب مكانهما ليحتال فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 إطفائهما وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما اشْتَدَّ فِيهِ فَرح الْمُسلمين وغم الْكَافرين قَالَ وَمن نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة ومحاسنها يَعْنِي نَوَادِر مَا جرى فِي الْقِتَال على عكا أَن عواما مُسلما كَانَ يُقَال لَهُ عِيسَى كَانَ يدْخل الْبَلَد بالكتب والنفقات على وَسطه لَيْلًا على غرَّة من الْعَدو وَكَانَ يغوص وَيخرج من الْجَانِب الآخر من مراكب الْعَدو وَكَانَ ذَات لَيْلَة شدّ على وَسطه ثَلَاثَة أكياس فِيهَا ألف دِينَار وَكتب للعسكر وعام فِي الْبَحْر فَجرى عَلَيْهِ أَمر أهلكه وَأَبْطَأ خَبره عَنَّا وَكَانَت عَادَته إِذا دخل الْبَلَد طَار طَائِر عرفنَا بوصوله فَأَبْطَأَ الطَّائِر فاستشعر هَلَاكه فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام بَينا النَّاس على طرف الْبَحْر فِي الْبَلَد وَإِذا الْبَحْر قد قذف إِلَيْهِم مَيتا غريقا فافتقدوه فوجدوه عِيسَى الْعَوام ووجدوا على وَسطه الذَّهَب ومشمع الْكتب وَكَانَ الذَّهَب نَفَقَة الْمُجَاهدين فَمَا رئي من أدّى الْأَمَانَة فِي حَال حَيَاته وَقدر الله لَهُ أداءها بعد وَفَاته إِلَّا هَذَا الرجل وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَجَب أَيْضا وَقَالَ الْعِمَاد فَعدم يَعْنِي عِيسَى وَلم يسمع لَهُ خبر وَلم يظْهر لَهُ أثر فظنت بِهِ الظنون وَمَا تيقنت الْمنون وَكَانَت لَهُ لَا شكّ عِنْد الله منزلَة فَلم يرد أَن تبقى حَاله وَهِي مجملة مُحْتَملَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 فَوجدَ فِي عكا مَيتا قد رَمَاه الْبَحْر إِلَى ساحلها وبرأه الله مِمَّا قَالُوا فَذهب حق الْيَقِين من الظنون بباطلها فصل فِي إحراق مَا حوصر بِهِ برج الذبان وتحريق الْكَبْش قَالَ القَاضِي وَفِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان جهز الْعَدو لَعنه الله بطسا مُتعَدِّدَة لمحاصرة برج الذبان وَهُوَ برج فِي وسط الْبَحْر مَبْنِيّ على الصخر على بَاب ميناء عكا يحرس مِنْهُ الميناء وَمَتى عبره الْمركب أَمن من غائلة الْعَدو فَأَرَادَ الْعَدو أَخذه ليبقى الميناء بِحكمِهِ وَيمْنَع من دُخُول شَيْء من البطس إِلَيْهِ فتنقطع الْميرَة عَن الْبَلَد فَجعلُوا على صواري البطس برجا وملؤوه حطبا ونفطا على أَنهم يَسِيرُونَ البطس فَإِذا قاربت برج الذبان ولاصقته أحرقوا البرج الَّذِي على الصاري وألصقوه ببرج الذبان ليلقوه على سطحه وَيقتل من عَلَيْهِ من الْمُقَاتلَة ويأخذوه وَجعلُوا فِي البطسة وقودا كثيرا حَتَّى يلقى فِي البرج إِذا اشتعلت النَّار فِيهِ وعبوا بطسة ثَانِيَة وملؤوها حطبا ووقودا على أَنهم يدفعونها إِلَى أَن تدخل بَين البطس الإسلامية ثمَّ يلهبونها فتحرق البطس الإسلامية وَيهْلك مَا فِيهَا من المير وَجعلُوا فِي بطسة ثَالِثَة مقاتلة تَحت قبو بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِم نشاب وَلَا شَيْء من آلَات السِّلَاح حَتَّى إِذا أحرقوا مَا أَرَادوا إحراقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 دخلُوا تَحت القبو فَأمنُوا وأحرقوا أَرَادوا مَا أَرَادوا إحراقه وَقدمُوا البطسة نَحْو البرج الْمَذْكُور وَكَانَ طمعهم فأوقدوا مشتدا حَيْثُ كَانَ الْهَوَاء مسعدا لَهُم فَلَمَّا أحرقوا البطسة الَّتِي أَرَادوا يحرقون بهَا بطس الْمُسلمين والبرج الَّذِي أَرَادوا يحرقون بِهِ من على البرج فأقدوا النَّار وضربوا فِيهَا النفط فانعكس الْهَوَاء عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وَأَرَادَ واشتعلت البطسة الَّتِي كَانَ فِيهَا البرج بأسرها واجتهدوا فِي إطفائها فَمَا قدرُوا وَهلك من كَانَ بهَا من الْمُقَاتلَة إِلَّا من شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ احترقت البطسة الَّتِي كَانَت معدة لاحراق بطسنا ووثب أَصْحَابنَا عَلَيْهَا فَأَخَذُوهَا وَأما البطسة الَّتِي فِيهَا القبو فَإِنَّهُم انزعجوا وخافوا وهموا بِالرُّجُوعِ وَاخْتلفُوا واضطربوا اضطرابا عَظِيما فَانْقَلَبت وَهلك جَمِيع من كَانَ بهَا لأَنهم كَانُوا فِي قبو لم يستطيعوا الْخُرُوج مِنْهَا وَكَانَ ذَلِك من أعظم آيَات الله وأندر الْعَجَائِب فِي نصْرَة دين الله وَللَّه الْحَمد وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَقَالَ الْعِمَاد وَعند ميناء عكا فِي الْبَحْر برج يعرف ببرج الذبان وَهُوَ فِي حراسة المينا عَظِيم الشان وهومنفرد عَن الْبَلَد محمي بِالرِّجَالِ وَالْعدَد وَقصد الافرنج حصاره قبل مَجِيء ملك الألمان فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان ببطس كبار جهزوها ومراكب عِظَام الْآلَات أبرزوها ومكر مَكْرُوه ودبر دبروه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وَأحد تِلْكَ المراكب قد ركب برج فَوق صاريه لَا يطاوله طود وَلَا يباريه وَقد حشي حشاه بالنفط والحطب وضيق عطنه لسعة العطب حَتَّى إِذا قرب من برج الذبان والتصق بشرفاته أعدى إِلَيْهِ بآفاته ورميت فِيهِ النَّار فَاحْتَرَقَ وَاحْتَرَقَ من الأخشاب والستائر مَا بِهِ الْتَصق وتستولي النَّار على مَوَاقِف الْمُقَاتلَة فتباعدوا عَنْهَا وَلم يقربُوا مِنْهَا وَأوقدت بطسة الْحَطب الَّتِي من وَرَائِهَا وعادت على الفرنج فالتهبوا وحمي عَلَيْهِم الْحَدِيد فاضطرموا واضطربوا وانقلبت بهم السَّفِينَة فاحترقوا وغرقوا والناجون مِنْهُم فارقوا وَفرقُوا وَلم يفرقُوا واحتمى برج الذبان فَلم يطر من بعْدهَا عَلَيْهِ ذُبَاب وَلم يفتح لِلْعَدو فِي الكيد لَهُ بَاب وَمن كتاب إِلَى سيف الْإِسْلَام بِالْيمن وَمن حَدِيث البرج أَنه يُحِيط بِهِ الْبَحْر من جوانبه وَهُوَ قفل ميناء الثغر على مراكبه وَقد رفعناه وأعليناه وبالعدد وَالرِّجَال قويناه فعمدوا إِلَى أكبر بطسة وَاتَّخذُوا فِيهَا مصقالا كَأَنَّهُ سلم وَهُوَ فِي مقدمها مركب مقدم وَقد جعلوها بِحَيْثُ إِذا قربت إِلَى البرج ركب رَأس السّلم على شراريفه وَصعد الرِّجَال إِلَيْهِ فِي تجاويفه وتعبوا فِي ذَلِك أَيَّامًا وأشبعوه توثيقا وإحكاما حَتَّى إِذا الْتَصق بالبرج ألصقت بِهِ قَوَارِير النفط وتوالت أمطار البلايا من الجروخ والمنجنيقات على أُولَئِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 الرَّهْط ثمَّ عمل الفرنج برجا عَالِيا فِي أكبر مركب وحشوه بالحطب وَعمِلُوا على رَأس صاريه مَكَانا يقْعد فِيهِ الزراق وقدموه إِلَى برج الذبان وسلطوا على جوانبه النيرَان فأهب الله من مهب لطفه نكباء نكتب النَّار عَن البرج المحروس وكبت الفرنج على الْوُجُوه والرؤوس قَالَ القَاضِي وَفِي ثَالِث رَمَضَان زحف الْعَدو على الْبَلَد فِي خلق لَا تحصى فأهملهم أهل الْبَلَد حَتَّى نشبت مخاليب أطماعهم فِيهِ وسحبوا آلاتهم الْمَذْكُورَة حَتَّى قاربوا أَن يلصقوها بالسور وَتحصل مِنْهُم فِي الخَنْدَق جمَاعَة عَظِيمَة فأطلقوا عَلَيْهِم الجروخ والمجانيق والسهام والنيران وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وفتحوا الْأَبْوَاب وهجموا على الْعَدو من كل جَانب وكبسوهم فِي الْخَنَادِق فَهَرَبُوا وَوضع السَّيْف فِيمَن بَقِي فِي الخَنْدَق مِنْهُم ثمَّ هجموا على كبشهم فَألْقوا فِيهِ النَّار والنفط وتمكنوا من حريقه لهرب الْمُقَاتلَة عَنهُ فَأحرق حريقا شنيعا وَظَهَرت لَهُ لهبة نَحْو السَّمَاء وَارْتَفَعت الْأَصْوَات بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَالشُّكْر وسرت نَار الْكَبْش بقوتها إِلَى السفود فَاحْتَرَقَ وعلق الْمُسلمُونَ فِي الْكَبْش الكلاليب الْحَدِيد المصنوعة فِي الأسل فسحبوه وَهُوَ يشتعل حَتَّى حصلوه عِنْدهم فِي الْبَلَد وَكَانَ مركبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 من آلَات هائلة عَظِيمَة وَأُلْقِي المَاء عَلَيْهِ حَتَّى برد حديده بعد أَيَّام وبلغنا من الْبَلَد أَنه وزن مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحَدِيد فَكَانَ مئة قِنْطَار بالشامي وَالْقِنْطَار مئة رَطْل وَلَقَد أنفذوا رَأسه إِلَى السُّلْطَان وَمثل بَين يَدَيْهِ وشاهدته وقلبته وشكله على مِثَال السفود الَّذِي يكون بِحجر الْمدَار قيل إِنَّه يَنْطَح بِهِ السُّور فيهدم مَا يلاقيه وَكَانَ ذَلِك من أحسن أَيَّام الْإِسْلَام وَوَقع على الْعَدو خذلان عَظِيم وَرفعُوا مَا سلم من آلاتهم وسكنت حركاتهم الَّتِي ضيعوا فِيهَا نفقاتهم وَقَالَ الْعِمَاد واستأنف الفرنج عمل دبابة هائلة وَآلَة للغوائل غائلة فِي رَأسهَا شكل عَظِيم يُقَال لَهُ الْكَبْش وَله قرنان فِي طول رُمْحَيْنِ كالعمودين الغليظين وَهَذِه الدبابة فِي هَيْئَة الخربشت الْكَبِير وَقد سقفوها مَعَ كبشها بأعمدة الْحَدِيد ولبسوا رَأس الْكَبْش بعد الْحَدِيد بِالنُّحَاسِ فَلم يبْق للنار إِلَيْهَا سَبِيل وَلَا للعطب عَلَيْهَا دَلِيل وملؤوها بالكماة وَالرُّمَاة وسحبوها وقربوها فَجَاءَت صُورَة مزعجة وبلي الْبَلَد مِنْهَا بالبلاء وَقَالُوا مَا فِي دَفعهَا حِيلَة ونصبوا على صوبها مجانيق ورموا بِالْحِجَارَةِ الثَّقِيلَة ذَلِك النيق فأبعدت رجالها من حواليها ثمَّ رَمَوْهَا بحزم الْحَطب حَتَّى طموا مَا بَين القرنين وقذفوها بالنَّار فَبَاتُوا يطفئونها بالخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وَالْخمر وَقد تمكنت النَّار من أضلاعها ثمَّ خسفها المنجنيق وَخرج من بالثغر فَقطعُوا رَأس الْكَبْش وَاسْتَخْرَجُوا مَا تَحت الرماد من الْعدَد بالنبش وَقدر مَا نهب من الْحَدِيد بمئة قِنْطَار وَعلم الفرنج أَن أَعْمَالهم حبطت وآمالهم هَبَطت وَكَانَ ذَلِك فِي ثَالِث عشر رَمَضَان وَفِيه قدم الظَّاهِر صَاحب حلب والأمجد صَاحب بعلبك وسابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَعز الدّين ابْن الْمُقدم والأمير حسام الدّين حُسَيْن بن باريك وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء والخواص والمماليك فصل فِي حوادث أخر مُتَفَرِّقَة فِي هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَوصل الْخَبَر فِي سادس عشر رَمَضَان من حلب أَن صَاحب أنطاكية أغار على غرَّة بشرة وشرة فرتب أَصْحَابنَا لَهُ كمينا ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِ شمالا ويمينا فَقتلُوا أَكثر رِجَاله وأفلت وباله فِي وباله قَالَ القَاضِي خرج عَلَيْهِ نواب الْملك الظَّاهِر فَقتل من عسكره خَمْسَة وَسَبْعُونَ نَفرا وَأسر مِنْهُم خلق عَظِيم واستعصم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 بِنَفسِهِ فِي مَوضِع يُسمى شيح حَتَّى انْدَفَعُوا وَسَار إِلَى بَلَده قَالَ وَفِي أثْنَاء الْعشْر الْأَوْسَط أَلْقَت الرّيح بطستين فيهمَا رجال وصبيان وَنسَاء وميرة عَظِيمَة وغنم كَثِيرَة قَاصِدين نَحْو الْعَدو فغنمها الْمُسلمُونَ وَكَانَ الْعَدو قد ظفر لنا ببركوس فِيهِ نَفَقَة وَرِجَال أَرَادَ الدُّخُول إِلَى الْبَلَد فَأَخَذُوهُ فَوَقع الظفر بِهَاتَيْنِ البطستين ماحيا لذَلِك وجابرا لَهُ قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذَا التَّارِيخ أَلْقَت الرّيح إِلَى سَاحل زيب بطستين خرجتا من عكا بِجَمَاعَة من الرِّجَال وَالصبيان وَالنِّسَاء وفيهَا امْرَأَة محتشمة غنية مُحْتَرمَة فأخذتا وَأخذُوا وَأخذت وجد الفرنج فِي استنقاذها فَمَا استنقذت قَالَ وَفِي تَاسِع عشر الشَّهْر رحلنا إِلَى منزلَة تعرف بشفر عَم وَسَببه أَنه كثر المستأمنون من الفرنج وأخبروا أَنهم فِي عزم الْخُرُوج إِلَى المرج هائجين للثأر ثائرين إِلَى الهيجاء فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان أمراءه فَقَالُوا الصَّوَاب أَن نفسح لَهُم عَن هَذِه المروج حَتَّى يكون دُخُولهمْ إِلَيْهَا يَوْم الْخُرُوج فنصبحهم فِي الْيَوْم الآخر وَلَا يتَعَذَّر بهم إحداق العساكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 فخيمنا هُنَاكَ ورحبت الْمنَازل وعذبت المناهل وعادت معالم تِلْكَ المجاهل وحللنا التلاع والآكام وركزنا بِتِلْكَ الْأَعْلَام الْأَعْلَام ونزلنا لمقام الشتَاء مستعدين ولأسباب التوقي من الأمطار مستنجدين قَالَ وَمرض زين الدّين صَاحب إربل فِي شهر رَمَضَان وَتُوفِّي فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين مِنْهُ قَالَ القَاضِي وَكَانَ اسْتَأْذن فِي الرواح فَلم يُؤذن لَهُ فَاسْتَأْذن فِي الِانْتِقَال إِلَى الناصرة فَأذن لَهُ فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا يمرض نَفسه ثمَّ توفّي وَعِنْده أَخُوهُ مظفر الدّين يُشَاهِدهُ وحزن النَّاس عَلَيْهِ لمَكَان شبابه وغربته قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا نحيا سخيا وبكرنا إِلَى مظفر الدّين نعزيه فِي أَخِيه وظننا بِهِ الْحزن فَقُلْنَا نعظه ونسليه فَإِذا هُوَ فِي شغل شاغل عَن العزاء مهتم بِالِاحْتِيَاطِ على مَا خَلفه وَتَركه من الأشياع والأشياء وهوجالس فِي مخيم أَخِيه الْمُتَوفَّى وَقد أشرف على حفظه وأوفى وَقد قبض على جمَاعَة من أمرائه واعتقلهم وَعجل عَلَيْهِم وَمَا أغفلهم مِنْهُم صارم الدّين بن بلداجي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 مُتَوَلِّي خفتيان كَانَ ليتسلم مِنْهُ الْمَكَان وَكَذَلِكَ كل حَاضر لَهُ حصن ليحصل لَهُ من طَاعَته أَمن وخاطب فِي أَسبَاب ولَايَة إربل وأعمالها وَأَن يسْتَقلّ ببلادها وأموالها وَرغب فِي شهرزور واستضافتها لاستنارة وجاهته بهَا واستفاضتها وَأَنه ينزل على حران والرها وسميساط والموزر وَيجْعَل كل مَا فِي يَده من الْأَعْمَال فِي الموفر ويخدم بِخَمْسِينَ ألف دِينَار ويحضرها نَقْدا ويلتزم بهَا على الْمِيثَاق عقدا فأجيبت رغبته وَأُصِيبَتْ طلبته وَعقد لِوَاؤُهُ ونجح رجاؤه وَأَرَادَ سرعَة الرحيل فاستمهل إِلَى حِين وُصُول الْملك المظفر تَقِيّ الدّين لينزل فِي مَنْزِلَته بجنده وَصَحبه الميامين فوصل يَوْم الْأَحَد ثَالِث شَوَّال وأضيف إِلَيْهِ مَا استعيد من مظفر الدّين من الْأَعْمَال وَكتب منشور إربل وَكتاب إِلَى صَاحب الْموصل فِيهِ لَا شكّ فِي إحاطة الْعلم بانتقال زين الدّين إِلَى جوَار الله ومقر رَحمته مُجَاهدًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فِي سَبِيل الله شاكرا لنعمته وَهُوَ من السُّعَدَاء الَّذين أنزل الله تَعَالَى فيهم {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله} فَمَا أفجع الْقُلُوب بمصابه وَمَا أنكى فِي النُّفُوس فلول شبا شبابه وَلَقَد كَانَت الهمة متوفرة على تَرْبِيَته واعلاء دَرَجَته وَلَكِن الله تَعَالَى اسْتَأْثر بِهِ قبل ظُهُور حسن الْآثَار فِي ايثاره وبلي بدره التم بسراره وَأصْبح فِي ضمير البلى من أسراره وَهَذِه إربل من إنعام الْبَيْت الْكَرِيم الأتابكي على الْبَيْت الزيني مذ سبعين عَاما لم يحلوا لعقد أنعامهم بهَا نظاما وَلم يزِيدُوا أَحْكَامه إِلَّا إحكاما وإبراما وَمَا أرى أَن يخرج هَذَا الْموضع مِنْهُم وَأَن يصدف بِهِ عَنْهُم والأمير الْأَجَل مظفر الدّين كَبِير الْبَيْت وحاميه والمقدم فِي الْولَايَة بِمُقْتَضى وَصِيَّة أَبِيه وَقد أنهض ليسد مسد أَخِيه قَالَ وَكَانَ الْملك المظفر تَقِيّ الدّين مُتَوَلِّيًا مذ سِنِين أَعمال ميافارقين فَطلب من عَمه تَفْوِيض كل مَا وَرَاء الْفُرَات إِلَيْهِ والاعتماد فِيهِ عَلَيْهِ فأنعم عَلَيْهِ بذلك فَأَقَامَ عندنَا بالمنزلة المظفرية إِلَى أَن يُؤذن لَهُ فِي الْمُضِيّ إِلَى تِلْكَ الْولَايَة وسير نوابه إِلَيْهَا لابقاء رعاياها على شِيمَة الرِّعَايَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 قَالَ وَلما أحس الْعَسْكَر الشَّرْقِي بالشتاء أبدوا خلق السَّآمَة وضجروا من الاقامة فَأَما عماد الدّين صَاحب سنجار فانه عرف كَرَاهِيَة السُّلْطَان لفراقه فَلم يجر إِلَّا على وفاقه وَأما صَاحب الجزيرة سنجر شاه فَإِنَّهُ استطال الْمقَام وأباه وَدخل يَوْم عيد الْفطر على السُّلْطَان فَقبل يَده وودعه من غير سَابِقَة الاسْتِئْذَان فأغضبه انْفِصَاله وساءه ارتحاله وَكَانَ تَقِيّ الدّين واصلا فلقي صَاحب الجزيرة عَنَّا فاصلا فَرده عَن طَرِيقه وجد فِي تعويقه وَرجع بِهِ إِلَى الرِّضَا وَعَفا الله عَمَّا مضى وَقَالَ القَاضِي ترددت رسله ورقاعه إِلَى السُّلْطَان فِي طلب الدستور وَالسُّلْطَان يعْتَذر بِأَن رسل الْعَدو متكررة فِي معنى الصُّلْح وَلَا يجوز أَن تنفض العساكر حَتَّى نتبين على مَاذَا ينْفَصل الْحَال من سلم أَو حَرْب فَلَمَّا كَانَ يَوْم عيد الْفطر دخل على السُّلْطَان وَهُوَ ملتاث الْجِسْم فَقبل يَده وَخرج وسارمن سَاعَته وَمَعَهُ أَصْحَابه فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان صَنِيعه كتب إِلَيْهِ إِنَّك أَنْت قصدت الانتماء إِلَيّ ابْتِدَاء وراجعتني فِي ذَلِك مرَارًا وأظهرت الخيفة على نَفسك وبلدك من أهلك فقبلتك وآويتك ونصرتك فبسطت يدك فِي أَمْوَال النَّاس وَدِمَائِهِمْ وأعراضهم فنفذت إِلَيْك ونهيتك عَن ذَلِك مرَارًا فَلم تَنْتَهِ فاتفق وُقُوع هَذِه الْوَاقِعَة للاسلام فدعوناك فَأتيت بعسكر قد عَرفته وعرفه النَّاس وأقمت هَذِه المديدة وقلقت هَذَا القلق وتحركت بِهَذِهِ الْحَرَكَة وانصرفت عَن غير طيب نفس وَغير فصل حَال مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 الْعَدو فَانْظُر لنَفسك وَأبْصر من تنتمي إِلَيْهِ غَيْرِي واحفظ نَفسك مِمَّن يقصدك فَمَا بَقِي لي إِلَى جَانِبك الْتِفَات وَسلم الْكتاب إِلَى نجاب فَلحقه قَرِيبا من طبرية فَقَرَأَ الْكتاب وَلم يلْتَفت وَسَار فَلَقِيَهُ تَقِيّ الدّين عِنْد عقبَة فيق فَأخْبرهُ بأَمْره وتعتب على السُّلْطَان كَيفَ لم يخلع عَلَيْهِ وَلم يَأْذَن لَهُ فِي الرواح ففهم تَقِيّ الدّين انْفِصَاله عَن غير دستور من السُّلْطَان فَأمره بِالرُّجُوعِ وَقَالَ أَنْت صبي وَلَا تعلم غائلة هَذَا الْأَمر فَقَالَ مَا يمكنني الرُّجُوع فَقَالَ ترجع من كل بُد من غير اختيارك وَكَانَ تَقِيّ الدّين شَدِيد الْبَأْس مقداما على الْأُمُور لَيْسَ فِي عينه من أحد شَيْء فَلَمَّا علم أَنه قابضه إِن لم يرجع رَجَعَ مَعَه وَسَأَلَ السُّلْطَان الصفح عَنهُ فَفعل وَطلب أَن يُقيم فِي جوَار تَقِيّ الدّين خشيَة على نَفسه فَأذن لَهُ فَأَقَامَ فِي جواره إِلَى حِين ذَهَابه قَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح وَطَالَ على الْملك عماد الدّين صَاحب سنجار الْمقَام وجد فِي الاسْتِئْذَان فِي الرحيل مِنْهُ الاهتمام وتقرر ملاله وتكرر سُؤَاله فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان (من ضَاعَ مثلي من يَدَيْهِ ... فليت شعري مَا استفادا) فَلَمَّا قَرَأَ هَذَا الْبَيْت مَا راوح فِي الْخطاب وَلَا غادى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَقَالَ فِي الْبَرْق وَفِي مستهل ذِي القعده أذن لعلاء الدّين خرم شاه ابْن صَاحب الْموصل ونعت بِالْملكِ السعيد لما تفرس فِيهِ من أَمَارَات السعد وَأقَام بعده عَمه عماد الدّين وَابْن عَمه معز الدّين سنجر شاه وهما صاحبا سنجار والجزيرة وحبوا بالحباء الوافر والعطايا الغزيرة وَمَا فارقا إِلَّا فِي السّنة الْأُخْرَى فِي ثَالِث صفر قَالَ وغلت الأسعار عِنْد الفرنج حَتَّى بلغت الغرارة أَكثر من مئة دِينَار والسعر من الزِّيَادَة لديهم فِي اسْتعَار وبلوا بِأُمُور صعبة وهرب إِلَيْنَا مِنْهُم عصبَة بعد عصبَة فاستأمنوا إِلَيْنَا لفرط جوعهم وَلما شَبِعُوا عندنَا لم يَرْغَبُوا فِي رجوعهم فَمنهمْ من أسلم فَحسن إِسْلَامه وَمِنْهُم من خدم فَوَافَقَ استخدامه وَمِنْهُم من حن إِلَى إلفه فَرجع الْقَهْقَرَى إِلَى خَلفه فصل كَانَ القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله فِي هَذِه الْأَوْقَات بالديار المصرية يرتب للسُّلْطَان أُمُوره من تجهيز العساكر وتعمير الأسطول وَحمل المَال وَنقل المير إِلَى عكا وَالسُّلْطَان يكاتبه فِي مهماته وَترجع أجوبته بِأَحْسَن عباراته مُشِيرا وناصحا ومسليا وباحثا عَن مصَالح الْإِسْلَام متقصيا فَمن بعض كتبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الْمَمْلُوك يُنْهِي أَن الله تَعَالَى لَا ينَال مَا عِنْده إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَلَا تفرج الشدائد إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والامتثال لأمر شَرِيعَته والمعاصي فِي كل مَكَان بادية والمظالم فِي كل مَوضِع فَاشِية وَقد طلع إِلَى الله تَعَالَى مِنْهَا مَا لايتوقع بعْدهَا إِلَّا مَا يستعاذ مِنْهُ وَقد أجْرى الله تَعَالَى على يَد مَوْلَانَا أبقاه الله من فتح الْبَيْت الْمُقَدّس مَا يكون بِمَشِيئَة الله لَهُ حجَّة فِي رِضَاهُ ونعوذ بِاللَّه أَن يكون حجَّة لَهُ فِي غَضَبه بلغ الْمَمْلُوك من كل وَارِد مِنْهُ مُكَاتبَة ومخاطبة بِأَنَّهُ على صفة تقشعر مِنْهَا الأجساد وتتصدع بذكرها الأكباد والمملوك لَا يتَعَرَّض لتفصيل مَا بلغه من ظُهُور الْمُنْكَرَات فِيهِ وشيوع الْمَظَالِم فِي ضيَاعه وخراب الْبَلَد وَعدم الْقُدْرَة على المرمة لقبة الصَّخْرَة وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وبالغفلة من مرمتهما وبفقدهما فِي أشتية الْقُدس الْعَظِيمَة الجليلة المثلجة لَا يُؤمن سُقُوطهَا وافتضاح الْقُدْرَة فِي الْعَجز عَن إعادتهما والمرمة أقرب متناولا من الْإِنْشَاء والتجديد وَلَا شُبْهَة أَن مَوْلَانَا عز نَصره فِي أشغال شاغلة وَأُمُور متشددة وقضايا غير وَاحِدَة وَلَا مُتعَدِّدَة وَلَكِن قد ابْتُلِيَ النَّاس فصبروا وأضجرتهم الْأَيَّام فَمَا ضجروا وَأي عبَادَة أعظم من عِبَادَته الَّتِي قَامَ بهَا وَالنَّاس عَنْهَا قعُود وصبر فِي طلب جنتها على نَارِي الْحَرْب وَالْوَقْت ذواتي الْوقُود غير أَن مَوْلَانَا إِذا ذكر نصِيبه من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 الاقدام فَلَا ينسى نصِيبه من الحزم وَلَا يعجل فِي الْأُمُور الخطيرة وَلَا يقدم بِالْعدَدِ الْقَلِيل على الْعدة الْكَثِيرَة فالمولى إِذا قَاتل كَانَ وَاحِدًا وَإِذا دبر كَانَ بالخلق وَلَا يطْمع بِأَن يقوم بِهِ الْألف وليذكر الْمولى نوبَة الرملة الَّتِي كَانَ وُقُوعهَا من الله سُبْحَانَهُ أدبا لَا غَضبا وتوفيقا لَا اتِّفَاقًا وَلَا يكره الْمولى أَن تطول مُدَّة الِابْتِلَاء بِهَذَا الْعَدو فثوابه يطول وحسناته تزيد وأثره فِي الْإِسْلَام يبْقى وفتوحاته بِمَشِيئَة الله يعظم موقعها وَالْعَاقبَة للتقوى {ولينصرن الله من ينصره} وَالله تَعَالَى يشْكر لمولانا جهاده بِيَدِهِ وبرأيه وبولده وبخاصته وبعامة جنده والاعداء فِي أعدائه كجهاده بِصَاحِب صيدا فِي الفرنج فَهُوَ جِهَاد قد أربى فِيهِ رَأْي الْمولى فرجح وَالْحَدِيد بالحديد يفلح وأكيد مَا قوتل بِهِ الْعَدو سلاحه وأسرع جنَاح طَار لقبضه جنَاحه ودولة مَوْلَانَا كالبحر كرما وَظُهُور عجائب وكالسماء مَطَرا وأسنة كواكب وَمن كتاب آخر الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بَين يَدي مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر لطف الله بِقَلْبِه وَحمل عَنهُ وروح سره وَوصل الرَّاحَة بِهِ ونسأل أَن يرحمه بِنَا الَّذِي رحمنا بِهِ فقد بلغت الْقُلُوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَقد وقفت فِي طرقنا الذُّنُوب وبينما نَحن لنتظر من كتب الْمولى مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَن قلب الْمولى قد طَابَ وَقصد الْعَدو قد خَابَ إِذْ ترد كتب يكون الْوُقُوف عَلَيْهَا قَاطعا للأكباد مفتتا للقلوب وَلَو أَنَّهَا جماد ثمَّ ذكر البطس الَّذِي تقدم ذكرهَا الْوَاصِلَة إِلَى عكا لَيْلَة نصف شعْبَان فَقَالَ وَبينا نَحن نعتقد أَن البطس فِي عكا وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط وَيَوْم وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط نَحن على انْتِظَار خُرُوجهَا مِنْهُ وَكتب البطائق بالاستحثاث والاستعجال وتحذيرهم من تمادي الْمقَام وَمَا تَيَقنا أخرجت أم هِيَ بَاقِيَة كَأَن الرّيح فِي بَيت مَا خرجت مِنْهُ فِي هَاتين الجمعتين وَلها من تَارِيخ خُرُوجهَا من الاسكندرية وَإِلَى تَارِيخ تسطير هَذِه الْخدمَة خَمْسَة عشر يَوْمًا والعيون ممدودة وَالْأَيْدِي مَرْفُوعَة بِأَن يفرج الله عَنَّا وعنكم بوصولها فَمن شبع فِي هَذِه الْأَيَّام فَمَا واسى الْمُسلمين وَمن نَام ملْء عَيْنَيْهِ فَمَا هُوَ من أخوة الْمُؤمنِينَ والمملوك شفيق على البطس فِي وَقت الدُّخُول حذر أَن يعْتَرض الْعَدو طريقها فيحول بَينهَا وَبَين الْوُصُول فينعكس المُرَاد بهَا وَيحدث من الْمضرَّة بحرمانها أَضْعَاف مَا يحدث من النِّعْمَة بالفرج الْمسير فِيهَا وأكد هَذِه الْحَال فِي نفس الْمَمْلُوك وُقُوفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 على كتب أَصْحَابنَا من عكا وَقد وَقع لَهُم هَذَا الْوَاقِع الَّذِي وَقع للمملوك من خوفهم عَلَيْهَا واستبعادهم دُخُولهَا فَمَا الْمَمْلُوك وكل من يعرف الْأَمر إِلَّا كَأَهل الصِّرَاط رب سلم رب سلم فنسأل الله سُبْحَانَهُ أَلا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فنعجز وَلَا إِلَى النَّاس فنضيع ومجهود أهل الأَرْض قد انْتهى وَبَقِي مَا يَفْعَله الله وَالْخَيْر منتظر مِنْهُ والفرج بالقوت قد سير فِي الْبَحْر من خَمْسَة عشر يَوْمًا والفرج بِالنَّفَقَةِ قد سير فِي الْبر من عشرَة أَيَّام وَالله يَا مَوْلَانَا مَا ينجز شَيْء من هَذِه الْأُمُور إِلَى أَن تضرب الْوُجُوه بالشوك وتستحلب الْحِجَارَة وينبه النوام وتبح الْأَصْوَات من التذْكَار وتحفى الأقلام من الْكِتَابَة ويخضع لمن يلْزمه الشّغل كالخضوع لمن لَا يلْزمه وَالله الْمُسْتَعَان فَلْيخْلصْ الْمولى نِيَّته فِي الِاسْتِعَانَة فالأعوان قَلِيل (وَقد كَانُوا إِذا عدوا قَلِيلا ... فقد صَارُوا أقل من الْقَلِيل) وَمن كتاب آخر وَمَا تجدّد لِلْعَدو من الشُّرُوع فِي آلَات الْحصار لعكا وَمَا أرجف بِهِ من النجدتين الفرنجيتين الْوَاصِلَة والبعيدة وافتراق العساكر فِي هَذَا الْوَقْت للضَّرُورَة والتماس الْعَسْكَر الشَّرْقِي الدستور للضجر وحاجة الْمولى من الانفاق إِلَى مَا لَا يَسعهُ التَّدْبِير ويضيق عَنهُ الامكان ومطالبة الْغَنِيّ بِالزِّيَادَةِ مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 الْغَنِيّ والضعيف بِأَكْثَرَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ وضياع فرْصَة بعد فرْصَة وَاخْتِلَاف رَأْي بَين المستشارين من الْجَمَاعَة وجود الْأَلْسِنَة بالآراء وبخل الْأَيْدِي بالمعونة وانفراد الْمولى بالتعب واشتراك النَّاس فِي الرَّاحَة وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ الْمُسلمُونَ من مرض أظهروه ليَكُون لَهُم عذرا فِي الْقعُود وكتمه الْمولى على نَفسه لِئَلَّا يجلب لِأَصْحَابِنَا ضعف النُّفُوس فَهَذِهِ الْأُمُور وَإِن كَانَت شَدَائِد وزائدات على العوائد فقد ألهم الله مَوْلَانَا فِيهَا سَعَة الصَّدْر وَحسن الصَّبْر ليشعره أَن صبره يعقبه النَّصْر وحسبته يعقبه الْأجر وَلَو لم ير الله تَعَالَى أَن قُوَّة مَوْلَانَا أكمل القوى وَعُرْوَة عزمه أوثق العرى لما أَهله لِأَن ينصر مِلَّة لَا يعرف الْمَمْلُوك غير الله ينصرها وَغير مَوْلَانَا يُبَاشر النُّصْرَة ويحضرها فَلَيْسَ إِلَّا التجرد للدُّعَاء والتجلد للْقَضَاء فَلَا بُد من قدر مفعول وَدُعَاء مَقْبُول وَمن الْأَمْثَال الْمَنْظُومَة (نَحن الَّذين إِذا علوا لم يبطروا ... يَوْم الْهياج وَإِن علوا لم يضجروا) ومعاذ الله أَن يفتح علينا الْبِلَاد ثمَّ يغلقها وَأَن يسلم على يدينا الْقُدس ثمَّ ينصره ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على النَّصْر ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على الصَّبْر واذا كَانَ مَا يقدم الله إِلَيْهِ المماليك قبله الْمولى لَا بُد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 مِنْهُ وَهُوَ لِقَاء الله سُبْحَانَهُ فَلِأَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة لنا خير من أَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة علينا فَلَا تعظم هَذِه الفتوق على مَوْلَانَا فتبهر صبره وتملأ صَدره {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون وَالله مَعكُمْ} وَهَذَا دين مَا غلب بِكَثْرَة وَلَا نصر بثروة وَإِنَّمَا اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ أَرْبَاب نيات وَذَوي قُلُوب مَعَه وحالات فَلْيَكُن الْمولى نعم الْخلف لذَلِك السّلف {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} واشتدي أزمة تنفرجي والغمرات تذْهب ثمَّ لَا تجي وَالله تَعَالَى يسمع الْأذن مَا يسر الْقلب وَيصرف عَن الْإِسْلَام وَأَهله غاشية هَذَا الكرب ونستغفر الله الْعَظِيم فانه مَا ابتلى إِلَّا بذنب وَمن كتاب آخر يَا مَوْلَانَا أعلم أَن الله تَعَالَى قد فعل لَك مَا فعله لنَفسِهِ وَدلّ على لطفه بك كَمَا دلّ على قدرته فانه تَعَالَى خلق الْخلق من غير مَادَّة وَأقَام السَّمَاء بِغَيْر عمد وَكَذَلِكَ فعل الله بك خلقك بِغَيْر شَبيه فِي الْمُلُوك كرما ودينا وَسَهل لَك من مصر مَالا من غير جِهَة وَحمى مِنْهَا بلادا بِغَيْر جند وَسكن لَك فِيهَا رعية بِغَيْر وُلَاة فاشكر الله وَلَا تحتقر خدمَة من يَبِيع الأنفاس وَالنَّوْم والراحة اجْتِهَادًا فِيمَا يريحك ويخفف عَنْك ثمَّ لَا يُرِيد الْعِوَض مِنْك إِنَّمَا يُريدهُ من الله عَنْك لِأَن خدمتك طَاعَة لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وَالْوُجُوه الَّتِي وَقعت الاشارة إِلَيْهَا خضنا فِيهَا وَفِي غَيرهَا فَمَا وجدنَا أَكثر مِمَّا بلغنَا إِلَيْهِ يَا مَوْلَانَا لَيْسَ لَك فِي مصر إِلَّا الثغور وَمَا عملت فِي هَذِه السّنة إِلَّا بِقدر ثمن حبال مَا سير إِلَيْك من الأساطيل إِن الله آخذ بيد الْكَرِيم والمعونة بِحَسب الْمُؤْنَة فليهن الْمولى الْعَافِيَة من الْحساب فشتان مَا حِسَاب من كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم ينفقها فِي سَبِيل الله وحساب من قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا فِي سَبِيل الله وَمن كتاب آخر وَمَا فِي نفس الْمَمْلُوك شَائِبَة إِلَّا بَقِيَّة هَذَا الضعْف الَّذِي بجسم مَوْلَانَا فانه بقلوبنا ونفديه بأسماعنا وأبصارنا (بِنَا معشر الخدام مَا بك من أَذَى ... وَإِن أشفقوا مِمَّا أَقُول فَبِي وحدي) وَمن كتاب آخر إِنَّمَا أَتَيْنَا من قبل أَنْفُسنَا وَلَو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا وَلَو أطعناه لما عاقبنا بعدونا وَلَو فعلنَا مَا نقدر عَلَيْهِ من أمره لفعل لنا مَا لانقدر عَلَيْهِ إِلَّا بِهِ فَلَا يستخصم أحد إِلَّا عمله وَلَا يلم إِلَّا نَفسه وَلَا يرج إِلَّا ربه وَلَا ينْتَظر العساكر أَن تكْثر وَلَا الْأَمْوَال أَن تحضر وَلَا فلَان الَّذِي يعْتَقد عَلَيْهِ أَن يُقَاتل وَلَا فلَان الَّذِي ينْتَظر أَنه يُشِير فَكل هَذِه مشاغل عَن الله لَيْسَ النَّصْر بهَا وَلَا نَأْمَن أَن يكلنا الله إِلَيْهَا والنصر بِهِ واللطف مِنْهُ وَالْعَادَة الجميلة لَهُ ونستغفر الله سُبْحَانَهُ من ذنوبنا فلولا أَنَّهَا تسد طَرِيق دعائنا لَكَانَ جَوَاب دعائنا قد نزل وفيض دموع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 الخاشعين قد غسل وَلَكِن فِي الطَّرِيق عائق خار الله لمولانا فِي الْقَضَاء السَّابِق واللاحق وَفِي كتاب آخر وصف فِيهِ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ابْن السُّلْطَان ثمَّ قَالَ وَلَو شَاهد مَوْلَانَا الْيَوْم شخصه الْكَرِيم وَصورته الجميلة وَنَفسه الطاهرة ونظرته المطرقة وصفحته الحيية وَسُكُون حركاته الموزونة لخلع مَوْلَانَا عَلَيْهِ فُؤَاده ووهبه عينه ورقاده وَلَقَد يرد الْمولى عرصات الْقِيَامَة وثواب فِرَاقه لَهُ لوجه الله أعظم من ثَوَاب جهاده فِي سَبِيل الله وَإِن إِيمَانًا صبره عَن ذَلِك الْوَلَد الْكَرِيم لكريم وَإِن إِيمَانًا أسلى عَن ذَلِك الْملك الْعَظِيم لعَظيم وَمن كتاب آخر وعسكرنا لَا يشكو وَالْحَمْد لله مِنْهُ خورا إِنَّمَا يشكو مِنْهُ ضجرا والقوى البشرية لَا بُد أَن يكون لَهَا حد والأقدار الالهية لَهَا قصد وكل ذِي قصد خَادِم قَصدهَا وواقف عِنْد حَدهَا وَإِنَّمَا ذكر الْمَمْلُوك هَذَا ليرْفَع الْمولى من خاطره مقت المتقاعس من رِجَاله كَمَا يثبت فِيهِ شكر المسارع من أبطاله قَالَ الله تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر} يَا مَوْلَانَا أَلَيْسَ الله تَعَالَى اطلع على قُلُوب أهل الأَرْض فَلم يؤهل وَلم يستصلح وَلم يخْتَر وَلم يسهل وَلم يسْتَعْمل وَلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 يستخدم فِي إِقَامَة دينه وإعلاء كَلمته وتمهيد سُلْطَانه وحماية شعاره وَحفظ قبْلَة موحديه إِلَّا أَنْت هَذَا وَفِي الأَرْض من هُوَ أَحَق للنبوة قرَابَة وَمن لَهُ المملكة وراثة وَمن لَهُ فِي المَال كَثْرَة وَمن لَهُ فِي الْعدَد ثروة فَأَقْعَدَهُمْ وأقامك وكسلهم ونشطك وقبضهم وبسطك وحبب الدُّنْيَا إِلَيْهِم وبغضها إِلَيْك وصعبها عَلَيْهِم وهونها عَلَيْك وَأمْسك أَيْديهم وَأطلق يدك وأغمد سيوفهم وجرد سَيْفك وأشقاهم وأنعم عَلَيْك وثبطهم وسيرك {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} نعم وَأُخْرَى أهم من الأولى أَنه لما اجْتمعت كلمة الْكفْر من أقطار الأَرْض وأطراف الدُّنْيَا ومغرب الشَّمْس ومزخر الْبَحْر مَا تَأَخّر مِنْهُم مُتَأَخّر وَلَا استبعد الْمسَافَة بَيْنك وَبينهمْ مستبعد وَخَرجُوا من ذَات أنفسهم الخبيثة لَا أَمْوَال تنْفق فيهم وَلَا مُلُوك تحكم عَلَيْهِم وَلَا عَصا تسوقهم وَلَا سيف يزعجهم مهطعين إِلَى الدَّاعِي ساعين فِي أثر السَّاعِي وهم من كل حدب يَنْسلونَ وَمن كل بر وبحر يقبلُونَ كنت يَا مَوْلَانَا أبقاك الله كَمَا قيل (وَلست بِملك هازم لنظيره ... وَلَكِنَّك الْإِسْلَام للشرك هازم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 هَذَا وَلَيْسَ لَك من الْمُسلمين كَافَّة مساعد إِلَّا بدعوة وَلَا مُجَاهِد مَعَك إِلَّا بِلِسَانِهِ وَلَا خَارج مَعَك إِلَّا بهم وَلَا خَارج بَين يَديك إِلَّا بِالْأُجْرَةِ وَلَا قَانِع مِنْك إِلَّا بِزِيَادَة تشتري مِنْهُم الخطوات شبْرًا بِذِرَاع وذراعا بباع تدعوهم إِلَى الله وكأنما تدعوهم إِلَى نَفسك وتسألهم الْفَرِيضَة وكأنك تكلفهم النَّافِلَة وَتعرض عَلَيْهِم الْجنَّة وكأنك تُرِيدُ أَن تستأثر بهَا دونهم والآراء تخْتَلف بحضرتك والمشورات تتنوع بمجلسك فَقَائِل لم لَا نتباعد عَن الْمنزلَة وَآخر لم لَا نَمِيل إِلَى الْمُصَالحَة ومتندم على فَائت مَا كَانَ فِيهِ حَظّ ومشير بمستقبل مَا يلوح فِيهِ رشد ومشير بالتخلي عَن عكا حَتَّى كَأَن تَركهَا تغليق الْمُعَامَلَة وَمَا كَأَنَّهَا طَلِيعَة الْجَيْش وَلَا قفل الدَّار وَلَا خرزة السلك إِن وهت تداعى السلك وانبت فِي يَد الْملك فألهمك الله قتل الْكَافِر وَخلاف المخذل والتجلد وَتَحْت قدمك الْجَمْر وأفرشك الطُّمَأْنِينَة وَتَحْت جَنْبك الوعر (وَلَكِن مَوْلَانَا صفيحة وَجهه ... كضوء شهَاب القابس المتنور) (قَلِيل التشكي للمهم يُصِيبهُ ... كثير الْهوى شَتَّى النَّوَى والمسالك) لَا شُبْهَة أَن الْمَمْلُوك قد أَطَالَ وَلَكِن قد اتَّسع المجال وَمَا مُرَاده إِلَّا أَن يشْكر الله على مَا اخْتَارَهُ لَهُ ويسره عَلَيْهِ وحببه إِلَيْهِ فَرب ممتحن بِنِعْمَة وَرب منعم عَلَيْهِ بِمَشَقَّة وَكم مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه ومرحوم من بلوى هِيَ دواؤه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وَيُرِيد الْمَمْلُوك بِهَذَا أَن لَا يتَغَيَّر لمولانا أبقاه الله وَجه عَن بشاشة وَلَا صدر عَن سَعَة وَلَا لِسَان عَن حَسَنَة وَلَا ترى مِنْهُ ضجرة وَلَا تسمع مِنْهُ نهرة فالشدة تذْهب وَيبقى ذكرهَا والأزمة تنفرج وَيبقى أجرهَا وكما لم يحدث اسْتِمْرَار النعم لمولانا عز نَصره بطرا فَلَا تحدث لَهُ سَاعَات الامتحان ضجرا والمملوك يستحسن بَيْتِي حَاتِم ومولانا أبقاه الله وخلد سُلْطَانه وَملكه يحفظهما (شربنا بكأس الْفقر يَوْمًا وبالغنى ... وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا سقانا بِهِ الدَّهْر) (فَمَا زادنا بغيا على ذِي قرَابَة ... غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر) والمملوك بِأَن يسمع أَن مَوْلَانَا عز نَصره على مَا يعهده من سَعَة صَدره أسر مِنْهُ بِمَا يسمعهُ من بشائر نَصره وياليتني كنت مَعَهم وماذا كَانَت تصنع الْأَيَّام إِمَّا شيبا من مُشَاهدَة الحروب فقد شبنا وَالله من سَماع الْأَخْبَار أَو غرما يُمكن خَلفه من الوفر فقد غرمنا فِي بعد مَوْلَانَا مَا لَا خلف لَهُ من الْعُمر أَو مرض جسم فخيره مَا كَانَ الطَّبِيب حاضره وَلَقَد مرضنا أَشد الْمَرَض لفراقه إِلَّا أَن التجلد ساتره وَمن كتب أخر الْمَمْلُوك يُوصي الْمولى بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَام هُوَ قلب الْمولى فيروحه وَلَا يحملهُ مَا يشْغلهُ ويثقله ويوصي الْمولى بقلوب الْمُسلمين وَقُلُوب الْمُسلمين جسم مَوْلَانَا أبقاه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 من علم أَنه لَا توفيه رواتب الْحَيَاة اشْتغل قلبه واستطار لبه وضعفت نَفسه فيحسب الْمولى من جهاده تفقد جِسْمه وإلانة مطعمه وترويح خطراته فقد بلغ الْمَمْلُوك من حمله على نَفسه مَا يخْشَى على مَوْلَانَا الاثم فِيهِ وَإِنَّمَا نتجشم كل مشقة لنسلم مِنْهُ وَنحن فِي ضرّ قد مسنا وَلَا نرجو لكشفه إِلَّا من ابْتُلِيَ بِهِ وَفِي طوفان فتْنَة وَلَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم وَلنَا ذنُوب قد سدت طَرِيق دعائنا فَنحْن أولى بِأَن نلوم أَنْفُسنَا وَللَّه قدر لَا سلَاح لنا فِي دَفعه إِلَّا أَن نقُول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَقد أَشْرَفنَا على أهوال {قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب} وَقد جمع الْعَدو لنا وَقيل لنا اخشوه فَقُلْنَا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل متنجزين بذلك مَوْعُود الانقلاب بِنِعْمَة من الله وَفضل فَمَا نرجو إِلَّا ذَلِك الْفضل الْعَظِيم وَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِعَانَة بِاللَّه فَمَا دلنا الله فِي الشدائد إِلَّا على الدُّعَاء لَهُ وعَلى طروق بَاب كرمه وعَلى التضرع إِلَيْهِ {فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ونعوذ بِاللَّه من الْقَسْوَة وَمن الْقنُوط من الرَّحْمَة وَمن الْيَأْس من الْفرج فانه لَا ييأس مِنْهُ إِلَّا مسلوب الرشد مطرود عَن الله مَقْطُوع الْحَظ مِنْهُ وَلَا حِيلَة إِلَّا بترك الْحِيلَة بل قصد من تمْضِي أقداره بِلَا حِيلَة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِن علم الله من جند مَوْلَانَا أَنهم قد بذلوا المجهود فقد عذرهمْ فيعذرهم الْمولى وَإِن علم أَنهم قد ذخروا قُوَّة أَو قصروا فِي نصْرَة كلمة الله فيكفيهم مقت الله الْمَمْلُوك يذكر الْمولى بصبره وبرحب صَدره وبفضل خلقه وبتقواه لرَبه وبمداراة مزاجه وببرء الْقُلُوب الإسلاميه ببرء جِسْمه {وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم} الْآيَة إِلَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَالْمولى أولى بِهَذَا الْبَيْت (لَا بطر إِن تَتَابَعَت نعم ... وصابر فِي الْبلَاء محتسب) قيل للمهلب أَيَسُرُّك ظفر لَيْسَ فِيهِ تَعب فَقَالَ أكره عَادَة الْعَجز وَلَا بُد أَن تنفذ مَشِيئَة الله فِي خلقه وَلَا راد لحكمه فَلَا يتسخط مَوْلَانَا بِشَيْء من قدره فَلِأَن يجْرِي الْقَضَاء وَهُوَ رَاض مأجور خير من أَن يجْرِي وَهُوَ ساخط موزور فيصطلي نَار الشدَّة أَعَاذَهُ الله مِنْهَا وَلَا يجد رَاحَة الثَّوَاب وفر الله حَظه مِنْهُ من شكا بثه وحزنه إِلَى الله شكا إِلَى مشتكى واستغاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 بِقَادِر وَمن دَعَا ربه دُعَاء خفِيا اسْتَجَابَ لَهُ استجابة ظَاهِرَة فلتكن شكوى مَوْلَانَا إِلَى الله خُفْيَة عَنَّا وَلَا يقطع الظُّهُور الَّتِي لَا تشتد إِلَّا بِهِ وَلَا يضيق صدورا لَا تنفرج إِلَّا مِنْهُ وَمَا شرد الْكرَى وَأطَال على الأفكار ليل السرى إِلَّا ضائقة الْقُوت بعكا لم يبْق إِلَّا ضعف نعم الْمعِين عَلَيْهِ ترويح النَّفس واعفاؤها من الْفِكر فقد علم مَوْلَانَا بِالْمُبَاشرَةِ أَنه لَا يدبر الدَّهْر إِلَّا بِرَبّ الدَّهْر وَلَا ينفذ الْأَمر إِلَّا بِصَاحِب الْأَمر وَأَنه لَا يقل الْهم إِن كثر الْفِكر (قد قلت للرجل الْمقسم أمره ... فوض إِلَيْهِ تنم قرير الْعين) كل مقترح يُجَاب إِلَيْهِ إِلَّا ثغرا يصير نَصْرَانِيّا بعد أَن أسلم أَو بَلَدا يخرس فِيهِ الْمِنْبَر بعد أَن تكلم يَا مَوْلَانَا هَذِه اللَّيَالِي الَّتِي رابطت فِيهَا وَالنَّاس كَارِهُون وسهرت فِيهَا والعيون هاجعة وَهَذِه الْأَيَّام الَّتِي يُنَادى فِيهَا يَا خيل الله ارْكَبِي وَهَذِه السَّاعَات الَّتِي تزرع الشيب فِي الرؤوس وَهَذِه الغمرات الَّتِي تفيض فِيهَا الصُّدُور بِمَائِهَا بل بنارها هِيَ نعْمَة الله عَلَيْك وغراسك فِي الْجنَّة ومجملات محضرك {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا} وَهِي مجوزاتك الصِّرَاط وَهِي مثقلات الْمِيزَان وَهِي دَرَجَات الرضْوَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 فاشكر الله عَلَيْهَا كَمَا تشكره على الفتوحات الجليلة وَاعْلَم أَن مثوبة الصَّبْر فَوق مثوبة الشُّكْر وَمن ربط جأش أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَوْله لَو كَانَ الصَّبْر وَالشُّكْر بَعِيرَيْنِ مَا باليت أَيهمَا ركبت وبهذه العزائم سبقُونَا وتركونا لَا نطمع بالغبار وامتدت خطاهم ونعوذ بِاللَّه من العثار مَا اسْتعْمل الله فِي الْقيام بِالْحَقِّ إِلَّا خير الْخلق وَقد عرف مَا جرى فِي سير الْأَوَّلين وَفِي أنباء النَّبِيين وَأَن الله تَعَالَى حرض نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَهْتَدِي بهداهم وَأَن يسْلك سبيلهم ويقتدي بأولي الْعَزْم مِنْهُم وَمَا تغلو الْجنَّة بِثمن وَمَا ابتلى الله سُبْحَانَهُ من عباده إِلَّا من يعلم أَنه يصبر وَأُمُور الدُّنْيَا ينْسَخ بَعْضهَا بَعْضًا وَكَأن مَا قد كَانَ لم يكن وَيذْهب التَّعَب وَيبقى الْآجر (وَإِنَّمَا يقظات الْعين كَالْحلمِ ... ) أهم الْوَصَايَا أَن لَا يحمل الْمولى هما يضعف بِهِ جِسْمه ويضر مزاجه وَالْأمة بُنيان وَهُوَ أبقاه الله قَاعِدَته وَالله يثبت تِلْكَ الْقَاعِدَة الْقَائِمَة فِي نصْرَة الْحق وَمِمَّا يستحسن من وَصَايَا الْفرس إِن نزل بك مَا فِيهِ حِيلَة فَلَا تعجز وَإِن نزل بك مَا لَيْسَ فِيهِ حِيلَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَلَا تجزع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 وَرب وَاقع فِي أَمر لَو اشْتغل عَن حمل الْهم بِهِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ مَعَ مَقْدُور الله لانصرف همه وكفي خطبه {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} هَذَا سُلْطَان هُوَ بحول الله أوثق مِنْهُ بسلطانه قَاتَلت الْمُلُوك بطمعها وَقَاتل هَذَا بايمانه وَإِذا نظر الله إِلَى قلب مَوْلَانَا لم يجد فِيهِ ثِقَة بِغَيْرِهِ وَلَا تعويلا على قُوَّة إِلَّا على قوته فهنالك الْفرج ميعاده واللطف مِيقَاته فَلَا يقنط من روح الله وَلَا يقل {مَتى نصر الله} وليصبر فَإِنَّمَا خلق للصبر بل ليشكر فالشكر فِي مَوضِع الصَّبْر أَعلَى دَرَجَات الشُّكْر وَليقل لمن ابتلى أَنْت الْمعَافي وليرض عَن الله سُبْحَانَهُ فَإِن الرضي عِنْد الله هُوَ الْمُسلم الراضي فَأَما أَخْبَار فتْنَة بِلَاد الْعَجم فسبحان من ألحق قُلُوبهم بألسنتهم {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ} وَكتب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي الْفَاضِل كتابا من بِلَاد الفرنج يُخبرهُ عَمَّا لَاحَ لَهُ من أَمَارَات النَّصْر وَيَقُول مَا أَخَاف إِلَّا من ذنوبنا أَن يأخذنا الله بهَا فَكتب إِلَيْهِ الْفَاضِل فَأَما قَول مَوْلَانَا إننا نَخَاف أَن نؤخذ بذنوبنا فالذنوب كَانَت مثبتة قبل هَذَا الْمقَام وَفِيه محيت والآثام كَانَت مَكْتُوبَة ثمَّ عُفيَ عَنْهَا بِهَذِهِ السَّاعَات وعفيت فَيَكْفِي مُسْتَغْفِرًا لِسَان السَّيْف الْأَحْمَر فِي الْجِهَاد وَيَكْفِي قارعا لأبواب الْجنَّة صَوت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 مقارعة الأضداد وبعين الله موقفك وَفِي سَبِيل الله مقامك ومنصرفك وطوبى لقدم سعت فِي منهاجك وطوبى لوجه تلثم بمثار عجاجك وطوبى لنَفس بَين يَديك قتلت وَقتلت وَأَن الخواطربشكر الله فِيك عَن شكرها لَك قد شغلت فصل كَانَ بَلغنِي أَن السُّلْطَان رَحمَه الله لما اشْتَدَّ امْر الفرنج على عكا أرسل إِلَى ملك الْمغرب يستنجد بِهِ عَلَيْهِم ليقطع عَنهُ مادتهم من جِهَة الْبَحْر وَكنت أتطلب حَقِيقَة ذَلِك وأبحث عَن شرح الْحَال فِيهِ فَإِن الْعِمَاد وَالْقَاضِي لم يتعرضا لَهُ فِي كتبهما غير أَن الْعِمَاد ذكر كتابا كتبه القَاضِي الْفَاضِل إِلَى رسولهم بالمغرب يستنجز مِنْهُ مَا كَانَ أرسل لأَجله وَسَيَأْتِي وغرضي كَانَ الِاطِّلَاع على نفس كتاب الرسَالَة ومضمونها ثمَّ أَرَانِي بعض الشُّيُوخ الصلحاء الثِّقَات بِخَطِّهِ مَا كنت أرومه فنقلته على وَجهه قَالَ نُسْخَة كتاب كتبه القَاضِي الْفَاضِل ونقلته من خطه لِابْنِ منقذ يَأْمُرهُ فِيهِ بِالسَّفرِ إِلَى الْمغرب بِأَمْر الْملك النَّاصِر صَلَاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الدّين رَحمَه الله يستنصر بِملك الْمغرب يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن لما حصر الفرنج خذلهم الله عكا بعد كسرة حطين وَفتح بَيت الْمُقَدّس وَالْكتاب الَّذِي سير إِلَى الْمغرب والهدية الَّتِي حملت يَأْتِي ذكر ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْأَمِير الْأَجَل الاسفهسلار الْأَصِيل الْعَالم الْمُحْتَرَم شمس الدّين عدَّة الْإِسْلَام جمال الْأَنَام تَاج الدولة أَمِين الْملَّة صفوة الْمُلُوك والسلاطين شرف الْأُمَرَاء مقدم الْخَواص أدام الله توفيقه وَيسر طَرِيقه وأنجح مقْصده وأعذب مورده وحرس مغيبه ومشهده وأسعد يَوْمه وغده تستخير الله سُبْحَانَهُ وتتوجه كَيْفَمَا يسر الله إِلَى الْجِهَة الإسلامية المغربية حرس الله جَانبهَا وَنصر كتائبها ومراكبها وتستقري فِي الطَّرِيق وَفِي الْبِلَاد من أَخْبَار الْقَوْم فِي أَحْوَالهم وآدابهم وأخلاقهم وأفعالهم وَمَا يحبونه من القَوْل نزره أَو جمه وَمن اللِّقَاء منبسطه أَو منقبضه وَمن الْقعُود بمجالسهم مخففه أَو مطوله وَمن التَّحِيَّات المتهاداة بَينهم مَا صيغته وَمَا موقعه وَهل هِيَ السّنَن الدِّينِيَّة أَو العوائد الملوكية وَلَا تلقه إِلَّا بِمَا يُحِبهُ وَلَا تخاطبه إِلَّا بِمَا يسره وَالْكتاب قد نفذ إِلَيْهِ وَلم يخْتم لتعلم مَا خُوطِبَ بِهِ وَالْمَقْصُود أَن تقص الْقَصَص عَلَيْهِ من أول وصولنا إِلَى مصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وَمَا أزلنا من الْبدع بهَا وعطلنا من الالحاد فِيهَا ووضعنا من الْمَظَالِم عَنْهَا وَإِقَامَة الْجُمُعَة وَعقد الْجَمَاعَة فِيهَا وغزواتنا الَّتِي تواصلت إِلَى بِلَاد الْكفْر من مصر فَكَانَت مُقَدّمَة لملك الشَّام الإسلامي باجتماع الْكَلِمَة علينا ومقدمة لملك الشَّام الفرنجي بانقياد الْمُسلمين لنا وإصفاق الْمُلُوك المجاورين على طاعتنا وتفصل مَا جرى لنا مَعَ الفرنج من الْغَزَوَات الْمُتَقَدّمَة الَّتِي جسنا فِيهَا خلال دِيَارهمْ وَجعلهَا الله تَعَالَى مُقَدمَات لما سبق فِي علمه من أَسبَاب دمارهم وَمَا أعقبها من كسرتنا لَهُم الكسرة الْكُبْرَى وَفتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَتلك على الْإِسْلَام منَّة الله الْعُظْمَى إِلَى غير ذَلِك من أَخذ الثغور وافتتاح الْبِلَاد واثخان الْقَتْل فيهم والأسر لَهُم واستنجاد بَقِيَّتهمْ لفرنج الْمغرب وَخُرُوج نجداتهم وَكَثْرَتهَا وقوتها ومنعتها وَغِنَاهَا وثروتها ومسارعتها ومبادرتها وَأَنه لَا يمْضِي يَوْم إِلَّا عَن قُوَّة تتجدد وميرة تصل وأموال وَاسِعَة تخرج ومعونات كَثِيرَة تحمل وَأَن ثغرنا حصره الْعَدو وحصرنا نَحن الْعَدو فَمَا تمكن من قتال الثغر وَلَا تمكن من قتالنا وَخَنْدَق على نَفسه عدَّة خنادق فَمَا تمَكنا من قِتَاله وَقدم إِلَى الثغر أبرجة أحرقها أَهله وَخرج مرَّتَيْنِ إِلَى عسكرنا فَكسر الْعَدو الْكثير أَقَله فانه اغتنم أوقاتا لم تكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 العساكر فِيهَا مَجْمُوعَة وارتاد سَاعَات لم تكن الأهب فِيهَا مَأْخُوذَة وأقدم على غرَّة استيقظت فِيهَا نصْرَة الله لنا وخذلانه لَهُم فَقتل الله الْعَدو الْقَتْل الذريع وأوقع بِهِ الفتك الشنيع وأجلت إِحْدَى الحركتين عَن عشْرين ألف قَتِيل من الْكفَّار خرجت أَنْفسهَا إِلَى مصارعها وهمدت أجسامها فِي مضاجعها والعدو وَإِن حصر الثغر فَإِنَّهُ مَحْصُور وَلَو أبرز صفحته لَكَانَ بِإِذن الله هُوَ المثبور المكسور وتذكر مَا دخل الثغر من أساطيلنا ثَلَاث مَرَّات واختراقها مراكبهم وَهِي الْأَكْثَر ودخولها بالميرة بِحكم السَّيْف الأطهر وَأَن أَمر الْعَدو مَعَ ذَلِك قد تطاول وخطبه قد تَمَادى ونجدته تتواصل وَمِنْهَا ملك الألمان فِي جموع جماهيرها مجمهرة وأموال قناطيرها مقنطرة وَأَن عساكرنا لَو أَدْرَكته لما استدرك وَلَوْلَا سبقه لَهَا بِالدُّخُولِ إِلَى أنطاكية لتلف وَهلك وتذكر أَن الله قَصم طاغية الألمان وَأَخذه أَخْذَة فرعونية بالاغراق فِي نهر الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ طَرِيقه إِلَى الاحراق فِي نَار الْآخِرَة وَأَن هَذَا الْعَدو لَو أرسل الله عَلَيْهِ أسطولا قَوِيا مستعدا يقطع بحره وَيمْنَع ملكه لأخذنا الْعَدو بِالْجُوعِ والحصر أَو برز فأخذناه بيد الله تَعَالَى الَّتِي بهَا النَّصْر فان كَانَت الأساطيل بالجانب المغربي ميسرَة وَالْعدة مِنْهَا متوفرة وَالرِّجَال فِي اللِّقَاء فارهة وللمسير غيركارهة فالبدار البدار وَأَنت أَيهَا الْأَمِير فِيهَا أول من استخار الله وَسَار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وَإِن كَانَت دون الأسطول مَوَانِع إِمَّا من قلَّة عدَّة وَإِمَّا من شغل هُنَاكَ بمهمة أَو بِمُبَاشَرَة عَدو إِمَّا تحصن مِنْهُ الْعَوْرَة أَو قد لاحت مِنْهُ الفرصة فالمعونة مَا طريقها وَاحِدَة وَلَا سَبِيلهَا مسدودة وَلَا أَنْوَاعهَا محصورة تكون تَارَة بِالرِّجَالِ وَتارَة بِالْمَالِ وَمَا رَأينَا أَهلا لخطابنا وَلَا كُفؤًا لانجادنا وَلَا محقوقا بدعوتنا وَلَا ملبيا بنصرتنا إِلَّا ذَلِك الجناب فَلم ندعه إِلَّا لواجب عَلَيْهِ وَإِلَى مَا هُوَ مُسْتَقل بِهِ ومطيق لَهُ فقد كَانَت تتَوَقَّع مِنْهُ همة تقد فِي الغرب نارها ويستطير فِي الشرق سناها وتغرس فِي العدوة القصوى شجرتها فينال من فِي الْعَدو الدُّنْيَا جناها فَلَا ترْضى همته أَن يعين الْكفْر الْكفْر وَلَا يعين الْإِسْلَام الْإِسْلَام وَمَا اخْتصَّ بالاستعانة إِلَّا لِأَن الْعَدو جَاره وَالْجَار أقدر على الْجَار وَأهل الْجنَّة أولى بِقِتَال أهل النَّار وَلِأَنَّهُ بَحر والنجدة بحريّة وَلَا غرو أَن تجيش الْبحار وَإِن سُئِلَ عَن المملوكين يوزبا وقراقوش وَذكر مَا فعلا فِي أَطْرَاف الْمغرب بِمن مَعَهُمَا من نفايات الرِّجَال الَّذين نفتهم مقامات الْقِتَال فيعلمهم أَن المملوكين وَمن مَعَهُمَا لَيْسُوا من وُجُوه المماليك والأمراء وَلَا من الْمَعْدُودين فِي الطواشية والأولياء وَإِنَّمَا كسدت سوقهما وتبعهما ألفاف أمثالهما وَالْعَادَة جَارِيَة أَن العساكر إِذا طَالَتْ ذيولها وَكَثُرت جموعها خرج مِنْهَا وانضاف إِلَيْهَا فَلَا يظْهر مزيدها وَلَا نَقصهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وَلَا كَانَ هَذَانِ المملوكان مِمَّن إِذا غَابَ أحضر وَلَا مِمَّن إِذا فقد افْتقدَ وَلَا يقدر فِي مثلهمَا أَنه مِمَّن يَسْتَطِيع نكاية وَلَا يَأْتِي بِمَا يُوجب شكوى من جِنَايَة ومعاذ الله أَن نأمر مُفْسِدا بِأَن يفْسد فِي الأَرْض {إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت} إِن سُئِلَ عَن النّوبَة المصرية وَمَا فعل بجندها فليعلمهم الْأَمِير أَن الْقَوْم راسلوا الْكفَّار وأطمعوهم فِي تَسْلِيم الديار فأشفى الْإِسْلَام على أَمر شَدِيد وَكَاد يقرب على الْكفْر أَمر بعيد فَلم يُعَاقب الْجَيْش بل أَعْيَان المفسدين فقوبلوا بِمَا يجب وَكَانُوا دعاة كفر وضلال ومحاربين لله بِمَا سعوا فِي الأَرْض من فَسَاد فَأَما بَقِيَّة الْجَيْش وَإِن كَانَ بَينهم من هُوَ تبع للمذكورين فِي الرِّضَا فَإِنَّهُم اقْتصر بهم على أَن لَا يَكُونُوا جندا وَمِنْهُم من أجريت عَلَيْهِ أرزاق تبلغه وشملته أَمَنَة تسكنه وَأما الْهَدِيَّة المسيرة على يَد الْأَمِير فتفصيلها يرد فِي كتاب الأميرالأجل الاسفهسلار الْعَالم الْكَبِير مجد الدّين سيف الدولة أدام الله علوه مَقْرُونا بالهدية الْمَذْكُورَة وَمَعَ قرب الشتَاء فَلم يبْق إِلَّا الاستخارة وَالتَّسْمِيَة ومبادرة الْوَقْت قبل أَن يغلق الْبَحْر انفتاح الأشتية وَالله سُبْحَانَهُ يوفق الْأَمِير ويسهل سَبيله وَيهْدِي دَلِيله ويكلؤه بِعَيْنِه ويمده بعونه وَيحمل رَحْله ويبلغه أَهله ويشرح لَهُ صَدره وييسر لَهُ أمره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكتب فِي ثامن وَعشْرين شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فصل فِي نُسْخَة الْكتاب إِلَى ملك الْمغرب والهدية العنوان بَلَاغ إِلَى مَحل التَّقْوَى الطَّاهِر ومستقر حزب الله الظاهرمن الْمغرب أَعلَى الله بِهِ كلمة الايمان وَرفع بِهِ منار الْبر والاحسان بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه يُوسُف بن أَيُّوب أما بعد فَالْحَمْد لله الْمَاضِي المشية الممضي الْقَضِيَّة الْبر بالبرية الحفي بالحنيفية الَّذِي اسْتعْمل عَلَيْهَا من استعمر بِهِ الأَرْض وأغنى من أَهلهَا من سَأَلَهُ الْقَرْض وأجزل أجر من أجْرى على يَده النَّافِلَة وَالْفَرْض وزان سَمَاء الْملَّة بدراري الذَّرَارِي الَّتِي بَعْضهَا من بعض وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد الَّذِي أنزل عَلَيْهِ كتابا فِيهِ الشِّفَاء والتبيان وَبنى الْإِسْلَام بأمته الَّتِي شبهها صَاحبهَا بالبنيان وعَلى آله وَصَحبه الَّذين اصطفاهم وطهرهم ونصروه وظاهروا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنصرهم وأظهرهم وَيسر بهم السَّبِيل ثمَّ السَّبِيل يسرهم وَإِن الله بهم لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم {رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم} وَهَذِه التَّحِيَّة الطّيبَة الْكَرِيمَة الصيبة الْوَاجِبَة الرَّد الْمُوجبَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 للقصد العذبة الْورْد المتنفسة عَن العنبر الْورْد وقادة على دَار الْملك ومدار النّسك وَجل الْجَلالَة وأصل الْأَصَالَة وَرَأس الرياسة وَنَفس النفاسة وَحكم الحكم وَعلم الْعلم وقائم الدّين وقيمه ومقدم الْإِسْلَام ومقدمه ومقتضي دين الدّين ومثبت الْمُتَّقِينَ على الْيَقِين ومعلي الْمُوَحِّدين على الْمُلْحِدِينَ أدام الله لَهُ النُّصْرَة وجهز بِهِ الْعسرَة ورد لَهُ الكرة وَبسط لَهُ بَاعَ الْقُدْرَة وأوثق بِهِ حَبل الألفة ومهد لَهُ دَرَجَات الغرفة وعرفه فِي كل مَا يعتزمه صنعا جزيلا جميلا ولطفا خفِيا جَلِيلًا وَيسر عَلَيْهِ فِي سَبيله كل مَا هُوَ أَشد وطأ وأقوم قيلا تَحِيَّة استنير مِنْهَا الْكتاب واستثيب عَنْهَا الْجَواب وحفز لَهَا حافزان أَحدهمَا شوق قديم كَانَ مطل غَرِيمه مُمكنا إِلَى أَن تيَسّر الْأَسْبَاب وَالْآخر مرام عَظِيم مَا كره إِذا استفتحت بِهِ الْأَبْوَاب وَكَانَ وَقت المواصلة وموسم الْمُكَاتبَة هناءة بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس وَسُكُون الْإِسْلَام مِنْهُ إِلَى المقيل والمعرس وَمَا فتح الله للاسلام من الثغور وَمَا شرح لأَهله من الصُّدُور وَمَا أنزلهُ عَلَيْهِم من النُّور وَلم يخل الْمُسلمُونَ فِيهِ من دعوات أسرار ذَلِك الصَّدْر وملاحظات أنوار ذَلِك الْبَدْر ومطالعات تِلْكَ الْجِهَة الَّتِي هِيَ وَإِن كَانَت غربية فَإِن الغرب مستودع الْأَنْوَار وكنز دِينَار الشَّمْس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 ومصب أَنهَار النَّهَار وَمن جَانِبه يَأْتِي سُكُون اللَّيْل ومستروح الْأَسْرَار وَعنهُ {يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} وَلم تتأخر الْمُكَاتبَة إِلَّا ليتم الله مَا بَدَأَ من فَضله وليفتح بَقِيَّة مَا لم يَنْقَطِع بتقطع يَد الشّرك من حبله والمفتتح بيد الله من الشَّام مدن وأمصار وبلاد كبار وصغار وثغور وقلاع كَانَت للشرك معاقل وللإسلام معاقر ولبني الْكفْر مصانع ولبني الْإِسْلَام مصَارِع وَالْبَاقِي بيد الْكفْر مِنْهَا ثغرا طرابلس وصور ومدينة أنطاكية يسر الله أمرهَا وَفك من يَد الْكفْر أسرها وَإِذا أَمن الْمُؤمن على هَذِه الدعْوَة رُجي ايجابها وَمَا يتَأَخَّر من الله سُبْحَانَهُ جوابها فالدعاء أحد السلاحين وَمَعَ النِّيَّة يطير إِلَى وَكره من السَّمَاء بجناحين بعد أَن كسر الْعَدو الكسرة الَّتِي لم يجْبر بعْدهَا وألجىء إِلَى حصونه الَّتِي للحصر أعدهَا وَكَانَ يَوْمهَا كَرِيمًا ولطف الله فِيهَا عَظِيما قَضَت كل حَاجَة فِي النَّفس وأغنت الْمُسلمين فَأَما الْعَدو بعد يَوْمهَا فَكَأَن لم يغن بالْأَمْس وَكَانَت على أثر غزوات قبلهَا فَمَا الظَّن بالمجهزة بعد النكس وَلم يُؤَخر فتح الْبِلَاد بعْدهَا إِلَّا أَن فرع الْكفَّار بِالشَّام استصرخ بِأَصْل الْكفَّار من الغرب فأجابوهم رجَالًا وفرسانا وشيبا وشبانا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وزرافات ووحدانا وَبرا وبحرا ومركبا وظهرا وركبوا إِلَيْهِم سهلا ووعرا وبذلوا ماعونا وذخرا وَمَا احتاجوا ملوكا ترتادهم وَلَا أرسانا تقتادهم بل خرج كل يُلَبِّي دَعْوَة بطركه وَلَا يحْتَاج إِلَى عَزمَة ملكه وَخرجت لَهُم عدَّة مُلُوك أقفلت العجمة على أسمائها وَأَتَتْ العزمة بِحَمْد الله على أشخاصها عِنْد لقائها وَمِنْهُم ملك الألمان خرج فِي جموع بَريَّة من الله تَعَالَى بَريَّة مَلَأت الفجاج وازدحمت فَمَا نفذها العجاج وَمِنْهُم من ركب ثبج الْبَحْر فَركب الأجاج العجاج وامتطى من الْبَحْر مَتنه الرجاج لينصر دينا مشبه الزّجاج يقبل الْكسر وَلَا يسْرع إِلَيْهِ الْجَبْر وراكب ذَلِك الدّين كراكب الْبَحْر بِلَا سَاحل سَلامَة وَإِلَى قاع كفر وجلب الْكفَّار إِلَى المحصورين بِالشَّام كل مجلوب وملؤوا عَلَيْهِم ثغرتهم من كل مَطْلُوب مَا بَين أقوات وأطعمة وآلات وأسلحة وشكة وجنة وحديد مَضْرُوب وزبرة ونقدي ذهب وَفِضة إِلَى أَن شحنوا بِلَادهمْ رجَالًا مقاتلة وذخائر للعاجلة من حربهم والآجلة لَا تشرق شارقة إِلَّا طلعت على الْعَدو من الْبَحْر طالعة تعوض من الرِّجَال من قتل وتخلف من الزَّاد مَا أكل فهم كل يَوْم فِي حُصُول زِيَادَة ووفور مَادَّة وَقد هان عَلَيْهِم موقع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 الْحصْر وَأَعْطَاهُمْ الْبَحْر مَا مَنعهم الْبر وبطروا لما كَثُرُوا ونظروا فِي أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يلْقوا أَو يصحروا ويستطيعون أَن يحصروا على أَن ينحصروا ونزلوا على عكا بِحَيْثُ يمدهُمْ الْبَحْر بإمداده ويصل إِلَى