الكتاب: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى المؤلف: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ) المحقق: جعفر الناصري/ محمد الناصري الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء سنة النشر: عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أحمد بن خالد الناصري الكتاب: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى المؤلف: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ) المحقق: جعفر الناصري/ محمد الناصري الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء سنة النشر: عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى]ـ المؤلف: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315هـ) المحقق: جعفر الناصري/ محمد الناصري الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء سنة النشر: عدد الأجزاء: 3 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الْملك المعبود الرؤوف الرَّحِيم الْوَدُود الْمخْرج لِلْخلقِ من ظلمَة الْعَدَم إِلَى نور الْوُجُود الفاتح عَلَيْهِم بمعرفته والتحقق بوحدانيته كل بَاب مسدود الدَّال لَهُم على باهر حكمته وعظيم قدرته بِالْمَعْنَى الْمَعْقُول والحس الْمَشْهُود فَلَا يرتاب فِي أَنه الْوَاحِد الْقَدِير الْعَلِيم الْخَبِير إِلَّا الكفور الكنود خلق الْعباد وَقدر آجالهم وأحصى أنفاسهم وأمالهم وأوقفهم من شَرعه على نهج سوي وحد مَحْدُود فَمن وقف عِنْده وأطاع فقد فَازَ من ثَمَرَة الإيجاد بِالْمَقْصُودِ وَمن حاد عَنهُ واستكبر فقد أورد نَفسه الردى وَبئسَ الْورْد المورود نحمده تَعَالَى على مَا أَسْبغ من النعم الْبيض وكسا من البرود وأزاح من الْعِلَل وَوقى من النوب السود ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة نتبوأ بهَا من الْجنان السدر المخضود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 والطلح المنضود والظل الْمَمْدُود ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أكْرم مَبْعُوث وأشرف مَوْلُود صَاحب الْمقَام الْمَحْمُود واللواء الْمَعْقُود والحوض المورود صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين هم فِي محافل السّلم بدور وَفِي جحافل الْحَرْب أسود وَلَهُم فِي أَتْبَاعه ونصرته الْيَد الْبَيْضَاء والباع الْمَمْدُود وَالدُّعَاء لأمير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن كَوْكَب السُّعُود ومنبع الْكَرم والجود والمنير بطلعته الغراء وإمامته الْبَيْضَاء الأغوار والنجود لَا زَالَت بِهِ مِلَّة الْإِسْلَام بحول الله فِي صعُود تردي الْكفْر وتنفي الْبَغي وتذود وتصول على الضلال وَتسود آمين وَبعد فَيَقُول مُؤَلفه أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي عَفا الله عَنهُ هَذَا بعون الله كتاب الِاسْتِقْصَاء لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى كتاب جمعته لنَفْسي وَلمن شَاءَ الله من أَبنَاء جنسي ذكرت فِيهِ دوَل هَذَا الْقطر المغربي من لدن الْفَتْح الإسلامي إِلَى وقتنا هَذَا الَّذِي هُوَ آخر الْقرن الثَّالِث عشر سالكا فِيمَا أنقله من ذَلِك سَبِيل الِاخْتِصَار آتِيَا مِنْهُ بِمَا تسمو إِلَيْهِ النُّفُوس من حوادث الْأَعْصَار ملما بِمَا لَا بُد مِنْهُ من وفيات بعض الْأَئِمَّة المقتدى بهم فِي الدّين متبركا أَولا بِذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه الرَّاشِدين متحريا من القَوْل أَصَحهَا وَمن الْعبارَات أفصحها وَالله تَعَالَى المسؤول فِي بُلُوغ المأمول فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الْمِنَّة والطول وَبِيَدِهِ تَعَالَى الْقُوَّة والحول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مُقَدّمَة فِي فضل علم التَّارِيخ اعْلَم أَن علم التَّارِيخ من أجل الْعُلُوم قدرا وأرفعها منزلَة وذكرا وأنفعها عَائِدَة وذخرا وَكَفاهُ شرفا أَن الله تَعَالَى شحن كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه من أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والقرون الخالية بِمَا أفحم بِهِ أكَابِر أهل الْكتاب وأتى من ذَلِك بِمَا لم يكن لَهُم فِي ظن وَلَا حِسَاب ثمَّ لم يكتف تَعَالَى بذلك حَتَّى امتن بِهِ على نبيه الْكَرِيم وَجعله من جملَة مَا أسداه إِلَيْهِ من الْخَيْر العميم فَقَالَ جلّ وَعلا {تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها} وَقَالَ {وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك} وَقَالَ {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب} وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يحدث أَصْحَابه بأخبار الْأُمَم الَّذين قبلهم ويحكي من ذَلِك مَا يشْرَح بِهِ صُدُورهمْ وَيُقَوِّي إيماناهم ويؤكد فَضلهمْ وَكتاب بَدْء الْخلق من صَحِيح البُخَارِيّ رَحمَه الله كَفِيل بِهَذَا الشَّأْن وَآت من الْقدر المهم مِنْهُ مَا يبرد غلَّة العطشان قَالَ بَعضهم احْتج الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على أهل الْكِتَابَيْنِ بالتاريخ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} وَحكى بدر الدّين الْقَرَافِيّ رَحمَه الله إِن الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول مَا مَعْنَاهُ دأبت فِي قِرَاءَة علم التَّارِيخ كَذَا وَكَذَا سنة وَمَا قرأته إِلَّا لأستعين بِهِ على الْفِقْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قلت معنى كَلَام الشَّافِعِي هَذَا أَن علم التَّارِيخ لما كَانَ مطلعا على أَحْوَال الْأُمَم والأجيال ومفصحا عَن عوائد الْمُلُوك والأقيال ومبينا من أعراف النَّاس وأزيائهم ونحلهم وأديانهم مَا فِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر وَحِكْمَة بَالِغَة لمن تدبر وافتكر كَانَ معينا على الْفِقْه وَلَا بُد وَذَلِكَ أَن جلّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَبْنِيّ على الْعرف وَمَا كَانَ مَبْنِيا على الْعرف لَا بُد أَن يطرد باطراده وينعكس بانعكاسه وَلِهَذَا ترى فتاوي الْفُقَهَاء تخْتَلف باخْتلَاف الْأَعْصَار والأقطار بل والأشخاص وَالْأَحْوَال وَهَذَا السَّبَب بِعَيْنِه هُوَ السِّرّ فِي اخْتِلَاف شرائع الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتباينها حَتَّى جَاءَ مُوسَى بشرع وَعِيسَى بآخر وَمُحَمّد بسوى ذَلِك صلى الله على جَمِيعهم وَسلم تمّ فَائِدَة التَّارِيخ لَيست محصورة فِيمَا ذَكرْنَاهُ بل لَهُ فَوَائِد أخر جليلة لَو قيل بِعَدَمِ حصرها مَا بعد قَالَ الْجلَال السُّيُوطِيّ رَحمَه الله من فَوَائِد التَّارِيخ وَاقعَة رَئِيس الرؤساء الْمَشْهُورَة مَعَ الْيَهُود بِبَغْدَاد وحاصلها أَنهم أظهرُوا رسما قَدِيما يتَضَمَّن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن يهود خَيْبَر وَفِيه شَهَادَة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَرفع الرَّسْم إِلَى رَئِيس الرؤساء وعظمت حيرة النَّاس فِي شَأْنه ثمَّ عرض على الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فَتَأَمّله وَقَالَ هَذَا مزور فَقيل لَهُ بِمَ عَرفته قَالَ فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة وَهُوَ إِنَّمَا أسلم عَام الْفَتْح سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وخيبر فتحت سنة سبع وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَهُوَ مَاتَ يَوْم بني قُرَيْظَة وَذَلِكَ قبل فتح خَيْبَر فسر النَّاس بذلك وزالت حيرتهم اه قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي حُدُود صدر هَذِه الْمِائَة أَعنِي الْمِائَة الْحَادِيَة عشرَة ظهر نَحْو هَذَا الْكتاب المزور بِمَعْنَاهُ وَالرَّفْع على خطوطه بتاريخ سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بِالْمُوَحَّدَةِ ثمَّ ظهر أَيْضا بتاريخ سِتّ وَثَمَانمِائَة ثمَّ تعدد ظُهُوره مرَارًا آخرهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف مُسَمّى فِيهِ جمَاعَة مِمَّن شهرتهم بِالدّينِ وَالْعلم قاطعه بالتقول عَلَيْهِم فِي ذَلِك انْظُر بَقِيَّة كَلَامه قلت وَقد وقفت فِي بعض التقاييد المظنون بهَا الصِّحَّة على كَلَام للأديب أبي عبد الله اليفرني الْمَعْرُوف بالصغير فِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ جرى بِمَجْلِس شَيخنَا قَاضِي الْجَمَاعَة فلَان الْفُلَانِيّ ذكر علم التَّارِيخ فَقَالَ إِن علم التَّارِيخ يضر جَهله وَتَنْفَع مَعْرفَته لَا كَمَا قيل إِنَّه علم لَا ينفع وجهالة لَا تضر قَالَ وَانْظُر مَا وَقع فِي هَذَا الْوَقْت فِي حُدُود عشر وَمِائَة ألف من أَن نَفرا من يهود فاس الْجَدِيد امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة وأخرجوا ظهيرا قَدِيما مضمنه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقد لمُوسَى بن حييّ بن أَخطب أخي صَفِيَّة رَضِي الله عَنْهَا وَلأَهل بَيت صَفِيَّة الْأمان لَا يطَأ أَرضهم جَيش وَلَا عَلَيْهِم نزل وَلَهُم ربط العمائم فعلى من أحب الله وَرَسُوله أَن يؤمنهم وَكتب عَليّ بن أبي طَالب وَشهد عَتيق بن أبي قُحَافَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وتاريخ شَهَادَتهم فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع من الْهِجْرَة قَالَ شَيخنَا فَظهر لي ولعلماء الْعَصْر أَن ذَلِك زور وافتراء لَا شكّ فِيهِ وَلَا امتراء لِأَن التَّارِيخ بِالْهِجْرَةِ إِنَّمَا حدث زمن عمر سنة سبع عشرَة لأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 اقْتَضَت ذَلِك كَمَا فِي ابْن حجر وَلِأَن أهل التَّارِيخ لم يذكرُوا لصفية أَخا اسْمه مُوسَى وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ فِي الْأَحَادِيث أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قتل أَبَا صَفِيَّة وَزوجهَا وَلِأَن الظهير الَّذِي استظهروا بِهِ نُسْخَة من الأَصْل الَّذِي فِيهِ خطوط الصَّحَابَة وَقد أَرخُوا الاستنساخ من الأَصْل بِسنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فقد تَأَخّر خطّ الصَّحَابَة بزعمهم إِلَى الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَيف يتَوَصَّل فِي الْمِائَة الثَّامِنَة إِلَى أَن ذَلِك خطّ الصَّحَابَة هَذَا خُلَاصَة مَا كتبه أهل فاس فِي إبِْطَال الظهير وَلما رفع ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله عاقب الْيَهُود عقَابا شَدِيدا اه وَبِالْجُمْلَةِ ففضيلة علم التَّارِيخ شهيرة وَفَائِدَته جليلة خطيرة ومادحه مَحْمُود غير ملوم والْحَدِيث بفضله حَدِيث بِمَعْلُوم وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول (وَبعد فالتاريخ والإخبار ... فِيهِ لنَفس الْعَاقِل اعْتِبَار) (وَفِيه للمستبصر استبصار ... كَيفَ أَتَى الْقَوْم وَكَيف صَارُوا) (يجْرِي على الْحَاضِر حكم الْغَائِب ... فَيثبت الْحق بِسَهْم صائب) (وَينظر الدُّنْيَا بِعَين النبل ... وَيتْرك الْجَهْل لأهل الْجَهْل) وَقَالَ الآخر (لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا عَاقل ... من لَا يعي التَّارِيخ فِي صَدره) (وَمن روى أَخْبَار من قد مضى ... أضَاف أعمارا إِلَى عمره) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم أما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهيميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام ابْن تارح وَهُوَ آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام ابْن لامك بن متوشلخ بن حنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَما مَا بَين رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين عدنان فمتفق عَلَيْهِ عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأما مَا بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل فمختلف فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا مَا بَين سَبْعَة آبَاء إِلَى نَحْو الْأَرْبَعين وَالْمُخْتَار مَا ذَكرْنَاهُ تبعا لأبي الْفِدَاء وَأما مَا بَين إِسْمَاعِيل وآدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام فمتفق عَلَيْهِ عِنْد أهل الْكتاب وَهِي أَسمَاء أَعْجَمِيَّة يكثر تغييرها لصعوبة النُّطْق بحروفها وَالله أعلم قَالَ ابْن خلدون ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفِيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول لأربعين سنة من ملك كسْرَى أنو شرْوَان وَقيل لثمان وَأَرْبَعين ولثمانمائة واثنتين وَثَمَانِينَ سنة لذِي القرنين وَمَات أَبوهُ عبد الله وَأمه حَامِل بِهِ وكفله جده عبد الْمطلب واسترضع لَهُ امْرَأَة من بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 سعد بن بكر اسْمهَا حليمة بنت أبي ذُؤَيْب السعدية فَكَانَ عِنْدهَا نَحْو أَربع سِنِين وشق صَدره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عِنْدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة من مولده فخافت عَلَيْهِ وردته إِلَى أمه ثمَّ مَاتَت أمه عقب ذَلِك وَاسْتمرّ فِي كَفَالَة جده عبد الْمطلب إِلَى أَن توفّي أَيْضا لمضي ثَمَان سِنِين من مولده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأوصى بِهِ عبد الْمطلب إِلَى ابْنه أبي طَالب فَكَفَلَهُ أَبُو طَالب أحس كَفَالَة وَقَامَ بِشَأْنِهِ أتم قيام وَنَشَأ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نشأة طيبَة يحفظه ربه ويكلؤه لما يُرِيد بِهِ من كرامته ويهيء لَهُ من نبوته ورسالته وَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَشهد بِنَاء الْكَعْبَة وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة وَوضع الْحجر الْأسود بِيَدِهِ الشَّرِيفَة فِي مَوْضِعه بعد أَن تراضت قبائل قُرَيْش عَلَيْهِ ثمَّ آتَاهُ الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة على رَأس أَرْبَعِينَ سنة من عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أول مَا بدىء بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَلمُسلم الصادقة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء يَتَحَنَّث فِيهِ والتحنث التَّعَبُّد اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد قبل أَن يرجع إِلَى أَهله ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْي وَفِي رِوَايَة حَتَّى فجئه الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ اقْرَأ فَقَالَ (مَا أَنا بقارىء قَالَ فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ اقْرَأ قلت مَا أَنا بقاريء فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ {اقْرَأ فَقلت مَا أَنا بقارىء فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ} (اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم) فَرجع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترجف بوادره حَتَّى دخل على خَدِيجَة فال (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة (أَي خَدِيجَة مَالِي) وأخبرها الْخَبَر وَقَالَ (لقد خشيت على نَفسِي) قَالَت لَهُ خَدِيجَة كلا أبشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فو الله لَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة وَكَانَ امراءا تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني فِي كتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمى فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة أَي ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك فَقَالَ لَهُ ورقة يَا ابْن أخي مَاذَا ترى فَأخْبرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر مَا رأى فَقَالَ لَهُ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي أنزل الله على مُوسَى يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا لَيْتَني أكون حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَو مخرجي هم) قَالَ نعم لم يَأْتِ رجل قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا ثمَّ لم يلبث ورقة أَن توفّي وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول الله حَقًا فيسكن لذَلِك جأشه وتقر عينه فَيرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك فيتبدى لَهُ جِبْرِيل فَيَقُول لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ نزل عَلَيْهِ بعد فَتْرَة الْوَحْي سُورَة المدثر قَالَ الْعلمَاء كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ نَبيا فَقَط ثَلَاث سِنِين لم يُؤمر فِيهَا بإنذار ثمَّ أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام برسالة من ربه عز وَجل فَكَانَ فِيمَا أنزل عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِسَنَدِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (يَا عَليّ إِن الله أَمرنِي أَن أنذر عشيرتي الْأَقْرَبين فضقت بذلك ذرعا وَعرفت أَنِّي مَتى أباديهم بِهَذَا الْأَمر أرى مِنْهُم مَا أكره فَصمت عَلَيْهَا حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن لَا تفعل مَا تُؤمر يعذبك رَبك فَاصْنَعْ لنا طَعَاما وَاجعَل لنا عَلَيْهِ رجل شَاة واملأ لنا عسا من لبن ثمَّ اجْمَعْ لي بني عبد الْمطلب حَتَّى أبلغهم مَا أمرت بِهِ) فَفعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 مَا أَمرنِي بِهِ ثمَّ دعوتهم لَهُ وَكَانُوا يَوْمئِذٍ نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا يزِيدُونَ رجلا أَو ينقصونه فيهم أَعْمَامه أَبُو طَالب وَحَمْزَة وَالْعَبَّاس وَأَبُو لَهب فَلَمَّا اجْتَمعُوا دَعَاني بِالطَّعَامِ الَّذِي صنعت فَجئْت بِهِ فَتَنَاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جذبه من اللَّحْم فَشَقهَا بِأَسْنَانِهِ ثمَّ أَلْقَاهَا فِي نواحي الصحفة ثمَّ قَالَ (كلوا باسم الله) فَأكل الْقَوْم حَتَّى مَا لَهُم بِشَيْء من حَاجَة وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليَأْكُل مثل مَا قدمت لجميعهم ثمَّ قَالَ (اسْقِ الْقَوْم) فجئتهم بذلك الْعس فَشَرِبُوا حَتَّى رووا جَمِيعًا وَايْم الله إِن كَانَ الرجل الْوَاحِد ليشْرب مثله فَلَمَّا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكلمهم بدره أَبُو لَهب فَقَالَ سحركم صَاحبكُم فَتفرق الْقَوْم وَلم يكلمهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَقَالَ الْغَد يَا عَليّ إِن هَذَا الرجل قد سبقني إِلَى مَا سَمِعت من القَوْل فَتفرق الْقَوْم قبل أَن أكلمهم فاعدد لنا من الطَّعَام مثل مَا صنعت ثمَّ أجمعهم) فَفعلت ثمَّ جمعتهم ثمَّ دَعَاني بِالطَّعَامِ فقربته فَفعل كَمَا فعل بالْأَمْس فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا ثمَّ تكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (يَا بني عبد الْمطلب إِنِّي قد جِئتُكُمْ بخيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد أَمرنِي الله عز وَجل أَن أدعوكم إِلَيْهِ فَأَيكُمْ يؤازرني على أَمْرِي هَذَا وَيكون أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم) فأحجم الْقَوْم عَنْهَا جَمِيعًا وَأَنا أحدثهم سنا فَقلت يَا رَسُول الله أَنا أكون وزيرك عَلَيْهِ فَأخذ برقبتي ثمَّ قَالَ (هَذَا أخي ووصيي وخليفتي فِيكُم فا سمعُوا لَهُ وَأَطيعُوا) فَقَامَ الْقَوْم يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لأبي طَالب قد أَمرك أَن تسمع لعَلي وتطيع وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا فَجعل يُنَادي (يَا بني فهر يَا بني عدي) لبطون قُرَيْش حَتَّى اجْتَمعُوا فَجعل الرجل إِذْ لم يسْتَطع أَن خرج أرسل رَسُولا لينْظر مَا هُوَ فجَاء أَبُو لَهب وقريش فَقَالَ (أَرَأَيْتكُم لَو أَخْبَرتكُم أَن خيلا بالوادي تُرِيدُ أَن تغير عَلَيْكُم أَكُنْتُم مصدقي) قَالُوا نعم مَا جربنَا عَلَيْك كذبا قَالَ (فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد) فَقَالَ أَبُو لَهب تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم أَلِهَذَا جمعتنَا فَنزلت {تبت يدا أبي لَهب وَتب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب) ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر ربه صَابِرًا محتسبا فِيمَا يَنَالهُ من المحن وضروب الْأَذَى مُعْلنا بالتذكير والإنذار دَاعيا إِلَى الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَأسلم مَعَه جمَاعَة من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام كخديجة وَعلي وَأبي بكر وَزيد بن حَارِثَة وَعُثْمَان وَسَائِر الْعشْرَة سوى عمر بن الْخطاب فَإِن إِسْلَامه كَانَ قد تَأَخّر قَلِيلا ونصبت قُرَيْش الْعَدَاوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وافترقت كلمتهم عَلَيْهِ وانحاز بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب إِلَى أبي طَالب وتعاهدت قُرَيْش على أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا ينفعوهم بِشَيْء ونال أَصْحَاب رَسُول الله الَّذِي آمنُوا مَعَه من الْأَذَى فَوق مَا يُوصف وَهَاجَر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى النَّجَاشِيّ بِالْحَبَشَةِ فِرَارًا بدينهم من الْفِتْنَة وحدب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمه أَبُو طَالب وَقَامَ دونه وذب عَنهُ سُفَهَاء قُرَيْش وَمنعه مِنْهُم مَا اسْتَطَاعَ وَكَانَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا توازره على أمره وتسليه وتهون عَلَيْهِ مايلقاه من قومه فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرتاح لذَلِك ويخف عَلَيْهِ بعض مَا يجد ثمَّ توفّي أَبُو طَالب فِي شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة وَتوفيت خَدِيجَة بعد ذَلِك بِيَسِير وَكَانَت وفاتهما قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين فعظمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصِيبَة وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ المحن حَتَّى كَانَ يُسَمِّي ذَلِك الْعَام عَام الْحزن ونالت قُرَيْش مِنْهُ مَا لم تكن تطمع فِي نيله قبل ذَلِك فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ الثَّلَاث سِنِين إِذا حضر الْمَوْسِم خرج إِلَى قبائل الْعَرَب بمنى وَطَاف عَلَيْهِم قَبيلَة قَبيلَة يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى ويعرض عَلَيْهِم نَفسه ويسألهم النُّصْرَة لَهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يبلغ رِسَالَة ربه فَإِن قُريْشًا قد عَتَتْ على الله وكذبت رَسُوله وَردت عَلَيْهِ كرامته وَيَقُول فِيمَا يَقُول (يَا بني فلَان إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم يَأْمُركُمْ أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تخلعوا مَا تَعْبدُونَ من دونه من هَذِه الأنداد وَأَن تؤمنوا بِي وتصدقوني) وَلَقي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْمدَّة من الشدائد مَا رفع الله بِهِ فِي عليين دَرَجَته وأجزل بِهِ كرامته وَشرف مَنْزِلَته وَحَازَ بِهِ فِي جوَار الله تَعَالَى أكْرم نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَصَارَ إِمَام أولي الْعَزْم من الرُّسُل صلى الله على جَمِيعهم وَسلم وَلما أَرَادَ الله إِظْهَار دينه وإعزاز نبيه خرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض المواسم يعرض نَفسه على الْقَبَائِل كَمَا كَانَ يصنع فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة بمنى إِذْ لَقِي سِتَّة نفر من الْخَزْرَج من أهل مَدِينَة يثرب وَأَهْلهَا يَوْمئِذٍ قبيلتان الْأَوْس والخزرج ويجمعهم أَب وَاحِد وهم من عرب الْيمن والنفر السِّتَّة هم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة وعَوْف بن الْحَارِث وَهُوَ ابْن عفراء وَرَافِع بن مَالك بن العجلان وَقُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة وَعقبَة بن عَامر بن نابي وَجَابِر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أَنْتُم) قَالُوا نفر من الْخَزْرَج قَالَ (أَمن موالى يهود) وَكَانُوا يحالفون قُرَيْظَة وَالنضير قَالُوا نعم قَالَ (أَفلا تجلسون حَتَّى أكلمكم) قَالُوا بلَى فجلسوا مَعَه فَدَعَاهُمْ إِلَى ألله عز وَجل وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن قَالَ وَمِمَّا كَانَ صنع الله لَهُم فِي الْإِسْلَام أَن الْيَهُود كَانُوا مَعَهم ببلادهم وَكَانُوا أهل كتاب وَعلم وهم أهل أوثان وشرك وَكَانُوا إِذا كَانَ بَينهم شَيْء قَالُوا إِن نَبينَا الان مَبْعُوث قد أظل زَمَانه سنتبعه ونقتلكم مَعَه قتل عَاد وإرم فَلَمَّا كلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُولَئِكَ النَّفر ودعاهم إِلَى الله عز وَجل قَالَ بَعضهم لبَعض يَا قوم تعلمُوا وَالله إِنَّه النَّبِي الَّذِي توعدكم بِهِ يهود فَلَا يسبقنكم إِلَيْهِ فَأَجَابُوهُ وَصَدقُوهُ وَأَسْلمُوا مَعَه وَقَالُوا إِنَّا قد تركنَا قَومنَا وَبينهمْ من الْعَدَاوَة وَالشَّر مَا بَينهم فَعَسَى الله أَن يجمعهُمْ بك وسنقدم عَلَيْهِم وندعوهم إِلَى أَمرك فَإِن يجمعهُمْ الله عَلَيْك فَلَا أحد أعز مِنْك ثمَّ انصرفوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة ذكرُوا لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى فَشَا فيهم فَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار اثْنَا عشر رجلا مِنْهُم خَمْسَة من السِّتَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا عدى جَابر بن عبد الله فَإِنَّهُ لم يحضرها وَسَبْعَة من غَيرهم وهم معَاذ بن الْحَارِث أَخُو عَوْف بن الْحَارِث الْمَذْكُور وذكوان بن عبد الْقَيْس وَيزِيد بن ثَعْلَبَة البلوي وَعبادَة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الصَّامِت وَالْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَهَؤُلَاء الْعشْرَة من الْخَوَارِج وَمن الْأَوْس أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان وعويم بن سَاعِدَة فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء أَن لَا يشركوا بِاللَّه شَيْئا وَلَا يسرقوا وَلَا يزنوا وَلَا يقتلُوا أَوْلَادهم إِلَى آخر الْآيَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَإِن وفيتم فلكم الْجنَّة وَإِن غشيتم شَيْئا من ذَلِك فأخذتم بحده فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لكم وَإِن ستر عَلَيْكُم فأمركم إِلَى الله عز وَجل إِن شَاءَ الله عذبكم وَإِن شَاءَ غفر لكم) قَالَ وَذَلِكَ قبل أَن تفرض الْحَرْب فَلَمَّا انْصَرف الْقَوْم بعث مَعَهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصي وَمَعَهُ عَمْرو بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى ليعلمهم الْقُرْآن وَشَرَائِع الْإِسْلَام ويفقهم فِي الدّين فَكَانَ مُصعب بِالْمَدِينَةِ يُسمى المقرىء وَكَانَ منزله على أسعد بن زُرَارَة فَأسلم على يَده كثير من الْأَوْس والخزرج مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ سيدا الْأَوْس وَسعد هَذَا هُوَ الذ ي يَقُول فِيهِ حسان بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ (وَمَا اهتز عرش الله من أجل هَالك ... سمعنَا بِهِ إِلَّا لسعد أبي عَمْرو) وَلم تبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وفيهَا رجال وَنسَاء مُسلمُونَ إِلَّا مَا كَانَ من دَار بني أُميَّة بن زيد وخطمة وَوَائِل وواقف بطُون من الْأَوْس وَكَانُوا فِي عوالي الْمَدِينَة وَكَانَ فيهم أَبُو قيس بن الأسلت الشَّاعِر سيدا مُطَاعًا فَوقف بهم عَن الْإِسْلَام حَتَّى هَاجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة وَمضى بدر وَأحد وَالْخَنْدَق فأسلموا كلهم ثمَّ إِن مُصعب بن عُمَيْر رَجَعَ إِلَى مَكَّة من الْعَام الْمقبل وَذَلِكَ سنة ثَلَاث عشرَة من المبعث وَخرج مَعَه من الْأَنْصَار الَّذين أَسْلمُوا ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ بَعضهم من الْأَوْس وَبَعْضهمْ من الْخَزْرَج مَعَ حجاج قَومهمْ من أهل الشّرك فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة واعدوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجتمعوا بِهِ لَيْلًا فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق بِالْعقبَةِ من منى وجاءهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهُوَ يَوْمئِذٍ على دين قومه إِلَّا أَنه أحب أَن يتوثق لِابْنِ أَخِيه فَقَالَ يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 منا حَيْثُ قد علمْتُم وَقد منعناه من قَومنَا مِمَّن هُوَ على مثل رَأينَا وَهُوَ فِي عز ومنعة من قومه وبلده وَأَنه قد أَبى إِلَّا الانحياز إِلَيْكُم واللحوق بكم فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ ومانعوه مِمَّن خَالفه فَأنْتم وَمَا تحملتم من ذَلِك وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ مسلموه وخاذلوه فَمن الْآن فَدَعوهُ فَقَالُوا قد سمعنَا مَا قلت فَتكلم يَا رَسُول الله وَخذ لنَفسك ولربك مَا شِئْت فَتكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتلا الْقُرْآن ودعا إِلَى الله عز وَجل وَرغب فِي الْإِسْلَام ثمَّ قَالَ (أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم ونساءكم وأبناءكم) قَالَ فَأخذ الْبَراء بن معْرور بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا لنمنعنك مِمَّا نمْنَع مِنْهُ أزرنا فَبَايعْنَا يَا رَسُول الله فَنحْن أهل الْحَرْب وَأهل الْحلقَة ورثناهما كَابِرًا عَن كَابر فَاعْترضَ القَوْل والبراء يكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن بَيْننَا وَبَين النَّاس حِبَالًا يَعْنِي عهودا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا فَهَل عَسَيْت أَن فعلنَا ذَلِك ثمَّ أظهرك الله أَن ترجع إِلَى قَوْمك وَتَدعنَا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ (بل الدَّم الدَّم وَالْهدم الْهدم أَنْتُم مني وَأَنا مِنْكُم أُحَارب من حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ من سَالَمْتُمْ) وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَي عشر نَقِيبًا يكونُونَ كفلاء على قَومهمْ بِمَا فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابْن مَرْيَم فأخرجوا لَهُ اثنى عشر نَقِيبًا) وَتِسْعَة من الْخَزْرَج وَثَلَاثَة من الْأَوْس قَالَ عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة إِن الْقَوْم لما اجْتَمعُوا لبيعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة يَا معشر الْخَزْرَج هَل تَدْرُونَ على مَا تُبَايِعُونَ هَذَا الرجل إِنَّكُم تبايعونه على حَرْب الْأَحْمَر وَالْأسود فَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ إِذا نهكت أَمْوَالكُم مُصِيبَة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فَمن الْآن فَهُوَ وَالله خزي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ إِنَّكُم وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ على نهكة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَخُذُوهُ فَهُوَ وَالله خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالُوا فَإنَّا نَأْخُذهُ على مُصِيبَة الْأَمْوَال وَقتل الْأَشْرَاف فَمَا لنا بذلك يَا رَسُول الله إِن نَحن وَفينَا قَالَ (الْجنَّة) قَالُوا ابْسُطْ يدك فَبسط يَده فَبَايعُوهُ وَأول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ضرب على يَده الْبَراء بن معْرور ثمَّ تتَابع الْقَوْم ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (انْفَضُّوا إِلَى رحالكُمْ) فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَئِن شِئْت لنميلن غَدا على أهل منى بأسيافنا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنِّي لم أومر بذلك وَلَكِن ارْجعُوا إِلَى رحالكُمْ) ثمَّ انْصَرف الْقَوْم رَاجِعين إِلَى الْمَدِينَة وَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَخَرجُوا أَرْسَالًا وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة ينْتَظر الْإِذْن من ربه فِي الْهِجْرَة وَبَقِي مَعَه أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب إِلَى أَن أذن الله لنَبيه فِي الْهِجْرَة فَهَاجَرَ كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي كتب الحَدِيث وَالسير وَلما اسْتَقر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ أظهر الْإِسْلَام وَشرع الْأَحْكَام وَبَين الْحَلَال وَالْحرَام وَنزل عَلَيْهِ من الْقُرْآن السَّبع الطول سوى سُورَة الْأَنْعَام فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة وَنزل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله) فَكَانَت هَذِه أول آيَة نزلت بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَال فَجَاهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الله حق جهاده ونال من نصْرَة الدّين وإعلاء كلمة الله غَايَة مُرَاده وانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب من كل نَاحيَة ولبت دَعوته من أماكنها الدانية والقاصية وَضرب الْإِسْلَام بجرانه فِي جَزِيرَة الْعَرَب كلهَا وَأجْمع على التَّمَسُّك بِدِينِهِ أهل عقدهَا وحلها قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فِي كتاب الشفا فتح على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته بِلَاد الْحجاز واليمن وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب وَمَا دانى ذَلِك من الشَّام وَالْعراق وجبى إِلَيْهِ من أخماسها وجزيتها وصدقاتها مَا لَا يجبى للملوك إِلَّا بعضه وهادته جمَاعَة من مُلُوك الأقاليم فَمَا اسْتَأْثر بِشَيْء مِنْهُ وَلَا أمسك مِنْهُ درهما بل صرفه مصارفه وأغنى بِهِ غَيره وقوى بِهِ الْمُسلمين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما حصل الْمَقْصُود من بعثته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأظْهر دينه على الدّين كُله أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ نزلت هَذِه الْآيَة يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر يَوْم عَرَفَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِف بِعَرَفَات على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 نَاقَته العضباء فَكَادَتْ عضد النَّاقة تندق وبركت لثقل الْوَحْي وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة بَكَى عمر فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا يبكيك يَا عمر) فَقَالَ أبكاني أَنا كُنَّا فِي زِيَادَة من ديننَا فَأَما إِذا كمل فَإِنَّهُ لم يكمل شَيْء إِلَّا نقص قَالَ صدقت فَكَانَت هَذِه الْآيَة نعي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاشَ بعْدهَا إِحْدَى وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَمَات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين خلتا من ربيع الأول وَقيل لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة قَالَ الخازن فِي تَفْسِيره وَهُوَ الْأَصَح سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة فمجموع عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة على الصَّحِيح أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة فَمَكثَ ثَلَاث عشرَة سنة يُوحى إِلَيْهِ ثمَّ أَمر بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة فَمَكثَ بهَا عشر سِنِين ثمَّ توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ ورد فِي عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة الثَّانِيَة خمس وَسِتُّونَ سنة وَالثَّالِثَة ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَهِي أَصَحهَا وأشهرها اه وَفضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشهر من أَن يشْرَح وَيبين فَهُوَ حجَّة الله فِي الأَرْض وشهيده على الْخلق ومصطفاه من الْبشر والمخصوص بمزية النُّبُوَّة وآدَم بَين المَاء والطين وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول (يَا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح لَهُ أغلاق) (أيروم مَخْلُوق ثناءك بعد مَا ... أثنى على أخلاقك الخلاق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ هُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الله وَقيل عَتيق بن أبي قُحَافَة واسْمه عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب التَّيْمِيّ الْمَعْرُوف بِالصديقِ يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب ولي الْخلَافَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَمن تَأَخّر عَنْهَا أَولا رَجَعَ إِلَيْهَا ثَانِيًا إِلَّا مَا كَانَ من سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ توقف عَن بيعَته وَذَلِكَ أَنه لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتمعت الْأَنْصَار فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة وهموا بمبايعة سعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر لأَنهم الَّذين آووا ونصروا وتبوأوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبل الْمُهَاجِرين وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى أبي بكر وَعمر أفزعهما ذَلِك وبادرا إِلَى السَّقِيفَة ومعهما أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح فوجدوا الْأَنْصَار بهَا على مَا بَلغهُمْ من الْعَزْم على بيعَة سعد فحاجهم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ نَحن أَوْلِيَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعشيرته وأحق النَّاس بِالْأَمر بعده فَنحْن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر لَا وَالله لَا نَفْعل منا أَمِير ومنكم أَمِير وَإِن شِئْتُم أعدناها جَذَعَة أَنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب فَقَامَ بشير بن سعد الْأنْصَارِيّ فَقَالَ أَلا إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قُرَيْش وَإِن قومه أَحَق وَأولى بِالْأَمر بعده وَنحن وَإِن كُنَّا أولي فضل فِي الْجِهَاد وسابقة فِي الدّين فَمَا أردنَا بذلك إِلَّا رضى الله وَطَاعَة نبيه فَلَا نبتغي بِهِ من الدُّنْيَا عوضا وَلَا نستطيل بِهِ على النَّاس ثمَّ أَشَارَ أَبُو بكر بِأَن يبايعوا أحد الرجلَيْن إِمَّا عمر بن الْخطاب وَإِمَّا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح فكرها ذَلِك وَبَايِعًا أَبَا بكر وسبقهما إِلَيْهِ بشير بن سعد ثمَّ تناجى الْأَوْس فِيمَا بَينهم وَكَانَ فيهم أسيد بن حضير أحد النُّقَبَاء فكرهوا إِمَارَة الْخَزْرَج عَلَيْهِم ومالوا إِلَى بيعَة أبي بكر فَبَايعُوهُ وَأَقْبل النَّاس من كل جَانب يبايعون أَبَا بكر حَتَّى كَادُوا يطؤون سعد بن عبَادَة وَهُوَ مُضْطَجع بَينهم يوعك فَقَالَ رجل من أَصْحَابه قتلتم سعد بن عبَادَة فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 عمر قَتله الله فَقَالَ أَبُو بكر مهلا يَا عمر الرِّفْق هُنَا أبلغ ثمَّ لحق سعد بِالشَّام فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى توفّي أَيَّام عمر رحم الله جَمِيعهم وَكَانَت بيعَة أبي بكر يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي من وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل دَفنه وَلما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت عَامَّة الْعَرَب لِأَن كلمة الْإِسْلَام لم تكن رسخت فِي قُلُوبهم على مَا يَنْبَغِي وَمنع آخَرُونَ مِنْهُم الزَّكَاة وَقَالُوا نصلي وَلَا نُؤَدِّي الزَّكَاة ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط واضطرب أَمر الْمُسلمين عِنْد وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقلتهم وَكَثْرَة عدوهم قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت الْعَرَب وَنجم النِّفَاق واشرأبت الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَنزل بِأبي بكر مَا لَو نزل بالجبال الراسية لهاضها وَصَارَ الْمُسلمُونَ كالغنم الْمَطِيرَة فِي اللَّيْلَة الشَّاتِيَة لفقد نَبِيّهم وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول مَا ولد بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر الصّديق لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء فِي قتال أهل الرِّدَّة وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلف ابو بكر وَكفر من كفر من الْعَرَب قَالَ عمر يَا أَبَا بكر كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ وحسابه على الله) قَالَ أَبُو بكر وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَإِن الزَّكَاة حق المَال وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلتهم على منعهَا قَالَ عمر فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن قد شرح الله صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ فَعرفت أَنه الْحق وَحكى ابْن خلدون أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما عزم على قتال أهل الرِّدَّة اسْتخْلف أُسَامَة بن زيد بعد رُجُوعه من بَعثه الَّذِي كَانَ بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ قبل وَفَاته فَبَقيَ فِي الْمَدِينَة حَتَّى أنفذه أَبُو بكر بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج أَبُو بكر فِي جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى ذِي حسي وَإِلَى ذِي الْقِصَّة موضِعين قرب الْمَدِينَة ثمَّ سَار حَتَّى نزل على أهل الربذَة بالإبريق وَبهَا عبس وذبيان وَبَنُو بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة وثعلبة بن سعد وَغَيرهم فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر وَهَزَمَهُمْ وَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ خرج إِلَى ذِي الْقِصَّة ثَانِيًا فعقد فِيهِ أحد عشر لِوَاء على أحد عشر جندا لقِتَال أهل الرِّدَّة وَأمر كل وَاحِد باستنفار من يَلِيهِ من الْمُسلمين من كل قَبيلَة وَعقد لِلْأُمَرَاءِ على تِلْكَ الأجناد مِنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهم وَكتب لَهُم عهودهم بِنَصّ وَاحِد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا عهد من أبي بكر خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفُلَان حِين بَعثه فِيمَن بَعثه لقِتَال من رَجَعَ عَن الْإِسْلَام وعهد إِلَيْهِ أَن يَتَّقِي الله مَا اسْتَطَاعَ فِي أمره كُله سره وجهره وَأمره بالجد فِي أَمر الله ومجاهدة من تولى عَنهُ وَرجع عَن الْإِسْلَام إِلَى أماني الشَّيْطَان بعد أَن يعْذر إِلَيْهِم فيدعوهم بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام فَإِن أجابوه أمسك عَنْهُم وَإِن لم يُجِيبُوهُ شن غارته عَلَيْهِم حَتَّى يقرُّوا لَهُ ثمَّ ينبئهم وَالَّذِي عَلَيْهِم وَلِذِي لَهُم فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِم ويعطيهم الَّذِي لَهُم لَا ينظرهم وَلَا يرد الْمُسلمين عَن قتال عدوهم فَإِن أجَاب إِلَى أَمر الله تَعَالَى وَأقر لَهُ قبل ذَلِك مِنْهُ وأعانه عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا يُقَاتل من كفر بِاللَّه على الْإِقْرَار بِمَا جَاءَ من عِنْد الله فَإِذا أجَاب الدعْوَة لم يكن عَلَيْهِ سَبِيل كَانَ الله حسيبه بعد فِيمَا استسر بِهِ وَمن لم يجب إِلَى دَاعِيَة الله قوتل وَقتل حَيْثُ كَانَ وَحَيْثُ بلغ مراغمة لَا يقبل الله من أحد شَيْئا مِمَّا أعْطى إِلَّا الْإِسْلَام فَمن أَجَابَهُ وَأقر بِهِ قبل مِنْهُ وأعانه وَمن أَبى قَاتله فَإِن أظهره الله عَلَيْهِ قَتلهمْ فِيهِ كل قتلة بِالسِّلَاحِ والنيران ثمَّ قسم مَا أَفَاء الله عَلَيْهِ إِلَّا الْخمس فَإِنَّهُ يبلغناه وَيمْنَع أَصْحَابه العجلة وَالْفساد وَأَن لَا يدْخل فيهم حَشْوًا حَتَّى يعرفهُمْ وَيعلم مَا هم لِئَلَّا يَكُونُوا عيُونا وَلِئَلَّا يُؤْتى الْمُسلمُونَ من قبلهم وَأَن يقتصد بِالْمُسْلِمين ويرفق بهم فِي السّير والمنزل ويتفقدهم وَلَا يعجل بَعضهم عَن بعض ويستوصي بِالْمُسْلِمين فِي حسن الصُّحْبَة ولين القَوْل اه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَكتب إِلَى كل من بعث إِلَيْهِ الْجنُود من الْمُرْتَدين كتابا وَاحِدًا أَيْضا وَجعله فِي نسخ مُتعَدِّدَة بيد رسل تقدمُوا أَمَام الْأُمَرَاء يَأْمُرهُم فِيهِ بالتمسك بِكَلِمَة الْإِسْلَام وينهاهم عَن الارتداد ويحذرهم عاقبته وَسُوء أَثَره تركنَا ذكره اختصارا وَكَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ خَالِد بن الْوَلِيد رَحمَه الله من الْقِتَال قتال طليحة بن خويلد الْأَسدي أَسد خُزَيْمَة وَكَانَ كَاهِنًا وَادّعى النُّبُوَّة فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَبعهُ أفاريق من قومه بني أَسد وَمن غَيرهم فَوجه إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرار بن الْأَزْوَر ليقاتله فَبَيْنَمَا ضرار يُرِيد مناجزته إِذْ ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بوفاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ففت ذَلِك فِي عضد ضرار وانكفأ رَاجعا بِمن مَعَه من الْمُسلمين إِلَى الْمَدِينَة وَعظم أَمر طليحة حِينَئِذٍ واستطار شرره وانضمت إِلَيْهِ غطفان وَبَعض طييء وأخلاط من الْعَرَب على مَاء من مياه بني أَسد يُقَال لَهُ بزاخة فَسَار إِلَيْهِم خَالِد رَحمَه الله فأوقع بهم وقْعَة شنعاء فل بهَا جمعهم وَقتل من قتل مِنْهُم وَنَجَا طليحة إِلَى الشَّام بِرَأْس طمرة ولجام وَبَقِي هُنَاكَ إِلَى أَن أسلم وَحسن إِسْلَامه وَكَانَت لَهُ فِي قتال فَارس وَالروم زمَان الْفَتْح الْيَد الْبَيْضَاء ثمَّ تتبع خَالِد رَحمَه الله أهل الرِّدَّة قَبيلَة قَبيلَة وجمعا جمعا فَقتل وَحرق ورضخ بِالْحِجَارَةِ وَرمى من رُؤُوس الْجبَال وأبلغ فِي النكاية بِكُل وَجه فخشعت نفوس الْمُرْتَدين وخامر قُلُوبهم الرعب وَقوم اعواججهم الطعْن وَالضَّرْب حَتَّى راجعوا الْإِسْلَام كرها وَكَانَ من اعظمهم شَوْكَة وأشدهم قُوَّة بَنو حنيفَة قوم مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَكَانَ موطنهم بِالْيَمَامَةِ وَهِي بِلَاد وَاسِعَة ذَات نخل وَزرع على أَرْبَعَة أَيَّام من مَكَّة وَكَانَ مُسَيْلمَة هَذَا قد قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيوفد بني حنيفَة فَأسلم ثمَّ ارْتَدَّ وَادّعى النُّبُوَّة اسْتِقْلَالا ثمَّ مُشَاركَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشهد لَهُ بذلك الرِّجَال بن عنفوة أحد أَشْرَاف بني حنيفَة وَكَانَ قد هَاجر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام عِنْده وَقَرَأَ الْقُرْآن وتفقه فِي الدّين فَلَمَّا ارْتَدَّ مُسَيْلمَة بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معلما لأهل الْيَمَامَة ومشغبا عَن مُسَيْلمَة فَكَانَ من أعظم الْفِتَن على بني حنيفَة فَإِنَّهُ شهد لمُسَيْلمَة بِالنُّبُوَّةِ وَاتبعهُ على شَأْنه وَصَارَ مُؤذنًا لَهُ يشْهد لَهُ بالرسالة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعظم شَأْنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فيهم وَكَانَ مُسَيْلمَة يَنْتَهِي إِلَيْهِ رَأْيه وَكَانَ يَأْتِي بأسجاع كَثِيرَة يزْعم أَنَّهَا قُرْآن ينزل عَلَيْهِ وَيَأْتِي بمخارق من الشعبذة وَيَقُول إِنَّهَا معجزاته فَتَقَع على خلاف الْمَقْصُود إهانة من الله لَهُ فَنَهَضَ خَالِد رَحمَه الله بعد الْفَرَاغ من طليحة وَغَيره من أهل الرِّدَّة إِلَى بني حنيفَة وهم يَوْمئِذٍ كثير يُقَال كَانُوا أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَلما سمعُوا بدنو خَالِد مِنْهُم خَرجُوا وعسكروا فِي مُنْتَهى ريف الْيَمَامَة واستنفروا النَّاس فنفروا مَعَهم وَأَقْبل خَالِد وعَلى مقدمته شُرَحْبِيل بن حَسَنَة ونازل بني حنيفَة وَكَانَ الرِّجَال بن عنفوة على مُقَدّمَة مُسَيْلمَة فَالْتَقوا واقتتلوا واشتدت الْحَرْب وانكشف الْمُسلمُونَ حَتَّى دخل بَنو حنيفَة خباء خَالِد ثمَّ تراجع الْمُسلمُونَ وكروا على بني حنيفَة وَقَاتل ثَابت بن قيس بن شماس حَتَّى قتل ثمَّ زيد بن الْخطاب أَخُو عمر كَذَلِك ثمَّ أَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة بن ربيعَة ثمَّ مَوْلَاهُ سَالم ثمَّ الْبَراء أَخُو أنس بن مَالك وَكَانَ تَأْخُذهُ عِنْد الْحَرْب رعدة حَتَّى ينتفض وَيقْعد عَلَيْهِ الرّحال حَتَّى يَبُول ثمَّ يثور كالأسد فقاتل ذَلِك الْيَوْم وَفعل الأفاعيل واستحر الْقَتْل فِي الْمُسلمين خُصُوصا قراء الْقُرْآن وَأهل السَّابِقَة قَالَ ابْن خلدون قتل يَوْم الْيَمَامَة من الْأَنْصَار مَا ينيف على الثلاثمائة وَسِتِّينَ وَمن الْمُهَاجِرين مثلهَا وَمن التَّابِعين لَهُم مثلهَا أَو يزِيدُونَ وفشت الْجِرَاحَات فِيمَن بَقِي ثمَّ هزم الله الْعَدو وألجأهم الْمُسلمُونَ إِلَى حديقة كَانَت هُنَاكَ وفيهَا مُسَيْلمَة فَقَالَ الْبَراء بن مَالك ألقوني عَلَيْهِم من أَعلَى الْجِدَار فاقتحم وَقَاتلهمْ على بَاب الحديقة حَتَّى دخل بعض الْمُسلمين عَلَيْهِم واقتحم الْبَاقُونَ من أَعلَى الْحِيطَان فَقتل من بني حنيفَة يَوْمئِذٍ سَبْعَة عشر ألف مقَاتل فسميت الحديقة حديقة الْمَوْت وَأما مُسَيْلمَة فَقتله وَحشِي بالحربة الَّتِي قتل بهَا حَمْزَة بن عبد الْمطلب يَوْم أحد وشاركه فِي قَتله رجل من الْأَنْصَار ثمَّ صَالح خَالِد بني حنيفَة فِي خبر طَوِيل وَهَذِه الْوَقْعَة من أعظم الوقعات الَّتِي كَانَت فِي زمن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَهِي كَانَت السَّبَب الدَّاعِي إِلَى جمع الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَاسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن جمعه عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ الْجمع الثَّانِي فِي الْمُصحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فَفِي الصَّحِيح عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ أرسل إِلَى أَبُو بكر مقتل أهل الْيَمَامَة فَإِذا عمر بن الْخطاب عِنْده قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِن عمر أتأني فَقَالَ إِن الْقَتْل قد استحر يَوْم الْيَمَامَة بقراء الْقُرْآن وَإِنِّي أخْشَى أَن يستحر الْقَتْل بالقراء فِي المواطن فَيذْهب كثير من الْقُرْآن وَإِنِّي أرى أَن تَأمر بِجمع الْقُرْآن قَالَ أَبُو بكر قلت لعمر كَيفَ أفعل شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عمر هُوَ وَالله خير فَلم يزل عمر يراجعني فِيهِ حَتَّى شرح الله لذَلِك صَدْرِي وَرَأَيْت الَّذِي رأى عمر قَالَ زيد بن ثَابت وَعمر عِنْده جَالس لَا يتَكَلَّم فَقَالَ أَبُو بكر إِنَّك رجل شَاب عَاقل لَا نتهمك وَقد كنت تكْتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتتبع الْقُرْآن فاجمعه فو الله لَو كلفوني نقل جبل من الْجبَال مَا كَانَ أثقل عَليّ مِمَّا أَمرنِي بِهِ من جمع الْقُرْآن قلت كَيفَ تفعلان شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو بكر هُوَ وَالله خير فَلم أزل أراجعهم حَتَّى شرح الله صَدْرِي للَّذي شرح لَهُ صدر أبي بكر وَعمر فَقُمْت فتتبعت الْقُرْآن أجمعه من الرّقاع والأكناف والعسف واللخاف وصدور الرِّجَال حَتَّى وجدت آخر سُورَة التَّوْبَة مَعَ أبي خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ لم أَجدهَا مَعَ أحد غَيره {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} حَتَّى خَاتِمَة بَرَاءَة فَكَانَت الصُّحُف عِنْد أبي بكر حَتَّى توفاه الله ثمَّ عِنْد عمر حَيَاته حَتَّى توفاه الله ثمَّ عِنْد حَفْصَة بنت عمر اه وَلما فرغ خَالِد من أَمر الْيَمَامَة بعث إِلَيْهِ أَبُو بكر فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْ عشرَة يَأْمُرهُ بالسير إِلَى الْعرَاق وَذَلِكَ عِنْدَمَا أَجمعت الْعَرَب على الْإِسْلَام وَاتَّفَقُوا على التَّمَسُّك بكلمته وَأَخْلصُوا الطَّاعَة لله ولخليفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَمت لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ همة فِي قتال فَارس وَالروم أهل الدولتين العظيمتين فِي الْعَالم يَوْمئِذٍ فَتوجه خَالِد رَحمَه الله نَحْو فَارس وَكَانَ عذَابا من عَذَاب الله أرْسلهُ على أهل الْكفْر والضلال وَمَا مثله إِلَّا قَول المتنبي (وَمَا كَانَ إِلَّا النَّار فِي كل مَوضِع ... يثير غبارا فِي مَكَان دُخان) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فَتوجه خَالِد رَحمَه الله وَفتح الْحيرَة وَمَا وَرَاءَهَا من أَعمال الْعرَاق وَفتح الأنبار وَعين التَّمْر وأوقع الوقائع الْعَظِيمَة بمسالح أهل فَارس وجيوشهم حَتَّى أَخَافهُم فِي بِلَادهمْ وهم بالاقتحام عَلَيْهِم ومقاتلتهم فِي عقر دَارهم وَكتب إِلَيْهِم بكتابين يتوعدهم ويتهددهم ثمَّ صرفه أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى الشَّام فَشهد اليرموك مَعَ جيوش الْمُسلمين الَّذين كَانُوا هُنَاكَ فَفِي الأكنفاء عَن عبد الله بن أبي أوفى الْخُزَاعِيّ وَكَانَت لَهُ صُحْبَة قَالَ لما أَرَادَ أَبُو بكر أَن يُجهز الْجنُود إِلَى الشَّام دَعَا عمر وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح ووجوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من أهل بدر وَغَيرهم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَأَنا فيهم فَقَالَ إِن الله لَا تحصى نعمه وَلَا تبلغ جزاءها الْأَعْمَال فَلهُ الْحَمد كثيرا على مَا اصْطنع عنْدكُمْ ثمَّ جمع كلمتكم وَأصْلح ذَات بَيْنكُم وهداكم إِلَى الْإِسْلَام وَنفى عَنْكُم الشَّيْطَان فَلَيْسَ يطْمع أَن تُشْرِكُوا بِاللَّه وَلَا أَن تَتَّخِذُوا إِلَهًا غَيره فالعرب الْيَوْم بَنو أم وَأب وَقد رَأَيْت أَن أستنفرهم إِلَى الرّوم بِالشَّام فَمن هلك مِنْهُم هلك شَهِيدا وَمَا عِنْد الله خير للأبرار وَمن عَاشَ مِنْهُم عَاشَ مدافعا عَن الدّين مستوجبا على الله ثَوَاب الْمُجَاهدين هَذَا رَأْيِي الَّذِي رَأَيْت فليشر عَليّ امْرُؤ بمبلغ رَأْيه فَأجَاب كل من الْحَاضِرين باستصواب رَأْيه وتقوية عزمه فَجهز أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ جيوشا وَأمر عَلَيْهِم أُمَرَاء كخالد بن سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَعِكْرِمَة بن أبي جهل والوليد بن عقبَة وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وَأمر أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح على جَمِيعهم وَعين لَهُ حمص وَأوصى كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا تنبغي الْوَصِيَّة بِهِ فَكَانَ بِسَبَب تِلْكَ الجموع وقْعَة اليرموك بَين الْمُسلمين وَالروم فِي رَجَب سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة بعد وَفَاة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بِنَحْوِ شهر لِأَن وَفَاته رَضِي الله عَنهُ كَانَت مسَاء لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين العشاءين لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة فَكَانَت خِلَافَته سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَعشرَة لَيَال وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ هُوَ أول من دعِي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ أَبُو بكر قبله يدعى خَليفَة رَسُول الله وَهُوَ أَبُو حَفْص عمر بن الْخطاب بن نفَيْل مُصَغرًا بن عبد الْعُزَّى بن ريَاح بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة بن عبد الله بن قرط بِضَم الْقَاف ابْن رزاح بِفَتْح الرَّاء بن عدي بن كَعْب بن لؤَي يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَعْب بن لؤَي ولي الْخلَافَة بعد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْن خلدون لما احْتضرَ أَبُو بكر عهد إِلَى عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْأَمر من بعده بعد أَن شاور عَلَيْهِ طَلْحَة وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَغَيرهم وَأخْبرهمْ بِمَا يُرِيد فِيهِ فَأَثْنوا على رَأْيه فَأَشْرَف على النَّاس وَقَالَ إِنِّي قد اسْتخْلفت عمر وَلم آل لكم نصحا فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا ودعا عُثْمَان فَأمره فَكتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا عهد بِهِ أَبُو بكرخليفة مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد آخر عَهده بالدنيا وَأول عَهده بِالآخِرَة فِي الْحَال الَّتِي يُؤمن فِيهَا الْكَافِر وينيب فِيهَا الْفَاجِر إِنِّي اسْتعْملت عَلَيْكُم عمر بن الْخطاب وَلم آلكم خيرا فَإِن صَبر وَعدل فَذَلِك علمي بِهِ ورأيي فِيهِ وَإِن جَار وَبدل فَلَا علم لي بِالْغَيْبِ وَالْخَيْر أردْت وَلكُل امْرِئ مَا اكْتسب {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} فَكَانَ أول مَا أنفذه من الْأُمُور عزل خَالِد بن الْوَلِيد عَن إِمَارَة الجيوش بِالشَّام وتولية أبي عُبَيْدَة وَجَاء الْخَبَر بذلك والمسلمون مواقفون عدوهم باليرموك فكتم أَبُو عُبَيْدَة الْأَمر كُله حَتَّى انْقَضى أَمر اليرموك وَكَانَ فتح دمشق بعْدهَا فَحِينَئِذٍ أظهر أَبُو عُبَيْدَة إمارته وعزل خَالِد فَسمع خَالِد وأطاع وَقيل فِي هَذَا الْخَبَر غير هَذَا مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي كتب الْفَتْح ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ سدد عزمه وأرهف حَده لغزو فَارس وَالروم فتابع عَلَيْهِم الْجنُود وَعين لكل أَمِير عمله وَعقد لأبي عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ على جَيش من الْمُسلمين وَبَعثه نَحْو الْعرَاق فاستشهد أَبُو عبيد بِموضع يُقَال لَهُ قس الناطف على الْفُرَات فولى مَكَانَهُ الْمثنى بن حَارِثَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الشَّيْبَانِيّ وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال نَظِير خَالِد بن الْوَلِيد فِي يمن النقيبة والجراءة على الْأَعْدَاء فأوقع بِأَهْل فَارس عدَّة وقعات مِنْهَا وقْعَة البويب قتل فِيهَا من الْفرس مائَة ألف أَو يزِيدُونَ ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْنف الْجد لجهاد فَارس وَقَالَ وَالله لَأَضرِبَن مُلُوك الْعَجم بملوك الْعَرَب فَلم يدع رَئِيسا وَلَا ذَا رَأْي وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا إِلَّا رماهم بِهِ فَرَمَاهُمْ بِوُجُوه النَّاس وَكتب إِلَى الْمثنى يَأْمُرهُ أَن يخرج بِالْمُسْلِمين من بَين الْعَجم ويتفرق بهم على الْمِيَاه بحيالهم وَأَن يَدْعُو الفرسان وَأهل النجدات من ربيعَة وَمُضر ويحضرهم طَوْعًا وَكرها ثمَّ حج عمر سنة ثَلَاث عشرَة وَرجع إِلَى الْمَدِينَة فوافته أَمْدَاد الْعَرَب بهَا فعقد عَلَيْهِم لسعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ وولاه حَرْب الْعرَاق وأوصاه وَقَالَ يَا سعد بن أم سعد لَا يغرنك من الله أَن يُقَال خَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله لَا يمحو السىء بالسىء وَلكنه يمحو السىء بالْحسنِ وَلَيْسَ بَين الله وَبَين أحد نسب إِلَّا بِطَاعَتِهِ فَالنَّاس فِي دين الله سَوَاء الله رَبهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون مَا عِنْده بِالطَّاعَةِ فَانْظُر الْأَمر الَّذِي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْزمه فالزمه وَعَلَيْك بِالصبرِ ثمَّ سرحه فِي أَرْبَعَة آلَاف مِمَّن اجْتمع إِلَيْهِ فيهم وُجُوه الْعَرَب وأشرافها وانضاف إِلَيْهِ فِي طَريقَة جموع أخر فَكَانَت لَهُ فِي هَذَا الْوَجْه وقْعَة الْقَادِسِيَّة الْمَشْهُورَة دَامَت فِيهَا الْحَرْب بَين الْمُسلمين وَالْفرس أَرْبَعَة أَيَّام بلياليها وَقتل فِيهَا رستم زعيم الْفرس وَصَاحب حربها واستلحمت جُنُوده وَكَانَ الْفَتْح الَّذِي لم يكن لَهُ فِي الْإِسْلَام نَظِير وَذَلِكَ فِي الْمحرم سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة ثمَّ كَانَ بعْدهَا فتح الْمَدَائِن وجلولاء وَسَائِر بِلَاد الْعرَاق وَغَيرهَا من بِلَاد فَارس الْجَبَل وأرمينية وأذربيجان وسجستان وكرمان ومكران وخراسان وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَكَذَا استولى جيوش الْمُسلمين الَّذين بِالشَّام على بِلَاد الشَّام والجزيرة وأنطاكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَغَيرهَا من بِلَاد الرّوم ومصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس الغرب وَغير ذَلِك وَفِي سنة أَربع عشرَة أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ باختطاط الْبَصْرَة والكوفة بعراق الْعَرَب لما بلغه من وخامة الْبِلَاد وَأَن الْعَرَب قد تَغَيَّرت ألوانهم بالعراق فَأذن لَهُم فِي اختطاط المصرين وَأَن لَا يتجاوزوا فِي بنائهما السّنة وَيُقَال إِن اختطاط الْكُوفَة كَانَ فِي سنة سبع عشرَة وَفِي سنة خمس عشرَة وضع عمر الدِّيوَان وَفرض الْعَطاء للْمُسلمين وَلم يكن قبل ذَلِك وروى الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمحرم سنة عشْرين قَالَ ابْن خلدون يُقَال وضع عمر الدِّيوَان لسَبَب مَال أَتَى بِهِ أَبُو هُرَيْرَة من الْبَحْرين فاستكثروه وتعبوا فِي قسْمَة فسموا إِلَى إحصاء الْأَمْوَال وَضبط الْعَطاء والحقوق فَأَشَارَ خَالِد بن الْوَلِيد بالديوان وَقَالَ رَأَيْت مُلُوك الشَّام يدونون فَقبل مِنْهُ عمر وَقيل بل أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ الهرمزان لما رَآهُ يبْعَث الْبعُوث بِغَيْر ديوَان فَقَالَ لَهُ وَمن يعلم بغيبة من يغيب مِنْهُم فَإِن من تخلف أخل بمكانه وَإِنَّمَا يضْبط ذَلِك الْكتاب فَأثْبت لَهُم ديوانا فَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ عقيل بن أبي طَالب ومخزمة بن نَوْفَل وَجبير بن مطعم وَكَانُوا من كتاب قُرَيْش فَكَتَبُوا ديوَان العساكر الإسلامية مُرَتبا على الْأَنْسَاب مُبْتَدأ فِيهِ بِقرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب بعد أَن قَالَ عَليّ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف لعمر ابدأ بِنَفْسِك فَقَالَ لَا بل بعم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ ثمَّ بالأقرب فَالْأَقْرَب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف وَفرض لمن بعدهمْ إِلَى الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ لمن بعدهمْ ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف ثمَّ أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة ثمَّ لأهل الْقَادِسِيَّة وَأهل الشَّام أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ وَفرض لمن بعد الْقَادِسِيَّة واليرموك ألفا ألفا ولروادفهم خَمْسمِائَة خَمْسمِائَة ثمَّ ثَلَاثمِائَة ثمَّ مِائَتَيْنِ وَخمسين ثمَّ مِائَتَيْنِ وَأعْطى نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل وَاحِدَة عشرَة آلَاف وَفضل عَائِشَة بِأَلفَيْنِ وَجعل النِّسَاء على مَرَاتِب فلأهل بدر خَمْسمِائَة ثمَّ أَرْبَعمِائَة ثمَّ ثَلَاثمِائَة ثمَّ مِائَتَيْنِ وَالصبيان مائَة مائَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَالْمَسَاكِين جريبين فِي الشَّهْر وَلم يتْرك فِي بَيت المَال شَيْئا وَسُئِلَ فِي ذَلِك فَأبى وَقَالَ هِيَ فتْنَة لمن بعدِي ثمَّ سَأَلَ رَضِي الله عَنهُ الصَّحَابَة فِي قوته هُوَ من بَيت المَال فأذنوا لَهُ وسألوه فِي الزِّيَادَة على لِسَان ابْنَته حَفْصَة متكتمين عَنهُ فَغَضب وَامْتنع وَفِي سنة سِتّ عشرَة قدم جبلة بن الْأَيْهَم ملك غَسَّان على عمر رَضِي الله عَنهُ فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مُسلمين فَتَلقاهُ الْمُسلمُونَ وَدخل فِي زِيّ حسن وَبَين يَدَيْهِ جنائب مقادة وعَلى أَصْحَابه الديباج حَتَّى تطاول النِّسَاء من خُدُورهنَّ لرُؤْيَته وَأكْرم عمر وفادته وَأحسن نزله وأجله بأرفع رتب الْمُهَاجِرين ثمَّ خرج عمر لِلْحَجِّ فِي هَذِه السّنة فحج مَعَه جبلة فَبَيْنَمَا جبلة يطوف بِالْبَيْتِ إِذا وطئ رجل من فَزَارَة فضل إزَاره فَلَطَمَهُ جبلة فهشم أَنفه فَأقبل الْفَزارِيّ إِلَى عمر وشكاه فَأحْضرهُ عمر وَقَالَ لَهُ افتد نَفسك وَإِلَّا أَمرته بلطمك فَقَالَ جبلة كَيفَ ذَلِك وَأَنا ملك وَهُوَ سوقة فَقَالَ عمر إِن الْإِسْلَام جمعكما وَسوى بَين الْملك والسوقة فِي الْحَد فَقَالَ جبلة كنت أَظن أَنِّي بِالْإِسْلَامِ أعز مني فِي الْجَاهِلِيَّة فَقَالَ عمر دع عَنْك هَذَا فَقَالَ جبلة إِنِّي أتنصر فَقَالَ عمر إِن تنصرت ضربت عُنُقك فَقَالَ لَهُ أَنْظرنِي لَيْلَتي هَذِه فأنظره فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل سَار جبلة بخيلة وَرجله إِلَى الشَّام ثمَّ مِنْهَا إِلَى القسطنطينة وَتَبعهُ خَمْسمِائَة رجل من قومه فتنصروا عَن آخِرهم وَفَرح هِرقل بِهِ وأكرمه ثمَّ نَدم جبلة على فعلته تِلْكَ وَقَالَ (تنصرت الْأَشْرَاف من عَار لطمة ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَو صبرت لَهَا ضَرَر) (تكنفني فِيهَا لجاج ونخوة ... وبعت لَهَا الْعين الصَّحِيحَة بالعور) (وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بقفرة ... وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر) (وَيَا لَيْت لي بِالشَّام أدنى معيشة ... أجالس قومِي ذَاهِب السّمع وَالْبَصَر) (أدين بِمَا دانوا بِهِ من شَرِيعَة ... وَقد يحبس العير الدجون على الدبر) وَكَانَ قد مضى رَسُول عمر إِلَى هِرقل وَشَاهد مَا هُوَ فِيهِ جبلة من النِّعْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فَأرْسل جباة بِخَمْسِمِائَة دِينَار إِلَى حسان بن ثَابت وأمضاها لَهُ عمر فمدحه حسان بن ثَابت بِأَبْيَات مِنْهَا (إِن ابْن جَفْنَة من بَقِيَّة معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللوم) (لم ينسني بِالشَّام إِذْ هُوَ رَبهَا ... كلا وَلَا متنصرا بالروم) (يُعْطي الجزيل وَلَا يرَاهُ عِنْده ... إِلَّا كبعض عَطِيَّة المذموم) وَفِي سنة سبع عشرَة جِيءَ إِلَى عمر بالهرمزان ملك الأهواز أَسِيرًا وَمَعَهُ وَفد فيهم أنس بن مَالك والأحنف بن قيس فَلَمَّا وصلوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة ألبسوه كسوته من الديباج الْمَذْهَب وَوَضَعُوا على رَأسه تاجه وَهُوَ مكلل بالياقوت ليراه عمر والمسلمون على هَيئته الَّتِي يكون عَلَيْهَا فِي ملكه فطلبوا عمر فَلم يجدوه فسألوا عَنهُ فَقيل هُوَ فِي الْمَسْجِد فَأتوهُ فَإِذا هُوَ نَائِم فجلسوا دونه فَقَالَ الهرمزان أَيْن هُوَ عمر قَالُوا هُوَ ذَا قَالَ فَأَيْنَ حرسه وحجابه قَالُوا لَيْسَ لَهُ حارس وَلَا حَاجِب فَنظر الهرمزان إِلَى عمر وَقَالَ عدلت فأمنت فَنمت واستيقظ عمر لجلبة النَّاس فَقَالَ الهرمزان قَالُوا نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وأشباهه وَأمر بِنَزْع مَا عَلَيْهِ فَنَزَعُوهُ وألبسوه ثوبا ضيقا فَقَالَ عمر كَيفَ رَأَيْت عَاقِبَة أَمر الله فِيك فَقَالَ الهرمزان لما خلى الله بَيْننَا وَبَيْنكُم فِي الْجَاهِلِيَّة غلبناكم وَلما كَانَ الله الْآن مَعكُمْ غلبتمونا وَفِي سنة ثَمَان عشرَة كَانَت مجاعَة الرَّمَادَة وطاعون عمواس وَحلف عمر لَا يَذُوق السّمن وَاللَّبن حَتَّى يحيى النَّاس واستسقى عمر بِالْعَبَّاسِ عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا وَهلك بالطاعون أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل وَيزِيد ابْن أبي سُفْيَان والْحَارث بن هِشَام وَسُهيْل بن عَمْرو وَابْنه عتبَة فِي آخَرين أمثالهم وتفانى النَّاس بِالشَّام وبالبصرة أَيْضا وَلما فحش أثر الطَّاعُون بِالشَّام أجمع عمر الْمسير إِلَيْهِ ليقسم مَوَارِيث الْمُسلمين ويتطوف على الثغور فَفعل وَرجع وَكَانَت لَهُ خرجَة أُخْرَى قبل هَذَا لفتح بَيت الْمُقَدّس وَفِي سنة عشْرين فتح عَمْرو بن الْعَاصِ مصر والإسكندرية وَشهد الْفَتْح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مَعَه الزبير بن الْعَوام وَجَمَاعَة من كبار الصَّحَابَة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سَار عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى برقة فَصَالحه أَهلهَا على الْجِزْيَة ثمَّ سَار إِلَى طرابلس الغرب فحاصرها وَفتحهَا عنْوَة وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين كَانَت وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ على مَا سَيَأْتِي وَفِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا زلنا أعزة مُنْذُ أسلم عمر وَعنهُ أَيْضا قَالَ لما أسلم عمر كَانَ الْإِسْلَام كَالرّجلِ الْمقبل لَا يزْدَاد إِلَّا قُوَّة وَلما مَاتَ عمر كَانَ الْإِسْلَام كَالرّجلِ الْمُدبر لَا يزْدَاد إِلَّا ضعفا وَعند ابْن أبي شيبَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ إِسْلَام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رَحْمَة وَفِي الصَّحِيح أَيْضا عَن ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (بَينا أَنا نَائِم رَأَيْتنِي على قليب وَعَلَيْهَا دلو فنزعت مِنْهَا مَا شَاءَ الله ثمَّ أَخذهَا ابْن أبي قُحَافَة فَنزع مِنْهَا ذنوبا أَو ذنوبين وَفِي نَزعه ضعف وَالله يغْفر لَهُ ثمَّ استحالت غربا فَأَخذهَا عمر بن الْخطاب فَلم أر عبقريا من النَّاس ينْزع نزع عمر وَفِي رِوَايَة فَلم أر عبقريا من النَّاس يفري فريه حَتَّى ضرب النَّاس بِعَطَن) قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله قَالُوا هَذَا الْمَنَام مِثَال لما جرى للخليفتين من ظُهُور آثارهما الصَّالِحَة وانتفاع النَّاس بهما وكل ذَلِك مَأْخُوذ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ صَاحب الْأَمر فَقَامَ بِهِ أكمل قيام وَقرر قَوَاعِد الدّين ثمَّ خَلفه أَبُو بكر فقاتل أهل الرِّدَّة وَقطع دابرهم ثمَّ خَلفه عمر فطالت مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَزِيَادَة واتسع الْإِسْلَام فِي زَمَانه فَشبه أَمر الْمُسلمين بقليب فِيهِ المَاء الَّذِي فِيهِ حياتهم وصلاحهم وأميرهم بالمستقي لَهُم مِنْهَا وسعته هِيَ قِيَامه بمصالحهم اه قلت من تَأمل أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ علم أَنه كَانَ عجبا من الْعجب فَإِنَّهُ عمد إِلَى ثَلَاث دوَل هِيَ أعظم دوَل الْعَالم فِي ذَلِك الْوَقْت دولة الْفرس ودولة الرّوم ودولة القبط فحاربهم فِي نفس وَاحِد وَفرق جيوشه عَلَيْهِم مَعَ قلَّة الْمُسلمين إِذْ ذَاك وشظف عيشهم فَغَلَبَهُمْ على ممالكهم وأزال عزهم وَكسر كراسيهم وأمات نخوتهم بِحَيْثُ ضرب الْجِزْيَة على رقابهم طول أحقابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فَلم يطالبوا بعْدهَا بثأر وَلَا عَادوا إِلَى جماح ونفار بل أعْطوا القادة وَأَسْلمُوا أنفسهم للصغار ثمَّ لم يكتف بذلك حَتَّى أغزى خيل الْمُسلمين أَطْرَاف الْمَعْمُور من خُرَاسَان وَالتّرْك وبلاد النّوبَة وبلاد البربر ولعمري مَا أَمر الْإِسْكَنْدَر الَّذِي تضرب الْأُمَم بِهِ الْمثل فِي الْغَلَبَة والتمكن فِي الأَرْض إِلَّا دون أَمر عمر بِكَثِير فَإِن الْإِسْكَنْدَر كَانَ غازيا بِجَمِيعِ جَيْشه مُتَوَلِّيًا ذَلِك بِنَفسِهِ جوالا فِي الأَرْض غير مُقيم ووجهته فِي حروبه وجهة وَاحِدَة كلما فرغ من مملكة انْتقل إِلَى غَيرهَا تَارِكًا للَّتِي خلف وَرَاءه غير ملتفت إِلَيْهَا وَكَأَنَّهُ كَانَ لَا عرض لَهُ إِلَّا فِي إِظْهَار الْقُوَّة والبطش وَالْغَلَبَة على الْأُمَم دون مَا سوى ذَلِك من تصريف الممالك طوع الْأَمر وَالنَّهْي وَلذَا قَالَ حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه تواريخ الْأُمَم وَمَا رَوَاهُ الْقصاص من إِن الْإِسْكَنْدَر بنى بِأَرْض إيران عدَّة مدن مِنْهَا أَصْبَهَان ومرو وهراة وسمرقند فَحَدِيث لَا أصل لَهُ لِأَن الرجل كَانَ مخربا لَا عَامِرًا اه فَأَما عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ لما استولت جيوشه على أَكثر الْمَعْمُور صرف ممالكها طوع أمره حَتَّى جبي إِلَيْهِ خراجها وَثبتت استقامتها وَزَالَ اعوجاجها أقوى مَا كَانُوا شَوْكَة وَأَشد قُوَّة واكثر حامية وَلم يمت رَحمَه الله حَتَّى انْتَهَت خيله فِي جِهَة الشرق إِلَى نهر بَلخ وَفِي جِهَة الشمَال إِلَى الْبَيْضَاء على مِائَتي فَرسَخ من بلنجر وَفِي جِهَة الْمغرب إِلَى تخوم الرّوم وبلاد برقة وطرابلس الغرب كل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة لم يُجَاوز معظمها الثَّلَاث سِنِين وَهُوَ مَعَ ذَلِك فِي جَوف بَيته مُتَرَدّد فِيمَا بَين منزله ومسجده لم يسْتَعْمل لذَلِك كثير أَسبَاب وَلَا أجلب بِنَفسِهِ بخيل وَلَا ركاب إِنَّمَا هُوَ الرَّأْي الميمون والنصر الْمَضْمُون وَالْأَمر الْجَارِي بَين الْكَاف وَالنُّون والوعد الْمُنجز بقوله تَعَالَى {لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} فَأَما وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ فروى ابْن سعد بِإِسْنَاد صَحِيح أَن عمر كَانَ لَا يَأْذَن لمن احْتَلَمَ من أَوْلَاد الْعَجم فِي دُخُول الْمَدِينَة حَتَّى كتب إِلَيْهِ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَهُوَ على الْكُوفَة فَذكر لَهُ أَن عِنْده غُلَاما صنعا وَهُوَ يَسْتَأْذِنهُ أَن يدْخلهُ الْمَدِينَة وَيَقُول إِن لَهُ أعمالا تَنْفَع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 النَّاس إِنَّه حداد نقاش نجار فَأذن لَهُ عمر وَضرب عَلَيْهِ مَوْلَاهُ كل شهر مائَة فَشكى إِلَى عمر شدَّة الْخراج فَقَالَ لَهُ مَا خراجك بِكَثِير فِي جنب مَا تعْمل فَانْصَرف ساخطا فَلبث عمر ليَالِي فَمر بِهِ العَبْد فَقَالَ عمر ألم أحدث أَنَّك تَقول لَو شِئْت لصنعت رحى تطحن بِالرِّيحِ فَالْتَفت إِلَيْهِ عَابِسا فَقَالَ لأصنعن لَك رحى يتحدث النَّاس بهَا فَأقبل عمر على من مَعَه فَقَالَ توعدني العَبْد فَلبث ليَالِي ثمَّ اشْتَمَل على خنجر ذِي رَأْسَيْنِ نصابه فِي وَسطه فكمن فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد فِي الْغَلَس حَتَّى خرج عمر يوقظ النَّاس للصَّلَاة وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك فَلَمَّا دنا عمر وثب عَلَيْهِ فطعنه ثَلَاث طعنات إِحْدَاهُنَّ تَحت السُّرَّة قد خرقت الصفاق وَهِي الَّتِي قتلته وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ رَأَيْت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل أَن يصاب بأيام بِالْمَدِينَةِ وقف على حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعُثْمَان بن حنيف قَالَ كَيفَ فعلتما فِي أَرض السوَاد أتخافان أَن تَكُونَا قد حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق يَعْنِي من الْخراج قَالَا حملناها أمرا هِيَ لَهُ مطيقة مَا فِيهَا كَبِير فضل قَالَ انظرا أَن تَكُونَا حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق قَالَا لَا فَقَالَ عمر لَئِن سلمني الله تَعَالَى لأدعن أرامل أهل الْعرَاق لَا يحتجن إِلَى رجل بعدِي أبدا قَالَ فَمَا أَتَت عَلَيْهِ رَابِعَة حَتَّى أُصِيب قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون إِنِّي لقائم مَا بيني وَبَينه إِلَّا عبد الله بن عَبَّاس غَدَاة أُصِيب وَكَانَ إِذا مر بَين الصفين قَالَ اسْتَووا حَتَّى إِذا لم ير فِيهِنَّ خللا تقدم فَكبر وَرُبمَا قَرَأَ سُورَة يُوسُف أَو النَّحْل أَو نَحْو ذَلِك فِي الرَّكْعَة الأولى حَتَّى يجْتَمع النَّاس فَمَا هُوَ إِلَّا أَن كبر فَسَمعته يَقُول قتلني أَو أكلني الْكَلْب حِين طعنه أَبُو لؤلؤة واسْمه فَيْرُوز فطار العلج بسكين ذَات طرفين لَا يمر على أحد يَمِينا وَلَا شمالا إِلَّا طعنه حَتَّى طعن ثَلَاثَة عشر رجلا مَاتَ مِنْهُم سَبْعَة فَلَمَّا رأى ذَلِك رجل من الْمُسلمين واسْمه حطاب التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي طرح عَلَيْهِ برنوسا فَلَمَّا ظن العلج أَنه مَأْخُوذ نحر نَفسه وَتَنَاول عمر يَد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فقدمه فَمن يَلِي عمر فقد رأى الَّذِي أرى وَأما نواحي الْمَسْجِد فَإِنَّهُم لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يَدْرُونَ غير أَنهم قد فقدوا صَوت عمر وهم يَقُولُونَ سُبْحَانَ الله سُبْحَانَ الله فصلى بهم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف صَلَاة خَفِيفَة فَلَمَّا انصرفوا قَالَ يَا ابْن عَبَّاس انْظُر من قتلني فجال سَاعَة ثمَّ جَاءَ فَقَالَ غُلَام الْمُغيرَة قَالَ الصنع قَالَ نعم قَالَ قَاتله الله لقد أمرت بِهِ مَعْرُوفا الْحَمد لله الَّذِي لم يَجْعَل ميتتي بيد رجل يَدعِي الْإِسْلَام قد كنت أَنْت وَأَبُوك تحبان أَن تكْثر العلوج بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم رَقِيقا قَالَ إِن شِئْت فعلنَا أَي إِن شِئْت قتلنَا قَالَ كذبت بَعْدَمَا تكلمُوا بلسانكم وصلوا إِلَى قبلتكم وحجوا حَجكُمْ فَاحْتمل إِلَى بَيته فَانْطَلَقْنَا مَعَه وَكَانَ النَّاس لم تصبهم مُصِيبَة قبل يَوْمئِذٍ فَقَائِل يَقُول لَا بَأْس وَقَائِل يَقُول أَخَاف عَلَيْهِ فَأتي بنبيذ فشربه فَخرج من جرحه ثمَّ أُتِي بِلَبن فشربه فَخرج من جرحه فَعَلمُوا أَنه ميت فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاء النَّاس يثنون عَلَيْهِ وَجَاء رجل شَاب فَقَالَ أبشر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببشرى الله لَك بِصُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقدم فِي الْإِسْلَام مَا قد علمت ثمَّ وليت فعدلت ثمَّ شَهَادَة قَالَ وددت أَن ذَلِك كفاف لَا عَليّ وَلَا لي فَلَمَّا أدبر الشَّاب إِذا إزَاره يمس الأَرْض قَالَ ردوا عَليّ الْغُلَام قَالَ يَا ابْن أخي ارْفَعْ ثَوْبك فَإِنَّهُ أنقى لثوبك وَأتقى لِرَبِّك يَا عبد الله بن عمر انْظُر مَاذَا عَليّ من الدّين فحسبوه فوجدوه سِتَّة وَثَمَانِينَ ألفا أَو نَحوه قَالَ إِن وفى لَهُ مَال آل عمر فأده من أَمْوَالهم وَإِلَّا فاسأل فِي بني عدي بن كَعْب فَإِن لم تف أَمْوَالهم فاسأل فِي قُرَيْش وَلَا تعدهم إِلَى غَيرهم فأد عني هَذَا المَال انْطلق إِلَى عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ فَقل يقْرَأ عَلَيْك عمر السَّلَام وَلَا تقل أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي لست الْيَوْم للْمُؤْمِنين أَمِيرا وَقل يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ فَسلم وَاسْتَأْذَنَ ثمَّ دخل عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَة تبْكي فَقَالَ يقْرَأ عَلَيْك عمر بن الْخطاب السَّلَام ويستأذن أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ فَقَالَت كنت أريده لنَفْسي ولأوثرنه بِهِ الْيَوْم على نَفسِي فَلَمَّا أقبل قيل هَذَا عبد الله بن عمر قد جَاءَ قَالَ ارفعوني فأسنده رجل إِلَيْهِ فَقَالَ مَا لديك قَالَ الَّذِي تحب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَذِنت قَالَ الْحَمد لله مَا كَانَ من شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أهم عَليّ من ذَلِك فَإِذا أَنا قضيت فاحملوني ثمَّ سلم فَقل يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب فَإِن أَذِنت لي فادخلوني وَإِن ردتني ردوني إِلَى مَقَابِر الْمُسلمين وَجَاءَت أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة وَالنِّسَاء تسير مَعهَا فَلَمَّا رأيناها قمنا فولجت عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْده سَاعَة وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَال فولجت دَاخِلا لَهُم فسمعنا بكاءها من الدَّاخِل فَقَالُوا أوص يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اسْتخْلف قَالَ مَا أجد أحدا أَحَق بِهَذَا الْأَمر من هَؤُلَاءِ النَّفر أَو الرَّهْط الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَنْهُم رَاض فَسمى عليا وَعُثْمَان وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وسعدا وَعبد الرَّحْمَن وَقَالَ يشهدكم عبد الله بن عمر وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء كهينة التَّعْزِيَة لَهُ فَإِن أَصَابَت الْإِمَارَة سَعْدا فَهُوَ ذَاك وَإِلَّا فليستعن بِهِ أَيّكُم مَا أَمر فَإِنِّي لم أعزله عَن عجز وَلَا خِيَانَة وَقَالَ أوصِي الْخَلِيفَة من بعدِي بالمهاجرين الْأَوَّلين أَن يعرف لَهُم حَقهم ويحفظ لَهُم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم أَن يقبل من محسنهم وَأَن يعفي عَن مسيئهم وأوصيه بالأنصار خيرا فَإِنَّهُم ردء الْإِسْلَام وجباة المَال وغيظ الْعَدو وَأَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُم إِلَّا فَضلهمْ عَن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فَإِنَّهُم أصل الْعَرَب ومادة الْإِسْلَام أَن يُؤْخَذ من حَوَاشِي أَمْوَالهم وَترد على فقرائهم وأوصيه بِذِمَّة الله وَذمَّة رَسُوله أَن يُوفي لَهُم بعدهمْ وَأَن يُقَاتل من ورائهم وَلَا يكلفوا إِلَّا طاقتهم فَلَمَّا قبض خرجنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نمشي فَسلم عبد الله بن عمر وَقَالَ يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب قَالَت أدخلوه فَأدْخل فَوضع هُنَالك مَعَ صَاحِبيهِ فَلَمَّا فرغ من دَفنه اجْتمع هَؤُلَاءِ الرَّهْط فَقَالَ عبد الرَّحْمَن اجعلوا أَمركُم إِلَى ثَلَاثَة مِنْكُم فَقَالَ الزبير قد جعلت أَمْرِي إِلَى عَليّ فَقَالَ طَلْحَة قد جعلت أَمْرِي إِلَى عُثْمَان وَقَالَ سعد قد جعلت أَمْرِي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقَالَ عبد الرَّحْمَن أيكما يتبرأ من هَذَا الْأَمر فنجعله إِلَيْهِ وَالله عَلَيْهِ وَالْإِسْلَام لينظرن أفضلهم فِي نَفسه فأسكت الشَّيْخَانِ فَقَالَ عبد الرَّحْمَن أفتجعلونه إِلَيّ وَالله على أَن لَا آلو عَن أفضلكم قَالَا نعم فَأخذ بيد أَحدهمَا فَقَالَ لَك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 من قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقدم مَا قد علمت فَالله عَلَيْك لَئِن أَمرتك لتعدلن وَلَئِن أمرت عُثْمَان لتسمعن ولتطيعن ثمَّ خلا بِالْآخرِ فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك فَلَمَّا أَخذ الْمِيثَاق قَالَ ارْفَعْ يدك يَا عُثْمَان فَبَايعهُ وَبَايع لَهُ عَليّ وولج أهل الدَّار فَبَايعُوهُ اه وَكَانَت وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ يَوْم السبت منسلخ ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وَدفن يَوْم الْأَحَد هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام كَذَا لأبي الْفِدَاء وَفِي حَدِيث عَائِشَة مِمَّا أخرجه أَبُو عمر بن عبد الْبر ناحت الْجِنّ على عمر رَضِي الله عَنهُ قبل أَن يَمُوت بِثَلَاث فَقَالَت (أبعد قَتِيل بِالْمَدِينَةِ أظلمت ... لَهُ الأَرْض تهتز العضاه بأسوق) (جزى الله خيرا من إِمَام وباركت ... يَد الله فِي ذَاك الْأَدِيم الممزق) (فَمن يسع أَو يركب جنَاح نعَامَة ... ليدرك مَا قدمت بالْأَمْس يسْبق) (قضيت أمورا ثمَّ غادرت بعْدهَا ... بوائق من أكمامها لم تفتق) خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ هُوَ أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف ولي الْخلَافَة بعد عمر رَضِي الله عَنهُ بِاخْتِيَار أهل الشورى لَهُ وَقد تقدم خبر ذَلِك مُسْتَوفى وَلما بُويِعَ رقى الْمِنْبَر وَقَامَ خَطِيبًا فَحَمدَ الله وَتشهد ثمَّ ارتج عَلَيْهِ فَقَالَ إِن أول كل أَمر صَعب وَإِن أعش فستأتيكم الْخطب على وَجههَا إِن شَاءَ الله ثمَّ نزل وَأقر عُمَّال عمر كلهم إِلَّا مَا كَانَ من الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَمِير الْكُوفَة فَإِنَّهُ عَزله واستبدل بِهِ سعد بن أبي وَقاص لوَصِيَّة عمر بذلك ثمَّ بعد مُدَّة نَحْو سنة عزل من عزل من عُمَّال عمر واستبدل بهم آخَرين كَانَ فيهم من هُوَ من قرَابَته فعزل سعد بن أبي وَقاص عَن الْكُوفَة وَولى عَلَيْهَا الْوَلِيد بن عقبَة وَكَانَ أَخا عُثْمَان من أمه وعزل عَمْرو بن الْعَاصِ عَن مصر وَولى عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وَكَانَ أَخَاهُ من الرضَاعَة ثمَّ عزل بعد ذَلِك أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن الْبَصْرَة وَولى عَلَيْهَا عبد الله بن عَامر بن كريز وَهُوَ ابْن خَاله واستكتب مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ وَهُوَ ابْن عَمه كل ذَلِك كَانَ لمصْلحَة اقتضاها الْحَال وَضم حمص وقنسرين وفلسطين وَغَيرهَا من بِلَاد الشَّام إِلَى مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أَمِير دمشق وَمضى رَضِي الله عَنهُ على سنَن عمر فِي الْجِهَاد وتجهيز الجيوش وتكتيب الْكَتَائِب حَتَّى اتسعت خطة الْإِسْلَام اتساعا أعظم مِنْهُ فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ لأوّل خلَافَة عُثْمَان قد انْتقض بعض الثغور والجهات مثل الْإسْكَنْدَريَّة وَبَعض بِلَاد الْعَجم وَفَارِس وَنَحْو ذَلِك فتلاقاها بالغزو والبعوث حَتَّى عَادَتْ إِلَى الطَّاعَة وَأَدت مَا كَانَت تُؤَدِّيه أَيَّام عمر أَو أَكثر وَفتح عَلَيْهِ بِلَاد أرمينية مثل تفليس وقاليقلا وخلاط والسيرجان وعدة حصون وانْتهى الْفَتْح إِلَى مَدِينَة الْبَاب وَكَانَ ذَلِك على يَد سُلَيْمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ سنة أَربع وَعشْرين وغزا مُعَاوِيَة صَاحب الشَّام أَيْضا بِلَاد الرّوم حَتَّى بلغ عمورية وَوجد مَا بَين أنطاكية وطرطوس من حصون الرّوم خَالِيا فَجمع فِيهَا العساكر حَتَّى رَجَعَ وخربها وَكَذَا استتم الْمُسلمُونَ فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فتح مدن خُرَاسَان والجوزجان والطالقان وطخارستان وَمَا وَرَاء النَّهر إِلَى فرغانة فِي الشرق وانْتهى الْفَتْح أَيْضا إِلَى كابل وزابلستان وَهِي بِلَاد غزنة من ثغور الْهِنْد فِي الْجنُوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فتح أفريقية وَفتح فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إفريقية أَيْضا من بِلَاد الْمغرب وَكَانَ من خَبَرهَا أَنه لما كَانَت سنة سِتّ وَعشْرين من الْهِجْرَة عزل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ عَن خراج مصر وَاسْتعْمل مَكَانَهُ عبد الله بن سعد بن أبي سرح رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا قدم ابْن أبي سرح مصر كَانَ على خراجها وَعَمْرو بن الْعَاصِ على حربها فَكتب ابْن أبي سرح إِلَى عُثْمَان يشكو عمرا فاستقدمه عُثْمَان واستقل ابْن أبي سرح بالخراج وَالْحَرب مَعًا ثمَّ أمره عُثْمَان بغزو إفريقية بعد أَن كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ اسْتَشَارَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي غزوها فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ لَهُ تِلْكَ المفرقة وَلَيْسَت بإفريقية أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَلما أَمر عُثْمَان بن أبي سرح بغزوها قَالَ لَهُ إِن فتح الله عَلَيْك فلك خمس الْخمس من الْغَنَائِم ثمَّ عقد عُثْمَان لعبد الله بن نَافِع بن عبد الْقَيْس على جند ولعَبْد الله بن نَافِع بن الْحَارِث على آخر وسرحهما فَخَرجُوا إِلَى أفريقية فِي عشرَة آلَاف وصالحهم أَهلهَا على مَال يؤدونه وَلم يقدروا على التوغل فِيهَا لِكَثْرَة أَهلهَا ثمَّ إِن ابْن أبي سرح اسْتَأْذن عُثْمَان فِي ذَلِك واستمده فَاسْتَشَارَ عُثْمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فأشاروا بِهِ فَجهز العساكر من الْمَدِينَة وَفِيهِمْ جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَابْن جَعْفَر وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَسَارُوا مَعَ ابْن أبي سرح سنة سِتّ وَعشْرين ولقيهم عقبَة بن نَافِع فِيمَن مَعَه من الْمُسلمين ببرقة ثمَّ سَارُوا إِلَى طرابلس فنهبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرّوم عِنْدهَا ثمَّ سَارُوا إِلَى إفريقية وبثوا السَّرَايَا فِي كل نَاحيَة وَكَانَ ملكهم جرجير يملك مَا بَين طرابلس وطنجة تَحت ولَايَة هِرقل وَيحمل إِلَيْهِ الْخراج فَلَمَّا بلغه الْخَبَر جمع مائَة وَعشْرين ألفا من العساكر ولقيهم على يَوْم وَلَيْلَة من سبيطلة دَار ملكهم وَأَقَامُوا يقتتلون وَدعوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير مدَدا بَعثه عُثْمَان لما أَبْطَأت أخبارهم وَسمع جرجير بوصول المدد ففت فِي عضده وَشهد ابْن الزبير مَعَهم الْقِتَال وَقد غَابَ ابْن أبي سرح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه سمع مُنَادِي جرجير يَقُول من قتل ابْن أبي سرح فَلهُ مائَة ألف دِينَار وأزوجه ابْنَتي فخاف وَتَأَخر عَن شُهُود الْقِتَال فَقَالَ لَهُ ابْن الزبير تنادي أَنْت بِأَن من قتل جرجير نفلته مائَة ألف وَزَوجته ابْنَته واستعملته على بِلَاده فخاف جرجير أَشد مِنْهُ ثمَّ قَالَ عبد الله بن الزبير لِابْنِ أبي سرح الرَّأْي أَن تتْرك جمَاعَة من أبطال الْمُسلمين الْمَشَاهِير متأهبين للحرب وتقاتل الرّوم بباقي الْعَسْكَر إِلَى أَن يضجروا فتركبهم بالآخرين على غرَّة لَعَلَّ الله ينصرنا عَلَيْهِم وَوَافَقَ على ذَلِك أَعْيَان الصَّحَابَة فَفَعَلُوا ذَلِك وركبوا من الْغَد إِلَى الزَّوَال وألحوا عَلَيْهِم حَتَّى أتعبوهم ثمَّ افْتَرَقُوا وأركب عبد الله الْفَرِيق الَّذين كَانُوا مستريحين فكبروا وحملوا حَملَة رجل وَاحِد حَتَّى غشوا الرّوم فِي خيامهم فَانْهَزَمُوا وَقتل كثير مِنْهُم وَقتل ابْن الزبير جرجير وَأخذت ابْنَته سبية فنفلها ابْن أبي سرح ابْن الزبير ثمَّ حاصر ابْن أبي سرح سبيطلة حَتَّى فتحهَا وَكَانَ سهم الْفَارِس فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَسَهْم الراجل ألفا وَبث جيوشه فِي الْبِلَاد إِلَى قفصه فَسبوا وغنموا وَبعث عسكرا إِلَى حصن الأجم وَقد اجْتمع بِهِ أهل الْبِلَاد فحاصره وفتحه على الْأمان ثمَّ صَالحه أهل أفريقية على ألفي ألف وَخَمْسمِائة ألف دِينَار وَأرْسل عبد الله بن أبي سرح عبد الله بن الزبير بِخَبَر الْفَتْح وبالخمس إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَاشْتَرَاهُ مَرْوَان بن الحكم بِخَمْسِمِائَة ألف دِينَار ثمَّ وَضعهَا عَنهُ عُثْمَان وَأعْطى ابْن أبي سرح خمس الْخمس من الْغَزْوَة الأولى ثمَّ بعد تَمام الصُّلْح رَجَعَ عبد الله بن أبي سرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إِلَى مصر بعد مقَامه بأفريقية سنة وَثَلَاثَة أشهر وَيُقَال إِنَّه لما فتح إفريقية أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عبد الله بن نَافِع أَن يسير إِلَى جِهَة الأندلس فغزا تِلْكَ الْجِهَة وَعَاد إِلَى أفريقية فَأَقَامَ بهَا واليا من قبل عُثْمَان وَرجع ابْن أبي سرح إِلَى مصر وَالله أعلم وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين اسْتَأْذن مُعَاوِيَة عُثْمَان فِي غَزْو الْبَحْر فَأذن لَهُ وَقد كَانَ مُعَاوِيَة وَهُوَ بحمص أَيَّام عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَيْهِ فِي شَأْن جَزِيرَة قبرص يَقُول إِن قَرْيَة من قرى حمص يسمع أَهلهَا نباح كلاب قبرص وصياح ديوكهم فَكتب عمر إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول صف لي الْبَحْر وراكبه فَكتب إِلَيْهِ عَمْرو يَقُول هُوَ خلق كَبِير يركبه خلق صَغِير لَيْسَ إِلَّا السَّمَاء وَالْمَاء إِن ركد أقلق الْقُلُوب وَإِن تحرّك أزاغ الْعُقُول يزْدَاد فِيهِ الْيَقِين قلَّة وَالشَّكّ كَثْرَة وراكبه دود على عود إِن مَال غرق وَإِن نجا فرق فَكتب عمر إِلَى مُعَاوِيَة وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَا أحمل فِيهِ مُسلما أبدا وَقد بَلغنِي أَن بَحر الشَّام يشرف على أطول جبل بِالْأَرْضِ فيستأذن الله كل يَوْم وَلَيْلَة فِي أَن يغرق الأَرْض فَكيف أحمل الْجنُود على هَذَا الْبَحْر الْكَافِر وَبِاللَّهِ لمُسلم وَاحِد أحب إِلَيّ مِمَّا حوت الرّوم فإياك أَن تعرض لي فِي ذَلِك فقد علمت مَا لَقِي الْعَلَاء مني ثمَّ لما كَانَت خلَافَة عُثْمَان ألح مُعَاوِيَة عَلَيْهِ فِي غَزْو الْبَحْر فَأَجَابَهُ على خِيَار النَّاس وطوعهم فَاخْتَارَ الْغَزْو جمَاعَة من الصَّحَابَة فيهم أَبُو ذَر وَأَبُو الدَّرْدَاء وَشَدَّاد بن أَوْس وَعبادَة بن الصَّامِت وزوجه أم حرَام بنت ملْحَان وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عبد الله بن قيس حَلِيف بني فَزَارَة وَسَارُوا إِلَى قبرص وَجَاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فَاجْتمعُوا عَلَيْهَا وصالحهم أَهلهَا على سَبْعَة آلَاف دِينَار لكل سنة ويؤدون مثلهَا للروم وَلَا مَنْعَة لَهُم على الْمُسلمين مِمَّن أَرَادَهُم من سواهُم وعَلى أَن يَكُونُوا عينا للْمُسلمين على عدوهم وَيكون طَرِيق الْغَزْو للْمُسلمين عَلَيْهِم وَكَانَت هَذِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْغُزَاة سنة ثَمَان وَعشْرين كَمَا قدمنَا وَقيل غير ذَلِك وفيهَا توفيت أم حرَام بنت ملْحَان سَقَطت عَن دابتها حِين خرجت من الْبَحْر وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهَا بذلك وَهُوَ نَائِم عِنْدهَا كَمَا فِي الصَّحِيح وَأقَام عبد الله بن قيس على الْبَحْر فغزا خمسين غَزْوَة لم ينكب فِيهَا أحد إِلَى أَن نزل فِي بعض الْأَيَّام فِي سَاحل المرفأ من أَرض الرّوم فثاروا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَنَجَا الملاح وَكَانَ اسْتخْلف سُفْيَان بن عَوْف الْأَزْدِيّ على السفن فجَاء إِلَى أهل المرفأ وَقَاتلهمْ حَتَّى قتل وَقتل مَعَه جمَاعَة من الْمُسلمين وَفِي سنة ثَلَاثِينَ جمع عُثْمَان الْقُرْآن الْجمع الثَّانِي فِي الْمَصَاحِف وفيهَا هلك يزدجرد كسْرَى فَارًّا من جيوش الْمُسلمين بِمَدِينَة مرو من خُرَاسَان وَهُوَ آخر الأكاسرة وبموته انقرضت دولة آل ساسان وَكَانَ من خبر جمع الْقُرْآن مَا أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن شهَاب أَن أنس بن مَالك حَدثهُ أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قدم على عُثْمَان وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية وأذربيجان مَعَ أهل الْعرَاق فأفزع حُذَيْفَة اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة فَقَالَ حُذَيْفَة لعُثْمَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف ثمَّ نردها إِلَيْك فَأرْسلت بهَا حَفْصَة إِلَى عُثْمَان فَأمر زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام فنسخوها فِي الْمَصَاحِف وَقَالَ عُثْمَان للرهط القرشيين الثَّلَاثَة إِذا اختلفتم أَنْتُم وَزيد بن ثَابت فِي شَيْء من الْقُرْآن فاكتبوه بِلِسَان قُرَيْش فَإِنَّمَا نزل بلسانهم فَفَعَلُوا حَتَّى إِذا نسخوا الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف رد عُثْمَان الصُّحُف إِلَى حَفْصَة فَأرْسل إِلَى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا وَأمر بِمَا سواهُ من الْقُرْآن فِي كل صحيفَة أَو مصحف أَن يحرق قَالَ ابْن شهَاب وَأَخْبرنِي خَارِجَة بن زيد بن ثَابت أَنه سمع أَبَاهُ زيد بن ثَابت قَالَ فقدت آيَة من الْأَحْزَاب حِين نسخنا الْمُصحف قد كنت أسمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بهَا فالتمسناها فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَة بن ثَابت الْأنْصَارِيّ {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ) فألحقناها فِي سورتها فِي الْمُصحف وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ تكلم جمَاعَة من أهل الْكُوفَة فِي عُثْمَان بِأَنَّهُ ولى جمَاعَة من أهل بَيته لَا يصلحون للولاية ونقموا عَلَيْهِ أمورا أخر لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكرهَا مَعَ أَنه كَانَ فِيهَا مُجْتَهدا وَذَلِكَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِيهِ مزِيد حَيَاء ورأفة وبرور بأقاربه وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مرهوب الْجَانِب عِنْد الْخَاصَّة والعامة لَهُ عين كالئة على الرّعية بَصيرًا بِمَا يأْتونَ ويذرون مُحدثا فِي ذَلِك كَمَا أخبر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ من الحزم والضبط على مَا وَصفته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذْ قَالَت رحم الله عمر كَانَ أحوذ بِهِ نَسِيج وَحده قد أعد للأمور أقرانها فَكَانَ عُثْمَان أَلين جانبا من عمر فتوسع النَّاس فِي زَمَانه فِي أُمُور الدُّنْيَا أَكثر مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زمَان عمر واستعملوا النفيس من الملبس والمسكن والمطعم واقتنوا الضّيَاع والآثاث قَالَ المَسْعُودِيّ فِي مروج الذَّهَب وَفِي أَيَّام عُثْمَان اقتنى الصَّحَابَة الضّيَاع وَالْمَال فَكَانَ لَهُ يَوْم قتل عِنْد خازنه خَمْسُونَ وَمِائَة ألف دِينَار وَألف ألف دِرْهَم وَقِيمَة ضيَاعه بوادي الْقرى وحنين وَغَيرهمَا مائَة ألف دِينَار وَخلف إبِلا وخيلا كَثِيرَة وَبلغ الثّمن الْوَاحِد من مَتْرُوك الزبير بعد وَفَاته خمسين ألف دِينَار وَخلف ألف فرس وَألف أمة وَكَانَت غلَّة إِلَى طَلْحَة من الْعرَاق ألف دِينَار كل يَوْم وَمن نَاحيَة السراة أَكثر من ذَلِك وَكَانَ على مربط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ألف فرس وَله ألف بعير وَعشرَة آلَاف من الْغنم وَبلغ الرّبع من متروكه بعد وَفَاته أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألفا وَخلف زيد بن ثَابت من الْفضة وَالذَّهَب مَا كَانَ يكسر بالفؤوس غير مَا خلف من الْأَمْوَال والضياع بِمِائَة ألف دِينَار وَبنى الزبير دَاره بِالْبَصْرَةِ وَكَذَلِكَ بنى بِمصْر والإسكندرية والكوفة وَكَذَلِكَ بنى طَلْحَة دَاره بِالْكُوفَةِ وشيد دَاره بِالْمَدِينَةِ وبناها بالجص والآجر والساج وَبنى سعد بن أبي وَقاص دَاره بالعقيق وَرفع سمكها وأوسع فضاءها وَجعل على أَعْلَاهَا شرفات وَبنى الْمِقْدَاد دَاره بِالْمَدِينَةِ وَجعلهَا مجصصة الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَخلف يعلى بن منية خمسين ألف دِينَار وَغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ذَلِك مِمَّا قِيمَته ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم اه كَلَام المَسْعُودِيّ فاستحالت الْأَحْوَال فِي زمَان عُثْمَان كَمَا ترى وَلما رأى ذَلِك بعض النَّاس مِمَّن لم يكن لَهُ رسوخ فِي الْفِقْه وَالدّين وَلَا هُوَ من أهل السَّابِقَة من فضلاء الصَّحَابَة وَالْمُسْلِمين صَارُوا ينقمون على عُثْمَان بِأَنَّهُ أهمل أَمر الرّعية وَخَالف سيرة العمرين مَعَ مَا أنضاف إِلَى ذَلِك من تَوْلِيَة أَقَاربه وحاشاه من ذَلِك رَضِي الله عَنهُ فَإِن الرجل كَانَ مُجْتَهدا وَهُوَ أهل للِاجْتِهَاد وَمَا تخيلوه من إهماله أَمر الرّعية حَتَّى اسْتَحَالَ أمرهَا إِلَى مَا ذكر تخيل بَاطِل إِذْ لَيْسَ فِي طوقه وَلَا بِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا طبيعة الْعمرَان البشري تَقْتَضِي ذَلِك بِسَبَب مَا فتح على الْمُسلمين من الأقاليم والممالك والأقطار والنواحي والأمصار وترادف الجبايات الفائقة الْحصْر وانثيال كنوز كسْرَى وَقَيْصَر وَغَيرهم من مُلُوك الأَرْض عَلَيْهِم فَأنى يبْقى الْأَمر على حَاله مَعَ هَذَا الْفَتْح العجيب والنصر الْغَرِيب وَقد قيل دوَام الْحَال من الْمحَال وَالنَّاس لَيْسُوا على قدم وَاحِد فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا فَالْحق الَّذِي لَا عوج فِيهِ وَلَا أمت أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ على الْحق حَتَّى لَقِي ربه وَمَا يعتدون بِهِ عَلَيْهِ من مُخَالفَة الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا إِن صَحَّ فمحله الِاجْتِهَاد كَمَا قُلْنَا وَمَعْلُوم أَن أَحْكَام الشَّرْع تَدور مَعَ الْمصَالح والمفاسد وتختلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال كَمَا لَا يخفى على من لَهُ أدنى مَسِيس بالفقه قَالَ ابْن خلدون اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِنَّمَا يَقع فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة وينشأ عَن الِاجْتِهَاد فِي الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة والمدارك الْمُعْتَبرَة والمجتهدون إِذا اخْتلفُوا فَإِن قُلْنَا إِن الْحق فِي الْمسَائِل الاجتهادية فِي وَاحِد من الطَّرفَيْنِ وَمن لم يصادفه فَهُوَ مُخطئ فَإِن جِهَته لَا تتَعَيَّن بِإِجْمَاع فَيبقى الْكل على احْتِمَال الْإِصَابَة والتأثيم مَدْفُوع عَن الْكل إِجْمَاعًا وَإِن قُلْنَا إِن الْكل حق وَإِن كل مُجْتَهد مُصِيب فأحرى بِنَفْي الْخَطَأ والتأثيم ثمَّ اسْتمرّ أُولَئِكَ الناقمون على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وتمادوا فِي طعنهم وتشغيبهم حَتَّى تفاقم الْأَمر وشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 (وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ ... فَظن خيرا وَلَا تسْأَل عَن الْخَبَر) وَآخر الْأَمر أَنه لما كَانَت سنة خمس وَثَلَاثِينَ قدم من مصر جمع قيل ألف وَقيل سَبْعمِائة وَقدم من الْكُوفَة جمع آخر وَمن الْبَصْرَة كَذَلِك وحاصروا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي دَاره وَكَانَت خطوب وَقَطعُوا عَنهُ المَاء وَاسْتمرّ الْحصار نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ تسور عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل مصر دَاره فَقَتَلُوهُ وسال دَمه على الْمُصحف يُقَال أَن الَّذِي تولى قَتله كنَانَة بن بشر التجِيبِي وطعنه عَمْرو بن الْحمق طعنات وَجَاء عُمَيْر بن ضابئ البرجمي وَكَانَ أَبوهُ قد مَاتَ فِي سجن عُثْمَان فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَتَّى كسر ضلعا من أضلاعه وَكَانَ قَتله لثمان عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَّا اثْنَي عشر يَوْمًا وَقيل أَنه قتل صَبِيحَة عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي عِنْد ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل وَابْن بدرون فِي شرح العبدونية وَيُؤَيِّدهُ قَول حسان بن ثَابت يرثيه (ضحوا بأشمط عنوان السُّجُود بِهِ ... يقطع اللَّيْل تسبيحا وقرآنا) لتسمعن وشيكا فِي دِيَارهمْ ... الله أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا) وَقَول الفرزدق بعده (عُثْمَان إِذْ قَتَلُوهُ وانتهكوا ... دَمه صَبِيحَة لَيْلَة النَّحْر) رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ ونفعنا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي طَالب واسْمه عبد منَاف بن عبد الْمطلب جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْمه شيبَة وَفِيه يجْتَمع مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بُويِعَ بعد مقتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بِاتِّفَاق من يعْتَبر أهل الْحل وَالْعقد بعد امْتِنَاعه من ذَلِك قَالَ ابْن خلدون لما قتل عُثْمَان اجْتمع طَلْحَة وَالزُّبَيْر والمهاجرون وَالْأَنْصَار وَأتوا عليا يبايعونه فَأبى وَقَالَ أكون وزيرا لكم خير من أَن أكون أَمِيرا وَمن اخترتم رضيته فألحوا عَلَيْهِ وَقَالُوا لَا نعلم أَحَق مِنْك وَلَا نَخْتَار غَيْرك حَتَّى غلبوه فِي ذَلِك فَخرج إِلَى الْمَسْجِد وَبَايَعُوهُ وَأول من بَايعه طَلْحَة ثمَّ الزبير بعد أَن خيرهما وَيُقَال أَنَّهُمَا ادّعَيَا الْإِكْرَاه بعد ذَلِك بأَرْبعَة أشهر وتخلف عَن بيعَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ نَاس من الصَّحَابَة وَغَيرهم فَلم يبغضهم وَقَالَ أُولَئِكَ قوم قعدوا عَن الْحق وَلم يقومُوا مَعَ الْبَاطِل وَلما ولي الْخلَافَة رَضِي الله عَنهُ أحيى السّنة وأمات الْبِدْعَة وأوضح منار الْحق وأخمد نَار الْبَاطِل وَلم تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَلما دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ فرق عماله على النواحي فَبعث إِلَى الْكُوفَة عمَارَة بن شهَاب وَكَانَ من الْمُهَاجِرين وَولى على الْبَصْرَة عُثْمَان بن حنيف الْأنْصَارِيّ وعَلى الْيمن عبيد الله بن عَبَّاس وَكَانَ من الأجواد وعَلى مصر قيس بن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ وَكَانَ من أهل الْجُود والشجاعة والرأي وعَلى الشَّام سهل بن حنيف الْأنْصَارِيّ فَلَمَّا وصل سهل إِلَى تَبُوك لَقيته خيل فَقَالُوا من أَنْت قَالَ أَمِير على الشَّام فَقَالُوا إِن كَانَ بَعثك غير عُثْمَان فَارْجِع فَرجع إِلَى عَليّ وَمضى قيس بن سعد إِلَى مصر فوليها واعتزلت عَنهُ فرقة كَانُوا عثمانية وأبوا أَن يدخلُوا فِي طَاعَة عَليّ حَتَّى يقتل قتلة عُثْمَان وَمضى عُثْمَان بن حنيف إِلَى الْبَصْرَة فَدَخلَهَا واتبعته فرقة وخالفته اخرى وَمضى عمَارَة بن شهَاب إِلَى الْكُوفَة فَلَقِيَهُ طَلْحَة بن خويلد الْأَسدي الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كَانَ ادّعى النُّبُوَّة زمَان الرِّدَّة فَقَالَ لَهُ إِن أهل الْكُوفَة لَا يستبدلون بأميرهم أحدا وَكَانَ عَلَيْهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من قبل عُثْمَان رَحمَه الله تَعَالَى فَرجع عمَارَة إِلَى عَليّ وَمضى عبيد الله بن عَبَّاس إِلَى الْيمن فوليها وَكَانَ الْعَامِل بهَا من قبل عُثْمَان يعلى بن منية فَأخذ مَا كَانَ بهَا من المَال وَلحق بِمَكَّة وَمَعَهُ سِتّمائَة بعير وَصَارَ مَعَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَذَلِكَ أَن عَائِشَة كَانَت خرجت إِلَى مَكَّة زمَان حِصَار عُثْمَان فقضت نسكها وانقلبت تُرِيدُ الْمَدِينَة فلقيها الْخَبَر بمقتل عُثْمَان فأعظمت ذَلِك ودعت إِلَى الطّلب بدمه وَلحق بهَا طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الله بن عمر وَجَمَاعَة من بني أُميَّة وَاتفقَ رَأْيهمْ على الْمُضِيّ إِلَى الْبَصْرَة للاستيلاء عَلَيْهَا وَكَانَ عبد الله بن عمر قد قدم مَكَّة من الْمَدِينَة فَدَعوهُ إِلَى الْمسير مَعَهم فَأبى وَأعْطى يعلى بن منية عَائِشَة الْجمل الْمُسَمّى بعسكر وَكَانَ اشْتَرَاهُ بِمِائَة دِينَار فركبته وَسَارُوا فَمروا فِي طريقهم بِمَاء يُقَال لَهُ الحوأب فنبحتهم كلابه فَقَالَت عَائِشَة أَي مَاء هَذَا فَقيل مَاء الحوأب فصرخت بِأَعْلَى صَوتهَا وَقَالَت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَعِنْده نساؤه لَيْت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثمَّ ضربت عضد الْجمل فأناخته وَقَالَت ردوني أَنا وَالله صَاحِبَة مَاء الحوأب وَقَامَت بهم يَوْمًا وَلَيْلَة إِلَى أَن قيل النَّجَاء فقد أدرككم عَليّ بن أبي طَالب وغلبوها على رأيها فارتحلوا نَحْو الْبَصْرَة فاستولوا عَلَيْهَا بعد قتال مَعَ أميرها عُثْمَان بن حنيف وَلما بلغ عليا رَضِي الله عَنهُ مسير عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى الْبَصْرَة سَار نحوهم فِي أَرْبَعَة آلَاف من أهل الْمَدِينَة فيهم أَرْبَعمِائَة مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة وَثَمَانمِائَة من الْأَنْصَار وَكَانَت رايته مَعَ ابْنه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وعَلى ميمنته الْحسن وعَلى ميسرته الْحُسَيْن وعَلى الْخَيل عمار بن يَاسر وعَلى الرجالة مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق وعَلى مقدمته عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ مسيره فِي ربيع الآخر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَلما وصل عَليّ إِلَى ذِي قار لقِيه أَمِير الْبَصْرَة عُثْمَان بن حنيف وَأخْبرهُ الْخَبَر فَقَالَ عَليّ إِن النَّاس وليهم قبلي رجلَانِ فعملا بِالْكتاب وَالسّنة ثمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وليهم ثَالِث فَقَالُوا فِي حَقه وفعلوا ثمَّ بايعوني وبايعني طَلْحَة وَالزُّبَيْر ثمَّ نَكثا وَمن الْعجب انقيادهما لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وخلافهما عَليّ وَالله إنَّهُمَا ليعلمان أَنِّي لست بِدُونِ رجل مِمَّن تقدم ثمَّ سَار عَليّ يؤم الْبَصْرَة فِيمَن مَعَه من أهل الْمَدِينَة وَأهل الْكُوفَة وانضم إِلَى عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر جمع آخر والتقوا بمَكَان يُقَال لَهُ الخريبة عِنْد مَوضِع قصر عبيد الله بن زِيَاد يَوْم الْخَمِيس النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ خرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر وجاءهم عَليّ حَتَّى اخْتلفت أَعْنَاق دوابهم فَقَالَ عَليّ لقد أعددتما سِلَاحا وخيلا ورجالا إِن كنتما أعددتما عِنْد الله عذرا ألم أكن أخاكما فِي دينكما تحرمان دمي وَأحرم دمكما فَهَل من حدث أحل لَكمَا دمي قَالَ طَلْحَة ألبت على عُثْمَان قَالَ عَليّ {يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق} فلعن الله قتلة عُثْمَان يَا طَلْحَة أما بايعتني قَالَ وَالسيف على عنقِي ثمَّ قَالَ الزبير أَتَذكر يَوْم قَالَ لَك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَتُقَاتِلنَّهُ وَأَنت لَهُ ظَالِم) قَالَ اللَّهُمَّ نعم وَلَو ذكرت ذَلِك قبل مسيري مَا سرت وَوَاللَّه لَا أقاتلنك أبدا وافترقوا وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ قد بعث إِلَيْهِم قبل اللِّقَاء الْقَعْقَاع بن عَمْرو التَّمِيمِي وَأمره أَن يُشِير بِالصُّلْحِ مَا اسْتَطَاعَ فَقدم الْقَعْقَاع على عَائِشَة أَولا وَقَالَ أَي أُمَّاهُ مَا أشخصك قَالَت أُرِيد الْإِصْلَاح بَين النَّاس قَالَ فابعثي إِلَى طَلْحَة وَالزُّبَيْر فاسمعي مني ومنهما فَبعثت إِلَيْهِمَا فجاءا فَقَالَ لَهما القعقعاع إِنِّي سَأَلت أم الْمُؤمنِينَ مَا أقدمها فَقَالَت الْإِصْلَاح فَقَالَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر كَذَلِك هُوَ قَالَ الْقَعْقَاع فأخبراني مَا هُوَ قَالَا قتلة عُثْمَان فَإِن تَركهم ترك لِلْقُرْآنِ قَالَ فقد قتلتم مِنْهُم عددا من أهل الْبَصْرَة يَعْنِي حِين قتلوا أميرها عُثْمَان بن حنيف قَالَ وَغَضب لَهُم سِتَّة آلَاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زُهَيْر فَمَنعه سِتَّة آلَاف فَإِن قاتلتم هَؤُلَاءِ كلهم اجْتمع ربيعَة وَمُضر على حربكم فَأَيْنَ الْإِصْلَاح قَالَت عَائِشَة فَمَاذَا تَقول أَنْت قَالَ هَذَا الْأَمر دواؤه التسكين فَإِذا سكن الْأَمر اختلجوا أَي أخذُوا على غرَّة فَقَالُوا قد أصبت وأحسنت فَارْجِع إِلَى عَليّ فَإِن كَانَ على مثل رَأْيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 صلح الْأَمر فَرجع الْقَعْقَاع إِلَى عَليّ فأعجبه وأشرف الْقَوْم على الصُّلْح وَعلم بذلك جمَاعَة مِمَّن كَانَ سعى فِي قتل عُثْمَان أَو رَضِي بِهِ فَقَالُوا إِن يصطلح هَؤُلَاءِ فعلى دمائنا يصطلحون ثمَّ تعاقدوا على أَنهم إِذا الْتَقَوْا بِجَيْش عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أنشبوا الْقِتَال حَتَّى يشْتَغل النَّاس عَمَّا عزموا عَلَيْهِ من الصُّلْح فَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لما كَانَت صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي اجْتمع فِيهَا عَليّ بطلحة وَالزُّبَيْر علس أُولَئِكَ المتعاهدون على إنشاب الْحَرْب وَمَا يشْعر بهم أحد وصمدت مِنْهُم مضرإلى مُضر وَرَبِيعَة إِلَى ربيعَة واليمن إِلَى الْيمن فوضعوا فيهم السِّلَاح على حِين غَفلَة فثار النَّاس وتسابقوا إِلَى خيولهم وزحف الْبَعْض إِلَى الْبَعْض واشتبكت الْحَرْب فَكَانَت الْوَقْعَة الْعُظْمَى الْمَعْرُوفَة بوقعة الْجمل يَوْم الْخَمِيس لعشر بَقينَ من الشَّهْر الْمَذْكُور أَعنِي جُمَادَى الْأَخِيرَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَقتل طَلْحَة فِي المعركة وَالزُّبَيْر وَهُوَ رَاجع إِلَى الْمَدِينَة وعقر الْجمل الَّذِي كَانَت عَلَيْهِ عَائِشَة وَأمر عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِنَقْل هودجها إِلَى دَار عبد الله بن خلف الْخُزَاعِيّ ونادى مُنَادِي عَليّ يَوْم الْجمل وَكَذَا يَوْم صفّين الْآتِي أَن لَا تتبعوا مُدبرا وَلَا تجهزوا على جريح وَلَا تدْخلُوا الدّور ثمَّ صلى على الْقَتْلَى من الْجَانِبَيْنِ وَأمر بالأطراف فدفنت فِي قبر عَظِيم وَجمع مَا كَانَ فِي الْعَسْكَر من الأثاث وَبعث بِهِ إِلَى مَسْجِد الْبَصْرَة وَقَالَ من عرف شَيْئا فليأخذه إِلَّا سِلَاحا عَلَيْهِ ميسم السُّلْطَان وأحصى الْقَتْلَى من الْجَانِبَيْنِ فَكَانُوا عشرَة آلَاف مِنْهُم من ضبة ألف رجل وَبلغ عليا أَن بعض الغوغاء عرض لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بالْقَوْل السىء فأحضر الْبَعْض مِنْهُم وأوجعهم ضربا ثمَّ جهزها إِلَى الْمَدِينَة بِمَا احْتَاجَت إِلَيْهِ وَبعث مَعهَا أخاها مُحَمَّد بن أبي بكر فِي أَرْبَعِينَ امْرَأَة من نسَاء الْبَصْرَة اختارهن لمرافقتها وَجَاء يَوْم ارتحالها فودعها واستعتب لَهَا واستعتبت لَهُ وَمَشى مَعهَا أميالا وشيعها بنوه مَسَافَة يَوْم وَذَلِكَ غرَّة رَجَب فَذَهَبت إِلَى مَكَّة وأقامت بهَا حَتَّى حجت تِلْكَ السّنة ثمَّ رجعت إِلَى الْمَدِينَة وَاسْتعْمل عَليّ رَضِي الله عَنهُ على الْبَصْرَة عبد الله بن عَبَّاس وَسَار إِلَى الْكُوفَة فَنزل بهَا وانتظم لَهُ الْأَمر بالعراق ومصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 واليمن والحرمين وَفَارِس وخراسان وَلم يبْق خَارِجا عَن طَاعَته إِلَّا أهل الشَّام وأميرهم مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فَبعث إِلَيْهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ جرير بن عبد الله البَجلِيّ يَأْمُرهُ بِالدُّخُولِ فِيمَا دخل فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فَلَمَّا قدم جرير على مُعَاوِيَة ماطله حَتَّى قدم عَلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ من فلسطين فَاسْتَشَارَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بترك الْبيعَة والطلب بِدَم عُثْمَان وَأَن يُقَاتل مَعَه على أَنه ظفر ولاه مصر فاجابه مُعَاوِيَة إِلَى ذَلِك وَرجع جرير إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ بالْخبر فَسَار عَليّ من الْكُوفَة قَاصِدا مُعَاوِيَة وَمن مَعَه بِالشَّام وَقدم عَلَيْهِ عبد الله بن عَبَّاس وَمن مَعَه من أهل الْبَصْرَة فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ (لأصبحن الْعَاصِ وَابْن الْعَاصِ ... سبعين ألفا عاقدي النواصي) (مجنبين الْخَيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص) وَسَار مُعَاوِيَة وَمَعَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ وَأهل الشَّام من دمشق يُرِيد عليا وتأنى مُعَاوِيَة فِي مسيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 حَرْب صفّين وَخرجت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَدخلت سنة سبع بعْدهَا فَاجْتمع الجيشان بصفين وتراسوا وتداعوا إِلَى الصُّلْح فَلم يقْض الله بذلك وَكَانَت حَرْب يسيرَة بِالنِّسْبَةِ لما بعْدهَا وَلما دخل صفر وَقع بَينهمَا الْقِتَال فَكَانَت وقعات كَثِيرَة بصفين يُقَال إِنَّهَا تسعون وقْعَة وَكَانَت مُدَّة مقامهم على الْحَرْب مائَة يَوْم وَعشرَة أَيَّام وَعدد الْقَتْلَى بصفين من أهل الشَّام خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن أهل الْعرَاق خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا مِنْهُم سِتَّة وَعِشْرُونَ من أهل بدر وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ قد تقدم إِلَى أَصْحَابه أَن لَا يقاتلوهم حَتَّى يبدؤوهم بِالْقِتَالِ وَأَن لَا يقتلُوا مُدبرا وَلَا يكشفوا عَورَة وَلَا يأخذو من أَمْوَالهم شَيْئا وَقَاتل عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ مَعَ عَليّ قتالا عَظِيما وَكَانَ عمره قد نَيف على تسعين سنة وَكَانَت الحربة فِي يَده وَيَده ترتعد فَقَالَ هَذِه راية قَاتَلت بهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات وَهَذِه الرَّابِعَة ودعا بقدح من لبن فَشرب مِنْهُ ثمَّ قَالَ صدق الله وَرَسُوله الْيَوْم ألْقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر رِزْقِي من الدُّنْيَا ضيحة لبن وَرُوِيَ أَنه كَانَ يرتجز (نَحن قتلناكم على تَأْوِيله ... كَمَا قتلناكم على تَنْزِيله) (ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله) وَلم يزل عمار يُقَاتل ذَلِك الْيَوْم حَتَّى اسْتشْهد رَضِي الله عَنهُ وَفِي الصَّحِيح الْمُتَّفق عَلَيْهِ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَيْح عمار تقتله الفئة الباغية) وَبعد قتل عمار رَضِي الله عَنهُ انتخب عَليّ اثْنَي عشر ألفا بعد أَن روى لَهُم حَدِيث عمار وَحمل بهم على عَسْكَر مُعَاوِيَة فَلم يبْق لأهل الشَّام صف إِلَّا انتفض ثمَّ نَادَى يَا مُعَاوِيَة على مَا نقْتل النَّاس بَيْننَا هَلُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أحاكمك إِلَى الله فأينا قتل صَاحبه استقام لَهُ الْأَمر فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ أنصفك فَقَالَ مُعَاوِيَة لكنك مَا أنصفت ثمَّ تقاتلوا لَيْلَة الهرير شبهت بليلة الْقَادِسِيَّة وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى الصَّباح وَكَانَ عَليّ يسير بَين الصُّفُوف ويحرض كل كَتِيبَة على التَّقَدُّم حَتَّى أصبح والمعركة كلهَا خلف ظَهره وَرُوِيَ أَنه كبر تِلْكَ اللَّيْلَة سَبْعمِائة تَكْبِيرَة وَكَانَت عَادَته أَنه كلما قتل قَتِيلا كبر ودام الْقِتَال إِلَى ضحى يَوْم الْجُمُعَة وَقَاتل الأشتر النَّخعِيّ قتالا عَظِيما حَتَّى انْتهى إِلَى معسكرهم وَقتل صَاحب رايتهم وأمده عَليّ بِالرِّجَالِ فَلَمَّا رأى عَمْرو شدَّة الْأَمر قَالَ لمعاوية مر النَّاس يرفعون الْمَصَاحِف على الرماح وَيَقُولُونَ كتاب الله بَيْننَا وَبَيْنكُم فَإِن قبلوا ذَلِك ارْتَفع عَنَّا الْقِتَال وَإِن أَبى بَعضهم وجدنَا فِي افتراقهم رَاحَة فَفَعَلُوا ذَلِك فَقَالَ النَّاس نجيب إِلَى كتاب الله فَقَالَ عَليّ يَا عباد الله امضوا على حقكم فِي قتال عَدوكُمْ فَإِن عمرا وَمُعَاوِيَة وَابْن أبي معيط وَابْن أبي سرح وَالضَّحَّاك بن قيس لَيْسُوا بأصحاب دين وَلَا قُرْآن وَأَنا أعرف بهم مِنْكُم وَيحكم وَالله مَا رفعوها إِلَّا خديعة ومكيدة فَقَالُوا لَا يسعنا أَن ندعى إِلَى كتاب الله فَلَا نقبل فَقَالَ عَليّ إِنَّمَا قاتلناهم ليدينوا بِكِتَاب الله فَإِنَّهُم نبذوه فَقَالَ جمَاعَة من الْقُرَّاء الَّذين صَارُوا خوارج يَا عَليّ أجب إِلَى كتاب الله وَإِلَّا دفعناك برمتك إِلَى الْقَوْم أَو فعلنَا بك مَا فعلنَا بِابْن عَفَّان فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن تطيعوني فَقَاتلُوا وَإِن تعصوني فافعلوا مَا بدا لكم وَآخر الْأَمر إِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن يحكموا رجلَيْنِ من الْجَانِبَيْنِ وَمَا حكما بِهِ عَلَيْهِم صَارُوا إِلَيْهِ فَاخْتَارَ أهل الشَّام عَمْرو بن الْعَاصِ داهية الْعَرَب وَاخْتَارَ أهل الْعرَاق أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ بعد مراجعات وَقعت بَين عَليّ وَبينهمْ وَاجْتمعَ الحكمان عِنْد عَليّ لتكتب الْقَضِيَّة بِحُضُورِهِ فَكَتَبُوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِنَّمَا هُوَ أميركم وَلَيْسَ بأميرنا فَقَالَ الْأَحْنَف لَا تمحوا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الْأَشْعَث امحها فَقَالَ عَليّ الله أكبر سنة بِسنة وَالله إِنِّي لكاتب الْقَضِيَّة يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَكتبت مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت قُرَيْش لست برَسُول الله وَلَكِن اكْتُبْ اسْمك وَاسم أَبِيك فَأمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمحوه فَقلت لَا أَسْتَطِيع قَالَ فأرنيه فأريته فمحاه بِيَدِهِ فَقَالَ لي إِنَّك ستدعى إِلَى مثلهَا فتجيب ثمَّ كتب الْكتاب هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قاضى عَليّ على أهل الْكُوفَة وَمن مَعَهم وقاضى مُعَاوِيَة على أهل الشَّام وَمن مَعَهم إِنَّا ننزل عِنْد حكم الله وَكتابه وَأَن لَا يجمع بَيْننَا غَيره وَإِن كتاب الله بَيْننَا من فاتحته إِلَى خاتمته نحيي مَا أحيى ونميت مَا أمات فَمَا وجد الحكمان فِي كتاب الله وهما أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عملا بِهِ وَمَا لم يجدا فِي كتاب الله فَالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وَأخذ الحكمان من عَليّ وَمُعَاوِيَة وَمن الجندين العهود والمواثيق إنَّهُمَا آمنان على أَنفسهمَا وأهلهما وَالْأمة لَهما أنصار على الَّذِي يتقاضيان عَلَيْهِ وعَلى عبد الله بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عهد الله وميثاقه أَن يحكما بَين هَذِه الْأمة وَلَا يورداها فِي حَرْب وَلَا فرقة وأجلا الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان من السّنة وَإِن أحبا أَن يؤخرا ذَلِك أخراه وَإِن مَكَان قضيتهما مَكَان عدل بَين أهل الْكُوفَة وَأهل الشَّام وَشهد رجال من أهل الْعرَاق وَرِجَال من أهل الشَّام وَوَضَعُوا خطوطهم فِي الصَّحِيفَة ودعي الأشتر النَّخعِيّ ليشهد فَقَالَ لَا صحبتني يَمِيني وَلَا نفعتني بعْدهَا شمَالي إِن وضع لي فِيهَا اسْم وَكتب الْكتاب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وعينوا مَوضِع الحكم بدومة الجندل فَوَقع الِاجْتِمَاع للأجل الْمَذْكُور وَحَاصِل مَا كَانَ من ذَلِك أَن الْحكمَيْنِ اتفقَا على خلع عَليّ وَمُعَاوِيَة وَيكون الْأَمر شُورَى بَين النَّاس حَتَّى يختاروا من يقدمونه لِلْأَمْرِ وَقدم عَمْرو بن الْعَاصِ أَبَا مُوسَى على نَفسه فِي الْكَلَام فَتكلم أَبُو مُوسَى على رُؤُوس النَّاس بِمَا اتفقَا عَلَيْهِ من خلع عَليّ وَمُعَاوِيَة حَتَّى ينظر النَّاس لأَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا سكت أَبُو مُوسَى قَامَ عَمْرو فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِن هَذَا قد خلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 صَاحبه وَقد خلعته كَمَا خلعه وَأثبت مُعَاوِيَة فَهُوَ ولي ابْن عَفَّان وأحق النَّاس بمقامه فكذبه أَبُو مُوسَى وتنازعا وتشاتما ومرج أَمر النَّاس وَلم يحصلوا على طائل وانسل أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا وَلم يرجع إِلَى عَليّ حَيَاء مِنْهُ وَمضى عَمْرو بن الْعَاصِ فِي أهل الشَّام فَسَلمُوا على مُعَاوِيَة بالخلافة وَلَام عَليّ أَصْحَابه فِيمَا كَانَ مِنْهُم من عصيانه أَولا وانخداعهم لأهل الشَّام آخرا وَقَالَ فِيمَا قَالَ كَأَنِّي وَإِيَّاكُم كَمَا قَالَ أَخُو جشم (أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوا ... فَلم يستبينوا الرشد إِلَّا ضحى الْغَد) وَقَالَ إِن هذَيْن الْحكمَيْنِ اللَّذين اخترتموهما تركا حكم الله وَحكما بهوى النَّفس وَاخْتلفَا فِي حكمهمَا فَلم يرشدهما الله فتأهبوا للْجِهَاد واستعدوا للسير وَأصْبح عَليّ رَضِي الله عَنهُ غاديا يُرِيد الشَّام فِي ثَمَانِيَة وَسبعين ألفا وَكَانَت الْخَوَارِج قد خَرجُوا عَلَيْهِ واعتزلوه وَقَالُوا حكمت الرِّجَال فِي دين الله وَلَا حكم إِلَّا لله وبلغه أَن الْخَوَارِج قد اجْتَمعُوا بالنهروان وتعاهدوا على حَرْب الْمُسلمين ثمَّ بلغه أَن الْخَوَارِج الْبَصْرَة لقوا عبد الله بن خباب صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرِيبا من النهروان فعرفهم بِنَفسِهِ فَسَأَلُوهُ عَن أبي بكر وَعمر فَأثْنى خيرا ثمَّ عَن عُثْمَان فِي أول خِلَافَته وَآخِرهَا فَقَالَ كَانَ محقا فِي الأول وَالْآخر فَسَأَلُوهُ عَن عَليّ قبل التَّحْكِيم وَبعده فَقَالَ هُوَ أعلم بِاللَّه وَأَشد توقيا على دينه فَقَالُوا إِنَّك توالي الرِّجَال على أسمائها ثمَّ ذبحوه وبقروا بطن امْرَأَته وَقتلُوا مَعَهُمَا ثَلَاث نسْوَة من طَيء وَمن عَجِيب أَمرهم أَنهم لقوا مُسلما ونصرانيا فَقتلُوا الْمُسلم وَقَالُوا احْفَظُوا ذمَّة نَبِيكُم فِي النَّصْرَانِي فَسَار إِلَيْهِم عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأرْسل إِلَيْهِم أَن ادفعوا قتلة إِخْوَاننَا مِنْكُم فنكف عَنْكُم حَتَّى نلقى أهل الْمغرب فَلَعَلَّ الله يردكم إِلَى خير فأرسلوا إِلَيْهِ كلنا قد قَتلهمْ وكلنَا يسْتَحل دماءكم فَأَتَاهُم عَليّ رَضِي الله عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَقَالَ أيتها الْعصبَة الَّتِي أخرجهَا المراء من الْحق إِلَى الْبَاطِل وأصبحت فِي اللّبْس والخطب الْعَظِيم إِنِّي نَذِير لكم أَن تصبحوا تلقاكم الْأمة غَدا صرعى بأثناء هَذَا النَّهر بِغَيْر بَيِّنَة مِنْكُم وَلَا برهَان ألم تعلمُوا أَنِّي قد نَهَيْتُكُمْ عَن الْحُكُومَة إِلَيّ وأخبرتكم أَن الْقَوْم إِنَّمَا طلبوها خديعة فعصيتموني وحملتموني على أَن حكمت وَلما حكمت شرطت وَأخذت على الْحكمَيْنِ أَن يحيى يَا مَا أَحْيَا الْقُرْآن ويميتا مَا أمات فانقلبا وَحكما بِغَيْر حكم الْكتاب فنبذنا أَمرهمَا وَنحن على أمرنَا الأول فَمَا الَّذِي أَصَابَكُم وَمن أَيْن أتيتم قَالُوا حكمنَا وَكُنَّا بذلك كَافِرين وَقد تبنا فَإِن تبت كَمَا تبنا فَنحْن قَوْمك وَإِلَّا فاعتزلنا وَنحن ننابذك على سَوَاء إِن الله لَا يحب الخائنين فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ صبحكم صَاحب وَلَا بَقِي مِنْكُم وَافد أبعد إيماني برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجهادي فِي سَبِيل الله وهجرتي مَعَ رَسُول الله أشهد على نَفسِي بالْكفْر {قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} وَرُوِيَ أَنه لما كَلمهمْ وَاحْتج عَلَيْهِم تنادوا لَا تخاطبوهم وَلَا تكلموهم وتهيؤوا للقاء الرب الرواح الرواح إِلَى الْجنَّة فَخرج عَليّ رَضِي الله عَنهُ فعبأ النَّاس ميمنة وميسرة ووقف هُوَ فِي الْقلب فِي مُضر وَجعل على الْخَيل ابا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وعَلى أهل الْمَدِينَة وَكَانُوا سَبْعمِائة قيس بن سعد بن عبَادَة وعبأت الْخَوَارِج على نَحْو هَذِه التعبية وَرفع عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَعَ أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ راية الْأمان فَنَادَى أَبُو أَيُّوب من أَتَى هَذِه الرَّايَة وَلم يُقَاتل وَلم يستعرض فَهُوَ آمن وَمن انْصَرف إِلَى الْكُوفَة أَو الْمَدَائِن فَهُوَ آمن وَمن انْصَرف عَن هَذِه الْجَمَاعَة فَهُوَ آمن فاعتزل فَرْوَة بن نَوْفَل الْأَشْجَعِيّ فِي خَمْسمِائَة وَقَالَ أعتزل حَتَّى يَتَّضِح لي الْأَمر فِي قتال عَليّ فَنزل الدسكرة وَخرج آخَرُونَ إِلَى الْكُوفَة وَرجع آخَرُونَ إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف فَبَقيَ مِنْهُم ألف وَثَمَانمِائَة فَحمل عَلَيْهِم عَليّ وَالنَّاس وزحفوا هم إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ ينادون الرواح الرواح إِلَى الْجنَّة فَاسْتَقْبَلَهُمْ الرُّمَاة وعطفت عَلَيْهِم الْخَيل من المجنبتين ونهض إِلَيْهِم الرِّجَال بِالسِّلَاحِ فهلكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كلهم فِي سَاعَة وَاحِدَة كَأَنَّمَا قيل لَهُم موتوا فماتوا وَكَانَ جملَة من قتل من أَصْحَاب عَليّ رَضِي الله عَنهُ سَبْعَة نفر فَطلب عَليّ رَضِي الله عَنهُ المخدج فِي الْقَتْلَى فَلم يُوجد فَقَامَ رَضِي الله عَنهُ وَعَلِيهِ أثر الْحزن لفقده فَانْتهى إِلَى قَتْلَى بَعضهم فَوق بعض فَقَالَ أفرجوا ففرجوا يَمِينا وَشمَالًا فاستخرجوه فَقَالَ الله أكبر وَالله مَا كذبت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإنَّهُ لناقص الْيَد مَا فِيهَا عظم طرفها مثل ثدي الْمَرْأَة عَلَيْهَا خمس شَعرَات أَو سبع رؤوسها معقفة ثمَّ قَالَ أئتوني بِهِ فَنظر إِلَى مَنْكِبه فَإِذا اللَّحْم مُجْتَمع على مَنْكِبه كثدي الْمَرْأَة عَلَيْهَا شَعرَات سود إِذا مدت اللحمة امتدت حَتَّى تحاذي بطن يَده الْأُخْرَى ثمَّ تتْرك فتعود إِلَى مَنْكِبه فَقَالَ أَصْحَاب عَليّ رَضِي لله عَنهُ قد قطع الله دابرهم آخر الدَّهْر فَقَالَ عَليّ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم لفي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء لَا تخرج خَارِجَة إِلَّا خرجت بعْدهَا مثلهَا حَتَّى تخرج خَارِجَة بَين الْفُرَات ودجلة يُقَال لَهُم الشمط فَيخرج إِلَيْهِم رجل منا أهل الْبَيْت فيقتلهم فَلَا تخرج لَهُم بعْدهَا خَارِجَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي الصَّحِيح عَن سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِذا حدثتكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا فوَاللَّه لِأَن أخر من السَّمَاء أحب إِلَيّ من أَن أكذب عَلَيْهِ وَإِذا حدثتكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم فَإِن الْحَرْب خدعة وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (سيخرج قوم فِي آخر الزَّمَان أَحْدَاث الْأَسْنَان سُفَهَاء الأحلام يَقُولُونَ من خير قَول الْبَريَّة لَا يُجَاوز إِيمَانهم حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا لمن قَتلهمْ ثمَّ إِن عليا رَضِي الله عَنهُ ندب أَصْحَابه إِلَى غَزْو الشَّام فتثاقلوا عَلَيْهِ وَلما وصلوا إِلَى الْكُوفَة تسللوا إِلَى بُيُوتهم وَتركُوا المعسكر خَالِيا وَلما رأى عَليّ ذَلِك دخل الْكُوفَة ثمَّ ندبهم ثَانِيًا فَلم ينفروا ثمَّ ثَالِثا فَلم ينشط مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل فخطبهم وَأَغْلظ فِي عتابهم وأعلمهم بِمَا لَهُ عَلَيْهِم من الطَّاعَة فِي الْحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن اسْتَأْثر بِهِ ربه وأراحه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 شغبهم وَقَبضه إِلَيْهِ وَنَقله إِلَى كرامته وجنته سَابق مضمار الْإِيمَان وَالْهجْرَة والنصرة والنجدة والصهر والقربى والقناعة وَالْجهَاد وَالْعلم والزهد رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ من خبر وَفَاته أَن ثَلَاثَة من الْخَوَارِج مِمَّن نجا من وقْعَة النهروان وهم عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي وَعَمْرو بن بكر التَّمِيمِي السَّعْدِيّ وَالْحجاج بن عبد الله التَّمِيمِي الصريمي ويلقب بالبرك اجْتَمعُوا بِمَكَّة فَذكرُوا إخْوَانهمْ الَّذين قتلوا بالنهروان وَقَالُوا مَا نصْنَع بِالْبَقَاءِ بعدهمْ فَلَو شرينا أَنْفُسنَا وقتلنا أَئِمَّة الضلال وَأَرِحْنَا مِنْهُم النَّاس فَقَالَ ابْن ملجم وَكَانَ من مصر أَنا أكفيكم عليا وَقَالَ البرك أَنا أكفيكم مُعَاوِيَة وَقَالَ عَمْرو بن بكر أَنا أكفيكم عَمْرو بن الْعَاصِ وتعاهدوا أَن لَا يرجع أحد مِنْهُم عَن صَاحبه حَتَّى يقْتله أَو يَمُوت دونه وتواعدوا سبع عشرَة لَيْلَة تمْضِي من رَمَضَان من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَرْبَعِينَ وَانْطَلَقُوا فلقي ابْن ملجم أَصْحَابه بِالْكُوفَةِ فطوى خَبره عَنْهُم إِلَّا أَنه جَاءَ إِلَى شبيب بن شَجَرَة الْأَشْجَعِيّ وَدعَاهُ إِلَى الْمُوَافقَة على شَأْنه فَقَالَ شبيب ثكلتك أمك فَكيف تقدر على قَتله فَقَالَ أكمن لَهُ فِي الْمَسْجِد عِنْد صَلَاة الْغَدَاة فَإِن قَتَلْنَاهُ وَإِلَّا فَهِيَ الشَّهَادَة قَالَ وَيحك لَا أجدني أنشرح لقَتله مَعَ سابقته وفضله قَالَ ألم يقتل الْعباد الصَّالِحين أَصْحَاب النهروان قَالَ بلَى قَالَ فنقتله بِمن قَتله مِنْهُم فَأَجَابَهُ ثمَّ لَقِي امْرَأَة من تيم الربَاب فائقة الْجمال اسْمهَا قطام قتل أَبوهَا وأخوها يَوْم النهروان فَخَطَبَهَا ابْن ملجم فشرطت عَلَيْهِ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وعبدا وقنية وَأَن يقتل عليا وَقَالَت فَإِن قتلته شفيت النُّفُوس وَإِلَّا فَهِيَ الشَّهَادَة قَالَ وَالله مَا جِئْت إِلَّا لذَلِك وَلَك مَا سَأَلت وَفِي ذَلِك قيل (ثَلَاثَة آلَاف وَعبد وقنية ... وَضرب عَليّ بالحسام المسمم) (فَلَا مهر أغْلى من عَليّ وَإِن غلا ... وَلَا فتك إِلَّا دون ابْن ملجم) ثمَّ قَالَت سأبعث مَعَك من يشد ظهرك ويساعدك وَبعثت مَعَه رجلا من قَومهَا اسْمه وردان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وَاعد ابْن ملجم أَصْحَابه فِيهَا وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة جَاءَ إِلَى الْمَسْجِد وَمَعَهُ شبيب ووردان وجلسوا قبالة السدة الَّتِي يخرج مِنْهَا عَليّ للصَّلَاة فَلَمَّا خرج ونادى للصَّلَاة علاهُ شبيب بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي عضادة الْبَاب وضربه ابْن ملجم على مقدم رَأسه وَقَالَ الحكم لله يَا عَليّ لَا لَك وَلَا لأصحابك وهرب وردان إِلَى منزله وهرب شبيب مغلسا وَنَجَا فِي غمار النَّاس وَقبض على ابْن ملجم فجيء بِهِ مكتوفا إِلَى عَليّ وَقد حمل إِلَى بَيته فَقَالَ أَي عَدو الله مَا حملك على هَذَا ثمَّ قَالَ إِن هَلَكت فَاقْتُلُوهُ كَمَا قتلني وَإِن بقيت رَأَيْت فِيهِ رَأْيِي يَا بني عبد الْمطلب لَا تحرضوا على دِمَاء الْمُسلمين وَتَقولُوا قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تقتلُوا إِلَّا قاتلي يَا حسن إِن أَنا مت من ضربتي هَذِه فَاضْرِبْهُ بِسَيْفِهِ وَلَا تمثلن بِالرجلِ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إيَّاكُمْ الْمثلَة) وَقَالَ لَهُ جُنْدُب بن عبد الله أنبايع الْحسن إِن فقدناك فَقَالَ مَا آمركُم بِهِ وَلَا أنهاكم عَنهُ أَنْتُم أبْصر وَلما حَضرته الْوَفَاة كتب وَصيته الْعَامَّة ثمَّ لم ينْطق إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا الله حَتَّى قبض رَضِي الله عَنهُ وَلما قبض أخرج عبد الرَّحْمَن بن ملجم من السجْن فَقطع عبد الله بن جَعْفَر يَده ثمَّ رجله ثمَّ لِسَانه وكحلت عَيناهُ بمسمار محمى وأحرق لَعنه الله وَأما البرك فَوَثَبَ على مُعَاوِيَة تِلْكَ اللَّيْلَة وضربه بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي إليته وَأخذ البرك فَقَالَ لمعاوية عِنْدِي بشرى أتنفعني إِن أَنا أَخْبَرتك بهَا قَالَ نعم قَالَ إِن أَخا لي قتل عليا هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ مُعَاوِيَة لَعَلَّه لم يقدر عَلَيْهِ فَقَالَ بلَى إِن عليا لَيْسَ مَعَه من يحرصه فَقتله مُعَاوِيَة وَقيل قطع يَده وَرجله وَأقَام إِلَى أَيَّام زِيَاد فَقتله بِالْبَصْرَةِ وَأما عَمْرو بن بكر التَّمِيمِي فَإِنَّهُ جلس تِلْكَ اللَّيْلَة لعَمْرو بن الْعَاصِ فَلم يخرج عَمْرو إِلَى الصَّلَاة لمَرض أَصَابَهُ واستناب خَارِجَة بن حذافة الْعَدوي فِي الصَّلَاة فَشد عَلَيْهِ عَمْرو بن بكر وَهُوَ يظنّ أَنه عَمْرو بن الْعَاصِ فَقتله فَلَمَّا أَخَذُوهُ وأدخلوه على عَمْرو قَالَ فَمن قتلت إِذا قَالُوا قتلت خَارِجَة بن حذافة فَقَالَ أردْت عمرا وَأَرَادَ الله خَارِجَة فأرسلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مثلا وَأمر بِهِ عَمْرو فَقتل وَيرْحَم الله ابْن عبدون إِذْ يَقُول (وليتها إِذْ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بِمَا شَاءَت من الْبشر) وَكَانَت وَفَاة عَليّ رَضِي الله عَنهُ صَبِيحَة الْجُمُعَة لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ كَمَا ذكرنَا وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته خمس سِنِين إِلَّا ثَلَاثَة أشهر وَاخْتلف فِي مَوضِع قَبره فَقيل دفن مِمَّا يَلِي قبْلَة الْمَسْجِد بِالْكُوفَةِ وَقيل عِنْد قصر الْإِمَارَة بهَا وَقيل نَقله ابْنه الْحسن إِلَى الْمَدِينَة وَدَفنه بِالبَقِيعِ عِنْد زوجه فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ أَبُو الْفِدَاء وَالأَصَح وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره إِن قَبره هُوَ الْمَشْهُور بالنجف وَهُوَ الَّذِي يزار الْيَوْم وفضائل عَليّ رَضِي الله عَنهُ ومناقبه فِي الْعدْل وَحسن السِّيرَة أجل من أَن يحاط بهَا من ذَلِك مشاهده الْمَشْهُورَة بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومؤاخاته لَهُ وَسبق إِسْلَامه وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ) وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر (لَأَبْعَثَن الرَّايَة غَدا مَعَ رجل يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله) وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ (أما ترْضى ان تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أقضاكم عَليّ) وَالْقَضَاء يَسْتَدْعِي معرفَة أَبْوَاب الْفِقْه كلهَا بِخِلَاف قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (أفرضكم زيد وأقرأكم أبي) وَلم يضع رَضِي الله عَنهُ لبنة على لبنة حَتَّى لَقِي الله وَكَانَ يقسم مَا فِي بَيت المَال كل جُمُعَة حَتَّى لَا يتْرك فِيهِ شَيْئا وَدخل مرّة بَيت المَال فَوجدَ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَقَالَ يَا صفراء اصفري وَيَا بَيْضَاء ابيضي وغري غَيْرِي لَا حَاجَة لي فِيك وَرُوِيَ ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب بِسَنَدِهِ إِلَى مجمع التَّمِيمِي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قسم مَا فِي بَيت المَال بَين الْمُسلمين ثمَّ أَمر بِهِ فكنس ثمَّ صلى فِيهِ رَجَاء أَن يشْهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه قَالَ قدم على عَليّ مَال من أَصْبَهَان فَقَسمهُ سَبْعَة اسباع وَوجد فِيهِ رغيفا فَقَسمهُ سبع كسر وَجعل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 كل جُزْء كسرة ثمَّ أَقرع بَينهم أَيهمْ يُعْطي أَولا قَالَ ابْن عبد الْبر وأخباره رَضِي الله عَنهُ فِي مل هَذَا من سيرته لَا يحيى ط بهَا كتاب وَيرْحَم الله من قَالَ (أحسن من عود وَمن ضَارب ... وَمن فتاة ناهد كاعب) (وَمن مدام فِي قواريرها ... يسْعَى بهَا سَاق إِلَى شَارِب) (وَمن جِيَاد الْخَيل فِي مهمه ... وضارب يَسْطُو على ضَارب) (أحسن من ذَاك وَهَذَا وَذَا ... حب عَليّ بن أبي طَالب) (لَو فتشوا قلبِي لألفوا بِهِ ... سطرين قد خطا بِلَا كَاتب) (الْعلم والتوحيد فِي جَانب ... وَحب آل الْبَيْت فِي جَانب) (إِن كنت فِيمَا قلته كَاذِبًا ... فلعنه الله على الْكَاذِب) وَلما توفّي عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَايع النَّاس ابْنه الْحسن رَضِي الله عَنهُ وَأول من بَايعه قيس بن سعد بن عبَادَة قَالَ لَهُ ابْسُطْ يدك على كتاب الله وَسنة رَسُوله وقتال الْمُلْحِدِينَ فَقَالَ الْحسن على كتاب الله وَسنة رَسُوله ويأتيان على كل شَرط ثمَّ بعد ذَلِك نزل لمعاوية عَن الْأَمر فِي خبر طَوِيل نذْكر مِنْهُ مَا فِي الصَّحِيح فَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله قَالَ اسْتقْبل وَالله الْحسن بن عَليّ مُعَاوِيَة بكتائب أَمْثَال الْجبَال فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِنِّي لأرى كتائب لَا تولي حَتَّى تقتل أقرانها فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة وَكَانَ وَالله خير الرجلَيْن أَي عَمْرو إِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء هَؤُلَاءِ فَمن لي بِأُمُور النَّاس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم فَبعث إِلَيْهِ رجلَيْنِ من قُرَيْش من بني عبد شمس عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَعبد الله بن عَامر بن كريز فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرجل فاعرضا عَلَيْهِ وقولا لَهُ واطلبا إِلَيْهِ فَأتيَاهُ فدخلا عَلَيْهِ فتكلما وَقَالا لَهُ وطلبا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهما الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّا بني عبد الْمطلب قد أصبْنَا من هَذَا المَال وَإِن هَذِه الْأمة قد عاثت فِي دمائها قَالَا فَإِنَّهُ يعرض عَلَيْك كَذَا وَكَذَا وَيطْلب إِلَيْك ويسألك قَالَ فَمن لي بِهَذَا قَالَا نَحن لَك بِهِ فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئا إِلَّا قَالَا نَحن لَك بِهِ فَصَالحه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله وَلَقَد سَمِعت أَبَا بكرَة يَقُول رَأَيْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى جنبه وَهُوَ يقبل على النَّاس مرّة وَعَلِيهِ أُخْرَى وَيَقُول (إِن ابْني هَذَا سيد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين) وَهَا هُنَا فَائِدَتَانِ الأولى هَذِه الحروب الَّتِي وَقعت بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم محملها الإجتهاد كَمَا قدمنَا والذب عَن الدّين وَكَانَ النَّاس من السذاجة فِي الدّين والتمسك بِهِ على مَا عهد مِنْهُم فَكَانُوا إِذا رَأَوْا مَا يَظُنُّونَهُ مُنْكرا غيروه وَلَو بِإِتْلَاف مهجهم إِلَّا أَنهم كَانَ مِنْهُم الْمُجْتَهد الْمُصِيب وَهُوَ ذُو الأجرين كَمَا فِي الحَدِيث وَمِنْهُم الْمُجْتَهد المخطىء وَهُوَ ذُو الْأجر الْوَاحِد كَمَا فِي الحَدِيث أَيْضا وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ مصيبا فِي جَمِيع أمره من أَوله إِلَى آخِره فعلى الْعَاقِل المحتاط لدينِهِ أَن يظنّ بصحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظَّن الْجَمِيل وَيعْمل بوصيته فيهم إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (الله الله فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غَرضا بعدِي فَمن أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم) الحَدِيث وإياي وإياه أَن يجرح من زكاهم الله تَعَالَى بقوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه} وزكاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمرتهم وأمتنا على سنتهمْ وطريقتهم يَا أكْرم الأكرمين وَيَا أرْحم الرَّاحِمِينَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم الْفَائِدَة الثَّانِيَة أطبق السّلف على أَن تَرْتِيب الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْفضل على حسب ترتيبهم فِي الْخلَافَة وَذهب بعض السّلف إِلَى تَقْدِيم عَليّ على عُثْمَان وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ سُفْيَان الثَّوْريّ لَكِن قيل إِنَّه رَجَعَ عَنهُ وَقَالَت الشِّيعَة وَكثير من الْمُعْتَزلَة الْأَفْضَل بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَالْحق هُوَ القَوْل الأول وَهل التَّفْضِيل بَين الْخُلَفَاء قَطْعِيّ أَو ظَنِّي فَالَّذِي مَال إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيّ هُوَ الأول وَالَّذِي مَال إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني وَاخْتَارَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَاد هُوَ الثَّانِي وَعبارَته لم يقم عندنَا دَلِيل قَاطع على تَفْضِيل بعض الْأَئِمَّة على بعض إِذْ الْعقل لَا يدل على ذَلِك وَالْأَخْبَار الورادة فِي فضائلهم متعارضة وَلَكِن الْغَالِب على الظَّن أَن أَبَا بكر أفضل الْخَلَائق بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عمر أفضلهم بعده وتتعارض الظنون فِي عُثْمَان وَعلي وَهَا هُنَا انْتهى بِنَا القَوْل فِيمَا قصدناه من التَّبَرُّك بِذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر خلفائه الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم ولنرجع إِلَى مَا نَحن بصدده من ذكر أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى مقدمين القَوْل أَولا فِي نسب البربر وَبَيَان حَالهم قبل الْإِسْلَام وَبعده على الْجُمْلَة لنتخلص بعده للمقصود وَالله تَعَالَى يعصمنا من الزلل بمنه وَكَرمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 القَوْل فِي نسب البربر وَبَيَان أصلهم أعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي تَحْقِيق نسب البربر وَإِلَى أَي اصل من أصُول الخليقة يرجعُونَ فَذكر صَاحب كتاب الجمان فِي أَخْبَار الزَّمَان وَنَقله عَن أهل الْعلم بالسير أَن بني حام تنازعوا مَعَ بني سَام فَانْهَزَمَ بَنو حام أمامهم إِلَى الْمغرب وتناسلوا بِهِ واتصلت شعوبهم من أَرض مصر إِلَى آخر الْمغرب إِلَى تخوم السودَان وَكَانَ بسواحل الْمغرب الأفارقة والإفرنج فَكَانَت ذُرِّيَّة حام فِي المداشر والخيام والأعاجم الأول فِي الْبلدَانِ وَبَقِي أَكثر أَوْلَاد حام فِي بِلَاد فلسطين من أَرض الشَّام إِلَى زمن دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ ملكهم يُسمى جالوت فَلَمَّا قتل دَاوُد جالوت وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء أَمر بإجلائهم من بِلَاد كنعان وفلسطين إِلَى أَرض الْمغرب فَسَارُوا نَحْو إفريقية والزاب وانتشروا هُنَالك حَتَّى ضَاقَتْ بهم تِلْكَ الْبِلَاد وامتلأت مِنْهُم الْجبَال والكهوف والرمال وصاروا يتبعُون مواقع الْقطر بِالْإِبِلِ وبيوت الشّعْر وَلم تقدر الفرنج على ردهم ودفاعهم فانحازت الْأَعَاجِم للمدن وَبَقِي البربر فِيمَا عدى المدن وهم مَعَ ذَلِك على أَدْيَان مُخْتَلفَة يدين كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا شَاءَ من الْأَدْيَان الْفَاسِدَة فَمنهمْ من تمجس وَمِنْهُم من تهود وَمِنْهُم من تنصر واستمروا على ذَلِك إِلَى زمَان الْإِسْلَام وَكَانَ فيهم رُؤَسَاء وملوك وكهان وَلَهُم حروب وملاحم عِظَام مَعَ من قارعهم من الْأُمَم وَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيره إِن البربر أخلاط من كنعان والعماليق وَغَيرهم فَلَمَّا قتل دَاوُد جالوت تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وَقَالَ الْكَلْبِيّ اخْتلف النَّاس فِيمَن أخرج البربر من الشَّام فَقيل دَاوُد بِالْوَحْي قيل يَا دَاوُد أخرج البربر من الشَّام فَإِنَّهُم جذام الأَرْض وَقيل يُوشَع بن نون عَلَيْهِ السَّلَام وَقيل إفريقش الْحِمْيَرِي وَاخْتلف فِي إفريقش هَذَا فَقَالَ المَسْعُودِيّ هُوَ إفريقش بن أَبْرَهَة ذِي الْمنَار أحد التبابعة الْمَشْهُورين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَقَالَ ابْن حزم هُوَ إفريقش بن قيس بن صَيْفِي أَخُو الْحَارِث الرائش مِنْهُم وَهُوَ الَّذِي ذهب بقبائل الْعَرَب إِلَى إفريقية وَبِه سميت وسَاق البربر إِلَيْهَا من أَرض كنعان مر بهَا عِنْدَمَا غلبهم يُوشَع بن نون وقتلهم فَاحْتمل الفل مِنْهُم وساقهم إِلَى إفريقية فأنزلهم بهَا وَقتل ملكهَا جرجير وَيُقَال إِنَّه الَّذِي سمى البربر بِهَذَا الإسم لِأَنَّهُ لما فتح الْمغرب وَسمع رطانتهم قَالَ مَا أَكثر بربرتهم فسموا البربر والبربرة فِي لُغَة الْعَرَب اخْتِلَاط أصوات غير مَفْهُومه وَمِنْه بربرة الْأسد وينسبون إِلَيْهِ فِي ذَلِك شعرًا وَهُوَ قَوْله (بربرت كنعان لما سقتها ... من بِلَاد الضنك للخصب العجيب) (اي أَرض سكنوها وَلَقَد ... فازت البربر بالعيش الخصيب) وَلما قفل إفريقش من غَزْو الْمغرب ترك هُنَالك حامية من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهما بهَا إِلَى الْآن وَلَيْسوا نم نسب البربر قَالَه الطَّبَرِيّ والجرجاني والمسعودي وَابْن الْكَلْبِيّ والسهيلي وَجَمِيع النسابين من الْعَرَب وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب التَّمْهِيد لَهُ اخْتلف النَّاس فِي نسب البربر اخْتِلَافا كثيرا وأنسب مَا قيل فيهم أَنهم من ولد قبط بن حام وَأَنه لما نزل مصر خرج بنوه يُرِيدُونَ الْمغرب فسكنوا من آخر عمالة مصر وَذَلِكَ فِيمَا وَرَاء برقة إِلَى الْبَحْر الْأَخْضَر مَعَ بَحر الأندلس إِلَى مُنْقَطع الرمل متصلين السودَان وَقيل إِن البربر صنفان البرانس والبتر وَأَن البتر مِنْهُم من ولد بر بن قيس بن عيلان بن مُضر وَاخْتلفُوا فِي تَوْجِيه ذَلِك فَقَالَ الطَّبَرِيّ خرج بر بن قيس بن عيلان ينشد ضَالَّة لَهُ بأحياء البربر فَرَأى جَارِيَة مِنْهُم فَخَطَبَهَا من أَبِيهَا وَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ وَقَالَ فِي كتاب الجمان وَأما تسميتهم بالبربر فَإِنَّهُ لما صَار ملك مُضر لقيس بن عيلان كَانَ لَهُ ولد اسْمه بر فَخرج مغاضبا لِأَبِيهِ وَإِخْوَته إِلَى جِهَة الْمغرب فَقَالَ النَّاس بربر أَي توحش فِي البراري فسموا بربرا وَنقل ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أبي زرع وَابْن خلدون عَن النسابين من البربر وَحَكَاهُ أَيْضا الْبكْرِيّ وَغَيره أَنه كَانَ لمضر بن نزار ولدان إلْيَاس وعيلان أمهما الربَاب بنت حيدة بن عَمْرو بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مُضر وَلدين وهما قيس ودهمان ابْنا عيلان أما دهمان فولده قَلِيل وهم أهل بَيت من قيس يُقَال لَهُم بَنو أُمَامَة وَأما قيس بن عيلان فولد أَرْبَعَة بَنِينَ وَجَارِيَة وهم سعد وَعَمْرو وخصفة أمّهم مزنة بنت أَسد بن ربيعَة بن نزار ثمَّ بر وَأُخْته تماضر أمهما تمريغ بنت يجدول بن غمار بن مصمود الْبَرْبَرِي اليجدولي وَكَانَت قبائل البربر إِذْ ذَاك يسكنون الشَّام ويجاورون الْعَرَب فِي المساكن والأسواق والمساعي ويشاركونهم فِي الْمِيَاه والمسارح والمراعي ويصاهر بَعضهم بَعْضًا وَكَانَت الْبَهَاء بنت دهمان بن عيلان بن مُضر من أجمل نسَاء زمانها وأكملهن ظرفا وأدبا فَكثر خطابها من سَائِر قبائل الْعَرَب فَقَالَ بَنو عَمها وهم عَمْرو وَسعد وخصفة وبر لَا يتَزَوَّج ابْنة عمنَا إِلَّا أَحَدنَا وَلَا تخرج منا إِلَى غَيرنَا فخيروها فِيمَن شَاءَت مِنْهُم فَاخْتَارَتْ برا وَكَانَ أَصْغَرهم سنا وأكملهم شبَابًا فَتَزَوجهَا دون اخوته فحسدوه عَلَيْهَا وهموا بقتْله من أجلهَا وَكَانَت أمه تمريغ من دهاة النِّسَاء فَبعثت إِلَى أَبِيهَا دهمان وأعلمته الْخَبَر وواطأته على الْخُرُوج بِوَلَدِهَا إِلَى أَرض قَومهَا من البربر حَيْثُ تأمن عَلَيْهِ ثمَّ بعثت إِلَى قَومهَا فأتوها سرا فارتحلت مَعَهم هِيَ وَوَلدهَا بر وكنتها الْبَهَاء بنت دهمان فَلَحقُوا بِبِلَاد البربر وهم يَوْمئِذٍ مستوطنون فلسطين وأكناف الشَّام فَنزل بر على أَخْوَاله واعتز بهم وَبنى بابنة عَمه الْبَهَاء فَولدت لَهُ هُنَاكَ وَلدين علوان ومادغيس ابْني بر بن قيس بن عيلان فَأَما علوان فَمَاتَ صَغِيرا وَلم يعقب وَأما مادغيس فَكَانَ يلقب الأبتر وَهُوَ أَبُو البتر من البربر وَإِلَيْهِ يرفعون أنسابهم وَمن وَلَده جَمِيع زناته كَمَا سَيَأْتِي ويزعمون أَن تماضر أُخْت بر بكته بعد فرقته بِشعر تَقول فِيهِ (لتبك كل باكية أخاها ... كَمَا أبْكِي على بر بن قيس) (تحمل عَن عشيرته فأضحى ... وَدون لِقَائِه انضاء عنس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَمِمَّا ينْسب إِلَيْهَا أَيْضا قَوْلهَا (وشطت ببر دَاره عَن بِلَادنَا ... وطوح بر نَفسه حَيْثُ يمما) (وأزرت ببر لكنة أَعْجَمِيَّة ... وَمَا كَانَ بر فِي الْحجاز بأعجما) (كأنا وَبرا لم نقف بجيادنا ... بِنَجْد وَلم نقسم نهابا ومغنما) وَأنْشد عُلَمَاء البربر لعبيدة بن قيس الْعقيلِيّ (أَلا أَيهَا السَّاعِي لفرقة بَيْننَا ... توقف هداك الله سبل الأطايب) (فأقسم أَنا والبرابر إخْوَة ... تناولنا جد كريم الْمُنَاسب) (أَبونَا أبوهم قيس عيلان فِي الذرى ... لَهُ حومة تشفي غليل الْمُحَارب) (وبر بن قيس عصبَة مضرية ... وَفِي الْفَرْع من أحسابها والذوائب) (فَنحْن وهم ركن منيع وإخوة ... على رغم أَعدَاء لئام المناقب) فِي أَبْيَات غير هَذِه وينشد أَيْضا ليزِيد بن خَالِد يمدح البربر قَوْله (أَيهَا السَّائِل عَنَّا أصلنَا ... قيس عيلان بَنو الغر الأول) (نَحن مَا نَحن بَنو بر الندى ... طارد الأزمة نحار الْإِبِل) (قد بنى الْمجد فأورى زنده ... وكفانا كل خطب ذِي جلل) (إِن قيسا يعتزي بر لَهُ ... ولبر يعتزي قيس الْأَجَل) (فلنا الْفَخر بقيس إِنَّه ... جدنا الْأَكْبَر فكاك الكبل) (إِن قيسا قيس عيلان هم ... مَعْدن الْخَيْر على الْخَيْر دلل) (حسبي البربر قومِي إِنَّهُم ... ملكوا الأَرْض بأطراف الأسل) فِي أَبْيَات أخر وَاعْلَم أَن الْخلاف فِي نسب البربر طَوِيل وَقد تركنَا جله اختصارا وأشبه هَذِه الْأَقْوَال بِالصِّحَّةِ مَا نَقَلْنَاهُ أَولا مِمَّا يدل على أَن جيل البربر من ولد حام وَأَنَّهُمْ جيل قديم قد سكنوا الْمغرب عِنْدَمَا تناسلت ذُرِّيَّة نوح عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 السَّلَام وانتشرت الخليقة على وَجه الأَرْض ثمَّ تلاحقت بهم بَقِيَّة بني كنعان من الشَّام عِنْدَمَا أجلاهم يُوشَع بن نون عَلَيْهِ السَّلَام أَولا ثمَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثَانِيًا قَالَ ابْن خلدون بعد تزييف القَوْل بِأَن البربر من ولد جالوت بالخصوص أَو من الْعَرَب مَا نَصه وَالْحق الَّذِي لَا يَنْبَغِي التعويل على غَيره فِي شَأْنهمْ أَنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن اسْم أَبِيهِم مازيغ اه وَمِمَّا يستملح من النَّوَادِر المقولة فِي نسب البربر قَول خلف بن فرج السميسير من شعراء الأندلس يهجو البربر (رَأَيْت آدم فِي نومي فَقلت لَهُ ... أَبَا الْبَريَّة إِن النَّاس قد حكمُوا) (إِن البرابر نسل مِنْك قَالَ إِذا ... حَوَّاء طَالِق إِن كَانَ الَّذِي زَعَمُوا) وَهَذَا من ملح الشُّعَرَاء وشيطنتهم وَإِلَّا فالبربر جيل مَعْرُوف من أعظم الأجيال وأعزها وَلَهُم الْفَخر الَّذِي لَا يجهل وَالذكر الَّذِي لَا يهمل وَقد تعدّدت فيهم الدول وَكَثُرت فيهم الْمُلُوك الْعِظَام وَكَانَ لَهُم الْقدَم الراسخ فِي الْإِسْلَام وَالْيَد الْبَيْضَاء فِي الْجِهَاد وَمِنْهُم الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء والأولياء وَالشعرَاء وَأهل المزايا والفضائل وستقف على كثير من ذَلِك عَن قريب إِن شَاءَ الله القَوْل فِي تَقْسِيم شعوب البربر على الْجُمْلَة اعْلَم أَن أمة البربر أمة عَظِيمَة قد مَلَأت مَا بَين برقة وَالْبَحْر الْمُحِيط شرقا وغربا وَمَا بَين بِلَاد السودَان وَالْبَحْر الرُّومِي جنوبا وَشمَالًا وَمَعَ عظمها فيجمعها شعْبَان عظيمان بِحَيْثُ لَا يخرج بربري عَنْهُمَا قَالَ ابْن خلدون عُلَمَاء النّسَب متفقون على أَن البربر يجمعهُمْ جدان عظيمان وهما برنس ومادغيس ويلقب مادغيس بالأبتر فَلذَلِك يُقَال لشعوبه البتر وَيُقَال لشعوب برنس البرانس وَبَين النسابين خلاف هَل هما لأَب وَاحِد أم لَا فَعِنْدَ ابْن حزم أَنَّهُمَا لأَب وَاحِد والجميع من نسل كنعان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 حام وَقَالَ سَابق بن سُلَيْمَان المطماطي وَغَيره من نساب البربر إِن البرانس فَقَط من نسل كنعان وَأما البتر فهم بَنو بر بن قيس بن عيلان بن مُضر وَهَذَا القَوْل قد تقدم مَا فِيهِ فَالْحق أَن الشعبين مَعًا عريقان فِي البربرية وَأَن الْجَمِيع من ولد مزيغ ومازيغ هُوَ من ولد كنعان بن حام كَمَا مر فَأَما البرانس فتنقسم إِلَى سبع قبائل أوربة وصنهاجة وكامة ومصمودة وعجيسه وأوريغة وأرداجة وَيُقَال ورداجة بِالْوَاو بدل الْهمزَة وَزَاد سَابق المطماطي وَغَيره ثَلَاث قبائل أخر وهم لمطة وهسكورة وجزولة فَتكون عشرا فَأَما أوربة فَكَانَ مِنْهُم كسيلة بن أغز الأوربي قَاتل عقبَة بن نَافِع رَضِي الله عَنهُ زمَان الْفَتْح وَمِنْهُم إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد الأوربي الْقَائِم بدعوة إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ وَأما صنهاجة فهم أكبر قبائل البربر حَتَّى زعم كثير من النَّاس أَنهم مِقْدَار الثُّلُث مِنْهُم وَكَانَ مِنْهُم بَنو زيرى بن مُنَاد مُلُوك إفريقية والملثمون مُلُوك مراكش والأندلس وَأما كتامة فهم القائمون بدعوة العبيديين بإفريقية ومصر وَأما المصامدة فَمنهمْ غمارة وَكَانَ مِنْهُم يليان النَّصْرَانِي صَاحب سبتة وطنجة أَيَّام دُخُول عقبَة بن نَافِع للمغرب الْأَقْصَى وهم القائمون أَيْضا بدعوة بني إِدْرِيس فِي دولتهم الثَّانِيَة بعد بني أبي الْعَافِيَة وَمن المصامدة أَيْضا برغواطة أهل تامسنا وَمَا اتَّصل بهَا وَمِنْهُم أهل جبل درن القائمون بدعوة مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين وَأما بَاقِي قبائل البرانس فَلم يكن لَهُم ملك يذكر وَقد تقدم لنا أَن النسابين من الْعَرَب يَقُولُونَ إِن صنهاجة وكتامة من حمير وَأَن إفريقش الْحِمْيَرِي تَركهم حامية بإفريقية فتناسلوا بهَا واستحال لسانهم إِلَى البربرية لَكِن الْمُحَقِّقُونَ من نساب البربر كسابق المطماطي وَغَيره يُنكرُونَ ذَلِك ويجزمون بِأَنَّهُمَا قبيلتان عريقتان فِي البربر وَأما البتر وهم بَنو مادغيس الأبتر فينقسم شِعْبهمْ إِلَى أَربع قبائل وهم ضريسة ونفوسة وأداسة وَبَنُو لوي وهم لواتة فَأَما ضريسة فَمنهمْ مكناسة وَمن مكناسة بَنو مدرار مُلُوك سجلماسة وَبَنُو أبي الْعَافِيَة مُلُوك فاس وَمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ضريسة أَيْضا زناتة كلهَا ومبن زناتة جرواة قوم الكاهنة داهيا صَاحِبَة جبل أوراس الَّتِي أوقعت بِحسان بن النُّعْمَان عَامل الْخَلِيفَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَمن زناتة أَيْضا بَنو خزر المغراويون مُلُوك تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَمِنْهُم مغرواة مُلُوك فاس وَبَنُو يفرن مُلُوك سلا وتادلا وَمِنْهُم بَنو زيان مُلُوك تلمسان وَبَنُو مرين مُلُوك فاس أَيْضا فَهَؤُلَاءِ كلهم من زناتة وزناتة هُوَ زانا بن يحيى بن ضرى بن زجيك بن مادغيس الأبتر وَأما نفوسة وأداسة ولواتة فَلم يكن لَهُم ملك يذكر وَأعلم أَن كل قَبيلَة من هَذِه الْقَبَائِل الْأَرْبَع عشرَة تشْتَمل على عمائر وبطون وأفخاذ وفصائل لَا حصر لَهَا وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْخَبَر عَن حَال البربر قبل الْإِسْلَام وَذكر بعض أَمْصَار الْمغرب الْقَدِيمَة وَمَا قيل فِي ذَلِك قد تقدم لنا أَن البربر أمة قديمَة سكنوا أَرض الْمغرب فِي قديم الزَّمَان وَأَنَّهُمْ لما عمروا بِلَاده وملؤوا أكنافه انْحَازَتْ الفرنج عَنْهُم إِلَى السواحل والثغور وَبَقِي البربر فِيمَا سوى ذَلِك من الضواحي وَالْجِبَال والكهوف وهم مَعَ ذَلِك على أَدْيَان مُخْتَلفَة يدين كل وَاحِد مِنْهُم بِمَا شَاءَ من الْأَدْيَان الْفَاسِدَة إِلَى آخر مَا مر فَهَذَا كَانَ حَالهم على الْجُمْلَة وَقَالَ ابْن خلدون لم تزل بِلَاد الْمغرب إِلَى طرابلس بل وَإِلَى الْإسْكَنْدَريَّة عامرة بِهَذَا الجيل مَا بَين الْبَحْر الرُّومِي وبلاد السودَان مُنْذُ أزمنة لَا يعرف أَولهَا وَلَا مَا قبلهَا وَكَانَ دينهم دين الْمَجُوسِيَّة شَأْن الْأَعَاجِم كلهَا بالمشرق وَالْمغْرب إِلَّا فِي بعض الْأَحَايِين يدينون بدين من غلب عَلَيْهِم من الْأُمَم فَإِن الْأُمَم أهل الدول الْعَظِيمَة كَانُوا يتغلبون عَلَيْهِم فقد غزتهم مُلُوك الْيمن من قراهم مرَارًا على مَا ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم ذكر ابْن الْكَلْبِيّ أَن حميرا أَبَا الْقَبَائِل اليمانية ملك الْمغرب مائَة سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وانه الَّذِي ابتنى مدائنه مثل إفريقية وصقلية وَاتفقَ المؤرخون من الْعَرَب على غَزْو إفريقش الْحِمْيَرِي من التبابعة أَرض الْمغرب اه وَمَا نَقله عَن ابْن الْكَلْبِيّ من غَزْو حمير أَرض الْمغرب قد نقل أَيْضا إِنْكَاره عَن الحافظين أبي عمر بن عبد الْبر وَأبي مُحَمَّد بن حزم وأنهما قَالَا مَا كَانَ لحمير طَرِيق إِلَى بِلَاد البربر إِلَّا فِي تكاذيب مؤرخي الْيمن ثمَّ ذكر أَن الْبَعْض من البربر كَانُوا قد دانوا بدين الْيَهُودِيَّة وأخذوه عَن بني إِسْرَائِيل عِنْد استفحال ملكهم لقرب الشَّام وسلطانه مِنْهُم كَمَا كَانَ جراوة أهل جبل أوراس قَبيلَة الكاهنة وكما كَانَت نفوسة من برابرة إفريقية وفندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة وَبَنُو فازاز من برابرة الْمغرب الْأَقْصَى حَتَّى محا إِدْرِيس الْأَكْبَر جَمِيع مَا كَانَ فِي نواحيه من بقايا الْأَدْيَان والملل وَقَالَ غير وَاحِد من المؤرخين كَانَ أهل الْمغرب الْأَقْصَى يضرون بِأَهْل الأندلس لاتصال الأَرْض بَينهم ويلقون مِنْهُم الْجهد الجهيد فِي كل وَقت إِلَى أَن أجتاز بهم الْإِسْكَنْدَر فشكوا حَالهم إِلَيْهِ فأحضر المهندسين وأتى إِلَى الزقاق يَعْنِي زقاق سبتة فَأَمرهمْ بِوَزْن سطح المَاء من الْبَحْر الْمُحِيط وَالْبَحْر الرُّومِي فوجدوا الْمُحِيط يَعْلُو الرُّومِي بِشَيْء يسير فَأمر بِرَفْع الْبِلَاد الَّتِي على سَاحل الْبَحْر الرُّومِي ونقلها من الحضيض إِلَى الْأَعْلَى ثمَّ أَمر بِحَفر مَا بَين طنجة وبلاد الأندلس من الأَرْض فحفرت حَتَّى ظَهرت الْجبَال السفلية وَبنى عَلَيْهَا رصيفا بِالْحجرِ والجيار بِنَاء محكما وَجعل طوله اثنى عشر ميلًا وَهِي الْمسَافَة الَّتِي كَانَت بَين الْبَحْرين وَبنى رصيفا آخر يُقَابله من نَاحيَة طنجة وَجعل بَين الرصيفين سَعَة سِتَّة أَمْيَال فَلَمَّا كمل الرصيفان حفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 من جِهَة الْبَحْر الْأَعْظَم وَأطلق فَم المَاء بَين الرصيفين فَدخل فِي الْبَحْر الرُّومِي ثمَّ ارْتَفع المَاء فأغرق مدنا كَثِيرَة وَأهْلك أمما عَظِيمَة كَانَت على الشطين وطما المَاء على الرصيفين بِإِحْدَى عشرَة قامة فَأَما الرصيف الَّذِي يَلِي بِلَاد الأندلس فَإِنَّهُ يظْهر فِي بعض الْأَوْقَات إِذا نقص المَاء ظهورا بَينا مُسْتَقِيمًا على خطّ وَاحِد وَأهل الجزيرة يسمونه القنظرة وَأما الرصيف الَّذِي يَلِي جِهَة العدوة فَإِن المَاء حمله فِي صَدره واحتفر مَا خَلفه من الأَرْض بِنَحْوِ اثْنَي عشر ميلًا وعَلى طرفه من جِهَة الْمغرب قصر الْمجَاز وسبتة وطنجة وعَلى طرفه من النَّاحِيَة الْأُخْرَى جبل طَارق بن زِيَاد وجزيرة طريف بن مَالك والجزيرة الخضراء وَمَا يين سبتة والخضراء هُوَ عرض الْبَحْر الْمُسَمّى بالزقاق والبوغاز أَيْضا اه وَمَا ذَكرُوهُ من أَن أَرض الْمغرب كَانَت مُتَّصِلَة بِأَرْض الأندلس نَحوه فِي تواريخ الفرنج الْقَدِيمَة غير أَنهم يسمون الْملك الَّذِي فتح الباغاز هِرقل الْجَبَّار وَعند ابْن سعيد أَنه كَانَ فِيمَا بَين قصر الْمجَاز وطريف قنطرة عَظِيمَة قد وصلت مَا بَين البرين يزْعم النَّاس أَن الْإِسْكَنْدَر بناها ليعبر عَلَيْهَا من بر الأندلس إِلَى بر العدوة وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَفِي تواريخ الفرنج الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهَا عِنْدهم أَن مُلُوك الرّوم الأولى حَاربُوا القرطاجنيين من أهل إفريقية وَالْمغْرب وغلبوهم على الْبِلَاد وهدموا فِي بعض تِلْكَ الحروب مَدِينَة قرطاجنة الشهيرة الذّكر قَالَ الشَّيْخ رِفَاعَة فِي بداية القدماء مَا نَصه قرطاجنة مَدِينَة بِأَرْض إفريقية هِيَ إِحْدَى مدن الدُّنْيَا الشهيرة وَقد هدمها الرّوم قبل مِيلَاد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بِمِائَة وست وَأَرْبَعين سنة ثمَّ أسست ثَانِيَة وخربها الْعَرَب حَتَّى إِنَّه لَا يرى الْآن شَيْء من آثارها إِلَّا بغاية الْجهد وبقرب موضعهَا مَدِينَة تونس اه وَقَالَ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان حِين تكلم على قيادة الأساطيل مَا نَصه وَقد كَانَت الرّوم والإفرنجية والقوط بالعدوة الشمالية من هَذَا الْبَحْر الرُّومِي وَكَانَ أَكثر حروبهم ومتاجرهم فِي السفن فَكَانُوا مهرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك لما كَانَت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة لبلة وَكَانَ الْمُتَوَلِي لفتحها بحيى بن يغمور وَالِي قرطبة وإشبيلية حاصرها مُدَّة ثمَّ فتحهَا عنْوَة وَقبض على أَهلهَا فَخرج بهم إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَصفهم فِي صَعِيد وَاحِد ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف أَجْمَعِينَ حَتَّى خلص الْقَتْل مِنْهُم إِلَى الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحُكَّام بن بطال والفقيه الصَّالح أبي عَامر بن الْجد وَكَانَ عدد من قتل من أهل لبلة فِي ذَلِك الصَّعِيد ثَمَانِيَة آلَاف وَقتل بأحوازها نَحْو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بِلَادهمْ ورعاياهم وَكَانَ الفرنج مجاورين للبربر فِي الْمغرب الْأَدْنَى والقوط مجاورين لَهُم فِي الْأَقْصَى لَيْسَ بَينهم وَبينهمْ إِلَّا خليج الْبَحْر فحملوا أهل السواحل مِنْهُم على الْأَخْذ بذلك الدّين فدانوا بِهِ أَيْضا وَنظر القياصرة يَوْمئِذٍ منسحب عَن الْجَمِيع وَأمرهمْ نَافِذ فِي الْكل وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك حَتَّى جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وأظهره على الدّين كُله فدانت بِهِ البربر على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله فَلهَذَا السَّبَب كَانَ كسيلة الأوربي ويليان الغماري وَغَيرهمَا من كبار البربر نَصَارَى وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ للبربر فِي الضواحي وَرَاء ملك الْأَمْصَار المرهوبة الحامية مَا شَاءَ الله من قُوَّة وعدة وَعدد وملوك ورؤساء وأقيال وأمراء لَا يرامون بذل وَلَا تنالهم الرّوم والفرنج فِي ضواحيهم تِلْكَ بمسخطة وَلَا إساءة ثمَّ قَالَ وَكَانُوا يؤدون الجباية لهرقل ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة كَمَا كَانَ الْمُقَوْقس صَاحب مصر والإسكندرية وبرقة يُؤَدِّي الجباية لَهُ وكما كَانَ صَاحب طرابلس ولبدة وصبرة وَصَاحب صقلية وَصَاحب الأندلس من القوط لما كَانَ الرّوم قد غلبوا على هَؤُلَاءِ الْأُمَم أجمع وعنهم أخذُوا دين النَّصْرَانِيَّة وَكَانَ الفرنجة هم الَّذين ولوا أَمر إفريقية وَلم تكن للروم فِيهَا ولَايَة وَإِنَّمَا كَانَ كل من كَانَ مِنْهُم بهَا جند للفرنج وَمن حشودهم وَمَا يسمع فِي كتب الْفَتْح من ذكر الرّوم فِي فتح أفريقية فَمن بَاب التغليب لِأَن الْعَرَب يَوْمئِذٍ لم يَكُونُوا يعْرفُونَ الفرنج وَمَا قَاتلُوا فِي الشَّام إِلَّا الرّوم فظنوا أَنهم هم الغالبون على أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَإِن هِرقل هُوَ ملك النَّصْرَانِيَّة كلهَا فغلبوا اسْم الرّوم على جَمِيع أُمَم النَّصْرَانِيَّة ونقلت الْأَخْبَار عَن الْعَرَب كَمَا هِيَ فجرجير الْمَقْتُول عِنْد الْفَتْح من الفرنج وَلَيْسَ من الرّوم وَكَذَا الْأمة الَّذين مَاتُوا بإفريقية غَالِبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها كَانُوا من الفرنجة اه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 القَوْل فِي تَحْدِيد الْمغرب وَذكر حَال البربر بعد الْإِسْلَام اعْلَم أَن لفظ الْمغرب يُطلق فِي عرف أَهله على نَاحيَة من الأَرْض مَعْرُوفَة بِعَينهَا حَدهَا من جِهَة مغرب الشَّمْس الْبَحْر الْمُحِيط الْمَعْرُوف بالكبير وَمن جِهَة مشرق الشَّمْس بِلَاد برقة وَمَا خلفهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة ومصر فبرقة خَارِجَة عَن بِلَاد الْمغرب بِهَذَا الِاعْتِبَار وبلاد طرابلس وَمَا دونهَا إِلَى جِهَة الْبَحْر الْمُحِيط دَاخِلَة فِيهِ وَحدهَا من جِهَة الشمَال الْبَحْر الرُّومِي المفرع عَن الْمُحِيط وَيعرف هَذَا الرُّومِي بالصغير وَمن جِهَة الْجنُوب جبال الرمل الفاصلة بَين بِلَاد السودَان وبلاد البربر وتعرف عِنْد الْعَرَب الرحالة هُنَالك بالعرق ثمَّ هَذَا الْمغرب يشْتَمل على ثَلَاث ممالك مملكة إفريقية وَهِي الْمغرب الْأَدْنَى وقاعدتها فِي صدر الْإِسْلَام مَدِينَة القيروان وَفِي هَذَا الْعَصْر مَدِينَة تونس وَسمي أدنى لِأَنَّهُ أقرب إِلَى بِلَاد الْعَرَب وَدَار الْخلَافَة بالحجاز ثمَّ بعد إفريقية مملكة الْمغرب الْأَوْسَط وقاعدتها تلمسان وجزائر بني مزغنة وَهَذِه المملكة الْيَوْم فِي يَد فرنج إفرانسة ملكوها فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأَهْلهَا مُسلمُونَ ثمَّ بعد ذَلِك مملكة الْمغرب الْأَقْصَى وَسمي الْأَقْصَى لِأَنَّهُ أبعد الممالك الثَّلَاث عَن دَار الْخلَافَة فِي صدر الْإِسْلَام وحد هَذَا الْأَقْصَى من جِهَة الْمغرب الْبَحْر الْمُحِيط وَمن جِهَة الْمشرق وَادي ملوية مَعَ جبال تازا وَمن جِهَة الشمَال الْبَحْر الرُّومِي وَمن جِهَة الْجنُوب جبل درن قَالَه ابْن خلدون وَفِي تَقْسِيم الفرنج أَن الْمغرب الْأَقْصَى يشْتَمل على خمس عمالات عمالة فاس وعمالة مراكش وعمالة السوس وعمالة درعة وعمالة تافيلالت وَدَار الْملك بِهِ تَارَة فاس وَتارَة مراكش وَهُوَ فِي الْأَغْلَب ديار المصامدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 من البربر ويساكنهم فِيهِ عوالم من صنهاجة ومضغرة وأوربة وَغَيرهم لكِنهمْ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى المصامدة ويساكنهم فِيهِ أَيْضا عَالم من الْعَرَب أهل الْخيام انتقلوا من جَزِيرَة الْعَرَب إِلَى إفريقية ثمَّ من إفريقية إِلَيْهِ أَوَاخِر الْمِائَة السَّادِسَة أَيَّام الْخَلِيفَة يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي وهم الْيَوْم قبائل عديدة يرجعُونَ فِي نسبهم إِلَى ريَاح وجشم فَأَما ريَاح فهم من بني هِلَال بن عَامر بن صعصعة وَأما جشم فهم بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَكلهمْ يَنْتَهِي نسبهم إِلَى مُضر ويضاف إِلَيْهِم قبائل أخر نحقق الْكَلَام فيهم بعد هَذَا إِن شَاءَ الله ثمَّ قد علمت أَن كلامنا بِالْقَصْدِ الأول فِي هَذَا الْكتاب إِنَّمَا هُوَ على الْمغرب الْأَقْصَى لَكنا نتكلم أَولا على أَخْبَار الْمغرب مُطلقًا وَنَذْكُر أمراءه الموجهين من قبل الْخُلَفَاء بالمشرق على التَّفْصِيل مَا دَامَ نظرهم منسحبا عَلَيْهِ وظلهم ممتدا إِلَيْهِ إِذْ كَانَ أَمر الْخلَافَة فِي صدر الْإِسْلَام متحدا وَحكمهَا مجتمعا وكلمتها نَافِذَة فِي جَمِيع ممالك الْإِسْلَام شرقا وغربا بِحَيْثُ لَا يخرج قطر من الأقطار وَلَا مصر من الْأَمْصَار فِيمَا بعد أَو دنا عَن الأَرْض عَن نظر الْخَلِيفَة الْأَعْظَم وَقد كَانَ ذَلِك دينا مُتبعا وَحكما مجمعا عَلَيْهِ وَلَا تصح لأحد إِمَارَة أَو ولَايَة إِلَّا بالإستناد إِلَيْهِ حَتَّى إِذا طَال الْعَهْد وَضعف أَمر الْخلَافَة وتقلص ظلها من القاصية تَفَرَّقت ممالك الْإِسْلَام الْبَعِيدَة عَن دارها وتوزعتها الثوار من بني هَاشم وَغَيرهم واستبد الْأُمَرَاء النازحون عَنْهَا كل بِمَا غلب عَلَيْهِ وَسَار أَمر الْوحدَة إِلَى الْكَثْرَة وَحكم الإجتماع إِلَى الْفرْقَة فَلهَذَا نتكلم الْآن على أَخْبَار الْمغرب مُطلقًا وَنَذْكُر ولاته الموجهين إِلَيْهِ من قبل الْخُلَفَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى زمن إِدْرِيس بن عبد الله المستبد بِملك الْمغرب الْأَقْصَى والمقتطع لَهُ عَمَّا عداهُ من الممالك الإسلامية فَحِينَئِذٍ نفرد الْكَلَام عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ على مَا شرطناه فَأَما الْآن فَلَا يمكننا الْكَلَام عَلَيْهِ وَحده لِأَنَّهُ وَالْحَالة هَذِه مندرج فِي غَيره من ممالك الْمغرب إِذْ الْوَالِي الموجه من قبل الْخَلِيفَة فِي صدر الْإِسْلَام كَانَ يكون واليا على إفريقية وَمَا بعْدهَا من بِلَاد الْمغرب إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وَقد تُضَاف إِلَى نظره الأندلس بل كَانَ الْوَالِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بِمصْر قد يكون نظره شَامِلًا لجَمِيع بِلَاد الْمغرب حَسْبَمَا نقف عَلَيْهِ فاعرف هَذِه الْجُمْلَة ولتكن مِنْك على بَال وَأما حَال البربر بعد الْإِسْلَام فَيعرف من أَخْبَار الْوُلَاة الَّتِي نسردها الْآن وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ولَايَة عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ وفتحه برقة وطرابلس لما كَانَت خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَفتح عَمْرو بن الْعَاصِ مصر والإسكندرية وَفرغ مِنْهَا سَار فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين من الْهِجْرَة إِلَى برقة وَكَانَت تسمى فِي الْقَدِيم إنطابلس فَصَالحه أَهلهَا على الْجِزْيَة ثمَّ سَار بعْدهَا إِلَى طرابلس فحاصرها شهرا وَكَانَت مكشوفة السُّور من جَانب الْبَحْر وسفن الرّوم فِي مرْسَاها فحسر المَاء فِي بعض الْأَيَّام وانكشف أمرهَا لبَعض الْمُسلمين المحاصرين لَهَا فاقتحموا الْبَلَد فِيمَا بَين الْبَحْر والبيوت فَلم يكن للروم ملْجأ إِلَّا سفنهم وارتفع الصياح فَأقبل عَمْرو بعساكره فَدخل الْمَدِينَة وَلم يفلت الرّوم إِلَّا بِمَا خف فِي المراكب ثمَّ عطف عَمْرو رَضِي الله عَنهُ على مَدِينَة صبرَة وَكَانُوا قد أمنُوا بمنعة طرابلس واشتغال الْمُسلمين بحصارها فصبحهم فِي جَيش الْمُسلمين واقتحمها عَلَيْهِم عنْوَة وكمل الْفَتْح وَرجع عَمْرو إِلَى برقة فَصَالحه أَهلهَا على ثَلَاثَة عشر ألف دِينَار جِزْيَة وَكَانَ أَكثر أهل برقة لواته وهم بَنو لوي الْأَكْبَر وَأكْثر أهل طرابلس وصبرة نفوسة وكلتا القبيلتين من البتر وَلما فرغ عَمْرو رَضِي الله عَنهُ من أَمر طرابلس وَمَا مَعهَا اسْتَأْذن عمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي التَّقَدُّم إِلَى إفريقية فَمَنعه وَقَالَ تِلْكَ المفرقة وَلَيْسَت بإفريقية أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فامتثل وَعَاد إِلَى مصر فَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ أول أَمِير للْمُسلمين وطِئت خيله أَرض الْمغرب لكنه لم يصل إِلَى إفريقية وَلَا كَانَ من البرابر إِسْلَام غير أَن صَاحب كتاب الجمان نقل أَنه لما كَانَت خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ واستفتحت مَدِينَة مصر وَكَانَ عَلَيْهَا عَمْرو بن الْعَاصِ قدم عَلَيْهِ سِتَّة نفر من البربر مُحَلِّقِينَ الرؤوس واللحى فَقَالَ لَهُم عَمْرو من أَنْتُم وَمَا الَّذِي جَاءَ بكم قَالُوا رغبنا فِي الْإِسْلَام فَجِئْنَا لَهُ لِأَن جدودنا قد أوصونا بذلك فوجههم عَمْرو إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ وَكتب إِلَيْهِ بخبرهم فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ وهم لَا يعْرفُونَ لِسَان الْعَرَب كَلمهمْ الترجمان على لِسَان عمر فَقَالَ لَهُم من أَنْتُم قَالُوا نَحن بَنو مازيغ فَقَالَ عمر لجلسائه هَل سَمِعْتُمْ قطّ بهؤلاء فَقَالَ شيخ من قُرَيْش يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ البربر من ذُرِّيَّة بر بن قيس بن عيلان خرج مغاضبا لِأَبِيهِ وَإِخْوَته فَقَالُوا بر بر أَي أَخذ الْبَريَّة فَقَالَ لَهُم عمر رَضِي الله عَنهُ مَا علامتكم فِي بِلَادكُمْ قَالُوا نكرم الْخَيل ونهين النِّسَاء فَقَالَ لَهُم عمر ألكم مَدَائِن قَالُوا لَا قَالَ ألكم أَعْلَام تهتدون بهَا قَالُوا لَا قَالَ عمر وَالله لقد كنت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مغازيه فَنَظَرت إِلَى قلَّة الْجَيْش وبكيت فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عمر لَا تحزن فَإِن الله سيعز هَذَا الدّين بِقوم من الْمغرب لَيْسَ لَهُم مَدَائِن وَلَا حصون وَلَا أسواق وَلَا عَلَامَات يَهْتَدُونَ بهَا فِي الطّرق) ثمَّ قَالَ عمر فَالْحَمْد لله الَّذِي من عَليّ برؤيتهم ثمَّ أكْرمهم ووصلهم وَقَدَّمَهُمْ على من سواهُم من الجيوش القادمة عَلَيْهِ وَكتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ أَن يجعلهم على مُقَدّمَة الْمُسلمين وَكَانُوا من أفخاذ شَتَّى اه وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 44 - ولَايَة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وفتحه إفريقية لما كَانَت خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ عزل عَمْرو بن الْعَاصِ عَن مصر وَولى عَلَيْهَا عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أَخَاهُ من الرضَاعَة وَأمره بغزو إفريقية سنة خمس وَعشْرين من الْهِجْرَة وَقَالَ لَهُ إِن فتح الله عَلَيْك فلك خمس الْخمس من الْغَنَائِم ثمَّ عقد عُثْمَان لعبد الله بن نَافِع بن عبد قيس على جند وَعبد الله بن نَافِع بن الْحَارِث على آخر وسرحهما فَخَرجُوا إِلَى إفريقية فِي عشرَة آلَاف وصالحهم أَهلهَا على مَال يؤدونه وَلم يقدروا على التوغل فِيهَا لِكَثْرَة أَهلهَا ثمَّ إِن عبد الله بن أبي سرح اسْتَأْذن عُثْمَان فِي ذَلِك واستمده فَاسْتَشَارَ عُثْمَان الصَّحَابَة فأشاروا بِهِ فَجهز العساكر من الْمَدِينَة وَفِيهِمْ جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَابْن جَعْفَر وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَابْن الزبير وَقيل لحقهم مدَدا وَسَارُوا مَعَ عبد الله بن سعد سنة سِتّ وَعشْرين ولقيهم عقبَة بن نَافِع فِيمَن مَعَه من الْمُسلمين ببرقة ثمَّ سَارُوا إِلَى طرابلس فنهبوا الرّوم عِنْدهَا ثمَّ تجاوزوها إِلَى إفريقية وبثوا السَّرَايَا فِي كل نَاحيَة وَكَانَ ملكهم جرجير الفرنجي يملك مَا بَين طرابلس وطنجة تَحت ولَايَة هِرقل وَيحمل إِلَيْهِ الْخراج فَلَمَّا بلغه الْخَبَر جمع مائَة وَعشْرين ألفا من العساكر ولقيهم على يَوْم وَلَيْلَة من سبيطلة دَار ملكهم وَأَقَامُوا يقتتلون وَدعوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير مدَدا بَعثه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما أَبْطَأت عَلَيْهِ أخبارهم وَسمع جرجير بوصول المدد ففت ذَلِك فِي عضده وَشهد ابْن الزبير مَعَهم الْقِتَال وَقد غَابَ ابْن أبي سرح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل لَهُ إِنَّه سمع مُنَادِي جرجير يَقُول من قتل ابْن أبي سرح فَلهُ مائَة ألف دِينَار وأزوجه ابْنَتي فخاف وَتَأَخر عَن شُهُود الْقِتَال فَقَالَ لَهُ ابْن الزبير تنادي أَنْت بِأَن من قتل جرجير نفلته مائَة ألف وَزَوجته ابْنَته واستعملته على الحديث: 44 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بِلَاده فخاف جرجير أَشد مِنْهُ ثمَّ أَشَارَ ابْن الزبير على ابْن أبي سرح أَن يتْرك جمَاعَة من أبطال الْمُسلمين الْمَشَاهِير متأهبين للحرب وَيُقَاتل الرّوم بباقي الْعَسْكَر إِلَى أَن يضجروا فيركبهم بالآخرين على غرَّة قَالَ لَعَلَّ الله ينصرنا عَلَيْهِم وَوَافَقَ على ذَلِك أَعْيَان الصَّحَابَة فَفَعَلُوا وركبوا من الْغَد إِلَى الزَّوَال وألحوا عَلَيْهِم حَتَّى أتعبوهم ثمَّ افْتَرَقُوا وأركب عبد الله الْفَرِيق الَّذين كَانُوا مستريحين فكبروا وحملوا حَملَة رجل وَاحِد حَتَّى غشوا الرّوم فِي خيامهم فَانْهَزَمُوا وَقتل كثير مِنْهُم وَقتل ابْن الزبير جرجير وحيزت ابْنَته سبية فنفلها ابْن أبي سرح ابْن الزبير ثمَّ حاصر ابْن أبي سرح سبيطلة فَفَتحهَا وخربها وَكَانَ سهم الْفَارِس فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَسَهْم الراجل ألفا وَبث جيوشه فِي الْبِلَاد إِلَى قفصة فَسبوا وغنموا وَبعث عسكرا إِلَى حصن الأجم وَقد اجْتمع بِهِ أهل الْبِلَاد فحاصره وفتحه على الْأمان ثمَّ صَالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وَخَمْسمِائة ألف دِينَار وَأرْسل ابْن الزبير بِخَبَر الْفَتْح وبالخمس إِلَى الْمَدِينَة فَاشْتَرَاهُ مَرْوَان بن الحكم بِخَمْسِمِائَة ألف دِينَار وَبَعض النَّاس يَقُول أعطَاهُ إِيَّاه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَلَا يَصح وَإِنَّمَا أعْطى ابْن أبي سرح خمس الْخمس من الْغَزْوَة الأولى وانحاز الفرنجة وَمن مَعَهم من الرّوم بعد الْهَزِيمَة وَالْفَتْح إِلَى حصون إفريقية وانساح الْمُسلمُونَ فِي البسائط بالغارات وَوَقع بَينهم وَبَين أهل الضواحي من البربر زحوف وَقتل وَسبي حَتَّى لقد أَسرُّوا يَوْمئِذٍ من مُلُوك البربر صولات بن وزمار الزناتي ثمَّ المغراوي جد بني خزر مُلُوك تلمسان فَرَفَعُوهُ إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَأسلم على يَده فَمن عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وعهد لَهُ على قومه وَيُقَال إِنَّمَا وَصله وافدا فَأكْرم وفادته وَالله أعلم ثمَّ رغب الفرنج والبربر فِي السّلم وسألوا الصُّلْح وشرطوا لِابْنِ أبي سرح ثَلَاثمِائَة قِنْطَار من الذَّهَب على أَن يرحل عَنْهُم بالعرب وَيخرج من بِلَادهمْ فَفعل وَرجع الْمُسلمُونَ إِلَى الْمشرق بعد مقامهم بإفريقية سنة وَثَلَاثَة أشهر وَلما بلغ هِرقل ملك الرّوم أَن أهل إفريقية صَالحُوا الْمُسلمين بذلك المَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الَّذِي أَعْطوهُ غضب عَلَيْهِم وَبعث بطريقا يَأْخُذ مِنْهُم مثل ذَلِك فَنزل قرطاجنة وَأخْبرهمْ بِمَا جَاءَ لَهُ فَأَبَوا وَقَالُوا قد كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يسعدنا فِيمَا نزل بِنَا فَقَاتلهُمْ البطريق وَهَزَمَهُمْ وطرد الْملك الَّذِي ولوه عَلَيْهِم بعد جرجير فلحق بِالشَّام وَقد اجْتمع النَّاس على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ فاستجاشه على إفريقية فَبعث مَعَه مُعَاوِيَة بن حديج السكونِي على مَا نذكرهُ ولَايَة مُعَاوِيَة بن حديج على الْمغرب هُوَ مُعَاوِيَة بن حديج بِالْحَاء الْمُهْملَة مُصَغرًا الْكِنْدِيّ ثمَّ السكونِي لَهُ صُحْبَة وَمِمَّنْ شهد مَعَ عَمْرو بن الْعَاصِ فتح مصر وَقدم بِخَبَر الْفَتْح على عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَلما قدم علج إفريقية على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من صَاحب قَيْصر بعث مَعَه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من صَاحب قَيْصر بعث مَعَه مُعَاوِيَة بن حديج هَذَا فِي عَسْكَر ضخم سنة خمس وَأَرْبَعين فَلَمَّا وصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة هلك العلج وَمضى مُعَاوِيَة فَقدم إفريقية فِي عشرَة آلَاف فَنزل قمونية فسرح إِلَيْهِ البطريق ثَلَاثِينَ ألف مقَاتل كَانَ قَيْصر قد وَجههَا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي الْبَحْر لمدافعة الْعَرَب عَن إفريقية فَلَنْ تغن شَيْئا وَقَاتلهمْ مُعَاوِيَة فَهَزَمَهُمْ عِنْد حصن الأجم ثمَّ بَث السَّرَايَا ودوخ الْبِلَاد فَبعث عبد الله بن الزبير إِلَى سوسة فافتتحها ثمَّ بعث عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى جَلُولَاء فافتتحها كَذَلِك وَقَالَ ابْن خلدون إِن مُعَاوِيَة حاصر حصن جَلُولَاء فَامْتنعَ عَلَيْهِ حَتَّى سقط ذَات يَوْم سوره فملكه الْمُسلمُونَ وغنموا مَا فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثمَّ وَجه جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى صقلية فِي مِائَتي مركب فأثخنوا فِيهَا ثمَّ فتح بنزرت وَظهر الْإِسْلَام فِي البربر ثمَّ عَاد إِلَى مصر بعد أَن خلد آثارا حسية وَبنى بِمحل القيروان آبارا ثمَّ عَزله مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان عَن إفريقية وَأقرهُ على مصر فَقَط ثمَّ عَزله عَنْهَا فِي خبر لَيْسَ ذكره من غرضنا ولَايَة عقبَة بن نَافِع الفِهري على الْمغرب وبناؤه مَدِينَة القيروان هُوَ عقبَة بن نَافِع بن عبد الْقَيْس الْقرشِي الفِهري صَحَابِيّ بالمولد وَهُوَ آخر من ولي الْمغرب من الصَّحَابَة وَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ أَمِير على مصر قد اسْتعْمل عقبَة هَذَا وَهُوَ ابْن خَالَته على إفريقية فَانْتهى إِلَى لواتة ومزاتة فأطاعوا ثمَّ كفرُوا فغزاهم وَقتل وسبى ثمَّ افْتتح سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين غدامس من تخوم السودَان وَفِي السّنة بعْدهَا افْتتح ودان وكورا من كور السودَان وأثخن فِي تِلْكَ النواحي وَكَانَ لَهُ فِيهَا جِهَاد وفتوح فَظهر غناؤه وَعرفت نجدته وكفايته فَلَمَّا كَانَت سنة خمسين ولاه مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ على إفريقية اسْتِقْلَالا وَبعث مَعَه عشرَة آلَاف فَارس فَدخل عقبَة إفريقية بعد رُجُوع مُعَاوِيَة بن حديج عَنْهَا وانضاف إِلَيْهِ مسلمة البربر فَكثر جمعه وَوضع السَّيْف فِي أَهلهَا لأَنهم كَانُوا إِذا جَاءَت عَسَاكِر الْمُسلمين أَسْلمُوا فَإِذا رجعُوا عَنْهَا ارْتَدُّوا ثمَّ رأى عقبَة رَحمَه الله أَن يتَّخذ مَدِينَة يعتصم بهَا جَيش الْمُسلمين من البربر وتقام بهَا الْجَمِيع والأعياد فَاسْتَشَارَ من مَعَه فَقَالُوا نَحن أَصْحَاب إبل وَلَا حَاجَة لنا بمجاورة الْبَحْر فتسطو علينا الفرنج فَانْظُر لنا ينظر الله قَالَ صَاحب الجمان وَكَانَت بقْعَة القيروان غيضة لَا يأوى إِلَيْهَا إِلَّا الوحوش وَالسِّبَاع فصاح بهَا عقبَة أَن اخْرُجِي أيتها الوحوش والهوام بِإِذن الله عز وَجل فَبَقيت أَرض القيروان أَرْبَعِينَ سنة لَا يرى فِيهَا شَيْء من الْهَوَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 المؤذية وَلَا السبَاع العادية ثمَّ شرع فِي بنائها وَقَالَ هَذِه أوسع لأبلكم وآمن عَلَيْكُم من روم الْقُسْطَنْطِينِيَّة وإفرنج الجزيرة وَعَن اللَّيْث بن سعد أَن عقبَة رَحمَه الله غزا إفريقية فَأتى وَادي القيروان فَبَاتَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابه حَتَّى إِذا أصبح وقف على رَأس الْوَادي فَقَالَ يَا أهل الْوَادي أظعنوا فَإنَّا نازلون قَالَ ذَلِك ثَلَاثًا فَجعلت الْحَيَّات تنساب والعقارب وَغَيرهَا مِمَّا لَا يعرف من الدَّوَابّ تخرج ذَاهِبَة وهم قيام ينظرُونَ إِلَيْهَا من حِين أَصْبحُوا حَتَّى أوهجتهم الشَّمْس وَحَتَّى لم يرَوا مِنْهَا شَيْئا فنزلوا الْوَادي عِنْد ذَلِك قَالَ اللَّيْث فَحَدثني زِيَاد بن عجلَان أَن أهل إفريقية اقاموا بعد ذَلِك أَرْبَعِينَ سنة وَلَو التمست حَيَّة أَو عقرب بِأَلف دِينَار مَا وجدت اه وَفِي الجمان لما شرع عقبَة رَحمَه الله فِي بِنَاء جَامعهَا تنازعوا فِي الْقبْلَة فَأتى عقبَة آتٍ فِي النّوم فَوضع لَهُ عَلامَة على سمت الْقبْلَة فَلم انتبه أعلم النَّاس بذلك فَأتوا إِلَى الْموضع فوجدوا الْعَلامَة كَمَا قَالَ فَوقف عقبَة ينظر إِلَى الْقبْلَة فَسمع تَكْبِيرَة فِي الجو من نَاحيَة الْقبْلَة فَنظر فَرَأى الْكَعْبَة عيَانًا وَرَآهَا كل من كَانَ حوله وَقَالَ ابْن خلدون اختط عقبَة رَضِي الله عَنهُ القيروان وَبنى بهَا الْمَسْجِد الْجَامِع وَبنى النَّاس مساكنهم ومساجدهم وَكَانَ دورها ثَلَاثَة آلَاف بَاعَ وسِتمِائَة بَاعَ وكملت فِي خمس سِنِين وَكَانَ يَغْزُو وَيبْعَث السَّرَايَا للإغارة والنهب وَدخل أَكثر البربر فِي الْإِسْلَام واتسعت خطة الْمُسلمين ورسخ الدّين اه وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية اختط عقبَة بن نَافِع القيروان سنة خمسين وَجعل دور سورها اثْنَي عشر ميلًا وَبنى بهَا الْجَامِع الْأَعْظَم وَقَاتل البربر وشردهم ثمَّ عَزله مُعَاوِيَة عَنْهَا وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولَايَة أبي المُهَاجر دِينَار وفتحه الْمغرب الْأَوْسَط كَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ قد ولى على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد بِوَزْن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ فَاسْتعْمل مسلمة على إفريقية مَوْلَاهُ أَبَا المُهَاجر الْمَذْكُور وَيُقَال مولى بني مَخْزُوم فَقَدمهَا سنة خمس وَخمسين وأساء عزل عقبَة واستخف بِهِ لشَيْء كَانَ بَينهمَا وَكره نزُول القيروان فَبنى مَدِينَة قربهَا وأخلى قيروان عقبَة فَدَعَا عقبَة الله تَعَالَى أَن يُمكنهُ مِنْهُ وَكَانَ رجلا صَالحا مجاب الدعْوَة فاستجيب لَهُ فِيهِ على مَا نذكرهُ ثمَّ إِن أَبَا المُهَاجر بعث حَنش بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ صنعاء الشَّام إِلَى جَزِيرَة شريك وَهِي الْمَعْرُوفَة الْآن بالجزيرة الْقبلية وإليها يسْلك من بَاب الجزيرة أحد أَبْوَاب تونس فافتتحها وَكَانَ كسيلة بن أغز البرنسي ثمَّ الأوربي من أهل الْمغرب الْأَقْصَى من عُظَمَاء البربر وَكَانَ نَصْرَانِيّا قد جمع الجموع من البربر والفرنج وزحف إِلَى الْمُسلمين فزحف إِلَيْهِم ابو المُهَاجر فَهَزَمَهُمْ حول تلمسان وَتمكن من الْبِلَاد وظفر بكسيلة فأظهر الْإِسْلَام فاستبقاه أَبُو المُهَاجر واستخلصه قَالَ ابْن خلدون لم أَقف لتلمسان على خبر أقدم من خبر ابْن الرَّقِيق من أَن أَبَا المُهَاجر لما قدم إفريقية توغل فِي ديار الْمغرب وَوصل إِلَى تلمسان وَبِه سميت الْعُيُون الْقَرِيبَة مِنْهَا عُيُون أبي المُهَاجر اه فَهُوَ أول أَمِير الْمُسلمين وطِئت خيله الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ إِن عقبَة