الْمقَاتل مَا يَحْتَاجهُ من أسلحته وأزواده وبمن تكْثر بِهِ من مقاتلته وأجناده فَانْقَطَعت مَادَّة عكا من الْبَحْر وحصرنا منازليهم من الْعَدو من جِهَة جَانب الْبر فخندقوا على نُفُوسهم وحثوا تُرَاب المصارع على رؤوسهم وعقدت عدتهمْ مئة الف أويزيدون كلما أفناهم الْقَتْل أخلفتهم النجدة فكأنهم بعد الْمَمَات يعودون فاهتممنا بعمارة بحريّة لَقينَا عمارتهم بهَا فنفذت عمارتنا إِلَى الثغر وأوصلت إِلَيْهِ الأقوات الَّتِي حمل مِنْهَا الْبَحْر مَا لَا يحملهُ الظّهْر والأسلحة الَّتِي أمضاها الله عز وَجل بيد الْإِسْلَام فِي صدورالكفر وَمَا لَقينَا عمَارَة الْعَدو بأوفر مِنْهَا عدَّة فعد مراكبهم كَبِير وَلَكِن بأصدق مِنْهَا عَزمَة والقليل مَعَ الْعَزْم الصَّادِق كثير وَاسْتمرّ مقَام الْعَدو محاصرا للثغر محصورا منا اشد الحصرلا يَسْتَطِيع قتال الثغر لأَنا من خَلفه وَلَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج إِلَيْنَا خوفًا من حتفه وَلَا نستطيع نَحن الدُّخُول إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قد سور وَخَنْدَق وحاجز من وَرَاء الحجرات وأغلق وَلما خرج ملك الألمان بحشده وسمعته الَّتِي هِيَ مِنْهُ أحشد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وَعَاد جَيْشه الملعون على رسم قديم إِلَى الشَّام فَكَانَ الْعود لأمة أَحْمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْمد قويت فِيهِ نُفُوسهم وجمحت بِهِ رؤوسهم وظنوا أَنه يزعجنا من مجثمنا ويخرجنا من مخيمنا فَبَعَثنَا إِلَيْهِ من يلقاه بعساكرنا الشمالية فسلك ذَات الشمَال متوعرا فِيهَا محتجزا عَن لقائها مظْهرا أَنه صريع دَاء وَمَا بِهِ غير دائها وَكَانَ أَبوهُ الطاغية ملك الألمان شيبَة اللَّعْن اللعين قَائِد جَيْشه إِلَى سجن سِجِّين قد هلك فِي طَرِيقه غرقا وخاض المَاء فخاضه المَاء شرقا وَبَقِي لَهُ ولد هُوَ الْآن الْمُقدم الْمُؤخر وقائد الْجمع المكسر وَرُبمَا وصلهم إِلَى عكا فِي الْبَحْر تهيبا أَن يسْلك الْبر وَلَو سبق أَصْحَابنَا إِلَى عَسَاكِر الألمان قبل دُخُولهَا إِلَى أنطاكية لأخذوه أخذا سَرِيعا وَسبق مَاء بَحر سيوفهم إِلَى أَن يكون الطاغية فِيهِ لَا فِي النَّهر صَرِيعًا وَلَكِن لله الْمَشِيئَة فِي الْبَريَّة والطاغية إِنَّمَا يمشي إِلَى البلية فانه لَوْلَا احتجاز مقيمهم بالخنادق واجتياز واصلهم بالمضائق لَكَانَ لنا وَلَهُم شان وَكَانَ ليومنا فِي النُّصْرَة الْكُبْرَى بحول الله ثَان لَا يثنيه من الْعَدو ثَان وَلما كَانَت حَضْرَة سُلْطَان الْإِسْلَام وقائد الْمُجَاهدين إِلَى دَار السَّلَام أولى من توجه إِلَيْهِ الْإِسْلَام بشكواه وبثه واستعان بِهِ على حماية نَسْله وحرثه وَكَانَت مساعيه ومساعي سلفه فِي الْجِهَاد الغر المحجلة المؤمرة المؤملة الكاسفة لكل معضلة الكاشفة لكل مشكلة الْأَخْبَار بذلك سائرة والْآثَار ظَاهِرَة والصحف عَنهُ باسمه وَالسير بِهِ معلمة وعالمة وكل بجهاده قد سكن إِلَّا السيوف فِي أغمادها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وَقد أَمن إِلَّا كلمة الْكفْر فِي بلادها لَا يزَال فِي سَبِيل الله غاديا ورائحا ومواجها ومكافحا ومماسيا ومصابحا يجوز لجة الْبَحْر بالمجاهدين ملوكا على الأسرة وغزاة تصافح وجوهها السيوف فَلَا تخمد نور الأسرة يذود الْفرق الْكَافِرَة وَلَو ترك سَبِيلهَا لملأ قراره كل وَاد و {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} ولولاه لأخمدوا شرار كل زناد كَانَ المتوقع من تِلْكَ الدولة الْعَالِيَة والعزمة الغادية مَعَ الْقُدْرَة الوافية والهمة المهدية الهادية أَن يمد غرب الْإِسْلَام الْمُسلمين بِأَكْثَرَ مِمَّا أمد بِهِ غرب الْكفَّار الْكَافرين فيملأها عَلَيْهِم جواري كالأعلام ومدنا فِي اللجج سوائر كَأَنَّهَا اللَّيَالِي مقلعة بِالْأَيَّامِ تطلع علينا معشر الْإِسْلَام آمالا وتطلع على الْكفَّار آجالا وتردنا إِمَّا جملَة وَإِمَّا أَرْسَالًا مسومة تمدها مَلَائِكَة مسومة ومعلمة تقدم حيازيمها إقدام حيزوم تحث أَصْحَابه الحزمة وَإِنَّمَا هِيَ مِنْهُ عَزمَة كَانَت تعين أَصْحَاب الميمنة على أَصْحَاب المشأمة وَكلمَة كَانَت تنفخ الرّوح فِي الْكَلِمَة وَلما استبطئت ظن أَنَّهَا توقفت على الاستدعاء فصرخنا بِهِ فِي هَذِه التَّحِيَّة فقد تحفل السَّحَاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وَلَا تمطر إِلَى أَن تحركها أَيدي الرِّيَاح وَقد ينزل الله النُّصْرَة فَلَا تظهر إِلَى أَن تضرع إِلَيْهَا أَلْسِنَة الصفاح وسير لحضور مَجْلِسه الأطهر وَمحله الْأَنْوَار الْأَمِير الْأَجَل الْمُجَاهِد الْأمين الْأَصِيل شمس الدّين ثِقَة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين سفير الْمُلُوك والسلاطين أَبُو الحزم عبد الرَّحْمَن ابْن منقذ كتب الله سَلَامَته وَأحسن صحابته وَمَا اختير للوفادة إِلَّا من هُوَ أَهلهَا وَلَا حمل الْوَدِيعَة إِلَّا من هُوَ محلهَا وَلَا بعث لنهج الصِّلَة إِلَّا من هُوَ مفتاحها ولأداء الْأَمَانَة إِلَّا من هُوَ قفلها وَمهما استوضح مِنْهُ وَسُئِلَ عَنهُ فَإِنَّهُ على نَفسه بَصِيرَة وَمن الْبَيَان ذُو ذخيرة وَفِي الْعَرَبيَّة ذُو بَيت وعشيرة والمشاهدة لَهُ أوصف على أَن تِلْكَ الْجَلالَة رُبمَا ذعرت الْبَيَان فأخلف وَمَا أجدره بِأَن يُصَادف بسطة على بساطه ونظرا يَأْذَن لَهُ فِي القَوْل على اختصاره وتوسطه وإفراطه فَكل هُوَ بِهِ واف وكل هُوَ للفهم الْكَرِيم كَاف وَالله تَعَالَى يَجْعَل هَذِه العزمة منا فِي استنهاض العزمة مِنْهُ بَالِغَة مبلغا يسر أهل دينه ويوزعهم بهَا اقْتِضَاء دُيُونه من الَّذين اتَّخذُوا إِلَهًا من دونه وَالسَّلَام الصَّادِر عَن الْقلب السَّلِيم والود الصميم والعهد الْكَرِيم على حَضْرَة الْكَرم الْعلية وسدة السِّيَادَة الجلية سَلام مَوَدَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 مَا وَفد الْعَرَب قبلهَا ورسالة مَا خطرت إِلَى أَن بعثت وَرَاءَهَا الْمحبَّة رسلها وَليصل السَّلَام رَحمَه الله وَبَرَكَاته ورضوانه وتحياته إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكتب فِي شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَالْحَمْد لله وَحده وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد نبيه وَآله وَسَلَامه الْهَدِيَّة ختمة كَرِيمَة فِي ربعه مخيشة مسك ثَلَاث مئة مِثْقَال عنبر عشر قلائد عَددهَا سِتّ مئة حَبَّة عود فِي سفط عشرَة أُمَنَاء دهان بِلِسَان مئة دِرْهَم وَاحِدَة قسي بأوتارها مئة وقوسان سروج عشرُون نصول سيوف هندية عشرُون نشاب ياسج خَاص مريش كَبِير ومتوسط ضمن صندوقي خشب مجلدة محددة سبع مئة سهم وَكَانَ إقلاعه من الاسكندرية فِي شيني عِمَارَته مئة وَعِشْرُونَ فِي ثَالِث عشر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَوصل إِلَى اطرابلس أول الْبِلَاد فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال وَأقَام بهَا إِلَى ثامن ذِي الْقعدَة وَتوجه إِلَى الْبِلَاد وَكَانَ الِاجْتِمَاع بالوزير أبي يحيى أبي بكر أبي مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص وَدفع كتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 السُّلْطَان إِلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس سَابِع ذِي الْحجَّة وَكَانَ الدُّخُول على يَعْقُوب وَالسَّلَام عَلَيْهِ فِي الْعشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي هَذَا النَّهَار حملت هَدِيَّة السُّلْطَان إِلَى خزانته وَكَانَ انْفِصَاله من مراكش عَاشر الْمحرم سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَوصل إِلَى الاسكندرية فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فصل لم يحصل من جِهَة سُلْطَان الغرب مَا التمس مِنْهُ النجدة وَبَلغنِي أَنه عز عَلَيْهِم كَونه لم يُخَاطب بأمير الْمُؤمنِينَ على جاري عَادَتهم وَقد كَانَ سُلْطَانا عادلا مظْهرا للشريعة غازيا وَتُوفِّي سنة خمس وَتِسْعين وَفِيه يَقُول شاعره (أهل لِأَن يسْعَى إِلَيْهِ ويرتجى ... ويزار من أقْصَى الْبِلَاد على الوجا) (ملك غَدا بالمكرمات مُقَلدًا ... وموشحا ومختما ومتوجا) (عمرت مقامات الْمُلُوك بِذكرِهِ ... وتعطرت مِنْهُ الرِّيَاح تأرجا) (وجد الْوُجُود وَقد دجا فأضاءه ... وَرَآهُ فِي الكرب الْعِظَام ففرجا) وَفِيه يَقُول ابْن عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله بن عبد الْمُؤمن أَبُو الرّبيع من قصيدة أَولهَا (هبت بنصركم الرِّيَاح الْأَرْبَع ... وَجَرت بسعدكم النُّجُوم الطّلع) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 (إِن قيل من خير الخلائف كلهَا ... فاليك يَا يَعْقُوب تومي الاصبع) (إِن كنت تتلو السَّابِقين فَإِنَّمَا ... أَنْت الْمُقدم وَالْخَلَائِق تبع) وَقد مدحه أَيْضا شمس الدّين ابْن منقذ هَذَا الْمُرْسل إِلَيْهِ من جِهَة السُّلْطَان بقصيدة مِنْهَا (سأشكر بحرا ذَا عباب قطعته ... إِلَى بَحر جود مَا لنعماه سَاحل) (إِلَى مَعْدن التَّقْوَى إِلَى كعبة الْهدى ... إِلَى من سمت بِالذكر مِنْهُ الْأَوَائِل) (إِلَيْك أَمِير الْمُسلمين وَلم تزل ... إِلَى بابك المأمول تزجي الرَّوَاحِل) (قطعت إِلَيْك الْبر وَالْبَحْر موقنا ... بِأَن نداك الْغمر بالنجح كافل) (فَمَا راعني من وجبة الْبر رائع ... وَلَا هالني من زاخر الْبَحْر هائل) (وَمن كَانَ غايات الْمَعَالِي طلابه ... يهون عَلَيْهِ كل أَمر يحاول) (رَجَوْت بقصديك الْعلَا فبلغتها ... وَأدنى عطاياك الْعلَا والفضائل) (فَلَا زلت للعلياء والجود ثَانِيًا ... تبلغك الْأَيَّام مَا أَنْت آمل) وَابْن منقذ هَذَا من أهل بَيت وأدب وَشعر وَله على مَا وجدت بِخَط بعض الثِّقَات (تصرم عمري فِي التغرب والنوى ... وأفنى ارتحالي طارفي وتلادي) (وأخلقت الْأَيَّام برد شبيبتي ... وأصلد من وَقع الخطوب زنادي) (وأشغلني الْحِرْص الْمُوكل فِي الورى ... عَن الْعَمَل المنجي ليَوْم معادي) (فَلَا رَاحَة الْأُخْرَى تيقنت نيلها ... وَلَا أَنا فِي الدُّنْيَا بلغت مرادي) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وَله على لِسَان بعض غلمانه (وَرب قَمِيص دَعَاني إِلَى احْتِمَال ... الرثاثة مِنْهُ الْعَدَم) (أقطب وَجْهي لَهُ كلما ... تهلل لي ضَاحِكا وابتسم) وَمن كتاب فاضلي إِلَى بعض إخوانه وَأما الْأَخْبَار الغربية وإخلال جَانبهَا وَضعف مطلوبها وطالبها فَإِذا انجرت الظلماء إِلَى الغرب فَبِحَق كَمَا أَن الْأَنْوَار الناصرية قد تناصرت فِي الشرق فَالله يسْعد بِلَاد الدُّنْيَا بالانخراط فِي سلك ملكه وَيُمكن من مؤمنها حكم عدله وَمن كافرها سيف فتكه وَالله يجزيها الْخَيْر عَن نِيَّتهَا فِي الْخَيْر وَيكْتب سَلامَة عزمها فِي طرق النَّفْع أتمه السّير ثمَّ إِنِّي وقفت على كتاب فاضلي للسُّلْطَان يشْعر بِأَن الرسَالَة المغربية لم تكن بِرَأْي الْفَاضِل وَلَا هُوَ مُخْتَار لَهَا صورته الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بالْمقَام العالي المولوي الملكي الناصري جعل الله لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة الْمقَام العالي وَأبقى دولته الَّتِي هِيَ الْأَيَّام بِالْحَقِيقَةِ وَالْأَيَّام قبلهَا هِيَ اللَّيَالِي وَيُنْهِي أَن الظَّاهِر بِأَن الْمَمْلُوك عِنْد الْمولى لَيْسَ من أهل الاتهام وَأَن لَهُ وَللَّه الْحَمد آثارا فِي دولته تشهد بهَا الْأَيَّام وآثار السيوف طاحت وَبقيت آثَار الْأَقْدَام والرسالة المغربية لَيْسَ الْمَمْلُوك مُشِيرا بِتَرْكِهَا وَلَا كَارِهًا لسفر رسولها وَلَا مستبعدا مصلحَة قريبَة الْأَمر مِنْهَا لَكِن على وَجههَا وَقد نجزت الْهَدِيَّة المغربية على مَا أَمر بِهِ وَكتب الْكتاب على مَا مثل وفخم الْخطاب وَالْوَصْف فَوق الْعَادة وَبِمَا لَا يُمكن مُخَاطبَة مَخْلُوق بِأَكْثَرَ مِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وَعند وُصُول الْأَمِير نجم الدّين من المخيم الْمَنْصُور فاوضه الْمَمْلُوك فِي أَنه لَا يُمكن إِلَّا التَّعْرِيض لَا التَّصْرِيح بِمَا وَقع لَهُ أَنه لَا تنجح الْحَاجة إِلَّا بِهِ من لَفْظَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَن الَّذين أفاضوا فِي هَذَا الحَدِيث وأشاروا بِهِ قَالُوهُ نقلا وَلَا أحاطوا بِهِ قِيَاسا وَلَا عرفُوا مُكَاتبَة المصريين قَدِيما وَآخر مَا كتب فِي أَيَّام الصَّالح بن رزيك فخوطب فِيهِ أكبر أَوْلَاد عبد الْمُؤمن وَولي عَهده بالأمير الْأَصِيل النجار الجسيم الفخار وعادت الْأَجْوِبَة إِلَى ابْن رزيك وَهُوَ وَزِير سُلْطَان مصر الَّذِي فِي أَتبَاع مَوْلَانَا الْيَوْم مئة مثله مترجمة بمعظم أمره وملتزم شكره هَذَا والصالح يتَوَقَّع أَن يَأْخُذ ابْن عبد الْمُؤمن الْبِلَاد من يَدَيْهِ مَا هُوَ أَن يهرب مملوكان طريدان منا فيستوليا على أَطْرَاف بِلَاده ويصل الْمشَار إِلَيْهِ بِالْأَمر من مراكش إِلَى القيروان فِي سِتَّة أشهر قيلقاهم فيكسر مرّة ويتماسك أُخْرَى وَأعلم الْأَمِير نجم الدّين بذلك فَأمْسك مِقْدَار عشرَة أَيَّام ثمَّ أنفذ الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَيْهِ على يَد ابْن الجليس بِأَن الْهَدِيَّة أُشير عَلَيْهِ بِأَن لَا يستصحبها وَإِن استصحبها تكون هَدِيَّة برسم من حواليه وَأَن الْكتاب لَا يَأْخُذهُ إِلَّا بتصريح أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَن السُّلْطَان عز نَصره رسم لَهُ ذَلِك وَالْملك الْعَادِل دَامَت قدرته بِأَن لَا يسير إِلَّا بِهِ وَأَنه إِذا لَقِي الْقَوْم خاطبهم بِهَذِهِ التَّحِيَّة عَن السُّلْطَان أبقاه الله من لِسَانه فَأَجَابَهُ الْمَمْلُوك بِأَن الْخطاب يَكْفِي وَطَرِيق جحدنا لَهُ مُمكن وَالْكِتَابَة حجَّة تقيد اللِّسَان عَن الانكار وَمَتى قُرِئت على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 مِنْبَر من مَنَابِر الغرب جعلنَا خالعين فِي مَكَان الْإِجْمَاع مبايعين من لَا ينصره الله وَلَا شَوْكَة فِيهِ وَلَا يحل اتِّبَاعه مرخصين الغالي منحطين عَن العالي شاقين عَصا الْمُسلمين مفرقين كلمة الْمُؤمنِينَ مُطِيعِينَ لمن لَا تحل طَاعَته متقلدين لمن لَا تصح ولَايَته فَيفْسد عُقُود الْإِسْلَام وينفتح بَاب تعجز موارده عَن الاصدار بل تمْضِي وتستشف الْأُمُور وَتكشف الْأَحْوَال فَإِن رَأَيْت للْقَوْم شَوْكَة وَلنَا زبدة فعدهم بِهَذِهِ المخاطبة وَاجعَل كل مَا نَأْخُذهُ ثمنا للوعد بهَا خَاصَّة فَامْتنعَ وَقَالَ أَنا أَقْْضِي أشغالي وأتوجه إِلَى الاسكندرية وأنتظر جَوَاب السُّلْطَان عز نَصره وَمَا يفوت وَقت وَإِلَى أَن أنْجز أَمر المراكب وأرتاد الركاب فسير الْمَمْلُوك النُّسْخَة فان وَافَقت فينعم الْمولى على الْمَمْلُوك بترجمة يلصقها على مَا كتبه وَيَأْمُر نجم الدّين بتسلم الْكتاب على أَن ابْن الجليس حَدثهُ عَنهُ أَنه مُمْتَنع من السّفر إِلَّا بالمكاتبة بهَا فَأَما الَّذِي يترجم بِهِ الْمولى عز نَصره فَيكون مثل الَّذِي يدعى بِهِ على الْمِنْبَر لمولانا وَهُوَ الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى يُوسُف بن أَيُّوب أدام الله غنى مَوْلَانَا بالفقر إِلَى ربه وَإِذا كتب الصَّالح بن رز يَك إِلَيْهِم من السَّيِّد الْأَجَل الْملك الصَّالح قبح أَن يكْتب إِلَيْهِ مَوْلَانَا أبقاه الله الْخَادِم وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 مبلغ رَأْي الْمَمْلُوك وَالْمُؤمن لَا يذل نَفسه وقاسم الأرزاق يوصلها وَإِن رغم من جرت على يَده وَإِن كَانَ مَوْلَانَا أعز الله نَصره يَقُول أَنْت غافل وغائب وَمَا تعرف مَا الْإِسْلَام فِيهِ فَلَو حضرت وَعرفت مَا شققت الحَدِيث فجواب مَا نكتب بعد سنتَيْن فَمَا يتخلى الله عَنَّا وَلَا تستمر هَذِه الشدَّة وَلَا نسيء الظَّن بِاللَّه وَإِذا كَانَت لنا إِن شَاءَ الله أخذت جالية من نطلب الْآن مواساته وَإِذا كَانَ الْمَمْلُوك مستجهلا وَغير مستنصح وللضرورة حكمهَا وَالْأَحْوَال الْمَمْلُوك غَائِب عَنْهَا فالمفهوم من الْأَمر للمملوك أَن يتَوَلَّى من الْمُكَاتبَة تَرْتِيب الْمَقَاصِد وتحرير الْأَلْفَاظ وتنضيد الْخَبَر عَمَّا أجراه الله تَعَالَى على يَد مَوْلَانَا عز نَصره والتأني للمطلوب فقد فعل هَذَا كُله فِي النُّسْخَة وَبقيت اللَّفْظَة الَّتِي لَيست كِتَابَة الْمَمْلُوك لَهَا شرطا فِيهَا والمملوك وعقبه مستجيرون بِاللَّه تَعَالَى ثمَّ بالسلطان عز نَصره من تعريضهم لكدر الْحَيَاة وتوقع الْخَوْف ومعاداة من لَا يخفى عَنهُ خبر وَلَا تقال بِهِ عَثْرَة وَيَكْفِي أَن الْمولى بِخَطِّهِ فِي كِتَابه إِلَى الْمَمْلُوك وَفِيمَا هُوَ بِخَط حَضْرَة سيدنَا الْأَجَل عماد الدّين الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي حرسه الله لما وَصِيّ بِأَن لَا يناظر فِي الْخطاب مَا صرح باللفظة فَهِيَ إِمَّا تقية فالمملوك أولى بهَا وَإِمَّا استهانة فَنَفْس الْملك لَا تقاس بِنَفس الْمَمْلُوك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 فان كَانَ لَا بُد فالنسخة بَين يَدَيْهِ وَالْمَقْصُود فِيهَا من زِيَادَة هَذِه اللَّفْظَة مَا يحْتَاج إِلَى تَعْلِيم وَالْكتاب الَّذين يستقلون بِكِتَابَة النُّسْخَة معدومون وَقد نَاب الْمَمْلُوك عَنْهُم وَالْكتاب الَّذين يستقلون بالتبييض موجودون فينوبون عَن الْمَمْلُوك فِي التبييض وَإِلَّا فَكيف يسير رَسُول بِكِتَاب من مصر بِلَا خطّ سُلْطَان وَبِغير حَضرته كتب وَلَا بهدية سَار وبمحضر من البغاددة والمغاربة يعلمُونَ أَن الْكتاب كتب بِمصْر وَيشْهدُونَ بِمَا لم يروه وَمَا لم يقرؤوه من الْخطاب وَإِذا وصل من الْمولى أدام الله أَيَّامه كتاب مختوم وسير وَلم يعلم مَا فِيهِ انْقَطع فضول كثير وخمدت أراجيف شنيعة وَلَا يعْتَقد الْمولى أَن الْمَمْلُوك يعظم الْقَصَص فَمَا للألسنة والأعين شغل إِلَّا السلاطين وأفعالهم وأقوالهم وَلَا لِلْخلقِ خوض إِلَّا فِي أوامرهم وأحوالهم وَلَو علم الْمَمْلُوك أَن هَذَا الَّذِي استعفى مِنْهُ يضرّهُ بِحَيْثُ ينفع الْمولى أبقاه الله لهان عَلَيْهِ وَلكنه مضرَّة بِغَيْر مَنْفَعَة وَتعرض لما تذم عاقبته أَو يبْقى على الْخَوْف مِنْهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ حسن عهد الْمولى وَفضل رأفته فمقصود الْمولى أبقاه الله تَحْصِيل تبييضها بَين يَدَيْهِ وَرُبمَا حصل استتاره وَأمنت المكاره فِيهِ وغمضت الْعُيُون عَنهُ وشحت الْأَيَّام عَلَيْهِ طالع الْمَمْلُوك بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 فصل وللقاضي الْفَاضِل رَحمَه الله من كتب أخر يشْرَح لنا بعض مَا تقدم وَمَا لم نذكرهُ من السّير مِنْهَا قَوْله كتاب بَغْدَاد كتاب بَارِد غث جامد مَا فِيهِ مَقْصُود لقاصد وَلَا صلَة لعائد وَنحن نطلب الذَّهَب الْحَار فَتضْرب فِي حَدِيد بَارِد وَمِنْهَا فِيمَا خرب من الْبِلَاد الفرنجية المغنومة خراب الْبِلَاد فِي هَذَا الْوَقْت الضّيق لَا شُبْهَة فِي تقويته لنَفس الْعَدو وإضعافه لأنفس الْمُسلمين وكل من يسمعهُ يفجؤه من بديهة الْيَأْس مَا يقطع رَجَاءَهُ وَالْمولى يعلم أَن الْعَدو أَخذهَا من المصريين فِي تَمام سِتِّينَ سنة وحفظوها بالانحصار مرّة وبالهدنة أُخْرَى وبالقتال مَرَّات وبولاة سوء لَو كَانَ فيهم خير لما عجزوا عَنْهَا وَنحن قد حملنَا عَن الْعَدو الْمُؤْنَة بتخريب الْبِلَاد الَّتِي كَانَ الْعَدو يُرِيد أَن يحاصرها وينازها وَينصب المنجنيق والبرج عَلَيْهَا وَيخَاف النجدة أَن تصلها وَقُوَّة الْإِسْلَام أَن تثوب إِلَيْهَا ويتوقع أَن يبدهه المصاف قبل النُّزُول عَلَيْهَا فعرفناه أَنه قادم على من لَا سلَاح لَهُ إِلَّا أَن يلقِي السِّلَاح وَلَا حفظ للبلاد إِلَّا أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 نخربها فقد نكلنا عَن اللِّقَاء وفررنا قبل المواجهة وزدنا زِيَادَة عَجِيبَة وَهُوَ أَن المنهزم ينهزم بِالرِّجَالِ وَنحن ننهزم بالبلاد ثمَّ قَالَ وَثُبُوت مَوْلَانَا على عكا هُوَ حراستها وحفظها وَقُوَّة نفس من بهَا وأهون الْأَعْدَاء ملك الألمان لَا يشك مَوْلَانَا أَن جمعه لَا يَفِي بِعشر قراقر من سِتِّينَ قرقورة وصلت إِلَى الفرنج نجدة من بِلَاد الْمَجُوس فِي السّنة الْمَاضِيَة وَإِنَّمَا الزَّائِد سَمعه ملك وَقد هلك وَرَأس وَقد قطع وقائد جَيش وَقد كبا الْحمار وَمِنْهَا عِنْد وُرُود كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ يبشر بعافيته من مرض فِي شهر رَمَضَان أسفرت بشارته عَن أَن الْمولى أَتَاهُ الْفرج وغذاه الْفروج واستقل بِحَمْد الله وَصَحَّ وَقَالَت الْعَافِيَة للمرض تَنَح وَكَانَ مَا فِي كِتَابيه الْأَوَّلين من تَعْرِيف النُّون من الْحَمد لله رب الْعَالمين فِيهِ أثر ضعف ينتقده صيارفة الخطوط فَأَما هَذَا الْكتاب الْمُبَارك فقد صحت فِيهِ التعريقة وقويت الْيَد وطلعت النُّون أهم إِلَيْنَا من مطلع الْهلَال الفطري الَّذِي يُشبههُ الشُّعَرَاء بالنُّون وَمِنْهُم من قَالَ (ولاح هِلَال مثل نون أجادها ... بذوب النضار الْكَاتِب ابْن هِلَال) وَهَذَا من أَنْوَاع الْفَرَاغ الَّذِي مَا أوجبه للمملوك إِلَّا مسرته بعافية الْمولى أدامها الله وأدام المسرة بهَا لَهُ وللخلق فَمَا يشبهها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 الْمَمْلُوك إِلَّا بِنور الشَّمْس الَّذِي لَهُ فِي كل مَكَان أثر وَلكُل عين بِهِ نظر فَلَا أخلى الله الدُّنْيَا من آثاره والعيون من أنواره وَبعد عَافِيَة الْمولى قد انْتظر الْإِسْلَام عافيته بِهِ من الْمَرَض الَّذِي هُوَ الْعَدو فَيجمع الله تَعَالَى للْمولى وللخلق بَين العافيتين ويستخدم شكرهم للنعمتين فقد جلا الله سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْمَرَض سيف الله الَّذِي هُوَ الْمولى وَمَا صقله إِلَّا لتصدأ بِهِ قُلُوب أعدائه وَمن فَوَائِد هَذَا الْمَرَض أَن الْمولى يسْتَأْنف الْعُمر جَدِيدا والعزم حديدا وَيسْتَقْبل التَّدْبِير بنشاط قد حضر وأعضاء قد فَارقهَا مَا كَانَ سَبَب الضجر وَمِنْهَا وَأما تبرم مَوْلَانَا بِكَثْرَة المطالبات مِنْهُ فَلَا أخلى الله مَوْلَانَا من الْقُدْرَة عَلَيْهَا وهنيئا لَهُ أَن الله سُبْحَانَهُ يُطَالِبهُ بِحِفْظ دينه وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُطَالِبهُ بِحسن الْخلَافَة فِي أمته وَالسَّلَف الصَّالح من هَذِه الْأمة يطالبونه بِمُبَاشَرَة مَا لَو حَضَرُوهُ لما زادوا على مَا يَفْعَله الْمولى وَأهل الْحَرْب يطالبونه بإزاحة علتهم من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد وَبَقِيَّة الْأمة تطالبه بالأمن فِي سربهم والاستثامة فِي كسبهم والخفارة فِي سبلهم وَنَفسه الْكَرِيمَة تطالبه بِالْجنَّةِ بلغه الله إِلَيْهَا وبمعالي الْأُمُور أَعَانَهُ الله عَلَيْهَا وَإِذا عدد مَا يُرَاد مِنْهُ فَلَا بُد أَن يعدد مَا يسر عَلَيْهِ فَهَل عدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 من الله تَعَالَى قطّ نصْرَة فَهَل استمرت بِهِ قطّ عسرة فَهَل تمت لعدو قطّ عَلَيْهِ كرة هَل بَات قطّ إِلَّا راجيا هَل أصبح إِلَّا رَاضِيا أَلا يعلم أَن الله تَعَالَى ذخر لَهُ من الصَّالِحَات مَا لم ير كفوءا لَهُ غَيره أَلا يحصي من سبقه من الْمُلُوك إِلَى الدُّنْيَا فعجزوا عَمَّا سبق إِلَيْهِ الْمولى من الْآخِرَة هَل يعرف راية يُقَاتل تحتهَا فِي سيبل الله إِلَّا رايته هَل يعرف مَالا ينْفق فِي سَبِيل الله إِلَّا مَاله هَل يسمع فِي مَجْلِسه إِلَّا كتاب الله يُتْلَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقْرَأ أَو يرى بِهِ إِلَّا الْخَيل تعرض وَالسِّلَاح يقلب لَا أقداح الشاربين وَلَا أصوات المغنين وَلَا رقائع الْكَذَّابين وَلَا سعايات النمامين وبحق إِذا خطّ مَوْلَانَا أبقاه الله على تَشْبِيه الْمَمْلُوك مجْلِس ابْن عبد الْمُؤمن بِالْمَسْجِدِ فَإِن مَجْلِسه أولى بِأَن يكون مَسْجِدا من كل مجْلِس وَلَا غرو أَن تعترف المدائح كَمَا تعترف الضوال وَأَن تتبع كَمَا تتبع الطرائد {ولينصرن الله من ينصره} لَعَلَّ الْمولى عز نَصره قد نفذ إِلَى جَانب الشمَال جمَاعَة فَإِن صَاحب أنطاكية خذله الله عاث وشعث وخلا الجبان بِأَرْض فَطلب الطعْن وَحده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 لَو قرن أهل عكا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِمَشِيئَة الله مَا هم فِيهِ من جِهَاد بنية احتساب لما سبقهمْ إِلَى الْجنَّة سَابق وَلَا لحقهم بعدهمْ لَاحق فليهن مَوْلَانَا توفر ثَوَابه على كل حَال فَلهُ ثَوَاب نَفسه وثواب من جَاهد بِسَبَبِهِ فَلَا أعدم الله الْخلق وَاحِدًا استقام بِهِ جَمِيعهم ومالكا قَامَ برعاياهم فَأقْعدَ مَا يروعهم وشفيقا يقيهم بِنَفسِهِ وبولده وبإخوته ويتقدم إِلَى الْأَهْوَال أَمَام مماليكه وأمرائه وَعَسْكَره وَحَمَلته كَأَنَّهُ مِنْهُم مَكَان بِسم الله من الْكتاب وَمَكَان الامام من الْمِحْرَاب وَمَكَان النواصي من وُجُوه الصواهل وَمَكَان الأسنة من وُجُوه الذوابل خير مَا كَانَ إِذا لم تظن نفس بِنَفس خيرا وأغير مَا كَانَ على محارم الله إِذا كَانَت أنفس الْمُلُوك غير غيرى وَقد اطمأنت الْقُلُوب إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ قد كشف الْغُمَّة وأفرجها وأطفأ نَار الْحَرْب الَّتِي كَانَ الْعَدو أججها فَمَا يتَوَقَّع من كتب مَوْلَانَا أبقاه الله إِلَّا أَن الْإِسْلَام قد رَضِي بِمَا يسْخط الْكفْر وَلَا يسمع من قصصه الَّذِي هُوَ أحسن الْقَصَص إِلَّا أَن يَقُول مَا قَالَه سميه على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام {قضي الْأَمر} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 فَأَما ملك الألمان فقد سلبه الله مَا أضيف إِلَيْهِ كَمَا كَانَ الْمَمْلُوك رأى فِي مَنَامه على كَوْكَب وَأعلم بِهِ مَوْلَانَا رِسَالَة فَقَالَ أبقاه الله قد قبلت الْبُشْرَى وَصُورَة الرُّؤْيَا أَن رَسُولا جَاءَ من جِهَة السُّلْطَان عز نَصره إِلَى الْمَمْلُوك فَقَالَ اكْتُبْ كتابا بِبِشَارَة ملك الألمان فَقلت حَتَّى أفكر فَقَالَ الرَّسُول اكْتُبْ بِأَن الله قد سلب ملك الألمان مَا اضيف إِلَيْهِ وَالْمَشْهُور أَن ملك الألمان خرج فِي مئتي ألف وَأَنه الْآن فِي دون خَمْسَة آلَاف وَمِنْهَا ورد كتاب من المهدية إِلَى الاسكندرية ثَانِي رَجَب بعد سِتَّة عشر يَوْمًا من المهدية وَذكر من فِيهِ اخبارا وَقد طولع بهَا وَلما تَكَرَّرت علمت صِحَّتهَا وَهُوَ أَن عَسَاكِر الغرب الإسلامية نازلة على طليطلة وَقد افتتحت عدَّة حصون كَافِرَة وَأَن يوزبا شوهد بالمهدية موثقًا بالحديد وَقد نفذه قراقوش إِلَى صَاحب تونس ليسيره إِلَى بِلَاد الأندلس مَوضِع نزُول ابْن عبد الْمُؤمن بالعساكر وَأَن أهل صقلية من الْمُسلمين إِلَى الْآن فِي حَرْب قَائِمَة بَينهم وَبَين فرنجها ومعتصمون بالجبال فِي أَعمالهَا وَأَن عَسْكَر الفرنج قد خرج لانجاد أَصْحَابهم بصقلية والمسلمون بهَا على توقع ورقبة وحذار وخيفة نصر الله كلمة التَّوْحِيد وَأهْلك كل جَبَّار عنيد وَأَن مراكب فِيهَا أزواد للجنويين دخلت المهدية بِأَمَان من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 صَاحبهَا فباعت بهَا وتزودت مِنْهَا وَأَنَّهَا قاصدة الشَّام خيب الله قَصدهَا وَمِنْهَا وَقد سيرالحمل الْآن من الْمجْلس العزيزي بِحُضُور فلَان وَفُلَان وَكلهمْ مُجْتَهد فِي الْخدمَة وَلما عرف الْمَمْلُوك أَنهم لَا يطرقون الْمَعْنى الَّذِي يطرقه الْمَمْلُوك من تَنْبِيه مَوْلَانَا على أَن يقتصد قي الانفاق وَيقدر الاخراج للْعلم أَن هَذَا الْحجر قد رمينَا بِعَدَمِهِ وَسمع بِخَبَر الْمولى فَانْهَزَمَ قرارا من سطوة كرمه والبلاد لَيست الْآن كعهدها فِي انْقِطَاع أسفارها ووقوف معايشها وكساد أسواقها وانكسار تجارها وَلَو لم تكن الدَّرَاهِم سلْعَة لَا تخرج من مصر كَمَا يخرج الدِّينَار لما وجدت كَمَا لَا يُوجد الدِّينَار وَإِن تصريف الدَّرَاهِم بعد أَن تصير مستخرجا بِذَهَب شغل شاغل واستخراج ثَان غير الأول وَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أمرمن عِنْده يحدث للاسلام نصرا عَزِيزًا وللكفر خذلانا سَرِيعا وجيزا مَوْلَانَا خلد الله ملكه من وَرَاء ضَرُورَة لَا تخفى عَن الْمَمْلُوك والمماليك من وَرَاء ضَرُورَة لَا تخفى عَن الْمولى وصدرالمولى بِحَمْد الله وَاسع وَفرج الله مِنْهُ قريب وَهَذِه الضائقة لما يُريدهُ الله تَعَالَى من حسن موقع الْفرج بعْدهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 فقد أنْفق الْمولى مَال مصر فِي فتح الشَّام وَأنْفق مَال الشَّام فِي فتح الجزيرة وَأنْفق مَال الْجَمِيع فِي فتح السَّاحِل وَينْفق إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَال الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي فتح رُومِية والملوك كلهم وكلاؤه وأمناؤه على خزائنهم إِلَى أَن يسلموها إِلَيْهِ فيشكره الله على مَا أخرجه فِي سَبِيل الله مِنْهَا ويمقتهم على مَا كنزوه من ذهبها وفضتها فَلَا يكن فِي صدر الْمولى حرج وَلَا فِي خلقه فَإِن الله سُبْحَانَهُ لَا يضيق رزقا على يَده الْكَرِيمَة لَا سِيمَا وَقد أجْرى عَلَيْهَا أرزاق خلقه وَمِنْهَا يُنْهِي وُصُول رَسُول ملك الرّوم بِمَا فِي صحبته من هَدِيَّة وَبِمَا على لِسَانه من رِسَالَة وَبِمَا على يَده من كتاب وَحضر بَين يَدي الْملك الْعَادِل وَجرى من الْمُفَاوضَة مَا زبدته امتنان الْملك بِكَوْنِهِ لم يجب رَسُول ملك الألمان وَصَاحب صقلية وَغَيرهم من جيوش الفرنج إِلَى الْمُوَافقَة على حَرْب السُّلْطَان وَإِطْلَاق طريقهم وَامْتنع وسد الدربندات وَحفظ عَلَيْهِم الطّرق ووصى أَرْبَاب الْحُصُون بالتيقظ لَهُم وَالْمَنْع دونهم وَجعل عذره لملتمسي مُوَافَقَته أَن الْبِلَاد فِي هَذِه السّنة غَالِيَة السّعر والمصلحة تَقْتَضِي أَن لَا تكون الْحَرَكَة إِلَّا بِقُوَّة وعَلى تمكن من الْميرَة وتؤخر الْحَرَكَة إِلَى السّنة الْأُخْرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ثمَّ قَالَ وَهَذَا ملك الرّوم خَائِف من الفرنج على بَلَده مدافع عَن نَفسه إِن تمّ لَهُ الدّفع ادّعى أَنه بسببنا وَإِن لم يتم ادّعى أَنه غلب عَن مقْصده ومقصدنا وَقد جعل مَا أوردهُ من أَن تُقَام البطركة فِي قمامة من قبله وَأَن تنقل من ولَايَة الفرنج إِلَى أَن يوليها الطاغية من أهل عمله سَببا يبسط بِهِ عذره بِزَعْمِهِ عِنْد أهل جنسه وَيدْفَع بِهِ عَن نَفسه لَا سِيمَا مَعَ إِقَامَة الْخطْبَة الإسلامية وَنَقله الْمِنْبَر وفسحته فِي الصَّلَاة وإعزاز الْكَلِمَة الإسلامية أرْغم الله بهَا أَنفه وَعجل بسيفها حتفه ومولانا أبقاه الله يثبت فِي الْأَجْوِبَة وَلَا يُجيب إِلَى مَا على الْإِسْلَام فِيهِ غَضَاضَة وَلَا إِلَى مَا للكفر فِيهِ قُوَّة {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم} وَمن كتاب آخر وصل إِلَى الْمَمْلُوك كتاب يذكر وُصُول رسل الْملك الْعَتِيق من قبرس إِلَيْهِ يُخبرهُ بعصيانه على ملك إنكلتير ومكاشفته بالعداوة وَالْحَرب وَأَنه قد كَاتب السُّلْطَان أعز الله نَصره يبْذل لَهُ من نَفسه الْعُبُودِيَّة وَالطَّاعَة والمظاهرة على ملك إنكلتير وَالْأَخْبَار متواترة بِأَن الْعَتِيق أحرق موانىء قبرس ووعرها وَقطع الْميرَة عَن السَّاحِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 وَلَا شُبْهَة ان مَوْلَانَا يتَقَبَّل من الْمَذْكُور وَيُقَوِّي نَفسه على هَذِه المباينة فان فِي تخاذلهم نصْرَة الْإِسْلَام وشغل بَعضهم بِبَعْض وافتراق كلمتهم المجتمعة وقطعا لِلْمِيرَةِ عَن الشَّام وَأمنا لجَانب كبيرمن جَوَانِب الْبَحْر وهذ الْملك الْعَتِيق قد صَار لمولانا صديقا وَمَا سمي الْعَتِيق إِلَّا لِأَنَّهُ صَار لمولانا عتيقا وَلَا اعْتِبَار بحديثنا مَعَ صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي أَنا ننجده على قبرس فانا إِنَّمَا وعدناه بالنجدة عَلَيْهَا لما كَانَت بيد عدونا وَوَاللَّه مَا أَفْلح ملك الرّوم قطّ ولانفع إِن يكن صديقا وَلَا ضرّ إِن يكن عدوا وَكَذَلِكَ صَاحب الغرب {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} وقف الْمَمْلُوك على كتاب بَغْدَاد وَالْمَقْصُود الَّذِي ندب لأَجله الرَّسُول مَا ألم بِذكرِهِ فِي الْكتاب وَهِي المعونة على الْجِهَاد وَعرف استدعاء المساعدة على تكريت وَلَو كَانَ لنا فرَاغ لَهَا لما كَانَ النّظر الصَّحِيح يقتضيها لِأَنَّهَا مهما بقيت فِي يَد من هُوَ الْآن بهَا فَهِيَ فِي يَد الْمولى أبقاه الله تَعَالَى وَمهما خرجت عَنهُ خرجت عَنْهَا وَمَا نقُول أَنه لَيْسَ لنا تطلع إِلَى مثلهَا لَا سِيمَا وَهِي طَرِيق إِلَى غَيرهَا وَقد فتح الله للْمولى بِبِلَاد هِيَ مَعَ سعتها ضيقَة عَن زبونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 فللمولى أَوْلَاد كثر الله مِنْهُم مَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ متطلع إِلَى طرف وَله أهل مَا مِنْهُم إِلَّا من متطلع إِلَى طرف وَله أهل مَا مِنْهُم إِلَّا من متطلع إِلَى مملكة وأمراء مَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ متوقع زِيَادَة ومماليك مَا مِنْهُم إِلَّا من يُرِيد أَن يُوفي الْحق عَلَيْهِ فِي الْخدمَة وَمن سيره الْمولى لهَذَا الْأَمر عدم من أَصْحَابه مَنْفَعَة فِيمَا هُوَ أهم مِمَّا سَار فِيهِ وَمَا يَلِيق أَن يسير إِلَّا من يُرِيهم مَا يعجزون عَنهُ وَيكون عنوانا لما لَعَلَّهُم فِي شكّ مِنْهُ من قُوَّة الْمولى على مَا يُرِيد وإمساكه مَعَ الْقُدْرَة وَيرى الْمَمْلُوك أَن مطلبهم نقد ومطلبنا مِنْهُم وعد وَإِن كَانَ وَلَا بُد من تسيير فَلَا يسير إِلَّا من يقْضِي الشّغل ويستزيد الْجعل مَا تضمنه الْكتاب الْبَغْدَادِيّ من عزم الْخَلِيفَة على الْحَج فِي هَذِه السّنة الْمَمْلُوك يستبعده بالاضافة إِلَى الْوَقْت وَإِلَى عَادَة اهله آخِرهم حجا الرشيد رَحمَه الله ويستقربه بالاضافة إِلَى خلقه وَإِن سَار صلح أَن يهتم بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الشهرزوري وَلَا شكّ أَنه قد أنسي الرسَالَة الَّتِي توجه فِيهَا فَإنَّا بَعَثْنَاهُ يلْتَمس لنا نَفَقَة فالتمسها منا فصل وَكتب الْفَاضِل إِلَى السُّلْطَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 يُنْهِي أَنه عرف تسحب رجل وَصبي من الْقصر الغربي وَأَن الْمُؤَيد يَعْنِي ابْن السُّلْطَان وَكَانَ يَنُوب عَن أَخِيه الْعَزِيز بِمصْر أحضر نَائِب الطواشي بهاء الدّين واستعلم أَمرهمَا فَذكر أَن هربهما صَحِيح وَأَن أَحدهمَا وَهُوَ الصَّبِي من جملَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ولدا كَانُوا اطفالا وَقت الحوطة عَلَيْهِم بِالْقصرِ الغربي وَقد بلغ هَذَا وَكبر وزاحم عشْرين سنة وَالْآخر كَانَ معتقلا فِي الايوان فَحدثت لَهُ خنازير فِي حلقه وأشفى على الْهَلَاك فَأمر الطواشي بنقله إِلَى الْقصر الغربي من الايوان وَفك حديده وَحمل ليتداوى فِي اوائل سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَاسْتمرّ مَرضه وَاشْتَدَّ ضعفه وَبَقِي فِي الْقصر الغربي إِلَى أَن علم أَنه تسحب فَسَأَلَهُ الْمَمْلُوك عَن المستحفظ للقصر الغربي فَذكر أستاذين كَانَ الواشي أقامهما وَرَضي أمانتهما وأنهما يذكران أَن هَذَا الْقصر الغربي قد خرب ودثر وَكَثُرت التسليقات عَلَيْهِ ويجاوره إصطبلان فيهمَا جمَاعَة من الخربندية والمفسدين والتطرق مستمرمن هَذِه الاصطبلات إِلَى من فِي الْقصر من النِّسَاء وأنهما كَانَا أنهيا مرّة بعد أُخْرَى أَن الْمَكَان غير حريز والاعتقال فِيهِ غير وثيق قَالَ وجمعت أَصْحَاب الأرباع وجيرة الْقصر ورجوت بترك الشناعة الظفر بهما والبحث وَاقع عَنْهُمَا وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل وَهُوَ بِمصْر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 انْتهى إِلَيْنَا أَن بالديار المصرية وبالحضرة الْعلية جمَاعَة من الْفُقَهَاء قد اعتضدوا بِجَمَاعَة من أَرْبَاب السيوف وبسطوا ألسنتهم بالْقَوْل غير الْمَعْرُوف وأنشؤوا من العصبية مَا أطاعوا بِهِ القوى الغضبية وأحيوا بهَا مَا أَمَاتَهُ الله من اهل حمية الْجَاهِلِيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يَقُول وَكفى بقوله حجَّة على من كَانَ سميعا مُطيعًا {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} وَلم يزل التعصب للمذاهب يمْلَأ الْقُلُوب بالشحناء ويشحنها وَقد نهى الله عَن المجادلة لأهل الْخلاف فَكيف لأهل الْوِفَاق إِلَّا أَن يُقَال أحْسنهَا وَمَا علمنَا ان فِي ذَلِك نِيَّة تنجد وَلَا مصلحَة تُوجد وَلَا هِدَايَة تعتقد بدراسة تعقد ونارعداوة توقد وقلما أثمرت المشاجرة إِلَّا خلافًا فالمجلس أعزه الله يوعز بكف الْأَلْسِنَة الخائضة وعقل الأعنة الراكضة فَإِن أقنع بِلُطْفِهِ المرضى وَإِلَّا كَانَت همته الرائضة وَمن عَاد بعد الزّجر أبعد عَن مستقره وأزعج وليسع الْخلف مَا وسع السّلف من الْأَدَب وليعلم العَبْد أَنه يكْتب كتابا إِلَى ربه فليفكر فِيمَا كتب وَإِلَى من كتب فصل فِي ذكر خُرُوج الفرنج - خذلهم الله - على عزم اللِّقَاء ووصولهم إِلَى رَأس المَاء قَالَ الْعِمَاد وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر شَوَّال بعد أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 رتبوا على الْبَلَد من لَازم الْقِتَال مَعَ ملك الألمان وَخرج مَعَهم المركيس والكند هري وَأخذُوا مَعَهم عليق أَرْبَعَة أَيَّام وزادها واستصحبوا أنجاب الكريهة وأنجادها وَكَانَ مخيم اليزك على تل العياضية فَرَكبُوا وأشعلوا الْقَوْم بنيران النصال وألهبوا فَنزل الْعَدو تِلْكَ اللَّيْلَة على آبار حفرناها عِنْد نزولنا هُنَاكَ وَبَاتُوا ترميهم وتشويهم وتصميهم الأنزاك وَأَصْبحُوا يَوْم الثُّلَاثَاء سائرين إِلَى اللِّقَاء وَرفع السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة الثّقل إِلَى نَاحيَة القيمون وَقد امتدت ميمنته إِلَى الْجَبَل صفا وميسرته إِلَى الْبَحْر زحفا وَعِنْده فِي يَمِين قلبه أَوْلَاده الْأَفْضَل وَالظَّاهِر والظافر وَأَخُوهُ الْعَادِل فِي أول الميمنة ويليه حسام الدّين بن لاجين ثمَّ صارم الدّين قايماز النجمي ثمَّ حسام الدّين بِشَارَة وَمَعَهُ بدر الدّين دلدرم الياروقي فَهَؤُلَاءِ عُظَمَاء دولته وكبراء مَمْلَكَته وَمَعَهُمْ أُمَرَاء ومقدمون جريئون مقدمون وَكَانَ فِي الميمنة أَيْضا ابْن صَاحب الْموصل وَعز الدّين جرديك النوري وعَلى ميسرته صَاحب سنجار وَصَاحب الجزيرة وتقي الدّين والمشطوب سيف الدّين وخشترين والأمراء الهكارية والحميدية والزرزارية والمهرانية وأمراء الْقَبَائِل من الأكراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وَرِجَال الْحلقَة المنصورة واقفون فِي الْقلب وَضرب للسُّلْطَان خيمة لَطِيفَة بِقرب الخروبة على تل مشرف وَفِي مرج عكا عين غزيرة المَاء يجْرِي مِنْهُ نهر كَبِير إِلَى الْبَحْر فَسَار الفرنج ذَلِك الْيَوْم شَرْقي النَّهر حَتَّى وصلوا إِلَى رَأس المَاء وشاهدوا مَوَاقِف الهائجين إِلَى الهيجاء فانحرفوا إِلَى غربي النَّهر ونزلوا واعتزوا بالاحتراز واعتزلوا فأنهض السُّلْطَان إِلَيْهِم الجالشية وانتظر من الله فِي كسرهم المشية فاستداروا بمركزهم وأثخنوا باللتوت رضَا وبالدبابيس فضا وبالنصال قرضا وبالأسنة وخزا وخضا وقضوا فيهم من حق الْجِهَاد سنة وفرضا وَكَانَ المُرَاد أَن يحتموا فيثوروا حَتَّى يلقاهم ويبوروا فَمَا راموا مكانهم وَأَصْبحُوا يَوْم الْأَرْبَعَاء راكبين وَعَن سَبِيل اللِّقَاء ناكبين ووقفوا على صهوات الْخَيل إِلَى ضحوة النَّهَار والراجل محدق بهم كالاسوار وأصحابنا قد قربوا مِنْهُم حَتَّى كَادُوا يخالطونهم وَأَرَادُوا أَن يباسطونهم وَالسُّلْطَان يمد الرُّمَاة بالرماة والكماة بالكماة وهم ثابتون نابتون ساكنون ساكتون وَنحن نقُول لَعَلَّهُم يحملون ويغضبون فيجهلون فنتمكن من تَفْصِيل جُمْلَتهمْ بحملتهم وتفريق جَمَاعَتهمْ وأحس الْعَدو بالضعف وَأَنه متورط فِي الحتف فألجئوا لعجزهم عَن الدفاع إِلَى الاندفاع وَسَارُوا عائدين على هَيْئَة الِاجْتِمَاع وَالنّهر عَن يمينهم وَالْبَحْر عَن يسارهم وَقد أيقنوا إِن صَحَّ مِنْهُم الثَّبَات بانكسارهم وأصحابنا حواليهم وَمن ورائهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 يغرقونهم فِي دِمَائِهِمْ ويشلونهم ويغلونهم وينهلونهم من مَاء الْحَدِيد ويعلونهم وهم يتحركون فِي سُكُون ويتظاهرون فِي كمون ويتذوبون فِي جمود ويتلهبون فِي خمود وَكلما صرع مِنْهُم قَتِيل حملوه وستروه وطموا مدفنه وطمروه حَتَّى يخفى أَمرهم وَلَا يَصح لدينا كسرهم ونزلوا لَيْلَة الْخَمِيس على جسر دعوق وَقَطعُوا الجسر حَتَّى يمنعوا عبورنا إِلَيْهِم ويعوق وأبلى الْمُسلمُونَ فِي ذَلِك الْيَوْم فِي الْجِهَاد بلَاء حسنا وَأتوا كل مَا كَانَ فِيهِ مستطاعا مُمكنا وبذل أياز الطَّوِيل هَذَا الْيَوْم جهده وفل فِي فل حَدهمْ حَده وَكَذَلِكَ سيف الدّين يازكوج عَام فِي بحرهم وَقَامَ بأمرهم فَأَصْبحُوا يَوْم الْخَمِيس إِلَى نَار الْوَطِيس ووصلوا إِلَى مربضهم وَلم يحصلوا على غرضهم وَنقص مِنْهُم خلق وعدنا إِلَى الْخيام ظافرين ظفر الْكِرَام فرحين بذل الْكفْر وَعز الْإِسْلَام وَعرف الفرنج مساق خزيهم وإخفاق سَعْيهمْ فاحترزوا من الهلكة وَمَا عَادوا إِلَى مثل هَذِه الْحَرَكَة قَالَ القَاضِي وَكَانُوا قد جعلُوا راجلهم سورا لَهُم يضْرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 النَّاس بالزنبورك والنشاب حَتَّى لَا يتْرك أحدا يصل إِلَيْهِم إِلَّا بالنشاب فَإِنَّهُ كَانَ يطير عَلَيْهِم كالجراد وخيالتهم يَسِيرُونَ فِي وَسطهمْ بِحَيْثُ لم يظْهر مِنْهُم أحد فِي ذَلِك الْيَوْم أصلا وَعلم الْعَدو مُرْتَفع على عجلة وَهُوَ مغروس فِيهَا وَهِي تسحب بالبغال وهم يَذبُّونَ عَن الْعلم وَهُوَ عَال جدا كالمنارة خرقته بَيَاض ملمع بحمرة على شكل الصلبان وَلم يزَالُوا سائرين على هَذَا الْوَجْه حَتَّى وصلوا وَقت الظهيرة إِلَى قبالة جسر دعوق وَقد ألجمهم الْعَطش من شدَّة الْحر وَأخذ مِنْهُم التَّعَب وأثخنتهم الْجراح وَكَانَ الْفِعْل معظمه للحلقة المنصورة فِي ذَلِك الْيَوْم فَإِنَّهُم أذاقوهم طعم الْمَوْت وجرح مِنْهُم جمَاعَة كأياز الطَّوِيل فَإِنَّهُ قَامَ فِي ذَلِك الْيَوْم أعظم مقَام يحْكى عَن الْأَوَائِل وجرح جراحات مُتعَدِّدَة وَهُوَ مُسْتَمر على الْقِتَال وجرح سيف الدّين يازكوج جراحات مُتعَدِّدَة وَهُوَ من فرسَان الْإِسْلَام وشجعانه وَله مقامات مُتعَدِّدَة وجرح خلق كثير فِي ذَلِك الْيَوْم وعزم السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على كبس بَقِيَّتهمْ فِي الخيم وَكتب إِلَى الْبَلَد يعرفهُمْ ذَلِك حَتَّى يخرجُوا هم من ذَلِك الْجَانِب وَنحن من هَذَا الْجَانِب فَلم يصل من أهل الْبَلَد كتاب فَرجع عَن ذَلِك الْعَزْم بِسَبَب تَأَخّر الْكتاب فَلَمَّا أَصْبحُوا كف السُّلْطَان النَّاس عَن الْقِتَال خشيَة أَن يغتالوا فَإِن الْعَدو كَانَ قد قرب من خيمه ووقف الأطلاب فِي الْجَانِب الشَّرْقِي من النَّهر تسير قبالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 الْعَدو حَتَّى وصل إِلَى مخيمه وَكَانَ لَهُم فِيهَا أطلاب مستريحة فَخرجت على اليزك الإسلامي وحملت عَلَيْهِم وانتشب الْقِتَال بَينهم فَقتل من الْعَدو وجرح خلق كثير مِنْهُم شخص كَبِير فيهم مقدم عِنْدهم وَكَانَ على حصان عَظِيم ملبس بالزرد إِلَى حَافره وَكَانَ عَلَيْهِ لبس لم ير مثله وطلبوه من السُّلْطَان بعد انْفِصَال الْحَرْب فَدفع لَهُم جثته وَطلب رَأسه فَلم يُوجد وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مخيمه وأعيد الثّقل إِلَى مَكَانَهُ وَعَاد كل قوم إِلَى مَنْزِلَتهمْ وَكَانَ عماد الدّين زنكي غَائِبا بِنَفسِهِ مَعَ الثّقل لمَرض كَانَ بِهِ وَبَقِي عسكره فَعَاد وَقد أقلعت حماه وَبَقِي التياث مزاج السُّلْطَان وَهُوَ كَانَ سَبَب سَلامَة هَذِه الطَّائِفَة الْخَارِجَة كَونه لَا يقدر على مُبَاشرَة الْأَمر بِنَفسِهِ وَلَقَد رَأَيْته رَحمَه الله وَهُوَ يبكي فِي حَال الْحَرْب كَيفَ لم يقدر على مُخَالطَة الْقَوْم ورأيته وَهُوَ يَأْمر أَوْلَاده وَاحِدًا بعد وَاحِد بمصافحة الْأَمر ومخالطة الْحَرْب وَلَقَد سَمِعت مِنْهُ وَقَائِل يَقُول إِن الوخم قد عظم فِي مرج عكا بِحَيْثُ إِن الْمَوْت قد كثر فِي الطَّائِفَتَيْنِ فَأَنْشد متمثلا (اقتلاني ومالكا ... واقتلا مَالِكًا معي) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 يُرِيد بذلك أنني قد رضيت بِأَن أتلف أَنا إِذا تلف أَعدَاء الله وَحدث بذلك قُوَّة عَظِيمَة فِي نفوس العساكر الإسلامية وَكَانَ مرض السُّلْطَان هُوَ أحد الْأَسْبَاب الحاملة للفرنج على هَذِه الْحَرَكَة مُنْضَمًّا إِلَى كثرتهم وَشدَّة الغلاء والجدب عَلَيْهِم فصل فِي وقْعَة الكمين وَغَيرهَا وَدخُول الْبَدَل إِلَى عكا قَالَ الْعِمَاد لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من شَوَّال انتخب السُّلْطَان من أجناده عدَّة وَكثر لَهُم الْعدة وَأمرهمْ أَن يكمنوا فِي سفح تل هُوَ شمَالي عكا بعيد من عَسْكَر الْعَدو بِقرب الْمنزلَة العادلية الْقَدِيمَة عِنْد السَّاحِل فكمنوا تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أصبح الصَّباح ركب مِنْهُم عدَّة يسيرَة وَسَارُوا نَحْو الفرنج وصالوا عَلَيْهِم وأغاروا فَاسْتَقْبَلَهُمْ الفرنج فَخرج إِلَيْهِم زهاء أَربع مئة فَارس هَكَذَا قَالَ الْعِمَاد فِي الْبَرْق وَقَالَ فِي الْفَتْح مئتا قنطاري وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد مئتا فَارس وطمعوا فِي الْمُسلمين فتأخروا قدامهم قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى أوصلوهم إِلَى الكمين فَخرج عَلَيْهِم أَسد العرين وَقتلُوا وأسروا واستولوا عَلَيْهِم بأسرهم فَلم ينج مِنْهُم نَاجٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وَوَقع فِي الْأسر مقدمون أكَابِر مِنْهُم خَازِن الْملك وَجَمَاعَة من الإفرنسيسية وَركب السُّلْطَان فَرحا بِهَذِهِ الْبشَارَة ووقف على تل كيسَان وَقد توافت إِلَيْهِ الأسرى والأسلاب فَترك الأسلاب والخيول لآخذيها وَكَانَت بأموال عَظِيمَة فَمَا أعارها طرفا وَلَا تردد أمره فِيهَا وَجلسَ وأحضر الأسرى وباسطهم وأطعمهم وكساهم وَأذن لَهُم فِي أَن يَسِيرُوا غلمانهم لاحضار مَا يُرِيدُونَ احضاره ثمَّ نقلهم إِلَى دمشق للاعتقال وحفظهم بالقيود الثقال قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما هجم الشتَاء وهاج الْبَحْر وَأمن الْعَدو من أَن يضْرب مصَاف وَأَن يُبَالغ فِي طلب الْبَلَد وحصاره من شدَّة الأمطار وتواترها أذن السُّلْطَان للعساكر فِي الْعود إِلَى بلادها ليأخذوا نَصِيبا من الرَّاحَة فَسَار عماد الدّين صَاحب سنجار خَامِس عشري شَوَّال وعقيبه ابْن أَخِيه صَاحب الجزيرة بعد أَن أفيض عَلَيْهِمَا من التشريف والانعام والتحف مَا لم ينعم بِهِ على غَيرهمَا وَسَار عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل فِي أول ذِي الْقعدَة مشرفا مكرما وَسَار الظَّاهِر فِي الْمحرم من سنة سبع وتقي الدّين فِي صفر مِنْهَا وَلم يبْق عِنْد السُّلْطَان إِلَّا نفر يسير من الْأُمَرَاء وَالْحَلقَة الْخَاص قَالَ واشتغل السُّلْطَان بِإِدْخَال الْبَدَل إِلَى عكا وَحمل المير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 والذخائر واخراج من كَانَ بهَا من الْأُمَرَاء لعظم شكايتهم من طول الْمقَام بهَا ومعاناة التَّعَب والسهر وملازمة الْقِتَال لَيْلًا وَنَهَارًا وَكَانَ مقدم الْبَدَل الدَّاخِل من الْأُمَرَاء سيف الدّين المشطوب دخل فِي سادس عشر الْمحرم سنة سبع وَفِي ذَلِك الْيَوْم خرج الْمُقدم الَّذِي كَانَ بهَا وَهُوَ الْأَمِير حسام الدّين أبوالهيجاء وَأَصْحَابه وَمن كَانَ بهَا من الْأُمَرَاء وَدخل مَعَ المشطوب خلق من الْأُمَرَاء وأعيان من الْخلق وَتقدم إِلَى كل من دخل أَن يصحب مَعَه ميرة سنة كَامِلَة وانتقل الْعَادِل بعسكره إِلَى حيفا على شاطىء النَّهر وَهُوَ الْموضع الَّذِي تحمل مِنْهُ المراكب وَتدْخل إِلَى الْبَلَد وَإِذا خرجت تخرج إِلَيْهِ فَأَقَامَ ثمَّ يحث النَّاس على الدُّخُول ويحرس المير والذخائر لِئَلَّا يتَطَرَّق إِلَيْهَا من الْعَدو من يتعرضها وَكَانَ مِمَّا دخل إِلَيْهَا سبع بطس مَمْلُوءَة ميرة وذخائر ونفقات كَانَت وصلت من مصر وَكَانَ دُخُولهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي ذِي الْحجَّة فانكسر مِنْهَا مركب على الصخر الَّذِي هُوَ قريب الميناء فَانْقَلَبَ كل من فِي الْبَلَد من الْمُقَاتلَة إِلَى جَانب الْبَحْر لتلقي البطس وَأخذ مَا فِيهَا وَلما علم الْعَدو انقلاب الْمُقَاتلَة إِلَى جَانب الْبَحْر اجْتَمعُوا فِي خلق عَظِيم وزحفوا على الْبَلَد من جَانب الْبر زحفة عَظِيمَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وقاربوا الأسوار وصعدوا فِي سلم وَاحِد فاندق بهم السّلم كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وأدركهم أهل الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم خلقا عَظِيما وعادوا خائبين خاسرين وَأما البطس فَإِن الْبَحْر هاج هيجانا عَظِيما وَضرب بَعْضهَا بِبَعْض على الصخر فَهَلَكت وَهلك جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَهلك فِيهَا خلق عَظِيم قيل كَانَ عَددهمْ سِتِّينَ نَفرا وَكَانَ فِيهَا ميرة عَظِيمَة لَو سلمت لكفت الْبَلَد سنة كَامِلَة وَدخل على الْمُسلمين من ذَلِك وَهن عَظِيم وحرج السُّلْطَان لذَلِك حرجا شَدِيدا وَكَانَ ذَلِك أول علائم أَخذ الْبَلَد وَقَالَ الْعِمَاد لما دخل الشتَاء وعصفت الْأَهْوَاء وهاج الْبَحْر وَوَقع فِي سفن الفرنج الْكسر أنفذوها إِلَى الجزائر للِاحْتِيَاط وخافوا عَلَيْهَا من اختباط الْبَحْر وَقَالَ فِي الْفَتْح نقل الفرنج سفنهم خوفًا عَلَيْهَا إِلَى صور فربطوها بهَا فَخَلا وَجه الْبَحْر من مراكبهم وَحصل الْأَمْن فِيهِ من جانبهم وَكَانَ أَصْحَابنَا فِي الْبَلَد قد ملوا فشكوا ضررهم وضجرهم وَكَانُوا زهاء عشْرين ألف رجل من أَمِير ومقدم وجندي وأسطولي وبحري ومتعيش وتاجر وبطال وغلمان ونواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وعمال وَقد تعذر عَلَيْهِم الْخُرُوج فَرَأى السُّلْطَان أَن يفسح لَهُم فِيهِ رفقا بهم ورأفة وَمَا أفكر أَن فِي ذَلِك مَخَافَة وَآفَة وأشير على السُّلْطَان بترتيب الْبَدَل وكفل الْعَادِل بذلك وانتقل بمخيمه إِلَى سفح جبل حيفا قَاطع النَّهر وَتقدم بِجمع السفن للنَّقْل وَاجْتمعَ المنتقلون بالسَّاحل على الرمل فَمن نجز أمره انْتقل وَكَانَ الرَّأْي إزاحة عِلّة المقيمين فَإِنَّهُم قد جربوا وصبروا وخبروا وهم كَنَفس وَاحِدَة وَكَانُوا فِي ثروة وكرم ونخوة وَفِيهِمْ أَبُو الهيجاء السمين وَله أَتبَاع وأشياع وَله فِي شرع السماحة اقْتِدَاء بالسلطان أوضاع وَلَعَلَّه أنْفق من مَاله فِي تِلْكَ السّنة خمسين ألف دِينَار فَلَمَّا فسح لَهُم فِي الِانْتِقَال لأجل الِاسْتِبْدَال انْتَشَر ذَلِك الضَّم وانتثر ذَلِك النّظم وَدخل إِلَى عكا من لم يجرب حصارها وَلم يخبر مَنَافِعهَا ومضارها وَمَا ثَبت مِمَّن كَانَ مُقيما بهَا إِلَّا الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَدخل عشرُون مقدما وأميرا شبه المكرهين عوض سِتِّينَ واستخدمت الرِّجَال وأنفقت الْأَمْوَال وتفاوت الداخلون والخارجون فَلَا جرم وَقع الوهن وَقضي الْأَمر وتكفل بالداخلين المشطوب وطاب الزَّمَان وَتعذر الامكان بِعُود مراكب الْعَدو فَلم يستتم الْبَلَد مَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ من الرِّجَال وَالْأَمْوَال فَإِن كل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 عين للدخول كرهه وَصَارَ يتوسل فِي أَن يُعْفَى ويبذل فِي نَفسه الْفِدَاء ثمَّ لما حقت كلمة الدُّخُول على من تعين لَهُ اسْتمْهلُوا زَمَانا يتهيؤون فِيهِ للدخول ولانفاذ قَضَاء الله تَعَالَى أَسبَاب لَا بُد من وُقُوعهَا فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَفِي لَيْلَة سَابِع ذِي الْحجَّة وَقعت قِطْعَة عَظِيمَة من سور عكا فانثلم الثغر وبادر الفرنج إِلَيْهَا فجَاء أهل الْبَلَد وسدوها بصدورهم وقاتلوا عَنْهَا إِلَى أَن بنوها وعادت أقوى مِمَّا كَانَت وَفِي ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة هلك ابْن ملك الألمان وكند كَبِير يُقَال لَهُ كند بنياط وَمرض الكندهري وَصَارَ يَمُوت من الفرنج كل يَوْم مئة والمئتان وحزن الفرنج على ابْن ملك الألمان حزنا عَظِيما وأشعلوا نيرانا هائلة بِحَيْثُ لم تبْق خيمة إِلَّا اشتعل فِيهَا الناران وَالثَّلَاثَة بِحَيْثُ بَقِي عَسْكَرهمْ كُله نَارا تقد وَحصل للْمُسلمين غَنَائِم أخر كَثِيرَة فِي سَرَايَا سَرِيَّة وأساطيل مرضية وَمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 جملَة ذَلِك ملوطة مكللة بِاللُّؤْلُؤِ منوطة وبأزرار الْجَوْهَر مربوطة قيل إِنَّهَا من ثِيَاب ملك الألمان وَكَانَ قد استأمن من الفرنج خلق عَظِيم أخرجهم الْجُوع إِلَيْنَا وَقَالُوا للسُّلْطَان نَحن نَخُوض الْبَحْر فِي براكس ونكسب من الْعَدو وَيكون الْكسْب بَيْننَا وَبَين الْمُسلمين فَأذن لَهُم وَأَعْطَاهُمْ بركوسا وَهُوَ الْمركب الصَّغِير فَرَكبُوا فِيهِ وظفروا بمراكب لتجار الْعَدو بضائعهم معظمها فضَّة مصوغة وَغير مصوغة فأسروهم وكسبوهم وأحضروهم بَين يَدي السُّلْطَان فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان جَمِيع مَا غنموه قَالَ الْعِمَاد فَلَمَّا أكْرمُوا بِهَذِهِ المكرمة أثنوا على الْيَد المنعمة وَأسلم مِنْهُم شطرهم وأحضروا مائدة فضَّة عَظِيمَة وَعَلَيْهَا مكبة عالية وَمَعَهَا طبق يماثلها فِي الْوَزْن وَلَو وزنت تِلْكَ الفضيات قاربت قِنْطَارًا فَمَا أعارها السُّلْطَان طرفه احتقارا قَالَ وَاسْتشْهدَ فِي عكا سَبْعَة من الْأُمَرَاء مِنْهُم الْأَمِير سوار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 والتقى فِي هَذِه السّنة شواني الْمُسلمين بشواني الفرنج فِي الْبَحْر فأحرقت للكفر شواني برجالها وَكَانَ عِنْد الْعود تَأَخّر لنا شيني مقدمه الْأَمِير جمال الدّين مُحَمَّد بن أرككز فأحاطت بِهِ مراكب الْعَدو فتواقع ملاحوه إِلَى المَاء وسلموه إِلَى الْبلَاء فقاتل وصبر فعرضوا عَلَيْهِ الْأمان فَقَالَ مَا أَضَع يَدي إِلَّا فِي يَد مقدمكم الْكَبِير فَلَا يخاطر الخطير إِلَّا مَعَ الخطير فجَاء إِلَيْهِ الْمُقدم الْكَبِير وَظن أَنه قد حصل لَهُ الْأَسير فعاقره وعانقه وقوى عَلَيْهِ وَمَا فَارقه ووقعا فِي الْبَحْر وغرقا وترافقا فِي الْحمام واتفقا وعَلى طريقي الْجنَّة وَالنَّار افْتَرقَا وَاسْتشْهدَ أَيْضا الْأَمِير نصير الْحميدِي قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى قتل القَاضِي المرتضى بن قُرَيْش الْكَاتِب فِي خيمته قَتله شريك لَهُ فِي دَار بنابلس أَرَادَهُ على بيعهَا وَخرج من خيمته فَوجدَ قَاضِي نابلس فَقتله وضربه وَمَا أمهله وَمر لينجو فَأدْرك وَضرب بعمود خيمة فَأهْلك واستكتب السُّلْطَان أَخا المستشهد مَكَانَهُ فَلم يبلغ فِي الاحسان ميدانه قَالَ وَفِي هَذِه السّنة ورد كتاب سيف الْإِسْلَام أخي السُّلْطَان من الْيمن يذكر استيلاءه على صنعاء واستنابة وَلَده شمس الْمُلُوك فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 قَالَ وَوصل القَاضِي الْفَاضِل من مصر إِلَى المعسكر الْمَنْصُور فِي ذِي الْحجَّة وَكَانَ السُّلْطَان متشوقا إِلَى قدومه وطالت مُدَّة الْبَين لغيبته عَنهُ سنتَيْن على أَن أُمُور الممالك بِمصْر كَانَت بِحُضُورِهِ مستتبة وَقد جمع للْملك الْعَزِيز بمقامه هَيْبَة ومحبة وَكَانَ السُّلْطَان شَدِيد الوثوق بمكانه دَائِم الِاعْتِمَاد والاستناد على إحسانه وَإِلَى أَرْكَانه فان استقدمه خَافَ على مَا وَرَاءه من المهام وَإِن تَركه نَالَ وَحْشَة التفرد بالقضايا وَالْأَحْكَام وَكَانَ يكاتبه بشرح الْأَحْوَال ويستشيره والنجابون مترددون بالمكاتبات والمخاطبات والاستشارة فِي الْمُهِمَّات فوصل إِلَى الْقُدس واعتاق بتوالي الأمطار ثمَّ وصل فِي ذِي الْحجَّة وَرجع الْفضل وَاجْتمعَ الشمل واستأنس الْملك بِصَاحِب تَدْبيره وتأسس رُكْنه بِرَأْي مشيره قلت وَفِي جُمَادَى الأولى من هَذِه السّنة توفّي بالموصل قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَقد أثنى الْعِمَاد الْكَاتِب عَلَيْهِ فِي الخريدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 ثَنَاء كثيرا وَأنْشد لَهُ أشعارا حَسَنَة مِنْهَا فِي التَّوْحِيد (قَامَت بِإِثْبَات الصِّفَات أَدِلَّة ... قصمت ظُهُور أَئِمَّة التعطيل) (وطلائع التَّنْزِيه لما أَقبلت ... هزمت ذَوي التَّشْبِيه والتمثيل) (فَالْحق مَا صرنا إِلَيْهِ جميعنا ... بأدلة الْأَخْبَار والتنزيل) (من لم يكن بِالشَّرْعِ مقتديا فقد ... أَلْقَاهُ فرط الْجَهْل فِي التضليل) وَله فِي مدح الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم (لائمي فِي هوى الصَّحَابَة ... إرجع إِلَى سقر) (لَا بلغت المنى وَلَا ... نلْت من رفضك الوطر) (كَيفَ تنْهى عَن حب قوم ... هم السّمع وَالْبَصَر) (وهم سادة الورى ... وهم صفوة الْبشر) (فَأَبُو بكر الْمُقدم ... م من بعده عمر) (ثمَّ عُثْمَان بعده ... وَعلي على الْأَثر) (أَيهَا الرافضي حِسَابك ... فَالْحق قد ظهر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وفيهَا وصل إِلَى الفرنج ملك إفرنسيس وَملك إنكلتير وَغَيرهمَا وَأخذت عكا يسر الله فتحهَا قَالَ الْعِمَاد والغيم فِي هطلانه وَالْبَحْر فِي هيجانه وَالسُّلْطَان مُقيم بمخيمه على شفرعم ولطف الله بِهِ قد خص وَعم والعادل مخيم قَاطع نهر حيفا على الرمل وسفن الْبَدَل إِلَى عكا مُتَّصِلَة السبل والفرنج مستمرون على الْحصار متحرزون من الاصحار ونوب اليزك راتبة ووظائف الْجِهَاد مواظبة وَوصل من الدِّيوَان الْعَزِيز مِثَال وَمَعَهُ مُكَاتبَة للْملك الْأَفْضَل وفيهَا إكرام وإجلال وَفضل وإفضال وَفِي ثَالِث صفر رَحل تَقِيّ الدّين لتسلم الْبِلَاد الَّتِي أضيفت إِلَيْهِ شَرْقي الْفُرَات وَكَانَ لَهُ بِالشَّام المعرة وحماة وسلمية وجبلة واللاذقية وبالجزيرة وديار بكر حران والرها والموزر وسميساط وضياعها وميافارقين وحصونها وأعمالها وقلاعها وَسَار على أَنه يرجع عَن قريب فَأَبْطَأَ وتشوف إِلَى افْتِتَاح مَا يجاوره من الْبِلَاد وَسَار إِلَى ميافارقين فَكَانَ السُّلْطَان ينْسب مَا جرى من اسْتِيلَاء الْكفَّار على عكا بعد قَضَاء الله تَعَالَى إِلَى غيبته فَإِنَّهُ تَأَخَّرت عَسَاكِر تِلْكَ الْبِلَاد الشرقية لخوف مضرته وجور مجاورته وَسَيَأْتِي ذكر وَفَاته فِي آخر السّنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وَوصل كتاب الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه أَنه أغار على جشير للفرنج بطرابلس فاستاقه وَلم يطق الْكفَّار لحاقه واقتطع لخاصته مِنْهُ أَربع مئة رَأس تلف فِي الطَّرِيق مِنْهَا أَرْبَعُونَ وغنم أبقارا وَغنما وأنفذ للعماد مِنْهَا بغلة وَذَلِكَ رَابِع صفر وَفِي لَيْلَة هَذَا الْيَوْم أَلْقَت الرّيح مركبا لِلْعَدو على الزيب فَكَسرته وَكَانَ فِيهِ خلق عَظِيم مِنْهُم فغرق بَعضهم وَأسر بعض وَفِيهِمْ امْرَأَتَانِ سبيتا وَفِي لَيْلَة أول ربيع الأول خرج أَصْحَابنَا من الْبَلَد وهجموا على الْعَدو وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة وَأخذُوا مِنْهُم