بن نَافِع لما قفل إِلَى الْمشرق شكا إِلَى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 مَا ناله من أبي المُهَاجر فَاعْتَذر إِلَيْهِ ووعده برده إِلَى عمله ثمَّ ولاه ابْنه يزِيد على الْمغرب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَذكر الْوَاقِدِيّ أَن عقبَة ولي الْمغرب سنة سِتّ وَأَرْبَعين فاختط القيروان ثمَّ عَزله يزِيد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بِأبي المُهَاجر فَحِينَئِذٍ قبض على عقبَة وضيق عَلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ يزِيد يَأْمُرهُ ببعثه فَبَعثه إِلَيْهِ ثمَّ أَعَادَهُ واليا على إفريقية وَالله أعلم ولَايَة عقبَة بن نَافِع الثَّانِيَة وفتحه الْمغرب الْأَقْصَى ومقتله لما توفّي مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ وَولي بعده ابْنه يزِيد بعث عقبَة بن نَافِع واليا على الْمغرب فقدمه فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم واعتقل ابا المُهَاجر وَخرب مدينته وَعمر القيروان وعزم على الْجِهَاد فاستخلف زُهَيْر بن قيس البلوي على القيروان وَيُقَال ولاه على مُقَدّمَة جَيْشه وَخرج فِي جَيش كثيف فَفتح حصن لميس ومدينة باغانة المطل عَلَيْهَا جبل أوراس وَفتح بِلَاد الجريد فتحا ثَانِيًا وَصَالح أهل فزان وَسَار إِلَى الزاب وتاهرت فشتت جموع البربر وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من الفرنج ثمَّ تقدم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فأثخن فِي أَهله إِلَى إِن وصل إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط فَكَانَ عقبَة رَحمَه الله أول أَمِير الْمُسلمين وطِئت خيله الْمغرب الْأَقْصَى وَقَالَ ابْن خلدون قدم عقبَة بن نَافِع الْمغرب فِي ولَايَته الثَّانِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فاضطغن على كسيلة صحبته لأبي المُهَاجر ونكبه وَتقدم أَبُو المُهَاجر إِلَى عقبَة فِي اصطناعه فَلم يقبل ثمَّ زحف إِلَى الْمغرب وعَلى مقدمته زُهَيْر بن قيس البلوي فدوخه وَلَقي مُلُوك البربر وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من الفرنجة بالزاب وتاهرت فَهَزَمَهُمْ واستباحهم وأذعن لَهُ يليان أَمِير غمارة ولاطفه وهاداه ودله على عورات البربر وَرَاءه بِمَدِينَة وليلى وبلاد المصامدة والسوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَقَالَ صَاحب الجمان افْتتح عقبَة الْمغرب وَنزل على طنجة فحاصرها واستنزل ملكهَا يليان الغماري وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَنزل على حكمه بعد أَن أعطَاهُ أَمْوَالًا جليلة ثمَّ أَرَادَ عقبَة اللحاق بالجزيرة الخضراء من عدوة الأندلس فَقَالَ لَهُ يليان أتترك كفار البربر خَلفك وَتَرْمِي بِنَفْسِك فِي بحبوحة الْهَلَاك مَعَ الفرنج وَيقطع الْبَحْر بَيْنك وَبَين المدد فَقَالَ عقبَة وَأَيْنَ كفار البربر قَالَ بِبِلَاد السوس وهم أهل نجدة وبأس قَالَ عقبَة وَمَا دينهم قَالَ لَيْسَ لَهُم دين وَلَا يعْرفُونَ إِن الله حق وَإِنَّمَا هم كَالْبَهَائِمِ وَكَانُوا على دين الْمَجُوسِيَّة يَوْمئِذٍ فَتوجه عقبَة نحوهم فَنزل على مَدِينَة وليلى بِإِزَاءِ جبل زرهون وَهِي يَوْمئِذٍ من أكبر مدن الْمغرب فِيمَا بَين النهرين العظيمين سبو وورغة وَهَذِه الْمَدِينَة هِيَ الْمُسَمَّاة الْيَوْم فِي لِسَان الْعَامَّة بقصر فِرْعَوْن فافتتحها عقبَة وغنم وسبى ثمَّ توجه إِلَى بِلَاد درعة والسوس فلقتيه جموع البربر فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا ثمَّ انْهَزَمت البربر بعد حروب صعبة وقتلهم الْمُسلمُونَ قتلا ذريعا وتبعوا آثَارهم إِلَى صحراء لمتونة لَا يلقاهم أحد إِلَّا هزموه ثمَّ عطف عقبَة على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط الغربي فَانْتهى إِلَى بِلَاد آسفي وَأدْخل قَوَائِم فرسه فِي الْبَحْر ووقف سَاعَة ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه ارْفَعُوا أَيْدِيكُم فَفَعَلُوا وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي لم أخرج بطرا وَلَا أشرا وَإنَّك لتعلم إِنَّمَا نطلب السَّبَب الَّذِي طلبه عَبدك ذُو القرنين وَهُوَ أَن تعبد وَلَا يُشْرك بك شَيْء اللَّهُمَّ إِنَّا معاندون لدين الْكفْر ومدافعون عَن دين الْإِسْلَام فَكُن لنا وَلَا تكن علينا يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام ثمَّ انْصَرف رَاجعا وَقَالَ ابْن خلدون أَيْضا وصل عقبَة إِلَى جبال درن وَقَاتل المصامدة بهَا فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حروب وحاصروه بجبل درن فَنَهَضت إِلَيْهِم جموع زناتة وَكَانُوا خَالِصَة للْمُسلمين مُنْذُ إِسْلَام مغراوة فأفرجت المصامدة عَن عقبَة وأثخن فيهم حَتَّى حملهمْ على طَاعَة الْإِسْلَام ودوخ بِلَادهمْ ثمَّ أجَاز إِلَى بِلَاد السوس لقِتَال من بهَا من صنهاجة أهل اللثام وهم يَوْمئِذٍ على دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الْمَجُوسِيَّة وَلم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم وانْتهى إِلَى تارودانت وَهزمَ جموع البربر وَقَاتل مسوقة من وَرَاء السوس ودوخهم وقفل رَاجعا وَكَانَ كسيلة الأوربي فِي جَيش عقبَة قد استصحبه فِي غَزَوَاته هَذِه وَكَانَ يستهين بِهِ ويمتهنه فَأمره يَوْمًا بسلخ شَاة بَين يَدَيْهِ فَدَفعهَا كسيلة إِلَى غلمانه فأراده عقبَة على أَن يتولاها بِنَفسِهِ وانتهره فَقَامَ إِلَيْهَا كسيلة مغضبا وَجعل كلما دس يَده فِي الشَّاة مسح بلحيته وَالْعرب يَقُولُونَ مَا هَذَا يَا بربري فَيَقُول هُوَ أجِير فَيَقُول لَهُم شيخ مِنْهُم إِن الْبَرْبَرِي يتوعدكم وَبلغ ذَاك أَبَا المُهَاجر وَهُوَ معتقل عِنْد عقبَة فَبعث إِلَيْهِ ينهاه وَيَقُول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَأْنف جبابرة الْعَرَب وَأَنت تعمد إِلَى رجل جَبَّار فِي قومه وبدار عزه حَدِيث عهد بالشرك فستفسده وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يتوثق مِنْهُ وخوفه غائلته فتهاون عقبَة بقوله فَلَمَّا قفل من غزاته هَذِه وانْتهى إِلَى طبنة من أَرض الزاب وكسيلة أثْنَاء هَذَا كُله فِي صحبته صرف العساكر إِلَى القيروان أَفْوَاجًا ثِقَة بِمَا دوخ من الْبِلَاد وأذل من البربر حَتَّى بَقِي فِي قَلِيل من الْجند فَلَمَّا وصل إل تهودة وَأَرَادَ أَن ينزل بهَا الحامية نظر إِلَيْهِ الفرنجة وطمعوا فِيهِ فراسلوا كسيلة ودلوه على الفرصة فِيهِ فانتهزوها وراسل بني عَمه وَمن تَبِعَهُمْ من البربر فاتبعوا أثر عقبَة وَأَصْحَابه حَتَّى إِذا غشوهم بتهودة ترجل الْقَوْم وكسروا أجفان سيوفهم وَنزل الصَّبْر واستلحم عقبَة وَأَصْحَابه فَلم يفلت مِنْهُم أحد وَكَانُوا زهاء ثَلَاثمِائَة من كبار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ اسْتشْهدُوا فِي مسرع وَاحِد وَفِيهِمْ أَبُو المُهَاجر كَانَ عقبَة قد استصحبه فِي اعتقاله كَمَا قُلْنَا فأبلى رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك الْيَوْم الْبلَاء الْحسن قَالَ ابْن خلدون واجداث الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أُولَئِكَ الشُّهَدَاء أَعنِي عقبَة وَأَصْحَابه بمكانهم من أَرض الزاب لهَذَا الْعَهْد وَقد جعل على قُبُورهم أسنمة ثمَّ جصصت وَاتخذ على الْمَكَان مَسْجِد عرف باسم عقبَة وَهُوَ فِي عداد المزارات ومظان البركات بل هُوَ أشرف مزور من الأجداث فِي بقاع الأَرْض لما توفر فيهه من عدد الشُّهَدَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يبلغ أحد مد أحدهم وَلَا نصيفه وَأسر من الصَّحَابَة يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن أَوْس الْأنْصَارِيّ وَيزِيد بن خلف الْعَبْسِي وَنَفر مَعَهُمَا ففداهم ابْن مصاد صَاحب قفصة وَبعث بهم إِلَى القيروان ثمَّ زحف كسيلة بعد الْوَقْعَة إِلَى جِهَة القيروان إِذْ هِيَ دَار الْإِمَارَة بالمغرب يَوْمئِذٍ وَبهَا جُمْهُور الْعَرَب ووجوده الْإِسْلَام فَبَلغهُمْ الْخَبَر وَعظم عَلَيْهِم الْأَمر فَقَامَ زهر بن قيس البلوي فيهم خَطِيبًا وَقَالَ يَا معشر الْمُسلمين إِن أصحابكم قد دخلُوا الْجنَّة فاسلكوا سبيلهم أَو يفتح الله عَلَيْكُم فَخَالف حَنش بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ لما علم أَنه لَا طَاقَة للْمُسلمين بِمَا دهمهم من أَمر البربر وَرَأى أَن النجَاة بِمن مَعَه من الْمُسلمين أولى ونادى فِي النَّاس بالرحيل إِلَى مشرقهم فَاتَّبعُوهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَبَقِي زُهَيْر فِي أهل بَيته فاضطر إِلَى الْخُرُوج وَسَار إِلَى برقة فَأَقَامَ بهَا مطلا على الْمغرب ومنتظرا للمدد من الْخُلَفَاء وَاجْتمعَ إِلَى كسيلة جَمِيع أهل الْمغرب من البربر والفرنجة وَعظم أمره وَتقدم إِلَى القيروان فاستولى عَلَيْهَا فِي الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وفر مِنْهَا بَقِيَّة الْعَرَب فَلَحقُوا بزهير وَلم يقم بهَا إِلَّا أَصْحَاب الذَّرَارِي والأثقال فَأَمنَهُمْ كسيلة وَثبتت قدمه بالقيروان وَاسْتمرّ أَمِيرا على البربر وَمن بَقِي بهَا من الْعَرَب خمس سِنِين وقارن ذَلِك مهلك يزِيد بن مُعَاوِيَة وفتنة الضَّحَّاك بن قيس مَعَ مَرْوَان ابْن الحكم بمرج راهط من أَرض الشَّام وحروب آل الزبير فاضطرب أَمر الْخلَافَة بالمشرق واضطرم الْمغرب نَارا وفشت الرِّدَّة فِي زناتة والبرانس إِلَى أَن اسْتَقل عبد الْملك بن مَرْوَان بالخلافة وأذهب آثَار الْفِتْنَة من الْمشرق فَالْتَفت إِلَى الْمغرب وتلافى أمره على مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ذكر من دخل الْمغرب من الصَّحَابَة مرتبَة أَسمَاؤُهُم على حُرُوف المعجم فَمنهمْ بِلَال بن حَارِث بن عَاصِم الْمُزنِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن من أهل الْمَدِينَة أقطعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العقيق وَكَانَ صَاحب لِوَاء مزينة يَوْم الْفَتْح ذكره صَاحب الْخُلَاصَة النقية فِيمَن دخل الْمغرب وَمِنْهُم جرهد بن خويلد الْأَسدي أَو الْأَسْلَمِيّ ذكر صَاحب الْإِشْرَاق أَنه من جملَة من دخل إفريقية من أَرض الْمغرب وَمِنْهُم جبلة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن أسيرة الْأنْصَارِيّ أَخُو أبي مَسْعُود البدري قَالَ فِي التَّجْرِيد شهد أحدا وَشهد فتح مصر وصفين مَعَ عَليّ وغزا إفريقية مَعَ مُعَاوِيَة بن حديج سنة خمسين وَكَانَ فَاضلا من فُقَهَاء الصَّحَابَة روى ابْن مَنْدَه وَمُحَمّد بن الرّبيع من طَرِيق مَالك بن أبي عمرَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه سُئِلَ عَن النَّفْل فِي الْغَزْو فَقَالَ لم أر أحدا يُعْطِيهِ غير أَن ابْن حديج نفلنا من إفريقية الثُّلُث بعد الْخمس ومعنا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين نَاس كثير فَأبى جبلة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا وَمِنْهُم الحسنان رَضِي الله عَنْهُمَا على مَا ذكره ابْن خلدون وهما سيدا شباب أهل الْجنَّة وريحانتا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشهر من أَن يعرف بهما وَمِنْهُم الْحَارِث بن حبيب بن خُزَيْمَة الْقرشِي العامري ذكره خَليفَة بن خياط فِيمَن نزل مصر من الصَّحَابَة قَالَ وَقتل بإفريقية مَعَ معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَمِنْهُم حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ ذكره فِي الْإِشْرَاق وَمِنْهُم حبَان بِالْكَسْرِ وموحده ابْن أبي جبلة قَالَ فِي الْإِصَابَة لَهُ إِدْرَاك قَالَ ابْن يُونُس بَعثه عمر بن الْخطاب إِلَى أهل مصر يفقههم وَذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين وَقَالَ غَيره مَاتَ بإفريقية وَمِنْهُم خَالِد بن ثَابت الْعجْلَاني الفهمي قَالَ ابْن يُونُس شهد فتح مصر وَولي بَحر مصر سنة إِحْدَى وَخمسين وأغزاه مسلمة بن مخلد إفريقية سنة أَربع وَخمسين قَالَ فِي الْإِصَابَة ذكرته اعْتِمَادًا على أَنهم كَانُوا لَا يؤمرون فِي الْفتُوح إِلَّا الصَّحَابَة وَمِنْهُم ربيعَة بن عباد الديلِي ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر من الصَّحَابَة لغزو الْمغرب قَالَ مَالك وَأَبوهُ بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة على الصَّوَاب وَيُقَال بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد ذكر خَليفَة وَابْن سعد أَنه مَاتَ فِي خلَافَة الْوَلِيد وَمِنْهُم رويفع بن ثَابت بن السكن الْأنْصَارِيّ ثمَّ النجاري ولاه مُعَاوِيَة على طرابلس سنة سِتّ وَأَرْبَعين فغزا إفريقية قَالَ ابْن يُونُس توفّي ببرقة وَهُوَ أَمِير عَلَيْهَا من قبل مسلمة بن مخلد سنة سِتّ وَخمسين وَمِنْهُم زُهَيْر بن قيس البلوي أَبُو شَدَّاد الْآتِي ذكره بعد قَالَ ابْن يُونُس يُقَال لَهُ صُحْبَة وَمِنْهُم سُفْيَان بن وهب الْخَولَانِيّ أَبُو أَيمن لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة شهد حجَّة الْوَدَاع وَفتح مصر وإفريقية وَسكن الْمغرب مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِنْهُم سلكان بن مَالك قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر لغزو الْمغرب وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع الْأَسْلَمِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر من الصَّحَابَة لغزو الْمغرب مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سبع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة وَكَانَ شجاعا راميا سَابِقًا يسْبق الْفرس شدا على قَدَمَيْهِ وَمِنْهُم العبادلة الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم فَمنهمْ عبد الله بن عَبَّاس ترجمان الْقُرْآن أشهر من أَن يعرف بِهِ وَهُوَ الَّذِي قسم غَنَائِم إفريقية يَوْم الْفَتْح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَمِنْهُم عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا من أَعْلَام الصَّحَابَة وعبادهم وزهادهم والمتمسكين بِالسنةِ مِنْهُم رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهُم عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الشجاع الْمَشْهُور والبطل الْمَذْكُور وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بعد الْهِجْرَة وَهُوَ قَاتل جرجير يَوْم الْفَتْح كَمَا مر وَمِنْهُم عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب أحد أجواد الدُّنْيَا وأبطالها ذكر ابْن خلدون إِنَّه مِمَّن دخل إفريقية غازيا فَهَؤُلَاءِ العبادلة الْأَرْبَعَة وَمِنْهُم عبد الله بن سعد بن ابي سرح الْأَمِير الْمَعْرُوف وَقد تقدم ذكره وَمِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور أسلم قبل أَبِيه وَهُوَ أَكثر النَّاس حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّوَاب أَن يَجْعَل أحد العبادلة بدل ابْن جَعْفَر وَالله أعلم قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ أحد أَكثر مني حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب عده ابْن نَاجِي فِيمَن دخل الْمغرب مَعَ ابْن أبي سرح وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقتل بإفريقية وَمِنْهُم عبيد الله بن عمر بن الْخطاب ذكره فِي الْخُلَاصَة النقية وَكَانَ صحابيا بالمولد قتل يَوْم صفّين مَعَ مُعَاوِيَة وَمِنْهُم أَخُوهُ عَاصِم بن عمر وصحبته بالمولد ذكره صَاحب الْخُلَاصَة أَيْضا وَمِنْهُم عبد الله بن نَافِع بن الْحصين وَجهه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَعَ ابْن أبي سرح لشدَّة بطشه وإصابة رَأْيه وَمِنْهُم عقبَة بن نَافِع الفِهري الْأَمِير الْمَشْهُور فاتح الْمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ صَاحب التَّرْجَمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَمِنْهُم عُثْمَان بن عَوْف الْمُزنِيّ على خلاف فِيهِ وَأما عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ فقد تقدم أَنه انْتهى إِلَى طرابلس وَلم يصل إِلَى إفريقية وَمِنْهُم مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ الْأمَوِي ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ وَلم تحصل لَهُ رِوَايَة لِأَنَّهُ خرج مَعَ أَبِيه إِلَى الطَّائِف فَأَقَامَ بِهِ ذكره صَاحب الْخُلَاصَة فِيمَن دخل الْمغرب وَمِنْهُم مَسْعُود بن الْأسود البلوي وَقيل الْعَدوي قَالَ الذَّهَبِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة يعد فِي المصريين وغزا إفريقية وَمِنْهُم الْمسور بن مخرمَة بن نَوْفَل الزُّهْرِيّ لَهُ ولأبيه صُحْبَة قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع دخل مصر لغزو الْمغرب مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِنْهُم الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي وَالِد سعيد بن الْمسيب لَهُ ولأبيه صُحْبَة وَرِوَايَة ذكره الْوَاقِدِيّ فِيمَن دخل مصر لغزو الْمغرب وَمِنْهُم الْمطلب بن أبي ودَاعَة الْقرشِي السَّهْمِي لَهُ ولأبيه صُحْبَة وهما من مسلمة الْفَتْح قَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع دخل مصر لغزو الْمغرب فِيمَا ذكره الْوَاقِدِيّ وَمِنْهُم مُعَاوِيَة بن حديج السكونِي أحد الْأُمَرَاء وَقد تقدم ذكره وَمِنْهُم معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ابْن عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الذَّهَبِيّ ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتشْهدَ بإفريقية شَابًّا فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَحكى المؤروخون أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أغزى سعيد بن عُثْمَان بن عَفَّان خُرَاسَان وَمَعَهُ قثم بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَعبر سعيد النَّهر إِلَى سَمَرْقَنْد فاستشهد قثم بهَا وَكَانَ أَخُوهُ الْفضل بن عَبَّاس قد مَاتَ بأجنادين من أَرض الشَّام وَعبد الله الترجمان مَاتَ بِالطَّائِف وَعبيد الله الْأَصْغَر مَاتَ بِالْيمن ومعبد بإفريقية فَقَالَ النَّاس لم ير مثل بني أم وَاحِدَة أبعد قبورا من بني الْعَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَمِنْهُم الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ وَلَيْسَ الْأسود أبه وَإِنَّمَا تبناه الْأسود بعد عبد يَغُوث وَهُوَ صَغِير فَعرف بِهِ وَإِنَّمَا اسْم أَبِيه عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْكِنْدِيّ كَانَ الْمِقْدَاد أحد السَّابِقين شهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا وَلم يثبت أَن أحدا شهد بَدْرًا فَارِسًا سواهُ غزا إفريقية مَعَ ابْن أبي سرح فَلَمَّا رجعُوا إِلَى مصر قَالَ لَهُ ابْن أبي سرح فِي دَار بناها كَيفَ ترى فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَاد إِن كَانَ من مَال الله فقد أفسدت وَإِن كَانَ من مَالك فقد أسرفت فَقَالَ ابْن أبي سرح لَوْلَا أَن يُقَال أفسدت مرَّتَيْنِ لهدمتها وَمِنْهُم المنيذر الْأَسْلَمِيّ قَالَ ابْن يُونُس لَهُ صُحْبَة وَكَانَ بإفريقية وَقَالَ عبد الْملك بن حبيب لم يدْخل الأندلس من الصَّحَابَة إِلَّا المنيذر الإفْرِيقِي وَأما المشتهرون بكنيتهم فَمنهمْ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ الشَّاعِر الْمَشْهُور واسْمه خويلد بن خَالِد أسلم على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره وَقدم الْمَدِينَة يَوْم وَفَاته فَشهد السَّقِيفَة وبيعة أبي بكر وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدَفنه قَالَ ابْن كثير توفّي غازيا بإفريقية فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قلت وَهلك لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد بِمصْر بالطاعون فَقَالَ قصيدته العينية يرثيهم وَهِي مَشْهُورَة وَمِنْهُم أَبُو رمثة البلوي قيل اسْمه رِفَاعَة بن يثربي وَقيل بِالْعَكْسِ لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة قَالَ الذَّهَبِيّ سكن بِمصْر وَمَات بإفريقية وَمِنْهُم أَبُو زَمعَة البلوي قَالَ الذَّهَبِيّ اسْمه عبد وَقيل عبيد بن أَرقم بَايع تَحت الشَّجَرَة وَنزل مصر وغزا إفريقية مَعَ ابْن حديج روى حَدِيث الَّذِي قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسا وَسَأَلَ هَل من تَوْبَة مَاتَ بإفريقية ودفنت مَعَه شَعرَات من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور وَهُوَ صَاحب الْمقَام خَارج القيروان وَمِنْهُم أَبُو ضبيس البلوي قَالَ الذَّهَبِيّ لَهُ صُحْبَة وَقَالَ مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزي دخل مصر لغزو الْمغرب وَمِنْهُم أَبُو المبتذل خلف لَهُ صُحْبَة وَنزل إفريقية وَقيل أَبُو المنيذر كَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فِي التَّجْرِيد وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يحضرنا ذكرهم أخرج ابْن عبد الحكم عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ غزونا إفريقية مَعَ ابْن حديج ومعنا بشر كثير من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار اه رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم وحشرنا فِي زمرتهم آمين ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو غير ذَلِك قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ رَحمَه الله فِي شرح الْمُوَطَّأ فِي كتاب الْجِهَاد مِنْهُ اخْتلف النَّاس فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو مختلطة اي الْبَعْض عنْوَة وَالْبَعْض صلحا على ثَلَاثَة اقوال الأول وَهُوَ الَّذِي يظْهر من روايتة ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنَّهَا فتحت بِالسَّيْفِ عنْوَة لِأَنَّهُ جعل النّظر فِي معادنها للْإِمَام وَلَو صَحَّ ذَلِك لم يجز لأحد بيع شَيْء مِنْهَا كأرض مصر لِأَنَّهَا فتحت بِالسَّيْفِ الثَّانِي إِنَّهَا فتحت صلحا صَالح أَهلهَا عَلَيْهَا فَإِن كَانَ كَذَلِك جَازَ بيع بَعضهم من بعض الثَّالِث إِنَّهَا مختلطة هرب بَعضهم عَن بعض وتركوها فَمن بَقِي بِيَدِهِ شَيْء كَانَ لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم ويحكى أَن أحد عُمَّال الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس حِين تغلب على أَرض فاس قَالَ لَهُم أخبروني عَن أَرْضكُم أصلح هِيَ أم عنْوَة فَقَالُوا لَهُ لَا جَوَاب لنا حَتَّى يَأْتِي الْفَقِيه يعنون الشَّيْخ أَبَا جَيِّدَة فجَاء الشَّيْخ الْمَذْكُور فَسَأَلَهُ الْعَامِل فَقَالَ لَيست بصلح وَلَا عنْوَة إِنَّمَا أسلم أَهلهَا عَلَيْهَا فَقَالَ خلصكم الرجل وَأَبُو جَيِّدَة هَذَا هُوَ دَفِين بَاب بني مُسَافر أحد أَبْوَاب فاس المحروسة رَحمَه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولَايَة زُهَيْر بن قيس البلوي على الْمغرب ومقتل كسيلة وَمَا يتبع ذَلِك لما اسْتَقل عبد الْملك بن مَرْوَان بالخلافة كَانَ زُهَيْر مُقيما ببرقة مُنْذُ مهلك عقبَة بن نَافِع كَمَا مر فَبعث إِلَيْهِ عبد الْملك بالمدد وولاه حَرْب البربر وَأمره بإستنقاذ القيروان وَمن بهَا من الْمُسلمين من يَد كسيلة المتغلب عَلَيْهَا وحضه على الطّلب بِدَم عقبَة فَرَاجعه زُهَيْر يُعلمهُ بِكَثْرَة الفرنج والبربر فأمده بِالْمَالِ ووجوه الْعَرَب وفرسانها فزحف زُهَيْر إِلَى الْمغرب سنة تسع وَسِتِّينَ فِي آلَاف من الْمُقَاتلَة وَجمع لَهُ كسيلة البرانس وَسَائِر البربر ولقيه بممس من نواحي القيروان وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انْهَزَمت البربر بعد حروب صعبة وَقتل كسيلة ووجوه من مَعَه من البربر وَمن لَا يُحْصى من عامتهم واتبعهم الْعَرَب إِلَى مرماجنة ثمَّ إِلَى وَادي ملوية وَفِي هَذِه الْوَقْعَة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضدت شوكتهم واضمحل أَمر الفرنجة فَلم يعد وَخَافَ البربر من زُهَيْر وَالْعرب خوفًا شَدِيدا فلجؤوا إِلَى القلاع والحصون وَكسرت شَوْكَة أوربة من بَينهم وَاسْتقر جمهورهم بديار الْمغرب الْأَقْصَى وملكوا مَدِينَة وليلى وَكَانَت فِيمَا بَين مَوضِع فاس ومكناسة بِجَانِب جبل زرهون وَلم يكن لَهُم بعد هَذِه الْوَقْعَة ذكر إِلَى أَن قدم عَلَيْهِم إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ فَقَامُوا بدعوته على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَأما زُهَيْر فَإِنَّهُ لما رأى مَا منحه الله من الظفر والنصر وسَاق إِلَيْهِ من الْعِزّ وَالْملك خشِي على نَفسه الْفِتْنَة وَكَانَ من الْعباد المخبتين فَترك القيروان آمن مَا كَانَت وارتحل إِلَى الْمشرق وَقَالَ إِنَّمَا جِئْت للْجِهَاد فِي سَبِيل الله وأخاف على نَفسِي أَن تميل إِلَى الدُّنْيَا فَلَمَّا وصل إِلَى برقة وجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أسطول الرّوم على قتالها فِي جموع عَظِيمَة من قبل قَيْصر وبأيديهم أسرى من الْمُسلمين فاستغاثوا بِهِ وَهُوَ فِي خف من أَصْحَابه فصمد إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه وَقَاتل الرّوم حَتَّى قتل وَقتل مَعَه جمَاعَة من أَشْرَاف أَصْحَابه وَنَجَا الْبَاقُونَ إِلَى دمشق فَأخْبرُوا الْخَلِيفَة عبدا لملك بِمَا وَقع فآسفه ذَلِك ولَايَة حسان بن النُّعْمَان على الْمغرب وتخريبه قرطاجنة لما رَحل زُهَيْر بن قيس إِلَى الْمشرق وَاسْتشْهدَ ببرقة كَمَا قدمنَا واضطرمت بِلَاد الْمغرب بعده واضطربت نَار الْفِتَن وافترق أَمر البربر وتعدد سلطانهم فِي رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ من أعظمهم هم شَوْكَة يَوْمئِذٍ الكاهنة داهيا الزناتية ثمَّ الجراوية صَاحِبَة جبل أوراس وكبيرة قَومهَا جراوة والبتر فَبعث عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى عَامله على مصر حسان بن النُّعْمَان الغساني وَكَانَ يُقَال لَهُ الشَّيْخ الْأمين يَأْمُرهُ أَن يخرج إِلَى جِهَاد البربر وَبعث إِلَيْهِ بالمدد فزحف إِلَيْهِم سنة تسع وَسِتِّينَ فِي أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَلما دخل القيروان سَأَلَ الأفارقة عَن أعظم مُلُوكهمْ فَقَالُوا صَاحب قرطاجنة وَهِي الْمَدِينَة الْعُظْمَى قريعة رومة وضرتها وَإِحْدَى عجائب الدُّنْيَا وَكَانَ با يَوْمئِذٍ من جموع الفرنج أُمَم لَا تحصى فصمد إِلَيْهَا حسان وافتتحها وَقتل أَكثر من بهَا وَنَجَا فَلهم فِي المراكب إِلَى صقلية والأندلس وَلما انْصَرف حسان عَنْهَا دَخلهَا أَقوام من أهل الضواحي والبادية وتحصنوا بهَا فَرجع إِلَيْهِم وَقَاتلهمْ أَشد قتال فافتتحها عنْوَة وَأمر بتخريبها وإعفاء رسمها وَكسر قنواتها فَذَهَبت كأمس الدابر وَلم يبْق بهَا الْآن إِلَّا آثَار خَفِيفَة تدل على مَا كَانَ بهَا من عَجِيب الصَّنْعَة وإحكام الْعَمَل وبأنقاضها عمرت مَدِينَة تونس كَمَا فِي الْقَامُوس ثمَّ بلغ حسان أَن البربر والفرنج قد عسكروا فِي جموع عَظِيمَة بِبِلَاد صطفورة وبنزرت فصمد إِلَيْهِم وَهَزَمَهُمْ وشرد بهم من خَلفهم وانحاز فَلهم إِلَى باجة وبونة وَرجع حسان إِلَى القيروان فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَأَلَ عَن بَقِيَّة الْمُلُوك الْمُخَالفَة فدلوه على الكاهنة داهيا وقومها جراوة وهم ولد جراو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الديديت بن زانا وزانا هُوَ أَبُو زناتة وَكَانَ لهَذِهِ الكاهنة بنُون ثَلَاثَة ورثوا رياسة قَومهمْ عَن سلفهم وربوا فِي حجرها فاستبدت عَلَيْهِم واعتزت على قَومهَا بهم وَبِمَا كَانَ لَهَا من الكهانة والمعرفة بِغَيْب أَحْوَالهم وعواقب أُمُورهم فانتهت إِلَيْهَا رياستهم ووقفوا عِنْد إشارتها قَالَ هانىء بن بكور الضريسي ملكت عَلَيْهِم خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وَعَاشَتْ مائَة وَسبعا وَعشْرين سنة وَكَانَ قتل عقبَة بن نَافِع وَأَصْحَابه فِي الْبَسِيط قبْلَة جبل أوراس بإغرائها برابرة الزاب عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُسلمُونَ يعْرفُونَ ذَلِك مِنْهَا فَلَمَّا قتل كسيلة وانفضت جموع البربر رجعُوا إِلَى هَذِه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس وَقد انْضَمَّ إِلَيْهَا بَنو يفرن وَمن كَانَ بإفريقية من قبائل زناتة وَسَائِر البتر فَسَار إِلَيْهَا حسان حَتَّى نزل وَادي مليانة وزحفت هِيَ إِلَيْهِ فَاقْتَتلُوا بالبسيط أَمَام جبلها قتالا شَدِيدا ثمَّ انهزم الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم خلق كثير وَأسر خَالِد بن يزِيد الْقَيْسِي فِي ثَمَانِينَ رجلا من وُجُوه الْعَرَب وَلم تزل الكاهنة والبربر فِي إتباع حسان وَالْعرب حَتَّى أخرجوهم من عمل قابس وَلحق حسان بِعَمَل طرابلس فَلَقِيَهُ هُنَاكَ كتاب عبد الْملك يَأْمُرهُ بالْمقَام حَيْثُ يصله كِتَابه فَأَقَامَ ببرقة وَبنى قصوره الْمَعْرُوفَة لهَذَا الْعَهْد بقصور حسان ثمَّ رجعت الكاهنة إِلَى مَكَانهَا من الْجَبَل وأطلقت أسرى الْمُسلمين سوى خَالِد فَإِنَّهَا اتَّخذت عِنْده عهدا بإرضاعه مَعَ ولديها وصيرته أَخا لَهما وأقامت فِي سُلْطَان إفريقية والبربر خمس سِنِين بعد هزيمَة حسان ونفت الْعَرَب عَن بِلَاد الْمغرب وَقَالَت لقومها إِنَّمَا تطلب الْعَرَب من الْمغرب مدنه وَمَا فِيهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَنحن إِنَّمَا نُرِيد الْمزَارِع والمراعي فَالرَّأْي أَن نخرب هَذِه المدن والحصون ونقطع أطماع الْعَرَب عَنْهَا قَالَ ابْن خلدون وَكَانَت المدن والضياع من طرابلس إِلَى طنجة ظلا وَاحِدًا فِي قرى مُتَّصِلَة فخربت الكاهنة ديار الْمغرب وعضدت أشجاره ومحت جماله وجاست بِالْفَسَادِ خلاله فشق ذَلِك على البربر واستأمنوا إِلَى حسان وَكَانَ عبد الْملك قد بعث إِلَيْهِ بالمدد فَأَمنَهُمْ وَوجد السَّبِيل إِلَى تَفْرِيق أمرهَا ثمَّ دس إِلَى خَالِد بن يزِيد يستعلمه أمرهَا فأطلعه على كنه خَبَرهَا واستحثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فزحف إِلَى الْمغرب سنة أَربع وَسبعين وبرزت إِلَيْهِ فأوقع بهَا وبجموعها وقتلها واحتز رَأسهَا عِنْد الْبِئْر الْمَعْرُوفَة بهَا لهَذَا الْعَهْد من جبل أوراس ثمَّ اقتحم الْجَبَل عنْوَة واستلحم فِيهِ زهاء مائَة ألف من البربر وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ باقيهم على الْإِسْلَام وَالطَّاعَة وَشرط عَلَيْهِم حسان أَن يكون مَعَه مِنْهُم اثْنَا عشر ألفا لَا يفارقونه فِي مَوَاطِن جهاده فَأَجَابُوا وَأَسْلمُوا وَحسن إسْلَامهمْ وَعقد للأكبر من وَلَدي الكاهنة على قومه من جراوة وعَلى جبل أوراس فَقَالُوا قد لزمتنا لَهُ الطَّاعَة وسبقنا إِلَيْهَا وبايعناه عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك بِإِشَارَة من الكاهنة لإثارة من علم كَانَت لَدَيْهَا بذلك من شياطينها وَانْصَرف حسان إِلَى القيروان مؤيدا منصورا وَثَبت ملكه واستقام أمره فدون الدَّوَاوِين وَكتب الْخراج على عجم إفريقية وَمن أَقَامَ مَعَهم على النَّصْرَانِيَّة من البربر ثمَّ أوعز إِلَيْهِ الْخَلِيفَة عبد الْملك باتخاذ دَار الصِّنَاعَة بتونس لإنشاء الْآلَات البحرية حرصا على مراسم الْجِهَاد وَمِنْهَا كَانَ فتح صقلية أَيَّام زِيَادَة الله الأول من بني الْأَغْلَب على يَد أَسد بن الْفُرَات شيخ الْفتيا وَصَاحب الإِمَام ابْن الْقَاسِم بعد أَن كَانَ مُعَاوِيَة بن حديج أغزى صقلية أَيَّام ولَايَته على الْمغرب فَلم يفتح الله عَلَيْهِ وَفتحت على يَد ابْن الْأَغْلَب وقائده ابْن الْفُرَات كَمَا قُلْنَا وَاسْتمرّ حسان واليا على الْمغرب إِلَى أَن عَزله عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان صَاحب مصر وَكَانَ أَمر الْمغرب إِذْ ذَاك إِلَيْهِ فاستخلف حسان على الْمغرب رجلا من جنده اسْمه صَالح وارتحل إِلَى الْمشرق بِمَا جمعه من ذريع المَال ورائع السَّبي ونفيس الذَّخِيرَة فَلَمَّا انْتهى إِلَى مصر أهْدى إِلَى عبد الله مِائَتي جَارِيَة من بَنَات مُلُوك الفرنج والبربر فَلم يقنعه ذَلِك وانتزع كثيرا مِمَّا بِيَدِهِ وَلما قدم على الْخَلِيفَة بِدِمَشْق وَهُوَ يَوْمئِذٍ الْوَلِيد بن عبد الْملك شكا إِلَيْهِ مَا صنع بِهِ عَمه عبد الْعَزِيز فَغَاظَهُ ذَلِك وَأنْكرهُ ثمَّ أهْدى إِلَيْهِ حسان من غَرِيب النفائس الَّتِي أخفاها عَن عبد الله مَا استعظمه الْوَلِيد وشكره عَلَيْهِ ووعده برده إِلَى عمله فَحلف حسان أَن لَا يَلِي لبني أُميَّة عملا أبدا وَذكر الْبكْرِيّ أَن حسان بن النُّعْمَان هَذَا هُوَ فاتح تونس وَقَالَ غَيره بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فاتحها زُهَيْر بن قيس البلوي وَلم تتوفر الدَّوَاعِي على تَحْقِيق ذَلِك لِأَنَّهَا لم تكن يَوْمئِذٍ قَاعِدَة ملك وَإِنَّمَا عظم أمرهَا فِي دولة الحفصيين فَمن بعدهمْ وَالله تَعَالَى أعلم ولَايَة مُوسَى بن نصير على الْمغرب وفتحه الأندلس لما أرتحل حسان بن النُّعْمَان إِلَى الْمشرق اخْتلفت أَيدي البربر فِيمَا بَينهم على إفريقية وَالْمغْرب فكثرت الْفِتَن وخلت أَكثر الْبِلَاد حَتَّى قدم مُوسَى بن نصير فتلافى أمرهَا وَلم شعثها قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي جذوة المقتبس ولي مُوسَى بن نصير إفريقية وَالْمغْرب سنة سبع وَسبعين وَقَالَ غَيره سنة سبع وَثَمَانِينَ وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ مُوسَى بن نصير من التَّابِعين وَرُوِيَ عَن تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ عَاقِلا كَرِيمًا شجاعا ورعا متقيا لله تَعَالَى لم يهْزم لَهُ جَيش قطّ وَلما قدم الْمغرب وجد أَكثر مدنه خَالِيَة لاخْتِلَاف أَيدي البربر عَلَيْهَا وَكَانَت الْبِلَاد فِي قحط شَدِيد فَأمر النَّاس بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وَإِصْلَاح ذَات الْبَين وَخرج بهم إِلَى الصَّحرَاء وَمَعَهُ سَائِر الْحَيَوَانَات فَفرق بَينهَا وَبَين أَوْلَادهَا فَوَقع الْبكاء والصراخ وَأقَام على ذَلِك إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ صلى وخطب النَّاس وَلم يذكر الْوَلِيد بن عبد الْملك فَقيل لَهُ أَلا تَدْعُو لأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ هَذَا مقَام لَا يدعى فِيهِ غير الله عز وَجل فسقوا حَتَّى رووا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَقَالَ ابْن خلدون كتب الْخَلِيفَة الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى عَمه عبد الله بن مَرْوَان وَهُوَ على مصر وَيُقَال عبد الْعَزِيز أَن يبْعَث بمُوسَى بن نصير إِلَى إفريقية وَكَانَ أَبوهُ نصير من حرس مُعَاوِيَة فَبَعثه عبد الله فَقدم القيروان وَبهَا صَالح خَليفَة حسان فَعَزله وَرَأى أَن البربر قد طمعت فِي الْبِلَاد فَوجه الْبعُوث فِي النواحي وَبعث ابْنه عبد الله فِي الْبَحْر إِلَى جَزِيرَة ميورقة فغنم وسبى وَعَاد ثمَّ بَعثه إِلَى نَاحيَة أُخْرَى وَبعث ابْنه مَرْوَان كَذَلِك وَتوجه هُوَ إِلَى نَاحيَة فغنموا وَسبوا وعادوا وَبلغ الْخمس من الْمغنم سبعين ألف رَأس من السَّبي قَالَ أَبُو شُعَيْب الصَّدَفِي لم يسمع فِي الْإِسْلَام بِمثل سَبَايَا مُوسَى بن نصير وَنقل الْكَاتِب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الْقَرَوِي الْمَعْرُوف بِابْن الرفيق أَن مُوسَى بن نصير لما فتح سقوما كتب إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك أَنه صَار لَك من سبي سقوما مائَة ألف رَأس فَكتب إِلَيْهِ الْوَلِيد وَيحك إِنِّي أظنها من بعض كذباتك فَإِن كنت صَادِقا فَهَذَا محشر الْأمة ثمَّ خرج مُوسَى غازيا أَيْضا وتتبع البربر وَقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عَظِيما وتوغل فِي جِهَات الْمغرب حَتَّى انْتهى إِلَى السوس الْأَدْنَى ثمَّ تقدم إِلَى سبتة فصانعه صَاحبهَا يليان الغماري بالهدايا وأذعن للجزية وَكَانَ نَصْرَانِيّا فأقره عَلَيْهَا واسترهن ابْنه وَأَبْنَاء قومه على على الطَّاعَة فَلَمَّا رأى بَقِيَّة البربر مَا نزل بهم استأمنوا لمُوسَى وبذلوا لَهُ الطَّاعَة فَقبل مِنْهُم وَولى عَلَيْهِم وَقَالَ ابْن خلدون أَيْضا غزا مُوسَى بن نصير طنجة وافتتح درعة وصحراء تافيلالت وَأرْسل ابْنه إِلَى السوس فأذعن البربر لسلطانه وَأخذ رهائن المصامدة فأنزلهم بطنجة وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَولى عَلَيْهَا طَارق بن زِيَاد اللَّيْثِيّ قَالَ وَأنزل مَعَه سَبْعَة وَعشْرين ألفا من الْعَرَب واثني عشر ألفا من البربر وَأمرهمْ ان يعلمُوا البربر الْقُرْآن وَالْفِقْه قَالَ ثمَّ أسلم بَقِيَّة البربرعلى يَد إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر سنة إِحْدَى وَمِائَة أَيَّام عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ اه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَلما اسْتَقَرَّتْ الْقَوَاعِد لمُوسَى بالمغرب كتب إِلَى طَارق وَهُوَ بطنجة يَأْمُرهُ بغزو الأندلس فَغَزَاهَا فِي اثْنَي عشر ألفا من البربر وَخلق يسير من الْعَرَب وَعبر الْبَحْر من سبتة إِلَى الجزيرة الخضراء وَصعد الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمَعْرُوف الْيَوْم بجبل طَارق يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس خلون من رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين لِلْهِجْرَةِ وَذكر عَن طَارق أَنه كَانَ نَائِما وَقت العبور فِي الْمركب فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة يَمْشُونَ على المَاء حَتَّى مروا بِهِ فبشره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْفَتْح وَأمره بالرفق بِالْمُسْلِمين وَالْوَفَاء بالعهد ذكر ذَلِك ابْن بشكوال وَقَالَ ابْن خلدون فِي أَخْبَار الأندلس إِن أمة القوط ملكوا جَزِيرَة الأندلس نَحْو أَرْبَعمِائَة سنة إِلَى أَن جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وَالْفَتْح وَكَانَ ملكهم لذَلِك الْعَهْد يُسمى لذريق وَهُوَ سمة مُلُوكهمْ كجرجير سمة مُلُوك صقلية وَكَانَت لَهُم خطْوَة وَرَاء الْبَحْر فِي هَذِه العدوة الجنوبية خطوها من زقاق الْبَحْر إِلَى بِلَاد البربر واستعبدوهم وَكَانَ ملك البربر بذلك الْقطر الَّذِي هُوَ الْيَوْم جبال غمارة يُسمى يليان وَكَانَ يدين بطاعتهم وبملتهم ومُوسَى بن نصير أَمِير الْعَرَب إِذْ ذَاك عَامل بإفريقية من قبل الْوَلِيد بن عبد الْملك ومنزله بالقيروان وَكَانَ قد أغزا لذَلِك الْعَهْد عَسَاكِر الْمُسلمين بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى ودوخ أقطاره وأوغل فِي جبال طنجة حَتَّى وصل إِلَى خليج الزقاق واستنزل يليان لطاعة الْإِسْلَام وَخلف مَوْلَاهُ طَارق بن زِيَاد واليا بطنجة وَكَانَ يليان ينقم على لذريق ملك القوط بالأندلس فعلة فعلهَا زَعَمُوا بابنته الناشئة فِي دَاره على عَادَتهم فِي بَنَات بطارقتهم فَغَضب لذَلِك وَأَجَازَ إِلَى لذريق فَأخذ ابْنَته مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره ثَانِيَة إِلَى البربر لما كَانَ شهر ربيع الأول من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع بِهِ فنذرت بذلك أمه الْحرَّة خناثى بنت بكار ففرت من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد تبعها ابْنهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَنزل بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ الودايا وَأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا لَهُ فاستعطفهم السُّلْطَان وَقَالَ لَهُم أَنْتُم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وَأُرِيد مِنْكُم أَن تَكُونُوا معي على كلمة وَاحِدَة وعاهدهم وَعَاهَدُوهُ وَرَجَعُوا وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه أَن أَحْمد بن عَليّ الريفي قد كَاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه وَاتفقَ مَعَهم على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى زين العابدين وَكَانَ يَوْمئِذٍ عِنْده بطنجة وَأَنَّهُمْ وافقوه فَوَجَمَ لَهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ استعجل أَمر الْمولى زين العابدين ففر الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد البربر كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ زين العابدين بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله كَانَ ابْتِدَاء أَمر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين أَنه قدم مكناسة فِي أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء فَلَمَّا سمع بِهِ أَمر بسجنه قبل أَن يجْتَمع بِهِ فسجن مُدَّة ثمَّ أَمر يَوْمًا بِإِخْرَاجِهِ وضربه فَضرب وَهُوَ فِي قَيده ضربا وجيعا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت كَمَا مر وَمَعَ ذَلِك فَلم ينْطق بِكَلِمَة ثمَّ رده إِلَى السجْن ثمَّ أَمر ببعثه مُقَيّدا إِلَى سجلماسة كي يسجن بهَا مَعَ بعض الْأَشْرَاف المسجونين هُنَالك فَلَمَّا سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من صفرو إِلَى فاس وَمن هُنَالك بعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وأمروه أَن يحْتَفظ بِهِ مكرما مبجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ألفا فَالْتَقوا بفحص شريش فَهَزَمَهُ الله ونفلهم أَمْوَال أهل الْكفْر ورقابهم وَكتب طَارق إِلَى مُوسَى بِالْفَتْح والغنائم فحركته الْغيرَة وَكتب إِلَى طَارق يتوعده إِن توغل بِغَيْر إِذْنه ويأمره أَن لَا يتَجَاوَز مَكَانَهُ حَتَّى يلْحق بِهِ واستخلف على القيروان وَلَده عبد الله وَخرج مَعَه حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري ونهض من القيروان سنة ثَلَاث وَتِسْعين فِي عَسْكَر ضخم من وُجُوه الْعَرَب والموالي وعرفاء البربر فَوَافى خليج الزقاق مَا بَين طنجة والجزيرة الخضراء فَأجَاز إِلَى الأندلس وتلقاه طَارق فانقاد وَاتبع وَيُقَال إِن مُوسَى لما سَار إِلَى الأندلس عبر الْبَحْر إِلَيْهَا من نَاحيَة الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمَعْرُوف الْيَوْم بجبل مُوسَى وتنكب النُّزُول على جبل طَارق وتمم الْفَتْح وتوغل فِي الأندلس إِلَى برشلونة فِي جِهَة الشرق وأربونة فِي الْجوف وَضم قادس فِي الغرب ودوخ أقطارها وَجمع غنائمها وَأجْمع أَن يَأْتِي الْمشرق من نَاحيَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة ويتجاوز إِلَى الشَّام دروب الأندلس ودروبه ويخوض إِلَيْهِ مَا بَينهمَا من بِلَاد الْأَعَاجِم وأمم النَّصْرَانِيَّة مُجَاهدًا فيهم ومستلحما لَهُم إِلَى أَن يلْحق بدار الْخلَافَة من دمشق ونمى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة الْوَلِيد فَاشْتَدَّ قلقه بمَكَان الْمُسلمين من دَار الْحَرْب وَرَأى أَن مَا هم بِهِ مُوسَى تغرير بِالْمُسْلِمين فَبعث إِلَيْهِ بالتوبيخ والانصراف وَأسر إِلَى سفيره أَن يرجع بِالْمُسْلِمين إِن لم يرجع هُوَ وَكتب لَهُ بذلك عَهده ففت ذَلِك فِي عزم مُوسَى وقفل عَن الأندلس بعد أَن أنزل الرابطة والحامية بثغورها وَاسْتعْمل ابْنه عبد الْعَزِيز لسدها وَجِهَاد غدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دَار إِمَارَة واحتل مُوسَى بالقيروان سنة خمس وَتِسْعين وارتحل إِلَى الْمشرق سنة سِتّ بعْدهَا بِمَا كَانَ مَعَه من الْغَنَائِم والذخائر وَالْأَمْوَال على الْعجل وَالظّهْر يُقَال إِن من جُمْلَتهَا ثَلَاثِينَ ألف رَأس من السَّبي وَولى على إفريقية ابْنه عبد الله واندرجت ولَايَة الأندلس يَوْمئِذٍ فِي ولَايَة الْمغرب فَكَانَ صَاحب القيروان نَاظرا فِي الْجَمِيع وَقدم مُوسَى على سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَقد ولي الْخلَافَة بعد الْوَلِيد فسخطه ونكبه وثارت عَسَاكِر الأندلس بِابْنِهِ عبد الْعَزِيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فَقَتَلُوهُ لِسنتَيْنِ من ولَايَته بإغراء الْخَلِيفَة سُلَيْمَان وَكَانَ خيرا فَاضلا وافتتح فِي ولَايَته مَدَائِن كَثِيرَة وَكَانَ الَّذِي تولى قَتله حبيب بن أبي عُبَيْدَة الفِهري وَكَانَ سَبَب غضب سُلَيْمَان على مُوسَى أَنه لما توجه إِلَى الْمشرق وانْتهى إِلَى مصر وصل أَشْرَافهَا وفقهاءها وبلغة الْخَبَر بِمَرَض الْوَلِيد ووافاه كِتَابه يستحثه على الْقدوم ووافاه كتاب آخر من أَخِيه سُلَيْمَان يثبطه فأسرع مُوسَى اللحاق بالوليد فَقدم عَلَيْهِ قبل وَفَاته بِثَلَاثَة أَيَّام وَدفع إِلَيْهِ مَا مَعَه من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال فغاظ ذَلِك سُلَيْمَان وأساء مكافأته حِين أفْضى الْأَمر إِلَيْهِ فنكبه ونكب آل بَيته أجمع وَكَانَت وَفَاة مُوسَى رَحمَه الله بِالْمَدِينَةِ المنورة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَقيل غير ذَلِك قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن أبي زيد القيرواني ارْتَدَّت البربر اثْنَتَيْ عشرَة مرّة من طرابلس إِلَى طنجة وَلم يسْتَقرّ إسْلَامهمْ حَتَّى عبر مُوسَى بن نصير الْبَحْر إِلَى الأندلس وَأَجَازَ مَعَه كثيرا من رجالات البربر برسم الْجِهَاد فاستقروا هُنَالك فَحِينَئِذٍ اسْتَقر الْإِسْلَام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه وتناسوا الرِّدَّة ثمَّ نبضت فيهم عروق الخارجية بعد على مَا نذكرهُ ولَايَة مُحَمَّد بن يزِيد على الْمغرب لما ارتحل مُوسَى بن نصير إِلَى الْمشرق ونكبه الْخَلِيفَة سُلَيْمَان كَمَا قُلْنَا عزل ابْنه عبد الله عَن الْمغرب وَولى مَكَانَهُ مُحَمَّد بن يزِيد مولى قُرَيْش وَيُقَال مولى الْأَنْصَار فَقدم القيروان سنة سبع وَتِسْعين وَكَانَ سُلَيْمَان قد أمره باستئصال آل مُوسَى بن نصير واصطلام نعمتهم فَأتى على ذَلِك ثمَّ لما قتل أهل الأندلس أَمِيرهمْ عبد الْعَزِيز بن مُوسَى ولوا عَلَيْهِم أَيُّوب بن حبيب اللَّخْمِيّ وَهُوَ ابْن أُخْت مُوسَى فَوجه مُحَمَّد بن يزِيد الْحر بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ واليا من قبله على الأندلس فَقَدمهَا وَاسْتقر أَمِيرا بهَا سنتَيْن وَثَمَانِية أشهر قَالُوا وَكَانَ مُحَمَّد بن يزِيد هَذَا عادلا حسن السِّيرَة قَاتل الْمُخَالفين بثغور الْمغرب وغنم وسبى وَلم يزل واليا عَلَيْهِ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 مَاتَ سُلَيْمَان فَكَانَت ولَايَته سنتَيْن وأشهرا وَالله أعلم ولَايَة إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر على الْمغرب لما توفّي سُلَيْمَان بن عبد الْملك رَحمَه الله وَولي الْخلَافَة بعده عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ اسْتعْمل على الْمغرب إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر مولى بني مَخْزُوم فَقدم القيروان سنة مائَة وَكَانَ خير أَمِير وَخير وَال وَلم يزل حَرِيصًا على دُعَاء البربر إِلَى الْإِسْلَام حَتَّى تمّ إسْلَامهمْ على يَده وَبث فيهم من فقههم فِي دينهم وَذكر أَبُو الْعَرَب مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمِيم فِي تَارِيخ إفريقية أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أرسل عشرَة من التَّابِعين يفقهُونَ أهل الْمغرب فِي الدّين مِنْهُم حبَان بن أبي جبلة وَلما توفّي عمر بن عبد الْعَزِيز سنة إِحْدَى وَمِائَة وبويع يزِيد بن عبد الْملك وَجه يزِيد بن أبي مُسلم الثَّقَفِيّ واليا على الْمغرب على مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ولَايَة يزِيد بن أبي مُسلم على الْمغرب هُوَ يزِيد بن أبي مُسلم دِينَار مولى الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ الظَّالِم الْمَشْهُور وَكَانَ يزِيد هَذَا كَاتبه وَصَاحب شرطته قَالَ ابْن خلكان كَانَت فِيهِ كِفَايَة ونهضة قدمه الْحجَّاج بسببهما وَكَانَ من خَبره أَن الْحجَّاج لما حَضرته الْوَفَاة اسْتخْلف يزِيد هَذَا على خراج الْعرَاق فأقره الْوَلِيد بن عبد الْملك واغتبط بِهِ وَقَالَ مَا مثلي وَمثل الْحجَّاج وَابْن أبي مُسلم بعده إِلَّا كَرجل ضَاعَ مِنْهُ دِرْهَم فَوجدَ دِينَارا وَلما مَاتَ الْوَلِيد وَولي بعده أَخُوهُ سُلَيْمَان عزل ابْن أبي مُسلم وَأمر بِهِ فأحضر بَين يَدَيْهِ فِي جَامِعَة وَكَانَ رجلا قَصِيرا دميما قَبِيح الْوَجْه عَظِيم الْبَطن تحتقره الْعين فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ سُلَيْمَان قَالَ أَنْت يزِيد بن أبي مُسلم قَالَ نعم اصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لعن الله من أشركك فِي أَمَانَته وحكمك فِي دينه قَالَ لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإنَّك رايتني وَالْأَمر عني مُدبر وَلَو رَأَيْتنِي وَالْأَمر عَليّ مقبل لاستعظمت مَا استصغرت ولاستجللت مَا احتقرت فَقَالَ سُلَيْمَان قَاتله الله فَمَا أربط جاشه وأعضب لِسَانه ودارت بَينه وَبَين سُلَيْمَان محاورات غير هَذِه ثمَّ كشف عَنهُ فَلم يجد عَلَيْهِ خِيَانَة فهم باستكتابه فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز أنْشدك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا تحيي ذكر الْحجَّاج باستكتاب كَاتبه فَقَالَ إِنِّي كشفت عَنهُ فَلم أجد عَلَيْهِ خِيَانَة يَا أَبَا حَفْص فَقَالَ عمر أَنا أوجدك من هُوَ أعف عَن الدِّينَار وَالدِّرْهَم مِنْهُ فَقَالَ سُلَيْمَان من هُوَ قَالَ إِبْلِيس مَا مس دِينَارا وَلَا درهما قطّ وَقد أهلك هَذَا الْخلق فَتَركه سُلَيْمَان وَحدث جوَيْرِية بن أَسمَاء أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما ولي الْخلَافَة بلغه أَن يزِيد بن أبي مُسلم خرج فِي جَيش من جيوش الْمُسلمين فَكتب إِلَى عَامل الْجَيْش برده وَقَالَ إِنِّي لأكْره أَن أستنصر بِجَيْش هُوَ فيهم فَلَمَّا توفّي عمر رَضِي الله عَنهُ وأفضت الْخلَافَة إِلَى يزِيد بن عبد الْملك عزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 إِسْمَاعِيل بن عبيد الله عَن الْمغرب وَولى مَكَانَهُ يزِيد بن أبي مُسلم فأساء السِّيرَة قَالُوا وَوجه عَنْبَسَة بن سحيم الْكَلْبِيّ واليا من قبله على الأندلس فاستقام على يَده أمرهَا ثمَّ ثار أهل الْمغرب بِابْن أبي مُسلم فَقَتَلُوهُ سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَة لشهر من ولَايَته قَالَ الطَّبَرِيّ وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ قد عزم أَن يسير فِي أهل الْمغرب بسيرة الْحجَّاج فِي أهل الْعرَاق فَإِن الْحجَّاج كَانَ وضع الْجِزْيَة على رِقَاب الَّذين أَسْلمُوا من أهل السوَاد وَأمر بردهمْ إِلَى قراهم ورساتيقهم على الْحَالة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قبل الْإِسْلَام فَلَمَّا عزم يزِيد على ذَلِك تآمر البربر فِيهِ وَأَجْمعُوا على قَتله فَقَتَلُوهُ وولوا عَلَيْهِم مُحَمَّد بن يزِيد الَّذِي كَانَ قبله فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ وَكَانَ غازيا بصقلية فَلَمَّا قدم بمغانمه ولوه أَمرهم وَقَالَ ابْن عَسَاكِر ولوا بعده إِسْمَاعِيل بن عبيد الله وَالله أعلم ثمَّ كتب أهل الْمغرب إِلَى الْخَلِيفَة يزِيد إِنَّا لم نخلع يدا من طَاعَة وَلَكِن يزِيد بن أبي مُسلم سامنا مَا لَا يرضى بِهِ الله وَرَسُوله فقتلناه وأعدنا عاملك فَكتب إِلَيْهِم يزِيد إِنِّي لم أَرض مَا صنع ابْن أبي مُسلم وَأقر مُحَمَّد بن يزِيد على الْمغرب وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة كَمَا قُلْنَا وَحدث الوضاح بن أبي خَيْثَمَة وَكَانَ حَاجِب عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ أَمرنِي عمر بن الْعَزِيز يَعْنِي فِي مرض مَوته بِإِخْرَاج قوم من السجْن وَفِيهِمْ يزِيد بن أبي مُسلم فأخرجتهم وَتركته فحقد عَليّ فَلَمَّا مَاتَ عمر هربت إِلَى أفريقية خوفًا مِنْهُ قَالَ فَبينا أَنا بإفريقية إِذْ قيل قدم ابْن ابي مُسلم واليا فاختفيت فَأعْلم بمكاني وَأمر بِي فَحملت إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ طالما سَأَلت الله أَن يمكنني مِنْك فَقلت وَأَنا وَالله لطالما سَأَلت الله أَن يعيذني مِنْك فَقَالَ مَا أَعَاذَك الله وَالله لأَقْتُلَنك وَلَو سابقني فِيك ملك الْمَوْت لسبقته ثمَّ دَعَا بِالسَّيْفِ والنطع فَأتي بهما وَأمر بالوضاح فأقيم عَلَيْهِ مكتوفا وَقَامَ السياف وَرَاءه ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَتقدم يزِيد إِلَيْهَا فَلَمَّا سجد أَخَذته السيوف وَدخل على الوضاح من قطع كِتَافِهِ وَأطْلقهُ فسبحان اللَّطِيف الْخَبِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ولَايَة بشر بن صَفْوَان على الْمغرب لما كتب أهل الْمغرب إِلَى الْخَلِيفَة يزِيد بن عبد الْملك بِمَا كَانَ مِنْهُم إِلَى ابْن أبي مُسلم وَمَا اعتذروا بِهِ فِي شَأْنه أقرّ عَلَيْهِم مُحَمَّد بن يزِيد أَو إِسْمَاعِيل بن عبيد الله على الْخلاف الْمُتَقَدّم مَا شَاءَ الله ثمَّ ولى عَلَيْهِم بشر بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ وَكَانَ واليا على مصر فَقدم القيروان سنة ثَلَاث وَمِائَة فمهد الْمغرب وَسكن أرجاءه واستصفى بقايا آل مُوسَى بن نصير ثمَّ وَفد على يزِيد بن عبد الْملك فَوَجَدَهُ قد مَاتَ وبويع هِشَام بن عبد الْملك فَرده هِشَام إِلَى عمله من الْمغرب فاستقر بالقيروان واستدعى مِنْهُ أهل الأندلس واليا يقوم بأمرهم وَذَلِكَ بعد مقتل عَنْبَسَة بن سحيم الْكَلْبِيّ شَهِيدا فِي بعض غزوات الفرنج فولى عَلَيْهِم يحيى بن سَلمَة الْكَلْبِيّ فَقدم الأندلس آخر سنة سبع وَمِائَة فَأصْلح شَأْنهَا ثمَّ غزا بشر بن صَفْوَان صقلية بِنَفسِهِ سنة تسع وَمِائَة فَأصَاب سبيا كثيرا وَرجع إِلَى القيروان منصورا فَكَانَت منيته عقب ذَلِك ولَايَة عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب لما توفّي بشر بن صَفْوَان وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام بن عبد الْملك ولى على الْمغرب عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَهُوَ ابْن أخي أبي الْأَعْوَر السّلمِيّ وَقيل ابْن ابْنه فَقدم القيروان سنة عشر وَمِائَة وَنظر فِي أَمر الْمغرب والأندلس مَعًا وَولى من قبله على الأندلس وُلَاة أَرْبَعَة وَاحِدًا بعد وَاحِد وهم عُثْمَان بن أبي نسعة الخثعي وَحُذَيْفَة بن الْأَحْوَص الْقَيْسِي والهيثم بن عبيد الْكلابِي وَمُحَمّد بن عبد الله الْأَشْجَعِيّ وَكَانَ عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن قد أَخذ عُمَّال بشر بن صَفْوَان قبله وعذبهم فَكتب بَعضهم بذلك إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام فَعَزله لأَرْبَع سِنِين وَسِتَّة أشهر من ولَايَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب على الْمغرب عبيد الله هَذَا هُوَ مولى بني سلول وَكَانَ رَئِيسا نبيلا وأميرا جَلِيلًا وخطيبا مصقعا ولاه هِشَام بن عبد الْملك على الْمغرب بعد عزل عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ وَأمره أَن يمْضِي إِلَيْهِ من مصر فاستخلف عبيد الله على مصر ابْنه أَبَا الْقَاسِم وَسَار إِلَى الْمغرب فَقدم القيروان فِي ربيع الآخر سنة أَربع عشرَة وَمِائَة وَاسْتعْمل عمر بن عبيد الله الْمرَادِي على طنجة وَالْمغْرب الْأَقْصَى وَاسْتعْمل ابْنه إِسْمَاعِيل بن عبيد الله مَعَه على السوس وَمَا وَرَاءه وَاسْتعْمل على الأندلس عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الغافقي فَكَانَت لَهُ فِي الفرنجة وقائع وَأُصِيب جَيْشه فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فِي مَوضِع يعرف ببلاط لشهداء وَبِه عرفت الْغَزْوَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ثمَّ ولى عبيد الله على الأندلس عبد الْملك بن قطن الفِهري ثمَّ بعده عقبَة بن الْحجَّاج السَّلُولي فَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة وَتمكن سُلْطَان عبيد الله بالمغرب وَبنى جَامع الزيتونة بتونس لَكِن صحّح صَاحب المؤنس أَن أول مختط للجامع الْمَذْكُور حسان بن النُّعْمَان وتممه عبيد الله هَذَا وَاتخذ بهَا دَار صناعَة لإنشاء المراكب البحرية ثمَّ بعث حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع الفِهري غازيا أَرض الْمغرب فَانْتهى إِلَى السوس الْأَقْصَى وَقَاتل مسوفة ثمَّ تخطاهم إِلَى تخوم السودَان وَأصَاب من مَغَانِم الذَّهَب وَالْفِضَّة والسبي شَيْئا كثيرا ودوخ بِلَاد البربر وقبائلها وَرجع ثمَّ أغزاه ثَانِيَة جَزِيرَة صقلية فَركب الْبَحْر إِلَيْهِم سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة وَمَعَهُ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدن صقلية وَضرب على أَهلهَا الْجِزْيَة وأثخن فِي سَائِر الجزيرة وَكَانَ عمر بن عبيد الله فِي هَذِه الْمدَّة بطنجة قد أَسَاءَ السِّيرَة فِي برابرة الْمغرب الْأَقْصَى وَأَرَادَ أَن يُخَمّس من أسلم مِنْهُم وَزعم أَنه الْفَيْء فنفرت قُلُوب البربر عَنهُ وأحسوا بِأَنَّهُم طعمة للْعَرَب وثقلت عَلَيْهِم وَطْأَة عُمَّال ابْن الحبحاب جملَة بِمَا كَانُوا يطالبونهم بِهِ من الْوَظَائِف البربرية مثل الإدم العسلية الألوان وأنواع طرف الْمغرب فَكَانُوا يتغالون فِي جمع ذَلِك وانتخابه حَتَّى كَانَت الصرمة من الْغنم تهْلك ذبحا لاتخاذ الْجُلُود العسلية من سخالها وَلَا يُوجد فِيهَا مَعَ ذَلِك إِلَّا الْوَاحِد وَمَا قرب مِنْهُ فَكثر عيثهم بذلك فِي أَمْوَال البربر فَأَجْمعُوا الانتقاض وبلغهم مسير العساكر مَعَ حبيب بن أبي عُبَيْدَة إِلَى صقلية فجرأهم ذَلِك على مُرَادهم وثار ميسرَة المضغري بأحواز طنجة على مَا نذكرهُ وَكَانَت بِدعَة الخارجية يَوْمئِذٍ قد سرت فِي البربر وتلقنها رؤوسهم عَن عرب الْعرَاق الساقطين إِلَى الْمغرب نزعوا بهَا إِلَى الْأَطْرَاف داعين أغمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الْأُمَم إِلَيْهَا عَسى أَن تكون لَهُم دولة فاستحكمت صبغتها فِي طغام البربر ووشجت فيهم عروقها فَكَانَ ذَلِك من أقوى البواعث والأسباب فِي خرق حجاب الهيبة على الْخُلَفَاء وانتقاض البربر على الْعَرَب ومزاحمتهم لَهُم فِي سلطانهم ولنذكر هُنَا أصل الْخَوَارِج وفرقهم على الْجُمْلَة ثمَّ نعود إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ فَنَقُول قد تقدم لنا فِي خلَافَة عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ من أَمر التَّحْكِيم وَمَا نَشأ عَنهُ من خُرُوج طَائِفَة من الْقُرَّاء عَلَيْهِ وَقَالُوا حكمت الرِّجَال فِي دين الله وَلَا حكم إِلَّا لله وَأَن عليا رَضِي الله عَنهُ استأصلهم بالنهروان فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه قد قطع الله دابرهم آخر الدَّهْر فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم لفي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء لَا تخرج خَارِجَة إِلَّا خرجت بعْدهَا مثلهَا فَصدق الله قَول عَليّ ونبغت مِنْهُم طوائف بالعراق وَغَيره وتكرر خُرُوجهمْ على الْخُلَفَاء وشرى داؤهم وأعيى دواؤهم وتعددت فرقهم ومذاهبهم قَالَ ابْن خلدون افْتَرَقت الْخَوَارِج على أَربع فرق الأولى الْأزَارِقَة أَصْحَاب نَافِع بن الْأَزْرَق الْحَنَفِيّ وَكَانَ رَأْيه الْبَرَاءَة من سَائِر الْمُسلمين وتكفيرهم والاستعراض يَعْنِي الْقَتْل من غير سُؤال عَن حَال أحد وَقتل الْأَطْفَال وَاسْتِحْلَال الْأَمَانَة لِأَنَّهُ يراهم كفَّارًا الثَّانِيَة النجدية وَيُقَال لَهُم النجدات أَصْحَاب نجدة بن عَامر الْحَنَفِيّ وَهُوَ بِخِلَاف الْأزَارِقَة فِي ذَلِك كُله الثَّالِثَة الإباضية أَصْحَاب عبد الله بن أباض التَّمِيمِي ثمَّ الصريمي وهم يرَوْنَ أَن الْمُسلمين كلهم يحكم لَهُم بِحكم الْمُنَافِقين فَلَا ينتهون إِلَى الرَّأْي الأول وَلَا يقفون عِنْد الثَّانِي وَلَا يحرمُونَ مناكحة الْمُسلمين وَلَا موارثتهم وهم عِنْدهم كالمنافقين وَمن هَؤُلَاءِ البيهسية أَصْحَاب أبي بيهس هَيْصَم بن جَابر الضبعِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الرَّابِعَة الصفرية وهم موافقون للإباضية إِلَّا فِي الْقعدَة يَعْنِي الَّذين يَقْعُدُونَ عَن الْقِتَال مَعَهم فَإِن الإباضية أَشد على الْقعدَة مِنْهُم وَرُبمَا تشعبت هَذِه الآراء بعد ذَلِك وَاخْتلف فِي تَسْمِيَة الصفرية فَقيل نسبوا إِلَى عبد الله بن صفار الصريمي وَقيل اصفروا بِمَا نهكتهم الْعِبَادَة وَفِي الْقَامُوس الصفرية بِالضَّمِّ وبكسر قوم من الحرورية نسبوا إِلَى عبد الله بن صفار بن ككتان أَو إِلَى زِيَاد بن الْأَصْفَر أَو إِلَى صفرَة ألوانهم أَو لخلوهم من الدّين اه وَقد كَانَت الْخَوَارِج من قبل هَذَا الِافْتِرَاق على رَأْي وَاحِد لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا فِي الشاذ من الْفُرُوع وَفِي أصل افتراقهم مكاتبات بَين نَافِع بن الْأَزْرَق وَأبي بيهس وَعبد الله بن أباض ذكرهَا الْمبرد فِي الْكَامِل فَلْتنْظرْ هُنَالك وَكَانَت خوارج الْمغرب إباضية وصفرية فَلَمَّا كَانَت ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب ونال عماله من البربر مَا نالوا من الْجور والعسف انتقضوا عَلَيْهِ وثار ميسرَة المضغري الْمَعْرُوف بالخفير بأحواز طنجة ومضغرة بطن من بني فاتن بن تامضيت بن ضرى بن زجيك بن مادغيس الأبتر وَكَانُوا على رَأْي الصفرية وَكَانَ شيخهم ميسرَة الْمَذْكُور مقدما فِي ذَلِك الْمَذْهَب فَحمل البربر على الْخُرُوج عَن الطَّاعَة وزحف إِلَى عمر بن عبيد الله بطنجة فَقتله سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة وَولى عَلَيْهَا من قبله عبد الْأَعْلَى بن جريج الإفْرِيقِي رومي الأَصْل وَمولى للْعَرَب كَانَ إِمَام الصفرية فِي انتحال مَذْهَبهم فَقَامَ بأمرهم مُدَّة ثمَّ تقدم إِلَى السوس فَقتله عاملها إِسْمَاعِيل بن عبيد الله وَكَانَ ميسرَة لما استولى على طنجة وَالْمغْرب الْأَقْصَى قد بَايعه البربر بالخلافة وخاطبوه بأمير الْمُؤمنِينَ إِذْ الْخَوَارِج لَا يشترطون فِي الإِمَام الْأَعْظَم القريشية محتجين بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 رَأسه زبيبة) وَهُوَ مؤول واضطرم الْمغرب نَارا وفشت نحلة الخارجية فِي جَمِيع قبائله وانتقض أمره على خلفاء الْمشرق فَلم يُرَاجع طاعتهم بعد ثمَّ إِن ابْن الحبحاب بعث إِلَى ميسرَة خَالِد بن حبيب الفِهري فِيمَن كَانَ قد بَقِي عِنْده من الْجَيْش واستقدم أَبَاهُ حبيب بن أبي عُبَيْدَة من صقلية فَقدم فِيمَن مَعَه من عَسَاكِر الْمُسلمين وَبَعثه فِي أثر خَالِد ونهض إِلَيْهِم ميسرَة فِي جموع البربر فَلَقِيَهُمْ بأحواز طنجة فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا ثمَّ تحاجزوا وَرجع ميسرَة إِلَى طنجة فَسَاءَتْ سيرته فِي البربر ونقموا عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ فَقَتَلُوهُ وولوا عَلَيْهِم مَكَانَهُ خَالِد بن حميد الزناتي قَالَ ابْن عبد الحكم هُوَ من هتورة إِحْدَى بطُون زناتة فَقَامَ بأمرهم وَاجْتمعَ إِلَيْهِ البربر فزحف إِلَى الْعَرَب وسرح إِلَيْهِ ابْن الحبحاب عَسَاكِر الْخَلِيفَة هِشَام بن عبد الْملك وعَلى مقدمتها خَالِد بن حبيب الفِهري فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي شلف فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَقتل خَالِد بن حبيب ووجوه من مَعَه من الْعَرَب فسميت الْوَقْعَة وقْعَة الْأَشْرَاف وانتقض الْمغرب على ابْن الحبحاب من سَائِر جهاته وَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل الأندلس فعزلوا عَامله عقبَة بن الْحجَّاج السَّلُولي وولوا عَلَيْهِم عبد الْملك بن قطن الفِهري ومرج أَمر النَّاس وانْتهى الْخَبَر بذلك كُله إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام بِدِمَشْق فعزل ابْن الحبحاب عَن الْمغرب وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة لما اختلت الْأُمُور على ابْن الحبحاب اجْتمع النَّاس وعزلوه فَبلغ ذَلِك هشاما فَغَضب وَكتب إِلَى ابْن الحبحاب بالقدوم فَخرج فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ولَايَة كُلْثُوم بن عِيَاض على الْمغرب ومقتله لما انْتهى إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام مَا كَانَ من أَمر خوارج البربر بالمغرب والأندلس وخلعهم للطاعة شقّ ذَلِك عَلَيْهِ واستضعف ابْن الحبحاب فَكتب إِلَيْهِ يستقدمه وَولى على الْمغرب كُلْثُوم بن عِيَاض الْقشيرِي وَوجه مَعَه جَيْشًا كثيفا لقتالهم كَانَ فِيهِ مَعَ مَا انضاف إِلَيْهِ من مَجْمُوع الْبِلَاد الَّتِي مر بهَا سَبْعُونَ ألفا على مَا قيل وَلما انْتهى كُلْثُوم إِلَى القيروان أَسَاءَ السِّيرَة فِي أَهلهَا فَكَتَبُوا إِلَى حبيب بن أبي عُبَيْدَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان مَوَاقِف للبربر يَشكونَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَكَانَ لآل عقبَة بالمغرب وجاهة لم تكن لغَيرهم فَكتب إِلَيْهِ حبيب ينهاه ويتوعده فَاعْتَذر كُلْثُوم وأغضى لَهُ عَلَيْهَا ثمَّ اسْتخْلف على القيروان عبد الرَّحْمَن بن عقبَة وَسَار يؤم الْمغرب فِي جموعه وعَلى مقدمته ابْن أَخِيه بلج بن بشر الْقشيرِي فَمر على طَرِيق سبتة وانْتهى إِلَى تلمسان فلقي حبيب بن أبي عُبَيْدَة فاقتتلا ثمَّ اصطلحا وزحفا جَمِيعًا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فَنَهَضت إِلَيْهِم البربر وَكَانَ اللِّقَاء على وَادي سبو من أَعمال طنجة وَقَالَ ابْن خلدون فِي أَخْبَار البربر إِن الْخَلِيفَة هِشَام ولى كُلْثُوم بن عِيَاض على الْمغرب سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة سرحه فِي اثْنَي عشر ألفا من أهل الشَّام وَكتب إِلَى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أَن يمدوه فزحف إِلَى إفريقية ثمَّ إِلَى الْمغرب حَتَّى بلغ وَادي سبو فبرز إِلَيْهِ خَالِد بن حميد الزناتي فِيمَن مَعَه من البربر وَكَانُوا خلقا لَا يُحصونَ فَلَقوا كُلْثُوم بن عِيَاض بعد أَن هزموا مقدمته فَاشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وَقتل كُلْثُوم وحبِيب بن أبي عُبَيْدَة وَكثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 من الْجند وافترقت العساكر فَمضى أهل الشَّام إِلَى الأندلس مَعَ بلج بن بشر وَمضى أهل مصر وإفريقية إِلَى القيروان وَمَا ذكره أَن خَالِد بن حميد هُوَ الَّذِي هزم جيوش كُلْثُوم فِي هَذِه الْوَقْعَة هُوَ مُقْتَضى مَا سبق من أَن ميسرَة قتل فِي ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب وَجزم ابْن حَيَّان بِأَن الَّذِي هزم جيوش كُلْثُوم هُوَ ميسرَة الخفير وَاقْتصر عَلَيْهِ ابْن خلدون فِي أَخْبَار بني فاتن قَالَ انْتَهَت مُقَدّمَة كُلْثُوم بن عِيَاض إِلَى سبو من أَعمال طنجة فَلَقِيَهُ البربر هُنَالك مَعَ ميسرَة وَقد فحصوا عَن أوساط رؤوسهم وتنادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثمَّ هزموه وقتلوه وَكَانَ كيدهم فِي لقائهم إِيَّاه أَن ملؤوا الشنان بِالْحِجَارَةِ وربطوها فِي أَذْنَاب الْخَيل ثمَّ أرسلوها فِي جَيش الْعَرَب فَكَانَت الْحِجَارَة تقَعْقع فِي شنانها وخيل الْعَرَب تنفر حَتَّى اخْتَلَّ مَصَافهمْ وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهِم فافترقوا وَذهب بلج مَعَ الطَّلَائِع من أهل الشَّام إِلَى سبتة وَرجع أهل مصر وإفريقية إِلَى القيروان وَظَهَرت الْخَوَارِج فِي كل جِهَة واقتطع الْمغرب عَن طَاعَة الْخُلَفَاء إِلَى أَن هلك ميسرَة وَقَامَ برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حَارِث مِنْهُم اه كَلَام ابْن خلدون فاضطرب النَّقْل فِي هَذِه الْوَاقِعَة كَمَا ترى وَالله أعلم بِالصَّوَابِ قَالَ ابْن حَيَّان إِن كُلْثُوم بن عِيَاض لما انْهَزَمت جيوشه نجا جريحا إِلَى سبتة فِي أهل الشَّام وَمَعَهُ ابْن أَخِيه بلج بن بشر بن عِيَاض وحاصرهم البربر بهَا وَلما اشْتَدَّ حصارهم بسبتة وانقطعت عَنْهُم الأقوات وبلغوا من الْجهد الْغَايَة اسْتَغَاثُوا بإخوانهم من عرب الأندلس فتثاقل عَنْهُم صَاحبهَا عبد الْملك بن قطن لخوفه على سُلْطَانه مِنْهُم فَلَمَّا شاع خبر ضررهم عِنْد رجالات الْعَرَب اشفقوا عَلَيْهِم فأغاثهم زِيَاد بن عَمْرو اللَّخْمِيّ بمركبين مشحونين ميرة أَمْسَكت من أرماقهم فَلَمَّا بلغ ذَلِك عبد الْملك بن قطن ضربه سَبْعمِائة سَوط ثمَّ اتهمه بعد ذَلِك بتضريب الْجند عَلَيْهِ فسمل عَيْنَيْهِ ثمَّ ضرب عُنُقه وصلب عَن يسَاره كَلْبا وَاتفقَ فِي هَذَا الْوَقْت أَن برابرة الأندلس لما بَلغهُمْ مَا كَانَ من ظُهُور برابرة العدوة على الْعَرَب انتقضوا على عرب الأندلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَاقْتَدوا بِمَا فعله إخْوَانهمْ بالمغرب وتفطنوا لما كَانُوا غافلين عَنهُ قبل ذَلِك من الْخلاف على الْعَرَب ومزاحمتهم فِي سلطانهم وأصل ذَلِك كُله النزعة الخارجية فاستفحل أَمرهم بالأندلس وَكثر إيقاعهم بجيوش ابْن قطن فخاف أَن يلقى مِنْهُم مَا لقِيه الْعَرَب بالمغرب من إخْوَانهمْ وبلغه أَنهم قد عزموا على قَصده فَلم ير أجدى لَهُ من الإستعداد بصعاليك عرب الشَّام أَصْحَاب بلج الموتورين بسبتة فَكتب إِلَى بلج وَقد مَاتَ عَمه كُلْثُوم فَأَسْرعُوا إِلَى إجَابَته وَكَانَت تِلْكَ أمنيتهم فَأحْسن إِلَيْهِم وأسبغ النِّعْمَة عَلَيْهِم وَشرط عَلَيْهِم أَن يقيموا عِنْده سنة وَاحِدَة حَتَّى إِذا فرغوا لَهُ من البربر انصرفوا إِلَى مغربهم وَخَرجُوا لَهُ عَن أندلسه فرضوا بذلك وَعَاهَدُوهُ وَأخذ مِنْهُم الرهائن عَلَيْهِ ثمَّ قدم عَلَيْهِم ابنيه قطنا وَأُميَّة والبربر فِي جموع لَا يحصيها غير رازقها فَاقْتَتلُوا قتالا صَعب فِيهِ الْمقَام إِلَى أَن كَانَت الدبرة على البربر فَقَتلهُمْ الْعَرَب بأقطار الأندلس حَتَّى ألْحقُوا فَلهم بالثغور وخفوا عَن الْعُيُون فكر الشاميون وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم فاشتدت شوكتهم وثابت همتهم وبطروا ونسوا العهود وطالبهم ابْن قطن بِالْخرُوجِ عَن الأندلس فتعللوا عَلَيْهِ وَذكروا صَنِيعه بهم أَيَّام انحصارهم بسبتة وَقَتله الرجل الَّذِي أغاثهم بالميرة فخلعوه وَقدمُوا على أنفسهم أَمِيرهمْ بلج بن بشر وَتَبعهُ جند بن قطن وأغروه بقتْله فَأبى فثارت اليمانية وَقَالُوا قد حميت لمضرك وَالله لَا نطيعك فَلَمَّا خَافَ تفرق الْكَلِمَة أَمر بِابْن قطن فَأخْرج إِلَيْهِم وَهُوَ شيخ كَبِير كفرخ نعَامَة قد شهد وقْعَة الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ فَجعلُوا يَسُبُّونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ أفلت من سُيُوفنَا يَوْم الْحرَّة ثمَّ طالبتنا بِتِلْكَ الترة فعرضتنا لأكل الْكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حَتَّى أمتنَا جوعا فَقَتَلُوهُ وصلبوه فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وصلبوا عَن يَمِينه خنزيرا وَعَن يسَاره كَلْبا وَاسْتولى بلج على الأندلس وَكَانَت خطوب يطول ذكرهَا وَالله ولي العون والتوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ولَايَة حَنْظَلَة بن صَفْوَان على الْمغرب لما سمع الْخَلِيفَة هِشَام بِمَا جرى على كُلْثُوم وَأَصْحَابه قَامَت قِيَامَته فَوجه حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ وَهُوَ أَخُو بشر بن صَفْوَان الْمُتَقَدّم واليا على الْمغرب فَقدم القيروان سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة فَوجدَ هوارة وهم ولد هوار بن أوريغ بن برنس خوارج على الدولة ورئيساهم عكاشة بن أَيُّوب الْفَزارِيّ وَعبد الْوَاحِد بن يزِيد الهواري وَكَانَا على مَذْهَب الصفرية فَلَمَّا اسْتَقر حَنْظَلَة بالقيروان لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى زحف إِلَيْهِ عكاشة وَعبد الْوَاحِد فِي هوارة وَمن تَبِعَهُمْ من البربر فَخرج إِلَيْهِم حَنْظَلَة والتقوا على الْقرن من ظَاهر القيروان فَهَزَمَهُمْ بعد قتال صَعب واستلحمهم وَقتل عبد الْوَاحِد وَأخذ عكاشة أَسِيرًا وَلما جِيءَ إِلَيْهِ بعكاشة فِي رمته وبرأس عبد الْوَاحِد سجد شكرا لله تَعَالَى على مَا منحه من الْفَتْح وَأمر بعكاشة فَقتل وأحصيت الْقَتْلَى فِي ذَلِك الْيَوْم فَكَانُوا مائَة وَثَمَانِينَ ألفا وَكتب حَنْظَلَة بذلك إِلَى الْخَلِيفَة هِشَام وسمعها اللَّيْث بن سعد فَقَالَ مَا غَزْوَة كنت أحب أَن أشهدها بعد غَزْوَة بدر أحب إِلَيّ من غَزْوَة الْقرن والأصنام ثمَّ وَجه حَنْظَلَة أَبَا الخطار حسام بن ضرار الْكَلْبِيّ واليا من قبله على الأندلس فَركب إِلَيْهَا الْبَحْر من تونس سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة فدان لَهُ أهل الأندلس واستقام أمره بهَا حينا من الدَّهْر ثمَّ ثار عَلَيْهِ الصميل بن حَاتِم الْكَلْبِيّ وخلعه فِي خبر طَوِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَلم يزل حَنْظَلَة على الْمغرب فِي أحسن حَال إِلَى أَن طرق الْخلَل الْخلَافَة بالمشرق وَخفت صَوتهَا لما حدث فِي بني أُميَّة من فتْنَة الْوَلِيد الْفَاسِق وَمَا كَانَ من أَمر الشِّيعَة والخوارج مَعَ مَرْوَان الْحمار آخر خلفائهم وأفضى الْأَمر إِلَى الإدالة مِنْهُم ببني الْعَبَّاس فَأجَاز عبد الرَّحْمَن بن حبيب الفِهري من الأندلس إِلَى الْمغرب وَغلب حَنْظَلَة عَلَيْهِ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة على مَا نذكرهُ ذكر صَالح بن طريف البرغواطي المتنبي ومخرقته وَفِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ ظُهُور صَالح بن طريف البرغواطي الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة بتامسنا من بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فِيمَا بَين سلا وآسفي وبرغواطة بطن من المصامدة على مَا حَقَّقَهُ ابْن خلدون وَكَانَ أَبوهُ طريف يكنى أَبَا صبيح وَكَانَ من قواد ميسرَة الخفير الْقَائِم بدعوة الصفرية وَلما انقرض أَمر ميسرَة بَقِي طريف قَائِما بِأَمْر برغواطة بتامسنا وَيُقَال إِنَّه تنبأ أَيْضا وَشرع لَهُم الشَّرَائِع ثمَّ هلك وَولى مَكَانَهُ ابْنه صَالح هَذَا وَقد كَانَ شهد مَعَ أَبِيه حروب ميسرَة قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْخَيْر ثمَّ انْسَلَخَ من آيَات الله وَانْتَحَلَ دَعْوَى النُّبُوَّة وَشرع لَهُم الدّيانَة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من بعده وَهِي مَعْرُوفَة فِي كتب المؤرخين قَالَ فِي القرطاس كَانَ الضلال الَّذِي شرع لَهُم أَنهم يقرونَ بنبوته وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ شهر رَجَب ويأكلون شهر رَمَضَان وَفرض عَلَيْهِم عشر صلوَات خمْسا بِاللَّيْلِ وخمسا بِالنَّهَارِ وَأَن الْأُضْحِية وَاجِبَة على كل شخص فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم وَشرع لَهُم فِي الْوضُوء غسل السُّرَّة والخاصرتين وَأمرهمْ أَن لَا يغتسلوا من جَنَابَة إِلَّا من حرَام وصلاتهم إِيمَاء لَا سُجُود فِيهَا لكِنهمْ يَسْجُدُونَ فِي آخر رَكْعَة خمس سَجدَات وَيَقُولُونَ عِنْد تنَاول الطَّعَام وَالشرَاب بِاسْمِك يَا كساي وَزعم أَن تَفْسِيره بِسم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَأمرهمْ أَن يخرجُوا الْعشْر من جَمِيع الثِّمَار وأباح لَهُم أَن يتَزَوَّج الرجل من النِّسَاء مَا شَاءَ وَلَا يتَزَوَّج من بَنَات عَمه ويطلقون ويراجعون ألف مرّة فِي الْيَوْم فَلَا تحرم عَلَيْهِم الْمَرْأَة بِشَيْء من ذَلِك وَأمرهمْ بقتل السَّارِق حَيْثُ وجد وَزعم أَنه لَا يطهره من ذَنبه إِلَّا السَّيْف وَأَن الدِّيَة تكون من الْبَقر وَحرم عَلَيْهِم رَأس كل حَيَوَان والدجاجة مَكْرُوه أكلهَا وقدوتهم فِي الْأَوْقَات الديكة وَحرم عَلَيْهِم ذَبحهَا وأكلها وَمن ذبح ديكا أَو أكله أعتق رَقَبَة وَأمرهمْ أَن يلحسوا بصاق ولاتهم على سَبِيل التَّبَرُّك فَكَانَ يبصق فِي أكفهم فيلحسونه ويحملونه إِلَى مرضاهم يستشفون بِهِ وَوضع لَهُم قُرْآنًا يقرؤونه فِي صلواتهم ويتلونه فِي مَسَاجِدهمْ وَزعم أَنه نزل عَلَيْهِ وَأَنه وَحي من الله تَعَالَى إِلَيْهِ وَمن شكّ فِي ذَلِك فَهُوَ كَافِر وَالْقُرْآن الَّذِي شرع لَهُم ثَمَانُون سُورَة سَمَّاهَا لَهُم بأسماء النَّبِيين وَغَيرهم مِنْهَا سُورَة آدم وَسورَة نوح وَسورَة فِرْعَوْن وَسورَة مُوسَى وَسورَة هَارُون وَسورَة بني إِسْرَائِيل وَسورَة الأسباط وَسورَة أَيُّوب وَسورَة يُونُس وَسورَة الْجمل وَسورَة الديك وَسورَة الحجل وَسورَة الْجَرَاد وَسورَة هاروت وماروت وَسورَة إِبْلِيس وَسورَة الْحَشْر وَسورَة غرائب الدُّنْيَا وفيهَا الْعلم الْعَظِيم بزعمهم حرم فِيهَا وحلل وَشرع وَفصل وَتسَمى فيهم بِصَالح الْمُؤمنِينَ وَقَالَ أَنا صَالح الْمُؤمنِينَ الَّذِي ذكره الله فِي كِتَابه الَّذِي أنزلهُ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا حَكَاهُ الْبكْرِيّ عَن زمور بن صَالح الْوَافِد مِنْهُم على الحكم الْمُسْتَنْصر الْخَلِيفَة بقرطبة من قبل ملكهم يَوْمئِذٍ أبي مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة وَكَانَ يترجم عَنهُ بِجَمِيعِ خَبره دَاوُد بن عمر المسطاسي قَالَ وَكَانَ ظُهُور صَالح هَذَا فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَقد قيل إِن ظُهُوره كَانَ لأوّل الْهِجْرَة وَأَنه انتحل ذَلِك عنادا ومحاكاة لما بلغه من شَأْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأول أصح ثمَّ زعم أَنه الْمهْدي الْأَكْبَر الَّذِي يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فِي آخر الزَّمَان وَأَن عِيسَى يكون صَاحبه وَيُصلي خَلفه وَأَن اسْمه فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ صَالح وَفِي السرياني مَالك وَفِي العجمي عَالم وَفِي العبراني روبيل وَفِي الْبَرْبَرِي واربا وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَيْسَ بعده نَبِي ثمَّ خرج إِلَى الْمشرق بعد أَن ملكهم سبعا وَأَرْبَعين سنة وَوَعدهمْ أَنه يرجع إِلَيْهِم فِي دَوَاة السَّابِع مِنْهُم وَأوصى بنيه بالتمسك بِدِينِهِ فتوارثوا ضلاله من بعده إِلَى أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة وَكَانَ للدول فيهم ملاحم إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين فمحوا أثر بدعتهم وسنعيد القَوْل فيهم بأبسط من هَذَا عِنْد الْوُصُول إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن تغلب آل عقبَة بن نَافِع على الْمغرب وَولَايَة عبد الرَّحْمَن بن حبيب مِنْهُم كَانَ عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ واليا على الْمغرب كَمَا مر وَهُوَ الَّذِي افْتتح الْأَقْصَى مِنْهُ وَلما اسْتشْهد بالزاب بَقِي بنوه بِهِ فَكَانَت لَهُم وجاهة مَعْرُوفَة بَين أَهله لمَكَان أَبِيهِم عقبَة من جِهَاد الْعَدو وَمَا فتح الله على يَده من الأقطار واختطاطه مَدِينَة القيروان إِلَى هِيَ كرْسِي الْإِمَارَة فَكَانَ مَا منح الله أهل الْمغرب من الْإِسْلَام وَالدّين كُله فِي صَحِيفَته فنالوا بذلك شرفا خَاصّا زِيَادَة على شرف القرشية وَعز الفهرية فَكَانَ يكون لَهُم الشفوف فِي بعض الأحيان حَتَّى على الْوُلَاة فضلا عَن غَيرهم وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار مُوسَى بن نصير أَنه اسْتعْمل ابْنه عبد الْعَزِيز على الأندلس فثار عَلَيْهِ حبيب بن أبي عُبَيْدَة بن عقبَة بن نَافِع وَقَتله بإغراء سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَتقدم أَيْضا مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى كُلْثُوم بن عِيَاض عِنْد قدومه القيروان من التوعد حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى مقاتلتهما وَلما قتل حبيب هَذَا فِي وقْعَة كُلْثُوم الْمُتَقَدّمَة كَانَ ابْنه عبد الرَّحْمَن بن حبيب صَاحب التَّرْجَمَة فِي جملَة أَصْحَاب بلج الناجين إِلَى سبتة وَلما قتل أَصْحَاب بلج عبد الْملك بن قطن الفِهري وصلبوه كَمَا مر فارقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 عبد الرَّحْمَن هَذَا لما صَنَعُوا بِابْن عَنهُ وعزم على الطّلب بدمه فَاجْتمع إِلَيْهِ نَحْو مائَة ألف من عرب الأندلس وبربرها وَعمد إِلَى بلج فَقتله فِي خبر طَوِيل ثمَّ حاول عبد الرَّحْمَن التغلب على الأندلس فَلَمَّا قدم أَبُو الخطار واليا عَلَيْهَا من قبل حَنْظَلَة بن صَفْوَان أيس مِنْهَا وَركب الْبَحْر إِلَى الْمغرب فاحتل بتونس فِي جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَقد توفّي هِشَام وَولي الْخلَافَة بعده الْوَلِيد بن يزِيد الْفَاسِق فَدَعَا عبد الرَّحْمَن أهل تونس إِلَى نَفسه فَأَجَابُوهُ وَبلغ ذَلِك حَنْظَلَة صَاحب القيروان فكره قتال الْمُسلمين وَسَفك دِمَائِهِمْ فَبعث إِلَيْهِ جمَاعَة من وُجُوه الْجند يَدعُونَهُ إِلَى الطَّاعَة فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ انتهز الفرصة وأوثقهم فِي الْحَدِيد وَأَقْبل بهم إِلَى القيروان فِيمَن اجْتمع إِلَيْهِ وَأرْسل إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ يُحَذرهُمْ قِتَاله وَيَقُول إِن رميتم وَلَو بحجرة قتلت من فِي يَدي فأحجموا عَنهُ ضنا بأشرافهم عَن الْقَتْل وَعلم بذلك حَنْظَلَة فارتحل إِلَى الْمشرق سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَدخل عبد الرَّحْمَن القيروان فَتمكن مِنْهَا وَاسْتولى على الْمغرب وَهُوَ أول متغلب عَلَيْهِ قَالُوا وَلما ولي مَرْوَان بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالحمار الْخلَافَة بعث إِلَيْهِ بعهده وَكَانَ أَمر البربر يَوْمئِذٍ قد تفاقم وداء الخارجية قد أعضل ورؤوسها قد نبغت فِي كل جِهَة فانتقضوا من أَطْرَاف الْبِقَاع وتواثبوا على الْأَمر بِكُل مَكَان داعين إِلَى بدعتهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك مِنْهُم صنهاجة فَإِنَّهُم التفوا على كَبِيرهمْ ثَابت الصنهاجي وتغلبوا على باجة وثارت هوارة بطرابلس ملتفين على رئيسهم عبد الْجَبَّار والْحَارث وَغير هَؤُلَاءِ وَكَانُوا على مَذْهَب الإباضية فَقتلُوا عَامل طرابلس بكر بن عِيسَى الْقَيْسِي لما خرج يَدعُوهُم إِلَى السّلم وَعظم الْخطب فزحف إِلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن حبيب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فظفر بالصنهاجي والهواري وقتلهما وَقل جموعهما ثمَّ زحف إِلَى عُرْوَة بن الْوَلِيد الصفري وَكَانَ قد ثار بتونس فَقتله واستأصل الثوار وَانْقطع أَمر الْخَوَارِج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 إفريقية ثمَّ زحف سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة إِلَى جموع من البربر وَكَانُوا قد تجمعُوا بنواحي تلمسان فظفر بهم وفل جمعهم وَرجع ثمَّ أغزى جَيْشًا فِي الْبَحْر إِلَى صقلية وَآخر إِلَى سردانية فأثخنوا فِي أُمَم الفرنج حَتَّى أذعنوا للجزية ودوخ عبد الرَّحْمَن أَرض الْمغرب وأذل المعاندين إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَأما أهل الأندلس فَإِنَّهُم كَانُوا قد خلعوا أَبَا الخطار وولوا عَلَيْهِم ثوبة بن سَلامَة الجذامي قَالَ ابْن بشكوال لما اتَّفقُوا عَلَيْهِ خاطبوا بذلك عبد الرَّحْمَن بن حبيب فَكتب إِلَيْهِ بعهده وَذَلِكَ سلخ رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة فضبط الْبِلَاد وَاسْتمرّ واليا سنتَيْن أَو نَحْوهمَا ثمَّ هلك وَولى أهل الأندلس عَلَيْهِم يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن بن حبيب وَهُوَ ابْن صَاحب التَّرْجَمَة ذكر الرَّازِيّ أَن مولده كَانَ بالقيروان وَأَنه لما استولى أَبوهُ على الْمغرب خرج يُوسُف هَذَا مغاضبا لَهُ لأمر اقْتضى ذَلِك فَقدم الأندلس واستوطنها وساد بهَا فأقامه أَهلهَا واليا عَلَيْهِم بعد أَمِيرهمْ ثوابة وَقد مَكَثُوا فوضى أَرْبَعَة أشهر وَكَانَ اجْتِمَاعهم عَلَيْهِ بِإِشَارَة الصميل بن حَاتِم الْكلابِي فاستبد يُوسُف بالأندلس وضبطها إِلَى أَن دخل عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي الْمَعْرُوف بالداخل فانتزعها مِنْهُ وأورثها بنيه كَمَا سَيَأْتِي دُخُول عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي إِلَى إفريقية وجوازه إِلَى الأندلس وتأسيسه للدولة الأموية بهَا وَلما اسْتَقر قدم الدولة العباسية بالمشرق وانقرض أَمر بني أُميَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وذهبوا فِي كل وَجه أفلت عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة هَذَا وَقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الْمغرب فاجتاز بالقيروان وَبهَا عبد الرَّحْمَن بن حبيب صَاحب التَّرْجَمَة فارتاب بِهِ وعزم على قَتله فنجا الْأمَوِي إِلَى الأندلس وَكَانَ من أمره مَا كَانَ ذكر ابْن حَيَّان أَن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي سَار حَتَّى أَتَى إفريقية فنزلها وَقد سبقه إِلَيْهَا جمَاعَة من فل بني أُميَّة وَكَانَ عِنْد صَاحبهَا عبد الرَّحْمَن بن حبيب يَهُودِيّ حدثاني قد صحب مسلمة بن عبد الْملك فَكَانَ يتكهن لَهُ ويخبره بتغلب الْقرشِي وَملكه الأندلس ويرثها عقبه من بعده وَأَن اسْمه عبد الرَّحْمَن وَهُوَ ذُو ضفيرتين وَمن بَيت الْملك فَاتخذ الفِهري ضفيرتين أرسلهما رَجَاء أَن تناله الرِّوَايَة فَلَمَّا جِيءَ إِلَيْهِ بِعَبْد الرَّحْمَن الْأمَوِي وَرَأى ضفيرتيه قَالَ لِلْيَهُودِيِّ هُوَ هَذَا وَأَنا قَاتله فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ إِن قتلته فَمَا هُوَ بِهِ وَإِن غلبت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَهو وَثقل فل بني أُميَّة على ابْن حبيب فطرد كثيرا مِنْهُم خوفًا على ملكه ثمَّ تجنى على ابْنَيْنِ للوليد بن يزِيد كَانَ قد استجار بِهِ فَقَتَلَهُمَا وَأخذ مَالا كَانَ مَعَ إِسْمَاعِيل بن أبان بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان وغلبه على أُخْته فَتَزَوجهَا غصبا وَطلب عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل فاختفى كَذَا لِابْنِ حَيَّان وَعند ابْن خلدون أَن الْأُخْت الْمَذْكُورَة زَوجهَا عبد الرَّحْمَن من أَخِيه إلْيَاس بن حبيب وَلما قتل ابْني عَمها امتعضت لذَلِك وأغرت زَوجهَا واستفسدته على أَخِيه حَتَّى قَتله كَمَا نذْكر وَذَلِكَ أَنه لما انتظم أَمر الدولة العباسية بالمشرق وبويع السفاح ثمَّ الْمَنْصُور بعده كتب إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حبيب يَدعُوهُ إِلَى الطَّاعَة والبيعة فَأَجَابَهُ ودعا لَهُ وَبعث إِلَيْهِ بهدية فِيهَا بزاة وكلاب وَذهب قَلِيل وَذكر أَن إفريقية الْيَوْم إسلامية وَقد انْقَطع السَّبي فَغَضب الْمَنْصُور وَكتب إِلَيْهِ يتوعده وَبعث إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك بخلعه الْإِمَارَة فَنزع عبد الرَّحْمَن يَده من الطَّاعَة ومزق الخلعة على الْمِنْبَر فَوجدَ أَخُوهُ إلْيَاس بذلك السَّبِيل إِلَى مَا كَانَ يحاوله عَلَيْهِ وداخل وُجُوه الْجند فِي الفتك بِهِ وإعادة الدعْوَة للخليفة الْمَنْصُور ومالأه على ذَلِك أَخُوهُ عبد الْوَارِث بن حبيب وأحس عبد الرَّحْمَن مِنْهُمَا بِالشَّرِّ فَأمر إلْيَاس بِالْمَسِيرِ إِلَى تونس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فأظهر الِامْتِثَال ثمَّ جَاءَ ليودعه وَمَعَهُ عبد الْوَارِث وَكَانَ عبد الرَّحْمَن مَرِيضا فدخلا عَلَيْهِ وَقَتله على فرَاشه آخر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة لعشر سِنِين وَسَبْعَة أشهر من تغلبه على الْمغرب اسْتِيلَاء إلْيَاس بن حبيب على الْمغرب لما فتك إلْيَاس بأَخيه عبد الرَّحْمَن معتدا عَلَيْهِ بخلعه طَاعَة الْخَلِيفَة فر ابْنه حبيب بن عبد الرَّحْمَن إِلَى تونس بعد أَن طلبوه وضبطوا أَبْوَاب الْقصر ليأخذوه فَلم يظفروا بِهِ وَكَانَ عَمه عمرَان بن حبيب واليا بتونس من قبل أَبِيه فلحق بِهِ وَتمّ الْأَمر لإلياس وَاسْتولى على القيروان ثمَّ زحف إِلَيْهِ عمرَان وحبِيب فِيمَن اجْتمع إِلَيْهِمَا وَخرج إلْيَاس للقائهم فَالْتَقوا واقتتلوا مَلِيًّا ثمَّ اصْطَلحُوا على أَن يكون لحبيب قفصة وقسطيلة وَسَائِر بِلَاد الجريد ولعمران تونس وسطفورة والجزيرة ولإلياس القيروان وَسَائِر إفريقية وَالْمغْرب وَتمّ هَذَا الصُّلْح سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَسَار حبيب إِلَى عمله من بِلَاد الجريد وارتحل إلْيَاس مَعَ أَخِيه عمرَان إِلَى تونس وَلما وصلا إِلَيْهَا غدر إلْيَاس بعمران فَقتله وَقتل جمَاعَة من الْأَشْرَاف مَعَه وَقيل غربه إِلَى الأندلس وَعَاد هُوَ إِلَى القيروان فَبعث بِطَاعَتِهِ إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور مَعَ قَاضِي إفريقية عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم وَصفا لَهُ أَمر الْمغرب وَثقل عَلَيْهِ مَكَان حبيب فاحتال عَلَيْهِ حَتَّى أركبه الْبَحْر إِلَى الأندلس وأركب مَعَه أَخَاهُ عبد الْوَارِث فردهم قاصف من الرّيح إِلَى طبرقة وَكَتَبُوا بخبرهم إِلَى إلْيَاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فلج فِي طردهم وتسامعت موَالِي عبد الرَّحْمَن وشيعته بِابْن مَوْلَاهُم فتسارعوا إِلَيْهِ وأنزلوه من السفين والتفوا عَلَيْهِ وزحفوا بِهِ إِلَى تونس فملكوها وَخرج إلْيَاس لقتالهم فخالفوه إِلَى القيروان وملكوها عَلَيْهِ وفتقوا السجون فَرجع إلْيَاس لقتالهم وَقد فر أَكثر من مَعَه إِلَى حبيب وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ حول القيروان برز حبيب فَنَادَى يَا عَم لم نقْتل أولياءنا وضائعنا وهم جنتنا فَهَلُمَّ للبراز فأينا غلب ملك فصاح الجيشان بتصويب رَأْيه فبرزا وتضاربا حَتَّى عجب النَّاس من صبرهما ثمَّ قتل حبيب إلْيَاس وَدخل القيروان فملكها آخر سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فَكَانَت ولَايَة إلْيَاس نَحْو سنة وَنصف وَفِي هَذِه السّنة استولى عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْأمَوِي على جَزِيرَة الأندلس انتزعها من يَد أميرها يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن الفِهري وَهُوَ أَخُو حبيب الْمَذْكُور آنِفا قَالَ ابْن حَيَّان كَانَ تغلب عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة المرواني على سَرِير الْملك بقرطبة يَوْم الْأَضْحَى لعشر خلون من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة واستقام أمره بالأندلس وَبنى الْمَسْجِد الْجَامِع وَالْقصر بقرطبة وَأنْفق فِيهِ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَمَات قبل تَمَامه ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل بَيته من الْمشرق وَكَانَ يَدْعُو للمنصور العباسي ثمَّ قطع دَعوته ومهد الدولة بالأندلس وأثل بهَا الْملك الْعَظِيم لبني مَرْوَان وَخرجت الأندلس من يَوْمئِذٍ عَن نظر صَاحب القيروان بل وَعَن نظر الْخَلِيفَة بالمشرق وَالله غَالب على أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 اسْتِيلَاء حبيب بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب وفتنة عَاصِم بن جميل المتنبئ ومقتله لما قتل حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَمه إلْيَاس وَتمكن من القيروان طلب عَمه عبد الْوَارِث لمشاركته فِي دم أَبِيه كَمَا مر ففر عبد الْوَارِث إِلَى ورفجومة إِحْدَى بطُون نفزاو بن لوي من البرابرة البتر فَنزل على كَبِيرهمْ عَاصِم بن جميل وَكَانَ كَاهِنًا يَدعِي النُّبُوَّة فأجاره ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِم حبيب فأوقعوا بِهِ وهزموه إِلَى قابس واستفحل أَمر عَاصِم وشايعه على شَأْنه من رجالات نفزاوة عبد الْملك بن أبي الْجَعْد الورفجومي وَيزِيد بن سكوم الولهاصي وَكَانَا على رَأْي الإباضية وانضمت إِلَيْهِم سَائِر نفزاوة واشتدت شوكتهم وَكَانَ قيامهم أَولا بدعوة الْخَلِيفَة الْمَنْصُور وَلما بَقِي أهل القيروان فوضى بِسَبَب فرار أَمِيرهمْ إِلَى قابس كتب من بهَا من الْعَرَب إِلَى عَاصِم هَذَا يَدعُونَهُ للقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم بِشَرْط الدُّعَاء للمنصور فَأتى وَقَاتلهمْ فَهَزَمَهُمْ وَدخل القيروان عنْوَة واستباح أَهلهَا وَخرب مساجدها وأهانها ثمَّ سَار إِلَى حبيب بقابس بعد أَن اسْتخْلف على القيروان وَمن بَقِي بهَا من نفزاوة عبد الْملك ابْن أبي الْجَعْد فقاتل حبيبا وهزمه فلحق حبيب بجبل أورابن وَأَجَارَهُ أَهله ثمَّ زحف إِلَيْهِم عَاصِم فهزموه وقتلوه واستلحموا جمَاعَة من أَصْحَابه وَقَامَ بِأَمْر ورفجومة والقيروان من بعده عبد الْملك بن أبي الْجَعْد وَأهل القيروان أثْنَاء هَذَا كُله فِي غَايَة المذلة والهوان مَعَ البربر ثمَّ زحف حبيب إِلَى القيروان فبرز إِلَيْهِ عبد الْملك وَهزمَ حبيبا وَقَتله فِي الْمحرم سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة فَكَانَت ولَايَته نَحْو ثَلَاث سِنِين وانقرض بمقتله أَمر آل عقبَة من الْمغرب والبقاء لله وَحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 اسْتِيلَاء عبد الْملك بن أبي الْجَعْد على الْمغرب لما قتل عبد الْملك بن أبي الْجَعْد الورنجومي حبيب بن عبد الرَّحْمَن الفِهري رَجَعَ فِي جموع البربر إِلَى القيروان فملكها وَأمر أَمر ورفجومة واستطالوا على أهل القيروان وَقتلُوا من بهَا من قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب حَيْثُ وجدوا وعاملوهم مُعَاملَة المكناسيين لآل إِدْرِيس وَاسْتَحَلُّوا من الحرمات مَا لم يستحله عَاصِم بن جميل قبلهم حَتَّى لقد ربطوا دوابهم بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع وَاشْتَدَّ الْبلَاء على أهل القيروان وافترقوا فِي النواحي فِرَارًا بِأَنْفسِهِم وشاع خبرهم فِي الْآفَاق فَحِينَئِذٍ قَامَ أَبُو الْخطاب عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الغافري من رجالات الْعَرَب وَكَانَ على رَأْي الإباضية بأحواز طرابلس مُنْكرا لفعل ورفجومة ومغيرا عَلَيْهِم حَسْبَمَا نذْكر اسْتِيلَاء عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح على الْمغرب وَظُهُور الصفرية من آل مدرار المكناسيين وبناؤهم مَدِينَة سجلماسة كَانَ أَبُو الْخطاب عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الْمعَافِرِي من وُجُوه الْعَرَب وَكَانَ على رَأْي الإباضية كَمَا قنلا وَلما بلغه مَا ارتكبته ورفجومة من أهل القيروان امتعض لذَلِك وَقَامَ محتسبا عَلَيْهِم وشايعه على ذَلِك برابرة طرابلس وَتَوَلَّى كبر ذَلِك هوارة مِنْهُم وهوارة إِحْدَى