من خيمهم جمعا عَظِيما مِنْهُم اثْنَتَا عشرَة امْرَأَة وَفِي ثَالِث ربيع الأول كَانَ اليزك للحلقة السُّلْطَانِيَّة وَخرج إِلَيْهِم من الْعَدو خلق عَظِيم وَجرى بَينهم وقْعَة شنيعة وَقتل فِيهَا لِلْعَدو جمَاعَة مِنْهُم مقدم كَبِير وَلم يفقد من الْمُسلمين إِلَّا خَادِم رومي صَغِير عثر بِهِ فِي الحملة فرسه يُسمى قراقوش وَكَانَ شجاعا لَهُ وقعات وَفِي تَاسِع ربيع الأول بلغ السُّلْطَان أَن الْعَدو يخرج مِنْهُ طَائِفَة للآحتشاش فَأمر الْعَادِل أَن يكمن بالعسكر خلف التل الَّذِي كَانَت فِيهِ الْوَقْعَة الْمَعْرُوفَة بِهِ وَسَار هُوَ فكمن وَرَاء تل العياضية وَمَعَهُ من أَوْلَاده الصغار وَالْقَاضِي الْفَاضِل وَنذر الفرنج فَلم يخرج مِنْهُم أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 وَوصل فِي أثْنَاء ذَلِك الْيَوْم خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا من الفرنج أخذُوا فِي بيروت فيهم شيخ كَبِير هرم لم يبْق فِي فَمه ضرس وَلم يبْق فِيهِ قُوَّة إِلَّا مِقْدَار مَا يَتَحَرَّك فَسَأَلَهُ عَن مَجِيئه فَقَالَ لِلْحَجِّ إِلَى قمامة وبيني وَبَين بلادي مسيرَة أشهر فرق لَهُ وَأطْلقهُ وَأَعَادَهُ إِلَى الْعَدو رَاكِبًا على فرس وَطلب أَوْلَاده الصغار أَن يَأْذَن لَهُم فِي قتل أَسِير فَلم يَأْذَن وَسُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ لِئَلَّا يعتادوا من الصغر سفك الدَّم ويهون عَلَيْهِم وهم الْآن لَا يفرقون بَين الْمُسلم وَالْكَافِر ثمَّ لما أقبل الرّبيع توافت العساكر وَفَاء بموعدها فوصلت فِي شهر ربيع الأول فَأول من قدم الْأَمِير علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر صَاحب قلعتي عزاز وبغراس وَهُوَ شيخ لَهُ رَأْي وتجربة ومنزلة كَبِيرَة ومرتبة وَالْملك الأمجد صَاحب بعلبك وَبدر الدّين مودود وَالِي دمشق فِي رِجَالهمْ وأبطالهم وَفِي كل يَوْم يقدم أَمِير بعد أَمِير وَالله يتَوَلَّى التَّدْبِير وَكَانَ قد شاع الْخَبَر بِأَن مُلُوك الفرنج واصلون وهم حاشدون حافلون فوصل ملك إفرنسيس فيليب فِي عدَّة من عَبدة الصَّلِيب ثَانِي عشر ربيع الأول فِي سِتّ بطس عِظَام مَمْلُوءَة بفوارس ذَوي إقدام فَقُلْنَا مَا أحمل المَاء لأهل النَّار وَمَا أجلبه للدوائر إِلَى الديار وَكَانَ عَظِيما عِنْدهم من كبار مُلُوكهمْ ينقادون لَهُ بِحَيْثُ إِذا حضر حكم على الْجَمِيع وَمَا زَالُوا يتواعدونا بِهِ حَتَّى قدم وَصَحبه من بِلَاده باز عَظِيم عِنْده هائل الْخلق أَبيض اللَّوْن نَادِر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 الْجِنْس وَكَانَ يعزه وَيُحِبهُ حبا عَظِيما فطار من يَده حَتَّى سقط على سور عكا فاصطاده أَصْحَابنَا وأنفذوه إِلَى السُّلْطَان وبذل الفرنج فِيهِ ألف دِينَار فَلم يجابوا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلَقَد رَأَيْته وَهُوَ يضْرب إِلَى الْبيَاض مشرق اللَّوْن مَا رَأَيْت بازيا أحسن مِنْهُ قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ مَعَ هَذَا الْملك بازي أَشهب كَأَنَّهُ عِنْد إرْسَاله نَار تتلهب ففارقه يَوْم وُصُوله بِحَيْثُ عجز عَن حُصُوله وَكَانَ فِي ظن الفرنج أَنه يقدم فِي جمع جم فَلَمَّا رَأَوْا جمعه قليلاسقط فِي أَيْديهم فَوَعَدَهُمْ بالمدد خَلفه قَالَ القَاضِي وَقدم بعده كند فرير وَكَانَ مقدما عَظِيما عِنْدهم مَذْكُورا كَانَ حاصر حماة وحارم عَام الرملة وَفِي ثَانِي عشر ربيع الآخر وصل كتاب من اللاذقية أَن جمَاعَة من المستأمنين نزلُوا نَاحيَة من جَزِيرَة قبرس فِي عيد لَهُم وَقد اجْتمع جمع كثير فِي بيعَة قريبَة من الْبَحْر وَأَنَّهُمْ صلوا مَعَهم صَلَاة الْعِيد فَلَمَّا فرغوا من الصَّلَاة ضربوا على كل مَا كَانَ فِي الْبيعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء عَن آخِرهم حَتَّى القسيس وحملوهم إِلَى مراكبهم وَسَارُوا بهم إِلَى اللاذقية وَكَانَ فيهم سبع وَعِشْرُونَ امْرَأَة وَكَانُوا أغلقوا بَاب الْكَنِيسَة عَلَيْهِم ليأمنوا إفلاتهم وَأسرُوهُمْ بأسرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 وكسبوا جَمِيع مَا فِي الْكَنِيسَة من الْأَمْتِعَة والأعلاق النفيسة واقتسموها فوصل إِلَى كل واحدعلى مَا قيل أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم من الْفضة النقرة كَذَا فِي كتاب القَاضِي وَقَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح وَقيل حصل لكل وَاحِد مِنْهُم على كثرتهم أَربع مئة دِرْهَم وهجم جمَاعَة من العسكرية على غنم لِلْعَدو فَأَخَذُوهَا وَكَانَ عَددهَا مئة وَعشْرين رَأْسا وركبوا فِي طلبَهَا بأسرهم بخيلهم ورجلهم فِي إثرهم فَلم يظفروا بطائل وَلم يرجِعوا بحاصل قَالَ الْعِمَاد كَانَ عز الدّين سامة مُتَوَلِّي بيروت وَلم يكن لمراكب الْعَدو بُد من الْجَوَاز بهَا أَو بقربها وَإِذا عبرت أخذت وَإِن كَانَت مستعدة لحربها فغنم هُوَ وَرِجَاله مَغَانِم خلدت لَهُ ادخار الْغنى وَكَثُرت فِي الْبَحْر غَزَوَاته وَوصل ملك الإنكلتير إِلَى قبرس فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر واشتغل بهَا عَن الْوُصُول إِلَى عكا حَتَّى أَخذهَا عنْوَة من صَاحبهَا وَكَانَت مُقَدمَات سفنه قد وصلت فاستولى سامة على خمس مِنْهَا مَمْلُوءَة رجَالًا وَنسَاء وأموالا وخيلا وَكَانَ فِي الزيب وَهُوَ شمَالي عكا طَائِفَة من الْمُسلمين يجهزون السفن الدَّاخِلَة إِلَى عكا ويقطعون الطَّرِيق على الفرنج قَالَ القَاضِي وَكَانَ للْمُسلمين لصوص يدْخلُونَ إِلَى خيام الْعَدو فيسرقون مِنْهُم حَتَّى الرِّجَال وَيخرجُونَ فَأخذُوا ذَات لَيْلَة طفْلا رضيعا لَهُ ثَلَاثَة أشهر فَلَمَّا فقدته أمه باتت مستغيثة بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور فِي طول تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى وصل خَبَرهَا إِلَى مُلُوكهمْ فَقَالُوا لَهَا إِنَّه رَحِيم الْقلب وَقد أذنا لَك فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ فاخرجي واطلبيه مِنْهُ فانه يردهُ عَلَيْك فَخرجت تستغيث لليزك الإسلامي وَأَخْبَرتهمْ بواقعتها فأطلقوها وأنفذوها إِلَى السُّلْطَان فَأَتَتْهُ وَهُوَ رَاكب على تل الخروبة وَأَنا فِي خدمته وَفِي خدمته خلق عَظِيم فَبَكَتْ بكاء شَدِيدا ومرغت وَجههَا فِي التُّرَاب فَسَأَلَ عَن قصَّتهَا فأخبروه فرق لَهَا ودمعت عينه وَأمر باحضار الرَّضِيع فَمَضَوْا فوجدوه قد بيع فِي السُّوق فَأمر بِدفع ثمنه إِلَى المُشْتَرِي وَأَخذه مِنْهُ وَلم يزل وَاقِفًا رَحمَه الله حَتَّى أحضر الطِّفْل وَسلم إِلَيْهَا فَأَخَذته وبكت بكاء شَدِيدا وضمته إِلَى صدرها وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهَا ويبكون وَأَنا وَاقِف فِي جُمْلَتهمْ فأرضعته سَاعَة ثمَّ أَمر بهَا فَحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مَعَ طفلها قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الرَّحْمَة الشاملة لجنس الانس اللَّهُمَّ إِنَّك خلقته رحِيما فارحمه رَحْمَة وَاسِعَة آمين قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل ظهير الدّين بن البلكنكري وَكَانَ مقدما من أُمَرَاء الْموصل وصل مفارقا لَهُم طَالبا خدمَة السُّلْطَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 قَالَ القَاضِي وَكَانَ للْمُسلمين لصوص يدْخلُونَ إِلَى خيام الْعَدو فيسرقون مِنْهُم حَتَّى الرِّجَال وَيخرجُونَ فَأخذُوا ذَات لَيْلَة طفْلا رضيعا لَهُ ثَلَاثَة أشهر فَلَمَّا فقدته أمه باتت مستغيثة بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور فِي طول تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى وصل خَبَرهَا إِلَى مُلُوكهمْ فَقَالُوا لَهَا إِنَّه رَحِيم الْقلب وَقد أذنا لَك فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ فاخرجي واطلبيه مِنْهُ فانه يردهُ عَلَيْك فَخرجت تستغيث لليزك الإسلامي وَأَخْبَرتهمْ بواقعتها فأطلقوها وأنفذوها إِلَى السُّلْطَان فَأَتَتْهُ وَهُوَ رَاكب على تل الخروبة وَأَنا فِي خدمته وَفِي خدمته خلق عَظِيم فَبَكَتْ بكاء شَدِيدا ومرغت وَجههَا فِي التُّرَاب فَسَأَلَ عَن قصَّتهَا فأخبروه فرق لَهَا ودمعت عينه وَأمر باحضار الرَّضِيع فَمَضَوْا فوجدوه قد بيع فِي السُّوق فَأمر بِدفع ثمنه إِلَى المُشْتَرِي وَأَخذه مِنْهُ وَلم يزل وَاقِفًا رَحمَه الله حَتَّى أحضر الطِّفْل وَسلم إِلَيْهَا فَأَخَذته وبكت بكاء شَدِيدا وضمته إِلَى صدرها وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهَا ويبكون وَأَنا وَاقِف فِي جُمْلَتهمْ فأرضعته سَاعَة ثمَّ أَمر بهَا فَحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مَعَ طفلها قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الرَّحْمَة الشاملة لجنس الانس اللَّهُمَّ إِنَّك خلقته رحِيما فارحمه رَحْمَة وَاسِعَة آمين قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل ظهير الدّين بن البلنكري وَكَانَ مقدما من أُمَرَاء الْموصل وصل مفارقا لَهُم طَالبا خدمَة السُّلْطَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 فصل فِي مضايقة الْعَدو - خذله الله - لعكا - يسر الله فتحهَا - واستيلائهم عَلَيْهَا قَالَ الْعِمَاد لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس رَابِع جُمَادَى الأولى زحف الفرنج إِلَى عكا ونصبوا عَلَيْهَا سَبْعَة مجانيق ووصلت كتب من عكا إِلَى السُّلْطَان بالاستنفار الْعَظِيم والتماس شغل الْعَدو عَنْهُم فَركب السُّلْطَان بعسكره وَكَانَ هَذَا دأبه مَعَهم كلما نابوا الْبَلَد نابهم فَإِذا زحف إِلَيْهِم رجعُوا عَن الْحصْر وَإِذا رَجَعَ عَنْهُم عَادوا وَكَانَ عَلامَة مَا بَين السُّلْطَان وَأهل الْبَلَد أَنه مَتى زحف الفرنج عَلَيْهِم دقوا كوسهم فَيدق كوس السُّلْطَان إِجَابَة لَهُم واستبعد السُّلْطَان مَنْزِلَته فتحول إِلَى تل العياضية تَاسِع جماد الأولى وَوصل ملك الإنكلتير ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى من قبرس وَمَعَهُ خمس وَعِشْرُونَ قِطْعَة وَهُوَ فِي جمع شَاك وجمر ذَاك فبلي الثغر مِنْهُ بِغَيْر الْبلَاء الأول هَذَا ومجانيق الْكفْر على الغي مُقِيمَة وللرمي مديمة وَتمكن الفرنج بهَا من الخَنْدَق فدنوا مِنْهُ دنو المحنق وشرعوا فِي هجمه وأسرعوا إِلَى طمه وداموا يرْمونَ فِيهِ جثث الْأَمْوَات وجيف الْخَنَازِير وَالدَّوَاب النافقات حَتَّى صَارُوا يلقون فِيهِ قتلاهم ويحملون إِلَيْهِ موتاهم وأصحابنا فِي مُقَاتلَتهمْ ومقابلتهم قد انقسموا فريقين وافترقوا قسمَيْنِ ففريق يلقِي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الخَنْدَق مَا ألقِي فِيهِ وفريق يقارع الْعَدو ويلاقيه قَالَ القَاضِي وَقد بلغ من مضايقتهم الْبَلَد ومبالغتهم فِي طم خندقه أَنهم كَانُوا يلقون فِيهِ موتى دوابهم وَكَانُوا إِذا جرح مِنْهُم وَاحِد جراحه مثخنة موئسة ألقوه فِيهِ وانقسم أهل الْبَلَد أقساما قسم ينزلون إِلَى الخَنْدَق ويقطعون الْمَوْتَى وَالدَّوَاب الَّتِي يلقونها فِيهِ قطعا ليسهل نقلهَا وَقسم ينقلون مَا يقطعهُ ذَلِك الْقسم ويلقونه فِي الْبَحْر وَقسم يَذبُّونَ عَنْهُم ويدافعون حَتَّى يتمكنوا من ذَلِك وَقسم فِي المنجنيقات وحراسة الأسوار وَأخذ مِنْهُم التَّعَب وَالنّصب وتواترت شكايتهم من ذَلِك قَالَ وَهَذَا ابتلاء لم يبتل بِمثلِهِ أحد وَلَا يصبر عَلَيْهِ جلد هَذَا وَالسُّلْطَان رَحمَه الله لَا يقطع الزَّحْف عَنْهُم والمضايقة على خنادقهم بِنَفسِهِ وخواصه وَأَوْلَاده لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى يشغلهم عَن الْبَلَد وصوبوا منجنيقاتهم إِلَى برج عين الْبَقر وتواترت عَلَيْهِ أَحْجَار المنجنيقات لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى أثرت فِيهِ الْأَثر الْبَين وَكلما ازدادوا فِي قتال الْبَلَد ازْدَادَ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ وكبس خنادقهم والهجوم عَلَيْهِم ودام ذَلِك حَتَّى وصل ملك الإنكلتير قَالَ وَفِي سادس عشر جُمَادَى وصلت بطسة من بيروت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 عَظِيمَة هائلة مشحونة بالآلات والأسلحة والمير وَالرِّجَال الْأَبْطَال الْمُقَاتلَة وَكَانَ السُّلْطَان قد أَمر بتعبئتها فِي بيروت وتسييرها وَوضع فِيهَا من الْمُقَاتلَة خلقا عَظِيما حَتَّى تدخل مراغمة لِلْعَدو وَكَانَ عدَّة رجالها الْمُقَاتلَة سِتّ مئة وَخمسين رجلا فاعترضها الإنكلتير الملعون فِي عدَّة شواني قيل إِنَّه كَانَ فِي أَرْبَعِينَ قلعا فاحتاطوا بهَا من جَمِيع جوانبها واشتدوا فِي قتالها وَجرى الْقَضَاء بِأَن وقف الْهَوَاء فقاتلوها قتالا شَدِيدا وَقتل من الْعَدو عَلَيْهَا خلق عَظِيم وأحرقوا على الْعَدو شانيا كَبِيرا فِيهِ خلق فهلكوا عَن آخِرهم وتكاثروا على أهل البطسة وَكَانَ مقدمهم رجلا جيدا شجاعا مجربا فِي الْحَرْب اسْمه يَعْقُوب من أهل حلب فَلَمَّا رأى أَمَارَات الْغَلَبَة عَلَيْهِم قَالَ وَالله لَا نقْتل إِلَّا عَن عز وَلَا نسلم إِلَيْهِم من هَذِه البطسة شَيْئا فوقعوا فِي البطسة من جوانبها بالمعاول يهدمونها حَتَّى فتحوها من كل جَانب أبوابا فامتلأت مَاء وغرق جَمِيع من فِيهَا وَمَا فِيهَا من الْآلَات والمير وَلم يظفر الْعَدو مِنْهَا بِشَيْء أصلا وتلقف الْعَدو بعض من كَانَ فِيهَا وأخذوه إِلَى الشواني من الْبَحْر وخلصوه من الْغَرق ومثلوا بِهِ وأنفذوه إِلَى الْبَلَد ليخبرهم بالواقعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 وحزن النَّاس لذَلِك حزنا شَدِيدا وَالسُّلْطَان يتلَقَّى ذَلِك بيد الاحتساب فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَالصَّبْر على بلائه قَالَ وَكَانَ الْعَدو المخذول قد صنع دبابة عَظِيمَة هائلة أَربع طَبَقَات الأولى من الْخشب وَالثَّانيَِة من الرصاص وَالثَّالِثَة من الْحَدِيد وَالرَّابِعَة من النّحاس وَكَانَت تعلو على السُّور وتركب فِيهَا الْمُقَاتلَة وَخَافَ أهل الْبَلَد مِنْهَا خوفًا عَظِيما وحدثتهم نُفُوسهم بِطَلَب الْأمان من الْعَدو وَكَانُوا قد قربوها من السُّور بِحَيْثُ لم يبْق بَينهَا وَبَين السُّور إِلَّا مِقْدَار خمس أَذْرع على مَا نشاهد وَأخذ أهل الْبَلَد فِي تَوَاتر ضربهَا بالنفط لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى قدر الله تَعَالَى حريقها واشتعال النَّار فِيهَا وَظهر لَهَا ذؤابة نَار نَحْو السَّمَاء واشتدت الْأَصْوَات بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَرَأى النَّاس ذَلِك جبرا لذَلِك الوهن ومحوا لذَلِك الْأَثر ونعمة بعد نقمة وإيناسا بعد يأس وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم غرق البطسة قَالَ الْعِمَاد فَكَانَ ذَلِك تسميتا لتِلْك العطسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ثمَّ جرى بعد ذَلِك عدَّة وقعات فِي هَذَا الشَّهْر وَهُوَ جُمَادَى الأولى وهجم الْمُسلمُونَ خيام الْعَدو ونهبوها وَوصل رجل كَبِير من أهل مازندان يُرِيد الْغُزَاة فوصل وَالْحَرب قَائِمَة فَحمل حَملَة اسْتشْهد فِيهَا فِي تِلْكَ السَّاعَة وَلم تزل الْأَخْبَار تتواصل من أهل الْبَلَد باستفحال أَمر الْعَدو والشكوى من ملازمتهم قِتَالهمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَذكر مَا ينالهم من التَّعَب الْعَظِيم من تَوَاتر الْأَعْمَال الْمُخْتَلفَة عَلَيْهِم من حِين قدوم الإنكلتير الملعون ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا أشفى فِيهِ على الْهَلَاك وجرح الافرنسيس وَلَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا اصرارا وعتوا وهرب إِلَى السُّلْطَان خادمان ذكرا أَنَّهُمَا لأخت ملك الإنكلتير وأنهما كَانَا يكتمان إيمانهما فقبلهما السُّلْطَان وأكرمهما وهرب أَيْضا المركيس مِنْهُم إِلَى صور وَكَانَ قد استشعر مِنْهُم أَن يخرجُوا ملكهَا عَن يَده قَالَ الْعِمَاد فِي الْبَرْق وَلما أعوزت الفرنج الْحِيَل وأعجزتهم تفاصيل تدابيرهم والجمل وَذَلِكَ أَن أبرجتهم الخشبية أحرقت وستائرهم ودباباتهم وكباشهم وزعت ومزعت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 ومزقت أَقَامُوا قُدَّام خيامهم صوب عكا تَلا من التُّرَاب مستطيلا ورفعوه كثيبا مهيلا ثمَّ نقلوه وحولوه وَكَانُوا يقفون وَرَاءه ويحولون إِلَى قدامه ترابه ويرفعون إِلَى قرب الْبَلَد رقابه فهم من خَلفه من النكايات محجوبون يشبون ويذبون ويدبرون الْحَرْب الزبون والتل المتحول إِلَى الْبَلَد قد أعيا على أهل الْجلد لَا تعْمل فِيهِ النَّار وَلَا يصل إِلَى دَفعه الاقتدار حَتَّى صَار من الْمَدِينَة على نصف غلوة سهم وَرمي بِكُل جمر ورجم فَمَا يزِيد فِي كل يَوْم إِلَّا قربا وَمَا يجر فِي كل وَقت إِلَّا خطبا وحربا وَكَانَ الْأَصْحَاب يخرجُون من الْبَلَد إِلَيْهِ ويقاتلون عَلَيْهِ ويطيفون بحول الله حواليه وَمن كتاب فاضلي إِلَى الدِّيوَان مَا قطع الْخَادِم الخدم إِلَّا أَنه قد أضجر وأسأم من المطالعة بِخَبَر هَذَا الْعَدو الَّذِي قد استفحل أمره واستشرى شَره فَإِن النَّاس مَا سمعُوا وَلَا رَأَوْا عدوا حاصرا محصورا غامرا مغمورا قد تحصن بخنادق تمنع الْجَائِز من الْجَوَاز وتعوق الفرص عَن الانتهاز وَلَا تقصر عدتهمْ عَن خَمْسَة آلَاف فَارس ومئة ألف راجل وَقد أفناهم الْقَتْل والأسر وأكلتهم الْحَرْب وَلَفْظهمْ النَّصْر وَقد أمدهم الْبَحْر بالبحار وأعان أهل النَّار أهل النَّار وَاجْتمعَ فِي هَذِه الجموع من الجيوش الغربية والألسنة الأعجمية من لَا يحصر معدوده وَلَا يصور فِي الدُّنْيَا وجوده فَمَا أحقهم بقول أبي الطّيب (تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة ... فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 حَتَّى إِنَّه أسر الْأَسير وَاسْتَأْمَنَ الْمُسْتَأْمن احْتِيجَ فِي فهم لغته إِلَى عدَّة تراجم ينْقل وَاحِد عَن الآخر وَيَقُول ثَان مَا يَقُول أول وثالث مَا يَقُول ثَان وَالْأَصْحَاب كلوا وملوا وصبروا إِلَى أَن ضجروا وتجلدوا إِلَى أَن تبلدوا والعساكر الَّتِي تصل من الْمَكَان الْبعيد لَا تصل إِلَّا وَقد كل ظهرهَا وَقل وفرها وضاق بالبيكار صدرها وَلَا تستفتح إِلَّا بِطَلَب الدستور وَيصير ضجرها مضرا بالسمعة عِنْد الْعَدو المخذول وَلَهُم قَاتلهم الله تنوع فِي المكايد فَإِنَّهُم قَاتلُوا مرّة بالأبرجة وَأُخْرَى بالمنجنيقات ورادفة بالدبابات وتابعة بالكباش وآونة باللوالب وَيَوْما بالنقب وليلا بالسرابات وطورا بطم الْخَنَادِق وآنا بِنصب السلالم ودفعة بالزحوف فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَحَالَة فِي الْبَحْر بالمراكب ثمَّ شرعوا فأقاموا فِي وسط خيامهم حَائِطا مستطيلا يشبه السُّور من التُّرَاب وتلالا تشبه الأبرجة مُدَوَّرَة ورفعوها بالأخشاب وعالوها بِالْحِجَارَةِ فَلَمَّا كملت أخذُوا التُّرَاب من وَرَائِهَا ورموه قدامها وهم يتقدمون أول أول وترتفع حَالا بعد حَال حَتَّى صَارَت مِنْهُ كَنِصْف غلوة سهم وَقد كَانَ الْحجر وَالنَّار تؤثران فِي أبرجة الْخشب وَهَذِه أبراج وستائر للرِّجَال والمنجنيقات من العطب لَا تُؤثر فِيهَا الْحِجَارَة الرامية وَلَا تعْمل فِيهَا النَّار الحامية قَالَ وَوصل فِي آخر جُمَادَى الأولى من العساكر الإسلامية مُجَاهِد الدّين يرنقش وَمَعَهُ عَسْكَر سنجار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة ابْن صَاحب الْموصل وَجَمَاعَة من أُمَرَاء مصر والقاهرة كعلم الدّين كرجي وَسيف الدّين سنقر الدووي وَغَيرهمَا من الأَسدِية والناصرية وَأما عَسَاكِر دياربكر فَإِنَّهُم تَأَخَّرُوا وَاعْتَذَرُوا بالخوف من جوَار تَقِيّ الدّين وَكَانَ قد تعرض للسويداء وَغَيرهَا وصعب ذَلِك على السُّلْطَان وَقَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان وَفِي مثل هَذَا الْوَقْت يتَعَرَّض لهَذَا المقت وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْهِ فِي هَذِه السّنة حَيْثُ أَسَاءَ عِنْد إِمْكَان الْحَسَنَة وَاشْتَدَّ مرض الإنكلتير بِحَيْثُ شغل الفرنج مَرضه عَن الزَّحْف وَكَانَ ذَلِك خيرة من الله عَظِيمَة فَإِن الْبَلَد كَانَ قد ضعف من فِيهِ ضعفا عَظِيما وهدمت المنجنيقات من السُّور مِقْدَار قامة الرجل فَكَانَ فِي هَذِه الفترة للبلد بَقَاء رَمق وَزَوَال فرق وانتعاش عَثْرَة وانجبار كسرة قَالَ القَاضِي واللصوص يدْخلُونَ عَلَيْهِم إِلَى خيامهم وَيَسْرِقُونَ أقمشتهم ونفوسهم وَيَأْخُذُونَ الرِّجَال فِي عَافِيَة بِأَن يجيئوا إِلَى الْوَاحِد وَهُوَ نَائِم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظونه وَيَقُولُونَ لَهُ بالاشارة إِن تَكَلَّمت ذبحناك ويحملونه وَيخرجُونَ بِهِ إِلَى عَسْكَر الْمُسلمين وَجرى ذَلِك مرَارًا كَثِيرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 ثمَّ تَكَرَّرت الرسائل من الفرنج إِلَى السُّلْطَان شغلا للْوَقْت بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ مِنْهَا أَن ملك الإنكلتير طلب الِاجْتِمَاع بِهِ ثمَّ فتر بعده أَيَّامًا ثمَّ جَاءَ رَسُوله يطْلب الاسْتِئْذَان فِي إهداء جوارح جَاءَت من الْبَحْر وَيذكر أَنَّهَا قد ضعفت وتغيرت وَطلب أَن يحمل لَهَا دَجَاج وطير تَأْكُله لتقوى ثمَّ تهدى ففهم أَنه مُحْتَاج إِلَى ذَلِك لنَفسِهِ لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بِمَرَض ثمَّ نفذ أَسِيرًا مغربيا عِنْده فَأَطْلقهُ السُّلْطَان ثمَّ أرسل فِي طلب فَاكِهَة وثلج فَأرْسل إِلَيْهِ ذَلِك وَكَانَ غرضهم من ذَلِك تفتير العزمات وتضييع الْأَوْقَات على الْمُسلمين وهم مشتغلون بالحصر وموالاة الرَّمْي وَالْجد بالزحف حَتَّى تبدلت قُوَّة الْبَلَد بالضعف وتخلخل السُّور وأنهك التَّعَب والسهر أهل الْبَلَد لقلَّة عَددهمْ وَكَثْرَة الْأَعْمَال عَلَيْهِم حَتَّى إِن جمَاعَة مِنْهُم بقوا ليَالِي عدَّة لَا ينامون أصلا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا والعدو عدد كثير يتناوبون على قِتَالهمْ وَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِم سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة فَركب السُّلْطَان بالعسكر الإسلامي ورغبهم ونخاهم وزحف على خنادق الْعَدو حَتَّى دخل فِيهَا الْعَسْكَر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وَجرى قتال عَظِيم وَهُوَ كالوالدة الثكلى يُحَرك فرسه من طلب إِلَى طلب ويحث النَّاس على الْجِهَاد وينادي بِنَفسِهِ ياللاسلاماه وَعَيناهُ قد فارت بالدمع وَكلما نظر إِلَى عكا وَمَا حل بهَا من الْبلَاء وَمَا يجْرِي على من بهَا من الْمُصَاب الْعَظِيم اشْتَدَّ فِي الزَّحْف والحث على الْقِتَال وَلم يطعم فِي ذَلِك الْيَوْم طَعَاما الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا شرب شَيْئا أَشَارَ بِهِ الطَّبِيب وَلما هجم اللَّيْل عَاد إِلَى الخيم وَقد أَخذ مِنْهُ التَّعَب والكآبة والحزن ثمَّ ركب سحرًا وصبحوا على مَا أَمْسوا عَلَيْهِ وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصلت مطالعة من الْبَلَد يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد بلغ بِنَا الْعَجز إِلَى غَايَة مَا بعْدهَا إِلَّا التَّسْلِيم وَنحن فِي الْغَد إِن لم تعملوا مَعنا شَيْئا نطلب الْأمان ونسلم الْبَلَد ونشتري مُجَرّد رقابنا وَكَانَ هَذَا أعظم خبر ورد على الْمُسلمين وأنكاه فِي قُلُوبهم فان عكا كَانَت قد احتوت على جَمِيع سلَاح السَّاحِل والقدس ودمشق وحلب ومصر أَيْضا فَرَأى السُّلْطَان مهاجمة الْعَدو فَلم يساعده الْعَسْكَر فَإِن الرجالة من الفرنج وقفُوا كالسور الْمُحكم الْبناء بِالسِّلَاحِ والزنبورك والنشاب من وَرَاء أسوارهم وهجم عَلَيْهِم بعض النَّاس من بعض أَطْرَافهم فثبتوا وذبوا غَايَة الذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وَحكى بعض من دخل عَلَيْهِم أسوارهم أَنه كَانَ هُنَاكَ وَاحِد من الفرنج صعد سور خندقهم وَجَمَاعَة يناولونه الْحِجَارَة وَهُوَ يرميها على الْمُسلمين وَوَقع فِيهِ زهاء خمسين سَهْما وحجرا وَهُوَ يتلقاها وَلم يمنعهُ ذَلِك عَمَّا هُوَ بصدده من الذب حَتَّى ضربه زراق بنفط فأحرقه ورؤيت امْرَأَة عَلَيْهَا ملوطة خضراءفما زَالَت ترمي بقوس من خشب حَتَّى جرحت جمَاعَة ثمَّ قتلت وحملت إِلَى السُّلْطَان فَعجب من ذَلِك وَلم تزل الْحَرْب إِلَى اللَّيْل وضعفت نفوس أهل الْبَلَد وَتمكن الْعَدو من الْخَنَادِق فملؤوها ونقبوا سور الْبَلَد وحشوه وأحرقوه فَوَقَعت بَدَنَة من الباشورة وَدخل الْعَدو إِلَيْهَا وَقتل مِنْهُم فِيهَا زهاء مئة وَخمسين نفسا وَكَانَ مِنْهُم سِتَّة أنفس من كبارهم فَقَالَ لَهُم وَاحِد مِنْهُم لَا تقتلوني حَتَّى أرحل الفرنج عَنْكُم بِالْكُلِّيَّةِ فبادر رجل من الأكراد وَقَتله وَقتل الْخَمْسَة الْبَاقِيَة وَفِي الْغَد ناداهم الفرنج احْفَظُوا السِّتَّة فَإنَّا نطلقكم كلكُمْ بهم فَقَالُوا إِنَّا قد قتلناهم فَحزن الفرنج وبطلوا عَن الزَّحْف ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج سيف الدّين المشطوب بِنَفسِهِ بِأَمَان إِلَى ملك الافرنسيس وَهُوَ كَانَ مقدم الْجَمَاعَة فِي الرُّتْبَة وَقَالَ لَهُ إِنَّا قد أَخذنَا مِنْكُم بلادا عدَّة وَكُنَّا نهدم الْبَلَد وندخل فِيهِ وَمَعَ هَذَا إِذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 سألونا الْأمان أعطيناهم وحملناهم إِلَى مأمنهم وأكرمناهم وَنحن نسلم الْبَلَد وتعطينا الْأمان على أَنْفُسنَا فَقَالَ أرى فِيكُم رَأْيِي فَأَغْلَظ لَهُ المشطوب القَوْل وَانْصَرف عَنهُ وَلما دخل المشطوب بِهَذَا الْخَبَر خَافَ جمَاعَة مِمَّن كَانُوا فِي الْبَلَد فَأخذُوا لَهُم بركوسا وَهُوَ مركب صَغِير وركبوا فِيهِ لَيْلًا خَارِجين إِلَى الْعَسْكَر الإسلامي مِنْهُم عز الدّين أرسل وحسام الدّين تمرتاش ابْن الجاولي وسنقر الوشاقي وَهُوَ من الأَسدِية الأكابر وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة فَأَما أرسل وسنقر فتغيبا خوفًا من السُّلْطَان وَأما ابْن الجاولي فظفر بِهِ وَرمي فِي الزردخاناه وَكَانَ سَابًّا أول مَا توفّي وَالِده فَقطع السُّلْطَان إقطاعاتهم وأقطعها وَحبس عَنْهُم عِنْد الرِّضَا بعد مُدَّة مديدة بشاشة وَجهه ومنعها وَكَانَ من جملَة الهاربين عبد القاهر الْحلَبِي نقيب الجاندارية الناصرية فشفع فِيهِ على أَنه يضمن على نَفسه العودة فَعَاد من ليلته وَوَقع بعد ذَلِك فِي الاسار واستفكه السُّلْطَان بعد سنة بثماني مئة دِينَار وَمن كتاب إِلَى صَاحب إربل مظفر الدّين لما عاين أَصْحَابنَا بِالْبَلَدِ مَا عَلَيْهِ من الْخطر وَأَنَّهُمْ قد أشفوا على الْغرَر فر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 جمَاعَة الْأُمَرَاء من قل بِاللَّه وثوقه وأعمى قلبه فجوره وفسوقه وَلَقَد خانوا الْمُسلمين فِي ثغرهم وباؤوا بوبال غدرهم وَمَا قوى طمع الْعَدو فِي الْبَلَد إِلَّا هَرَبهمْ وَمَا أرهب قُلُوب البَاقِينَ من مقاتلته إِلَّا رهبهم والمقيمون من أَصْحَابنَا الْكِرَام قد استحلوا مر الْحمام وَأَجْمعُوا أَنهم لَا يسلمُونَ حَتَّى يقتلُوا من الْأَعْدَاء أَضْعَاف أعدادهم وَأَنَّهُمْ يبذلون فِي صون ثغرهم غَايَة اجتهادهم وَكَانُوا تحدثُوا مَعَ الفرنجي فِي التَّسْلِيم فاشتطوا واشترطوا فصبروا بعد ذَلِك وَصَابِرُوا ومدوا أَيْديهم فِي الْقَوْم وبسطوا فَتَارَة يخرجونهم من الباشورة وَتارَة من النقوب وَالله تَعَالَى يسهل تَنْفِيس مَا هم فِيهِ من الكروب قَالَ القَاضِي وَفِي سحرة تِلْكَ اللَّيْلَة ركب السُّلْطَان مشعرا أَنه يُرِيد كبس الْقَوْم وَمَعَهُ الْمساحِي وآلات طم الْخَنَادِق فَمَا ساعده الْعَسْكَر على ذَلِك وتخاذلوا وَقَالُوا نخاطر بِالْإِسْلَامِ كُله وَفِي ذَلِك الْيَوْم خرج من عِنْد الإنكلتير رسل ثَلَاثَة طلبُوا فَاكِهَة وثلجا وَذكروا أَن مقدم الاسبتارية يخرج فِي الْغَد يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة يتحدث وَيَتَحَدَّثُونَ مَعَه فِي معنى الصُّلْح فأكرمهم السُّلْطَان ودخلوا سوق الْعَسْكَر وتفرجوا فِيهِ وعادوا تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى عَسْكَرهمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وَفِي ذَلِك الْيَوْم تقدم إِلَى قايماز النجمي حَتَّى يدْخل هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى أسوارهم عَلَيْهِم وترجل جمَاعَة من أُمَرَاء الأكراد كالجناح وَأَصْحَابه وَهُوَ أَخُو المشطوب ولفيفهم وزحفوا حَتَّى بلغُوا أسوار الفرنج وَنصب قايماز علمه بِنَفسِهِ على سورهم وَقَاتل عَن الْعلم قِطْعَة من النَّهَار وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل عز الدّين جرديك النوري وسوق الزَّحْف قَائِمَة فترجل هُوَ وجماعته وَقَاتل قتالا شَدِيدا واجتهد النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم اجْتِهَادًا عَظِيما قَالَ الْعِمَاد وَبَات الْعَسْكَر تِلْكَ اللَّيْلَة على الْخَيل تَحت الْحَدِيد منتظرا لنجح الأمل الْبعيد وَلما عرف السُّلْطَان أَنه لَا سَلامَة وَأَن عكا عدمت الاسْتقَامَة نفذ إِلَى جمَاعَة عكا سرا وَقَالَ لَهُم خُذُوا من الْعَدو حذرا وَاتَّفَقُوا واخرجوا لَيْلًا من الْبَلَد يدا وَاحِدَة وسيروا على جَانب الْبَحْر وصادموا الْعَدو بالقهر وخلوا الْبَلَد بِمَا فِيهِ واتركوه بِمَا يحويه فشرعوا فِي ذَلِك واشتغل كل مِنْهُم باستصحاب مَا يملكهُ وَلم يعلم أَن التهاءه بِهِ يهلكه فَمَا تمكنوا من المُرَاد حَتَّى أَسْفر الصَّباح وَلم يَصح ذَلِك فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة لمصير السِّرّ إِلَى الْعَلَانِيَة قَالَ وَلَو صَحَّ ذَلِك لنجح الْمَقْصد لَكِن الفرنج اطلعوا على هَذَا السِّرّ فحرسوا الجوانب والأبواب وَكَانَ سَبَب علمهمْ اثْنَيْنِ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 غلْمَان الهاربين خرجا إِلَى الملاعين وأخبراهم بجلية الْحَال وعزيمة الرِّجَال قَالَ وَخرج يَوْم الْجُمُعَة الْعَاشِر من الشَّهْر جمَاعَة من رسل الفرنج وَنحن على الْحَرْب ومحاولة الطعْن وَالضَّرْب وَفِيهِمْ صَاحب صيدا فَطلب نجيب الدّين الْعدْل وَكَانَ السُّلْطَان يعذق بِهِ فِي رسالات الفرنج العقد والحل وعول السُّلْطَان فِي سَماع الرسائل على وَلَده الْأَفْضَل وأخيه الْعَادِل وَتردد الْعدْل مرَارًا فِي الْخطاب وَالْجَوَاب فَلم ينْفَصل الْأَمر على الصَّوَاب وبذلنا لَهُم عكا على مَا فِيهَا دون من فِيهَا وَأَنا نطلق لَهُم أسرى بِعَدَد الْعدة الَّتِي تحويها فَأَبَوا غير الاشتطاط فزدناهم صَلِيب الصلبوت فَلم يحصل لَهُم بِهِ كَمَال الِاغْتِبَاط هَكَذَا قَالَ فِي الْبَرْق وَقَالَ فِي الْفَتْح إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت وَقَالَ اشترطوا إِعَادَة جَمِيع الْبِلَاد وَإِطْلَاق أساراهم من الأقياد وَضعف الْبَلَد وَعجز من فِيهِ ضعفا لَا يُمكن تلافيه ووقف كرام أَصْحَابنَا وسدوا الثغر بصدورهم وشرعوا فِي بِنَاء سور يقتطع جانبا حَتَّى يَنْتَقِلُوا إِلَيْهِ إِذا شاهدوا الْعَدو غَالِبا وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت الْحَادِي عشر وَقَالَ لبست الفرنج بأسرها لِبَاس الْحَرْب وتحركوا حَرَكَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 عَظِيمَة بِحَيْثُ اعْتقد أَنه رُبمَا كَانَ مصَاف وَاصْطَفُّوا وَخرج من الْبَاب الَّذِي تَحت الْقبَّة زهاء أَرْبَعِينَ نفسا واستدعوا جمَاعَة من المماليك وطلبوا مِنْهُم الْعدْل الزبداني وَذكروا أَنه يَعْنِي الْخَارِج صَاحب صيدا طليق السُّلْطَان فَذكر نَحْو مَا تقدم قَالَ وتصرم نَهَار السبت وَلم ينْفَصل حَال قَالَ وَلما كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر الشَّهْر وصل من الْبَلَد كتب يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد تبايعنا على الْمَوْت فاياكم أَن تخضعوا لهَذَا الْعَدو وتلينوا لَهُ فَأَما نَحن فقد فَاتَ أمرنَا وَذكر الْعَوام الْوَاصِل بِهَذِهِ الْكتب أَنه وَقع بِاللَّيْلِ صَوت انزعج مِنْهُ الطائفتان وَظن الفرنج أَن عسكرا عَظِيما قد عبر إِلَى عكا وَسلم وَصَارَ فِيهَا واندفع كيد الْعَدو فِي تِلْكَ الْأَيَّام بعد أَن كَانَ قد أشفى الْبَلَد على الْأَخْذ وَوصل من عَسَاكِر الْإِسْلَام صَاحب شيزر سَابق الدّين وَبدر الدّين دلدرم وَمَعَهُ تركمان كثير كَانَ السُّلْطَان أنفذ إِلَيْهِ ذَهَبا أنفقهُ فيهم وَصَاحب حمص وَاشْتَدَّ ضعف الْبَلَد وَكَثُرت ثغر سوره فبنوا عوض الثلمة سورا من داخلها حَتَّى إِذا تمّ انهدامها قَاتلُوا عَلَيْهِ وَثَبت الفرنج - لعنهم الله - على أَنهم لَا يصالحون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وَلَا يُعْطون الَّذين فِي الْبَلَد أَمَانًا حَتَّى يُطلق جَمِيع الأسرى الَّذين فِي أَيدي الْمُسلمين وتعاد الْبِلَاد الساحلية إِلَيْهِم وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر الشَّهْر خرج الْعَوام وَفِي كتبه أَن أهل الْبَلَد ضَاقَ بهم الْأَمر وتيقنوا أَنه مَتى أَخذ الْبَلَد عنْوَة ضربت رقابهم عَن آخِرهم وَأخذ جَمِيع مَا فِيهِ من الْعدَد والأسلحة والمراكب وَغير ذَلِك فصالحوهم على أَنهم يسلمُونَ إِلَيْهِم الْبَلَد وَجَمِيع مَا فِيهِ من الْآلَات وَالْعدَد والمراكب ومئتي ألف دِينَار وألفا وَخمْس مئة أَسِير مَجَاهِيل الْأَحْوَال ومئة أَسِير مُعينين من جانبهم يختارونهم وصليب الصلبوت على أَنهم يخرجُون بِأَنْفسِهِم سَالِمين وَمَا مَعَهم من الْأَمْوَال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم وَنِسَائِهِمْ وضمنوا للمركيس الملعون - فَإِنَّهُ كَانَ قد استرضي وَعَاد - عشرَة آلَاف دِينَار لانه كَانَ وَاسِطَة ولأصحابه أَرْبَعَة آلَاف دِينَار واستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك بَينهم وَبَين الفرنج وَلما وقف السُّلْطَان على ذَلِك أنكرهُ وأعظمه وعزم على أَن يكْتب إِلَيْهِم فِي إِنْكَار ذَلِك عَلَيْهِم فَهُوَ فِي مثل هَذِه الْحَال وَقد جمع أُمَرَاء وَأَصْحَاب مشورته فَمَا أحس الْمُسلمُونَ إِلَّا وَقد ارْتَفَعت أَعْلَام الْكفْر وصلبانه وشعاره وناره على أسوار الْبَلَد وَذَلِكَ فِي ظهيرة نَهَار الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وَصَاح الفرنج صَيْحَة وَاحِدَة وعظمت الْمُصِيبَة على الْمُسلمين وَاشْتَدَّ حزن الْمُوَحِّدين وانحصر كَلَام الْعُقَلَاء من النَّاس فِي تِلَاوَة {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} وَغشيَ النَّاس بهتة عَظِيمَة وحيرة شَدِيدَة وَوَقع فِي الْعَسْكَر الصياح والعويل والبكاء والنحيب وَكَانَ لكل قلب حَظّ فِي ذَلِك على قدر إيمَانه وَلكُل إِنْسَان نصيب من هَذَا الْحَظ على مِقْدَار ديانته ونخوته وأقشعت الْحَال على أَن المركيس - لَعنه الله - دخل الْبَلَد وَمَعَهُ أَرْبَعَة أَعْلَام للملوك فنصب علما على القلعة وعلما على مئذنة الْجَامِع فِي يَوْم الْجُمُعَة وعلما على برج الداوية وعلما على برج الْقِتَال عوضا عَن علم الْإِسْلَام وحيز الْمُسلمُونَ إِلَى بعض أَطْرَاف الْبَلَد وَجرى على أهل الْإِسْلَام المشاهدين لتِلْك الْحَال مَا كثر التَّعَجُّب من الْحَيَاة مَعَه قَالَ ومثلت بِخِدْمَة السُّلْطَان - رَحمَه الله - عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وهوأشد حَالَة من الوالدة الثكلى والوالهة الحيرى فسليته بِمَا تيَسّر من التسلية وأذكرته الْفِكر فِيمَا قد استقبله من الْأَمر فِي معنى الْبِلَاد الساحلية والقدس الشريف وَكَيْفِيَّة الْحَال فِي ذَلِك وإعمال الْفِكر فِي خلاص الْمُسلمين فِي الْبَلَد وانفصل الْحَال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 على أَن رأى التَّأَخُّر عَن تِلْكَ الْمنزلَة مصلحَة فَإِنَّهُ لم يبْق غَرَض فِي المضايقة فَتقدم بِنَقْل الأثقال لَيْلًا إِلَى الْمنزلَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَولا بشفرعم وَأقَام هُوَ جَرِيدَة مَكَانَهُ لينْظر مَاذَا يكون من أَمر الْعَدو وَحَال أهل الْبَلَد فانتقل النَّاس فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الصَّباح واشتغل الْعَدو بِالِاسْتِيلَاءِ على الْبَلَد وَأقَام السُّلْطَان إِلَى التَّاسِع عشر ثمَّ انْتقل إِلَى الثّقل وَوصل ثَلَاثَة نفر وَمَعَهُمْ أقوش حَاجِب بهاء الدّين قراقوش وَكَانَ لِسَانه فَإِنَّهُ كَانَ رجلا عَاقِلا - مستنجزين مَا وَقع عَلَيْهِ عقد الصُّلْح من المَال والأسرى فأقاموا لَيْلَة مكرمين وَسَارُوا إِلَى دمشق يبصرون الْأُسَارَى قَالَ الْعِمَاد وَخرج سيف الدّين مشطوب وحسين بن باريك وأخذا أَمَان الفرنج يَعْنِي على القطيعة الْمُقدم ذكرهَا قَالَ وَلم نشعر إِلَّا بالرايات الفرنجية على عكا مركوزة واعطاف أعلامها مهزوزة وَعم الْبلَاء وَتمّ الْقَضَاء وَعز العزاء وَقَنطَ الرَّجَاء وحضرنا عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ مُغْتَم وبالتدبير للمستقبل مهتم فعزيناه وسليناه وَقُلْنَا هَذِه بَلْدَة مِمَّا فَتحه الله قد استعادها عداهُ وَقلت لَهُ إِن ذهبت مَدِينَة فَمَا ذهب الدّين وَلَا ضعف فِي نصر الله الْيَقِين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 قَالَ ودخلوا عكا وتسلموها وَلم يقفوا على الشَّرَائِط الَّتِي أحكموها فَإِنَّهُم منعُوا أَصْحَابنَا من الْخُرُوج واحتاطوا عَلَيْهِم وعَلى أَمْوَالهم وبدؤوا بحبسهم واعتقالهم ثمَّ طلبُوا المَال فَجَمعه السُّلْطَان وكمله وأودعه خزانته بَعْدَمَا حصله وأحضر صليبهم الْمَطْلُوب المسلوب وَأتم شرطهم المخطوب فظهرت أَمَارَات غدرهم وبدت دَلَائِل مَكْرهمْ وَفِي كتاب كتبه الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى شمس الدولة بن منقذ وَهُوَ بالمغرب فِي الرسَالَة لقد تجاوزت عدَّة من قتل على عكا - يَعْنِي من الفرنج - الْخمسين ألفا قولا لَا يُطلقهُ التسمح بل يحزره التصفح فانبروا فِي هَذِه السّنة ملكا إفرنسيس وإنكلتير وملوك آخَرُونَ فِي مراكب بحريّة وحمالة حملُوا فِيهَا الْخُيُول والخيالة والمقاتلة والآلة ووصلت كل سفينة تحمل كل مَدِينَة وَأَحْدَقَتْ بالثغر فمنعت النَّاقِل بِالسِّلَاحِ إِلَيْهِ والداخل بالميرة عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَأخذ الْبَلَد على سلم كالحرب ودخله الْعَدو وَلَو لم يدْخلهُ من الْبَاب دخل من النقب وَمَا وَهنا لما أَصَابَنَا فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفنا وَلَا رَجعْنَا وَرَاءَنَا وَلَا انصرفنا بل نَحن بمكاننا نَنْتَظِر أَن يبرزوا فنبارزهم ويخرجوا فنناجزهم وينتشروا فنطويهم وينبثوا فنزويهم وأقمنا على طرقهم وخيمنا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 مخنقهم وأخذنا بأطرار خندقهم وأحوج مَا كُنَّا الْآن إِلَى النجدة البحرية والأساطيل المغربية فَإِن عاريتنا بهَا ترد وعاديتنا بهَا تشتد والأمير يبلغ مَا بلغه من خطب الْإِسْلَام وخطوبه وَيقوم فِي الْبَلَاغ يَوْم الْجُمُعَة مقَام خَطِيبه ويعجل العودة وَقبلهَا الاجابة ويستصحب السهْم ويسبق ببشرى الاصابة ويشعر أَن الرَّايَة قد رفعت لنصر تقدم بِهِ عرابه فَإِن للاسلام نظرات إِلَى الْأُفق الغربي يقلبها وخطرات من اللطف الْخَفي يقربهَا وَيَكْفِي من حسن الظَّن أَنَّهَا نظرة ردَّتْ الْهوى الشَّرْقِي غربا وخطرة أوهمت أَن تِلْكَ الهمة لَو تلم بالسفائن لأخذت كل سفينة غصبا قَالَ الْعِمَاد وعزم الْملك إفرنسيس على الْمسير إِلَى بِلَاده لأمر اخْتَلَّ عَلَيْهِ فَأخذ قسما من الْأُسَارَى وسلمهم إِلَى المركيس ووكله فِي قبض نصِيبه وَرَضي بتدبيره وترتيبه وَخرج الفرنج يَوْم الْخَمِيس انسلاخ الشَّهْر من جَانب الْبَحْر وانتشروا بالمرج ووصلوا إِلَى الْآبَار الَّتِي حفرهَا اليزك وتواقعوا واواقعوا مَعَ اليزك وأمدهم السُّلْطَان ففلوا الْعَدو وصرع مِنْهُم خَمْسُونَ فَارِسًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 قَالَ القَاضِي وجرح خلق عَظِيم وَلم يزل السَّيْف فيهم حَتَّى دخلُوا خنادقهم قَالَ وَلم تزل الرُّسُل تَتَرَدَّد بَين الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى كَانَ يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَجَب فَخرج حسام الدّين حُسَيْن بن باريك المهراني وَمَعَهُ اثْنَان من أَصْحَاب الانكلتير فَأخْبر أَن ملك الافرنسيس صَار إِلَى صور وَذكروا أَشْيَاء من تَحْرِير أَمر الْأُسَارَى وطلبوا أَن يشاهدوا صَلِيب الصلبوت وَأَنه هَل هُوَ فِي الْعَسْكَر أَو حمل إِلَى بَغْدَاد فأحضر صَلِيب الصلبوت وشاهدوه وعظموه ورموا نُفُوسهم إِلَى الأَرْض ومرغوا وُجُوههم على التُّرَاب وخضعوا خضوعا عَظِيما لم ير مثله وَذكروا أَن الْمُلُوك قد أجابوا السُّلْطَان إِلَى أَن يكون مَا وَقع عَلَيْهِ الْقَرار يدْفع فِي تروم ثَلَاثَة - أَي نُجُوم - كل ترم شهر وَلم تزل الرُّسُل تتواتر فِي تَحْرِير الْقَاعِدَة وتنجيزها حَتَّى حصل لَهُم مَا التمسوه من الْأُسَارَى وَالْمَال الْمُخْتَص بذلك الترم وَهُوَ الصَّلِيب ومئة ألف دِينَار وَألف وست مئة أَسِير وأنفذوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 ثقاتهم وشاهدوا الْجَمِيع ماعدا الْأُسَارَى المعينين من جانبهم فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا فرغوا من تعيينهم وَلم يكملوهم حَتَّى يحصلوا وَلم يزَالُوا يطاولون ويقضون الزَّمَان حَتَّى انْقَضى الترم الأول من ثامن عشر رَجَب ثمَّ أنفذوا فِي ذَلِك الْيَوْم يطْلبُونَ ذَلِك فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان إِمَّا أَن تنفذوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا وتتسلموا الَّذِي عين لكم فِي هَذَا الترم ونعطيكم رهائن على الْبَاقِي يصل إِلَيْكُم فِي ترومكم الْبَاقِيَة وَإِمَّا أَن تعطونا رهائن على مَا نسلمه إِلَيْكُم حَتَّى تخْرجُوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا فَقَالُوا لَا نَفْعل شَيْئا من ذَلِك بل تسلمون مَا نقبضه بِهَذَا الترم وتقنعون بأمانتنا حَتَّى نسلم إِلَيْكُم أصحابكم فَأبى السُّلْطَان ذَلِك لعلمه أَنهم إِن تسلموا المَال والصليب والأسرى وأصحابنا عِنْدهم لَا يُؤمن غدرهم فَلَمَّا رَأَوْهُ قد امْتنع من ذَلِك أخرجُوا خيامهم إِلَى ظَاهر خنادقهم مبرزين فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين الإنكلتير وَجَمَاعَة من الخيالة والرجالة والتركبل وركبوا فِي وَقت الْعَصْر السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَارُوا حَتَّى أَتَوا إِلَى الْآبَار الَّتِي تَحت تل العياضية وَقدمُوا خيامهم إِلَيْهَا وَسَارُوا حَتَّى توسطوا المرج بَين تل كيسَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وتل العياضية ثمَّ أحضروا من الْأُسَارَى الْمُسلمين من كتب الله شَهَادَته وَكَانُوا زهاء ثَلَاثَة آلَاف مُسلم فِي الحبال ووقفوهم وحملوا عَلَيْهِم حَملَة الرجل الْوَاحِد فَقَتَلُوهُمْ صبرا طَعنا وَضَربا بِالسَّيْفِ - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - واليزك الإسلامي يشاهدهم وَلَا يعلم مَاذَا يصنعون لبعده عَنْهُم وَكَانَ اليزك قد أنفذ إِلَى السُّلْطَان وأعلمه بركوب الْقَوْم ووقوفهم فأنفذ إِلَى اليزك من قواه وَبعد أَن فرغوا مِنْهُم حمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَجَرت بَينهم حَرْب عَظِيمَة جرى فِيهَا قتل وجرح من الْجَانِبَيْنِ ودام الْقِتَال إِلَى أَن فصل اللَّيْل بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَأصْبح الْمُسلمُونَ يكشفون الْحَال فوجدوا الْمُسلمين الشُّهَدَاء فِي مصَارِعهمْ وَعرفُوا من عرفُوا مِنْهُم وَغشيَ الْمُسلمين بذلك حزن عَظِيم وَلم يبقوا من الْمُسلمين إِلَّا رجلا مَعْرُوفا مقدما أَو قَوِيا أيدا للْعَمَل فِي عمائرهم قَالَ الْعِمَاد وَطلب السُّلْطَان مِنْهُم أَن يضمنهم الداوية فِي قبض المَال فَقَالَ الداوية مَا ندخل فِي الضَّمَان فاقنعوا مِنْهُم بالْقَوْل والأمان فَظهر من فحوى كَلَامهم الْخلف ثمَّ ذكر قتل الْأُسَارَى قَالَ فشاهدناهم مستشهدين وبالعراء عرايا مجردين وَلَا شكّ أَن الله كساهم من سندس النَّعيم ونقلهم إِلَى دَار المقامة فِي الْعِزّ الْمُقِيم وَتصرف السُّلْطَان حِينَئِذٍ فِي الْحَال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وَفرق مَجْمُوعَة فِي رَجَاء الرِّجَال وَأعَاد الْأُسَارَى إِلَى أَرْبَابهَا واحتوت عَلَيْهَا بِدِمَشْق أَيدي أَصْحَابهَا وَحفظ الصَّلِيب السليب ورده إِلَى مَكَانَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى صوانه لَا لعزه بل لهوانه فَإِنَّهُ لَا مصاب عِنْدهم أعظم من استيلائنا عَلَيْهِ وامتداد أَيْدِينَا إِلَيْهِ وَقد بذل فِيهِ الرّوم ثمَّ الكرج بذولا وأنفذوا بعد رَسُول رَسُولا فَمَا وجدوا قبولا وَلَا صادفوا سولا وَمن كتاب عمادي عَن السُّلْطَان فِي ذَلِك وللكرام آجال وَالْحَرب سِجَال وَللَّه من الْمُؤمنِينَ رجال والآن فقد ثارت الحميات وهبت النخوات وَوَجَب على كل مُسلم أَن ينْهض لنصرة الْإِسْلَام ويتدارك مَا حدث من الْكسر والوهن بالجبر والاحكام وَيُعِيد مَا وهى من عقدَة الْفتُوح إِلَى النظام فَأَيْنَ ذَوُو الأنفة وَالْحمية والهمم الْعلية والنفوس الأبية أما يغتمون لمصرع من اسْتشْهد من إخْوَانهمْ أما يثورون لثأر إِيمَانهم أما تبْكي الْعُيُون لمن قتل من أماثلهم وأعيانهم فَإِن مصابهم عَظِيم ومقامهم عِنْد رَبهم الْكَرِيم كريم وَأَرَادَ الله بذلك تَنْبِيه الهمم الراقدة وإثارة العزائم الراكدة فصل فِيمَا جرى بعد انْفِصَال أَمر عكا قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن الفرنج رحلت صوب عسقلان مستهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 شعْبَان وَسَار السُّلْطَان فِي عراضهم والمسلمون يخطفونهم وَيقْتلُونَ مِنْهُم وَيَأْسِرُونَ ويجرحون ويسلبون وَيَسْرِقُونَ وكل أَسِير أُتِي بِهِ السُّلْطَان أَمر بقتْله ووصلوا إِلَى حيفا فأقاموا بهَا وَنزل الْمُسلمُونَ بالقيمون وَقدم السُّلْطَان ثقله إِلَى مجدل يابا وأضحى نازلا على النَّهر الْجَارِي إِلَى قيسارية وودع الْفَاضِل السُّلْطَان وَسَار إِلَى دمشق لِأَنَّهَا مدرج الوافدين من الأكابر والنواب بهَا رُبمَا جبنوا عَن إِقَامَة الْوَظَائِف وَكَانَ الْأَمر الفاضلي عِنْدهم كالأمر السلطاني فَإِذا استشاروه خلصوا من كل تبعة ودرك وَفِي تَاسِع شعْبَان جَاءَ الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا وتألبوا وهم يَسِيرُونَ فِي السَّاحِل بالفارس والراجل وَعَن يمينهم الْبَحْر وَعَن يسارهم الرمل وَكَانَت الرجالة حَولهمْ كالسور وَعَلَيْهِم الكبورة الثخنية والزرديات السابغة المحكمة بِحَيْثُ يَقع فيهم النشاب وَلَا يتأثرون وهم يرْمونَ بالزنبورك فتجرح خُيُول الْمُسلمين وَغَيرهم قَالَ القَاضِي وَلَقَد شاهدتهم وَفِي ظهر الْوَاحِد مِنْهُم النشابة وَالْعشرَة مغروزة وَهُوَ يسير على هينته من غير انزعاج وَثمّ قسم آخر من الرجالة مستريح يَمْشُونَ على جَانب الْبَحْر وَلَا قتال عَلَيْهِم فَإِذا تَعب هَؤُلَاءِ الْمُقَاتلَة أَو أثخنتهم الْجراح قَامَ مقامهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الْقسم المستريح واستراح الْقسم الْعمَّال هَذَا والخيالة فِي وَسطهمْ لَا يخرجُون عَن الرجالة إِلَّا فِي وَقت الحملة لَا غير وَقد انقسموا أَيْضا ثَلَاثَة أَقسَام الأول الْملك الْعَتِيق جفري وَجَمَاعَة الساحلية مَعَه فِي الْمُقدمَة والانكتار والفرنسيسية مَعَه فِي الْوسط وَأَوْلَاد السِّت أَصْحَاب طبرية وَطَائِفَة أُخْرَى فِي السَّاقَة وَفِي وسط الْقَوْم برج على عجلة وعلمهم على مَا وَصفته من قبل يسير أَيْضا فِي وَسطهمْ على عجلة كالمنارة الْعَظِيمَة وَسَارُوا على هَذَا الْمِثَال وسوق الْحَرْب قَائِمَة بَين الطَّائِفَتَيْنِ والمسلمون يرمونهم من جوانبهم بالنشاب ويحركون عزائمهم حَتَّى يخرجُوا وهم يحفظون نُفُوسهم حفظا عَظِيما ويقطعون الطَّرِيق على هَذَا الْوَضع ويسيرون سيرا رَفِيقًا ومراكبهم تسير فِي مقابلتهم فِي الْبَحْر إِلَى أَن أَتَوا الْمنزل فنزلوا وَكَانَت مَنَازِلهمْ قريبَة لأجل الرجالة فَإِن المستريحين مِنْهُم كَانُوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلَّة الظّهْر عَلَيْهِم قَالَ فَانْظُر إِلَى صَبر هَؤُلَاءِ الْقَوْم على الْأَعْمَال الشاقة من غير ديوَان وَلَا نفع وَطَاف الجاليش حَولهمْ من كل جَانب ولزوهم بالنشاب وَكلما ضعف قسم عاونه الَّذِي يَلِيهِ وهم يحفظ بَعضهم بَعْضًا والمسلمون محدقون بهم من ثَلَاثَة جَوَانِب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وَرَأَيْت السُّلْطَان وَهُوَ يسير بِنَفسِهِ بَين الجاليشية ونشاب الْقَوْم يتجاوزه وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا صبيان بجنيبين لَا غير وَهُوَ يسير من طلب إِلَى طلب يحثهم على التَّقَدُّم وَيَأْمُرهُمْ بمضايقة الْقَوْم والصياح بالتهليل وَالتَّكْبِير يرْتَفع والعدو على أتم ثبات على ترتيبهم لَا يتغيرون وَلَا ينزعجون وَجَرت حملات كَثِيرَة ورجالتهم تجرح الْمُسلمين وخيولهم بالزنبورك والنشاب إِلَى أَن أَتَوا إِلَى نهر الْقصب فنزلوا عَلَيْهِ وَقد قَامَ قَائِم الظهيرة وضربوا خيامهم وتراجع النَّاس عَنْهُم فانهم كَانُوا إِذا نزلُوا أيس النَّاس من أَمر يتم مَعَهم وَفِي ذَلِك الْيَوْم قتل من فرسَان الْمُسلمين وشجعانهم أياز الطَّوِيل وَهُوَ من مماليك السُّلْطَان وَكَانَ قد فتك بهم وَقتل خلقا من خيالتهم وشجعانهم وَكَانَ قد استفاضت شجاعته بَين العسكرين بِحَيْثُ إِنَّه جرت لَهُ وقعات كَثِيرَة صدقت أَخْبَار الْأَوَائِل وَصَارَ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا عرفه الفرنج فِي مَوضِع تجافوا عَنهُ فاتفق أَن تقطر بِهِ فرسه فاستشهد فِي ذَلِك الْيَوْم وَدفن على تل مشرف على الْبركَة وحزن الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ حزنا عَظِيما وَقتل عَلَيْهِ مَمْلُوك لَهُ وَنزل السُّلْطَان بالثقل على الْبركَة وَهُوَ مَوضِع تَجْتَمِع فِيهِ مياه كَثِيرَة ثمَّ رَحل بعد الْعَصْر وأتى نهر الْقصب فَنزل عَلَيْهِ أَيْضا فَكُنَّا نشرب من أَعْلَاهُ والعدو يشرب من أَسْفَله لَيْسَ بَيْننَا إِلَّا مَسَافَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 يسيرَة وَبَات الْفَرِيقَانِ هُنَاكَ قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت نوبَة اليزك لعز الدّين إِبْرَاهِيم ابْن الْمُقدم فِي السَّاقَة وَكَانَت الفرنج قد أنست بِانْقِضَاء الْحَرْب فَخرج مِنْهَا جمَاعَة مسترسلين وتقدموا على اليزكية مشرفين فَبَصر بهم ابْن الْمُقدم فَعبر إِلَيْهِم من ورائهم هُوَ وَمن مَعَه النَّهر وهم لم يَأْخُذُوا من خَلفهم الحذر ففجأهم وفجعهم وَفرغ من شغلهمْ قبل أَن يدركهم الصَّرِيخ وسلبهم وغنمهم ثمَّ نَهَضَ الفرنج إِلَيْهِ وحملوا عَلَيْهِ وَجَرت وقْعَة شَدِيدَة لحزب الضلال مبيدة جلبت لنا غنيمَة وَعَلَيْهِم هزيمَة وأحضر الْأُسَارَى عِنْد السُّلْطَان بحزام الذل والهوان فَأخْبرُوا أَنهم جرح مِنْهُم بالْأَمْس ألف وسرى فيهم وَهن وَضعف ثمَّ رَحل السُّلْطَان وَعبر شعراء أرسوف وَنزل على قَرْيَة تعرف بدير الراهب وَطلب ملك الإنكلتير الِاجْتِمَاع بِالْملكِ الْعَادِل خلْوَة فاجتمعا فَأَشَارَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَاصِل كَلَامه أَنه قد طَال بَيْننَا الْقِتَال وَنحن جِئْنَا فِي نصْرَة إفرنج السَّاحِل فَاصْطَلَحُوا أَنْتُم وهم وكل منا يرجع إِلَى مَكَانَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 فَقَالَ على مَاذَا يكون الصُّلْح قَالَ على أَن يسلم إِلَى أهل السَّاحِل مَا أَخذ مِنْهُم من الْبِلَاد فَأبى الْملك الْعَادِل وَأخْبرهُ أَن دون ذَلِك قتل كل فَارس وراجل فَرجع مغضبا وَفِي يَوْم السبت رَابِع عشر شعْبَان كَانَت وقْعَة أرسوف تأهب الْمُسلمُونَ للقائهم فأزعجوهم وأبلوهم ببلائهم فَلَمَّا رأى الْعَدو مَا هُوَ فِيهِ من الضيقة احتموا وحملوا حَملَة وَاحِدَة فانكشف من كَانَ قدامهم واندفعوا وَثَبت ذَلِك الْيَوْم الْعَادِل وَأَصْحَابه وقايماز النجمي وعسكر الْموصل ثمَّ كرت العساكر إِلَيْهِم وَجَرت النوائب عَلَيْهِم فجرت بَين الفئتين مقتلة عَظِيمَة فلجؤوا إِلَى جدران أرسوف وَلَوْلَا ذَلِك لاستوعبت فيهم الحتوف فَنزل السُّلْطَان على نهر العوجاء ورحل الْعَدو إِلَى يافا فنزلوها والمسلمون على الْعَادة فِي عراضهم مُقِيمَة على تبديد جموعهم واعتراضهم وَقتل يَوْم أرسوف لَهُم كند كَبِير تَحت حكمه من الفرنج عدد كثير وَكَانَ من عظم شَأْنه وفخامة مَكَانَهُ أَنه يَوْم صرع قَاتل دونه جمَاعَة من المقدمين فَمَا قتل حَتَّى قتلوا وَلَا بذل روحه حَتَّى بذلوا قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد رَأَيْتهمْ وَقد اجْتَمعُوا فِي وسط الرجالة وَأخذُوا رماحهم وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وَفرج لَهُم رجالتهم وحملوا حَملَة وَاحِدَة من الجوانب كلهَا فَانْدفع النَّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 بَين أَيْديهم وَلم يبْق فِي طلب السُّلْطَان إِلَّا سَبْعَة عشر مُقَاتِلًا والأعلام بَاقِيَة والكوس يدق لَا يفتر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان مَا نزل بِالْمُسْلِمين سَار حَتَّى أَتَى طلبه فَوقف فِيهِ وَالنَّاس يفرون من الجوانب وَكلما رأى فَارًّا أَمر من يحضرهُ عِنْده فَاجْتمع فِي الطّلب خلق عَظِيم ووقف الْعَدو قبالتهم على رُؤُوس التلول والروابي وَخَافَ الْعَدو أَن يكون فِي الشُّعَرَاء كمين وثابت العساكر كلهَا فتراجع الْعَدو إِلَى مَنْزِلَته وَجلسَ السُّلْطَان ينْتَظر النَّاس من الْعود من السَّقْي والجرحى يحْضرُون بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يتَقَدَّم بمداواتهم وَحَملهمْ وَقتل رجالة كَثِيرَة وجرح جمَاعَة من الطَّائِفَتَيْنِ وصدم الْملك الْأَفْضَل وَانْفَتح دمل كَانَ فِي وَجهه وسال مِنْهُ دم كثير على وَجهه وَهُوَ صابر محتسب فِي ذَلِك كُله وَقتل من الْعَدو جمَاعَة وَأسر وَاحِد فأحضر وَأمر بِضَرْب عُنُقه وَفِي بعض الْكتب السُّلْطَانِيَّة سَار الْعَدو من عكا على قصد عسقلان وسقنا لمعارضتهم فِي كل طَرِيق ومضايقتهم فِي كل مضيق ومنازلتهم فِي كل منزل ومدافعتهم عَن كل منهل وهم يَسِيرُونَ الْبَحْر الْبَحْر لَا يفارقون ساحله وَلَا يتجاوزون مراحله والمواضع مضائق وشعراء ورمال وَمَا لِلْقِتَالِ فِيهَا مجَال وَمَا وجدنَا فسحة إِلَّا وضايقناهم فِيهَا وأخذنا عَلَيْهِم فِي نَوَاحِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 من جملَة أيامنا الْمَشْهُورَة المشهودة ومواسمنا الْمَعْرُوفَة المحمودة يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع شعْبَان عِنْد رحيلهم من قيسارية فَذكر الْوَاقِعَة السابقه وفيهَا أَنه نفق من خيلهم ألف رَأس ثمَّ ذكر يَوْم أرسوف وَحسن عَاقِبَة الْمُؤمنِينَ بعد الْيَأْس ثمَّ رَحل السُّلْطَان سَابِع عشر شعْبَان وَنزل بالرملة وَاجْتمعت الأثقال كلهَا بهَا فِي تِلْكَ الرحلة ورحل لَيْلًا وَأصْبح على يبْنى وجاوزها إِلَى نهر أَمر أَن الْخيام عَلَيْهِ تبنى قَالَ وزرنا بيبنى قبر أبي هُرَيْرَة رضوَان الله عَلَيْهِ وبادر النَّاس بالتيمن بِهِ إِلَيْهِ قلت اعْتمد الْعِمَاد فِي هَذَا على مَا اشْتهر بَين الْعَامَّة من ذَلِك وَأما أهل الْعلم المصنفون فِي أَخْبَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَابْن سعد وَغَيره فَذكرُوا أَن أَبَا هُرَيْرَة توفّي بِالْمَدِينَةِ وَلم يذكرُوا غَيره على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته فِي التَّارِيخ وَالله أعلم قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان عبد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فان هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فأعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا نحرك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان بعد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فَإِن هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فاعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا تحرّك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 إِلَى خدمته سحرًا وَكنت فارقته بعد مُضِيّ نصف اللَّيْل فَحَضَرت وَبَدَأَ بِالْحَدِيثِ فِي معنى خرابها وأحضر وَلَده الْأَفْضَل وشاوره فِي ذَلِك وَطَالَ الحَدِيث وَلَقَد قَالَ لي رَحمَه الله وَالله لِأَن أفقد أَوْلَادِي بأسرهم أحب إِلَيّ من أَن أهدم مِنْهَا حجرا وَاحِدًا وَلَكِن إِذا قضى الله بذلك وعينه لحفظ مصلحَة الْمُسلمين طَرِيقا فَكيف أصنع قَالَ ثمَّ استخار الله تَعَالَى فأوقع فِي نَفسه أَن الْمصلحَة فِي خرابها فَاسْتَحْضر الْوَالِي وَأمره بذلك فِي تَاسِع عشر شعْبَان وَلَقَد رَأَيْته وَقد اجتاز بِالسوقِ والوطاق بِنَفسِهِ يستنفر النَّاس للخراب وَقسم السُّور على النَّاس وَجعل لكل أَمِير وَطَائِفَة من الْعَسْكَر بَدَنَة مَعْلُومَة وبرجا مَعْلُوما يخربونه وَدخل النَّاس إِلَى الْبَلَد وَوَقع فِيهِ الضجيج والبكاء وَكَانَ بَلَدا نضرا خَفِيفا على الْقلب مُحكم الأسوار عَظِيم الْبناء مرغوبا فِي سكناهُ فلحق النَّاس عَلَيْهِ حزن عَظِيم وَكَانَ هُوَ بِنَفسِهِ وَولده الْأَفْضَل يستعملان النَّاس فِي الخراب خشيَة أَن يسمع الْعَدو فيحضر وَلَا يُمكن من خرابها وأباح النَّاس الهري الَّذِي كَانَ ذخيرة فِي الْبَلَد للعجز عَن نَقله وضيق الْوَقْت وَالْخَوْف من هجوم الفرنج وَأمر بحريق الْبَلَد فأضرمت النَّار فِيهِ وَالْأَخْبَار تتواتر من جَانب الْعَدو بعمارة يافا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 وَخرب من سور عسقلان معظمه وَكَانَ عَظِيم الْبناء بِحَيْثُ إِنَّه كَانَ فِي مَوضِع تسع أَذْرع وَفِي مَوضِع عشرا وَذكر بعض الحجارين للسُّلْطَان وَأَنا حَاضر أَن عرض البرج الَّذِي ينقبون فِيهِ مِقْدَار رمح فَلم يزل الخراب والحريق يعْمل فِي الْبَلَد وأسواره إِلَى سلخ شعْبَان وَعند ذَلِك وصل من جرديك كتاب يذكر فِيهِ أَن الْقَوْم قد تَفَسَّحُوا وصاروا يخرجُون من يافا ويغيرون على الْبِلَاد الْقَرِيبَة مِنْهَا فَلَو تحرّك السُّلْطَان لَعَلَّه يبلغ مِنْهُم غَرضا فِي غرتهم فعزم على الرحيل وعَلى أَن يخلف فِي عسقلان حجارين وَمَعَهُمْ خيل تحميهم يستقصون فِي الخراب ثمَّ رأى أَن يتَأَخَّر بِحَيْثُ يحرق البرج الْمَعْرُوف بالاسبتار وَكَانَ برجا عَظِيما مشرفا على الْبَحْر كالقلعة المنيعة وَلَقَد دَخلته وطفته فَرَأَيْت بناءه أحكم بِنَاء لَا تعْمل فِيهِ المعاول وَإِنَّمَا أحرق ليبقى بالحريق قَابلا للخراب وَبقيت النَّار تشعل فِيهِ يَوْمَيْنِ بليلتيهما قَالَ الْعِمَاد وَنقص مِنْهَا الأبراج الَّتِي على سَاحل الْبَحْر ودخلتها فرأيتها أحسن مَدِينَة منيعة حَصِينَة فطال بُكَائِي على رسومها وفض ختومها وَقبض أرواحها من جسومها وحلول الدَّوَائِر بدورها ونزول السوء بسورها فَمَا برح السُّلْطَان مِنْهَا حَتَّى رَأينَا طلولها دوارس ورسومها طوامس والرؤوس حَيَاء من معاهدها نواكس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 قَالَ وَلَو حفظت لَكَانَ حفظهَا مُتَعَيّنا وصونها مُمكنا لَكِن وجد كلا لَهُ متجنبا متجبنا وَقد راعتهم نوبَة عكا وحفظها ثَلَاث سِنِين وعادت بعد ذَلِك بمضرة الْمُسلمين وَقَالَ من تعلل وَاعْتذر عَن دُخُولهَا تدْخلهَا أَنْت أَو أحد أولادك فندخلها اتبَاعا لمرادك فَحِينَئِذٍ لم يجد بدا من نقض أسوارها وفض سوارها وسكانها كَانُوا فِي رفاهية فانتقلوا عَنْهَا على كَرَاهِيَة وَبَاعُوا أنفس الأعلاق بأبخس الْأَثْمَان وفجعوا بالأوطار والأوطان فصل فِيمَا جرى بعد خراب عسقلان قَالَ الْعِمَاد فَارقهَا السُّلْطَان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَمَضَان وَنزل على يبْنى وَنزل بالرملة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَأمر بتخريب حصنها وتخريب كَنِيسَة لد وَركب جَرِيدَة إِلَى الْقُدس فَأَتَاهُ يَوْم الْخَمِيس وَأعَاد إِلَيْهِ رسوم التأنيس وَخرج مِنْهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن رَمَضَان وَبَات فِي بَيت نوبَة وَعَاد إِلَى المخيم يَوْم الثُّلَاثَاء وَوصل معز الدّين قَيْصر شاه صَاحب ملطية ابْن قليج أرسلان وافدا عَلَيْهِ مستنصرا بِهِ على أَبِيه وَإِخْوَته فَإِنَّهُم كَانُوا يقصدون أَخذ بَلَده من يَده فَأَقَامَ فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مُدَّة وَتزَوج بابنة الْعَادِل على صدَاق مئة ألف دِينَار وَسَار مستهل ذِي الْقعدَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وَفِي ثامن الشَّهْر أَيْضا خرج الكمين على ملك الإنكلتير وَكَانَ خرج فِي فوارسه مخفرا للحطابة والحشاشة وَكَاد يُؤْخَذ الْملك لَكِن أحد خواصه فدَاه بِنَفسِهِ بِأَن أظهر حسن لِبَاسه فَظن أَنه الْملك فَأسر وَقَالَ ابْن شَدَّاد حَال بَينهم وَبَينه فرنجي فَقتل الفرنجي وجرح هُوَ وَفِي ثَانِي عشرَة جرت أَيْضا وقْعَة كَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وَقتل مقدم كَبِير من الْمُشْركين وَمَا زَالَ يَقع بَينهم وَبَين اليزك وقعات وتسرق الْعَرَب من خيولهم وبغالهم ورجالهم وَمن كتاب إِلَى صَاحب سنجار قد تقدم الاعلام بِمَا جرى عِنْد رحيل الْعَدو على قصد عسقلان وَمَا تمّ عَلَيْهِ منا فِي طَرِيقه من النكاية والخذلان وَأَنه قطع فِي سَبْعَة عشر يَوْمًا مَسَافَة يَوْمَيْنِ لما لابسه وغامره من الْحِين وَمَا صدق كَيفَ وصل إِلَى يافا فأظهر بهَا الاستيطان وَأقَام يعمر الْمَكَان وَهَذِه مَدِينَة يافا متوسطة بَين الْقُدس وعسقلان وَمِنْهَا إِلَى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَسَافَة نصف نَهَار وكلتاهما من الْعَدو على خوف وحذار وكل وَاحِد من الْمَوْضِعَيْنِ يحْتَاج فِي تحصينه إِلَى ثَلَاثِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 ألف مقَاتل وَتعذر الْجمع بَين حفظ الثغرين وتحصين البلدين وتعينت فِي تخريب عسقلان عمَارَة الْقُدس وتحصينه وعصمته من الْعَدو وتأمينه ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى النطرون وخيم على تل عَال والنطرون حصن حُصَيْن كَانَ للداوية لَكِن لما فتح تشعثت أسواره وانقض جِدَاره فَأمر بهدمه فهدم ثمَّ بعث ملك الإنكلتير رَاغِبًا فِي الْمُصَالحَة والمسالمة إِلَى الْعَادِل وَزعم أَن لَهُ أُخْتا عزيزة عَلَيْهِ كَبِيرَة الْقدر وَأَنَّهَا كَانَت زَوْجَة ملك كَبِير من مُلُوكهمْ وَهُوَ صَاحب صقلية توفّي عَنْهَا وَرغب أَن يَتَزَوَّجهَا الْعَادِل وَيجْعَل لَهُ الحكم على جَمِيع بِلَاد السَّاحِل ينفذ فِيهَا أمره وَهُوَ يقطع الداوية والاسبتار مَا أَرَادَ من الْبِلَاد والقرى دون الْحُصُون وَتَكون أُخْته مُقِيمَة بالقدس وَمَعَهَا فِيهِ قسيسون وَرُهْبَان حافظة لَهَا من آفَات الزَّمَان فَرَأى الْعَادِل فِي ذَلِك عين الصَّوَاب وشاور السُّلْطَان فوافقه فِيمَا أجَاب فنفذ الرَّسُول إِلَى الإنكلتير بالاجابة فَدخل الفرنج على الْمَرْأَة وخوفوها واتهموها فِي دينهَا وعنفوها وَقَالُوا لَهَا مَا مَعْنَاهُ هَذِه فضيحة فظيعة وسبة شنيعة وَقطع على النَّصْرَانِيَّة وَقَطِيعَة وَأَنت عاصية للمسيح لَا مطيعة فَرَجَعت عَن ذَلِك وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 أجابت فَاعْتَذر الإنكلتير بِعَدَمِ موافقتها إِلَّا أَن يدْخل الْعَادِل فِي دينهَا فَعرف أَنَّهَا خديعة كَانَت من الإنكلتير قَالَ القَاضِي وَوصل رَسُول من المركيس يذكر أَنه يُصَالح الْإِسْلَام بِشَرْط أَن يعْطى صيدا وبيروت على أَن يُجَاهر الفرنج بالعداوة ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها مِنْهُم فَأُجِيب إِلَى ذَلِك على أَن يُطلق من بهَا وبصور من الْأُسَارَى وَلما سمع الإنكلتير بذلك رَجَعَ إِلَى عكا لفسخ هَذِه الْمُصَالحَة واسترجاع المركيس إِلَيْهِ وَجَاء الْخَبَر أَن ملك الافرنسيس مَاتَ بأنطاكية وَوصل كتاب من تَقِيّ الدّين يخبر فِيهِ أَن قزل صَاحب ديار الْعَجم ابْن الدكز قتل وَجرى بِسَبَب قَتله فِي بِلَاد الْعَجم خطب عَظِيم قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ محتقرا للعظائم مقترفا للمآثم وَاضِعا للشُّرْب والقصف المواسم وَقتل بأصفهان عشرَة من رُؤَسَاء الشَّافِعِيَّة المعروفين وكبرائهم الموصوفين وَوصل من الدِّيوَان كتاب يُنكر فِيهِ قصد تَقِيّ الدّين خلاط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وَيظْهر فِيهِ الْعِنَايَة التَّامَّة ببكتمر ويشفع فِي حسن بن قفجاق ويتقدم باطلاقه وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ مظفر الدّين باربل ويتقدم بمسيرالقاضي الْفَاضِل إِلَى الدِّيوَان لبت حَال وَفصل أَمر فَأجَاب السُّلْطَان بِأَنا لم نأمر تَقِيّ الدّين بِشَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا عبر ليجمع العساكر وَيعود إِلَى الْجِهَاد وَأما ابْن قفجاق فقد تقدم إِلَى مظفر الدّين حَتَّى يحضرهُ إِلَى الشَّام فنقطعه فِيهِ وَيكون ملازما للْجِهَاد وَأما الْفَاضِل فَاعْتَذر عَنهُ بِأَنَّهُ كثير الْأَمْرَاض وقوته تضعف عَن الْحَرَكَة إِلَى الْعرَاق قلت بَلغنِي أَن الْفَاضِل رَحمَه الله كتب فِي الِاعْتِذَار بالحضور إِلَى الدِّيوَان وتمثل فِي كِتَابه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ (مَا كنت أول سَار غره قمر ... ورائد خدعته خضرَة الدمن) (مثل لنَفسك شخصي إِنَّنِي رجل ... مثل المعيدي فاسمع بِي وَلَا ترني) قَالَ القَاضِي وَأرْسل الإنكلتير إِلَى السُّلْطَان أَن الفرنج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وَالْمُسْلِمين قد هَلَكُوا وَخَربَتْ الْبِلَاد وَتَلفت الْأَمْوَال والأرواح وَقد أَخذ هَذَا الْأَمر حَقه وَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيث سوى الْقُدس والصليب والبلاد والقدس متعبدنا مَا ننزل عَنهُ وَلَو لم يبْق منا وَاحِد وَأما الْبِلَاد فيعاد إِلَيْنَا مَا هُوَ قَاطع الْأُرْدُن وَأما الصَّلِيب فَهُوَ خَشَبَة عنْدكُمْ لَا مِقْدَار لَهُ وَهُوَ عندنَا عَظِيم فِيمَن السُّلْطَان بِهِ علينا ونستريح من هَذَا العناء الدَّائِم فَأرْسل السُّلْطَان فِي جَوَابه الْقُدس لنا كَمَا هُوَ لكم وَهُوَ عندنَا أعظم مِمَّا هُوَ عنْدكُمْ فانه مسرى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجتمع الْمَلَائِكَة فَلَا يتَصَوَّر أَن ننزل عَنهُ وَلَا نقدر على أَن نتلفظ بذلك بَين الْمُسلمين وَأما الْبِلَاد فَهِيَ لنا أَيْضا فِي الأَصْل واستيلاؤكم كَانَ طارئا عَلَيْهَا لضعف من كَانَ بهَا من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْوَقْت وَأما الصَّلِيب فهلاكه عندنَا قربَة عَظِيمَة لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 يجوز أَن نفرط فِيهِ إِلَّا لمصْلحَة رَاجِعَة إِلَى الْإِسْلَام هِيَ أوفى مِنْهَا وهرب شيركوه بن باخل الْكرْدِي من عكا وَكَانَ أَسِيرًا بهَا وَكَانَ ادخر حبلا فِي مخدته فَتَدَلَّى بِهِ من طَاقَة فِي بَيت الطَّهَارَة وَاشْتَدَّ هربا فِي قيوده إِلَى تل العياضية فكمن فِي الْجَبَل وَقد طلع عَلَيْهِ النَّهَار ثمَّ كسر قيوده وَسَار إِلَى الْمُسلمين ثمَّ تَوَاتر الْخَبَر أَن الفرنج على عزم النهوض فَسَار السُّلْطَان من المخيم بالنطرون إِلَى الرملة سَابِع شَوَّال واقام بهَا عشْرين يَوْمًا فجرت وقعات وتمت دفعات مِنْهَا وقْعَة فِي نَاحيَة يازور وَكَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وفقد من الْمُسلمين ثَلَاثَة وَذَلِكَ ثامن شَوَّال وَفِي سادس عشر شَوَّال وَقعت وقْعَة أُخْرَى عَظِيمَة قتل فِيهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَأسر فارسان من الْكَفَرَة معروفان بالبأس سوى غَيرهمَا وَقتل مِنْهُم زهاء سِتِّينَ نَفرا وَفِي خَامِس شَوَّال وصل الْخَبَر أَن الأسطول الْمصْرِيّ استولى على مراكب الفرنج وفيهَا مركب يعرف بالمسطح قيل إِنَّه كَانَ فِيهِ خمس مئة نفر وزائد على ذَلِك وَأَنه قتل مِنْهُم خلق عَظِيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 واستبقي مِنْهُم أَرْبَعَة نفر مذكورون وَفِي ثامن عشر شَوَّال اجْتمع الْعَادِل والانكلتير على طَعَام ومحادثة وانفصلا عَن توادد ومطايبة وَطلب مِنْهُ الِاجْتِمَاع بِخِدْمَة السُّلْطَان فَامْتنعَ - رَحمَه الله - وَقَالَ الْمُلُوك إِذا اجْتَمعُوا تقبح بَينهم الْمُخَاصمَة بعد ذَلِك وَإِذا انتظم أَمر حسن الِاجْتِمَاع ورحل الفرنج ثَالِث ذِي الْقعدَة إِلَى الرملة وأظهروا قصد الْقُدس بِتِلْكَ الرحلة ودامت الوقعات بَينهم وَبَين الْمُسلمين ورحل السُّلْطَان إِلَى الْقُدس بنية الْمقَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَكَانَ الشتَاء قد دخل والغيث قد اتَّصل فوصل إِلَى الْقُدس وَقت الْعَصْر وَنزل بدار الأقساء مجاورة كَنِيسَة قمامة وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة وصل عَسْكَر من مصر بأموال وَرِجَال مَعَ أبي الهيجاء السمين وتحول الفرنج إِلَى النطرون فقوى السُّلْطَان اليزك فوقعوا على سَرِيَّة للفرنج فغنموها وسيق مِنْهُم إِلَى الْقُدس نَيف وَخَمْسُونَ أَسِيرًا سوى من قتل مِنْهُم وواقعهم سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر يَوْم عيد الْأَضْحَى فَنحر مِنْهُم وضحى واحتوى على عشرَة من مقدميهم أسرا وقتلا وتسلق بَاقِي الفرنج فِي الْجبَال وَتركُوا خيلهم فغنمها الْمُسلمُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وَلم يزل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم مستظهرين مُدَّة مقامهم بالنطرون وَجعل الْمُسلمُونَ يقطعون الطَّرِيق على تجارهم حَتَّى إِنَّهُم أخذُوا قافلة ثَقيلَة بِمَا فِيهَا وَلم يقدروا على تَخْلِيصهَا فرحلوا عائدين إِلَى الرملة فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل من الْموصل خَمْسُونَ رجل برسم قطع الصخور من الخَنْدَق فَإِن السُّلْطَان شرع فِي تحصين الْقُدس وَعمارَة أبراجه وأسواره وحفر خنادقه وَأرْسل إِلَى الْبِلَاد فِي جمع رجال هَذِه الْأَعْمَال وَتقبل الْأُمَرَاء فِيهِ الْعَمَل وَعمل فِيهِ السُّلْطَان بِنَفسِهِ بِنَقْل الْحِجَارَة هُوَ وَأَوْلَاده وأمراؤه وأجناده وَمَعَهُمْ الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء والولاة والأمراء قلت وَفِي قصد الفرنج للسُّلْطَان بالقدس يَقُول الرشيد ابْن النابلسي من جملَة قصيدة لَهُ (وَيْح الفرنجة بل ويل امهم أَو مَا ... فيهم لَبِيب على العلات يعْتَبر) (فكم نثرتهم ضربا إِذا انتظموا ... وَكم نظمتهم طَعنا إِذا انتشروا) (كم قد سقيتهم ذلا فَلَا عجب ... إِن عربدوا سفها فالقوم قد سَكِرُوا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 (إِن يمموك فَلَا بدع لجهلهم ... تسْعَى إِلَى الْأسد فِي غاباتها الْحمر) (زاروا نمورا وَلَا تغني وقاحتهم ... إِذا أسودك فِي أبطالهم زأروا) (فحام عَن حوطة الْبَيْت الْمُقَدّس لَا ... خوف وحاشاك من خوف وَلَا ضَرَر) (هُوَ الشريف وَقد ناداك معتصما ... فَمَا على مجده من بعْدهَا حذر) (وسوف تستغفر الْأَيَّام هفوتها ... وتحصد الفئة الأوغاد مَا بذروا) فصل فِي بقايا حوادث هَذِه السّنة قَالَ الْعِمَاد وَفِي ربيع الأول مِنْهَا تولى القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن الزكي قَضَاء دمشق وفيهَا يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشر رَمَضَان كَانَت وَفَاة تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي السُّلْطَان وَهُوَ على محاصرة منازكرد وَكَانَ - كَمَا تقدم - قد توجه إِلَى بِلَاده الَّتِي زَاده إِيَّاهَا السُّلْطَان وَرَاء الْفُرَات فامتدت عينه إِلَى بِلَاد غَيره وَاسْتولى على السويداء وعَلى مَدِينَة حاني وعزم على قصد خلاط وَكسر صَاحبهَا سيف الدّين بكتمر وتملك مُعظم تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ أَنَاخَ على منازكرد يحاصرها وَمَعَهُ عَسَاكِر كَثِيرَة فأناخت بجسده الْمنية بِسَبَب مرض اعتراه وَزَاد إِلَى أَن بلغ مِنْهُ المُرَاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وأخفى وَلَده الْملك الْمَنْصُور وَفَاته ورحل عَن الْبَلَد المحصور وَفَاته وَعَاد بِهِ إِلَى الْبِلَاد الَّتِي فِي يَده وَعجب النَّاس من حزمه وعزمه وثباته وَجلده وَجَاءَت رسله إِلَى السُّلْطَان يُخبرهُ بِأَنَّهُ قَامَ مقَام وَالِده فِيمَا كَانَ لَهُ من الْبلدَانِ وَطلب مِنْهُ شُرُوطًا نسبه بِسَبَبِهَا إِلَى الْعِصْيَان وَكَانَ أمره يضطرب وَقَلبه يكتئب وشأنه ينعكس وينقلب حَتَّى احتمى بِالْملكِ الْعَادِل فنصره وأظهره إِلَى الْوُجُود وأظهره وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَت وَفَاته فِي طَرِيق خلاط عَائِدًا إِلَى ميافارقين فَحمل مَيتا حَتَّى وصل بِهِ إِلَى ميافارقين ثمَّ عملت لَهُ تربة عَلَيْهَا مدرسة مَشْهُورَة بِأَرْض حماة وَحمل إِلَيْهَا فَدفن بهَا قَالَ الْعِمَاد وفيهَا توفّي ابْن أُخْت السُّلْطَان حسام الدّين مُحَمَّد بن عمر بن لاجين بِدِمَشْق لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشر رَمَضَان ففجع السُّلْطَان بِابْن أَخِيه وَابْن أُخْته فِي تَارِيخ وَاحِد وَكَانَا لَهُ من أعظم الأعوان على مَا يكابده من الشدائد قلت وَدفن بالتربة الحسامية المنسوبة إِلَيْهِ من بِنَاء والدته سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب وَهِي الْمدرسَة الشامية ظَاهر دمشق بالعوينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 قَالَ وفيهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر من أكَابِر أُمَرَاء حلب وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان بالقدس وَهُوَ شيخ الدولة وكبيرها وظهيرها ومشيرها وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بتخريب عسقلان لتتوفر الْعِنَايَة والاهتمام بالقدس ثمَّ مرض بالقدس وَطلب الْمسير إِلَى الوطن فَأَدْرَكته الْمنية بقرية غباغب على مرحلة من دمشق وفيهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب كَانَت وَفَاة الصفي بن الْقَابِض نَائِب السُّلْطَان بِدِمَشْق وَكَانَ قد خدم السُّلْطَان فِي أَيَّام عَدمه وَهُوَ فِي كَفَالَة أَبِيه وَعَمه فَلَمَّا ملك مصر أمرحه فِي أموالها وَحكمه فِي أَعمالهَا حَتَّى نَالَ المنى وَوجد الْغنى وَكتب لمماليكه دوره وأملاكه وَجَمِيع أَمْوَاله وفيهَا توفّي نسيب الْعِمَاد وَهُوَ جمال الدّين أَبُو الْفَتْح إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد كويه سَابِع عشر ذِي الْحجَّة بدمش قَالَ الْعِمَاد وَكنت استنبته فِي كِتَابَة الانشاء وخرجته وقلبته فِي مَرَاتِب الْمَعَالِي ودرجته وَاعْتمد السُّلْطَان عَلَيْهِ فِي الترسل إِلَى سلاطين الْعَجم وخواص الْأُمَرَاء مِنْهُم والخدم وَكَانَ نبيلا نبيها كَرِيمًا وجيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وفيهَا توفّي الْحَكِيم الْمُوفق أسعد بن المطران فِي شهر ربيع الأول وَكَانَ من أهل النَّظَافَة والظرافة وَمن ذَوي الفصاحة والحصافة وَفقه الله فِي بدايته لهداية الْإِسْلَام ونال أَسبَاب الاحترام وَتقدم عِنْد السُّلْطَان وَمَا شَأْنه كبر وَهُوَ كَبِير الشان وَفِي أَوَاخِر هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه نجم الدّين الخبوشاني بِمصْر وَهُوَ الَّذِي عمر تربة الشَّافِعِي - رضوَان الله عَلَيْهِمَا - وَبنى الْمدرسَة فِي جوارها وَأَحْيَا شعار التَّوْحِيد وَبنى أمره على التسديد وَالتَّشْدِيد وَحفظ شَمل الشَّافِعِيَّة من التبديد وَكَانَ السُّلْطَان مجيبا لَهُ إِلَى كل مَا يستدعيه وَيَقْضِي لَهُ من الْحَوَائِج مَا يَقْتَضِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 ووقف على الْمدرسَة الَّتِي بناها وقوفا وَأَعْطَاهُ فِي بنائها ألوفا فَلَمَّا توفّي الخبوشاني طلب الْمدرسَة جمَاعَة من الْعلمَاء فَردُّوا وشفع الْعَادِل فِي صدر الدّين أبي الْحسن مُحَمَّد بن حمويه شيخ الشُّيُوخ فَكتب بهَا لَهُ ورتب بوقفها وتدريسها استقلاله وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ ثمَّ صرف بعد السُّلْطَان عَن الْمدرسَة وتبدلت الوحشة بالأنسة قلت ثمَّ استمرت عَلَيْهَا يَد أَوْلَاده وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى الْآن قَالَ وفيهَا توفّي الْوَجِيه ابْن النفيس مُسْتَوْفِي ديوَان دمشق بهَا وَكَانَ بهيا مهيبا نزها عَارِفًا مصيبا وفيهَا توفّي القَاضِي أَمِين الدّين أَبُو الْقَاسِم بحماة فِي حادي عشر رَمَضَان وَكَانَ كَرِيمًا سخيا نابها سريا وفيهَا نقلت تربة القَاضِي محيي الدّين أبي حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل السَّلَام وَكَانَ قَاضِي الْموصل وَقد بنى رِبَاطًا هُنَاكَ وَكَانَت وَفَاته بالموصل فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَقد تقدم ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 وَسَأَلَ ابْن أَخِيه القَاضِي بعده كتابا إِلَى أَمِير الْمَدِينَة فَكتب لَهُ كتاب مِنْهُ سَبَب إصدارها إِلَى الْأَمِير مسير نَائِب القَاضِي كَمَال الدّين بضريح عَمه محيي الدّين من الْموصل إِلَى الْمَدِينَة المقدسة على ساكنها أفضل الصَّلَوَات ليدفن فِي الرِّبَاط الَّذِي أنشأه حَيْثُ يبْعَث مَعَ شَفِيع الْأمة يَوْم الْبَعْث والنشور ويأمن ظلام اللَّحْد المحفور فِي جوَار الضياء والنور ويحشر بِمَا يَنَالهُ من الْبركَة والحبور منشرح الصَّدْر إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور وَحصل مَا فِي الصُّدُور وَلَقَد وفْق فِي اخْتِيَاره أَيَّام حَيَاته نَقله إِلَى ذَلِك الْبَيْت الْمَعْمُور فليعن الْأَمِير على هَذِه المكرمة وليعتن بمواراته فِي التربة الْمُجَاورَة للبقعة المعظمة قَالَ وَكَانَ هَذَا القَاضِي خرقا جوادا لبذل اللهى مُعْتَادا وَاسع الْمَرْوَة جَامع أشتات الفتوة يحب معالي الْأُمُور وفضائله متجاوزة حد الوفور قَالَ ابْن القادسي وَوصل الْحَاج فِي صفر بَعْدَمَا اعتاقت أخبارهم وأخبروا أَن دَاوُد أَمِير مكه أَخذ مَا فِي الْكَعْبَة من الْأَمْوَال وَأخذ طوقا كَانَ يلْزم الْحجر الْأسود فَأوجب ذَلِك تشعثه وَكَانَ قد دخل بعض الباطنية بعد سنة أَربع مئة فَضَربهُ بدبوس وَقَالَ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 كم حجر وَفِي يَد ذَلِك الرجل سيف فَمَا تجاسر أحد يقرب مِنْهُ فتطوع رجل وبذل نَفسه للْقَتْل وَتقدم إِلَيْهِ فَقتله فَأخذ الْحجر وجمعت شظاياه وألفت وَجعل لَهُ طوق فَأخذ أميرمكة دَاوُد ذَلِك الطوق فَلَمَّا وصل أَمِير الْحَاج عزل دَاوُد وَولى أَخَاهُ مكثرا وَنقض قلعة كَانَ بناها دَاوُد على جبل أبي قبيس وَهُوَ دَاوُد بن عِيسَى بن فليتة بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي هَاشم الحسني وَلما صرف عَن مَكَّة أَقَامَ بنخلة وَتُوفِّي بهَا فِي رَجَب سنة تسع وَثَمَانِينَ وَهُوَ أَمِير ابْن أَمِير إِلَى آخر مَا ذكرنَا من آبَائِهِ وهم بِهِ سِتَّة نفر قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ربيع الأول سنة سبع وَثَمَانِينَ سَار عز الدّين يَعْنِي صَاحب الْموصل إِلَى جَزِيرَة ابْن عمر فحصرها وَبهَا ابْن أَخِيه معز الدّين سنجر شاه لِأَنَّهُ كَانَ سيىء السِّيرَة مَعَه خَارِجا عَن طَاعَته مساعدا للأعداء عَلَيْهِ فعزم على أَخذهَا مِنْهُ فخضع وَطلب الْعَفو والصفح فَأَجَابَهُ وَصَالَحَهُ على قَاعِدَة اسْتَقَرَّتْ بَينهمَا وَعَاد عَنهُ إِلَى الْموصل فَعَاد سنجر شاه إِلَى حَالَته الأولى فَتَجَاوز عَنهُ واطرحه ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بالقدس وَقد قسم سور الْبَلَد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 على أَوْلَاده وأخيه وأجناده فشرعوا فِي إنْشَاء سور جَدِيد محدق بِهِ مديد وَكَانَ يركب كل يَوْم وينقل الصخر على قربوس سَرْجه فيستن الأكابر والأمراء فِي نقل الْحِجَارَة بنهجه وَلَو رَأَيْت وَهُوَ يحمل حجرا فِي حجره لعَلِمت أَن لَهُ قلبا كم حمل جبلا فِي فكره وَلَقَد جد فِي حماية الصَّخْرَة المقدسة حَتَّى حمل لَهَا الصخور وانشرح صَدره لانضمامها إِلَى صَدره حَتَّى بَاشر صُدُور مماليكه بهَا الصُّدُور وَمَا تغلو دَار يبنيها فِي الْجنَّة بِنَقْل حجارتها ليَكُون ملكا فِي دارها وقمرا فِي دارتها وداوم البكور بالركوب وَعرض وَجهه الْكَرِيم للشحوب قَالَ وَفِي ثَالِث الْمحرم رَحل الفرنج على سمت عسقلان وأشاعوا أَنهم يعيدون بهَا الْعمرَان وهم نازلون بظاهرها جائلون فِي مواردها ومصادرها فَرَأى الإنكلتير دخانا على بعد فقصده وَكَانَ ثمَّ جمَاعَة من الأَسدِية وَسيف الدّين يازكوج وَعلم الدّين قَيْصر وهم غَارونَ عَمَّا دهمهم فوصل اللعين إِلَيْهِم وَقت الْمغرب فَوَقع عَلَيْهِم وَكَانُوا فريقين نازلين فِي موضِعين فَلَمَّا وَقع على أَحدهمَا ركب الْفَرِيق الثَّانِي ودافعه حَتَّى ركب الْفَرِيق الآخر فدافعوهم وواقعوهم وَسَاقُوا قدامهم أثقالهم وخلصوا ناجين وَسلم الله أنفسهم من أَيدي الملاعين وَلم يفقد من الْمُسلمين إِلَّا أَرْبَعَة وَكَانَت نوبَة عَظِيمَة دفع الله خطرها وهون ضررها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وَفِي حادي عشر الْمحرم كبس عزالدين جرديك يبْنى على من نزل بهَا من الفرنج فأوقع بهم الْبلَاء وسَاق مِنْهُم اثْنَي عشرأسيرا ومتاعا كثيرا وأغار أَيْضا ثَانِي صفر على ظَاهر عسقلان وَجَاء بِثَلَاثِينَ أَسِيرًا وَفِي لَيْلَة رَابِع عشر صفر كمنت سَرِيَّة مقدمها فَارس الدّين مَيْمُون القصري عِنْد يبْنى إِلَى أَن عبرت قوافل الفرنج فساقها بأحمالها وأثقالها ونسائها ورجالها وَفِي مستهل ربيع الآخر وصل سيف الدّين المشطوب وَقد خلص من الْأسر وَقطعت عَلَيْهِ الفرنج خمسين ألف دِينَار عجل مِنْهَا عشْرين ألفا وَأَعْطَاهُمْ بِالْبَاقِي رهائن فَأحْسن السُّلْطَان لقاءه وأقطعه نابلس بأعمالها فَتوفي بهَا فِي آخر شَوَّال وَفِي ثَالِث عشر ربيع الآخر قتل المركيس لَعنه الله بصور وَذَلِكَ أَن رجلَيْنِ دخلا صور وتنصرا وأظهرا التَّعَبُّد وَالتَّرَهُّب ولزما الْكَنِيسَة وشكرهما الأقساء والرهبان وأحبهما المركيس وَلم يكن يصبر عَنْهُمَا فَفِي بعض الْأَيَّام وثبا عَلَيْهِ وقتلاه فأخذا وقتلا وَعرف أَنَّهُمَا كَانَا من الحشيشية فَجَلَسَ مَكَانَهُ الكند هري بِأَمْر الإنكلتير وسر الانكلتير بمصاب المركيس فَإِنَّهُ كَانَ يضاده ويراسل السُّلْطَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 فِي الاعانة عَلَيْهِ فَلَمَّا قتل سكن روعه وَذهب عَنهُ ضره وَتزَوج الكند هري بالملكة زَوْجَة المركيس فِي ليلته وَدخل بهَا وَهِي حَامِل وَمَا الْحمل فِي مِلَّة الفرنج عَن النِّكَاح حَائِل وَيكون الْوَلَد مَنْسُوبا إِلَى الملكة هَذِه قَاعِدَة هَذِه الطَّائِفَة المشركة وَهَذَا الكند هري ابْن أُخْت ملك إفرنسيس من أَبِيه وَملك إنكلتير من أمه وَدخل الفرنج فِي حكمه وعاش إِلَى آخر سنة أَربع وَتِسْعين وتولاهم دون سبع سِنِين وَقَالَ الْعِمَاد فِي الْفَتْح أَضَافَهُ الأسقف بصور فاستوفى رزقه وتعدى وَمَا درى أَنه يتردى وَأكل وَشرب وشبع وطرب وَخرج وَركب فَوَثَبَ عَلَيْهِ رجلَانِ وسكنا حركته بالسكاكين ودكاه عِنْد تِلْكَ الدكاكين وهرب أَحدهمَا وَدخل الْكَنِيسَة وَقد أخرج تِلْكَ النَّفس الخسيسة فَقَالَ المركيس وَهُوَ مَجْرُوح وَفِيه روح احْمِلُونِي إِلَى الْكَنِيسَة فَحَمَلُوهُ فَلَمَّا أبصره أحد الجارحين وثب عَلَيْهِ وزاده جرحا على جرح وقرحا على قرح فَأخذ الفرنج الرفيقين فألفوهما من الفداوية الاسماعيلية مرتدين فسألوهما من وضعهما على تَدْبِير هَذَا التَّدْبِير فَقَالَا ملك الإنكلتير فقتلا شَرّ قتلة فيالله من كَافِرين سفكا دم كَافِر وفاجرين فتكا بفاجر قَالَ وَلم يعجبنا قتل المركيس فِي هَذِه الْحَالة وَإِن كَانَ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 طواغيت الضَّلَالَة لِأَنَّهُ كَانَ عَدو ملك الإنكلتير ومنازعه على الْملك والسرير ومناقشه على الْقَلِيل وَالْكثير قَالَ وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى استولى الفرنج على قلعة الداروم ثمَّ خربوها ورحلوا عَنْهَا وأسروا من فِيهَا وَكَانَ الإنكلتير الملعون قد استفسد من نوبَة عكا نقابين حلبيين فتمكنوا من نقب الْمَكَان وأحرقوا النقب وَطلب أهل الْحصن مهلة يشاورون فِيهَا السُّلْطَان فَلم يمهلهم وَفِي رَابِع عشرَة خرجت اليزكية على الفرنج على قلعة تعرف بمجدل جناب - كَذَا قَالَ فِي الْفَتْح وَقَالَ فِي الْبَرْق بمجدل يابا وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد - وَقتل كند كَبِير ثمَّ نزلُوا تل الصافية ثمَّ إِلَى النطرون ثمَّ إِلَى بَيت نوبَة وَهِي وَطْأَة بَين جبال بَينهَا وَبَين الْقُدس مرحلة وَقد ألهبهم الْمُسلمُونَ بنهبهم وأضعفوهم بسلبهم يتسلطون عَلَيْهِم من كل نَاحيَة ويكمنون لَهُم تَحت كل رابية وَقد قويت قُلُوبهم بثبات السُّلْطَان بالقدس وَفِي إنسلاخ الشَّهْر التقى الْجَمْعَانِ وَقد وصل الْعَدو إِلَى قلونية وَهِي من الْقُدس على فرسخين فَلَمَّا رأى الْعَدو مَا لَا يدان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 لَهُ بِهِ رَجَعَ ناكصا على عَقِبَيْهِ والمسلمون فِي إثرهم يكمنون لَهُم وينالون مِنْهُم وَكَانَ بدر الدّين دلدرم فِي اليزك فَبعث من كمن لَهُم عَن طَرِيق يافا فمرت بهم فوارس فاستولى عَلَيْهِم الكمين وَمَا سلم مِنْهُم أحد وَفِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة كبست الكمناء قافلة فكسبت وسلبت وأسرت وَفِي تاسعه وصل الْخَبَر أَن الفرنج رحلوا بأسرهم وأدلجوا لَيْلًا وَلم نعلم قصدهم فَعرف السُّلْطَان أَنه إِلَى طَرِيق الْعَسْكَر الْمصْرِيّ فندب الْأَمِير فَخر الدّين الطنبا العادلي وشمس الدّين أسلم الناصري حَتَّى يعلمَا الْعَسْكَر فَالْتَقَيَا بهم بالحسي وأخبراهم الْخَبَر فنزلوا وعرسوا وهم يظنون أَن لَا حس لِلْعَدو بِأَرْض الْحسي فَجَاءَهُمْ وفجأهم فاستولى على بعض الْأَمْوَال وخلص أَكْثَرهَا مَعَ الرِّجَال وَمن جملَة من كَانَ فِي الْعَسْكَر فلك الدّين أَخُو الْعَادِل لأمه فنجا بِمَا قدر عَلَيْهِ من القوافل قَالَ الْعِمَاد وَجرى هَذَا كُله والملكان الْعَادِل وَالْأَفْضَل غائبان وعساكر الْموصل واسنجار وديار بكر متباطئة فِي الاتيان وَسَببه مَا كَانَ من تَقِيّ الدّين وَمَوته وتشرط وَلَده فِي بَقَاء بِلَاد أَبِيه عَلَيْهِ وَأَن الْملك الْأَفْضَل كَانَ طلب من وَالِده الْبِلَاد قَاطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 الْفُرَات وَنزل عَن جَمِيع مَا لَهُ من الولايات وَأَنه إِذا عبر إِلَى الرها وحران ملك تِلْكَ الْبلدَانِ ورحل من الْقُدس فِي ثَالِث صفر وَأطلق لَهُ السُّلْطَان عشْرين ألف دِينَار سوى مَا أَصْحَبهُ برسم الْخلْع والتشريفات وَوصل إِلَى حلب فاحتفل أَخُوهُ الظاهرلقدومه وَأقَام لَهُ سنَن المكارم ورسومه ووقف بخدمته ماثلا وهز عطف الابتهاج إِلَيْهِ مائلا وأحضر لَهُ مَفَاتِيح بَلَده وَقدم لَهُ كل مَا فِي يَده وَسمع نَاصِر الدّين بن تَقِيّ الدّين بِمَا أقلقه وَدفع مِنْهُ إِلَى مَا أرهجه وأرهقه وَوصل رَسُوله إِلَى الْعَادِل وَهُوَ بالقدس لاجئا إِلَى ظله راجيا لفضله لائدا بجنابه عائذا بِبَابِهِ فاحتمى لَهُ واحتمله وقوى فِي تقويته أمله وخاطب السُّلْطَان فِي حَقه واستعطفه وَقَالَ أَنا أمضي إِلَيْهِ وأحضره وأؤمنه مِمَّا يحذرهُ وتبقي هَذِه السّنة عَلَيْهِ حران والرها وتعطيه فِي السّنة الْأُخْرَى حماة والمعرة ثمَّ قرر السُّلْطَان مَعَ أَخِيه الْعَادِل أَن يَأْخُذ هُوَ تِلْكَ الْبِلَاد وَينزل عَن إقطاعاته بِمصْر وَنصف خاصه فَفعل واستزاد قلعة جعبر فَامْتنعَ الْملك الظَّاهِر من تَسْلِيمهَا حَتَّى استظهر فَسَار الْعَادِل فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الأولى وَكتب السُّلْطَان إِلَى الْأَفْضَل بِالْعودِ فجَاء هَذَا رَاجعا وَذهب ذَلِك مسارعا وَوصل إِلَى حران والرها وَعَاد فِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة وَمَعَهُ ابْن تَقِيّ الدّين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد عَاد الْأَفْضَل منكسرا متعتبا فوصل دمشق وَلم يحضر إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَلَمَّا اشْتَدَّ خبر الفرنج سير إِلَيْهِ وَطَلَبه فَمَا وَسعه التَّأَخُّر فَسَار إِلَيْهِ مَعَ العساكر الْوَاصِلَة إِلَيْهِ من الشرق فَلَقِيَهُ السُّلْطَان وترجل لَهُ جبرا لِقَلْبِهِ وتعظيما لأَمره قَالَ وَلما بلغ ابْن تَقِيّ الدّين موجدة السُّلْطَان أنفذ إِلَى الْعَادِل يستشفع بِهِ ليطيب قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ ويقترح أحد قسمَيْنِ إِمَّا حران والرها وسميساط وَإِمَّا حماة ومنبج وسلمية والمعرة مَعَ كَفَالَة إخْوَته فراجع الْعَادِل السُّلْطَان مرَارًا فَلم يفعل ذَلِك وَلم يجب إِلَى شَيْء مِنْهُ فكثرت الشَّفَاعَة إِلَيْهِ فَحلف لَهُ على حران والرها وسميساط على أَنه إِذا عبر الْفُرَات أعطي الْمَوَاضِع الَّتِي اقترحها وتكفل إخْوَته وتخلى عَن تِلْكَ الْمَوَاضِع الَّتِي فِي يَده ثمَّ التمس الْعَادِل خطّ السُّلْطَان فَأبى وألح عَلَيْهِ فخرق نُسْخَة الْيَمين وَانْقطع الحَدِيث وَأخذ من السُّلْطَان الغيظ كَيفَ يُخَاطب بِمثل ذَلِك من جَانب بعض أَوْلَاد أَوْلَاد أَخِيه ثمَّ أعطَاهُ خطه بِمَا اسْتَقر من الْقَاعِدَة ثمَّ إِن الْعَادِل التمس من السُّلْطَان الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد ابْن تَقِيّ الدّين بعد انْتِقَاله وَجَرت مراجعات كَثِيرَة فِي الْعِوَض عَنْهَا وَكَانَ آخر مَا استقرأنه ينزل عَن كل مَا هُوَ شَامي الْفُرَات مَا خلا الكرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 والشوبك والصلت والبلقاء وخاصة بِمصْر بعد النُّزُول عَن خبزه وَعَلِيهِ فِي كل سنة سِتَّة آلَاف غرارة غلَّة تحمل للسُّلْطَان من الصَّلْت والبلقاء إِلَى الْقُدس فصل فِي عزم الفرنج على قصد الْقُدس وَسَببه قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ تقدم السُّلْطَان إِلَى عَسْكَر مصر بِالْمَسِيرِ وأوصاهم بالاحتراز عِنْد مقاربة الْعَدو فأقاموا ببلبيس أَيَّامًا حَتَّى اجْتمعت القوافل إِلَيْهِم واتصل خبرهم بالعدو ثمَّ سَارُوا طالبي الْبِلَاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إِلَيْهِم بالعرب المفسدين وَلما تحقق الْعَدو أَمر القفل أَمر عسكره بالانحياز إِلَى سفح الْجَبَل وَركب فِي ألف رَاكب مُردفِينَ ألف راجل فَأتى تل الصافية فَبَاتَ ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى مَاء يُقَال لَهُ الْحسي فأنفذ السُّلْطَان إِلَى الْقَافِلَة ينذرهم نهضة الْعَدو وَأمرهمْ أَن يبعدوا فِي الْبَريَّة وَركب الإنكلتير الملعون مَعَ الْعَرَب بِجمع يسير وَسَار حَتَّى أَتَى القفل وَطَاف حوله فِي صُورَة عَرَبِيّ ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فَعَاد واستركب عسكره وَكَانَت الكبسة قريبَة الصَّباح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فبغت النَّاس وَوَقع عَلَيْهِم بخيله وَرجله فَكَانَ الشجاع الأيد الْقوي الَّذِي ركب فرسه وَنَجَا بِنَفسِهِ وانقسم القفل ثَلَاثَة أَقسَام قسم قصدُوا الكرك مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم أوغلوا فِي الْبَريَّة مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم استولى الْعَدو عَلَيْهِم فساقهم بجمالهم وأحمالهم وَجَمِيع مَا مَعَهم وَكَانَت وقْعَة شنعاء لم يصب الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا من مُدَّة مديدة وتبدد النَّاس فِي الْبَريَّة ورموا أَمْوَالهم وَكَانَ السعيد مِنْهُم من نجا بِنَفسِهِ وَجمع الْعَدو مَا أمكنه جمعه من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْجمال والأقمشة وَسَائِر أَنْوَاع الْأَمْوَال وكلف الجمالين خدمَة الْجمال والخربندية خدمَة البغال والساسة خدمَة الْخَيل وَسَار فِي جحفل من غنيمَة يطْلب عسكره وَلَقَد حكى من كَانَ أَسِيرًا مَعَهم أَنه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقع فيهم الصَّوْت أَن الْعَسْكَر السلطاني قد لحقهم فتركوا الْغَنِيمَة وأنهزموا وبعدوا عَنْهَا زَمَانا ثمَّ انْكَشَفَ الْأَمر فعادوا وَقد هرب جمع من الأسرى وَكَانَ الحاكي مِنْهُم وَأخْبر أَن الْأُسَارَى خمس مئة وَالْجمال تناهز ثَلَاثَة آلَاف جمل وَوصل الْعَدو إِلَى مخيمه سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما عِنْدهم وَصَحَّ عزمهم على الْقُدس وقويت نُفُوسهم بِمَا حصلوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال وَالْجمال الَّتِي تنقل الْميرَة والأزواد ورتبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 جمَاعَة على لد يحفظون الطَّرِيق على من ينْقل الْميرَة وأنفذوا الكند هري إِلَى صور وأطرابلس وعكا يستحضر من فِيهَا من الْمُقَاتلَة ليصعدوا إِلَى الْقُدس حرسه الله تَعَالَى وَلما عرف السُّلْطَان ذَلِك مِنْهُم عمد إِلَى الأسوار فَقَسمهَا على الْأُمَرَاء وَتقدم إِلَيْهِم بتهيئة أَسبَاب الْحصار وَأخذ فِي إِفْسَاد الْمِيَاه ظَاهر الْقُدس فخرب الصهاريج والجباب بِحَيْثُ لم يبْق حول الْقُدس مَاء يشرب أصلا وَأَرْض الْقُدس لَا يطْمع فِي حفر بِئْر فِيهَا مَاء معِين فِي جَمِيعهَا لِأَنَّهَا جبل عَظِيم وَحجر صلب وسير إِلَى العساكر يطْلبهَا من الجوانب والبلاد قَالَ وَلما كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة أحضر السُّلْطَان الْأُمَرَاء عِنْده فَحَضَرَ الْأَمِير أَبُو الهيجاء السمين بِمَشَقَّة عَظِيمَة وَجلسَ على كرْسِي فِي خدمَة السُّلْطَان وَحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء ثمَّ أَمرنِي أَن أكلمهم وأحثهم على الْجِهَاد فَذكرت مَا يسر الله من ذَلِك وَكَانَ مِمَّا قلته أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما اشْتَدَّ بِهِ الْأَمر بَايعه الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - على الْمَوْت فِي لِقَاء الْعَدو وَنحن أولى من تأسى بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمصلحة الِاجْتِمَاع عِنْد الصَّخْرَة والتحالف على الْمَوْت فَلَعَلَّ ببركة هَذِه النِّيَّة ينْدَفع هَذَا الْعَدو فَاسْتحْسن الْجَمَاعَة ذَلِك ووافقوا عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ثمَّ شرع السُّلْطَان بعد أَن سكت زَمَانا فِي صُورَة فكر وَالنَّاس سكُوت كَأَن على رؤوسهم الطير ثمَّ شرع وَقَالَ الْحَمد لله وَالصَّلَاة على رَسُول الله اعلموا أَنكُمْ جند الْإِسْلَام الْيَوْم ومنعته وَأَنت تعلمُونَ أَن دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وذراريهم معلقَة فِي ذممكم وَأَن هَذَا الْعَدو لَيْسَ لَهُ من الْمُسلمين من يلقاه إِلَّا أَنْتُم فان لويتم أعنتكم - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - طوى الْبِلَاد كطي السّجل للْكتاب وَكَانَ ذَلِك فِي ذمتكم فَإِنَّكُم أَنْتُم الَّذين تصديتم لهَذَا كُله وأكلتم مَال بَيت مَال الْمُسلمين فالمسلمون فِي سَائِر الْبِلَاد متعلقون بكم وَالسَّلَام فَانْتدبَ لجوابه سيف الدّين المشطوب وَقَالَ يَا مَوْلَانَا نَحن مماليكك وعبيدك وَأَنت الَّذِي أَنْعَمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وأغنيتنا وَلَيْسَ لنا إِلَّا رقابنا وَهِي بَين يَديك وَالله مَا يرجع أحد منا عَن نصرتك إِلَى أَن يَمُوت فَقَالَ الْجَمَاعَة مثل مَا قَالَ وانبسطت نفس السُّلْطَان بذلك الْمجْلس وطاب قلبه وأطعمهم ثمَّ انصرفوا ثمَّ انْقَضى يَوْم الْخَمِيس على أَشد حَال فِي التأهب والاهتمام حَتَّى كَانَ الْعشَاء الْآخِرَة اجْتَمَعنَا فِي خدمته على الْعَادة وسمرنا حَتَّى مضى هزيع من اللَّيْل وَهُوَ غير منبسط على عَادَته ثمَّ صلينَا الْعشَاء وَكَانَت الصَّلَاة هِيَ الدستور الْعَام فصلينا وأخذنا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 الِانْصِرَاف فدعاني - رَحمَه الله - وَقَالَ أعلمت مَا الَّذِي تجدّد قلت لَا قَالَ إِن أَبَا الهيجاء السمين أنفذ إِلَيّ الْيَوْم وَقَالَ إِنَّه اجْتمع عِنْدِي جمَاعَة المماليك الْأُمَرَاء وأنكروا علينا موافقتنا لَك على الْحصار وَالتَّأَهُّب لَهُ وَقَالُوا لَا مصلحَة فِي ذَلِك فانا نَخَاف أَن نحصر وَيجْرِي علينا مَا جرى على أهل عكا وَعند ذَلِك تُؤْخَذ بِلَاد الْإِسْلَام جمعا والرأي أَن نلقى مصَاف فَإِن قدر الله أَن نهزمهم ملكنا بَقِيَّة بِلَادهمْ وَإِن تكن الْأُخْرَى سلم الْعَسْكَر وَمضى الْقُدس وَقد انحفظت بِلَاد الْإِسْلَام بعساكرها مُدَّة بِغَيْر الْقُدس وَكَانَ - رَحمَه الله - عِنْده من الْقُدس أَمر عَظِيم لَا تحمله الْجبَال فشق عَلَيْهِ هَذِه الرسَالَة وأقمت تِلْكَ اللَّيْلَة فِي خدمته حَتَّى الصَّباح وَهِي من اللَّيَالِي الَّتِي أَحْيَاهَا فِي سَبِيل الله - رَحمَه الله - وَكَانَ مِمَّا قَالُوهُ فِي الرسَالَة إِنَّك إِن أردتنا نُقِيم فَتكون مَعنا أَو بعض أهلك حَتَّى نَجْتَمِع عِنْده وَإِلَّا فالأكراد لَا يدينون للأتراك والأتراك لَا يدينون للأكراد وانفصل الْحَال على أَن يُقيم من أَهله مجد الدّين بن فرخشاه صَاحب بعلبك وَكَانَ - رَحمَه الله - يحدث نَفسه بالْمقَام ثمَّ مَنعه رَأْيه عَنهُ لما فِيهِ من خطر الْإِسْلَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 فَلَمَّا قَارب الصُّبْح أشفقت عَلَيْهِ وخاطبته فِي أَن يستريح سَاعَة لَعَلَّ الْعين تَأْخُذ حظها من النّوم وانصرفت عَنهُ إِلَى دَاري فَمَا وصلت إِلَّا والمؤذن قد أذن فَأخذت فِي أَسبَاب الْوضُوء فَمَا فرغت إِلَّا وَالصُّبْح قد طلع وَكنت أُصَلِّي الصُّبْح مَعَه فِي غَالب الْأَحْوَال فعدت إِلَى خدمته وَهُوَ يجدد الْوضُوء فصلينا ثمَّ قلت لَهُ قد وَقع لي وَاقع أعرضه فَأذن لي فِيهِ فَقلت الْمولى فِي اهتمامه وَمَا قد حمل نَفسه من هَذَا الْأَمر مُجْتَهد فِيمَا هُوَ فِيهِ وَقد عجزت أَسبَابه الأرضية فَيَنْبَغِي أَن ترجع إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ أبرك أَيَّام الْأُسْبُوع وَفِيه دَعْوَة مستجابة فِي صَحِيح الْأَحَادِيث وَنحن فِي أبرك مَوضِع نقدر أَن نَكُون فِيهِ فِي يَوْمنَا هَذَا فالسلطان يغْتَسل للْجُمُعَة وَيتَصَدَّق بِشَيْء خُفْيَة بِحَيْثُ لَا يشعرأنه مِنْك وَتصلي بَين الْأَذَان والاقامة رَكْعَتَيْنِ تناجي فيهمَا رَبك وتفوض مقاليد أمورك إِلَيْهِ وتعترف بعجزك عَمَّا تصديت لَهُ فَلَعَلَّ الله يَرْحَمك ويستجيب دعاءك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 قَالَ وَكَانَ - رَحمَه الله - حسن العقيدة تَامّ الايمان يتلَقَّى الْأُمُور الشَّرْعِيَّة بأكمل انقياد وَقبُول ثمَّ انفصلنا فَلَمَّا كَانَ وَقت الْجُمُعَة صليت إِلَى جَانِبه فِي الْأَقْصَى وَصلى رَكْعَتَيْنِ ورأيته سَاجِدا وَهُوَ يذكر كَلِمَات ودموعه تتقاطر على مُصَلَّاهُ رَحمَه الله ثمَّ انْقَضتْ الْجُمُعَة بِخَير فَلَمَّا كَانَ عشيتها وَنحن فِي خدمته على الْعَادة وصلت رقْعَة جرديك - وَكَانَ فِي اليزك - يَقُول فِيهَا إِن الْقَوْم ركبُوا بأسرهم ووقفوا فِي الْبر على ظهر ثمَّ عَادوا إِلَى خيامهم وَقد سيرنا جواسيس تكشف أخبارهم وَلما كَانَ صَبِيحَة السبت وصلت رقْعَة أُخْرَى يخبر فِيهَا أَن الجواسيس رجعُوا واخبروا أَن الْقَوْم اخْتلفُوا فِي الصعُود إِلَى الْقُدس والرحيل إِلَى بِلَادهمْ فَذهب الفرنسيسية إِلَى الصعُود إِلَى الْقُدس وَقَالُوا نَحن إِنَّمَا جِئْنَا من بِلَادنَا بِسَبَب الْقُدس وَلَا نرْجِع دونه وَقَالَ الانكتار إِن هَذَا الْموضع قد أفسدت مياهه وَلم يبْق حوله مَاء أصلا فَمن أَيْن نشرب قَالُوا لَهُ نشرب من نهر نقوع وَبَينه وَبَين الْقُدس مِقْدَار فَرسَخ فَقَالَ كَيفَ نَذْهَب إِلَى السَّقْي فَقَالُوا ننقسم قسمَيْنِ قسم يذهب إِلَى السَّقْي مَعَ الدَّوَابّ وَقسم يبْقى على الْبَلَد مَعَ اليزك وَيكون الشّرْب فِي الْيَوْم مرّة فَقَالَ الإنكلتير إِذا يُؤْخَذ الْعَسْكَر البراني الَّذِي يذهب مَعَ الدَّوَابّ وَيخرج عَسْكَر الْبَلَد على البَاقِينَ وَيذْهب دين النَّصْرَانِيَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 فانفصل الْحَال على أَنهم حكمُوا ثَلَاث مئة من أعيانهم وَحكم الثَّلَاث مئة اثْنَي عشر من أعيانهم وَحكم الاثنا عشر ثَلَاثَة مِنْهُم وَقد باتوا على حكم الثَّلَاثَة فَمَا يأمرونهم بِهِ يفعل فَلَمَّا أَصْبحُوا حكمُوا عَلَيْهِم بالرحيل فَلم يُمكنهُم الْمُخَالفَة وَأَصْبحُوا فِي بكرَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة راحلين إِلَى نَحْو الرملة ناكصين على أَعْقَابهم وَللَّه الْحَمد 0 ووقف عَسْكَرهمْ إِلَى أَن لم يبْق فِي الْمنزلَة إِلَّا الْآثَار ثمَّ نزلُوا بالرملة وتواتر الْخَبَر بذلك فَركب السُّلْطَان - قدس الله روحه - وَركب النَّاس وَكَانَ سرُور وَفَرح وَلَكِن السُّلْطَان خَافَ على مصر لما حصلوا عَلَيْهِ من الْجمال وَالظّهْر وَكَانَ قد ذكر الإنكلتير مثل هَذَا مرَارًا فصل فِي تردد رسل الإنكلتير فِي معنى الصُّلْح وَمَا جرى فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى أَن تمّ وَللَّه الْحَمد وَقد سَاق ذَلِك القَاضِي ابْن شَدَّاد أحسن سِيَاق واستقصى الْأَمر فِيهِ بِخِلَاف الْعِمَاد فَقَالَ إِن الإنكلتير جَاءَ مِنْهُ رَسُول يَقُول قد هلكنا نَحن وَأَنْتُم والأصلح حقن الدِّمَاء وَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَقد أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 ذَلِك عَن ضعف مني بل للْمصْلحَة وَلَا يغتر بتأخري عَن منزلي فالكبش يتَأَخَّر لينطح ثمَّ جَاءَ رَسُوله يَقُول لَا يجوز لَك أَن تهْلك الْمُسلمين كلهم وَلَا يجوز لي أَن أهلك الفرنج كلهم وَهَذَا ابْن أُخْتِي الكندهري قد ملكته هَذِه الديار وسلمته إِلَيْك يكون هُوَ وَعَسْكَره بحكمك وَلَو استدعيتهم إِلَى الشرق سمعُوا وأطاعوا وَأَن جمَاعَة من الرهبان والمنقطعين قد طلبُوا مِنْك كنائس فَمَا بخلت عَلَيْهِم بهَا وَأَنا أطلب مِنْك كَنِيسَة وَتلك الْأُمُور الَّتِي كَانَت تضيق صدرك لما كَانَت تجْرِي المراسلة مَعَ الْملك الْعَادِل قد قلت بِتَرْكِهَا وأعرضت عَنْهَا وَلَو أَعْطَيْتنِي مقرعة أَو قَرْيَة قبلتها وقبلتها فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان الْأُمَرَاء فِي جَوَابه فأشاروا بالمحاسنة وَعقد الصُّلْح لما كَانَ قد أَخذ الْمُسلمين من الضجر والتعب وعلاهم من الدُّيُون وَاسْتقر الْحَال على هَذَا الْجَواب إِنَّك إِذا دخلت مَعنا هَذَا الدُّخُول فَمَا جَزَاء الاحسان إِلَّا الاحسان ابْن أختك يكون عِنْدِي كبعض أَوْلَادِي وسيبلغك مَا أفعل فِي حَقه من الْخَيْر وَأَنا أُعْطِيك أكبر الْكَنَائِس وَهِي الْقِيَامَة وَبَقِيَّة الْبِلَاد نقسمها والساحلية الَّتِي بِيَدِك تكون بِيَدِك وَالَّتِي بِأَيْدِينَا من القلاع الجبلية تكون لنا وَمَا بَين العملين يكون مُنَاصَفَة وعسقلان وَمَا وَرَاءَهَا تكون خرابا لَا لنا وَلَا لكم وَإِن أردتم قراها كَانَت لكم وَالَّذِي كنت أكرهه حَدِيث عسقلان فانفصل الرَّسُول طيب الْقلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 قَالَ واتصل الْخَبَر أَنهم بعد وُصُول الرَّسُول إِلَيْهِم راحلون إِلَى جِهَة عسقلان طالبون جِهَة مصر وَوصل رَسُول من جَانب قطب الدّين بن قليج أرسلان يَقُول إِن البابا قد وصل إِلَى قسطنطينية فِي خلق لَا يعلم عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَقَالَ الرَّسُول إِنِّي قتلت فِي الطَّرِيق اثْنَي عشر فَارِسًا وَيَقُول تقدم إِلَى من يتسلم بلادي مني فَانِي قد عجزت عَن حفظهَا فَلم يصدق السُّلْطَان هَذَا الْخَبَر وَلَا اكترث بِهِ ثمَّ جَاءَ رسوا الإنكلتير يطْلب أَن يكون فِي قلعة الْقُدس عشرُون نَفرا وَأَن من سكن من النَّصَارَى والفرنج فِي الْبَلَد لَا يتَعَرَّض لَهُم وَأما بَقِيَّة الْبِلَاد فلنا مِنْهَا الساحليات والوطاة والبلاد الجبلية لكم وَأخْبر الرَّسُول من عِنْد نَفسه مناصحة أَنهم قد نزلُوا عَن حَدِيث الْقُدس مَا عدا الزِّيَارَة وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا تصنعا وَأَنَّهُمْ راغبون فِي الصُّلْح وَأَن الإنكلتير لَا بُد لَهُ من الرواح إِلَى بَلَده فَأُجِيب بِأَن الْقُدس لَيْسَ لكم فِيهِ حَدِيث سوى الزِّيَارَة فَقَالَ الرَّسُول وَلَيْسَ على الزوار شَيْء يُؤْخَذ مِنْهُم فَعلم من هَذَا القَوْل الْمُوَافقَة وَأما الْبِلَاد فعسقلان وَمَا وَرَاءَهَا لَا بُد من خرابه فَقَالَ الرَّسُول قد خسر الْملك على سورها مَالا جزيلا فَسَأَلَ المشطوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 أَن يَجْعَل مزارعها وقراها فِي مُقَابل خسارته فَأجَاب السُّلْطَان وَأَن الداروم وَغَيره يخرب وَيكون بَلَدهَا مُنَاصَفَة وَأما بَاقِي الْبِلَاد فَيكون لَهُم من يافا إِلَى صور بأعمالها وَمهما اخْتَلَفْنَا فِي قَرْيَة كَانَت مُنَاصَفَة ثمَّ جَاءَ الرَّسُول يَقُول الْملك يَسْأَلك ويخضع لَك فِي أَن تتْرك لَهُ هَذِه الْأَمَاكِن الثَّلَاثَة عامرة وَأي قدر لَهَا عِنْد ملكك وعظمتك وَمَا سَبَب إصراره عَلَيْهَا إِلَّا أَن الفرنج لم يسمحوا بهَا وَهُوَ قد ترك الْقُدس بِالْكُلِّيَّةِ لَا يطْلب أَن يكون فِيهِ لَا رُهْبَان وَلَا قسوس إِلَّا فِي الْقِيَامَة وَحدهَا فَتتْرك لَهُ أَنْت هَذِه الْبِلَاد وَيكون الصُّلْح عَاما فَيكون لَهُم كل مَا فِي أَيْديهم من الداروم إِلَى أنطاكية وَلكم مَا فِي أَيْدِيكُم وينتظم الْحَال وَيروح وَإِن لم يَنْتَظِم الصُّلْح فالفرنج مَا يمكنونه من الرواح وَلَا يُمكنهُ مخالفتهم قَالَ القَاضِي فَانْظُر إِلَى هَذِه الصِّنَاعَة فِي استخلاص الفرص باللين تَارَة وبالخشونة أُخْرَى وَكَانَ - لَعنه الله - مُضْطَرّا إِلَى الرواح وَهَذَا عمله مَعَ اضطراره وَالله المسؤؤل فِي أَن يَكْفِي الْمُسلمين مكره فَمَا بلوا بأعظم حِيلَة وَلَا أَشد إقداما مِنْهُ فَأَجَابَهُ السُّلْطَان بِأَن أنطاكية لنا مَعَهم حَدِيث وَرُسُلنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 عِنْدهم فَإِن عَادوا بِمَا نُرِيد أدخلناهم فِي الصُّلْح وَإِلَّا فَلَا وَأما الْبِلَاد الَّتِي سَأَلَهَا فَلَا يُوَافق الْمُسلمُونَ على دَفعهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا قدر لَهَا وَأما سور عسقلان فَيَأْخُذ فِي مُقَابلَة مَا خسر عَلَيْهِ لدا فِي الوطاة ثمَّ عَاد الرَّسُول وَقَالَ إِن الْملك قَالَ لَا يمكننا أَن نخرب من عسقلان حجرا وَاحِدًا وَلَا يسمع عَنَّا فِي الْبِلَاد مثل ذَلِك وَأما الْبِلَاد فحدودها مَعْرُوفَة لَا مناكرة فِيهَا وَعند ذَلِك تأهب السُّلْطَان لِلْخُرُوجِ إِلَى جِهَة الْعَدو وَإِظْهَار الْقُوَّة وَشدَّة الْعَزْم على اللِّقَاء وبلغه فِي الْعَاشِر من رَجَب أَن الفرنج - خذلهم الله - قد رحلوا طَالِبين نَحْو بيروت فبرز من الْقُدس إِلَى منزلَة يُقَال لَهَا الجيب وَجَاء الْعَادِل من الشرق وَالظَّاهِر من حلب ورحل من الجيب إِلَى بَيت نوبَة ثمَّ رَحل إِلَى الرملة فَنزل بهَا على تلال بَين الرملة ولد وَركب جَرِيدَة حَتَّى أَتَى يازور وَبَيت دجن وأشرف على يافا ثمَّ نزل عَلَيْهَا من الْغَد ورتب عسكره فِي الميمنة وَلَده الظَّاهِر وَفِي الميسرة أَخُوهُ الْعَادِل وَركب المنجنيقات وزحف عَلَيْهَا فَأرْسل الْعَدو رسولين نَصْرَانِيّا وفرنجيا يطلبان الصُّلْح فَطلب مِنْهُم قَاعِدَة الْقُدس وقطيعته فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك واشترطوا أَن ينْظرُوا إِلَى يَوْم السبت تَاسِع عشر رَجَب فَإِن جَاءَتْهُم نجدة وَإِلَّا تمت الْقَاعِدَة على مَا اسْتَقر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فَأبى السُّلْطَان الانظار وَأمر بالنقب فخشي وأحرق فَوَقع بعض الْبَدنَة فَوضع الْعَدو أخشابا عَظِيمَة خلف النقب فالتهب فَمنع من الدُّخُول فِي الثلمة وقاتلت خَارج الْأَبْوَاب إِلَى اللَّيْل فَلَمَّا أَصْبحُوا وَقعت الْبَدنَة فعلا غُبَار مَعَ الدُّخان فأظلم الْأُفق وَمَا تجاسر أحد على الولوج خوفًا من اقتحام النَّار فَلَمَّا انكشفت الغبرة ظَهرت أسنة قد نابت مناب الأسوار ورماح قد سدت الثلمة حَتَّى عَن نُفُوذ الْأَبْصَار وَرَأى النَّاس هولا عَظِيما من صَبر الْقَوْم وثباتهم وَلَقَد رَأَيْت رجلَيْنِ على ممشى السُّور يمنعان المتسلق فِيهِ من حهة الثلمة وَقد أَتَى أَحدهمَا حجر المنجنيق فَأَخذه وَنزل إِلَى دَاخل فَقَامَ رَفِيقه فِي مقَامه متصديا لمثل مَا لحقه أسْرع من لمح الْبَصَر بِحَيْثُ لم يفرق بَينهمَا إِلَّا ناقد بَصِير وَلما رأى الْعَدو مَا قد آل الْأَمر إِلَيْهِ سِيرُوا يطْلبُونَ الْأمان فَقَالَ - رَحمَه الله - الْفرس بِفَارِس والتركبلي بِمثلِهِ والراجل بالراجل وَالْعَاجِز فعلى قطيعة الْقُدس فَنظر الرَّسُول وَرَأى الْقِتَال على الثلمة أَشد من إضرام النَّار فَسَأَلَ السُّلْطَان أَن يبطل الْقِتَال إِلَى أَن يعود فَقَالَ مَا أقدر على منع الْمُسلمين من هَذَا الْأَمر وَلَكِن ادخل إِلَى أَصْحَابك فَقل لَهُم ينحازون إِلَى القلعة ويتركون النَّاس يشتغلون بِالْبَلَدِ فَمَا بَقِي دونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 مَانع فَفَعَلُوا وانحازوا إِلَى قلعة يافا بعد أَن قتل مِنْهُم جمَاعَة وَدخل النَّاس الْبَلَد عنْوَة ونهبوا مِنْهُ أقمشة عَظِيمَة وغلالا كَثِيرَة وأثاثا وبقايا قماش مَا نهب من الْقَافِلَة المصرية واستقرت الْقَاعِدَة على الْوَجْه الَّذِي قَرَّرَهُ السُّلْطَان وَكَانَ قايماز النجمي فِي طرف الْغَوْر لحمايته من عَسْكَر الْعَدو الَّذِي بعكا فوصل مِنْهُ كتاب يخبر فِيهِ أَن الإنكلتير الملعون لما سمع خبر يافا أعرض عَن قصد بيروت وَعَاد على قصد يافا فَاشْتَدَّ عزم السُّلْطَان على تَتِمَّة الْأَمر وتسلم القلعة وَكنت مِمَّن لم ير الْأمان لانه قد لَاحَ أَخذهم وَكَانَ النَّاس لَهُم مُدَّة لم يظفروا من الْعَدو بمغنم يوثبهم عَلَيْهِ فَكَانَ أَخذهم عنْوَة مِمَّا يبْعَث همم الْعَسْكَر غير أَن الْأمان وَقع وَاتفقَ الصُّلْح فَكنت بعد ذَلِك مِمَّن يحث على إِخْرَاج الْعَدو من القلعة وتسلمها خوفًا من لُحُوق النجدة وَكَانَ السُّلْطَان يشْتَد حرصه على ذَلِك غير أَن النَّاس قد أقعدهم التَّعَب عَن امْتِثَال الْأَمر وَأخذ مِنْهُم الْحَدِيد وَشدَّة الْحر ودخان النَّار بِحَيْثُ لم يبْق لَهُم استطاعة على الْحَرَكَة وَسَمعنَا بوق الفرنج فِي السحر فَعلمنَا بوصول النجدة فسير السُّلْطَان معي عز الدّين جرديك وَعلم الدّين قَيْصر ودرباس المهراني وَعدل الخزانة شمس الدّين وَقَالَ امْضِ إِلَى الْملك الظَّاهِر وَقل لَهُ يقف ظَاهر الْبَاب القبلي وَتدْخل أَنْت وَمن ترَاهُ إِلَى القلعة وتخرجون الْقَوْم وتستولون على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والأسلحة وتكتبها بخطك إِلَى الظَّاهِر وَهُوَ ظَاهر الْبَلَد وَهُوَ يسيرها إِلَيْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 فَفَعَلْنَا ودخلنا القلعة وأمرنا الفرنج بِالْخرُوجِ فَأَجَابُوا وتهيؤوا فَقَالَ جرديك لَا يَنْبَغِي أَن يخرج مِنْهُم أحد حَتَّى يخرج النَّاس من الْبَلَد خشيَة أَن يتخطفوهم وَكَانَ النَّاس قد داخلهم الطمع فِي الْبَلَد وَأخذ يشْتَد فِي ضرب النَّاس وإخراجهم وهم غير مضبوطين بعدة وَلَا مَحْصُورين فِي مَكَان فَكيف يُمكن إخراجهم وَطَالَ الْأَمر إِلَى أَن، علا النَّهَار وَأَنا ألومه وَهُوَ لَا يرجع عَن ذَلِك وَالزَّمَان يمْضِي فَلَمَّا رَأَيْت الْوَقْت يفوت قلت لَهُ إِن النجدة قد وصلت والمصلحة المسارعة فِي إخراجهم فَأجَاب وأخرجنا خَمْسَة وَأَرْبَعين نَفرا بخيولهم وَنِسَائِهِمْ وسيرناهم ثمَّ اشتدت أنفس البَاقِينَ وحدثتهم نُفُوسهم بالعصيان وَكَانُوا استقلوا المراكب الَّتِي جَاءَتْهُم وظنوا أَن لَا نجدة لَهُم فِيهَا وَلم يعلمُوا أَن الإنكلتير مَعَ الْقَوْم ورأوهم قد تَأَخَّرُوا عَن النُّزُول إِلَى علو النهارفخافوا أَن يمتنعوا فيؤخذوا ويقتلوا فَخرج من خرج ثمَّ بعد ذَلِك قويت النجدة حَتَّى صَارُوا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ مركبا فَقَوِيت نفوس البَاقِينَ فِي الْحصن فظهرت مِنْهُم أَمَارَات الْعِصْيَان ودلائله فَقلت لِأَصْحَابِنَا خُذُوا حذركُمْ فقد تَغَيَّرت عزائم الْقَوْم فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة بِحَيْثُ صرت خَارج الْبَلَد وَقد حمل الْقَوْم من القلعة وأخرجوا من كَانَ فِي الْبَلَد من الأجناد وَلَقَد ازْدحم النَّاس فِي الْبَاب حَتَّى كَاد يتْلف مِنْهُم جمَاعَة وَبَقِي فِي بعض الْكَنَائِس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 جمَاعَة من رعاع الْعَسْكَر مشتغلين بِمَا لَا يجوز فَهَجَمُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا مِنْهُم وأسروا وَعرف السُّلْطَان فَأمر النَّاس فزحفوا وَعَاد الْحصار كَمَا كَانَ وحشروا الْعَدو فِي القلعة واستبطؤوا نزُول النجدة إِلَيْهِم وخافوا خوفًا عَظِيما فأرسلوا بطركهم والقسطلان إِلَى السُّلْطَان يعتذران مِمَّا جرى ويسألانه الْقَاعِدَة الأولى وَكَانَ سَبَب امْتنَاع نزُول النجدة أَنهم رَأَوْا الْبَلَد مشحونا ببيارق الْمُسلمين ورجالهم فخافوا أَن تكون القلعة قد أخذت وَكَانَ الْبَحْر يمْنَع من سَماع الصَّوْت وَكَثْرَة الضجيج والتهليل وَالتَّكْبِير فَلَمَّا رأى من فِي القلعة شدَّة الزَّحْف عَلَيْهِم وَامْتِنَاع النجدة من النُّزُول مَعَ كثرتها فَإِنَّهَا بلغت نيفا وَخمسين مركبا مِنْهَا خَمْسَة عشر من الشواني علمُوا أَن النجدة قد ظنُّوا أَن الْبَلَد قد أَخذ فوهب رجل مِنْهُم نَفسه للمسيح وقفز من القلعة إِلَى الميناء وَكَانَ رملا فَلم يصبهُ شَيْء وَعدا إِلَى الْبَحْر فَحدث الإنكلتير بِالْحَدِيثِ فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى نزل كل من فِي الشواني إِلَى الميناء هَذَا كُله وَأَنا أشاهد ذَلِك فحملوا على الْمُسلمين فأخرجوهم من الميناء فَقبض السُّلْطَان على الرُّسُل وَأمر بتأخر الثّقل والأسواق إِلَى يازور فَرَحل النَّاس وَتَأَخر لَهُم ثقل عَظِيم مِمَّا كَانُوا نهبوا من يافا وَخرج الإنكلتير إِلَى مَوضِع السُّلْطَان الَّذِي كَانَ فِيهِ لمضايقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 الْبَلَد وَأمر من فِي القلعة أَن يخرجُوا إِلَيْهِ ليعظم سوَاده ثمَّ اجْتمع بِهِ جمَاعَة من المماليك طَلَبهمْ وَحضر الْحَاجِب أَبُو بكر العادلي وَكَانَ قد صَادِق جمَاعَة من خَواص المماليك وَدخل مَعَهم دُخُولا عَظِيما بِحَيْثُ كَانُوا يَجْتَمعُونَ بِهِ أَوْقَات مُتعَدِّدَة وَكَانَ قد صَادِق من الْأُمَرَاء جمَاعَة كبدر الدّين دلدرم وَغَيره فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْده جد وهزل وَمن جملَة مَا قَالَ هَذَا السُّلْطَان عَظِيم وَمَا فِي الأَرْض للاسلام ملك أكبر وَلَا أعظم مِنْهُ كَيفَ رَحل عَن الْمَكَان بِمُجَرَّد وصولي وَوَاللَّه مَا لبست لأمة حَرْبِيّ وَلَا تأهبت لأمر وَلَيْسَ فِي رجْلي إِلَّا زربول الْبَحْر فَكيف تَأَخّر ثمَّ قَالَ وَالله إِنَّه لعَظيم وَالله مَا ظَنَنْت أَنه يَأْخُذ يافا فِي شَهْرَيْن فَكيف أَخذهَا فِي يَوْمَيْنِ ثمَّ قَالَ لأبي بكر الْحَاجِب تسلم على السُّلْطَان وَتقول لَهُ بِاللَّه عَلَيْك أجب سُؤَالِي فِي الصُّلْح فَهَذَا أَمر لَا بُد لَهُ من آخر وَقد هَلَكت بلادي وَرَاء الْبَحْر وَمَا دوَام هَذَا مصلحَة لَا لنا وَلَا لكم فَأرْسل السُّلْطَان إِلَيْهِ فِي الْجَواب إِنَّك كنت طلبت الصُّلْح أَولا على قَاعِدَة وَكَانَ الحَدِيث فِي يافا وعسقلان والآن فقد خربَتْ هَذِه يافا فَيكون لَك من قيسارية إِلَى صور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 فَأرْسل الإنكلتير يَقُول إِن قَاعِدَة الافرنج أَنه إِذا أعْطى وَاحِد لوَاحِد بَلَدا صَار تبعه وَغُلَامه وَأَنا أطلب مِنْك هذَيْن البلدين يافا وعسقلان وَتَكون عساكرهما فِي خدمتك دَائِما وَإِذا احتجت إِلَيّ وصلت إِلَيْك فِي أسْرع وَقت وخدمتك كَمَا تعلم خدمتي فَقَالَ السُّلْطَان حَيْثُ دخلت هَذَا الْمدْخل فَأَنا أجيبك على أَن تجْعَل البلدين قسمَيْنِ أَحدهمَا لَك وَهُوَ يافا وَمَا وَرَاءَهَا وَالثَّانِي لي وَهُوَ عسقلان وَمَا وَرَاءَهَا ثمَّ رتب السُّلْطَان اليزك بيازور وَأمر بخرابها وخراب بَيت دجن ورتب النقابين لذَلِك وَسَار إِلَى الرملة فَعَاد رَسُول الإنكلتير يشْكر على إِعْطَائِهِ يافا ويجدد السُّؤَال فِي عسقلان وَيَقُول لَهُ إِن وَقع الصُّلْح فِي هَذِه الْأَيَّام السِّتَّة سَار إِلَى بِلَاده وَإِلَّا احْتَاجَ أَن يشتي هَا هُنَا فَأَجَابَهُ السُّلْطَان فِي الْحَال وَقَالَ أما النُّزُول عَن عسقلان فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ وَأما تشتيته هَا هُنَا فَلَا بُد مِنْهَا لانه قد استولى على هَذِه الْبِلَاد وَيعلم أَنه مَتى غَابَ عَنْهَا أخذت بِالضَّرُورَةِ وَإِذا أَقَامَ أَيْضا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِذا سهل عَلَيْهِ أَن يشتي هَاهُنَا وَيبعد عَن أَهله ووطنه مسيرَة شَهْرَيْن وهوشاب فِي عنفوان شبابه وَوقت اقتناص لذاته مَا يسهل عَليّ أَن أشتي وأصيف وَأَنا فِي وسط بلادي وَعِنْدِي أَهلِي وأولادي وَيَأْتِي إِلَيّ مَا أريده وَمن أريده وَأَنا شيخ كَبِير قد كرهت لذات الدُّنْيَا وشبعت مِنْهَا ورفضتها عني والعسكر الَّذِي يكون عِنْدِي فِي الشتَاء غير الَّذِي يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 عِنْدِي فِي الصَّيف وَأَنا أعتقد أَنِّي فِي أعظم الْعِبَادَات وَلَا أَزَال كَذَلِك حَتَّى يُعْطي الله النَّصْر لمن يَشَاء ثمَّ جَاءَ رَسُوله يَقُول كم أطرح نَفسِي على السُّلْطَان وَهُوَ لَا يقبلني وَأَنا كنت أحرص حَتَّى أَعُود إِلَى بلادي والآن فقد هجم الشتَاء وتغيرت الأنواء وعزمت على الاقامة وَمَا بَقِي بَيْننَا حَدِيث ثمَّ بلغ السُّلْطَان أَن عَسْكَر الْعَدو قد رَحل من عكا قَاصِدا يافا فَسَار - رَحمَه الله - فَنزل على العوجاء وَوصل من أخبرهُ أَن الْعَدو دخل قيسارية وَلم يبْق فِيهِ طمع وبلغه أَن الإنكلتير نَازل خَارج يافا فِي نفر يسير فَوَقع لَهُ أَن يكبسه فَأَتَاهُ فَوجدَ خيمه نَحْو عشر خيم فحملوا عَلَيْهِم فثبتوا وَلم يتحركوا من أماكنهم وكشروا عَن أَنْيَاب الْحَرْب وَكَانُوا على الْمَوْت أَصْبِر فارتاع الْمُسلمُونَ مِنْهُم ووجموا من ثباتهم وداروا حَولهمْ حَلقَة وَكَانَت عدَّة الْخَيل سَبْعَة عشر وَقيل تِسْعَة والرجالة ثَلَاث مئة أَو أَكثر فَوجدَ السُّلْطَان من ذَلِك موجدة عَظِيمَة وَدَار على الأطلاب بِنَفسِهِ يحثهم على الحملة