بطُون أوريغة من البرانس فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَتقدم بهم إِلَى طرابلس فملكها ثمَّ زحف إِلَى القيروان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة فَخرج إِلَيْهِ عبد الْملك بن أبي الْجَعْد فِي جموعة فانخزل عَنهُ أهل القيروان لما نالهم من عسفه وعسف قومه فَانْهَزَمَ وَقتل وَاسْتولى أَبُو الْخطاب على القيروان وأثخن فِي جموع عبد الْملك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ورفجومة وَسَائِر نفزاوة ثمَّ ولى على القيروان عبد الرَّحْمَن بن رستم الْفَارِسِي وَهُوَ من أَبنَاء رستم أَمِير الْفرس يَوْم الْقَادِسِيَّة كَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا من موَالِي الْعَرَب وَمن رُؤُوس هَذِه الْبِدْعَة فاستخلفه أَبُو الْخطاب على القيروان وَرجع هُوَ إِلَى طرابلس للقاء العساكر القادمة من جِهَة الْخَلِيفَة الْمَنْصُور على مَا نذكرهُ وَلما حصل هَذَا الِاضْطِرَاب بالمغرب اجْتمعت الصفرية من مكناسة بِنَاحِيَة الْمغرب الْأَقْصَى فنقضوا طَاعَة الْعَرَب وولوا عَلَيْهِم عِيسَى بن يزِيد الْأسود من موَالِي الْعَرَب ورؤوس الْخَوَارِج واختطوا مَدِينَة سجلماسة سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة من الْهِجْرَة وَدخل سَائِر مكناسة من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة فيدينهم واقتطعوا سجلماسة وأعمالها عَن نظر الْوُلَاة بالقيروان وَمن هَذَا الِاجْتِمَاع نشأت دولة بني مدرار مُلُوك سجلماسة فَإِن صفرية مكناسة لما بَايعُوا عِيسَى بن يزِيد أَقَامَ أَمِيرا عَلَيْهِم نَحْو خمس عشرَة سنة ثمَّ سخطوا إمرته ونقموا عَلَيْهِ بعض أَحْوَاله فعمدوا إِلَيْهِ وأوثقوه كتافا ووضعوه على قنة حَبل إِلَى أَن هلك سنة خمس وَخمسين وَمِائَة واجتمعوا بعده على كَبِيرهمْ أبي الْقَاسِم بن سمكو بن واسول المكناسي الصفري كَانَ أَبوهُ سمكو من حَملَة الْعلم ارتحل إِلَى الْمَدِينَة فَأدْرك التَّابِعين وَأخذ عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس قَالَه عريب بن حميد الْقُرْطُبِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَ عِكْرِمَة بربري الأَصْل كَمَا عِنْد ابْن خلكان قَالَ وَقد تكلم النَّاس فِيهِ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 كَانَ يرى رَأْي الْخَوَارِج وَكَانَ أَبُو الْقَاسِم الْمَذْكُور صَاحب ماسية وَهُوَ الَّذِي بَايع لعيسى بن يزِيد وَحمل قومه على طَاعَته فَلَمَّا خلعوا عِيسَى بَايعُوا أَبَا الْقَاسِم من بعده وَقَامَ بأمرهم إِلَى أَن هلك سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَكَانَ يخْطب فِي عمله للمنصور ثمَّ للمهدي من بني الْعَبَّاس وَلما هلك ولوا عَلَيْهِم ابْنه إلْيَاس بن أبي الْقَاسِم وَكَانَ يدعى بالوزير ثمَّ انتفضوا عَلَيْهِ سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة فخلعوه وولوا مَكَانَهُ أَخَاهُ اليسع بن أبي الْقَاسِم وكنيته أَبُو مَنْصُور وَكَانَ صفريا وعَلى عَهده استفحل ملكهم بسجلماسة وَهُوَ الَّذِي أدَار سورها وَأتم بناءها واختط بهَا المصانع والقصور وانتقل إِلَيْهَا آخر الْمِائَة الثَّانِيَة وَهلك سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَولى بعده ابْنه مدرار ولقبه الْمُنْتَصر وطالت مدَّته وَكَانَ لَهُ ولدان كل مِنْهُمَا اسْمه مَيْمُون أَحدهمَا لأروى بنت عبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت وَالْآخر لبغي وَكَانَ يعرف بالأمير فتنازعا وتداولا الْأَمر بَينهمَا استبدادا على أَبِيهِمَا ودامت الْحَرْب بَينهمَا ثَلَاث سِنِين وَهلك أَبوهُمَا مدرار سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ فِي نوبَة مَيْمُون الْأَمِير وَاسْتمرّ مَيْمُون هَذَا فِي استبداده إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَولي ابْنه مُحَمَّد بن مَيْمُون وَكَانَ إباضيا وَتُوفِّي سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ فولي اليسع بن الْمُنْتَصر وَفِي أَيَّامه قدم عبيد الله الْمهْدي أول خلفاء العبديين من الشِّيعَة وَابْنه أَبُو الْقَاسِم من الْمشرق فدخلا سجلماسة متنكرين وَكَانَ الْخَلِيفَة المعتضد بِاللَّه العباسي قد أوعز إِلَى اليسع هَذَا بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا فَنقبَ عَنْهُمَا وَقبض عَلَيْهِمَا وأودعهما السجْن إِلَى أَن افتكهما مُقيم دولتهما أَبُو عبد الله الشيعي الْمَعْرُوف بالمحتسب فَإِنَّهُ اقتحم سجلماسة فِي خبر مَعْرُوف وَأخرج عبيد الله وَابْنه من السجْن وَقتل اليسع سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثمَّ بَايع أهل سجلماسة من بعده الْفَتْح بن مَيْمُون الْأَمِير وَكَانَ أباضيا وَهلك على رَأس الْمِائَة الرَّابِعَة فولي أَخُوهُ أَحْمد بن مَيْمُون الْأَمِير واستقام أمره إِلَى أَن زحف مصالة بن حبوس الكتامي قَائِد الشِّيعَة العبديين فِي جموع كتامة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة تسع وثلاثمائة فدوخه وَأخذ أَهله بدعوة صَاحبه عبيد الله الْمهْدي وافتتح سجلماسة وتقبض على صَاحبهَا أَحْمد بن مَيْمُون الْأَمِير ثمَّ ولى عَلَيْهَا من قبله مُحَمَّد بن بسادر بن مدرار فَلم يلبث أَن استبد على الشِّيعَة وتلقب بالمعتز وَهلك سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة وَولي ابْنه الْمُنْتَصر مُحَمَّد بن المعتز فَمَكثَ عشرا وَهلك وَولي ابْنه الْمُنْتَصر سمكو شَهْرَيْن وَكَانَت جدته تدبر أمره لصغره ثمَّ ثار عَلَيْهِ ابْن عَمه مُحَمَّد بن الْفَتْح بن مَيْمُون الْأَمِير ورفض الخارجية ونادى بالدعوة العباسية وَأخذ بِمذهب أهل السّنة وتلقب بالشاكر لله وَاتخذ السِّكَّة باسمه فَكَانَت تسمى بِالدَّرَاهِمِ الشاكرية قَالَ ابْن حزم وَكَانَ فِي غَايَة الْعدْل وَكَانَت سكته فِي غَايَة الطّيب وَاسْتمرّ إِلَى أَن زحف جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد الْمعز العبيدي فِي جموع صنهاجة وكتامة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وفر عَنْهَا مُحَمَّد بن الْفَتْح إِلَى حصن تسكرات على أَمْيَال مِنْهَا ثمَّ دخل سجلماسة متنكرا فَعرفهُ رجل من مضغرة وَأعلم بِهِ جوهرا فتقبض عَلَيْهِ وَسَاقه أَسِيرًا مَعَ أَحْمد بن أبي بكر الزناتي صَاحب فاس إِلَى المهدية كَمَا نذكرهُ ثمَّ لما انْتقض الْمغرب على الشِّيعَة وَأخذ زناته بِطَاعَة الحكم الْمُسْتَنْصر صَاحب الأندلس ثار بسجلماسة قَائِم من ولد الشاكر لله وتلقب بالمنتصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بِاللَّه ثمَّ وثب عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو مُحَمَّد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة فَقتله وَقَامَ بِالْأَمر مَكَانَهُ وتلقب بالمعتز بِاللَّه وَأقَام على ذَلِك مُدَّة وَأمر مكناسة يَوْمئِذٍ قد تداعى إِلَى الانحلال وَأمر زناتة قد استفحل بالمغرب إِلَى أَن زحف خزرون بن فلول الزناتي ثمَّ المغرواي إِلَى سجلماسة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فبرز إِلَيْهِ ابو مُحَمَّد المعتز فَهزمَ خزرون وَقَتله وَاسْتولى على بَلَده وذخيرته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ ذَلِك لأوّل حجابة الْمَنْصُور بن أبي عَامر المستبد على بني أُميَّة بالأندلس وانقرض أَمر بني مدرار والبقاء لله وَقد لخصنا هَذِه الدولة المدرارية من كتاب العبر وسردناها هُنَا اسْتِطْرَادًا ثمَّ نعود إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ولَايَة مُحَمَّد بن الْأَشْعَث على الْمغرب لما ارتكبت ورفجومة من أهل القيروان مَا ارتكبته وَفد جمَاعَة من رجالات الْعَرَب بهَا على الْخَلِيفَة الْمَنْصُور واستصرخوه على الْخَوَارِج وَشَكوا إِلَيْهِ تسلقهم على كرْسِي الْإِمَارَة بالقيروان فَوجه الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْخُزَاعِيّ واليا على مصر وَأمره باستنقاذ إفريقية من البربر فَوجه مُحَمَّد بن الْأَشْعَث أَبَا الْأَحْوَص عَمْرو بن الْأَحْوَص الْعجلِيّ سنة اثْنَتَيْنِ واربعين وَمِائَة فَخرج إِلَيْهِ أَبُو الْخطاب الْمعَافِرِي وهزمه بسرت قَرِيبا من طرابلس وَاسْتولى على عسكره وَرجع أَبُو الْأَحْوَص مفلولا إِلَى مصر فَكتب الْمَنْصُور إِلَى ابْن الْأَشْعَث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمغرب بِنَفسِهِ فَسَار إِلَيْهِ فِي أَرْبَعِينَ ألفا وَمَعَهُ الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي فَلَقِيَهُمْ أَبُو الْخطاب بسرت أَيْضا فأوقع بِهِ ابْن الْأَشْعَث وَقَتله واستلحم جموعه وطار الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الرَّحْمَن بن رستم بمكانه من القيروان فَاحْتمل أَهله وَولده وَلحق بإباضية الْمغرب الْأَوْسَط وَنزل على لماية بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضرى من البتر لحلف كَانَ بَينه وَبينهمْ فالتفوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوا لَهُ بالخلافة وتفاوضوا فِي بِنَاء مَدِينَة تكون كرسيا لإمارتهم شَأْن الصفرية من بني مدرار فشرعوا فِي بِنَاء مَدِينَة تاهرت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة فعمرت واتسعت خطتها وتوارثها بَنو رستم واقتطعوها عَن نظر وُلَاة الْمغرب وَكَانَ يسلم عَلَيْهِم بالخلافة على مَا هُوَ الْمَعْرُوف منذهب الْخَوَارِج إِلَى أَن انقرضت دولتهم على يَد العبيديين أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة وَأما ابْن الْأَشْعَث فَإِنَّهُ اسْتَقر بالقيروان غرَّة جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَشرع فِي بِنَاء سورها فِي ذِي الْقعدَة من السّنة وَتمّ فِي رَجَب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَضبط الْمغرب أحسن ضبط وافتتح طرابلس وَاسْتعْمل عَلَيْهَا الْمخَارِق بن غفار الطَّائِي وعَلى طبنة والزاب الْأَغْلَب بن سَالم وخافه البربر ثمَّ ثار عَلَيْهِ عِيسَى بن مُوسَى بن عجلَان الْخُرَاسَانِي أحد الْجند فِي جمَاعَة من قواد مُضر ونفوه عَن القيروان فقفل إِلَى الْمشرق ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة فَكَانَت ولَايَته نَحْو أَربع سِنِين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ولَايَة الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي على الْمغرب لما قفل ابْن الْأَشْعَث إِلَى الْمشرق ولى جند مُضر عَلَيْهِم عِيسَى بن مُوسَى الْخُرَاسَانِي واتصل بالمنصور مَا فعله قواد مُضر من ذَلِك فَبعث إِلَى الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي ثمَّ السَّعْدِيّ بعهده على الْمغرب والأغلب هَذَا هُوَ جد الأغالبة مُلُوك أفريقية من بعده على الْمغرب وَكَانَ من ذَوي الشجَاعَة والرأي وَمن صِحَاب أبي مُسلم بخراسان فَدخل الْمغرب مَعَ ابْن الْأَشْعَث وَاسْتَعْملهُ على طبنة كَمَا مر فَلَمَّا وافاه عهد الْخَلِيفَة أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة انْتقل إِلَى القيروان وأمنها واستقام أمره ثمَّ خرج عَلَيْهِ أَبُو قُرَّة ين دوناس اليفرني وَيُقَال المغيلي من الصفرية والتفت عَلَيْهِ زناتة بِجِهَة تلمسان وَبَايَعُوا لَهُ بالخلافة واستفحل أمره فزحف إِلَيْهِ الْأَغْلَب فَلَمَّا دنا مِنْهُ فر أَبُو قُرَّة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فَلم يقف إِلَّا بطنجة وانْتهى الْأَغْلَب إِلَى الزاب ثمَّ عَاد إِلَى القيروان فَعَاد أَبُو قُرَّة إِلَى وَطنه من تلمسان وَفِي سنة خمسين وَمِائَة خرج الْأَغْلَب لقِتَال الصفرية فتثاقل عَنهُ طَائِفَة من الْجند وَلما أوغل فِي طلب الصفرية ثار عَلَيْهِ الْحسن بن حَرْب الْكِنْدِيّ وَكَانَ بتونس وَلحق بِهِ المتثاقلون من الْجند وَكَانَ تثاقلهم عَن الْأَغْلَب بمكاتبة الْحسن إيَّاهُم فِي ذَلِك فَأقبل بهم إِلَى القيروان وَاسْتولى عَلَيْهَا وَلحق الْأَغْلَب بقابس وَكَاتب الْحسن يرغبه فِي الطَّاعَة فَلم يقبل ثمَّ وافى كتاب الْمَنْصُور يَدْعُو الْحسن إِلَى الطَّاعَة فَأبى فصمد إِلَيْهِ الْأَغْلَب واقتتلا فَانْهَزَمَ الْحسن وفر إِلَى تونس وَجمع الجموع وَرجع فَخرج إِلَيْهِ الْأَغْلَب فاصابه سهم فَقتله فَقدم أَصْحَابه عَلَيْهِم الْمخَارِق بن غفار الطَّائِي الَّذِي كَانَ على طرابلس وحملوا على الْحسن فَانْهَزَمَ أمامهم إِلَى تونس ثمَّ لحق بكتامة وخيل الْمخَارِق فِي اتِّبَاعه ثمَّ رَجَعَ إِلَى تونس بعد شَهْرَيْن فَقتله الْجند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَقيل إِن أَصْحَاب الْأَغْلَب قَتَلُوهُ فِي الْوَقْت الَّذِي قتل فِيهِ الْأَغْلَب وَكَانَ مقتل الْأَغْلَب فِي شعْبَان سنة خمسين وَمِائَة وَقَامَ بِأَمْر إفريقية الْمخَارِق بن غفار إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ ولَايَة عمر بن حَفْص هزارمرد على الْمغرب لما بلغ الْخَلِيفَة الْمَنْصُور مقتل الْأَغْلَب بن سَالم وَجه مَكَانَهُ عمر بن حَفْص من ولد قبيصَة بن أبي صفرَة أخي الْمُهلب بن أبي صفرَة فَقدم القيروان فِي خَمْسمِائَة فَارس سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة فاستقامت أُمُوره ثَلَاث سِنِين ثمَّ خرج إِلَى طبنة لإدارة السُّور عَلَيْهَا واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي فثار البربر بإفريقية لما علمُوا من بعد الحامية عَنْهَا وغلبوا على من كَانَ بهَا وزحفوا إِلَى القيروان فَخرج إِلَيْهِم حبيب فهزموه وقتلوه وثار البربر الإباضية بطرابلس وولوا عَلَيْهِم أَبَا حَاتِم يَعْقُوب بن لَبِيب المغيلي مولى كِنْدَة وتسامعت بِهِ خوارج الْمغرب فانقضوا من كل نَاحيَة ونبغت رُؤُوس الْفِتْنَة من كل وَجه وعادت هيف إِلَى أديانها وَكَانَت هَذِه الْفِتْنَة هِيَ زبدة الْفِتَن الَّتِي مخضتها الْخَوَارِج بالمغرب من لدن ميسرَة الخفير إِلَى الْآن فَإِنَّهُم زحفوا إِلَى عمر بن حَفْص وَهُوَ بطبنة من أَرض الزاب فِي اثْنَي عشر عسكرا فَكَانَ مِنْهُم أَبُو قُرَّة اليفرني من أَرْبَعِينَ ألفا من الصفرية وَعبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت فِي خَمْسَة عشر ألفا من الإباضية والمسور بن هَانِئ الزناتي فِي عشرَة آلَاف من الإباضية أَيْضا وَعبد الْملك بن سكرديد الصنهاجي فِي الفين من صنهاجة الصفرية وَجَرِير بن مَسْعُود المديوني فِيمَن تبعه من مديونة وانضم إِلَيْهِم غير هَؤُلَاءِ من خوارج هوارة وزناتة مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على عمر بن حَفْص أعمل الْحِيلَة فِي إِيقَاع الْخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 بَينهم ودافعهم بالأموال وَأرْسل إِلَى أبي قُرَّة على يَد ابْنه أبي نور أَن يُعْطِيهِ أَرْبَعِينَ ألفا ولابنه أَرْبَعَة آلَاف على أَن يرتحل عَنهُ فَقبل وارتحل بقَوْمه وانفض البربر عَن طبنه ثمَّ سَار أَبُو حَاتِم يَعْقُوب بن لَبِيب إِلَى القيروان وحاصرها ثَمَانِيَة أشهر حَتَّى أكل أَهلهَا الْميتَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على أهل القيروان خرج عمر بن حَفْص من طبنة يُرِيد أَبَا حَاتِم الإباضية الَّذين مَعَه وَبلغ أَبَا حَاتِم وَأَصْحَابه وهم محاصرون للقيروان مسير عمر بن حَفْص إِلَيْهِم فَسَارُوا للقائه فَمَال هُوَ من الأربس إِلَى تونس ثمَّ جَاءَ إِلَى القيروان فَدَخلَهَا واستعد للحصار وشحنها بالأقوات وَالرِّجَال وَأتبعهُ أَبُو حَاتِم والبربر وَأَبُو قُرَّة مَعَهم فِي قومه وَكَانُوا فِي ثَلَاثمِائَة وَخمسين ألفا الْخَيل مِنْهُم خَمْسَة وَثَمَانُونَ ألفا وَالْبَاقِي رجالة وَأَحَاطُوا بالقيروان وَعمر بن حَفْص داخلها وَطَالَ الْحصار ثمَّ بلغه الْخَبَر أَن الْمَنْصُور وَجه لاستنقاذه ابْن عَمه يزِيد بن حَاتِم المهلبي فَأَنف من ذَلِك وَقَالَ لَا خير فِي الْحَيَاة بعد أَن يُقَال يزِيد أخرجه من الْحصار إِنَّمَا هِيَ رقدة ثمَّ ابْعَثْ إِلَى الْحساب وَخرج عمر فقاتل حَتَّى قتل أواسط حجَّة سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَكَانَ عمر هَذَا بطلا سَمحا يلقب هزارمرد وَهُوَ لفظ فَارسي مَعْنَاهُ ألف رجل ثمَّ ولى النَّاس عَلَيْهِم أَخَاهُ لأمه حميد بن صَخْر وانقضى الْحصار وأحرق أَبُو حَاتِم أَبْوَاب القيروان وثلم سورها وَخرج أَكثر الْجند إِلَى طبنة وَدخل أَبُو حَاتِم القيروان فاستولى عَلَيْهَا وَيُقَال إِن ابْن صَخْر وادعه على مَا أحب وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ولَايَة يزِيد بن حَاتِم على الْمغرب لما بلغ الْمَنْصُور انْتِقَاض إفريقية على عمر بن حَفْص وحصاره بطبنة أَولا ثمَّ بالقيروان ثَانِيًا بعث إِلَيْهِ يزِيد بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب بن أبي صفرَة فِي سِتِّينَ ألفا وَبلغ خَبره عمر بن حَفْص فَحَمله ذَلِك على الاستماتة كَمَا تقدم وَبلغ أَبَا حَاتِم وَهُوَ بالقيروان مسير يزِيد بن حَاتِم إِلَيْهِ فَخرج للقائه فَلَقِيَهُ يزِيد بن حَاتِم بنواحي طرابلس واقتتلوا قتالا شَدِيدا فَانْهَزَمَ البربر وَقتل أَبُو حَاتِم فِي ثَلَاثِينَ ألفا من أَصْحَابه وتتبعهم يزِيد بِالْقَتْلِ طلبا بِدَم عمر بن حَفْص ثمَّ ارتحل إِلَى القيروان فَدَخلَهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر مَضَت من جُمَادَى الأولى سنة خمس وَخمسين وَمِائَة فمهدها ورتب أسواقها وأفرد لكل صناعَة مَكَانا وجدد بِنَاء جَامعهَا وَضبط الْأُمُور أحسن ضبط وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن حبيب بن عبد الرَّحْمَن الفِهري مَعَ أبي حَاتِم فلحق بكتامة فَبعث يزِيد فِي طلبه الْمخَارِق بن غفار فحاصره ثَمَانِيَة أشهر ثمَّ غلب عَلَيْهِ فَقتل جمَاعَة مِمَّن مَعَه وهرب الْبَاقُونَ فِي كل نَاحيَة وَنَجَا هُوَ إِلَى الأندلس وَبعث يزِيد الْمخَارِق أَيْضا على الزاب فَنزل طبنة وأثخن فِي البربر وأوقع بهم وقائع عَظِيمَة وَكَانَت حروب الْخَوَارِج مَعَ الْعَرَب مُنْذُ انتفضوا على عمر بن حَفْص إِلَى انْقِضَائِهَا ثَلَاثمِائَة وخمسا وَسبعين حَربًا قَالَه ابْن خلدون ثمَّ انتقضت ورفجومة سنة سبع وَخمسين وولوا عَلَيْهِم رجلا اسْمه أَبُو زرجونة فسرح إِلَيْهِم يزِيد بن حَاتِم من عشيرته يزِيد بن مجزأَة المهلبي فهزموه واستأذنه ابْنه الْمُهلب وَكَانَ على الزاب وطبنة فِي الزَّحْف إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ورفجومة فَأذن لَهُ وأمده بِالْعَلَاءِ بن سعيد بن مَرْوَان المهلبي من عشيرتهم أَيْضا فأوقع بهم وقتلهم أَبْرَح قتل وانتقضت نفزاوة من بعد ذَلِك فِي سلطنة ابْنه دَاوُد بن يزِيد فاستأصلهم قتلا أَيْضا فركدت ريح الْخَوَارِج من البربر وتداعت بدعتهم إِلَى الاضمحلال قَالَ ابْن خلدون لم يزل أَمر الْخَوَارِج بالمغرب يَعْنِي أَيَّام يزِيد هَذَا فِي تنَاقض إِلَى أَن اضمحلت ديانتهم وافترقت جَمَاعَتهمْ وَبقيت آثَار نحلتهم فِي أعقاب البربر الَّذين دانوا بهَا فِي صدر الْإِسْلَام فَفِي بِلَاد زناتة بالصحراء مِنْهَا أثر بَاقٍ لهَذَا الْعَهْد وَكَذَلِكَ فِي جبال طرابلس أثر بَاقٍ من تِلْكَ النحلة وَالله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَاسْتمرّ يزِيد بن حَاتِم ضابطا لأمر إفريقية وَالْمغْرب إِلَى أَن توفّي بهَا يَوْم الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة سبعين وَمِائَة فِي خلَافَة هَارُون الرشيد العباسي فَكَانَت ولَايَته خمس عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَولى النَّاس عَلَيْهِم ابْنه دَاوُد إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَكَانَ يزِيد رَحمَه الله من السمحاء الأمجاد والفضلاء الأنجاد وكل بني الْمُهلب كَذَلِك وبهم ضرب الْمثل أَبُو مُحَمَّد الحريري فِي المقامات إِذْ قَالَ وَصَارَ الْأَدَب أعلق بِي من الْهوى ببني عذرة والشجاعة بآل أبي صفرَة وَقَالَ الشَّاعِر الحماسي (نزلت على آل الْمُهلب شاتيا ... بَعيدا عَن الأوطان فِي الزَّمن الْمحل) (فَمَا زَالَ بِي معروفهم وافتقادهم ... وبرهم حَتَّى حسبتهم أَهلِي) فَأَما يزِيد هَذَا من بَينهم فحاله فِي الشجَاعَة وجودة الرَّأْي كَمَا رَأَيْت وَأما الْجُود والسخاء فَهُوَ فيهمَا الْمثل السائر كَانَ ربيع بن ثَابت الرقي الشَّاعِر مدح يزِيد بن أسيد بِالتَّصْغِيرِ السّلمِيّ وَهُوَ وَال على أرمينية فقصر فِي حَقه ثمَّ مدح يزِيد بن حَاتِم فَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَقَالَ ربيعَة من قصيدة (لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليم والأغر بن حَاتِم) (يزِيد سليم سَالم المَال والفتى ... فَتى الأزد للأموال غير مسالم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 (فهم الْفَتى الْأَزْدِيّ إِتْلَاف مَاله ... وهم الْفَتى الْقَيْسِي جمع الدَّرَاهِم) ولَايَة روح بن حَاتِم على الْمغرب وَلما بلغ الرشيد وَفَاة يزِيد بن حَاتِم وَكَانَ أَخُوهُ روح واليا على فلسطين وَكَانَ أسن من يزِيد استقدمه وَعَزاهُ فِي أَخِيه وولاه على الْمغرب فَقدم القيروان منتصف سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَكَانَ يزِيد قبْلَة قد أذلّ الْخَوَارِج ومهد الْبِلَاد كَمَا قُلْنَا فَكَانَت أَرض الْمغرب سَاكِنة ايام روح وَرغب فِي موادعته عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن بن رستم صَاحب تاهرت فوادعه قَالَ ابْن خلدون وَفِي أَيَّام روح انخضذت شَوْكَة البربر واستكانوا للغلب وطاعوا للدّين فَضرب الْإِسْلَام بجرانه وَأَلْقَتْ الدولة المضرية على البربر بكلكلها اه كَلَام ابْن خلدون وَفِي أَيَّام روح أَيْضا اجتاز الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله بِبِلَاد مصر وإفريقية ناجيا من وقْعَة فخ الَّتِي كَانَت بِمَكَّة لآل الْعَبَّاس على آل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم وَدخل مَدِينَة وليلى من الْمغرب الْأَقْصَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله قَالَ ابْن خلكان كَانَ روح بن حَاتِم من الكرماء الأجواد ولي لخمسة من الْخُلَفَاء السفاح والمنصور وَالْمهْدِي وَالْهَادِي والرشيد وَيُقَال إِنَّه لم يتَّفق مثل هَذَا إِلَّا لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ ولي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وللخلفاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم قَالَ وَكَانَ روح واليا على السَّنَد ولاه عَلَيْهَا الْمهْدي بن الْمَنْصُور فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ يزِيد بالقيروان وَدفن بِبَاب سلم قَالَ أهل إفريقية مَا أبعد مَا يكون بَين قَبْرِي هذَيْن الْأَخَوَيْنِ فَإِن أَخَاهُ بالسند وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 هُنَا فاتفق أَن الرشيد عزل روحا عَن السَّنَد وسيره إِلَى مَوضِع أَخِيه يزِيد فَدخل إفريقية أول رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَلم يزل واليا بهَا إِلَى أَن توفّي بهَا لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَدفن مَعَ أَخِيه يزِيد فِي قبر وَاحِد فَعجب النَّاس من هَذَا الِاتِّفَاق بعد ذَلِك التباعد رحمهمَا الله ثمَّ ولي الْمغرب من قبل الرشيد حبيب بن نصر المهلبي ثمَّ عَزله سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَولي على الْمغرب الْفضل روح بن حَاتِم وَقَتله عبد الله بن الْجَارُود منتصف سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وانقرضت بانقراضه دولة آل الْمُهلب من الْمغرب ثمَّ ولى الرشيد على الْمغرب هرثمة بن أعين فَبنى الْقصر الْكَبِير بالمنستير وَبنى السُّور على طرابلس من جِهَة الْبَحْر وَلما رأى هرثمة مَا بالمغرب من كَثْرَة الثوار وَالْخلاف استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه لِسنتَيْنِ وَنصف من ولَايَته ثمَّ ولى الرشيد على إفريقية مُحَمَّد بن مقَاتل العكي وَكَانَ رضيعا لَهُ فاضطربت عَلَيْهِ إفريقية وَبلغ الرشيد ذَلِك وَطلب أهل إفريقية من إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب وَكَانَ من عُمَّال مُحَمَّد بن مقَاتل أَن يكْتب إِلَى الرشيد فِي الْولَايَة عَلَيْهِم فَكتب إِلَى الرشيد فِي ذَلِك على أَن يتْرك الْمِائَة ألف دِينَار الَّتِي كَانَت تحمل من مصر إِلَى إفريقية إِعَانَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 للولاة بهَا وعَلى أَن يحمل هُوَ من إفريقية إِلَى الْخَلِيفَة أَرْبَعِينَ ألفا وَبلغ الرشيد غناؤه وكفايته فَاسْتَشَارَ فِيهِ أَصْحَابه فَأَشَارَ هرثمة بن أعين بولايته فَكتب لَهُ بالعهد على إفريقية منتصف أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة فَقَامَ إِبْرَاهِيم بِالْأَمر وَضبط الْبِلَاد فسكنت واستراحت من الْفِتَن وابتنى مَدِينَة العباسية قرب القيروان وانتقل إِلَيْهَا بجملته وأورث بإفريقية ملكا لِبَنِيهِ من بعده وَفِي هَذِه الْمدَّة انقسم الْمغرب إِلَى ثَلَاث ممالك فَكَانَ بَنو الْأَغْلَب بإفريقية والقيروان وَبَنُو خزر المغراويون بالمغرب الْأَوْسَط وتلمسان وَبَنُو إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى وَقبل أَن نفرد الْكَلَام عَلَيْهِ نذْكر فصلا نشِير فِيهِ إِلَى مَذَاهِب أهل الْمغرب ونحلهم على الْجُمْلَة وَالله الْمُوفق القَوْل فِي مَذَاهِب أهل الْمغرب أصولا وفروعا وَمَا يتبع ذَلِك قد تقدم لنا مَا قَالَه الشَّيْخ ابْن أبي زيد رَحمَه الله من أَن البربر ارْتَدُّوا اثْنَتَيْ عشرَة مرّة وَأَنه لم تَسْتَقِر كلمة الْإِسْلَام فيهم إِلَّا لعهد مُوسَى بن نصير وَبعد فَتحه الأندلس ثمَّ كمل إسْلَامهمْ على يَد إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر وَتقدم أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أرسل عشرَة من التَّابِعين يفقهُونَ أهل الْمغرب فِي دينهم فَكَانَ المغاربة فِي صدر الْإِسْلَام لذَلِك على مَذْهَب جُمْهُور السّلف من الْأمة واعتقادهم وَهُوَ الْمَذْهَب الْحق إِلَى أَن حدثت فيهم بِدعَة الخارجية لأوّل الْمِائَة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة نزع إِلَيْهِم بهَا بعض أهل النِّفَاق من خوارج الْعرَاق وبثوها فيهم فتلقوها مِنْهُم بِالْقبُولِ وَحسن موقعها لديهم بِسَبَب مَا كَانُوا يعانونه من ثقل وَطْأَة الْخلَافَة القريشية وجور بعض عمالها حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فلقنهم أهل الْبدع أَن الْخلَافَة لَا تشْتَرط فِيهَا القريشية بل وَلَا الْعَرَبيَّة وَأَن كل من كَانَ أتقى لله كَانَ أَحَق بهَا وَلَو عبدا حَبَشِيًّا على ظَاهر الحَدِيث ودسوا إِلَيْهِم مَعَ ذَلِك بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 تشديدات الْخَوَارِج وتعمقاتهم وأروهم مَا هم عَلَيْهِ من التصلب فِي دينهم فَظهر للبربر ببادئ الرَّأْي أَن تعمقهم ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أثر من آثَار الخشية لله وَالْخَوْف مِنْهُ وَأَن ذَلِك هُوَ عين التَّقْوَى الْمَأْمُور بهَا شرعا وَغَابَ عَنْهُم أَن الدّين يسر كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مِلَّة الْإِسْلَام عرفت من بَين الْملَل بالحنيفية السمحة لذَلِك وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَمن أمعن نظره فِي نُصُوص الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة علم يَقِينا أَن طَرِيق النجَاة إِنَّمَا هِيَ سلوك الْوسط وَإِن كلا من التعمق والانحلال ضلال وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} الْآيَة وَقد قرر جمع من الْأَئِمَّة المقتدى بهم كالغزالي فِي الْإِحْيَاء وَغَيره أَن الْمَحْمُود فِي أُمُور الديانَات كلهَا إِنَّمَا هُوَ سلوك الْوسط بَين الإفراط والتفريط وَبِه يتم مُرَاد الله من خلقه وكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَهَذَا مَبْحَث طَوِيل نَفِيس وَقد رمزنا إِلَيْهِ بِهَذِهِ النبذة الْيَسِيرَة والتوفيق بيد الله وَقد رسخت هَذِه الْبِدْعَة الخارجية فِي البربر زَمَانا طَويلا إِلَى أَن اضمحلت فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَمَا بعْدهَا وَمَعَ ذَلِك فقد بقيت مِنْهَا آثَار فِي أَعْقَابهم من أَصْحَاب الْأَطْرَاف كَمَا ذكره ابْن خلدون والناقد بَصِير وَلما طهر الْخُلَفَاء من بني الْعَبَّاس الْمغرب من هَذِه النزعة الشيطانية أَخذ أَهله بعْدهَا بمذاهب أهل الْعرَاق فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع لِأَن ذَلِك الْمَذْهَب يَوْمئِذٍ هُوَ مَذْهَب الْخُلَفَاء بالمشرق وَالنَّاس على قدم إمَامهمْ قَالَ عِيَاض فِي المدارك ظهر مَذْهَب أبي حنيفَة بإفريقية ظهورا كَبِيرا إِلَى قرب أَرْبَعمِائَة سنة فَانْقَطع مِنْهَا وَدخل مِنْهُ شَيْء إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْمغرب قَدِيما بِمَدِينَة فاس وبالأندلس وَكَذَا ظهر بالأندلس أَيْضا مَذْهَب عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ من أهل الشَّام وَاخْتلف النَّاس فِي السَّبَب الَّذِي انْتقل بِهِ أهل الْمغرب عَن مَذْهَب أبي حنيفَة وَغَيره إِلَى مَذْهَب الإِمَام مَالك بن أنس الَّذِي هُوَ مَذْهَب السّلف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أهل الْحجاز فَقَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة الْمعز بن باديس الصنهاجي الْمُتَوفَّى فِي أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة مَا نَصه كَانَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بإفريقية أظهر الْمذَاهب فَحمل الْمعز الْمَذْكُور جَمِيع أهل الْمغرب على التَّمَسُّك بِمذهب الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ وحسم مَادَّة الْخلاف فِي الْمذَاهب وَاسْتمرّ الْحَال من ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْآن اه قلت كَانَ الْمعز هَذَا وأسلافه من صنهاجة بإفريقية على مَذْهَب الرافضة من الشِّيعَة أَخَذُوهُ عَن خلفائهم العبيديين أَيَّام استيلائهم على الْمغرب فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة وحملوا النَّاس عَلَيْهِ وامتحنوهم وطارت بدعتهم فِي أقطار الْمغرب كُله فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى الْمعز بن باديس الْمَذْكُور قطع دَعْوَة الشِّيعَة من إفريقية ودعا لبني الْعَبَّاس وَحمل النَّاس على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك عَالم الْمَدِينَة وَإِمَام دَار الْهِجْرَة هَذَا وَالْمَعْرُوف أَن مَذْهَب مَالك ظهر أَولا بالأندلس ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى أَيَّام الأدارسة وَكَذَا ظهر بإفريقية ظهورا بَينا قبل وجود الْمغرب بِكَثِير بل قبل اسْتِيلَاء صنهاجة والعبيديين على الْمغرب وَذَلِكَ على يَد أَسد بن الْفُرَات وَعبد السَّلَام بن سعيد التنوخي الْمَعْرُوف بسحنون وَغَيرهمَا من أَئِمَّة المغاربة ثمَّ لما ظَهرت دولة الشِّيعَة بإفريقية حاولوا محوه فَلم يَتَيَسَّر لَهُم ذَلِك وَكَانَ فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة فِي ذَلِك الْعَصْر مَعَهم فِي محنة عَظِيمَة مِنْهُم ابْن أبي زيد والقابسي وَأَبُو عمرَان الفاسي وطبقتهم وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن نَصره الْمعز الْمَذْكُور جزاه الله خيرا قَالُوا وَكَانَ ظُهُوره بالأندلس على يَد الْفَقِيه زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بشبطون فَهُوَ أول من أدخلهُ الأندلس وَكَانُوا قبل ذَلِك يتفقهون على مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ إِمَام أهل الشَّام لمَكَان الدولة الأموية مِنْهُ فَلَمَّا ظهر مَالك رَضِي الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ وَعظم صيته وانتشرت فَتَاوِيهِ بأقطار الأَرْض رَحل إِلَيْهِ جمَاعَة من أهل الأندلس وَالْمغْرب كَانَ من أمثلهم وأسبقهم شبطون الْمَذْكُور وقرعوس بن الْعَبَّاس وَعِيسَى بن دِينَار وسيعد بن ابي هِنْد وَغَيرهم أَيَّام هِشَام بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل فَلَمَّا رجعُوا وصفوا من فضل مَالك وسعة علمه وجلالة قدره مَا عظم بِهِ ذكره بالأندلس فانتشر يَوْمئِذٍ علمه ورأيه بهَا وَكَانَ رائد الْجَمَاعَة فِي ذَلِك هُوَ شبطون كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أول من أَدخل كتاب الْمُوَطَّأ الْمغرب أَتَى بِهِ مكملا متقنا فَأَخذه عَنهُ يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ ثمَّ دخل بعد ذَلِك إِلَى مَالك فقرأه عَلَيْهِ وَعَاد إِلَى الأندلس فتمم مَا كَانَ قد بَقِي من شهرة الْمَذْهَب الْمَالِكِي قَالَ ابْن حزم مذهبان انتشرا فِي بَدْء أَمرهمَا بالرئاسة وَالسُّلْطَان مَذْهَب أبي حنيفَة فَإِنَّهُ لما ولى الرشيد أَبَا يُوسُف خطة الْقَضَاء كَانَت الْقُضَاة من قبله من أقْصَى الْمشرق إِلَى أقْصَى عمل إفريقية وَمذهب مَالك عندنَا بالأندلس فَإِن يحيى بن يحيى كَانَ مكينا عِنْد السُّلْطَان مَقْبُول القَوْل فِي الْقُضَاة وَكَانَ لَا يَلِي قَاض فِي أقطار الأندلس إِلَّا بمشورته واختياره وَلَا يُشِير إِلَّا بِأَصْحَابِهِ وَمن كَانَ على مذْهبه وَالنَّاس سراع إِلَى الدُّنْيَا فَأَقْبَلُوا على مَا يرجون بِهِ بُلُوغ أغراضهم على أَن يحيى لم يل قَضَاء قطّ وَلَا أجَاب إِلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك زَائِدا فِي جلالته عِنْدهم وداعيا إِلَى قبُول رَأْيه لديهم اه وَرَأَيْت فِي بعض التآليف فِي سَبَب ظُهُور مَذْهَب مَالك بالأندلس وَالْمغْرب أَن حَاج الْمغرب والأندلس قدمُوا على مَالك رَضِي الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُمْ عَن سيرة عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة الْمَعْرُوف بالداخل فَقيل لَهُ إِنَّه يَأْكُل الشّعير ويلبس الصُّوف ويجاهد فِي سَبِيل الله فَقَالَ مَالك لَيْت الله زين حرمنا بِمثلِهِ فنقم عَلَيْهِ بَنو الْعَبَّاس هَذِه الْمقَالة وَكَانَ ذَلِك سَبَب توصلهم إِلَى ضربه فِي مَسْأَلَة الْإِكْرَاه كَمَا هُوَ مَشْهُور وَبَلغت مقَالَته صَاحب الأندلس فسر بهَا وَجمع النَّاس على مذْهبه فانتشر فِي أقطار الْمغرب من يَوْمئِذٍ وَالله أعلم وَمِمَّا يُنَاسب هُنَا مَا نَقله المؤرخون أَن أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن خيرون الأندلسي الأَصْل القيرواني الدَّار رَحل إِلَى الْمشرق فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فَأخذ عَن علمائه وقرائه وَعَاد إِلَى إفريقية بِقِرَاءَة نَافِع بن أبي نعيم وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِم الْقِرَاءَة بِحرف حَمْزَة فشاع حرف نَافِع من يَوْمئِذٍ فِي أقطار الْمغرب بعد أَن كَانَ لَا يقْرَأ بِهِ إِلَّا الْخَواص وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى الْيَوْم فَهَذَا حَال أهل الْمغرب فِي الْفُرُوع وَأما حَالهم فِي الْأُصُول والإعتقادات فَبعد أَن طهرهم الله تَعَالَى من نَزعَة الخارجية أَولا والرافضية ثَانِيًا أَقَامُوا على مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مقلدين لِلْجُمْهُورِ من السّلف رَضِي الله عَنْهُم فِي الْإِيمَان بالمتشابه وَعدم التَّعَرُّض لَهُ بالتأويل مَعَ التَّنْزِيه عَن الظَّاهِر وَهُوَ وَالله أحسن الْمذَاهب وأسلمها وَللَّه در الْقَائِل ( ... عقيدتنا أَن لَيْسَ مثل صِفَاته ... وَلَا ذَاته شَيْء عقيدة صائب) (سلم آيَات الصِّفَات بأسرها ... وأخبارها للظَّاهِر المتقارب) (ونؤيس عَنْهَا كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا فعل اللبيب المراقب) (ونركب للتسليم سفنا فَإِنَّهَا ... لتسليم دين الْمَرْء خير المراكب) وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة إِلَى أَن ظهر مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين فِي صدر الْمِائَة السَّادِسَة فَرَحل إِلَى الْمشرق وَأخذ عَن علمائه مَذْهَب الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ ومتأخري أَصْحَابه من الْجَزْم بعقيدة السّلف مَعَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه من الْكتاب وَالسّنة وتخريجه على مَا عرف فِي كَلَام الْعَرَب من فنون مجازاتها وضروب بلاغاتها مِمَّا يُوَافق عَلَيْهِ النَّقْل وَالشَّرْع ويسلمه الْعقل والطبع ثمَّ عَاد مُحَمَّد بن تومرت إِلَى الْمغرب ودعا النَّاس إِلَى سلوك هَذِه الطَّرِيقَة وَجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره وسمى أَتْبَاعه الْمُوَحِّدين تعريضا بِأَن من خَالف طَرِيقَته لَيْسَ بموحد وَجعل ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى الإنتزاء على ملك الْمغرب حَسْبَمَا تقف عَلَيْهِ مفصلا بعد إِن شَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الله لكنه مَا أَتَى بطريقة الْأَشْعَرِيّ خَالِصَة بل مزجها بِشَيْء من الخارجية والشيعية حَسْبَمَا يعلم ذَلِك بإمعان النّظر فِي أَقْوَاله وأحواله وأحوال خلفائه من بعده وَمن ذَلِك الْوَقْت أقبل عُلَمَاء الْمغرب على تعَاطِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَتَقْرِيره وتحريره درسا وتأليفا إِلَى آلان وَإِن كَانَ قد ظهر بالمغرب قبل ابْن تومرت فظهورا مَا وَالله أعلم وَقد كَانَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَبَنوهُ من بعده منعُوا النَّاس من التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع وحملوا الْأَئِمَّة على أَخذ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة مُبَاشرَة على طَريقَة الإجتهاد الْمُطلق وحرقوا شَيْئا كثيرا من كتب الْفُرُوع الحديثة التصنيف وَوَقع ذَلِك من بعض عُلَمَاء عصرهم موقع الإستحسان مِنْهُم الإِمَام الْحَافِظ أبوبكر بن الْعَرَبِيّ فقد ذكر فِي كتاب القواصم والعواصم لَهُ مَا يشْعر بذلك قَالَ بعد ذكره مَا وَقع بالمغرب من الْفِتَن مَا نَصه عطفنا عنان القَوْل إِلَى مصائب نزلت بالعلماء فِي طَرِيق الْفَتْوَى لما كثرت الْبدع وَذهب الْعلمَاء وتعاطت المبتدعة منصب الْفُقَهَاء وتعلقت أطماع الْجُهَّال بِهِ فنالوه بِفساد الزَّمَان ونفوذ وعد الصَّادِق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله (اتخذ النَّاس رؤوساء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) وَبقيت الْحَال هَكَذَا فَمَاتَتْ الْعُلُوم إِلَّا عِنْد آحَاد النَّاس واستمرت الْقُرُون على موت الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَذَلِكَ بقدرة الله تَعَالَى وَجعل الْخلف مِنْهُم يتبع السّلف حَتَّى آلت الْحَال إِلَى أَن لَا ينظر فِي قَول مَالك وكبراء أَصْحَابه وَيُقَال قد قَالَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أهل قرطبة وَأهل طلمنكة وَأهل طليطلة وَصَارَ الصَّبِي إِذا عقل وسلكوا بِهِ أمثل طَريقَة لَهُم علموه كتاب الله تَعَالَى ثمَّ نقلوه إِلَى الْأَدَب ثمَّ إِلَى الْمُوَطَّأ ثمَّ إِلَى الْمُدَوَّنَة ثمَّ إِلَى وثائق ابْن الْعَطَّار ثمَّ يختمون لَهُ بِأَحْكَام ابْن سهل ثمَّ يُقَال قَالَ فلَان الطليطي وَفُلَان المجريطي وَابْن مغيث لَا أغاث الله ثراه فَيرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الْقَهْقَرَى وَلَا يزَال يمشي إِلَى وَرَاء وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى من بطَائفَة تَفَرَّقت فِي ديار الْعلم وَجَاءَت بلباب مِنْهُ كَالْقَاضِي أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَأبي مُحَمَّد الْأصيلِيّ فرشوا من مَاء الْعلم على هَذِه الْقُلُوب الْميتَة وعطروا أنفاس الْأمة الذفرة لَكَانَ الدّين قد ذهب وَلَكِن تدارك الْبَارِي تَعَالَى بقدرته ضَرَر هَؤُلَاءِ ينفع هَؤُلَاءِ وَرُبمَا سكنت الْحَال قَلِيلا وَالْحَمْد لله اه وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق تَتِمَّة مهمة قد ظهر بِبِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا مُنْذُ أعصار متطاولة لَا سِيمَا فِي الْمِائَة الْعَاشِرَة وَمَا بعْدهَا بدعوة قبيحة وَهِي اجْتِمَاع طَائِفَة من الْعَامَّة على شيخ من الشُّيُوخ الَّذين عاصروهم أَو تقدموهم مِمَّن يشار إِلَيْهِ بِالْولَايَةِ والخصوصية ويخصونه بمزيد الْمحبَّة والتعظيم ويتمسكون بخدمته والتقرب إِلَيْهِ قدرا زَائِدا على غَيره من الشُّيُوخ بِحَيْثُ يرتسم فِي خيال جلهم أَن كل الْمَشَايِخ أَو جلهم أَن دونه فِي الْمنزلَة عِنْد الله تَعَالَى وَيَقُولُونَ نَحن أَتبَاع سَيِّدي فلَان وخدام الدَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الْفُلَانِيَّة لَا يحولون عَن ذَلِك وَلَا يزولون خلفا عَن سلف وينادون باسمه ويتسغيثون بِهِ ويفزعون فِي مهماتهم إِلَيْهِ معتقدين أَن التَّقَرُّب إِلَيْهِ نَافِع والإنحراف عَنهُ قيد شبر ضار مَعَ أَن النافع والضار هُوَ الله وَحده وَإِذا ذكر لَهُم شيخ آخر أَو دعوا إِلَيّ حاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش من غير تبصر فِي أَحْوَاله هَل يسْتَحق ذَلِك التَّعْظِيم أم لَا فَصَارَ الْأَمر عصبيا وَصَارَت الْأمة بذلك طرائق قددا فَفِي كل بلد أَو قَرْيَة عدَّة طوائف وَهَذَا لم يكن مَعْرُوفا فِي سلف الْأمة الَّذين هم الْقدْوَة لمن بعدهمْ وغرض الشَّارِع إِنَّمَا هُوَ فِي الإجتماع وَتَمام الألفة واتحاد الوجهة وَقد قَالَ تَعَالَى لأهل الْكتاب {تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} الْآيَة وَقد ذمّ قوما فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي أهل الخصوصية وَالدّين أَن يَكُونُوا عِنْد الْعَاقِل المحتاط لدينِهِ كأسنان الْمشْط بِحَيْثُ يُحِبهُمْ لله وَفِي الله ويستشفع بهم إِلَى الله ويسأله تَعَالَى أَن يُكرمهُ بِمَا أكْرمهم بِهِ من الْخَيْر وَالْهدى وَالدّين وليحبهم حب التشرع لَا حب التَّشَيُّع وليتأدب مَعَهم وَلَا يقدم على مفاضلتهم بالهوى وَالرَّجم بِالْغَيْبِ فَإِن ذَلِك مُتَوَقف على الإطلاع على مَنْزِلَتهمْ عِنْد الله وَذَلِكَ مَحْجُوب عَنَّا وَإِذا نزلت بِهِ حَاجَة فليفرغ فِي قَضَائهَا إِلَى مَوْلَاهُ الَّذِي خلقه ورزقه مستشفعا إِلَيْهِ بِنَبِيِّهِ الَّذِي هداه للْإيمَان على يَده ثمَّ بخواص الْأمة الَّذين هم آبَاؤُنَا فِي الدّين فَإِن الْمَطْلُوب من العَبْد أَن يصرف وجهته وقصده فِي جَمِيع أُمُوره وَيتَعَلَّق فِيهَا بِاللَّه بِحَيْثُ لَا يطْلبهَا إِلَّا مِنْهُ وَلَا يتكل فِيهَا إِلَّا عَلَيْهِ قَاطعا للنَّظَر عَن كل مَا سواهُ اللَّهُمَّ إِلَّا على سَبِيل التوسل والإستشفاع كَمَا قُلْنَا هَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي بعث الله بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَيْهِ دَعَا وَعَلِيهِ قَاتل وسواه شرك ومنابذا لما جَاءَ بِهِ {إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله} ثمَّ استرسل هَؤُلَاءِ الطغام فِي ضلالهم حَتَّى صَارَت كل طَائِفَة تَجْتَمِع فِي أَوْقَات مَعْلُومَة من مَكَان مَخْصُوص أَو غَيره على بدعتهم الَّتِي يسمونها الحضرة فَمَا شِئْت من طست وطار وطبل ومزمار وغناء ورقص وخيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وفحص وَرُبمَا أضافوا إِلَى ذَلِك نَارا أَو غَيرهَا يستعملونه على سَبِيل الْكَرَامَة بزعمهم ويستغرقون فِي ذَلِك الزَّمن الطَّوِيل حَتَّى يمْضِي الْوَقْت والوقتان من أَوْقَات الصَّلَوَات وداعي الْفَلاح يُنَادي على رؤوسهم وهم فِي حيرتهم يعمهون لَا يرفعون بِهِ رَأْسا وَلَا يرَوْنَ بِمَا هم فِيهِ من الضلال بَأْسا بل يَعْتَقِدُونَ أَن مَا هم فِيهِ من أفضل الْقرب إِلَى الله تَعَالَى الله عَن جهالتهم علوا كَبِيرا وَلَا تَجِد فِي هَذِه المجامع الشيطانية غَالِبا إِلَّا من بلغ الْغَايَة فِي الْجفَاء وَالْجهل من لَا يحسن الْفَاتِحَة فضلا عَن غَيرهَا مَعَ ترك الصَّلَاة طول عمره أَو من فِي مَعْنَاهُ من معتوه نَاقص الْعقل وَالدّين فَمَا أحْوج هَؤُلَاءِ الفسقة إِلَى محتسب يُغير عَلَيْهِم مَا هم فِيهِ من الْمُنكر الْعَظِيم واللبس الْمُقِيم وَأعظم من هَذَا كُله أَنهم يَفْعَلُونَ تِلْكَ الحضرة غَالِبا فِي الْمَسَاجِد فَإِنَّهُم يتخذون الزاوية باسم الشَّيْخ ويجعلونها مَسْجِدا للصَّلَاة بالمحراب والمنار وَغير ذَلِك ثمَّ يعمرونها بِهَذِهِ الْبِدْعَة الشنيعة فكم رَأينَا من عود ورباب ومزمار على أفحش الهيأت فِي محاريب الصَّلَوَات وَمن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشُّيُوخ لبيت الله الْحَرَام من جعل الْكسْوَة لَهَا وتحديد الْحرم على مَسَافَة مَعْلُومَة بِحَيْثُ يكون من دخل تِلْكَ الْبقْعَة من أهل الجرائم آمنا وسوق الذَّبَائِح إِلَيْهَا على هَيْئَة الْهَدْي واتخاذ الْمَوْسِم كل عَام وَهَذَا وَأَمْثَاله لم يشرع إِلَّا فِي حق الْكَعْبَة ثمَّ يَقع فِي ذَلِك الْمَوْسِم وَلَا سِيمَا مواسم الْبَادِيَة من المناكر والمفاسد الْعِظَام واختلاط الرِّجَال بِالنسَاء باديات متبرجات شَأْن أهل الْإِبَاحَة وشأن قوم نوح فِي جاهليتهم مَا تصم عَنهُ الآذان وَلَا مُنكر وَلَا مغير وَلَا ممتعض للدّين لَا بل للحسب فَأَما الدّين عِنْد هَؤُلَاءِ فَلَا دين فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على ضَيْعَة الدّين وغفلة أَهله عَنهُ وَبِاللَّهِ وَيَا للْمُسلمين لهَؤُلَاء الهمج الرعاع الَّذين سلبوا الْمُرُوءَة وَالْحيَاء والغيرة وَالْعقل وَالدّين والإنسانية جملَة فليسوا فِي فطنة الشَّيَاطِين وَلَا فِي سَلامَة صُدُور الْبَهَائِم وَلَا فِي نخوة السبَاع فيغضبوا لديهم ومروءتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَمن جهالاتهم الفظيعة جمعهم بَين اسْم الله تَعَالَى وَاسم الْوَلِيّ فِي مقامات التَّعْظِيم كالقسم والإستعطاف وَغَيرهمَا فَإِذا أَقْسمُوا قَالُوا وَحقّ الله وَحقّ سَيِّدي فلَان وَإِذا عزموا على أحد قَالُوا دخلت عَلَيْك بِاللَّه وسيدي فلَان وَإِذا سَأَلُوا قَالُوا من يُعْطِينَا على الله وعَلى سَيِّدي فلَان فيعطفون اسْم العَبْد على اسْم مَوْلَاهُ بِالْوَاو الْمُقْتَضِيَة للتشريك والتسوية التَّامَّة فِي مقَام قد حظر الشَّارِع أَن يتَجَاوَز فِيهِ اسْم الله إِلَى غَيره وَهَذَا هُوَ صَرِيح الشّرك وَمن مناكرهم الجديرة بالتغيير اجْتِمَاعهم كل سنة للوقوف يَوْم عَرَفَة بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ ويسمون ذَلِك حج الْمِسْكِين فَانْظُر إِلَى هَذِه الطامة الَّتِي اخترعها هَؤُلَاءِ الْعَامَّة وَمن اختراعاتهم تسميتهم لبدعتهم بالحضرة كَمَا قُلْنَا أخذا من اسْم حَضْرَة الله تَعَالَى فِي إصْلَاح الْأَئِمَّة العارفين من الصُّوفِيَّة كَأَهل رِسَالَة الْقشيرِي وَمن فِي معناهم فأوهم هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِين بِهَذِهِ التَّسْمِيَة أَنهم يكونُونَ فِي حَال اشتغالهم بِتِلْكَ الْبِدْعَة فِي حَضْرَة الله تَعَالَى ثمَّ يذهبون فيسمون جنونهم وتخبطهم على تِلْكَ الطبول والمزامير بِالْحَال أخذا من الْحَال الَّتِي تعتري السالك إِلَى الله تَعَالَى فِي حَال ترقيه فِي دَرَجَات الْمعرفَة والوصول وَهَذَا لعمر الله من أقبح الضلالات واشنع الجهالات إِلَى غير هَذَا مِمَّا أُغني فِيهِ العيان عَن الْخَبَر وعرفه الْخَاص وَالْعَام فِي حالتي الْورْد والصدر ولسنا ننكر على أَوْلِيَاء الله وَأهل الخصوصية مِنْهُم أَو على من يسْلك سبيلهم على الْوَجْه الْمُقَرّر فِي كتب الْأَئِمَّة المقتدى بهم مِنْهُم وَإِنَّمَا نشرح حَال هَؤُلَاءِ الجهلة الَّذين لم يَأْتُوا الْأَمر من بَابه وَلَا أَخَذُوهُ عَن أربابه وَإِنَّمَا حَالهم مَا رَأَيْت وَعلمت وَهَذِه نفثة مصدور صَاحبهَا عِنْد الْمنصف مَعْذُور فنسأل الله الْعَظِيم الْمولى الْكَرِيم أَن يُحَرك همة من لَهُ الْقُدْرَة وَالتَّصَرُّف إِلَى حسم هَذِه الضلالات وقطعها عَسى أَن يَرْحَمنَا رَبنَا وَيجْبر كسرنا ويكبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عدونا إِذا نَحن راجعنا ديننَا وَسنة نَبينَا {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال} وَقد آن أَن نفرد الْكَلَام على الْمغرب الْأَقْصَى عِنْد مَا استولى عَلَيْهِ الْمولى إِدْرِيس بن عبد الله وَبَنوهُ من بعده واقتطعوه عَن نظر الْخُلَفَاء بالمشرق وصيروه مملكة مُسْتَقلَّة إِذْ كَانَ ذَلِك من شَرط كتَابنَا هَذَا حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ مقدمين لذَلِك مَا يجب تَقْدِيمه من الْإِشَارَة إِلَى أَمر الْخلَافَة وتنازع أهل الصَّدْر الأول فِي اسْتِحْقَاقهَا وَمن هُوَ أولى بهَا ثمَّ نتخلص مِنْهُ إِلَى الْمَقْصُود بِالذَّاتِ وَالله الْمُوفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الدولة الإدريسية الْخَبَر عَن دولة آل إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى وَذكر السَّبَب فِي أوليتها أعلم أَنه قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش لَا يعاديهم أحد إِلَّا كَبه الله على وَجهه مَا أَقَامُوا الدّين) وَفِيه أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان) قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر لَو فقد قرشي فكناني ثمَّ رجل من بني إِسْمَاعِيل ثمَّ عجمي على مَا فِي التَّهْذِيب أَو جرهمي على مَا فِي التَّتِمَّة ثمَّ رجل من بني إِسْحَاق وَأَن يكون شجاعا ليغزو بِنَفسِهِ ويعالج الجيوش ويقوى على فتح الْبِلَاد ويحمي الْبَيْضَة وَأَن يكون أَهلا للْقَضَاء بِأَن يكون مُسلما مُكَلّفا حرا عدلا ذكرا مُجْتَهدا ذَا رَأْي وَسمع وبصر ونطق وتنعقد الْإِمَامَة ببيعة أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء ووجوه النَّاس المتيسر اجْتِمَاعهم وباستخلاف الإِمَام من يُعينهُ فِي حَيَاته وَيشْتَرط الْقبُول فِي حَيَاته ليَكُون خَليفَة بعد مَوته وباستيلاء متغلب على الْإِمَامَة وَلَو غير أهل لَهَا كصبي وَامْرَأَة إِن قهر النَّاس بشوكته وجنده وَذَلِكَ لينظم أَمر الْمُسلمين اه ثمَّ نقُول قد تقدم لنا أَمر الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن السّلف أطبقوا على أَن ترتيبهم فِي الْفضل عل حسب ترتيبهم فِي الْخلَافَة وَتقدم لنا أَيْضا مَا كَانَ من عَليّ وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَن مَا صدر مِنْهُمَا كَانَ اجْتِهَادًا مَحْضا وطلبا للحق وَأَن الصَّوَاب كَانَ مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالْكل مأجور ثمَّ لما قتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَايع أهل الْعرَاق ابْنه الْحسن رَضِي الله عَنهُ وزحف إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أهل الشَّام وَرَأى الْحسن مَا فِي حقن دِمَاء الْمُسلمين وَجمع كلمتهم من الثَّوَاب عِنْد الله والكرامة لَدَيْهِ فَاخْتَارَ الْأُخْرَى على الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَقدم الآجل على العاجل وَسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة على شُرُوط مَعْرُوفَة وَأصْلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين كَمَا قَالَ جده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحَازَ مُعَاوِيَة الْخلَافَة وصفت لَهُ وتوارثها بنوا أُميَّة من بعده بعد مقاتلات ومنازعات كَانَت من بني هَاشم وَغَيرهم لَهُم يطول جلبها وَكَانَ السوَاد الْأَعْظَم من الْمُسلمين يرَوْنَ أَن بني هَاشم أَحَق بِالْأَمر من بني أُميَّة لِأَن بني هَاشم هم آل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعشيرته الأقربون وهم أهل الْعلم وَالدّين والخصوصية الَّذين اجتباهم الله وأذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا فهم أَحَق بِمنْصب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَيرهم وَهَذَا الرَّأْي صَوَاب غير أَن ذَلِك لَيْسَ بطرِيق الْوُجُوب عِنْد أهل السّنة بل بطرِيق الأحقية والأولوية إِذا توفرت الشُّرُوط فيهم وَفِي غَيرهم من سَائِر بطُون قُرَيْش وَإِلَّا فَمن انْفَرَدت بِهِ الشُّرُوط وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَكَانَ شيعَة عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يوجبون الْخلَافَة لِبَنِيهِ دون من عداهم ويزعمون أَن ذَلِك كَانَ بِوَصِيَّة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه الْوَصِيَّة لم تثبت عِنْد أهل السّنة من طَرِيق صَحِيح ومذاهب هَؤُلَاءِ الشِّيعَة فِي كَيْفيَّة سوق الْخلَافَة فِي عقب عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُتعَدِّدَة لَا حَاجَة لنا بذكرها وَكَانَ بَنو عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّدْر الأول كثيرا مَا يثورون فِي النواحي شرقا وغربا طَالِبين حَقهم فِي الْخلَافَة منازعين فِيهَا لبني أُميَّة أَولا ثمَّ لبني الْعَبَّاس من بعدهمْ ثَانِيًا وخبرهم فِي ذَلِك مَعْرُوف وجلبه يطول إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم عبد الله بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ من سادة أهل الْبَيْت يَوْمئِذٍ وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِالنَّفسِ الزكية وَإِبْرَاهِيم ويحي وَسليمَان وَإِدْرِيس وَغَيرهم وَلما صَار أَمر بني أُميَّة إِلَى الاختلال أَيَّام مَرْوَان الْحمار آخر خلفائهم اجْتمع أهل الْبَيْت بِالْمَدِينَةِ وَتَشَاوَرُوا فِيمَن يقدمونه للخلافة فَوَقع اختيارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 على مُحَمَّد بن عبد الله النَّفس الزكية فَبَايعُوا لَهُ بالخلافة وسلموا لَهُ الْأَمر بأجمعهم وَحضر هَذَا العقد أَبُو جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وَهُوَ الْمَنْصُور وَذَلِكَ قبل أَن تنْتَقل الْخلَافَة إِلَى بني الْعَبَّاس فَبَايع للنَّفس الزكية فِيمَن بَايع لَهُ من أهل الْبَيْت وَأَجْمعُوا على ذَلِك لتقدمه فيهم لما علمُوا لَهُ من الْفضل عَلَيْهِم قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا كَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله يحتجان لَهُ حِين خرج بالحجاز ويريان أَن إِمَامَته أصح من إِمَامَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور لانعقاد هَذِه الْبيعَة أَولا وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول بفضله ويحتج لحقه فتأدت إِلَى الْإِمَامَيْنِ المحنة بِسَبَب ذَلِك أَيَّام أبي جَعْفَر الْمَنْصُور حَتَّى ضرب مَالك رَضِي الله عَنهُ على الْفتيا فِي طَلَاق الْمُكْره وَحبس أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ على الْقَضَاء وَلما انقرضت دولة بني أُميَّة وَجَاءَت دولة بني الْعَبَّاس وَصَارَ الْأَمر إِلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور مِنْهُم سعى عِنْده بآل الْبَيْت وَأَن مُحَمَّد بن عبد الله يروم الْخُرُوج عَلَيْهِ وَأَن دعاته قد ظَهَرُوا بخراسان فَأمر الْمَنْصُور عَامله على الْمَدِينَة رَبَاح بن عُثْمَان المري بِحَبْس عبد الله بن حسن وَمن إِلَيْهِ من آل الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فحبسه جمَاعَة من بنيه وَإِخْوَته وَبني عَمه قَالَ ابْن خلدون فِي خَمْسَة وَأَرْبَعين من أكابرهم وَقدم الْمَنْصُور الْمَدِينَة فِي حجَّة حَجهَا فساقهم مَعَه إِلَى الْعرَاق وحبسهم بقصر ابْن هُبَيْرَة من ظَاهر الْكُوفَة حَتَّى هَلَكُوا فِي حَبسهم وجد الْمَنْصُور فِي طلب مُحَمَّد بن عبد الله النَّفس الزكية وأخيه إِبْرَاهِيم لِكَوْنِهِمَا تغيبا فَلم يحبسا فِي جملَة من حبس من عشيرتهم ثمَّ لما كَانَت سنة خمس واربعين وَمِائَة وأرهق مُحَمَّد بن عبد الله الطّلب وأعيت عَلَيْهِ الْمذَاهب ظهر بِالْمَدِينَةِ المنورة ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ واستفتى أهل الْمَدِينَة الإِمَام مَالِكًا رَضِي الله عَنهُ فِي الْخُرُوج مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله وَقَالُوا فِي أعناقنا بيعَة للمنصور فَقَالَ إِنَّمَا بايعتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مكرهين فَتسَارع النَّاس إِلَى مُحَمَّد وَأَجَابُوا دَعوته وَلزِمَ الإِمَام ملك بَيته وخطب مُحَمَّد بن عبد الله على مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الْمَنْصُور بِمَا نقمه عَلَيْهِ ووعد النَّاس واستنصر بهم وَتسَمى بالمهدي وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته من وُجُوه النَّاس إِلَّا الْقَلِيل وَبلغ الْمَنْصُور خبر مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا كَانَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ فأشفق من ذَلِك غَايَة الإشفاق وَكتب إِلَى مُحَمَّد كتاب أَمَان ويعده الْجَمِيل إِن هُوَ رَاجع الطَّاعَة فَأَجَابَهُ مُحَمَّد بِعَدَمِ قبُول ذَلِك مِنْهُ ودارت بَينهمَا مكاتبات ومحاورات فِي الْأَفْضَلِيَّة وَاسْتِحْقَاق الْخلَافَة وَقد ذكر مكاتبتهما الْمبرد فِي كَامِله وَابْن خلدون فِي تَارِيخه وَآخر الْأَمر أَن الْمَنْصُور بعث لِحَرْب مُحَمَّد الْمهْدي ابْن عَمه عِيسَى بن مُوسَى العباسي فاستعد الْمهْدي لِلْقِتَالِ وأدار على الْمَدِينَة الخَنْدَق الَّذِي حفره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحْزَاب وقدمت جيوش العباسيين ونزلوا على الْمَدِينَة وَخرج إِلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الله فِيمَن بَايعه واقتتل النَّاس قتالا شَدِيدا وأبلى مُحَمَّد الْمهْدي فِي ذَلِك الْيَوْم بلَاء عَظِيما وَقتل بِيَدِهِ سبعين رجلا وَلما اشْتَدَّ الْقِتَال وعاين مخايل الاختلال انْصَرف فاغتسل وتحنط وَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَمضى فَأحرق الدِّيوَان الَّذِي كَانَ فِيهِ أَسمَاء من بَايعه وَجَاء إِلَى السجْن فَقتل رَبَاح بن عُثْمَان عَامل الْمَنْصُور على الْمَدِينَة وَقتل مَعَه جمَاعَة كَانُوا مسجونين عِنْده ثمَّ عَاد إِلَى المعركة وَقد تفرق عَنهُ جلّ أَصْحَابه وَلم يبْق مَعَه إِلَّا نَحْو ثَلَاثمِائَة فَقَالَ لَهُ بَعضهم نَحن الْيَوْم فِي عدَّة أهل بدر ثمَّ تقدم فقاتل حَتَّى قتل ضرب فَسقط لِرُكْبَتَيْهِ وطعنه حميد بن قَحْطَبَةَ فِي صَدره ثمَّ احْتَرز رَأسه وأتى بِهِ عِيسَى بن مُوسَى فَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ مقتل مُحَمَّد الْمهْدي رَحمَه الله فِي منتصف رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة وَقتل مَعَه جمَاعَة من أهل بَيته وَأَصْحَابه وَلحق ابْنه عَليّ بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 مُحَمَّد بالسند إِلَى أَن هلك هُنَاكَ واختفى ابْنه الآخر عبد الله الأشتر إِلَى أَن هلك أَيْضا فِي خبر طَوِيل ثمَّ خرج إِبْرَاهِيم بن عبد الله أَخُو الْمهْدي الْمَذْكُور بِالْبَصْرَةِ عقب ذَلِك فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور عِيسَى بن مُوسَى الْمَذْكُور آنِفا فقاتله آخر ذِي الْقعدَة من السّنة فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم وَقتل رَحمَه الله بعد أَن بَايعه أَكثر من مائَة ألف ثمَّ لما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة فِي أَيَّام مُوسَى الْهَادِي بن مُحَمَّد الْمهْدي بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور خرج بِالْمَدِينَةِ الْحُسَيْن بِالتَّصْغِيرِ بن عَليّ بن الْحسن المثلث بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من أهل بَيته مِنْهُم إِدْرِيس وَيحيى وَسليمَان بَنو عبد الله بن الْحسن الْمثنى وهم إخْوَة مُحَمَّد النَّفس الزكية فَاشْتَدَّ أَمر الْحُسَيْن الْمَذْكُور بِالْمَدِينَةِ وَجرى بَينه وَبَين عَامل الْهَادِي على الْمَدِينَة وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب قتال فَانْهَزَمَ عمر الْمَذْكُور وَبَايع النَّاس الْحُسَيْن الْمَذْكُور على كتاب الله وَسنة نبيه للمرتضى من آل مُحَمَّد وَكَانُوا يكنون بذلك عَن الإِمَام المستور إِلَى أَن يقدر على إِظْهَار أمره وَأقَام الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامًا ثمَّ خَرجُوا إِلَى مَكَّة يَوْم السبت لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة فَانْتهى الْحُسَيْن إِلَى مَكَّة وانضم إِلَيْهِ جمَاعَة من عبيدها وَكَانَ قد حج تِلْكَ السّنة جمَاعَة من وُجُوه بني الْعَبَّاس وشيعتهم فَمنهمْ سُلَيْمَان بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان بن عَليّ وَالْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ وانضم إِلَيْهِم من حج من قوادهم ومواليهم واقتتلوا مَعَ الْحُسَيْن الْمَذْكُور يَوْم التَّرويَة الثَّامِن من ذِي الْحجَّة فَانْهَزَمَ الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَقتل فاحتزوا رَأسه وأحضروه أَمَام بني الْعَبَّاس وَهُوَ مَضْرُوب على قَفاهُ وجبهته ثمَّ جمعت رُؤُوس أَصْحَابه فَكَانَت مائَة ونيفا وَكَانَ فِيهَا رَأس سُلَيْمَان بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى فِي قَول وَاخْتَلَطَ المنهزمون بالحاج فَذَهَبُوا فِي كل وَجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَكَانَ مقتلهم بِموضع يُقَال لَهُ فخ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة كَمَا قُلْنَا وَفِي ذَلِك يَقُول بعض شعراء ذَلِك الْعَصْر (فلأبكين على الْحُسَيْن ... بعولة وعَلى الْحسن) (وعَلى ابْن عَاتِكَة الَّذِي ... واروه لَيْسَ لَهُ كفن) (تركُوا بفخ غدْوَة ... فِي غير منزلَة الوطن) فِي أَبْيَات وَالْحسن الَّذِي ذكره فِي هَذِه الأبيات هُوَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ أسر فِي ذَلِك الْيَوْم فَضربت عُنُقه صبرا وَابْن عَاتِكَة الَّذِي ذكره هُوَ عبد الله بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ حمل رَأس الْحُسَيْن وَمَعَهُ بَاقِي الرؤوس إِلَى الْهَادِي فَأنْكر عَلَيْهِم حمل رَأس الْحُسَيْن وَلم يعطهم جوائزهم غَضبا عَلَيْهِم دُخُول إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَقْصَى قد تقدم لنا أَن يحيى وَإِدْرِيس ابْني عبد الله حضرا وقْعَة فخ مَعَ الْحُسَيْن بن عَليّ الْمَذْكُور آنِفا فَأَما يحيى فَإِنَّهُ فر من الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة إِلَى بِلَاد الديلم فِي جِهَة الشرق ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ واشتدت شوكته ثمَّ إِن الرشيد جهز إِلَيْهِ الْفضل بن يحيى الْبَرْمَكِي فِي جَيش كثيف فكاتبه الْفضل وبذل لَهُ الْأمان وَمَا يختاره فَأَجَابَهُ يحيى بن عبد الله إِلَى ذَلِك وَطلب يَمِين الرشيد وَأَن يكون بِخَطِّهِ وَيشْهد فِيهِ الأكابر فَفعل ذَلِك وَحضر يحيى بن عبد الله إِلَى بَغْدَاد فَأكْرمه الرشيد وَأَعْطَاهُ مَالا كثيرا ثمَّ حَبسه حَتَّى مَاتَ فِي السجْن وَأما إِدْرِيس فَإِنَّهُ فر من الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة وَلحق بِمصْر وعَلى بريدها يَوْمئِذٍ وَاضح مولى صَالح بن الْمَنْصُور وَيعرف بالمسكين وَكَانَ وَاضح يتشيع لآل الْبَيْت فَعلم شَأْن إِدْرِيس وَأَتَاهُ إِلَى الْموضع الَّذِي كَانَ مستخفيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بِهِ وَلم ير شَيْئا أخْلص لَهُ من أَن يحملهُ على الْبَرِيد إِلَى الْمغرب فَفعل وَلحق إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى هُوَ ومولاه رَاشد فَنزل بِمَدِينَة وليلى سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة وَبهَا يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد أَمِير أوربة من البربر البرانس فأجاره وأكرمه وَجمع البربر على الْقيام بدعوته وخلع الطَّاعَة العباسية وكشف القناع فِي ذَلِك وانْتهى الْخَبَر إِلَى الرشيد بِمَا فعله وَاضح فِي شَأْن إِدْرِيس فَقتله وصلبه وَقَالَ ابْن أبي زرع فِي كتاب القرطاس إِن إِدْرِيس بن عبد الله لما قتلت عشيرته بفخ فر بِنَفسِهِ متسترا فِي الْبِلَاد يُرِيد الْمغرب فَسَار من مَكَّة حَتَّى وصل إِلَى مصر وَمَعَهُ مولى لَهُ اسْمه رَاشد فَدَخلَهَا وَالْعَامِل عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ لبني الْعَبَّاس هُوَ عَليّ بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي فَبَيْنَمَا إِدْرِيس وَرَاشِد يمشيان فِي شوارع مصر إِذا مرا بدار حَسَنَة الْبناء فوقفا يتأملانها وَإِذا بِصَاحِب الدَّار قد خرج فَسلم عَلَيْهِمَا وَقَالَ مَا الَّذِي تنظرانه من هَذِه الدَّار فَقَالَ رَاشد أعجبنا حسن بنائها قَالَ وأظنكما غريبين ليسَا من هَذِه الْبِلَاد فَقَالَ رَاشد جعلت فدَاك إِن الْأَمر كَمَا ذكرت قَالَ فَمن اي الأقاليم أَنْتُمَا قَالَا من الْحجاز قَالَ فَمن أَي بِلَاده قَالَا من مَكَّة قَالَ وأخالكما من شيعَة الحسنين الفارين من وقْعَة فخ فهما بالإنكار ثمَّ توسما فِيهِ الْخَيْر فَقَالَ رَاشد يَا سَيِّدي أرى لَك صُورَة حَسَنَة وَقد توسمت فِيك الْخَيْر أَرَأَيْت إِن أخبرناك من نَحن أَكنت تستر علينا قَالَ نعم وَرب الْكَعْبَة وأبذل الْجهد فِي صَلَاح حالكما فَقَالَ رَاشد هَذَا إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن وَأَنا مَوْلَاهُ رَاشد فَرَرْت بِهِ خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل وَنحن قاصدون بِلَاد الْمغرب فَقَالَ الرجل لتطمئن نفوسكما فَإِنِّي من شيعَة آل الْبَيْت وَأول من كتم سرهم فأنتما من الْآمنينَ ثمَّ أدخلهما منزله وَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا فاتصل خبرهما بعلي بن سُلَيْمَان صَاحب مصر فَبعث إِلَى الرجل الَّذِي هما عِنْده فَقَالَ لَهُ إِنَّه قد رفع إِلَيّ خبر الرجلَيْن الَّذين عنْدك وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كتب إِلَيّ فِي طلب الحسينين والبحث عَنْهُم وَقد بَث عيونه على الطرقات وَجعل الرصاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 على أَطْرَاف الْبِلَاد فَلَا يمر بهم أحد حَتَّى يعرف نسبه وحاله وَإِنِّي أكره أَن أتعرض لدماء آل الْبَيْت فلك وَلَهُم الْأمان فَاذْهَبْ إِلَيْهِمَا وأعلمهما بمقالي وَأَمرهمَا بِالْخرُوجِ من عَمَلي وَقد أجلتهما ثَلَاثًا فَسَار الرجل فَاشْترى راحلتين لإدريس ومولاه وَاشْترى لنَفسِهِ أُخْرَى وَوضع زادا يبلغهما إِلَى إفريقية وَقَالَ لراشد اخْرُج أَنْت مَعَ الرّفْقَة على الجادة وَأخرج أَنا وَإِدْرِيس على طَرِيق غامض لَا تسلكه الرفاق وموعدنا مَدِينَة برقة فَخرج رَاشد مَعَ الرّفْقَة فِي زِيّ التُّجَّار وَخرج إِدْرِيس مَعَ الْمصْرِيّ فسلكا الْبَريَّة حَتَّى وصلا إِلَى برقة وَأَقَامَا بهَا حَتَّى لحق بهما رَاشد ثمَّ جدد الْمصْرِيّ لَهما زادا وودعهما وَانْصَرف وَسَار إِدْرِيس وَرَاشِد يجدان السّير حَتَّى وصلا إِلَى القيروان فأقاما بهَا مُدَّة ثمَّ خرجا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَكَانَ رَاشد من أهل النجدة والحزم وَالدّين والنصيحة لآل الْبَيْت فَعمد إِلَى إِدْرِيس حِين خرجا من القيروان فألبسه مدرعة صوف خشينة وعمامة كَذَلِك وصيره كالخادم لَهُ يَأْمُرهُ وينهاه كل ذَلِك خوفًا عَلَيْهِ وحياطة لَهُ ثمَّ وصلا إِلَى مَدِينَة تلمسان فأراحا بهَا أَيَّامًا ثمَّ ارتحلا نَحْو بِلَاد طنجة فسارا حَتَّى عبرا وَادي ملوية ودخلا بِلَاد السوس الْأَدْنَى وتقدما إِلَى مَدِينَة طنجة وَهِي يَوْمئِذٍ قَاعِدَة بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وَأم مدنه فأقاما بهَا أَيَّامًا فَلَمَّا لم يجد إِدْرِيس بهَا مُرَاده خرج مَعَ مَوْلَاهُ رَاشد حَتَّى انتهيا إِلَى مَدِينَة وليلى قَاعِدَة جبل زرهون وَكَانَت مَدِينَة متوسطة حَصِينَة كَثِيرَة الْمِيَاه والغروس وَالزَّيْتُون وَكَانَ لَهَا سور عَظِيم من بُنيان الْأَوَائِل يُقَال إِنَّهَا الْمُسَمَّاة الْيَوْم بقصر فِرْعَوْن فَنزل بهَا إِدْرِيس على صَاحبهَا ابْن عبد الحميد الأوربي فَأقبل عَلَيْهِ ابْن عبد الحميد وَبَالغ فِي إكرامه وبره فَعرفهُ إِدْرِيس بِنَفسِهِ وأفضى إِلَيْهِ بسره فوافقه على مُرَاده وأنزله مَعَه فِي دَاره وَتَوَلَّى خدمته وَالْقِيَام بشؤونه وَكَانَ دُخُول إِدْرِيس الْمغرب ونزوله على ابْن عبد الحميد بِمَدِينَة وليلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة بيعَة الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ لما اسْتَقر إِدْرِيس بن عبد الله بِمَدِينَة وليلى عِنْد كبيرها إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن عبد الحميد الأوربي أَقَامَ عِنْده سِتَّة أشهر فَلَمَّا دخل شهر رَمَضَان من السّنة جمع ابْن عبد الحميد عشيرته من أوربة وعرفهم بِنسَب إِدْرِيس وقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقرر لَهُم فَضله وَدينه وَعلمه واجتماع خِصَال الْخَيْر فِيهِ فَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أكرمنا بِهِ وشرفنا بجواره وَهُوَ سيدنَا وَنحن العبيد فَمَا تُرِيدُ منا قَالَ تبايعونه قَالُوا مَا منا من يتَوَقَّف عَن بيعَته فَبَايعُوهُ بِمَدِينَة وليلى يَوْم الْجُمُعَة رَابِع رَمَضَان الْمُعظم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة وَكَانَ أول من بَايعه قَبيلَة أوربة على السّمع وَالطَّاعَة وَالْقِيَام بأَمْره والاقتداء بِهِ فِي صلواتهم وغزواتهم وَسَائِر أحكامهم وَكَانَت أوربة يَوْمئِذٍ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الْأَقْصَى وأكثرها عددا وتلتها فِي نصْرَة إِدْرِيس وَالْقِيَام بأَمْره مغيلة وصدينة وهما مَعًا من ولد تامزيت بن ضرى وَلما بُويِعَ إِدْرِيس رَحمَه الله خطب النَّاس فَقَالَ بعد حمد الله وَالصَّلَاة على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيهَا النَّاس لَا تَمُدَّن الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا فَإِن الَّذِي تجدونه من الْحق عندنَا لَا تجدونه عِنْد غَيرنَا ثمَّ بعد ذَلِك وفدت عَلَيْهِ قبائل زناتة والبربر مثل زواغة وزواوة وسدراتة وغياثة ومكناسة وغمارة وكافة البربر بالمغرب الْأَقْصَى فَبَايعُوهُ أَيْضا ودخلوا فِي طَاعَته فاستتب أمره وَتمكن سُلْطَانه وقويت شوكته وَلحق بِهِ من اخوته سُلَيْمَان بن عبد الله وَنزل بِأَرْض زتاتة من تلمسان ونواحيها كَذَا عِنْد ابْن خلدون فِي أَخْبَار الأدارسة وَالَّذِي عِنْده فِي أَخْبَار بني الْعَبَّاس وَكَذَا عِنْد أبي الْفِدَاء أَن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حسن قتل بوقعة فخ وَجمع رَأسه مَعَ رُؤُوس الْقَتْلَى فَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وفتحه إِيَّاهَا ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ اتخذ جَيْشًا كثيفا من وُجُوه زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وَغَيرهم وَخرج غازيا بِلَاد تامسنا ثمَّ زحف إِلَى بِلَاد تادلا فَفتح معاقلها وحصونها وَكَانَ أَكثر أهل هَذِه الْبِلَاد لَا زَالُوا على دين الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَإِنَّمَا الْإِسْلَام بهَا قَلِيل فَأسلم جَمِيعهم على يَده وقفل إِلَى مَدِينَة وليلى مؤيدا منصورا فَدَخلَهَا أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَيْنِ وَسبعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهر محرم فاتح سنة ثَلَاث وَسبعين ريثما استراح النَّاس ثمَّ خرج برسم غَزْو من كَانَ بَقِي من قبائل البربر بالمغرب على دين الْمَجُوسِيَّة واليهودية والنصرانية وَكَانَ قد بَقِي مِنْهُم بَقِيَّة متحصنون فِي المعاقل وَالْجِبَال والحصون المنيعة فَلم يزل إِدْرِيس رَحمَه الله يجاهدهم فِي حصونهم ويستنزلهم من معاقلهم حَتَّى دخلُوا فِي الْإِسْلَام طَوْعًا وَكرها وَمن أَبى الْإِسْلَام مِنْهُم أباده قتلا وسبيا وَكَانَت الْبِلَاد الَّتِى غَزَاهَا فِي هَذِه الْمرة حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز ثمَّ عَاد إِلَى مَدِينَة وليلى فَدَخلَهَا فِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَوْسَط وَفتح مَدِينَة تلمسان لما قفل إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ من غَزْو بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة أَقَامَ بو ليلى بَقِيَّة جُمَادَى الْآخِرَة وَنصف رَجَب التَّالِي لَهَا ريثما استراح جَيْشه ثمَّ خرج منتصف رَجَب الْمَذْكُور برسم غَزْو مَدِينَة تلمسان وَمن بهَا من قبائل مغراوة وَبني يفرن فَانْتهى إِلَيْهَا وَنزل خَارِجهَا فَخرج إِلَيْهِ صَاحبهَا مُحَمَّد بن خزر من ولد صولات المغراوي مستأمنا ومبايعا لَهُ فَأَمنهُ إِدْرِيس وَقبل بيعَته وَدخل مَدِينَة تلمسان فأمن أَهلهَا ثمَّ أَمن سَائِر زناتة وَبنى مَسْجِد تلمسان وأتقنه وَأمر بِعَمَل مِنْبَر نَصبه فِيهِ وَكتب عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا أَمر بِهِ الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وَذَلِكَ فِي شهر صفر سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة قَالَ ابْن خلدون وَاسم إِدْرِيس مخطوط فِي صفحة الْمِنْبَر لهَذَا الْعَهْد اه ثمَّ رَجَعَ إِدْرِيس رَحمَه الله إِلَى مَدِينَة وليلى فَدَخلَهَا مؤيدا منصورا وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما حصل لإدريس رَحمَه الله مَا حصل من التَّمَكُّن والظهور اتَّصل خبر ذَلِك بالخليفة بِبَغْدَاد وَهُوَ هَارُون الرشيد العباسي وبلغه أَن إِدْرِيس قد استقام لَهُ أَمر الْمغرب وَأَنه قد استفحل أمره وَكَثُرت جُنُوده وَقد فتح مَدِينَة تلمسان وَبنى مَسْجِدهَا وَأَنه عازم على غَزْو إفريقية فخاف الرشيد عَاقِبَة ذَلِك وَأَنه إِن لم يتدارك أمره الْآن رُبمَا عجز عَنهُ فِي الْمُسْتَقْبل مَعَ مَا يعلم من فضل إِدْرِيس خُصُوصا ومحبة النَّاس فِي آل الْبَيْت عُمُوما فقلق الرشيد من ذَلِك وَاسْتَشَارَ وزيره يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَقَالَ إِن الرجل قد فتح تلمسان وَهِي بَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إفريقية وَمن ملك الْبَاب يُوشك أَن يدْخل الدَّار وَقد هَمَمْت أَن أبْعث إِلَيْهِ جَيْشًا ثمَّ فَكرت فِي بعد الشقة وَعظم الْمَشَقَّة فَرَجَعت عَن ذَلِك فَقَالَ يحيى الرَّأْي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تبْعَث إِلَيْهِ بِرَجُل داهية يحتال عَلَيْهِ ويغتاله وتستريح مِنْهُ فأعجب الرشيد ذَلِك فَوَقع اختيارهما على رجل من موَالِي الْمهْدي وَالِد الرشيد وَاسم الرجل سُلَيْمَان بن جرير وَيعرف بالشماخ فَأحْضرهُ يحيى وأعلمه بِمَا يُرِيد مِنْهُ ووعده على قتل إِدْرِيس الرّفْعَة والمنزلة الْعَالِيَة عِنْد الرشيد وزوده مَالا وطرفا يَسْتَعِين بهَا على أمره وأصحبه الرشيد كتابا مِنْهُ إِلَى واليه على إفريقية إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب كَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَفِيه أَن ابْن الْأَغْلَب لم يكن واليا على إفريقية فِي هَذَا التَّارِيخ وَإِنَّمَا وَليهَا سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة حَسْبَمَا سبق فوصل الشماخ إِلَى وَالِي إفريقية بِكِتَاب الرشيد فَأَجَازَهُ إِلَى الْمغرب وَقدم الشماخ على إِدْرِيس بن عبد الله مظْهرا النُّزُوع إِلَيْهِ فِيمَن نزع إِلَيْهِ من وحدان الْعَرَب متبرئا من الدعْوَة العباسية منتحلا للدعوة الطالبية فاختصه إِدْرِيس رَحمَه الله وحلا بِعَيْنيهِ وعظمت مَنْزِلَته لَدَيْهِ وَكَانَ الشماخ ممتلئا من الْأَدَب والظرف والبلاغة عَارِفًا بصناعة الجدل فَكَانَ إِذا جلس الإِمَام إِدْرِيس إِلَى رُؤَسَاء البربر ووجوه الْقَبَائِل تكلم الشماخ فَذكر فضل أهل الْبَيْت وعظيم بركتهم على الْأمة ويقرر ذَلِك ويحتج لإمامة إِدْرِيس وَأَنه الإِمَام الْحق دون غَيره فَكَانَ يعجب إِدْرِيس وَيَقَع مِنْهُ الْموقع فاستولى الشماخ عَلَيْهِ حَتَّى صَار من ملازميه وَلَا يَأْكُل إِلَّا مَعَه وَكَانَ رَاشد كالئا لإدريس ملازما لَهُ أَيْضا قَلما ينْفَرد عَنهُ لِأَنَّهُ كَانَ يخَاف عَلَيْهِ من مثل مَا وَقع فِيهِ لِكَثْرَة أَعدَاء آل الْبَيْت يَوْمئِذٍ وَكَانَ الشماخ يترصد الْغرَّة من رَاشد ويترقب الفرصة فِي إِدْرِيس إِلَى أَن غلب رَاشد ذَات يَوْم فِي بعض حاجاته فَدخل الشماخ على إِدْرِيس فَجَلَسَ بَين يَدَيْهِ على الْعَادة وتحدث مَلِيًّا وَلما لم ير الشماخ راشدا بالحضرة انتهز الفرصة فِي إِدْرِيس فَقيل إِنَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 كَانَت مَعَ الشماخ قَارُورَة من طيب مَسْمُوم فأخرجها وَقَالَ لإدريس هَذَا طيب كنت استصحبته معي وَهُوَ من جيد الطّيب فَرَأَيْت أَن الإِمَام أولى بِهِ مني وَذَلِكَ من بعض مَا يجب لَهُ عَليّ ثمَّ وضع القارورة بَين يَدَيْهِ فشكره إِدْرِيس وَتَنَاول القارورة فَفَتحهَا واشتم مَا فِيهَا فَصَعدَ السم إِلَى خياشيمه وانْتهى إِلَى دماغه فَغشيَ عَلَيْهِ وَقَامَ الشماخ للحين كَأَنَّهُ يُرِيد حَاجَة الْإِنْسَان فَخرج وأتى منزله فَركب فرسا لَهُ عتيقا كَانَ قد أعده لذَلِك وَذهب لوجهه يُرِيد الْمشرق وافتقد النَّاس الإِمَام إِدْرِيس فَإِذا هُوَ مغشي عَلَيْهِ لَا يتَكَلَّم وَلَا يعلم أحد مَا بِهِ وَقيل إِن الشماخ سمه فِي سنُون والسنون بِوَزْن صبور مَا يستاك بِهِ وَكَانَ إِدْرِيس يشتكي وجع الْأَسْنَان واللثة وَقيل سمه فِي الْحُوت الشابل وَقيل فِي عِنَب أهداه إِلَيْهِ فِي غير إبانة وَالله أعلم وَلما اتَّصل خبر إِدْرِيس بمولاه رَاشد أقبل مسرعا فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ يُحَرك شَفَتَيْه لَا يبين كلَاما قد أشرف على الْمَوْت فَجَلَسَ عِنْد رَأسه متحيرا لَا يدْرِي مَا دهاه وَاسْتمرّ إِدْرِيس على حَالَته تِلْكَ إِلَى عشي النَّهَار فَتوفي فِي مهل ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وتفقد رَاشد الشماخ فَلم يره فَعلم أَنه الَّذِي اغتال إِدْرِيس ثمَّ جَاءَ الْخَبَر بِأَن الشماخ قد لَقِي على أَمْيَال من الْبَلَد فَركب رَاشد فِي جمع من البربر واتبعوه وتقطعت الْخَيل فِي النواحي وطلبوه ليلتهم إِلَى الصَّباح فَلحقه رَاشد بوادي ملوية عابرا فَشد عَلَيْهِ رَاشد بِالسَّيْفِ وضربه ضربات قطع فِي بَعْضهَا يمناه وَشَجه فِي رَأسه شجاجا وَنَجَا الشماخ بجربعاء الذقن وأعيى فرس رَاشد عَن اللحاق بِهِ فَرجع عَنهُ وَيُقَال أَن الشماخ رئي بعد ذَلِك بِبَغْدَاد وَهُوَ مَقْطُوع الْيَد وَلما رَجَعَ رَاشد إِلَى منزله أَخذ فِي تجهيز الإِمَام رَضِي الله عَنهُ وَصلى عَلَيْهِ وَدَفنه بِصَحْنِ رابطة عِنْد بَاب وليلى ليتبرك النَّاس بتربته رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أَمر البربر بعد وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله رَحمَه الله قَالُوا إِن الإِمَام إِدْرِيس لما توفّي لم يتْرك ولدا إِلَّا حملا من أمة لَهُ بربرية اسْمهَا كنزة فَلَمَّا فرغ رَاشد من جهازه وَدَفنه جمع رُؤَسَاء البربر ووجوه النَّاس فَقَالَ لَهُم إِن إِدْرِيس لم يتْرك ولدا إِلَّا حملا من أمته كنزة وَهِي الْآن فِي الشَّهْر السَّابِع من حملهَا فَإِن رَأَيْتُمْ أَن تصبروا حَتَّى تضع هَذِه الْجَارِيَة حملهَا فَإِن كَانَ ذكرا أحسنا تَرْبِيَته حَتَّى إِذا بلغ مبلغ الرِّجَال بَايَعْنَاهُ تمسكا بدعوة آل الْبَيْت وتبركا بذرية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ جَارِيَة نظرتم لأنفسكم فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك مَا لنا رَأْي إِلَّا مَا رَأَيْت فَإنَّك عندنَا عوض من إِدْرِيس تقوم بأمورنا كَمَا كَانَ إِدْرِيس يقوم بهَا وَتصلي بِنَا وتقضي بَيْننَا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَصْبِر حَتَّى تضع الْجَارِيَة حملهَا وَيكون مَا أَشرت بِهِ على أَنَّهَا إِن وضعت جَارِيَة كنت أَحَق النَّاس بِهَذَا الْأَمر لفضلك وَدينك وعلمك فشكرهم رَاشد على ذَلِك ودعا لَهُم وَانْصَرفُوا فَقَامَ رَاشد بِأَمْر البربر تِلْكَ الْمدَّة وَلما تمت لِلْجَارِيَةِ أشهر حملهَا وضعت غُلَاما أشبه النَّاس بِأَبِيهِ إِدْرِيس فَأخْرجهُ رَاشد إِلَى رُؤَسَاء البربر حَتَّى نظرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا هَذَا إِدْرِيس بِعَيْنيهِ كَأَنَّهُ لم يمت فَسَماهُ رَاشد إِدْرِيس وَنَشَأ الصَّبِي نشأة حَسَنَة إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الْخَبَر عَن دولة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله كَانَت ولادَة إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث رَجَب سنة سبع وَسبعين وَمِائَة فَكَفَلَهُ رَاشد مولى أَبِيه وَقَامَ بأَمْره أحسن قيام فَأَقْرَأهُ الْقُرْآن حَتَّى حفظه وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين ثمَّ علمه الحَدِيث وَالسّنة وَالْفِقْه فِي الدّين والعربية وَرَوَاهُ الشّعْر وأمثال الْعَرَب وَحكمهَا وأطلعه على سير الْمُلُوك وعرفه أَيَّام النَّاس ودربه على ركُوب الْخَيل وَالرَّمْي بِالسِّهَامِ وَغير ذَلِك من مكايد الْحَرْب فَلم يمض لَهُ من الْعُمر مِقْدَار إِحْدَى عشرَة سنة إِلَّا وَقد اضطلع بِمَا حمل وترشح لِلْأَمْرِ وَاسْتحق لِأَن يُبَايع فَبَايعهُ البربر وآتوه صفقتهم عَن طَاعَة مِنْهُم وإخلاص قَالَ ابْن خلدون بَايع البربر إِدْرِيس الْأَصْغَر حملا ثمَّ رضيعا ثمَّ فصيلا إِلَى أَن شب فَبَايعُوهُ بِجَامِع مَدِينَة وليلى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب صَاحب إفريقية قد دس إِلَى بعض البربر الْأَمْوَال واستمالهم حَتَّى قتلوا راشدا مَوْلَاهُ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وحملوا إِلَيْهِ رَأسه وَقَامَ بكفالة إِدْرِيس من بعده أَبُو خَالِد يزِيد بن إلْيَاس الْعَبْدي وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن بَايعُوا لإدريس فَقَامُوا بأَمْره وجددوا لأَنْفُسِهِمْ رسوم الْملك بتجديد طَاعَته وَفِي القرطاس أَن مقتل رَاشد كَانَ فِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا إِدْرِيس بن إِدْرِيس قَالَ وَكَانَت بيعَة إِدْرِيس يَوْم الْجُمُعَة غرَّة ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة بعد مقتل رَاشد بِعشْرين يَوْمًا وَإِدْرِيس يَوْمئِذٍ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر قَالَه عبد الْملك الْوراق فِي تَارِيخه وَفِيه بعض مُخَالفَة لتاريخ الْولادَة الْمُتَقَدّم وَفِي قتل رَاشد يَقُول إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب فِي بعض مَا كتب بِهِ إِلَى الرشيد يعرفهُ بنصحه وَكَمَال خدمته (ألم ترن بالكيد أرديت راشدا ... وَإِنِّي بِأُخْرَى لِابْنِ إِدْرِيس راصد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 (تنَاوله عزمي على بعد دَاره ... بمحتومة يحظى بهَا من يكايد) (ففاه أَخُو عك بمقتل رَاشد ... وَقد كنت فِيهِ شَاهدا وَهُوَ رَاقِد) يُرِيد بأخي عك مُحَمَّد بن مقَاتل العكي وَالِي إفريقية فَإِنَّهُ لما حاول ابْن الْأَغْلَب قتل رَاشد وَتمّ لَهُ ذَلِك كتب العكي إِلَى الرشيد يُعلمهُ أَنه هُوَ الَّذِي فعل ذَلِك فَكتب صَاحب الْبَرِيد إِلَى الرشيد بِحَقِيقَة الْأَمر وَأَن ابْن الْأَغْلَب هُوَ الْفَاعِل لذَلِك وَالْمُتوَلِّيّ لَهُ فَثَبت عِنْد الرشيد كذب العكي وَصدق ابْن الْأَغْلَب فعزل الرشيد العكي عَن إفريقيا وَولى ابْن الْأَغْلَب عَلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَ قبل ذَلِك عَاملا للعكي على بعض كورها هَكَذَا حكى صَاحب القرطاس هَذَا الْخَبَر وَفِيه أَن عزل العكي عَن إفريقية وتولية ابْن الْأَغْلَب عَلَيْهَا كَانَ فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ قبل وَفَاة رَاشد بِسنتَيْنِ أَو بِأَرْبَع سِنِين على الْخلاف الْمُتَقَدّم وَقَالَ الْبكْرِيّ والبرنسي إِن راشدا لم يمت حَتَّى أَخذ الْبيعَة لإدريس بالمغرب وَإِن إِدْرِيس لما تمّ لَهُ من الْعُمر إِحْدَى عشرَة سنة ظهر من وفور عقله ونباهته وفصاحته مَا أذهل عقول الْخَاصَّة والعامة فَأخذ لَهُ رَاشد الْبيعَة على البربر يَوْم الْجُمُعَة سَابِع ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَصَعدَ إِدْرِيس الْمِنْبَر وخطب النَّاس فَقَالَ الْحَمد لله أَحْمَده وأستغفره وأستعين بِهِ وَأَتَوَكَّل عَلَيْهِ وَأَعُوذ بِهِ من شَرّ نَفسِي وَمن شَرّ كل ذِي شَرّ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمَبْعُوث إِلَى الثقلَيْن بشيرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آل بَيته الطاهرين الَّذين أذهب الله عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا أَيهَا النَّاس إِنَّا قد ولينا هَذَا الْأَمر الَّذِي يُضَاعف فِيهِ للمحسن الْأجر وعَلى الْمُسِيء الْوزر وَنحن وَالْحَمْد لله على قصد فَلَا تمدوا الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا فَإِن الَّذِي تطلبونه من إِقَامَة الْحق إِنَّمَا تجدونه عندنَا ثمَّ دَعَا النَّاس إِلَى بيعَته وحضهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ فَعجب النَّاس من فَصَاحَته وَقُوَّة جأشه على صغر سنه ثمَّ نزل فَتسَارع النَّاس إِلَى بيعَته وازدحموا عَلَيْهِ يقبلُونَ يَده فَبَايعهُ كَافَّة قبائل الْمغرب من زناتة وأوربة وصنهاجة وغمارة وَسَائِر قبائل البربر فتمت لَهُ الْبيعَة وَبعد بيعَته بِقَلِيل توفّي مَوْلَاهُ رَاشد وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وُفُود الْعَرَب على إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله لما استقام أَمر الْمغرب لإدريس بن إِدْرِيس وتوطد ملكه وَعظم سُلْطَانه وَكَثُرت جيوشه وَأَتْبَاعه وفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من الْبلدَانِ وَقصد النَّاس حَضرته من كل صقع وَمَكَان فاستمر بَقِيَّة سنة ثَمَان وثنانين يصل الْوُفُود ويبذل الْأَمْوَال ويستميل الرؤساء والأقيال وَلما دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وفدت عَلَيْهِ وفدت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب من إفريقية والأندلس نازعين إِلَيْهِ وملتفين عَلَيْهِ فَاجْتمع لَدَيْهِ مِنْهُم نَحْو خَمْسمِائَة فَارس من قيس والأزد ومذحج ويحصب والصدف وَغَيرهم فسر إِدْرِيس بوفادتهم وأجزل صلتهم وَأدنى مَنْزِلَتهمْ وجعلهم بطانة دون البربر فاعتز بهم وَأنس بقربهم فَإِنَّهُ كَانَ غَرِيبا بَين البربر فاستوزر مِنْهُم عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ الْمَعْرُوف بالملجوم من ضَرْبَة ضربهَا فِي بعض حربهم وسمته على الخرطوم وَكَانَ عُمَيْر من فرسَان الْعَرَب وسادتها ولأبيه مُصعب مآثر بإفريقية والأندلس ومواقف فِي غَزْو الفرنج واستقضى مِنْهُم عَامر بن مُحَمَّد بن سعيد القيشي وَكَانَ من أهل الْوَرع وَالْفِقْه وَالدّين سمع من مَالك بن أنس وسُفْيَان الثَّوْريّ وروى عَنْهُمَا كثيرا وَكَانَ قد خرج إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد ثمَّ أجَاز إِلَى العدوة فوفد بهَا على إِدْرِيس فِيمَن وَفد عَلَيْهِ من الْعَرَب فاستقضاه واستكتب مِنْهُم أَبَا الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي وَلم تزل الْوُفُود تقدم عَلَيْهِ من الْعَرَب والبربر حَتَّى كثر النَّاس لَدَيْهِ وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وانْتهى إِلَى ابْن الْأَغْلَب مَا عَلَيْهِ إِدْرِيس من الإستفحال فأرهف عزمه للتضريب بَين البربر واستفسادهم على إِدْرِيس فَكَانَ مِنْهُم بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المضغري من خَاصَّة إِدْرِيس وَمن أَرْكَان دولته فكاتبه ابْن الْأَغْلَب واستهواه بِالْمَالِ حَتَّى بَايع الرشيد وانحرف عَن إِدْرِيس واعتزله فِي قومه فَصَالحه إِدْرِيس وَكتب إِلَيْهِ يستعطفه بقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكف عَنهُ وَكَانَ فِيمَا كتب بِهِ إِدْرِيس إِلَى بهْلُول الْمَذْكُور قَوْله (أبهلول قد حملت نَفسك خطة ... تبدلت مِنْهَا ضلة برشاد) (أضلك إِبْرَاهِيم مَعَ بعد دَاره ... فَأَصْبَحت منقادا بِغَيْر قياد) (كَأَنَّك لم تسمع بمكر ابْن أغلب ... وقدما رمى بالكيد كل بِلَاد) (وَمن دون مَا منتك نَفسك خَالِيا ... ومناك إِبْرَاهِيم شوك قتاد) ثمَّ أحس إِدْرِيس من إِسْحَاق بن مُحَمَّد الأوربي بانحراف عَنهُ وموالاة لِابْنِ الْأَغْلَب فَقتله سنة ثِنْتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَصفا لَهُ الْمغرب وَتمكن سُلْطَانه بِهِ وَالله غَالب على أمره بِنَاء مَدِينَة فاس لما كثرت الْوُفُود من الْعَرَب وَغَيرهم على إِدْرِيس رَحمَه الله وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى اراد أَن يَبْنِي لنَفسِهِ مَدِينَة يسكنهَا هُوَ وخاصته ووجوه دولته فَركب يَوْمًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَخرج يتَخَيَّر الْبِقَاع فوصل إِلَى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطبب هوائه وتربته فاختط بِسَنَدِهِ مَدِينَة مِمَّا يَلِي الْجوف وَشرع فِي بنائها فَبنى بَعْضًا من الدّور وَنَحْو الثُّلُث من السُّور فَأتى السَّيْل من أَعلَى الْجَبَل فِي بعض اللَّيَالِي فهدم السُّور والدور وَحمل مَا حول ذَلِك من الْخيام والزروع وَأَلْقَاهَا فِي نهر سبو فَكف إِدْرِيس عَن الْبناء وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ خرج ثَانِيَة يتصيد ويرتاد لنَفسِهِ موضعا يَبْنِي فِيهِ مَا قد عزم عَلَيْهِ فَانْتهى إِلَى نهر سبو حَيْثُ هِيَ الْيَوْم حمة خولان فأعجبه الْموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 لقُرْبه من المَاء وَلأَجل الْحمة الَّتِي هُنَاكَ والحمة كَمَا فِي الْقَامُوس كل عين فِيهَا مَا حَار يَنْبع مِنْهَا ويستشفى بِهِ فعزم إِدْرِيس على أَن يَبْنِي هُنَاكَ مَدِينَة وَشرع فِي حفر الأساس وَعمل الجيار وَقطع الْخشب وابتدأ بِالْبِنَاءِ ثمَّ فكر فِي نهر سبو وَمَا يَأْتِي بِهِ من الْمَمْدُود والسيول زمَان الشتَاء وَمَا يحصل بذلك من الضَّرَر الْعَظِيم للنَّاس فَكف عَن الْبناء وَرجع إِلَى وليلى ثمَّ بعث وزيره عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ يرتاد لَهُ موضعا يَبْنِي فِيهِ الْمَدِينَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا فَسَار عُمَيْر فِي جمَاعَة يقص الْجِهَات وَيتَخَيَّر الْبِقَاع والترب والمياه حَتَّى انْتهى إِلَى فحص سايس فأعجبه الْمحل فَنزل هُنَاكَ على عين مَاء تطرد فِي مرج أَخْضَر فَتَوَضَّأ وَصلى الظّهْر هُوَ وَجَمَاعَة الْقَوْم الَّذين مَعَه ثمَّ دَعَا الله تَعَالَى أَن ييسر عَلَيْهِ مطلبه ثمَّ ركب وَحده وَأمر الْجَمَاعَة أَن ينتظروه حَتَّى يعود إِلَيْهِم فنسبت الْعين إِلَيْهِ من يَوْمئِذٍ ودعيت عين عُمَيْر إِلَى الْآن وَعُمَيْر هَذَا هُوَ جد بني الملجوم من بيوتات فاس وكبرائهم فأوغل عُمَيْر فِي فحص سايس حَتَّى انْتهى إِلَى الْعُيُون الَّتِي يَنْبع مِنْهَا وَادي فاس فَرَأى بهَا من عناصر المَاء مَا ينيف على السِّتين عنصرا وَرَأى مياهها تطرد فِي فسيح من الأَرْض وحول الْعُيُون شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكلخ وَغير ذَلِك فَشرب من المَاء فاستطابه وَنظر إِلَى مَا حوله من الْمزَارِع الَّتِي لَيست على نهر سبو فَأَعْجَبتهُ فانحدر مَعَ مسيل الْوَادي حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مَدِينَة فاس الْيَوْم فَنظر فَإِذا مَا بَين الجبلين غيضة ملتفة الْأَشْجَار مطردَة الْعُيُون والأنهار وَفِي جَانب مِنْهَا خيام من شعر يسكنهَا قوم من زواغة يعْرفُونَ ببني الْخَيْر وَقوم من زناتة يعْرفُونَ ببني يرغش وَكَانَ بَنو يرغش على دين الْمَجُوسِيَّة وَكَانَ بَيت نارهم بالموضع الْمَعْرُوف بشيبوبة وَكَانَ الْبَعْض مِنْهُم على دين الْيَهُودِيَّة وَالْبَعْض على دين النَّصْرَانِيَّة وَكَانَ بَنو الْخَيْر ينزلون بعدوة الْقرَوِيين وَبَنُو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس وَكَانُوا قَلما يفترون عَن الْقِتَال لاخْتِلَاف أهوائهم وتباين أديانهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فَرجع عُمَيْر إِلَى إِدْرِيس وأعلمه بِمَا رأى من الغيضة وساكنيها وَمَا وَقع عَلَيْهِ اخْتِيَاره فِيهَا فجَاء إِدْرِيس لينْظر إِلَى الْبقْعَة فألفى بني الْخَيْر وَبني يرغش يقتتلون فَأصْلح بَينهم وَأَسْلمُوا على يَده وَاشْترى مِنْهُم الغيضة بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم هم فرضوا بذلك وَدفع لَهُم الثّمن وَأشْهد عَلَيْهِم بذلك على يَد كَاتبه أبي الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي ثمَّ ضرب أبنتيه بكرواوة وَشرع فِي بِنَاء الْمَدِينَة فاختط عدوة الأندلس غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَفِي سنة ثَلَاث بعْدهَا اختط عدوة الْقرَوِيين وَبنى مساكنه بهَا وانتقل إِلَيْهَا وَقد كَانَ أَولا أدَار السُّور على عدوة الأندلس وَبنى بهَا الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع الْأَشْيَاخ وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة ثمَّ انْتقل ثَانِيًا إِلَى عدوة الْقرَوِيين كَمَا قُلْنَا وَنزل بالموضع الْمَعْرُوف بالمقرمدة وَضرب فِيهِ قيطونة وَأخذ فِي بِنَاء جَامع الشرفاء وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة أَيْضا ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَاره الْمَعْرُوفَة الْآن بدار القيطون الَّتِي يسكنهَا الشرفاء الجوطيون من وَلَده ثمَّ بنى القيسارية إِلَى جَانب الْمَسْجِد الْجَامِع وأدار الْأَسْوَاق حوله وَأمر النَّاس بِالْبِنَاءِ وَقَالَ لَهُم من بنى موضعا أَو اغترسه قبل تَمام السُّور فَهُوَ لَهُ فَبنى النَّاس من ذَلِك شَيْئا كثيرا واغترسوا ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفرس من أَرض الْعرَاق فأنزلهم بغيضة هُنَاكَ كَانَت على الْعين الْمَعْرُوفَة بِعَين علون وَكَانَ علون عبدا أسود يأوي إِلَى تِلْكَ الغيضة وَيقطع الطَّرِيق بهَا على الْمَارَّة فتحامى النَّاس غيضته وتناذروها فَأعْلم إِدْرِيس رَحمَه الله بِشَأْنِهِ فَبعث فِي طلبه خيلا قبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَيْهِ فَأمر بقتْله وصلبه على شَجَرَة كَانَت على الْعين فأضيفت إِلَيْهِ الْعين من يَوْمئِذٍ وَقيل عين علون ثمَّ أدَار إِدْرِيس السُّور على عدوة الْقرَوِيين وَكَانَت من لدن بَاب السلسلة إِلَى غَدِير الجوزاء قَالَ عبد الْملك الْوراق كَانَت مَدِينَة فاس فِي الْقَدِيم بلدين لكل بلد مِنْهُمَا سور يحيى ط بِهِ وأبواب تخْتَص بِهِ وَالنّهر فاصل بَينهمَا وَسميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إِحْدَى العدوتين عدوة الْقرَوِيين لنزول الْعَرَب الوافدين من القيروان بهَا وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة أهل بَيت وَسميت الْأُخْرَى عدوة الأندلس لنزول الْعَرَب الوافدين من الأندلس بهَا وَكَانُوا جما غفيرا يُقَال أَرْبَعَة آلَاف أهل بَيت وَكَانَ الحكم بن هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس صدرت مِنْهُ لأوّل إمارته هَنَات أوجبت قيام جمَاعَة من أهل الْوَرع عَلَيْهِ فيهم يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ صَاحب مَالك وراوي الْمُوَطَّأ عَنهُ وطالوت الْفَقِيه وَغَيرهمَا فخلعوا الحكم وَبَايَعُوا بعض قرَابَته وَكَانُوا بالربض الغربي من قرطبة فَقَاتلهُمْ الحكم وكثروه وكادوا يأْتونَ عَلَيْهِ ثمَّ أظفره الله بهم وَوضع فيهم السَّيْف ثَلَاثَة أَيَّام وَهدم دُورهمْ ومساجدهم وفر الْبَاقُونَ مِنْهُم فَلَحقُوا بفاس الْمغرب الْأَقْصَى وبالإسكندرية من أَرض مصر فَأَما اللاحقون بفاس فأنزلهم إِدْرِيس رَحمَه الله بعدوة الأندلس فأضيفت إِلَيْهِم وَأما اللاحقون بالإسكندية فثاروا بهَا بعد حِين فزحف إِلَيْهِم عبد الله بن طَاهِر الْخُزَاعِيّ صَاحب مصر من قبل الْمَأْمُون بن الرشيد فَقَاتلهُمْ ونفاهم إِلَى جَزِيرَة إقريطش فَلم يزَالُوا بهَا إِلَى أَن ملكهَا الفرنج من أَيْديهم بعد مُدَّة وَذكر ابْن غَالب فِي تَارِيخه أَن الإِمَام إِدْرِيس لما فرغ من بِنَاء مَدِينَة فاس وَحَضَرت الْجُمُعَة الأولى صعد الْمِنْبَر وخطب النَّاس ثمَّ رفع يَدَيْهِ فِي آخر الْخطْبَة فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي مَا أردْت بِبِنَاء هَذِه الْمَدِينَة مباهاة وَلَا مفاخرة وَلَا رِيَاء وَلَا سمعة وَلَا مُكَابَرَة وَإِنَّمَا أردْت أَن تعبد بهَا ويتلى بهَا كتابك وتقام بهَا حدودك وَشَرَائِع دينك وَسنة نبيك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بقيت الدُّنْيَا اللَّهُمَّ وفْق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عَلَيْهِ واكفهم مُؤنَة أعدائهم وأدر عَلَيْهِم الأرزاق وأغمد عَنْهُم سيف الْفِتْنَة والشقاق إِنَّك على كل شَيْء قدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فأمن النَّاس على دُعَائِهِ فكثرت الْخيرَات بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرت بهَا البركات وَمن محَاسِن فاس أَن نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله فِي دورها وحماماتها وشوارعها وأسواقها وتطحن بِهِ أرحاؤها ثمَّ يخرج مِنْهَا وَقد حمل أقذارها وازبالها إِلَى غير ذَلِك من عُيُون المَاء الَّتِي تنبع بداخلها وتتفجر من بيوتها تجَاوز الْحصْر كَثْرَة وَقد مدحها الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْفضل ابْن النَّحْوِيّ بقوله (يَا فاس جَمِيع الْحسن مسترق ... وساكنوك ليهنهم بِمَا رزقوا) (هَذَا نسميك أم روح لراحتنا ... وماؤك السلسل الصافي أم الْوَرق) (أَرض تخللها الْأَنْهَار داخلها ... حَتَّى الْمجَالِس والأسواق والطرق) وَقَالَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو عبد الله المغيلي يتشوق إِلَى فاس وَكَانَ يَلِي خطة الْقَضَاء بِمَدِينَة آزمور (يَا فاس حَيا الله أَرْضك من ثرى ... وسقاك من صوب الْغَمَام المسبل) (يَا جنَّة الدُّنْيَا الَّتِي أربت على ... حمص بمنظرها الْبَهِي الأجمل) (غرف على غرف وَيجْرِي تحتهَا ... مَاء ألذ من الرَّحِيق السلسل) (وبساتن من سندس قد زخرفت ... بجداول كالأيم أَو كالمقصل) وبجامع القروين شرف ذكره ... أنس بذكراه يهيج تململ) (وبصحنه زمن المصيف محَاسِن ... فَمَعَ الْعشي الغرب مِنْهُ اسْتقْبل) (واجلس إزاء الخصة الحسنا بِهِ ... واكرع بهَا عني فديتك وانهل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 غَزْو إِدْرِيس بن إِدْرِيس المغربين واستيلاؤه عَلَيْهِمَا لما فرغ إِدْرِيس من بِنَاء مَدِينَة فاس وانتقل إِلَيْهَا بمحلته واستوطنها بحاشيته وأرباب دولته واتخذها دَار ملكه أَقَامَ بهَا إِلَى سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة فَخرج غازيا بِلَاد المصامدة فَانْتهى إِلَيْهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَدخل مَدِينَة نَفِيس ومدينة أغمات وَفتح سَائِر بِلَاد المصامدة وَعَاد إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة فَخرج فِي الْمحرم برسم غَزْو قبائل نفزة من أهل الْمغرب الْأَوْسَط وَمن بَقِي هُنَاكَ على دين الخارجية من البربر فَسَار حَتَّى غلب عَلَيْهِم وَدخل مَدِينَة تلمسان فَنظر فِي أحوالها وَأصْلح سورها وجامعها وصنع فِيهَا منبرا قَالَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك الْوراق دخلت مَدِينَة تلمسان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فَرَأَيْت فِي رَأس منبرها لوحا من بَقِيَّة مِنْبَر قديم قد سمر عَلَيْهِ هُنَالك مَكْتُوبًا فِيهِ هَذَا مَا أَمر بِهِ الإِمَام إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فِي شهر الْمحرم سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة اه وَقد تقدم لنا مَا يُخَالف هَذَا وَالله أعلم وَأقَام إِدْرِيس بِمَدِينَة تلمسان وأحوازها يدبر أمرهَا وَيصْلح أحوالها ثَلَاث سِنِين ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة فاس قَالَ دَاوُد بن الْقَاسِم الأوربي شهِدت مَعَ إِدْرِيس بن إِدْرِيس بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 غَزَوَاته مَعَ الْخَوَارِج الصفرية من البربر فلقيناهم وهم ثَلَاثَة أضعافنا فَلَمَّا تقَارب الْجَمْعَانِ نزل إِدْرِيس فَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى ثمَّ ركب فرسه وَتقدم لِلْقِتَالِ قَالَ فقاتلناهم قتالا شَدِيد فَكَانَ إِدْرِيس يضْرب فِي هَذَا الْجَانِب مرّة ويكر فِي هَذَا الْجَانِب الآخر مرّة وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى ارْتَفع النَّهَار ثمَّ رَجَعَ إِلَى رايته فَوقف بإزائها وَالنَّاس يُقَاتلُون بَين يَدَيْهِ فطفقت أتأمله وأديم النّظر إِلَيْهِ وَهُوَ تَحت ظلال البنود يحرض النَّاس ويشجعهم فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت من ثباته وَقُوَّة جأشه فَالْتَفت نحوي وَقَالَ يَا دَاوُد مَا لي أَرَاك تديم النّظر إِلَيّ قلت أَيهَا الإِمَام إِنَّه قد أعجبني مِنْك خِصَال لم أرها الْيَوْم فِي غَيْرك قَالَ وَمَا هِيَ قلت أولاها مَا أرَاهُ من ثبات قَلْبك وطلاقة وَجهك عِنْد لِقَاء الْعَدو قَالَ ذَاك ببركة جدنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعائه لنا وَصلَاته علينا ووراثة من أَبينَا عَليّ بن أبي طَالب قلت وأراك تبصق بصاقا مجتمعا وَأَنا أطلب قَلِيل الرِّيق فِي فمي فَلَا أجد قَالَ يَا دَاوُد ذَاك لقُوَّة جأشي واجتماع لبي عِنْد الْحَرْب وَعدم ريقك لطيش عقلك وافتراق لبك قلت وَأَنا أَيْضا أتعجب من كَثْرَة تقلبك فِي سرجك وَقلة قرارك عَلَيْهِ قَالَ ذَاك مني زمع إِلَى الْقِتَال وصرامة فِيهِ فَلَا تظنه رعْبًا وَأَنْشَأَ يَقُول (أَلَيْسَ أَبونَا هَاشم شدّ أزره ... وَأوصى بنيه بالطعان وبالضرب) (فلسنا نمل الْحَرْب حَتَّى تملنا ... وَلَا نشتكي مِمَّا يؤول من النصب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَفَاة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله قَالَ ابْن خلدون انتظمت لإدريس بن إِدْرِيس كلمة البربر كلمة البربر ومحى دَعْوَة الْخَوَارِج مِنْهُم واقتطع المغربين عَن دَعْوَة العباسيين من لدن السوس الْأَقْصَى غلى وَادي شلف ودافع إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَن حماه بعد مَا ضايقه بالمكايد واستفساد الْأَوْلِيَاء حَتَّى قتلوا رَاشد مَوْلَاهُ وارتاب إِدْرِيس بالبربر فَصَالح بن الْأَغْلَب وَسكن من غربه وَضرب السِّكَّة باسمه وَعجز الأغالبة بعد ذَلِك عَن مدافعة هَؤُلَاءِ الأدارسة ودافعوا خلفاء بَين الْعَبَّاس بالمعاذير الْبَاطِلَة وَصفا ملك الْمغرب لإدريس وَاسْتمرّ بدار ملكه من فاس سَاكِنا وادعا مقتعدا أريكته مجتنيا ثَمَرَته إِلَى أَن توفاه الله ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وعمره نَحْو سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة وَدفن بمسجده بِإِزَاءِ الْحَائِط الشَّرْقِي مِنْهُ وَقَالَ البرنسي إِنَّه توفّي بِمَدِينَة وليلى وَدفن إِلَى جنب أَبِيه وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه أكل عنبا فشرق بِحَبَّة مِنْهُ فَمَاتَ لحينه وَخلف من الْوَلَد اثْنَي عشر ذكرا أَوَّلهمْ مُحَمَّد وَعبد الله وَعِيسَى وَإِدْرِيس وَأحمد وجعفر وَيحيى وَالقَاسِم وَعمر وَعلي وَدَاوُد وَحَمْزَة كَذَا فِي القرطاس وَزَاد ابْن حزم الْحسن وَالْحُسَيْن وَولي الْأَمر مِنْهُم بعده مُحَمَّد وَهُوَ أكبرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الْخَبَر عَن دولة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله لما توفّي إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَحمَه الله قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ وَلما ولي قسم بِلَاد الْمغرب بَين اخوته وَذَلِكَ بِإِشَارَة جدته كنزة أم إِدْرِيس فاختص الْقَاسِم مِنْهَا بطنجة وسبتة وَقصر مصمودة وقلعة حجر النسْر وتطوان وَمَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك من الْقَبَائِل والبلاد واختص عمر مِنْهَا بتيكساس وترغة وَمَا بَينهمَا من قبائل صنهاجة وغمارة واختص دَاوُد بِبِلَاد هوارة وتسول وتازا وَمَا بَين ذَلِك من قبائل مكناسة وغياثة واختص يحيى بآصيلا والعرايش وَالْبَصْرَة وبلاد ورغة وَمَا والى ذَلِك واختص عِيسَى بسلا وشالة وآزمور وتامسنا وَمَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك من الْقَبَائِل واختص حَمْزَة بِمَدِينَة وليلى وأعمالها واختص أَحْمد بِمَدِينَة مكناسة ومدينة تادلا وَمَا بَينهمَا من بِلَاد فازاز واختص عبد الله بأغمات وبلد نَفِيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الْأَقْصَى وَأبقى الآخرين فِي كفَالَته وكفالة جدتهم كنزة لصغرهم وَبقيت تلمسان لولد عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله فَإِن إِدْرِيس بن إِدْرِيس لما غزا تلمسان وَأقَام بهَا ثَلَاث سِنِين كَمَا سبق ودوخ بِلَاد زناتة واستوسقت لَهُ طاعتهم عقد عَلَيْهَا لبني عَمه سُلَيْمَان بن عبد الله فَلَمَّا توفّي إِدْرِيس واقتسم بنوه أَعمال الْمغرب كَانَت تلمسان فِي سهم عِيسَى بن إِدْرِيس بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الله واستمرت بِأَيْدِيهِم إِلَى أَن تلاشى أَمرهم بِدُخُول العبيدين عَلَيْهِم قَالَه ابْن خلدون وَأقَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس بدار مَكَّة من فاس مقتعدا على أريكته واخوته وُلَاة على بِلَاد الْمغرب قد ضبطوا أَعمالهَا وسدوا ثغورها وأمنوا سبلها وَحسنت سيرتهم فِي ذَلِك إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ حُدُوث الْفِتْنَة بَين بني إِدْرِيس ثمَّ خرج على مُحَمَّد بن إِدْرِيس أَخُوهُ عِيسَى بِمَدِينَة آزمور ونبذ طَاعَته وَطلب الْأَمر لنَفسِهِ فَكتب مُحَمَّد إِلَى أَخِيه الْقَاسِم صَاحب طنجة يَأْمُرهُ بِحَرب عِيسَى فَامْتنعَ من ذَلِك فَكتب مُحَمَّد إِلَى أَخِيه عمر صَاحب تيكساس بِمثل مَا كتب بِهِ إِلَى الْقَاسِم فامتثل أمره وزحف إِلَى عِيسَى فِي قبائل البربر وأمده مُحَمَّد بِأَلف فَارس من زناتة فأوقع عمر بِعِيسَى وهزمه وطرده عَن عمله وَكتب إِلَى الْأَمِير مُحَمَّد بِالْفَتْح فشكره على ذَلِك وولاه على مَا فَتحه من عمل عِيسَى وَأمره مَعَ ذَلِك بِالْمَسِيرِ إِلَى قتال الْقَاسِم الَّذِي عصى أمره أَولا فزحف عمر إِلَى الْقَاسِم وَنزل عَلَيْهِ بِظَاهِر طنجة فَخرج إِلَيْهِ الْقَاسِم ودارت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة هزم فِيهَا الْقَاسِم وَاسْتولى عمر على مَا بِيَدِهِ من الْبِلَاد فَصَارَ الرِّيف البحري كُله فِي عمل عمر من تيكيساس وبلاد غمارة إِلَى سبتة ثمَّ إِلَى طنجة وَهَذَا سَاحل الْبَحْر الرُّومِي ثمَّ يَنْعَطِف إِلَى آصيلا والعرايش ثمَّ إِلَى سلا ثمَّ آزمور وبلاد تامسنا وَهَذَا سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط وتزهد الْقَاسِم بعد هَذِه الْحَرْب فَبنى مَسْجِدا بساحل الْبَحْر قرب آصيلا بِموضع يعرف بتاهدرات على ضفة النَّهر هُنَاكَ وَأعْرض عَن الدُّنْيَا وَأقَام يعبد الله إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله واتسعت ولَايَة عمر بن إِدْرِيس وخلصت طويته لِأَخِيهِ مُحَمَّد الْأَمِير إِلَى أَن توفّي عمر بِموضع يعرف بفج الْفرس من بِلَاد صنهاجة فِي دولة أَخِيه مُحَمَّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ فَحمل إِلَى فاس وَصلى عَلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد وَدفن مَعَ أَبِيه وَعمر هَذَا هُوَ جد الْأَشْرَاف الحموديين المالكين للأندلس بعد بني أُميَّة وَعقد الْأَمِير مُحَمَّد على عمله لوَلَده عَليّ بن عمر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وَأما عِيسَى فَيُقَال إِنَّه توفّي بآيت عتاب وَله بهَا ذُرِّيَّة وَالله أعلم وَفَاة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله وَأقَام الْأَمِير مُحَمَّد بن إِدْرِيس بعد وَفَاة أَخِيه عمر سَبْعَة أشهر وَتُوفِّي بِمَدِينَة فاس فِي ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَدفن بشرقي جَامعهَا مَعَ أَبِيه وأخيه بعد أَن عهد بِالْأَمر لِابْنِهِ عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بحيدرة على مَا سَيَأْتِي الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس لما توفّي مُحَمَّد بن إِدْرِيس بَايع النَّاس لِابْنِهِ عَليّ بن مُحَمَّد بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ ويلقب عَليّ هَذَا بحيدرة على لقب عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ جد الْأَشْرَاف العلميين أهل جبل الْعلم وَمِنْهُم المشيشيون أَوْلَاد مَوْلَانَا عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ والوزانيون أَوْلَاد مَوْلَانَا عبد الله الشريف وَيَنْتَهِي نسب هَؤُلَاءِ إِلَى الْمولى يملح بن مشيش أخي الْمولى عبد السَّلَام بن مشيش وَكَانَ سنّ عَليّ حيدرة يَوْم بُويِعَ تسع سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر فَقَامَ بأَمْره الْأَوْلِيَاء والحاشية من الْعَرَب والبربر وأحسنوا كفَالَته وطاعته وَكَانَت أَيَّامه خير أَيَّام وَقَالَ ابْن أبي زرع ظهر لعَلي هَذَا من الذكاء وَالْفضل مَا يَقْتَضِيهِ شرفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَسَار بسيرة أَبِيه وجده فِي الْعدْل فَكَانَ النَّاس فِي أَيَّامه فِي أَمن ودعة إِلَى أَن توفّي فِي شهر رَجَب سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وعهد بِالْأَمر لِأَخِيهِ يحيى بن مُحَمَّد على مَا سَيَأْتِي الْخَبَر عَن دولة يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس قَالَ ابْن خلدون قَامَ يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس بِالْأَمر وامتد سُلْطَانه وعظمت دولته وَحسنت آثَار أَيَّامه واستبحر عمرَان فاس وبنيت بهَا الحمامات والفنادق للتجار وبنيت خَارِجهَا الأرباض ورحل إِلَيْهَا النَّاس من الثغور القاصية وَقَالَ ابْن أبي زرع قصد إِلَيْهَا النَّاس من الأندلس وإفريقية وَجَمِيع بِلَاد الْمغرب بِنَاء مَسْجِد الْقرَوِيين بفاس قَالَ ابْن أبي زرع كَانَ مَوضِع مسج الْقرَوِيين أَرضًا بَيْضَاء لرجل من هوارة كَانَ وَالِده قد حازها أَيَّام بِنَاء فاس وَلما قدم وَفد القيروان على إِدْرِيس الْأَصْغَر حَسْبَمَا تقدم كَانَ فيهم امْرَأَة اسْمهَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد الفِهري وتكنى أم الْبَنِينَ فَنزلت فِي أهل بَيتهَا بِالْقربِ من مَوضِع الْمَسْجِد الْمَذْكُور ثمَّ مَاتَ زَوجهَا وإخوتها فورثت مِنْهُم مَالا جسيما وَكَانَ من حَلَال فَأَرَادَتْ أَن تنفقه فِي وُجُوه الْخَيْر وَكَانَت لَهَا نِيَّة صَالِحَة فعزمت على بِنَاء مَسْجِد تَجِد ثَوَابه عِنْد الله فاشترت الْبقْعَة من رَبهَا وشرعت فِي حفر أساس الْمَسْجِد وَبِنَاء جدرانه وَذَلِكَ يَوْم السبت فاتح رَمَضَان الْمُعظم سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فبنته بالطابية والكدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَكَانَت الطَّرِيقَة الَّتِي سلكتها فِي بنائِهِ أَنَّهَا التزمت أَن تَأْخُذ التُّرَاب وَغَيره من مَادَّة الْبناء من نفس الْبقْعَة دون غَيرهَا مِمَّا هُوَ خَارج عَن مساحتها فحفرت فِي أعماقها كهوفا وَجعلت تستخرج مِنْهَا التُّرَاب الْجيد وَالْحجر الكدان وتبني بِهِ وأنبطت بهَا بِئْرا يستقى مِنْهَا المَاء للْبِنَاء وَالشرب وَغير ذَلِك وَكَانَ ذَلِك كُله تحريا مِنْهَا أَن لَا تدخل فِي بِنَاء الْمَسْجِد شُبْهَة فَعَادَت بركَة نِيَّتهَا وورعها على الْمَسْجِد الْمَذْكُور حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا ترى قَالُوا وَلم تزل فَاطِمَة الْمَذْكُورَة صَائِمَة من يَوْم شرع فِي بنائِهِ إِلَى أَن تمّ وصلت فِيهِ شكرا لله تَعَالَى وَكَانَت مساحة الْمَسْجِد يَوْم بني أَربع بلاطات وصحنا صَغِيرا وَجعلت محرابه فِي مَوضِع الثريا الْكُبْرَى وَجعلت طوله من الغرب إِلَى الشرق مائَة وَخمسين شبْرًا وَبنت بِهِ صومعة غير مُرْتَفعَة بِموضع الْقبَّة الَّتِي على رَأس العنزة الْيَوْم وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن انقرضت دولة الأدارسة وَجَاءَت دولة زناتة من بعْدهَا وأداروا السُّور على العدوتين مَعًا الْقرَوِيين والأندلس وَزَادُوا فِي مسجديهما زِيَادَة كَثِيرَة فنقلوا الْخطْبَة من مَسْجِد الشرفاء إِلَى مَسْجِد الْقرَوِيين وَمن مَسْجِد الْأَشْيَاخ إِلَى مَسْجِد الأندلس وَذَلِكَ صدر الْمِائَة الرَّابِعَة ثمَّ لما استولى عبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس على فاس وبلاد العدوة اسْتعْمل على فاس عَاملا لَهُ اسْمه أَحْمد بن أبي بكر الزناتي ثمَّ اليفرني فَاسْتَأْذن النَّاصِر فِي إصْلَاح مَسْجِد الْقرَوِيين وَالزِّيَادَة فِيهِ فَأذن لَهُ وَبعث إِلَيْهِ بِمَال من خمس الْغَنَائِم فَزَاد فِيهِ زِيَادَة بَيِّنَة وأزال الصومعة الْقَدِيمَة عَن موضعهَا وَبنى الصومعة الْمَوْجُودَة الْآن وَكتب على بَابهَا فِي مربعة بالجص واللازورد هَذَا مَا أَمر بِهِ أَحْمد بن أبي بكر الزناتي هداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الله ووفقه ابْتِغَاء ثَوَاب الله وجزيل إحسانه وابتدأ الْعَمَل فِي هَذِه الصومعة يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَفرغ من بنائها فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَركب فِي أَعلَى المنارة سيف الإِمَام إِدْرِيس بن إِدْرِيس تبركا بِهِ وَذَلِكَ أَن بعض حفدة إِدْرِيس رَحمَه الله تنازعوا فِي السَّيْف الْمَذْكُور وَأَرَادَ كل أَن يحوزه لنَفسِهِ فَقَالَ لَهُم الْأَمِير أَحْمد بن أبي بكر هَل لكم فِي أَن تبيعوني هَذَا السَّيْف قَالُوا وَمَا تصنع بِهِ قَالَ أجعله فِي أَعلَى المنارة فَقَالُوا أما إِذا أردْت هَذَا فَنحْن نهبه لَك مجَّانا فوهبوه لَهُ فَرَكبهُ فِي أَعلَى المنارة وَكَانَت مَبْنِيَّة من الْحجر المنجور وفيهَا ثقب يعشش فِيهَا الطير من الْحمام والزرزور وَغَيرهمَا ويتأذى الْمَسْجِد وَالنَّاس بهَا وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فَاسْتَأْذن القَاضِي أَبُو عبد الله بن أبي الصَّبْر السُّلْطَان يُوسُف الْمَذْكُور فِي تلبيس المنارة وتبييضها فَأذن لَهُ فلبسها وبيضها ودلكها حَتَّى صَارَت كالمرآة الصقلية وَقَالَ ابْن خلدون ثمَّ أوسع فِي خطه الْمَسْجِد الْمَذْكُور الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس وَأعد لَهُ السِّقَايَة والسلسلة بِبَاب الحفاة ثمَّ أوسع فِي خطته عَليّ بن يُوسُف اللمتوني ثمَّ مُلُوك الْمُوَحِّدين وَبني مرين واستمرت الْعِمَارَة بِهِ وانصرفت هممهم إِلَى تشييده والمنافسة فِي الاهتبال بِهِ فَبلغ الاحتفال فِيهِ مَا شَاءَ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُور فِي تواريخ الْمغرب أه وَفِي أَيَّام يحيى بن مُحَمَّد صَاحب التَّرْجَمَة وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ قَامَ رجل مُؤذن بِنَاحِيَة تلمسان يَدعِي النُّبُوَّة وَتَأَول الْقُرْآن على غير وَجهه فَاتبعهُ خلق كثير من الغوغاء وَكَانَ من بعض شرائعه أَنه ينْهَى عَن قصّ الشّعْر وتقليم الْأَظْفَار ونتف الإبطين والاستحداد وَأخذ الزِّينَة وَيَقُول لَا تَغْيِير لخلق الله فَأمر أَمِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 تلمسان بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فهرب وَركب الْبَحْر من مرسى هنين إِلَى الأندلس فشاع بهَا أَيْضا خَبره وَتَبعهُ من سُفَهَاء النَّاس أمة عَظِيمَة فَبعث إِلَيْهِ ملك الأندلس فاستتابه فَلم يتب فَقتله وصلبه وَهُوَ يَقُول أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله الخبرعن دولة يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس لما توفّي يحيى بن مُحَمَّد الَّذِي بنى مَسْجِد الْقرَوِيين فِي أَيَّامه ولي الْأَمر من بعده ابْنه يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس فاساء السِّيرَة وَكثر عيثه فِي الْحرم وَدخل على جَارِيَة من بَنَات الْيَهُود فِي الْحمام وَكَانَت بارعة فِي الْجمال فَرَاوَدَهَا عَن نَفسهَا فاستغاثت وبادر النَّاس إِلَيْهَا بالإنكار وثابت الْعَامَّة عَلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك عبد الرَّحْمَن بن أبي سهل الجذامي وَكَانَت زَوْجَة يحيى الْمَذْكُور وَهِي عَاتِكَة بنت عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس صَاحب الرِّيف والسواحل أشارت عَلَيْهِ بالاختفاء بعدوة الأندلس ريثما تسكن الْفِتْنَة فتوارى بهَا فَمَاتَ من ليلته أسفا على مَا صنع بِنَفسِهِ وَمَا وَقع فِيهِ من الْعَار وَاسْتولى عبد الرَّحْمَن بن أبي سهل على فاس وَقَامَ بأمرها فَكتبت عَاتِكَة بنت عَليّ إِلَى أَبِيهَا تعلمه بالْخبر واستدعاه مَعَ ذَلِك أهل الدولة من الْعَرَب والبربر والموالي فَجمع حشمه وجيشه وَجَاء إِلَى فاس فاستولى عَلَيْهَا وَانْقطع الْملك من عقب مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَصَارَ بعد هَذَا تَارَة يكون فِي عقب عمر بن إِدْرِيس صَاحب الرِّيف وَتارَة يكون فِي عقب الْقَاسِم بن إِدْرِيس الزَّاهِد على مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس لما دخل عَليّ بن عمر مَدِينَة فاس وَاسْتقر بهَا بَايعه النَّاس وَدخلت الكافة فِي طَاعَته وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب واستقام لَهُ الْأَمر إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ عبد الرَّزَّاق الفِهري وَكَانَ من الْخَوَارِج الصفرية وَأَصله من وشقة بلد بالأندلس فَقَامَ بجبال مديونة من أَعمال فاس على مسيرَة يَوْم وَنصف مِنْهَا فَتَبِعَهُ خلق كثير من البربر من مديونة وغياثة وَغَيرهم فَبنى قلعة منيعة بِبَعْض جبال مديونة وسماها وَشقه باسم بَلَده قَالَ ابْن أبي زرع وَهِي بَاقِيَة بِتِلْكَ النَّاحِيَة حَتَّى الْآن ثمَّ زحف إِلَى قَرْيَة صفرون فَدَخلَهَا وَبَايَعَهُ كَافَّة البربر الصفرونية ثمَّ زحف بهم إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس فِي عَسْكَر ضخم فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة كَانَ الظفر فِي آخرهَا لعبد الرَّزَّاق فَانْهَزَمَ عَليّ بن عمر وَقتل خلق كثير من جنده وفر بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد أوربة فَدخل عبد الرَّزَّاق مَدِينَة فاس وَملك عدوة الأندلس وخطب لَهُ بهَا وَامْتنع مِنْهُ أهل عدوة الْقرَوِيين وبعثوا إِلَى يحيى بن الْقَاسِم الزَّاهِد وَكَانَ مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة يحيى بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس لما فر عَليّ بن عمر عَن فاس وَاسْتولى عبد الرَّزَّاق الصفري على عدوة الأندلس بعث أهل فاس إِلَى يحيى بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وَيعرف يحيى هَذَا بالعدام فوصل إِلَيْهِم فَبَايعُوهُ وولوه على أنفسهم وَيحيى العدام هَذَا هُوَ جد الْأَشْرَاف الجوطيين بفاس فَإِنَّهُم أَوْلَاد يحيى الجوطي بن مُحَمَّد بن يحيى العدام وَإِنَّمَا قيل لَهُ الجوطي نِسْبَة إِلَى جوطة بِضَم الْجِيم وبالطاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الْمُهْملَة قَرْيَة كَانَت على نهر سبو بالعدوة الجنوبية مِنْهُ نزلها بِيَحْيَى بن مُحَمَّد فنسب إِلَيْهَا وقبره مَعْرُوف بهَا إِلَى الْآن وَلما اسْتَقل بِيَحْيَى بن الْقَاسِم بِالْأَمر قَاتل عبد الرَّزَّاق حَتَّى أخرجه من عدوة الأندلس فَدَخلَهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا وَجَمِيع من نزل بهَا من أهل الأندلس الربضيين ربض قرطبة وَاسْتعْمل يحيى بن الْقَاسِم عَلَيْهِم ثَعْلَبَة بن محَارب بن عبد الله الْأَزْدِيّ من ولد الْمُهلب بن أبي صفرَة وَهُوَ ربضي أَيْضا فَلم يزل واليا على عدوة الأندلس إِلَى أَن توفّي فَاسْتعْمل يحيى مَكَانَهُ وَلَده عبد الله بن ثَعْلَبَة الْمَعْرُوف بعبود إِلَى أَن توفّي أَيْضا فَاسْتعْمل الْأَمِير يحيى مَكَانَهُ وَلَده محَارب بن عبود بن ثَعْلَبَة وَخرج الْأَمِير يحيى بن الْقَاسِم إِلَى قتال الصفرية فَكَانَت لَهُ مَعَهم حروب ووقائع كَثِيرَة وَلم يزل أَمِيرا على فاس وأعمالها إِلَى أَن اغتاله الرّبيع بن سُلَيْمَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت فِي أَيَّام هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء أَحْدَاث نذكرها فَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ كَانَ بِبِلَاد العدوة والأندلس قحط شَدِيد نضبت مِنْهُ الْمِيَاه وَاسْتمرّ إِلَى سنة سِتِّينَ وَفِي سنة أَربع وَخمسين كسف الْقَمَر كُله من أول اللَّيْل حَتَّى أصبح وَلم ينجل وَفِي سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ عَم الْقَحْط والغلاء جَمِيع بِلَاد الأندلس وَالْمغْرب وإفريقية ومصر والحجاز حَتَّى رَحل النَّاس عَن مَكَّة إِلَى الشَّام وَلم يبْق بهَا إِلَّا نفر يسير مَعَ سدنة الْكَعْبَة ثمَّ كَانَ بالمغرب والأندلس وباء عَظِيم مَعَ غلاء فِي الأسعار وعدمت الأقوات فَهَلَك خلق كثير وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَت بالسماء حمرَة شَدِيدَة من أول اللَّيْل إِلَى آخِره لم يعْهَد قبلهَا مثلهَا وَذَلِكَ لَيْلَة السبت لتسْع بَقينَ من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شَوَّال مِنْهَا كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة لم يسمع بِمِثْلِهَا تهدمت مِنْهَا الْقُصُور وانحطت مِنْهَا الصخور من الْجبَال وفر النَّاس من المدن إِلَى الْبَريَّة من شدَّة اضْطِرَاب الأَرْض وتساقطت السقوف والحيطان وفرت الطُّيُور عَن أوكارها وَمَاجَتْ فِي السَّمَاء زَمَانا حَتَّى سكنت الزلزلة وعمت هَذِه الرجفة جَمِيع بِلَاد الأندلس سهلها وجبالها وَجَمِيع بِلَاد العدوة من تلمسان إِلَى طنجة وَمن الْبَحْر الرُّومِي إِلَى أقْصَى الْمغرب إِلَّا أَنَّهَا لم يمت فِيهَا أحد لطفا من الله تَعَالَى بخلقه وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ طبقت الْفِتْنَة جَمِيع آفَاق الأندلس وَالْمغْرب وإفريقية وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَت المجاعة الشَّدِيدَة الَّتِي عَمت جَمِيع بِلَاد الأندلس وبلاد العدوة حَتَّى أكل النَّاس بَعضهم بَعْضًا ثمَّ عقب ذَلِك وباء وَمرض وَمَوْت كَبِير هلك فِيهِ من الْخلق مَا لَا يُحْصى فَكَانَ يدْفن فِي الْقَبْر الْوَاحِد عدد من النَّاس لِكَثْرَة الْمَوْتَى وَقلة من يقوم بهم وَكَانُوا يدفنون من غير غسل وَلَا صَلَاة وَالْأَمر لله وَحده الْخَبَر عَن دولة يحيى بن إِدْرِيس بن عمر بن إِدْرِيس لما قتل يحيى العدام فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولي الْأَمر من بعده يحيى بن إِدْرِيس بن عمر بن إِدْرِيس فَبَايعهُ أهل عدوة فاس وخطب لَهُ بهما وامتد ملكه على جَمِيع أَعمال الْمغرب وخطب لَهُ على سَائِر منابره وَكَانَ يحيى هَذَا وَاسِطَة عقد الْبَيْت الإدريسي أعلاهم قدرا وأبعدهم ذكرا وَأَكْثَرهم عدلا وأغزرهم فضلا وأوسعهم ملكا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا للْحَدِيث ذَا فصاحة وَبَيَان بطلا شجاعا حازما ذَا صَلَاح وَدين وورع قَالَ ابْن خلدون لم يبلغ أحد من الأدراسة مبلغه فِي الدولة وَالسُّلْطَان إِلَى أَن طما على ملكه عباب العبيديين القائمين بإفريقية فأغرقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 اسْتِيلَاء العبيديين من الشِّيعَة على الْمغرب الْأَقْصَى وقدوم قائدهم مصالة بن حبوس إِلَى فاس قد قدمنَا عِنْد ذكر وُلَاة الْمغرب أَن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب كَانَ آخِرهم وَأَنه أورث بإفريقية ملكا لِبَنِيهِ فاستمرت دولتهم بهَا إِلَى أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة وانقرضت على يَد أبي عبد الله الْمُحْتَسب دَاعِيَة العبيديين من الشِّيعَة فَإِن الْمُحْتَسب حج فِي بعض السنين وَاجْتمعَ بِمَكَّة بِحجاج كتامة من أهل الْمغرب فتعرف إِلَيْهِم وَوَعدهمْ بِظُهُور الْمهْدي من آل الْبَيْت على يدهم وَيكون لَهُم بِهِ الْملك وَالسُّلْطَان فتبعوه على رَأْيه وصحبهم إِلَى بِلَادهمْ وَرَأس فيهم رئاسة دينية وَقرر لَهُم مَذْهَب الشِّيعَة فَاتَّبعُوهُ وتمسكوا بِهِ ثمَّ بَايعُوا مَوْلَاهُ عبيد الله الْمهْدي أول خلفاء العبيديين فاستولى على إفريقية فِي خبر طَوِيل ثمَّ سمت همته إِلَى تملك الْمغرب الْأَقْصَى فأغزاه قائده مصالة بن حبوس المكناسي صَاحب تاهرت وَالْمغْرب الْأَوْسَط فزحف مصالة إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى سنة خمس وثلاثمائة وانْتهى إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ يحيى بن إِدْرِيس لمدافعته فِي جموع الْعَرَب والبربر والموالي والتقوا بِقرب مكناسة فَانْهَزَمَ يحيى وَعَاد مفلولا إِلَى فاس ثمَّ تقدم مصالة إِلَى فاس وحاصرها إِلَى أَن صَالحه يحيى على مَال يُؤَدِّيه إِلَيْهِ وعَلى الْبيعَة لِعبيد الله الْمهْدي فَقبل يحيى الشَّرْط وَخرج عَن الْأَمر وأنفذ بيعَته إِلَى الْمهْدي وَأبقى عَلَيْهِ مصالة فِي سُكْنى فاس وَعقد لَهُ على عَملهَا خَاصَّة وَعقد لِابْنِ عَمه مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة المكناسي على مَا سوى ذَلِك من بِلَاد الْمغرب وَكَانَ مُوسَى هَذَا صَاحب تسول وبلاد تازا وَكَانَ كَبِير مكناسة بالمغرب الْأَقْصَى على الْإِطْلَاق وَكَانَ قد خدم مصالة حِين قدم الْمغرب وتعرف إِلَيْهِ وهاداه وَقَاتل مَعَه فِي جَمِيع حروبه بالمغرب فحسنت مَنْزِلَته لَدَيْهِ وولاه بِلَاد الْمغرب كلهَا عدى فاسا وأعمالها فَإِنَّهُ تَركهَا للأمير يحيى كَمَا قُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَصَارَ الْمغرب الْأَقْصَى فِي ملكه العبيديين واندرجت دولة الأدراسة فِي دولتهم فَكَانَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة بعد ذهَاب مصالة كلما أَرَادَ الظُّهُور بالمغرب والاستبداد بِهِ غمره يحيى بن إِدْرِيس بِحَسبِهِ وَنسبه وفضله وَدينه فَقطع بِهِ كلما كَانَ يُريدهُ فَكَانَ على قلب مُوسَى مِنْهُ حمل ثقيل فَلَمَّا قدم مصالة الْمغرب فِي كرته الثَّانِيَة وَذَلِكَ سنة تسع وثلاثمائة سعى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عِنْده بِيَحْيَى للقائه وَالسَّلَام عَلَيْهِ فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَقبض مصالة عَلَيْهِم وَقيد بِيَحْيَى بالحديد وَتقدم إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَيحيى بَين يَدَيْهِ موثقًا على جمل ثمَّ عذبه بأنواع الْعَذَاب حَتَّى استصفى أَمْوَاله وذخائره ثمَّ نَفَاهُ إِلَى نواحي آصيلا وَقد ساءت حَاله وانفض جمعه فَأَقَامَ عِنْد بني عَمه بِبِلَاد الرِّيف مُدَّة فَأَعْطوهُ مَالا ووصلوه بِمَا يُقيم بِهِ أوده ويستعين بِهِ على أمره فَلم يرض ذَلِك وارتحل عَنْهُم يُرِيد إفريقية فَعرض لَهُ مُوسَى بن ابي الْعَافِيَة فِي طَريقَة فَقبض عَلَيْهِ وسجنه بِمَدِينَة آلكاي قَرِيبا من عشْرين سنة ثمَّ اطلقه بعد ذَلِك قَالُوا وَكَانَ أَبوهُ إِدْرِيس بن عمر قد دَعَا عَلَيْهِ أَن يميته الله جائعا غَرِيبا فاستجيب لَهُ فِيهِ فَخرج يحيى من سجن ابْن أبي الْعَافِيَة إِلَى إفريقية وَهُوَ فِي فقر وذلة قد بلغ سوء الْحَال مِنْهُ كل مبلغ فوصل إِلَى المهدية على تِلْكَ الْحَال فَوَافَقَ بهَا فتْنَة أبي يزِيد مخلد بن كيداد اليفرني وحصاره إِيَّاهَا فَمَاتَ بهَا جائعا غَرِيبا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة رَحمَه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 عود الْمغرب الْأَقْصَى إِلَى الأدارسة وَظُهُور الْحسن الْحجام بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس لما قبض مصالة على يحيى بن إِدْرِيس واستصفى أَمْوَاله كَمَا قُلْنَا اسْتعْمل على فاس ريحَان الكتامي وَعَاد إِلَى القيروان فَأَقَامَ ريحَان عَاملا على فاس وأحوازها نَحْو ثَلَاثَة أشهر وثار عَلَيْهِ الْحسن بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس الْمَعْرُوف بالحجام وَعرف بذلك لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين عَمه أَحْمد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس حَرْب فَحمل الْحسن على فَارس من أَصْحَاب عَمه فطعنه فِي مَوضِع المحاجم ثمَّ فعل ذَلِك بثان وثالث لَا يطعنهم إِلَّا فِي مَوضِع المحاجم فَقَالَ عَمه أَحْمد إِن ابْن أخي الْحجام فَلَزِمَهُ ذَلِك اللقب وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم (وَسميت حجاما وَلست بحاجم ... وَلَكِن لطعن فِي مَكَان المحاجم) وَكَانَت ثورة الْحجام على ريحَان سنة عشر وثلاثمائة أَتَى إِلَى فاس فِي جمع من شيعته وأنصاره وَكَانَ مقداما شجاعا فَدَخلَهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا فاستولى عَلَيْهَا وَقتل ريحَان وَقيل نَفَاهُ عَنْهَا وَاجْتمعَ النَّاس على بيعَته وَدخل فِي طَاعَته أَكثر قبائل البربر بالمغرب وَملك عدَّة مدن مثل مَدِينَة لواتة وصفرون ومدين وَمَدَائِن مكناسة وَالْبَصْرَة واستقام لَهُ الْأَمر بالمغرب إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَعَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 خُرُوج الْحسن الْحجام إِلَى قتال مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة قَالَ فِي القرطاس وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة خرج الْأَمِير الْحسن الْحجام إِلَى قتال مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة فَالتقى مَعَه بفحص الزَّاد على مقربة من وَادي المطاحن مَا بَين فاس وتازا فأوقع الْحجام بِابْن أبي الْعَافِيَة وقْعَة عَظِيمَة لم يَقع فِي دولة الأدارسة مثلهَا قتل فِيهَا من عَسْكَر ابْن أبي الْعَافِيَة نَحْو أَلفَيْنِ وثلاثمائة من جُمْلَتهمْ ابْنه منهال بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وَقتل من عَسْكَر الْحجام نَحْو السبعمائة ثمَّ كَانَت الْعَاقِبَة لمُوسَى على الْحجام فانفض عَسْكَر الْحجام وَعَاد مفلولا إِلَى فاس فَعجل الْحجام وَدخل فاسا وَحده وَترك عسكره خَارج الْمَدِينَة فغدر بِهِ عَامله عَلَيْهَا حَامِد بن حمدَان الْهَمدَانِي وَيُقَال الأوربي من قرى إفريقية دخل عَلَيْهِ لَيْلًا فِي دَاره فقيده وَأَخذه إِلَيْهِ وأغلق الْمَدِينَة فِي وَجه الْجند وطير إِلَى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة يستدعيه إِلَى فاس وَكَانَ مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة آل أبي الْعَافِيَة المكناسيين الناسخة لدولة آل إِدْرِيس بفاس وأعمالها كَانَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة متمسكا فِي هَذِه الْمدَّة بدعوة العبيديين من الشِّيعَة فَلَمَّا قبض حَامِد بن حمدَان على الْحسن الْحجام واستوعى ابْن أبي الْعَافِيَة بَادر نَحوه فَدخل عدوة الْقرَوِيين وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ قَاتل أهل عدوة الأندلس حَتَّى ملكهَا فَلَمَّا ملك المدينتين مَعًا طَالب حَامِد بن حمدَان بإحضار الْحسن الْحجام وَقَالَ أَقتلهُ بولدي منهال وَكَانَ حَامِد قد نَدم على فعلته تِلْكَ فدافع مُوسَى وسوفه وَكره المجاهرة بسفك دِمَاء آل الْبَيْت وَلما جن اللَّيْل خَالف حَامِد إِلَى الْحسن ففك عَنهُ قَيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وأرسله فَتَدَلَّى الْحسن من السُّور فَسقط وانكسرت سَاقه فتحامل حَتَّى انْتهى إِلَى عدوة الأندلس فاختفى بهَا إِلَى أَن مَاتَ لمضي ثَلَاث من سقطته رَحمَه الله وَذَلِكَ سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة وَأَرَادَ ابْن أبي الْعَافِيَة قتل حَامِد بن حمدَان لعدم تَمْكِينه إِيَّاه من الْحجام ففر إِلَى المهدية وَكَانَت دولة الْحسن الْحجام بفاس نَحْو سنتَيْن وانقرضت دولة آل إِدْرِيس من فاس وأعمالها وتداول الْمغرب الْأَقْصَى العبيديون أَصْحَاب إفريقية والمروانيون أَصْحَاب الأندلس مرّة لهَؤُلَاء وَمرَّة لهَؤُلَاء وتجددت للأدارسة دولة أُخْرَى بِبِلَاد الرِّيف نذكرها عَن قريب إِن شَاءَ الله وصفت فاس وأعمالها لِابْنِ أبي الْعَافِيَة وَملك مَعهَا كثيرا من أَعمال الْمغرب وبايعته الْقَبَائِل والأشياخ وَهُوَ فِي ذَلِك كُله متمسك بدعوة الشِّيعَة كَمَا قُلْنَا فَكَانَ كالنائب عَنْهُم بالمغرب وَالله غَالب على أمره طرد مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة آل إِدْرِيس من أَعمال الْمغرب وحصره إيَّاهُم بِحجر النسْر لما استولى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على فاس وَالْمغْرب شمر لطرد الأدارسة عَنهُ فَأخْرجهُمْ من دِيَارهمْ وأجلاهم عَن بِلَادهمْ من شالة وآصيلا وَغَيرهمَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت فِي أَيْديهم ولجؤوا بأجمعهم إِلَى قلعة حجر النسْر مغلوبين على ملكهم مطرودين عَن دَار عزهم الَّتِي أسسها سلفهم وَكَانَت قلعة حجر النسْر حصنا منيعا بناه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس شامخا فِي عنان السَّحَاب فَنزل عَلَيْهِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وشدد عَلَيْهِم الْحصار وَأَرَادَ استئصالهم وَقطع دابرهم فعذله على ذَلِك أكَابِر دولته وَقَالُوا لَهُ أَتُرِيدُ أَن تقطع دابر أهل الْبَيْت من الْمغرب وتخليه مِنْهُم هَذَا الشَّيْء لَا نوافقك عَلَيْهِ وَلَا نَتْرُكك لَهُ فاستحيا عِنْد ذَلِك وارتحل عَنْهُم إِلَى فاس وَخلف على حصارهم قائده أَبَا الْفَتْح التسولي فِي ألف فَارس يمنعهُم من التَّصَرُّف وَكَانَ ذَلِك سنة سبع عشرَة وثلاثمائة اسْتِيلَاء مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على تلمسان وأعمالها لما ارتحل مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عَن حجر النسْر سَار إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَقتل عَامله على عدوة الأندلس عبد الله بن ثَعْلَبه بن محَارب بن عبود الْأَزْدِيّ وَولى مَكَانَهُ أَخَاهُ مُحَمَّد بن ثَعْلَبَة ثمَّ عَزله وَولى مَكَانَهُ طوال بن أبي يزِيد فَلم يزل عَاملا عَلَيْهَا إِلَى أَن خرجت فاس عَن يَد أبن أبي الْعَافِيَة وَاسْتعْمل مُوسَى على الْمغرب الْأَقْصَى وَلَده مَدين بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وأنزله بعدوة الْقرَوِيين ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان سنة تسع عشرَة وثلاثمائة فملكها وأعمالها وَكَانَت بيد الْحسن بن أبي الْعَيْش من أعقاب سُلَيْمَان بن عبد الله أخي إِدْرِيس الْأَكْبَر وفر الْحسن إِلَى مَدِينَة مليلة من جزائر ملوية وَبنى هُنَاكَ حصنا وتحصن بِهِ ثمَّ زحف ابْن أبي الْعَافِيَة إِلَى مَدِينَة نكور فملكها أَيْضا وحاصر الْحسن فِي حصنه مُدَّة ثمَّ عقد لَهُ سلما على حصنه وَكَانَ ذَلِك فِي شعْبَان سنة عشْرين وثلاثمائة ثمَّ عَاد إِلَى فاس وَقد دوخ الْبِلَاد والأقطار وانتظم المغربان الْأَقْصَى والأوسط فِي ملكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 انحراف مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عَن الشِّيعَة إِلَى بني مَرْوَان وَمَا نَشأ عَن ذَلِك كَانَ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس قد سما لَهُ أمل فِي التَّمَلُّك على الْمغرب الْأَقْصَى لما بلغه من تراجع أَمر بني إِدْرِيس بِهِ وإشراف دولتهم على الْهَرم فَملك سبتة من يَد بني عِصَام القائمين بهَا بالدعوة الإدريسية وَلما استولى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على الْمغرب خاطبه النَّاصِر فِي الْقيام بدعوته ووعده الْجَمِيل على ذَلِك وَأَتَاهُ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه حَتَّى أَجَابَهُ إِلَى مُرَاده وَنقض طَاعَة الشِّيعَة وخطب للناصر على مَنَابِر عمله فاتصل الْخَبَر بعبيد الله الْمهْدي صَاحب إفريقية فسرح إِلَيْهِ قائده حميد بن يصليتن المكناسي صَاحب تاهرت فِي عشرَة آلَاف فَارس وَهُوَ ابْن أخي مصالة بن حبوس الْمُقدم الذّكر فَالتقى حميد ومُوسَى بفحص مسون فَكَانَت بَينهم حَرْب سِجَال ثمَّ إِن حميدا بَيت مُوسَى لَيْلَة فَضرب فِي عسكره فَانْهَزَمَ مُوسَى وَأَصْحَابه وَمضى إِلَى عين إِسْحَاق من بِلَاد تسول فتحصن بهَا وَتقدم حميد إِلَى فاس فَلَمَّا شارفها فرعنها مَدين بن مُوسَى وَلحق بِأَبِيهِ فَدَخلَهَا حميد وَاسْتعْمل عَلَيْهَا حَامِد بن حمدَان الْهَمدَانِي وَكَانَ فِي جملَته ثمَّ عَاد إِلَى إفريقية وَقد قضى إربه من الْمغرب وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة وَلما اتَّصل ببني إِدْرِيس المحصورين بِحجر النسْر خبر هزيمَة مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وفرار ابْنه عَن فاس وَولَايَة حَامِد بن حمدَان عَلَيْهَا قويت نُفُوسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وتظاهروا على أبي الْفَتْح التسولي فنزلوا إِلَيْهِ وقاتلوه وهزموه ونهبوا مُعَسْكَره وَخَرجُوا إِلَى الفضاء بعد انحصارهم بالقلعة الْمَذْكُورَة أَربع سِنِين ثورة أَحْمد بن بكر الجذامي بدعوة المروانيين بفاس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك وَأقَام حَامِد بن حمدَان واليا على فاس من قبل الشِّيعَة إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ أَحْمد بن بكر بن عبد الرَّحْمَن بن سهل الجذامي وَذَلِكَ عقب وَفَاة عبيد الله الْمهْدي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة فَقتل حَامِد بن حمدَان وَبعث بِرَأْسِهِ وبولده إِلَى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة فَبعث بِهِ مُوسَى إِلَى عبد الرَّحْمَن النَّاصِر بقرطبة وَاسْتولى على الْمغرب وعادت الدعْوَة بِهِ إِلَى بني مَرْوَان وَلما اتَّصل الْخَبَر بِصَاحِب إفريقية أبي الْقَاسِم بن عبيد الله الْمهْدي الْمُتَوَلِي بعد أَبِيه سرح قائده ميسورا الْخصي إِلَى الْمغرب فقدمه ميسور سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة وخام ابْن أبي الْعَافِيَة عَن لِقَائِه واعتصم بحصن آلكاي وَتقدم ميسور إِلَى فاس فحاصرها أَيَّامًا إِلَى أَن خرج إِلَيْهِ أَحْمد بن بكر مبايعا وَقدم بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة نفيسة ومالا جَلِيلًا فَقبض ميسور الْهَدِيَّة وَالْمَال ثمَّ تقبض على أَحْمد بن بكر وَقَيده وَبعث بِهِ إِلَى المهدية وَلما نذر أهل فاس بغدره امْتَنعُوا عَلَيْهِ وَأَغْلقُوا أَبْوَابهم دونه وَقدمُوا على أنفسهم حسن بن قَاسم اللواتي فَحَاصَرَهُمْ ميسور سَبْعَة أشهر وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار رَغِبُوا فِي السّلم فَصَالحهُمْ على أَن أَعْطوهُ سِتَّة آلَاف دِينَار وأنطاعا ولبودا وقربا للْمَاء وأثاثا وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى أبي الْقَاسِم الشيعي وَكَتَبُوا اسْمه فِي سكتهم وخطبوا لَهُ على منابرهم فَقبل ميسور ذَلِك مِنْهُم وَأقر عَلَيْهِم حسن بن قَاسم اللواتي وارتحل عَنْهُم وَاسْتمرّ حسن عَاملا على فاس إِلَى أَن قدم أَحْمد بن بكر من المهدية مُطلقًا مكرما فتخلى لَهُ عَن مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 كَانَ بِيَدِهِ وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة فَكَانَت ولَايَة حسن بن الْقَاسِم على فاس ثَمَان عشرَة سنة قَالَه فِي القرطاس وَقَالَ ابْن خلدون إِن أَحْمد بن بكر الجذامي قدم من إفريقية سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فَسَار إِلَى فاس وَأقَام بهَا متنكرا إِلَى أَن وثب بعاملها حسن بن قَاسم اللواتي فتخلى لَهُ عَن الْعَمَل وَالله أعلم حَرْب ميسور مَعَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة لما صَالح ميسور أهل فاس نَهَضَ إِلَى حَرْب ابْن أبي الْعَافِيَة فدارت بَينهم حروب كَانَ الظُّهُور فِي آخرهَا لميسور وَأسر البوري بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة وغربه إِلَى المهدية وطرد مُوسَى على أَعمال الْمغرب إِلَى نواحي ملوية ووطاط وَمَا وَرَاءَهَا من بِلَاد الصَّحرَاء ثمَّ قفل إِلَى القيروان وَقَالَ ابْن أبي زرع فِي كتاب القرطاس إِن بني إِدْرِيس توَلّوا مُعظم الحروب الَّتِي دارت بَين ميسور وَبَين ابْن أبي الْعَافِيَة وَإِنَّهُم قَاتلُوا ابْن أبي الْعَافِيَة حَتَّى فر أمامهم إِلَى الصَّحرَاء قَالَ وتملك الأدارسة أَكثر مَا كَانَ بيد ابْن أبي الْعَافِيَة قَائِمين بدعوة الشِّيعَة فَلم يزل ابْن أبي الْعَافِيَة شَرِيدًا فِي الصَّحرَاء وأطراف الْبِلَاد الَّتِي بقيت بِيَدِهِ وَذَلِكَ من مَدِينَة آكرسيف إِلَى مَدِينَة نكور إِلَى أَن قتل بِبَعْض بِلَاد ملوية وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَقيل إِنَّه قتل سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة قَالَه البرنسي اه كَلَام ابْن أبي زرع وَقَالَ ابْن خلدون إِن مُوسَى ابْن أبي الْعَافِيَة رَجَعَ من الصَّحرَاء إِلَى أَعماله بالمغرب فملكها وَولى على عدوة الأندلس أَبَا يُوسُف بن محَارب الْأَزْدِيّ قَالَ وَهُوَ الَّذِي مدن عدوة الأندلس وَكَانَت حصونا ثمَّ زحف إِلَى تلمسان سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة فاستولى عَلَيْهَا قَالَ واستفحل أَمر ابْن أبي الْعَافِيَة بالمغرب الْأَقْصَى واتصل عمله بِعَمَل مُحَمَّد بن خرز ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مغراوة وَصَاحب الْمغرب الْأَوْسَط وبثوا دَعْوَة الأموية فِي أَعمالهَا وَالله أعلم بَقِيَّة أَخْبَار آل أبي الْعَافِيَة بالمغرب قَالَ ابْن أبي زرع لما هلك مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة ولي بعده ابْنه ابراهيم إِلَى أَن توفّي سنة خمسين وثلاثمائة فولي بعده ابْنه عبد الله وَيُقَال عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن ابي الْعَافِيَة إِلَى أَن توفّي سنة سِتِّينَ وثلاثمائة فولي عمله من بعده ابْنه مُحَمَّد وَعَلِيهِ انقرضت دولة آل أبي الْعَافِيَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَذكر بعض المؤرخين لأيامهم أَنه لما توفّي مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة ولي بعده ابْنه الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْمُحَارب للمتونة فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حروب إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين فَقتله واستأصل شافة ذُرِّيَّة مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة بالمغرب وَكَانَت دولتهم مائَة وَأَرْبَعين سنة من سنة خمس وَثَلَاثِينَ إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة اه وَلَكِن دولتهم بفاس انْتَهَت إِلَى قدوم ميسور الْخصي كَمَا مر وَبقيت رياستهم بالأطراف إِلَى دولة اللمتونيين وَالله أعلم وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث مَا نذكرهُ فَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ كسفت الشَّمْس كسوفا كليا وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة الْعَصْر فَغَاب القرص كُله وَظَهَرت النُّجُوم وَأذن أَكثر النَّاس بالمساجد للمغرب ثمَّ تجلت مضيئة بعد ذَلِك وَمَكَثت مِقْدَار ثلث سَاعَة ثمَّ غربت وَفِي سنة ثَلَاث وثلاثمائة كَانَ بإفريقية وَالْمغْرب والأندلس فتن كَثِيرَة ومجاعة عَظِيمَة أشبهت مجاعَة سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ وَقع الْمَوْت فِي النَّاس حَتَّى عجزوا عَن دفن موتاهم وَفِي سنة خمس وثلاثمائة أحرقت النَّار أسواق مَدِينَة فاس وأسواق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 تاهرت قَاعِدَة زناتة وأحرقت أسواق قرطبة وأرباض مكناسة من بِلَاد جَوف الأندلس وَكَانَ ذَلِك فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فسميت سنة النَّار وَفِي سنة سبع وثلاثمائة كَانَ بإفريقية وَالْمغْرب والأندلس رخاء مفرط وطاعون ووباء كثير وفيهَا كَانَت الرّيح السَّوْدَاء الشَّدِيدَة الهبوب الَّتِي قلعت الْأَشْجَار وهدمت الدّور بفاس فَتَابَ النَّاس ولزموا الْمَسَاجِد وارتدعوا عَن كثير من الْفَوَاحِش وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وثلاثمائة ظهر حَامِيم المتنبئ بجبال غمارة قَالَ ابْن خلدون كَانَت غمارة غريقة فِي الْجَهَالَة والبعد عَن الشَّرَائِع بِسَبَب البداوة والانتباذ عَن مَوَاطِن الْخَيْر وتنبأ فيهم من قَبيلَة يُقَال لَهَا محسكة حَامِيم بن من الله يكنى أَبَا مُحَمَّد ويكنى أَبوهُ من الله أَبَا يخلف وَكَانَ ظُهُوره بجبل حَامِيم المشتهر بِهِ قَرِيبا من تطوان وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كثير من غمارة وأقروا بنبوته وَشرع لَهُم شرائع وعبادات وصنع لَهُم قُرْآنًا كَانَ يتلوه عَلَيْهِم بِلِسَانِهِ فمما شرع لَهُم صلاتان فِي كل يَوْم وَاحِدَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَالْأُخْرَى عِنْد غُرُوبهَا ثَلَاث رَكْعَات فِي كل صَلَاة ويسجدون وبطون أَيْديهم تَحت وُجُوههم وَمن قرآنهم الَّذِي كَانُوا يقرؤونه بعد تهليل يهللون بِهِ بلسانهم خَلِّنِي من الذُّنُوب يَا من خلى النّظر ينظر فِي الدُّنْيَا أخرجني من الذُّنُوب يَا من أخرج يُونُس من بطن الْحُوت ومُوسَى من الْبَحْر ثمَّ يَقُول فِي رُكُوعه آمَنت بحاميم وبأبيه أبي يخلف من الله وآمن رَأْسِي وعقلي وَمَا يكنه صَدْرِي وَمَا أحَاط بِهِ دمي ولحمي وَآمَنت بتالية عمَّة حَامِيم أُخْت أبي يخلف من الله ثمَّ يسْجد وَكَانَت تالية هَذِه امْرَأَة كاهنة سَاحِرَة وَكَانَ حَامِيم يلقب المفتري وَكَانَت أُخْته دبو كاهنة سَاحِرَة أَيْضا وَكَانُوا يستغيثون بهَا فِي الْحُوب والقحوط وَفرض عَلَيْهِم صَوْم الِاثْنَيْنِ وَصَوْم الْخَمِيس إِلَى الظّهْر وَصَوْم الْجُمُعَة وَصَوْم عشرَة أَيَّام من رَمَضَان ويومين من شَوَّال وَمن أفطر فِي يَوْم الْخَمِيس عمدا فكفارته أَن يتَصَدَّق بِثَلَاثَة أثوار وَمن أفطر فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ فكفارته أَن يتَصَدَّق بثورين وَفرض عَلَيْهِم فِي الزَّكَاة الْعشْر فِي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 شَيْء وَأسْقط عَنْهُم الْحَج وَالْوُضُوء وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَأحل لَهُم أكل الْأُنْثَى من الْخِنْزِير وَقَالَ إِنَّمَا حرم قُرْآن مُحَمَّد الْخِنْزِير الذّكر وَأمر أَن لَا يُؤْكَل الْحُوت إِلَّا بِذَكَاة وَحرم عَلَيْهِم أكل الْبيض وَأكل الرَّأْس من كل حَيَوَان فَبعث إِلَيْهِ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس عسكرا فَالْتَقوا بقصر مصمودة من أحواز طنجة فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا أَتْبَاعه وصلبوا شلوه بِالْقصرِ الْمَذْكُور وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَى النَّاصِر بقرطبة وَرجع من بَقِي من أَتْبَاعه إِلَى الْإِسْلَام وَذَلِكَ سنة خمس عشر وثلاثمائة قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ لِابْنِهِ عِيسَى بن حَامِيم من بعده قدر جليل فِي غمارة وَفِي سنة سبع وَعشْرين وثلاثمائة ظهر بِبِلَاد الْمغرب غمام كثيف دَامَ خَمْسَة أَيَّام لم ير النَّاس فِيهَا شمسا وَكَانَ الشَّخْص لَا يرى من الأَرْض فِيهِ إِلَّا مَوضِع قَدَمَيْهِ فَتَابَ النَّاس وأخرجوا الصَّدقَات فكشف الله عَنْهُم مَا بهم وَسميت سنة الْغَمَام وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة نزل برد عَظِيم الْوَاحِدَة مِنْهُ تزن رطلا وَأكْثر قتل الطير والوحش والبهائم وَكَثِيرًا من النَّاس وَكسر الْأَشْجَار وأفسد الثِّمَار كَانَ ذَلِك بأثر قحط شَدِيد وَغَلَاء عَام وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلاثمائة نزل أَيْضا برد كثير لم يعْهَد مثله كَثْرَة قتل الْمَوَاشِي وأفسد الثِّمَار وَجَاءَت السُّيُول الْعَظِيمَة بِجَمِيعِ بِلَاد الْمغرب وَكَانَ بهَا رعود قاصفة وبروق خاطفة ودام ذَلِك أَيَّامًا واستسقى النَّاس واستصحوا فِي هَذِه السّنة وفيهَا أَيْضا كَانَت ريح شَدِيدَة هدمت المباني وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب والأندلس هلك فِيهِ أَكثر الْخلق وَفِي هَذِه الْمدَّة كَانَ الشَّيْخ أَبُو سعيد الْمصْرِيّ الْمَعْرُوف بِأبي سلهامة مَوْجُودا وَهُوَ من كبار صلحاء الْمغرب وقبره شهير قرب مشرع الْحَضَر على سَاحل الْبَحْر وَعَلِيهِ قبَّة عَجِيبَة الصَّنْعَة محكمَة الْعَمَل بالنقش والأصباغ والزليج الملون قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن كَانَ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 رَأس قبر الشَّيْخ أبي سلهامة لوح مَذْهَب مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذِه الْقُبُور الثَّلَاثَة الَّتِي أخْفى الله تَعَالَى فِيهَا قبر الشَّيْخ أبي سعيد المكنى أبي سلهامة وَكَانَت وَفَاته سنة نَيف وَأَرْبَعين وثلاثمائة قَالَ أَبُو عبد الله الْمَذْكُور ثمَّ إِن النَّصَارَى نزلُوا مرّة هُنَاكَ فاقتلعوا اللَّوْح وذهبوا بِهِ قَالَ وَكَانَ النيف الزَّائِد على الْأَرْبَعين مُسَمّى فِي اللَّوْح وَلَكِنِّي أنسيته وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ لَا يزِيد على السَّبع وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للأدارسة بِبِلَاد الرِّيف هَذِه الدولة الَّتِي كَانَت للأدارسة بِبِلَاد الرِّيف لم تكن لَهُم على سَبِيل الِاسْتِقْلَال والاستبداد كَمَا كَانَت لَهُم أَولا بفاس وَالْمغْرب إِنَّمَا كَانُوا فِيهَا تَحت نظر المتغلب على بِلَاد الْمغرب إِمَّا من الشِّيعَة أَصْحَاب إفريقية وَإِمَّا من المروانيين أَصْحَاب الأندلس كَمَا ستقف عَلَيْهِ وَاعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن بني إِدْرِيس كَانُوا قد اقتسموا أَعمال الْمغرب بعد وَفَاة أَبِيهِم إِدْرِيس رَحمَه الله وَذَلِكَ بِإِشَارَة جدتهم كنزة وَأَن بِلَاد الرِّيف مِنْهَا كَانَت فِي سهم عمر بن إِدْرِيس وَأَنه قَاتل اخويه عِيسَى وَالقَاسِم وأضاف أعمالهما إِلَى عمله فَبَقيت بِلَاد الرِّيف بيد بني عمر بن إِدْرِيس يتوارثونها خلفا عَن سلف فَلَمَّا انقرضت دولة آل إِدْرِيس بفاس على يَد مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة انحازوا إِلَى بني عمهم وعشيرتهم بِبِلَاد الرِّيف وتحصنوا بقلعة حجر النسْر كَمَا سبق وَلما قدم ميسور الْخصي من إفريقية وَأجلى مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة إِلَى الصَّحرَاء أَقَامَ بَنو إِدْرِيس بريفهم يتداولون رياسته تَحت نظر الشِّيعَة تَارَة وَتَحْت نظر المروانيين أُخْرَى إِلَى أَن انقرضت دولتهم وَذَهَبت رياستهم من الْمغرب بِالْكُلِّيَّةِ وَالله غَالب على أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الْخَبَر عَن رياسة الْقَاسِم كنون بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس لما فر مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة أَمَام الْقَائِد ميسور إِلَى الصَّحرَاء صَارَت الرياسة فِي الْمغرب بعده لأبني مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وهما الْقَاسِم الملقب بكنون وشقيقه إِبْرَاهِيم وهما مَعًا أَخَوان لِلْحسنِ الْحجام الَّذِي تقدم ذكره فَاجْتمع بَنو إِدْرِيس وَبَايَعُوا الْقَاسِم الْمَذْكُور فَملك أَكثر بِلَاد الْمغرب إِلَّا فاسا فَإِنَّهُ لم يملكهَا وَكَانَ سكناهُ بقلعة حجر النسْر وَاسْتمرّ على إمارته مُقيما لدَعْوَة الشِّيعَة إِلَى أَن توفّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة فولي بعده ابْنه أَبُو الْعَيْش الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَيْش احْمَد بن الْقَاسِم كنون كَانَ أَبُو الْعَيْش هَذَا فَقِيها ورعا حَافِظًا للسير عَارِفًا بأخبار الْمُلُوك وَأَيَّام النَّاس وأنساب قبائل الْعَرَب والبربر شجاعا جوادا وَكَانَ يعرف فِي بني إِدْرِيس بِأَحْمَد الْفَاضِل وَكَانَ مائلا إِلَى بني مَرْوَان وَلما ولي بعد أَبِيه قطع دَعْوَة العبيديين فِي جَمِيع عمله وَبَايع لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر صَاحب الأندلس وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر عمله وَبَايع أَبَا الْعَيْش كَافَّة أهل الْمغرب إِلَى سجلماسة وَكَانَ السوَاد الْأَعْظَم من أهل الْمغرب الْأَقْصَى لَهُم محبَّة من جَانب آل إِدْرِيس وإيثار لَهُم لَا يَبْغُونَ بهم بَدَلا مهما وجدوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 تغلب عبد الرَّحْمَن النَّاصِر على بِلَاد الْمغرب ومضايقته لأبي الْعَيْش بهَا لما بَايع أَبُو الْعَيْش لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر وخطب لَهُ اقترح عَلَيْهِ أَن ينزل لَهُ عَن طنجة ليضيفها إِلَى سبتة الَّتِي كَانَ استولى عَلَيْهَا من قبل فَامْتنعَ أَبُو الْعَيْش من ذَلِك فَبعث إِلَيْهِ النَّاصِر بالأسطول والمقاتلة فحاصره وضيق عَلَيْهِ وَلما رأى أَبُو الْعَيْش أَنه لَا طَاقَة لَهُ بحربه أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ وَنزل لَهُ عَن طنجة وَبَقِي أَبُو الْعَيْش مَعَ إخْوَته وَبني عَمه من الأدارسة بِمَدِينَة الْبَصْرَة وآصيلا تَحت بيعَة النَّاصِر وَفِي كنفه مُتَمَسِّكِينَ بدعوته وَكَانَت قواد النَّاصِر وجيوشه تجيز من الأندلس إِلَى العدوة يُقَاتلُون من خَالف الأدارسة من البربر ويستألفونهم والناصر ممد لمن عجز مِنْهُم بِرِجَالِهِ مقو لمن ضعف بِمَالِه حَتَّى ملك أَكثر بِلَاد الْمغرب وبايعته قبائله من زناتة والبربر وخطب لَهُ على منابره من تاهرت إِلَى طنجة مَا عدا سجلماسة فَإِنَّهُ قَامَ بهَا فِي ذَلِك الْوَقْت منادر الْبَرْبَرِي وَبَايع النَّاصِر أهل فاس فِيمَن بَايعه من بِلَاد العدوة فولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن الْخَيْر المغراوي وَكَانَ من أبسط مُلُوك زناتة يدا وأعظمهم شَأْنًا وَأَحْسَنهمْ إِلَى مُلُوك بني أُميَّة انحياشا وأخلصهم طوية وَكَانَ لبني يفرن ومغراوة من زناتة ولَايَة للأمويين وتشيع لَهُم وَذَلِكَ بِولَايَة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ لجدهم صولات بن وزمار المغراوي الَّذِي وَفد عَلَيْهِ وَأسلم على يَده كَمَا سبق فِي اخبار الْفَتْح وَالله أعلم فسرت تِلْكَ الْولَايَة فِي عقب زناتة للأمويين عُمُوما كَمَا كَانَ لصنهاجة من البربر ولَايَة آل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَأَقَامَ مُحَمَّد بن الْخَيْر واليا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 مدينتي فاس نَحْو سنة وارتحل عَنْهَا إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد واستخلف عَلَيْهَا ابْن عَمه أَحْمد بن أبي بكر بن أَحْمد بن عُثْمَان بن سعيد الزناتي وَهُوَ الَّذِي بنى صومعة مَسْجِد الْقرَوِيين سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة كَمَا سبق وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة ولي النَّاصِر على مَدِينَة طنجة وأحوازها يعلى بن مُحَمَّد اليفرني فنزلها فِي قبائل يفرن وأمضى أمره وَنَهْيه فِيهَا هِجْرَة أبي الْعَيْش إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد لما رأى أَبُو الْعَيْش غَلَبَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة هَانَتْ عَلَيْهِ رياستها فَكتب إِلَيْهِ بقرطبة يَسْتَأْذِنهُ فِي الْجِهَاد فَأذن لَهُ وَأمر أَن يَبْنِي لَهُ فِي كل منزل ينزله قصرا وَذَلِكَ من الجزيرة الخضراء إِلَى الثغر وَأَن يجْرِي لَهُ فِيهَا ألف دِينَار فِي كل يَوْم ضِيَافَة لَهُ وَمن الْفرش والأثاث وَالطَّعَام وَالشرَاب مَا يقوم بِالْقصرِ فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى وصل إِلَى الثغر فَكَانَت مَنَازِله من الجزيرة إِلَى الثغر ثَلَاثِينَ منزلا وَمَات أَبُو الْعَيْش رَحمَه الله شَهِيدا فِي جِهَاد الفرنج سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلاثمائة الْخَبَر عَن دولة الْحسن بن كنون لما خرج أَبُو الْعَيْش من الأندلس برسم الْجِهَاد اسْتخْلف على عمله أَخَاهُ الْحسن بن كنون وَهُوَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس وَهُوَ آخر مُلُوك الأدراسة بالمغرب وَلم يزل مواليا للمروانيين متمسكا بدعوتهم إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قدوم الْقَائِد جَوْهَر الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب واستيلاؤه عَلَيْهِ لما اتَّصل بخليفة الشِّيعَة وَهُوَ الْمعز لدين الله معد بن إِسْمَاعِيل العبيدي غَلَبَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة وَأَن جَمِيع من بهَا من قبائل زناتة والبربر رفضوا دعوتهم ودخلوا فِي دَعْوَة بني أُميَّة عظم الْأَمر عَلَيْهِ وَبعث قائده جَوْهَر بن عبد الله الرُّومِي الْمَعْرُوف بالكاتب فِي جَيش كثيف يشْتَمل على عشْرين ألف فَارس من قبائل كتامة وصنهاجة وَغَيرهم وَأمره أَن يطَأ بِلَاد الْمغرب ويذللها وَيُسْتَنْزَلُ من بهَا من الثوار ويشد وطأته عَلَيْهِم فَخرج جَوْهَر من القيروان سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة يؤم بِلَاد الْمغرب فاتصل خَبره بيعلى بن مُحَمَّد اليفرني صَاحب طنجة وَخَلِيفَة النَّاصِر على بِلَاد العدوة فحشد قبائل زناتة ونهض إِلَى الْقَائِد جَوْهَر فَكَانَ اللِّقَاء على تاهرت فالتحمت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ فَأخْرج الْقَائِد جَوْهَر الْأَمْوَال وبذلها فِي قواد كتامة فضمنوا لَهُ قتل أَمِير زناتة يعلى بن مُحَمَّد فَلَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَال صممت عِصَابَة من قواد كتامة وأنجادها وقصدوا إِلَى يعلى بن مُحَمَّد فَقَتَلُوهُ واحتزوا رَأسه وَأتوا بِهِ إِلَى جَوْهَر فبذل لَهُم مَالا جَلِيلًا بِشَارَة عَلَيْهِ وَبعث بِالرَّأْسِ إِلَى مَوْلَاهُ الْمعز فطيف بِهِ بالقيروان وَذكر ابْن خلدون أَن يعلى بن مُحَمَّد بَادر إِلَى لِقَاء جَوْهَر عِنْد قدومه وأذعن لَهُ وَبَايَعَهُ فأظهر جَوْهَر الْقبُول ثمَّ دس إِلَيْهِ من اغتاله وتفرق بَنو يفرن وزناتة بعد مقتل أَمِيرهمْ وَبعد مُدَّة التأم ملكهم على وَلَده يدو بن يعلى بن مُحَمَّد اليفرني ثمَّ تقدم جَوْهَر إِلَى سجلماسة وَكَانَ قد قَامَ بهَا مُحَمَّد بن الْفَتْح بن مَيْمُون بن مدرار الْمَعْرُوف بالشاكر لله وَقد تقدم لنا أَنه ادّعى الْخلَافَة وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وَضرب السِّكَّة باسمه وَكتب عَلَيْهَا تقدست عزة الله وَكَانَت سكته تعرف بالشاكرية وَكَانَت فِي غَايَة الطّيب وَكَانَ سنيا مالكي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الْمَذْهَب قد خَالف سلفه فِي مَذْهَب الصفرية فَنزل عَلَيْهِ جَوْهَر وحاصره بسجلماسة ثمَّ اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ وأفلت الشاكر ثمَّ عَاد بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة فَدخل سجلماسة متنكرا فَعرف وَقبض عَلَيْهِ وَأتي بِهِ إِلَى جَوْهَر فأوثقه فِي الْحَدِيد وَسَاقه أَسِيرًا بَين يَدَيْهِ حَتَّى نزل على فاس بعد أَن أفنى حماة الصفرية ورجالها بِالسَّيْفِ وَكَانَ نُزُوله على فاس سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فحاصرها وأدار بهَا الْقِتَال من كل جِهَة قَرِيبا من نصف شهر ثمَّ اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ على يَد زيري بن مُنَاد الصنهاجي فَإِنَّهُ تُسنم أسوارها لَيْلًا ودخلها فَقتل بهَا خلقا كثيرا وَقبض على أميرها أَحْمد بن أبي بكر الزناتي الَّذِي ولاه النَّاصِر عَلَيْهَا وَنهب الْمَدِينَة وَقتل حماتها وشيوخها وسبى أَهلهَا وَهدم أسوارها وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما وَكَانَ دُخُول جَوْهَر إِيَّاهَا ضحوة يَوْم الْخَمِيس الموفي عشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة ثمَّ سَار جَوْهَر فِي بِلَاد الْمغرب يقتل أَوْلِيَاء المروانيين وَيَسْبِي وَيفتح الْبِلَاد والمعاقل وخافته البربر وفرت أَمَامه قبائلها فأنفذ الْأَمر فِي الْمغرب الْأَقْصَى ثَلَاثِينَ شهرا وانْتهى إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وصاد من سمكه وَجعله فِي قلال المَاء وأرسله إِلَى مَوْلَاهُ الْمعز ثمَّ انْصَرف رَاجعا بعد أَن دوخ الْبِلَاد وأثخن فِيهَا وَقتل حماتها وَقطع دَعْوَة المروانيين مِنْهَا وردهَا إِلَى العبيديين فَخَطب لَهُم على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب وانْتهى الْقَائِد جَوْهَر إِلَى المهدية دَار الْمعز لدين الله وَقد حمل مَعَه أَحْمد بن أبي بكر اليفرني أَمِير فاس وَخَمْسَة عشر رجلا من أشياخها وَحمل أَيْضا مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح أَمِير سجلماسة وَدخل بهم أُسَارَى بَين يَدَيْهِ فِي أقفاص من خشب على ظُهُور الْجمال وَجعل على رؤوسهم قلانس من لبد مستطيلة منبتة بالقرون فطيف بهم فِي بِلَاد إفريقية وأسواق القيروان ثمَّ ردوا إِلَى المهدية وحبسوا بهَا حَتَّى مَاتُوا فِي سجنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قدوم بلكين بن زيزي بن مُنَاد الصنهاجي الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب كَانَ الْأَمِير الْحسن بن كنون قد بَايع العبيديين فِيمَن بايعهم عِنْد غَلَبَة جَوْهَر على الْمغرب فَلَمَّا انْصَرف جَوْهَر إِلَى إفريقية أَوَاخِر سنة تسع وَأَرْبَعين وثلاثمائة نكث الْحسن بن كنون بيعَة العبيديين وَعَاد إِلَى المروانيين فتمسك بدعوة النَّاصِر ثمَّ بدعوة ابْنه الحكم الْمُسْتَنْصر خوفًا مِنْهُم لَا محبَّة فيهم لقرب بِلَاده من بِلَادهمْ وَأقَام على ذَلِك إِلَى أَن قدم الْأَمِير بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي من إفريقية إِلَى الْمغرب لأخذ ثار أَبِيه فَقتل زناتة واستأصلهم وَملك الْمغرب بأسره وَقطع أَيْضا مِنْهُ دَعْوَة الأمويين وَقتل أولياءهم وَأخذ الْبيعَة على جَمِيع أهل الْمغرب للمعز معد بن إِسْمَاعِيل كَمَا فعل جَوْهَر قبله فَكَانَ أول من سارع إِلَى بيعَته ونصرته وقتال أَوْلِيَاء المروانيين مَعَه الْحسن بن كنون صَاحب مَدِينَة الْبَصْرَة وكشف وَجهه فِي ذَلِك وأعمل فِيهِ جهده فاتصل خَبره بالحكم الْمُسْتَنْصر فحقد عَلَيْهِ لذَلِك فَلَمَّا انْصَرف بلكين بن زيري إِلَى إفريقية بعث الحكم الْمُسْتَنْصر صَاحب الأندلس قائده مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن طملس فِي جَيش كثيف إِلَى قتال الْحسن ابْن كنون فَأجَاز إِلَيْهِ من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة فِي عدد كثير وعدة كَامِلَة وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فزحف الْحسن إِلَى قِتَاله فِي قبائل البربر فَكَانَ اللِّقَاء بأحواز طنجة بِموضع يعرف بحفص بني مصرخ فَكَانَت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة قتل فِيهَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم قَائِد الحكم الْمُسْتَنْصر وَقتل مَعَه خلق كثير من أَصْحَابه وفر الْبَاقُونَ فَدَخَلُوا سبتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وتحصنوا بهَا وَكَتَبُوا إِلَى الحكم يستغيثون بِهِ فَبعث إِلَيْهِم صَاحب حروبه غَالِبا مَوْلَاهُ الْبعيد الصيت الْمَعْرُوف بالشهامة والنجدة والدهاء وَأَعْطَاهُ الحكم أَمْوَالًا جليلة وجيوشا كَثِيرَة وعددا وافرة وَأمره بِقِتَال آل إِدْرِيس واستنزالهم من معاقلهم وَقَالَ لَهُ عِنْد وداعه يَا غَالب سر مسير من لَا إِذن لَهُ فِي الرُّجُوع إِلَّا حَيا منصورا أَو مَيتا مَعْذُورًا وَلَا تشح بِالْمَالِ وابسط يدك بِهِ يتبعك النَّاس قدوم غَالب الْأمَوِي إِلَى الْمغرب وتغريب آل إِدْرِيس إِلَى الأندلس ثمَّ خرج غَالب من قرطبة فِي آخر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلاثمائة فاتصل خبر قدومه بالْحسنِ بن كنون فخاف مِنْهُ وأخلى مَدِينَة الْبَصْرَة وَحمل مِنْهَا حرمه وأمواله وذخائره إِلَى قلعة حجر النسْر الْقَرِيبَة من سبتة واتخذها معقلا يتحصن بهَا وَأَجَازَ غَالب الْبَحْر من الجزيرة الخضراء إِلَى قصر مصمودة فَلَقِيَهُ الْحسن بن كنون هُنَاكَ فِي جموع البربر وقاتله أَيَّامًا وسرب غَالب الْأَمْوَال إِلَى رُؤَسَاء البربر الَّذين مَعَ الْحسن بن كنون وَوَعدهمْ ومناهم فَانْفَضُّوا عَن الْحسن حَتَّى لم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَرِجَاله فَلَمَّا رأى ذَلِك سَار إِلَى حجر النسْر فتحصن بِهِ وَاتبعهُ غَالب فحاصره بِهِ وَنزل عَلَيْهِ بِجَمِيعِ جيوشه وَقطع عَنهُ الْموَاد وأمده الحكم بعرب الدولة الَّذين بالأندلس وَرِجَال الثغور فوصل المدد إِلَى غَالب غرَّة الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة فَاشْتَدَّ الْحصار على الْحسن بن كنون فَطلب من غَالب الْأمان على نَفسه وَأَهله وَمَاله وَرِجَاله وَينزل إِلَيْهِ فيسير مَعَه إِلَى قرطبة فَيكون بهَا فَأَجَابَهُ غَالب إِلَى ذَلِك وعاهده عَلَيْهِ فَنزل الْحسن بأَهْله وَمَاله وَرِجَاله وَأسلم الْحصن إِلَى غَالب فملكه واستنزل غَالب جَمِيع العلويين الَّذين بِأَرْض العدوة من معاقلهم وأخرجهم عَن أوطانهم وَلم يتْرك بالعدوة رَئِيسا مِنْهُم وَسَار إِلَى مَدِينَة فاس فملكها وَاسْتعْمل عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قشوش بعدوة الْقرَوِيين وَعبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة بعدوة الأندلس فَلم تزل فاس بيد بني أُميَّة إِلَى أَن غلب عَلَيْهَا زيري بن عَطِيَّة المغراوي وَانْصَرف غَالب إِلَى الأندلس وسَاق مَعَه الْحسن بن كنون وَجَمِيع مُلُوك الأدارسة وَقد وطأ جَمِيع بِلَاد الْمغرب وَفرق الْعمَّال فِي نواحيه وَقطع دَعْوَة بني عبيد من جَمِيع آفاقه ورد الدعْوَة إِلَى الأموية فَخرج بهم غَالب من فاس آخر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَوصل إِلَى سبتة فَركب الْبَحْر مِنْهَا وَاسْتقر بالخضراء وَكتب إِلَى مَوْلَاهُ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه يُعلمهُ بقدومه وبمن قدم مَعَه من العلويين فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى الحكم أَمر النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى لقائهم وَركب هُوَ فِي جمع عَظِيم من وُجُوه دولته فَتَلقاهُمْ فَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ قرطبة يَوْمًا مشهودا وَذَلِكَ أول يَوْم من الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَسلم الْحسن بن كنون على الحكم فَأقبل عَلَيْهِ وَعَفا عَنهُ ووفى لَهُ بعهده وأوسع لَهُ ولرجاله فِي الْعَطاء وأجرى عَلَيْهِم الجرايات الْكَثِيرَة وخلع عَلَيْهِم الْخلْع الرفيعة وَأثبت جَمِيع أَهله وَرِجَاله فِي ديوَان الْعَطاء وَكَانُوا سَبْعمِائة رجل أنجاد يعدون بسبعة آلَاف واسكنه قرطبة وَأقَام الْحسن وعشيرته فِي كنف الحكم فِي أَمن وغبطة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ حُدُوث النفرة بَين الحكم وَالْحسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك وَلما اسْتَقر الْحسن بن كنون وعشيرته بقرطبة تَحت كنف الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْأمَوِي على مَا وصفناه اسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَكَانَ لِلْحسنِ قِطْعَة عنبر غَرِيبَة الشكل كَبِيرَة الحجم ظفر بهَا فِي بعض سواحله من بِلَاد العدوة أَيَّام ملكه بهَا فسواها منشورة يتوسدها ويرتفق بهَا فَبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ الحكم خَبَرهَا فَسَأَلَهُ حملهَا إِلَيْهِ وَضمّهَا إِلَى ذخائره على أَن لَهُ حكمه مسمطا فَامْتنعَ الْحسن من ذَلِك وأبى أَن يُسَلِّمهَا إِلَيْهِ فنكبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 عَلَيْهَا وسلبه جَمِيع أَمْوَاله وسلبه الْقطعَة أَيْضا فَبَقيت فِي خزانَة الأمويين إِلَى أَن غلب ابْن حمود الإدريسي على ملك الأندلس وَدخل قرطبة وَاسْتقر بِالْقصرِ مِنْهَا فألفى تِلْكَ العنبر لَا زَالَت قَائِمَة الْعين قد عقبتها الْأَيَّام حَتَّى صَارَت إِلَى أَيدي العلوية أَرْبَابهَا وَلما نكب الحكم الْحسن أَمر بِإِخْرَاجِهِ وَإِخْرَاج عشيرته من قرطبة وإجلائهم إِلَى الْمشرق فَرَكبُوا الْبَحْر من المرية إِلَى تونس سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَكَانَ قصد الحكم بتغريبهم التخفف مِنْهُم والراحة من نفقاتهم مَعَ مَا كَانَ قومه يعذلونه عَلَيْهِم فَسَار الْحسن بن كنون وعشيرته إِلَى مصر فنزلوا بهَا على خَليفَة الشِّيعَة وَهُوَ الْعَزِيز بِاللَّه نزار بن الْمعز العبيدي وَكَانَ العبيديون قد ملكوا مصر يَوْمئِذٍ ونقلوا كرْسِي خلافتهم إِلَيْهَا فَأقبل الْعَزِيز نزار على الأدارسة وَبَالغ فِي إكرامهم ووعد الْحسن النَّصْر وَالْأَخْذ بثأره مِمَّن غَلبه على ملك سلفه عود الْحسن بن كنون إِلَى الْمغرب وَمَا كَانَ من أمره إِلَى مَقْتَله وانقراض دولته لما اسْتَقر الْحسن بن كنون بِمصْر عِنْد الْعَزِيز نزار أَقَامَ عِنْده مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة فِي أَيَّام هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه الْأمَوِي فَكتب نزار لِلْحسنِ بعهده على الْمغرب وَأمر عَامله على إفريقية بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي أَن يقويه بالجيوش فَسَار الْحسن إِلَى بلكين فَأعْطَاهُ عسكرا يشْتَمل على ثَلَاثَة آلَاف فَارس فاقتحم بهم بِلَاد الْمغرب فسارعت إِلَيْهِ قبائل البربر بِالطَّاعَةِ فشرع فِي إِظْهَار دَعوته واتصل خَبره بالمنصور بن أبي عَامر حَاجِب هِشَام الْمُؤَيد والقائم بِملكه فَبعث إِلَيْهِ ابْن عَمه الْوَزير أَبَا الحكم عَمْرو بن عبد الله بن أبي عَامر الْمَعْرُوف بعسكلاجة فِي جَيش كثيف وقلده أَمر الْمغرب وَسَائِر أَعماله وَأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بِقِتَال الْحسن بن كنون فنفذ لوجهه وَركب الْبَحْر إِلَى سبتة وَخرج إِلَى حَرْب الْحسن فأحاط بِهِ وحاصره أَيَّامًا ثمَّ أجَاز الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَلَده عبد الْملك فِي أثر الْوَزير أبي الحكم فِي جَيش كثيف مُمِدًّا لَهُ فَلَمَّا رأى ذَلِك الْحسن بن كنون سقط فِي يَده وَلم يجد حِيلَة فَطلب الْأمان على نَفسه على أَن يسير إِلَى الأندلس كَمثل حَالَته الأولى فَأعْطَاهُ الْوَزير أَبُو الحكم من ذَلِك مَا وثق بِهِ وَكتب إِلَى ابْن عَمه الْمَنْصُور يُخبرهُ بذلك فَأمر بتعجيله إِلَى قرطبة موكلا بِهِ فَبعث بِهِ إِلَيْهِ وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى الْمَنْصُور بقدوم الْحسن لم يمض أَمَان ابْن عَمه وأنفذ إِلَيْهِ من قَتله من طَرِيقه وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ وَدفن شلوه بمَكَان مَقْتَله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وركدت ريح العلوية بالمغرب وتفرق جمعهم وانقرضت دولتهم وَتَفَرَّقَتْ الأدارسة فِي قبائل الْمغرب ولاذوا بالاختفاء إِلَى أَن خلعوا شارة ذَلِك النّسَب الشريف واستحالت صبغتهم مِنْهُ إِلَى البداوة وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن أشرفت دولة بني أُميَّة بالأندلس على الانقراض وَكَانَ بالأندلس رجلَانِ من آل إِدْرِيس دخلوها فِي جملَة البربر الَّذين كَانُوا هُنَاكَ وهم عَليّ وَالقَاسِم ابْنا حمود بن مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبيد الله بن عمر بن إِدْرِيس فطار لَهما ذكر فِي الشجَاعَة والإقدام ثمَّ ترقت بهم الْأَحْوَال إِلَى أَن ورثوا خلَافَة الأندلس من يَد الأمويين بهَا فِي خبر طَوِيل وَلما قتل الْحسن بن كنون هبت ريح عاصف احتملت رداءة فَلم يُوجد بعد قَالُوا وَكَانَ الْحسن هَذَا فظا غليظا قاسي الْقلب كَانَ إِذا ظفر بعدو أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 سَارِق أَو قَاطع طَرِيق أَمر بِهِ فَطرح من ذرْوَة قلعته الْمُسَمَّاة بِحجر النسْر فَيهْوِي مِنْهَا إِلَى الأَرْض مد الْبَصَر يدْفع الرجل بخشبة تمد إِلَيْهِ فَلَا يصل إِلَى الأَرْض إِلَّا وَقد تقطع قَالَ ابْن أبي زرع كَانَت مُدَّة ملك الأدارسة بالمغرب من يَوْم بُويِعَ إِدْرِيس بن عبد الله وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس السَّابِع من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة إِلَى أَن قتل الْحسن بن كنون وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة مِائَتي سنة وَثَلَاث سِنِين سوى شَهْرَيْن تَقْرِيبًا وَكَانَ عَمَلهم بالمغرب من السوس الْأَقْصَى إِلَى مَدِينَة وهران وَقَاعِدَة ملكهم مَدِينَة فاس ثمَّ الْبَصْرَة وَكَانُوا يكابدون دولتين عظيمتين دولة العبيديين بأفريقة ودولة بني أُميَّة بالأندلس وَكَانُوا يزاحمون الْخُلَفَاء إِلَى ذرْوَة الْخلَافَة وَيقْعد بهم عَنْهَا ضعف سلطانهم وَقلة مَالهم فَكَانَ سلطانهم إِذا امْتَدَّ وَقَوي يَنْتَهِي إِلَى مَدِينَة تلمسان وَإِذا اضْطربَ الْحَال عَلَيْهِم وضعفوا لَا يُجَاوز سلطانهم الْبَصْرَة وَأَصِيلا وحجز النسْر إِلَى أَن انْقَضتْ أيامهم وانقرضت مدتهم والبقاء لله وَحده وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث أَنه فِي سنة خمس وَخمسين وثلاثمائة كَانَت ريح شَدِيدَة قلعت الْأَشْجَار وهدمت الديار وَقتلت الرِّجَال وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّامِن عشر من رَجَب مِنْهَا ظهر فِي الْبَحْر شهَاب ثاقب ماثل كالعمود الْعَظِيم أَضَاء اللَّيْل لسطوع نوره وأشبهت تِلْكَ اللَّيْلَة لَيْلَة الْقدر وقارب ضوءها ضوء النَّهَار وَفِي هَذَا الشَّهْر أَيْضا كسف النيرَان فَخسفَ الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة مِنْهُ وطلعت الشَّمْس كاسفة فِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين مِنْهُ وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلاثمائة كَانَ الْجَرَاد بالمغرب وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ بعْدهَا دخل مغراوة الْمغرب وملكوه وتعرف هَذِه السّنة بِسنة لُقْمَان المغراوي وفيهَا توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح الْفَاضِل أَبُو مَيْمُونَة دراس بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ أول من أَدخل مدونة سَحْنُون مَدِينَة فاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَذكر الرشاطي أَن وَفَاته كَانَت سنة سبع وَخمسين وثلاثمائة وَلَعَلَّه أصح وَفِي سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة عَم الْجَرَاد بِلَاد الْمغرب كلهَا وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين بعْدهَا كَانَ الْفَيْض الَّذِي فاضت مِنْهُ جَمِيع أَوديَة الْمغرب وَفِي سنة تسع وَسبعين بعْدهَا كَانَت الرّيح الشرقية بالمغرب ودامت سِتَّة أشهر فأعقبت وباء عَظِيما وأمراضا كَثِيرَة وَفِي سنة ثَمَانِينَ وثلاثمائة تدارك الله عباده وَكَانَ الرخَاء المفرط بالمغرب فَكَانَ الزَّرْع لَا يُوجد من يَشْتَرِيهِ لكثرته وَكَانَ الفلاحون وَأَصْحَاب الْحَرْث يتركونه قَائِما فِي محاقلهم لَا يحصدونه لرخصه الْخَبَر عَن دولة زناتة من مغراوة وَبني يفرن بفاس وَالْمغْرب يَنْبَغِي أَن نقدم هُنَا كلَاما يكون كالتوطئة لأخبار هَذِه الدولة المغراوية فَنَقُول إِن هَذِه الدولة لم يكن لَهَا اسْتِقْلَال بالمغرب وفاس وَإِنَّمَا كَانَت رياستها تَحت نظر الأمويين بالأندلس ثمَّ إِن مغراوة وَبني يفرن قبيلتان من أَعْيَان قبائل زناتة وَكَانَ مغراو ويفرن أَخَوَيْنِ شقيقين وهما ابْنا يصليتن بن مسري بن زاكيا بن ورسيك بن الدبديت بن زانا وَهُوَ أَبُو زناتة وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار الْفَتْح أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَسرُّوا صولات بن وزمارا كَبِير مغراوة لذَلِك الْعَهْد وبعثوا بِهِ إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَأسلم على يَده وولاه على قومه وَقيل إِن صولات هَاجر إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ طَائِعا من غير أسر فَأكْرمه وولاه فَكَانَ بَيت صولات بِسَبَب هَذِه المزية نبيها فِي قومه مغراوة وَسَائِر زناتة وَلما مَاتَ صولات ورث رياسته من بعده ابْنه حَفْص بن صولات ثمَّ من بعده خزر بن حَفْص بن صولات ثمَّ ابْنه مُحَمَّد بن خزر وَهُوَ الَّذِي غزاه إِدْرِيس بن عبد الله بِمَدِينَة تلمسان وانقاد لَهُ وَأجَاب دَعوته وَدخل إِدْرِيس مَعَه تلمسان وَأصْلح شَأْنهَا وَبنى مَسْجِدهَا حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى ثمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لم تزل ذُرِّيَّة مُحَمَّد بن خزر هَذَا تتوارث رياسة سلفهم من بعدهمْ إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم فِي صدر الْمِائَة الرَّابِعَة أَرْبَعَة اخوة وهم مُحَمَّد بن خزر وَعبد الله بن خزر ومعبد بن خزر وفلفل بن خزر وَكلهمْ رَئِيس شرِيف فِي قومه وَلَهُم أَخْبَار مَعَ خلفاء الشِّيعَة بإفريقية والمروانيين بالأندلس يطول ذكرهَا مَعَ أَنَّهَا لَيست من موضوعنا وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة زحف بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي صَاحب إفريقية بعد العبيديين إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وأناخ على مدينتي فاس وَقتل عامليها مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن قشوش صَاحب عدوة الْقرَوِيين وَعبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة صَاحب عدوة الأندلس وَاسْتعْمل عَلَيْهَا مُحَمَّد بن عَامر المكناسي وأجفلت مُلُوك زناتة من بني خزر المغراويين وَبني مُحَمَّد بن صَالح اليفرنيين أَمَامه وانحازوا جَمِيعًا إِلَى سبتة وَعبر مُحَمَّد بن الْخَيْر من آل خزر الْبَحْر إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر صريخا فَخرج الْمَنْصُور فِي عساكره إِلَى الجزيرة الخضراء مُمِدًّا لَهُم بِنَفسِهِ وَعقد لجَعْفَر بن عَليّ بن حمدون على حَرْب بلكين الصنهاجي وَأَجَازَهُ الْبَحْر وأمده بِمِائَة حمل من المَال فاجتمعت إِلَيْك مُلُوك زناتة وضربوا مَصَافهمْ بِسَاحَة سبتة وَجَاء بلكين الصنهاجي حَتَّى صعد جبال تطوان وتنسم هضابها وأطل على عَسَاكِر زناتة وَأهل الأندلس بِسَاحَة سبتة فَرَأى مَا لَا قبل لَهُ بِهِ وَيُقَال إِنَّه لما عاين ذَلِك قَالَ هَذِه أَفْعَى فغرت إِلَيْنَا فاها وكر رَاجعا على عقبَة فاجتاز على مَدِينَة الْبَصْرَة وَكَانَ بهَا حامية أهل الأندلس وَبهَا يَوْمئِذٍ عمَارَة عَظِيمَة فَهَدمهَا ثمَّ صَمد إِلَى برغواطة بِبِلَاد تامسنا فجاهدهم وَقتل ملكهم عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَاسْتولى على الْمغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أجمع ومحى دَعْوَة بني أُميَّة من نواحيه ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة وَقدم الْحسن بن كنون الإدريسي من مصر إِلَى الْمغرب يطْلب ملك سلفة انْضَمَّ إِلَيْهِ يدو بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني فِي قومه وشايعه على مُرَاده وسرح الْمَنْصُور بن أبي عَامر صَاحب الأندلس إِلَيْهِ ابْن عَمه أَبَا الحكم الملقب بعسكلاجة وانضم إِلَيْهِ آل خزر المغراويون وهم مُحَمَّد بن الْخَيْر الْأَصْغَر وخزرون بن فلفل بن خزر وَمُقَاتِل وزيري ابْنا عَطِيَّة بن عبد الله بن خزر وانضم إِلَيْهِم سَائِر مغراوة وظاهروا أَبَا الحكم عسكلاجة على شَأْنه فِي حِصَار الْحسن بن كنون حَتَّى طلب الْأمان لنَفسِهِ حَسْبَمَا اسْتَوْفَيْنَا خَبره آنِفا ثمَّ تقدم عسكلاجة إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى على عدوة الأندلس سنة خمس وَسبعين وثلاثمائة وخطب بهَا لبني أُميَّة وَبَقِي مُحَمَّد بن عَامر المكناسي عَامل الشِّيعَة بعدوة الْقرَوِيين إِلَى سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة فَأتى أَبُو بياش فَدخل عدوة الْقرَوِيين بِالسَّيْفِ وَقبض على مُحَمَّد بن عَامر المكناسي فَقتله وخطب بهَا لبني أُميَّة أَيْضا هَكَذَا فِي القرطاس وَقَالَ ابْن خلدون إِن الْمَنْصُور بن أبي عَامر عقد على الْمغرب بعد انصراف عسكلاجة عَنهُ للوزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود السّلمِيّ وَأطلق يَده فِي الْأَمْوَال وَالرِّجَال وأرسله إِلَيْهِ سنة سِتّ وَسبعين وثلاثمائة وأوصاه بِالْإِحْسَانِ إِلَى مغراوة وَلَا سِيمَا مقَاتل وزيري ابْنا عَطِيَّة لحسن انحياشهم إِلَى المروانيين وَصدق طاعتهم لَهُم وأغراه بيدو بن يعلى اليفرني لتمريضه فِي الطَّاعَة وقيامه مَعَ الْحسن بن كنون فنفذ الْوَزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود لعمله وَنزل بفاس وَضبط الْمغرب أحسن ضبط وَاجْتمعت عَلَيْهِ مغراوة ثمَّ هلك مقَاتل بن عَطِيَّة سنة ثَمَان وَسبعين وَورث رياسته على بادية قومه أَخُوهُ زيري بن عَطِيَّة وَحسنت صحبته للوزير حسن بن أَحْمد بن عبد الْوَدُود ومعاملته لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ثمَّ إِن الْمَنْصُور بن أبي عَامر استدعى زيري بن عَطِيَّة للوفادة عَلَيْهِ بقرطبة فوفد عَلَيْهِ وَأحسن الْمَنْصُور إِلَيْهِ وَرفع مَنْزِلَته ثمَّ عَاد إِلَى الْمغرب وَأمره بِقِتَال يدو بن يعلى اليفرني فَاجْتمع عَلَيْهِ هُوَ والوزير ابْن عبد الْوَدُود فقاتلوه فانتصر عَلَيْهِم يدو بن يعلى وَقتل الْوَزير ابْن عبد الْوَدُود ثمَّ عقد الْمَنْصُور بن أبي عَامر لزيري بن عَطِيَّة م بعده على الْمغرب وفاس وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة هَذَا ملخص مَا عِنْد ابْن خلدون فِي هَذَا الْخَبَر ثمَّ حكى بعده مَا يُخَالِفهُ مِمَّا نذكرهُ مَبْسُوطا عَن قريب وَتوقف فِي أَيهمَا الصَّوَاب وَالله أعلم الْخَبَر عَن دولة زيري بن عَطِيَّة المغراوي بفاس وَالْمغْرب هُوَ زيري بن عَطِيَّة بن عبد الله بن خزر المغراوي وَعبد الله الْمَذْكُور هُوَ أحد الْإِخْوَة الْأَرْبَعَة من بني خزر قَالَ فِي القرطاس ملك على زناتة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة فَقَامَ فِي الْمغرب بدعوة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه وحاجبه الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَذَلِكَ بعد انْقِرَاض دولة الأدارسة مِنْهُ وَبني أبي الْعَافِيَة المكناسيين فغلب زيري أَولا على جَمِيع بوادي الْمغرب ثمَّ ملك مدينتي فاس بعد عسكلاجة وَأبي بياش دَخلهَا سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة فاستوطنها وصيرها دَار ملكه واستقام لَهُ أَمر الْمغرب فعلا قدره وَقَوي سُلْطَانه وارتفع شَأْنه وَهُوَ فِي ذَلِك متمسك بدعوة بني مَرْوَان أَصْحَاب الأندلس وَالله غَالب على أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 حَدِيث أبي البهار الصنهاجي مَعَ الْمَنْصُور ابْن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك كَانَ أَبُو البهار بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي قد خَالف على ابْن أَخِيه مَنْصُور بن بلكين ابْن زيري بن مُنَاد الصنهاجي أَمِير إفريقية وَظُهُور الدولة العبيدية وخلع دَعْوَة الشِّيعَة وَمَال إِلَى دَعْوَة المروانيين وَغلب على المهدية وتونس وشلشال وتلمسان ووهران وشلف وَكثير من بِلَاد الزاب وخطب للمؤيد وحاجبه الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَبعث ببيعته إِلَيْهِم وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسبعين وثلاثمائة فَلَمَّا وصلت بيعَته إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بعث إِلَيْهِ بعهده على مَا بِيَدِهِ من الْبِلَاد وبهدية وخلع وبأربعين ألف دِينَار فَلَمَّا قبض أَبُو البهار المَال والهدية أَقَامَ على بيعتهم نَحْو الشَّهْرَيْنِ ثمَّ خلعهم وَعَاد إِلَى العبيديين فَبلغ ذَلِك الْمَنْصُور فَغَاظَهُ وَكتب إِلَى زيري بن عَطِيَّة بعهده على بِلَاد أبي البهار وَأمره بقتاله عَلَيْهَا فَسَار إِلَيْهِ زيري بن عَطِيَّة من فاس فِي جيوش لَا تحصى من قبائل زناتة وَغَيرهم ففر أَبُو البهار أَمَامه وَلحق بِابْن أَخِيه مَنْصُور بن بلكين وَترك لَهُ الْبِلَاد فَملك زيري بن عَطِيَّة تلمسان وَسَائِر أَعمال أبي البهار فانبسط سُلْطَانه بالمغرب من السوس الْأَقْصَى إِلَى الزاب وَكتب بِالْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَبعث لَهُ بهدية عَظِيمَة فِيهَا مِائَتَا فرس من عتاق الْخَيل وَخَمْسُونَ جملا مهريا سَابِقَة وَألف درقة من جُلُود اللمط وأحمال كَثِيرَة من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وَغَيره وَألف حمل من التَّمْر الْجيد فِي جنسه وأحمال كَثِيرَة من ثِيَاب الصُّوف الرقيقة فسر بهَا الْمَنْصُور وكافأه عَلَيْهَا وَكتب لَهُ بتجديد عَهده على الْمغرب وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة واقام زيري بن عَطِيَّة بفاس وأسكن قبيله بأنحائها وبالقرب مِنْهَا فِي قياطينهم وَدفع بني يفرن عَن فاس وأحوازها إِلَى نواحي سلا فاستولوا عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وفادة زيري بن عَطِيَّة على الْمَنْصُور بن أبي عَامر بالأندلس لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة استدعى الْمَنْصُور بن أبي عَامر زيري بن عَطِيَّة أَن يقدم عَلَيْهِ بقرطبة فاستخلف على الْمغرب وَلَده الْمعز بن زيري وَأمره بسكنى تلمسان واستخلف على عدوة الأندلس من فاس عبد الرَّحْمَن بن عبد الْكَرِيم بن ثَعْلَبَة وعَلى عدوة الْقرَوِيين مِنْهَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن قشوش وَولى قَضَاء المدينتين الْفَقِيه الْفَاضِل أَبَا مُحَمَّد قَاسم بن عَامر الْأَزْدِيّ وَسَار إِلَى الأندلس وَقدم بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة عَظِيمَة من جُمْلَتهَا طَائِر فصيح يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ والبربرية ودابة من دَوَاب الْمسك ومهاة وحشية تشبه الْفرس وحيوانات غَرِيبَة وأسدان عظيمان فِي قفصين من حَدِيد وَشَيْء كثير من التَّمْر فِي غَايَة الْكبر الْوَاحِدَة مِنْهُ تشبه الخيارة عظما وَحمل مَعَه من قومه وَعبيدَة ثَلَاثمِائَة فَارس وثلاثمائة راجل فاحتفل الْمَنْصُور لقدومه احتفالا عَظِيما وبرز الْخَاصَّة والعامة للقائه وأنزله بقصر جَعْفَر الْحَاجِب وَتوسع لَهُ فِي الجرايات وَالْإِكْرَام ولقبه باسم الْوَزير وأفاض عَلَيْهِ أَمْوَالًا جسيمة وخلعا نفيسة وَعجل بسراحه إِلَى عمله بعد أَن جدد لَهُ عَهده على الْمغرب وعَلى جَمِيع مَا غلب عَلَيْهِ مِنْهُ فَعبر الْبَحْر واحتل بِمَدِينَة طنجة فَلَمَّا اسْتَقر بهَا وضع يَده على رَأسه وَقَالَ الْآن علمت أَنَّك لي فاستقل مَا وَصله بِهِ الْمَنْصُور واستقبح اسْم الوزارة الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ وَلَقَد خاطبه بِهِ بعض رِجَاله فَنَهَاهُ عَن ذَلِك وَقَالَ وَزِير من يالكع لَا وَالله إِلَّا أَمِير ابْن أَمِير وَاعجَبا لِابْنِ أبي عَامر ومخرقته لِأَن تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ وَالله لَو كَانَ بالأندلس رجل مَا تَركه على حَاله وَإِن لَهُ منا ليوما وَبَلغت مقَالَته الْمَنْصُور فصر عَلَيْهَا أُذُنه وَزَاد فِي اصطناعه إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 اسْتِيلَاء يدو بن يعلى اليفرني على فاس ومقتله تقدم لنا أَن بني يفرن من أَعْيَان قبائل زناتة وَكَانَ يدو بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني قد قَامَ بِأَمْر بني يفرن بعد مقتل أَبِيه يعلى بن مُحَمَّد حِين قَتله جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد الشِّيعَة سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة فَملك يدو كثيرا من بوادي الْمغرب واتصلت رياسته إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَتقدم لنا أَن مغراوة دفعُوا بني يفرن إِلَى سلا وأحوازها فاستولوا عَلَيْهَا وَكَانَ الْأَمِير يدو بن يعلى مضاهيا لزيري بن عَطِيَّة فِي الْحسب وَالْفضل وَالْمَال وَلما استدعى الْمَنْصُور بن أبي عَامر زيري بن عَطِيَّة للوفادة الْمُتَقَدّمَة أَرَادَ أَن يفعل بيدو بن يعلى مثل ذَلِك وَكَانَ قَصده أَن يمكر بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يطمئن إِلَيْهِ اطمئنان زيري بن عَطِيَّة فاساء يدو بن يعلى إِجَابَة الْمَنْصُور وَقَالَ مَتى عهد الْمَنْصُور حمر الْوَحْش تنقاد للبياطرة فأقصر عَنهُ الْمَنْصُور وَكَانَت بَين زيري ويدو بن يعلى منافسات ومنازعات على الرياسة بالمغرب فَكَانَ يدو بن يعلى إِذا