ويعدهم بِالْحُسْنَى على ذَلِك فَلم يجب دعاءه أحد سوى وَلَده الظَّاهِر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 قَالَ وَبَلغنِي أَنه قَالَ لَهُ الْجنَاح أَخُو المشطوب قل لغلمانك الَّذين ضربوا النَّاس يَوْم فتح يافا وَأخذُوا مِنْهُم الْغَنِيمَة يحملون وَكَانَ فِي قُلُوب الْعَسْكَر من صلح السُّلْطَان على يافا حَيْثُ فوتهم الْغَنِيمَة فَلَمَّا رأى السُّلْطَان ذَلِك أعرض عَن الْقِتَال وَغَضب وَسَار إِلَى يازور قَالَ وَلَقَد بَلغنِي أَن الإنكلتير أَخذ رمحه ذَلِك الْيَوْم وَحمل من طرف الميمنة إِلَى طرف الميسرة فَلم يعرض لَهُ أحد قلت وَوصل من الْفَاضِل كتاب من دمشق يَقُول فِيهِ كثر الارجاف بِهَلَاك ملك الإنكلتير فَإِن كَانَ كَذَلِك فجواب كل من قصر فِي يافا عَن أَخذه عَن السُّلْطَان {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} وَجَوَاب السُّلْطَان لَهُم عَن ملك الإنكلتير إِلَّا تقتلوه فقد قَتله الله وَلم يزل لطيفا وَلم يزل مَوْلَانَا يحمل الثّقل ثقيلا وخفيفا وَمن كَانَ الله عَلَيْهِ لم يكن قَوِيا وَمن كَانَ الله مَعَه لم يكن ضَعِيفا قَالَ القَاضِي ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى النطرون ثمَّ إِلَى الْقُدس فَنظر العمائر ورتبها ثمَّ عَاد إِلَى النطرون وتوافت إِلَيْهِ فِيهِ العساكر وَوصل عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل ثمَّ قدم عَسْكَر مصر وَفِيهِمْ سيف الدّين يازكوج وَجَمَاعَة الأَسدِية فِي خدمَة وَلَده الْملك الْمُؤَيد مَسْعُود وَوصل الْمَنْصُور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تَقِيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 الدّين فَلَقِيَهُ الظَّاهِر إِلَى بَيت نوبَة وَدخل بِهِ على السُّلْطَان فَنَهَضَ واعتنقه وضمه إِلَى صَدره وغشيه الْبكاء فَصَبر نَفسه حَتَّى غَلبه الْأَمر فَبكى النَّاس لبكائه سَاعَة ثمَّ باسطه وَسَأَلَهُ عَن الطَّرِيق وَكَانَ مَعَه عَسْكَر جميل فقرت عين السُّلْطَان بِهِ ثمَّ سَار وَنزل فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر مِمَّا يَلِي الرملة وَلما رأى السُّلْطَان العساكر قد اجْتمعت جمع أَرْبَاب الرَّأْي وَقَالَ إِن الإنكلتير قد مرض مَرضا شَدِيدا والافرنسيسية قد سَارُوا رَاجِعين ليعبروا الْبَحْر من غير شكّ ونفقاتهم قد قلت وَأرى أَن نسير إِلَى يافا فَإِن وجدنَا فِيهَا طَمَعا وَإِلَّا عدنا إِلَى عسقلان فَمَا تلحقها النجدة إِلَّا وَقد بلغنَا مِنْهَا غَرضا فوافقوه على ذَلِك فَأرْسل عز الدّين جرديك وجمال الدّين فرج سادس شعْبَان حَتَّى يَكُونَا قَرِيبا من يافا هَذَا ورسل الإنكلتير لَا تَنْقَطِع فِي طلب الْفَاكِهَة والثلج وأوقع الله عَلَيْهِ فِي مَرضه شَهْوَة الكمثرى والخوخ وَكَانَ السُّلْطَان يمده بذلك ويقصد كشف الْأَخْبَار بتواتر الرُّسُل وَالَّذِي انْكَشَفَ لَهُ أَن فِيهَا ثَلَاث مئة فَارس على قَول المكثر ومئتي فَارس على قَول المقلل وَأَن الكندهري تردد بَينه وَبَين الفرنسيسية فِي مقامهم وهم عازمون على عبور الْبَحْر قولا وَاحِدًا فَسَار السُّلْطَان إِلَى جِهَة الرملة وَجَاء رَسُول الإنكلتير مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 الْحَاجِب أبي بكر يشْكر السُّلْطَان على اسعافه بالفاكهة والثلج وَذكر أَبُو بكر أَنه انْفَرد بِهِ وَقَالَ لَهُ قل لأخي - يَعْنِي الْملك الْعَادِل - يبصر كَيفَ يتَوَصَّل إِلَى السُّلْطَان فِي معنى الصُّلْح ويستوهب لي مِنْهُ عسقلان وأمضي وَيبقى هُوَ هَا هُنَا مَعَ هَذِه الشرذمة الْيَسِيرَة وَيَأْخُذ الْبِلَاد مِنْهُم فَلَيْسَ غرضي إِلَّا إِقَامَة جاهي بَين الفرنجية وَإِن لم ينزل السُّلْطَان عَن عسقلان فتأخذ لي مِنْهُ عوضا عَن خسارتي على عمَارَة سورها فَأرْسل السُّلْطَان إِلَى الْعَادِل إِن نزلُوا عَن عسقلان فَصَالحهُمْ فَإِن الْعَسْكَر قد ضجر من مُلَازمَة البيكار والنفقات قد نفدت ثمَّ إِن الإنكلتير نزل عَن عسقلان وَعَن الْعِوَض عَنْهَا واستوثق مِنْهُ على ذَلِك فأحضر السُّلْطَان الدِّيوَان يَوْم السبت ثامن عشر شعْبَان وَذكر يافا وعملها وَأخرج الرملة مِنْهَا ولد ومجدل يابا ثمَّ ذكر قيسارية وأعمالها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها وَأخرج مِنْهَا الناصرة وصفورية وَأثبت الْجَمِيع فِي ورقة وَقَالَ للرسول هَذِه حُدُود الْبِلَاد الَّتِي تبقى فِي أَيْدِيكُم فَإِن صالحتم على ذَلِك فمبارك وَقد أَعطيتكُم يَدي فَينفذ الْملك من يحلف فِي بكرَة غَد وَإِلَّا فنعلم أَن هَذَا تدفيع ومماطلة وَكَانَ من الْقَاعِدَة أَن تكون عسقلان خرابا وَأَن يتَّفق أَصْحَابنَا وأصحابهم على خرابها وَاشْترط دُخُول بِلَاد الاسماعيلية واشترطوا هم دُخُول صَاحب أنطاكية وطرابلس فِي الصُّلْح وَشرط أَن تكون الرملة ولد بَين الْمُسلمين وَبينهمْ مُنَاصَفَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 واستقرت الْقَاعِدَة على أَنهم يحلفُونَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان وَرَضي الاستبارية والداوية وَسَائِر مقدمي الافرنجية بذلك وَلم يحلف الانكلتير بل أخذُوا يَده وَعَاهَدُوهُ وَاعْتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وقنع من السُّلْطَان بِمثل ذَلِك ثمَّ حلف الْجَمَاعَة فَحلف الكند هري ابْن أُخْته الْمُسْتَخْلف عَنهُ فِي السَّاحِل وباليان بن بارزان ابْن صَاحِبَة طبرية وَوصل ابْن الهنفري وَابْن بارزان وَجَمَاعَة من مقدميهم إِلَى السُّلْطَان فَأخذُوا يَده على الصُّلْح واقترحوا حلف جمَاعَة الْعَادِل وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر والمنصور وَسيف الدّين المشطوب ودلدرم وَابْن الْمُقدم وَصَاحب شيزر وكل مجاور لبلادهم وَحلف لصَاحب أنطاكية وطرابلس وعلق الْيَمين بِشَرْط حلفهم للْمُسلمين قَالَ وَوصل رَسُول سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط يُبْدِي الطَّاعَة والموافقة وتسيير الْعَسْكَر وَحضر رَسُول الكرج وَذكر فصلا فِي معنى الديارات الَّتِي لَهُم فِي الْقُدس وعمارتها وَشَكوا من أَنَّهَا أخذت من أَيْديهم وَيسْأل ردهَا إِلَى أَيدي نوابهم وَرَسُول صَاحب أرزن الرّوم يبْذل الطَّاعَة والعبودية قَالَ الْعِمَاد وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر والسهل والوعر وَجعل لَهُم من يافا إِلَى قيسارية إِلَى عكا إِلَى صور وأدخلوا فِي الصُّلْح أطرابلس وأنطاكية وَوَقعت الْمُصَالحَة مُدَّة ثَلَاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 سِنِين وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا مُبْتَدأ أيلول الْمُوَافق للحادي وَالْعِشْرين من شعْبَان قَالَ وَكَانَ الفرنج قد ملؤوا يافا من الرِّجَال والأسلحة والأقوات ليتقووا بهَا على فتح الْقُدس لتَكون لَهُم ظهرا وعونا لقربها من الْبَيْت الْمُقَدّس قلت وَمن الْأَلْفَاظ الْفَاضِلِيَّةِ وَقد فعلت الأقدار فِي رياضة عرائكهم مَا كَانَ سَببه هَذِه الحركات الْمُبَارَكَة وَكَيف يشنع ملك إنكلتير بالغدر وَهُوَ - لَعنه الله - قد أَتَى بأقبح الْغدر وأفحشه فِي أهل عكا نَهَارا جهارا وَشهد فِيهَا بخزيته وفضيحته الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى وغدر الفرنج مَعْلُوم (إِذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... وَمن عهدها أَن لَا يَدُوم لَهَا عهد) الْقَوْم هادنوا لما ضعفوا ويفسخون إِذا قووا وَنحن نَنْتَظِر فِي ملك إنكلتير مَا تفصح عَنهُ الْمَقَادِير فِي أمره إِمَّا الْهَلَاك وشاباش لَهَا فَيلقى الْأَحِبَّة المركيس ودوك وَملك الألمان وَيُؤْنس فِي النَّار غربتهم وَيكثر عدتهمْ وَإِمَّا أَن يعافى وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَهُوَ بَين أَمريْن إِمَّا أَن يرجع إِلَى لعنة الله وَإِلَى مُرُوءَة الْبَحْر فِي تغريقه وَإِمَّا أَن يُقيم فهنالك قد أبدى الشَّرّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 ناجذيه ونكص الملعون من الْوَفَاء على عَقِبَيْهِ وانتظر الفرصة لتنتهز والعورة ليثب وَمِمَّا قيل فِي هَذِه الْهُدْنَة أَبْيَات من قصيدة نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن ابْن المجاور الَّتِي تقدّمت فِي فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَهِي (يَا صَاح قل للانكلتير الْكَلْب دع ... عَنْك الْجُنُون وَخذ مقَالَة منصف) (الْقُدس مَا فِيهِ لسرجك مطمع ... كلا وَلَا نور الاله بمنطفي) (وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى فَعَنْهُ تقص من ... وَقع الدبابيس الأليمة تعرف) (واستفت نَفسك فَهِيَ أَخبث نَاصح ... واترك مُتَابعَة اللجاج الْمُتْلف) (واعجب لرمح بالرؤوس معمم ... واطرب لسيف بالدماء مغلف) (قد قلت لما قيل صلح قد جرى ... هَذَا حَدِيث مجزف ومحرف) (سلف تولى السَّيْف عقد شُرُوطه ... أحبب بِهِ من مُسلم ومسلف) (ظنوه سلما وَهُوَ فِي أَرْوَاحهم ... سلم إِلَى أجل لَهُم متخلف) وَذكر أَبُو الْحسن ابْن الساعاتي الإنكلتير هَذَا فِي شعره فِي قصيدة مدح بهَا السُّلْطَان - رحمهمَا الله - يَقُول فِيهَا (منعت ظباء المنحنى بأسوده ... وَأَشد مَا أشكوه فتك ظبائه) (فعلت بِنَا وَهِي الصّديق لحاظها ... كضبي صَلَاح الدّين فِي أعدائه) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 (سل عَنهُ قلب الانكتار فَإِن فِي ... خفقانه مَا شِئْت من أنبائه) (لولاك أم الْبَيْت غير مدافع ... ولسال سيل نداك فِي بطحائه) (وبكت جفون الْقُدس ثَانِيَة دَمًا ... لترنم الناقوس فِي أفنائه) فصل فِيمَا جرى بعد الْهُدْنَة قَالَ القَاضِي أَمر السُّلْطَان أَن يُنَادى فِي الوطاقات والأسواق أَلا إِن الصُّلْح قد انتظم فَمن شَاءَ من بِلَادهمْ يدْخل بِلَادنَا فَلْيفْعَل وَمن شَاءَ من بِلَادنَا يدْخل إِلَى بِلَادهمْ فَلْيفْعَل وأشاع - رَحمَه الله - أَن طَرِيق الْحَج قد فتح من الشَّام وَوَقع لَهُ عزم الْحَج فِي ذَلِك الْمجْلس وَكنت حَاضرا ذَلِك جَمِيعه وَأمر أَن يسير مئة نقاب لتخريب سور عسقلان مَعَهم أَمِير كَبِير ولاخراج الفرنج مِنْهَا وَيكون مَعَهم جمَاعَة من الفرنج إِلَى حِين وُقُوع الخراب فِي السُّور خشيَة من استبقائه عَامِرًا فَفعل ذَلِك وَخَربَتْ وَكَانَ يَوْم الصُّلْح يَوْمًا مشهودا غشي النَّاس من الطَّائِفَتَيْنِ من الْفَرح وَالسُّرُور مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى وَالله الْعَلِيم أَن الصُّلْح لم يكن من إيثاره فَإِنَّهُ قَالَ لي فِي عض محاوراته فِي الصُّلْح أَخَاف أَن أصالح وَمَا أَدْرِي أيش يكون مني فيقوى هَذَا الْعَدو وَقد بَقِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 لَهُم هَذِه الْبِلَاد فَيخْرجُونَ لاستعادة بَقِيَّة بِلَادهمْ وَترى كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة قد قعد فِي رَأس تله - يَعْنِي حصنه - وَقَالَ لَا أنزل وَيهْلك الْمُسلمُونَ فَهَذَا كَلَامه وَكَانَ كَمَا قَالَ - رَحمَه الله - لكنه رأى الْمصلحَة فِي الصُّلْح لسأم الْعَسْكَر ومظاهرتهم بالمخالفة وَكَانَ مصلحَة فِي علم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ اتّفقت وَفَاته بعيد الصُّلْح وَلَو كَانَ اتّفق ذَلِك فِي أثْنَاء الوقعات لَكَانَ الْإِسْلَام على خطر فَمَا كَانَ الصُّلْح إِلَّا تَوْفِيقًا وسعادة من الله رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورحل السُّلْطَان إِلَى النطرون وَاخْتَلَطَ العسكران وَذهب جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى يافا فِي طلب التِّجَارَة وَوصل خلق عَظِيم من الْعَدو إِلَى الْقُدس لِلْحَجِّ وَفتح السُّلْطَان لَهُم الْبَاب فِي ذَلِك وَنفذ مَعَهم الخفراء يحفظونهم حَتَّى يردوهم إِلَى يافا وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان بذلك أَن يقضوا وطرهم من الزِّيَارَة ويرجعوا إِلَى بِلَادهمْ فَيَأْمَن الْمُسلمُونَ شرهم وَلما علم الْملك كَثْرَة من يزور مِنْهُم صَعب عَلَيْهِ ذَلِك وسير إِلَى السُّلْطَان يسْأَله منع الزوار واقترح أَن لَا يَأْذَن لأحد إِلَّا بعد حُضُور عَلامَة من جَانِبه أَو بكتابه وَعلمت الفرنجيه ذَلِك فَعظم عَلَيْهَا واهتموا فِي الْحَج فَكَانَ يرد فِي كل يَوْم مِنْهُم جموع كَثِيرَة مقدمون وأوساط وملوك متنكرون وَشرع السُّلْطَان فِي إكرام من يرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وَمد الطَّعَام لَهُم ومباسطتهم ومحادثتهم وعرفهم إِنْكَار الْملك ذَلِك وَأذن لَهُم السُّلْطَان فِي الْحَج وعرفهم أَنه لم يلْتَفت إِلَى منع الْملك من ذَلِك وَاعْتذر إِلَى الْملك بِأَن قوما قد وصلوا من ذَلِك الْبعد وَيسر لَهُم زِيَارَة هَذَا الْمَكَان الشريف لَا اسْتحلَّ مَنعهم ثمَّ اشْتَدَّ الْمَرَض بِالْملكِ فَرَحل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من شعْبَان وَقيل إِنَّه مَاتَ وَسَار هُوَ والكند هري وَسَائِر المقدمين إِلَى جَانب عكا وَلم يبْق فِي يافا إِلَّا مَرِيض أَو عَاجز وَنَفر يسير ثمَّ أعْطى السُّلْطَان للنَّاس دستورا فَسَار عَسْكَر إربل والموصل وسنجار والحصن وأشاع - رَحمَه الله - أَمر الْحَج وَقَوي عزمه على بَرَاءَة الذِّمَّة مِنْهُ قَالَ القَاضِي وَكَانَ هَذَا مِمَّا وَقع لي وبدأت بالاشارة بِهِ فِي يَوْم تَتِمَّة الصُّلْح وَوَقع مِنْهُ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - موقعا عَظِيما وَأمر الدِّيوَان أَن كل من عزم على الْحَج من الْعَسْكَر يثبت اسْمه حَتَّى نحصي عدَّة من يدْخل مَعنا الطَّرِيق وَكتب جرائد بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الطَّرِيق من الْخلْع والأزواد وَغير ذَلِك وسيرها إِلَى الْبِلَاد ليعدوها ورحل من النطرون رَابِع شهر رَمَضَان وَسَار حَتَّى أَتَى مار صمويل يفتقد أَخَاهُ الْعَادِل وَكَانَ مَرِيضا بهَا فَوَجَدَهُ قد سَار إِلَى الْقُدس وَكَانَ قد انْقَطع عَن أَخِيه مُدَّة بِسَبَب الْمَرَض وَكَانَ قد تماثل فَعرف بمجيء السُّلْطَان إِلَى مار صمويل لعيادته فَحمل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 نَفسه وَسَار حَتَّى لقِيه بذلك الْمَكَان وهوأول وُصُوله وَلم ينزل بعد وَنزل وَقبل الأَرْض وَعَاد ركب فاستدناه وَسَأَلَهُ عَن مزاجه وسارا جَمِيعًا حَتَّى أَتَيَا الْقُدس بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَقَالَ الْعِمَاد عَاد السُّلْطَان بعد السّلم إِلَى الْقُدس لتفقد أَحْوَاله وَعرض رِجَاله واشتغل بتشييد أسواره وتحصينها وتخليد آثاره وتحسينها وتعميق خنادقه وتوثيق طرائقه وَزَاد فِي وقف الْمدرسَة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها وَكَذَلِكَ رتب أَحْوَال الصُّوفِيَّة فِي رعايتها وَالْوَقْف الكافل بكفايتها وَعين الْكَنِيسَة الَّتِي فِي شَارِع قمامة للبيمارستان وَنقل إِلَيْهِ العقاقير والأدوية من جَمِيع الْأَنْوَاع والألوان وأدار سور الْقُدس على قبَّة صهيون وأضافها إِلَى الْمَدِينَة وَأمر بإدارة الْخَنَادِق على الْجَمِيع وصمم الْعَزْم على الْحَج فَلم يُوَافقهُ الْقدر وتأسف على فَوَاته بعد أَن قدم مقدماته وَأقَام شهر رَمَضَان وأفاض الاحسان وفوض ولَايَة الْقُدس وأعمالها إِلَى عز الدّين جرديك حِين استعفى مِنْهَا حسام الدّين سياروخ وَولى مَمْلُوكه علم الدّين قَيْصر مَا دون الْقُدس كعمل الْخَلِيل وغزة والداروم وعسقلان قلت وَلما بلغ القَاضِي الْفَاضِل من قبل السُّلْطَان أَنه عازم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 على الْحَج كتب إِلَيْهِ مُشِيرا بتبطيله إِن الفرنج لم يخرجُوا بعد من الشَّام وَلَا سلوا عَن الْقُدس وَلَا وثق بعهدهم فِي الصُّلْح فَلَا يُؤمن مَعَ بَقَاء الفرنج على حَالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلطاننا سفرا مُقَدرا مَعْلُوما مُدَّة الْغَيْبَة فِيهِ أَن يسروا لَيْلَة فيصبحوا الْقُدس على غَفلَة فيدخلوا إِلَيْهِ - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - ويفرط من يَد الْإِسْلَام وَيصير الْحَج كَبِيرَة من الْكَبَائِر الَّتِي لَا تغْفر وَمن العثرات الَّتِي لَا تقال ثمَّ قَالَ وحاج الْعرَاق وخراسان أَلَيْسَ هم مئتي ألف أَو ثَلَاث مئة ألف أَو أَكثر هَل يُؤمن أَن يُقَال قد سَار السُّلْطَان لطلب ثار وَسَفك دم وتشويش موسم فاقعدوا فَيكون تَارِيخ سوء أعوذ بِاللَّه مِنْهُ مَا هَذِه الشناعة ممتنعة الْوُقُوع وَلَا مستبعدة من الْعُقُول السخيفة فينعم الْمولى بتأمل مَا أنهاه الْمَمْلُوك مَسْتُورا فانه يسْأَل مَوْلَانَا أَن لَا يُشَارك أحدا فِيمَا يَكْتُبهُ لَا من مُهِمّ وَلَا من غير مُهِمّ يَا مَوْلَانَا مظالم الْخلق كشفها أهم من كل مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله وَمَا هِيَ بِوَاحِدَة فِي أَعمال دمشق من مظالم من الفلاحين مَا يستغرب مَعَه وُقُوع الْقطر وَمن تسلط المقطعين على المنقطعين مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 لَا يُنَادى وليده وَفِي وَادي بردى والزبداني من الفتنه الْقَائِمَة وَالسيف الَّذِي يقطر دَمًا مَا لَا زاجر عَنهُ وللمسلمين ثغور تُرِيدُ التحصين والذخيرة وَمن الْمُهِمَّات إِقَامَة وُجُوه الدخل وَتَقْدِير الخرج بحسبها فَمن المستحيل نَفَقَة من غير حَاصِل وَفرع من غير أصل وَهَذَا أَمر قد تقدم فِيهِ حَدِيث كثير وَعرضت للْمولى شواغل دونه ومشت الْأَحْوَال مشيا على ظلع فَلَمَّا خلت النوب - أعاذ الله من عودهَا - كَانَ خلو بَيت المَال أَشد مَا فِي الشدَّة وَلَيْسَ الْمَمْلُوك مطالبا بذخيرة تحصل إِنَّمَا يطْلب تمشية من حَيْثُ تَسْتَقِر قلت وَلم يزل الْبَيْت الْمُقَدّس - شرفه الله تَعَالَى - ملحوظا بالعمارة والتحصين من عهد السُّلْطَان - رَحمَه الله - إِلَى سنة سِتَّة عشرَة وست مئة فَإِنَّهُ خرب فِي الْمحرم مِنْهَا بِسَبَب خُرُوج الفرنج - لعنهم الله - وانتشارهم فِي الْبِلَاد فخيف من استيلائهم عَلَيْهِ وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا توفّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب أَخُو السُّلْطَان وتشتت النَّاس بعد خرابه وَرَغبُوا عَن السُّكْنَى بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 ورثاه الرئيس الْفَاضِل شهَاب الدّين أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن مُحَمَّد المجاور بقصيدة حَسَنَة مِنْهَا (أعيني لَا ترقى من العبرات ... صلي فِي البكا الأصال بالبكرات) (لَعَلَّ سيول الدمع يطفىء فيضها ... توقد مَا فِي الْقلب من جمرات) (وَيَا قلب أَسعر نَار وَجدك كلما ... خبت بادكار يبْعَث الحسرات) (وَيَا فَم بح بالشجو مِنْك لَعَلَّه ... يروح مَا ألْقى من الكربات) (على الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي جلّ قدره ... على موطن الاخبات والصلوات) (على منزل الْأَمْلَاك وَالْوَحي وَالْهدى ... على مشْهد الأبدال والبدلات) (على سلم الْمِعْرَاج والصخرة الَّتِي ... أنافت بِمَا فِي الأَرْض من صخرات) (على الْقبْلَة الأولى الَّتِي اتجهت لَهَا ... صَلَاة البرايا فِي اخْتِلَاف جِهَات) (على خير معمور وَأكْرم عَامر ... وأشرف مَبْنِيّ لخير بناة) (وَمَا زَالَ فِيهِ لِلنَّبِيِّينَ معبد ... يوالون فِي أرجائه السجدات) (عَفا الْمَسْجِد الْأَقْصَى الْمُبَارك حوله الرفيع ... الْعِمَاد العالي الشرفات) (عَفا بَعْدَمَا قد كَانَ للخير موسما ... وللبر والاحسان والقربات) (يوافي إِلَيْهِ كل أَشْعَث قَانِت ... لمَوْلَاهُ بر دَائِم الخلوات) (خلا من صَلَاة لَا يمل مقيمها ... توشح بِالْآيَاتِ والسورات) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 (خلا من حنين التائبين وحزنهم ... فَمن بَين نواح وَبَين بكاة) (لتبك على الْقُدس الْبِلَاد بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات) (لتبك عَلَيْهَا مَكَّة فَهِيَ أُخْتهَا ... وتشكو الَّذِي لاقت إِلَى عَرَفَات) (لتبك على ماحل بالقدس طيبَة ... وتشرحه فِي أكْرم الحجرات) (لقد أشمتوا عكا وصور بهدمها ... وَيَا طالما غادتهما بشمات) (لقد شتتوا عَنْهَا جمَاعَة أَهلهَا ... وكل اجْتِمَاع مُؤذن بشتات) (وَقد هدموا مجد الصّلاح بهدمها ... وَقد كَانَ مجدا باذخ الغرفات) (وَقد أخمدوا صَوتا وصيتا أثاره ... لَهُم عظم مَا والوا من الْغَزَوَات) (أما علمت أَبنَاء أَيُّوب أَنهم ... بمسعاته عدوا من السروات) (وَأَن افْتِتَاح الْقُدس زهرَة ملكهم ... وَهل ثَمَر إِلَّا من الزهرات) (فَمن لي بنواح يَنحن على الَّذِي ... شجاني بِأَصْوَات لَهُنَّ شجاة) (يرددن بَيْتا للخزاعي قَالَه ... يؤبن فِيهِ خيرة الْخيرَات) (مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة ... ومنزل وَحي مقفر العرصات) قلت هَذَا الْبَيْت الْأَخير لدعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ فِي أول قصيدة يرثي بهَا أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وَهَذِه السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا الْعَادِل قبل الَّتِي خرب فِيهَا الْقُدس هِيَ السّنة الَّتِي نزل فِيهَا الفرنج - خذلهم الله - على ثغر دمياط حرسه الله تَعَالَى وَهِي الْمرة الأولى فِي زَمَاننَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استولوا عَلَيْهِ بعد أَن جرى لَهُم عَلَيْهِ نَحْو مِمَّا جرى لَهُم على عكا ثمَّ أَخذه الْمُسلمُونَ مِنْهُم وَقتلُوا وأسروا ثمَّ إِن الفرنج استولوا عَلَيْهِ صلحا فِي سنة خمس وَعشْرين وست مئة وشرعوا فِي بِنَاء طَائِفَة مِنْهُ ثمَّ أخرجُوا مِنْهُ عنْوَة مرَّتَيْنِ أخرجهم فِي إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ مِنْهُ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد بن الْمُعظم شرف الدّين عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَقَالَ فِيهِ حِينَئِذٍ بعض شعراء الْعَصْر هَذَا الشَّاعِر هوالصاحب جمال الدّين يحيى بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 عِيسَى بن مطروح - رَحمَه الله تَعَالَى (الْمَسْجِد الْأَقْصَى لَهُ عَادَة ... سَارَتْ فَصَارَت مثلا سائرا) (إِذا غَدا للكفر مستوطنا ... أَن يبْعَث الله لَهُ ناصرا) (فناصر طهره أَولا ... وناصر طهره آخرا) ثمَّ استولى الفرنج أَيْضا على طبرية وعسقلان ثمَّ أخذتا مِنْهُم عنْوَة فِي شهور سنة خمس وَأَرْبَعين وست مئة فِي دولة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَقد استولوا أَيْضا على الشقيف وصفد وَالله يسهل عودهما إِلَى أهل الْإِسْلَام وَيُؤَيّد الدّين الحنيفي على ممر الْأَيَّام فصل فِي مسير السُّلْطَان - رَحمَه الله - من الْقُدس إِلَى دمشق قَالَ الْعِمَاد وَلما استتم السُّلْطَان النّظر فِي أَحْوَال الْقُدس وعمارته وفوض الْقَضَاء وَالنَّظَر فِي الْوُقُوف إِلَى القَاضِي بهاء الدّين يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم وعول مِنْهُ على أَمِين كريم آثر أَن يعود إِلَى دمشق على الثغور عابرا وَفِي أحوالها نَاظرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وَكَانَ عزم على الْحَج وصمم وَكتب إِلَى مصر واليمن بِمَا عَلَيْهِ عزم وَأمر أَن يحمل لَهُ فِي المراكب كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الأزواد والنفقات وَالثيَاب والكسوات فَقيل لَهُ لَو كتبت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمته بحجك وعرفته بنهجك حَتَّى لَا يظنّ بك أَمر أَنْت مِنْهُ بَرِيء وَيعلم أَن قصدك فِي الْمُضِيّ مضيء وَالْوَقْت قد ضَاقَ ويبلغ الْخَبَر الْآفَاق ثمَّ هَذِه الْبِلَاد إِذا سَافَرت تركتهَا على مَا بهَا من الشعث وَهَذِه المعاقل الَّتِي فِي الثغور حفظهَا من أهم الْأُمُور وَلَا تغتر بِعقد الْهُدْنَة فَإِن الْقَوْم على ترقب المكنة والغدر دأبهم فَمَا زَالَ بِهِ الْجَمَاعَة حَتَّى حلوا عقد عزمه على الْحَج فشرع فِي تَرْتِيب قَاعِدَة الْقُدس فِي ولَايَته وعمارته ثمَّ خرج من الْقُدس يَوْم الْخَمِيس خَامِس شَوَّال وَجَاوَزَ نَاحيَة البيرة وَبَات على بركَة الداوية وَنزل يَوْم الْجُمُعَة بِظَاهِر نابلس وَأقَام بهَا إِلَى ظهر يَوْم السبت حَتَّى كشف مظالم ووظف مَكَارِم وَكَانَ بهَا سيف الدّين المشطوب وشكا أَهلهَا نَوَائِب من جِهَته تنوب فأزال الشكوى وأزاح الْبلوى ورحل بعد ظهر السبت وَبَات عِنْد عقبَة ظهر حمَار بِموضع يعرف بالفريديسة ورتعنا فِي مروجها الأنيسة وأصبحنا راحلين ونزلنا ضحوة على جينين وَهُنَاكَ وَدعنَا المشطوب وداع الْأَبَد فَإِنَّهُ انْتقل بعد أَيَّام إِلَى رَحْمَة الْوَاحِد الصَّمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وَجِئْنَا ضحوة الِاثْنَيْنِ إِلَى بيسان وَصعد إِلَى قلعتها المهجورة الخالية فأبصر قللها الْعَالِيَة وَقَالَ الصَّوَاب بِنَاء هَذِه وتخريب كَوْكَب ثمَّ رَحل ظهرا وَبَات بقلعة كَوْكَب وَصعد نظر رَأْيه فِيهَا وَصوب ورحل ضحوة الثُّلَاثَاء وَنزل بطبرية وَقت الْعشَاء وَهُنَاكَ لَقينَا بهاء الدّين قراقوش وَقد خرج من الْأسر فتلقيناه بالبشر وَالْبر وَوصل مَعَ السُّلْطَان إِلَى دمشق وَأقَام إِلَى أَن خلص أَصْحَابه من الْأسر وَتوجه إِلَى مصر وَقد صان نَفسه ببذل مَاله وَأخرج ثروته وَدخل فِي إقلاله قَالَ وتوالت تِلْكَ اللَّيْلَة الأمطار وواصلها النَّهَار فَأَقَمْنَا يَوْم الْأَرْبَعَاء وسرنا بكرَة الْخَمِيس ونزلنا بسفح الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ قلعة صفد وَصعد إِلَيْهَا وكمل فِيهَا الرِّجَال وَالْعدَد ثمَّ سَار يَوْم الْجُمُعَة على طَرِيق جبل عاملة إِلَى قلعة تبنين وَجَاز يَوْم الْأَحَد على هونين وخيمنا على عين الذَّهَب عِنْد نزولنا من الْجَبَل واجتمعنا تِلْكَ اللَّيْلَة بالثقل ثمَّ سرنا إِلَى مرج عُيُون مرحلة وَإِلَى جسر كامد منزلَة وطريقنا بَين عمل صيدا ووادي التيم وطلعنا من تِلْكَ الأودية والشعاب طُلُوع الْأَنْوَار من الْغَيْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وَقَالَ فِي الْفَتْح عبرنا عمل صيدا يسرة وَعمل وَادي التيم يمنة وعرسنا على مرج تلفياثا مُقَابل مرج القنعبة ودفعنا إِلَى سلوك المسالك الصعبة ورحلنا يَوْم الثُّلَاثَاء إِلَى الْبِقَاع فخيمنا على جسر كامد وَيَوْم الْأَرْبَعَاء بِنَاحِيَة قب إلْيَاس وَدخل يَوْم الْخَمِيس بيروت وَبهَا وإليها عز الدّين سامة فاهتم لَهُ بالكرامة وَلما أَرَادَ عَن بيروت الِانْفِصَال فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال قيل لَهُ إِن الابرنس الْأَنْطَاكِي بيمند مَعَ عِصَابَة من الْوَفْد وصل إِلَى الْخدمَة مستمسكا بِحَبل الْعِصْمَة فَثنى عنانه وَنزل وَأقَام وَمَا ارتحل وَأذن للابرنس فِي الدُّخُول وشرفه فِي حَضرته بالمثول وقربه وآنسه وَرفع مَجْلِسه وَكَانَ مَعَه من مقدمي فرسانه أَرْبَعَة عشر بارونيا فوهب كلا مِنْهُم تَشْرِيفًا سريا وأجزل لَهُ وَلَهُم الْعَطاء وَأبْدى بهم الاعتناء وَكتب لَهُ من مناصفات أنطاكية معيشة بمبلغ عشْرين ألف دِينَار وَخص أَصْحَابه بمبار وَأَعْجَبهُ استرساله إِلَيْهِ ودخوله بِغَيْر أَمَان عَلَيْهِ فَلَا جرم تَلقاهُ بالاحسان وَوَافَقَهُ وودعه يَوْم الْأَحَد وفارقه وَكَانَت الأثقال قد انْتَقَلت من قب إلْيَاس إِلَى مرج فلميطية من الْبِقَاع فَبَاتَ بمخيمه وَعبر يَوْم الِاثْنَيْنِ عين الْجَرّ إِلَى مرج يبوس وَقد زَالَ البوس وَهُنَاكَ توافد أَعْيَان دمشق وأماثلها وأفاضلها وفواضلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 ونزلنا يَوْم الثُّلَاثَاء بالعرادة وَجرى الملتقون بالطرف والتحف على الْعَادة وأصبحنا يَوْم الْأَرْبَعَاء إِلَى جنَّة دمشق داخلين بِسَلام آمِنين لَوْلَا أننا غير خَالِدين وَكَانَت غيبَة السُّلْطَان عَنْهَا طَالَتْ أَربع سِنِين فأخرجت دمشق أثقالها وأبرزت نساءها ورجالها فَكَانَ يَوْم الزِّينَة وَخرج كل من فِي الْمَدِينَة وَحشر النَّاس ضحى وأشاعوا استبشارا وفرحا وَكَانَت غيبَة السُّلْطَان فِي الْجِهَاد طَالَتْ فاهتزت بقدومه واختالت وقرت بفضائله الْأَعْين وأقرت بفواضله الألسن وأبدوا وُجُوه الاستبشار وألسن الاسْتِغْفَار وأعين الاستعبار وَرفعُوا أَيدي الابتهال بِصَالح الدُّعَاء عَن خَالص الْوَلَاء وَجَاء ربيع الْفضل فِي فصل الخريف واتصل تليد الْجد بالطريف واتسع فضاء الْفَضَائِل وارتدع جاه الْجَاهِل وَحل فِي القلعة حُلُول الشَّمْس فِي برجها وَأخذت بحار سماحه فِي موجها وَجلسَ فِي دَار الْعدْل فَأجَاب وأجار وأنال وأنار وَخرجت السّنة وَالسُّلْطَان فِي أَسْنَى سنائه وأبهى جَلَاله وَأجلى بهائه وَالنَّاس راتعون فِي رياض نعمائه ورسل المماليك الغربية والشرقية يخطبونه ويطلبونه وينتظرون عزمه ويرقبونه وَهُوَ يعدهم بانحسار الشتَاء وانكساره وابتسام ثغر الرّبيع وافتراره وأقمنا على هَذَا الْعَزْم إِلَى آخر السّنة وَالسُّلْطَان مشتغل بالصيد والقنص منتهز من الْعُمر للفرص وَقرب الْعلمَاء وَأكْرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 الْفُضَلَاء وَفضل الكرماء وَمَا كَانَ أحسن إِلَى الْحق إصغاءه وأسرع للباطل إلغاءه وَقَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن أَقَامَ السُّلْطَان بالقدس يقطع النَّاس ويعطيهم دستورا ويتأهب للمسير إِلَى الديار المصرية وَانْقطع تشوفه إِلَى الْحَج وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى صَحَّ عِنْده إقلاع مركب الإنكلتير المخذول مُتَوَجها إِلَى بِلَاده فِي مستهل شَوَّال فَعِنْدَ ذَلِك حرر السُّلْطَان عزمه على أَن يدْخل السَّاحِل جَرِيدَة ويتفقد القلاع البحرية إِلَى بانياس وَيدخل دمشق يُقيم بهَا أَيَّامًا قَلَائِل وَيعود إِلَى الْقُدس الشريف سائرا إِلَى الديار المصرية لتفقد أحوالها وَتَقْرِير قواعدها وَالنَّظَر فِي مصالحها قَالَ وَأَمرَنِي بالْمقَام بالقدس إِلَى حِين عوده لعمارة بيمارستان أنشأه فِيهِ وإدارة الْمدرسَة الَّتِي أَنْشَأَهَا فِيهِ إِلَى حِين عوده وَخرج من الْقُدس وودعته إِلَى البيرة وَنزل بهَا ثمَّ ذكر إِزَالَته للمظالم عَن بلد نابلس ثمَّ رَحل وَنزل بسبسطية فتفقد أحوالها ثمَّ أَتَى فِي طَرِيقه إِلَى كَوْكَب فِي عَاشر شَوَّال وانفك بهاء الدّين قراقوش من الْأسر حادي عشر شَوَّال وَمثل بِالْخدمَةِ السُّلْطَانِيَّة ففرح بِهِ فَرحا شَدِيدا وَكَانَ لَهُ حُقُوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 كَثِيرَة على السُّلْطَان وَالْإِسْلَام وَاسْتَأْذَنَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - فِي الْمسير إِلَى دمشق لتَحْصِيل القطيعة فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وَكَانَت القطيعة على مَا بَلغنِي ثَمَانِينَ ألفا قَالَ وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى بيروت وصل إِلَى خدمته الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية مسترفدا فَبَالغ فِي إكرامه وإحترامه ومباسطته وأنعم عَلَيْهِ بالعمق وأرزغان ومزارع تعْمل خَمْسَة عشر ألف دِينَار ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى دمشق بعد الْفَرَاغ من تصفح أَحْوَال القلاع الساحلية بأسرها والتقدم بسد خللها وَإِصْلَاح أُمُور أجنادها وإشحانها بِالرِّجَالِ فَدخل دمشق بكرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشري شَوَّال وفيهَا أَوْلَاده الْأَفْضَل والظافر وَالظَّاهِر وَأَوْلَاده الصغار وَكَانَ يحب الْبَلَد ويؤثر فِيهِ الاقامة على سَائِر الْبِلَاد وَجلسَ للنَّاس فِي بكرَة الْخَمِيس وَحضر النَّاس عِنْده وبلوا شوقهم من رُؤْيَته وأنشده الشُّعَرَاء وَعم ذَلِك الْمجْلس الْخَاص وَالْعَام وَأقَام ينشر جنَاح عدله ويهطل سَحَاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا فِي الْأَوْقَات الْمُعْتَادَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وَاتخذ الْأَفْضَل يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل ذِي الْقعدَة دَعْوَة لِأَخِيهِ الظَّاهِر وَكَانَ الظَّاهِر لما وصل دمشق بلغه حَرَكَة السُّلْطَان إِلَيْهَا فَأَقَامَ بهَا حَتَّى يتملى بِالنّظرِ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَكَأن نَفسه الشَّرِيفَة كَانَت قد أحست بدنو أجل السُّلْطَان فودعه فِي تِلْكَ الدفعة مرَارًا مُتعَدِّدَة وَهُوَ يعود إِلَيْهِ وَلما اتخذ الْأَفْضَل لَهُ الدعْوَة أظهر فِيهَا من بديع التجمل وغريبه مَا يَلِيق بهمته وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مجازاته عَمَّا خدمه بِهِ حِين وصل إِلَى حلب المحروسة وحضرها أَرْبَاب الدُّنْيَا وَأَبْنَاء الْآخِرَة وَسَأَلَ السُّلْطَان - رَحمَه الله - الْحُضُور فَحَضَرَ جبرا لِقَلْبِهِ قَالَ وَكَانَ الْعَادِل قد اسْتَأْذن السُّلْطَان فِي أَوَاخِر رَمَضَان فِي الْقُدس بالمضي إِلَى الكرك لتفقدها فَمضى وَأمر باصلاح مَا قصد إِصْلَاحه وَعَاد طَالبا الْمُضِيّ إِلَى الْبِلَاد الفراتية الَّتِي أعطَاهُ السُّلْطَان إِيَّاهَا فوصل دمشق سَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَخرج السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه وَأقَام يتصيد حول غباغب إِلَى الْكسْوَة حَتَّى لقِيه وسارا جَمِيعًا يتصيدان وَكَانَ دخولهما إِلَى دمشق فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ وَأقَام السُّلْطَان بِدِمَشْق يتصيد هُوَ وَأَخُوهُ وَأَوْلَاده ويتفرجون فِي أَرَاضِي دمشق ومواطن الصِّبَا وَكَأَنَّهُ وجد بِهِ رَاحَة مِمَّا كَانَ فِيهِ من مُلَازمَة التَّعَب وَالنّصب وسهر اللَّيْل وَنصب النَّهَار وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه وَهُوَ لَا يشْعر - رَحْمَة الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 عَلَيْهِ وَنسي عزمه الْمصْرِيّ وَعرض لَهُ أُمُور أخر وعزمات غير تِلْكَ ووصلني كِتَابه إِلَى الْقُدس يستدعيني إِلَى خدمته وَكَانَ شتاء شَدِيدا ووحلا عَظِيما قلت وَفِي عيد الْأَضْحَى من هَذِه السّنة أنْشدهُ الرشيد النابلسي قصيدة حَسَنَة على وزن قصيدة التهامي (حازك الْبَين حِين أَصبَحت بَدْرًا ... ) يَقُول فِيهَا يَعْنِي قصيدته (وأبيها لَوْلَا تغزل عينيها ... لما قلت فِي التغزل شعرًا) (ولكانت مدائح الْملك النَّاصِر ... أولى مَا فِيهِ أعمل فكرا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 (ملك طبق الممالك عدلا ... مثل مَا أوسع الْبَريَّة برا) ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا (فتمل الأعياد صوما وفطرا ... وتلق الهناء عشرا ونحرا) (يامسر الطَّاعَات لله إِن أضحى ... مليك على الهناة مصرا) (نلْت مَا تبتغي من الدّين وَالدُّنْيَا ... فتيها على الْمُلُوك وفخرا) (قد جمعت المجدين أصلا وفرعا ... وملكت الدَّاريْنِ دنيا وَأُخْرَى) فصل فِي ذكر أُمُور جرت فِي هَذِه السّنة من وفيات وَغَيرهَا قَالَ الْعِمَاد فِي شهر ربيع الآخر توفّي القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْمَعْرُوف بِابْن الْفراش من أهل دمشق قَاضِي الْعَسْكَر وَكَانَت وَفَاته بملطية وَهُوَ عَائِد من الرسَالَة إِلَى أَوْلَاد قليج أرسلان بالروم وَكَانَ هَذَا القَاضِي من أصدق الأصدقاء وَأكْرم الكرماء وَمَا فارقني من أَيَّام الْملك الْعَادِل نور الدّين - رَحمَه الله - فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَكنت بأحواله شَدِيد الاعتناء وتوصلت لَهُ عِنْد السُّلْطَان فِي تَخْصِيصه بالمواصلة الموصلية والمراسلة فِي المهام الْخفية والجلية ثمَّ تولى نِيَابَة عَن السُّلْطَان فِي الْولَايَة الشهرزورية وَالْحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 على المقطعين بهَا وإنصاف الرّعية فَلَمَّا فوضت إِلَى مظفر الدّين صَاحب إربل رَجَعَ شمس الدّين ودامت غيبته عَن الحضرة مُدَّة سبع سِنِين وَكَانَ تولى قَضَاء الْعَسْكَر مَوْضِعه بهاء الدّين بن شَدَّاد وَكَانَ خطب أَوْلَاد السُّلْطَان قليج أرسلان مهما عِنْد السُّلْطَان فاعتمد على القَاضِي شمس الدّين فِي الْوُصُول إِلَيْهِم وَالْحكم بتأليف ذَات بَينهم عَلَيْهِم فَمضى وَعَاد وأدركته الْمنية بِمَدِينَة ملطية قَالَ وَفِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الهكاري الْمَعْرُوف بالمشطوب بنابلس وَقد سبق ذكر هَذَا الْأَمِير وبأسه وبسالته وإصابته وأصالته وإقدامه فِي الحروب وتقدمه فِي الخطوب وَقد حضر مَعَ أَسد الدّين شيركوه النوب الثَّلَاث الَّتِي فتح فِي آخرهَا مصر ولازم صَلَاح الدّين إِلَى مُنْتَهى الْعُمر وَلما احْتِيجَ إِلَى الْبَدَل فِي عكا لما ضجر من أَقَامَ بِهِ وتشكى أجَاب إِلَى دُخُوله وقابل الْأَمر بقبوله وَحصل بِقَضَاء الله فِي الْأسر واحتوت عَلَيْهِ قَبْضَة الْكفْر وفدى نَفسه بِخَمْسِينَ ألف دِينَار وَنَجَا وآتاه الله من نعمه خلاصه مَا رجا وأنعم السُّلْطَان عَلَيْهِ بنابلس وأعمالها وَخص بأموالها وغلالها وَحين جزنا بِهِ وَدعنَا عِنْد جينين وداع الْأَبَد إِلَى جنَّة عليين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وَإِنَّمَا سمي مشطوبا لشطبة فِي وَجهه من أثر طعنة فِي غزَاة حضرها وَله مَوَاقِف فِي الْجِهَاد كَثِيرَة موفورة ومقامات مَشْهُودَة مَشْهُورَة ووقف السُّلْطَان بعده ثلث نابلس وأعمالها على مصَالح الْقُدس وأقطع وَلَده وأميرين مَعَه الثُّلثَيْنِ مُحَافظَة على حَقه الَّذِي الْتَزمهُ الْتِزَام الدّين وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ السُّلْطَان خلف المشطوب بالقدس من جملَة الْعَسْكَر المقيمين بِهِ وَلم يكن واليه وَإِنَّمَا كَانَ واليه عز الدّين جرديك وَتُوفِّي المشطوب - رَحمَه الله - بالقدس يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال وَدفن فِي دَاره بعد أَن صلي عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى قَالَ الْعِمَاد وَفِي منتصف شعْبَان توفّي سُلْطَان بِلَاد الرّوم عز الدّين قليج أرسلان بن مَسْعُود بن قليج أرسلان بقونية وَكَانَ أَوْلَاده لما كبروا تجبروا وَتفرد كل مِنْهُم باقليم فضعف بقوتهم وَعجز بقدرتهم وانخفض برفعتهم فانه فرق بِلَاده على جَمَاعَتهمْ طَمَعا فِي طاعتهم وَاخْتَارَ لتدبير ملكه اخْتِيَار الدّين حسن بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 غفراس فحالفه عَلَيْهِ من أَوْلَاده قطب الدّين ملكشاه صَاحب سيواس فجَاء وَغلب على وَالِده وَأخذ عَلَيْهِ الأنفاس وَقَالَ لَهُ أَنا بَين يَديك عوض الأختيار ثمَّ أخلى مِنْهُ الديار ثمَّ أبعد عَن خدمَة وَالِده خواصه وأولياءه وأفنى بِالْقَتْلِ والاغتيال أمراءه وكبراءه واستخلصه لنَفسِهِ وَأَجْلسهُ على سَرِير ملكه وَهُوَ فِي حَبسه ثمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى قيصرية ليأخذها من أَخِيه وَأظْهر أَنه بِأَمْر أَبِيه فَوجدَ قليج أرسلان فرْصَة فِي خلاصه فساق وَحده وَدخل الْبَلَد وَنَجَا من الْوَلَد إِلَى الْوَلَد فَعَاد ملكشاه إِلَى قونية وأقصرا دَاري ملك أَبِيه فتملكهما وَلم يزل قليج أرسلان يتَحَوَّل من ولد إِلَى ولد وَمن بلد إِلَى بلد يتَرَدَّد فِي بِلَاده فِي ضِيَافَة أَوْلَاده وَكلهمْ يضجر مِنْهُ ويعرض عَنهُ حَتَّى حصل عِنْد وَلَده غياث الدّين كيخسرو صَاحب برغلو فَلَمَّا حَضَره وأبصره آواه وَنَصره وَجَاء بِهِ إِلَى قونية فَدَخلَهَا وحلى عطلها وَمَات بهَا فَجَلَسَ مَكَان وَالِده وَقَوي على أَخِيه قَالَ وَجَاء الرّبيع فِي شهر ربيع الأول فَكتب إِلَيّ نشو الدولة أَحْمد بن نفاذة أبياتا يدعوني إِلَى دمشق فِي خَامِس جُمَادَى الأولى وَقد دخل أَوَان المشمش وَهُوَ موسم دمشق الْمَشْهُود أَولهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 (دَعَا النَّاس للذات مشمش جلق ... فقد أَسْرعُوا من كل غرب ومشرق) (فَقُمْ يَا عماد الدّين تحظ بِأَكْلِهِ ... وَلَا تثن عَنهُ عَزمَة السّير تسبق) (وَقل حِين يَبْدُو أصفر اللَّوْن مشرقا ... وَيَا حسنه من أصفر اللَّوْن مشرق) (لأكلك مَا يلقى الْفُؤَاد وَمَا لَقِي ... وللتوت مَا لم يبْق مني وَمَا بَقِي) (فَلَيْسَ سوى الْحَلْوَاء فِي الْقُدس مأكل ... وَمَا جلبوه من زبيب وفستق) قَالَ فعرضت أبياته على السُّلْطَان فَتَبَسَّمَ وَقَالَ مَا قلت فِي جَوَابه فَأَنْشَدته (هلموا نسابق نَحْو مشمش جلق ... وَثمّ كَمَا نهوى على الْأكل نَلْتَقِي) (تصفر شوقا لانتظار قدومنا ... وَمن يتعشق ذَا الْفَضَائِل يشتق) (إِذا حضرت أطباقه غَابَ رشدنا ... لما يتلاقى من مشوق وشيق) (حكى جمرات بالأضا قد تعلّقت ... فيا عجبي من جمره الْمُتَعَلّق) (كَأَن نُجُوم الأَرْض فَوق غصونه ... فيا حيرتي من نجمه المتألق) (وحباتها محمرة وجناتها ... فَمن يرهَا مثلي يحب ويعشق) (بَدَت بَين أوراق الغصون كَأَنَّهَا ... كرات نضار فِي لجين مطرق) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 قَالَ فَلَمَّا أنشدت السُّلْطَان هَذَا الْبَيْت قَالَ تَشْبِيه الْوَرق باللجين غير مُوَافق فَإِن الْوَرق أَخْضَر فَقلت (كرات نضار بالزمرد محدق ... ) (تساقطها أشجارها فَكَأَنَّهَا ... دَنَانِير فِي أَيدي الصيارف ترتقي) (ومشمش بُسْتَان الزكي بشهده ... شَهَادَته تقضي فزك وَصدق) (يَقُول رفيقي فِي دمشق تَعَجبا ... أما لَك بُسْتَان مقَالَة مُشفق) (فَقلت إِلَى بَاب الْبَرِيد وسوقه ... لأمثالنا تجبى بساتين جلق) (وَلَو كَانَ لي بِالسَّهْمِ سهم وجدت لي ... منالي بأيام الثِّمَار ومرفقي) (إِذا كنت مبتاعا من السُّوق مشمشي ... فَمَا لي إِلَّا لَذَّة المتسوق) (وَمَا لي بأرباب الْبَسَاتِين خلْطَة ... فَيُصْبِح فِي حيطانها متسلقي) (كرام وثوقي فِي الشتَاء بودهم ... وَلَكنهُمْ فِي الصَّيف ينسون موثقي) (وَمَا ثمَّ من يقري ويجدي ويقتني ... ثنائي سوى المحيي الْكَرِيم الْمُوفق) (وَذَلِكَ يَوْم وَاحِد لَيْسَ غَيره ... أَمن أجل يَوْم وَاحِد قلت لي اسبق) (على أنني لَو قيل بالصين دَعْوَة ... أثرت إِلَيْهَا لوعة المتحرق) (فَإِن جِئْت قبلي جلقا فارم منعما ... حَدِيثي بنادي المنعمين وَحلق) (لَعَلَّ كَرِيمًا ينتخي لضيافتي ... بمشمشة عِنْد الْقدوم وينتقي) (فَلَا تنس نشو الدّين نشوة خاطري ... وَقل عَن صبوحي كَيفَ شِئْت ورقق) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 (وهات وساعدني وَخذ من قريحتي ... لطيمة دَاري من الْحَمد واعبق) قَالَ فَقَالَ لي السُّلْطَان عَن صبوح ترقق كَأَنَّك تُرِيدُ تمْضِي إِلَى دمشق وتسبق فَقلت الْأَهْل وَالْولد وَقد عيل عَنْهُم الْجلد وَلَكِن مغيبي عَن الْخدمَة لَا يَدُور بِهِ الْخلد فظلك هُوَ السكن والبلد قَالَ وكتبت أَيْضا فِي جَوَابه وَصفَة المشمش وَذكرت تشبيهاته وَقد أذن لي السُّلْطَان لمهم لَهُ أَيْضا اتّفق (قد صَحَّ عزمي على الْمسير فَلَا ... أبغي مقَامي وَالْقلب قد رحلا) (أمضي إِلَى دمية مقبلها ... أرشف مِنْهُ المدام والعسلا) (مُصَور بل مدور عجب ... ترى بِهِ وَهُوَ جامد شعلا) (فَفِي قُلُوب الْأَشْجَار مِنْهُ جذى ... وَفِي ظُهُور الغصون مِنْهُ كلا) (طلوا بِمَاء النضار ظَاهره ... لباطن فِي حشاه نَار طلا) (يخفى إِذا مَا بدا لعينك فِي ... فِيك وَفِيه النَّوَى إِذا وصلا) (حلي تبر على عرائس أَغْصَان ... تشكت من قبلهَا عطلا) (حمر حسان الْوُجُوه قد لبست ... من خضر أوراقها لَهَا حللا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 (عرائس من خدورها برزت ... تحسب أشجارها لَهَا كللا) (حلاوة لَا يمل آكلها ... إِذا الحلاوات أحدثت مللا) (زهر كشهب السَّمَاء راجمة ... جن جناة بقطفها كفلا) (عيونها الرمد فِي ترقبنا ... جاحظة أبرزت لنا مقلا) (مَاذَا التواني وَذَا التَّأَخُّر والابطاء ... قدم مسيرنا عجلا) (نغدو خفافا إِلَى مواسمها ... من قبل نبلى بِصُحْبَة الثقلا) (قد انتظرنا من الخزانة مَا ... نعطى فأكدى نوابها البخلا) (فَإِن عدمنا من عِنْدهم ذَهَبا ... فَمَا عدمنا عَنهُ بِهِ بَدَلا) (وكلنَا فِي عوارف الْملك النَّاصِر ... نرعى ونسلك السبلا) قَالَ وَقلت فِيهِ ربَاعِية (المشمش لانتظارنا مصفر ... وَالرَّوْض إِلَى لقائنا مفتر) (قُم نغتنم الْوَقْت فَهَذَا الْعُمر ... لَا لبث لَهُ فَمن بِهِ يغتر) قَالَ وَفِي هَذِه السّنة نصرت الأساطيل فِي الْبَحْر مرَارًا وأنفذ السُّلْطَان فِي استدعائها استظهارا قَالَ مُحَمَّد بن القادسي وَفِي مستهل رَجَب وكل بأميرالحاج طاشتكين يَعْنِي الَّذِي قتل أَمِير حَاج الشَّام شمس الدّين ابْن الْمُقدم بِعَرَفَات سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَسَببه أَنه اتهمَ بمكاتبة السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِيمَا يتَعَلَّق بقلب الدولة وَأظْهر عَلَيْهِ أستاذ الدَّار أَبُو الظفر بن يُونُس كتابا قيل إِنَّه خطه وَفِيه الْمصلحَة مهادنة الفرنج والمجيء إِلَى الْبِلَاد فَمَا يقف بَين أَيْدِيكُم والبلاد لكم إِذا ملكتم الْعرَاق وَهَذَا وقتكم إِن كَانَ لكم نِيَّة وَأَنا مشدود الْوسط فِي الْخدمَة ثمَّ ذكر ابْن القادسي أَن ذَلِك مستبعد فِي حق طاشتكين وزور وبهتان وَنسب ذَلِك إِلَى افتعال ابْن يُونُس عَلَيْهِ وَكَانَ طاشتكين أَمِير الْحَاج عشْرين سنة يخْطب لَهُ بِمَكَّة بعد الْخطْبَة لأمير الْمُؤمنِينَ وَله إقطاع بمئة ألف دِينَار قَالَ وفيهَا فِي ربيع الآخر توفّي أَبُو المرهف نصر بن مَنْصُور النميري الشَّاعِر الأديب الزَّاهِد سمع قَاضِي البيمارستان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 اتهمَ بمكاتبة السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِيمَا يتَعَلَّق بقلب الدولة وَأظْهر عَلَيْهِ أستاذ الدَّار أَبُو المظفر بن يُونُس كتابا قيل إِنَّه خطه وَفِيه الْمصلحَة مهادنة الفرنج والمجيء إِلَى الْبِلَاد فَمَا يقف بَين أَيْدِيكُم والبلاد لكم إِذا ملكتم الْعرَاق وَهَذَا وقتكم إِن كَانَ لكم نِيَّة وَأَنا مشدود الْوسط فِي الْخدمَة ثمَّ ذكر ابْن القادسي أَن ذَلِك مستبعد فِي حق طاشتكين وزور وبهتان وَنسب ذَلِك إِلَى افتعال ابْن يُونُس عَلَيْهِ وَكَانَ طاشتكين أَمِير الْحَاج عشْرين سنة يخْطب لَهُ بِمَكَّة بعد الْخطْبَة لأمير الْمُؤمنِينَ وَله إقطاع بمئة ألف دِينَار قَالَ وفيهَا فِي ربيع الآخر توفّي أَبُو المرهف نصر بن مَنْصُور النميري الشَّاعِر الأديب الزَّاهِد سمع قَاضِي البيمارستان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وروى عَن ابْن نَبهَان وَكَانَ قد رَبِّي بِالشَّام وخالط أهل الْأَدَب وأضر بالجدري وَله أَربع عشرَة سنة وَكَانَ يبصر الْأَشْيَاء الْقَرِيبَة مِنْهُ وَلَا يحْتَاج إِلَى قَائِد إِذا مَشى ثمَّ قدم الْعرَاق لمداواة عينه فآيسه الْأَطِبَّاء من ذَلِك فاشتغل بِالْقُرْآنِ وَحفظه وَصَاحب المتدينين والزهاد من أهل الْفِقْه والْحَدِيث واللغة وَله ديوَان شعر كَبِير وَسُئِلَ عَن مذْهبه فأملى (أحب عليا والبتول وَوَلدهَا ... وَلَا أجحد الشَّيْخَيْنِ فضل التَّقَدُّم) (وَأَبْرَأ مِمَّن نَالَ عُثْمَان بالأذى ... كَمَا أتبرا من وَلَاء ابْن ملجم) (ويعجبني أهل الحَدِيث لصدقهم ... فلست إِلَى قوم سواهُم بمنتمي) وَله أَيْضا فِي غير ذَلِك (وزهدني فِي جَمِيع الْأَنَام ... قلَّة إنصاف من تصْحَب) (هم النَّاس مَا لم تجربهم ... وطلس الذئاب إِذا جربوا) (وليتك تسلم عِنْد البعاد ... مِنْهُم فَكيف إِذا تقرب) قَالَ وَدفن بمقابر الشُّهَدَاء بِبَاب حَرْب ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مُقيم بِدِمَشْق فِي دَاره وممالك الْآفَاق فِي انْتِظَاره والأنام مشرقة بمطالع أنواره ورسل الْأَمْصَار مجتمعون على بَابه منتظرون لجوابه والضيوف فِي فيوض إنعامه عائمون والفقراء فِي رياض صدقاته راتعون وَيجْلس فِي كل يَوْم وَلَيْلَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 لاسداء الْجُود وإبداء السُّعُود وَبث المكارم وكشف الْمَظَالِم وبرز إِلَى الصَّيْد شَرْقي دمشق بزاد خَمْسَة عشر يَوْمًا واستصحب مَعَه أَخَاهُ الْعَادِل وَأبْعد فِي الْبَريَّة وَظهر عَن ضمير ضمير إِلَى الْجِهَة الشرقية وَطَابَتْ لَهُ الفرص وَوَافَقَ مُرَاده القنص ثمَّ عَاد يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر صفر وَوَافَقَ ذَلِك عود الْحَاج الشَّامي فَخرج للتلقي وسعاداته فِي الترقي وَلما لَقِي الْحجَّاج استعبرت عَيناهُ كَيفَ فَاتَهُ من الْحَج مَا تمناه وسألهم عَن أَحْوَال مَكَّة وأميرها وَأَهْلهَا وخصبها ومحلها وَكم وصلهم من غلات مصر وصدقاتها والفقراء والمجاورين ورواتبها وإدراراتها وسر بسلامة الْحَاج ووضوح ذَلِك الْمِنْهَاج وَوصل من الْيمن ولد أَخِيه سيف الْإِسْلَام فَتَلقاهُ بالاكرام قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَخرجت من الْقُدس الشريف يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم وَكَانَ الْوُصُول إِلَى دمشق ثَانِي عشر صفر وَكَانَ الْأَفْضَل حَاضرا فِي الإيوان الشمالي وَفِي خدمته خلق من الْأُمَرَاء وأرباب المناصب ينتظرون جُلُوس السُّلْطَان فَلَمَّا شعر بحضوري واستحضرني وَهُوَ وَحده قبل أَن يدْخل إِلَيْهِ أحد فَدخلت عَلَيْهِ رَحمَه الله فَقَامَ ولقيني ملقى مَا رَأَيْت أَشد من بشره فِيهِ وَلَقَد ضمني إِلَيْهِ ودمعت عينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وَفِي ثَالِث عشر صفر طلبني فَحَضَرت فَسَأَلَنِي عَمَّن فِي الإيوان فَأَخْبَرته أَن الْملك الْأَفْضَل جَالس فِي الْخدمَة والأمراء وَالنَّاس فِي خدمته فَاعْتَذر إِلَيْهِم على لِسَان جمال الدولة إقبال ثمَّ استحضرني بكرَة الْخَمِيس رَابِع عشر صفر وَهُوَ فِي صفة الْبُسْتَان وَعِنْده أَوْلَاده الصغار فَسَأَلَ عَن الْحَاضِرين فَقيل رسل الفرنج وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء والأكابر فَاسْتَحْضر رسل الفرنج إِلَى ذَلِك الْمَكَان فَحَضَرُوا وَكَانَ لَهُ ولد صَغِير وَكَانَ كثير الْميل إِلَيْهِ يُسمى الْأَمِير أَبَا بكر وَكَانَ حَاضرا وَكَانَ رَحمَه الله عَلَيْهِ يداعبه فَلَمَّا وَقع بَصَره على الفرنج وَرَأى أشكالهم خَافَ مِنْهُم وَبكى فَاعْتَذر إِلَيْهِم وصرفهم بعد أَن حَضَرُوا وَلم يسمع كَلَامهم وَقَالَ لي أكلت الْيَوْم شَيْئا وَكَانَت عَادَته رَحمَه الله هَذِه المباسطة ثمَّ قَالَ أحضروا لنا مَا تيَسّر فأحضروا أرزا بِلَبن وَمَا يشبه ذَلِك من الْأَطْعِمَة الْخَفِيفَة فَأكل رَحمَه الله وَكنت أَظن أَن مَا عِنْده شَهْوَة وَكَانَ فِي هَذِه الْأَيَّام يعْتَذر إِلَى النَّاس لثقل الْحَرَكَة عَلَيْهِ وَكَانَ بدنه ممتلئا وَعِنْده تكسل فَلَمَّا فَرغْنَا من الطَّعَام قَالَ مَا الَّذِي عنْدك من خبر الْحَاج فَقلت قد اجْتمعت بِجَمَاعَة مِنْهُم فِي الطَّرِيق وَلَوْلَا كَثْرَة الوحل لدخلوا الْيَوْم وَلَكنهُمْ فِي غَد يدْخلُونَ فَقَالَ نخرج إِن شَاءَ الله إِلَى لقائهم وَتقدم بتنظيف طرقاتهم من الْمِيَاه فَإِنَّهَا كَانَت سنة كَثِيرَة الأنداء وَقد سَالَتْ الْمِيَاه فِي الطّرق كالأنهار وانفصلت عَن خدمته وَلم أجد عِنْده من النشاط مَا أعهده مِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 ثمَّ بكر فِي يَوْم الْجُمُعَة فَركب ثمَّ لحقته وَقد لَقِي الْحَاج وَلم أجد عَلَيْهِ كزاغنده وَمَا كَانَ لَهُ عَادَة يركب بِدُونِهِ وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما قد اجْتمع فِيهِ للقاء الْحَاج والتفرج على السُّلْطَان مُعظم من فِي الْبَلَد فأذكرته ذَلِك فَكَأَنَّهُ اسْتَيْقَظَ فَطلب الكزاغند فَلم يُوجد وأوقع الله فِي قلبِي تطيرا بذلك ثمَّ سَار رَحمَه الله بَين الْبَسَاتِين يطْلب جِهَة المنيبع حَتَّى أَتَى القلعة فَعبر على الجسر إِلَيْهَا وَهُوَ طَرِيقه الْمُعْتَاد وَكَانَت آخر ركباته رَحمَه الله فصل فِي مرض السُّلْطَان ووفاته أحله الله بحبوحة جناته قَالَ القَاضِي لما كَانَت لَيْلَة السبت وجد كسلا عَظِيما فَمَا انتصف اللَّيْل حَتَّى غَشيته حمى صفراوية كَانَت فِي بَاطِنه أَكثر مِنْهَا فِي ظَاهره وَأصْبح يَوْم السبت سادس عشر صفر عَلَيْهِ أثر الْحمى وَلم يظْهر ذَلِك للنَّاس لَكِن حضرت عِنْده أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل وَدخل وَلَده الْأَفْضَل وَطَالَ جلوسنا عِنْده وَأخذ يشكو من قلقه بِاللَّيْلِ وطاب لَهُ الحَدِيث إِلَى قريب الظّهْر ثمَّ انصرفنا والقلوب عِنْده فَتقدم إِلَيْنَا بالحضور على الطَّعَام فِي خدمَة وَلَده الْأَفْضَل وَلم يكن للْقَاضِي عَادَة بذلك فَانْصَرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وَدخلت إِلَى الايوان القبلي وَقد مد الطَّعَام وَولده الْأَفْضَل قد جلس فِي مَوْضِعه فَانْصَرَفت وَمَا كَانَ لي قُوَّة للجلوس استيحاشا وَبكى فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة تفاؤلا بجلوس وَلَده فِي مَوْضِعه ثمَّ أَخذ الْمَرَض فِي تزايد من حِينَئِذٍ وَنحن نلازم التَّرَدُّد فِي طرفِي النَّهَار وَأدْخل إِلَيْهِ أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل فِي النَّهَار مرَارًا وَيُعْطى الطَّرِيق فِي بعض الْأَيَّام الَّتِي يجد فِيهَا خفَّة وَكَانَ مَرضه فِي رَأسه وَكَانَ من أَمَارَات انْتِهَاء الْعُمر غيبَة طبيبه الَّذِي كَانَ قد ألف مزاجه سفرا وحضرا وَرَأى الْأَطِبَّاء فصده ففصدوه فِي الرَّابِع فَاشْتَدَّ مَرضه وَقلت رطوبات بدنه وَكَانَ يغلبه النَّفس غَلَبَة عَظِيمَة وَلم يزل الْمَرَض فِي تزايد حَتَّى انْتهى إِلَى غَايَة الضعْف وَلَقَد أجلسناه فِي السَّادِس من مَرضه وأسندنا ظَهره إِلَى مخدة وأحضر مَاء فاتر يشربه عقيب شراب يلين الطَّبْع فشربه فَوَجَدَهُ شَدِيد الْحَرَارَة فَشَكا من شدَّة حره فَغير وَعرض عَلَيْهِ ثَانِيًا فَشَكا من برده وَلم يغْضب وَلم يصخب رَحمَه الله وَلم يقل سوى هَذِه الْكَلِمَات سُبْحَانَ الله لَا يُمكن أحدا تَعْدِيل المَاء فَخرجت أَنا وَالْقَاضِي من عِنْده وَقد اشْتَدَّ منا الْبكاء وَالْقَاضِي الْفَاضِل يَقُول لي أبْصر هَذِه الْأَخْلَاق الَّتِي قد أشرف الْمُسلمُونَ على مفارقتها وَالله لَو أَن هَذَا بعض النَّاس كَانَ قد ضرب بالقدح رَأس من أحضرهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وَاشْتَدَّ مَرضه فِي السَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن وَلم يزل متزايدا وتغيب ذهنه وَلما كَانَ التَّاسِع حدثت ربه رعشة وَامْتنع من تنَاول المشروب وَاشْتَدَّ الارجاف فِي الْبَلَد وَخَافَ النَّاس ونقلوا الأقمشة من الْأَسْوَاق وَغشيَ النَّاس من الكآبة والحزن مَا لَا يُمكن حكايته وَلَقَد كنت أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل نقعد كل لَيْلَة إِلَى أَن يمْضِي من اللَّيْل ثلثه اَوْ قريب مِنْهُ ثمَّ نحضر فِي بَاب الدَّار فَإِن وجدنَا طَرِيقا دَخَلنَا وشاهدناه وانصرفنا وَإِلَّا تعرفنا أَحْوَاله وانصرفنا وَكُنَّا نجد النَّاس يرتقبون خروجنا إِلَى بُيُوتنَا حَتَّى يقرؤوا أَحْوَاله من صفحات وُجُوهنَا وَلما كَانَ الْعَاشِر من يَوْم مَرضه حقن دفعتين وَحصل من الحقنة رَاحَة وَحصل بعض الْخُف وَتَنَاول من مَاء الشّعير مِقْدَارًا صَالحا وَفَرح النَّاس فَرحا شَدِيدا فَأَقَمْنَا على الْعَادة إِلَى أَن مضى من اللَّيْل هزيع ثمَّ أَتَيْنَا بَاب الدَّار فَوَجَدنَا جمال الدولة إقبالا فالتمسنا مِنْهُ تَعْرِيف الْحَال المتجدد فَدخل ثمَّ أنفذ إِلَيْنَا مَعَ الْملك الْمُعظم تورانشاه يَقُول إِن الْعرق قد أَخذ فِي سَاقيه فشكرنا الله تَعَالَى على ذَلِك وانصرفنا طيبَة قُلُوبنَا ثمَّ أَصْبَحْنَا فَأخْبرنَا أَن الْعرق أفرط حَتَّى نفذ فِي الْفرش وتأثرت بِهِ الأَرْض وَأَن اليبس قد تزايد بِهِ تزايدا عَظِيما وخارت الْقُوَّة واستشعر الْأَطِبَّاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وَلما رأى الْملك الْأَفْضَل مَا حل بوالده وَتحقّق الْيَأْس مِنْهُ شرع فِي تَحْلِيف النَّاس وَجلسَ فِي دَار رضوَان الْمَعْرُوفَة بسكنه واستحضر الْقُضَاة وَعمل لَهُ نُسْخَة يَمِين مختصرة محصلة للمقاصد تَتَضَمَّن الْحلف للسُّلْطَان مُدَّة حَيَاته وَله من بعد وَفَاته وَاعْتذر إِلَى النَّاس بِأَن الْمَرَض قد اشْتَدَّ وَمَا نعلم مَا يكون وَمَا نَفْعل هَذَا إِلَّا احْتِيَاطًا على جاري عَادَة الْمُلُوك ثمَّ سمى القَاضِي مِمَّن حلف لَهُ جمَاعَة مِنْهُم سعد الدّين مَسْعُود أَخُو بدر الدّين مودود الشّحْنَة وناصر الدّين صَاحب صهيون وسابق الدّين صَاحب شيزر وخشترين الهكاري ونوشروان الزرزاري وعلكان ومنكلان ثمَّ مد الخوان وأكلوا وَلما كَانَ الْعَصْر أُعِيد مجْلِس التَّحْلِيف وأحضر مَيْمُون القصري وشمس الدّين سنقر الْكَبِير وسامة وسنقر المشطوب واليكي الْفَارِس وأيبك الْأَفْطَس وأخو الْأَمِير سياروخ وحسام الدّين بِشَارَة وَبَعْضهمْ اشْترط فِي يَمِينه وَبَعْضهمْ لم يشْتَرط وَلم يحضر أحد من الْأُمَرَاء المصريين وَلم يتَعَرَّض لَهُم وَلما كَانَت لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر وَهِي لَيْلَة الثَّانِي عشر من مَرضه اشْتَدَّ مَرضه وضعفت قوته وَوَقع فِي أَوَائِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 الْأَمر من أَوَائِل اللَّيْل وَحَال بَيْننَا وَبَينه النِّسَاء واستحضرت أَنا وَالْقَاضِي الْفَاضِل فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَابْن الزكي وَلم تكن عَادَته الْحُضُور فِي ذَلِك الْوَقْت وَعرض علينا الْملك الْأَفْضَل أَن نبيت عِنْده فَلم ير الْفَاضِل ذَلِك رَأيا فَإِن النَّاس كَانُوا فِي كل لَيْلَة ينتظرون نزولنا من القلعة فخاف أَن لَا ننزل فَيَقَع الصَّوْت فِي الْبَلَد وَرُبمَا نهب النَّاس بَعضهم بَعْضًا فَرَأى الْمصلحَة فِي نزولنا واستحضار الشَّيْخ أبي جَعْفَر إِمَام الكلاسة وَهُوَ رجل صَالح يبيت بالقلعة حَتَّى إِن احْتضرَ بِاللَّيْلِ حضر عِنْده وَحَال بَينه وَبَين النِّسَاء وَذكره بِالشَّهَادَةِ وَذكر الله تَعَالَى فَفعل ذَلِك فنزلنا وكل منا يود لَو فدَاه بِنَفسِهِ وَبَات فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على حَال المنتقلين إِلَى الله تَعَالَى وَالشَّيْخ أَبُو جَعْفَر يقْرَأ عِنْده الْقُرْآن ويذكره بِاللَّه تَعَالَى وَكَانَ ذهنه غَائِبا من لَيْلَة التَّاسِع لَا يكَاد يفِيق إِلَّا فِي الأحيان وَذكر الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر أَنه لما انْتهى إِلَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} سَمعه وَهُوَ يَقُول صَحِيح وَهَذِه يقظة فِي وَقت الْحَاجة وعناية من الله تَعَالَى بِهِ فَللَّه الْحَمد على ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله عَلَيْهِ بعد صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وبادر القَاضِي الْفَاضِل بعد طُلُوع الصُّبْح فَحَضَرَ وَفَاته ووصلت أَنا وَقد مَاتَ وانتقل إِلَى رضوَان الله وَمحل كرامته وَلَقَد حُكيَ لي أَنه لما بلغ الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر إِلَى قَوْله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} تَبَسم وتهلل وَجهه وَسلمهَا إِلَى ربه وَكَانَ يَوْمًا لم يصب الْإِسْلَام والمسلمون بِمثلِهِ مُنْذُ فقد الْخُلَفَاء الراشدون وَغشيَ القلعة والبلد وَالدُّنْيَا من الوحشة مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى وتالله لقد كنت أسمع من بعض النَّاس أَنهم يتمنون فدَاء من يعز عَلَيْهِم بنفوسهم فَكنت أحمل ذَلِك على ضرب من التَّجَوُّز والترخص إِلَى ذَلِك الْيَوْم فَإِنِّي علمت من نَفسِي وَمن غَيْرِي أَنه لَو قبل الْفِدَاء لفدي بِالنَّفسِ ثمَّ جلس وَلَده الْأَفْضَل