غلب على زيري دخل مَدِينَة فاس وَاسْتولى عَلَيْهَا وَإِذا غلب عَلَيْهِ زيري أخرجه عَنْهَا وملكها وَكَانَت الْحَرْب بَينهمَا سجالا وسئمت الرّعية بفاس كَثْرَة تعاقبهم عَلَيْهَا ثمَّ لما سَافر زيري بن عَطِيَّة إِلَى الأندلس انتهز يدو بن يعلى الفرصة فِي غيبته فزحف إِلَى فاس وَدخل مِنْهَا عدوة الأندلس بِالسَّيْفِ فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَقتل بهَا خلقا كثيرا من مغراوة فَلَمَّا نزل زيري بن عَطِيَّة بطنجة اتَّصل بِهِ خبر يدو بن يعلى واستيلاؤه على فاس فأسرع السّير نَحوه حَتَّى نزل قَرِيبا من فاس فَكَانَت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة هلك فِيهَا خلق كثير من القبيلتين مغراوة وَبني يفرن إِلَى أَن هَزَمه زيري واقتحم عَلَيْهِ فاسا عنْوَة فَقتله وَمثل بِهِ وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بقرطبة وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلاثمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بِنَاء مَدِينَة وَجدّة لما قتل زيري بن عَطِيَّة يدو بن يعلى صفا لَهُ أَمر الْمغرب وَلم يبْق لَهُ بِهِ مُنَازع وهابته الْمُلُوك وَبَقِي الْأَمر مُسْتَقِيمًا بَينه وَبَين الْمَنْصُور فِي الظَّاهِر فَسَمت همته إِلَى بِنَاء مَدِينَة تكون خَاصَّة بِهِ ويقومه وأرباب دولته فَبنى مَدِينَة وَجدّة وشيد أسوارها وَأحكم قصبتها وَركب أَبْوَابهَا وسكنها بأَهْله وحشمه وَنقل إِلَيْهَا أَمْوَاله وذخائره وَجعلهَا قَاعِدَة ملكه لكَونهَا وَاسِطَة الْبِلَاد وثغرا للعمالتين الْمغرب الْأَقْصَى والأوسط وَكَانَ اختطاطه إِيَّاهَا فِي شهر رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة وَلم يزل زيري بن عَطِيَّة فِي علو سُلْطَان وارتفاع شَأْن إِلَى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ثمَّ حدث مَا نذكرهُ حُدُوث النفرة بَين زيري بن عَطِيَّة والمنصور بن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك ثمَّ فسد مَا بَين الْمَنْصُور وَبَين زيري بن عَطِيَّة واتصل بالمنصور أَن زيري ينتقصه ويعرض فِي شَأْنه وحجره على الْمُؤَيد وَيتَكَلَّم فِيهِ بالقبيح فَقطع الْمَنْصُور عَنهُ رزق الوزارة الَّذِي كَانَ يجريه عَلَيْهِ فِي كل سنة ومحى اسْمه من ديوانه ونادى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فعزم زيري على خلَافَة فَقطع ذكره من الْخطْبَة وَاقْتصر على ذكر هِشَام الْمُؤَيد وطرد عماله من الْمغرب وألجأهم إِلَى سبتة فأنفذ إِلَيْهِ الْمَنْصُور بن أبي عَامر مَوْلَاهُ وَاضحا الْفَتى فِي جَيش عَظِيم وأمده بِالْحُمَاةِ من سَائِر الطَّبَقَات وأزاح عللهم وأفاض عَلَيْهِم الْأَمْوَال للنفقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وأنواع السِّلَاح والكسى فَعبر وَاضح الْبَحْر وَاسْتقر بِمَدِينَة طنجة فانضم إِلَيْهِ بعض قبائل البربر من غمارة وصنهاجة وَغَيرهم وَبَايَعُوهُ على قتال زيري بن عَطِيَّة وَمن مَعَه من قبائل زناتة فَأَفَاضَ عَلَيْهِم الْخلْع وَالْأَمْوَال ثمَّ أمد الْمَنْصُور بِمن كَانَ مَعَه بالأندلس من مُلُوك البربر النازعين عَن زيري بن عَطِيَّة إِلَيْهِ فتكاملت جيوشه وَخرج بهم وَاضح من طنجة يؤم فاسا فاتصل خَبره بزيري بن عَطِيَّة فَخرج إِلَيْهِ من فاس فِي عَسَاكِر زناتة فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي زادات فَكَانَت بَينهمَا حروب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا مُدَّة من ثَلَاثَة أشهر إِلَى أَن انهزم وَاضح وَقتل أَكثر جَيْشه وفر وَاضح إِلَى طنجة فَدَخلَهَا مُنْهَزِمًا وَكتب إِلَى الْمَنْصُور يطْلب مِنْهُ المدد وَقَالَ ابْن خلدون إِن وَاضحا حِين برز من طنجة وزحف إِلَيْهِ زيري بن عَطِيَّة تواقفا ثَلَاثَة أشهر ثمَّ تنَاول وَاضح آصيلا ونكور فضبطهما واتصلت الوقائع بَينه وَبَين زيري ثمَّ بَيت وَاضح معسكر زيري بنواحي آصيلا وهم غَارونَ فأوقع بهم وَخرج الْمَنْصُور من قرطبة فوصل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز ابْنه عبد الْملك المظفر بِجَمِيعِ عَسْكَر الأندلس وقوادها حَتَّى بَقِي الْمَنْصُور وَحده وَأمره بِحَرب زيري بن عَطِيَّة فَركب المظفر الْبَحْر من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة واتصل خبر المظفر بزيري بن عَطِيَّة فخافه وَأخذ فِي الاستعداد لملاقاته وَكتب إِلَى جَمِيع قبائل زناتة يستصرخهم فَأَتَتْهُ الْوُفُود من بِلَاد ملوية وتلمسان والزاب وَسَائِر بوادي وناتة فَنَهَضَ بهم إِلَى قتال عبد الْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر وبرز عبد الْملك من طنجة وَمَعَهُ وَاضح الْفَتى فِي جيوش لَا تحصى والتقى الْجَمْعَانِ بوادي منى من أحواز طنجة فَكَانَت بَينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 حَرْب أعظم من الأولى ودام الْقِتَال بَينهم يَوْمًا إِلَى اللَّيْل وَكَانَ فِي عَسْكَر زيري بن عَطِيَّة غُلَام أسود اسْمه سَلام كَانَ زيري قد قتل أَخَاهُ فَوجدَ الفرصة إِلَيْهِ فانتهزها وضربه بسكين فِي نَحره ثَلَاث ضربات فأشواه أَي لم يصب مَقْتَله وَمر الْأسود يشْتَد نَحْو المظفر وبشره بقتل زيري فاستكذبه ثمَّ سقط إِلَيْهِ الْخَبَر الصَّحِيح بِأَن زيري قد أثبت فَشد عَلَيْهِم عبد الْملك وهم فِي حَال دهشة من جرح أَمِيرهمْ فَهَزَمَهُمْ واستمرت الْهَزِيمَة على زيري وَأَصْحَابه واثخن فيهم عبد الْملك بِالْقَتْلِ وَملك محلّة زيري بأسرها واحتوى على جَمِيع مَا فِيهَا من المَال وَالسِّلَاح والكراع وَالْإِبِل وَالْعدة فاستولى من ذَلِك على مَا لَا يَأْخُذهُ الْحصْر وَمضى زيري على وَجهه حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع يعرف بمضيق الْحَيَّة بِالْقربِ من مكناسة فَعَسْكَرَ بِهِ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الفل من قومه وعزم على الرُّجُوع لمناجزة المظفر فاتصل الْخَبَر بالمظفر فانتخب من عسكره خَمْسَة آلَاف فَارس وَقدم عَلَيْهِم وَاضحا الْفَتى ونهضوا إِلَى زيري بن عَطِيَّة فَضربُوا فِي محلته لَيْلًا بمضيق الْحَيَّة وهم آمنون فأوقعوا بهم وقْعَة عَظِيمَة أسر فِيهَا من اشراف مغراوة نَحْو ألفي رجل وَذَلِكَ فِي منتصف رَمَضَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فامتن عَلَيْهِم عبد الْملك المظفر وأركبهم مَعَه فَكَانُوا من جنده وفر زيري بن عَطِيَّة فِي شرذمة من أَصْحَابه وَبني عَمه فَانْتهى إِلَى فاس فأغلق أَهلهَا الْأَبْوَاب دونه فَسَأَلَهُمْ أَن يخرجُوا إِلَيْهِ عِيَاله وَأَوْلَاده فأخرجوهم إِلَيْهِ وَأَعْطوهُ مَعَ ذَلِك الزَّاد وَالدَّوَاب فَأَخذهُم وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء فَنزل بِلَاد صنهاجة وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قدوم عبد الْملك المظفر بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر مَدِينَة فاس وَمَا كَانَ من شَأْنه بهَا لما انهزم زيري بن عَطِيَّة من مضيق الْحَيَّة إِلَى الصَّحرَاء نَهَضَ عبد الْملك المظفر من مُعَسْكَره يؤم فاسا فَدَخلَهَا يَوْم السبت منسلخ شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فَاسْتَقْبلهُ أَهلهَا مستبشرين بِهِ فَأحْسن لقاءهم وَكتب إِلَى أَبِيه الْمَنْصُور بِالْفَتْح فَقَرَأَ الْكتاب على مِنْبَر جَامع الزهراء من قرطبة وعَلى مَنَابِر مَسَاجِد الأندلس كلهَا شرقا وغربا وَأعْتق الْمَنْصُور ألفا وَخَمْسمِائة مَمْلُوك وثلاثمائة مَمْلُوكَة شكرا لله تَعَالَى وَفرق أَمْوَالًا كَثِيرَة على الْفُقَرَاء وَذَوي الْحَاجَات وَكتب إِلَى وَلَده المظفر بعهده على الْمغرب وأوصاه بِحسن السِّيرَة وَالْعدْل فَقَرَأَ كِتَابه على مِنْبَر مَسْجِد الْقرَوِيين وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة آخر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَانْصَرف وَاضح إِلَى الأندلس واستوطن عبد الْملك مَدِينَة فاس وَعدل فِيهَا عدلا لم يعهدوه من أحد قبله وَأقَام بهَا سِتَّة أشهر ثمَّ صرفه وَالِده عَنْهَا إِلَى الأندلس وَبعث إِلَيْهَا عوضا عَنهُ عِيسَى بن سعيد صَاحب الشرطة فَأَقَامَ واليا عَلَيْهَا إِلَى صفرَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة فَعَزله الْمَنْصُور عَنْهَا وَعَما كَانَ ولاه من بِلَاد العدوة وَولى عَلَيْهَا وَاضحا الْفَتى وَانْصَرف عِيسَى بن سعيد إِلَى الأندلس من السّنة الْمَذْكُورَة بَقِيَّة أَخْبَار زيري بن عَطِيَّة لما نزل زيري بن عَطِيَّة بِبِلَاد صنهاجة وجدهم قد اخْتلفُوا على ملكهم باديس بن مَنْصُور بن بلكين بن زيري بن مُنَاد صَاحب إفريقية فَأرْسل زيري بن عَطِيَّة فِي قبائل زناتة حاشرين فَأتى مِنْهُم خلق كثير من مغراوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَغَيرهم فاغتنم زيري تِلْكَ الفرصة من صنهاجة فزحف إِلَيْهِم وأوغل فِي بِلَادهمْ وَهزمَ جيوشهم وَدخل مَدِينَة تاهرت وَجُمْلَة من بِلَاد الزاب وَملك مَعَ ذَلِك تلمسان وشلف والمسيلة وَأقَام بهَا الدعْوَة للمؤيد وحاصر مَدِينَة آشير قَاعِدَة بِلَاد صنهاجة وَكتب إِلَى الْمَنْصُور بن أبي عَامر بذلك يسترضيه وَيشْتَرط على نَفسه الرَّهْن والاستقامة إِن أُعِيد إِلَى ولَايَته وبينما هُوَ محاصر لآشير يباكرها ويراوحها بِالْقِتَالِ انْقَضتْ عَلَيْهِ جراحاته الَّتِي كَانَ جرحه الْأسود فَمَاتَ مِنْهَا سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلاثمائة الْخَبَر عَن دولة الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة المغراوي لما هلك زيري بن عَطِيَّة اجْتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابْنه الْمعز بن زيري فَبَايعُوهُ وَضبط أَمرهم وأقصر عَن محاربة صنهاجة وَصَالح الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَقَامَ بدعوته وَرجع إِلَى طَاعَته وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي الْمَنْصُور وَولي ابْنه بعده عبد الْملك المظفر فيايعه الْمعز أَيْضا ودعا لَهُ على منابره فعزل المظفر وَاضحا الْفَتى عَن فاس وَسَائِر بِلَاد الْمغرب وَصَرفه إِلَى الأندلس وَكتب إِلَى الْمعز بن زيري بعهده على فاس وَسَائِر أَعمال الْمغرب حواضره وبواديه وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَشرط لَهُ الْمعز أَن يُؤَدِّي إِلَيْهِ فِي كل سنة مَالا مَعْلُوما وخيلا ودرقا يُوصل ذَلِك إِلَى قرطبة وَأَعْطَاهُ مَعَ ذَلِك وَلَده معنصر بن الْمعز رهنا وَكَانَت نُسْخَة كتاب الْعَهْد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله من الْحَاجِب المظفر سيف الدولة دولة الإِمَام الْخَلِيفَة هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ عبد الْملك بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر إِلَى كَافَّة أهل مدينتي فاس وكافة أهل الْمغرب سلمهم الله أما بعد أصلح الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 شَأْنكُمْ وَسلم أَنفسكُم وأديانكم فَالْحَمْد لله علام الغيوب وغفار الذُّنُوب ومقلب الْقُلُوب ذِي الْبَطْش الشَّديد المبدئ المعيد الفعال لما يُرِيد لَا راد لأَمره وَلَا معقب لحكمه بل لَهُ الْملك وَالْأَمر وَبِيَدِهِ الْخَيْر وَالشَّر إِيَّاه نعْبد وإياه نستعين وَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وعَلى آله الطيبين وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالسَّلَام عَلَيْكُم أَجْمَعِينَ وَإِن الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة أكْرمه الله تَابع رسله لدينا وَكتبه متنصلا من هَنَات دَفعته إِلَيْهَا ضرورات ومستغفرا من سيئات حطتها من تَوْبَته حَسَنَات وَالتَّوْبَة ممحاة الذَّنب وَالِاسْتِغْفَار منقذ من العتب وَإِذا أذن الله بِشَيْء يسره وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَلكم فِيهِ خَيره وَقد وعد من نَفسه استشعار الطَّاعَة وَلُزُوم الجادة واعتقاد الاسْتقَامَة وَحسن المعونة وخفة الْمُؤْنَة فوليناه مَا قبلكُمْ وعهدنا إِلَيْهِ أَن يعْمل بِالْعَدْلِ فِيكُم وَأَن يرفع أَعمال الْجور عَنْكُم وَأَن يعمر سبلكم وَأَن يقبل من محسنكم ويتجاوز عَن مسيئكم إِلَّا فِي حُدُود الله تبَارك وَتَعَالَى وأشهدنا الله عَلَيْهِ بذلك وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَقد وجهنا الْوَزير أَبَا عَليّ بن حذيم أكْرمه الله وَهُوَ من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليَأْخُذ بِشَأْنِهِ ويؤكد الْعَهْد فِيهِ عَلَيْهِ بذلك وأمرناه بإشراككم فِيهِ وَنحن بأمركم معتنون ولأحوالكم مطلعون وَأَن يقْضِي على الْأَعْلَى للأدنى وَلَا يرضى فِيكُم بِشَيْء من الْأَدْنَى فثقوا بذلك واسكنوا إِلَيْهِ وليمض القَاضِي أَبُو عبد الله أَحْكَامه مشدودا ظَهره بِنَا معقودا سُلْطَانه بسلطاننا وَلَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم فَذَلِك ظننا بِهِ إِذْ وليناه وأملنا فِيهِ إِذا قلدناه وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ولتبلغوا منا سَلاما طيبا جزيلا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وَلما وصل إِلَى الْمعز بن زيري الْعَهْد بولايته على الْمغرب مَا عدا كورة سجلماسة فَإِنَّهَا كَانَت لبني خزرون بن فلفل ضم نشره وثاب إِلَيْهِ نشاطه وَبث عماله فِي جَمِيع كور الْمغرب وجبا خراجها لم تزل ولَايَته متسقة وَطَاعَة رعاياه منتظمة إل إِلَى افترق أَمر الْجَمَاعَة بالأندلس واختل رسم الْخلَافَة بهَا فاضطرب أَمر الْمغرب على الْمعز وَأقَام على ذَلِك إِلَى أَن هلك سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة كَذَا عِنْد ابْن خلدون وَفِي القرطاس لم تزل بِلَاد الْمغرب أَيَّام الْمعز فِي غَايَة الْهُدْنَة والعافية والرخاء والأمن إِلَى أَن توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم وَأما ابْنه معنصر فَإِنَّهُ أَقَامَ بقرطبة إِلَى أَن قَامَت الْفِتْنَة بالأندلس وانقرضت الدولة العامرية فَانْصَرف معنصر إِلَى أَبِيه وعشيرته بفاس وَحكي فِي القرطاس أَنه لما كَانَت سنة تسع وَتِسْعين وثلاثمائة وَتُوفِّي عبد الْملك المظفر وَولي بعده أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر بعث إِلَيْهِ الْمعز بن زيري بهدية نفيسة فِيهَا خَمْسُونَ فرسا وَكَانَ وَلَده معنصر مرتهنا عِنْده بقرطبة كَمَا قُلْنَا فأحضر الْحَاجِب عبد الرَّحْمَن معنصر بن الْمعز حِين وصلت إِلَيْهِ هَدِيَّة أَبِيه فَخلع عَلَيْهِ وعَلى الرُّسُل الَّذين قدمُوا عَلَيْهِ بالهدية وَبعث بِهِ إِلَى أَبِيه مكرما فَجمع الْمعز كل فرس كَانَ عِنْده وَبعث بِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ مبلغ عدد الْخَيل تِسْعمائَة فرس وَلم تصل من الْمغرب إِلَى الأندلس هَدِيَّة أعظم مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الْخَبَر عَن دولة حمامة بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي لما توفّي الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة ولي بعده ابْن عَمه حمامة بن الْمعز بن عَطِيَّة وَلَيْسَ بِابْن لَهُ كَمَا زعم بعض المؤرخين وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عَمه وَقع الِاتِّفَاق فِي بعض الْأَسْمَاء فَنَشَأَ الْغَلَط وَاسْتولى حمامة على عمل فاس وَالْمغْرب واستفحل ملكه وقصده الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء وأتته الْوُفُود ومدحه الشُّعَرَاء وَكَانَت الدولة بالأندلس قد تداعت إِلَى الاختلال فَكَانَ ذَلِك من أَسبَاب استفحال الدولة المغراوية بفاس وَالْمغْرب واستقلال بِالْأَمر فَكَانَ لحمامة من الظُّهُور مَا ذَكرْنَاهُ إِلَى أَن أَصَابَته عين الْكَمَال بمنازعة أبي الْكَمَال على مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة أبي الْكَمَال تَمِيم بن زيري اليفرني واستيلائه على فاس وأعمالها قد تقدم لنا أَن بني يفرن كَانُوا قد تحيزوا إِلَى النواحي سلا فاستولوا عليهاوعلى مَدِينَة شالة ثمَّ ملكوا تادلا وَمَا والاها من الْبِلَاد ثمَّ لما كَانَت سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ الْأَمِير على بني يفرن أَبَا الْكَمَال تَمِيم بن زيري بن يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح اليفرني فزحف من سلا إِلَى فاس فِي قبائل بني يفرن وَمن انضاف إِلَيْهِم من زتاته وبرز إِلَيْهِ حمامة فِي جموع مغراوة وَمن إِلَيْهِم فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة أجلت عَن هزيمَة حمامة وَمَات من مغراوة أُمَم وَاسْتولى تَمِيم على فاس وأعمال الْمغرب ودخلها فِي جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة واستباح يهود فاس فَقتل مِنْهُم أَكثر من سِتَّة آلَاف يَهُودِيّ وسبى حرمهم وَاصْطلمَ نعمتهم بالمرة وَلحق حمامة بوجدة فاستمد من كَانَ هُنَالك من قبائل مغراوة وزناتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وأنجاد قبائل ملوية وانْتهى إِلَى تنس فاستنفر من هُنَالك من زناتة وَبعث الحاشدين فِي قياطينهم إِلَى جَمِيع بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَكَاتب من بعد عَنهُ من رجالاتهم فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك جم غفير ثمَّ زحف إِلَى فاس سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فأفرج عَنْهَا أَبُو الْكَمَال وَلحق بِبَلَدِهِ ومقر ملكه من شالة وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَت مُدَّة استيلائه على فاس وأعمالها خمس سِنِين وَقيل سبع سِنِين وَكَانَ أَبُو الْكَمَال اليفرني يغلب عَلَيْهِ الْجفَاء وَالْجهل وَمَعَ ذَلِك فقد كَانَ صلبا فِي دينه مُسْتَقِيمًا فِيهِ مُولَعا بجهاد برغواطة كَانَ يغزوهم مرَّتَيْنِ فِي السّنة إِلَى أَن توفّي وَلما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقتل ابْنه فِي حَرْب لمتونة جاؤوا بِهِ ليدفنوه إِلَى جَانب قبر أَبِيه أبي الْكَمَال فَسَمِعُوا من قَبره تَكْبِيرا وتشهدا كثيرا فنبشوا قَبره فألفوه لم يتَغَيَّر مِنْهُ شَيْء ثمَّ رَآهُ بعض قرَابَته فِي النّوم فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا التَّكْبِير وَالتَّشَهُّد الَّذِي سمعناه من قبرك قَالَ تِلْكَ الْمَلَائِكَة وَكلهمْ الله بقبري يكبرُونَ ويهللون ويسبحون وَيكون ثَوَاب ذَلِك لي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وَبِمَ نلْت ذَلِك قَالَ بجهادي برغواطة حُكيَ هَذَا الْخَبَر فِي القرطاس وَالله على كل شَيْء قدير وَأقَام حمامة فِي سُلْطَان فاس وَالْمغْرب إِلَى أَن توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقيل غير ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الْخَبَر عَن دولة دوناس بن حمامة ابْن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي لما توفّي حمامة بن الْمعز ولي بعده ابْنه دوناس بن حمامة ويكنى ابا العطاف وَاسْتولى على فاس وَسَائِر مَا كَانَ لِأَبِيهِ من مدن الْمغرب وأعماله وَخرج عَلَيْهِ لأوّل دولته ابْن عَمه حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة فجرت لَهُ مَعَه حروب وخطوب وَكَثُرت جموع حَمَّاد وَغلب على ضواحي فاس وحاصرها حصارا شَدِيدا وَقطع عَن عدوة الْقرَوِيين جرية الْوَادي واحتفر السياج الْمَعْرُوف بسياج حَمَّاد وَيُقَال إِن دوناس خَنْدَق بِهِ على نَفسه وَاسْتمرّ حَمَّاد محاصرا لفاس إِلَى أَن هلك سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أَيَّامه وَصَارَ النَّاس فِي هدنة ودعة ورخاء كثير وَفِي أَيَّامه عظمت فاس وعمرت وَكَثُرت أرباضها وقصدها النَّاس والتجار من جَمِيع النواحي فأدار دوناس السُّور على أرباضها وَبنى بهَا الْمَسَاجِد والحمامات والفنادق واستبحر عمرانها فَصَارَت حَاضِرَة الْمغرب من يَوْمئِذٍ وَلم يشْتَغل دوناس من يَوْم ولي إِلَى ان توفّي إِلَّا بِالْبِنَاءِ والتشييد وَكَانَت وَفَاته فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة الْخَبَر عَن دولة فتوح بن دوناس المغراوي لما توفّي دوناس بن حمامة ولي بعده ابْنه الْفتُوح بن دوناس وَنزل بعدوة الأندلس ونازعه اللأمر أَخُوهُ الْأَصْغَر واسْمه عجيسة وَكَانَ شهما محربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فاستولى على عدوة الْقرَوِيين واستبد على أَخِيه وافترق أَمر فاس وأعمالها بافتراقهما وَقَامَت الْحَرْب بَينهمَا على سَاق وَبنى الْفتُوح بعدوة الأندلس قَصَبَة منيعة بالموضع الْمَعْرُوف بالكدان وَبنى عجيسة أَيْضا قَصَبَة مثلهَا بِرَأْس عقبَة السعتر من عدوة الْقرَوِيين وَكَثُرت الْعَدَاوَة بَينهمَا واستحكمت فَكَانَا لَا يفتران عَن الْقِتَال لَيْلًا وَنَهَارًا وَعظم الْخَوْف بالمغرب وَكثر الْهَرج وغلت الأسعار واشتدت المجاعة وَظَهَرت لمتونة على أَطْرَاف الْبِلَاد فملكوها وَالْأَمر لَا زَالَ وَالْحَال مَا حَال وَلَيْسَ لأهل فاس شغل إِلَّا الْقِتَال وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَلِك ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن بَيت الْفتُوح عجيسة فاقتحم عَلَيْهِ عدوة الْقرَوِيين لَيْلًا فَقتله وَاسْتولى على العدوتين مَعًا والفتوح بن دوناس هَذَا هُوَ الَّذِي بنى بَاب الْفتُوح من مَدِينَة فاس بسورها القبلي وَبِه عرف إِلَى الْآن وَأَخُوهُ عجيسة هُوَ الَّذِي بنى بَاب عجيسة بِرَأْس عقبَة السعتر من عدوة الْقرَوِيين من نَاحيَة الْجوف وَبِه عرف أَيْضا إِلَى ألآن فَلَمَّا ظفر الْفتُوح بعجيسة وَقَتله أَمر بتغيير اسْم الْبَاب الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فأسقط النَّاس الْعين من عجيسة وعوضوا عَنْهَا الْألف وَاللَّام فَقَالُوا بَاب الجيسة قَالَه فِي القرطاس وَقَالَ ابْن خلدون خففوه لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَلم يزل الْفتُوح مستوليا على فاس إِلَى أَن دهم الْمغرب مَا دهمه من أَمر المرابطين من لمتونة وخشي الْفتُوح مغبة ذَلِك فأفرج عَن فاس وتخلى عَنْهَا وزحف صَاحب القلعة بلكين بن مُحَمَّد بن حَمَّاد الصنهاجي إِلَى الْمغرب سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَدخل فاسا وَاحْتمل من أكابرها وأشرافها عددا رهنا على الطَّاعَة وقفل إِلَى قلعته الْخَبَر عَن دولة معنصر بن حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي لما تخلى الْفتُوح بن دوناس عَن ملك فاس وأعمالها قَامَ بِالْأَمر بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قريبَة معنصر بن حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة فَبَايَعته قبائل مغراوة الَّذين بفاس وأحوازها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ معنصر ذَا حزم ورأي وشجاعة وإقدام وشغل بِحَرب لمتونة وَكَانَت لَهُ عَلَيْهِم الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة ثمَّ غلب يُوسُف بن ناشفين على فاس وَخلف عَلَيْهَا عَامله وارتحل إِلَى عمَارَة وَفتح الْكثير من بلادها حَتَّى أشرف على طنجة ثمَّ رَجَعَ إِلَى حِصَار قلعة فازاز فخالفه معنصر إِلَى فاس وملكها وَقتل الْعَامِل وَمن مَعَه من لمتونة وَمثل بهم بالحرق والصلب واتصل الْخَبَر بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ محاصر لقلعة فازاز فاستدعى مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب مكناسة ليستجيش بِهِ على فاس فاستعرضه معنصر فِي طَرِيقه قبل أَن تتصل أَيْدِيهِمَا وناجزه الْحَرْب ففض جموعه وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى وليه الْحَاجِب سكُوت البرغواطي صَاحب سبتة واستصرخ أهل مكناسة بِيُوسُف بن تاشفين فسرح عَسَاكِر لمتونة إِلَى حِصَار فاس فَأخذُوا بمخنقها وَقَطعُوا الْمرَافِق عَنْهَا وألحوا بِالْقِتَالِ عَلَيْهَا حَتَّى اشْتَدَّ بِأَهْلِهَا الْحصار ومسهم الْجد وبرز معنصر لإحدى الراحتين فَكَانَت الدائرة عَلَيْهِ وفقد فِي الملحمة ذَلِك الْيَوْم سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فَلم يدر مَا فعل الله بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَبَر عَن دولة تَمِيم بن معنصر المغراوي لما فقد معنصر بن حَمَّاد فِي الملحمة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين اللمتونيين بَايع أهل فاس من بعده لِابْنِهِ تَمِيم بن معنصر فَكَانَت أَيَّامه أَيَّام حِصَار وفتنة وَجهد وَغَلَاء وشغل يُوسُف بن تاشفين عَنْهُم بِفَتْح بِلَاد غمارة حَتَّى إِذا كَانَت سنة ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَفرغ من فتح غمارة صعد إِلَى فاس فحاصرها أَيَّامًا ثمَّ اقتحمها عنْوَة وَقتل بهَا زهاء ثَلَاثَة آلَاف من مغراوة وَبني يفرن ومكناسة وَغَيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَهلك تَمِيم بن معنصر فِي جُمْلَتهمْ حَتَّى عجز النَّاس عَن مواراتهم فُرَادَى فاتخذوا لَهُم الأخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا من الْقَتْل مِنْهُم إِلَى تلمسان قَالَه ابْن خلدون وَقَالَ فِي القرطاس دخل يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة فاس الدخلة الثَّانِيَة الْكُبْرَى فَقتل بهَا من مغراوة وَبني يفرن فِي أزقتها وجوامعها مَا يزِيد على الْعشْرين ألف رجل وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وانقرضت دولة مغراوة من الْمغرب والبقاء لله وَحده وَكَانَت مُدَّة دولتهم نَحْو مائَة سنة وَفِي دولتهم عظم شَأْن فاس وبنيت الأسوار على أرباضها وحصنت أَبْوَابهَا وَزيد فِي مسجديها الْقرَوِيين والأندلس زِيَادَة كَثِيرَة واتسع النَّاس فِي أَيَّام مغراوة فِي الْبناء فعظمت فاس واستبحر عمرانها وَكَثُرت خيراتها واتصل الْأَمْن والرخاء جلّ أيامهم إِلَى أَن ضعفت أَحْوَالهم وجاروا على رعيتهم بِأخذ أَمْوَالهم وَسَفك دِمَائِهِمْ والتعرض لحرمهم فَانْقَطَعت عَنْهُم الْموَاد وَكثر الْخَوْف فِي الْبِلَاد وغلت الأسعار وبلى الله عباده بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات وَذَلِكَ فِي دولة الْفتُوح بن دوناس وَمن بعده فَكَانَ رُؤَسَاء مغراوة وَبني يفرن يلجون على النَّاس دُورهمْ فَيَأْخُذُونَ مَا يَجدونَ بهَا من الطَّعَام ويتعرضون لنسائهم وصبيانهم وَيَأْخُذُونَ أَمْوَال التُّجَّار فَلَا يقدر أحد أَن يصدهم عَن ذَلِك وَكَانَ سفهاؤهم وعبيدهم يصعدون على قنة جبل الْعرض فَيَنْظُرُونَ إِلَى الدّور الَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَإِذا رَأَوْا دَارا بهَا دُخان قصدوها وَأخذُوا مَا وجدوا بهَا من طَعَام أَو غَيره وَمن تعرض لَهُم فِي ذَلِك قَتَلُوهُ فَلَمَّا ارتكبوا هَذِه العظائم سلبهم الله ملكه وَغير مَا بهم من نعْمَة {الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} فَسلط عَلَيْهِم المرابطين فمحوا آثَارهم من الْمغرب ونفوهم عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ وطهروه من جَوْرهمْ وَفِي أيامهم اتخذ أهل فاس المطامير فِي بُيُوتهم للطحن والطبخ لِئَلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يسمع دوِي الرَّحَى فتقصدهم سُفَهَاء مغراوة وفيهَا أَيْضا اتَّخذُوا غرفا لَا مراقي لَهَا حَتَّى إِذا كَانَ عشى النَّهَار صعد الرجل بأَهْله وَعِيَاله إِلَيْهَا بسلم ثمَّ يرفع السّلم مَعَه لِئَلَّا يدْخل عَلَيْهِ فَجْأَة وَكَانَ من هَذَا شَيْء كثير وَكَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة أَنه فِي لَيْلَة الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَجَب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلاثمائة ظهر نجم فِي السَّمَاء كَانَ فِي رَأْي الْعين مثل الصومعة الْعَظِيمَة طلع من جِهَة الْمشرق وتهافت جَريا فِيمَا بَين الْمغرب والجوف وتطاير مِنْهُ شرر عَظِيم فزع النَّاس مِنْهُ واستغاثوا رَبهم فِي صرف مَكْرُوهَة عَنْهُم وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بعْدهَا كَانَ الْكُسُوف الْكُلِّي الَّذِي أذهب جَمِيع الفرص وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة كَانَت الرّيح الهائلة الَّتِي نظر النَّاس فِيهَا إِلَى الْبَهَائِم تمر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض نَعُوذ بِاللَّه من سخطه وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وثلاثمائة طلع الْكَوْكَب الْوَقَّاد وَهُوَ نجم عَظِيم ضخم الجرم كثير الضياء وَفِي سنة سِتّ وَتِسْعين وثلاثمائة طلع نجم عَظِيم من ذَوَات الأذناب شَدِيد الارتعاد وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة انقرضت دولة بني أُميَّة بالأندلس وَقَامَت بهَا دولة بني حمود فَكَانَت مدَّتهَا نَحْو سبع سِنِين وانقرضت أَيْضا وافترق أَمر الْجَمَاعَة بالأندلس وَصَارَ الْملك بهَا طوائف إِلَى أَن نسخ ذَلِك يُوسُف بن تاشفين وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة اشْتَدَّ الْقَحْط بِبِلَاد الْمغرب كلهَا من تاهرت إِلَى سجلماسة وَكثر الفناء فِي النَّاس نسْأَل الله الْعَافِيَة وَفِي سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة بالأندلس اضْطَرَبَتْ لَهَا الأَرْض وانهدت الْجبَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَفِي سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة توفّي الْفَقِيه ابْن الْعَجُوز بفاس وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو عمرَان الفاسي قَالَ فِي التشوف أَبُو عمرَان مُوسَى بن عِيسَى بن أبي حَاج الفاسي أَصله من مَدِينَة فاس وَنزل بالقيروان فَأخذ عَن ابي الْحسن الْقَابِسِيّ ثمَّ رَحل إِلَى بَغْدَاد فَحَضَرَ مجْلِس القَاضِي أبي بكر بن الطّيب ثمَّ عَاد إِلَى القيروان وَبهَا مَاتَ لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شهر رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ مقدما فِي الْفضل وَالْأَمَانَة اه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة المرابطية الْخَبَر عَن الدولة الصنهاجية اللمتونية المرابطية وأوليتها قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على نسب البربر وشعوبها أَن صنهاجة إِحْدَى قبائل البرانس من البربر وَأَنَّهُمْ أعظم قبائلها بالمغرب لَا يكَاد قطر من أقطاره يَخْلُو من بطن من بطونهم فِي جبل أَو بسيط حَتَّى زعم كثير من النَّاس أَنهم ثلث البربر وَتقدم لنا أَن النسابين من الْعَرَب زَعَمُوا أَن صنهاجة وكتامة من حمير خَلفهم الْملك إفريقيش بالمغرب فاستحالت لغتهم إِلَى البربرية وَالتَّحْقِيق خلاف ذَلِك وَأَنَّهُمْ من كنعان بن حام كَسَائِر البربر وَتَحْت صنهاجة قبائل كَثِيرَة تَنْتَهِي إِلَى السّبْعين مِنْهُم لمتونة وكدالة ومسوفة ومسراته ومداسة وَبَنُو وَارِث وَبَنُو دحير وَبَنُو زِيَاد وَبَنُو مُوسَى وَبَنُو فشتال وَغير ذَلِك وَتَحْت هَذِه الْقَبَائِل بطُون وأفخاذ تفوت الْحصْر وَكَانَت لَهُم بالمغرب دولتان عظيمتان إِحْدَاهمَا دولة بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين بإفريقية ورثوا ملكهَا من يَد الشِّيعَة العبيديين وَالْأُخْرَى دولة الملثمين بالمغرب الْأَقْصَى والأوسط والأندلس كَمَا سَيَأْتِي وموطن هَؤُلَاءِ الملثمين أَرض الصَّحرَاء والرمال الجنوبية فِيمَا بَين بِلَاد البربر وبلاد السودَان ومساحة أَرضهم نَحْو سَبْعَة أشهر طولا فِي أَرْبَعَة عرضا وَفِيهِمْ قوما لَا يعْرفُونَ حرثا وَلَا زرعا وَلَا فَاكِهَة وَإِنَّمَا أَمْوَالهم الْأَنْعَام وعيشهم اللَّحْم وَاللَّبن يُقيم أحدهم عمره لَا يَأْكُل خبْزًا إِلَّا أَن يمر ببلادهم التُّجَّار فيتحفونهم بالخبز والدقيق وَإِنَّمَا قيل لَهُم الملثمون لأَنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 يتلثمون وَلَا يكشفون وُجُوههم أصلا قَالَ ابْن خلكان اللثام سنة لَهُم يتوارثونها خلفا عَن سلف وَسبب ذَلِك على مَا قيل إِن حمير كَانَت تتلثم لشدَّة الْحر وَالْبرد تَفْعَلهُ الْخَواص مِنْهُم فَكثر ذَلِك حَتَّى صَار تَفْعَلهُ عامتهم وَقيل كَانَ سَببه أَن قوما من أعدائهم كَانُوا يقصدون غفلتهم إِذا غَابُوا عَن بُيُوتهم فيطرقون الْحَيّ فَيَأْخُذُونَ المَال والحريم فَأَشَارَ عَلَيْهِم بعض مشايخهم أَن يبعثوا النِّسَاء فِي زِيّ الرِّجَال إِلَى نَاحيَة ويقعدوا هم فِي الْبيُوت مُتَلَثِّمِينَ فِي زِيّ النِّسَاء فَإِذا أَتَاهُم الْعَدو وظنوهم نسَاء خَرجُوا عَلَيْهِم فَفَعَلُوا ذَلِك وثاروا عَلَيْهِم بِالسُّيُوفِ فَقَتَلُوهُمْ فلزموا اللثام تبركا بِهِ بِمَا حصل لَهُم من الظفر بالعدو وَقَالَ عز الدّين ابْن الْأَثِير فِي كَامِله مَا مِثَاله وَقيل إِن سَبَب تلثمهم أَن طَائِفَة من لمتونة خَرجُوا مغيرين على عَدو لَهُم فخالفهم الْعَدو إِلَى بُيُوتهم وَلم يكن بهَا إِلَّا الْمَشَايِخ وَالصبيان وَالنِّسَاء فَلَمَّا تحقق الْمَشَايِخ أَنه الْعَدو أمروا النِّسَاء أَن يلبسن ثِيَاب الرجل ويتلثمن ويضيقنه حَتَّى لَا يعرفن ويلبسن السِّلَاح ففعلن ذَلِك وَتقدم الْمَشَايِخ وَالصبيان أمامهن واستدار النِّسَاء بِالْبُيُوتِ فَلَمَّا أشرف الْعَدو رأى جمعا عَظِيما فَظَنهُ رجَالًا وَقَالُوا هَؤُلَاءِ عِنْد حريمهم يُقَاتلُون عَنْهُن قتال الْمَوْت والرأي أَن نسوق النعم ونمضي فَإِن اتبعونا قاتلناهم خَارِجا عَن حريمهم فَبَيْنَمَا هم فِي جمع النعم من المراعي إِذْ أقبل رجال إِلَى الْحَيّ فَبَقيَ الْعَدو بَينهم وَبَين النِّسَاء فَقتلُوا من الْعَدو خلقا كثيرا وَكَانَ من قتل النِّسَاء أَكثر فَمن ذَلِك الْوَقْت جعلُوا اللثام سنة يلازمونه فَلَا يعرف الشَّيْخ من الشَّاب وَلَا يزيلونه لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو مُحَمَّد بن حَامِد الْكَاتِب (قوم لَهُم شرف الْعلَا من حمير ... وَإِذا انتموا صنهاجة فهم هم) (لما حووا أحراز كل فَضِيلَة ... غلب الْحيَاء عَلَيْهِم فتلثموا) وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ دين صنهاجة أهل اللثام الْمَجُوسِيَّة شَأْن برابرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الْمغرب وَلم يزَالُوا مستقرين بِتِلْكَ المفالات الصحراوية حَتَّى كَانَ إسْلَامهمْ بعد فتح الأندلس وَكَانَت الرياسة فيهم للمتونة واستوسق لَهُم ملك ضخم عِنْد دُخُول عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة إِلَى الأندلس توارثه مُلُوك مِنْهُم من بني ورتنطيو وطالت أعمارهم فِيهِ إِلَى الثَّمَانِينَ وَنَحْوهَا ودوخوا تِلْكَ الْبِلَاد الصحراوية وَجَاهدُوا من بهَا من أُمَم السودَان وحملوهم على الْإِسْلَام فدان بِهِ كثير مِنْهُم واتقاهم آخَرُونَ بالجزية فقبلوهم مِنْهُم ثمَّ افترق أَمرهم من بعد ذَلِك وَصَارَ ملكهم طوائف ورياستهم شيعًا واستمروا على ذَلِك مائَة وَعشْرين سنة إِلَى أَن قَامَ فيهم الْأَمِير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن تيفاوت الْمَعْرُوف بتاسرت اللمتوني فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وأحبوه وَبَايَعُوهُ وَكَانَ من أهل الْفضل وَالدّين وَالْجهَاد وَالْحج فَلبث فيهم ثَلَاث سِنِين ثمَّ اسْتشْهد فِي بعض غَزَوَاته الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي وَمَا كَانَ من أمره مَعَ الشَّيْخ أبي عمرَان الفاسي رحمهمَا الله لما توفّي أَبُو عبد الله بن تيفاوت قَامَ بِأَمْر صنهاجة من بعده يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي وكدالة ولمتونة أَخَوان يَجْتَمِعَانِ فِي أَب وَاحِد وكل مِنْهُمَا قبيل كَبِير يسكنون الصَّحرَاء الَّتِي تلِي بِلَاد السودَان ويليهم من جِهَة الْمغرب الْبَحْر الْمُحِيط فاستمر الْأَمِير يحيى بن إِبْرَاهِيم على رياسة صنهاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وحربهم لأعدائهم إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فاستخلف على صنهاجة ابْنه إِبْرَاهِيم بن يحيى وارتحل إِلَى الْمشرق برسم الْحَج فَلَمَّا قضى حجه وزريارته قفل إِلَى بِلَاده فَمر فِي عوده بالقيروان فلقي بهَا الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا عمرَان الفاسي وَحضر مجْلِس درسه وتأثر بوعظه فَرَآهُ الشَّيْخ أَبُو عمرَان محبا فِي الْخَيْر فأعجبه حَاله وَسَأَلَهُ عَن اسْمه وَنسبه وبلده فَأخْبرهُ بذلك كُله وأعلمه بسعة بِلَاده وَمَا فِيهَا من كَثْرَة الْخلق فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ وَمَا ينتحلون من الْمذَاهب قَالَ إِنَّهُم قوم غلب عَلَيْهِم الْجَهْل وَلَيْسَ لَهُم كَبِير علم فاختبره الشَّيْخ وَسَأَلَهُ عَن فروض دينه فَلم يجده يعرف مِنْهَا شَيْئا إِلَّا أَنه حَرِيص على التَّعَلُّم صَحِيح النِّيَّة والعقيدة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ وَمَا يمنعك من تعلم الْعلم فَقَالَ يَا سَيِّدي عدم وجود عَالم بأرضي وَلَيْسَ فِي بلادي من يقْرَأ الْقُرْآن فضلا عَن الْعلم وَمَعَ ذَلِك فَأهل أرضي يحبونَ الْخَيْر ويرغبون فِيهِ لَو وجدوا من يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويدرس لَهُم الْعلم ويفقههم فِي دينهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالسّنة وَشَرَائِع الْإِسْلَام فَلَو رغبت فِي الثَّوَاب من الله تعال لبعثت معي بعض طلبتك يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويفقههم فِي الدّين فينتفعون بِهِ وَيكون لَك وَله الْأجر الْعَظِيم عِنْد الله تَعَالَى إِذْ كنت سَبَب هدايتهم فندب الشَّيْخ أبوعمران تلامذته إِلَى ذَلِك فاستصعبوا دُخُول أَرض الصَّحرَاء وَأَشْفَقُوا مِنْهَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عمرَان ليحيى بن إِبْرَاهِيم إِنِّي أعرف بِبَلَد نَفِيس من أَرض المصامدة فَقِيها حاذقا ورعا أَخذ عني علما كثيرا واسْمه وأجاج بن زلو اللمطي من أهل السوس الْأَقْصَى أكتب إِلَيْهِ كتابا لينْظر فِي تلامذته من يَبْعَثهُ مَعَك فسر إِلَيْهِ لَعَلَّك تَجِد حَاجَتك عِنْده فَكتب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو عمرَان كتابا يَقُول فِيهِ أما بعد إِذا وصلك حَامِل كتابي هَذَا وَهُوَ يحيى بن إِبْرَاهِيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الكداني فَابْعَثْ مَعَه من طلبتك من تثق بِعِلْمِهِ وَدينه وورعه وَحسن سياسته ليقرئهم الْقُرْآن وَيُعلمهُم شرائع الْإِسْلَام ويفقههم فِي دين الله وَلَك وَله فِي ذَلِك الثَّوَاب وَالْأَجْر الْعَظِيم وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا وَأَبُو مُحَمَّد واجاج هَذَا من رجال التشوف قَالَ فِيهِ وَمِنْهُم واجاج بن زلو اللمطي من أهل السوس الْأَقْصَى رَحل إِلَى القيروان وَأخذ عَن أبي عمرَان الفاسي ثمَّ عَاد إِلَى السوس فَبنى دَارا سَمَّاهَا بدار المرابطين لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن وَكَانَ المصامدة يزورونه ويتبركون بدعائه وَإِذا أَصَابَهُم قحط استسقوا بِهِ اه فَسَار يحيى بن إِبْرَاهِيم بِكِتَاب الشَّيْخ أبي عمرَان حَتَّى وصل إِلَى الْفَقِيه واجاج بِمَدِينَة نَفِيس فَسلم عَلَيْهِ وَدفع إِلَيْهِ الْكتاب وَكَانَ ذَلِك فِي رَجَب سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَنظر الْفَقِيه واجاج فِي الْكتاب ثمَّ جمع تلامذته فقرأه عَلَيْهِم وندبهم لما أَمر بِهِ الشَّيْخ أَبُو عمرَان فَانْتدبَ لذَلِك رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ وَكَانَ من حذاق الطّلبَة وَمن أهل الْفضل وَالدّين والورع والسياسة مشاركا فِي الْعُلُوم فَخرج مَعَ يحيى بن إِبْرَاهِيم إِلَى الصَّحرَاء وَكَانَ من أمره مَا نَقصه عَلَيْك الْخَبَر عَن دُخُول عبد الله بن ياسين أَرض الصَّحرَاء وَابْتِدَاء أمره بهَا لما انْتهى يحيى بن إِبْرَاهِيم إِلَى بِلَاده وَمَعَهُ الْفَقِيه عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ تَلقاهُ قبائل كدالة ولمتونة وفرحوا بمقدمهما وتيمنوا بالفقيه وبالغوا فِي إكرامه وبره فشرع يعلمهُمْ الْقُرْآن وَيُقِيم لَهُم رسم الدّين ويسوسهم بآداب الشَّرْع وألفاهم يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ من أَربع حرائر فَقَالَ لَهُم لَيْسَ هَذَا من السّنة وَإِنَّمَا سنة الْإِسْلَام أَن يجمع الرجل بَين أَربع نسْوَة حرائر فَقَط وَله فِيمَا شَاءَ من ملك الْيَمين سَعَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَجعل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وكبحهم عَن كثير من مألوفاتهم الْفَاسِدَة وشدد فِي ذَلِك فأطرحوه واستصعبوا علمه وَتركُوا الْأَخْذ عَنهُ لما جشمهم من مشاق التَّكْلِيف فَلَمَّا رأى عبد الله بن ياسين إعراضهم عَنهُ واتباعهم لأهوائهم عزم على الرحيل عَنْهُم إِلَى بِلَاد السودَان الَّذين دخلُوا فِي دين الْإِسْلَام يَوْمئِذٍ فَلم يتْركهُ يحيى بن إِبْرَاهِيم لذَلِك وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا أتيت بك لأنتفع بعلمك فِي خَاصَّة نَفسِي وَمَا عَليّ فِيمَن ضل من قومِي وَكَانَ قومه لَيْسَ عِنْدهم من الْإِسْلَام إِلَّا الشَّهَادَة دون مَا عَداهَا من أَرْكَان الْإِسْلَام وشرائعه ثمَّ قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم لعبد الله بن ياسين هَل لَك فِي رَأْي أُشير بِهِ عَلَيْك إِن كنت تُرِيدُ الْآخِرَة قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ إِن هَهُنَا جَزِيرَة فِي الْبَحْر قَالَ ابْن خلدون هُوَ بَحر النّيل يُحِيط بهَا من جهاتها يكون ضحضاحا فِي المصيف يخاض بالأقدام وغمرا فِي الشتَاء يعبر الزوارق قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم وفيهَا الْحَلَال الْمَحْض من شجر الْبَريَّة وصيد الْبر وَالْبَحْر ندخل فِيهَا ونقتات من حلالها ونعبد الله تَعَالَى حَتَّى نموت فَقَالَ عبد الله بن ياسين إِن هَذَا الرَّأْي حسن فَهَلُمَّ بِنَا فلندخلها على اسْم الله فَدَخلَهَا وَدخل مَعَهُمَا سَبْعَة نفر من كدالة وابتنى عبد الله رابطة هُنَاكَ وَأقَام فِي أَصْحَابه يعْبدُونَ الله تَعَالَى مُدَّة فِي ثَلَاثَة أشهر فتسامع النَّاس بهم وَأَنَّهُمْ اعتزلوا بدينهم يطْلبُونَ الْجنَّة والنجاة من النَّار فَكثر الواردون عَلَيْهِم والتوابون لديهم فَأخذ عبد الله بن ياسين يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويستميلهم إِلَى الْخَيْر ويرغبهم فِي ثَوَاب الله ويحذرهم ألم عِقَابه حَتَّى تمكن حبه من قُلُوبهم فَلم تمر عَلَيْهِ إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى اجْتمع لَهُ من التلامذة نَحْو ألف رجل وَكَانَ من أَمرهم مَا تسمعه عَن قريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 شُرُوع عبد الله بن ياسين فِي الْجِهَاد وإعلانه بالدعوة وَمَا كَانَ من أمره فِي ذَلِك لما اجْتمع إِلَى عبد الله بن ياسين من أَشْرَاف صنهاجة نَحْو ألف رجل سماهم المرابطين للزومهم رابطته وَلما تفقهوا ورسخ فيهم الدّين قَامَ فيهم خَطِيبًا فوعظهم وشوقهم إِلَى الْجنَّة وخوفهم من النَّار وَأمرهمْ بتقوى الله وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَأخْبرهمْ بِمَا فِي ذَلِك من ثَوَاب الله تَعَالَى وعظيم جَزَائِهِ ثمَّ ندبهم إِلَى جِهَاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وَقَالَ لَهُم معشر المرابطين إِنَّكُم الْيَوْم جمع كثير نَحْو ألف رجل وَلنْ يغلب ألف من قلَّة وَأَنْتُم وُجُوه قبائلكم ورؤساء عشائركم وَقد أصلحكم الله تَعَالَى وهداكم إِلَى صراطه الْمُسْتَقيم فَوَجَبَ عَلَيْكُم أَن تشكروا نعْمَته عَلَيْكُم بِأَن تأمروا بِالْمَعْرُوفِ وتنهوا عَن الْمُنكر وتجاهدوا فِي الله حق جهاده فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك أمرنَا بِمَا شِئْت تجدنا سَامِعين لَك مُطِيعِينَ وَلَو أمرتنا بقتل آبَاءَنَا لفعلنَا فَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا على بركَة الله وأنذروا قومكم وخوفوهم عِقَاب الله وأبلغوهم حجَّته فَإِن تَابُوا فَخلوا سبيلهم وَإِن أَبَوا من ذَلِك وتمادوا فِي غيهم ولجوا فِي طغيانهم استعنا بِاللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم وجاهدناهم حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين فَسَار كل رجل مِنْهُم إِلَى قومه وعشيرته فوعظهم وَأَنْذرهُمْ ودعاهم إِلَى الإقلاع عَمَّا هم بسبيله فَلم يرفعوا بذلك رَأْسا فَخرج إِلَيْهِم عبد الله بن ياسين بِنَفسِهِ وَجمع أَشْيَاخ قبائلهم ووجوهها وَقَرَأَ عَلَيْهِم حجَّة الله ودعاهم إِلَى التَّوْبَة ورغبهم فِي الْجنَّة وخوفهم من النَّار وَأقَام ينذرهم سَبْعَة أَيَّام وهم فِي ذَلِك كُله لَا يلتفتون إِلَى قَوْله وَلَا يزدادون إِلَّا فَسَادًا فَلَمَّا يئس مِنْهُم قَالَ لأَصْحَابه قد أبلغنا فِي الْحجَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وأنذرنا وأعذرنا وَقد وَجب علينا الْآن جهادهم فاغزوهم على بركَة الله فَبَدَأَ أَولا بقبيلة كدالة فغزاهم فِي ثَلَاثَة آلَاف رجل من المرابطين فَانْهَزَمُوا بَين يَدَيْهِ وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وَأسلم الْبَاقُونَ إسلاما جَدِيدا وَحسنت حَالهم وأدوا مَا يلْزمهُم من كل مَا فرض الله عَلَيْهِم وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ سَار إِلَى قَبيلَة لمتونة فَنزل عَلَيْهَا وَقَاتلهمْ حَتَّى أظهره الله عَلَيْهِم وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة وَبَايَعُوهُ على إِقَامَة الْكتاب وَالسّنة ثمَّ سَار إِلَى قَبيلَة مسوفة فَقَاتلهُمْ حَتَّى أذعنوا لَهُ وَبَايَعُوهُ على مَا بايعته لمتونة وكدالة فَلَمَّا رأى ذَلِك سَائِر صنهاجة سارعوا إِلَى التَّوْبَة والمبايعة وأقروا لَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَكَانَ كل من أَتَاهُ تَائِبًا مِنْهُم يطهره بِأَن يضْربهُ مائَة سَوط ثمَّ يُعلمهُ الْقُرْآن وَشَرَائِع الْإِسْلَام وَكَانَ يَأْمُرهُم بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَأَدَاء الْعشْر وَاتخذ لذَلِك بَيت مَال يجمع فِيهِ مَا يرفع إِلَيْهِ من ذَلِك ثمَّ أَخذ فِي اشْتِرَاء السِّلَاح وأركاب الجيوش من ذَلِك المَال وَجعل يَغْزُو الْقَبَائِل حَتَّى ملك جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وذلل قبائلها ثمَّ جمع أسلاب الْقَتْلَى فِي تِلْكَ الْمَغَازِي وَجعلهَا فَيْئا للمرابطين وَبعث بِمَال دثر مِمَّا اجْتمع لَدَيْهِ من الزكوات والأعشار والأخماس إِلَى طلبة الْعلم بِبِلَاد المصامدة فاشتهر أمره فِي جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وَمَا والاها من بِلَاد السودَان وبلاد الْقبْلَة وبلاد المصامدة وَسَائِر أقطار الْمغرب وَأَنه قَامَ رجل بكدالة يَدْعُو إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَيحكم بِمَا أنزل الله وَأَنه متواضع زاهد فِي الدُّنْيَا وطار لَهُ ذكر فِي الْعَالم وَتمكن ناموسه من الْقُلُوب وأحبته النَّاس ثمَّ توفّي يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي على أثر ذَلِك وَحكى ابْن خلدون أَن وَفَاة يحيى بن إِبْرَاهِيم كَانَت قبل اعتزال عبد الله بن ياسين وَأَصْحَابه فِي الجزيرة وَالله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الْخَبَر عَن رياسة يحيى بن عَمْرو بن تكلاكين اللمتوني لما توفّي يحيى بن إِبْرَاهِيم الكدالي عزم عبد الله بن ياسين على تَقْدِيم رجل يقوم بِأَمْر المرابطين فِي حربهم وجهادهم لعدوهم وَكَانَت قَبيلَة لمتونة من بَين قبائل صنهاجة أَكثر طَاعَة لله تَعَالَى ودينا وصلاحا فَكَانَ عبد الله بن ياسين يكرمهم ويقدمهم على غَيرهم وَذَلِكَ لما أَرَادَهُ الله تَعَالَى من ظُهُور أَمرهم وتملكهم على الْخلق فَجمع عبد الله بن ياسين رُؤُوس الْقَبَائِل من صنهاجة وَولى عَلَيْهِم يحيى بن عمر اللمتوني وَعبد الله بن ياسين هُوَ الْأَمِير على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْمر وَينْهى وَيُعْطِي وَيمْنَع وَعَن رَأْيه يصدرون فَكَانَ يحيى بن عمر يتَوَلَّى النّظر فِي أَمر الْحَرْب وَعبد الله بن ياسين ينظر فِي أَمر الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع وَيَأْخُذ الزكوات والأعشار وَكَانَ يحيى شَدِيد الانقياد لعبد الله بن ياسين وَاقِفًا عِنْد أمره وَنَهْيه فَمن حسن طَاعَته لَهُ أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا قد وَجب عَلَيْك أدب قَالَ يحيى فيماذا يَا سَيِّدي قَالَ لَا أعرفك بِهِ حَتَّى آخذه مِنْك فكشف لَهُ يحيى عَن بَشرته فَضَربهُ عشْرين سَوْطًا ثمَّ قَالَ لَهُ إِنَّمَا ضربتك لِأَنَّك باشرت الْقِتَال واصطليت بِنَار الْحَرْب بِنَفْسِك وَذَلِكَ خطأ مِنْك فَإِن الْأَمِير لَا يُقَاتل وَإِنَّمَا يقف ويحرض النَّاس وَيُقَوِّي نُفُوسهم فَإِن حَيَاة الْجند بحياة أميره وهلاكه بهلاكه واستقام الْأَمر ليحيى بن عمر وَملك جَمِيع بِلَاد الصَّحرَاء وغزا بِلَاد السودَان فَفتح كثيرا مِنْهَا وَكَانَ من أهل الزّهْد وَالدّين وَالصَّلَاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الْخَبَر عَن غَزْو عبد الله بن ياسين وَيحيى بن عمر سجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على بني مدرار المكناسيين أَصْحَاب سجلماسة أَن انْقِرَاض دولتهم كَانَ على يَد خزرون بن فلفل بن خزر المغراوي وَأَنه زحف إِلَى سجلماسة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة وبرز إِلَيْهِ صَاحبهَا أَبُو مُحَمَّد المعتز بِاللَّه آخر مُلُوك بني مدرار الصفرية فَهَزَمَهُ خزرون وَقَتله وَاسْتولى على بَلَده وذخيرته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى قرطبة وَكَانَ ذَلِك لأوّل حجابة الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَاسْتمرّ خزرون بن فلفل واليا على سجلماسة إِلَى أَن هلك وَولي بعده ابْنه وانودين بن خزرون إِلَى أَن هلك أَيْضا وَولي ابْنه مَسْعُود بن وانودين وَلما انقرضت الدولة الأموية بالأندلس وافترق أَمر الْجَمَاعَة بهَا وَصَارَ الْملك طوائف استبد أُمَرَاء الْأَطْرَاف وملوك زناتة بالمغرب كل بِمَا فِي يَده وَعدم الْوَازِع وتصرفوا فِي الرعايا بِمُقْتَضى أغراضهم وشهواتهم فنال فاسا وأعمالها من جور بني عَطِيَّة المغراويين مَا حكينا بعضه قبل ونال أهل سجلماسة ودرعة من بني خزرون بن فلفل المغراويين مثل ذَلِك أَو أَكثر فَلَمَّا كَانَت سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد انْتَشَر ذكر عبد الله بن ياسين وَأَصْحَابه المرابطين فِي الْعَالم اجْتمع فُقَهَاء سجلماسة ودرعة وَكَتَبُوا إِلَى عبد الله بن ياسين وَيحيى بن عمر وأشياخ المرابطين كتابا يرغبون إِلَيْهِم فِي الْوُصُول إِلَى بِلَادهمْ ليطهروها مِمَّا هِيَ فِي من الْمُنْكَرَات وَشدَّة العسف من الْأُمَرَاء وعرفوهم بِمَا هم فِيهِ أهل الْعلم وَالدّين وَسَائِر الْمُسلمين من الذل وَالصغَار مَعَ أَمِيرهمْ مَسْعُود بن وانودين المغراوي فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى عبد الله بن ياسين جمع رُؤَسَاء المرابطين وقرأه عَلَيْهِم وشاورهم فِي الْأَمر فَقَالُوا أَيهَا الْفَقِيه هَذَا مِمَّا يلْزمنَا ويلزمك فسر بِنَا على بركَة الله فَدَعَا لَهُم بِخَير وحضهم على الْجِهَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَخرج بهم فِي عشْرين من صفر سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فِي جَيش كثيف من المرابطين وَقيل كَانَ خُرُوجه سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فَسَار حَتَّى وصل إِلَى بِلَاد درعة فَوجدَ بهَا عَامل مَسْعُود بن وانودين فنفاه عَنْهَا وَوجد بهَا خمسين ألف نَاقَة لمسعود الْمَذْكُور وَكَانَت ترعى فِي حمى حماه لَهَا هُنَالك فاكتسحها عبد الله بن ياسين واتصل الْخَبَر بمسعود فَجمع جيوشه وَخرج نَحوه فَالتقى الْجَمْعَانِ فِيمَا بَين درعة وسجلماسة فَكَانَت بَينهمَا حَرْب فظيعة منح الله فِيهَا المرابطين النَّصْر على مغراوة فَقتل أَمِيرهمْ مَسْعُود وَأكْثر جَيْشه وفر الْبَاقُونَ وَاسْتولى عبد الله بن ياسين على دوابهم وأسلحتهم وَأَمْوَالهمْ مَعَ الْإِبِل الَّتِي كَانَ اكتسحها فِي درعة فَأخْرج الْخمس من ذَلِك كُله وفرقه على فُقَهَاء سجلماسة ودرعة وصلحائهم وَقسم الْأَرْبَعَة أَخْمَاس على المرابطين واتحل من فوره إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا وَقتل من وجد بهَا من مغراوة وَأقَام بهَا حَتَّى أصلح شَأْنهَا وَغير مَا وجد بهَا من الْمُنْكَرَات وَقطع المزامير وَآلَة اللَّهْو وأحرق الدّور الَّتِي كَانَت تبَاع بهَا الْخُمُور وأزال المكوس وَأسْقط المغارم المخزنية ومحا مَا أوجب الْكتاب وَالسّنة محوه وَاسْتعْمل على سجلماسة عَاملا من لمتونة وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء ثمَّ توفّي الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عمر فِي بعض غَزَوَاته بِبِلَاد السودَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة الْخَبَر عَن رياسة أبي بكر بن عمر اللمتوني وَفتح بِلَاد السوس لما توفّي الْأَمِير يحيى بن عمر اللمتوني ولى عبد الله بن ياسين مَكَانَهُ أَخَاهُ أَبَا بكر بن عمر وَذَلِكَ فِي محرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وقلده أَمر الْحَرْب وَالْجهَاد ثمَّ ندب المرابطين إِلَى غَزْو بِلَاد السوس والمصامدة فزحف إِلَيْهَا فِي جَيش عَظِيم فِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَكَانَ أَبُو بكر بن عمر رجلا صَالحا ورعا فَجعل على مقدمته ابْن عَمه يُوسُف بن تاشفين اللمتوني ثمَّ سَار حَتَّى انْتهى إِلَى بِلَاد السوس فغزا جزولة من قبائلها وَفتح مَدِينَة ماسة وتارودانت قَاعِدَة بِلَاد السوس وَكَانَ بهَا قوم من الرافضة يُقَال لَهُم البجلية نِسْبَة إِلَى عَليّ بن عبد الله البَجلِيّ الرافضي كَانَ سقط إِلَى بِلَاد السوس أَيَّام قيام عبيد الله الشيعي بإفريقية فأشاع هُنَالك مَذْهَب الرافضة فتوارثوه عَنهُ جيلا بعد جيل وعضوا عَلَيْهِ فَكَانُوا لَا يرَوْنَ الْحق إِلَّا مَا فِي يدهم فَقَاتلهُمْ عبد الله بن ياسين وَأَبُو بكر بن عمر حَتَّى فتحُوا مَدِينَة تارودانت عنْوَة وَقتلُوا بهَا خلقا كثيرا وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى مَذْهَب السّنة وَالْجَمَاعَة وَحَازَ عبد الله بن ياسين أسلاب الْقَتْلَى مِنْهُم فَجَعلهَا فَيْئا وَأظْهر الله المرابطين على من عداهم ففتحوا معاقل السوس وخضعت لَهُم قبائله وَفرق عبد الله بن ياسين عماله بنواحيه وَأمرهمْ بِإِقَامَة الْعدْل وَإِظْهَار السّنة واخذ الزكوات والأعشار وَإِسْقَاط مَا سوى ذَلِك من المغارم المحدثة فتح بِلَاد المصامدة وَمَا يتبع ذَلِك من جِهَاد برغواطة وَفتح بِلَادهمْ وَذكر نسبهم ثمَّ ارتحل عبد الله بن ياسين إِلَى بِلَاد المصامدة فَفتح جبل درن وبلاد رودة ومدينة شفشاوة بِالسَّيْفِ ثمَّ فتح مَدِينَة نَفِيس وَسَائِر بِلَاد كدميوه ووفدت عَلَيْهِ قبائل رجراجة وحاحة فَبَايعُوهُ ثمَّ ارتحل إِلَى مَدِينَة أغمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَبهَا يَوْمئِذٍ أميرها لقوط بن يُوسُف بن عَليّ المغراوي فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها حصارا شَدِيدا وَلما رأى لقوط مَا لَا طَاقَة لَهُ بِهِ أسلمها وفر عَنْهَا لَيْلًا هُوَ وَجَمِيع حشمه إِلَى تادلا فَاسْتَجَارَ ببني يفرن مُلُوك سلا وتادلا وَدخل المرابطون مَدِينَة أغمات سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فَأَقَامَ بهَا عبد الله بن ياسين نَحْو الشَّهْرَيْنِ ريثما استراح الْجند ثمَّ خرج إِلَى تادلا فَفَتحهَا وَقتل من وجد بهَا من بني يفرن مُلُوكهَا وظفر بلقوط المغراوي فَقتله وَكَانَ للقوط هَذَا امْرَأَة اسْمهَا زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية قَالَ ابْن خلدون وَكَانَت من إِحْدَى نسَاء الْعَالم المشهورات بالجمال والرياسة وَكَانَت قبل لقوط عِنْد يُوسُف بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن وطاس شيخ وريكة فَلَمَّا قتل المرابطون لقوط بن يُوسُف المغراوي خَلفه أَبُو بكر بن عمر على امْرَأَته زَيْنَب بنت إِسْحَاق الْمَذْكُورَة إِلَى أَن كَانَ من أمرهَا مَا نذكرهُ ثمَّ تقدم عبد الله بن ياسين إِلَى بِلَاد تامسنا فَفَتحهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ أخبر بِأَن بساحل تامسنا قبائل برغواطة فِي عدد كثير وَجمع عَظِيم ولنذكر هُنَا كلَاما مُلَخصا فِي برغواطة ودولتهم ثمَّ نرْجِع إِلَى مَا نَحن بصدده فَنَقُول اخْتلف النَّاس فِي نسب برغواطة هَؤُلَاءِ إِلَى أَي شَيْء يرجع فبعضهم يلحقهم بزناتة وَبَعْضهمْ يَقُول فِي متنبئهم صَالح بن طريف البرغواطي إِنَّه يَهُودِيّ الأَصْل من سبط شَمْعُون بن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام نَشأ ببرباط حصن من عمل شدونة من بِلَاد الأندلس ثمَّ رَحل إِلَى الْمشرق وَقَرَأَ على عبيد الله المعتزلي واشتغل بِالسحرِ وَجمع مِنْهُ فنونا وَقدم الْمغرب فَنزل بِلَاد تامسنا فَوجدَ بهَا قبائل جُهَّالًا من البربر فاظهر لَهُم الصّلاح والزهد وموه عَلَيْهِم وخلبهم بِلِسَانِهِ وسحرهم بنير نجاته فصدقوه واتبعوه فَادّعى النُّبُوَّة وَشرع لَهُم شرائع وَوضع لَهُم قُرْآنًا حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى فَكَانَ يُقَال لمن تبعه وَدخل فِي دينه برباطي ثمَّ عربته الْعَرَب فَقَالُوا برغواطي فسموا برغواطة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا من الأغاليط الْبَيِّنَة وَصحح أَن الْقَوْم من المصامدة بِشَهَادَة الموطن والجوار وَغير ذَلِك وَالتَّحْقِيق أَن برغواطة قبائل شَتَّى لَيْسَ يجمعهُمْ أَب وَاحِد وَإِنَّمَا هم أخلاط من البربر اجْتَمعُوا إِلَى صَالح بن طريف الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة بتامسنا سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة من الْهِجْرَة فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَتسَمى بِصَالح الْمُؤمنِينَ وَشرع لأتباعه الدّيانَة الَّتِي أخذوها عَنهُ وَكَانَ صَالح قد شهد مَعَ أَبِيه طريف حروب ميسرَة المضغري كَبِير الصفرية لعهده وَكَانَ طريف يكنى أَبَا صبيح وَمن كبار أَصْحَاب ميسرَة الْمَذْكُور وَيُقَال إِنَّه ادّعى النُّبُوَّة أَيْضا وَشرع لِقَوْمِهِ الشَّرَائِع ثمَّ هلك سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَقَامَ بأَمْره ابْنه صَالح بن طريف الْمَذْكُور فعفت مخارقه على مُخَارق أَبِيه وَكَانَ أَولا من أهل الْعلم وَالدّين ثمَّ انْسَلَخَ من آيَات الله وَانْتَحَلَ دَعْوَى النُّبُوَّة وأتى من الْبُهْتَان بِمَا أوضحناه قبل فِي ولَايَة حَنْظَلَة بن صَفْوَان الْكَلْبِيّ على الْمغرب ثمَّ خرج صَالح بن طريف إِلَى الْمشرق سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة بعد أَن ملك أَمرهم سبعا وَأَرْبَعين سنة وَوَعدهمْ أَنه يرجع إِلَيْهِم فِي دولة السَّابِع مِنْهُم وَأوصى بِشَرِيعَتِهِ إِلَى ابْنه إلْيَاس بن صَالح وَلم يزل إلْيَاس مظْهرا لِلْإِسْلَامِ مصرا على مَا أوصاه بِهِ أَبوهُ من كلمة كفرهم وَكَانَ متظاهرا بالعفاف والزهد إِلَى أَن هلك سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ لمضي خمسين سنة من ولَايَته ثمَّ ولي من بعده ابْنه يُونُس بن إلْيَاس فأظهر دينهم ودعا إِلَى كفرهم وَقتل من لم يدْخل فِي أمره حَتَّى حرق مَدَائِن تامسنا وَمَا والاها يُقَال إِنَّه حرق مِنْهَا ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِينَ مَدِينَة واستلحم أَهلهَا بِالسَّيْفِ لمخالفتهم إِيَّاه وَقتل مِنْهُم بِموضع يُقَال لَهُ تاملوكالات وَهُوَ حجر عَال نابت وسط الطَّرِيق سَبْعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسبعين نفسا قَالَ زمور بن صَالح ثمَّ رَحل يُونُس بن إلْيَاس إِلَى الْمشرق وَحج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَلم يحجّ أحد من أهل بَيته قبله وَلَا بعده وَهلك سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ لأَرْبَع وَأَرْبَعين سنة من ملكه وانتقل الْأَمر عَن بنيه إِلَى غَيرهم من قرَابَته فولي أَمرهم أَبُو غفير مُحَمَّد بن معَاذ بن اليسع بن صَالح بن طريف فاستولى على ملك برغواطة وَأخذ بدين آبَائِهِ واشتدت شوكته وَعظم أمره وَكَانَت لَهُ فِي البربر وقائع مَشْهُورَة وَأَيَّام مَذْكُورَة أَشَارَ إِلَى شَيْء مِنْهَا سعيد بن هِشَام المصمودي فِي أَبْيَات مِنْهَا قَوْله (وهذي أمة هَلَكُوا وَضَلُّوا ... وعاروا لَا سقوا مَاء معينا) (يَقُولُونَ النَّبِي أَبُو غفير ... فأخزى الله أم الكاذبينا) (سَيعْلَمُ أهل تامسنا إِذا مَا ... أَتَوا يَوْم الْقِيَامَة مفظعينا) (هُنَالك يُونُس وَبَنُو أَبِيه ... يقودون البرابر حائرينا) وَاتخذ أَبُو غفير من الزَّوْجَات أَرْبعا وَأَرْبَعين لأَنهم يبيحون فِي ديانتهم الخسيسة أَن يتَزَوَّج الرجل من النِّسَاء مَا شَاءَ وَكَانَ لَهُ من الْوَلَد مثل ذَلِك أَو أَكثر وَهلك أَوَاخِر الْمِائَة الثَّالِثَة لتسْع وَعشْرين سنة من ملكه ثمَّ ولي بعده ابْنه أَبُو الْأَنْصَار عبد الله بن أبي غفير فاقتفى سنَنه وَكَانَ كَبِير الدعْوَة مهيبا عِنْد مُلُوك عصره يهاودنه ويدافعونه بالمواصلة وَكَانَ يلبس الملحفة والسراويل ويلبس الْمخيط من الثِّيَاب وَلَا يعتم أحد فِي بِلَاده إِلَّا الغرباء وَكَانَ حَافِظًا للْجَار وافيا للْعهد وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلاثمائة لأَرْبَع وَأَرْبَعين سنة من ملكه وَدفن بتاسلاخت وَبهَا قَبره وَولي بعده ابْنه أَبُو مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة فَسَار سيرة آبَائِهِ وَادّعى النُّبُوَّة وَاشْتَدَّ أمره وَعلا سُلْطَانه ودانت لَهُ قبائل الْمغرب قَالَ زمور بن صَالح كَانَ عسكره يناهز الثَّلَاثَة آلَاف من برغواطة وَعشرَة آلَاف من سواهُم وَقد كَانَ لملوك العدوتين فِي غَزْو برغواطة هَؤُلَاءِ وجهادهم آثَار عَظِيمَة من الأدارسة والأموية والشيعة وَغَيرهم وَلما زحف بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي إِلَى الْمغرب زحفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الْمَشْهُور وأجفلت قبائل زناتة وملوكها بَين يَدَيْهِ وانحازوا إِلَى سبتة وأطل عَلَيْهِم من جبل تطوان وعاين جمعهم الكثيف عَنْهُم إِلَى جِهَاد برغواطة فأوقع بهم وَقتل أَمِيرهمْ ابا مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار وَبعث بسبيهم إِلَى القيروان وَذَلِكَ سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة ثمَّ حاربتهم أَيْضا جنود الْمَنْصُور بن ابي عَامر لما عقد ابْنه عبد الْملك المظفر لمَوْلَاهُ وَاضح على جِهَاد برغواطة فَعظم أَثَره فيهم بِالْقَتْلِ والسبي ثمَّ حاربهم أَيْضا بَنو يفرن لما اسْتَقل بَنو يعلى بن مُحَمَّد بن صَالح مِنْهُم بِنَاحِيَة سلا واقتطعوها عَن عمل زيري بن عَطِيَّة المغراوي صَاحب فاس وَكَانَ لأبي الْكَمَال تَمِيم بن زيري اليفرني فيهم جِهَاد كَبِير حَسْبَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَعْوَام الْعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَغَلَبَهُمْ على تامسنا وَولى عَلَيْهَا من قبله بعد أَن أثخن فيهم سبيا وقتلا ثمَّ تراجعوا من بعده إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين ودخلوا أَرض الْمغرب دخلتهم الثَّانِيَة وفتحوا بِلَاد المصامدة وبلاد تادلا وتامسنا فَأخْبر عبد الله بن ياسين بِأَن بساحلها قبائل برغواطة فِي عدد كثير وَجمع عَظِيم وَأَنَّهُمْ مجوس أهل ضَلَالَة وَكفر وَأخْبر بِمَا تمسكوا بِهِ من ديانتهم الخبيثة وَقيل لَهُ إِن برغواطة قبائل كَثِيرَة وأخلاط شَتَّى اجْتَمعُوا فِي أول أَمرهم على صَالح بن طريف المتنبئ الْكذَّاب وَاسْتمرّ حَالهم على الضَّلَالَة وَالْكفْر إِلَى الْآن فَلَمَّا سمع عبد الله بن ياسين بِحَال برغواطة وَمَا هم عَلَيْهِ من الْكفْر رأى أَن الْوَاجِب تَقْدِيم جهادهم على جِهَاد غَيرهم فَسَار إِلَيْهِم فِي جيوش المرابطين والأمير يَوْمئِذٍ على برغواطة هُوَ أَبُو حَفْص عبد الله من ذُرِّيَّة أبي مَنْصُور عِيسَى بن أبي الْأَنْصَار عبد الله بن أبي غفير مُحَمَّد بن معَاذ بن اليسع بن صَالح بن طريف فَكَانَت بَينه وَبَين عبد الله بن ياسين ملاحم عِظَام مَاتَ فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ خلق كثير وَأُصِيب فِيهَا عبد الله بن ياسين الْجُزُولِيّ مهْدي المرابطين فَكَانَ فِيهَا شَهَادَته رَحمَه الله وَلما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُم يَا معشر المرابطين إِنِّي ميت من يومي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 هَذَا لَا محَالة وَإِنَّكُمْ فِي بِلَاد عَدوكُمْ فإياكم أَن تجبنوا أَو تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم وَكُونُوا أعوانا على الْحق وإخوانا فِي ذَات الله وَإِيَّاكُم والتحاسد على الرياسة فَإِن الله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء من خلقه ويستخلف فِي أرضه من أَرَادَ من عباده فِي كَلَام غير هَذَا وَتُوفِّي عبد الله بن ياسين عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ يَوْم الْأَحَد الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَدفن بِموضع يعرف بكريفلة وَبني على قَبره مَسْجِد وَهُوَ مَشْهُور بهَا إِلَى الْآن وَكَانَ عبد الله بن ياسين رَحمَه الله شَدِيد الْوَرع فِي الْمطعم وَالْمشْرَب إِنَّمَا يتعيش من لُحُوم الصَّيْد وَنَحْوهَا لم يَأْكُل شَيْئا من لُحُوم صنهاجة وَلَا من أَلْبَانهَا مُدَّة إِقَامَته فيهم وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير النِّكَاح يتَزَوَّج فِي كل شهر عددا من النِّسَاء ثمَّ يُطَلِّقهُنَّ وَلَا يسمع بِامْرَأَة جميلَة إِلَّا خطبهَا وَمن حسن سياسته أَنه أَقَامَ فِي صنهاجة السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى أَنه ألزمهم أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة فِي جمَاعَة ضرب عشْرين سَوْطًا وَمن فَاتَتْهُ رَكْعَة مِنْهَا ضرب خَمْسَة أسواط وَمن كراماته أَن المرابطين خَرجُوا مَعَه فِي بعض غَزَوَاته بِبِلَاد السودَان فنفذ مَا مَعَهم من المَاء حَتَّى أشرفوا على الْهَلَاك فَقَامَ عبد الله فَتَيَمم وَصلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَأمن المرابطون على دُعَائِهِ فَلَمَّا فرغ من الدُّعَاء قَالَ لَهُم احفروا تَحت مصلاي هَذَا فَحَفَرُوا فصادفوا المَاء على نَحْو شبر من الأَرْض عذبا بادرا فَشَرِبُوا واستقوا وملؤوا أوعيتهم وَمن تقواه وورعه أَنه لم يزل صَائِما من يَوْم دخل بِلَاد صنهاجة إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَاسْتمرّ الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر على رياسته وجددت لَهُ الْبيعَة بعد وَفَاة عبد الله بن ياسين فَكَانَ أول مَا فعله بعد تَجْهِيزه إِيَّاه وَدَفنه أَن زحف إِلَى برغواطة مصمما فِي حربهم متوكلا على الله فِي جهادهم فأثخن فيهم قتلا وسبيا حَتَّى تفَرقُوا فِي المكامن والغياض واستأصل شأفتهم وَأسلم الْبَاقُونَ إسلاما جَدِيدا ومحا أَبُو بكر بن عمر أثر دعوتهم من الْمغرب وَجمع غنائمهم وَقسمهَا بَين المرابطين وَعَاد إِلَى مَدِينَة أغمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 غَزْوَة أبي بكر بن عمر بِلَاد الْمغرب سوى مَا تقدم وفتحه إِيَّاهَا لما اسْتَقر الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر بأغمات أَقَامَ بهَا إِلَى صفر من سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَخرج غازيا بِلَاد الْمغرب فِي أُمَم لَا تحصى من صنهاجة وجزولة والمصامدة فَفتح جبال فازاز وَسَائِر بِلَاد زناتة وَفتح مَدَائِن مكناسة ثمَّ نزل على مَدِينَة لواتة فحاصرها حَتَّى اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ وَقتل بهَا خلقا كثيرا من بني يفرن وخربها فَلم تعمر بعد إِلَى الْآن وَكَانَ تخريبه إِيَّاهَا فِي آخر يَوْم من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة أغمات عود أبي بكر بن عمر إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية وَكَانَت بارعة الْجمال وَالْحسن كَمَا قُلْنَا وَكَانَت مَعَ ذَلِك حازمة لَبِيبَة ذَات عقل رصين ورأي متين وَمَعْرِفَة بإدارة الْأُمُور حَتَّى كَانَ يُقَال لَهَا الساحرة فَأَقَامَ الْأَمِير أَبُو بكر عِنْدهَا بأغمات نَحْو ثَلَاثَة أشهر ثمَّ ورد عَلَيْهِ رَسُول من بِلَاد الْقبْلَة فَأخْبرهُ باختلال أَمر الصَّحرَاء وَوُقُوع الْخلاف بَين أَهلهَا وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر رجلا متورعا فَعظم عَلَيْهِ أَن يقتل الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا وَهُوَ قَادر على كفهم وَلم ير أَنه فِي سَعَة من ذَلِك وَهُوَ متوالي أَمرهم ومسؤول عَنْهُم فعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء ليصلح أمرهَا وَيُقِيم رسم الْجِهَاد بهَا وَلما عزم على السّفر طلق امْرَأَته زَيْنَب وَقَالَ لَهَا عِنْد فِرَاقه إِيَّاهَا يَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 زَيْنَب إِنِّي ذَاهِب إِلَى الصَّحرَاء وَأَنت امْرَأَة جميلَة بضة لَا طَاقَة لَك على حَرَارَتهَا وَإِنِّي مطلقك فَإِذا انْقَضتْ عدتك فَانْكِحِي ابْن عمي يُوسُف بن تاشفين فَهُوَ خليفتي على بِلَاد الْمغرب فَطلقهَا ثمَّ سَافر عَن أغمات وَجعل طَرِيقه على بِلَاد تادلا حَتَّى أَتَى سجلماسة فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا حَتَّى أصلح أحوالها ثمَّ سَافر إِلَى الصَّحرَاء وَنقل ابْن خلكان عَن كتاب المعرب عَن سيرة مُلُوك الْمغرب فِي سَبَب رُجُوع الْأَمِير أبي بكر بن عمر إِلَى الصَّحرَاء مَا مِثَاله قَالَ كَانَ أَبُو بكر بن عمر رجلا ساذجا خير الطباع مؤثرا لبلاده على بِلَاد الْمغرب غير ميال إِلَى الرَّفَاهِيَة وَكَانَت وُلَاة الْمغرب من زناتة ضعفاء لم يقاوموا الملثمين فَأخذُوا الْبِلَاد من أَيْديهم من بَاب تلمسان إِلَى سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فَلَمَّا حصلت الْبِلَاد لأبي بكر بن عمر سمع أَن عجوزا فِي الصَّحرَاء ذهبت لَهَا نَاقَة فِي غَدَاة فَبَكَتْ وَقَالَت ضيعنا أَبُو بكر بن عمر بِدُخُولِهِ إِلَى بِلَاد الْمغرب فَحَمله ذَلِك على أَن اسْتخْلف على بِلَاد الْمغرب رجلا من أَصْحَابه اسْمه يُوسُف بن تاشفين وَرجع إِلَى بِلَاده الجنوبية اه وَكَانَ سفر أبي بكر بن عمر إِلَى الصَّحرَاء فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَلما وصل إِلَيْهَا أصلح شَأْنهَا ورتب أحوالها وَجمع جَيْشًا كثيفا وغزا بِهِ بِلَاد السودَان فاستولى مِنْهَا على نَحْو تسعين مرحلة وَكَانَ يُوسُف بن تاشفين قد استفحل أمره أَيْضا بالمغرب وَاسْتولى على أَكثر بِلَاده فَلَمَّا سمع الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر بِمَا آل إِلَيْهِ أَمر يُوسُف بن تاشفين وَمَا منحه الله من النَّصْر أقبل من الصَّحرَاء ليختبر أَحْوَاله وَيُقَال إِنَّه كَانَ مضمرا لعزله وتولية غَيره فأحس يُوسُف بذلك فَشَاور زَوجته زَيْنَب بنت إِسْحَاق وَكَانَ قد تزَوجهَا بعد أبي بكربن عمر فَقَالَت لَهُ إِن ابْن عمك متورع عَن سفك الدِّمَاء فَإِذا لَقيته فاترك مَا كَانَ يعهده مِنْك من الْأَدَب والتواضع مَعَه وَأظْهر أثر الترفع والاستبداد حَتَّى كَأَنَّك مسَاوٍ لَهُ ثمَّ لاطفه مَعَ ذَلِك بالهدايا من الْأَمْوَال وَالْخلْع وَسَائِر طرف الْمغرب واستكثر من ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فَإِنَّهُ بِأَرْض صحراء كل مَا جلب إِلَيْهِ من هُنَا فَهُوَ مستطرف لَدَيْهِ فَلَمَّا قرب أَبُو بكر بن عمر من أَعمال الْمغرب خرج إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين فَلَقِيَهُ على بعد وَسلم عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب سَلاما مُخْتَصرا وَلم ينزل لَهُ وَلَا تأدب مَعَه الْأَدَب الْمُعْتَاد فَنظر أَبُو بكر إِلَى كَثْرَة جيوشه فَقَالَ لَهُ يَا يُوسُف مَا تصنع بِهَذِهِ الجيوش قَالَ أستعين بهَا على من خالفني فارتاب أَبُو بكر بِهِ ثمَّ نظر إِلَى ألف بعير قد أَقبلت موقرة فَقَالَ مَا هَذِه الْإِبِل الموقرة قَالَ أَيهَا الْأَمِير إِنِّي قد جئْتُك بِكُل مَا معي من مَال وأثاث وَطَعَام وإدام لتستعين بِهِ على بِلَاد الصَّحرَاء فازداد أَبُو بكر تعرفا من حَاله وَعلم أَنه لَا يتخلى لَهُ عَن الْأَمر فَقَالَ لَهُ يَا بن عَم انْزِلْ أوصيك فَنزلَا مَعًا وجلسا فَقَالَ أَبُو بكر إِنِّي قد وليتك هَذَا الْأَمر وَإِنِّي مسؤول عَنهُ فَاتق الله تَعَالَى فِي الْمُسلمين وأعتقني وَأعْتق نَفسك من النَّار وَلَا تضيع من أُمُور رعيتك شَيْئا فَإنَّك مسؤول عَنهُ وَالله تَعَالَى يصلحك ويمدك ويوقفك للْعَمَل الصَّالح وَالْعدْل فِي رعيتك وَهُوَ خليفتي عَلَيْك وَعَلَيْهِم ثمَّ ودعه وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء فَأَقَامَ بهَا مواظبا على الْجِهَاد فِي كفار السودَان إِلَى أَن اسْتشْهد من سهم مَسْمُوم أَصَابَهُ فِي شعْبَان سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بعد أَن استقام لَهُ أَمر الصَّحرَاء كَافَّة إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان وَالله غَالب على أمره الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لما عزم الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر على السّفر إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء دَعَا ابْن عَمه يُوسُف بن تاشفين بن إِبْرَاهِيم اللمتوني فعقد لَهُ على بِلَاد الْمغرب وفوض إِلَيْهِ أمره وَأمره بِالرُّجُوعِ إِلَى قتال من بِهِ من مغراوة وَبني يفرن وَسَائِر زناتة والبربر وَاتفقَ على تَقْدِيمه أَشْيَاخ المرابطين لما يعلمُونَ من فَضله وَدينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وشجاعته ونجدته وعدله وورعه وسداد رَأْيه ويمن نقيبته فَعَاد يُوسُف من سجلماسة بِنصْف جَيش المرابطين بعد ارتحال أبي بكر بن عمر بِالنِّصْفِ الآخر وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَلما انْتهى يُوسُف بن تاشفين إِلَى ملوية ميز جيوشه فَوَجَدَهَا أَرْبَعِينَ ألفا من المرابطين فَاخْتَارَ مِنْهُم أَرْبَعَة من القواد وهم سير بن أبي بكر اللمتوني وَمُحَمّد بن تَمِيم الكدالي وَعمر بن سُلَيْمَان المسوفي ومدرك التلكاني وَعقد لكل قَائِد مِنْهُم على خَمْسَة آلَاف من قبيلته وجعلهم مُقَدّمَة بَين يَدَيْهِ لقِتَال من بالمغرب من مغراوة وَبني يفرن وَسَائِر قبائل البربر القائمين بِهِ ثمَّ سَار هُوَ فِي أَثَرهم يتقرى الْمغرب بَلَدا بَلَدا ويتتبع أَهله قَبيلَة قَبيلَة فقوم يقاتلونه ثمَّ يظفر بهم وَقوم يفرون بَين يَدَيْهِ وَقوم يلقون إِلَيْهِ السّلم ويبذلون الطَّاعَة حَتَّى دوخ بِلَاد الْمغرب ثمَّ سَار حَتَّى دخل مَدِينَة أغمات وَلما اسْتَقر بهَا تزوج زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية الَّتِي كَانَت تَحت أبي بكر بن عمر فَكَانَت عنوان سعده والقائمة بِملكه والمدبرة لأَمره والفاتحة عَلَيْهِ بِحسن سياستها لأكْثر بِلَاد الْمغرب وَمن ذَلِك إشارتها عَلَيْهِ فِي أَمر أبي بكر بن عمر وَكَيْفِيَّة ملاقاته حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَهَكَذَا كَانَ أمرهَا فِي كل مَا تحاوله رَحمهَا الله وَمِمَّا يستطاب من حَدِيثهَا مَا حَكَاهُ ابْن الْأَثِير فِي كَامِله وَقد تكلم على يُوسُف بن تاشفين هَذَا فَقَالَ كَانَ حسن السِّيرَة خيرا عادلا يمِيل إِلَى أهل الْعلم وَالدّين يكرمهم ويحكمهم فِي بِلَاده ويصدر عَن رَأْيهمْ وَكَانَ يحب الْعَفو والصفح عَن الذُّنُوب الْعِظَام من ذَلِك أَن ثَلَاثَة نَفرا اجْتَمعُوا فتمنى أحدهم ألف دِينَار يتجر بهَا وَتمنى الآخر عملا يعْمل فِيهِ لأمير الْمُسلمين وَتمنى الآخر زَوجته وَكَانَت من أحسن النِّسَاء وَلها الحكم فِي بِلَاده فَبَلغهُ الْخَبَر فأحضرهم وَأعْطى متمني المَال ألف دِينَار وَاسْتعْمل الآخر وَقَالَ للَّذي تمنى زَوجته يَا جَاهِل مَا حملك على هَذَا الَّذِي لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 تصل إِلَيْهِ ثمَّ أرْسلهُ إِلَى زَوجته فتركته فِي خيمة ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أمرت بِأَن يحمل إِلَيْهِ فِي كل يَوْم طَعَام وَاحِد ثمَّ أحضرته وَقَالَت لَهُ مَا أكلت فِي هَذِه الثَّلَاثَة الْأَيَّام قَالَ طَعَاما وَاحِدًا فَقَالَت لَهُ كل النِّسَاء شَيْء وَاحِد وَأمرت لَهُ بِمَال وَكِسْوَة وسرحته إِلَى حَال سَبيله وَكَانَت وفاتها سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بِنَاء مَدِينَة مراكش لما دخلت سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ أَمر يُوسُف بن تاشفين قد استفحل بالمغرب جدا ورسخت قدمه فِي الْملك وَعظم صيته فَسَمت همته إِلَى بِنَاء مَدِينَة يأوي إِلَيْهَا بحشمه وجنده وَتَكون حصنا لَهُ ولأرباب دولته فَاشْترى مَوضِع مَدِينَة مراكش مِمَّن كَانَ يملكهُ من المصامدة وَقَالَ صَاحب المعرب كَانَ ملكا لعجوز مِنْهُم ثمَّ نزل الْموضع الْمَذْكُور بخيام الشّعْر وَبنى مَسْجِدا لصلاته وقصبة صَغِيرَة لاختزان مَاله وسلاحه وَلم يبن على ذَلِك سورا وَقَالَ أَبُو الْخطاب بن دحْيَة فِي كتاب النبراس إِن مَوضِع مَدِينَة مراكش كَانَ مزرعة لأهل نَفِيس فَاشْتَرَاهُ يُوسُف مِنْهُم بِمَالِه الَّذِي خرج بِهِ من الصَّحرَاء وَفِي كتاب المعرب إِن يُوسُف بن تاشفين اختط مَدِينَة مراكش بِموضع كَانَ يُسمى بذلك الِاسْم وَمَعْنَاهُ بلغَة المصامدة امش مسرعا وَكَانَ ذَلِك الْموضع مكمنا للصوص فَكَانَ المارون فِيهِ يَقُولُونَ لرفقائهم تِلْكَ الْكَلِمَة فَعرف الْموضع بهَا وَضبط هَذِه الْكَلِمَة بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء الْمُشَدّدَة بعْدهَا ألف وَبعد ألف كَاف مَكْسُورَة ثمَّ شين مُعْجمَة وَيُقَال كَانَ فِي موضعهَا قَرْيَة صَغِيرَة فِي غابة من الشّجر وَبهَا قوم من البربر فاختطها يُوسُف وَبنى بهَا الْقُصُور والمساكن الأنيقة وَهِي فِي مرج فسيح وحولها جبال على فراسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 مِنْهَا وبالقرب مِنْهَا جبل لَا يزَال عَلَيْهِ الثَّلج وَهُوَ الَّذِي يعدل مزاجها وحرها وَقَالَ ابْن خلدون اتخذ يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة مراكش لنزوله ونزول عسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المقيمة بمواطنهم مِنْهَا فِي جبل درن إِذْ لم يكن فِي قبائل الْمغرب أَشد مِنْهُم قُوَّة وَلَا أَكثر جمعا وَفِي القرطاس لما شرع يُوسُف بن تاشفين فِي بِنَاء مَسْجِد مراكش كَانَ يحتزم وَيعْمل فِي الطين وَالْبناء بِيَدِهِ مَعَ الْخدمَة تواضعا مِنْهُ لله تَعَالَى قَالَ وَالَّذِي بناه يُوسُف من ذَلِك هُوَ الْموضع الْمَعْرُوف الْآن بسور الْحجر من مَدِينَة مراكش جوفا من جَامع الكتبيين مِنْهَا وَيعرف الْيَوْم بالسجينة وَلم يكن بالموضع مَاء فحفر النَّاس آبارا فَظهر لَهُم المَاء على قرب فاستوطنوها وَبَنُو بهَا قَالُوا وَلم تزل مَدِينَة مراكش لَا سور لَهَا إِلَى أَن توفّي يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله وَولي بعده ابْنه عَليّ بن يُوسُف وَمضى مُعظم دولته فأدار عَلَيْهَا السُّور سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة يُقَال كَانَ ذَلِك بِإِشَارَة القَاضِي أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن رشد الْفَقِيه الْمَشْهُور فَإِنَّهُ كَانَ قد قدم على السُّلْطَان بمراكش فَأَشَارَ عَلَيْهِ بذلك عِنْدَمَا نبغ مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين بجبال المصامدة وَكَانَت مُدَّة الْبناء ثَمَانِيَة أشهر وَكَانَ الْإِنْفَاق على السُّور سبعين ألف دِينَار وَبنى عَليّ بن يُوسُف أَيْضا الْجَامِع الْأَعْظَم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْيَوْم والمنار الَّذِي عَلَيْهِ وَأنْفق عَلَيْهِ سِتِّينَ ألف دِينَار أُخْرَى وَرَأَيْت فِي كتاب ابْن عبد الْعَظِيم الأزموري الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب بني أمغار رَضِي الله عَنْهُم أَن أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف اللمتوني لما عزم على إدارة السُّور على مراكش شاور الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر فِي ذَلِك فَمنهمْ من ثبطه وَمِنْهُم من نَدبه إِلَيْهِ وَكَانَ من جملَة من نَدبه القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد ثمَّ شاور أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بأمغار صَاحب عين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الْفطر فَأَشَارَ ببنائه وَبعث لَهُ من مَاله الْحَلَال وَأمره أَن يَجعله فِي صندوق صائر الْبناء ويتولى الْإِنْفَاق فِي ذَلِك رجل فَاضل فَقبل السُّلْطَان إِشَارَته وَعمل بِرَأْيهِ فسهل الله أَمر الْبناء ثمَّ لما جَاءَت دولة الْمُوَحِّدين وَكَانَ مِنْهُم يَعْقُوب الْمَنْصُور الشهير الذّكر اعتنى بِمَدِينَة مراكش واحتفل فِي تشييدها وَبَالغ فِي تنميق مساجدها وتنجيد مصانعها ومعاهدها على مَا نذْكر الْبَعْض مِنْهُ فِي مَحَله إِن شَاءَ الله وَلم تزل مراكش دَار مملكة المرابطين ثمَّ الْمُوَحِّدين من بعدهمْ سَائِر أيامهم ثمَّ لما جَاءَت دولة بني مرين من بعدهمْ اتَّخذُوا كرْسِي مملكتهم بِمَدِينَة فاس وبنوا بهَا الْمَدِينَة الْبَيْضَاء ثمَّ جَاءَت الدولة السعدية من بعدهمْ فنقلوا الْكُرْسِيّ إِلَى مراكش وَبَنُو بهَا قصر البديع الْمَشْهُور ثمَّ جَاءَت الدولة الشَّرِيفَة العلوية فَاتخذ الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف كرْسِي ملكه بمكناسة الزَّيْتُون واحتفل فِي بنائها احتفالا عَظِيما على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله ثمَّ لما كَانَت دولة الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله رد كرْسِي الْملك إِلَى مراكش وَبنى بهَا قصوره ومصانعه واستمرت كرسيا لمملكتهم إِلَى الْآن وَفضل مراكش أشهر من أَن يذكر لَا سِيمَا مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من مزارات الْأَوْلِيَاء ومدافن الصلحاء الْكِبَار وَالْأَئِمَّة الأخيار حَتَّى قَالَ الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي مقامات الْبلدَانِ عِنْد ذكره مَدِينَة مراكش هِيَ تربة الْوَلِيّ وحضرة الْملك الأولى وَعبر عَنْهَا أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفخ الطّيب بِبَغْدَاد الْمغرب حرسها الله وصانها من ريب الزَّمَان وطوارق الْحدثَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 فتح مَدِينَة فاس وَغَيرهَا من سَائِر بِلَاد الْمغرب وَفِي سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة الْمَذْكُورَة جند يُوسُف بن تاشفين الأجناد واستكثر القواد وَفتح كثيرا من الْبِلَاد وَاتخذ الطبول والبنود ورتب الْعمَّال وَكتب العهود وَجعل فِي جَيْشه الأغزاز وَالرُّمَاة كل ذَلِك إرهابا لقبائل الْمغرب فكمل لَهُ من الْجَيْش فِي تِلْكَ السّنة أَكثر من مائَة ألف فَارس من قبائل صنهاجة وجزولة والمصامدة وزناتة والأغزاز وَالرُّمَاة فَخرج بهم من حَضْرَة مراكش قَاصِدا مَدِينَة فاس فَتَلَقَّتْهُ قبائلها من زواغة ولماية ولواتة وصدينه وسدراته ومغيلة وبهلوله ومديونة وَغَيرهم فِي خلق عَظِيم فقاتلوه فَكَانَت بَينه وَبينهمْ ملاحم عِظَام انْهَزمُوا فِيهَا من بَين يَدَيْهِ وانحصروا بِمَدِينَة صدينة فَدَخلَهَا عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ عنْوَة فهدم أسوارها وَقتل بهَا مَا يزِيد على أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ رَحل إِلَى فاس فنازلها بعد أَن فتح جَمِيع أحوازها وَذَلِكَ فِي آخر سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَقَالَ ابْن خلدون إِن يُوسُف بن تاشفين نَازل أَولا قلعة فازاز وَبهَا مهْدي بن تولي اليحفشي وَبَنُو يحفش بطن من زناتة وَكَانَ أَبوهُ تولي صَاحب تِلْكَ القلعة ووليها هُوَ من بعده فنازله يُوسُف بن تاشفين ثمَّ استجاش بِهِ على فاس مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب مكناسة لِأَنَّهُ كَانَ عَدو المعنصر المغراوي صَاحب فاس فزحف فِي عَسَاكِر المرابطين إِلَى فاس وَجمع إِلَيْهِ معنصر ففض جموعه اه وَالله أعلم ثمَّ أَقَامَ يُوسُف على فاس أَيَّامًا فظفر بعاملها بكار بن إِبْرَاهِيم فَقتله وارتحل عَنْهَا إِلَى مَدِينَة صفرو فَدَخلَهَا من يَوْمه عنْوَة وَقتل مُلُوكهَا أَوْلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 مَسْعُود بن وانودين المغراوي صَاحب سجلماسة وَكَانُوا قد استولوا عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ يُوسُف إِلَى فاس فحاصرها حَتَّى فتحهَا وَهُوَ الْفَتْح الأول وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَاسْتعْمل عَلَيْهَا عَاملا من لمتونة وَخرج إِلَى بِلَاد غمارة فَفتح الْكثير مِنْهَا حَتَّى أشرف على طنجة وَبهَا يَوْمئِذٍ الْحَاجِب سكُوت البرغواطي من موَالِي بني حمود ثمَّ رَجَعَ إِلَى منازلة قلعة فازاز فخالفه بَنو معنصر بن حَمَّاد المغراوي إِلَى فاس فَدَخَلُوهَا وَقتلُوا عَامل يُوسُف الَّذِي كَانَ بهَا وَكَانَ مهْدي بن يُوسُف الكزنائي صَاحب بِلَاد مكناسة قد بَايع يُوسُف بن تاشفين وَدخل فِي طَاعَة المرابطين فأقره يُوسُف على عمله وَأمره أَن يخرج بَين يَدَيْهِ بجيشه لفتح بِلَاد الْمغرب فَجمع مهْدي بن يُوسُف جَيْشه وَخرج من مَدِينَة عَوْسَجَة يُرِيد الِاجْتِمَاع بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ محاصر لقلعة فازاز فَسمع بذلك تَمِيم بن معنصر المغراوي صَاحب فاس فعاجله فِي أنجاد مغراوة وقبائل زناتة وأدركه بِبَعْض الطَّرِيق وناجزه الْحَرْب ففض جموعه وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَاجِب سكُوت صَاحب سبتة وطنجة وَلما قتل مهْدي بن يُوسُف بعث أهل مَدَائِن مكناسة إِلَى ابْن تاشفين بِالْخَيرِ وبذلوا لَهُ الطَّاعَة فَملك بِلَادهمْ ثمَّ توالت عَسَاكِر المرابطين على تَمِيم بن معنصر بالغارات والنهب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار وعدمت الأقوات بفاس فَلَمَّا رأى مَا نزل بِهِ من المرابطين جمع مغراوة وَبنى يفرن وَخرج إِلَيْهِم لإحدى الراحتين فَكَانَت عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فَقتل تَمِيم وَجَمَاعَة من عشيرته وَتقدم مَكَانَهُ بفاس الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة المكناسي فَجمع قبائل زناتة وَخرج بهم إِلَى المرابطين فَالتقى مَعَهم على وَادي صيفير فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة انهزم فِيهَا المرابطون وَقتل جمَاعَة من فرسانهم واتصل الْخَبَر بِيُوسُف بن تاشفين وَهُوَ على قلعة فازاز فارتحل عَنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَخلف جَيْشًا من المرابطين لحصارها فأقاموا عَلَيْهَا تسع سِنِين ثمَّ دخلوها صلحا سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَلما رَحل يُوسُف عَن قلعة فازاز وَذَلِكَ سنة سِتّ وَخمسين سَار إِلَى بني مراسن وأميرهم يَوْمئِذٍ يعلى بن يُوسُف فعزاهم وَقتل مِنْهُم خلق وَفتح بِلَادهمْ ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد فندلاوة فَغَزَاهَا وَفتح جَمِيع تِلْكَ الْجِهَات ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى بِلَاد ورغة فَفَتحهَا وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَفِي سنة سِتِّينَ فتح جَمِيع بِلَاد غمارة وجبالها من الرِّيف إِلَى طنجة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ أقبل إِلَى فاس فَنزل عَلَيْهَا بِجَمِيعِ جيوشه بعد أَن فرغ من جَمِيع بِلَاد الْمغرب سوى سبتة وشدد الْحصار على فاس حَتَّى دَخلهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل بهَا من مغراوة وَبني يفرن ومكناسة وَغَيرهم خلقا كثيرا حَتَّى امْتَلَأت أسواق الْمَدِينَة وشوارعها بالقتلى وَقتل مِنْهُم بِجَامِع الْقرَوِيين وجامع الأندلس مَا يزِيد على ثَلَاثَة آلَاف وفر من بَقِي مِنْهُم إِلَى أحواز تلمسان وَهَذَا هُوَ الْفَتْح الثَّانِي لمدينة فاس وَكَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَفِي هَذَا الْخَبَر بعض مُخَالفَة لما قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار مغراوة وَذَلِكَ نَقَلْنَاهُ عَن ابْن خلدون وَهَذَا عَن ابْن أبي زرع {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا} فَلَمَّا دخل يُوسُف بن تاشفين مَدِينَة فاس أَمر بهدم الأسوار الَّتِي كَانَت فاصلة بَين المدينتين عدوة الْقرَوِيين وعدوة الأندلس وصيرهما مصرا وَاحِدًا وحصنهما وَأمر ببنيان الْمَسَاجِد فِي شوارعها وأزقتها وَأي زقاق لم يجد فِيهِ مَسْجِدا عاقب أَهله وَأمر بِبِنَاء الحمامات والفنادق والأرحاء وَأصْلح بناءها ورتب أسواقها وَأقَام بهَا إِلَى صفر من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ خرج إِلَى بِلَاد ملوية فَفتح حصون وطاط وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ بعْدهَا استدعى يُوسُف أُمَرَاء الْمغرب وأشياخ الْقَبَائِل من زناتة وغمارة والمصامدة وَسَائِر قبائل البربر فقدموا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وكساهم ووصلهم بالأموال ثمَّ خرج للطَّواف على أَعمال الْمغرب وتفقد أَحْوَال الرّعية وَالنَّظَر فِي سيرة ولاته وعماله فِيهَا وهم فِي صحبته فصلح على يَده الْكثير من أُمُور النَّاس وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ بعْدهَا غزا يُوسُف مَدِينَة الدمنة من بِلَاد طنجة فَدَخلَهَا عنْوَة وَفتح جبل علودان وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فتح يُوسُف جبال غياثة وَبني مكود وَبني رهينة وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وفيهَا فرق عماله على بِلَاد الْمغرب فولى سير بن أبي بكر على مَدَائِن مكناسة وبلاد مكلاثة وفازاز وَولى عمر بن سُلَيْمَان على فاس وأحوازها وَدَاوُد بن عَائِشَة على سجلماسة ودرعة وَولى ابْنه تَمِيم بن يُوسُف على مَدِينَة مراكش واغمات وبلاد السوس والمصامدة وتادلا وتامسنا وَصفا ملك الْمغرب ليوسف بن تاشفين سوى سبتة وطنجة وَكَانَ من خبرهما مَا نذكرهُ فتح سبتة وطنجة وَمَا ترَتّب عَلَيْهِ من جِهَاد بالأندلس كَانَت سبتة وطنجة لبني حمود الإدريسيين من لدن دولة الأمويين وَلما انقرضت دولتهم وخلفهم بَنو حمود المذكورون بهَا استنابوا على سبتة وطنجة من وثقوا بِهِ من مواليهم الصقالبة وَلم يزل أَمر المدينتين إِلَى نظر هَؤُلَاءِ النواب وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن اسْتَقل بهما الْحَاجِب سكُوت البرغواطي وَكَانَ عبدا لشيخ حداد من موَالِي الحموديين اشْتَرَاهُ من سبي برغواطة فِي بعض أَيَّام جهادهم ثمَّ صَار إِلَى عَليّ بن حمود فَأخذت النجابة بضبعيه إِلَى أَن اسْتَقل بِالْأَمر واقتعد كرْسِي عَمَلهم بطنجة وسبتة وأطاعته قبائل غمارة واتصلت أَيَّام ولَايَته إِلَى أَن كَانَت دولة المرابطين وتغلب يُوسُف بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 تاشفين على بِلَاد الْمغرب ونازل بِلَاد غمارة فَدَعَا الْحَاجِب سكُوت إِلَى مظاهرته عَلَيْهِم فهم بألأجلاب مَعَه ومظاهرته على عدوه ثمَّ ثناه عَن ذَلِك ابْنه الفائل الرَّأْي فَلَمَّا فرغ يُوسُف بن تاشفين من أهل الدمنة وانقاد الْمغرب لطاعته صرف عزمه إِلَى الْحَاجِب سكُوت وَكَانَ الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب إشبيلية قد كتب إِلَى يُوسُف بن تاشفين يستدعيه للحوز برسم الْجِهَاد وَنصر الْبِلَاد فَأَجَابَهُ يُوسُف بقوله لَا يمكنني ذَلِك إِلَّا إِذا ملكت طنجة وسبتة فَرَاجعه ابْن عباد يُشِير عَلَيْهِ بِأَن يسير هُوَ إِلَيْهَا بعساكره فِي الْبر فينازلها وَيبْعَث ابْن عباد قطائعه فِي الْبَحْر فينازلوها أَيْضا حَتَّى يتملكها فَأخذ يُوسُف فِي محاولة ذَلِك وَصرف عزمه إِلَيْهِ ثمَّ دخلت سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة فَجهز إِلَيْهَا قائده صَالح بن عمرَان فِي اثْنَي عشر ألف فَارس من المرابطين وَعشْرين ألفا من سَائِر قبائل الْمغرب فَلَمَّا قربوا من طنجة برز إِلَيْهِم الْحَاجِب سكُوت بجموعه وَهُوَ شيخ كَبِير قد ناهز التسعين سنة وَقَالَ وَالله لَا يسمع أهل سبتة طبول اللمتوني وَأَنا حَيّ أبدا فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي منى من أحواز طنجة والتحم الْقِتَال فَقتل سكُوت وفضت جموعه وَسَار المرابطون إِلَى طنجة فَدَخَلُوهَا واستولوا عَلَيْهَا وَلحق ضِيَاء الدولة يحيى بن سكُوت بسبتة فاعتصم بهَا وَكتب الْقَائِد صَالح بن عمرَان بِالْفَتْح إِلَى يُوسُف وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة بعث يُوسُف بن تاشفين قائده مزدلي بن تيلكان اللمتوني لغزو تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط فَسَار إِلَيْهَا فِي عشْرين ألفا من المرابطين وَكَانَ بتلمسان يَوْمئِذٍ الْعَبَّاس بن بخْتِي من ولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 يعلى بن مُحَمَّد بن الْخَيْر بن مُحَمَّد بن خزر المغراوي فَدَخَلُوا الْمغرب الْأَوْسَط وتقروا بِلَاد زناتة وظفروا بيعلى ابْن الْأَمِير الْعَبَّاس بن بختى فَقَتَلُوهُ وانكفؤوا رَاجِعين إِلَى يُوسُف بن تاشفين فألفوه بمراكش ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين فِيهَا غير يُوسُف بن تاشفين السِّكَّة فِي جَمِيع عمله وَكتب عَلَيْهَا اسْمه وفيهَا فتح مَدِينَة آكرسيف ومدينة مليلية وَجَمِيع بِلَاد الرِّيف وَفتح مَدِينَة نكور وخربها فَلم تعمر بعد ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا زحف يُوسُف بن تاشفين إِلَى مَدِينَة وَجدّة فَفَتحهَا وَفتح بِلَاد بني يزناسن وَمَا والاها ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَفَتحهَا واستلحم من كَانَ بهَا من مغراوة وَقتل أميرها الْعَبَّاس بن بخْتِي المغراوي وَأنزل بهَا عَامله مُحَمَّد بن تينغمر المسوفي فِي عَسَاكِر المرابطين فَصَارَت ثغرا لمملكته واختط بهَا مَدِينَة تاكرارت بمَكَان محلته وَهُوَ اسْم الْمحلة بِلِسَان البربر ثمَّ افْتتح مَدِينَة تنس ووهران وجبل