للعزاء فِي الإيوان الشمالي وَحفظ بَاب القلعة إِلَّا عَن الْخَواص من الْأُمَرَاء والمعممين وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما قد شغل كل إِنْسَان مَا عِنْده من الْحزن والأسف والبكاء والاستغاثة عَن أَن ينظر إِلَى غَيره وَحفظ الْمجْلس عَن أَن ينشد فِيهِ شَاعِر أَو يتَكَلَّم فِيهِ فصَال أَو وعاظ وَكَانَ أَوْلَاده يخرجُون مستغيثين بَين النَّاس فتكاد النُّفُوس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 تزهق لهول منظرهم ودام الْحَال على ذَلِك إِلَى بعد صَلَاة الظّهْر ثمَّ اشْتغل بتغسيله وتكفينه فَمَا مكنا أَن ندخل فِي تَجْهِيزه مَا قِيمَته حَبَّة وَاحِدَة إِلَّا بالقرض حَتَّى فِي ثمن التِّبْن الَّذِي يلت بِهِ الطين وغسله الدولعي الْفَقِيه وندبت إِلَى الْوُقُوف على غسله فَلم يكن لي قُوَّة تحمل ذَلِك المنظروأخرج بعد صَلَاة الظّهْر فِي تَابُوت مسجى بِثَوْب فوط وَكَانَ ذَلِك وَجَمِيع مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ من الثِّيَاب فِي تكفينه قد أحضرهُ الْفَاضِل من وَجه حل عرفه وَارْتَفَعت الْأَصْوَات عِنْد مشاهدته وَعظم الضجيج حَتَّى إِن الْعَاقِل يتخيل أَن الدُّنْيَا كلهَا تصيح صَوتا وَاحِدًا وَغشيَ النَّاس من الْبكاء والعويل مَا شغلهمْ عَن الصَّلَاة وَصلى عَلَيْهِ النَّاس أَرْسَالًا وَكَانَ أول من أم بِالنَّاسِ القَاضِي محيي الدّين بن الزكي ثمَّ أُعِيد رَحمَه الله عَلَيْهِ إِلَى الدَّار الَّتِي فِي الْبُسْتَان الَّتِي كَانَ متمرضا بهَا وَدفن فِي الصّفة الغربية مِنْهَا وَكَانَ نُزُوله فِي حفرته قَرِيبا من صَلَاة الْعَصْر ثمَّ نزل فِي أثْنَاء النَّهَار وَلَده الظافر وعزى النَّاس فِيهِ وَسكن قُلُوب النَّاس وَكَانَ النَّاس قد شغلهمْ الْحزن والبكاء عَن الِاشْتِغَال بالنهب وَالْفساد فَمَا يُوجد قلب إِلَّا حَزِين وَلَا عين إِلَّا باكية إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ رَجَعَ النَّاس إِلَى بُيُوتهم أقبح رُجُوع وَلم يعد منا أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا أَنا حَضَرنَا وقرأنا وجددنا حَالا من الْحزن واشتغل ذَلِك الْيَوْم الْملك الْأَفْضَل بكتب الْكتب إِلَى إخْوَته وَعَمه يُخْبِرهُمْ بِهَذَا الْحَادِث وَفِي الْيَوْم الثَّانِي جلس للعزاء جُلُوسًا عَاما وَأطلق بَاب القلعة للفقهاء وَالْعُلَمَاء وَتكلم المتكلمون وَلم ينشد شَاعِر ثمَّ انفض الْمجْلس فِي ظهيرة ذَلِك الْيَوْم وَاسْتمرّ الْحَال فِي حُضُور النَّاس بكرَة وَعَشِيَّة لقِرَاءَة الْقُرْآن وَالدُّعَاء لَهُ رَحمَه الله وَقَالَ الْعِمَاد جلس السُّلْطَان لَيْلَة السبت سادس عشر صفر وَنحن عِنْده حَتَّى مضى من اللَّيْل ثلثه وَهُوَ يحدثنا وَنحن نحدثه ثمَّ صلى بِهِ وبنا إِمَامه وحان قِيَامه وانفصلنا بإحسانه مغتبطين وبامتنانه مرتبطين وأصبحنا يَوْم السبت وَجَلَسْنَا فِي الإيوان نَنْتَظِر خُرُوجه لوضع الخوان ووجدناه وَقد أغلق بإغلاق بَابه رَهنه وَلم نشعر بِمَا قَضَاهُ الْقدر وأجنه وَخرج من خدمه من أخبر بسقمه وَدخُول الْخَوْف إِلَى حرمه وَأمر الْملك الْأَفْضَل بِأَن يجلس فِي الإيوان لبسط الخوان فَجَلَسَ فِي مَكَان وَالِده متربعا وَكَانَ من شَرط الْأَدَب أَن يخلي لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 موضعا فتطيرنا من تِلْكَ الْحَالة وتكرهنا مِنْهَا سوء الدّلَالَة فتلاعبت فِيهِ الْعُيُون وتراجمت الظنون ودخلنا إِلَيْهِ لَيْلَة الْأَحَد للعيادة ومرضه فِي الزِّيَادَة وَفِي كل يَوْم تضعف الْقُلُوب وتتضاعف الكروب وانتقل من دَار الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء فِي سحرة يَوْم الْأَرْبَعَاء ونابت الظلماء عَن الضياء وَدخل قمره لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين فِي السرَار ودجت مطالع الْأَنْوَار وَمَات لمَوْته رَجَاء الرِّجَال وأظلم بغروب شمسه فضاء الأفضال وغاضت الأيادي وفاضت الأعادي وَدفن بقلعة دمشق فِي مَسْكَنه وَدفن جماع الْكَرم وَالْفضل وَالدّين بمدفنه ثمَّ بنى الْملك الْأَفْضَل قبَّة شمَالي الْجَامِع بجواره بشباك إِلَى الْجَامِع لزواره وَنَقله إِلَيْهَا يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين واسترجعنا وَقُلْنَا مَا لنا إِلَّا أَن نستعيذ بِاللَّه ونستعين قَالَ وَمِمَّا قلته ربَاعِية فِي المرثية (قَالَ الْملك النَّاصِر من كلفني ... فِي الْجُود بشيمتي فَمَا أنصفني) (مَا يعلم أَن ذَا الْملك فني ... لم يبْق من الْجُود إِلَّا كفني) وَقَالَ الْعِمَاد أَيْضا فِي رسَالَته الموسومة بعتبى الزَّمَان وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله لما توفّي دفن بالقلعة فِي منزله وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 زَالَ الْأَفْضَل يتروى فِي مَوضِع يَنْقُلهُ إِلَيْهِ وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِك فأشير عَلَيْهِ فِي سنة وَتِسْعين بِأَن تبنى تربته عِنْد مَسْجِد الْقدَم ويبنى عِنْدهَا مدرسة للشَّافِعِيَّة وَقَالُوا إِذا وصل الْملك الْعَزِيز اسْتغنى بزيارتها عَن الدُّخُول إِلَى دمشق لأَجلهَا وَقَالُوا إِن السُّلْطَان رَحمَه الله لما مرض سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بحران وصّى أَن يدْفن بِدِمَشْق قبلي ميدان الْحَصَى وَيكون قَبره على النهج السابل وَطَرِيق القوافل ليدعو لَهُ الْوَارِد والصادر والبادي والحاضر وَتجوز عَلَيْهِ فِي الْغَزَوَات العساكر قَالُوا وَإِن تناءت هَذِه الأَرْض عَن مَكَان الْوَصِيَّة فَهِيَ مِنْهُ قريبَة فَأمر الْأَفْضَل بِبِنَاء التربة عِنْد مَسْجِد الْقدَم وَتَوَلَّى عمارتها بدر الدّين مودود وَالِي دمشق فاتفق وُصُول الْعَزِيز تِلْكَ السّنة للحصار وهم قد شرعوا فِي عمارتها فخرب مَا كَانَ قد ارْتَفع من الْبناء ثمَّ استقرى الْأَفْضَل حُدُود الْجَامِع ليجعل التربة فِيهَا فوفق لداركانت لبَعض الصَّالِحين وَهِي فِي حد الْمَكَان الَّذِي زَاده الْأَجَل الْفَاضِل فِي الْمَسْجِد فاشتراها مِنْهُ وَأمر بعمارتها فِيهِ فعمرت وَنقل إِلَيْهَا السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين بكرَة الْخَمِيس وَمَشى الْأَفْضَل بَين يَدي تابوته وَأَرَادَ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء حمله على أَعْنَاقهم الَّتِي فِيهَا منته فَقَالَ الْأَفْضَل كفته أدعيتكم الصالحه الَّتِي هِيَ فِي الْمعَاد جنته وَحمله مماليكه وخدمه وأولياؤه وحشمه وَأخرج من بَاب القلعة فِي الْبَلَد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 على دَار الحَدِيث إِلَى بَاب الْبَرِيد وَأدْخل مِنْهُ إِلَى الْجَامِع وَوضع قُدَّام بَاب النسْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي بِإِذن الْأَفْضَل ثمَّ حمل مِنْهُ على الرؤوس إِلَى بطن ملحده ثمَّ جَاءَ الْأَفْضَل وَحده وَدخل لحده وأودعه وَخرج وسد الْبَاب على أَبِيه وَجلسَ هُنَاكَ فِي الْجَامِع ثَلَاثَة أَيَّام للعزاء وأنفقت سِتّ الشَّام أُخْت السُّلْطَان فِي هَذِه النّوبَة أَمْوَالًا كَثِيرَة قَالَ مُحَمَّد بن القادسي وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشر ربيع الأول شاعت الْأَخْبَار يَعْنِي بِبَغْدَاد بوفاة صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَذكر أَنه دفن مَعَه سَيْفه الَّذِي كَانَ مَعَه فِي الْجِهَاد وَكَانَ ذَلِك بِرَأْي الْفَاضِل وَقيل عَنهُ هَذَا يتَوَكَّأ عَلَيْهِ إِلَى الْجنَّة وَأَن الْفَاضِل كَفنه من مَاله وَتَوَلَّى غسله الْفَاضِل وخطيب دمشق قلت وَحكي لي أَنه رُؤِيَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم زاروا قبر صَلَاح الدّين رَحمَه الله وَأَنَّهُمْ لما صَارُوا عِنْد الشباك سجدوا وَوجدت فِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ أَن رجلا رأى لَيْلَة وَفَاة السُّلْطَان كَأَن قَائِلا يَقُول لَهُ قد خرج اللَّيْلَة يُوسُف من السجْن وَهُوَ من الْأَثر النَّبَوِيّ الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 قَالَ وَمَا كَانَ يوسفنا رَحْمَة الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بالاضافة إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة إِلَّا فِي سجن رَضِي الله عَن تِلْكَ الرّوح وَفتح لَهُ بَاب الْجنَّة فَهُوَ آخر مَا كَانَ يَرْجُو من الْفتُوح وَمن كَلَام غَيره فِي وَفَاة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى أفلت الشَّمْس عِنْد الصَّباح وَذَهَبت روح الدُّنْيَا الَّذِي ذهب بذهابها كثيرمن الْأَرْوَاح وَتلك سَاعَة ظلت لَهَا الْأَلْبَاب حائرة وتمثلت فِيهَا السَّمَاء مائرة وَالْجِبَال سائرة وأغمد سيف الله الَّذِي كَانَ على أعدائه دَائِم التَّجْرِيد وَخفت الأَرْض من جبلها الَّذِي كَانَ يمْنَعهَا أَن تميد وَأصْبح الْإِسْلَام وَقد فقد ناصره فَهُوَ أعظم فَاقِد لأعظم فقيد وَلَيْسَ أحد من النَّاس إِلَّا وَقد صم عَن الْخَبَر وَأُصِيب فِي سَواد الْقلب وَالْبَصَر وَقَالَ وَقد توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول عمر وَختم الْعِمَاد كِتَابه الْبَرْق الشَّامي بقصيدة رثى بهَا السُّلْطَان رَحمَه الله عَددهَا فِي ديوانه بِخَطِّهِ مئتان وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْتا أَولهَا (شَمل الْهدى وَالْملك عَم شتاته ... والدهر سَاءَ وأقلعت حَسَنَاته) (أَيْن الَّذِي مذ لم يزل مخشية ... مرجوة هباته وهباته) (أَيْن الَّذِي كَانَت لَهُ طاعاتنا ... مبذولة ولربه طاعاته) (بِاللَّه أَيْن النَّاصِر الْملك الَّذِي ... لله خَالِصَة صفت نياته) (أَيْن الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانا لنا ... يُرْجَى نداه وتتقى سطواته) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 (أَيْن الَّذِي شرف الزَّمَان بفضله ... وسمت على الْفُضَلَاء تشريفاته) (أَيْن الَّذِي عنت الفرنج لِبَأْسِهِ ... ذلا وَمِنْهَا أدْركْت ثاراته) (أغلال أَعْنَاق العدى أسيافه ... أطواق أجياد الورى مناته) (لم يجد تَدْبِير الطَّبِيب وَكم وَكم ... أَجدت لطب الدَّهْر تدبيراته) (من فِي الْجِهَاد صفاحه مَا أغمدت ... بالنصر حَتَّى أغمدت صفحاته) (من فِي صُدُور الْكفْر صدر قناته ... حَتَّى تَوَارَتْ بالصفيح قناته) (لذا المتاعب فِي الْجِهَاد وَلم تكن ... مذ عَاشَ قطّ لذاته لذاته) (مسعودة غدواته محمودة ... روحاته مَيْمُونَة ضحواته) (فِي نصْرَة الْإِسْلَام يسهر دَائِما ... ليطول فِي روض الْجنان سباته) (لَا تحسبوه مَاتَ شخص وَاحِد ... فممات كل الْعَالمين مماته) (ملك عَن الْإِسْلَام كَانَ محاميا ... أبدا لماذا أسلمته حماته) (قد أظلمت مذ غَابَ عَنْهَا دوره ... لما خلت من بدره داراته) (دفن السماح فَلَيْسَ تنشر بَعْدَمَا ... أودى إِلَى يَوْم النشور رفاته) (الدّين بعد أبي المظفر يُوسُف ... أقوت قواه وأقفرت ساحاته) (جبل تضعضع من تضعضع رُكْنه ... أركاننا وتهدنا هداته) (مَا كنت أعلم أَن طودا شامخا ... يهوي وَلَا تهوي بِنَا مهواته) (مَا كنت أعلم أَن بحرا طاميا ... فِينَا يطم وتنتهي زخراته) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 (بَحر خلا من وارديه وَلم تزل ... محفوفة بوفوده حَافَّاته) (من لِلْيَتَامَى والأرامل رَاحِم ... متعطف مفضوضة صدقاته) (لَو كَانَ فِي عصر النَّبِي لأنزلت ... فِي ذكره من ذكره آيَاته) (فعلى صَلَاح الدّين يُوسُف دَائِما ... رضوَان رب الْعَرْش بل صلواته) (لضريحه سقيا السَّحَاب فَإِن يغب ... تحضر لرحمة ربه سقياته) (وكعادة الْبَيْت الْمُقَدّس يحزن الْبَيْت ... الْحَرَام عَلَيْهِ بل عرفاته) (من للثغور وَقد عَداهَا حفظه ... من للْجِهَاد وَلم تعد عاداته) (بَكت الصوارم والصواهل إِذْ خلت ... من سلها وركوبها غَزَوَاته) (وبسيفه صدأ لحزن مصابه ... إِذْ لَيْسَ يشفى بعده صدياته) (يَا وحشتا للبيض فِي أغمادها ... لَا تنتضيها للوغى عزماته) (يَا وَحْشَة الْإِسْلَام يَوْم تمكنت ... فِي كل قلب مُؤمن روعاته) (يَا حسرتا من يأس راجيه الَّذِي ... يقْضى الزَّمَان وَمَا انْقَضتْ حسراته) (مَلَأت مهابته الْبِلَاد فَإِنَّهُ ... أَسد وَإِن بِلَاده غاباته) (مَا كَانَ أسْرع عصره لما انْقَضى ... فَكَأَنَّمَا سنواته ساعاته) (لم أنس يَوْم السبت وَهُوَ لما بِهِ ... يُبْدِي السبات وَقد بَدَت غشياته) (والبشر مِنْهُ تبلجت أنواره ... وَالْوَجْه مِنْهُ تلألأت سبحاته) (وَيَقُول لله الْمُهَيْمِن حكمه ... فِي مَرضه حصلت بهَا مرضاته) (وقف الْمُلُوك على انْتِظَار ركُوبه ... لَهُم فَفِيمَ تَأَخَّرت ركباته) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 (كَانُوا وقوفا أمس تَحت ركابه ... وَالْيَوْم هم حول السرير مشاته) (وممالك الْآفَاق ساعية لَهُ ... فَمَتَى تَجِيء بفتحهن سعاته) (هذي مناشير الممالك تَقْتَضِي ... توقيعه فِيهَا فَأَيْنَ دواته) (هذي الجيوش من الْبِلَاد تواصلت ... فعلام لَا تسمو لَهَا راياته) (قد كَانَ وَعدك فِي الرّبيع بجمعها ... هَذَا الرّبيع وَقد دنا مِيقَاته) (والجند فِي الدِّيوَان جدد عرضه ... وَإِذا أمرت تَجَدَّدَتْ نفقاته) (والقدس طامحة إِلَيْك عيونه ... عجل فقد طمحت إِلَيْهِ عداته) (والغرب منتظر طلوعك نَحوه ... حَتَّى تفيء إِلَى هداك بغاته) (والشرق يَرْجُو غرب عزمك مَاضِيا ... فِي ملكه حَتَّى تطيع عصاته) (مغرى بإسداء الْجَمِيل كَأَنَّمَا ... فرضت عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ صلَاته) (هَل للملوك مضاؤه فِي موقف ... شدت على أعدائه شداته) (وَإِذا الْمُلُوك سعوا وَقصر سَعْيهمْ ... رجحت وَقد نجحت بِهِ مسعاته) (كم جَاءَهُ التَّوْفِيق فِي وقعاته ... من كَانَ بالتوفيق توقيعاته) قَالَ بِخَط الْعِمَاد فِي حَاشِيَة ديوانه كَانَت علامته الْحَمد لله وَبِه توفيقي (يَا رَاعيا للدّين حِين تمكنت ... مِنْهُ الذئاب وأسلمته رعاته) (مَا كَانَ ضرك لَو أَقمت مراعيا ... دينا تولى مذ رحلت ولاته) (أضجرت منا أم أنفت فَلم تكن ... مِمَّن تصاب لشدَّة ضجراته) (أرضيت تَحت الأَرْض يَا من لم تزل ... فَوق السَّمَاء علية درجاته) (فَارَقت ملكا غير بَاقٍ متعبا ... ووصلت ملكا بَاقِيا راحاته) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 (أعزز على عَيْني بِرُؤْيَة بهجة الدُّنْيَا ... ووجهك لَا ترى بهجاته) (أبني صَلَاح الدّين إِن أَبَاكُم ... مَا زَالَ يَأْبَى مَا الْكِرَام أباته) (لَا تقتدوا إِلَّا بِسنة فَضله ... لتطيب فِي مهد النَّعيم سناته) (وردوا موارد عدله وسماحه ... لِترد عَن نهج الشمات شماته) (وَلَئِن هوى جبل لقد بنيت لنا ... ببنيه من هضباته ذرواته) (وبفضل أفضله وَعز عزيزه ... وَظُهُور ظَاهره لنا سرواته) (الْأَفْضَل الْملك الَّذِي ظَهرت على الدُّنْيَا ... بزهر جَلَاله جلواته) (وَالدّين بِالْملكِ الْعَزِيز عماده ... عُثْمَان حَالية لنا حالاته) (وَالْملك غَازِي الظَّاهِر العالي الَّذِي ... صحت لاظهار العلى مغزاته) (وَلنَا بِسيف الدّين أظهر نصْرَة ... بالعادل الْملك المطهر ذَاته) وللعماد فِيهِ من قصيدة أُخْرَى (من للعلا من للذرى من للهدى ... يحميه من للبأس من للنائل) (طلب الْبَقَاء لملكه فِي آجل ... إِذْ لم يَثِق بِبَقَاء ملك العاجل) (بَحر أعَاد الْبر بحرا بره ... وبسيفه فتحت بِلَاد السَّاحِل) (من كَانَ أهل الْحق فِي أَيَّامه ... وبعزه يردون أهل الْبَاطِل) (وفتوحه والقدس من أبكارها ... أبقت لَهُ فضلا بِغَيْر مساجل) (مَا كنت أستسقي لقبرك وابلا ... وَرَأَيْت جودك مخجلا للوابل) (فسقاك رضوَان الْإِلَه لإنني ... لَا أرتضي سقيا الْغَمَام الهاطل) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 فصل فِي تَرِكَة السُّلْطَان وَوصف أخلاقه رَحمَه الله ذكر القَاضِي ابْن شَدَّاد أَنه لما مَاتَ لم يخلف فِي خزانته من الذَّهَب وَالْفِضَّة إِلَّا سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما ناصرية وجرما وَاحِدًا ذَهَبا صوريا وَلم يخلف ملكا لَا دَارا وَلَا عقارا وَلَا بستانا وَلَا قَرْيَة وَلَا مزرعة يَعْنِي لَا فِي الْبَلَد مسقفا وَلَا ظَاهرا مستغلا من أَنْوَاع الْأَمْلَاك وَقَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح خلف السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله سَبْعَة عشر ولدا ذكرا وَابْنَة صَغِيرَة وَأبقى لَهُ مآثر أثيرة ومحاسن كَثِيرَة وَلم يخلف فِي خزانته سوى دِينَار وَاحِد وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما فَإِنَّهُ كَانَ بِإِخْرَاج مَا يدْخل من الْأَمْوَال فِي المكرمات والغرامات مغرما وَكَانَ يجود بِالْمَالِ قبل الْحُصُول ويقطعه عَن خزانته بالحوالات عَن الْوُصُول وَإِذا عرف بوصول حمل وَقع عَلَيْهِ بأضعافه وَخص الْآحَاد من ذَوي الْغناء فِي الْجِهَاد بآلافه وَلَا جبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 أحدا بِالرَّدِّ إِذا سَأَلَهُ بل تلطف لَهُ كَأَنَّهُ استمهله فَإِنَّهُ يَقُول مَا عندنَا شَيْء السَّاعَة وَمَفْهُومه أَنه يُعْطي وَإِن كَانَ يبطي وَأَنه يُصِيبهُ بالنوال وَلَا يخطي وَكَانَ مشغوفا فِي سَبِيل الله بالانفاق مَوْقُوفا عزمه فِي الْأَعْدَاء بادناء الْآجَال وَفِي الْأَوْلِيَاء باجراء الأرزاق وَمَا عقر فِي سَبِيل الله فرس أَو جرح إِلَّا وَعوض مَالِكه مثله وزاده من زَاده فضلَة وَحسب مَا وهبه من الْخَيل العراب والأكاديش الْجِيَاد للحاضرين مَعَه فِي صف الْجِهَاد مُدَّة ثَلَاث سِنِين وَشهر مذ نزل الفرنج على عكا فِي رَجَب سنة خمس وَثَمَانِينَ إِلَى يَوْم انفصالهم بالسلم فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَكَانَ تَقْدِيره اثْنَي عشر ألف رَأس من حصان وَحجر وإكديش وَذَلِكَ غير مَا أطلقهُ من المَال فِي أَثمَان الْخَيل المصابة فِي الْقِتَال وَلم يكن لَهُ فرس يركبه إِلَّا وَهُوَ موهوب أَو مَوْعُود بِهِ وَصَاحبه ملازم فِي طلبه وَمَا حضر اللِّقَاء إِلَّا اسْتعَار فرسا فَرَكبهُ وهجر جياده فَإِذا نزل جَاءَ صَاحبه واستعاده فكلهم يركب خيله وَيطْلب خَيره وَهُوَ يستعير جوادا ويستعر فِي الْجِهَاد اجْتِهَادًا وَقَالَ فِي الْبَرْق وَحَضَرت بعده عِنْد بعض الْمُلُوك وَقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 قيدت إِلَيْهِ عراب فَقيل لَهُ كَانَ السُّلْطَان يضيع هَذِه وَمَا عِنْده لَهَا حِسَاب ونسبوا جوده بهَا إِلَى السَّرف وعدوه من معايبه وأعرضوا عَن ذكر مفاخره ومناقبه وبمثل ذَلِك استتبت لَهُ الْفتُوح وخلصت لَهُ طَاعَة كتائبه قَالَ فِي الْفَتْح وَكَانَ لَا يلبس إِلَّا مَا يحل لبسه وتطيب بِهِ نَفسه كالكتان والقطن وَالصُّوف وَكسوته يُخرجهَا فِي إسداء الْمَعْرُوف وَكَانَت محاضره مصونة من الْحَظْر وخلواته مُقَدَّسَة بِالطُّهْرِ ومجالسه منزهة من الهزء والهزل ومحافله حافلة آهلة بِأَهْل الْفضل وَمَا سَمِعت لَهُ قطّ كلمة تسْقط وَلَا لَفْظَة فظة تسخط ويغلظ على الْكَافرين الفاجرين ويلين للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ ويؤثر سَماع الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ ويكلم الْعلمَاء عِنْده فِي الْعلم الشَّرْعِيّ الْمُفِيد وَكَانَ لمداومة الْكَلَام مَعَ الْفُقَهَاء ومشاركة الْقُضَاة فِي الْقَضَاء أعلم مِنْهُم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة والأسباب المرضية والأدلة المرعية وَكَانَ من جالسه لَا يعلم أَنه جليس السُّلْطَان بل يعْتَقد أَنه جليس أَخ من الإخوان وَكَانَ حَلِيمًا مقيلا للعثرات متجاوزا عَن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا ويغضي وَلَا يغْضب ويبشر وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 يتقطب مَا رد سَائِلًا وَلَا صد نائلا وَلَا أخجل قَائِلا وَلَا خيب آملا قَالَ وَمن جملَة مناقبه أَنه تَأَخّر عَنهُ فِي بعض سفراته الْأَمِير أَيُّوب بن كنان فَلَمَّا وصل سَأَلَهُ عَن سَبَب تخلفه فَذكر دينا فأحضر غرماءه وَتقبل بِالدّينِ وَكَانَ أثني عشر ألف دِينَار مصرية وكسرا قَالَ وَلما كُنَّا بالقدس فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ كتب إِلَيْهِ سيف الدولة بن منقذ نَائِبه بِمصْر أَن وَاحِدًا ضمن مُعَاملَة بمبلغ فاستنض مِنْهَا ألفي دِينَار وتسحب وَرُبمَا وصل إِلَى الْبَاب فتحيل وتمحل وَكذب فجَاء من أخبر السُّلْطَان بِأَن الرجل بِالْبَابِ فَقَالَ قل لَهُ إِن ابْن منقذ يطلبك فاجتهد أَن لَا تقع فِي عينه فعجبنا من حلمه وَكَرمه بعد أَن قُلْنَا قدم الرجل إِلَى حِينه بقدمه قَالَ وَمِمَّا أذكرهُ لَهُ فِي أول سفرتي مَعَه إِلَى مصر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين أَنه حُوسِبَ صَاحب ديوانه عَمَّا تولاه فِي زَمَانه فَكَانَت سِيَاقَة الْحساب عَلَيْهِ سبعين ألف دِينَار بَاقِيَة عَلَيْهِ فَمَا طلبَهَا وَلَا ذكرهَا وَأرَاهُ أَنه مَا عرفهَا على أَن صَاحب الدِّيوَان مَا أنكرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وَكَانَ يرضى من الْأَعْمَال بِمَا يحمل صفوا عفوا وَيحصل عذبا حلوا وَكله يخرج فِي الْجُود وَالْجهَاد ثمَّ لم يرض لَهُ بالعطلة فولاه ديوَان جَيْشه قَالَ وَلما كُنَّا بِظَاهِر حران عَم بصدقاته الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَكتب إِلَى نوابه فِي الولايات بِإِخْرَاج الصَّدقَات وَقَالَ لي اكْتُبْ إِلَى الصفي بن الْقَابِض بِدِمَشْق أَن يتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار صورية فَقلت لَهُ الذَّهَب الَّذِي عِنْده مصري فَقَالَ فَيتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار مصرية وأشفق من صرف الْمصْرِيّ بالصوري فَيكون حَرَامًا ويرتكب فِي كسب الْأجر آثاما فسمح ومنح وتاجر الله وَربح وَلما عزم على الرحيل من حران أَفَاضَ بهَا الْفضل وَبث الاحسان وَقَالَ لي انْظُر يَوْم الرحيل كم بَقِي بِالْبَابِ من الوافدين أَبنَاء السَّبِيل وَهَذِه ثَلَاث مئة دِينَار اقسمها عَلَيْهِم بالقلم على أقدارهم وَكَانُوا عدَّة يسيرَة لم تبلغ عشرَة فعينت لكل اسْم قسما فَبلغ أَربع مئة دِينَار فأعلمته وَقلت أنقص من كل اسْم ربعا فَقَالَ أجر مَا جرى بِهِ الْقَلَم قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله إِذا أطلق لعاف عارفه وَقلت لَهُ هَذِه مَا تكفيه ردهَا مضاعفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 قَالَ وَكَانَ يغْضب للكبائر وَلَا يغضي عَن الصَّغَائِر ويرشد إِلَى الْهدى وَيهْدِي إِلَى الرشاد ويسدد الْأَمر وَيَأْمُر بالسداد فَكَانَ مماليكه وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد والعباد قَالَ وَرَأى لي يَوْمًا دَوَاة محلاة بِالْفِضَّةِ فأنكرها فَقلت لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد وَالِد أبي الْمَعَالِي قد ذكر وَجها فِي جَوَازهَا ثمَّ لم أكتب بهَا عِنْده بعْدهَا وَكَانَ محافظا على الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوَائِل أَوْقَاتهَا مواظبا على أَدَاء مفروضاتها ومسنوناتها فَمَا رَأَيْته صلى إِلَّا فِي جمَاعَة وَلم يُؤَخر لَهُ صَلَاة من سَاعَة إِلَى سَاعَة وَكَانَ لَهُ إِمَام راتب ملازم مواظب فَإِن غَابَ يَوْمًا صلى بِهِ من حَضَره من أهل الْعلم إِذا عرفه متقيا متجنبا للاثم وَكَانَ يَأْخُذ بِالشَّرْعِ وَيُعْطِي بِهِ وَلم يكن إِلَى المنجم مصغيا وَلم يزل لقَوْله ملغيا وَلَا يتعيف وَلَا يتطير وَلَا يعين وَلَا يتَخَيَّر بل إِذا عزم توكل على الله فَلَا يفضل يَوْمًا على يَوْم وَلَا زَمَانا على زمَان إِلَّا بتفضيل الشَّرْع وَمَا زَالَ ناصرا للتوحيد وقامعا جمع أهل الْبدع بالتبديد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 شَافِعِيّ الْمَذْهَب أصولا وفروعا مُعْتَقدًا لَهُ معقولا ومسموعا يدني أهل التَّنْزِيه ويقصي أهل التَّشْبِيه ويديم استفادة فقه الْفَقِيه واستزادة نباهة النبيه ووجاهة الْوَجِيه فالعالمون فِي عدله والعالمون فِي فَضله والبلاد فِي أَمنه والعباد فِي مِنْهُ فصل قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد كَانَ مولد السُّلْطَان رَحمَه الله فِي شهور سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخمْس مئة بقلعة تكريت وَكَانَ وَالِده أَيُّوب بن شاذي واليا بهَا وَكَانَ كَرِيمًا أريحيا حَلِيمًا حسن الْأَخْلَاق مولده بدوين ثمَّ اتّفق لَهُ الِانْتِقَال من تكريت إِلَى الْموصل وانتقل وَلَده الْمَذْكُور مَعَه وَأقَام بهَا إِلَى ان ترعرع وَكَانَ وَالِده مُحْتَرما مقدما هُوَ وَأَخُوهُ أَسد الدّين شيركوه عِنْد أتابك زنكي وَاتفقَ لوالده الِانْتِقَال إِلَى الشَّام وَأعْطِي بعلبك وَأقَام بهَا مُدَّة وَمَعَهُ وَلَده الْمَذْكُور فَأَقَامَ فِي خدمَة وَالِده يتربى تجت حجره ويرتضع ثدي محَاسِن أخلاقه حَتَّى بَدَت مِنْهُ أَمَارَات السَّعَادَة ولاحت عَلَيْهِ لوائح التَّقَدُّم والسيادة وَقدمه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله وعول عَلَيْهِ وَنظر إِلَيْهِ وقربه وخصصه وَلم يزل كلما تقدم قدما تبدو مِنْهُ أَسبَاب تَقْتَضِي تَقْدِيمه إِلَى مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ حَتَّى اتّفق لِعَمِّهِ أَسد الدّين شيركوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 الْحَرَكَة إِلَى مصر والنهوض إِلَيْهَا وَقد مضى ذَلِك ثمَّ قَالَ ذكر مَا شَاهَدْنَاهُ من مواظبته على الْقَوَاعِد الدِّينِيَّة وملاحظته للأمور الشَّرْعِيَّة ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْحج إِلَى بَيت الله الْحَرَام وَكَانَ رَحمَه الله حسن العقيدة كثير الذّكر لله تَعَالَى قد أَخذ عقيدته عَن الدَّلِيل بِوَاسِطَة الْبَحْث مَعَ مَشَايِخ أهل الْعلم وأكابر الْفُقَهَاء وَيفهم من ذَلِك مَا يحْتَاج إِلَى تفهمه بِحَيْثُ كَانَ إِذا جرى الْكَلَام بَين يَدَيْهِ يَقُول فِيهِ قولا حسنا وَإِن لم يكن بِعِبَارَة الْفُقَهَاء فَتحصل من ذَلِك سَلامَة عقيدته عَن كدر التَّشْبِيه والتعطيل جَارِيَة على نمط الاسْتقَامَة وَكَانَ قد جمع لَهُ الشَّيْخ الامام قطب الدّين النَّيْسَابُورِي رَحمَه الله عقيدة تجمع جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَاب وَكَانَ من شدَّة حرصه عَلَيْهَا يعلمهَا الصغار من أَوْلَاده حَتَّى تترسخ فِي أذهانهم من الصغر ورأيته وَهُوَ يَأْخُذهَا عَلَيْهِم وهم يقرؤونها من حفظهم بَين يَدَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وَأما الصَّلَاة فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيد الْمُوَاظبَة عَلَيْهَا بِالْجَمَاعَة حَتَّى إِنَّه ذكر رَحمَه الله يَوْمًا أَن لَهُ سِنِين مَا صلى إِلَّا جمَاعَة وَكَانَ إِذا مرض يَسْتَدْعِي الامام وَحده ويكلف نَفسه الْقيام وَيُصلي جمَاعَة وَكَانَ يواظب على السّنَن الرَّوَاتِب وَكَانَ لَهُ رَكْعَات يُصليهَا إِن اسْتَيْقَظَ بِوَقْت من اللَّيْل وَإِلَّا أَتَى بهَا قبل صَلَاة الصُّبْح وَمَا كَانَ يتْرك الصَّلَاة مَا دَامَ عقله عَلَيْهِ وَلَقَد رَأَيْته يُصَلِّي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَائِما وَمَا ترك الصَّلَاة إِلَّا فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة الَّتِي تغيب فِيهَا ذهنه وَكَانَ إِذا أَدْرَكته الصَّلَاة وَهُوَ سَائِر نزل وَصلى وَأما الزَّكَاة فَإِنَّهُ مَاتَ رَضِي الله عَنهُ وَلم يحفظ مَا وَجَبت عَلَيْهِ بِهِ الزَّكَاة وَأما صَدَقَة النَّفْل فانها استنفذت جَمِيع مَا ملكه من الْأَمْوَال وَأما صَوْم رَمَضَان فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ فوائت بِسَبَب أمراض تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ فِي رمضانات مُتعَدِّدَة وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل قد تولى ثَبت تِلْكَ الْأَيَّام وَشرع رَحمَه الله فِي قَضَاء فوائت ذَلِك فِي الْقُدس الشريف فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا وواظب على الصَّوْم مِقْدَارًا زَائِدا على شهر فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ فوائت رمضانين شغلته الْأَمْرَاض وملازمة الْجِهَاد عَن قَضَائهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وَكَانَ الصَّوْم لَا يُوَافق مزاجه فألهمه الله الصَّوْم لقَضَاء الْفَوَائِت فَكَانَ يَصُوم وَأَنا أثبت الْأَيَّام الَّتِي يصومها فَإِن القَاضِي كَانَ غَائِبا والطبيب يلومه وَهُوَ لَا يسمع وَيَقُول مَا أعلم مَا يكون فَكَأَنَّهُ كَانَ ملهما بَرَاءَة ذمَّته وَلم يزل حَتَّى قضى مَا عَلَيْهِ رَحمَه الله وَأما الْحَج فَإِنَّهُ لم يزل عَازِمًا عَلَيْهِ وناويا لَهُ لَا سِيمَا فِي الْعَام الَّذِي توفّي فِيهِ فَإِنَّهُ صمم الْعَزْم عَلَيْهِ وَأمر بالتأهب وعملت الزوادة وَلم يبْق إِلَّا الْمسير فاعتاق عَن ذَلِك بِسَبَب ضيق الْوَقْت وفراغ الْيَد عَمَّا يَلِيق بأمثاله فَأَخَّرَهُ إِلَى الْعَام الْمُسْتَقْبل فَقضى الله مَا قضى قَالَ وَهَذَا شَيْء اشْترك فِي الْعلم بِهِ الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ رَحمَه الله يحب سَماع الْقُرْآن الْعَظِيم حَتَّى إِنَّه كَانَ يستخير إِمَامه وَيشْتَرط عَلَيْهِ أَن يكون عَالما بعلوم الْقُرْآن الْعَظِيم متقنا لحفظه وَكَانَ يستقرىء من يحضرهُ فِي اللَّيْل وَهُوَ فِي برجه الجزأين وَالثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وَهُوَ يسمع وَكَانَ يستقرىء فِي مَجْلِسه الْعَام من جرت عَادَته بذلك الْآيَة وَالْعِشْرين وَالزَّائِد على ذَلِك وَلَقَد اجتاز على صَغِير بَين يَدي أَبِيه وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن فَاسْتحْسن قِرَاءَته فقربه وَجعل لَهُ حظا من خَاص طَعَامه ووقف عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه جُزْءا من مزرعة وَكَانَ رَحمَه الله خاشع الْقلب رَقِيق الدمعة إِذا سمع الْقُرْآن الْعَزِيز يخشع قلبه وتدمع عينه فِي مُعظم أوقاته وَكَانَ شَدِيد الرَّغْبَة فِي سَماع الحَدِيث وَمَتى سمع عَن شيخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 ذِي رِوَايَة عالية وَسَمَاع كثير فَإِن كَانَ مِمَّن يحضر عِنْده استحضره وَسمع عَلَيْهِ وأسمع من يحضرهُ فِي ذَلِك الْمَكَان من أَوْلَاده ومماليكه والمختصين بِهِ وَكَانَ يَأْمر النَّاس بِالْجُلُوسِ عِنْد سَماع الحَدِيث إجلالا لَهُ وَإِن كَانَ الشَّيْخ مِمَّن لَا يطْرق أَبْوَاب السلاطين ويتحامى عَن الْحُضُور فِي مجَالِسهمْ سعى إِلَيْهِ وَسمع عَلَيْهِ تردد إِلَى الْحَافِظ السلَفِي بالاسكندرية وروى عَنهُ أَحَادِيث كَثِيرَة وَكَانَ يحب أَن يقْرَأ الحَدِيث بِنَفسِهِ فَكَانَ يستحضرني فِي خلوته ويحضر شَيْئا من كتب الحَدِيث وَيقْرَأ هُوَ فاذا مر بِحَدِيث فِيهِ عِبْرَة رق قلبه ودمعت عينه وَكَانَ كثير التَّعْظِيم لشعائر الدّين قَائِلا ببعث الْأَجْسَام ونشورها ومجازاة المحسن بِالْجنَّةِ والمسيىء بالنَّار مُصدقا لجَمِيع مَا وَردت بِهِ الشَّرَائِع منشرحا بذلك صَدره مبغضا للفلاسفة والمعطلة والدهرية وَمن يعاند الشَّرِيعَة المطهرة وَلَقَد أَمر وَلَده الظَّاهِر صَاحب حلب بقتل شَاب كَانَ نَشأ يُقَال لَهُ السهروردي قيل عَنهُ إِنَّه كَانَ معاندا للشرائع مُبْطلًا وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ وَلَده الْمَذْكُور لما بلغه من خَبره وَعرف السُّلْطَان بِهِ فَأمر بقتْله وصلبه أَيَّامًا فَقتله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وَكَانَ حسن الظَّن بِاللَّه كثير الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ عَظِيم الانابة إِلَيْهِ وَلَقَد شاهدت من آثَار ذَلِك مَا أحكيه فَحكى التجاءه إِلَى الله تَعَالَى عِنْد خَوفه من قصد الفرنج بَيت الْمُقَدّس وَامْتِنَاع أَصْحَابه من دُخُوله للحصر فصلى ودعا فكفي ذَلِك وَقد تقدم ذكره ثمَّ قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله عادلا رؤوفا رحِيما ناصرا للضعيف على الْقوي وَكَانَ يجلس للعدل فِي كل يَوْم اثْنَيْنِ وخميس فِي مجْلِس عَام يحضرهُ الْفُقَهَاء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَيفتح الْبَاب للمتحاكمين حَتَّى يصل إِلَيْهِ كل أحد من كَبِير وصغير وعجوز هرمة وَشَيخ كَبِير وَكَانَ يفعل ذَلِك سفرا وحضرا على أَنه كَانَ فِي جَمِيع زَمَانه قَابلا لما يعرض عَلَيْهِ من الْقَصَص كاشفا لما ينْهَى إِلَيْهِ من الْمَظَالِم وَكَانَ يجمع الْقَصَص فِي كل يَوْم ثمَّ يجلس مَعَ الْكَاتِب سَاعَة إِمَّا فِي اللَّيْل أَو فِي النَّهَار ويوقع على كل قصَّة بِمَا يُطلق الله على قلبه وَمَا اسْتَغَاثَ إِلَيْهِ أحد إِلَّا وقف وَسمع ظلامته وَأخذ قصَّته وكشف قَضيته وَلَقَد رَأَيْته وَقد اسْتَغَاثَ إِلَيْهِ إِنْسَان من أهل دمشق يُقَال لَهُ ابْن زُهَيْر على تَقِيّ الدّين ابْن أَخِيه وأنفذ إِلَيْهِ ليحضره فِي مجْلِس الحكم فَمَا خلصه إِلَّا أَن أشهد عَلَيْهِ شَاهِدين أَنه وكل القَاضِي أَمِين الدّين أَبَا الْقَاسِم قَاضِي حماة فِي الْمُخَاصمَة فأقاما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 الشَّهَادَة عِنْدِي فِي مَجْلِسه فَأمرت أَبَا الْقَاسِم بمساواة الْخصم فساواه وَكَانَ من خَواص جلساء السُّلْطَان ثمَّ جرت المحاكمة بَينهمَا واتجهت الْيَمين على تَقِيّ الدّين وَكَانَ تَقِيّ الدّين من أعز النَّاس عَلَيْهِ وأعظمهم عِنْده وَلم يحابه فِي الْحق قَالَ وَكنت يَوْمًا فِي مجْلِس الحكم بالقدس الشريف إِذْ دخل عَليّ شيخ حسن تَاجر مَعْرُوف يُسمى عمر الخلاطي وَمَعَهُ كتاب حكمي سَأَلَ فَتحه وَقَالَ خصمي السُّلْطَان وَهَذَا بِسَاط الشَّرْع وَقد سمعنَا أَنَّك لَا تحابي فَقلت وَفِي أَي قَضِيَّة هُوَ خصمك فَقَالَ إِن سنقر الخلاطي كَانَ مملوكي وَلم يزل على ملكي إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فِي يَده أَمْوَال عَظِيمَة كلهَا لي وَمَات عَنْهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا السُّلْطَان وَأَنا مطالبه بهَا فَقلت يَا شيخ وَمَا الَّذِي أقعدك إِلَى هَذِه الْغَايَة فَقَالَ الْحُقُوق لَا تبطل بِالتَّأْخِيرِ وَهَذَا الْكتاب الْحكمِي ينْطق بِأَنَّهُ لم يزل فِي ملكي إِلَى أَن مَاتَ فَأخذت الْكتاب مِنْهُ وتصفحت مضمونه فَوَجَدته يتَضَمَّن حلية سنقر الخلاطي وَأَنه قد اشْتَرَاهُ من فلَان التَّاجِر بأرجيش فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ من شهر كَذَا من سنة كَذَا وَأَنه لم يزل فِي ملكه إِلَى أَن شَذَّ عَن يَده فِي سنة كَذَا وَمَا عرف شُهُود هَذَا الْكتاب خُرُوجه عَن ملكه بِوَجْه وتمم الشَّرْط إِلَى آخِره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 فتعجبت من هَذِه الْقِصَّة وأعلمت السُّلْطَان بذلك فَأحْضرهُ واستدناه حَتَّى جلس بَين يَدي وَكنت إِلَى جَانِبه ثمَّ انفرك من طراحته حَتَّى ساواه رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ ادّعى الرجل وَفتح كِتَابه وقرىء تَارِيخه فَقَالَ السُّلْطَان إِن لي من يشْهد أَن هَذَا سنقر فِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ فِي ملكي وَفِي يَدي بِمصْر وَأَنِّي اشْتَرَيْته مَعَ ثَمَانِيَة أنفس فِي تَارِيخ مُتَقَدم على هَذَا التَّارِيخ بِسنة وَأَنه لم يزل فِي يَدي وملكي إِلَى أَن أَعتَقته ثمَّ استحضر جمَاعَة من أَعْيَان الْأُمَرَاء الْمُجَاهدين فَشَهِدُوا بذلك وحكوا الْقَضِيَّة كَمَا ذكرهَا وَذكروا التَّارِيخ كَمَا إدعاه فَأبْلسَ الرجل فَقلت لَهُ يَا مَوْلَانَا هَذَا الرجل مَا فعل ذَلِك إِلَّا طلبا لمراحم السُّلْطَان وَقد حضر بَين يَدي الْمولى وَمَا يحسن أَن يرجع خائب الْقَصْد فَقَالَ هَذَا بَاب آخر وَتقدم لَهُ بخلعة وَنَفَقَة بَالِغَة قَالَ فَانْظُر إِلَى مَا فِي طي هَذِه الْقَضِيَّة من الْمعَانِي الغريبة العجيبة من التَّوَاضُع والإنقياد إِلَى الْحق وإرغام النَّفس وَالْكَرم فِي مَوضِع الْمُؤَاخَذَة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة رَحْمَة الله عَلَيْهِ قَالَ وَكَرمه كَانَ أظهر من أَن يسطر كَانَ رَحمَه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 يهب الأقاليم وَفتح آمد فطلبها مِنْهُ ابْن قرا أرسلان فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا ورأيته وَقد اجْتمع عِنْده وُفُود بالقدس وَلم يكن فِي الخزانة مَا يعطيهم فَبَاعَ قَرْيَة من بَيت المَال وفضضنا ثمنهَا عَلَيْهِم وَلم يفضل مِنْهُ دِرْهَم وَاحِد وَكَانَ يُعْطي فِي وَقت الضائقة كَمَا يُعْطي فِي حَال السعَة وَكَانَ نواب خزانته يخفون عَنهُ شَيْئا من المَال خوفًا أَن يفجأهم مُهِمّ لعلمهم أَنه مَتى علم بِهِ أخرجه وسمعته يَوْمًا يَقُول يُمكن أَن يكون فِي النَّاس من ينظر إِلَى المَال كَمَا ينظر إِلَى التُّرَاب فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بذلك نَفسه وَكَانَ يُعْطي فَوق مَا يؤمل الطَّالِب وَمَا سمعته قطّ يَقُول أعطينا لفُلَان وَكَانَ يُعْطي الْكثير ويبسط وَجهه للمعطى بسط من لم يُعْطه شَيْئا وَكَانَ النَّاس يستزيدونه فِي كل وَقت وَمَا سمعته قطّ يَقُول قد زِدْت مرَارًا فكم أَزِيد وَأكْثر الرسائل فِي ذَلِك كَانَ يكون على لساني ويدي وَكنت أخجل من كَثْرَة مَا يطْلبُونَ وَلَا أخجل مِنْهُ لعلمي بِعَدَمِ مؤاخذته بذلك وَمَا خدمه أحد قطّ إِلَّا وأغناه عَن سُؤال غَيره وَأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فَلَا تطمع فِيهِ أصلا وَلَقَد سَمِعت من صَاحب ديوانه يَقُول لي وَقد تجارينا عطاياه فَقَالَ حصرنا عدد مَا وهب من الْخَيل بمرج عكا لَا غير فَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 عشرَة آلَاف فرس وَمن شَاهد مواهبه يسْتَقلّ هَذَا الْقدر اللَّهُمَّ إِنَّك ألهمته الْكَرم وَأَنت أكْرم الأكرمين فتكرم عَلَيْهِ بِرَحْمَتك ورضوانك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ وَقَالَ وَكَانَ رَحمَه الله من عُظَمَاء الشجعان قوي النَّفس شَدِيد الْبَأْس عَظِيم الثَّبَات لَا يهوله أَمر وَلَقَد رَأَيْته مرابطا فِي مُقَابلَة عدَّة عَظِيمَة من الفرنج ونجدتهم تتواصل وعساكرهم تتواتر وَهُوَ لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة نفس وصبرا وَلَقَد وصل فِي لَيْلَة وَاحِدَة مِنْهُم نَيف وَسَبْعُونَ مركبا على عكا وَأَنا أعدهَا من بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس وَهُوَ لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة نفس وَلَقَد كَانَ يُعْطي دستورا فِي أَوَائِل الشتَاء وَيبقى فِي شرذمة يسيرَة فِي مُقَابلَة عدتهمْ الْكَثِيرَة وَلَقَد سَأَلت باليان بن بارزان وَهُوَ من كبار مُلُوك السَّاحِل وَهُوَ جَالس بَين يَدَيْهِ يَوْم انْعِقَاد الصُّلْح عَن عدتهمْ فَقَالَ الترجمان عَنهُ إِنَّه يَقُول كنت أَنا وَصَاحب صيدا وَكَانَ أَيْضا من مُلُوكهمْ وعقلائهم قَاصِدين عسكرنا من صور فَلَمَّا أَشْرَفنَا عَلَيْهِ تحازرناه فحزره هُوَ بِخمْس مئة ألف وحزرته أَنا بست مئة ألف أَو قَالَ عكس ذَلِك فَقلت فكم هلك مِنْهُم فَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 أما بِالْقَتْلِ فقربت من مئة ألف وَأما بِالْمَوْتِ وَالْغَرق فَلَا يعلم وَمَا رَجَعَ من هَذَا الْعَالم إِلَّا الْأَقَل قَالَ وَكَانَ لَا بُد لَهُ من أَن يطوف حول الْعَدو كل يَوْم مرّة أَو مرَّتَيْنِ إِذا كُنَّا قَرِيبا مِنْهُم وَكَانَ إِذا اشْتَدَّ الْحَرْب يطوف بَين الصفين وَمَعَهُ صبي وَاحِد وعَلى يَده جنيب ويخرق العساكر من الميمنة إِلَى الميسرة يرتب الأطلاب وَيَأْمُرهُمْ بالتقدم وَالْوُقُوف فِي مَوَاضِع يَرَاهَا وَكَانَ يشارف الْعَدو ويجاوره وَلَقَد قرىء عَلَيْهِ جُزْء من الحَدِيث بَين الصفين وَذَلِكَ أَنِّي قلت لَهُ قد سمع الحَدِيث فِي جَمِيع المواطن الشَّرِيفَة وَمَا نقل أَنه سمع بَين الصفين فَإِن رأى الْمولى أَن يُؤثر عَنهُ ذَلِك كَانَ حسنا فَأذن فِي ذَلِك فأحضر جُزْء هُنَاكَ من لَهُ بِهِ سَماع فقرى عَلَيْهِ وَنحن على ظُهُور الدَّوَابّ بَين الصفين يمشي تَارَة وَيقف أُخْرَى وَمَا رَأَيْته استكثر الْعَدو أصلا وَلَا استعظم أَمرهم قطّ وَكَانَ مَعَ ذَلِك فِي حَال الْفِكر وَالتَّدْبِير يذكر بَين يَدَيْهِ الْأَقْسَام كلهَا ويرتب على كل قسم مُقْتَضَاهُ من غير حِدة وَلَا غضب يَعْتَرِيه وَلَقَد انهزم الْمُسلمُونَ فِي يَوْم المصاف الْأَكْبَر بمرج عكا حَتَّى الْقلب وَرِجَاله وَوَقع الكوس وَالْعلم وَهُوَ ثَابت الْقدَم فِي نفر يسير وَقد انحاز إِلَى الْجَبَل يجمع النَّاس ويردهم ويخجلهم حَتَّى يرجِعوا وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى عكر الْمُسلمُونَ على الْعَدو فِي ذَلِك الْيَوْم وَقتل مِنْهُم زهاء سَبْعَة آلَاف مَا بَين راجل وَفَارِس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وَلم يزل مصابرا لَهُم وهم فِي الْعدة الوافرة إِلَى أَن ظهر لَهُ ضعف الْمُسلمين فَصَالح وَهُوَ مسؤول من جانبهم فَإِن الضعْف والهلاك كَانَ فيهم أَكثر وَلَكنهُمْ كَانُوا يتوقعون النجدة وَنحن لَا نتوقعها وَكَانَت الْمصلحَة فِي الصُّلْح وَكَانَ رَحمَه الله يمرض وَيصِح وتعتريه أَحْوَال مهولة وَهُوَ مصابر مرابط وتتراءى الناران ونسمع مِنْهُم صَوت الناقوس ويسمعون منا صَوت الْأَذَان إِلَى أَن انْقَضى الْأَمر قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله شَدِيد الْمُوَاظبَة على الْجِهَاد عَظِيم الاهتمام بِهِ وَلَو حلف حَالف أَنه مَا أنْفق بعد خُرُوجه إِلَى الْجِهَاد دِينَارا وَلَا درهما إِلَّا فِي الْجِهَاد أَو فِي الارفاد لصدق وبر فِي يَمِينه وَلَقَد كَانَ الْجِهَاد وحبه والشغف بِهِ قد استولى على قلبه وَسَائِر جوانحه اسْتِيلَاء عَظِيما بِحَيْثُ مَا كَانَ لَهُ حَدِيث إِلَّا فِيهِ وَلَا نظر إِلَّا فِي آلَته وَلَا اهتمام إِلَّا بِرِجَالِهِ وَلَا ميل إِلَّا إِلَى من يذكرهُ ويحث عَلَيْهِ وَلَقَد هجر فِي محبَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله أَهله وَأَوْلَاده ووطنه وسكنه وَسَائِر بِلَاده وقنع من الدُّنْيَا بِالسُّكُونِ فِي ظلّ خيمة تهب بهَا الرِّيَاح يمنة ويسرة وَلَقَد وَقعت عَلَيْهِ الْخَيْمَة فِي لَيْلَة ريحة على مرج عكا فَلَو لم يكن فِي البرج وَإِلَّا قتلته وَلَا يزِيدهُ ذَلِك إِلَّا رَغْبَة ومصابرة واهتماما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 قلت وشواهد مَا ذكر القَاضِي من ذَلِك كَثِيرَة وَقد سبقت مفرقة فِي وقعاته رَحمَه الله مِنْهَا مَا قاساه على حِصَار حصن كَوْكَب من الأمطار والأوحال وَقَالَ الرشيد ابْن النابلسي من قصيدة لَهُ (مَا أبهج الدّين وَالدُّنْيَا بمالكها الصّديق ... يُوسُف لَا لاذت بِهِ الْغَيْر) (ملك تساوى جُمَادَى فِي الْجِهَاد وتموز ... لَدَيْهِ وضاهى ناجرا صفر) (فَلَيْسَ يثنيه حر إِن توقد عَن ... رضَا الْإِلَه وَلَا إِن أغدق الْمَطَر) (وَلَا ينهنهه عَمَّا يكابده ... ضج أعيذ معاليه وَلَا ضجر) (وَلَا يرى الرّوح إِلَّا ظهر سلهبة ... فِي بطن معركة مركوبها وعر) (صَبر جميل كطعم الشهد فِي فَمه ... وَعند كل مليك طعمه الصَّبْر) قَالَ القَاضِي وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يتَقرَّب إِلَيْهِ يحثه على الْجِهَاد أَو يذكر شَيْئا من أَخْبَار الْجِهَاد وَلَقَد ألف لَهُ كتب عدَّة فِي الْجِهَاد وَأَنا مِمَّن جمع لَهُ فِيهِ كتابا جمعت فِيهِ آدابه وكل آيَة وَردت فِيهِ وكل حَدِيث رُوِيَ فِيهِ وشرحت غريبها وَكَانَ رَحمَه الله كثيرا مَا يطالعه حَتَّى أَخذه مِنْهُ وَلَده الْأَفْضَل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 قَالَ ولأحكين عَنهُ مَا سَمِعت مِنْهُ فِي ذَلِك وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد أَخذ كَوْكَب فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأعْطى العساكر دستورا وَأخذ عَسْكَر مصر فِي الْعود إِلَى مصر وَكَانَ مقدمه أَخَاهُ الْعَادِل فَسَار مَعَه ليودعه ويحظى بِصَلَاة الْعِيد فِي الْقُدس فَفعل وَوَقع لَهُ أَنه يمْضِي مَعَهم إِلَى عسقلان ويودعهم ثمَّ يعود على طَرِيق السَّاحِل يتفقد الْبِلَاد الساحلية إِلَى عكا ويرتب أحوالها فأشاروا عَلَيْهِ أَن لَا يفعل فَإِن العساكر إِذا فارقتنا نبقى فِي عدَّة يسيرَة والفرنج كلهم بصور وَهَذِه مخاطرة عَظِيمَة فَلم يلْتَفت وودع أَخَاهُ والعسكر بعسقلان ثمَّ سرنا على السَّاحِل طالبي عكا وَكَانَ الزَّمَان شتاء عَظِيما وَالْبَحْر هائجا هيجانا عَظِيما وموجه كالجبال كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَكنت حَدِيث عهد بِرُؤْيَة الْبَحْر فَعظم أَمر الْبَحْر عِنْدِي حَتَّى خيل لي أنني لَو قَالَ لي قَادر لَو جزت فِي الْبَحْر ميلًا وَاحِدًا مَلكتك الدُّنْيَا لما كنت أفعل واستخففت رَأْي من يركب الْبَحْر رَجَاء كسب دِينَار أَو دِرْهَم واستحسنت رَأْي من لَا يقبل شَهَادَة رَاكب الْبَحْر هَذَا كُله خطر لي لعظم الهول الَّذِي شاهدته من حَرَكَة البحروتموجه فَبينا أَنا فِي ذَلِك إِذْ الْتفت إِلَيّ وَقَالَ فِي نَفسِي أَنه مَتى يسر الله تَعَالَى فتح بَقِيَّة السَّاحِل قسمت الْبِلَاد وأوصيت وودعت وَركبت هَذَا الْبَحْر إِلَى جزائرهم أتتبعهم فِيهَا حَتَّى لَا أُبْقِي على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وَجه الأَرْض من يكفر بِاللَّه أَو أَمُوت فَعظم وَقع هَذَا الْكَلَام عِنْدِي حَيْثُ نَاقض مَا كَانَ يخْطر لي وَقلت لَهُ لَيْسَ فِي الأَرْض أَشْجَع نفسا من الْمولى وَلَا أقوى نِيَّة مِنْهُ فِي نصْرَة دين الله وحكيت لَهُ مَا خطر لي ثمَّ قلت مَا هَذِه إِلَّا نِيَّة جميلَة وَلَكِن الْمولى يسير فِي الْبَحْر العساكر وَهُوَ سور الْإِسْلَام وَلَا يَنْبَغِي أَن يخاطر بِنَفسِهِ فَقَالَ أَنا أستفتيك مَا أشرف الميتات فَقلت الْمَوْت فِي سَبِيل الله فَقَالَ غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن أَمُوت أشرف الميتات قَالَ فَانْظُر إِلَى هَذِه الطوية مَا أطهرها وَإِلَى هَذِه النَّفس مَا أشجعها وأجسرها اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه بذل جهده فِي نصْرَة دينك رَجَاء رحمتك فارحمه قَالَ وَأما صبره فَلَقَد رَأَيْته بمرج عكا وَهُوَ على غَايَة من مرض اعتراه بِسَبَب كَثْرَة دماميل كَانَت ظَهرت عَلَيْهِ من وَسطه إِلَى ركبته بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الْجُلُوس وَإِنَّمَا يكون مُتكئا على جَانِبه إِذا كَانَ فِي الْخَيْمَة وَامْتنع من مد الطَّعَام بَين يَدَيْهِ لعَجزه عَن الْجُلُوس وَكَانَ يَأْمر أَن يفرق على النَّاس وَكَانَ مَعَ ذَلِك كُله يركب من بكرَة النَّهَار إِلَى صَلَاة الظّهْر يطوف على الأطلاب وَمن الْعَصْر إِلَى صَلَاة الْمغرب وَهُوَ صابر على شدَّة الْأَلَم وَقُوَّة ضَرْبَان الدماميل وَكُنَّا نعجب من ذَلِك فَيَقُول رَحمَه الله إِذا ركبت يَزُول عني ألمها حَتَّى أنزل قَالَ وَهَذِه عناية ربانية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 وَلَقَد مرض وَنحن على الخروبة وَكَانَ قد تَأَخّر عَن تل الحجل بِسَبَب مَرضه فَبلغ الفرنج ذَلِك فَخَرجُوا طَمَعا فِي أَن ينالوا من الْمُسلمين شَيْئا بِسَبَب مَرضه وَهِي نوبَة النَّهر فَخَرجُوا فِي مرحلة إِلَى الْآبَار الَّتِي تَحت التل ثمَّ رَحل الْعَدو فِي الْيَوْم الثَّانِي يطلبنا فَركب رَحمَه الله على مضض ورتب العساكر للحرب وَجعل أَوْلَاده فِي الْقلب وَنزل هُوَ وَرَاء الْقَوْم بِطَلَبِهِ وَكلما سَار الْعَدو يطْلب رَأس النَّهر سَار هُوَ يستدير إِلَى ورائهم حَتَّى يقطع بَينهم وَبَين خيامهم وَهُوَ رَحمَه الله يسير سَاعَة ثمَّ ينزل يستريح ويظلل بمنديل على رَأسه من شدَّة وَقع الشَّمْس وَلَا تنصب لَهُ خيمة حَتَّى لَا يرى الْعَدو ضعفا وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى نزل الْعَدو بِرَأْس النَّهر وَنزل هُوَ على تل قبالتهم مطل عَلَيْهِم إِلَى أَن دخل اللَّيْل ثمَّ أَمر العساكر أَن تعود إِلَى مَحل المصابرة وَأَن يبيتوا تَحت السِّلَاح وَتَأَخر هُوَ إِلَى قمة الْجَبَل وَضربت لَهُ خيمة لَطِيفَة وَبت تِلْكَ اللَّيْلَة أجمع أَنا والطبيب نمرضه ونشاغله وَهُوَ ينَام تَارَة وَيَسْتَيْقِظ أُخْرَى حَتَّى لَاحَ الصَّباح ثمَّ ضرب البوق وَركب رَحمَه الله وَركبت العساكر وَأَحْدَقَتْ بالعدو ورحل الْعَدو عَائِدًا إِلَى خيمه من الْجَانِب الغربي للنهر وضايقه الْمُسلمُونَ مضايقة شَدِيدَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وَفِي ذَلِك الْيَوْم قدم أَوْلَاده بَين يَدَيْهِ احتسابا الْأَفْضَل وَالظَّاهِر والظافر وَجَمِيع من حَضَره مِنْهُم وَلم يزل يبْعَث من عِنْده حَتَّى لم يبْق عِنْده إِلَّا أَنا وطبيب وعارض الْجَيْش والغلمان بِأَيْدِيهِم الْأَعْلَام والبيارق لَا غير فيظن الرَّائِي لَهَا عَن بعد أَن تحتهَا خلقا كثيرا وَلَيْسَ تحتهَا إِلَّا وَاحِد بِخلق عَظِيم رَحمَه الله وَبَقِي فِي مَوْضِعه والعساكر على ظُهُور الْخَيل قبالة الْعَدو إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ أَمرهم أَن يبيتوا على مثل مَا باتوا عَلَيْهِ بارحتهم وبتنا على مَا بتنا عَلَيْهِ إِلَى الصَّباح وَعَاد الْعَسْكَر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ بالْأَمْس من مضايقة الْعَدو قَالَ وَلَقَد رَأَيْته لَيْلَة على صفد وَهُوَ يحاصرها وَقَالَ لَا ننام اللَّيْلَة حَتَّى ينصب لنا خَمْسَة مجانيق ورتب لكل منجنيق قوما يتولون نَصبه وَكُنَّا طول اللَّيْل فِي خدمته فِي ألذ فكاهة وأرغد عَيْش وَالرسل تتواصل مخبرة بِأَنَّهُ نصب من المنجنيق الْفُلَانِيّ كَذَا وَمن الآخر كَذَا حَتَّى أَتَى الصَّباح وَقد فرغ مِنْهَا وَكَانَت من أطول اللَّيَالِي وأشدها بردا ومطرا قَالَ وَلَقَد رَأَيْته وَقد جَاءَهُ خبر وَفَاة ولد لَهُ بَالغ أَو مراهق يُسمى إِسْمَاعِيل فَوقف على الْكتاب وَلم يعرف أحدا وَلم نَعْرِف حَتَّى سمعناه من غَيره وَلم يظْهر عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك سوى أَنه لما قَرَأَ الْكتاب دَمَعَتْ عينه رَحمَه الله قَالَ وَلَقَد رَأَيْته وَقد وَصله خبر وَفَاة تَقِيّ الدّين وَنحن فِي مُقَابلَة الفرنج جَرِيدَة على الرملة وَفِي كل لَيْلَة تقع الصَّيْحَة فتقلع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 الْخيام وَيقف النَّاس على ظهر إِلَى الصَّباح والعدو بيازور بَيْننَا وَبَينه شوط فرس لَا غير فأحضر الْعَادِل وَابْن جندر وَابْن الْمُقدم وَابْن الداية سَابق الدّين وَأمر بِالنَّاسِ فأبعدوا عَن الْخَيْمَة بِحَيْثُ لم يبْق حولهَا أحد عَن غلوة سهم ثمَّ أظهر الْكتاب ووقف عَلَيْهِ وَبكى بكاء شَدِيدا حَتَّى أبكانا من غير أَن نعلم السَّبَب ثمَّ قَالَ رَحمَه الله وَالْعبْرَة تخنقه توفّي تَقِيّ الدّين فَاشْتَدَّ بكاؤه وبكاء الْجَمَاعَة ثمَّ عدت إِلَى نَفسِي فَقلت اسْتَغْفرُوا الله من هَذِه الْحَالة وانظروا أَيْن أَنْتُم وفيم أَنْتُم واعرضوا عَمَّا سواهُ فَقَالَ رَحمَه الله نعم أسْتَغْفر الله وَأخذ يكررها ثمَّ قَالَ لَا يعلم هَذَا أحد قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله شَدِيد الشوق والشغف بأولاده الصغار وَهُوَ صابر على مفارقتهم رَاض ببعدهم عَنهُ وَكَانَ صَابِرًا على مر الْعَيْش وخشونته مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة على غير ذَلِك احتسابا لله تَعَالَى اللَّهُمَّ إِنَّه ترك ذَلِك كُله ابْتِغَاء لمرضاتك فارض عَنهُ قَالَ وَلَقَد كَانَ رَحمَه الله حَلِيمًا متجاوزا قَلِيل الْغَضَب وَلَقَد كنت بخدمته بمرج عُيُون قبل خُرُوج الفرنج إِلَى عكا يسر الله فتحهَا وَكَانَ من عَادَته أَنه يركب فِي وَقت الرّكُوب ثمَّ ينزل فيمد الطَّعَام وَيَأْكُل مَعَ النَّاس ثمَّ ينْهض إِلَى خيمة خَاص لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 ينَام فِيهَا ثمَّ يَسْتَيْقِظ من مَنَامه وَيُصلي وَيجْلس خلْوَة وَأَنا فِي خدمته نَقْرَأ شَيْئا من الحَدِيث أَو شَيْئا من الْفِقْه وَلَقَد قَرَأَ عَليّ كتابا مُخْتَصرا لسليم الرَّازِيّ يشْتَمل على الأرباع الْأَرْبَعَة من الْفِقْه فَنزل يَوْمًا على عَادَته وَمد الطَّعَام بَين يَدَيْهِ ثمَّ عزم على النهوض فَقيل لَهُ إِن وَقت الصَّلَاة قد قرب فَعَاد إِلَى الْجُلُوس وَقَالَ نصلي وننام ثمَّ جلس يتحدث حَدِيث متضجر وَقد أخلي الْمَكَان إِلَّا عَن لزم فَتقدم إِلَيْهِ مَمْلُوك كَبِير مُحْتَرم عِنْده وَعرض عَلَيْهِ قصَّة لبَعض الْمُجَاهدين فَقَالَ لَهُ أَنا الْآن ضجر أَخّرهَا سَاعَة فَلم يفعل وقدمها إِلَى قريب من وَجهه الْكَرِيم بِيَدِهِ وَفتحهَا بِحَيْثُ يقْرؤهَا فَوقف على الِاسْم الْمَكْتُوب فِي رَأسهَا فَعرفهُ وَقَالَ رجل مُسْتَحقّ فَقَالَ يُوقع لَهُ الْمولى فَقَالَ لَيست الدواة حَاضِرَة الْآن وَكَانَ رَحمَه الله جَالِسا فِي بَاب الخركاه بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع أحد الدُّخُول إِلَيْهَا والدواة فِي صدر الخركاه والخركاه كَبِيرَة فَقَالَ لَهُ الْمُخَاطب هَا هِيَ الدواة فِي صدر الخركاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 قَالَ القَاضِي فَلَيْسَ لهَذَا معنى إِلَّا أمره إِيَّاه بإحضار الدواة لَا غير فَالْتَفت رَحمَه الله فَرَأى الدواة فَقَالَ وَالله لقد صدق ثمَّ امْتَدَّ على يَده الْيُسْرَى وَمد يَده الْيُمْنَى وأحضرها وَوَقع لَهُ فَقلت قَالَ الله تَعَالَى فِي حق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَمَا أرى الْمولى إِلَّا قد شَاركهُ فِي هَذَا الْخلق فَقَالَ مَا ضرنا شَيْء قضينا حَاجته وَحصل الثَّوَاب قَالَ القَاضِي وَلَو وَقعت هَذِه الْوَاقِعَة لآحاد النَّاس لقام وَقعد وَمن الَّذِي يقدر أَن يُخَاطب أحدا هُوَ تَحت حكمه بِمثل ذَلِك وَهَذَا غَايَة الاحسان والحلم وَالله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ قَالَ وَلَقَد كَانَت طراحته تداس عِنْد التزاحم عَلَيْهِ لعرض الْقَصَص وَهُوَ لَا يتأثر لذَلِك وَلَقَد نفرت يَوْمًا بغلتي من الْجمال وَأَنا رَاكب فِي خدمته فزحمت وركه حَتَّى آلمته وَهُوَ يتبسم وَلَقَد دخلت بَين يَدَيْهِ فِي يَوْم ريح مطير إِلَى الْقُدس كثيرالوحل فنضحت البغلة عَلَيْهِ من الطين حَتَّى أهلكت جَمِيع مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يتبسم وَأَرَدْت التَّأَخُّر عَنهُ بِسَبَب ذَلِك فَمَا تركني وَلَقَد كَانَ يسمع من المستغيثين إِلَيْهِ والمتظلمين أغْلظ مَا يُمكن أَن يسمع ويلقى ذَلِك بالبشر وَالْقَبُول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 ثمَّ قَالَ القَاضِي وَهَذِه حِكَايَة ينْدر أَن يسطر مثلهَا فَذكر مَا تقدم من امْتنَاع عسكره من الهجوم على الإنكلتير وَهُوَ فِي جمع يسير من أَصْحَابه بعد أَن أطافوا بهم وواجه الْجنَاح السُّلْطَان بذلك الْكَلَام الخشن فَرجع السُّلْطَان مغضبا وَظن أَنه رُبمَا صلب وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم فَنزل بيازور وَقد وَصله من دمشق فَاكِهَة كَثِيرَة فَطلب الْأُمَرَاء ليأكلوا فَحَضَرُوا فَرَأَوْا من بشره وانبساطه مَا أحدث لَهُم الطُّمَأْنِينَة والأمن وَالسُّرُور قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله كثير الْمُرُوءَة ندي الْوَجْه كثير الْحيَاء منبسطا لمن يرد عَلَيْهِ من الضيوف يكرم الْوَافِد عَلَيْهِ وَإِن كَانَ كَافِرًا وَلَقَد وَفد عَلَيْهِ الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية فَمَا أحس بِهِ إِلَّا وَهُوَ وَاقِف على بَاب خيمته بعد وُقُوع الصُّلْح فِي شَوَّال عِنْد مُنْصَرفه من الْقُدس إِلَى دمشق وَقد تقدم ذَلِك عرض لَهُ فِي الطَّرِيق وَطلب مِنْهُ شَيْئا فَأعْطَاهُ العمق وَهِي بِلَاد كَانَ أَخذهَا مِنْهُ عَام فتح السَّاحِل سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَلَقَد رَأَيْته وَقد دخل إِلَيْهِ صَاحب صيدا فاحترمه وأكرمه وَأكل مَعَه وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَذكر لَهُ طرفا من محاسنه وحثه عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وَكَانَ يكرم من يرد عَلَيْهِ من الْمَشَايِخ وأرباب الْعلم وَالْفضل وَذَوي الأقدار وَكَانَ يوصينا لِئَلَّا نغفل عَمَّن يجتاز بالخيم من الْمَشَايِخ المعروفين حَتَّى نحضرهم عِنْده وينالهم من إحسانه وَلَقَد مر بِنَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ رجل جمع بَين الْعلم والتصوف وَكَانَ من ذَوي الأقدار وَكَانَ أَبوهُ صَاحب توزير فَأَعْرض هُوَ عَن فن أَبِيه واشتغل بِالْعلمِ وَالْعَمَل وَحج وَوصل زَائِرًا لبيت الله الْمُقَدّس وَلما قضى لبانته مِنْهُ وَرَأى آثَار السُّلْطَان فِيهِ وَقع لَهُ زيارته فوصل إِلَيْنَا إِلَى الْعَسْكَر فَلَقِيته ورحبت بِهِ وَعرفت السُّلْطَان وُصُوله فَاسْتَحْضرهُ وشكره عَن الْإِسْلَام وحثه على الْخَيْر وَانْصَرف وَبَات عِنْدِي فِي الْخَيْمَة فَلَمَّا صلينَا الصُّبْح أَخذ يودعني فقبحت لَهُ الْمسير دون وداع السُّلْطَان فَلم يلْتَفت وَلم يلو على ذَلِك وَقَالَ قضيت حَاجَتي مِنْهُ وَلَا غَرَض لي فِيمَا عدا رُؤْيَته وزيارته ثمَّ انْصَرف من سَاعَته وَمضى على ذَلِك لَيَال فَسَأَلَ السُّلْطَان عَنهُ فَأَخْبَرته بِفِعْلِهِ فَظهر عَلَيْهِ آثَار التعتب كَيفَ لم أخبرهُ برواحه وَقَالَ كَيفَ يطرقنا مثل هَذَا الرجل وينصرف عَنَّا من غير إِحْسَان يمسهُ منا وشدد النكير عَليّ فِي ذَلِك فَمَا وجدت بدا من أَن أكتب كتابا إِلَى محيي الدّين قَاضِي دمشق كلفته فِيهِ السُّؤَال عَن حَال الرجل وإيصال رقْعَة كتبتها إِلَيْهِ طي كتابي أخْبرته فِيهَا بانكار السُّلْطَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 رَوَاحه من غير اجْتِمَاع بِهِ وَحسنت لَهُ فِيهَا الْعود وَكَانَ بيني وَبَينه صداقة تَقْتَضِي مثل ذَلِك فَعَاد وَاجْتمعَ بالسلطان فَرَحَّبَ بِهِ وانبسط مَعَه واستوحش لَهُ وأمسكه أَيَّامًا ثمَّ خلع عَلَيْهِ خلعة حَسَنَة وَأَعْطَاهُ مركوبا لائقا وثيابا كَثِيرَة ليحملها إِلَى أهل بَيته وَأَتْبَاعه وجيرانه وَنَفَقَة يرتفق بهَا وَانْصَرف عَنهُ وَهُوَ أشكر النَّاس لَهُ وأخلصهم دُعَاء لأيامه قَالَ وَلَقَد رَأَيْته رَحمَه الله وَقد مثل بَين يَدَيْهِ أَسِير فرنجي وَقد هابه بِحَيْثُ ظهر عَلَيْهِ أَمَارَات الْخَوْف والجزع فَقَالَ لَهُ الترجمان من أَي شَيْء تخَاف فَأجرى الله على لِسَانه أَن قَالَ كنت أَخَاف قبل أَن أرى هَذَا الْوَجْه فَبعد رؤيتي لَهُ وحضوري بَين يَدَيْهِ أيقنت أَنِّي مَا أرى إِلَّا الْخَيْر فرق لَهُ وَمن عَلَيْهِ وَأطْلقهُ قَالَ وَكنت رَاكِبًا فِي خدمته فِي بعض الْأَيَّام قبالة الفرنج وَقد وصل بعض اليزكية وَمَعَهُ إمرأة شَدِيدَة التحرق كَثِيرَة الْبكاء متواترة الدق على صدرها فَذكر قصَّة أم الرَّضِيع الَّذِي سرق وَقد مَضَت قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله لَا يرى الاساءة إِلَى من صَحبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 وَإِن أفرط فِي الْجِنَايَة وَلَقَد قلب فِي خزانته كيسَان من الذَّهَب الْمصْرِيّ بكيسين من الْفُلُوس فَمَا عمل بالنواب شَيْئا سوى أَنه صرفهم من عَمَلهم لَا غير وَكَانَ رَحمَه الله حسن الْعشْرَة لطيف الْأَخْلَاق طيب الفكاهة حَافِظًا لأنساب الْعَرَب ووقائعهم عَارِفًا بسيرهم وأحوالهم حَافِظًا لأنساب خيلهم عَالما بعجائب الدُّنْيَا