وانشريس وَجَمِيع أَعمال شلف إِلَى الجزائر وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب فَدخل مراكش فِي ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ ورد عَلَيْهِ بهَا كتاب الْمُعْتَمد بن عباد يُعلمهُ بِحَال بِلَاد الأندلس وَمَا آل إِلَيْهِ أمرهَا من تغلب الْعَدو على أَكثر ثغورها ويسأله النَّصْر والإعانة فَأَجَابَهُ يُوسُف بقوله إِذا فتح الله على سبتة اتَّصَلت بكم وبذلت جهدي فِي جِهَاد الْعَدو وَكَانَ الفنش قد تحرّك فِي هَذِه السّنة فِي جيوش لَا تحصى من الإفرنج والبشكنس والجلالقة وَغَيرهم فشق بِلَاد الأندلس شقا يقف على كل مَدِينَة مِنْهَا فَيفْسد وَيخرب وَيقتل وَيَسْبِي ثمَّ يرتحل إِلَى غَيرهَا وَنزل على إشبيلية فَأَقَامَ عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام فأفسد وَخرب وَكَذَلِكَ فعل فِي شدونة وأحوازها وَخرب بشرق الأندلس قرى كَثِيرَة ثمَّ صَار حَتَّى وصل جَزِيرَة طريف فَأدْخل قَوَائِم فرسه فِي الْبَحْر وَقَالَ هَذَا آخر بِلَاد الأندلس قد وطئته ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة سرقسطة فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها وَحلف أَن لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 يرتحل عَنْهَا حَتَّى يدخلهَا أَو يحول الْمَوْت دونهَا وَأَرَادَ أَن يقدمهَا بِالْفَتْح على غَيرهَا فبذل إِلَيْهِ أميرها المستعين بن هود مَالا عَظِيما فَلم يقبله مِنْهُ وَقَالَ المَال والبلاد لي وَبعث إِلَى كل قَاعِدَة من قَوَاعِد الأندلس جَيْشًا لحصارها والتضييق عَلَيْهَا ثمَّ ملك مَدِينَة طليطلة من يَد صَاحبهَا الْقَادِر بن ذِي النُّون سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب المحركة لعزائم الْمُسلمين بالأندلس وَالْمغْرب على الْجِهَاد الْخَبَر عَن الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالزلاقة من أَرض الأندلس لما انقرضت دولة بني أُميَّة بالأندلس صدر الْمِائَة الْخَامِسَة بعد نزاع بَين أعياصها شَدِيد وقتال مِنْهُم عريض مديد وخلفتها الدولة الحمودية فَلم يطلّ أمدها حَتَّى اقتسمت رُؤَسَاء الأندلس مملكتها وتوزعوا أَعمالهَا وَصَارَت الْحَال إِلَى مَا قَالَ ابْن الْخَطِيب (حَتَّى إِذا سلك الْخلَافَة انْتَشَر ... وَذهب الْعين جَمِيعًا والأثر) (قَامَ بِكُل بقْعَة مليك ... وَصَاح فَوق كل غُصْن ديك) فَوجدَ الْعَدو السَّبِيل إِلَى الِاسْتِيلَاء على ثغور الْمُسلمين وانتهاز الفرصة فِيهَا بالتضريب بَين مُلُوكهَا وإغراء بَعضهم بعض وَكَانَ مِنْهُم ابْن عباد بإشبيلية وَابْن الْأَفْطَس ببطليوس وَابْن ذِي النُّون بطليطلة وَابْن هود بسرقسطة وَمُجاهد العامري بدانية وَغير هَؤُلَاءِ وَكلهمْ يُدَارِي الطاغية ويتقيه بالجزية إِلَى أَن كَانَ من أَمر الأذفونش مَا كَانَ من تخريب بِلَاد الْمُسلمين واستيلائه على طليطلة بعد حصاره إِيَّاهَا سبع سِنِين ثمَّ حصاره سرقسطة فَلَمَّا رأى رُؤَسَاء الأندلس مَا نزل بهم من مضايقة عَدو الدّين واستطالته على ثغور الْمُسلمين أجمع رَأْيهمْ على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين فكاتبه أهل الأندلس كَافَّة من الْخَاصَّة وَالْعُلَمَاء يستصرخونه فِي تَنْفِيس الْعَدو عَن مخنقهم ويكونوا مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فَلَمَّا تَوَاتَرَتْ رسلهم وكتبهم عَلَيْهِ بعث ابْنه الْمعز بن يُوسُف فِي عَسَاكِر المرابطين إِلَى سبتة فَرْضه الْمجَاز فنازلها برا وأحاطت بهَا أساطيل ابْن عباد بحرا فاقتحموها عنْوَة فِي ربيع الآخر سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَقبض على صَاحبهَا ضِيَاء الدولة يحيى بن سكُوت البرغواطي وَجِيء بِهِ إِلَى الْمعز أَسِيرًا فَقتله صبرا وَبعث بِكِتَاب الْفَتْح إِلَى أَبِيه وَهُوَ بفاس ينظر فِي أَمر الْجِهَاد ويستعد لَهُ ففرح يُوسُف بِفَتْح سبتة وَخرج من حِينه قَاصِدا نَحْوهَا ليعبر مِنْهَا إِلَى الأندلس وَلما سمع الْمُعْتَمد ابْن عباد بِفَتْح سبتة ركب الْبَحْر إِلَى الْمغرب لاستنفار يُوسُف إِلَى الْجِهَاد فَلَقِيَهُ مُقبلا بِبِلَاد طنجة بِموضع يعرف ببليطة على ثَلَاث مراحل من سبتة وَقَالَ ابْن خلدون لقِيه بفاس فَأخْبرهُ بِحَال الأندلس وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الضعْف وَشدَّة الْخَوْف وَالِاضْطِرَاب وَمَا يلقاه الْمُسلمُونَ من عدوهم من الْقَتْل والأسر والحصار كل يَوْم فَقَالَ لَهُ يُوسُف ارْجع إِلَى بلادك وَخذ فِي أَمرك فَإِنِّي على أثرك فَرجع ابْن عباد إِلَى الأندلس وَنزل ليوسف عَن الجزيرة الخضراء لتَكون رِبَاطًا لجهاده وَدخل يُوسُف سبتة فَنظر فِي أمرهَا وَأصْلح سفنها وقدمت عَلَيْهِ بهَا جنود الله من الْمغرب والصحراء والقبلة والزاب فشرع فِي إجازتها إِلَى الأندلس وَلما تكاملت بساحل الخضراء عبر هُوَ فِي أَثَرهَا فِي موكب عَظِيم من قواد المرابطين وأنجادهم وصلحائهم فَلَمَّا اسْتَوَى على ظهر السَّفِينَة رفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن فِي جوازنا هَذَا صلاحا للْمُسلمين فسهل علينا هَذَا الْبَحْر حَتَّى نعبره وَإِن كَانَ غير ذَلِك فصعبه حَتَّى لَا نعبره فسهل الله عَلَيْهِم العبور فِي أسْرع وَقت وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس عِنْد الزَّوَال منتصف ربيع الأول سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَنزل بالخضراء فصلى بهَا الظّهْر من يَوْمه ذَلِك ولقيه الْمُعْتَمد ابْن عباد صَاحب إشبيلية وَابْن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس وَغَيرهمَا من مُلُوك الأندلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 واتصل الْخَبَر بالأذفونش وَهُوَ محاصر لسرقسطة فارتحل عَنْهَا وَقصد نَحْو أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَى ابْن ردمير والبرهانس وَغَيرهمَا من كبار النَّصْرَانِيَّة واستنفر أهل قشتالة وجليقية وَسَائِر المجاورين لَهُ من أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم مَا يفوت الْحصْر وصمد إِلَى ابْن تاشفين وَالْمُسْلِمين هَكَذَا وَقع مساق هَذِه الْغَزْوَة عِنْد ابْن خلدون وَابْن أبي زرع وَغَيرهمَا وساقها ابْن الْأَثِير وَابْن خلكان وَابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي مساقا غير هَذَا ولنذكر بعض مَا نقلوه من ذَلِك فَنَقُول لما ملك يُوسُف بن تاشفين الْمغرب وَبنى مراكش وتلمسان الجديدة وأطاعته البربر مَعَ شكيمتها الشَّدِيدَة وتمهدت لَهُ الأقطار العريضة المديدة تاقت نَفسه إِلَى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وَأخذ فِي إنْشَاء السفن والمراكب ليعبر فِيهَا فَلَمَّا علم بذلك مُلُوك الأندلس كَرهُوا إلمامه بجزيرتهم وَأَعدُّوا لَهُ الْعدة وَالْعدَد إِلَّا أَنهم استهولوا جمعه واستصعبوا مدافعته وكرهوا أَن يصبحوا بَين عدوين الفرنج عَن شمالهم والملثمين عَن جنُوبهم وَكَانَت الفرنج قد اشتدت وطأتها عَلَيْهِم فَتغير وتنهب وَرُبمَا يَقع بَينهم صلح على شَيْء مَعْلُوم كل سنة يأخذونه من الْمُسلمين والفرنج مَعَ ذَلِك ترهب جَانب ملك الْمغرب يُوسُف بن تاشفين إِذْ كَانَ لَهُ اسْم كَبِير وصيت عَظِيم لنفاذ أمره وَنَقله دولة زناتة وَملك الْمغرب إِلَيْهِ فِي أسْرع وَقت مَعَ مَا ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة فِي المعارك من ضربات السيوف الَّتِي تقد الْفَارِس والطعنات الَّتِي تنظم الكلى فَكَانَ لَهُم بذلك ناموس ورعب فِي قُلُوب المنتدبين لقتالهم وَكَانَ مُلُوك الأندلس يفيئون إِلَى ظلم يُوسُف ويحذرونه خوفًا على ملكهم مهما عبر إِلَيْهِم وعاين بِلَادهمْ فَلَمَّا رَأَوْا عزيمته متوفرة على العبور راسل بَعضهم بَعْضًا يستنجدون آراءهم فِي أمره وَكَانَ فزعهم فِي ذَلِك إِلَى الْمُعْتَمد ابْن عباد لِأَنَّهُ أَشْجَع الْقَوْم وأكبرهم مملكة فَوَقع اتِّفَاقهم على مُكَاتبَته وَقد تحققوا أَنه يقصدهم يسألونه الْإِعْرَاض عَنْهُم وَأَنَّهُمْ تَحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 طَاعَته فَكتب عَنْهُم كَاتب من أهل الأندلس يَقُول أما بعد فَإنَّك إِن أَعرَضت عَنَّا نسبت إِلَى كرم وَلم تنْسب إِلَى عجز وَإِن أجبنا داعيك نسبنا إِلَى عقل وَلم تنْسب إِلَى وَهن وَقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنَفسك أكْرم نسبتيك فَإنَّك بِالْمحل الَّذِي لَا يجوز أَن نسبق فِيهِ إِلَى مكرمَة وَإِن فِي أستبقائك ذَوي الْبيُوت مَا شِئْت من دوَام لأمرك وَثُبُوت وَالسَّلَام فوصله الْكتاب مَعَ تحف وهدايا وَكَانَ يُوسُف لَا يعرف اللِّسَان الْعَرَبِيّ لكنه كَانَ ذكي الطَّبْع يجيد فهم الْمَقَاصِد وَكَانَ لَهُ كَاتب يعرف اللغتين الْعَرَبيَّة والمرابطية فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك هَذَا الْكتاب من مُلُوك الأندلس يعظمونك فِيهِ ويعرفونك أَنهم أهل دعوتك وَتَحْت طَاعَتك ويلتمسون مِنْك أَن لَا تجعلهم فِي منزلَة الأعادي فَإِنَّهُم مُسلمُونَ وهم من ذَوي البيوتات فَلَا تغير بهم وكف بهم من ورائهم من الْأَعْدَاء الْكفَّار وبلدهم ضيق لَا يحْتَمل العساكر فَأَعْرض عَنْهُم إعراضك عَمَّن أطاعك من أهل الْمغرب فَقَالَ يُوسُف بن تاشفين لكَاتبه فَمَا ترى أَنْت فَقَالَ أَيهَا الْملك أعلم أَن تَاج الْملك وبهجته وَشَاهده الَّذِي لَا يرد بِأَنَّهُ خليق بِمَا حصل فِي يَده من الْملك أَن يعْفُو إِذا استعفى وَأَن يهب إِذا استوهب وَكلما وهب جزيلا كَانَ أعظم لقدره فَإِذا عظم قدره تأصل ملكه وَإِذا تأصل ملكة تشرف النَّاس بِطَاعَتِهِ وَإِذا كَانَت طَاعَته شرفا جَاءَهُ النَّاس وَلم يتجشم الْمَشَقَّة إِلَيْهِم وَكَانَ وَارِث الْملك من غير إهلاك لآخرته وَاعْلَم أَن بعض الْمُلُوك الأكابر والحكماء البصراء بطرِيق تَحْصِيل الْملك قَالَ من جاد سَاد وَمن سَاد قاد وَمن قاد ملك الْبِلَاد فَلَمَّا ألْقى الْكَاتِب هَذَا الْكَلَام على السُّلْطَان يُوسُف فهمه وَعلم صِحَّته فَقَالَ لِلْكَاتِبِ أجب الْقَوْم واكتب بِمَا يجب فِي ذَلِك واقرأ عَليّ كتابك فَكتب الْكَاتِب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من يُوسُف بن تاشفين سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته تَحِيَّة من سالمكم وَسلم إِلَيْكُم وَحكمه التأييد والنصر فِيمَن حكم عَلَيْكُم وَإِنَّكُمْ مِمَّا بِأَيْدِيكُمْ من الْملك فِي أوسع إِبَاحَة مخصوصون منا بأكرم إِيثَار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا آخاءنا بإصلاح آخائكم وَالله ولي التَّوْفِيق لنا لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَالسَّلَام فَلَمَّا فرغ من كِتَابه قَرَأَ على يُوسُف بن تاشفين بِلِسَانِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقرن بِهِ مَا يصلح لَهُم من التحف ودرق اللمط مِمَّا لَا يكون إِلَّا فِي بِلَاده وأنفذ ذَلِك إِلَيْهِم فَلَمَّا وصلهم ذَلِك وقرؤوا كِتَابه فرحوا بِهِ وعظموه واعتزوا بولايته وتقوت نُفُوسهم على دفع الفرنج وأزمعوا إِن رَأَوْا من الفرنج مَا يريبهم أَن يجيزوا إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين ويكونوا من أعوانه عَلَيْهِ فتأتى ليوسف بن تاشفين بِرَأْي وزيره مَا أَرَادَ من محبَّة أهل الأندلس لَهُ وَكَفاهُ حربهم وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي الْكَامِل كَانَ الْمُعْتَمد ابْن عباد أعظم مُلُوك الأندلس وممتلكا لأكبر بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وَكَانَ مَعَ ذَلِك يُؤَدِّي الضريبة إِلَى الأذفونش كل سنة فَلَمَّا تملك الأذفونش طليطلة أرسل إِلَيْهِ الْمُعْتَمد الضريبة على عَادَته فَردهَا عَلَيْهِ وَلم يقبلهَا مِنْهُ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ يتهدده ويتوعده بِالْمَسِيرِ إِلَى قرطبة وتملكها من يَده إِلَّا أَن يسلم إِلَيْهِ جَمِيع الْحُصُون الَّتِي فِي الْجَبَل ويبقي السهل للْمُسلمين وَكَانَ الرَّسُول فِي جمع كثير نَحْو خَمْسمِائَة فَارس فأنزله الْمُعْتَمد وَفرق أَصْحَابه على قواد عسكره ثمَّ أَمر القواد أَن يقتل كل مِنْهُم من عِنْده وأحضر الرَّسُول فصفعه حَتَّى برزت عَيناهُ وَسلم من الْجَمَاعَة ثَلَاثَة نفر فعادوا إِلَى الأذفونش وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر وَكَانَ مُتَوَجها إِلَى قرطبة ليحاصرها فَلَمَّا بلغه هَذَا الْخَبَر رَجَعَ إِلَى طليطلة ليجمع آلَات الْحصار ويستعد اسْتِعْدَادًا غير الَّذِي سبق وَعَاد الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَأقَام بهَا وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع يدافع عَنْهَا وَقَالَ ابْن عبد الْمُنعم الْحِمْيَرِي فِي كِتَابه الرَّوْض المعطار مَا ملخصه إِن الْمُعْتَمد ابْن عباد أخر فِي سنة من السنين الضريبة الَّتِي كَانَ يَدْفَعهَا للأذفونش عَن وَقتهَا ثمَّ أرسلها إِلَيْهِ بعد فَغَضب الأذفونش واشتط وَطلب بعض الْحُصُون زِيَادَة على الضريبة وأمعن فِي التجني حَتَّى طلب أَن تَأتي زَوجته إِلَى الْجَامِع الْأَعْظَم بقرطبة فتلد فِيهِ إِذْ كَانَت حَامِلا وَكَانَ بالجانب الغربي من الْمَسْجِد الْمَذْكُور مَوضِع كَنِيسَة قديمَة بنى الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا الْمَسْجِد فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء والقسيسون أَن تكون زَوجته سَاكِنة قرب وِلَادَتهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 بِمَدِينَة الزهراء الَّتِي بناها عبد الرَّحْمَن النَّاصِر لدين الله وأبدع فِي تشييدها وتنجيدها وتتردد الْمَرْأَة مَعَ ذَلِك إِلَى الْجَامِع الْمَذْكُور حَتَّى تكون وِلَادَتهَا بَين طيب نسيم الزهراء وفضيلة مَوضِع الْكَنِيسَة وَكَانَ الرَّسُول فِي ذَلِك يَهُودِيّا وَكَانَ وزيرا للأذفونش فَامْتنعَ ابْن عباد من ذَلِك فَرَاجعه الْيَهُودِيّ وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل ولسعه بِكَلِمَة آسفته فَأخذ ابْن عباد محبرة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَضرب بهَا رَأس الْيَهُودِيّ فَأنْزل دماغه فِي حلقه وَأمر بِهِ فصلب منكوسا بقرطبة وَلما سكن غَضَبه استفتى الْفُقَهَاء عَن حكم مَا فعله باليهودي فبادره الْفَقِيه مُحَمَّد بن الطلاع بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِك لتعدي الرَّسُول حُدُود الرسَالَة إِلَى مَا اسْتوْجبَ بِهِ الْقَتْل إِذْ لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَقَالَ للفقهاء إِنَّمَا بادرت بالفتوى خوفًا أَن يكسل الرجل عَمَّا عزم عَلَيْهِ من منابذة الْعَدو وَعَسَى الله أَن يَجْعَل فِي عزيمته للْمُسلمين خيرا وَبلغ الأذفونش مَا صنعه ابْن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية وليحاصرنه فِي قصره ثمَّ زحف فِي عسكرين أَحدهمَا عَلَيْهِ وَالْآخر على بعض قواده حَتَّى نزل على ضفة النَّهر الْأَعْظَم بإشبيلية قبالة قصر ابْن عباد وَفِي أَيَّام مقَامه هُنَالك كتب إِلَى ابْن عباد زاريا عَلَيْهِ كثر بطول مقَامي فِي مجلسي هَذَا عَليّ الذُّبَاب وَاشْتَدَّ الْحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بهَا على نَفسِي وَأطْرد بهَا الذُّبَاب عَن وَجْهي فَوَقع لَهُ ابْن عباد بِخَط يَده فِي ظهر الرقعة قَرَأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لَك فِي مراوح من جُلُود اللمط تروح مِنْك لَا عَلَيْك إِن شَاءَ الله فَلَمَّا وصلت رِسَالَة ابْن عباد الأذفونش وقرئت عَلَيْهِ وَفهم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخْطر لَهُ ذَلِك ببال وَفَشَا فِي الأندلس توقيع ابْن عباد وَمَا أظهر من الْعَزِيمَة على إجَازَة يُوسُف بن تاشفين والاستظهار بِهِ على الْعَدو فَاسْتَبْشَرَ النَّاس وفرحوا بذلك وانفتحت لَهُم أَبْوَاب الآمال وَأما مُلُوك طوائف الأندلس فَلَمَّا تحققوا عزم ابْن عباد وانفراده بِرَأْيهِ فِي ذَلِك اهتموا مِنْهُ فَمنهمْ من كَاتبه وَمِنْهُم من شافهه وَحَذرُوهُ عَاقِبَة ذَلِك وَقَالُوا لَهُ الْملك الْعَقِيم والسيفان لَا يَجْتَمِعَانِ فِي غمد فأجابهم ابْن عباد بكلمته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الَّتِي صَارَت مثلا رعي الْجمال خير من رعي الْخَنَازِير وَمَعْنَاهُ أَن كَونه مَأْكُولا ليوسف بن تاشفين أَسِيرًا يرْعَى جماله فِي الصَّحرَاء خير من كَونه ممزقا للأذفونش أَسِيرًا لَهُ يرْعَى خنازيره وَقَالَ لمن لامه يَا قوم إِنِّي من أَمْرِي على حالتين حَالَة يَقِين وَحَالَة شكّ وَلَا بُد لي من إِحْدَاهمَا أما حَالَة الشَّك فَإِنِّي استندت إِلَى ابْن تاشفين أَو إِلَى الأذفونش فَفِي الْمُمكن أَن يَفِي لي وَيبقى على وفائه وَيُمكن أَن لَا يفعل فَهَذِهِ حَالَة شكّ وَأما حَالَة الْيَقِين فَإِنِّي إِن استندت إِلَى ابْن تاشفين فَإِنِّي أرضي الله وَإِن استندت إِلَى الأذفونش أسخطت الله فَإِذا كَانَت حَالَة الشَّك فيهمَا عارضة فلأي شَيْء أدع مَا يُرْضِي الله وَآتِي مَا يسخطه فَحِينَئِذٍ أقصر أَصْحَابه عَن لومه وَلما عزم ابْن عباد على رَأْيه أَمر صَاحب بطليوس المتَوَكل على الله عمر بن الْأَفْطَس وَصَاحب غرناطة عبد الله بن حبوس الصنهاجي أَن يبْعَث إِلَيْهِ كل مِنْهُمَا قَاضِي حَضرته ففعلا واستحضر قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم وَكَانَ أَعقل أهل زَمَانه فَلَمَّا اجْتمع عِنْد ابْن عباد الْقُضَاة بإشبيلية أضَاف إِلَيْهِم وزيره أَبَا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أَنهم رسله إِلَى يُوسُف بن تاشفين وَأسْندَ إِلَى الْقُضَاة مَا يَلِيق بهم من وعظ يُوسُف وترغيبه فِي الْجِهَاد وَأسْندَ إِلَى الْوَزير مَا لَا بُد مِنْهُ من إبرام الْعُقُود السُّلْطَانِيَّة وَكَانَ يُوسُف بن تاشفين لَا تزَال تفد عَلَيْهِ وُفُود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بِاللَّه وَالْإِسْلَام مستنجدين بفقهاء حَضرته ووزراء دولته فَيسمع إِلَيْهِم ويصغي لقَولهم وترق نَفسه لَهُم وَلما انْتَهَت الرُّسُل إِلَى ابْن تاشفين أقبل عَلَيْهِم وَأكْرم مثواهم وَجَرت بَينه وَبينهمْ مراوضات ثمَّ انصرفوا إِلَى مرسلهم ثمَّ عبر يُوسُف الْبَحْر عبورا سهلا حَتَّى أَتَى الجزيرة الخضراء فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا بِمَا عِنْدهم من الأقوات والضيافات وَأَقَامُوا لَهُ سوقا جلبوا إِلَيْهِ مَا عِنْدهم من سَائِر الْمرَافِق وأذنوا للغزاة فِي دُخُول الْبَلَد وَالتَّصَرُّف فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فامتلأت الْمَسَاجِد والرحاب بالمطوعة وَتَوَاصَوْا بهم خيرا هَذَا مساق صَاحب الرَّوْض المعطار وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما رَجَعَ الْمُعْتَمد ابْن عباد إِلَى إشبيلية وَترك قرطبة بِدُونِ مدافع وَسمع مشايخها بِمَا جرى من قتل ابْن عباد لِلْيَهُودِيِّ وَرَأَوا قُوَّة الفرنج وَضعف الْمُسلمين واستعانة بعض مُلُوكهمْ بالفرنج على بعض اجْتَمعُوا وَقَالُوا هَذِه بِلَاد الأندلس قد غلب عَلَيْهَا الفرنج وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل وَإِن استمرت الْأَحْوَال على مَا نرى عَادَتْ نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت وَسَارُوا إِلَى القَاضِي أبي بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أدهم فَقَالُوا لَهُ أَلا تنظر إِلَى مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الصغار والذلة وإعطائهم الْجِزْيَة بعد أَن كَانُوا يأخذونها وَقد رَأينَا رَأيا نعرضه عَلَيْك قَالَ مَا هُوَ قَالُوا نكتب إِلَى عرب إفريقية ونشترط لَهُم إِذا وصلوا إِلَيْنَا قاسمناهم أَمْوَالنَا وَخَرجْنَا مَعَهم مجاهدين فِي سَبِيل الله وَقَالَ أَخَاف إِذا وصلوا إِلَيْنَا أَن يخربوا بِلَادنَا كَمَا فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدؤوا بِنَا والمرابطون أصلح مِنْهُم واقرب إِلَيْنَا قَالُوا لَهُ فكاتب يُوسُف بن تاشفين وراغب إِلَيْهِ فِي العبور إِلَيْنَا أَو يُرْسل بعض قواده وبينما هم يتفاوضون إِذْ قدم عَلَيْهِم ابْن عباد وهم فِي ذَلِك فَعرض عَلَيْهِ القَاضِي ابْن أدهم مَا كَانُوا فِيهِ فَقَالَ لَهُ ابْن عباد أَنْت رَسُولي إِلَيْهِ فِي ذَلِك فَامْتنعَ القَاضِي وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يبرىء نَفسه من تُهْمَة تلْحقهُ فألح عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فَعبر القَاضِي الْبَحْر إِلَى أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فأبلغه الرسَالَة وأعلمه مَا فِيهِ الْمُسلمُونَ من الْخَوْف من الأذفونش وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة سبتة فَفِي الْحَال أَمر بعبور العساكر إِلَى الأندلس وَأرْسل إِلَى مراكش فِي طلب من بَقِي من عساكره فَأَقْبَلت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا فَلَمَّا تكاملت عِنْده عبر الْبَحْر وَسَار فَاجْتمع بالمعتمد ابْن عباد بإشبيلية وَكَانَ الْمُعْتَمد قد جمع عساكره أَيْضا وَخرج من أهل قرطبة عَسْكَر كَبِير وقصده المطوعة من سَائِر بِلَاد الأندلس ووصلت الْأَخْبَار إِلَى الأذفونش فَجمع عساكره وحشد جُنُوده وَسَار من طليطلة وَكتب إِلَى أَمِير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين كتابا كتبه لَهُ بعض غواة أدباء الْمُسلمين يغلظ لَهُ فِي القَوْل ويصف مَا مَعَه من الْقُوَّة وَالْعدَد وَبَالغ فِي ذَلِك فَلَمَّا وصل وقرأه يُوسُف أَمر كَاتبه أَبَا بكر بن القصيرة أَن يجِيبه وَكَانَ كَاتبا مفلقا فَكتب وأجاد فَلَمَّا قَرَأَهُ على أَمِير الْمُسلمين قَالَ هَذَا كتاب طَوِيل وأحضر كتاب الأذفونش وَكتب على ظَهره الَّذِي يكون ستراه وأرسله إِلَيْهِ فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ الأذفونش ارتاع لَهُ وَعلم أَنه بلي بِرَجُل لَهُ دهاء وعزم وَذكر ابْن خلكان أَن يُوسُف بن تاشفين أَمر بعبور الْجمال فَعبر مِنْهَا مَا أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إِلَى عنان السَّمَاء وَلم يكن أهل الجزيرة رَأَوْا جملا قطّ وَلَا خيلهم رأتها قطّ فَصَارَت الْخَيل تجمح من رُؤْيَة الْجمال ورغائها وَكَانَ ليوسف فِي عبورها رَأْي مُصِيب فَكَانَ يحدق بهَا عسكره ويحضرها الْحَرْب فَكَانَت خيل الفرنج تجمح مِنْهَا وَقدم يُوسُف بن تاشفين بن يَدَيْهِ كتابا للأذفونش يعرض عَلَيْهِ فِيهِ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب كَمَا هِيَ السّنة وَمن جملَة مَا فِي الْكتاب بلغنَا يَا أذفونش أَنَّك دَعَوْت الله فِي الإجتماع بِنَا وتمنيت أَن تكون لَك سفن تعبر عَلَيْهَا الْبَحْر إِلَيْنَا فقد عبرناه إِلَيْك وَقد جمع الله تَعَالَى فِي هَذِه الْعَرَصَة بَيْننَا وَبَيْنك وسترى عَاقِبَة دعائك وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال فَلَمَّا سمع الأذفونش مَا كتب إِلَيْهِ يُوسُف جاش بَحر غيظه وَزَاد فِي طغيانه واقسم أَن لَا يبرح من مَوْضِعه حَتَّى يلقاه ولنرجع إِلَى كَلَام صَاحب الرَّوْض والمعطار قَالَ رَحمَه الله فَلَمَّا عبر يُوسُف وَجَمِيع جيوشه الْبَحْر إِلَى الخضراء نَهَضَ إِلَى إشبيلية على أحسن الهيئات جَيْشًا بعد جَيش وأميرا بعد أَمِير وقبيلا بعد قبيل وَبعث الْمُعْتَمد ابْنه إِلَى لِقَاء يُوسُف وَأمر عُمَّال الْبِلَاد بجلب الأقوات والضيافات وَرَأى يُوسُف مَا سره من ذَلِك ونشطه وتواردت الجيوش مَعَ أمرائها على إشبيلية وَخرج الْمُعْتَمد إِلَى لِقَاء يُوسُف من إشبيلية فِي مائَة فَارس من وُجُوه أَصْحَابه فَلَمَّا أَتَى محلّة يُوسُف ركض نحوهم وركضوا نَحوه ثمَّ برز إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 يُوسُف وَحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وَأظْهر كل مِنْهُمَا لصَاحبه الْمَوَدَّة والخلوص وشكرا نعم الله وتواصيا بِالصبرِ وَالرَّحْمَة وبشرا أَنفسهمَا بِمَا استقبلاه من غَزْو أهل الْكفْر وتضرعا إِلَى الله فِي أَن يَجْعَل ذَلِك خَالِصا لوجهه مقربا إِلَيْهِ وافترقا فَعَاد يُوسُف لمحلته وَابْن عباد إِلَى جِهَته وَألْحق ابْن عباد مَا كَانَ أعده من هَدَايَا وتحف وضيافات أوسع بهَا على محلّة يُوسُف بن تاشفين وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا أَصْبحُوا وصلوا الصُّبْح ركب الْجَمِيع وَأَشَارَ ابْن عباد على يُوسُف بالتقدم نَحْو إشبيلية فَفعل وَرَأى النَّاس من عزة سلطانهم مَا سرهم وَلم يبْق من مُلُوك الطوائف بالأندلس إِلَّا من بَادر أَو أعَان وَكَذَلِكَ فعل الصحراويون مَعَ يُوسُف أهل كل صقع من أصقاعه رابطوا وكابدوا وَكَانَ الأذفونش لما رأى اجْتِمَاع العزائم على مناجزته علم أَنه عَام نطاح فاستنفر الفرنجة لِلْخُرُوجِ وَرفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ فَاجْتمع لَهُ من الجلالقة والإفرنج مَا لَا يُحْصى عدده وجواسيس كل فريق تَتَرَدَّد من الْجَمِيع وَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد إِن صَاحبكُم يُوسُف قد تعنى بالمجيء من بِلَاده وخوض الْبَحْر وَأَنا أكفيه العناء فِيمَا بَقِي وَلَا أكلفكم تعبا أمضي إِلَيْكُم وألقاكم فِي بِلَادكُمْ رفقا بكم وتوفيرا عَلَيْكُم وَقَالَ لخاصته وَأهل مشورته إِنِّي رَأَيْت أَنِّي إِن أمكنتهم من الدُّخُول إِلَى بلادي فناجزوني فِيهَا وَبَين جدرها وَرُبمَا كَانَت الدائرة عَليّ يستحكمون الْبِلَاد ويحصدون من فِيهَا غَدَاة وَاحِدَة وَلَكِنِّي أجعَل يومهم معي فِي حوز بِلَادهمْ فَإِن كَانَت عَليّ اكتفوا بِمَا نالوه وَلم يجْعَلُوا الدروب وَرَاءَهُمْ إِلَّا بعد أهبة أُخْرَى فَيكون فِي ذَلِك صون لبلادي وجبر لمكاسري وَإِن كَانَت الدائرة عَلَيْهِم كَانَ مني فيهم وَفِي بِلَادهمْ مَا خفت أَن يكون فِي وَفِي بلادي إِذا ناجزوني فِي وَسطهَا ثمَّ برز بالمختار من جُنُوده وأنجاد جموعه على بَاب دربه وَترك بَقِيَّة جموعه خَلفه وَقَالَ حِين نظر إِلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْهُم بهؤلاء أقَاتل الْجِنّ وَالْإِنْس وملائكة السَّمَاء فالمقلل يَقُول المختارون أَرْبَعُونَ ألف دارع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَلكُل وَاحِد أَتبَاع وَأما النَّصَارَى فيعجبون مِمَّن يزْعم ذَلِك ويرون أَنهم أَكثر من ذَلِك كُله وَاتفقَ الْكل أَن عدد الْمُسلمين كَانَ أقل من عدد الْكفَّار وَرَأى الأذفونش فِي نَومه كَأَنَّهُ رَاكب فيلا وَبَين يَدَيْهِ طبل صَغِير وَهُوَ ينقر فِيهِ فَقص رُؤْيَاهُ على القسيسين فَلم يعرفوا تَأْوِيلهَا فأحضر رجلا مُسلما عَالما بتفسير الرُّؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَيْهِ فاستعفاه من تعبيرها فَلم يعفه فَقَالَ تَأْوِيل هَذِه الرُّؤْيَا من كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} إِلَى آخر السُّورَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير على الْكَافرين غير يسير} وَذَلِكَ يَقْتَضِي هَلَاك هَذَا الْجَيْش الَّذِي تجمعه فَلَمَّا اجْتمع جَيْشه وَرَأى كثرته أعجبه فأحضر ذَلِك الْمعبر وَقَالَ لَهُ بِهَذَا الْجَيْش ألْقى إِلَه مُحَمَّد صَاحب كتابكُمْ فَانْصَرف الْمعبر وَقَالَ لبَعض الْمُسلمين هَذَا الْملك هَالك وكل من مَعَه وَذكر الحَدِيث ثَلَاث مهلكات وَفِيه وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ ثمَّ خرج الأذفونش إِلَى بِلَاد الأندلس وَتقدم السُّلْطَان يُوسُف نَحوه أَيْضا وَتَأَخر ابْن عباد لبَعض مهماته ثمَّ انزعج يقفو أَثَره بِجَيْش فِيهِ حماة الثغور ورؤساء الأندلس وَجعل ابْنه عبد الله على مقدمته وَسَار وَهُوَ ينشد متفائلا بِبَيْت سَائِر مجيزا لَهُ بِأَبْيَات من شعره (لَا بُد من فرج قريب ... يَأْتِيك بالعجب العجيب) (غَزْو عَلَيْك مبارك ... سيعود بِالْفَتْح الْقَرِيب) (لله سعدك إِنَّه ... نكس على دين الصَّلِيب) (لَا بُد من يَوْم يكون ... لَهُ أَخا يَوْم القليب) ووافت الجيوش كلهَا بطليوس فأناخوا بظاهرها وَخرج إِلَيْهِم صَاحبهَا المتَوَكل عمر بن مُحَمَّد بن الْأَفْطَس فَلَقِيَهُمْ بِمَا يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود ثمَّ جَاءَهُم الْخَبَر بشخوص الأذفونش إِلَيْهِم وَقَالَ ابْن أبي زرع ارتحل يُوسُف بن تاشفين من الخضراء قَاصِدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 نَحْو الأذفونش وَقدم بَين يَدَيْهِ قائده أَبَا سُلَيْمَان دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال فِي عشرَة آلَاف فَارس من المرابطين بعد أَن قدم أَمَامه الْمُعْتَمد ابْن عباد مَعَ أُمَرَاء الأندلس وجيوشهم مِنْهُم ابْن صمادح صَاحب المرية وَابْن حبوس صَاحب غرناطة وَابْن مسلمة صَاحب الثغر الْأَعْلَى وَابْن ذِي النُّون وَابْن الْأَفْطَس وَغَيرهم فَأَمرهمْ يُوسُف أَن يَكُونُوا مَعَ الْمُعْتَمد فَتكون محلّة مُلُوك الأندلس وَاحِدَة ومحلة المرابطين أُخْرَى فَتقدم بهم ابْن عباد فَكَانُوا إِذا ارتحل ابْن عباد من مَوضِع نزله يُوسُف بمحلته فَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى نزلُوا مَدِينَة طرطوشة فأقاموا بهَا ثَلَاثًا وَكتب مِنْهَا يُوسُف إِلَى الأذفونش يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام أَو الْجِزْيَة أَو الْحَرْب وَكَانَ جَوَاب الأذفونش مَا تقدم ثمَّ ارتحل يُوسُف وارتحل الأذفونش حَتَّى نزلا مَعًا بِالْقربِ من بطليوس وَكَانَ نزُول يُوسُف بِموضع يعرف بالزلاقة وَتقدم الْمُعْتَمد فَنزل نَاحيَة أُخْرَى تحجز بَينه وَبَين يُوسُف ربوة وَبَين الْمُسلمين والفرنج نهر بطليوس حاجزا يشرب مِنْهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فأقاموا ثَلَاثَة أَيَّام وَالرسل تخْتَلف بَينهم إِلَى أَن وَقع اللِّقَاء على مَا نذكرهُ وَلما ازدلف بَعضهم إِلَى بعض أذكى الْمُعْتَمد عيونه فِي محلات الصحراويين خوفًا عَلَيْهِم من مكايد الأذفونش إِذْ هم غرباء لَا علم لَهُم بالبلاد وَجعل يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ حَتَّى قيل إِن الرجل من الصحراويين كَانَ لَا يخرج إِلَى طرف الْمحلة لقَضَاء أَمر أَو حَاجَة إِلَّا ويجد ابْن عباد بِنَفسِهِ مطيفا بالمحلة بعد تَرْتِيب الْخَيل وَالرِّجَال على أَبْوَاب المحلات ثمَّ قَامَت الأساقفة والرهبان وَرفعُوا صلبانهم ونشروا أَنَاجِيلهمْ وتبايعوا على الْمَوْت وَوعظ يُوسُف وَابْن عباد أصحابهما وَقَامَ الْفُقَهَاء والصالحون فِي النَّاس مقَام الْوَعْظ وحضوهم على الصَّبْر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار وَجَاءَت الطَّلَائِع تخبر أَن الْعَدو مشرف عَلَيْهِم صَبِيحَة يومهم وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء فَأصْبح الْمُسلمُونَ وَقد أخدوا مَصَافهمْ فكع الأذفونش وَرجع إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 أَعمال الْمَكْر والخديعة فَعَاد النَّاس إِلَى محلاتهم وَبَاتُوا ليلتهم ثمَّ أصبح يَوْم الْخَمِيس فَبعث الأذفونش إِلَى ابْن عباد يَقُول غَدا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ عيدكم والأحد عيدنا فَلْيَكُن لقاؤنا بَينهمَا وَهُوَ يَوْم السبت فَعرف الْمُعْتَمد بذلك السُّلْطَان يُوسُف وأعلمه أَنَّهَا حِيلَة مِنْهُ وخديعة وَإِنَّمَا قَصده الفتك بِنَا يَوْم الْجُمُعَة فَلْيَكُن النَّاس على استعداد لَهُ يَوْم الْجُمُعَة كل النَّهَار وَيُقَال إِن الأذفونش واعدهم ليَوْم الْإِثْنَيْنِ وَبَات النَّاس ليلتهم على أهبة واحتراس كَمَا أَشَارَ ابْن عباد وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل انتبه الْفَقِيه الناسك أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن رميلة الْقُرْطُبِيّ وَكَانَ فِي مَحَله ابْن عباد فَرحا مَسْرُورا يَقُول إِنَّه رآى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة فِي النّوم فبشره بِالْفَتْح وَالْمَوْت على الشَّهَادَة فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة فتأهب ودعا وتضرع ودهن رَأسه وتطيب وانْتهى ذَلِك إِلَى ابْن عباد فَبعث إِلَى يُوسُف يُخبرهُ بهَا تَحْقِيقا لما توقعه من غدر الْعَدو الْكَافِر ثمَّ جَاءَ بِاللَّيْلِ فارسان من طلائع الْمُعْتَمد يخبران أَنَّهُمَا أشرفا على محلّة الأذفونش وسمعا ضوضاء الْجَيْش وخشخشة السِّلَاح ثمَّ تلاحق بَقِيَّة الطَّلَائِع محققين لتحرك الأذفونش ثمَّ جَاءَت الجواسيس من دَاخل محلتهم تَقول استرقنا السّمع فسمعنا الأذفونش يَقُول لأَصْحَابه ابْن عباد مسعر هَذِه الحروب وَهَؤُلَاء الصحراويون وَإِن كَانُوا أهل حفاظ وَذَوي بصائر فِي الْحَرْب فهم غير عارفين بِهَذِهِ الْبِلَاد وَإِنَّمَا قادهم ابْن عباد فاهجموا عَلَيْهِ واصبروا لَهُ فَإِن انْكَشَفَ لكم هان عَلَيْكُم الصحراويون بعده وَلَا أرَاهُ يصبر لكم إِن صدقتموه الحملة فَعِنْدَ ذَلِك بعث ابْن عباد الْكَاتِب أَبَا بكر بن القصيرة إِلَى السُّلْطَان يُوسُف يعرفهُ بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فَمضى ابْن القصيرة يطوي المحلات حَتَّى جَاءَ يُوسُف بن تاشفين فَعرفهُ بجلية الْأَمر فَقَالَ لَهُ قل لَهُ إِنِّي سَائِر إِلَيْك إِن شَاءَ الله وَأمر يُوسُف بعض قواده أَن يمْضِي بكتيبة رسمها لَهُ حَتَّى يدْخل محلّة النَّصَارَى فيضرمها نَارا مَا دَامَ الأذفونش مشتغلا مَعَ ابْن عباد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَانْصَرف ابْن القصيرة إِلَى الْمُعْتَمد فَلم يصله إِلَّا وَقد غَشيته جنود الطاغية فصدم ابْن عباد صدمة قطعت آماله وَمَال الأذفونش عَلَيْهِ بجموعه وَأَحَاطُوا بِهِ من كل جِهَة فهاجت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس واستحر الْقَتْل فِي أَصْحَاب ابْن عباد وصبر صبرا لم يعْهَد مثله واستبطأ السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ يُلَاحظ طَرِيقه وعضته الْحَرْب وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه الْبلَاء وَسَاءَتْ الظنون وانكشف الْبَعْض مِنْهُم وَفِيهِمْ ابْنه عبد الله بن الْمُعْتَمد وأثخن هُوَ جراحات فِي رَأسه وبدنه وعقرت تَحْتَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم ثَلَاث أَفْرَاس كلما هلك وَاحِد قدم لَهُ آخر وتذكر فِي تِلْكَ الْحَالة ابْنا لَهُ صَغِيرا يكنى أَبَا هَاشم وَكَانَ قد تَركه بإشبيلية عليلا فَقَالَ (أَبَا هَاشم هشمتني الشفار ... فَللَّه صبري لذَلِك الأوار) (ذكرت شخيصك تَحت العجاج ... فَلم يثنني ذكره للفرار) ثمَّ كَانَ أول من وافى ابْن عباد من قواد يُوسُف بن تاشفين دَاوُد بن عَائِشَة وَكَانَ بطلا شهما فَنَفْس بمجيئه على ابْن عباد ثمَّ أقبل يُوسُف بعد ذَلِك وطبوله قد مَلَأت أصواتها الجو فَلَمَّا أبصره الأذفونش وَجه حَملته إِلَيْهِ وقصده بمعظم جُنُوده فبادر إِلَيْهِم السُّلْطَان يُوسُف وصدمهم صدمة ردتهم إِلَى مركزهم وانتظم بِهِ شَمل ابْن عباد واستنشق النَّاس ريح الظفر وتباشروا بالنصر ثمَّ صدقُوا جَمِيعًا الحملة فزلزلت الأَرْض من حوافر الْخَيل وأظلم النَّهَار بالعجاج وخاضت الْخَيل فِي الدِّمَاء وصبر الْفَرِيقَانِ صبرا عَظِيما ثمَّ تراجع ابْن عباد إِلَى يُوسُف وَحمل مَعَه حَملَة مَعهَا النَّصْر وتراجع المنهزمون من أَصْحَاب ابْن عباد حِين علمُوا بالتحام الفئتين وَصَدقُوا الحملة فانكشف الطاغية وَمر هَارِبا مُنْهَزِمًا وَقد طعن فِي إِحْدَى رُكْبَتَيْهِ طعنة بَقِي يخمع بهَا بَقِيَّة عمره قَالُوا وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين على فرس يَوْمئِذٍ أُنْثَى يمر بَين ساقات الْمُسلمين وصفوفهم يحرضهم وَيُقَوِّي نُفُوسهم على الْجِهَاد ويحضهم على الصَّبْر فقاتل النَّاس ذَلِك الْيَوْم قتال من يطْلب الشَّهَادَة ويرغب فِي الْمَوْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وعَلى سِيَاق ابْن خلكان إِن ابْن تاشفين نزل على أقل من فَرسَخ من عَسْكَر الْعَدو فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء وَكَانَ الْموعد بالمناجزة يَوْم السبت فغدر الأذفونش ومكر فَلَمَّا كَانَ سحر يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب أَقبلت طلائع ابْن عباد وَالروم فِي أَثَرهَا وَالنَّاس على طمأنينة فبادر ابْن عباد للرُّكُوب وانبث الْخَبَر فِي العساكر فماجت بِأَهْلِهَا ورجفت الأَرْض وَصَارَت النَّاس فوضى على غير تعبئة وَلَا أهبة ودهمتهم خيل الْعَدو فغمرت ابْن عباد وحطمت مَا تعرض لَهَا وَتركت الأَرْض حصيدا خلفهَا وصرع ابْن عباد وأصابه جرح اشواه وفر رُؤَسَاء الأندلس وَأَسْلمُوا محلاتهم وظنوا أَنه وَهِي لَا يرقع ونازلة لَا تدفع وَظن الأذفونش أَن أَمِير الْمُسلمين فِي المنهزمين وَلم يعلم أَن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين فَتقدم أَمِير الْمُسلمين وَأَحْدَقَتْ بِهِ أنجاد خيله وَرِجَاله من صنهاجة ورؤساء الْقَبَائِل وقصدوا محلّة الأذفونش فاقتحموها وَقتلُوا حاميتها وَضربت الطبول وزعقت البوقات الأَرْض وتجاوبت الْجبَال والآفاق وتراجع الرّوم إِلَى محلتهم بعد أَن علمُوا أَن أَمِير الْمُسلمين فِيهَا فقصدوه فأفرج لَهُم عَنْهَا ثمَّ كرّ عَلَيْهِم فَأخْرجهُمْ مِنْهَا ثمَّ كروا عَلَيْهِ فأفرج لَهُم عَنْهَا وَلم تزل الكرات بَينهم تتوالى إِلَى أَن أَمر أَمِير الْمُسلمين حشمه السودَان فترجل مِنْهُم زهاء أَرْبَعَة آلَاف ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الْهِنْد ومزاريق الزان فخالطوا الْخَيل وطعنوها فرمحت بفرسانها وأحجمت عَن أقرانها وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فَأَهوى ليضربه بِالسَّيْفِ فلصق بِهِ الْأسود وَقبض على عنانه وانتضى خنجرا كَانَ متمنطقا بِهِ فأثبته فِي فَخذه فهتك حلق درعه وَشك فَخذه مَعَ بداد سَرْجه وَكَانَ وَقت الزَّوَال يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وهبت ريح النَّصْر فَأنْزل الله سكينته على الْمُسلمين وَنصر دينه القويم وَصَدقُوا الحملة على الأذفونش وَأَصْحَابه فأخرجوهم عَن محلتهم فَوَلوا ظُهُورهمْ وأعطوا أقفاءهم وَالسُّيُوف تصفعهم والرماح تطعنهم إِلَى أَن لَحِقُوا بِرَبْوَةٍ لجؤوا إِلَيْهَا واعتصموا بهَا وَأَحْدَقَتْ بهم الْخَيل فَلَمَّا أظلم اللَّيْل انساب الأذفونش وَأَصْحَابه من الربوة وأفلتوا من بعد مَا نشبت فيهم أظفار الْمنية وَاسْتولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ فِي محلتهم من الأثاث والآنية وَالْمُضَارب والأسلحة وَغير ذَلِك وَأمر ابْن عباد بِضَم رُؤُوس قَتْلَى الْمُشْركين فأجتمع من ذَلِك تل عَظِيم وَقَالَ صَاحب الرَّوْض المعطار لَجأ الأذفوش إِلَى تل كَانَ يَلِي محلته فِي نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مَا مِنْهُم إِلَّا مكلوم وأباد الْقَتْل والأسر من عداهم من أَصْحَابه وَعمل الْمُسلمُونَ من رؤوسهم مآذن يُؤذنُونَ عَلَيْهَا والمخذول ينظر إِلَى مَوضِع الوقيعة وَمَكَان الْهَزِيمَة فَلَا يرى إِلَّا نكالا محيطا بِهِ وبأصحابه وَأَقْبل ابْن عباد على السُّلْطَان يُوسُف وَصَافحهُ وهنأه وشكره وَأثْنى عَلَيْهِ وشكر يُوسُف صَبر ابْن عباد ومقامه وَحسن بلائه وَسَأَلَهُ عَن حَاله عِنْدَمَا أسملته رِجَاله بانهزامهم عَنهُ فَقَالَ لَهُ هَا هم هَؤُلَاءِ قد حَضَرُوا بَين يَديك فليخبروك وَكتب ابْن عباد إِلَى ابْنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هَذَا إِلَيْك من الْمحلة المنصورة يَوْم الْجُمُعَة منتصف رَجَب وَقد أعز الله الدّين وَنصر الْمُسلمين وَفتح لَهُم الْفَتْح الْمُبين وَهزمَ الْكَفَرَة الْمُشْركين وأذاقهم الْعَذَاب الْأَلِيم والخطب الجسيم فَالْحَمْد لله على مَا يسره وسناه من هَذِه المسرة الْعَظِيمَة وَالنعْمَة الجسيمة فِي تشتيت شَمل الأذفونش والإحتواء على جَمِيع عساكره أصلاه الله نكال الْجَحِيم وَلَا أعدمه الوبال الْعَظِيم بعد إتْيَان النهب على محلاته واستئصال الْقَتْل بِجَمِيعِ أبطاله وحماته حَتَّى اتخذ الْمُسلمُونَ من هاماتهم صوامع يُؤذنُونَ عَلَيْهَا فَللَّه الْحَمد على جميل صنعه وَلم يُصِبْنِي وَالْحَمْد لله إِلَّا جراحات يسيرَة آلمت لَكِنَّهَا قرحت بعد ذَلِك فَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَالسَّلَام وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء مثل ابْن رميلة صَاحب الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة وقاضي مراكش أبي مَرْوَان عبد الْملك المصمودي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَحكي أَن مَوضِع المعترك كَانَ على اتساعه مَا فِيهِ مَوضِع قدم إِلَّا على ميت أَو دم وأقامت العساكر بالموضع أَرْبَعَة أَيَّام حَتَّى جمعت الْغَنَائِم واستؤذن فِي ذَلِك السُّلْطَان يُوسُف فعف عَنْهَا وآثر بهَا مُلُوك الأندلس وعرفهم أَن مَقْصُوده الْجِهَاد وَالْأَجْر الْعَظِيم وَمَا عِنْد الله فِي ذَلِك من الثَّوَاب الْمُقِيم فَلَمَّا رَأَتْ مُلُوك الأندلس إِيثَار يُوسُف لَهُم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا لَهُ صنعه وَأمر أَمِير الْمُسلمين بِقطع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجَمعهَا فَقطعت وَجمع بَين يَدَيْهِ مِنْهَا أَمْثَال الْجبَال فَبعث مِنْهَا إِلَى إشبيلية عشرَة آلَاف رَأس وَإِلَى قرطبة مثل ذَلِك وَإِلَى بلنسية مثلهَا وَإِلَى سرقسطة ومرسية مثلهَا وَبعث إِلَى بِلَاد العدوة أَرْبَعِينَ ألف رَأس فقسمت على مدن العدوة ليراها النَّاس فيشكروا الله على مَا منحهم من النَّصْر وَالظفر الْعَظِيم قَالَ ابْن أبي زرع وَفِي هَذَا الْيَوْم تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وَلم يكن يدعى بِهِ قبل ذَلِك وَأظْهر الله تَعَالَى الْإِسْلَام وأعز أَهله وَكتب أَمِير الْمُسلمين بِالْفَتْح إِلَى بِلَاد العدوة وَإِلَى تَمِيم بن الْمعز الصنهاجي صَاحب إفريقية فعمت المفرحات فِي جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس وَاجْتمعت كلمة الْإِسْلَام وَأخرج النَّاس الصَّدقَات وأعتقوا الرّقاب شكرا لله تَعَالَى وَلما بلغ الأذفونش إِلَى بِلَاده وَسَأَلَ عَن أَصْحَابه وأبطاله ففقدهم وَلم يسمع إِلَّا نواح الثكالى عَلَيْهِم اغتم وَلم يَأْكُل وَلم يشرب حَتَّى هلك أسفا وغما وَرَاح إِلَى أمه الهاوية وَلم يخلف إِلَّا بِنْتا وَاحِدَة جعل الْأَمر إِلَيْهَا فتحصنت بطليطلة ورحل الْمُعْتَمد إِلَى إشبيلية وَمَعَهُ السُّلْطَان يُوسُف بن تاشفين فَأَقَامَ يُوسُف بِظَاهِر إشبيلية ثَلَاثَة أَيَّام وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بوفاة وَلَده ابي بكر بن يُوسُف وَكَانَ قد تَركه مَرِيضا بسبتة فَاغْتَمَّ لذَلِك وَانْصَرف رَاجعا إِلَى العدوة وَذهب مَعَه ابْن عباد يَوْمًا وَلَيْلَة فعزم عَلَيْهِ يُوسُف فِي الرُّجُوع إِلَى منزله وَكَانَت جراحاته قد تورمت عَلَيْهِ فسير مَعَه وَلَده عبد الله إِلَى أَن وصل الْبَحْر وَعبر إِلَى الْمغرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين عِنْد مَجِيئه إِلَى بِلَاد الأندلس وقصده ملاقاة الأذفونش قد تحرى الْمسير بالعراء من غير أَن يمر بِمَدِينَة أَو رستاق حَتَّى نزل الزلاقة تجاه الأذفونش وَهُنَاكَ اجْتمع بعساكر الأندلس قَالَه ابْن خلكان وَلما فرغ من الْوَقْعَة رَجَعَ عوده على بدئه كل ذَلِك تورع مِنْهُ وتكرم وَتَخْفِيف عَن الرعايا رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَلما رَجَعَ ابْن عباد إِلَى إشبيلية جلس للنَّاس وهنىء بِالْفَتْح وقرأت الْقُرَّاء وَقَامَت على رَأسه الشُّعَرَاء فأنشدوه قَالَ عبد الْجَلِيل بن وهبون حضرت ذَلِك الْيَوْم وأعددت قصيدة أنشدها بَين يَدَيْهِ فَقَرَأَ قارىء {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} فَقلت بعدا لي ولشعري وَالله مَا أبقت لي هَذِه الْآيَة معنى أحضرهُ وأقوم بِهِ اه وَمن هُنَا اخْتلفت أَقْوَال المؤرخين فِي حَال أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد فَقيل إِنَّه لم يرجع إِلَى بِلَاد الأندلس بعد هَذِه الْمرة لكنه ترك قواده فِيهَا ورسم لَهُم بِالْجِهَادِ وَشن الغارات على بِلَاد الْعَدو وَقيل إِنَّه عَاد إِلَيْهَا ثَانِيًا وثالثا وعَلى هَذَا القَوْل فَاخْتَلَفُوا فِي زمَان ذَلِك الْعود وتاريخه وَالله تَعَالَى أعلم بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين فِي الْجِهَاد وَمَا اتّفق لَهُ مَعَ مُلُوك الأندلس وَكَبِيرهمْ ابْن عباد أعلم أَن أَقْوَال المؤرخين اخْتلفت فِي أَمر يُوسُف بن تاشفين بعد غَزْوَة الزلاقة فَحكى ابْن خلكان وَغَيره أَن أَمِير الْمُسلمين لما عزم على النهوض إِلَى بِلَاد الْمغرب ترك قائده سير بن أبي بكر اللمتوني بِأَرْض الأندلس وَخلف مَعَه جَيْشًا برسم غَزْو الفرنج فاستراح سير بن أبي بكر أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ دخل بِلَاد الأذفونش وَشن الغارات فنهب وَقتل وسبى وَفتح الْحُصُون المنيعة والمعاقل الصعبة وتوغل فِي بِلَاد الْعَدو وَحصل على أَمْوَال جليلة وذخائر عَظِيمَة ورتب رجَالًا وفرسانا فِي جَمِيع مَا استولى عَلَيْهِ وَأرْسل إِلَى السُّلْطَان يُوسُف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 بِجَمِيعِ مَا حصله وَكتب إِلَيْهِ يعرفهُ أَن الجيوش بالثغور مُقِيمَة على مكابدة الْعَدو وملازمة الْحَرْب والقتال فِي أضيق عَيْش وأنكده وملوك الأندلس فِي بِلَادهمْ وأهليهم فِي أرغد عَيْش وأطيبه وَسَأَلَهُ مرسومه فَكتب إِلَيْهِ أَن يَأْمُرهُم بالنقلة والرحيل إِلَى أَرض العدوة فَمن فعل فَذَاك وَمن أَبى فحاصره وقاتله وَلَا تنفس عَلَيْهِ ولتبدأ بِمن والى الثغور مِنْهُم وَلَا تتعرض لِابْنِ عباد إِلَّا بعد استيلائك على الْبِلَاد وكل بلد أَخَذته فول عَلَيْهِ أَمِيرا من عسكرك فامتثل سير بن أبي بكر أمره واستنزلهم وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى كَانَ آخِرهم ابْن عباد فألحقه بهم ونظمه فِي سلكهم على مَا نذكرهُ وَقَالَ ابْن أبي زرع لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي برسم الْجِهَاد قَالَ وَسبب جَوَازه أَن الأذفونش لَعنه الله لما هزم وجرح وَقتلت جموعه عمد إِلَى حصن لبيط الموَالِي لعمل ابْن عباد فشحنه بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال وَالرُّمَاة وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا ينزلون من الْحصن الْمَذْكُور فيغيرون فِي أَطْرَاف بِلَاد ابْن عباد دون سَائِر بِلَاد الأندلس إِذْ كَانَ السَّبَب فِي جَوَاز أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس فَكَانُوا ينزلون من الْحصن فِي الْخَيل وَالرجل فيغيرون وَيقْتلُونَ وَيَأْسِرُونَ قد جعلُوا ذَلِك وَظِيفَة عَلَيْهِم فِي كل يَوْم فسَاء ابْن عباد ذَلِك وضاق بِهِ ذرعا ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى العدوة مستنفرا لأمير الْمُسلمين فَلَقِيَهُ بالمعمورة من حلق وَادي سبو وَهَذِه المعمورة هِيَ الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالمهدية من أحواز سلا فَشَكا إِلَيْهِ حصن لبيط وَمن يلقاه الْمُسلمُونَ من أَهله فوعده الْجَوَاز إِلَيْهِ فَرجع الْمُعْتَمد وَسَار يُوسُف فِي أَثَره فَركب الْبَحْر من قصر الْمجَاز إِلَى الخضراء فَتَلقاهُ ابْن عباد بهَا بِأَلف دَابَّة تحمل الْميرَة والضيافة فَلَمَّا نزل يُوسُف بالخضراء كتب مِنْهَا إِلَى أُمَرَاء الأندلس يَدعُوهُم إِلَى الْجِهَاد وَقَالَ لَهُم الْموعد بَيْننَا وَبَيْنكُم حصن لبيط ثمَّ تحرّك يُوسُف من الخضراء وَذَلِكَ فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل على حصن لبيط وَفِي الْقَامُوس لبطيط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 كزنبيل بلد بالجزيرة الخضراء الأندلسية وَلَعَلَّه هُوَ هَذَا فَلَمَّا نزله أَمِير الْمُسلمين لم يَأْته مِمَّن كتب إِلَيْهِ من أُمَرَاء الأندلس غير ابْن عبد الْعَزِيز صَاحب مرسية وَابْن عباد صَاحب إشبيلية فنازلا مَعَه الْحصن وشرعوا فِي الْقِتَال والتضييق عَلَيْهِ وَكَانَ يُوسُف رَحمَه الله يَشن الغارات على بِلَاد الفرنج كل يَوْم ودام الْحصار على الْحصن أَرْبَعَة أشهر لم يَنْقَطِع الْقِتَال فِيهَا يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى أَن دخل فصل الشتَاء وَوَقع بَين ابْن عبد الْعَزِيز وَابْن عباد نزاع وَشَنَآن فَشَكا الْمُعْتَمد إِلَى أَمِير الْمُسلمين ابْن عبد الْعَزِيز فَقبض عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وأسلمه إِلَى ابْن عباد فاختل أَمر الْمحلة بِسَبَب ذَلِك وفر جَيش ابْن عبد الْعَزِيز وقواده عَنْهَا وَقَطعُوا الْميرَة عَن الْمحلة وَوَقع بهَا الغلاء وَلما علم الأذفونش بذلك حشد أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَقصد إِلَى حماية الْحصن فِي أُمَم لَا تحصى فَلَمَّا قرب من الْحصن انحرف لَهُ يُوسُف عَنهُ إِلَى نَاحيَة لورقة ثمَّ إِلَى المرية ثمَّ جَازَ إِلَى العدوة وَقد تغير على أُمَرَاء الأندلس لكَونه لم يَأْته مِنْهُم أحد عِنْدَمَا دعاهم إِلَى الْجِهَاد ومنازلة الْحصن وَلما أفرج أَمِير الْمُسلمين عَن الْحصن الْمَذْكُور أقبل الأذفونش حَتَّى نزل عَلَيْهِ فأخلاه مِمَّا كَانَ فِيهِ من آلَة الْحصار ومادته وَأخرج من كَانَ فِيهِ من بَقِيَّة النَّصَارَى المنفلتين من مخالب الْمنية وَعَاد إِلَى طليطلة فاستولى ابْن عباد عَلَيْهِ بعد خلائه وفناء جَمِيع حماته بِالْقَتْلِ والجوع سوى تِلْكَ الصبابة المنفلتة وَكَانَ فِيهِ عِنْدَمَا نازله أَمِير الْمُسلمين اثْنَا عشر ألف مقَاتل دون الْعِيَال والذرية فَأتى عَلَيْهِم الْقَتْل والجوع حَتَّى لم يبْق فِيهِ سوى نَحْو الْمِائَة وهم المنفلتون مِنْهُ عِنْد إخلائه ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة جَازَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّالِث برسم الْجِهَاد فَسَار حَتَّى نزل على طليطلة وحاصر بهَا الأذفونش وَشن الغارات بأطرافها فاكتسحها وانتسف ثمارها وزروعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَخرب عمرانها وَقتل وسبى وَلم يَأْته من مُلُوك الأندلس أحد وَلَا عرج عَلَيْهِ مِنْهُم معرج فَغَاظَهُ ذَلِك وَلما قفل من غَزْو طليطلة عمد إِلَى غرناطة فنازلها وَكَانَ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس قد صَالح الأذفونش وَظَاهره على أَمِير الْمُسلمين وَبعث إِلَيْهِ بِمَال واشتغل بتحصين بَلَده وَفِي ذَلِك يَقُول بعض شعراء عصره (يَبْنِي على نَفسه سفاها ... كَأَنَّهُ دودة الْحَرِير) (دَعوه يَبْنِي فَسَوف يدْرِي ... إِذا أَتَت قدرَة الْقَدِير) وَلما انْتهى أَمِير الْمُسلمين إِلَى غرناطة تحصن مِنْهُ صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأغلق أَبْوَابهَا دونه فحاصره أَمِير الْمُسلمين نَحْو شَهْرَيْن وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار أرسل يطْلب الْأمان فَأَمنهُ أَمِير الْمُسلمين وتسلم مِنْهُ الْبِلَاد فملكها وَبعث بِعَبْد الله وأخيه تَمِيم بن بلكين صَاحب مالقة إِلَى مراكش مَعَ حريمهما وأولادهما فأقاما بهَا وأجرى عَلَيْهِمَا الْإِنْفَاق إِلَى أَن مَاتَا بهَا وَلما خلع أَمِير الْمُسلمين بني باديس وَملك غرناطة ومالقة وَمَا أضيف إِلَيْهِمَا خَافَ مِنْهُ الْمُعْتَمد ابْن عباد وانقبض عَنهُ وَيُقَال إِن ابْن عباد طمع فِي غرناطة وَأَن أَمِير الْمُسلمين يُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَعرض لَهُ بذلك فَأَعْرض عَنهُ أَمِير الْمُسلمين فخاف ابْن عباد مِنْهُ وَعمل على الْخُرُوج عَلَيْهِ ثمَّ سعى بَينهمَا الوشاة فَتغير عَلَيْهِ أَمِير الْمُسلمين وَعبر إِلَى العدوة فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وَلما انْتهى إِلَى مراكش ولى على الأندلس قائده سير بن أبي بكر اللمتوني وفوض إِلَيْهِ جَمِيع أمورها كلهَا وَلم يَأْمُرهُ فِي ابْن عباد بِشَيْء فَسَار سير بن أبي بكر نَحْو إشبيلية وَهُوَ يظنّ أَن ابْن عباد إِذا سمع بِهِ يخرج إِلَيْهِ ويتلقاه على بعد وَيحمل إِلَيْهِ الضيافات على الْعَادة فَلم يفعل وتحصن مِنْهُ وَلم يتلفت إِلَيْهِ فراسله سير بن أبي بكر أَن يسلم إِلَيْهِ الْبِلَاد وَيدخل فِي طَاعَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أَمِير الْمُسلمين فَامْتنعَ ابْن عباد فَعِنْدَ ذَلِك تقدم سير إِلَى حصاره وقتاله وَبعث بعض قواده إِلَى قرطبة ليحاصرها وَبهَا يَوْمئِذٍ الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ابْن عباد فنازلها فِي عَسَاكِر المرابطين حَتَّى فتحهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقتل صَاحبهَا الْمَأْمُون بن الْمُعْتَمد ثمَّ فتح بياسة وأبدة وحصن البلاط والمدور والصخيرة وشقورة وَلم ينْقض شهر صفر الْمَذْكُور حَتَّى لم يبْق لِابْنِ عباد بلد إِلَّا وَقد ملكه المرابطون مَا عدا قرمونة وإشبيلية ثمَّ ارتحل سير بن أبي بكر إِلَى قرمونة فنازلها حَتَّى دَخلهَا عنْوَة زَوَال يَوْم السبت السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَاشْتَدَّ الْأَمر على ابْن عباد وَطَالَ عَلَيْهِ الْحصار فَبعث إِلَى الأذفونش لَعنه الله يستغيث بِهِ على لمتونة ويعده بِإِعْطَاء الْبِلَاد ويذل الطارف والتلاد إِنَّه هُوَ كشف عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ من الْحصار فَبعث إِلَيْهِ الأذفونش قائده القومس فِي جَيش من عشْرين ألف فَارس وَأَرْبَعين ألف راجل فَلَمَّا علم سير بقدوم الفرنج إِلَيْهِ انتخب من جَيْشه عشرَة آلَاف فَارس من أهل الشجَاعَة والنجدة وَقدم عَلَيْهِم إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق اللمتوني وَبَعثه للقاء الفرنج فَالتقى الْجَمْعَانِ بِالْقربِ من حصن المدور فَكَانَت بَينهم حروب شَدِيدَة مَاتَ فِيهَا خلق كثير من المرابطين ومنحهم الله النَّصْر فهزموا الفرنج وقتلوهم حَتَّى لم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل ثمَّ شدّ سير بن أبي بكر فِي الْحصار والتضييق على إشبيلية حَتَّى اقتحمها عنْوَة وَقبض على الْمُعْتَمد وَجَمَاعَة من أهل بَيته فقيدهم وَحَملهمْ فِي السفين بنهر إشبيلية وَبعث بهم إِلَى أَمِير الْمُسلمين بمراكش فَأمر أَمِير الْمُسلمين بإرسال الْمُعْتَمد إِلَى مَدِينَة أغمات فسجن بهَا وَاسْتمرّ فِي السجْن إِلَى أَن مَاتَ بِهِ لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ دُخُول سير بن أبي بكر مَدِينَة إشبيلية يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ثمَّ ملك المرابطون بعد ذَلِك مَا بَقِي من بِلَاد الأندلس إِلَى أَن خلصت لَهُم وَلم يبْق لملوك الطوائف بهَا ذكر وَهَذِه الْأَخْبَار نقلناها عَن ابْن أبي زرع ممزوجة باليسير من كَلَام غَيره واعتمدنا كَلَامه لِأَنَّهُ مَوْضُوع بِالْقَصْدِ الأول لأحبار الْمغرب فَيكون أعنى بِهِ من غَيره وَفِي تَارِيخ ابْن خلدون بعض مُخَالفَة لما مر قَالَ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْبَحْر إِلَى الأندلس الْجَوَاز الثَّانِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتثاقل أُمَرَاء الطوائف عَن لِقَائِه لما أحسوا من نكيره عَلَيْهِم لما يسمون بِهِ رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فَوجدَ عَلَيْهِم وعهد بِرَفْع المكوس وتحرى المعدلة وَقَالَ أَيْضا إِن الْفُقَهَاء بالأندلس طلبُوا من يُوسُف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عَنْهُم فَتقدم بذلك إِلَى مُلُوك الطوائف فَأَجَابُوهُ بالامتثال حَتَّى إِذا رَجَعَ عَن بِلَادهمْ رجعُوا إِلَى حَالهم فَلَمَّا أجَاز ثَانِيَة انقبضوا عَنهُ إِلَّا ابْن عباد فَإِنَّهُ بَادر إِلَى لِقَائِه وأغراه بالكثير مِنْهُم فتقبض على ابْن رَشِيق الْبناء وَأمكن ابْن عباد مِنْهُ للعداوة الَّتِي بَينهمَا وَبعث جَيْشًا إِلَى المرية ففر عَنْهَا صَاحبهَا ابْن صمادح وَنزل بجاية من أَرض إفريقية وتوافق مُلُوك الطوائف على قطع المدد عَن عَسَاكِر أَمِير الْمُسلمين ومحلاته فسَاء نظره وَأَفْتَاهُ الْفُقَهَاء وَأهل الشورى من الْمغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الْأَمر من أَيْديهم وسارت إِلَيْهِ بذلك فَتَاوَى أهل الْمشرق الْأَعْلَام مثل الْغَزالِيّ والطرطوشي وَغَيرهمَا فَعمد إِلَى غرناطة واستنزل صَاحبهَا عبد الله بن بلكين وأخاه تميما عَن مالقة بعد أَن كَانَ مِنْهُمَا مداخلة للطاغية فِي عَدَاوَة يُوسُف بن تاشفين وَبعث بهما إِلَى الْمغرب فخاف ابْن عباد عِنْد ذَلِك مِنْهُ وانقبض عَن لِقَائِه وفشت السعايات بَينهم ونهض أَمِير الْمُسلمين إِلَى سبتة فاستقر بهَا وَعقد للأمير سير بن أبي بكر على الأندلس وَأَجَازَهُ فَانْتهى إِلَيْهَا وَقعد ابْن عباد عَن تلقيه وميرته فأحفظه ذَلِك وطالبه بِالطَّاعَةِ لأمير الْمُسلمين وَالنُّزُول عَن الْأَمر ففسد ذَات بَينهمَا ثمَّ غَلبه على جَمِيع عمله ثمَّ صَمد إِلَى إشبيلية فحاصره بهَا واستنجد الطاغية فَعمد إِلَى استنقاذه من هَذَا الْحصار فَلم يغن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 عَنهُ شَيْئا وَكَانَ دفاع لمتونة مِمَّا فت فِي عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عنْوَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وتقبض سير على الْمُعْتَمد وقاده أَسِيرًا إِلَى مراكش فَلم يزل فِي اعتقال يُوسُف بن تاشفين إِلَى أَن هلك فِي محبسه من أغمات سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ عمد إِلَى بطليوس وتقبض على صَاحبهَا عمر بن الْأَفْطَس فَقتله وابنيه يَوْم الْأَضْحَى سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بِمَا صَحَّ عِنْده من مداخلتهم الطاغية وَأَن يملكهُ مَدِينَة بطليوس ورثاهم ألأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْمجِيد بن عبدون بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يَقُول فِي أَولهَا (الدَّهْر يفجع بعد الْعين بالأثر ... فَمَا الْبكاء على الأشباح والصور) وَهِي قصيدة غَرِيبَة فِي منوالها وموضوعها عدد فِيهَا أهل النكبات وَمن عثر بِهِ الزَّمَان بِمَا يبكي مِنْهُ الجماد وتستشرف لسماعه الأنجاد والوهاد ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الثَّالِث إِلَى الأندلس سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وزحف إِلَيْهِ الطاغية فَبعث أَمِير الْمُسلمين عَسَاكِر المرابطين لنظر مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني فَانْهَزَمَ النَّصَارَى أَمَامه وَكَانَ الظُّهُور للْمُسلمين ثمَّ أجَاز الْأَمِير يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين سنة ثَلَاث وَتِسْعين وانضم إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحَاج وسير بن أبي بكر فافتتحوا عَامَّة الأندلس من أَيدي مُلُوك الطوائف وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا سرقسطة فِي يَد المستعين بن هود معتصما بالنصارى وأغزى الْأَمِير مزدلي صَاحب بلنسية إِلَى بِلَاد برشلونة فأثخن فِيهَا وَبلغ إِلَى حَيْثُ لم يبلغ أحد قبله وَرجع وانتظمت بِلَاد الأندلس فِي ملكة يُوسُف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف مِنْهَا أجمع كَانَ لم يكن وَاسْتولى أَمِير الْمُسلمين على العدوتين مَعًا واتصلت هزائم المرابطين على الفرنج مرَارًا وَالله غَالب على أمره فَهَذَا كَلَام ابْن خلدون فِي سِيَاقه هَذِه الْأَخْبَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وَاعْلَم أَنه قد يُوجد هُنَا لبَعض المؤرخين حط من رُتْبَة أَمِير الْمُسلمين وغض عَلَيْهِ إِمَّا فِي كَونه كَانَ بربريا من أهل الصَّحرَاء بَعيدا عَن مناحي الْملك وَالْأَدب ورقة الْحَاشِيَة وَإِمَّا فِي كَونه تحامل على مُلُوك الأندلس حَتَّى فعل بهم مَا فعل وَذَلِكَ حِين عاين حسن بِلَادهمْ ورفاهية عيشهم وَاعْلَم أَن هَذَا الْكَلَام جدير بِالرَّدِّ وَأَصله من بعض أدباء الأندلس الَّذين كَانُوا ينادمون مُلُوكهَا ويستظلون بظلهم ويغدون وَيَرُوحُونَ فِي نعمتهم فحين فعل أَمِير الْمُسلمين بسادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ مَا فعل أَخذهم من ذَلِك مَا يَأْخُذ النُّفُوس البشرية من الذب عَن الصّديق والمحاماة عَن الْقَرِيب حَتَّى بِاللِّسَانِ وَإِلَّا فقد كَانَ أَمِير الْمُسلمين رَحمَه الله من الدّين والورع على مَا قد علمت وَمن ركُوب الجادة وتحري طَرِيق الْحق على الْوَصْف الَّذِي سَمِعت وَهَذَا ابْن خلدون إِمَام الْفَنّ ومتحري الصدْق قد نقل أَن مُلُوك الأندلس كَانُوا يظْلمُونَ رعاياهم بِضَرْب المكوس وَغَيرهَا ثمَّ وصلوا أَيْديهم بالطاغية وبذلوا لَهُ الْأَمْوَال فِي مظاهرته إيَّاهُم على أَمِير الْمُسلمين ثمَّ لم يقدم على قِتَالهمْ واستنزالهم عَن سَرِير ملكهم حَتَّى تعدّدت لَدَيْهِ فَتَاوَى الْأَئِمَّة الْأَعْلَام من أهل الْمشرق وَالْمغْرب بذلك فَافْهَم هَذَا واعرفه وَالله تَعَالَى يُقَابل الْجَمِيع بِالْعَفو والصفح الْجَمِيل بمنه وَكَرمه بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سوى مَا تقدم قَالَ ابْن خلكان كَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين حازما سائسا للأمور ضابطا لمصَالح مَمْلَكَته مؤثرا لأهل الْعلم وَالدّين كثير المشورة لَهُم قَالَ وَبَلغنِي أَن الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ رَحمَه الله لما سمع مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْأَوْصَاف الحميدة وميله إِلَى أهل الْعلم عزم إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 التَّوَجُّه إِلَيْهِ فوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَشرع فِي تجهيز مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فجَاء إِلَيْهِ الْخَبَر بوفاته فَرجع عَن ذَلِك الْعَزْم قَالَ وَكنت وقفت على هَذَا الْفَصْل فِي بعض الْكتب وَقد ذهب عني فِي هَذَا الْوَقْت من أَيْن وجدته وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف معتدل الْقَامَة أسمر اللَّوْن نحيف الْجِسْم خَفِيف العارضين دَقِيق الصَّوْت وَكَانَ يخْطب لبني الْعَبَّاس وَهُوَ أول من تسمى بأمير الْمُسلمين وَلم يزل على حَاله وعزه وسلطانه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث خلون من الْمحرم سنة خَمْسمِائَة وعاش سبعين سنة ملك مِنْهَا مُدَّة خمسين سنة رَحمَه الله وَقَالَ ابْن خلدون تسمى يُوسُف بن تاشفين بأمير الْمُسلمين وخاطب الْخَلِيفَة لعهده بِبَغْدَاد وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المستظهر بِاللَّه العباسي وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الإشبيلي وَولده القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ الإِمَام الْمَشْهُور فتلطفا فِي القَوْل وأحسنا فِي الإبلاغ وطلبا من الْخَلِيفَة أَن يعْقد لأمير الْمُسلمين بالمغرب والأندلس فعقد لَهُ وتضمن ذَلِك مَكْتُوب من الْخَلِيفَة مَنْقُول فِي أَيدي النَّاس وانقلبا إِلَيْهِ بتقليد الْخَلِيفَة وَعَهده على مَا إِلَى نظره من الأقطار والأقاليم وخاطبه الإِمَام الْغَزالِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر الطرطوشي يحضانه على الْعدْل والتمسك بِالْخَيرِ ثمَّ أجَاز يُوسُف بن تاشفين الْجَوَاز الرَّابِع إِلَى الأندلس سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة اه كَلَام ابْن خلدون وَإِنَّمَا احْتَاجَ أَمِير الْمُسلمين إِلَى التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة المستظهر بِاللَّه مَعَ أَنه كَانَ بَعيدا عَنهُ وَأقوى شوكته مِنْهُ لتَكون ولَايَته مستندة إِلَى الشَّرْع وَهَذَا من ورعه رَحمَه الله وَإِنَّمَا تسمى بأمير الْمُسلمين دون أَمِير الْمُؤمنِينَ أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَتَّى لَا يُشَارِكهُ فِي لقبه لِأَن لقب أَمِير الْمُؤمنِينَ خَاص بالخليفة والخليفة من قُرَيْش كَمَا فِي الحَدِيث فَافْهَم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَمن أَخْبَار يُوسُف بن تاشفين أَيْضا مَا نَقله غير وَاحِد من الْأَئِمَّة أَن أَمِير الْمُسلمين طلب من أهل الْبِلَاد المغربية والأندلسية المعاونة بِشَيْء من المَال على مَا هُوَ بصدده من الْجِهَاد وَأَنه كَاتب إِلَى قَاضِي المرية أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى عرف بِابْن الْبَراء يَأْمُرهُ بِفَرْض مَعُونَة المرية وَيُرْسل بهَا إِلَيْهِ فَامْتنعَ مُحَمَّد بن يحيى من فَرضهَا وَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ بِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ ذَلِك فَأَجَابَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَن الْقُضَاة عِنْدِي وَالْفُقَهَاء قد أباحوا فَرضهَا وَأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قد فَرضهَا فِي زَمَانه فَرَاجعه القَاضِي عَن ذَلِك بِكِتَاب يَقُول فِيهِ الْحَمد لله الَّذِي إِلَيْهِ مآبنا وَعَلِيهِ حسابنا وَبعد فقد بَلغنِي مَا ذكره أَمِير الْمُسلمين من اقْتِضَاء المعونة وتأخري عَن ذَلِك وَإِن أَبَا الْوَلِيد الْبَاجِيّ وَجَمِيع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بالعدوة والأندلس أفتوه بِأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اقتضاها فالقضاة وَالْفُقَهَاء إِلَى النَّار دون زَبَانِيَة فَإِن كَانَ عمر اقتضاها فقد كَانَ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووزيره وضجيعه فِي قَبره وَلَا يشك فِي عدله وَلَيْسَ أَمِير الْمُسلمين بِصَاحِب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بوزيره وَلَا بضجيعه فِي قَبره وَلَا مِمَّن لَا يشك فِي عدله فَإِن كَانَ الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء أنزلوك مَنْزِلَته فِي الْعدْل فَالله تَعَالَى سائلهم وحسيبهم عَن تقلدهم فِيك وَمَا اقتضاها عمر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى دخل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحضر من كَانَ مَعَه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم وَاحِد يُنْفِقهُ عَلَيْهِم فَلْيدْخلْ أَمِير الْمُسلمين الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة من هُنَاكَ من أهل الْعلم وليحلف أَن لَيْسَ عِنْده فِي بَيت مَال الْمُسلمين دِرْهَم يُنْفِقهُ عَلَيْهِم وَحِينَئِذٍ تجب معونته وَالله تَعَالَى على ذَلِك كُله وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته فَلَمَّا بلغ كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُسلمين وعظه الله بقوله وَلم يعد عَلَيْهِ فِي ذَلِك قولا والأعمال بِالنِّيَّاتِ وَكَانَ أَمِير الْمُسلمين حِين ورد عَلَيْهِ التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة ضرب السِّكَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 باسمه وَنقش على الدِّينَار لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَتَحْت ذَلِك أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين وَكتب على الدائرة {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَكتب على الصفحة الْأُخْرَى عبد الله أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ العباسي وعَلى الدائرة تَارِيخ ضربه وَمَوْضِع سكته وَكَانَ ملكه قد انْتهى إِلَى مَدِينَة أفراغه من قاصية شَرق الأندلس وَإِلَى مَدِينَة أشبونة على الْبَحْر الْمُحِيط من بَحر الأندلس وَذَلِكَ مسيرَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا طولا وَفِي الْعرض مَا يقرب من ذَلِك وَملك بعدوة الْمغرب من جزائر بني مذغنة إِلَى طنجة إِلَى آخر السوس الْأَقْصَى إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان وَلم ير فِي بلد من بِلَاده وَلَا عمل من أَعماله على طول أَيَّامه رسم مكس وَلَا خراج لَا فِي حَاضِرَة وَلَا فِي بادية إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ وأوجبه حكم الْكتاب وَالسّنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذِّمَّة وأخماس الْغَنَائِم وَقد جبى فِي ذَلِك من الْأَمْوَال على وَجههَا مَا لم يجِيبه أحد قبله يُقَال إِنَّه وجد فِي بَيت مَاله بعد وَفَاته ثَلَاثَة عشر ألف ربع من الْوَرق وَخَمْسَة آلَاف وَأَرْبَعُونَ ربعا من مطبوع الذَّهَب وَكَانَ رَحمَه الله زاهدا فِي زِينَة الدُّنْيَا وزهرتها ورعا متقشفا لِبَاسه الصُّوف لم يلبس قطّ غَيره ومأكله الشّعير وَلُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا مُقْتَصرا على ذَلِك لم ينْقل عَنهُ مُدَّة عمره على مَا منحه الله من سَعَة الْملك وخوله من نعْمَة الدُّنْيَا وَقد رد أَحْكَام الْبِلَاد إِلَى الْقُضَاة وَأسْقط مَا دون الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَكَانَ يسير فِي أَعماله بِنَفسِهِ فيتفقد أَحْوَال الرّعية فِي كل سنة وَكَانَ محبا للفقهاء وَأهل الْعلم وَالْفضل مكرما لَهُم صادرا عَن رَأْيهمْ يجْرِي عَلَيْهِم أَرْزَاقهم من بَيت المَال وَكَانَ مَعَ ذَلِك حسن الْأَخْلَاق متواضعا كثير الْحيَاء جَامعا لخصال الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُسلمين أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لما توفى أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بَايع النَّاس ابْنه عَليّ بن يُوسُف الْمَذْكُور بمراكش بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ وَتسَمى بأمير الْمُسلمين وَكَانَ سنه يَوْم بُويِعَ ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَملك من الْبِلَاد مَا لم يملكهُ أَبوهُ لِأَنَّهُ صَادف الْبِلَاد سَاكِنة وَالْأَمْوَال وافرة والرعايا آمِنَة بِانْقِطَاع الثوار واجتماع الْكَلِمَة وسلك طَرِيقه أَبِيه فِي جَمِيع أُمُوره واهتدى بهديه خُرُوج يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف بن تاشفين على عَمه أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين لما توفّي أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين سجاه ابْنه عَليّ بن يُوسُف بِثَوْبِهِ وَخرج إِلَى المرابطين وَيَده فِي يَد أَخِيه أبي الطَّاهِر تَمِيم بن يُوسُف فَبَايعهُ ثمَّ قَالَ للمرابطين قومُوا فَبَايعُوا أَمِير الْمُسلمين فَبَايعهُ جَمِيع من حضر من لمتونة وَسَائِر قبائل صنهاجة وَبَايَعَهُ الْفُقَهَاء وأشياخ الْقَبَائِل فتمت لَهُ الْبيعَة بمراكش ثمَّ كتب إِلَى سَائِر بِلَاد الْمغرب والأندلس وبلاد الْقبْلَة يعلمهُمْ بوفاة أَبِيه واستخلافه من بعده وَيَأْمُرهُمْ بالبيعة فَأَتَتْهُ الْبيعَة من جَمِيع الْبِلَاد وَأَقْبَلت نَحوه الْوُفُود للتعزية والتهنئة إِلَّا أهل مَدِينَة فاس فَإِن ابْن أَخِيه يحيى بن أبي بكر بن يُوسُف كَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا من قبل جده يُوسُف فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر بِمَوْت جده وَولَايَة عَمه عظم عَلَيْهِ ذَلِك وأنف من مبايعة عَمه فَخرج عَلَيْهِ وَوَافَقَهُ على ذَلِك جمَاعَة من قواد لمتونة فزحف إِلَيْهِ عَليّ بن يُوسُف من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 مراكش حَتَّى إِذا دنا من فاس خَافَ يحيى بن أبي بكر على نَفسه وَعلم أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِحَرب عَمه فَأسلم فاسا لِعَمِّهِ وَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب فَدَخلَهَا عَليّ بن يُوسُف يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من ربيع الآخر سنة خَمْسمِائَة واستقام لَهُ الْأَمر وَقيل إِن عَليّ بن يُوسُف لما دنا من فاس نزل بِمَدِينَة مغيلة من أحوازها ثمَّ كتب إِلَى ابْن أَخِيه يعاتبه على مَا ارْتَكَبهُ من الْخلاف ويدعوه إِلَى الدُّخُول فِي الطَّاعَة كَمَا دخل النَّاس وَكتب كتابا آخر إِلَى أَشْيَاخ الْبَلَد يَدعُوهُم فِيهِ إِلَى بيعَته ويتوعدهم فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى يحيى وقرأه جمع أهل الْبَلَد واستشارهم فِي الْمُقَاتلَة والحصار فَلم يوافقوه فَلَمَّا يئس مِنْهُم خرج فَارًّا إِلَى مزدلي بن تيلكان وَكَانَ عَاملا على تلمسان فَلَقِيَهُ مزدلي بوادي ملوية مُقبلا برسم الْبيعَة لعَلي بن يُوسُف فَأعلمهُ يحيى بِمَا كَانَ من شَأْنه فضمن لَهُ مزدلي عَن عَمه الْعَفو والصفح فَرجع مَعَه حَتَّى إِذا وصلا إِلَى فاس دخل مزدلي على أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف وَنزل يحيى مستخفيا بحومة وَادي شردوع وَلما اجْتمع مزدلي بأمير الْمُسلمين وَسلم عَلَيْهِ وَرَأى مِنْهُ إِكْرَاما وقبولا أعلمهُ بِخَبَر يحيى وَمَا ضمن لَهُ من الْعَفو فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَعَفا عَنهُ وأمنه ثمَّ جَاءَ يحيى فَبَايعهُ وخيره أَمِير الْمُسلمين بَين أَن يسكن بِجَزِيرَة ميروقة بشرق الأندلس أَو ينْصَرف إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء فَاخْتَارَ الصَّحرَاء فَانْصَرف إِلَيْهَا ثمَّ سَافر مِنْهَا إِلَى الْحجاز فحج الْبَيْت وَرجع إِلَى عَمه فاستأذنه أَن يكون فِي جملَته وَيكون سكناهُ مَعَه بِحَضْرَة مراكش فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فسكنها مُدَّة ثمَّ اتهمه عَمه بالتشغيب عَلَيْهِ فثقفه وَبعث بِهِ إِلَى الجزيرة الخضراء فاستمر بهَا إِلَى أَن مَاتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 أَخْبَار الْوُلَاة بالمغرب والأندلس لما بُويِعَ أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف عزل عَن قرطبة الْأَمِير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْحَاج اللمتوني وَولى مَكَانَهُ الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي زلفى فغزا طليطلة وأوقع بالنصارى فَقَتلهُمْ قتلا ذريعا بِبَاب القنطرة أَخذهم على غرَّة وَفِي سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة عزل أَمِير الْمُسلمين أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف بن تاشفين عَن بِلَاد الْمغرب وَولى مَكَانَهُ أَبَا عبد الله بن الْحَاج فَأَقَامَ واليا على فاس وَسَائِر أَعمال الْمغرب نَحْو سِتَّة أشهر ثمَّ عَزله وولاه بلنسية وأعمالها من بِلَاد شَرق الأندلس وَلما عزل أَمِير الْمُسلمين أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف عَن بِلَاد الْمغرب ولاه غرناطة وأعمالها من بِلَاد الأندلس فَكَانَت لَهُ على النَّصَارَى وقْعَة أفليج وَذَلِكَ أَنه خرج غازيا بِلَاد الفرنج سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة فَنزل حصن أفليج وَبِه جمع عَظِيم من الفرنج فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِم الْحصن فأرز النَّصَارَى إِلَى القصبة فَتَحَصَّنُوا بهَا وانْتهى خبرهم إِلَى الفنش فاستعد لِلْخُرُوجِ لإغاثتهم فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ زَوجته أَن يبْعَث وَلَده عوضا مِنْهُ لِأَن تَمِيم بن يُوسُف ابْن ملك الْمُسلمين وسانجة ابْن ملك النَّصَارَى فامتثل إشارتها وَبعث وَلَده سانجة فِي جَيش كثيف من زعماء الفرنج وأنجادهم فَسَار حَتَّى إِذا دنا من أفليج أخبر تَمِيم بن يُوسُف بمقدمه فعزم على الإفراج عَن الْحصن وَأَن لَا يلقى الفرنج فَأَشَارَ عَلَيْهِ قواد لمتونة مِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد ابْن فَاطِمَة وَمُحَمّد بن عَائِشَة وَغَيرهم بالْمقَام وشجعوه وهونوا عَلَيْهِ أَمرهم فَقَالُوا إِنَّمَا قدمُوا فِي ثَلَاثَة آلَاف فَارس وبيننا وَبينهمْ مَسَافَة فَرجع إِلَى رَأْيهمْ فَلم يكن إِلَّا عشي ذَلِك الْيَوْم حَتَّى وافتهم جيوش الفرنج فِي أُلُوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 كَثِيرَة فهم تَمِيم بالفرار فَلم يجد لَهُ سَبِيلا ثمَّ صمم قواد لمتونة على مناجزة الْعَدو وصمدوا إِلَيْهِ فَكَانَت بَينهم حَرْب عَظِيمَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا فَهزمَ الله تَعَالَى الْعَدو وَنصر الْمُسلمين وَقتل ولد الفنش وَقتل مَعَه من الرّوم ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ألفا ونيف وَدخل الْمُسلمُونَ أفليج بِالسَّيْفِ عنْوَة وَاسْتشْهدَ فِي هَذِه الْوَقْعَة جمَاعَة من الْمُسلمين رَحِمهم الله واتصل الْخَبَر بالفنش فَاغْتَمَّ لقتل وَلَده وَأخذ بَلَده وهلاك جنده فَمَرض وَمَات أسفا لعشرين يَوْمًا من الْوَقْعَة وَكتب تَمِيم بن يُوسُف إِلَى أَمِير الْمُسلمين بِالْفَتْح وَاعْلَم أَنه يُقَال فِي مُلُوك الجلالقة الَّذين نسميهم الْيَوْم الإصبنيول الأذفونش وَيُقَال الفنش فَقَالَ ابْن خلكان الأذفونش بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا نون ثمَّ شين مُعْجمَة هُوَ اسْم لأكبر مُلُوك الإفرنج وَهُوَ صَاحب طليطلة وَقَالَ ابْن خلدون بَنو أذفونش هم ولد أذفونش بن بطرة أول مُلُوك الجلالقة اه وَأما قَوْلهم الفنش فَهُوَ اسْم علم لبَعض مُلُوكهمْ وَلَيْسَ لقبا لجميعهم وَكَانَ مُحَمَّد بن الْحَاج رَحمَه الله مُدَّة مقَامه ببلنسية قد ضيق على النَّصَارَى تضييقا فَاحِشا بالغارات والنهب فَخرج فِي غزَاة لَهُ ذَات مرّة فَأخذ على طَرِيق الْبَريَّة فغنم وسبى وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من قواد لمتونة فَبعث بالمغنم على الطَّرِيق الْكَبِير وَأخذ هُوَ على بَريَّة تقرب من بِلَاد الْمُسلمين وَكَانَ أَكثر النَّاس مَعَ الْمغنم وَكَانَ طَرِيق الْبَريَّة الَّذِي أَخذ عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحَاج لَا يسْلك إِلَّا على سرب وَاحِد لصعوبته وَشدَّة وعورته فَلَمَّا توسطه مُحَمَّد بن الْحَاج وأخذته الأوعار والمضايق من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وجد النَّصَارَى قد كمنوا لَهُ فِي جِهَة من تِلْكَ الْجِهَات فَقَاتلهُمْ قتال من أَيقَن بِالْمَوْتِ واغتنم الشَّهَادَة إِذْ لم يجد منفذا يخلص مِنْهُ فاستشهد رَحمَه الله وَاسْتشْهدَ مَعَه جمَاعَة من المتطوعة وتخلص مِنْهُم الْقَائِد مُحَمَّد بن عَائِشَة فِي نفر يسير بحيلة أعملها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 واتصل خبر الْوَقْعَة بأمير الْمُسلمين فآسفه موت أبي عبد الله بن الْحَاج وَولى مَكَانَهُ أَبَا بكر بن إِبْرَاهِيم بن تافلوت وَهُوَ ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الْحَكِيم الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ وَكَانَ عَاملا على مرسية فوصل إِلَيْهِ الْعَهْد بِالْولَايَةِ على بلنسية وطرطوشة وَمَا والاهما وَهُوَ بمرسية ثمَّ خرج بِجَيْش مرسية الى بلنسية فَاجْتمع إِلَيْهِ من كَانَ بهَا من الْجند ثمَّ زحف بهم إِلَى برشلونة فنازلها وَأقَام عَلَيْهَا عشْرين يَوْمًا فانتسف مَا حولهَا وَقطع ثمارها وَخرب قراها فَأَتَاهُ ابْن رذمير من قرَابَة الأذفونش فِي جيوش كَثِيرَة من حشود بسيط برشلونة وبلاد أربونة فَكَانَت بَينهم حَرْب عَظِيمَة مَاتَ فِيهَا خلق كثير من الفرنج وَاسْتشْهدَ فِيهَا من الْمُسلمين نَحْو السبعمائة رَحِمهم الله تَعَالَى أَخْبَار أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فِي الْجِهَاد وجوازه الأول إِلَى بِلَاد الأندلس لما دخلت سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة جَازَ أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد فَعبر الْبَحْر من سبتة منتصف الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة فِي جيوش عَظِيمَة تزيد على مائَة ألف فَارس فَانْتهى إِلَى قرطبة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ خرج مِنْهَا غازيا إِلَى مَدِينَة طلايوت فَفَتحهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ وَفتح من أَعمال طليطلة سَبْعَة وَعشْرين حصنا وَفتح مجريط ووادي الْحِجَارَة وانْتهى إِلَى طليطلة فحاصرها شهرا وانتسف مَا حولهَا وَبَالغ فِي النكاية ثمَّ قفل إِلَى قرطبة بعد أَن دوخ الْبِلَاد وَفِي سنة أَربع وَخَمْسمِائة فتح الْأَمِير سير بن أبي بكر شنترين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وبطليوس ويابورة وبرتغال وأشبونة وَغير ذَلِك من بِلَاد غرب الأندلس وَكَانَ ذَلِك فِي شهر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتب بِالْفَتْح إِلَى أَمِير الْمُسلمين وَفِي سنة سبع وَخَمْسمِائة توفّي الْأَمِير سير بن أبي بكر بإشبيلية وَدفن بهَا وَولي إشبيلية عوضا مِنْهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن فَاطِمَة فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي سنة عشر وَخَمْسمِائة وَفِي سنة سبع الْمَذْكُورَة غزا الْأَمِير مزدلي طليطلة وأعمالها فدوخها وَفتح حصن أرجنة عنْوَة فَقتل الْمُقَاتلَة وسبى النِّسَاء والذرية واتصل الْخَبَر بالبرهانس كَبِير الفرنج فَأقبل لنصرتهم واستنقاذهم فصمد الْقَائِد مزدلي للقائه ففر أَمَامه لَيْلًا وَعَاد مزدلي إِلَى قرطبة ظافرا غانما ثمَّ كَانَت لَهُ فِي الفرنج وقائع أُخْرَى إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله غازيا بِبِلَاد الفرنج سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة فولى أَمِير الْمُسلمين مَكَانَهُ على قرطبة ابْنه مُحَمَّد بن مزدلي فَأَقَامَ واليا عَلَيْهَا ثَلَاثَة أشهر ثمَّ توفّي شَهِيدا فِي بعض غَزَوَاته أَيْضا اسْتِيلَاء الْعَدو على سرقسطة كَانَت سرقسطة وأعمالها من شَرق الأندلس بيد بني هود الجذاميين تغلبُوا عَلَيْهَا فِي صدر الْمِائَة الْخَامِسَة أَيَّام الطوائف وتوارثوها إِلَى أَن كَانَ مِنْهُم أَحْمد بن يُوسُف الملقب بالمستعين بِاللَّه فزحف إِلَيْهِ ابْن رذمير سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة فَخرج إِلَيْهِ المستعين فَالْتَقوا بِظَاهِر سرقسطة فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَاسْتشْهدَ مِنْهُم جمَاعَة مِنْهُم المستعين بن هود ثمَّ لما كَانَت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَصَاحب سرقسطة يَوْمئِذٍ عبد الْملك بن المستعين بن هود الملقب بعماد الدولة زحف ابْن رذمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 إِلَيْهَا وزحف الفنش أَيْضا فِي أُمَم من النَّصْرَانِيَّة إِلَى لاردة من بِلَاد الْجوف فنازلها واتصل الْخَبَر بأمير الْمُسلمين فَكتب إِلَى أُمَرَاء غرب الأندلس يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ إِلَى أَخِيه تَمِيم بن يُوسُف وَكَانَ يَوْمئِذٍ واليا على شَرق الأندلس فيسيرون مَعَه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة فَقدم على تَمِيم عبد الله بن مزدلي وَأَبُو يحيى بن تاشفين صَاحب قرطبة بعساكرهما فَخرج تَمِيم بن يُوسُف من بلنسية مَعَ أُمَرَاء الأندلس فصمد نَحْو لاردة وَكَانَ بَينه وَبَين الفنش قتال عَظِيم أزعجه عَن لاردة خاسئا صاغرا بعد أَن بذل جهده فِي حصارها وأفقد من جيوشه عَلَيْهَا مَا يزِيد على الْعشْرَة آلَاف فَارس وَرجع تَمِيم إِلَى بلنسية وَلما رأى ابْن رذمير ذَلِك بعث إِلَى طوائف الإفرنج يستصرخهم على سرقسطة فَأتوا فِي أُمَم كالنمل حَتَّى نازلها مَعَه وشرعوا فِي الْقِتَال وصنعوا أبراجا من خشب تجْرِي على بَرَكَات وقربوها مِنْهَا ونصبوا فِيهَا الرعادات ونصبوا عَلَيْهَا عشْرين منجنيقا وَقَوي طمعهم فِيهَا فَاشْتَدَّ الْحصار وَاسْتمرّ حَتَّى فنيت الأقوات وَهلك أَكثر النَّاس جوعا فراسل الْمُسلمُونَ الَّذين بهَا ابْن رذمير على أَن يرفع عَنْهُم الْقِتَال إِلَى أجل فَإِن لم يَأْتِيهم من ينصرهم أخلوا لَهُ الْبَلَد وأسلموه إِلَيْهِ فعاهدهم على ذَلِك فتم الْأَجَل وَلم يَأْتهمْ أحد فدفعوا إِلَيْهِ الْمَدِينَة وَخَرجُوا إِلَى مرسية وبلنسية وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة وَبعد اسْتِيلَاء النَّصَارَى عَلَيْهَا وصل من بر العدوة جَيش فِيهِ عشرَة آلَاف فَارس بَعثه أَمِير الْمُسلمين لاستنقاذها فوجدوها قد فرغ مِنْهُ وَنفذ حكم الله فِيهَا وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة تغلب ابْن رذمير على بِلَاد شَرق الأندلس وَملك قلعة أَيُّوب الَّتِي لَيْسَ فِي بِلَاد شَرق الأندلس أمنع مِنْهَا وألح بالغارات على بِلَاد الْجوف فاتصلت هَذِه الْأَخْبَار بأمير الْمُسلمين وَهُوَ بمراكش فَجَاز إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد وَضبط الثغور وَهُوَ جَوَازه الثَّانِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فَجَاز مَعَه خلق كثير من المرابطين والمتطوعة من الْعَرَب وزناتة والمصامدة وَسَائِر قبائل البربر فوصل بجيوشه إِلَى قرطبة وَنزل خَارِجهَا وأتته وُفُود الأندلس للسلام عَلَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَن أَحْوَال بِلَادهمْ وثغورهم بَلَدا بَلَدا فعرفوه بِمَا كَانَ وعزل القَاضِي أَبَا الْوَلِيد بن رشد عَن قَضَاء قرطبة وَولى مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِم بن حمدين وَيُقَال إِنَّمَا عزل ابْن رشد لِأَنَّهُ استعفاه وَكَانَ قد اشْتغل بتأليف الْبَيَان والتحصيل ثمَّ سَار أَمِير الْمُسلمين حَتَّى نزل على مَدِينَة شنتمرية فَفَتحهَا عنْوَة وَسَار فِي بِلَاد الفرنج يقتل وَيَسْبِي وَيقطع الثِّمَار وَيخرب الْقرى والديار حَتَّى دوخ بِلَاد غرب الأندلس وفر أَمَامه الفرنج وتحصنوا بالمعاقل المنيعة وَفِي سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة عَاد أَمِير الْمُسلمين إِلَى بِلَاد العدوة بعد أَن ولى أَخَاهُ تَمِيم بن يُوسُف على جَمِيع بِلَاد الأندلس فَلم يزل عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي سنة عشْرين وَخَمْسمِائة ولَايَة الْأَمِير تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف على بِلَاد الأندلس وأخباره فِي الْجِهَاد لما توفّي الْأَمِير تَمِيم بن يُوسُف فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولى أَمِير الْمُسلمين على بِلَاد الأندلس ابْنه تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف مَا عدا الجزائر الشرقية فَإِنَّهُ قد عقد عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية فَعبر الْأَمِير تاشفين الْبَحْر إِلَى الأندلس فِي خَمْسَة آلَاف من الْجند وَبعث إِلَى أجناد الْبِلَاد فَأتوهُ فَخرج بهم غازيا طليطلة فَفتح بعض حصونها بِالسَّيْفِ وانتسف مَا حولهَا وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة عشْرين وَخَمْسمِائة هزم الْأَمِير تاشفين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 النَّصَارَى بفحص الصباب وقتلهم قتلا ذريعا وَفتح ثَلَاثِينَ حصنا من حصون غرب الأندلس وَكتب بِالْفَتْح إِلَى أَبِيه وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة هزم الْأَمِير تاشفين جموع الفرنج بفحص عَطِيَّة وأفنى مِنْهُم خلقا كثيرا بِالسَّيْفِ وَفِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ بعْدهَا دخل الْأَمِير تاشفين مَدِينَة كركى بِالسَّيْفِ فَلم يبْق بهَا بشرا وَفِي سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ بعْدهَا جَازَ الْأَمِير تاشفين من الأندلس إِلَى الْمغرب بعد أَن غزا مَدِينَة أشكونية فَفَتحهَا عنْوَة وَحمل مَعَه من سبيهَا إِلَى العدوة سِتَّة آلَاف سبية فَانْتهى إِلَى مراكش وَخرج أَمِير الْمُسلمين للقائه فِي زِيّ عَظِيم وسرور كَبِير وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا أَخذ أَمِير الْمُسلمين الْبيعَة لوَلَده تاشفين وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني رَحمَه الله وَذَلِكَ لسبع خلون من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ ابْن خلكان كَانَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين رجلا حَلِيمًا وقورا صَالحا عادلا منقادا إِلَى الْحق وَالْعُلَمَاء تجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال من الْبِلَاد وَلم يزعزعه عَن سَرِيره قطّ حَادث وَلَا طَاف بِهِ مَكْرُوه قلت قد طَاف بِهِ فِي آخر دولته أعظم مَكْرُوه وَذَلِكَ مُحَمَّد بن تومرت النابغ تَحت إبطه بحبال المصامدة كَمَا يَأْتِي خَبره إِن شَاءَ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الْخَبَر عَن دولة أبي الْمعز تاشفين بن عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين اللمتوني لما توفّي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ولي بعده ابْنه أَبُو الْمعز تاشفين بن عَليّ بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ وَأخذ بِطَاعَتِهِ وبيعته أهل العدوتين مَعًا كَمَا كَانُوا فِي عهد أَبِيه وَكَانَ أَمر عبد الْمُؤمن بن عَليّ يَوْمئِذٍ قد استفحل بتينملل وَسَائِر بِلَاد المصامدة أهل جبل درن قَالَ ابْن الْخَطِيب كَانَ تاشفين بن عَليّ قد اسْتَخْلَفَهُ أَبوهُ على بِلَاد الأندلس ثمَّ استقدمه لمدافعة أَصْحَاب مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين فَلم ينجح أمره بِخِلَاف مَا عوده الله فِي بِلَاد الأندلس من النَّصْر لما قَضَاهُ الله من الإدبار على دولتهم وَلما خرج عبد الْمُؤمن بن عَليّ من تينملل يُرِيد فتح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ مسيره على طَرِيق الْجبَال سير أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف ابْنه تاشفين الْمَذْكُور مُعَارضا لَهُ على طَرِيق السهل وَأَقَامُوا على ذَلِك مُدَّة توفّي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فِي أَثْنَائِهَا وأفضى الْأَمر إِلَى ابْنه تاشفين وَهُوَ فِي الْحَرْب وَقدم أهل مراكش إِسْحَاق بن عَليّ بن تاشفين نَائِبا عَن أَخِيه تاشفين بمراكش وأعمالها وَمضى تاشفين بعد الْبيعَة لَهُ مُتبعا لعبد الْمُؤمن حَتَّى انتهيا تلمسان فَنزل عبد الْمُؤمن بكهف الضَّحَّاك بَين الصخرتين من جبل تيطرى المطل عَلَيْهَا وَنزل تاشفين بالبسيط مِمَّا يَلِي الصفصاف وَوَصله هُنَاكَ مدد صنهاجة من قبل يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية مَعَ قائده طَاهِر بن كباب لعصبية الصنهاجية وَفِي يَوْم وُصُوله أشرف على عَسْكَر الْمُوَحِّدين وَكَانَ يدل بإقدام وشجاعة فَقَالَ لجيش لمتونة إِنَّمَا جِئتُكُمْ لأخلصكم من صَاحبكُم عبد الْمُؤمن هَذَا وأرجع إِلَى قومِي فامتعض تاشفين لكلمته وَأذن لَهُ فِي المناجزة فَحمل على الْقَوْم فَرَكبُوا وصمموا للقائه فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وبعسكره وَكَانَ الموحدون قد قتلوا قبل ذَلِك الروبرتير قَائِد تاشفين على الرّوم وَقتلُوا عسكره فِي بعض الغارات ثمَّ فتكوا بعسكر ثَالِث من عَسَاكِر تاشفين ونالوا مِنْهُ أعظم النّيل وَفِي القرطاس زحف المرابطون لقِتَال الْمُوَحِّدين فنهاهم تاشفين فَلم ينْتَهوا وتعلقوا فِي الْجَبَل لقتالهم فهبط عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم هزيمَة شنعاء وَلما توالت هَذِه الوقائع على تاشفين أجمع الرحلة إِلَى وهران فَبعث ابْنه إِبْرَاهِيم ولي عَهده إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من لمتونة وَبعث كَاتبا مَعَه أَحْمد بن عَطِيَّة ورحل هُوَ إِلَى وهران سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَأَقَامَ عَلَيْهَا شهرا ينْتَظر قَائِد أسطوله مُحَمَّد بن مَيْمُون إِلَى أَن وصل إِلَيْهِ من المرية بِعشْرَة أساطيل فأرسى قَرِيبا من مُعَسْكَره وزحف عبد الْمُؤمن من تلمسان وَبعث فِي مقدمته الشَّيْخ أَبَا حَفْص عمر بن يحيى فقدموا وهران وفضوا جموع المرابطين الَّذين بهَا ولجأ تاشفين إِلَى رابية هُنَاكَ فأحدقوا بهَا وأضرموا النيرَان حولهَا حَتَّى إِذا غشيهم اللَّيْل خرج تاشفين من الْحصن رَاكِبًا على فرسه فتردى من بعض حافات الْجَبَل وَهلك لسبع وَعشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَنَجَا فل الْعَسْكَر إِلَى وهران فانحصروا مَعَ أَهلهَا حَتَّى جهدهمْ الْعَطش ونزلوا جَمِيعًا على حكم عبد الْمُؤمن يَوْم عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأتى عَلَيْهِم الْقَتْل رَحِمهم الله وَقَالَ فِي القرطاس إِن تاشفين بن عَليّ خرج ذَات لَيْلَة وَهُوَ بوهران ليضْرب فِي محلّة الْمُوَحِّدين فتكاثرت عَلَيْهِ الْخَيل وَالرجل ففر أمامهم وَكَانَ بجبل عَال مشرف على الْبَحْر فَظن أَن الأَرْض مُتَّصِلَة بِهِ فَأَهوى من شَاهِق بِإِزَاءِ رابطة وهران فَمَاتَ رَحمَه الله وَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة مظْلمَة ممطرة وَهِي لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة آنِفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فَوجدَ من الْغَد بِإِزَاءِ الْبَحْر مَيتا فاحتز رَأسه وَحمل إِلَى تينملل فعلق على شَجَرَة هُنَاكَ وَذَلِكَ بعد مُلَازمَة الْحَرْب مَعَ الْمُوَحِّدين فِي الْبَيْدَاء لم يأو إِلَى ظلّ قطّ من يَوْم بُويِعَ إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت مُدَّة ولَايَته سنتَيْن وشهرا وَنصف شهر وَقَالَ ابْن خلكان لما تَيَقّن تاشفين بن عَليّ أَن دولتهم ستزول أَتَى مَدِينَة وهران وَهِي على الْبَحْر وَقصد أَن يَجْعَلهَا مقره فَإِن غلب على الْأَمر ركب مِنْهَا إِلَى الأندلس وَكَانَ فِي ظَاهر وهران ربوة على الْبَحْر تسمى صلب الْكَلْب وبأعلاها رِبَاط يأوي إِلَيْهِ المتعبدون وَفِي لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة صعد تاشفين إِلَى ذَلِك الرِّبَاط ليحضر الْخَتْم فِي جمَاعَة يسيرَة من خواصه وَكَانَ عبد الْمُؤمن بجمعه فِي تاكرارت وَهِي وَطنه وَاتفقَ أَنه أرسل منسرا من الْخَيل إِلَى وهران فوصلوها فِي الْيَوْم السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان ومقدمهم الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى صَاحب الْمهْدي فكمنوا عَشِيَّة وأعلموا بانفراد تاشفين فِي ذَلِك الرِّبَاط فقصدوه وَأَحَاطُوا بِهِ وأحرقوا بَابه فأيقن الَّذين فِيهِ بِالْهَلَاكِ فَخرج رَاكِبًا فرسه وَشد الركض عَلَيْهِ ليثب الْفرس النَّار وينجو فترامى الْفرس نازيا لروعته وَلم يملكهُ اللجام حَتَّى تردى من جرف هُنَالك إِلَى جِهَة الْبَحْر على حِجَارَة فِي مَحل وعر فتكسر الْفرس وَهلك تاشفين فِي الْوَقْت وَقتل الْخَواص الَّذين كَانُوا مَعَه وَكَانَ عسكره فِي نَاحيَة أُخْرَى لَا علم لَهُم بِمَا جرى فِي ذَلِك اللَّيْل وَجَاء الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الْمُؤمن فوصل إِلَى وهران