ونوادرها بِحَيْثُ كَانَ يَسْتَفِيد محاضره مِنْهُ مَا لَا يسمعهُ من غَيره وَكَانَ يسْأَل الْوَاحِد منا عَن مَرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أَحْوَاله وَكَانَ طَاهِر الْمجْلس لَا يذكر بَين يَدَيْهِ أحد إِلَّا بِالْخَيرِ وطاهر السّمع فَلَا يحب أَن يسمع عَن أحد إِلَّا بِالْخَيرِ وطاهر اللِّسَان فَمَا رَأَيْته أولع بشتم قطّ وطاهر الْقَلَم فَمَا كتب بقلمه أَذَى لمُسلم قطّ وَكَانَ حسن الْعَهْد وَالْوَفَاء فَمَا أحضر بَين يَدَيْهِ يَتِيم إِلَّا وترحم على مخلفه وجبر قلبه وَأَعْطَاهُ خبز مخلفه إِن كَانَ لَهُ من أَهله كَبِير يعْتَمد عَلَيْهِ وَسلمهُ إِلَيْهِ وَإِلَّا أبقى لَهُ من الْخبز مَا يَكْفِي حَاجته وَسلمهُ إِلَى من يكفله ويعتني بتربيته وَكَانَ مَا يرى شَيخا إِلَّا ويرق لَهُ وَيُعْطِيه وَيحسن إِلَيْهِ وَلم يزل على هَذِه الْأَخْلَاق إِلَى أَن توفاه الله عز وَجل إِلَى مقرّ رَحمته وَمحل رضوانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 قلت ولجعفر ابْن شمس الْخلَافَة من قصيدة رثاء بهَا (أَلَسْت ترى كَيفَ انبرى الْخطب ثائرا ... وَمد يدا مِنْهُ إِلَى دَافع الْخطب) (إِلَى النَّاصِر الْملك الَّذِي ملئت بِهِ ... قُلُوب البرايا من رَجَاء وَمن رعب) (كريم أَتَاهُ الْمَوْت ضيفا فَلم يكن ... لينزله إِلَّا على السهل والرحب) (وَلَو خَابَ مِنْهُ قبل ذَلِك سَائل ... لخاب وَلَيْسَ الْبُخْل من شيم السحب) (قضى فَقضى الْمَعْرُوف وانقرض الندى ... وحطت رحال الْوَفْد فِي الشرق والغرب) (أَفَاضَ على الدُّنْيَا سِجَال نواله ... فَفَاضَتْ عَلَيْهِ أعين الْعَجم وَالْعرب) (وَلَو أَنه يبكى على قدر حَقه ... أسَال دموع المزن من أعين الشهب) (جزاه عَن الْإِسْلَام خيرا إلهه ... فَمَا كل عَنهُ من دفاع وَمن ذب) (تَدَارُكه بعد ابتذال فقد غَدا ... وَكَانَ شَدِيد الْخَوْف فِي أمنع الْحجب) (وَأصْبح للبيت الْمُقَدّس منقذا ... بأصلب عزم من مُقَارنَة الصلب) (أذلّ لَهُ الله العدى مذ أطاعه ... وَسَهل مِنْهُم كل مُمْتَنع صَعب) (فَفِي الْخلد عِنْد الله دَار مقره ... يمتع مِنْهُ بالجوار وبالقرب) فصل فِي انقسام ممالكه بَين أَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَعض مَا جرى بعد وَفَاته قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق خلف السُّلْطَان سَبْعَة عشر ولدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 أكبرهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين أَبُو الْحسن عليّ ومولده بِمصْر يَوْم عيد الْفطر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَتَوَلَّى بعده دمشق إِلَى أَن خرج مِنْهَا إِلَى صرخد وتولاها عَمه الْعَادِل فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين مُضَافَة إِلَى ممالكه بالبلاد الشرقية والجزيرة وديار بكر ثمَّ الْملك الْعَزِيز عماد الدّين أَبُو الْفَتْح عُثْمَان ومولده بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتُوفِّي بهَا فِي ملكه لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من محرم سنة خمس وَتِسْعين وَتَوَلَّى بعده أحد أَوْلَاده الصغار ثمَّ الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي ومولده بِمصْر منتصف شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها قَالَ وَلَقَد أنشأت الرسَالَة الموسومة بالعتبى والعقبى فِيمَا طَرَأَ بعد السُّلْطَان إِلَى آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح تولى الْملك الْأَفْضَل دمشق والساحل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك من الْبِلَاد وَهُوَ الَّذِي حضر وَفَاة وَالِده وَقَامَ بِسنة العزاء وَفرض الِاقْتِدَاء بِأَبِيهِ فِي إِيلَاء الآلاء وإدناء الْأَوْلِيَاء وخلع على الأماثل والأمراء والأفاضل وَالْعُلَمَاء وآوى إِلَيْهِ إخْوَته وَضم جماعته وجهز أَخَاهُ الظافر خضرًا مظفر الدّين وأنهضه لإنجاد عَمه الْعَادِل كَمَا سَنذكرُهُ وَكَانَت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 حمص والمناظر والرحبة وبعلبك وَمَا يجْرِي مَعهَا فِي المملكة الْأَفْضَلِيَّة دَاخِلَة وَقدم عَلَيْهِ سلطاناهما الْملك الْمُجَاهِد والأمجد إِلَى دمشق فتأكدت بَينهم الْقَرَابَة والألفة وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق فِي مقَام وَالِده قدم إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز نجابين بإنهاء الْحَال ثمَّ ندب ضِيَاء الدّين ابْن الشهرزوري فِي الرسَالَة وأصحبه عدَّة وَالِده فِي الْغُزَاة وسيفه وَدِرْعه وحصانه وأضاف إِلَى ذَلِك من الْهَدَايَا والتحف وَالْخَيْل العراب مَا استنفد وَسعه وإمكانه فَمَا تهَيَّأ مسير الرَّسُول إِلَّا فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة حَتَّى حصل كل مَا أَرَادَ من الْهَدَايَا الفاخرة وَحَتَّى كَاتب مصر وحلب وَأعلم بمسير رَسُوله حَتَّى لَا يظنّ أَنه انْفَرد بسوله وَقصد مداراة إخْوَته وَفضل بِفضل نخوته وَذَلِكَ بعد أَن جدد نقش الدِّينَار وَالدِّرْهَم بسمتي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَولي الْعَهْد عدَّة الدّين وَقَالَ ابْن القادسي وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء مستهل رَمَضَان حمل ابْن الشهرزوري مَا كَانَ أَصْحَبهُ الْأَفْضَل من حمل الشَّام إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَهُوَ صَلِيب الصلبوت الَّذِي كَانَ قد أَخذه وَالِده وَذكر أَنه ذهب يزِيد على الْعشْرين رطلا مرصعا بالجواهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وَمَعَهُ خَادِم مُخْتَصّ بخدمته وَحمل فرس أَبِيه وزرديته وخوذته وَكَانَت صفراء مذهبَة ودبوس حَدِيد وَسيف وَأَرْبع زرديات وَقَالُوا هَذِه تركته وَبهَا كَانَ يُقَاتل وتحفا جمة من الثِّيَاب وَحمل فِي جملَة التحف أَربع جوَار من بَنَات مُلُوك الرّوم فِيهِنَّ ابْنة بيرزان وَبنت صَاحب جبلة قَالَ الْعِمَاد وَأَمرَنِي بإنشاء الْكتب وتحريرها وتقريب الْمَقَاصِد وتقريرها مِنْهَا أصدر العَبْد هَذِه الْخدمَة وصدره منشرح بِالْوَلَاءِ وَقَلبه معمور بالصفاء وَيَده مَرْفُوعَة إِلَى السَّمَاء للابتهال بِالدُّعَاءِ وَلسَانه نَاطِق بشكر النعماء وجنانه ثَابت من المهابة والمحبة على الْخَوْف والرجاء وطرفه مغض من الْحيَاء وَهُوَ للْأَرْض مقبل وللفرض متقبل وَهُوَ يمت بِمَا قدمه وأسلفه من الخدمات وذخره ذخر الأقوات لهَذِهِ الْأَوْقَات وَقد أحاطت الْعُلُوم الشَّرِيفَة بِأَن الْوَالِد السعيد الشَّهِيد الشَّديد السديد المبير للشرك المبيد لم يزل أَيَّام حَيَاته وَإِلَى سَاعَة وَفَاته مُسْتَقِيمًا على جدد الْجد مستنيما فِي صون فَرِيضَة الْجِهَاد إِلَى بذل الْجهد ومصر بل الْأَمْصَار بِاجْتِهَادِهِ فِي الْجِهَاد شاهدة والأنجاد والأغوار فِي نظر عزمه وَاحِدَة وَالْبَيْت الْمُقَدّس من فتوحاته وَالْملك الْعَقِيم من نتائج عزماته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 وَهُوَ الَّذِي ملك مُلُوك الشّرك وغل أعناقها وَأسر طواغيت الْكفْر وَشد خناقها وقمع عَبدة الصلبان وقصم أصلابها وَجمع كلمة الايمان وعصم جنابها ونظم أَسبَابهَا وسد الثغور وسدد الْأُمُور وَقبض وعدله مَبْسُوط وَأمره محوط ووزره محطوط وَعَمله بالصلاح مَنُوط وَمَا خرج من الدُّنْيَا إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الطَّاعَة الامامية دَاخل وبمتجرها الرابح إِلَى دَار المقامة راحل وَلم تكن لَهُ وَصِيَّة إِلَّا بالاستمرار على جادتها والاستكثار من مادتها وَإِن مضى الْوَالِد على طَاعَة إِمَامه فالمماليك أَوْلَاده وأخواه فِي مقَامه قَالَ وَتَوَلَّى وَلَده الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان مصر وَجَمِيع أَعمالهَا وأبقاها على اعتدالها ونفاها من شوائب اختلالها واعتلالها وَأَحْيَا سنتي الْجُود والباس وَثَبت الْقَوَاعِد من حسن السياسة على الأساس وَأطلق كل مَا كَانَ يُؤْخَذ من التُّجَّار وَغَيرهم باسم الزَّكَاة وضاعف مَا كَانَ يُطلق برسم العفاة وَقدم أَمر بَيت الله الْمُقَدّس وَعجل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار مصرية لتصرف فِي وُجُوه ضَرُورِيَّة ثمَّ أمده بِالْحملِ وأفاض عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 من الْفضل وَقرر واليه عز الدّين جرديك على ولَايَته وقوى يَده برعايته ووالى حمل الغلات من مصر إِلَى الْقُدس وأبدل وحشته بوفاة وَالِده من وَفَاته بالأنس ثمَّ أشْفق من غدر الفرنج فِي فسخ الْهُدْنَة فَأتى من تجهيز العساكر إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس بِكُل مَا فِي المكنة ثمَّ سمع بحركة المواصلة وَمن تَابعهمْ وبايعهم وشايعهم وَقد خَرجُوا فِي إِيمَانهم حانثين ولعقد أَيْمَانهم ناكثين فخيم ببركة الْجب وَاسْتَشَارَ أمراءه أهل الرَّأْي واللب وجهز جَيْشًا فوصلوا إِلَى دمشق وَقد فرغ الْعَادِل من حَرْب الْقَوْم وسلمهم وهز مِنْهُم أعطاف الاستكانة لَهُ بعد هَزَمَهُمْ فَرَأى أَن الْحَمد أَعُود وَالْعود أَحْمد قَالَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها وحصونها ومعاقلها وكرائم الْبِلَاد وعقائلها الْملك الظَّاهِر غَازِي وَهُوَ برجاحته وسماحته الطود والجود الموازن الموازي وَملك مملكة أقطارها وَاسِعَة وأمصارها شاسعة فحماها وحواها وبماء الْعدْل رَوَاهَا وقواها وَأقر البيرة وأعمالها وَمَا يجْرِي مَعهَا على أَخِيه الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد وَدخل فِي أمره صَاحب حماه ابْن تَقِيّ الدّين فأعزه وحماه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 قلت وَهُوَ مأوى ذُرِّيَّة وَالِده وَبَقِي الْملك مِنْهُم فِي عقبه وأنحاز كل من إخْوَته وَأَوْلَادهمْ إِلَيْهِ وعولوا فِي تمشية أُمُورهم عَلَيْهِ وَالْأَمر مُسْتَمر على ذَلِك فِي عقبه إِلَى الْآن وَالله تَعَالَى ولي الْإِحْسَان ثمَّ زَالَ ملك هَذَا الْبَيْت فِي صفر سنة ثَمَان وَخمسين وست مئة بِسَبَب غَلَبَة التتار الْكَفَرَة على الْبِلَاد {وَالله بَصِير بالعباد} وَمن كَلَام القَاضِي الْفَاضِل فِي جَوَاب كتاب ورد عَلَيْهِ مِنْهُ بعد موت السُّلْطَان مَتى رأى الْمَمْلُوك خطّ مَوْلَانَا طالعا فِي كتاب وطليعة على خطاب تمثل ذَلِك الشَّخْص الْكَرِيم وَذَلِكَ السُّلْطَان الْعَظِيم وَذَلِكَ الْخلق الْكَرِيم وَذَلِكَ الْعَهْد الْقَدِيم فحيي بعد مَوته وَسبح من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم وَرفع يَده بِمَا الله رافعه ودعا بِصَالح الله سامعه قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الْملك الْعَادِل مَعَ السُّلْطَان فِي الصَّيْد قبل وَفَاته وَكَانَ موافقه ومرافقه فِي مقتضياته فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق ودعه وَمضى إِلَى حصنه بالكرك فنابه النَّائِب وَلم يحضر وَقت احتضاره الْأَخ الْغَائِب فَلَمَّا عرف وصل إِلَى دمشق بعد أَيَّام وَلم يطلّ الْمقَام ورحل طَالبا لبلاده بالجزيرة حذرا عَلَيْهَا من أهل الجريرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 وَكَانَ السُّلْطَان جعل لَهُ كل مَا هُوَ شَرْقي الْفُرَات من الْبِلَاد والولايات فَلَمَّا وصل إِلَى الْفُرَات وجد مِمَّا خافه دَلَائِل الفترات فَأَقَامَ بقلعة جعبر وسير إِلَى الولايات الْوُلَاة ووصى برعاياه الرُّعَاة واستناب فِي ميافارقين وحاني وسميساط وحران والرها وشحنها بالشحن وَعلم العدى أَنه فِي خف فخفوا وعرضوا وصفوا وَكَانَ سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط قد استبشر بِمَوْت السُّلْطَان وتلقب بِالْملكِ النَّاصِر وَحدث أمله بجر العساكر وراسل صَاحِبي الْموصل وسنجار وطير إِلَيْهِم كتب الاستنفار وَضم إِلَيْهِ من ماردين ماردين وطار وطاش وارتاش وانتاش فَبينا هُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك قتلته الاسماعيلية بخلاط رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأول من بَدَأَ أمره بِالْخرُوجِ على بِلَاد السُّلْطَان مُتَوَلِّي ماردين وَنزل على حصن الموزر وَهَذَا الْحصن كَانَ السُّلْطَان اقتطعه عَن أَعمال ماردين حِين صَالح أَهلهَا وأضافه إِلَى نَائِبه بالرها ثمَّ تحرّك عز الدّين أتابك صَاحب الْموصل وَأَخُوهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار بنصيبين وَأَرْسلُوا إِلَى الْعَادِل تخرج من بِلَادنَا وَتدْخل فِي مرادنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 فَكتب إِلَى بني أَخِيه يستنجدهم ويستنفرهم فأنجدوه وَكَانَ إنجاد حلب أقرب وَتقدم ذكر نجدة الْأَفْضَل مَعَ أَخِيه الظافر ونجدة الْعَزِيز الْوَاصِلَة إِلَى دمشق بعد نجاز الْأَمر ووصلت المواصلة إِلَى رَأس عين والعادل بحران وتقارب العسكران حَتَّى إِن الطَّلَائِع تتواجه وتتجابه فَمَرض صَاحب الْموصل وَلم يطق الاقامة فَعَاد وَرجع عماد الدّين أَخُوهُ وتضرع صَاحب ماردين وَتشفع بالأمراء الأكابر فَرضِي الْعَادِل عَنهُ وبلغه قدوم ابْن أَخِيه الظافر إِلَى الْفُرَات فَكتب إِلَيْهِ بمنازلة سروج وَهِي من أَعمال ماردين وأمده بِابْن تَقِيّ الدّين وَابْن الْمُقدم فنزلوا عَلَيْهَا ثامن رَجَب وفتحوها تاسعه ورحل الْعَادِل منتصف رَجَب إِلَى الرقة وتسلمها ثمَّ تملك بلد الخابور جَمِيعه وَجَاء إِلَى نَصِيبين فَنزل بظاهرها وَشرع فِي ضم ذخائرها فَجَاءَت الرُّسُل الْعمادِيَّة فِي طلب الصُّلْح فَرَحل وَنزل دَارا وَأَتَاهُ وَفَاة صَاحب الْموصل وَتَسْلِيم بَلَده إِلَى وَلَده نور الدّين أرسلان شاه وَجرى بَينهم وَبَينه صلح ثمَّ كَاتبه أهل خلاط فَرَحل إِلَيْهَا فَرَأى أَن الْبرد يشْتَد وأمد الْحصار يَمْتَد فَعَاد إِلَى حران والرها وَأعْرض عَن مُخَالطَة خلاط وَتَأَخر إِلَى الرّبيع أمرهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 قَالَ وإقليم الْيمن مُسْتَقر للْملك ظهير الدّين سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان وَهُوَ هُنَاكَ سُلْطَان عَظِيم الشان مستول على جَمِيع الْبلدَانِ وَكَانَ قد وصل وَلَده مَعَ الْحَاج قبل وَفَاة السُّلْطَان بأيام فَلَمَّا اسْتَقر الْملك الْأَفْضَل على سَرِير أَبِيه كَاتب عَمه سيف الْإِسْلَام فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل وتتمة أَخْبَار هَذِه الْفِتْنَة بِبِلَاد الشرق قَالَ عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الْأَثِير لما وصل خبر وَفَاة صَلَاح الدّين إِلَى صَاحب الْموصل عز الدّين اسْتَشَارَ فِي الَّذِي يَفْعَله فَأَشَارَ عَلَيْهِ أخي مجد الدّين أَبُو السعادات بالاسراع فِي الْحَرَكَة وَقصد الْبِلَاد الجزرية فَإِنَّهَا لَا مَانع لَهَا مِنْهُ وَقَالَ مُجَاهِد الدّين قايماز لَيْسَ هَذَا بِرَأْي فَإنَّا نَتْرُك وَرَاءَنَا مثل الْمولى عماد الدّين صَاحب سنجار ومعز الدّين صَاحب الجزيرة ومظفر الدّين صَاحب إربل ونسير إِنَّمَا الرَّأْي أَنا نراسلهم ونستميلهم ونأخذ رَأْيهمْ وَنَنْظُر مَا يَقُولُونَ فَقَالَ أخي إِن كُنْتُم تَفْعَلُونَ مَا يشيرون بِهِ ويرونه فَاقْعُدْ فَإِنَّهُم لَا يرَوْنَ إِلَّا هَذَا لأَنهم لَا يؤثرون حركتكم وَلَا قوتكم إِنَّمَا الرَّأْي أَن يبرز هَذَا السُّلْطَان ويكاتبهم ويراسلهم ويستميلهم ويبذل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 لَهُم الْيَمين على مَا بِأَيْدِيهِم وَيُعلمهُم أَنه على الْحَرَكَة فَلَيْسَ فيهم من يُمكنهُ يُخَالف خوفًا من قصد ولَايَته لَا سِيمَا إِذا رَأَوْا جدة وخلو الْبِلَاد الجزرية من مَانع وَحَام فهم لَا يَشكونَ أَنه يملكهَا سَرِيعا فيحملهم ذَلِك على مُوَافَقَته وَمَتى أَرَادَ الْإِنْسَان أَن يفعل فعلا لَا تتطرق إِلَيْهِ الِاحْتِمَالَات بطلت أَفعاله إِنَّمَا إِذا كَانَت الْمصلحَة أَكثر من الْمضرَّة أقدم وَإِن كَانَ الْعَكْس أحجم فظهرت أَمَارَات الغيظ على مُجَاهِد الدّين فَسكت أخي لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ مخدوم الْجَمِيع على الْحَقِيقَة وَالْحَاكِم فيهم وَاتبع المرحوم يَعْنِي صَاحب الْموصل قَول مُجَاهِد الدّين وَأقَام بالموصل عدَّة شهور يراسل الْمَذْكُورين فَلم يَنْتَظِم بَينه وَبَين أحد مِنْهُم حَال غير أَخِيه عماد الدّين فَإِنَّهُمَا اتفقَا على قَوَاعِد اسْتَقَرَّتْ بَينهمَا فَإلَى أَن انْفَصل الْحَال وصل الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى حران وَأقَام هُنَاكَ وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة وحلب وامتنعت الْبِلَاد بِهِ وَسَار عز الدّين عَن الْموصل إِلَى نَصِيبين وَقد ابْتَدَأَ بِهِ إسهال قريب وَاجْتمعَ بهَا بأَخيه عماد الدّين وسارا فِي عساكرهما إِلَى تل موزن من شبختان لقصد الرها فَأرْسل الْعَادِل حِينَئِذٍ يطْلب الصُّلْح وَأَن تكون الْبِلَاد الجزرية الرها وحران والرقة وَمَا مَعهَا بِيَدِهِ على سَبِيل الاقطاع من عز الدّين فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 وَقَوي الْمَرَض بِهِ وَاشْتَدَّ إِلَى أَن عجز عَن الْحَرَكَة فَعَاد إِلَى الْموصل فِي طَائِفَة يسيرَة من الْعَسْكَر فَلَمَّا وصل دنيسررأى ضعفا شَدِيدا فأحضر أخي وَكتب وَصِيَّة ثمَّ سَار إِلَى الْموصل فوصلها مَرِيضا بالاسهال وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة قَالَ وَلم أسمع عَن أحد من النَّاس بِمثل حَاله فِي مَرضه فَإِنَّهُ كَانَ لَا يزَال ذَاكِرًا لله تَعَالَى حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا تحدث مَعَ إِنْسَان يقطع حَدِيثه مرَارًا وَيَقُول أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله وَأشْهد أَن الْمَوْت حق وَعَذَاب الْقَبْر حق وسؤال مُنكر وَنَكِير حق والصراط حق وَالْمِيزَان حق {وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَيَقُول لمن عِنْده يخاطبه أشهد لي بِهَذَا عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ يعود إِلَى حَدِيثه وأحضر عِنْده من يقْرَأ الْقُرْآن فَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل مُقَابل دَار المملكة وَهِي لِلْفَرِيقَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَكَانَت مَمْلَكَته نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ أسمر مليح الْوَجْه حسن اللِّحْيَة خَفِيف العارضين وَحكى لي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 وَالِدي قَالَ هُوَ أشبه النَّاس بجده الشَّهِيد قدس الله روحه قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله دينا خيرا قد ابتنى فِي دَاره مَسْجِدا يخرج إِلَيْهِ فِي اللَّيْل وَيُصلي أورادا كَانَت لَهُ ويلبس فرجية كَانَ قد أَخذهَا من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الصُّوفِي وَيُصلي فِيهَا وَكَانَ قد حج وَلبس بِمَكَّة حرسها الله خرقَة التصوف من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ من الصَّالِحين وَأوصى بِالْملكِ لِابْنِهِ نور الدّين أرسلان شاه وَأَرَادَ أَخُوهُ شرف الدّين بن مودود بن زنكي أَن يوليه فَلم يفعل وَبَقِي نور الدّين إِلَى سنة سبع وست مئة فَتوفي فِي شهر رَجَب مِنْهَا وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل حذاء دَار السلطنة وَكَانَ عهد بِالْملكِ لِابْنِهِ القاهر عز الدّين مَسْعُود وَجعل الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ الْقَائِم بِأَمْر دولته وولاه إِمَارَة الجيوش والعساكر وسياسة الْقَبَائِل والعشائر ثمَّ توفّي الْملك القاهر فِي ربيع الأول من سنة خمس عشرَة وست مئة فَجْأَة وَخلف ثَلَاثَة بَنِينَ صغَارًا قَالَ وَأما عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صهر نور الدّين رَحمَه الله وَهُوَ صَاحب سنجار فَإِنَّهُ توفّي فِي الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ عدله قد عَم الْبِلَاد وغمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 الْعباد وأريقت الْخُمُور وحد شاربها وَكَانَت صدقاته تصل إِلَى أقاصي الْبِلَاد وَتَوَلَّى بعده وَلَده الْأَكْبَر قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي وَكَانَ مُتَوَلِّي أمره مُجَاهِد الدّين يرنقش الْعِمَادِيّ قَالَ وحاضر الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب ماردين فِي سنة خمس وَتِسْعين فَبَقيَ محاصرا لَهَا أحد عشر شهرا وَلم يبْق إِلَّا الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فَبَيْنَمَا الْعَادِل يحاصرها إِذْ توفّي ابْن أَخِيه الْملك الْعَزِيز صَاحب مصر وَكَانَ عسكره مَعَ عَمه الْعَادِل على ماردين فَلَمَّا توفّي ملك أَخُوهُ الْأَفْضَل مصر وَكَانَ بَينه وَبَين عَمه الْعَادِل نفرة فَلَمَّا ملك مصر أرسل إِلَى الْعَسْكَر الْمصْرِيّ الَّذِي مَعَ عَمه يَأْمُرهُم بمفارقته ففارقوه وعادوا إِلَى مصر فَقل جمعه وَعَسْكَره ثمَّ خرج الْأَفْضَل من مصر عَازِمًا على حصر دمشق واستعادتها من عَمه فَسَار الْعَادِل عَن ماردين جَرِيدَة إِلَى دمشق ليحفظها بَعْدَمَا كَانَ قد طلع سنجقه إِلَى قلعة ماردين وَترك وَلَده الْملك الْكَامِل مُحَمَّدًا محاصرا لَهَا إِلَى أَن اجْتمع صَاحب سنجار وَصَاحب الْموصل على ترحيله عَنْهَا فَرَحل قَالَ وَفِي سنة سِتّ وست مئة سَار الْملك الْعَادِل بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى سنجار فِي العساكر الشامية والمصرية والجزرية والديار بكرية فحصرها وَنزل عَلَيْهَا من كل جَانب وَنصب أحد عشر منجنيقا ثَلَاثَة أشهر وانتخى صَاحب الْموصل وَصَاحب إربل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 لصَاحب سنجار وأنفذ الْخَلِيفَة رسله فَأصْلح الْأَمر وانتظم الصُّلْح وَللَّه الْحَمد فصل وَأما رِسَالَة الْعِمَاد الْكَاتِب الْمَعْرُوفَة بالعتبى والعقبى الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي آخر كتاب الْبَرْق فِيمَا جرى بعد وَفَاة السُّلْطَان إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين فقد وقفت عَلَيْهَا وَحَاصِل مَا فِيهَا أَن قَالَ لما توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله وملكت أَوْلَاده كَانَ الْعَزِيز بِمصْر يقرب أَصْحَاب أَبِيه ويكرمهم وَالْأَفْضَل بِدِمَشْق يفعل ضد ذَلِك يقرب الْأَجَانِب وَيبعد الْأَقَارِب وَأَشَارَ عَلَيْهِ بذلك جمَاعَة داروا حوله كالوزير الْجَزرِي الَّذِي استوزه قلت هُوَ الضياء ابْن الْأَثِير أَخُو عز الدّين المؤرخ ومجد الدّين أبي السعادات وَفِيه يَقُول الشهَاب فتيَان الشاغوري (مَتى أرى وزيركم ... وَمَا لَهُ من وزر) (يقلعه الله فَذا ... أَوَان قلع الجزر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 قَالَ الْعِمَاد فَلَمَّا طلب من الْأُمَرَاء أَن يحلفوا لَهُ أظهرُوا لَهُ أيمانا وهم قد أضمروا الْحِنْث فِيهَا وَلم يخف ذَلِك عَلَيْهِ وَلما رأى الْفَاضِل أُمُور الْأَفْضَل مختلة تَركه وَسَار إِلَى مصر وَشرع الْوَزير الْجَزرِي فِي تَفْرِيق الْعصبَة الناصرية وَمَا مِنْهُم إِلَّا من فَارق إِلَى الديار المصرية وَكَانَ قد أُشير على الْأَفْضَل باخلاء الْبَيْت الْمُقَدّس لنواب الْعَزِيز بِأَعْمَالِهِ حذرا عَلَيْهِ من تكاليفه وأثقاله فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَقد كَانَت نابلس وأعمالها قد وقف السُّلْطَان ثلثهَا على مصَالح الْقُدس وباقيها على ابْن الْأَمِير عَليّ بن أَحْمد المشطوب فشاركه أحد الْأُمَرَاء الأكراد فِيهِ فمدوا أَيْديهم إِلَى الْوَقْف وَسَاءَتْ سيرتهم وتخوفوا من إِنْكَار الْملك الْعَزِيز عَلَيْهِم فلجؤوا إِلَى الْأَفْضَل فأفضل عَلَيْهِم وَسكن إِلَيْهِم فتأثر الْملك الْعَزِيز لذَلِك وَأقوى الْأَسْبَاب فِيمَا حدث من النفار نفار الْأُمَرَاء الناصرية الْكِبَار ومفارقتهم دمشق إِلَى مصر على سَبِيل الِاضْطِرَاب والاضطرار فأعزهم الْعَزِيز ورفعهم فاتفقوا على أَن تكون كلمة الْإِسْلَام مجتمعة على الْملك الْعَزِيز لاحياء سنة وَالِده فِي الْجُود والبأس وَالْكَرم وَمن جملَة الْأَسْبَاب الباعثة تسلم الفرنج ثغر جبيل من بعض مستحفظيه وَضعف الْأَفْضَل عَن استخلاصه فَقيل للعزيز إِن توانيت استولت الفرنج على الْبِلَاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 فَخرج الْعَزِيز بعساكره وَبلغ الْأَفْضَل فَضَاقَ صَدره وَاجْتمعَ بِمن فِي خدمته من الْأُمَرَاء بِرَأْس المَاء وَأَرَادَ أَن يستعطف قايماز النجمي وَكَانَ فِي إقطاعه بِالسَّوَادِ وَكَانَ بَينه وَبَين الْأَفْضَل شقَاق وعناد فَأرْسل إِلَيْهِ فَلم يقبل ورحل إِلَى عَسْكَر الْعَزِيز وَرَأى الْأَفْضَل أَن يكْتب إِلَى أَخِيه بِكُل مَا يحب من إعلاء كَلمته والاجتماع عَلَيْهِ وَيكون الْأَفْضَل من بعض القائمين بَين يَدَيْهِ طلبا لتسكين الْفِتَن ورغبة فِي ذهَاب الاحن فأشير عَلَيْهِ بِغَيْر الصَّوَاب وَقيل أَنْت الْكَبِير وَإِلَيْك التَّدْبِير فجد واجتهد وَلَا تعلم أَصْحَابك بِهَذَا الخور الَّذِي داخلك والجبن الَّذِي نازلك وَنحن بَين يَديك وكلنَا عاقدون بالخناصر عَلَيْك وَوصل رَسُول الْملك الظَّاهِر والكتب من الْمُلُوك الأكابر بالانجاد المتظاهر للأفضل وسير الْأَفْضَل إِلَى عَمه الْعَادِل وَهُوَ بحران والرها كتبا ورسلا فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ سير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجيلي على نجيب ليسرع وَيَأْتِي بِهِ عَن قريب وَكتبه واصلة بعزمه على نَصره ونجدته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل جُمَادَى الْآخِرَة من شهور سنة تسعين وَلم يشْعر الْأَفْضَل إِلَّا والعزيز بعساكره قد وصل إِلَى الفوار فَعجل الرحيل وَقد خالطت عَسَاكِر الْعَزِيز ساقة جَيش الْأَفْضَل فأسرع وَدخل دمشق يَوْم الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى وَنزل الْعَزِيز يَوْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 السبت بالكسوة وَنزل على دمشق يَوْم الْأَحَد فَلم يزل الْأَفْضَل يمانع ويدافع حَتَّى وصل عَمه الْعَادِل فَكتب إِلَى الْعَزِيز يسْأَله الِاجْتِمَاع فتواعدا واجتمعا راكبين بصحراء المزة فعذله فِي أَخِيه واستنزله عَمَّا كَانَ فِيهِ فَقَالَ عَليّ رضاك وَاتِّبَاع هَوَاك فَقَالَ نفس عَن الْبَلَد الخناق وَكَانَ قد بلي الْبَلَد مِنْهُم بِمَا لَا يُطَاق من قطع الْأَنْهَار وقطف الثِّمَار فَتَأَخر الْعَزِيز إِلَى صوب داريا والأعوج وَكَانَ قد اجْتمع عِنْد الْأَفْضَل من الْمُلُوك عَمه الْعَادِل والمجاهد أَسد الدّين شيركوه بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بن شاذي صَاحب حمص والأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاذي صَاحب بعلبك والمنصور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب حماة ثمَّ وصل الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي بن السُّلْطَان فاتفقوا على عقد يُؤَكد وعهد يمهد ورحل الْعَزِيز إِلَى مرج الصفر لكَون الْمقَام بِهِ أرْفق فَمَرض حَتَّى أيس مِنْهُ ثمَّ أَفَاق وَأرْسل من جَانِبه الْأَمِير فَخر الدّين أياز جركس وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي هَذِه النّوبَة فوصل إِلَى الْعَادِل فِي تَعْدِيل الْأُمُور فتقرر بَينهم الصُّلْح وَتزَوج الْعَزِيز ابْنة عَمه الْعَادِل وَخرج الْمُلُوك لتوديع الْملك الْعَزِيز فِي أول شعْبَان وَاحِدًا بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وَاحِد فَخرج الظَّاهِر أَولا والتقيا وَنزلا بمرج الصفر وَبَات عِنْده لَيْلَة ثمَّ رَجَعَ وَخرج الْعَادِل ثمَّ الْأَفْضَل فَلَمَّا اجْتمع بأَخيه فَارقه وَمَا ثوى وَرجع كل إِلَى بَلَده وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق قضى حُقُوق الْجَمَاعَة وشكرهم ورحل الظَّاهِر صوب حلب رَابِع عشر شعْبَان وَأقَام الْعَادِل إِلَى تَاسِع شهر رَمَضَان ورحل إِلَى بَلَده الرها وحران ثمَّ إِن الْأَفْضَل نظم أبياتا يَكْتُبهَا إِلَى أَخِيه الْعَزِيز فِي استعطافه واستمالته وَقَالَ كنت فَارَقت أخي مذ تسع سِنِين وَمَا الْتَقَيْنَا إِلَّا فِي هَذِه السّنة (نظرتك نظرة من بعد تسع ... تقضت بالتفرق من سِنِين) (وغض الدَّهْر عَنْهَا طرف غدر ... مَسَافَة قرب طرف من جبين) (وَعَاد إِلَى سجيته فَأجرى ... بفرقتنا الْعُيُون من الْعُيُون) (فويح الدَّهْر لم يسمح بوصل ... يعود بِهِ الهجوع إِلَى الجفون) (فراقا ثمَّ يعقبه ببين ... يُعِيد إِلَى الحشا عدم السّكُون) (وَلَا يُبْدِي جيوش الْقرب حَتَّى ... يرتب جَيش بعد فِي كمين) (وَلَا يدني محلي مِنْك إِلَّا ... إِذا دارت رحى الْحَرْب الزبون) (فليت الدَّهْر يسمح لي بِأُخْرَى ... وَلَو أمضى بهَا حكم الْمنون) قَالَ ثمَّ كثر الشَّرّ مِمَّن حول الْأَفْضَل فِي حق الْأُمَرَاء الْكِبَار ذَوي الأقدار فأنفوا من ذَلِك وأزمعوا على الِانْفِصَال لسوء تِلْكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 الْحَال فَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر عز الدّين سامة وحرض الْعَزِيز على الْقيام لنصرة الدولة الناصرية وعرفه أَن أَخَاهُ الْأَفْضَل مسلوب الِاخْتِيَار مَعَ من حوله من الأشرار وَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن أبي عصرون وَتَوَلَّى بعد أشهر قَضَاء الْقُضَاة بِمصْر وأعمالها وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين فاستمرت ولَايَته إِلَى أَن عَاد الْعَزِيز من الشَّام وَتَبعهُ الْعَادِل فَصَرفهُ وَأعَاد الْقَضَاء إِلَى زين الدّين عَليّ بن شرف الدّين يُوسُف الدِّمَشْقِي وَكَانَ نَائِبا لصدر الدّين عبد الْملك بن عِيسَى بن درباس ثمَّ اسْتَقل ثمَّ عزل بِابْن أبي عصرون ثمَّ أُعِيد إِلَيْهِ وَكَانَ الْأَفْضَل قد اشْتغل بعد انصراف أَخِيه باللذات وتشاغل عَن أُمُور النَّاس بادمان الشَّرَاب مَعَ من حوله من الْأَصْحَاب ثمَّ أقلع عَن ذَلِك وَتَابَ وجد فِي الذّكر والزهد وأناب وَشرع فِي كتب مصحف بِخَطِّهِ وَحسنت طَرِيقَته وَظَهَرت حَقِيقَته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَفِي هَذِه السّنة فِي ربيع الآخر وصل الْخَبَر بِأَن الْعَزِيز قادم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 لحصر دمشق ثَانِيَة فَاشْتَدَّ غم الْأَفْضَل فأشير عَلَيْهِ بِأَن يرحل إِلَى عَمه الْعَادِل وَيَأْتِي بِهِ لدفع هَذَا الْقَضَاء النَّازِل فَرَحل رَابِع عشر جُمَادَى الأولى والتقى بِعَمِّهِ بصفين وَطلب مِنْهُ الرُّجُوع مَعَه إِلَى دمشق فَفعل وَوصل الْعَادِل إِلَيْهَا تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وتخلف عَنهُ الْأَفْضَل وَقد قصد حلب للاستظهار بأَخيه الظَّاهِر فوثق مَعَه الْأَيْمَان على مَا كَانَا عَلَيْهِ من الصفاء وَكَذَلِكَ فعل بِابْن تَقِيّ الدّين بحماة وَوصل إِلَى دمشق وَاجْتمعَ مَعَ عَمه الْعَادِل وَكَانَ الْعَادِل أبدا يُشِير بِصَرْف الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قد استولى على الْأَفْضَل فَلم يقبل فَكَانَ الْعَادِل أبدا مغتما لذَلِك فَبَالغ الْأَفْضَل فِي إكرام عَمه وَإِزَالَة غمه حَتَّى ترك لَهُ سنجقه وَصَارَ يركب فِي خدمَة عَمه وضاق أَخُوهُ الظافر من هَذِه الْحَال وَكَانَ الظَّاهِر قد نفر عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمُلُوك والأمراء مِمَّن هم فِي طَاعَته من جُمْلَتهمْ صَاحب حماة وَعز الدّين بن الْمُقدم صَاحب بارين فراسلا الْعَادِل فِي الِاعْتِصَام بِهِ وَكَانَ من جَمَاعَتهمْ بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق صَاحب تل بَاشر فاعتقله الظَّاهِر وَبني عَمه وَطلب مِنْهُ تَسْلِيم حصنه فشفع الْعَادِل فيهم وكفل أَنه يَكفهمْ ويكفيهم واستصحبهم إِلَى دمشق فَطلب مِنْهُ الظَّاهِر الْوَفَاء بضمانه فَتعذر عَلَيْهِ ردهم وتيسر لَهُ ودهم فَغَضب الظَّاهِر لذَلِك وراسل الْعَزِيز يحثه على الاسراع فِي الْقدوم فَأقبل الْعَزِيز وخيم بالفوار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 وَشرع الْعَادِل فِي تَدْبِير أُمُور الْأَفْضَل فكاتب الْأُمَرَاء الأَسدِية من أَصْحَاب الْعَزِيز يحثهم على تَركه والانقطاع إِلَى حزب الْأَفْضَل وسلكه وَكَانَت الأَسدِية أبدا فِي عناء من تقدم الناصرية عَلَيْهَا وراسل الْعَادِل أَيْضا الْعَزِيز بخوفه من قبل الأَسدِية ويعرفه مَا انطوت عَلَيْهِ قُلُوبهم من الغل فَكَانُوا إِذا لَقِيَهُمْ عرفُوا فِي وَجهه التَّغَيُّر عَلَيْهِم فرغبوا عَنهُ وحسنوا للأكراد مرافقتهم فِي الِانْصِرَاف عَنهُ فَفَعَلُوا وَكَانَ أَمِير أُمَرَاء الأكراد أَبُو الهيجاء السمين فدارت الأكراد حوله وَقَالُوا لَا نَأْمَن عَلَيْك من الناصرية فأبرموا أَمرهم وعجلوا رحيلهم فَرَحل أَبُو الهيجاء والمهرانية والأسدية عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ رَابِع شَوَّال وَكَانُوا أَكثر الْعَسْكَر وَعلم الْعَزِيز بهم فَمَا بالى بانصرافهم وَقَالَ صُفُونا من أكدارهم وَلم يَأْمر أَصْحَابه باتبَاعهمْ وردهم وَبَقِي فِي خواصه مُقيما فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ رَحل عَائِدًا إِلَى مصر فجَاء رَسُول أبي الهيجاء السمين إِلَى الْعَادِل يُعلمهُ برحيل الْعَزِيز خَائفًا ويأمره بالقدوم ليلحقوه ويأخذوه ويتسلموا ملك الديار المصرية فتحالف الْعَادِل وَالْأَفْضَل على ملك مصر على أَن يكون للعادل الثُّلُث وللأفضل الثُّلُثَانِ وخرجا يَوْم الْأَرْبَعَاء فِي الجيوش واستناب الْأَفْضَل بِدِمَشْق أَخَاهُ الْأَصْغَر قطب الدّين مُوسَى وَأما الْعَزِيز فَإِنَّهُ سَار وَأخذ طَرِيق اللجون والرملة وَفرق من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 الأَسدِية الَّذين بِالْقَاهِرَةِ أَن يَفْعَلُوا فعل إخْوَانهمْ فيمنعوه من دُخُول الْبَلَد وَكَانَ مقدمهم الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ أكبر الْأُمَرَاء الأَسدِية قد استنابه الْعَزِيز بالديار المصرية فَهُوَ مُقيم على الصفاء والمودة وإلاخاء فَلَمَّا وصل الْعَزِيز تلقوهُ وَإِلَى ذرْوَة سلطنته رقوه وَأما الْعَادِل وَالْأَفْضَل فاجتمعا بالمتخلفين عَن الْعَزِيز وحرصت الأَسدِية أَن يسْبقُوا الْعَزِيز فَلم يقدروا واجتهدوا أَن يدركوه ويتقدموا فتأخروا فَأَمرهمْ الْعَادِل بالثبات وتسلم الْقُدس وأعماله وَمَا يجاوره من أَعمال السَّاحِل أَبُو الهيجاء السمين بِأَمْر الْأَفْضَل والعادل فرتب فِيهَا نوابه وأسكنها أَصْحَابه وصحبهم إِلَى الديار المصرية لمحالفة الأَسدِية وَمُخَالفَة الناصرية فَنزل الْعَادِل بهم على بلبيس وَكَانَ أَوَان أَخذ زِيَادَة النّيل فِي الِانْتِهَاء والسعر غال وَظَهَرت ندامة الأَسدِية وضعفت معونتهم وضوعفت مؤونتهم فخاف من مَكْرهمْ والعدول إِلَى مستقرهم فَأرْسل إِلَى القَاضِي الْفَاضِل يستوفده للاستزارة ويسترشده بالاستشارة فألزمه الْعَزِيز باجابة سُؤَاله فَخرج إِلَيْهِ واستبشر النَّاس بِخُرُوجِهِ رَجَاء الصُّلْح وَركب الْعَادِل وتلقاه على فراسخ واجتمعا وأصلحا الْأُمُور على مَا يحب الْفَرِيقَانِ وَعَفا الْعَزِيز عَن الأَسدِية وَأقَام الْعَادِل عِنْد الْعَزِيز وَأما الْأَفْضَل فَإِن الْعَزِيز خرج إِلَيْهِ وودعه فَانْصَرف وَمَعَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 أَبُو الهيجاء السمين وَتَوَلَّى الْقُدس وَوصل الْأَفْضَل إِلَى دمشق غرَّة الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين ثمَّ إِن الْأَفْضَل لَازم صِيَامه وقيامه وقلل شرابه وَطَعَامه وَحسن شعاره واستوى ليله ونهاره ووزيره الْجَزرِي قد بلي النَّاس مِنْهُ ببلايا وَهُوَ فِي غَفلَة عَن تِلْكَ القضايا وَكَانَ يدْخل إِلَيْهِ ويوهمه من قبل أَقوام أَنهم عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يميلون إِلَى أَخِيه فيصدقه الْأَفْضَل فِيمَا يَدعِيهِ فَصَارَ يبلغ الْعَادِل عَنهُ أَحْوَال مَا تعجبه بل تغضبه وَصَارَ يتَّصل بِهِ كل من هَاجر من الشَّام إِلَى مصر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من يشكو من الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قايماز النجمي قد لصق بالعادل وَكَذَلِكَ عز الدّين سامة وصاهر الْعَادِل وَظَاهره وَكَانَ الْعَادِل بِمصْر مستوطنا للقصر فوعد الْجَمَاعَة بازالة يَد الْوَزير الْجَزرِي ورده إِلَى بِلَاده وَقرر مَعَ الْعَزِيز تسيير عسكره مَعَه إِلَى الشَّام ليمهد لَهُ قَاعِدَة الْملك فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام فَأخْرج الْعَادِل العساكر إِلَى بركَة الْجب وَخرج الْعَزِيز لتشييعه وَذَلِكَ مستهل ربيع الأول وَوصل الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد من حلب إِلَى أَخِيه الْعَزِيز من جَانب الظَّاهِر لتسكين هَذَا الرهج الثائر وَمَعَهُ سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَالْقَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 ثمَّ إِن الْعَادِل أَشَارَ على الْعَزِيز بِأَن يُوَافقهُ على الْمسير ويرافقه فِيهِ فَرَآهُ عين التَّدْبِير فسارا بالعساكر نَحْو الشَّام وَلما انصرفت رسل الظَّاهِر من مصر بِمَا طلبُوا مروا بِدِمَشْق فأعلموا الْملك الْأَفْضَل بِمَا أبرم من الْأَمر فَضَاقَ صَدره وَطَالَ فكره وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه فَأَشَارَ عَلَيْهِ شُيُوخ الدولة بِأَن يسْتَقْبل أَخَاهُ وَعَمه وَيسلم لَهما حكمه وَأَشَارَ الْجَزرِي وَأَصْحَابه بالتصميم على مُخَالفَة وَترك المجاملة والملاطفة ثمَّ دخل عَلَيْهِ أَخُوهُ الْملك الظافر خضر فشجعه وَصَبره وَتَوَلَّى أَسبَاب التحصين وحلفوا الْأُمَرَاء والمقدمين وَقَطعُوا مَا فَوق الْمصلى عِنْد مَسْجِد فلوس بفصيل ورتبوا رجَالًا حوالي الْبَلَد يتناوبون لحفظه فِي البكرة والأصيل وتفرق الْأُمَرَاء على الأسوار والأبراج وَجَاءَت الرُّسُل الظَّاهِرِيَّة لاظهار المظاهرة وَندب الْأَفْضَل فلك الدّين أَخا الْعَادِل إِلَيْهِ مِنْهُ رَسُولا فوصل إِلَى الْعَسْكَر العزيزي بالداروم وغزة وَلَقي عِنْد الْعَزِيز من قبُوله الْعِزَّة فَبَقيَ فلك الدّين هُنَاكَ أَيَّامًا فِي إصْلَاح ذَات الْبَين وَلَا شكّ أَنهم اشترطوا على الْأَفْضَل شُرُوطًا وردوه بهَا وَأَقَامُوا ينتظرون الْجَواب فنفذ من ذكر أَن الْأَفْضَل أَبى ذَلِك فَلَمَّا رأى الأكابر وشيوخ الدولة أَن الْأَفْضَل لَا يسمع من رَأْيهمْ وَأَنه عازم على الْمُحَاربَة وَلَا يعدل عَن رَأْي وزيره مَعَ مَا قد عرفه من شُؤْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 تَدْبيره شرعوا فِي إصْلَاح أُمُورهم فِي الْبَاطِن فراسلوا الْعَزِيز والعادل وَاسْتظْهر كل لنَفسِهِ وَأقَام الْعَسْكَر مذ عَاشر رَجَب على الْبَلَد مستظهرا بِالْعدَدِ وَالْعدَد لَا يحدث حَدثا وَلَا يعبث بِالْبَلَدِ إِلَّا عَبَثا فَكتب الْأَوْلِيَاء من الْبَلَد إِلَى الْعَزِيز والعادل بانتهاز الفرصة فَرَكبُوا وتأهبوا يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَاقُوا فَمَا صدهم عَن قصد الْبَلَد أحد وَمَا كَانَ فِي طريقهم إِلَّا الْملك الظافر وَمَعَهُ عَسْكَر حلب فقاتل على ظن قتال الْجَمَاعَة وَمَا عِنْده علم بِمَا دبروه من المخامرة فجاوزا وَلم يكترثوا وَوصل الْعَزِيز إِلَى الميدان الْأَخْضَر وَوصل الْعَادِل إِلَى بَاب توما وَكَانَ الْأَمِير الْأمين بِهِ قد استنهضه إِلَيْهِ بكتبه ففتحه لَهُ فَدخل الْعَادِل وَأَصْحَابه من بَاب توما وَالْبَاب الشَّرْقِي وَبَات الْعَادِل فِي الدَّار الأَسدِية وَدخل الْعَزِيز من بَاب الْفرج وَبَات فِي دَار عمته الحسامية وَخرج إِلَيْهِ الْأَفْضَل ولقيه وتجرع من هم زَوَال ملكه مَا سقيه فَلَمَّا ملك الْعَزِيز دمشق أَقَامَ أَيَّامًا بالميدان الْأَخْضَر الْكَبِير إِلَى أَن انْتقل الْأَفْضَل من القلعة بأَهْله وَأَصْحَابه وَأخرج وزيره الْجَزرِي مخفيا فِي صناديقه إشفاقا عَلَيْهِ من قَتله وتحريقه وتحول الْأَفْضَل تِلْكَ الْأَيَّام إِلَى مَسْجِد خاتون وَمَا يجاوره وَمَعَهُ وزيره فهرب لَيْلًا إِلَى بِلَاده وَقد ادخر فِيهَا أَمْوَال دمشق وأعمالها ثَلَاث سِنِين قَالَ وَكَانَ الْعَزِيز قرر مَعَ الْعَادِل أَن يُقيم الْعَزِيز بِدِمَشْق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 ويستنيب الْعَادِل بِمصْر فَلَمَّا ملك دمشق نَدم على مَا قَرَّرَهُ وَرجع عَمَّا دبره وَنفذ إِلَى أَخِيه الْأَفْضَل فِي السِّرّ يعْتَذر إِلَيْهِ وَيُشِير عَلَيْهِ بِمَا كَانَ اشْترط عَلَيْهِ فأظهر الْأَفْضَل هَذَا السِّرّ لصحبه والمخصوصين بِقُرْبِهِ فَقَالُوا لَا تنخدع بِهَذَا القَوْل فَرُبمَا كَانَت خديعة وأطلع عمك الْعَادِل على هَذَا السِّرّ فَإِنَّهُ يرى ذَلِك عين الْبر فَأرْسل إِلَى الْعَادِل من أعلمهُ بذلك فعزت عَلَيْهِ مراسلة الْعَزِيز الْأَفْضَل وَاجْتمعَ بالعزيز وعتبه وقرعه بِمَا أنبىء بِهِ وأنبه وَقَالَ أبني وتهدم وأوجد مصالحك وتعدم فَأنْكر الْحَال وأحالها وانتقض الْأَمر قبل إبرامه وَوجه إِلَى الْأَفْضَل من أزعجه وَإِلَى صرخد أخرجه وسد طَرِيق الاستنصار على أَخِيه الظافر حَتَّى أسلم فِي تَسْلِيم بصرى الظفر بسلامته وبذلها وَلم يتبعهَا بندامته ورحل إِلَى حلب وَأظْهر الظَّاهِر الاحتفال بِهِ وَأما الْأَفْضَل فَإِنَّهُ سَار إِلَى قلعة صرخد وسكنها وحول أَهله وأخاه قطب الدّين إِلَيْهَا وتوطنها وَعند خُرُوج الْأَفْضَل من قلعة دمشق دخل الْعَزِيز إِلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع شعْبَان وَجلسَ يَوْم الْجُمُعَة فِي دَار الْعدْل واعتقد النَّاس أَنه يطول مقَامه عِنْدهم فَلم يشعروا بِهِ إِلَّا وَقد برز للرحيل وَتقدم إِلَى الْعَادِل بِأَن يتَوَلَّى الْبِلَاد وَفَارق دمشق عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ تَاسِع الشَّهْر وَنزل بالمخيم فَوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 مَسْجِد الْقدَم ثمَّ تحول إِلَى الْكسْوَة وودعه بهَا يَوْم السبت رَابِع عشر الشَّهْر فَلَمَّا عَاد الْعَادِل من وداع الْعَزِيز قرىء بالجامع منشورة العزيزي بالبلاد والأعمال وَالنَّظَر فِي جَمِيع الْأَحْوَال وأشاع أَنه نَائِب الْعَزِيز وَهُوَ سُلْطَانه وَأبقى الْخطْبَة باسم الْعَزِيز خَالِيَة من اسْمه حَالية برسمه وَضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم على سكته وَأظْهر أَنه قوي بشوكته وشكته وَجلسَ يومي الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس للعدل وَبسط يَده لجمع الْأَمْوَال وخزنها لوقت عُمُوم الْحَاجة إِلَى صرفهَا فصل هَذَا آخر مَا انطوت عَلَيْهِ رِسَالَة العتبى من أَخْبَار مَا جرى بعد موت السُّلْطَان رَحمَه الله وللعماد أَيْضا كتاب آخر سَمَّاهُ نحلة الرحلة ذكر فِيهِ أَيْضا نَحوا من ذَلِك وَهُوَ أَن الْأَحْوَال اختلت وتغيرت بعد موت السُّلْطَان وَأَرَادَ الْعِمَاد الرحيل إِلَى مصر فأصحبه الْأَفْضَل رِسَالَة إِلَى أَخِيه الْعَزِيز فَمضى إِلَيْهِ وَعِنْده عَمه الْعَادِل فَلم يتَمَكَّن من الرُّجُوع إِلَّا مَعَهُمَا لما خرجا بالعساكر فَذكر الحَدِيث فِي أَخذ الْبَلَد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 قَالَ وَخرج الْملك الْأَفْضَل وَاجْتمعَ بالعزيز فِي الميدان ودخلا من بَاب الْفرج متصاحبين إِلَى الضريح الناصري وَصعد الْعَزِيز القلعة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَصلى هَذِه الْجُمُعَة عِنْد ضريح وَالِده فِي هَيْئَة الْمُودع وَأظْهر بالبكاء والنحيب عِنْده سر الْقلب الموجع وَدخل دَار الْأَمِير أُسَامَة فِي جوَار تِلْكَ الْقبَّة وَأمر القَاضِي محيي الدّين بن الزكي بِأَن يبنيها مدرسة للتربة قلت هِيَ الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بالعزيزية ووقفها قَرْيَة عَظِيمَة تعرف بمحجة فَهَذَا قدر مَا فِي كتاب النحلة مِمَّا يتَعَلَّق بهما نَحن فِيهِ وَلم يكن ذكر مثل هَذَا من شَرط كتَابنَا هَذَا لانه مَوْضُوع للدولتين النيرتين إِلَّا أَنه لَا بُد من ذكر مَا يتَعَلَّق يهما مِمَّا وَقع فيهمَا وعقبيهما وتبعنا الْعِمَاد فِيمَا ذكر فِي العتبى لكَونه أَشَارَ إِلَيْهَا فِي كتاب الْبَرْق واستوفينا مَا فِي كتاب الْبَرْق وَالْفَتْح الْقُدسِي والتاريخ الأتابكي وَكتاب القَاضِي أبي المحاسن وأتينا على مَا فِيهَا من المحاسن واتصاف إِلَى ذَلِك قِطْعَة كَبِيرَة من مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة كَثِيرَة من عدَّة مصنفات ودواوين ومراسلات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 وَالله تَعَالَى يوفق مُلُوكنَا للاقتداء بسيرة سلفنا فِي إِقَامَة فرض الْجِهَاد وتخليص الْبِلَاد من أَيدي الْكَفَرَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْعباد وَمن كتاب فاضلي أما هَذَا الْبَيْت فَإِن الْآبَاء مِنْهُ اتَّفقُوا فملكوا وَإِن الْأَبْنَاء مِنْهُم اخْتلفُوا فهلكوا وَإِذا غرب نجم فَمَا فِي الْحِيلَة تشريقه وَإِذا بَدَأَ خريق ثوب فَمَا يَلِيهِ إِلَّا تمزيقه وهيهات أَن يسد على قدر طَرِيقه وَقد قدر طروقه وَإِذا كَانَ الله مَعَ خصم على خصم فَمن كَانَ الله مَعَه فَمن يطيقه فصل بعد انْتِهَاء هَذَا الْكتاب وإسماعه مرّة وقفت على مَا حسن لي إِلْحَاقه بِهَذَا الْكتاب من ذَلِك أَن القَاضِي الْفَاضِل كتب فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين إِلَى القَاضِي محيي الدّين بن الزكي كتابا قَالَ فِيهِ وَمِمَّا جرى فِي هَذِه الْمدَّة من المثلات الْجَارِيَة والمعضلات العادية بَأْس من الله طرق بياتا وَنحن نيام وَظن النَّاس أَن الْيَوْم الْمَوْعُود قد طرق فِي اللَّيْل الْمَمْدُود فَإِذا هم قيام إِن الله تَعَالَى أَتَى بساعة كالساعة كَادَت تكون للدنيا كساعة فِي الثُّلُث الأول من لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشري جُمَادَى الْآخِرَة وَذَلِكَ أَنه أَتَى عَارض فِيهِ ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة ورياح عَاصِفَة قوي ألهوبها وَاشْتَدَّ هبوبها وَارْتَفَعت لَهَا صعقات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 وتدافعت لَهَا أَعِنَّة مطلقات فرجفت لَهَا الجدران واصطفقت وتلاقت على بعْدهَا واعتنقت وثار من السَّمَاء وَالْأَرْض عجاج فَقيل لَعَلَّ هَذِه على هَذِه قد انطبقت وتوالت البروق من جِهَة المقطم على نظام وَتبع الْوَاحِدَة الْأُخْرَى وتقفى الثَّانِيَة على أثر الأولى وَترى البروق واقفة وَهِي تتعاقب وقائمة وَهِي تتجاذب وَلَا تحسب إِلَّا أَن جَهَنَّم قد سَالَ مِنْهَا وَاد وَعدا مِنْهَا عَاد وَزَاد عصف الرّيح إِلَى أَن انطفأت سرج النُّجُوم ومزقت أَدِيم السَّمَاء ومحت مَا كَانَ فَوْقه من الرقوم وَلَا تزَال هَذِه الرّيح تسكن سكونا خَفِيفا ثمَّ تعاود عودا عنيفا فَكُنَّا كَمَا قَالَ الله تعاى {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} وكما قُلْنَا ويردون أَيْديهم على أَعينهم من البوارق لَا عَاصِم من الخطف للأبصار وَلَا ملْجأ من الْخطب إِلَّا معاقل الاسْتِغْفَار وفر النَّاس رجَالًا وَنسَاء وَأَطْفَالًا ونهضوا من دُورهمْ خفافا وثقالا لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا إِذْ يستغيثون رَبهم ويذكرون ذنبهم لَا يستغربون الْعَذَاب لانهم على موجباته مصرون وَفِي وَقت وُقُوع واقعاته باستحقاقه مقرون معتصمين بالمساجد الجامعة ومتلقين الْآيَة النَّازِلَة من السَّمَاء بالأعناق الخاضعة بِوُجُوه عانية ونفوس عَن الْأَمْوَال والأهل سالية {ينظرُونَ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 من طرف خَفِي) ويتوقعون أَي خطب جلي قد انْقَطَعت من الْحَيَاة علقهم وعميت عَن النجَاة طرقهم وَوَقعت الفكرة فِيمَا هم عَلَيْهِ قادمون وندموا وَنَحْمَد الله أَن نفعهم بِأَنَّهُم نادمون وَقَامُوا إِلَى صلَاتهم وودوا أَن لَو كَانُوا من الَّذين عَلَيْهَا دائمون وَلم يزل ذَلِك دأبهم كلما سكنت الرِّيَاح تحركت وَكلما قيل اسْتَقَلت بَركت وَكلما أخذت قيل مَا تركت حَتَّى الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة والقلوب إِلَى الْحَنَاجِر بَالِغَة والأبصار عَن سننها زائغة إِلَى أَن أذن الله فِي الركود وأسعف الهاجدين بِالْأَمر لَهَا بالهجود وَأصْبح كل يسلم على رَفِيقه ويهنيه بسلامة طَرِيقه وَيرى أَنه قد بعث بعد النفخة وأفاق بعد الصَّيْحَة والصرخة وَأَن الله قد رد لَهُ الكرة وأدبه بعد أَن كَاد يَأْخُذهُ على الْغرَّة وَورد من الْخَبَر أَن المراكب كسرهَا مَا كَانَ مُعْتَرضًا مِنْهَا فِي الْبَحْر للعارض وَالْأُصُول العادية من الشّجر عدت عَلَيْهَا الرّيح بحماها النافض وَأَن فِي الطّرق من الْمُسَافِرين من كَانَ نَائِما فدفنته الرِّيَاح حَيا وَركب فَمَا أغْنى عَنهُ الْفِرَار مِمَّا هُوَ أَمَامه شيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 وَلَا يحْسب الْمجْلس أَنِّي أرْسلت الْقَلَم محرفا وَالْقَوْل مجزفا فَالْأَمْر أعظم وَلَكِن الله سلم والخطب أشق وَمَا بلغت وَلَا قضيت بِهَذَا التكثير بعض الْحق ونرجوا أَن الله سُبْحَانَهُ قد أيقظنا بِمَا وعظنا وَنَبَّهنَا بِمَا ولهنا فَمَا من عبَادَة من رأى الْقِيَامَة عيَانًا وَلم يلْتَمس عَلَيْهَا من بعده برهانا إِلَّا أهل بِلَادنَا فَمَا اقْتصّ الْأَولونَ مثلهَا فِي المثلات وَلَا سبقت لَهَا سَابِقَة فِي المعضلات وَالْحَمْد لله الَّذِي من فَضله أَن جعلنَا نخبر عَنْهَا وَلَا تخبرعنا ونسأل الله أَن يصرف عَنَّا عَارض الْحِرْص والغرور إِذا عَنَّا وشغلت خدمته بِهَذَا المهم وَجَعَلته على علم من هَذَا الْعلم فالسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ وَقد كَانَت لنا وَفينَا الموعظة وللذكرى حُدُود ونعوذ بِاللَّه من إِقَامَة حُدُودهَا الْمُغَلَّظَة وَمن كتاب لَهُ آخر إِلَى الْعَادِل فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين أَيْضا وَقد تجدّد من وصال الْعَدو اللعين وحركته إِلَى جَانب بيروت وخطره الْبِلَاد مَا أذهل كل مرضعه وأوقع فِي ضائقة تنْفق الأفكار فِيهَا من سَعَة وللإسلام الْيَوْم قدم إِن زلت زل وهمة إِن قلت فَإِن النَّصْر مِنْهُ مل وَتلك الْقدَم الْقدَم العادلية وَتلك الهمة الهمة الْمُسَابقَة السيفية فَالله الله ثبتوا ذَلِك الْفُؤَاد ودمثوا ذَلِك المهاد واسهروا فِي الله فَلَيْسَتْ بليلة رقاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 وَلَا ينظر فِي حَدِيث زيد وَلَا عَمْرو وَلَا أَن فلَانا نفع وَلَا ضرّ وَلَا أَن من الْجَمَاعَة من جَاءَ وَلَا أَن فيهم من مر انْظُرُوا إِلَى أَنكُمْ الْإِسْلَام كُله قد برز إِلَى الشّرك كُله وأنكم ظلّ الله فَإِن صححتم تِلْكَ النِّسْبَة فَإِن الله لَا نَاسخ لظله واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين وَلَا تهنوا وَإِن ذهب النَّاصِر فان الله خير الناصرين فَمَا هِيَ إِلَّا غمرة وتنجلي وهيعة وتنقضي وَلَيْلَة وتصبح وتجارة وتربح وَمن كتاب لَهُ آخر إِلَى الْملك الْعَادِل أدام الله ذَلِك الِاسْم تاجا على مفارق المنابر والطروس وحياة للدنيا وَمَا فِيهَا من الأجساد والنفوس وَعرف الْمَمْلُوك مَا عرفه بِهِ من الْأَمر الَّذِي اقتضته الْمُشَاهدَة وحرست بِهِ الْعَاقِبَة فِي بيروت وَلَا مزِيد على تَشْبِيه الْحَال بقوله (ألم تَرَ أَن الْمَرْء تدوى يَمِينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره) وَلَو كَانَ فِيهَا تَدْبِير لَكَانَ مَوْلَانَا قد سبق إِلَيْهِ وَمن قلم من الاصبع ظفرا فقد جلب إِلَى الْجَسَد بِفِعْلِهِ نفعا وَدفع عَنهُ ضرا (وتجشم الْمَكْرُوه لَيْسَ بضائر ... مَا خلته سَببا إِلَى الْمَحْمُود) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 وَآخر كل شتوة أول كل غَزْوَة فَلَا يسأم مَوْلَانَا نِيَّة الرِّبَاط وفعلها وتجشم الكلف وَحملهَا فَهُوَ إِذا صرف وَجهه إِلَى وَجه وَاحِد وَهُوَ وَجه الله صرف الله إِلَيْهِ الْوُجُوه كلهَا {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ} وَمن الْكتاب لَهُ آخر هَذِه الْأَوْقَات الَّتِي أَنْتُم فِيهَا عرائس الْأَعْمَار وَهَذِه النَّفَقَات الَّتِي تجْرِي على أَيْدِيكُم مُهُور الْحور فِي دَار الْقَرار وَمَا أسعد من أودع يَد الله مَا فِي يَدَيْهِ فَتلك نعم الله عَلَيْهِ وتوفيقه الَّذِي مَا كل من طلبه وصل إِلَيْهِ وَسَوَاد العجاج فِي هَذِه المواقف بَيَاض مَا سودته الذُّنُوب من الصحائف فَمَا أسعد تِلْكَ الوقفات وَمَا أَعُود بالطمأنينة تِلْكَ الرجفات فصل وللعماد الْكَاتِب رَحمَه الله كتاب آخر سَمَّاهُ خطْفَة البارق وعطفة الشارق ذكر فِيهِ أَشْيَاء من حوادث سنة ثَلَاث وَتِسْعين إِلَى أَن توفّي هُوَ رَحمَه الله فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة واشتمل ذَلِك على فَوَائِد تتَعَلَّق بِمَا تقدم فَأَحْبَبْت إلحاقها بِهِ من ذَلِك وَفَاة سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب بِالْيمن فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتَوَلَّى ابْنه شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 هَذَا وَالْملك الْعَادِل بِدِمَشْق وَقد انْتقل الْملك الظافر إِلَى حلب بعد أَخذ عَمه مِنْهُ بصرى وعزم على قصد بَغْدَاد فَصَرفهُ أَخُوهُ الظَّاهِر عَن ذَلِك وَذهب الْأَمِير أَبُو الهيجاء السمين إِلَى بَغْدَاد بِأَصْحَابِهِ فَأكْرم ثمَّ سير فِي جَيش إِلَى همذان ثمَّ بعد رُجُوعه مَاتَ بدقوقا وَانْقَضَت مُدَّة هدنة الفرنج الَّتِي عقدوها مَعَ الْملك النَّاصِر رَحمَه الله فَخَرجُوا والتقوا مَعَ الْملك الْعَادِل بِرَأْس الْعين بمرج عكا فكسرهم وَفتح يافا عنْوَة وَكَانُوا كاتبوا ملك الألمان وَكَانَ قد ملك صقلية فأنهوا إِلَيْهِ تِلْكَ البلية وَقَالُوا إِن عِظَام أَبِيه إِلَى الْآن فِي صور فِي تَابُوت مكلل بالديباج وَكَأَنَّهُ فِي الْأسر منتظر الافراج فَإِنَّهُ لَا يقبر إِلَّا بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس إِذا استخلص والآن مَا كَانَ غلا مِنْهُ استرخص فَإِن الْمُسلمين قد اشْتغل بَعضهم بِبَعْض ولهوا عَن كل سنة وَفرض فتدافعت إِلَى عكا سفنهم وتدفق مزنهم وامتلأت بهم فِي السَّاحِل مدنهم وقصدوا بيروت وَبهَا الْأَمِير عز الدّين سامة فَلَمَّا سمع بوصولهم إِلَى صيدا خرج بجماعته مِنْهَا وَسَار بأَهْله وَمَال عَن وعر الْأَمر إِلَى سهله ودخلها الفرنج بعد يَوْم من غير مطاولة سوم وَلَا مماطلة روم وَكثر فِيهِ الحَدِيث وَذكر الطّيب والخبيث فَمن قَائِل تجبن وتجنب وَمن قبل أَن ينكب تنكب وَمن قَائِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 رِجَاله هابوا فغابوا وَلَو أَنه دعاهم لما أجابوا واتسع القَوْل وَوَقع الهول حَتَّى نظم بَعضهم والفرنج على تبنين (سلم الْحصن مَا عَلَيْك ملامة ... مَا يلام الَّذِي يروم السَّلامَة) (فعطاء الْحُصُون من غير حَرْب ... سنة سنّهَا ببيروت سامة) وتصرفت الفرنج فِي بيروت وأعمالها الساحلية وَبَقِي لسامة جَمِيع الْولَايَة الجبلية ثمَّ توجه إِلَى مصر وَدخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَخمْس مئة فَنزل الفرنج سادس عشر الْمحرم على تبنين وَأرْسل الْعَادِل القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْقرشِي إِلَى الْملك الْعَزِيز بِمصْر فَخرج بجيوشه وَوصل فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الأول فجفلت الفرنج بعد أَن كَانُوا ضايقوا الْحصن ورحلوا وجاءهم الْخَبَر بِهَلَاك ملك الألمان ثمَّ انْتقل عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى جَانب الطّور وَمَعَ الْعَزِيز إخْوَته الظافر والمعز والمؤيد وَكَانَ الْأَفْضَل قد جَاءَ إِلَى عَمه قبلهم وَكَانَ مَعَهم على تبنين الْمُجَاهِد صَاحب حمص والأمجد صَاحب بعلبك وَعز الدّين بن الْمُقدم وَبدر الدّين دلدرم وَغَيرهم من الْأَعْيَان ثمَّ تراجعوا إِلَى بِلَادهمْ بعد عقد الْهُدْنَة وَرجع الْعَزِيز إِلَى مصر بعد أَن خلع على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 ابْن عَمه الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل وَخَصه بالسنجق واللواء المنشور لطي اللأواء وَعَاد الْمُعظم إِلَى دمشق وَقد قرت بِهِ الْعُيُون وَحسنت فِيهِ الظنون وَكَانَ أعز أَوْلَاد الْعَادِل عِنْده وأعلقهم بِقَلْبِه وأخصهم بحبه قد ولاه سلطنة دمشق وأطاب فِيهَا بنشر كرمه النشق وَأقَام الْعَادِل حَتَّى اسْتَقَرَّتْ الْهُدْنَة وَظَهَرت فِي عمَارَة تبنين المكنة ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَأقَام قَلِيلا ثمَّ شَرق ورقع بهَا من الْأَمر مَا تخرق ورتق مَا تفتق ورد بِلَاد أَوْلَاد عماد الدّين زنكي إِلَيْهِم لانه توفّي فِي هَذِه السّنة وَاسْتولى عَلَيْهَا ابْن عمهم صَاحب الْموصل فأنجدهم عَلَيْهِ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل وَتُوفِّي جمَاعَة من أُمَرَاء الْموصل مِنْهُم الْأَمِير الْكَبِير عز الدّين جرديك وَكَانَ فَارس الْإِسْلَام ومقدامه وشجاعه وهمامه وَمَا برح من أَيَّام نور الدّين إِلَى آخر أَيَّام صَلَاح الدّين رحمهمَا الله لَيْث العرين أَشمّ الْعرنِين وَهُوَ الَّذِي أعَان صَلَاح الدّين على الْقَبْض على شاور وولاه صَلَاح الدّين الْقُدس فِي آخر عَهده فَقَامَ بمصالحه من بعده ثمَّ تسلمه مِنْهُ الْملك الْأَفْضَل وَسلمهُ إِلَى أبي الهيجاء السمين فَلَمَّا خرج الْأَفْضَل من دمشق وصل إِلَى الْموصل وانتقل من حَوْض الْكَوْثَر إِلَى أعذب منهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 قَالَ وَنزل السُّلْطَان الْعَادِل على قلعة ماردين فِي شهر رَمَضَان وَملك ربضها ومدنها وولاياتها وصاف عَلَيْهَا وشتى وصبر وصابر وَلم يقل كَيفَ وَمَتى وَمَا شكّ أحد أَن ماردين فِي ملكه مُضَافَة إِلَى ملكه وَقد هنأه بهَا الشُّعَرَاء مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن مَرْوَان من أهل رَأس عين وَله من قصيدة (فَإِن تَكُ مصر أم ملك فمارد ... إِذا نسب الْبلدَانِ فَحل المماليك) (تقاعس عَنْهَا سنجر وَابْن عَمه ... وَقصر عَنْهَا عزم زنكي الأتابك) (فَإِن تَكُ قد شوركت فِي فتح غَيرهَا ... فَمَا لَك فِي أَمْثَالهَا من مشارك) وَدخلت سنة خمس وَتِسْعين وَخمْس مئة وَالْملك الْعَادِل نَازل على ماردين وَقد وصل إِلَيْهِ أَصْحَاب الْأَطْرَاف مساعدين وَقد أصلح بَين صَاحب الْموصل وَبني عَمه عماد الدّين وردهم إِلَى سنجار والخابور ونصيبين وَقد أذعن لَهُ الْجَمَاعَة بِالطَّاعَةِ ونائبه فِي تِلْكَ الْبِلَاد وديار بكر وَلَده الْملك الْكَامِل مُحَمَّد قَالَ وفيهَا لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من الْمحرم توفّي الْملك الْعَزِيز بداره بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ على عزم الصَّيْد فِي أَعمال الفيوم فخيم تِلْكَ اللَّيْلَة عِنْد الأهرام فَقيل إِنَّه أصبح وركض خلف صيد فكبا بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 الْفرس مرّة بعد أُخْرَى فتمت لَهُ سقطة عَمت بهَا على الزَّمَان سخطه فتفاقم ألمه وَأقَام يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة لَا يَسْتَطِيع لَهُ مَخْلُوق إِعَانَة وَلَا إغاثة ثمَّ حم حمامه وأظلمت بفجيعته أَيَّامه وقبر فِي دَاره لينقل مِنْهَا إِلَى دَار قراره ثمَّ حول مِنْهَا فِي الْأَيَّام الْأَفْضَلِيَّة إِلَى التربة المقدسة الشَّافِعِيَّة وَورد كتاب القَاضِي الْفَاضِل تَعْزِيَة بِهِ للْملك الْعَادِل أدام الله سُلْطَان مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل وَبَارك فِي عمره وَأَعْلَى أمره بأَمْره وأعز نَصره الْإِسْلَام بنصره وفدت الْأَنْفس نَفسه الْكَرِيمَة وأصغر الله العظائم بنعمته فِيهِ الْعَظِيمَة وأحياه الله حَيَاة طيبَة يقف هُوَ فِيهَا وَالْإِسْلَام فِي مَوَاقِف الْفتُوح الجسيمة وينقلب عَنْهَا بالأمور الْمسلمَة والعواقب السليمة وَلَا نقص لَهُ رجَالًا وَلَا عددا وَلَا أعدمه نفسا وَلَا ولدا وَلَا قصر لَهُ ذيلا وَلَا يدا وَلَا أسخن لَهُ قلبا وَلَا كبدا وَلَا كدر لَهُ خاطرا وَلَا موردا وَلما قدر الله ماقدر فِي الْملك الْعَزِيز رَحْمَة الله عَلَيْهِ وتحياته مكررة إِلَيْهِ من انْقِضَاء مهله وَحُضُور أَجله كَانَت بديهة الْمُصَاب عَظِيمَة وطالعة الْمَكْرُوه أليمة فرحم الله ذَلِك الْوَجْه ونضره ثمَّ إِلَى السَّبِيل إِلَى الْجنَّة يسره (وَإِذا محَاسِن أوجه بليت ... فَعَفَا الثرى عَن وَجهه الْحسن) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 فأعزز على الْمَمْلُوك وعَلى الْأَوْلِيَاء بل على قلب مَوْلَانَا لَا سلبه الله ثوب العزاء بِسُرْعَة مصرعه وانقلابه إِلَى مضجعه ولباسه ثوب البلى قبل أَن يبْلى ثوب الشَّبَاب وزفه إِلَى التُّرَاب وسريره محفوف باللذات والأتراب وَكَانَت مُدَّة الْمَرَض بعد الْعود من الفيوم أسبوعين وَكَانَت فِي السَّاعَة السَّابِعَة من لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من الْمحرم والمملوك فِي حَال تسطيرها مَجْمُوع لَهُ بَين مرض قلب وجسد ووجع أَطْرَاف وغليل كبد وَقد فجع بِهَذَا الْمولى والعهد بوالده رَحمَه الله غير بعيد والأسى عَلَيْهِ فِي كل يَوْم جَدِيد وَوصل قبل هَذَا إِلَى الْعِمَاد كتاب من الْفَاضِل فِيهِ وَأَنا على مَا يُعلمهُ من الْعُزْلَة إِلَّا أَنَّهَا بِلَا سُكُون وَفِي الزاوية المسنونة لأهل الْعَافِيَة إِلَّا أَنِّي على مثل حد الْمنون وَكَيف يعِيش الْعَاقِل فِي الزَّمَان الْمَجْنُون وَنحن على انْتِظَار الْبَرْق الشَّامي أَن يمطر وحاشى ذمَّة الْوَعْد بِهِ أَن تحفر واشتغال سيدنَا فِي هَذَا الْوَقْت بالدرس والتدريس والتصوير والتكييف والتصانيف الَّتِي تصرف فِيهَا البلاغة أحسن التصاريف نعْمَة عين شكرها على الْعلمَاء وَيخْتَص باللذة بهَا سادتهم من الْفُقَهَاء قَالَ الْعِمَاد وَلما توفّي الْملك الْعَزِيز خلف بَنِينَ صغَارًا يزِيدُونَ على الْعشْرَة وَولده الْأَكْبَر نَاصِر الدّين مُحَمَّد قد أنافت سنوه على عشر وَكَانَ إِلَى أَبِيه أحب أَوْلَاده يشيم من شِيمَة مخيله سداده وَقد اخْتصَّ لَدَيْهِ وَنَصّ عَلَيْهِ فَاجْتمع الْأُمَرَاء الصلاحية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 وَكَبِيرهمْ ومقدمهم فَخر الدّين أياز سركس وَمِنْهُم أَسد الدّين سراسنقر وزين الدّين قراجه وعقدوا الْأَمر لوَلَده نَاصِر الدّين ونعتوه بِالْملكِ الْمَنْصُور وَأخذُوا لَهُ أَيْمَان الْجُمْهُور قَالَ وَكَانَت الأَسدِية فِي الْأَيَّام العزيزية بالناصرية مغمورين وبالاستيلاء عَلَيْهِم مقهورين وَكَبِيرهمْ سيف الدّين يازكوج وَكَانَ عِنْد وَفَاة الْعَزِيز غَائِبا بأسوان فَلَمَّا بلغه ذَلِك حضر وَجمع الأَسدِية واجتمعوا هم والصلاحية فِي ظَاهر الْقَاهِرَة فَقَالَ لَهُم نعم مَا رَأَيْتُمُوهُ من حفظ عهد الْعَزِيز فِي وَلَده لكنه صَغِير السن لَا يحْتَمل ثقل هَذَا الْفَنّ وَلَا بُد من كَبِير من أهل الْبَيْت يربيه ويدير الدَّوَاوِين ويرتب القوانين وَمَا هَا هُنَا إِلَّا الْملك الْعَادِل وَهُوَ الْآن فِي بِلَاد الشرق مَشْغُول وَهَا هُنَا من هُوَ أقرب مِنْهُ وَهُوَ الْملك الْأَفْضَل فَقَالَ الأَسدِية هَذَا هُوَ الرَّأْي الرَّاجِح وَلم يسع الصلاحية مُخَالفَته فاتفقوا على استدعاء الْأَفْضَل من صرخد فَخرج مِنْهَا لَيْلَة الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من صفر وسلك الْبَريَّة فوصل إِلَى الْقُدس يَوْم الْخَمِيس وَخرج إِلَيْهِ عسكره وَسَارُوا مَعَه إِلَى بَيت جِبْرِيل ثمَّ أغذ السّير فَلَمَّا قرب مِنْهُم فِي تَاسِع ربيع الأول تلقوهُ وَإِلَى أَعلَى مراقي الْعَلَاء رقوه وسروا بقدومه وجروا لمرسومه قَالَ وَكَانَ الناصرية كتبُوا إِلَى رفقائهم بِالشَّام إِنَّا أحوجنا إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 الْوِفَاق وتأكيد الْمِيثَاق وَقد كتب إِلَى نور الدّين بالحضور وَضبط الْأُمُور وهوعندكم فِي صرخد وَإِن وصل إِلَيْنَا انتظم أمره وتمهد فاجتهدوا فِي حصره وَهُوَ فِي حصنه وَلَا تسمحوا بفك رَهنه وَوصل إِلَى دمشق بعض الْكتب يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر فَخرج عسكرها إِلَى صرخد فوصلوا إِلَى بصرى يَوْم الْأَرْبَعَاء فَقيل لَهُم إِن الْأَفْضَل أدْلج لَيْلًا واستصحب نجبا وخيلا فَرَجَعُوا إِلَى دمشق وَقيل لما عبر الْأَفْضَل بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس وجد فِي طَرِيقه نجابا مسرعا فَاسْتَحْضرهُ واستكشف ورده وصدره فَقَالَ أَنا نجاب فَخر الدّين أياز سركس وَمَعِي كتبه إِلَى من يأنس بِهِ وَيُحِبهُ فتسلم مِنْهُ الْكتب وَعَاد النجاب فِي خدمته فَلَمَّا وصل إِلَى الْقَاهِرَة احتفل سركس لَهُ وأضاف وَقدم وَغرم أَمْوَالًا ثمَّ أبْصر نجابه وَاقِفًا بِبَابِهِ فَأخْبرهُ الْخَبَر فاستشعر من ذَلِك وتضور فَمضى وَتَبعهُ عسكره وزين الدّين قراجه فوصلا إِلَى الْقُدس وسكنا بِهِ وَعرف الناصرية جلية الْحَال فَأخذُوا فِي الِانْتِقَال وتوهم الْأَفْضَل من البَاقِينَ فقبضهم وحوى جوهرهم وعرضهم فتفرقت الْكَلِمَة المجتمعة وتوقفت الهمم المسرعة وَأمر الْأَفْضَل بِالْخطْبَةِ لِابْنِ الْعَزِيز على جَمِيع المنابر ثمَّ الدُّعَاء لَهُ فِي الآخر ونقشت السِّكَّة أَيْضا باسم الْوَلَد فِي الْبَلَد وَغير الْبَلَد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 قَالَ وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِمصْر حملوه على قصد دمشق وحصرها وَقَالُوا لَهُ اطلب بلدك الَّذِي مِنْهُ أخرجت وَعَن الْمقَام فِيهِ أزعجت وَمَالك فِي مصر مَا يَكْفِيك ودمشق لَك بِوَصِيَّة أَبِيك وجاءته رسل أَخِيه الظَّاهِر من حلب وهداياه وَقَالَ لَهُ انتهز الفرصة فعمنا عَنَّا مَشْغُول وَإِلَى أَن يتم من ماردين مُرَاده وينضم إِلَى بياضه سوَاده تخرج دمشق عَن يَده وتعجله الْيَوْم فِيهَا عَن غده وَأَنا أصل إِلَيْك وأقدم عَلَيْك بالبنود والجنود والأساود وَالْأسود فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى خرج بالعسكر واستناب سيف الدّين يازكوج مَكَانَهُ قَالَ وَوصل إِلَى الْملك الْعَادِل الْأَمِير سراسنقر أحد الْأُمَرَاء الناصرية المفارقين فاستحثه على مُفَارقَة ماردين وتواصل من الناصرية جمَاعَة بعده وَعِنْدهم من الاستحثاث مَا عِنْده فحركه القَوْل وتجرد عَن الْعَسْكَر واستصحب مَعَه الأميرين عز الدّين بن الْمُقدم وَبدر الدّين دلدرم وسرى لَيْلًا لخمس بَقينَ من رَجَب وَأوصى وَلَده الْكَامِل أَن يسير فِي مضايقة حصن ماردين بسيرته ويقتدي بعزمته وَوصل إِلَى دمشق يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر شعْبَان وَأخذ فِي تحصين الْبِلَاد ووصلت العساكر المصرية يَوْم الْخَمِيس وأحاطت بِدِمَشْق ودخلها جمَاعَة مِنْهُم من بَاب السَّلامَة بلغُوا إِلَى السُّوق الْكَبِير وأعلنوا الْفَتْح بِالتَّكْبِيرِ وَلم يتبعهُم أحد على هَذَا التَّدْبِير فَخَرجُوا من بَاب الفراديس وكروا على أَعْقَابهم لمن وقف لَهُم من الكراديس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 وَأما الْأَفْضَل فَإِنَّهُ وصل إِلَى الميدان الْأَخْضَر وَضرب فِيهِ دهليز سرادقه وأقدم برواعده وبوارقه فَأَشَارَ عَلَيْهِ أمراؤه بالتأخر عَن تِلْكَ الْمنزلَة وَكَانَت مِنْهُم زلَّة فنزلوا عِنْد ميدان الْحَصَى ثمَّ تَأَخَّرُوا إِلَى مَسْجِد الْقدَم وامتلأ ذَلِك الفضاء بمضارب الخيم ففترت الصدمة الأولى وَقصرت الصدعة الطُّولى وخمد الْجَمْر فَصَارَ رَمَادا واستحالت تِلْكَ الأمواج المتلاطمة ثمادا ولزموا مَنَازِلهمْ أَكثر من سِتَّة أشهر هُنَاكَ وتمت فوارط عدمت الِاسْتِدْرَاك وامتدت خيامهم من أقْصَى داريا إِلَى الغوطة وظنوا أَنهم آخذون بمخنق دمشق المضغوطة وَكَاتب الْملك الْعَادِل جمَاعَة من أُمَرَاء الْعَسْكَر الْمصْرِيّ ففارقوه ودخلوا دمشق فأكرمهم واحترمهم مِنْهُم طغرل المهراني وأياز البانياسي وَابْن كهدان ومثقال الْخَادِم وَابْن أُخْت السُّلْطَان ابْن سعد الدّين كمشبه وَكثر الواصلون القاطعون لمن وَرَاءَهُمْ وَأحسن الْعَادِل جزاءهم فتكاثرت الأطماع وَتَتَابَعَتْ الرؤوس والأتباع وَوصل الْملك الظَّاهِر وَمَعَهُ أَخَوَاهُ الظافر والمعز وجاءهم الْملك الْمُجَاهِد صَاحب حمص وعسكر حماة دون سلطانها وحسام الدّين بِشَارَة صَاحب بانياس وَهُوَ شيخ الدولة وكبيرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 وأمينها وأميرها وَفِي حمايته حصنا تبنين وهونين وَمَا يزَال أسرى من كبراء أهل الْكفْر بدين الله عِنْده مرهونين فرغبهم فِي السَّلامَة وَالسّلم وَالِاحْتِمَال والحلم وَأَشَارَ على كل من الْجَانِبَيْنِ بتجنب المجانبة والتقرب بالمقاربة والمراقبة وجاءهم أَيْضا سعد الدّين مَسْعُود صَاحب صفد وَأَخُوهُ نور الدّين مودود قَالَ وَلما جبنوا عَن مضايقة الْحصار واصلوا قطع الْأَشْجَار وَكسر الْأَنْهَار وَمنع كل مَا يدْخل إِلَى الْبَلَد من نعْمَة وَنعم وغنيمة وغنم حَتَّى ردوا القوافل وصدوا الْفُرُوض والنوافل قَالَ وَكَانَ الناصرية المقيمون بالقدس قد استولوا عَلَيْهِ ونظفوا مِمَّن ارْتَابُوا بِهِ حواليه وأخرجوا مِنْهُ المغاربة وَرِجَاله وأجناده الرَّاتِبَة وَمَعَهُمْ الْأَمِير فَارس الدّين مَيْمُون صَاحب نابلس وَعز الدّين سامة صَاحب كَوْكَب وبيسان ثمَّ وصل الْخَبَر بِأَن سركس وَمن مَعَه واصلون إِلَى دمشق فتجرد من المحاصرين عَسْكَر إِلَى طريقهم وَكَانُوا قد وصلوا إِلَى طبرية وعبروا مِنْهَا إِلَى الْبِقَاع وتكمنوا خلال تِلْكَ الضّيَاع وسيروا إِلَى بعلبك مَا صحبهم من الأثقال والأحمال وَكَانَ صَاحبهَا الأمجد فِي جَانب الْملك الْعَادِل وتجردوا خيلا وقطعوها لَيْلًا وتوقلوا الْجبَال حَتَّى أشرفوا على دمشق من عقبَة دمر وَقد فاتوا الْعَسْكَر فتقوى عَسْكَر الْبَلَد فصاروا يبكرون ويركبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 ويقربون من الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَلَا يرقبون وحفر المحاصرون حَولهمْ خَنْدَقًا عميقا فَصَارَ لَهُم بِهِ عَن الْحصار شغل شاغل قَالَ وعَلى الْجُمْلَة فَمَا ظهر مِنْهُم صنع إِلَّا فِي قطع المَاء وَمنع الْميرَة والمضايقة الْكَثِيرَة وإحراق الْبَسَاتِين وتخريب الطواحين حَتَّى إِذا انحسمت الْموَاد وفنيت فِي الْبَلَد الأزواد اضطروا إِلَى التَّسْلِيم واضطربوا على التَّأْخِير والتقديم فتسلط الرّعية على الْملك الْعَادِل وَحَمَلُوهُ على التَّسْلِيم والاستسلام فتباينت آراء الْمُلُوك المحاصرين بِمَا دبره الْملك الْعَادِل سيف الدّين وَلَا بُد للكبار من الاحتيال إِذا صمم الصغار على الاغتيال وَلَيْسَ فِي ذَلِك بِدعَة لَان الْحَرْب خدعة فنفذ إِلَى الظَّاهِر فِي الْبَاطِن وَقَالَ لَهُ أَنْت السُّلْطَان وحكمك على جَمِيع الْأَمَاكِن والمواطن وَأَنا أسلم إِلَيْك دمشق على أَنَّهَا تكون لَك لَا لغيرك فَقَالَ الظَّاهِر لِأَخِيهِ الْأَفْضَل قلدني فِي الانعام بِدِمَشْق منَّة المتفضل فَقَالَ لَهُ هَذِه لَا تَخْلُو من أَقسَام جالبات لأسقام أَجلك أَن تتولاها تَوْلِيَة النَّائِب وَإِن أَخَذتهَا دوني فَمن النوائب وَإِن أَعْطَيْتنِي عوضا مِمَّا أعرف لَك فِيهِ غَرضا فَمَا لَك مَا يصلح أَن تقايض بِهِ دمشق وَأَنت لَا تَدعِي لَهَا الْعِشْق فَتغير بِهَذَا رَأْي الظَّاهِر وَالله المطلع على الضمائر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وَقيل أرسل الْعَادِل وَقَالَ أسلم إِلَيْكُم دمشق بعد سَبْعَة أشهر وتربص وتصبر فَخُذُوا يَمِيني وكلوني إِلَى ديني وَظن أَنهم لَا يوافقون وَفِي الْحصْر يضايقون فَلَمَّا أجابوه إِلَى هَذَا الملتمس وقعقعوا فِي الاستضاءة بِهَذَا القبس عرف أَنهم نادمون فِيمَا هم عَلَيْهِ من الْحصْر قادمون فَعَاد عَن هَذَا الْبَذْل وردهم إِلَى سنَن الْعدْل وَقيل كَانَ يكْتب إِلَى الْأَفْضَل إِن الْأَمر ان ْفَصل مَعَ الظَّاهِر وانه يعاملك مُعَاملَة المسر لَا المجاهر فَخذ لنَفسك وأبدل معي وحشتك بأنسك وَيكْتب أَيْضا إِلَى الظَّاهِر إِن الْأَفْضَل قد صالحني وعَلى الرِّضَا صَافَحَنِي وَإنَّك تحصل على المضاغنة وستفضي بك المباينة إِلَى المعاينة وَقيل إِنَّه كَانَ يكْتب فِي كل يَوْم أجوبة كتب قوم لم يكاتبوه ويجيبهم عَمَّا فِيهِ لم يخاطبوه وخبزت تِلْكَ الملطفات فِي عجين ثمَّ تفرق على من يقْصد الْعَسْكَر من الْمَسَاكِين فَإِذا فتشوا عثر على تِلْكَ الملطفات فبغت من كتب إِلَيْهِ وَلَا علم لَهُ بالآفات وعدوا من المخامرين فَصَارَ أَكثر الْعَسْكَر من المتهمين ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَخمْس مئة وهم على ذَلِك والشتاء قد هجم وكل بأَمْره مهتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 ودهمهم أَيْضا خبر وُصُول الْملك الْكَامِل من الشرق وَخرج من دمشق جمَاعَة يظهرون أَنهم من الناصحين وترددوا إِلَيْهِم وَمِنْهُم غادين ورائحين وأبرقوا وأرعدوا وَقَالُوا غَدا يكون قدوم الْملك الْكَامِل فِي الجحفل الحافل وَمَعَهُ من المَال الصَّامِت إِلَى أَبِيه الْعَادِل فيستظهر بولده وَالْمَال وَالرِّجَال فَلَا يقْعد عَن النهوض إِلَى الْقِتَال وَالصَّوَاب أَن نتأخر قَلِيلا فرحلوا إِلَى سفح جبل الْعقبَة وَبقيت أسواقهم مَمْلُوءَة وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وهم لكل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ عادمون وعَلى مَا فرط مِنْهُم نادمون وَفقدُوا حَتَّى المَاء للشُّرْب وَكَانَت تِلْكَ الْحَالة كسرة قبل الْحَرْب فاضطربوا للمحل الْمُحِيل واضطروا إِلَى رَاحَة الرحيل وَوصل الْكَامِل تَاسِع عشر صفر وَقد جمع التركمان واستصحب جند الرها وحران وَنزل فِي جوسق أَبِيه فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان برحيلهم وقدوم ابْنه وقضت خشيَة الله بأمنه وَأقَام الْكَامِل حَتَّى توجه أَبوهُ إِلَى مصر فَخرج مَعَه أَيَّامًا ثمَّ عَاد وَلم يُؤثر مقَاما وانتقل إِلَى حران والرها واستقام بِهِ أمرهَا وَذَلِكَ حادي عشر ربيع الأول وَأما المحاصرون فَإِنَّهُم انتقلوا من الْكسْوَة إِلَى مرج الصفر وسير الْملكَانِ الظَّاهِر والمجاهد بعض الأثقال إِلَى بانياس وأصحبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 بَقِيَّة أحمال الْملك الْأَفْضَل إِلَى مصر وودعاه وَكِلَاهُمَا سَار جَرِيدَة إِلَى مقره وَاسْتمرّ بعد ذَلِك على إمرار أمره وَكلما رَحل الْقَوْم عَن منزل أحرقوا مَا لم يظفروا لَهُ بمحمل واستقلوا من مرج الصفر وَلم يلووا على أحد وَلم يعرجوا على بلد وَأخذُوا فِي السّير والسرى وَذَهَبت آسادهم تروم معاودة الشرى وتبعهم الصلاحية ينزلون بعدهمْ فِي مَنَازِلهمْ ويخلفونهم فِي مناهلهم وَكَانَ الْقَوْم ظنُّوا أَنهم يقدرُونَ بمرج الصفر على الْإِقَامَة فَلَقوا من الْبرد مَا حضهم على النجَاة والسلامة وَهَذَا المرج بِقرب جبل الثَّلج فِي تموز لايقيم بِهِ إِلَّا لابس فَرْوَة فَكيف فِي كانون وَقد عرفُوا أَنهم الجانون حَيْثُ لم يلزموا القانون وَأرْسلت الصلاحية إِلَى الْملك الْعَادِل يستعجلونه ويحثونه وَلَا يمهلونه فَخرج يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول وودع أَعْيَان الْبَلَد وَسَار وتلا من تقدمه إِلَى تل العجول وَأقَام حَتَّى اجْتمع أَتْبَاعه وَأرْسل إِلَى الْأَفْضَل الْعدْل النجيب أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ صَلَاح الدّين رَحمَه الله يعْتَقد فِي صَلَاح دينه ويمكنه من خَواص حاجاته ويرسله فِي مهام الرسائل وَكَانَ مَدْلُول الرسَالَة ارْفُقْ فِي السّير وَوَافَقَ على الْخَيْر فَمَا عنْدك الْيَوْم من يصدقك وَأَنا لَك كالوالد وأبلغك مقصودك وأحالفك وَلَا أخالفك وأوافقك وَلَا أُفَارِقك فَأَشَارَ على الْأَفْضَل جماعته بِأَن يرد جَوَاب الرسَالَة إِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 مقاربتي لَك بمباعدتك للصلاحية منوطة وموافقتي بمخالفتهم مَشْرُوطَة فَلَمَّا سمع ذَلِك الصلاحية استشاطوا ونفروا وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على أَنهم ظفروا وجد جدهم واحتد حَدهمْ فطووا المراحل إِلَى السانح وَكَانَ الْأَفْضَل على بلبيس وَقد تفرق مُعظم أَصْحَابه إِلَى أخبارهم وَجَمَاعَة مِنْهُم مَعَ الْعَادِل فِي الْبَاطِن كاتبوه وعَلى الابطاء عاتبوه فَسَار الْجَمْعَانِ بَعضهم إِلَى بعض والتقوا فانكسر أَصْحَاب الْأَفْضَل وانهزموا فَدَخَلُوا الْقَاهِرَة وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب للمحاصرة وانْتهى الى الْأَفْضَل ان جمَاعَة مِنْهُم أرْسلُوا إِلَى الْعَادِل فِي اصلاح أَحْوَالهم وإنجاح آمالهم فَقَالَ سيف الدّين يازكوج للأفضل لكل زمَان عمل وَلكُل أَوَان أمل فَأصْلح الْأَمر كَيفَ تهيا فَلَا ملام على اللبيب بِأَيّ زِيّ تزيا فشرع الْأَفْضَل فِي إصْلَاح الْأَمر مَعَ عَمه وراسله على أَن يكون بِحكمِهِ ثمَّ سلم الْأَمر وَمر سالما وَحصل لَهُ من التجربة مَا عَاد بِهِ للعواقب عَالما قَالَ وخيم الْعَادِل بِالْبركَةِ واستبد بِملك مصر آمنا من الشّركَة وَنفذ المقطعين إِلَى إقطاعهم وَنظر للصلاحية فِي صَلَاح ضياعهم وَأرْسل إِلَى الْأَفْضَل إِن وافقتني على مَا أُعْطِيك وَقبلت سعدت فَهَؤُلَاءِ الَّذين عنْدك مَا مِنْهُم إِلَّا من كتب إِلَيّ وتقرب وانتظر يومي وترقب وَهَذِه إضبارة كتبهمْ فتأملها وَإِن لم تصدقني فسلها وَاعْلَم أَنهم غروك وضروك وساؤوك بِمَا سروك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 وَقيل لم يبْق من الْأُمَرَاء من لم يكْتب إِلَيْهِ وَلم يخَامر إِلَّا أَرْبَعَة أخلصهم سيف الدّين يازكوج فَلَمَّا عرف الْأَفْضَل صدق عَمه سلم الْمَسْأَلَة وَسَأَلَ المعدلة فقرر للأفضل فِي ديار بكر ميافارقين وأعمالها وجبل جور وحاني وجملين والمعاقل والحصون المحسوبة من ميافارقين فَرضِي بهَا مكْرها وَخرج إِلَى الشَّام مُتَوَجها لَيْلَة السبت سَابِع عشر ربيع الآخر فِي اللَّيْلَة الَّتِي دخل الْعَادِل فِي بكرتها الْقَاهِرَة فاستقر بدار السلطنة وَقدم سيف الدّين يازكوج وَحكمه واستبقى رضَا الناصرية بابقاء الْخطْبَة لِابْنِ الْعَزِيز وَلم ينافسهم مَعَ حُصُول الْمَعْنى لَهُ فِي التَّفْضِيل والتمييز وَأقَام وَهُوَ كل يَوْم فِي ارْتِفَاع وسيادة وقوته فِي نمو وَزِيَادَة قَالَ ورد الْقَضَاء إِلَى القَاضِي صدر الدّين عبد الْملك بن درباس الْكرْدِي وَلم يزل قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية من الْأَيَّام الناصرية وَكَانَ نَائِبه القَاضِي زين الدّين عَليّ بن يُوسُف الدِّمَشْقِي وتعصب الْأُمَرَاء المتغلبون على الْملك الْعَزِيز فِي مراتبه بِصَرْف صدر الدّين وتوليه نَائِبه وَلم يزل صدر الدّين مصروفا تاره بمحيي الدّين بن أبي عصرون وَتارَة بزين الدّين حَتَّى تعصب الْعَادِل لَهُ وَبعث الْعَزِيز على رده فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام الْعَزِيز وَجَاء الْأَفْضَل كَانَ أول ماحمل عَلَيْهِ أَن صدر الدّين يعْزل وتولي زين الدّين للْقَضَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 فَلَمَّا جَاءَت نوبَة الْعَادِل فِي هَذِه السّنة رد صدر الدّين إِلَى منصبه ورد التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الشَّافِعِيَّة فِي التربة المقدسة وبالمشهد الشريف الْحُسَيْنِي الَّذِي أجري عَلَيْهِ حكم الْمدرسَة إِلَى شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين ابْن حمويه وَكتب إِلَيْهِ وَهُوَ بِدِمَشْق فاستدعاه وَقد كَانَ قبل ذَلِك ولاه فِي ممالكه الجزريه أُمُور المناصب الشَّرْعِيَّة والأمور الدِّينِيَّة ومدارس الشَّافِعِيَّة وربط الصُّوفِيَّة وَهُوَ قَاضِي قضاتها ووالي هداتها وهادي ولاتها وَله فِي مناصبه نواب وَفِي مراتبه أَصْحَاب قَالَ وَلما دخل الْعَادِل الْقَاهِرَة استشعر أَصْحَاب الدَّوَاوِين مهابة الْوَزير صفي الدّين بن شكر الظَّاهِرَة وَنزل فِي الدَّار السُّلْطَانِيَّة فِي الْحُجْرَة الْفَاضِلِيَّةِ وتصدر فِي مَكَان مكانته وَشهر من قلمه عضب شهامته وَسيف صرامته وقمع المتجبرين وَوضع المتكبرين وَأخذ قَوس الوزارة باريها وأجرى الله الْأُمُور بِهِ أحسن مجاريها قَالَ وَندب الْعَادِل من الأَسدِية والصلاحية أميرين كبيرين إِلَى الشَّام لاصلاح ذَات الْبَين بحمص وحماة وحلب وَغَيرهمَا وهما سراسنقر وكرجي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 قَالَ وَلما ودع الْأَفْضَل عَمه بِالْبركَةِ سَار إِلَى صرخد وَأقَام بهَا وَندب إِلَى الْبِلَاد الَّتِي بديار بكر من يتسلمها وَوصل إِلَى ميافارقين وَلما انْفَصل عَن مصر وجد المواصلين لَهُ لصحبته مفارقين وَكَذَا الدُّنْيَا مَا تقبل على أحد وَلَا تمده بمدد إِلَّا تواردت على حياضة الجموع وتزاحم فِي رياضة الربوع فَإِذا صرفت عَنهُ وجوهها صرف أَهلهَا عَنهُ الْوُجُوه وَأَحلُّوا بِهِ فِيهَا مَكْرُوه الْمَكْرُوه قَالَ وَأما الظافر فان عَمه أحسن إِلَيْهِ ووعده بعطاء جزيل وودعه بثناء جميل وأقطعه بأعمال دمشق حزرما وضياع السوَاد وشق عَلَيْهِ أَنه لَا يجد مَا يجود بِهِ وَهُوَ من الأجواد وَوصل إِلَى دمشق رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَسكن فِي جوسق بستانه بالنيرب وسلك طَريقَة الِاحْتِرَاز والاحتراس وَاخْتَارَ الْبعد عَن مقاربة النَّاس وَلزِمَ السكينَة وَلم يدْخل الْمَدِينَة وَطلب من القَاضِي بِجَامِع النيرب خَطِيبًا شافعيا ليَكُون بِالصَّلَاةِ فِيهِ عَن حُضُور الْجَامِع بِالْبَلَدِ غَنِيا واحتاط غَايَة الِاحْتِيَاط وطوى بِسَاط النشاط فصل قَالَ الْعِمَاد واستدعى الْعَادِل ابْنه الْكَامِل إِلَى مصر ليستنيبه فِيهَا وَكَانَ بحران وَهُوَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد نَائِب السُّلْطَان فَسلم تِلْكَ الْولَايَة إِلَى أَخِيه الفائز وَوصل إِلَى دمشق سادس عشر شعْبَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 وَنزل بجوسق أَبِيه فِي بستانه وَمَعَهُ شمس الدّين الْمَعْرُوف بقاضي دَارا وَهُوَ وزيره ومستحثه على المكارم ومشيره قَالَ وخدمته بِكَلِمَة أَولهَا (أَنْتُم تحبون بالاعراض تعذيبي ... وتقصدون بِخلق الصد تهذيبي) (سَارُوا فيا صحتي من مهجتي ارتحلي ... غَابُوا فيا سنتي عَن مقلتي غيبي) (قد كَاد يهضمني دهري فأدركني ... مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب) (الْكَامِل الْمَالِك الْأَمْلَاك حَيْثُ لَهُ ... رق الْأَعَاجِم مِنْهُم والأعاريب) (معطر عرفه عرفا ومكرمه ... مخمر طينه بِالطُّهْرِ وَالطّيب) (لَا يَدعِي جوده الْبَحْر الخضم وَلَا ... يلفى تأبيه فِي الشم الشناخيب) (دعتك مصر إِلَى سلطانها فأجب ... دعاءها فَهُوَ حق غير مَكْذُوب) قَالَ وعزمت على صحبته فِي هَذِه السفرة إِلَى مصر فَخرج فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان إِلَى الْكسْوَة وَخرج سُلْطَان دمشق الْملك الْمُعظم ليودع سُلْطَان مصر أَخَاهُ الْكَامِل وَصَحبه إِلَى رَأس المَاء مَعَ عدَّة من الْأُمَرَاء ثمَّ ودعه وَانْصَرف وتشوش مزاج الْكَامِل بعده وانحرف وَوصل إِلَى العباسة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان والتقاه وَالِده الْعَادِل وأنزله بِالْقصرِ ثمَّ ركب إِلَيْهِ بعد يَوْمَيْنِ واستصحبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 إِلَى الدَّار ورتب أَحْوَاله على الايثار وَكَانَ قد عقد لَهُ على ابْنة عَمه الْملك النَّاصِر رَحمَه الله فَأدْخلهُ عَلَيْهَا ليبني بهَا قَالَ وَأصْبح الْعَادِل يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر شَوَّال وَركب بالسنجق السلطاني والمركب الخسرواني وَالسُّيُوف المسلولة والعقود المحلولة وَأمر الخطيبين بجامعي مصر والقاهرة بِالْخطْبَةِ لَهُ ولولده الْكَامِل من بعده وَلَيْسَ بعد دُعَاء الْخَلِيفَة إِلَّا الدُّعَاء لَهما وانقطعت الْخطْبَة لِابْنِ الْعَزِيز وَكَانَ أحضر جمَاعَة من الْفُقَهَاء والقضاة والكبراء والولاة وَقَالَ لَهُم قَول المستفتي المستشير هَل تصح ولَايَة الصَّغِير فَقَالُوا هَذَا مولى عَلَيْهِ فَلَا يَلِي وغيابات الْحَوَادِث بنظره لَا تنجاب وَلَا تنجلي فَقَالَ فَهَل يجوز للْمولى الْكَبِير أَن يَنُوب عَنهُ إِلَى أَن يكبر ويرتب الْأُمُور بِحكم النِّيَابَة وَيُدبر فَقَالُوا إِذا كَانَت الْولَايَة غير صَحِيحَة فَلَا تصح النِّيَابَة وَمن رَآهُ صَوَابا أَخطَأ بِهِ الاصابة لَا سِيمَا فِي السلطنة الَّتِي هِيَ خلَافَة الْخَلِيفَة فَلَا حق فِيهِ إِلَّا للكبير الَّذِي يعين على الْحَقِيقَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 وَجرى مِنْهُم فِي هَذَا الْمَعْنى الامعان فَلَمَّا عرف الشَّرْع أحضر الْأُمَرَاء وَالْتمس مِنْهُم الطَّاعَة والسمع وخاطبهم فِي الْيَمين لَهُ والميثاق وألزمهم لَهُ بِالْوَفَاءِ والوفاق فَأَبَوا فخاطبهم بِمَا راعهم وملأ بالتقريع أسماعهم ثمَّ قَالَ قد علمْتُم مَا هُوَ الْوَاجِب من التظافر على حفظ ثغور الْإِسْلَام وتدبير المماليك بِمصْر وَالشَّام وَمَا هَذَا أَمر يناط بِهِ بالصبيان أَو يحاط بِغَيْر ذِي الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان فأذعنوا وأطاعوا وَحصل الائتلاف وَرفع الْخلاف قَالَ وَلما أَصْبَحْنَا يَوْم السبت شاهدنا الْملك الْكَامِل قد ركب مثل وَالِده معقودا سنجقه بمعاقده والمناصل مجذوبة والصواهل مجنوبة والأعين ناظرة والألسن ذاكرة وَمَشى فِي ركابه من إِلَيْهِ تحبب وَإِلَى السُّلْطَان تقرب قَالَ وَركب يَوْم الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال إِلَى برج الْمقسم والمقسم مَوضِع على شاطىء النّيل يزار وَهُنَاكَ مَسْجِد يتبرك بِهِ الْأَبْرَار وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي قسمت فِيهِ الْغَنِيمَة عِنْد اسْتِيلَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على مصر وَلما أَمر صَلَاح الدّين رَحمَه الله بادارة السُّور على مصر والقاهرة وتولاه الْأَمِير قراقوش جعل نهايته الَّتِي تلِي الْقَاهِرَة عِنْد الْمقسم وَبنى فِيهِ برجا هُوَ مشرف على النّيل ذُو شرفات وَمَعْقِل ذُو طَبَقَات وثيق الْبناء رفيع الفناء وَبنى مَسْجده جَامعا واتصلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 الْعِمَارَة مِنْهُ إِلَى الْبَلَد متتابعة المدد وَهُوَ متنزه عَن الأكدار والأقذار منزه وبالجنات مشبه وَإِلَى الْبَحْر وَالْبر بمناظرة الشبابيك موجه فَاخْتَارَ الْكَامِل أَن يجلس فِيهِ يَوْمًا للتفرج فَجَلَسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا وَاجْتمعَ الْأُمَرَاء والأعيان فِي الطَّبَقَة الدُّنْيَا ثمَّ مد السماط فِي الْجَامِع ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنه مدحه بِكَلِمَة أَولهَا (مغرم الْقلب مدنف ... وجده لَيْسَ يُوصف) (وعدونا وأخلفوا ... ووفينا وَلم يفوا) قَالَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال قدم فلك الدّين أَخُو الْعَادِل من دمشق قلت هُوَ أَخُوهُ لأمه واسْمه أَبُو مَنْصُور سُلَيْمَان بن شروه بن جِلْدك وَإِلَيْهِ تنْسب الْمدرسَة الفلكية بنواحي بَاب الفراديس بِدِمَشْق وَبهَا قَبره قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذَا الْيَوْم خطب للعادل ولابنه الْكَامِل والعادل فِي مهامه يستشيره ويستدعيه والمرء كثير بأَخيه ثمَّ عَاد إِلَى دمشق بعد شهور قَالَ وَفِي الْعشْرين من الشَّهْر خرج حَاج مصر إِلَى الْبركَة وَأمر عَلَيْهِم نصير الدّين الخضير بن بهْرَام وَكَانَ وَالِي الْمحلة وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 مُسْتَمر الْولَايَة من الْأَيَّام الصلاحية وَحج مَعَه من معروفي الأجناد وأمرائها عدَّة وَكَذَلِكَ حج فِي هَذِه السّنة حَاج دمشق وصحبهم الْأَمِير عز الدّين سامة وَكَانَت السّنة مباركة وَالنعَم متداركة وَالْخَيْر عَام وَالْخصب تَامّ قَالَ وَانْتَظرْنَا زِيَادَة بَحر النّيل فِي أَوْقَاتهَا فَبلغ إِلَى إِحْدَى وَعشْرين أصبعا من ثَلَاث عشرَة ذِرَاعا فَعَاد بذلك كل قلب مرتاعا ثمَّ أَخذ فِي النَّقْص وَهُوَ مرجو الزِّيَادَة مأمول الْوَفَاء على الْعَادة فقنط النَّاس وَوَقع الياس وَاشْتَدَّ الْمحل وغلا السّعر ويئس الفلاحون من الْفَلاح فأجفلوا من الْبِلَاد للانتزاح وطاروا بأجنحة النَّجَاء فِي طلب النجاح وَقيل إِن هَذَا النَّقْص لم يعْهَد من عهد الصَّحَابَة وشرعنا فِي الاسْتِغْفَار والإنابة وَصَامَ النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام قبل يَوْم التَّرويَة وكأنما أَصَابَتْهُم مُصِيبَة فهم فِي التَّعْزِيَة ثمَّ استسقوا ثَلَاثَة أَيَّام إِلَى الْعِيد وأفاض الْخَطِيب فِي ذكر الْوَعيد وغصت بالخلائق الْأَمْكِنَة وضجت بالأدعية والضراعات الْأَلْسِنَة قَالَ وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا وَهِي سنة خمس وَتِسْعين استدعي القَاضِي ضِيَاء الدّين أَبُو الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري إِلَى بَغْدَاد وَولي قَضَاء الْقُضَاة وَكَانَ يتَوَلَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الْقَضَاء بالموصل فَخرج فِي أَوَاخِر شعْبَان فَلَمَّا وصل بَغْدَاد بجل وَعظم وَكَانَ قد تردد إِلَى بَغْدَاد دفعات فِي الْأَيَّام الصلاحية بِسَبَب الرسَالَة فَهُوَ كَانَ الْمعِين لَهَا كَمَا تقدم ذكره فصل فِي وَفَاة جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين قَالَ الْعِمَاد وفيهَا ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى توفّي فِي دَاره بِدِمَشْق الْأَمِير صارم الدّين قايماز النجمي وَكَانَ مُتَوَلِّي أَسبَاب صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِي مخيمه وبيوته يعْمل عمل أستاذ الدَّار وَإِذا فتح بَلَدا سلمه إِلَيْهِ واستأمنه عَلَيْهِ فَيكون أول من افتض عذرته وشام ديمته وَحصل لَهُ من بلد آمد عِنْد فَتحه وَمن ديار مصر عِنْد موت عاضدها أَمْوَال عَظِيمَة وَتصدق فِي يَوْم وَاحِد بسبعة آلَاف دِينَار مصرية عينا وَأظْهر أَنه قضى من حُقُوق الله فِي ذمَّته دينا وَهُوَ بِالْعرْفِ مَعْرُوف وبالخير مَوْصُوف يحب اقتناء المفاخر بِبِنَاء الرَّبْط والقناطر وَمن جُمْلَتهَا رِبَاط خسفين ورباط نوى وَله مدرسة مجاورة دَاره وَلما كفى الله دمشق الْحصْر نَهَضَ وَرَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 الْعَادِل إِلَى مصر فَرده إِلَى دمشق ليلازم خدمَة الْملك الْمُعظم وَلَده وَيكون من أقوى عدده وأوفى عدده وَكَانَ فِي خلقه زعارة وَكَأن حصافته مستعارة قَالَ وَلما دفن نبشت أَمْوَاله وفتشت رحاله وَحضر أُمَنَاء القَاضِي وضمناء الْوَالِي وأخرجوا خبايا الزوايا وسموط النُّقُود وخطوط النسايا وغيروا رسوم الْمنزل ومعالمه واستنبطوا دنانيره ودراهمه وحفروا أَمَاكِن فِي الدَّار وبركة الْحمام فِي الْجوَار فحملوا أوقارا من النضار وظهروا على الْكُنُوز المخفية والدفائن الألفية فَقيل زَادَت على مئة ألف دِينَار وَهُوَ قَلِيل فِي جنب مَا يحرز بِهِ من كَذَا وَكَذَا قِنْطَار واستقل مَا طواه الخزن وأخفاه الدّفن وَقيل كَانَ يكنز فِي صحارى ضيَاعه ومغارات إقطاعه قلت واتهم بعده جمَاعَة بِأَن لَهُ عِنْدهم ودائع وتأذى بذلك المتأبي مِنْهُم والطائع وداره بِدِمَشْق هِيَ الَّتِي بناها الْملك الْأَشْرَف أَبُو الْفَتْح مُوسَى بن الْعَادِل دَارا للْحَدِيث فِي سنة ثَلَاثِينَ وست مئة وأخرب الْحمام الَّذِي كَانَ مجاورا لَهَا وَأدْخلهُ فِي ربعهَا وَذَلِكَ فِي جوَار قلعة دمشق بَينهمَا الخَنْدَق وَالطَّرِيق وَثمّ مدرسته الْمَعْرُوفَة بالقيمازية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 قَالَ الْعِمَاد وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة توفّي يَعْنِي بِمصْر الْحَاجِب لُؤْلُؤ وَكَانَ فِي الْأَيَّام الصلاحية أَشْجَع الشجعان وأفرس الفرسان وَله مقامات فِي الْغُزَاة ومواقف مَعَ العداة وَهُوَ الَّذِي نَهَضَ وَرَاء مراكب الفرنج الناهضة فِي بَحر أَيْلَة إِلَى بر الْحجاز وأتى فِي كسرهم وأسرهم بالاعجاب والاعجاز وَكَانُوا قطعُوا الطَّرِيق فِي بَحر عيذاب على التُّجَّار وحصلت أَمْوَالهم تَحت الِاسْتِيلَاء بعد حصولهم تَحت الاسار فأنقذ واستنقذ وَمَا نزل حَتَّى أَخذ وسَاق إِلَى الْقَاهِرَة أُولَئِكَ الْكفَّار مقهورين واعتقلهم بهَا مأسورين قلت وَفِيه يَقُول الرضي بن أبي حَصِينَة الْمصْرِيّ يُخَاطب الفرنج (عَدوكُمْ لُؤْلُؤ وَالْبَحْر مَسْكَنه ... والدر فِي الْبَحْر لَا يخْشَى من الْغَيْر) (فَأمر حسامك أَن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كَانَ مَنْسُوب إِلَى النَّحْر) وَقد قيل فِيهِ أشعار كَثِيرَة تقدم بَعْضهَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وَسبعين قَالَ الْعِمَاد وَمن دَلَائِل سماحه مَا شاهدته بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين من مبراته الظَّاهِرَة أَنه لما حط الْقَحْط رَحْله وَوصل الْمحل مَحَله وَتمّ الغلاء وَعم الْبلَاء ابتكر هَذَا الْحَاجِب الْكَبِير مكرمَة لم يسْبق إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَنه كَانَ يخبز كل لَيْلَة اثْنَي عشر ألف رغيف فَإِذا أصبح جلس على بَاب الْموضع الَّذِي فِيهِ حشر الْفُقَرَاء ثمَّ يفتح من الْبَاب مِقْدَار مَا يخرج مِنْهُ وَاحِد بعد وَاحِد وَيعلم أَنه غير عَائِد فَيتَنَاوَل كل مِنْهُم قرصة وَيرى ذَلِك من خيراته فرْصَة فَمَا يزَال قَاعِدا حَتَّى يفرق الألوف على الألوف وَكَانَ هَذَا دأبه فِي هَذَا الغلاء حَتَّى هَب رخاء الرخَاء فَحِينَئِذٍ تنوعت صدقاته واستغرقت بالصلات أوقاته وَكَانَ بهي الشيب نقي الجيب قد جعل الله الْبركَة فِي عمره وَخَصه مُدَّة حَيَاته بامرار أمره فأنجده فِي أَوَان ضعفه بِتَضْعِيف بره وَلَا شكّ أَنه من الْأَوْلِيَاء الأبدال وَالصَّالِحِينَ الصَّالِحِي الْأَعْمَال قَالَ وَفِي يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَأَنا بالديار المصرية توفّي الْفَقِيه الْكَبِير شهَاب الدّين الطوسي وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 أكبر الْأَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ورئيسها وَإِلَيْهِ فتياها وتدريسها وَهُوَ من أَصْحَاب مُحَمَّد بن يحيى وَكم واجه الْمُلُوك بِالْحَقِّ المر وَأنكر عَلَيْهِم مَا ينكرونه من الْعرف ويعرفونه من النكر وَلما وصل إِلَى مصر كَانَ تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب متوليها فأعجبه سمت الْمَذْكُور فولاه مدرسته بِمصْر وَهِي الْمَعْرُوفَة بمنازل الْعِزّ فوليها وَأقَام فِيهَا مُفِيدا حَتَّى فَازَ فِي جنَّة النَّعيم بفوزه وخلت منَازِل الْعِزّ من منَازِل عزه وَأصْبح النَّاس حول سَرِيره مزدحمين وَعَلِيهِ متوجعين فوصلوا بِهِ إِلَى القرافة مَكَان الرَّحْمَة والرافة وَهُنَاكَ الأصاغر والأكابر من الْمُلُوك والأمراء مشَاة وجنازته بِمَا فِيهِ من لِبَاس التَّقْوَى مغشاة وَلما نفضوا أَيْديهم من ترابه انْفَضُّوا من أيادي بركته متربين وبنار اللهف والتلهب عَلَيْهِ مضطرمين مضطربين ونمى الْخَبَر إِلَى حماة وَعرف ابْن تَقِيّ الدّين فولى قَاضِي دمشق محيي الدّين بن الزكي بِمصْر وقُوف أَبِيه وسير نَائِبه لتسلم ذَلِك وتوليه وَكَانَ اتّفق حُضُوره عِنْده فِي الرسَالَة فاهتدى برشده إِلَى الضَّلَالَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 قَالَ وَفِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الْفَقِيه الْعَالم بدر الدّين عَسْكَر رَئِيس الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق قلت وَقيل كَانَت وَفَاته فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الأولى وَيعرف بِابْن العقادة قَالَ وَفِي سَابِع عشر شعْبَان توفّي بحلب الْفَقِيه الْكَبِير ظهير الدّين عبد السَّلَام الْفَارِسِي وَكَانَ أبرع فَقِيه وأفقه بارع ورد إِلَى أصفهان سنة تسع وَأَرْبَعين وَلَقي بهَا الْعلمَاء المبرزين وخالط صدورها بني الخجندي وَكَانَ تفقه بكرمان وَقَرَأَ على فَخر الدّين الرَّازِيّ من أكبر تلامذة مُحَمَّد بن يحيى وتنقل فِي بِلَاد خُرَاسَان وَالْعراق ولقيته بِمصْر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين فِي الْعَهْد الصلاحي وسامة السُّلْطَان الْمقَام بهَا ليفوض إِلَيْهِ التدريس بِقَبْر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَعبر وَمَا صَبر وَعَاد إِلَى الْبِلَاد ثمَّ وَفد إِلَى دمشق فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَتِسْعين ثمَّ سَار إِلَى حلب فِي ثَانِي شعْبَان فَكَانَ من وَفَاته بهَا مَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 قَالَ وَفِي هَذِه السّنة توفّي بنيسابور الْفَقِيه الْكَبِير محيي الدّين بن محيي الدّين مُحَمَّد بن يحيى وفيهَا توفّي أَيْضا صَاحب آمد قطب الدّين سكمان ابْن نور الدّين بن قرا أرسلان وفيهَا مَاتَ بِدِمَشْق فِي الْعشْر الْأَوْسَط من شعْبَان الْهمام الْعَبْدي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن نصر بن عقيل بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الْقَيْس من ربيعَة وَقدم دمشق سنة خمس وَتِسْعين وَهُوَ أشعر من رَأَيْته فِي هَذَا الزَّمَان وسمعته ينشد الْملك الْعَادِل ودمشق محصورة كلمة شاعرة وصادفته ذَا سمت حسن وفصاحه وحصافه ولسن وَمَعَهُ ديوَان شعره يحوي قلائد دره وفرائد سحره وتوفر على مدح الأمجد صَاحب بعلبك وَمن شعره (وَمَا النَّاس إِلَّا كَامِل الْحَظ نَاقص ... وَآخر مِنْهُم نَاقص الْحَظ كَامِل) (وَإِنِّي لمثر من حَيَاء وعفة ... وَإِن لم يكن عِنْدِي من المَال طائل) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 قَالَ وَتُوفِّي فِي هَذِه السّنة قبل الْفَاضِل بِثَلَاثَة أَيَّام الْأَثِير بن بنان وَكَانَ مشمولا فِي الدولتين بِكُل قبُول واحترام وإحسان وَكَانَ السُّلْطَان لما تصرف فِي الْقصر ولاه بيع موجوده وبذل فِي تصريفه غَايَة مجهوده وَلما فرغ من شغله أبقاه على رسم أنعامه كُله وَاسْتمرّ إمراره وَاسْتقر قراره وَجلسَ فِي بَيته يسمع عَلَيْهِ رواياته الْعَالِيَة حَتَّى أدْرك أَيَّام الْملك الْعَزِيز وَلم يدْرك فِي الْعِزّ أملا وَلم يملك عملا حَتَّى تغير خلقه وتقلل رزقه وَتبطل حَقه وَآل أمره إِلَى اعتقاله بالديوان واحتباسه فِي الرهون وَمِمَّنْ غاظه وَزِير الْعَزِيز وَكَانَ مؤدبه فِي الصغر واستوزره فِي الْكبر فتجهمه وأسمعه مَا كرهه وَقَالَ لَهُ مَا أحسن مَا أدبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 مخدومك وخرجته وعَلى مَرَاتِب أخلاقك دَرَجَته وَقَالَ للفاضل أَنا خلصتك فِي أَيَّام شاور مرَّتَيْنِ ودافعت عَنْك دفعتين وَهَذِه قصائدك فِي مدحي ومقاصدك لمنحي وَكَانَ يعرف لتقادم عَهده وانتقاله فِي الْحَالَات مبادىء أَرْبَاب المناصب فِي الغايات فكرهه النواب ودحضوه ولمعارض النوائب عرضوه وَكَانَ بِالْقَاهِرَةِ جاري وَبَاب دَاره مُقَابل بَاب دَاري وَأَنا أعينه فِي الْأَيَّام الصلاحية بأصلح إِعَانَة وأصونه بأرجح صِيَانة فصل فِي وَفَاة القَاضِي الْفَاضِل رَحمَه الله قَالَ الْعِمَاد وتمت فِي هَذِه السّنة الرزية الْكُبْرَى والبلية الْعُظْمَى وفجيعة أهل الْفضل بِالدّينِ وَالدُّنْيَا وَذَلِكَ بانتقال القَاضِي الْفَاضِل من دَار الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء فِي دَاره بالقاهره سادس ربيع الآخر يَوْم الثُّلَاثَاء وَكَانَ يَعْنِي ذَلِك الْيَوْم بمصاف الْأَفْضَل يَوْم الكسرة وبمصاب الْفَاضِل يَوْم الْحَسْرَة وَذكر أَنه لَيْلَة الثُّلَاثَاء فِي مدرسته صلى الْعشَاء وَجلسَ مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 الْفَقِيه ابْن سَلامَة مدرسها وتحدث مَعَه مَا شَاءَ وشوهد من كل لَيْلَة أبش وأبسم وأهش وَقد طابت المحاضرة وطالت المسامرة فانفصل إِلَى منزله صَحِيح الْبدن فصيح اللسن وَقَالَ لغلامه رتب حوائج الْحمام وعرفني حِين أَقْْضِي منى الْمَنَام فوافاه سحرًا للإعلام فَمَا اكترث بِصَوْت الْغُلَام وَلم يدر أَن كلم الْحمام حمى من الْكَلَام وَأَن وثوقه بِطَهَارَتِهِ من الْكَوْثَر أغناه عَن الْحمام فبادر إِلَيْهِ وَلَده فألفاه وَهُوَ سَاكِت باهت فَعرف أَن الْقدر لَهُ باغت فَلبث يَوْمه لَا يسمع لَهُ إِلَّا أَنِين خَفِي علم مِنْهُ أَنه بِعَهْد الله وَفِي ثمَّ قضى سعيدا وَمضى شَهِيدا حميدا فوقاه الله تَعَالَى الْوَصِيَّة فَكَانَت لَهُ بِسَيِّد الْأَوَّلين والآخرين أُسْوَة وَإِن يعرى عَن رِدَاء الْعُمر فَلهُ من حلل الْبَقَاء فِي عليين كسْوَة ولانه لم يبْق فِي مُدَّة حَيَاته عملا صَالحا إِلَّا وَقدمه وَلَا عهدا فِي الْجنَّة إِلَّا أحكمه وَلَا عقدا فِي الْبر إِلَّا أبرمه فَإِن صنائعه فِي الرّقاب وأوقافه على سَبِيل الْخيرَات متجاوزة عَن الْحساب لَا سِيمَا أوقافه لفكاك أُسَارَى الْمُسلمين إِلَى يَوْم الْحساب وأعان طلبة الْعلم الشَّافِعِيَّة والمالكية عِنْد دَاره بِالْمَدْرَسَةِ والأيتام بِالْكتاب والخيرات الدارة على الْأَيَّام فَكَانَت حَيَاة لَهُ ثَانِيَة إِلَى يَوْم الْبَعْث وإعادة حَيَاة الْأَنَام وَكَانَ رَحمَه الله للحقوق قَاضِيا وَفِي الْحَقَائِق مَاضِيا سُلْطَانه مُطَاع وَالسُّلْطَان لَهُ مُطِيع وفضله جَامع وَشَمل الْفضل بِهِ جَمِيع وَهُوَ وَاحِد الزَّمَان وَصَاحب الْقُرْآن قد خصّه الله بالمكانة ولامكان وَالسُّلْطَان رَحمَه الله من مفتتحات فتوحه ومختتماتها ومبادي أُمُور دولته وغاياتها مَا افْتتح الأقاليم إِلَّا بأقاليد آرابه وآرائه ومقاليد غناهُ وغنائه وَكنت من حَسَنَاته محسوبا وَإِلَى مُنَاسِب آلائه مَنْسُوبا أعرف صناعته وَيعرف صناعتي وأعارض بضاعته الثمينة بمزجاة بضاعتي وَلم يزل يجذب بضبعي ويجلب نفعي وَمَا أوسع ذرعه للخطاب فِي شغلي إِذا ضَاقَ بالخطب الشاغل ذرعي وَكَانَت كِتَابَته النَّصْر ويراعته رائعه الدَّهْر وبراعته بَارِية للبر وَعبارَته فِي عقد السحر وَكَانَت بلاغته للدولة مجملة وللمملكة مكملة وللعصر الصلاحي على سَائِر الْأَعْصَار مفضلة ومفتتحاته فِي الفتوحات البديعة بديعة ومخترعاته فِي الصَّنَائِع المخترعة صَنِيعَة وَإِنَّمَا نسجت على منواله ومزجت من جرياله وَرويت بزلاله وَهُوَ الَّذِي نسخ أساليب القدماء بِمَا أقدمه من الأساليب وأغربه من الابداع وأبدعه من الْغَرِيب وَمَا ألفيته كرر ذكره فِي مُكَاتبَة وَلَا ردد لفظا فِي مُخَاطبَة بل تَأتي فصوله مبتكرة مبتدهة مبتدهة لَا مفتكرة بِالْعرْفِ والعرفان معرفَة لَا نكرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 وَكَانَ رَحمَه الله للحقوق قَاضِيا وَفِي الْحَقَائِق مَاضِيا سُلْطَانه مُطَاع وَالسُّلْطَان لَهُ مُطِيع وفضله جَامع وَشَمل الْفضل بِهِ جَمِيع وَهُوَ وَاحِد الزَّمَان وَصَاحب الْقُرْآن قد خصّه الله بالمكانة والامكان وَالسُّلْطَان رَحمَه الله من مفتتحات فتوحه ومختتماتها ومبادي أُمُور دولته وغاياتها مَا افْتتح الأقاليم إِلَّا بأقاليد آرابه وآرائه ومقاليد غناهُ وغنائه وَكنت من حَسَنَاته محسوبا وَإِلَى مُنَاسِب آلائه مَنْسُوبا أعرف صناعته وَيعرف صناعتي وأعارض بضاعته الثمينة بمزجاة بضاعتي وَلم يزل يجذب بضبعي ويجلب نفعي وَمَا أوسع ذرعه للخطاب فِي شغلي إِذا ضَاقَ بالخطب الشاغل ذرعي وَكَانَت كِتَابَته كتائب النَّصْر ويراعته رائعة الدَّهْر وبراعته بَارِية للبر وَعبارَته فِي نافثة عقد السحر وَكَانَت بلاغته للدولة مجملة وللمملكة مكملة وللعصر الصلاحي على سَائِر الْأَعْصَار مفضلة ومفتتحاته فِي الفتوحات البديعة بديعة ومخترعاته فِي الصَّنَائِع المخترعة صَنِيعَة وَإِنَّمَا نسجت على منواله ومزجت من جرياله وَرويت بزلاله وَهُوَ الَّذِي نسخ أساليب القدماء بِمَا أقدمه من الأساليب وأغربه من الابداع وأبدعه من الْغَرِيب وَمَا ألفيته كرر دُعَاء ذكره فِي مُكَاتبَة وَلَا ردد لفظا فِي مُخَاطبَة بل تَأتي فصوله مبتكرة مبتدعة مبتدهة لَا مفتكرة بِالْعرْفِ والعرفان معرفَة لَا نكرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 وَكَانَت الدولة بادالته تدال والزلة بازالته تزَال والكرام فِي ظله يقيلون وَمن عثرات النوائب بفضله يستقيلون وبعز حمى حمايته يعزون ولهز عطف عطفه يهتزون فالى من الْوِفَادَة بعده وَمِمَّنْ الافادة وفيمن السِّيَادَة وَلمن السَّعَادَة وَالْحَمْد لله الَّذِي لَهُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة و {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} ولأمره منقادون وَقد وَصفه الْعِمَاد أَيْضا فِي كتاب الخريدة فِي الْقسم الرَّابِع فِي ذكر محَاسِن فضلاء مصر وأعمالها فَقَالَ وَقبل شروعي فِي ذكر أَعْيَان مصر وأحاسنها ومزايا فضلائها ومزاينها أقدم ذكر من جَمِيع أفاضل الدَّهْر وأماثل الْعَصْر كالقطرة فِي تيار بحره بل كالذرة فِي أنوار فجره وَهُوَ الْمولى القَاضِي الْأَجَل الْفَاضِل الأسعد أَبُو عَليّ عبد الرَّحِيم بن القَاضِي الْأَشْرَف أَبى الْمجد عَليّ بن الْحسن البيساني صَاحب الْقُرْآن العديم الأقران وَوَاحِد الزَّمَان الْعَظِيم الشان رب الْقَلَم وَالْبَيَان واللسن وَاللِّسَان والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة وَالْفضل الَّذِي مَا سمع فِي الْأَوَائِل مِمَّن لَو عَاشَ فِي زَمَانه لتَعلق بغباره أَو جرى فِي مضماره فَهُوَ كالشريعة المحمدية الَّتِي نسخت الشَّرَائِع ورسخت بهَا الصَّنَائِع يخترع الأفكار ويفترع الْأَبْكَار ويطلع الْأَنْوَار ويبدع الأزهار وَهُوَ ضَابِط الْملك بآرائه ورابط السلك بآلائه إِن شَاءَ أنشأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 فِي يَوْم وَاحِد بل فِي سَاعَة مَا لَو دون لَكَانَ لأهل الصِّنَاعَة خير بضَاعَة أَيْن قس عِنْد فَصَاحَته وَأَيْنَ قيس فِي مقَام حصافته وَمن حَاتِم وَعَمْرو فِي سماحته ومماسته فَضله بالافضال حَال وَنجم قبُوله فِي أفق الاقبال عَال لَا من فِي فعله وَلَا مين فِي قَوْله وَلَا خلف فِي وعده وَلَا بطء فِي رفده الصَّادِق الشيم السَّابِق بِالْكَرمِ ذُو الْوَفَاء والمروة والصفاء والفتوة والتقى وَالصَّلَاح والندى والسماح منشر رفات الْعلم وناشر راياته وجالي غيابات الْفضل وتالي آيَاته وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله الَّذين خصوا بكرامته وَأَخْلصُوا لولايته وَقد وَفقه الله للخير كُله وَفضل هَذَا الْعَصْر على الْأَعْصَار السالفة بفضله ونبله فَهُوَ مَعَ مَا يَتَوَلَّاهُ من أشغال المملكة الشاغلة ومهماته المستغرقة فِي العاجلة لَا يغْفل عَن الآجلة وَلَا يفتر عَن الْمُوَاظبَة على نوافل صلَاته ونوافل صلَاته وَحفظ أوراده ووظائفه وَبث أصفاده وعوارفه وَيخْتم كل يَوْم من الْقُرْآن الْمجِيد ويضيف إِلَيْهِ مَا شَاءَ الله من الْمَزِيد وَأَنا أوثر أَن أفرد لنظمه ونثره كتابا فانني أغار من ذكره مَعَ الَّذين هم كالسها فِي فلك شمسه وذكائه وكالثرى عِنْد ثريا علمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 وذكائه فَإِنَّمَا تبدو النُّجُوم إِذا لم تبرز الشَّمْس حاجبها ويحجب نور الغزالة عِنْد إشراقها كواكبها ولانه لَا يُؤثر أَيْضا إِثْبَات ذَلِك فَأَنا ممتثل لأَمره المطاع مُلْتَزم لَهُ قانون الِاتِّبَاع وَاضع أُذُنِي لإذنه قَابض يَمِيني على يمنه راكن بأملي إِلَى رُكْنه قاطن برجائي فِي ظلّ أَمنه أفترض رِضَاهُ وَلَا أعترض على مَا يحكم بِهِ وَيَرَاهُ وَلَا أقوم إِلَّا حَيْثُ يقيمني وَلَا أسوم إِلَّا مَا يسومني ولاأعرف يدا ملكتني غير يَده وَلَا أتصدى إِلَّا لما جعلني بصدده وأسأل الله التَّوْفِيق للثبات على هَذِه السّنَن وانتهاج جدده وَهُوَ أَحَق ممدوحي بمدحي وأقضاهم لحقه وأسماهم فِي أفقه وأولاهم بصدقه وأهداهم إِلَى طرقه ولي فِيهِ مدائح منظومة ومنثورة ومقاصد معاهدها بفضله معمورة وقصائد قلائدها على مجده موفورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 ثمَّ ذكر مِنْهَا بعض مَا تقدم ذكره فِي مَوَاضِع من هَذَا الْكتاب وَله فِيهِ من قصيدة أَولهَا (بحياتكم مَا عنْدكُمْ بعدِي ... فسوى الأسى مَا بعدكم عِنْدِي) (مَا للأحبة لَا عدمتهم ... رَغِبُوا عَن الاسعاد فِي الزّهْد) (إِن لم يفوا فَلَقَد وفى كرما ... عبد الرَّحِيم بِذِمَّة الْمجد) (ذُو الرُّتْبَة الشماء والشرف العالي ... السنا والسؤدد الْعد) (النَّاس كلهم لَهُ تبع ... فِي فَضله والدهر كَالْعَبْدِ) (كم غاص بَحر بنانه فغدا ... در الْبَيَان يساق فِي العقد) (إِن سود الْبَيْضَاء بيض من ... ثوب اللَّيَالِي كل مسود) (قلم أقاليم الْبِلَاد بِهِ ... وثغورها للضبط والسد) (ملك كتيبته كِتَابَته ... فَرد بِجَيْش النَّصْر فِي جند) (الأسمر الخطي تَابعه ... فِي حكمه والأبيض الْهِنْدِيّ) (والنائبات بحده أبدا ... مثلومة مفلولة الْحَد) وَهِي طَوِيلَة ثمَّ قَالَ وَلَو أوردت من كَلَامه طرفا لظهر عجز الأفاضل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 وَاعْتَرَفت بالقصور ذَوُو الْفَضَائِل فَلَا يحسن ذكر الْبَحْر فِي الجداول وَلَا الْعَرْش فِي الْمنَازل فَأَنا أوثر أَن أفرده بقسم لَا يمتزج بسواه وَلَا يتبهرج بِهِ من فِي جملَته أوردناه وَلَعَلَّه يَأْذَن لي فِي ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا نَفاذ للتَّصَرُّف إِلَّا بعد الفكاك من رَهنه قلت وَقد قَالَت الشُّعَرَاء فِيهِ فَأَكْثرُوا وَقد تقدم لأبي الْحسن بن الذروي فِيهِ أَبْيَات حَسَنَة عَامي حجه وللتاج أبي الْفَتْح البلطي فِيهِ (لله عبد رَحِيم ... يدعى بِعَبْد الرَّحِيم) (على صِرَاط سوي ... من الْهدى مُسْتَقِيم) (ينمى إِلَى شرف فِي ... ذرى الْمَعَالِي صميم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 (مهذب حَاز مَا شِئْت ... من تقى وعلوم) (نسك ابْن مَرْيَم عِيسَى ... وهدي مُوسَى الكليم) (يرى التَّهَجُّد أنسا ... فِي جنح ليل بهيم) (مسهد الطّرف يَتْلُو ... آي الْقُرْآن الْعَظِيم) وللقاضي السعيد هبة الله بن سناء الْملك فِيهِ من قصيدة (عبد الرَّحِيم على الْبَريَّة رَحْمَة ... أمنت بصحبتها حُلُول عقابها) (يَا سَائِلًا عَنهُ وَعَن أَسبَابه ... نَالَ السَّمَاء فسله عَن أَسبَابهَا) (والدهر يعلم أَن فيصل خطبه ... بخطى يراعته وَفصل خطابها) (وَلَقَد علت رتب الْأَجَل على الورى ... بسمو منصبها وَطيب نصابها) (واتته خاطبة إِلَيْهِ وزارة ... ولطالما أعيت على خطابها) (مَا لقبوه بهَا لَان يَعْلُو بهَا ... أسماؤه أغنته عَن ألقابها) (قَالَ الزَّمَان لغيره إِذْ رامها ... تربت يَمِينك لست من أترابها) (اذْهَبْ طريقك لست من أَرْبَابهَا ... وارجع وَرَاءَك لست من أَصْحَابهَا) (وبعز سيدنَا وَسيد عزنا ... ذلت من الْأَيَّام شمس صعابها) (وَأَتَتْ سعادته إِلَى أبوابه ... لَا كَالَّذي يسْعَى إِلَى أَبْوَابهَا) (تعنو الْمُلُوك لوجهه بوجوهها ... لَا بل تساق لبابه برقابها) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 (شغل الْمُلُوك بِمَا يَقُول وَنَفسه ... مَشْغُولَة بِالذكر فِي مِحْرَابهَا) (فِي الصَّوْم والصلوات أتعب نَفسه ... وَضَمان رَاحَته على إتعابها) (وتعجل الاقلاع عَن لذاته ... ثِقَة بِحسن مآلها ومآبها) (فلتفخر الدُّنْيَا بسائس ملكهَا ... مِنْهُ ودارس علمهَا وكتابها) (صوامها قوامها علامها ... عمالها بذالها وهابها) وَله فِيهِ أَيْضا من أُخْرَى (وَسَأَلت من أَي الْمَعَادِن ثغرها ... فَوجدت من عبد الرَّحِيم المعدنا) (أَبْصرت جَوْهَر ثغرها وَكَلَامه ... فَعلمت حَقًا أَن هَذَا من هُنَا) (ذَاك الْكَلَام من الْكَمَال بمنزل ... لَا يدْرك السَّاعِي إِلَيْهِ سوى العنا) (يدنو من الأفهام إِلَّا أَنه ... يلقاه أبعد مَا يكون إِذا دنا) قلت كَانَ وَالِده تولى الْقَضَاء بعسقلان وأنفذ وَلَده الْفَاضِل إِلَى مصر فاتصل بِكِتَاب الدولة المصرية أبي الْفَتْح ابْن قادوس وَغَيره وَفتح الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الصِّنَاعَة ففاق فِيهَا أهل عصره مُضَافا إِلَى مَا منحه الله تَعَالَى من علو قدره وَقد سبق من ترسلاته مَا يشْهد لعَظيم أمره وقرأت من نظمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 (وَسيف عَتيق للعلاء فَإِن يقل ... رَأَيْت أَبَا بكر فَقل وعتيق) (فزر بَابه فَهُوَ الطَّرِيق إِلَى الندى ... ودع كل بَاب مَا إِلَيْهِ طَرِيق) وَله أَيْضا (سبقتم بإسداء الْجَمِيل تكرما ... وَمَا مثلكُمْ فِيمَن تحدث أَو حكى) (وَقد كَانَ ظَنِّي أَن أسابقكم بِهِ ... وَلَكِن بَكت قبلي فهيج إِلَى البكا) وَدفن رَحمَه الله بمقبرته بالقرافة وقرأت فِي تَارِيخ أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل القليوبي الَّذِي ذيله على تَارِيخ أبي الْقَاسِم السمناني قَالَ حَدثنِي الْملك المحسن أَحْمد ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين أَن يَوْم مَاتَ الْفَاضِل اتّفق دُخُول السُّلْطَان الْملك الْعَادِل إِلَى مصر وَأَخذهَا من ابْن أَخِيه الْأَفْضَل قَالَ دخل الْعَادِل من بَاب وَخَرجْنَا نسرع بالجنازة من بَاب آخر قَالَ وَأكْثر أهل مصر يذكرُونَ أَن كتبه الَّتِي جمعهَا مِقْدَار مئة ألف مُجَلد وَكَانَ يجمعها من سَائِر الْبِلَاد قَالَ وَسمعت قَاضِي الْقُضَاة ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري بِبَغْدَاد أَيَّام ولَايَته يحدث أَن القَاضِي الْفَاضِل لما سمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 أَن الْعَادِل أَخذ الديار المصرية دَعَا على نَفسه بِالْمَوْتِ خشيَة أَن يستدعيه وزيره صفي الدّين بن شكر إِلَيْهِ أَو يجْرِي فِي حَقه إهانة وَكَانَ بَينهمَا مقارصة فَأصْبح مَيتا وَكَانَت لَهُ مُعَاملَة حَسَنَة مَعَ الله تَعَالَى وَصَلَاة بِاللَّيْلِ كَمَا ذكرُوا عَنهُ رَحمَه الله قلت وَأَخْبرنِي القَاضِي الشَّهِيد ضِيَاء الدّين ابْن أبي الْحجَّاج صَاحب ديوَان الْجَيْش رَحمَه الله أَن القَاضِي الْفَاضِل بعد صَلَاح الدّين لم يخْدم أحدا من أَوْلَاده وَكَانَت الدولة بأسرها تَأتي إِلَى خدمته إِلَى أَن توفّي قَالَ وَلما قدم الْعَادِل إِلَى مصر وملكها بَات لَيْلَة ثمَّ أصبح فزار قبر الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَجَاء إِلَى قبر الْفَاضِل فزاره قَالَ ابْن أبي الْحجَّاج وَأَنا حَاضر ذَلِك ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة قَالَ الْعِمَاد وفيهَا توفّي الْأَمِير عز الدّين إِبْرَاهِيم بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم فِي حصن أفامية وفيهَا أَو فِي سنة سِتّ قبلهَا توفّي السُّلْطَان خوارزم شاه بن تكش بن أيل أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد وَهُوَ الَّذِي زَالَت دولة السلجقية بِملكه وَاجْتمعَ لَهُ مَعَ خوارزم خُرَاسَان وَالْعراق وَلما مَاتَ قَامَ وَلَده عَلَاء الدّين مُحَمَّد مقَامه قَالَ وفيهَا كتب السُّلْطَان الْعَادِل للأمير فَخر الدّين أياز سركس بأعمال تبنين وهونين وبانياس والحولة وَمَا يجْرِي مَعهَا وَكَانَت مَعَ الْأَمِير حسام الدّين بِشَارَة فحاصره وأنجده الْملك الْمُعظم عِيسَى ابْن السُّلْطَان من دمشق فَسلم الْبِلَاد وَخرج قَالَ وفيهَا توفّي الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ من القدماء الكرماء وشيوخ الدولة الكبراء أَمِير الأَسدِية ومقدمها وكريمها ومكرمها وَلم أر غَيره خَصيا لم تقاومه الفحول وَلم تُؤثر فِي محَال مأثراته المحول وَله فِي الْغَزَوَات والفتوحات مَوَاقِف مَعْرُوفَة ومقامات مَوْصُوفَة وَهُوَ الَّذِي احتاط على الْقصر حِين استتبت على متوليه أَسبَاب النَّصْر وَذَلِكَ قبل موت العاضد بِمدَّة وَلما خطب لبني الْعَبَّاس بالديار المصرية تسلم الْقصر بِمَا فِيهِ وَاسْتظْهر على أقَارِب العاضد وبنيه وَتَوَلَّى عمَارَة الأسوار المحيطة بِمصْر والقاهرة وأتى فِيهَا بالعجائب الظَّاهِرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 وَكَانَ معَاذ الالتجاء وملاذ الإرتجاء غير أَنه نسب إِلَى اللجاج لشدَّة ثباته وفرط جموده وَلَا يكَاد يعجم لصلابة عوده وَلما توفّي تسلم السُّلْطَان دَاره بِمَا حوته من الذَّخَائِر وَصَارَت إقطاعاته للْملك الْكَامِل قَالَ وفيهَا نقل إِلَى السُّلْطَان عَن غُلَام الْأَمِير أيبك الفطيس أَن جمَاعَة قد عزموا على الفتك بالسلطان حَال ركُوبه وَأسْندَ أصل ذَلِك إِلَى الْملكَيْنِ الْمعز إِسْحَاق والمؤيد مَسْعُود وَلَدي صَلَاح الدّين رَحمَه الله فأحضر الْغُلَام وعصره فَمَاتَ وَلم يقر واعتقل الْمعز والمؤيد وَنزع من اتهمه فِي ذَلِك من الْأُمَرَاء الصلاحية وَتكلم النَّاس بِأَحَادِيث فِي هَذِه الْقَضِيَّة قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ الغلاء وامتد الْبلَاء وتحققت المجاعة وَتَفَرَّقَتْ الْجَمَاعَة وَهلك الْقوي فَكيف الضَّعِيف ونهك السمين فَكيف العجيف وَخرج النَّاس حذر الْمَوْت من الديار وتفرق فرق بِمصْر فِي الْأَمْصَار وَرَأَيْت الأرامل على تِلْكَ الرمال وَالْجمال باركة تَحت الْأَحْمَال ومراكب الفرنج على سَاحل الْبَحْر على اللقم تسْتَرق الجياع باللقم فَقل من إِلَى الشَّام خلص إِلَّا بعد أَن قل عدد أَهله وَنقص قلت ثمَّ زَالَت تِلْكَ الشدَّة بعد مُدَّة وَتُوفِّي الْعِمَاد الْكَاتِب رَحمَه الله مُصَنف هَذِه الْكتب الْفَتْح والبرق وَهَذِه الرسائل الثَّلَاث العتبى والنحلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 والخطفة بِدِمَشْق فِي أول شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة وَهِي سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة وَدفن بمقابر الصُّوفِيَّة بالشرف القبلي وَفِي هَذِه السّنة توفى الشَّيْخ أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن الْجَوْزِيّ الْوَاعِظ رَحمَه الله تَعَالَى وَغَيره وَتُوفِّي الْملك الْأَفْضَل بسميساط فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وست مئة وَحمل إِلَى حلب فَدفن بهَا وَتُوفِّي الْملك الظَّاهِر بحلب فِي سنة ثَلَاث عشرَة وست مئة وفيهَا توفّي بِدِمَشْق الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَغَيره وَدفن بِالْجَبَلِ وَتُوفِّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب بِدِمَشْق فِي سنة خمس عشرَة وست مئة وَابْنه الْملك الْمُعظم فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَعشْرين وست مئة وابناه الْأَشْرَف والكامل فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وست مئة رَحِمهم الله تَعَالَى ووفق من بَقِي من أهل بَيتهمْ وَأصْلح ذَات بَينهم آمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 آخر الْكتاب وَالْحَمْد لله الْملك الْوَهَّاب وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آله وَأَصْحَابه خير آل وَأَصْحَاب وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الْحساب وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487