وَسمي ذَلِك الْموضع الَّذِي فِيهِ الرِّبَاط صلب الْفَتْح وَمن ذَلِك الْوَقْت نزل عبد الْمُؤمن من الْجَبَل إِلَى السهل ثمَّ توجه إِلَى تلمسان وَهِي مدينتان قديمَة وحادثة بَينهمَا شوط فرس ثمَّ توجه إِلَى فاس فحاصرها وَاسْتولى عَلَيْهَا سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ قصد مراكش سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين بعْدهَا فحاصرها أحد عشر شهرا وفيهَا إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَجَمَاعَة من مَشَايِخ دولتهم فقدموه بعد موت أَبِيه عَليّ بن يُوسُف نَائِبا عَن أَخِيه تاشفين فاستولى عَلَيْهَا وَقد بلغ الْقَحْط من أَهلهَا كل مبلغ وَأخرج إِلَيْهِ إِسْحَاق بن عَليّ وَمَعَهُ سير بن الْحَاج وَكَانَ من الشجعان وَمن خَواص دولتهم وَكَانَا مكتوفين وَإِسْحَاق دون بُلُوغ فعزم عبد الْمُؤمن أَن يعْفُو عَن إِسْحَاق لصِغَر سنه فَلم يُوَافقهُ خواصه وَكَانَ لَا يخالفهم فخلى بَينهم وَبَينهمَا فَقَتَلُوهُمَا ثمَّ نزل عبد الْمُؤمن الْقصر وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقَالَ ابْن خلدون أَقَامَ الموحدون على مراكش تِسْعَة اشهر وأمير الملثمين يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بَايعُوهُ صَبيا صَغِيرا عِنْد بُلُوغ خبر أَخِيه وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار وَجَهْدهمْ الْجُوع برزوا إِلَى مدافعة الْمُوَحِّدين فَانْهَزَمُوا وتتبعهم الموحدون بِالْقَتْلِ واقتحموا عَلَيْهِم الْمَدِينَة فِي أخريات شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقتل عَامَّة الملثمين وَنَجَا إِسْحَاق فِي جملَته وأعيان قومه إِلَى القصبة حَتَّى نزلو اعلى حكم الْمُوَحِّدين وأحضر إِسْحَاق بَين يَدي عبد الْمُؤمن فَقتله الموحدون بِأَيْدِيهِم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو حَفْص عمر بن واكاك مِنْهُم وانمحى أثر الملثمين وَاسْتولى الموحدون على الْبِلَاد وَالله غَالب على أمره قَالَ ابْن جُنُون كَانَت لمتونة أهل ديانَة وَصدق وَنِيَّة خَالِصَة وَصِحَّة مَذْهَب ملكوا بالأندلس من بِلَاد الإفرنج إِلَى الْبَحْر الغربي الْمُحِيط وَمن بِلَاد العدوة من مَدِينَة بجاية إِلَى جبل الذَّهَب من بِلَاد السودَان وخطب لَهُم على أَزِيد من ألفي مِنْبَر بالتثنية وَكَانَت أيامهم أَيَّام دعة ورفاهية ورخاء مُتَّصِل وعافية وَأمن تناهى الْقَمْح فِي أيامهم إِلَى أَن بيع أَرْبَعَة أوسق بِنصْف مِثْقَال وبيعت الثِّمَار ثَمَانِيَة أوسق بِنصْف مِثْقَال والقطاني لَا تبَاع وَلَا تشترى وَكَانَ ذَلِك مصحوبا بطول أيامهم وَلم يكن فِي عمل من أَعْمَالهم خراج وَلَا مَعُونَة وَلَا تسقيط وَلَا وظيف من الْوَظَائِف المخزونية حاشا الزَّكَاة وَالْعشر وَكَثُرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الْخيرَات فِي دولتهم وعمرت الْبِلَاد وَوَقعت الْغِبْطَة وَلم يكن فِي أيامهم نفاق وَلَا قطاع طَرِيق وَلَا من يقوم عَلَيْهِم وأحبهم النَّاس إِلَى أَن خرج عَلَيْهِم مُحَمَّد بن تومرت مهْدي الْمُوَحِّدين سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَأما الْأَحْدَاث الْوَاقِعَة فِي أيامهم فَفِي شهر ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة ظهر النَّجْم المعكف بالمغرب وَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة كسفت الشَّمْس الْكُسُوف الْكُلِّي الَّذِي لم يعْهَد قبله مثله وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ عِنْد الزَّوَال فِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من الشَّهْر وَفِي سنة اثْنَيْنِ وَسبعين بعْدهَا كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة الَّتِي لم ير النَّاس مثلهَا بالمغرب انهرمت مِنْهَا الْأَبْنِيَة وَوَقعت الصوامع والمنارات وَمَات فيهاخلق كثير تَحت الْهدم وَلم تزل الزلزلة تتعاقب فِي كل يَوْم وَلَيْلَة من أول يَوْم ربيع الأول إِلَى آخر يَوْم من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة ولد الْفَقِيه القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأَصْبَغ الْمَعْرُوف بِابْن المناصف صَاحب الأرجوزة وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة توفّي الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الطلاع وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الْفضل يُوسُف بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ بقلعة حَمَّاد صحب أَبَا الْحسن اللَّخْمِيّ وَغَيره من الْمَشَايِخ وَكَانَ أَبُو الْفضل من أهل الْعلم وَالدّين على هدي السّلف الصَّالح وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَلما أفتى فُقَهَاء الْمغرب بإحراق كتب الشَّيْخ أبي حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وَأمر أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بحرقها انتصر أَبُو الْفضل هَذَا لأبي حَامِد رَحمَه الله وَكتب إِلَى أَمِير الْمُسلمين فِي ذَلِك وَحدث صَاحب التشوف وَهُوَ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يحيى التدالي المراكشي الدَّار عرف بِابْن الزيات بِسَنَدِهِ عَن أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 قَالَ لما وصل إِلَى فاس كتاب أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بالتحريج على كتاب الْإِحْيَاء وَأَن يحلف النَّاس بالأيمان الْمُغَلَّظَة أَن كتاب الْإِحْيَاء لَيْسَ عِنْدهم ذهبت إِلَى أبي الْفضل أستفتيه فِي تِلْكَ الْأَيْمَان فَأفْتى بِأَنَّهَا لَا تلْزم وَكَانَت إِلَى جنبه أسفار فَقَالَ لي هَذِه الْأَسْفَار من كتاب الْأَحْيَاء وددت أَنِّي لم أنظر فِي عمري سواهَا وَكَانَ أَبُو الْفضل قد انسخ كتاب الْإِحْيَاء فِي ثَلَاثِينَ جُزْءا فَإِذا دخل شهر رَمَضَان قَرَأَ فِي كل يَوْم جُزْءا ومناقبه كَثِيرَة رَحمَه الله قلت لم يَقع فِي دولة المرابطين أشنع من هَذِه النَّازِلَة وَهِي إحراق كتاب الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ لما وصلت نُسْخَة إِلَى بِلَاد الْمغرب تصفحها جمَاعَة من فقهائه مُهِمّ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن حمدين فانتقدوا فِيهَا أَشْيَاء على الشَّيْخ أبي حَامِد رَضِي الله عَنهُ وأعلموا السُّلْطَان بأمرها وأفتوه بِأَنَّهَا يجب إحراقها وَلَا تجوز قرَاءَتهَا بِحَال وَكَانَ عَليّ بن يُوسُف وَاقِفًا كأبيه عِنْد إِشَارَة الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم قد رد جَمِيع الْأَحْكَام إِلَيْهِم فَلَمَّا أفتوه بإحراق كتاب الْإِحْيَاء كتب إِلَى أهل مَمْلَكَته فِي سَائِر الْأَمْصَار والأقطار بِأَن يبْحَث عَن نسخ الْإِحْيَاء بحثا أكيدا وَيحرق مَا عثر عَلَيْهِ مِنْهَا فَجمع من نسخهَا عدد كثير بِبِلَاد الأندلس وَوضعت بِصَحْنِ جَامع قرطبة وصب عَلَيْهَا الزَّيْت ثمَّ أوقد عَلَيْهَا بالنَّار وَكَذَا فعل بِمَا ألفى من نسخهَا بمراكش وتوالى الإحراق عَلَيْهَا فِي سَائِر بِلَاد الْمغرب وَيُقَال إِن ذَلِك كَانَ فِي حَيَاة الشَّيْخ أبي حَامِد رَحمَه الله وَأَنه دَعَا بِسَبَب ذَلِك على المرابطين أَن يمزق ملكهم فاستجيب لَهُ فيهم فَإِن كَانَ كَذَلِك فتاريخ الإحراق يكون فِيمَا بَين الْخَمْسمِائَةِ وَالْخمس بعْدهَا لِأَن بيعَة عَليّ بن يُوسُف كَانَت على رَأس الْخَمْسمِائَةِ ووفاة الشَّيْخ أبي حَامِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخَمْسمِائة وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عَطاء الله الصنهاجي الْمَعْرُوف بِابْن العريف كَانَ متناهيا فِي الْفضل وَالدّين والزهد فِي الدُّنْيَا مُنْقَطِعًا إِلَى الْخَيْر يَقْصِدهُ النَّاس ويألفونه فيحمدون صحبته وسعى بِهِ إِلَى أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فَأمر بإشخاصه إِلَى حَضْرَة مراكش فوصلها وَتُوفِّي بهَا لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة واحتفل النَّاس لجنازته وَنَدم أَمِير الْمُسلمين على مَا كَانَ مِنْهُ لَهُ فِي حَيَاته وَظَهَرت لَهُ كرامات رَحمَه الله وَدفن بِقرب الْجَامِع الْقَدِيم الَّذِي بوسط مراكش فِي رَوْضَة القَاضِي مُوسَى بن أَحْمد الصنهاجي قلت وقبره الْآن مَشْهُور بسوق العطارين من مراكش عَلَيْهِ بِنَاء حفيل وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا أَعنِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الحكم بن برجان قَالَ ابْن خلكان هُوَ أَبُو الحكم عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن اللَّخْمِيّ عرف بِابْن برجان بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وَبعدهَا جِيم وَبعد الْألف نون وَكَانَ عبدا صَالحا وَله تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم وَأكْثر كَلَامه فِيهِ على طَرِيق أَرْبَاب الْأَحْوَال والمقامات وَقَالَ فِي التشوف لما أشخص أَبُو الحكم بن برجان من قرطبة إِلَى حَضْرَة مراكش وَكَانَ فُقَهَاء الْعَصْر انتقدوا عَلَيْهِ مسَائِل قَالَ أَبُو الحكم وَالله لَا عِشْت وَلَا عَاشَ الَّذِي أشخصني بعد موتِي يَعْنِي أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف فَمَاتَ أَبُو الحكم فَأمر أَمِير الْمُسلمين أَن يطْرَح على المزبلة وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 يصلى عَلَيْهِ وَقد فِيهِ من تكلم فِيهِ من الْفُقَهَاء وَكَانَ أَبُو الْحسن عَليّ بن حرزهم يَوْمئِذٍ بمراكش فَدخل عَلَيْهِ رجل أسود كَانَ يَخْدمه ويحضر مَجْلِسه فَأخْبرهُ بِمَا أَمر بِهِ السُّلْطَان فِي شَأْن أبي الحكم فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحسن إِن كنت تبيع نَفسك من الله فافعل مَا أقوله لَك فَقَالَ لَهُ مرني بِمَا شِئْت أَفعلهُ فَقَالَ لَهُ تنادي فِي طرق مراكش واسواقها يَقُول لكم ابْن حرزهم احضروا جَنَازَة الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح الزَّاهِد أبي الحكم بن برجان وَمن قدر على حُضُورهَا وَلم يحضر فَعَلَيهِ لعنة الله فَفعل مَا أمره فَبلغ ذَلِك أَمِير الْمُسلمين فَقَالَ من عرف فَضله وَلم يحضر جنَازَته فَعَلَيهِ لعنة الله قَالَ ابْن عبد الْملك فِي كتاب الذيل والتكملة أَبُو الحكم بن برجان مدفون بمراكش برحبة الْحِنْطَة مِنْهَا قَالَ وَهُوَ الَّذِي تَقول لَهُ الْعَامَّة سَيِّدي أَبُو الرِّجَال وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو ينور المشترائي مَوْجُودا فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنِّي لم أَقف على تَارِيخ وَفَاته قَالَ فِي التشوف هُوَ أَبُو ينور عبد الله بن واكريس الدكالي من مشتراية من أَشْيَاخ أبي شُعَيْب أَيُّوب السارية كَبِير الشَّأْن من أهل الزّهْد والورع حدثوا عَنهُ أَنه مَاتَ أَخُوهُ فَتزَوج امْرَأَته فَقدمت إِلَيْهِ طَعَاما يَأْكُلهُ فَوَقع فِي نَفسه أَن فِيهِ نصيب الْأَيْتَام الَّذين هم أَوْلَاد أَخِيه فَأمْسك عَنهُ وَبَات طاويا وجاءه رجل من أَشْيَاخ مشتراية فَقَالَ لَهُ إِن عَامل عَليّ بن يُوسُف تهددني بِالْقَتْلِ والصلب وَقد خرج من مراكش مُتَوَجها إِلَى دكالة فَقَالَ لَهُ أَبُو ينور رده الله عَنْك فَسَار إِلَى أَن بَقِي بَينه وَبَين قَرْيَة يليسكاون وَهِي أمتِي تسميها الْعَامَّة بوسكاون نصف يَوْم فَأصَاب الْعَامِل وجع قضى عَلَيْهِ من حِينه وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ثار القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن حمدين بقرطبة مَعَ الْعَامَّة على المرابطين فَقَتلهُمْ وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الدولة الموحدية الْخَبَر عَن دولة الْمُوَحِّدين من المصامدة وقيامها على يَد مُحَمَّد بن تومرت الْمَعْرُوف بالمهدي قَالَ ابْن خلدون كَانَ للمصامدة فِي صدر الْإِسْلَام بجبال درن عدد وَقُوَّة وَطَاعَة للدّين وَمُخَالفَة لإخوانهم برغواطة فِي نحلة كفرهم وَكَانَ مِنْهُم قبل الْإِسْلَام مُلُوك وأمراء وَلَهُم مَعَ لمتونة مُلُوك الْمغرب حروب وَفتن أيامهم حَتَّى كَانَ اجْتِمَاعهم على الْمهْدي وقيامهم بدعوته فَكَانَت لَهُم دولة عَظِيمَة أدالت من لمتونة بالعدوتين وَمن صنهاجة بإفريقية حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور وَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وأصل الْمهْدي من هرغة من بطُون المصامدة يُسمى أَبوهُ عبد الله وتومرت وَكَانَ يلقب فِي صغره أَيْضا أمغار غَار وَزعم كثير من المؤرخين أَن نسبه فِي أهل الْبَيْت فبعضهم ينْسبهُ سُلَيْمَان بن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَكَانَ أهل بَيته أهل نسك ورباط وَكَانَت وِلَادَته على مَا عِنْد ابْن خلكان يَوْم عَاشُورَاء سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وشب الْمهْدي قَارِئًا محبا للْعلم ثمَّ ارتحل فِي طلبه إِلَى الْمشرق على رَأس الْمِائَة الْخَامِسَة وَمر بالأندلس وَدخل قرطبة وَهِي يَوْمئِذٍ دَار علم ثمَّ لحق بالإسكندرية وَحج وَدخل الْعرَاق وَلَقي بِهِ جملَة من الْعلمَاء وفحول النظار وَأفَاد علما وَاسِعًا وَكَانَ يحدث نَفسه بالدولة لِقَوْمِهِ على يَده وَلَقي أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ وفاوضه بِذَات صَدره فِي ذَلِك فأراده عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قَالَ ابْن خلكان اجْتمع مُحَمَّد بن تومرت بِأبي حَامِد الْغَزالِيّ والكيا الهراسي والطرطوشي وَغَيرهم وَحج وَأقَام بِمَكَّة مُدَّة مديدة وَحصل قدرا صَالحا من علم الشَّرِيعَة والْحَدِيث النَّبَوِيّ وأصول الْفِقْه وَالدّين وَكَانَ ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا مخلولقا كثير الإطراق بساما فِي وُجُوه النَّاس مُقبلا على الْعِبَادَة لَا يَصْحَبهُ من مَتَاع الدُّنْيَا إِلَّا عَصا وركوة وَكَانَ شجاعا فصيحا فِي لِسَان الْعَرَب والبربر شَدِيد الْإِنْكَار على النَّاس فِيمَا يُخَالف الشَّرْع لَا يقنع فِي أَمر الله بِغَيْر إِظْهَاره وَكَانَ مطبوعا على الإلذاذ بذلك متحملا للأذى من النَّاس بِسَبَبِهِ وناله بِمَكَّة شرفها الله شَيْء من الْمَكْرُوه من أجل ذَلِك فَخرج مِنْهَا إِلَى مصر وَبَالغ فِي الْإِنْكَار فزادوا فِي أَذَاهُ وطردته الْوُلَاة وَكَانَ إِذا خَافَ من الْبَطْش وإيقاع الْفِعْل بِهِ خلط فِي كَلَامه فينسب إِلَى الْجُنُون فَخرج من مصر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَركب الْبَحْر مُتَوَجها إِلَى بِلَاده وَكَانَ قد رأى فِي مَنَامه وَهُوَ فِي بِلَاد الْمشرق كَأَنَّهُ شرب مَاء الْبَحْر جَمِيعه كرتين فَلَمَّا ركب السَّفِينَة شرع فِي تَغْيِير الْمُنكر على أهل السَّفِينَة وألزمهم إِقَامَة الصَّلَوَات وَقِرَاءَة أحزاب من الْقُرْآن الْعَظِيم وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى انْتهى إِلَى المهدية من أَرض إفريقية وَكَانَ ملكهَا يَوْمئِذٍ يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس الصنهاجي وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَخَمْسمِائة هَكَذَا ذكره ابْن أَخِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن شَدَّاد بن تَمِيم الصنهاجي فِي كتاب الْجمع وَالْبَيَان فِي أَخْبَار القيروان وَقيل إِن ارتحال مُحَمَّد بن تومرت عَن بِلَاد الْمشرق كَانَ سنة عشر وَخَمْسمِائة واجتيازه بِمصْر كَانَ سنة إِحْدَى عشرَة بعْدهَا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَلما انْتهى إِلَى المهدية نزل بِمَسْجِد مغلق وَهُوَ على الطَّرِيق وَجلسَ فِي طاق شَارِع إِلَى المحجة ينظر إِلَى الْمَارَّة فَلَا يرى مُنْكرا من آلَة الملاهي أَو أواني الْخمر إِلَّا نزل إِلَيْهَا وَكسرهَا فتسامع النَّاس بِهِ فِي الْبَلَد فجاؤوا إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقرؤوا عَلَيْهِ كتبا من أصُول الدّين فَبلغ خَبره الْأَمِير يحيى فاستدعاه جمَاعَة من الْفُقَهَاء فَلَمَّا رأى سمته وَسمع كَلَامه أكْرمه وأجله وَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ لَهُ أصلحك الله لرعيتك وَلم يقم بعد ذَلِك بالمهدية إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ انْتقل إِلَى بجاية فَأَقَامَ بهَا مُدَّة وَهُوَ على حَاله فِي الْإِنْكَار فَأخْرج مِنْهَا إِلَى بعض قراها وَاسْمهَا ملالة فَوجدَ بهَا عبد الْمُؤمن بن عَليّ الْقَيْسِي الكومي وَقَالَ ابْن خلدون انطوى الْمهْدي رَاجعا إِلَى الْمغرب بحرا متفجرا من الْعلم وشهابا واريا من الدّين وَكَانَ قد لَقِي بالمشرق أَئِمَّة الأشعرية من أهل السّنة وَأخذ عَنْهُم وَاسْتحْسن طريقهم فِي الإنتصار للعقائد السلفية والذب عَنْهَا بالحجج الْعَقْلِيَّة الدافعة فِي صدر أهل الْبِدْعَة وَذهب فِي رَأْيهمْ إِلَى تَأْوِيل الْمُتَشَابه من الْآي وَالْأَحَادِيث بعد أَن كَانَ أهل الْمغرب بعزل عَن اتباعهم فِي التَّأْوِيل وَالْأَخْذ برأيهم فِيهِ اقْتِدَاء بالسلف فِي ترك التَّأْوِيل وَإِقْرَار المتشابهات كَمَا جَاءَت فَبَصر الْمهْدي أهل الْمغرب فِي ذَلِك وَحَملهمْ على القَوْل بالتأويل وَالْأَخْذ بمذاهب الأشعرية فِي كَافَّة العقائد وأعلن بإمامتهم وَوُجُوب تقليدهم وَألف العقائد على رَأْيهمْ مثل المرشدة فِي التَّوْحِيد وَكَانَ من رَأْيه القَوْل بعصمة الإِمَام عَليّ على رَأْي الإمامية من الشِّيعَة وَلم تحفظ عَنهُ فلتة فِي الْبِدْعَة سواهَا واحتل بطرابلس الغرب معنيا بمذهبه ذَلِك مظْهرا للنكير على عُلَمَاء الْمغرب فِي عدولهم عَنهُ آخِذا نَفسه بتدريس الْعلم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مَا اسْتَطَاعَ حَتَّى لَقِي بِسَبَب ذَلِك إذايات فِي نَفسه احتسبها من صَالح عمله وَلما دخل بجاية وَبهَا يَوْمئِذٍ الْعَزِيز بن الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد من أُمَرَاء صنهاجة وَكَانَ من المقترفين فَأَغْلَظ لَهُ ولأتباعه بالنكير وَتعرض يَوْمًا لتغيير بعض الْمُنْكَرَات فِي الطّرق فَوَقَعت بِسَبَبِهَا هيعة نكرها السُّلْطَان والخاصة وائتمروا بِهِ فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب وَلحق بملالة على فَرسَخ مِنْهَا وَبهَا يَوْمئِذٍ بَنو ورياكل من قبائل صنهاجة وَكَانَ لَهُم اعتزاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ومنعة فآووه وأجاروه وطلبهم السُّلْطَان صَاحب بجاية بِإِسْلَامِهِ إِلَيْهِ فَأَبَوا وأسخطوه وَأقَام بَينهم يدرس الْعلم أَيَّامًا وَكَانَ يجلس إِذا فرغ على صَخْرَة بقارعة الطَّرِيق قَرِيبا من ديار ملالة وَهُنَاكَ لقِيه كَبِير أَصْحَابه عبد الْمُؤمن بن عَليّ حَاجا مَعَ عَمه فأعجب بِعِلْمِهِ وَصرف عزمه إِلَيْهِ فاختص بِهِ وشمر للأخذ عَنهُ وَفِي كتاب المعرب عَن سيرة مُلُوك الْمغرب أَن الْمهْدي كَانَ قد اطلع على كتاب يُسمى الجفر من عُلُوم أهل الْبَيْت يُقَال إِنَّه عثر عَلَيْهِ عِنْد الشَّيْخ أبي حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وَإنَّهُ رأى فِيهِ صفة رجل يظْهر بالمغرب الْأَقْصَى بمَكَان يُسمى السوس وَهُوَ من ذُرِّيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو إِلَى الله يكون مقَامه ومدفنه بِموضع من الْمغرب يُسمى باسم هجاء حُرُوفه ت ي ن م ل ل وَرَأى فِيهِ أَيْضا أَن استقامة ذَلِك الْأَمر واستيلائه وتمكنه يكون على يَد رجل من أَصْحَابه هجاء اسْمه ع ب د م وم ن ويجاوز وقته الْمِائَة الْخَامِسَة لِلْهِجْرَةِ فأوقع الله سُبْحَانَهُ فِي نَفسه أَنه الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر وَأَن أَوَانه قد أزف فَمَا كَانَ مُحَمَّد يمر بِموضع إِلَّا وَيسْأل عَنهُ وَلَا يرى أحدا إِلَّا أَخذ اسْمه وتفقده حليته وَكَانَت حلية عبد الْمُؤمن مَعَه فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيق رأى شَابًّا قد بلغ أشده على الصّفة الَّتِي مَعَه فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن تومرت وَقد تجاوزه مَا اسْمك يَا شَاب فَقَالَ عبد الْمُؤمن فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الله أكبر أَنْت بغيتي وَنظر فِي حليته فَوَافَقت مَا عِنْده فَقَالَ لَهُ من أَيْن أَقبلت قَالَ من كومية قَالَ أَيْن مقصدك فَقَالَ الْمشرق قَالَ مَا تبغي قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 علما وشرفا قَالَ قد وجدت علما وشرفا وذكرا أصحبني تنله فوافقه على ذَلِك فَألْقى إِلَيْهِ مُحَمَّد بأَمْره وأودعه سره قَالَ ابْن خلدون وارتحل الْمهْدي إِلَى الْمغرب وَعبد الْمُؤمن فِي جملَته وَلحق بوانشريس فصحبه مِنْهَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله الوانشريسي الْمَعْرُوف بالبشير وَقَالَ ابْن خلكان وَكَانَ جميلا فصيحا فِي لغتي الْعَرَب والبربر ففاوضه الْمهْدي فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْقيام فوافقه على ذَلِك أتم مُوَافقَة وَكَانَ البشير مِمَّن تهذب وَقَرَأَ فقها فتذاكرا يَوْمًا فِي كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوب فَقَالَ الْمهْدي للبشير أرى أَن تستر مَا أَنْت عَلَيْهِ من الْعلم والفصاحة عَن النَّاس وَتظهر من الْعَجز واللكن والحصر والتعري عَن الْفَضَائِل مَا تشتهر بِهِ عِنْد النَّاس لنتخذ الْخُرُوج عَن ذَلِك واكتساب الْعلم والفصاحة دفْعَة وَاحِدَة سَبِيلا إِلَى الْمَطْلُوب وَيقوم لنا ذَلِك مقَام المعجزة عِنْد حاجتنا إِلَيْهِ فنصدق فِيمَا نقُول فَفعل البشير ذَلِك ثمَّ لحق الْمهْدي بتلمسان وَقد تسامع النَّاس بِخَبَرِهِ فَأحْضرهُ القَاضِي بهَا وَهُوَ ابْن صَاحب الصَّلَاة ووبخه على منتحله ذَلِك وعَلى خِلَافه لأهل قطره وَظن القَاضِي أَن من الْعدْل نَزعه عَن ذَلِك فَصم عَن قَوْله وَاسْتمرّ على طَرِيقه إِلَى فاس فَنزل بِمَسْجِد طريانة وَأقَام بهَا يدرس الْعلم إِلَى سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ انْتقل إِلَى مكناسة فَنهى بهَا عَن بعض الْمُنْكَرَات فثار إِلَيْهِ الغوغاء وأوجعوه ضربا ثمَّ لحق بمراكش وَأقَام بهَا آخِذا فِي شَأْنه وَلَقي بهَا أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع عِنْد صَلَاة الْجُمُعَة فوعظه وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل وَلَقي ذَات يَوْم أُخْت أَمِير الْمُسلمين حَاسِرَة قناعها على عَادَة قَومهَا الملثمين فِي زِيّ نِسَائِهِم فوبخها وَدخلت على أَخِيهَا باكية لما نالها من تقريعه ففاوض أَمِير الْمُسلمين الْفُقَهَاء فِي شَأْنه بِمَا وصل إِلَيْهِ من سيرته وَكَانُوا قد ملئوا مِنْهُ حسدا وحفيظة لما كَانَ ينتحل من مَذْهَب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الأشعرية فِي تَأْوِيل الْمُتَشَابه وينكر عَلَيْهِم جمودهم على مَذْهَب السّلف فِي إِقْرَاره كَمَا جَاءَ وَيرى أَن الْجُمْهُور لقنوه تجسيما وَيذْهب إِلَى تكفيرهم بذلك على أحد قولي الأشعرية فِي التَّكْفِير فأغروا الْأَمِير بِهِ فَأحْضرهُ للمناظرة مَعَهم فَكَانَ لَهُ الفلج والظهور عَلَيْهِم وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ مُحَمَّد الْمهْدي قد استدنى أشخاصا من أهل الْمغرب جلادا فِي القوى الجسمانية أَغْمَارًا وَكَانَ أميل إِلَى الأغمار من أولي الفطن والإستبصار فَاجْتمع لَهُ مِنْهُم سِتَّة نفر سوى أبي مُحَمَّد البشير ثمَّ أَنه رَحل إِلَى أقْصَى الْمغرب وَتوجه فِي أَصْحَابه إِلَى مراكش وملكها يَوْمئِذٍ أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين وَكَانَ ملكا عَظِيما حَلِيمًا ورعا عادلا متواضعا وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ رجل يُقَال لَهُ مَالك بن وهيب الأندلسي وَكَانَ عَالما صَالحا زَاد ابْن خلدون عَارِفًا بالنجوم فشرع مُحَمَّد الْمهْدي فِي الْإِنْكَار على جري عَادَته حَتَّى أنكر على ابْنة الْملك فَبلغ خَبره الْملك وَأَنه يتحدث فِي تَغْيِير الدولة فَتحدث مَعَ مَالك بن وهيب فِي أمره فَقَالَ مَالك بن وهيب نَخَاف من فتح بَاب يعسر علينا سَده والرأي أَن تحضر هَذَا الشَّخْص وَأَصْحَابه لنسمع كَلَامهم بِحُضُور جمَاعَة من عُلَمَاء الْبِلَاد فَأجَاب الْملك إِلَى ذَلِك وَكَانَ الْمهْدي وَأَصْحَابه مقيمين فِي مَسْجِد خراب خَارج الْبَلَد فطلبوهم فَلَمَّا ضمهم الْمجْلس قَالَ الْملك لعلماء بَلَده سلوا هَذَا الرجل مَا يَبْغِي منا فَانْتدبَ لَهُ قَاضِي المرية واسْمه مُحَمَّد بن أسود فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك من الْأَقْوَال فِي حق الْملك الْعَادِل الْحَلِيم المنقاد إِلَى الْحق الْمُؤثر طَاعَة الله تَعَالَى على هَوَاهُ فَقَالَ لَهُ الْمهْدي أما مَا نقل عني فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 قلته ولي من وَرَائه أَقْوَال وَأما قَوْلك إِنَّه يُؤثر طَاعَة الله على هَوَاهُ وينقاد إِلَى الْحق فقد حضر اعْتِبَار صِحَة هَذَا القَوْل عَنهُ ليعلم بتعرية عَن هَذِه الصّفة إِنَّه مغرور بِمَا تَقولُونَ لَهُ وتضرونه بِهِ مَعَ علمكُم أَن الْحجَّة متوجهة عَلَيْهِ فَهَل بلغك يَا قَاضِي أَن الْخمر تبَاع جهارا وتمشي الْخَنَازِير بَين الْمُسلمين وَتُؤْخَذ أَمْوَال الْيَتَامَى وَعدد من ذَلِك شَيْئا كثيرا فَلَمَّا سمع الْملك كَلَامه ذرفت عَيناهُ وأطرق حَيَاء ففهم الْحَاضِرُونَ من فحوى كَلَامه أَنه طامع فِي المملكة لنَفسِهِ وَلما رَأَوْا سكُوت الْملك وانخداعه لقَوْله لم يتَكَلَّم أحد مِنْهُم فَقَالَ مَالك بن وهيب وَكَانَ كثير الإجتراء على الْملك أَيهَا الْملك عِنْدِي لنصيحة إِن قبلتها حمدت عَاقبَتهَا وَإِن تركتهَا لم تأمن غائلتها فَقَالَ الْملك مَا هِيَ فَقَالَ إِنِّي أَخَاف عَلَيْك من هَذَا الرجل وَأرى أَن تعتقله وَأَصْحَابه وتنفق عَلَيْهِم كل يَوْم دِينَارا لتكفي شَره وَإِن لم تفعل فلتنفقن عَلَيْهِ خزائنك كلهَا ثمَّ لَا ينفعك ذَلِك فوافقه الْملك على رَأْيه فَقَالَ لَهُ وزيره يقبح بك أَن تبْكي من موعظة رجل ثمَّ تسيء إِلَيْهِ فِي مجْلِس وَاحِد وَإِن يظْهر مِنْك الْخَوْف مِنْهُ على عظم ملكك وَهُوَ رجل فَقير لَا يملك سد جوعه فَلَمَّا سمع الْملك كَلَامه أَخَذته عزة النَّفس واستهون أمره فَصَرفهُ وَسَأَلَهُ الدُّعَاء وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ مَالك بن وهيب حزاء ينظر فِي النُّجُوم وَكَانَ الْكُهَّان يتحدثون بِأَن ملكا كَائِنا بالمغرب فِي أمة من البربر ويتغير فِيهِ شكل السَّمَكَة لقران بَين الكوكبين العلويين من السيارة يَقْتَضِي ذَلِك فَقَالَ مَالك بن وهيب احتفظوا بالدولة من الرجل فَإِنَّهُ صَاحب الْقرَان وَالدِّرْهَم المربع فَطَلَبه عَليّ بن يُوسُف فَفَقدهُ وسرح الخيالة فِي طلبه ففاتهم وَحكى صَاحب المعرب إِن الْمهْدي لما خرج من عِنْد أَمِير الْمُسلمين لم يزل وَجهه تِلْقَاء وَجهه إِلَى أَن فَارقه فَقيل لَهُ نرَاك قد تأدبت مَعَ الْملك إِذْ لم توله ظهرك فَقَالَ أردْت أَن لَا يُفَارق وَجْهي الْبَاطِل حَتَّى أغيره مَا اسْتَطَعْت اه كَلَامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فَلَمَّا خرج الْمهْدي وَأَصْحَابه من عِنْد الْملك قَالَ لَهُم لَا مقَام لكم هُنَا بمراكش مَعَ وجود مَالك بن وهيب فَمَا نَأْمَن أَن يعاود الْملك فِي أمرنَا فينالنا مِنْهُ مَكْرُوه وَإِن لنا بِمَدِينَة أغمات أَخا فِي الله فنقصد الْمُرُور بِهِ فَلَنْ نعدم مِنْهُ رَأيا وَدُعَاء صَالحا وَاسم هَذَا الشَّخْص عبد الْحق بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من فُقَهَاء المصامدة فَخَرجُوا إِلَيْهِ ونزلوا عَلَيْهِ وَأخْبرهُ مُحَمَّد بن تومرت خبرهم وأطلعه على مقصدهم وَمَا جرى لَهُ مَعَ الْملك فَقَالَ عبد الْحق هَذَا الْموضع لَا يحميكم وَإِن أحصن الْمَوَاضِع الْمُجَاورَة لهَذَا الْبَلَد تينملل وبيننا وَبَينهَا مَسَافَة يَوْم فِي هَذَا الْجَبَل فانقطعوا فِيهِ بُرْهَة ريثما يتناسى ذكركُمْ فَلَمَّا سمع الْمهْدي بِهَذَا الإسم تجدّد لَهُ ذكر اسْم الْموضع الَّذِي رَآهُ فِي كتاب الجفر فقصده مَعَ أَصْحَابه وَقَالَ ابْن خلدون لما لحق الْمهْدي بأغمات غير الْمُنْكَرَات على عَادَته فأغرى بِهِ أهل أغمات عَليّ بن يُوسُف وطيروا إِلَيْهِ بِخَبَرِهِ فَخرج مِنْهَا هُوَ وتلامذته الَّذين كَانُوا مَعَه فِي صحبته فلحق أَولا بمسفيوة ثمَّ بهنتاتة ولقيه بهَا الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس وإفريقية ثمَّ ارتحل الْمهْدي عَنْهُم إِلَى هرغة فَنزل على قومه وَذَلِكَ سنة خمس عشر وَخَمْسمِائة وَبنى رابطة للعباد فَاجْتمع عَلَيْهِ الطّلبَة من الْقَبَائِل وَأخذ يعلمهُمْ المرشدة لَهُ فِي التَّوْحِيد بِاللِّسَانِ الْبَرْبَرِي وشاع أمره ثمَّ دَاخل عَامل لمتونة على السوس أُنَاسًا من هرغة فِي قَتله وَنذر بهم إخْوَانهمْ فنقلوا الْمهْدي إِلَى معقل من أشياعهم وَقتلُوا من دَاخل فِي أمره ودعوا المصامدة إِلَى مبايعته على التَّوْحِيد وقتال المجسمة دونه سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فَتقدم إِلَيْهَا رجالاتهم من الْعشْرَة وَغَيرهم وَكَانَ فيهم من هنتاتة أَبُو حَفْص عمر بن يحيى وَأَبُو يحيى بن يكيت ويوسف بن وانودين وَابْن يغمور وَمن تينملل أَبُو حَفْص عمر بن عَليّ الصناكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان وَعمر بن تافراكين وَغَيرهم وأوعيت قَبيلَة هرغة فَدَخَلُوا فِي أمره كلهم ثمَّ دخل مَعَهم كدميوة وكنفيسة وَلما كملت بيعَته لقبوه بالمهدي وَكَانَ قبلهَا يلقب بِالْإِمَامِ وَكَانَ يُسمى أَصْحَابه الطّلبَة وَأهل دَعوته الْمُوَحِّدين تعريضا بلمتونة فِي أَخذهم بالعدول على التَّأْوِيل وميلهم إِلَى التجسم وَلما تمّ لَهُ من أَصْحَابه خَمْسُونَ سماهم آيت الْخمسين ثمَّ زحف إِلَيْهِم عَامل لمتونة على السوس وهم بمكانهم من هرغة فاستجاشوا إخْوَانهمْ من هنتاتة وتينملل فَاجْتمعُوا إِلَيْهِم وأوقعوا بعكسر لمتونة فَكَانَت تِلْكَ باكورة الْفَتْح وَكَانَ الْمهْدي يعدهم بذلك فاستبصروا فِي أمره وتسابقت كافتهم إِلَى الدُّخُول فِي دَعوته وترددت إِلَيْهِم عَسَاكِر لمتونة مرّة بعد أُخْرَى ففضوهم وانتقل لثلاث سِنِين من بيعَته إِلَى جبل تينملل فأوطنه وَبنى دَاره ومسجده بَينهم وحوالي منبع وَادي نَفِيس وَقَاتل من تخلف عَن بيعَته من المصامدة حَتَّى استقاموا لَهُ هَذَا كَلَام ابْن خلدون فِي سِيَاقه هَذَا الْخَبَر جِئْنَا بِهِ مُخْتَصرا وَاقْتضى كَلَام ابْن خلكان أَن ظُهُور الْمهْدي ومبايعته لم تكن إِلَّا بتينملل فَإِنَّهُ قد عقب مَا سبق لَهُ من أَن الْفَقِيه عبد الْحق بن إِبْرَاهِيم المصمودي أَشَارَ على الْمهْدي بِالْمَسِيرِ إِلَى تينملل وَأَن الْمهْدي لما سمع هَذَا الإسم تجدّد لَهُ ذكر فِيهِ فقصده مَعَ أَصْحَابه فَلَمَّا أَتَوْهُ رَآهُمْ أَهله على تِلْكَ الصُّورَة فَعَلمُوا أَنهم طلاب علم فَقَامُوا إِلَيْهِم وأكرموهم وتلقوهم بالترحاب وأنزلوهم فِي أكْرم مَنَازِلهمْ وَسَأَلَ أَمِير الْمُسلمين عَنْهُم بعد خُرُوجهمْ من مَجْلِسه فَقيل لَهُ إِنَّهُم سافروا فسره ذَلِك وَقَالَ تخلصنا من الْإِثْم بحبسهم ثمَّ إِن أهل الْجَبَل تسامعوا بوصول الْمهْدي إِلَيْهِم وَكَانَ قد سَار فيهم ذكره فجاؤوه من كل فج عميق وتبركوا بزيارته وَكَانَ كل من أَتَاهُ استدناه وَعرض عَلَيْهِ مَا فِي نَفسه من الْخُرُوج على السُّلْطَان فَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أَجَابَهُ أَضَافَهُ إِلَى خواصه وَإِن خَالفه أعرض عَنهُ وَكَانَ يستميل الْأَحْدَاث وَذَوي الْغرَّة وَكَانَ ذَوُو الحنكة وَالْعقل والحلم من أَهَالِيهمْ ينهونهم ويحذرونهم من اتِّبَاعه ويخوفونهم سطوة السُّلْطَان فَكَانَ لَا يتم لَهُ مَعَ ذَلِك أَمر وطالت الْمدَّة وَخَافَ الْمهْدي من مفاجأة الْأَجَل قبل بُلُوغ الأمل وخشي أَن يطْرق على أهل الْجَبَل من جِهَة الْملك مَا يحوجهم إِلَى استسلامه إِلَيْهِ والتخلي عَنهُ فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِيمَا يشاركونه فِيهِ ليعصوا على الْملك بِسَبَبِهِ فَرَأى بعض أَوْلَاد الْقَوْم شقرا زرقا وألوان آبَائِهِم السمرَة والكحل فَسَأَلَهُمْ عَن سَبَب ذَلِك فَلم يُجِيبُوهُ فألزمهم الْإِجَابَة فَقَالُوا نَحن من رعية هَذَا الْملك وَله علينا خراج وَفِي كل سنة تصعد مماليكه إِلَيْنَا وينزلون فِي بُيُوتنَا ويخرجوننا عَنْهَا ويختلون بِمن فِيهَا من النِّسَاء فتأتي أَوْلَادنَا على هَذِه الصّفة وَمَا لنا قدرَة على دفع ذَلِك عَنَّا فَقَالَ الْمهْدي وَالله إِن الْمَوْت خير من هَذِه الْحَيَاة وَكَيف رَضِيتُمْ بِهَذَا وَأَنْتُم أضْرب خلق الله بِالسَّيْفِ وأطعنهم بِالرُّمْحِ فَقَالُوا بالرغم لَا بالرضى فَقَالَ أَرَأَيْتُم لَو أَن ناصرا نصركم على أعدائكم مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ قَالُوا كُنَّا نقدم أَنْفُسنَا بَين يَدَيْهِ للْمَوْت ثمَّ قَالُوا من هُوَ قَالَ هُوَ ضيفكم يَعْنِي نَفسه فَقَالُوا السّمع وَالطَّاعَة وَكَانُوا يغالون فِي تَعْظِيمه فَأخذ عَلَيْهِم العهود والمواثيق وَاطْمَأَنَّ قلبه ثمَّ قَالَ لَهُم اسْتَعدوا لحضور هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ فَإِذا جاؤوكم فأجروهم على عَادَتهم وخلوا بَينهم وَبَين النِّسَاء وميلوا عَلَيْهِم بالخمور فَإِذا سَكِرُوا فآذنوني بهم فَلَمَّا حضر المماليك وَفعل بهم أهل الْجَبَل مَا أَشَارَ بِهِ الْمهْدي وَكَانَ ذَلِك لَيْلًا أعلموه بذلك أَمر بِقَتْلِهِم كلهم فَلم يمض من اللَّيْل سَاعَة حَتَّى أَتَوا على آخِرهم وَلم يفلت مِنْهُم سوى مَمْلُوك وَاحِد كَانَ خَارج الْمنَازل لحَاجَة لَهُ فَسمع التَّكْبِير عَلَيْهِم والإيقاع بهم فهرب على غير الطَّرِيق حَتَّى خلص من الْجَبَل وَلحق بمراكش فَأخْبر الْملك بِمَا جرى فندم على فَوَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 مُحَمَّد بن تومرت من يَده وَعلم أَن الحزم كَانَ مَعَ مَالك بن وهيب فِيمَا أَشَارَ بِهِ فَجهز من وقته خيلا بِمِقْدَار مَا يسع وَادي تينملل فَإِنَّهُ ضيق المسلك وَعلم الْمهْدي أَنه لَا بُد من عَسْكَر يصل إِلَيْهِم فَأمر أهل الْجَبَل بالقعود على أنقاب الْوَادي ومراصده واستنجد لَهُم بعض المجاورين فَلَمَّا وصلت الْخَيل إِلَيْهِم أَقبلت عَلَيْهِم الْحِجَارَة من جَانِبي الْوَادي مثل الْمَطَر وَكَانَ ذَلِك من أول النَّهَار إِلَى آخِره وَحَال بَينهم اللَّيْل فَرجع الْعَسْكَر إِلَى الْملك وَأَخْبرُوهُ بِمَا تمّ لَهُم فَعلم أَنه لَا طَاقَة لَهُ بِأَهْل الْجَبَل لتحصنهم فَأَعْرض عَنْهُم وَتحقّق الْمهْدي ذَلِك مِنْهُ وصفت لَهُ مَوَدَّة أهل الْجَبَل فَعِنْدَ ذَلِك استدعى أَبَا مُحَمَّد البشير وَقَالَ لَهُ هَذَا أَوَان إِظْهَار فضائلك دفْعَة وَاحِدَة ليقوم لَك مقَام المعجزة لنستميل بذلك قُلُوب من لم يدْخل فِي الطَّاعَة ثمَّ اتفقَا على أَنه يُصَلِّي الصُّبْح وَيَقُول بِلِسَان فصيح بعد اسْتِعْمَال العجمة واللكنة فِي تِلْكَ الْمدَّة إِنِّي رَأَيْت البارحة فِي مَنَامِي أَنه نزل إِلَيّ ملكان من السَّمَاء وشقا فُؤَادِي وغسلاه وحشواه علما وَحِكْمَة وقرآنا فَلَمَّا أصبح فعل ذَلِك وَهُوَ فصل يطول شَرحه فانقاد لَهُ كل صَعب القياد وعجبوا من حَاله وَحفظه الْقُرْآن فِي النّوم فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن تومرت فَعجل لنا بالبشرى فِي أَنْفُسنَا وعرفنا أسعداء نَحن أم أشقياء فَقَالَ لَهُ أما أَنْت فَإنَّك الْمهْدي الْقَائِم بِأَمْر الله وَمن تبعك سعد وَمن خالفك هلك ثمَّ قَالَ اعْرِض أَصْحَابك عَليّ حَتَّى أميز أهل الْجنَّة من أهل النَّار وَعمل فِي ذَلِك حِيلَة قتل بهَا كل من خَالف أَمر مُحَمَّد بن تومرت وَأبقى من أطاعه وَشرح ذَلِك يطول وَكَانَ غَرَضه أَن لَا يبْقى فِي الْجَبَل مُخَالفا لَهُم فَلَمَّا قتل من قتل علم مُحَمَّد بن تومرت أَن فِي البَاقِينَ من لَهُ أهل وعشيرة قتلوا وَأَنَّهُمْ لَا تطيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 نُفُوسهم بذلك فَجَمعهُمْ وبشرهم بانتقال ملك مراكش إِلَيْهِم واغتنام أَمْوَالهم فسرهم ذَلِك وسلاهم عَن أهلهم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن تَفْصِيل هَذِه الْوَاقِعَة طَوِيل ولسنا بصدد ذَلِك وخلاصة الْأَمر أَن مُحَمَّد بن تومرت لم يزل حَتَّى جهز جَيْشًا عدد رِجَاله عشرَة آلَاف بَين فَارس وراجل وَفِيهِمْ عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَأَبُو مُحَمَّد البشير وَأَصْحَابه كلهم وَأقَام هُوَ بِالْجَبَلِ فَنزل الْقَوْم لحصار مراكش وَأَقَامُوا عَلَيْهَا شهرا ثمَّ كسروا كسرة شنيعة وهرب من سلم مِنْهُم من الْقَتْل وَكَانَ فِيمَن سلم عبد الْمُؤمن وَقتل البشير وَبلغ الْخَبَر الْمهْدي وَهُوَ بِالْجَبَلِ وَقد حَضرته الْوَفَاة قبل عود أَصْحَابه إِلَيْهِ فأوصى من حضر أَن يبلغ الغائبين إِن النَّصْر لَهُم وَإِن الْعَاقِبَة حميدة فَلَا يضجروا وليعاودوا الْقِتَال فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيفتح على أَيْديهم وَإِن الْحَرْب سِجَال وَإِنَّكُمْ ستقوون ويضعفون ويقلون وتكثرون وَأَنْتُم فِي مبدأ أَمر وهم فِي آخِره وَأَشْبَاه هَذِه الْوَصَايَا وَهِي وَصِيَّة طَوِيلَة اه كَلَام ابْن خلكان وَقَالَ ابْن خلدون لما كَانَ شَأْن أبي مُحَمَّد البشير وميز الموحد من الْمُنَافِق اعتزم الْمهْدي على غَزْو لمتونة فَجمع كَافَّة أهل دَعوته من المصامدة إِلَيْهِم فَلَقوهُ بكبكب وَهَزَمَهُمْ الموحدون وأتبعوهم إِلَى أغمات فلقيتهم هُنَالك زحوف لمتونة مَعَ أبي بكر بن عَليّ بن يُوسُف وَإِبْرَاهِيم بن تاعماشت فَهَزَمَهُمْ الموحدون وفل إِبْرَاهِيم وجنده واتبعوهم إِلَى مراكش فنزلوا الْبحيرَة فِي زهاء أَرْبَعِينَ ألفا كلهم راجل إِلَّا أَرْبَعمِائَة فَارس واحتفل عَليّ بن يُوسُف فِي الاحتشاد وبرز إِلَيْهِم لأربعين من نزولهم خرج عَلَيْهِم من بَاب آيلان فَهَزَمَهُمْ وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفقد البشير واستحر الْقَتْل فِي هيلانة وأبلى عبد الْمُؤمن فِي ذَلِك الْيَوْم أحسن الْبلَاء وَقيل للمهدي إِن الْمُوَحِّدين قد هَلَكُوا فَقَالَ لَهُم مَا فعل عبد الْمُؤمن قَالُوا هُوَ على جَوَاده الأدهم قد أحسن الْبلَاء فَقَالَ مَا بَقِي عبد الْمُؤمن فَلم يهْلك أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل كَانَت وقْعَة الْبحيرَة بأحواز مراكش قد استأصلت مُعظم أَصْحَاب الْمهْدي وكادت تَأتي عَلَيْهِم وَمَعَ ذَلِك فَلم تضع مِنْهُ وَلَا وهنت صبره وَكَانَ يَقُول مثل هَذَا الْأَمر كالفجر يتقدمه الْفجْر الْكَاذِب وَبعده ينبلج الصُّبْح ويستعلي الضَّوْء وَيَأْمُرهُمْ باتخاذ مرابط الْخَيل الَّتِي ينالون من فَيْء عدوهم بعْدهَا وَإنَّهُ يُعْطي الرجل على قدر مَا أعد من الرِّبَاط إِلَى غير ذَلِك فَهَذَا خبر الْمهْدي مُخْتَصرا من ابْن خلدون ممزوجا بِمَا نَقله ابْن خلكان من ذَلِك وَقد سَاق ابْن أبي زرع فِي القرطاس خبر الْمهْدي هَذَا وَفِيه بعض مُخَالفَة لما تقدم فلنأت بِهِ وَإِن أدّى إِلَى بعض التّكْرَار زِيَادَة فِي الإمتاع وتحلية للأسماع فَنَقُول قَالَ ابْن أبي زرع مَا ملخصه إِن الْمهْدي رَحل إِلَى الْمشرق فِي طلب الْعلم وَلَقي مَشَايِخ وَسمع مِنْهُم وَأخذ عَنْهُم علما كثيرا وَحفظ جملَة من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبغ فِي علم الْأُصُول والاعتقادات وَكَانَ فِي جملَة من لَقِي من الْعلمَاء الشَّيْخ أَحْمد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ لَازمه ثَلَاث سِنِين وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد كثيرا مَا يُشِير إِلَى الْمهْدي وَيَقُول إِنَّه لَا بُد أَن يكون لَهُ شَأْن ونمى الْخَبَر بذلك إِلَى الْمهْدي فَلم يزل يتَقرَّب إِلَى الشَّيْخ بأنواع الْخدمَة حَتَّى أطلعه على مَا عِنْده من الْعلم فِي ذَلِك فَلَمَّا تحققت عِنْده الْحَال استخار الله وعزم على الترحال فَخرج قَاصِدا بِلَاد الْمغرب غرَّة ربيع الأول سنة عشر وَخَمْسمِائة ولازم فِي طَرِيقه درس الْعلم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَى أَن اجْتمع بِهِ عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَبَايعهُ على مؤازرته فِي الشدَّة والرخاء والعسر واليسر ثمَّ قدم بِلَاد الْمغرب وَاسْتقر بمراكش وَكَانَت لَهُ فصاحة وَعَلِيهِ مهابة فَأخذ يطعن على المرابطين وينسبهم إِلَى الْكفْر والتجسيم ويشيع عِنْد من يَثِق بِهِ ويسكن إِلَيْهِ أَنه الْمهْدي المنتظر الَّذِي يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جورا وَجرى مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بمراكش من تَغْيِير الْمُنكر وَنَحْوه مَا تقدم ذكره فاتصل خَبره بعلي بن يُوسُف اللمتوني فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الَّذِي بلغنَا عَنْك فَقَالَ إِنَّمَا أَنا رجل فَقير أطلب الْآخِرَة وآمر بِالْمَعْرُوفِ وأنهى عَن الْمُنكر وَأَنت أَيهَا الْملك أولى من يفعل ذَلِك فَإنَّك المسؤول عَنهُ وَقد ظَهرت بمملكتك الْمُنْكَرَات وفشت الْبدع وَقد وَجب الله عَلَيْك إحْيَاء السّنة وإماتة الْبِدْعَة وَقد عَابَ الله تَعَالَى أمة تركُوا النَّهْي عَن الْمُنكر فَقَالَ {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَلَمَّا سمع أَمِير الْمُسلمين كَلَامه تأثر لَهُ وَأَخذه وأطرق مفكرا ثمَّ أَمر بإحضار الْفُقَهَاء فَحَضَرَ مِنْهُم مَا أغص الْمجْلس ثمَّ قَالَ أَمِير الْمُسلمين اختبروا الرجل فَإِن كَانَ عَالما اتبعناه وَإِلَّا أدبناه وَكَانَ الْمهْدي فصيحا لسنا ذَا معرفَة بالأصول والجدل وَكَانَ الْفُقَهَاء الَّذين حَضَرُوا أَصْحَاب حَدِيث وفروع فدارت بَينهم محاورة ومذاكرة أسكتهم فِيهَا وَبَان عجزهم عَنهُ فعدلوا عَن المذاكرة إِلَّا الممالأة وَأغْروا بِهِ أَمِير الْمُسلمين وَقَالُوا هَذَا رجل خارجي وَإِن بقى بِالْمَدِينَةِ أفسد عقائد أَهلهَا فَأمره أَمِير الْمُسلمين بِالْخرُوجِ من الْبَلَد فَخرج إِلَى الْجَبانَة وَضرب بهَا خيمة جلس فِيهَا وَصَارَ الطّلبَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ لأخذ الْعلم عَنهُ فَكثر جمعه وأحبته الْعَامَّة وعظموه وانْتهى خَبره إِلَى أَمِير الْمُسلمين ثَانِيًا وَنقل إِلَيْهِ أَنه يطعن على الدولة فَأحْضرهُ مرّة أُخْرَى وَقَالَ لَهُ أَيهَا الرجل اتَّقِ الله فِي نَفسك ألم أَنْهَك عَن عقد الجموع والمحازب وأمرتك بِالْخرُوجِ من الْبَلَد فَقَالَ أَيهَا الْملك قد امتثلت أَمرك وَخرجت من الْمَدِينَة إِلَى الْجَبانَة واشتغلت بِمَا يعنيني فَلَا تسمع لأقوال المبطلين فتوعده أَمِير الْمُسلمين وهم بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ ثمَّ عصمه الله مِنْهُ ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَلما انْفَصل الْمهْدي عَن الْمجْلس أغرى الْحَاضِرُونَ أَمِير الْمُسلمين بِهِ وشرحوا لَهُ جلية أمره وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ فاستدرك أَمِير الْمُسلمين فِيهِ رَأْيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَبعث إِلَيْهِ من يَأْتِيهِ بِرَأْسِهِ فَسمع بذلك بعض بطانته فَمر مسرعا حَتَّى إِذا قرب من الْخَيْمَة قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} فَسَمعَهَا الْمهْدي وفطن لَهَا فانسل من حِينه وَخرج حَتَّى أَتَى تينملل فَأَقَامَ بهَا وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ لحق بِهِ أَصْحَابه الْعشْرَة السَّابِقُونَ إِلَى دَعوته والمصدقون بإمامته وهم عبد الْمُؤمن بن عَليّ الكومي وَأَبُو مُحَمَّد البشير الوانشريسي وَأَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي وَأَبُو يحيى بن يكيت الهنتاتي وَأَبُو حَفْص عمر بن عَليّ آصناك وَإِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الخزرجي وَأَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو عمرَان مُوسَى بن تمار وَسليمَان بن خلوف وعاشر فأقاموا بتينملل إِلَى رَمَضَان من سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فَعظم صيته بجبل درن وَكَثُرت أَتْبَاعه فَلَمَّا رأى ذَلِك أظهر دَعوته ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعهُ الْعشْرَة الْبيعَة الْخَاصَّة عقب صَلَاة الْجُمُعَة خَامِس عشر رَمَضَان من السّنة وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم السبت خرج الْمهْدي فِي أَصْحَابه الْعشْرَة متقلدين السيوف وَتقدم إِلَى الْجَامِع فَصَعدَ الْمِنْبَر وخطب النَّاس وأعلمهم أَنه الْمهْدي المنتظر ودعاهم إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ الْبيعَة الْعَامَّة ثمَّ بَث دعاته فِي بِلَاد المصامدة يدعونَ النَّاس إِلَى بيعَته ويزرعون محبته فِي قُلُوبهم بالثناء عَلَيْهِ وَوَصفه بالزهد وتحري الْحق وَإِظْهَار الكرامات فانثال النَّاس عَلَيْهِ من كل جِهَة وسمى أَتْبَاعه الْمُوَحِّدين ولقنهم عقائد التَّوْحِيد بِاللِّسَانِ الْبَرْبَرِي وَجعل لَهُم فِيهِ الأعشار والأحزاب والسور وَقَالَ من لم يحفظ هَذَا التَّوْحِيد فَلَيْسَ بموحد لَا تجوز إِمَامَته وَلَا تُؤْكَل ذَبِيحَته فاستولت محبته على قُلُوبهم وعظموه ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى كَانُوا يستغيثون بِهِ فِي شدائدهم وينوهون باسمه على منابرهم وَلم تزل الْوُفُود تترادف عَلَيْهِ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ جم غفير فَلَمَّا علم أَن ناموسه قد رسخ وسلطانه قد تمكن قَامَ فيهم خَطِيبًا وندبهم إِلَى جِهَاد المرابطين وأباح لَهُم دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فَانْتدبَ النَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 لذَلِك وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت فانتخب مِنْهُم عشرَة آلَاف من أجناد الْمُوَحِّدين وَقدم عَلَيْهِم أَبَا مُحَمَّد البشير وَعقد لَهُ راية بَيْضَاء ودعا لَهُم وَانْصَرفُوا فصمدوا إِلَى مَدِينَة أغمات وانْتهى الْخَبَر إِلَى أَمِير الْمُسلمين فَجهز لقتالهم جَيْشًا من الحشم والأجناد فَلَمَّا الْتَقَوْا انتصر عَلَيْهِم الموحدون وهزموهم واتبعوهم حَتَّى أدخلوهم مراكش وحاصروها أَيَّامًا ثمَّ أفرجوا عَنْهَا حِين تكاثرت عَلَيْهِم جيوش لمتونة وَكَانَ ذَلِك ثَالِث شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة وَقسم الْمهْدي الْغَنَائِم الَّتِي غنموها من عَسْكَر المرابطين وتلا عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى {وَعدكُم الله مَغَانِم كَثِيرَة تأخذونها فَعجل لكم هَذِه} الْآيَة وانتشر ذكر الْمهْدي بِجَمِيعِ أقطار الْمغرب والأندلس وأركب جلّ جَيْشه من خيل المرابطين الَّتِي غنموها ثمَّ غزا مراكش بِنَفسِهِ فعبأ جَيْشه وَسَار حَتَّى نزل بجبل كيليز بِقرب الْمَدِينَة فَأَقَامَ محاصرا لَهَا ثَلَاث سِنِين يباكرها بِالْقِتَالِ ويراوحها من سنة سِتّ عشرَة إِلَى سنة تسع عشرَة وَلما ضجر من مقَامه هُنَاكَ نَهَضَ إِلَى وَادي نَفِيس وَانْحَدَرَ مَعَ مسيله يَدْعُو النَّاس لطاعته وَيُقَاتل من أَبى مِنْهُم فانقاد لَهُ أهل السهل والجبل وبايعته كدميوة ثمَّ غزا بِلَاد ركراكة فَأَخذهُم بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيد الله وَشَرَائِع دينه وَسَار فِي بِلَاد المصامدة يُقَاتل من أَبى ويسالم من أجَاب فَفتح بلادا كَثِيرَة وَدخل فِي دَعوته عَالم كثير من المصامدة وَرجع إِلَى تينملل فَأَقَامَ بهَا شَهْرَيْن ريثما استراح النَّاس ثمَّ غزا مَدِينَة أغمات وبلاد هزرجة فِي ثَلَاثِينَ ألفا من الْمُوَحِّدين فَاجْتمع على حربه أهل أغمات وهزرجة وَخلق كثير من الحشم ولمتونة وَغَيرهم فانتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وَقسم الْمهْدي أنفالهم بَين الْمُوَحِّدين ثمَّ غزا أهل درن فَفتح قلاعه وحصونه وطاع لَهُ جَمِيع من فِيهِ من قبائل هرغة وهنتاتة وكنفسية وَغَيرهم ثمَّ عَاد إِلَى تينملل فَأَقَامَ بهَا ريثما استراح النَّاس ثمَّ ندبهم إِلَى غَزْو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 مراكش وَجِهَاد المرابطين وَقدم عَلَيْهِم عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَأَبا مُحَمَّد البشير وَخص عبد الْمُؤمن بإمامة الصَّلَاة فَسَارُوا حَتَّى انْتَهوا إِلَى أغمات فَلَقِيَهُمْ بهَا أَبُو بكر بن عَليّ بن يُوسُف فِي جَيش كثيف من لمتونة وقبائل صنهاجة فَاقْتَتلُوا ودامت الْحَرْب بَينهم ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ انتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموا أَبَا بكر وجيشه إِلَى مراكش وقتلوهم فِي كل طَرِيق وحصروا مراكش أَيَّامًا ثمَّ رجعُوا إِلَى تينملل فَخرج الْمهْدي للقائهم فَرَحَّبَ بهم وعرفهم بِمَا يكون لَهُم من النَّصْر وَالْفَتْح وَمَا يملكونه من الْبِلَاد ثمَّ كَانَت وَفَاته عقب ذَلِك على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله فَهَذَا سِيَاق ابْن أبي زرع لهَذِهِ الْأَخْبَار وَالله أعلم بِالصَّوَابِ بَقِيَّة أَخْبَار الْمهْدي وَبَعض سيرته إِلَى وَفَاته كَانَ الْمهْدي رجلا ربعَة أسمر عَظِيم الهمة غائر الْعَينَيْنِ حَدِيد النّظر خَفِيف العارضين لَهُ شامة سَوْدَاء على كتفه الْأَيْمن ذَا سياسة ودهاء وناموس عَظِيم وَكَانَ مَعَ ذَلِك عَالما فَقِيها رَاوِيا للْحَدِيث عَارِفًا بالأصول والجدل فصيح اللِّسَان مقداما على الْأُمُور الْعِظَام غير مُتَوَقف فِي سفك الدِّمَاء يهون عَلَيْهِ إِتْلَاف عَالم فِي بُلُوغ غَرَضه وَكَانَ حصورا لَا يَأْتِي النِّسَاء وَكَانَ متيقظا فِي أَحْوَاله ضابطا لما ولي من سُلْطَانه أنْشد صَاحب كتاب الْمغرب ف حَقه (آثاره تنبيك عَن أخباره ... حَتَّى كَأَنَّك بالعيان ترَاهُ) ثمَّ قَالَ لَهُ قدم فِي الثرى وهمة فِي الثريا وَنَفس ترى إِرَاقَة مَاء الْحَيَاة دون إِرَاقَة مَاء الْمحيا أغفل المرابطون عقله وربطه حَتَّى دب إِلَيْهِم دَبِيب القلق فِي الغسق وَترك فِي الدُّنْيَا دويا أنشأ دولة لَو شَاهدهَا أَبُو مُسلم لَكَانَ لعزمه فِيهَا غير مُسلم وَكَانَ قوته من غزل أُخْت لَهُ فِي كل يَوْم رغيفا بِقَلِيل سمن أَو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 زَيْت وَلم ينْتَقل عَن هَذَا حِين كثرت عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَرَأى أَصْحَابه يَوْمًا وَقد مَالَتْ نُفُوسهم إِلَى كَثْرَة مَا غنموه فَأمر بِضَم ذَلِك جَمِيعه وإحراقه وَقَالَ من كَانَ يَتبعني لأجل الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي إِلَّا مَا رأى وَمن تَبِعنِي للآخرة فَجَزَاؤُهُ عِنْد الله وَكَانَ على خمول زيه وَبسط وَجهه مهيبا منيع الْحجاب إِلَّا عِنْد مظْلمَة وَله رجل مُخْتَصّ بخدمته وَالْإِذْن عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ شعر فَمن ذَلِك قَوْله (أخذت بأعضادهم إِذْ نؤوا ... وخلفك الْقَوْم إِذْ ودعو) (فكم أَنْت تنْهى وَلَا تَنْتَهِي ... وَتسمع وعظا وَلَا تسمع) (فيا حجر السن حَتَّى مَتى ... تسن الْحَدِيد وَلَا تقطع) وَكَانَ كثيرا مَا ينشد (تجرد من الدُّنْيَا فَإنَّك إِنَّمَا ... خرجت إِلَى الدُّنْيَا وَأَنت مُجَرّد) وَكَانَ يتَمَثَّل أَيْضا بقول أبي الطّيب المتنبي (إِذا غامرت فِي شرف مروم ... فَلَا تقنع بِمَا دون النُّجُوم) (فَطَعِمَ الْمَوْت فِي أَمر حقير ... كطعم الْمَوْت فِي أَمر عَظِيم) وَبقول أَيْضا (وَمن عرف الْأَيَّام معرفتي بهَا ... وبالناس روى رمحه غير رَاحِم) (فَلَيْسَ بمرحوم إِذا ظفروا بِهِ ... وَلَا فِي الردى الْجَارِي عَلَيْهِم بآثم) وَبِقَوْلِهِ أَيْضا (وَمَا أَنا مِنْهُم بالعيش فيهم ... وَلَكِن مَعْدن الذَّهَب الرغام) وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل قَالُوا كَانَ مُحَمَّد بن تومرت يزْعم أَنه مَأْمُور بِنَوْع من الْوَحْي والإلهام وينكر كتب الرَّأْي والتقليد وَله بَاعَ فِي علم الْكَلَام وغلبت عَلَيْهِ نزغة خارجية وَكَانَ ينتحل القضايا الإستقبالية وَيُشِير إِلَى الكوائن الْآتِيَة ورتب قومه ترتيبا غَرِيبا فَمنهمْ أهل الدَّار وَأهل الْجَمَاعَة وَأهل السَّاقَة وَأهل خمسين وَأهل سبعين والطلبة والحفاظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَأهل الْقَبَائِل فَأهل الدَّار للامتهان والخدمة وَأهل الْجَمَاعَة للتفاوض والمشورة وَأهل السَّاقَة للمباهاة وَأهل سبعين وَخمسين والحفاظ والطلبة لحمل الْعلم والتلقي وَسَائِر الْقَبَائِل لمدافعة الْعَدو وَكَانَ يعلمهُمْ أوجه الْعِبَادَات فِي الْعَادَات قلت من ذَلِك أَن طَائِفَة من المصامدة عسر عَلَيْهِم حفظ الْفَاتِحَة لشدَّة عجمتهم فعدد كَلِمَات أم الْقُرْآن ولقب بِكُل كلمة مِنْهَا رجلا فصفهم صفا وَقَالَ لأولهم اسْمك الْحَمد لله وَللثَّانِي رب الْعَالمين وَهَكَذَا حَتَّى تمت كَلِمَات الْفَاتِحَة ثمَّ قَالَ لَهُم لَا يقبل الله مِنْكُم صَلَاة حَتَّى تجمعُوا هَذِه الْأَسْمَاء على نسقها فِي كل رَكْعَة فسهل عَلَيْهِم الْأَمر وحفظوا أم الْقُرْآن ذكره صَاحب المعرب قَالُوا وَهُوَ أول من أحدث أصبح وَللَّه الْحَمد فِي أَذَان الصُّبْح وَمن جراءته وإقدامه وتهالكه على تَحْصِيل مرامه مَا حَكَاهُ صَاحب القرطاس قَالَ كَانَت بَين الْمُوَحِّدين والمرابطين حَرْب فَقتل من الْمُوَحِّدين خلق كثير فَعظم ذَلِك على عَشَائِرهمْ فاحتال الْمهْدي بِأَن انتخب قوما من أَتْبَاعه ودفنهم أَحيَاء بِموضع المعركة وَجعل لكل وَاحِد مِنْهُم متنفسا فِي قَبره وَقَالَ لَهُم إِذا سئلتم عَن حالكم فَقولُوا قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا وَأَن مَا دَعَا إِلَيْهِ الإِمَام الْمهْدي هُوَ الْحق فجدوا فِي جِهَاد عَدوكُمْ وَقَالَ لَهُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك أخرجتكم وَكَانَت لكم عِنْدِي الْمنزلَة الْعَالِيَة وَقصد بذلك أَن يثبتهم على التَّمَسُّك بدعوته ويهون عَلَيْهِم مَا لاقوا من الْقَتْل والجراحات بِسَبَبِهِ ثمَّ جمع أَصْحَابه عِنْد السحر وَقَالَ لَهُم أَنْتُم يَا معشر الْمُوَحِّدين حزب الله وأنصار دينه وَأَعْوَان الْحق فجدوا فِي قتال عَدوكُمْ فَإِنَّكُم على بَصِيرَة من أَمركُم وَإِن كُنْتُم ترتابون فِيمَا أقوله لكم فَأتوا مَوضِع المعركة وسلوا من اسْتشْهد الْيَوْم من إخْوَانكُمْ يُخْبِرُوكُمْ بِمَا لقوا من الثَّوَاب عِنْد الله ثمَّ أَتَى بهم إِلَى مَوضِع المعركة ونادى يَا معشر الشُّهَدَاء مَاذَا لَقِيتُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 من الله عز وَجل فَقَالُوا قد أَعْطَانَا من الثَّوَاب مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فَافْتتنَ النَّاس وظنوا أَن الْمَوْتَى قد كلموهم وحكوا ذَلِك لبَقيَّة إخْوَانهمْ فازدادوا بَصِيرَة فِي أمره وثباتا على رَأْيه وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال وَفَاة الْمهْدي رَحمَه الله كَانَت وَفَاة الْمهْدي عقب وقْعَة الْبحيرَة قَالَ ابْن خلدون لأربعة أشهر بعْدهَا وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وَغَيره كَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَقيل غير ذَلِك وَقَالَ فِي القرطاس لما رَجَعَ الموحدون من غَزْو مراكش إِلَى تينملل خرج إِلَيْهِم الْمهْدي فَسلم عَلَيْهِم ورحب بهم وأعلمهم بِمَا يكون لَهُم من النَّصْر وَالْفَتْح وَمَا يملكونه من الْبِلَاد وبمدة ملكهم وأعلمهم أَنه يَمُوت فِي تِلْكَ السّنة فبكوا وأسفوا ثمَّ مرض مَرضه الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَقدم عبد الْمُؤمن للصَّلَاة أَيَّام مَرضه ثمَّ توفّي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَذكر بعض المؤرخين أَن الْمهْدي رأى فِي مَنَامه قبل وَفَاته كَأَن آتِيَا أَتَاهُ فأنشده أبياتا نعى لَهُ فِيهِ نَفسه وأعلمه بِالْيَوْمِ الَّذِي يَمُوت فِيهِ فَكَانَ كَذَلِك انْظُر القرطاس وَقد مر فِي هَذِه الْأَخْبَار ذكر كتاب الجفر وَرُبمَا تتشوق النَّفس لمعْرِفَة حَقِيقَته فقد قَالَ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان وَاعْلَم أَن كتاب الجفر كَانَ أَصله أَن هَارُون بن سعيد الْعجلِيّ وَهُوَ رَأس الزيدية كَانَ لَهُ كتاب يرويهِ عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَفِيه علم مَا سيقع لأهل الْبَيْت على الْعُمُوم ولبعض الْأَشْخَاص مِنْهُم على الْخُصُوص وَقع ذَلِك لجَعْفَر ونظائره من رجالاتهم على طَرِيق الْكَرَامَة والكشف الَّذِي يَقع لمثلهم من الْأَوْلِيَاء وَكَانَ مَكْتُوبًا عِنْد جَعْفَر الصَّادِق فِي جلد ثَوْر صَغِير فَرَوَاهُ عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 هَارُون الْعجلِيّ وَكتبه وَسَماهُ الجفر باسم الْجلد الَّذِي كتب فِيهِ لِأَن الجفر فِي اللُّغَة هُوَ الصَّغِير فَصَارَ هَذَا الإسم علما على هَذَا الْكتاب عِنْدهم وَكَانَ فِيهِ تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم وَمَا فِي بَاطِنه من غرائب الْمعَانِي مروية عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَذكره ابْن قُتَيْبَة فِي أَوَائِل كتاب اخْتِلَاف الحَدِيث فَقَالَ بعد كَلَام طَوِيل وأعجب من هَذَا التَّفْسِير تَفْسِير الروافض لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم وَمَا يَدعُونَهُ من علم بَاطِنه بِمَا وَقع إِلَيْهِم من الجفر الَّذِي ذكره الْعجلِيّ ثمَّ قَالَ ابْن قُتَيْبَة (ألم تَرَ أَن الرافضين تفَرقُوا ... فكلهم فِي جَعْفَر قَالَ مُنْكرا) (فطائفة قَالُوا إِمَام وَمِنْهُم ... طوائف سمته النَّبِي المطهرا) (وَمن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... بَرِئت إِلَى الرَّحْمَن مِمَّن تجفرا) فِي أَبْيَات غير هَذِه ثمَّ قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَهُوَ جلد جفر ادعوا أَنه كتب لَهُم فِيهِ الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَكلما يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة اه وَهَذَا تزييف من ابْن قُتَيْبَة لكتاب الجفر وَخَالف هَذَا الْمَذْهَب أَبُو الْعَلَاء المعري فَقَالَ (لقد عجبوا لأهل الْبَيْت لما ... أَتَاهُم علمهمْ فِي مسك جفر) (ومرآة المنجم وَهِي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر) والمسك بِفَتْح الْمِيم الْجلد والجفر بِفَتْح الْجِيم مَا بلغ أَرْبَعَة أشهر من أَوْلَاد الْمعز وَكَانَت عَادَتهم فِي ذَلِك الزَّمَان أَنهم يَكْتُبُونَ فِي الْجُلُود وَمَا شاكلها لقلَّة الأوراق يَوْمئِذٍ وَقَالَ ابْن خلدون كتاب الجفر لم تتصل رِوَايَته عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ وَلَا عرف عينه وَإِنَّمَا يظْهر مِنْهُ شواذ من الْكَلِمَات لَا يصحبها دَلِيل وَلَو صَحَّ النِّسْبَة إِلَى جَعْفَر الصَّادِق لَكَانَ فِيهِ نعم الْمُسْتَند من نَفسه أَو من رجال قومه فهم أهل الكرامات رَضِي الله عَنْهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ الكومي وأوليتها اعْلَم أَن بني عبد الْمُؤمن لَيْسُوا من المصامدة وَإِنَّمَا هم من كومية ثمَّ من بني عَابِد مِنْهُم وكومية ويعرفون قَدِيما بصطفورة بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضري بن زجيك بن مادغيس الأبتر فهم بَنو عَم زناتة يَجْتَمعُونَ فِي ضري بن زجيك هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبَعض المؤرخين يرفعون نسب عبد الْمُؤمن إِلَى قيس عيلان بن مُضر وَهُوَ ضَعِيف قَالَ ابْن خلدون كَانَ عبد الْمُؤمن من بني عَابِد أحد بيوتات كومية وأشرافهم قَالَ وموطنهم بتاكرارت وَهُوَ حصن فِي الْجَبَل المطل على هنين من نَاحيَة الشرق وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ وَالِد عبد الْمُؤمن وَسِيطًا فِي قومه وَكَانَ صانعا فِي عمل الطين يعْمل مِنْهُ الْآنِية فيبيعها وَكَانَ عَاقِلا من الرِّجَال وقورا ويحكى أَن عبد الْمُؤمن فِي صباه كَانَ نَائِما تجاه أَبِيه وَأَبوهُ مشتغل بِعَمَلِهِ فِي الطين فَسمع أَبوهُ دويا فِي السَّمَاء فَرفع رَأسه فَرَأى سَحَابَة سَوْدَاء من النَّحْل قد هوت مطبقة على الدَّار فَنزلت كلهَا مجتمعة على عبد الْمُؤمن وَهُوَ نَائِم فغطته وَلم يظْهر من تحتهَا وَلَا اسْتَيْقَظَ لَهَا فرأته أمه على تِلْكَ الْحَال فصاحت خوفًا على وَلَدهَا فسكتها أَبوهُ فَقَالَت أَخَاف عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْهِ بل إِنِّي متعجب مِمَّا يدل عَلَيْهِ ذَلِك ثمَّ إِنَّه غسل يَدَيْهِ من الطين وَلبس ثِيَابه ووقف ينْتَظر مَا يكون من أَمر النَّحْل فطار عَنهُ بأجمعه فَاسْتَيْقَظَ الصَّبِي وَمَا بِهِ من ألم فتفقدت أمه جسده فَلم تَرَ بِهِ أثرا وَلم يشك ألما وَكَانَ بِالْقربِ مِنْهُم رجل مَعْرُوف بالزجر فَمضى أَبوهُ إِلَيْهِ فَأخْبرهُ بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 رَآهُ من النَّحْل مَعَ وَلَده فَقَالَ الزاجر يُوشك أَن يكون لَهُ شَأْن يجْتَمع على طَاعَته أهل الْمغرب فَكَانَ من أمره مَا اشْتهر وَقد تقدم لنا أَن الْمهْدي كَانَ عِنْده كتاب الجفر وَكَانَ فِيهِ أَن أمره لَا يتم إِلَّا على يَد رجل اسْمه كَذَا وحليته كَذَا وَهُوَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَأَقَامَ الْمهْدي يتطلبه مُدَّة إِلَى أَن لقِيه بملالة وَعبد الْمُؤمن إِذْ ذَاك شَاب حدث طَالب علم فلازم الْمهْدي واستمسك بغرره إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ وَكَانَ الْمهْدي يتفرس فِيهِ النجابة وينشد إِذا أبصره (تكاملت فِيك أَوْصَاف خصصت بهَا ... فكلنا بك مسرور ومغتبط) (السن ضاحكة والكف مانحة ... وَالنَّفس وَاسِعَة وَالْوَجْه منبسط) والبيتان لأبي الشيص الْخُزَاعِيّ وَكَانَ يَقُول لأَصْحَابه صَاحبكُم غلاب الدول وَكَانَ يَقُول عبد الْمُؤمن من صديقي هَذِه الدائرة وَقَالَ ابْن خلدون آثر الْمهْدي عبد الْمُؤمن بمزيد الخصوصية والقرب بِمَا خصّه الله بِهِ من الْفَهم والوعي للتعليم حَتَّى كَانَ خَالِصَة الْمهْدي وكنز صحابته وَكَانَ مؤمله لخلافته لما أظهره عَلَيْهِ من الشواهد المؤذنة بذلك وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الْخَطِيب (وَخلف الْأَمر لعبد الْمُؤمن ... فانقادت الدُّنْيَا لَهُ فِي رسن) (حباه بَين الْقَوْم بالأمارة ... إِذْ وضحت لَهُ فِيهِ الْإِمَارَة) وَلما اجتاز الْمهْدي فِي طَرِيقه إِلَى الْمغرب بالثعالبة عرب الجزائر أهدوا إِلَيْهِ حمارا فارها يركبه لِأَنَّهُ كَانَ ساعيا على رجلَيْهِ فَكَانَ يُؤثر بِهِ عبد الْمُؤمن وَيَقُول لأَصْحَابه اركبوه الْحمار يركبكم الْخُيُول المسومة وَزعم بَنو عبد الْمُؤمن أَن الْمهْدي كَانَ اسْتَخْلَفَهُ من بعده وَقَالَ ابْن خلكان لم يَصح أَنه اسْتَخْلَفَهُ وَإِنَّمَا رَاعى أَصْحَابه فِي تَقْدِيمه إِشَارَته فتم لَهُ الْأَمر وَالله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 بيعَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَالسَّبَب فِيهَا لما توفّي الْمهْدي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تولى عبد الْمُؤمن تَجْهِيزه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ ثمَّ دَفنه بمسجده الملاصق لداره من تينملل وَلما فرغ الموحدون من أمره تشوف كل وَاحِد من الْعشْرَة إِلَى الْخلَافَة بعده وَكَانُوا من قبائل شَتَّى وأحبت كل قَبيلَة أَن يكون الْخَلِيفَة مِنْهَا وَأَن لَا يتَوَلَّى عَلَيْهَا من هُوَ من غَيرهَا فتنافسوا فِي ذَلِك فَاجْتمع الْعشْرَة وَالْخَمْسُونَ وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم وخافوا على أنفسهم النِّفَاق وَأَن تفْسد نياتهم وتفترق جَمَاعَتهمْ فاتفقوا على خلَافَة عبد الْمُؤمن لكَونه كَانَ غَرِيبا بَين أظهرهم لَيْسَ من المصامدة لِأَن المصامدة من البرانس وكومية قَبيلَة عبد الْمُؤمن من البتر فقدموه لذَلِك مَعَ مَا كَانُوا يرَوْنَ من ميل الْمهْدي إِلَيْهِ وإيثاره على غَيره فتم لَهُ الْأَمر وَقَالَ ابْن خلدون لما مَاتَ الْمهْدي خشِي أَصْحَابه من افْتِرَاق الْكَلِمَة وَمَا يتَوَقَّع من سخط المصامدة لولاية عبد الْمُؤمن لكَونه من غير جلدتهم فأرجؤوا الْأَمر إِلَى أَن تخالط بشاشة الدعْوَة قُلُوبهم وكتموا مَوته لثلاث سِنِين يموهون فِيهَا بمرضه ويقيمون سنته فِي الصَّلَاة والحزب الرَّاتِب وَيدخل أَصْحَابه إِلَى بَيته كَأَنَّهُ اختصهم بعيادته فَيَجْلِسُونَ حوالي قَبره ويتفاوضون فِي شؤونهم ثمَّ يخرجُون لإنفاذ مَا أبرموه ويتولى ذَلِك عبد الْمُؤمن حَتَّى إِذا استحكم أَمرهم وتمكنت الدعْوَة من كافتهم كشفوا القناع عَن حَالهم وتمالأ من بَقِي من الْعشْرَة على تَقْدِيم عبد الْمُؤمن وَتَوَلَّى كبر ذَلِك الشَّيْخ أَبُو حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس فأظهروا للنَّاس موت الْمهْدي وَعَهده لصَاحبه وانقاد بَقِيَّة أَصْحَابه لذَلِك وروى لَهُم يحيى بن يغمور أَنه كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ أثر صلواته اللَّهُمَّ بَارك فِي الصاحب الْأَفْضَل فَرضِي الكافة وانقادوا لَهُ وَأَجْمعُوا على بيعَته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَزَعَمُوا أَن عبد الْمُؤمن اسْتعْمل فِي ذَلِك حِيلَة تمّ لَهُ بهَا مَا أَرَادَ وَذَلِكَ أَنه عمد إِلَى طَائِر وَأسد فضراهما حَتَّى أنسا بِهِ وَعلم الطَّائِر أَن يَقُول عِنْد عَلامَة نصبها لَهُ النَّصْر والتمكين لعبد الْمُؤمن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعلم الْأسد أَن يبصبص لَهُ ويتمسح بِهِ كلما رَآهُ ثمَّ جمع عبد الْمُؤمن الْمُوَحِّدين وخطبهم وحضهم على الألفة واجتماع الْكَلِمَة وحذرهم عَاقِبَة الْبَغي وَالْخلاف وبينما هُوَ فِي ذَلِك إِذْ أرسل سائس الْأسد أسده وصفر صَاحب الطَّائِر لطائره فبصبص هَذَا وأعلن بالنصر هَذَا فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذَلِك وَرَأَوا أَنَّهَا كَرَامَة لعبد الْمُؤمن فازدادوا بهَا بَصِيرَة فِي أمره وثباتا على بيعَته مَعَ مَا كَانَ من تَقْدِيم الْمهْدي لَهُ فِي الصَّلَاة أَيَّام مَرضه وَفِي ذَلِك يَقُول بَعضهم أنس الشبل ابتهاجا بالأسد ... وَرَأى شبه أَبِيه فقصد) (ودعا الطَّائِر بالنصر لكم ... فَقضى حقكم حِين وَفد) وَالله أعلم وَكَانَت بيعَة عبد الْمُؤمن الْعَامَّة بعد صَلَاة الْجُمُعَة لعشرين يَوْمًا من ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة بِجَامِع تينملل وَأول من بَايعه الْعشْرَة أَصْحَاب الْمهْدي ثمَّ الْخَمْسُونَ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين ثمَّ كَافَّة الْمُوَحِّدين لم يتَخَلَّف عَن بيعَته مِنْهُم أحد فاستوثق لَهُ الْأَمر وَاسْتولى على الْمغرب بأسره وَفتح بِلَاد إفريقية إِلَى برقة وبلاد الأندلس بأسرها وخطب لَهُ على مَنَابِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 هَذِه الأقاليم كلهَا على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيله إِن شَاءَ الله وَلما تمت بيعَته غزا من حِينه بِلَاد تادلا فَقتل بهَا وسبى ثمَّ غزا بِلَاد درعة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ غزا بِلَاد غمارة فَافْتتحَ الْبَعْض مِنْهَا وَقتل واليها ثمَّ تسابق النَّاس إِلَى دَعوته أَفْوَاجًا وأنتقضت البربر على المرابطين فِي سَائِر أقطار الْمغرب وَكَانَ مَا نذكرهُ غَزْوَة عبد الْمُؤمن الطَّوِيلَة الَّتِي استولى فِيهَا على المغربين ثمَّ صرف عبد الْمُؤمن عزمه لفتح بِلَاد الْمغرب فغزا غزوته الطَّوِيلَة الَّتِي مكث فِيهَا سبع سِنِين وأجلت عَن فتح المغربين مَعًا الْأَقْصَى والأوسط خرج لَهَا ثمَّ تينملل فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَلم يزل يتقرى بِلَاد الْمغرب وَيفتح معاقلها وَيُسْتَنْزَلُ حماتها ويذلل صعابها إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ خُرُوجه من تينملل على طَرِيق الْجَبَل وَخرج تاشفين بن عَليّ فِي أَتْبَاعه من مراكش على طَرِيق السهل إِلَى أَن وصلا إِلَى تلمسان حَسْبَمَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار المرابطين قَالَ ابْن خلدون خرج عبد الْمُؤمن فِي هَذِه الْغَزْوَة من تينملل يَعْنِي على طَرِيق الْجَبَل كَمَا قُلْنَا وَخرج تاشفين بن عَليّ يَعْنِي فِي حَيَاة وَالِده بعساكره يحاذيه فِي الْبَسِيط وَالنَّاس يفرون مِنْهُ إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ يتنقل فِي الْجبَال فِي سَعَة من الْفَوَاكِه للْأَكْل والحطب للدفء إِلَى أَن وصل إِلَى جبال غمارة واشتعلت نَار الْفِتْنَة والغلاء بالمغرب وأقشعت الرعايا عَن الْبِلَاد وألح الطاغية على الْمُسلمين بالعدوة الأندلسية وَهلك خلال ذَلِك أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَولي بعده ابْنه تاشفين بن عَليّ الْمَذْكُور وَهُوَ فِي غزاته هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَفِي القرطاس ارتحل عبد الْمُؤمن إِلَى جبال غمارة وارتحل تاشفين بن عَليّ فِي أَثَره فَنزل بِإِزَاءِ عين الْقَدِيم وَذَلِكَ فِي فصل الشتَاء فَأَقَامَ بذلك المنززل شَهْرَيْن حَتَّى أحرق أهل محلته أوتاد أخبيتهم ورماحهم وهدموا بُيُوتهم وخيامهم انْتهى ونشأت فتْنَة بَين لمتونة ومسوفة فَنزع جمَاعَة من أُمَرَاء مسوفة مِنْهُم عَامل تلمسان يحيى بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بآنكمار وَلَحِقُوا بِعَبْد الْمُؤمن ودخلوا فِي دَعوته فنبذ إِلَيْهِم المرابطون الْعَهْد وَإِلَى سَائِر مسوفة وَاسْتمرّ عبد الْمُؤمن على حَاله فنازل سبتة فامتنعت عَلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر دفاعه عَنْهَا القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الشهير الذّكر وَكَانَ رئيسها يَوْمئِذٍ بأبوته ومنصبه وَعلمه وَدينه قَالَ ابْن خلدون وَلذَلِك سخطته الدولة يَعْنِي دولة الْمُوَحِّدين آخر الْأَيَّام حَتَّى مَاتَ مغربا عَن سبته مُسْتَعْملا فِي خطة الْقَضَاء بالبادية من تادلا رَحمَه الله وَتَمَادَى عبد الْمُؤمن فِي غزاته إِلَى جبال غياثة وبطوية فافتتحها ثمَّ نَازل ملوية فَافْتتحَ حصونها ثمَّ تخطى إِلَى بِلَاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة وَكَانَ قد بعث إِلَيْهِم جَيْشًا من الْمُوَحِّدين إِلَى نظر يُوسُف بن وانودين فَخرج إِلَيْهِم مُحَمَّد بن يحيى بن فانوا عَامل تلمسان من قبل المرابطين فِيمَن مَعَه من جيوش لمتونة وزناتة فَهَزَمَهُمْ الموحدون وَقتل ابْن فانوا وانفض جمع زناتة وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ وَولى تاشفين بن عَليّ على تلمسان أَبَا بكر بن مزدلي وَقدم على عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمكانه من الرِّيف أَبُو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر من أُمَرَاء بني ومانوا من زناتة فَبعث مَعَهم يحيى بن يغمور ويوسف بن وانودين فِي عَسْكَر فأثخنوا فِي بِلَاد بني عبد الواد وَبني يلومي من زناتة سبيا وأسرا وَلحق صريخهم بتاشفين بن عَليّ فَأَمَدَّهُمْ بعساكر لمتونة وَمَعَهُمْ الروبرتير قَائِد الرّوم ونزلوا منداس وانضمت إِلَيْهِم قبائل زناتة من بني يلومي وَبني عبد الواد مَعَ شيخهم حمامة بن مطهر وإخوانهم بني توجين وَغَيرهم فأوقعوا بيني ومانوا وَقتلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 أَبَا بكر بن ماخوخ فِي سِتّمائَة من قومه واستنفذوا غنائمهم وتحصن الموحدون وفل بني وماتوا بجبل سيرات وَلحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بِعَبْد الْمُؤمن ومستجيشا بِهِ على لمتونة وزناتة فارتحل مَعَه عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان ثمَّ أجَاز إِلَى سيرات وَقصد محلّة لمتونة وزناتة فأوقع بهم وَرجع إِلَى تلمسان فَنزل مَا بَين الصخرتين من جبل تيطرى وَنزل تاشفين بن عَليّ بالسهل مِمَّا يَلِي الصفصاف ثمَّ وصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية لنظر قائده بن كباب أمدوا بِهِ تاشفين بن عَليّ وَقَومه لعصبية الصنهاجية وَفِي يَوْم وُصُوله أشرف على معسكر الْمُوَحِّدين وَكَانَ يدل بإقدام فَعرض بلمتونة وأميرهم تاشفين بن عَليّ لقعودهم عَن مناجزة الْمُوَحِّدين وَقَالَ إِنَّمَا جِئتُكُمْ لأخلصكم من صَاحبكُم عبد الْمُؤمن هَذَا وأرجع إِلَى قومِي فامتعض تاشفين بن عَليّ من كَلمته وَأذن لَهُ فِي المناجزة فَحمل على الْقَوْم فَرَكبُوا وصمموا للقائه فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وانفض عسكره وَكَانَ تاشفين بعث من قبل ذَلِك قائده على الرّوم وَهُوَ الروبرتير فِي عَسْكَر ضخم فَأَغَارَ على قوم من زناتة كَانُوا فِي بسيط لَهُم فاكتسحهم وَرجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من عَسْكَر عبد الْمُؤمن فَقَتَلُوهُمْ وَقتلُوا الروبرتير فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ بعث تاشفين بن عَليّ بعثا آخر إِلَى جِهَة أُخْرَى فَلَقِيَهُمْ تاشفين بن ماخوخ وَمن كَانَ مَعَه من الْمُوَحِّدين واعترضوا عَسْكَر بجاية عِنْد رجوعهم فنالوا مِنْهُم أعظم النّيل وتوالت هَذِه الوقائع على تاشفين بن عَليّ اللمتوني فأجمع الرحلة إِلَى وهران وَبعث ابْنه ولي عَهده إِبْرَاهِيم بن تاشفين إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من لمتونة وَبعث كَاتبا مَعَه أَحْمد بن عَطِيَّة ورحل هُوَ إِلَى وهران سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فَأَقَامَ عَلَيْهَا شهرا ينْتَظر قَائِد أسطوله مُحَمَّد بن مَيْمُون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 إِلَى أَن وَصله من المرية بِعشْرَة أساطيل فأرسى قَرِيبا من مُعَسْكَره وزحف عبد الْمُؤمن من تلمسان وَبعث فِي مقدمته الشَّيْخ أَبَا حَفْص عمر بن يحيى الهنتاتي وَمَعَهُ بَنو ومانوا من زناتة فتقدموا إِلَى بِلَاد زناتة ونزلوا منداس وسط بِلَادهمْ وَجمع لَهُ بَنو يادين كلهم وَبَنُو بلومي وَبَنُو مرين ومغراوة فأثخن فيهم الموحدون حَتَّى أذعنوا للطاعة ودخلوا فِي دعوتهم ووفد على عبد الْمُؤمن جمَاعَة من رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ مِنْهُم سيد النَّاس ابْن أَمِير النَّاس شيخ بني يلومي وحمامة بن مطهر شيخ بني عبد الواد وَغَيرهم فَتَلقاهُمْ بِالْقبُولِ وَسَار بهم فِي جموع الْمُوَحِّدين إِلَى وهران فبيتوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم ولجأ تاشفين إِلَى رابية هُنَاكَ فأحدقوا بهَا وأضرموا النيرَان حولهَا حَتَّى إِذا غشيهم اللَّيْل خرج تاشفين من الْحصن رَاكِبًا فرسه فتردى بِهِ من بعض حافات الْجَبَل وَهلك لسبع وَعشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى تينملل وَنَجَا فل الْعَسْكَر إِلَى وهران فانحصروا بهَا مَعَ أَهلهَا حَتَّى جهدهمْ الْعَطش فنزلوا على حكم عبد الْمُؤمن يَوْم عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة فاستأصلهم الْقَتْل رَحِمهم الله وَبلغ خبر مقتل تاشفين بن عَليّ إِلَى تلمسان مَعَ فل لمتونة الَّذين نَجوا من وقْعَة وهران وَفِيهِمْ سير بن الْحَاج فِي آخَرين من أعيانهم ففر مَعَهم من كَانَ بهَا من لمتونة وَلما وصل عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كَانَ أَكْثَرهم من الحشم بعد أَن كَانَ بعثوا سِتِّينَ من وُجُوههم فَلَقِيَهُمْ يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فَقَتلهُمْ أَجْمَعِينَ وافتتح عبد الْمُؤمن تلمسان وَعَفا عَن أَهلهَا ورحل عَنْهَا لسبعة أشهر من فتحهَا بعد أَن ولى عَلَيْهَا سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن وانودين وَقيل يُوسُف بن وانودين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فتح مَدِينَة فاس نقل بعض المؤرخين أَن عبد الْمُؤمن لم يزل محاصرا لتلمسان والفتوح ترد عَلَيْهِ وَهُنَاكَ وصلته بيعَة أهل سجلماسة إِلَى أَن اعتزم على الرحيل إِلَى الْمغرب فَترك إبراهم يبن جَامع محاصرا لتلمسان وَقصد مَدِينَة فاس سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقد تحصن بهَا يحيى بن أبي بكر الصحراوي من فل تاشفين بن عَليّ من وهران فنازلها عبد الْمُؤمن وَبعث عسكرا لحصار مكناسة ثمَّ نَهَضَ فِي أَتْبَاعه وَترك عسكرا من الْمُوَحِّدين على فاس وَعَلَيْهِم الشَّيْخ أَبُو حَفْص وَأَبُو إِبْرَاهِيم من صحابة الْمهْدي الْعشْرَة فحاصروها سَبْعَة أشهر ثمَّ داخلهم ابْن الجياني فسرب الْبَلَد وَأدْخل الْمُوَحِّدين لَيْلًا وفر يحيى بن أبي بكر الصحراوي إِلَى طنجة ثمَّ أجاء مِنْهَا إِلَى يحى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية بالأندلس وَكَانَ واليا على قرطبة من قبل المرابطين فَأَقَامَ عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وانْتهى خبر فتح فاس إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمكانه من حِصَار مكناسة فَرجع إِلَيْهَا ودخلها وَحكى صَاحب القرطاس فِي فتح فاس خلاف هَذَا الْوَجْه فَقَالَ وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة فتح عبد الْمُؤمن فاسا بعد حِصَار شَدِيد قطع عَنْهَا مَاء النَّهر الدَّاخِل إِلَيْهَا وسده بِالْبِنَاءِ والخشب حَتَّى انحبس المَاء فَوق بسيط الأَرْض وانْتهى إِلَى مراكزه مِنْهَا ثمَّ خرق السد فانحدر المَاء على الْمَدِينَة دفْعَة وَاحِدَة وَهدم سورها ثمَّ هدم من دورها مايزيد عَن ألفي دَار بالتثنية وَهلك بهَا خلق كثير وَكَانَ المَاء يَأْتِي على أَكْثَرهَا ثمَّ دَخلهَا عبد الْمُؤمن وَأمن أَهلهَا إِلَّا من كَانَ بهَا من المرابطين فَإِنَّهُ أَمر أَن لَا يمْضِي لَهُم أَمَان وقتلهم قتل عَاد ثمَّ أَمر بسور الْمَدِينَة فهدم مِنْهُ ثلم كَثِيرَة أوسعها جدا وَقَالَ إِنَّا لَا نحتاج إِلَى سور وَإِنَّمَا أسوارنا سُيُوفنَا وعدلنا فَم تزل فاس لَا سور لَهَا إِلَى أَن تداركها حافده يَعْقُوب الْمَنْصُور فابتدأ بناءه وَمَات فأتمه ابْنه النَّاصِر سنة سِتّمائَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَلما فتح عبد الْمُؤمن فاسا ولى عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم بن جَامع الَّذِي خَلفه على تلمسان فَإِنَّهُ لما فتحهَا ارتحل إِلَى عبد الْمُؤمن فاتصل بِهِ وَهُوَ محاصر لفاس فَفَتحهَا عبد الْمُؤمن وولاه عَلَيْهَا وان قد اعْتَرَضَهُ فِي طَرِيقه المخضب بن عَسْكَر شيخ بني مرين ونالوا مِنْهُ وَمن رفقته وَكَانَت مَعَه أَمْوَال لمتونة وذخيرتهم الَّتِي استولى عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن بوهران وَكَانَ ابْن جَامع ذَاهِبًا بهَا إِلَى تينملل فاعترضه بَنو مرين وانتزعوها مِنْهُ وانْتهى الْخَبَر بذلك إِلَى عبد الْمُؤمن فَكتب إِلَى عَامله على تلمسان يُوسُف بن وانودين يَأْمُرهُ أَن يُجهز العساكر إِلَى بني مرين فبعثها صُحْبَة عبد الْحق بن منغفاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين وَقتل المخضب شيخهم فتح مراكش واستئصال بَقِيَّة اللمتونيين ثمَّ ارتحل عبد الْمُؤمن من فاس عَامِدًا إِلَى مراكش فوافته فِي طَرِيقه بيعَة أهل سبتة فولى عَلَيْهِم يُوسُف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة وَمر على مَدِينَة سلا فافتتحها بعد مواقعة قَليلَة وثلم سورها كفاس وَنزل مِنْهَا بدار ابْن عشرَة وَكَانَت هَذِه الدَّار قصرا بديعا بِمَدِينَة سلا بناه الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاسِم من بَين عشرَة فشيده وأتقنه وَلما فرغ مِنْهُ وَصفته الشُّعَرَاء وهنته بِهِ ودعت لَهُ وَكَانَ بالحضرة يَوْمئِذٍ الأديب ابْن الحمارة وَلم يكف أعد شَيْئا ففكر قَلِيلا ثمَّ قَالَ (يَا أوحد النَّاس قد شيدت وَاحِدَة ... فَحل فِيهَا حُلُول الشَّمْس فِي الْحمل) (فَمَا كدارك فِي الدُّنْيَا لذِي أمل ... وَلَا كدارك فِي الْأُخْرَى لذِي عمل) وَهَذَا الْقصر لم يبْق لَهُ الْيَوْم اسْم وَلَا رسم ثمَّ تَمَادى عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش وسرح الشَّيْخ أَبَا حَفْص لغزو برغواطة فأثخن فيهم وَرجع فَلَقِيَهُ فِي طَرِيقه وانتهوا جَمِيعًا إِلَى مراكش وَقد انْضَمَّ إِلَيْهَا جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا واكتسحوا أَمْوَالهم وظعائنهم وَأَقَامُوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 مراكش تِسْعَة أشهر وأميرهم يَوْمئِذٍ إِسْحَاق بن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين وَكَانُوا قد بَايعُوا أَولا إِبْرَاهِيم بن تاشفين بن عَليّ فألفوه مضعفا عَاجِزا فخلعوه وَبَايَعُوا عَمه إِسْحَاق بن عَليّ الْمَذْكُور وَهُوَ صبي صَغِير وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار وَجَهْدهمْ الْجُوع برزوا إِلَى مدافعة الْمُوَحِّدين فَانْهَزَمُوا وتبعهم الموحدون بِالْقَتْلِ فاقتحموا عَلَيْهِم الْمَدِينَة فِي أخريات شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقتل عَامَّة الملثمين وَنَجَا إِسْحَاق فِي جملَته وأعيان قومه إِلَى القصبة حَتَّى نزلُوا على حكم الْمُوَحِّدين وأحضر إِسْحَق بَين يَدي عبد الْمُؤمن فَقتله الموحدون بِأَيْدِيهِم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو حَفْص بن واجاج مِنْهُم وانمحى أثر الملثمين وَاسْتولى الموحدون على جَمِيع الْبِلَاد وَقد قيل فِي تَرْتِيب هَذِه الْأَخْبَار غير هَذَا الْوَجْه قَالَ ابْن مطروح الْقَيْسِي لما بُويِعَ عبد الْمُؤمن بتينملل ارتحل بجيوش الْمُوَحِّدين نَحْو مراكش فحاصرها أَيَّامًا وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى تادلا ثمَّ إِلَى سلا فَتَلقاهُ أَهلهَا سَامِعين مُطِيعِينَ فَدَخلَهَا يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وخطب لَهُ بهَا وَفِي سنة سبع وَعشْرين بعْدهَا فتح عبد الْمُؤمن بِلَاد تازا وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا تسمى عبد الْمُؤمن بأمير الْمُؤمنِينَ وَاعْلَم أَن اللقب كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام خَاصّا بالخليفة بالمشرق من بني أُميَّة أَو من بني الْعَبَّاس بعدهمْ وَلما قَامَ عبيد الله الْمهْدي أول مُلُوك العبيديين بإفريقية تسمى بأمير الْمُؤمنِينَ لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَنه أَحَق بالخلافة من بني الْعَبَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 المعاصرين لَهُ بالمشرق فَهُوَ أول من زاحم الْخَلِيفَة فِي هَذَا اللقب ثمَّ تبعه على ذَلِك عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس وَرَأى أَن لَهُ فِي الْخلَافَة حَقًا اقْتِدَاء بسلفه الَّذين كَانُوا خلفاء بالمشرق وَكِلَاهُمَا أَعنِي العبيدي والأموي قرشي من عبد منَاف ثمَّ لم يتجاسر أحد لَا من مُلُوك الْعَجم بالمشرق وَلَا من مُلُوك البربر من الْمغرب على اللقب بأمير الْمُؤمنِينَ لِأَنَّهُ لقب الْخَلِيفَة الْأَعْظَم الْقرشِي كَمَا علمت إِلَى أَن جَاءَت دولة المرابطين وَكَانَ مِنْهُم يُوسُف بن تاشفين وَاسْتولى على المغربين والأندلس وَعظم سُلْطَانه واتسعت مَمْلَكَته وخاطب الْخَلِيفَة العباسي بالمشرق فولاه على مَا بِيَدِهِ وَتسَمى بأمير الْمُسلمين أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَسْبَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ سالفا وَلما جَاءَ عبد الْمُؤمن هَذَا لم يبال بذلك كُله واتسم بالخليفة وتلقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَتَبعهُ على ذَلِك بنوه من بعده ولسان الْحَال ينشد (لقد هزلت حَتَّى بدا من هزالها ... كلاها وَحَتَّى سامها كل مُفلس) وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة أَمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء رِبَاط مَدِينَة تازا فبنيت وحصن سورها ثمَّ كَانَت محاربته لتاشفين بن عَليّ على نَحْو مَا أسلفناه وَالله تَعَالَى أعلم ثورة مُحَمَّد بن هود السلاوي الْمَعْرُوف بالماسي كَانَ مُحَمَّد بن هود بن عبد الله السلاوي رجلا من سوقة أهل سلا وَكَانَ أَبوهُ سمسارا بهَا يَبِيع الكنابيش وَكَانَ هُوَ قصارا بهَا مُدَّة ثمَّ لحق بِعَبْد الْمُؤمن عِنْدَمَا ظهر وَبَايَعَهُ وَشهد مَعَه فتح مراكش ثمَّ فَارقه وَظهر برباط ماسة من نَاحيَة السوس ودعا لنَفسِهِ وَتسَمى بالهادي وَتمكن ناموسه من قُلُوب الْعَامَّة وَكثير من الْخَاصَّة فَأقبل إِلَيْهِ الشراد من كل جَانب وانصرفت إِلَيْهِ وُجُوه الأغمار من أهل الْآفَاق وَأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة ورجراجة وقبائل تامسنا وهوارة وفشت ضلالته فِي جَمِيع الْمغرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 قَالَ فِي القرطاس بَايعه جَمِيع الْقَبَائِل حَتَّى لم يبْق تَحت طَاعَة عبد الْمُؤمن إِلَّا مراكش فسرح إِلَيْهِ عبد الْمُؤمن عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن إِسْحَاق أنكمار النازع إِلَيْهِ من إيالة تاشفين بن عَليّ حَسْبَمَا تقدم فَالتقى بالماسي وقاتله فانتصر الماسي عَلَيْهِ وَعَاد مهزوما إِلَى عبد الْمُؤمن فسرح إِلَيْهِ عبد الْمُؤمن ثَانِيًا الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي فِي جَيش عَظِيم من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَغَيرهم واحتفل عبد الْمُؤمن فِي الاستعداد ونهض الشَّيْخ أَبُو حَفْص من مراكش فاتح ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وشيعه عبد الْمُؤمن إِلَى وَادي تانسيفت ثمَّ دَعَا لَهُ وودعه وَانْصَرف الشَّيْخ أَبُو حَفْص فِي جيوش الْمُوَحِّدين حَتَّى انْتَهوا إِلَى رابطة ماسة فبرز إِلَيْهِم مُحَمَّد بن هود فِي نَحْو سِتِّينَ ألفا من الرجالة وَسَبْعمائة من الفرسان فَكَانَت بَينهم حَرْب شَدِيدَة ثمَّ انتصر عَلَيْهِم الموحدون فهزموهم وَقتل مُحَمَّد بن هود فِي المعركة مَعَ كثير من أَتْبَاعه وفضت جموعه وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الَّذِي بَاشر قتل ابْن هود هُوَ الشَّيْخ أَبُو حَفْص رَئِيس الْجَيْش فلقبه الموحدون سيف الله تَشْبِيها لَهُ بِخَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ وَكتب الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى عبد الْمُؤمن برسالة الْفَتْح من إنْشَاء الْفَقِيه أبي جَعْفَر بن عَطِيَّة الْقُضَاعِي الْكَاتِب الْمَشْهُور يَقُول فِيهَا كتَابنَا هَذَا من وَادي ماسة بعد مَا تجدّد من أَمر الله الْكَرِيم وَنَصره تَعَالَى الْمَعْهُود الْقَدِيم وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله الْعَزِيز الْحَكِيم فتح بهر الْأَنْوَار إشراقا وأحدق بنفوس الْمُؤمنِينَ إحداقا وَنبهَ للأماني النائمة جفونا وأحداقا واستغرق غَايَة الشُّكْر استغراقا فَلَا تطِيق الألسن لكنه وَصفه إدراكا وَلَا لحَاقًا جمع أشتات الطّلب والأرب وتقلب فِي النعم أكْرم مُنْقَلب وملأ دلاء الأمل إِلَى عقد الكرب (فتح تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لَهُ ... وتبرز الأَرْض فِي أثوابها القشب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَتَقَدَّمت بشارتنا بِهِ جملَة حِين لم تعط الْحَال بشرحه مهلة كَانَ أُولَئِكَ الضالون قد بطروا عُدْوانًا وظلما واقتطعوا الْكفْر معنى واسما وأملى الله تَعَالَى لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَكَانَ مقدمهم الشقي قد استمال النُّفُوس بخزعبلاته واستهوى الْقُلُوب بمهولاته وَنصب لَهُ الشَّيْطَان من حبلاته فَأَتَتْهُ المخاطبات من بعد وكثب وانسلت إِلَيْهِ الرُّسُل من كل حدب واعتقدته الخواطر أعجب عجب وَكَانَ الَّذِي قادهم إِلَى ذَلِك وأوردهم تِلْكَ المهالك وُصُول من كَانَ بِتِلْكَ السواحل مِمَّن ارتسم برسم الإنقطاع عَن النَّاس فِيمَا سلف من الأعوام واشتغل على زَعمه بِالْقيامِ وَالصِّيَام آنَاء اللَّيَالِي وَالْأَيَّام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرِّيَاء جلبابا فَلم يفتح الله تَعَالَى لَهُم للتوفيق بَابا وَمِنْهَا فِي ذكر صَاحبهمْ الماسي الْمُدَّعِي للهداية فصرع بِحَمْد الله تَعَالَى لحينه وبادرت إِلَيْهِ بَوَادِر منونه وأتته وافدات الْخَطَايَا عَن يسَاره وَيَمِينه وَقد كَانَ يدعى أَنه بشر بِأَن الْمنية فِي هَذِه الأعوام لَا تصيبه والنوائب لَا تنوبه وَيَقُول فِي سواهُ قولا كثيرا ويختلق على الله تَعَالَى إفكا وزورا فَلَمَّا رَأَوْا هَيْئَة اضطجاعه وَمَا خطته الأسنة فِي أَعْضَائِهِ وأضلاعه وَنفذ فِيهِ من أَمر الله تَعَالَى مَا لم يقدروا على استرجاعه هزم من كَانَ لَهُم من الْأَحْزَاب وتساقطوا على وجوهم تساقط الذُّبَاب وأعطوا على بكرَة أَبِيهِم صفحات الرّقاب وَلم تقطر كلومهم إِلَّا على الأعقاب فامتلأت تِلْكَ الْجِهَات بأجسامهم وآذنت الْآجَال بانقراض آمادهم وَأَخذهم الله تَعَالَى بكفرهم وفسادهم فَلم يعاين مِنْهُم إِلَّا من خر صَرِيعًا وَسَقَى الأَرْض نجيعا وَلَقي من أَمر الهنديات فظيعا ودعت الضَّرُورَة باقيهم إِلَى الترامي فِي الْوَادي فَمن كَانَ يؤمل الْفِرَار ويرتجيه ويسبح طامعا فِي الْخُرُوج إِلَى مَا ينجيه اختطفته الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا وَمن لج فِي الترامي على لججه ورام الْبَقَاء فِي ثبجه قضى عَلَيْهِ شرقه وألوى بذقنه غرقه وَدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الموحدون إِلَى الْبَقِيَّة الكائنة فِيهِ يتناولون قَتلهمْ طَعنا وَضَربا ويلقونهم بامر الله تَعَالَى هولا عَظِيما وكربا حَتَّى انبسطت مراقات الدِّمَاء على صفحات المَاء وحكت حمرتها على زرقته حمرَة الشَّفق على زرقة السَّمَاء وجزت الْعبْرَة للمعتبر فِي جري ذَلِك الدَّم جري الأبحر وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ رِسَالَة بليغة وَهِي الَّتِي أورثت منشئها الرُّتْبَة الْعلية والمنزلة السّنيَّة فَإِن عبد الْمُؤمن لما وقف عَلَيْهَا استحسنها وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا فاستكتبه أَولا ثمَّ استوزره ثَانِيًا ثمَّ نكبه وَقَتله ثَالِثا كَمَا سَيَأْتِي وَلما انْصَرف الشَّيْخ أَبُو حَفْص من غَزْوَة ماسة أراح بمراكش أَيَّامًا ثمَّ خرج غازيا بِلَاد القائمين بدعوة مُحَمَّد بن هود بجبال درن فأوقع بِأَهْل نَفِيس وهيلانة وأثخن فيهم بِالْقَتْلِ والسبي حَتَّى أذعنوا للطاعة وَرجع ثمَّ خرج إِلَى هسكورة فأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم ثمَّ نَهَضَ إِلَى سجلماسة فاستولى عَلَيْهَا وَرجع إِلَى مراكش ثمَّ خرج ثَالِثَة إِلَى برغواطة فحاربوه مُدَّة ثمَّ هزموه واضطرمت نَار الْفِتْنَة بالمغرب وَكَانَ مَا نذكرهُ انْتِقَاض أهل سبتة على الْمُوَحِّدين وَخبر القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله مَعَهم قد تقدم لنا أَن عبد الْمُؤمن كَانَ غزا سبتة فِي غزوته الطَّوِيلَة وَأَن القَاضِي عياضا رَحمَه الله دافعه عَنْهَا وَأَنه لما قتل تاشفين بن عَليّ وَفتحت تلمسان وفاس واستفحل أَمر عبد الْمُؤمن بَايع أهل سبتة فِي جملَة من بَايع من أَمْصَار الْمغرب قَالُوا وبادر القَاضِي عِيَاض إِلَى لِقَاء عبد الْمُؤمن فَاجْتمع بِهِ بِمَدِينَة سلاحين كَانَ ذَاهِبًا لفتح مراكش فأجزل صلته وَولى على سبتة يُوسُف بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 مخلوف التينمللي وَسَاكن الموحدون أهل سبتة فِي دِيَارهمْ واطمأنوا إِلَيْهِم فَلَمَّا انْتقض الْمغرب على عبد الْمُؤمن بِسَبَب قيام مُحَمَّد بن هود وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من الْفِتَن انْتقض أهل سبتة أَيْضا وَكَانَ انتقاضهم كَمَا فِي القرطاس بِرَأْي القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فَقتلُوا عَامل الْمُوَحِّدين وَمن كَانَ مَعَه من أَصْحَابه وحاميته وحرقهم بالنَّار وَركب القَاضِي عِيَاض الْبَحْر إِلَى يحيى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَكَانَ معتصما بقرطبة متمسكا بدعوة المرابطين فَلَقِيَهُ وَأدّى إِلَيْهِ الْبيعَة وَطلب مِنْهُ واليا على سبتة فَبعث مَعَه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الَّذِي كَانَ معتصما بفاس أَيَّام حِصَار عبد الْمُؤمن لَهَا ففر وَلحق بِابْن غانية كَمَا قُلْنَا وَبَقِي فِي جملَته إِلَى أَن بَعثه مَعَ القَاضِي عِيَاض فِي هَذِه الْمرة فَدخل يحيى سبتة وَقَامَ بأمرها وَلما اتَّصَلت بِعَبْد الْمُؤمن هَذِه الْأَخْبَار مَعَ مَا تقدم من هزيمَة برغواطة للشَّيْخ أبي حَفْص خرج من مراكش قَاصِدا بِلَاد برغواطة أَولا ثمَّ من بعدهمْ ثَانِيًا فَتَسَامَعَتْ برغواطة بِخُرُوج عبد الْمُؤمن إِلَيْهِم فَكَتَبُوا إِلَى يحيى بن أبي بكر بمكانه من سبتة يستنصرونه عَلَيْهِم فَأَتَاهُم وَبَايَعُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ وقاتلوا عبد الْمُؤمن فهزموه ثمَّ كَانَت لَهُ الكرة عَلَيْهِم فَهَزَمَهُمْ وَحكم السَّيْف فيهم واستأصل شأفتهم حَتَّى انقادوا للطاعة وتبرؤوا من يحيى الصحراوي ولمتونة وفر الصحراوي إِلَى منجاته ثمَّ طلب الْأمان من عبد الْمُؤمن وَتشفع إِلَيْهِ بأشياخ الْقَبَائِل فَأَمنهُ ووفد عَلَيْهِ فَبَايعهُ وَحسنت طَاعَته لَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَلما رأى أهل سبتة ذَلِك كُله سقط فِي أَيْديهم وندموا على صنيعهم وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى عبد الْمُؤمن وَقدم بهَا أَشْيَاخ سبتة وطلبتها تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم وَعَن القَاضِي عِيَاض وَأمره بسكنى مراكش وَالصَّحِيح أَنه ولاه الْقَضَاء بتادلا ثمَّ دخل مراكش قيل دَخلهَا مَرِيضا مرض مَوته وَقيل مَاتَ بِالطَّرِيقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَحمل إِلَيْهَا وَأمر عبد الْمُؤمن مَعَ ذَلِك بهدم سور سبتة فهدم وَكَذَلِكَ فعل بفاس وسلا وَأعلم أَن مَا صدر من القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فِي جَانب الْمُوَحِّدين دَلِيل على أَنه كَانَ يرى أَن لَا حق لَهُم فِي الْأَمر والإمامة وَإِنَّمَا هم متغلبون وَهَذَا أَمر لَا خَفَاء بِهِ كَمَا هُوَ وَاضح وَلما كَانَت شَوْكَة عبد الْمُؤمن لَا زَالَت ضَعِيفَة وتاشفين بن عَليّ أَمِير الْوَقْت لَا زَالَ قَائِم الْعين امْتنع القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله من مبايعة عبد الْمُؤمن ودافعه عَن سبتة إِذْ لَا مُوجب لذَلِك لِأَن بيعَة تاشفين فِي أَعْنَاقهم وَهُوَ لَا زَالَ حَيا فَلَا يعدل عَن بيعَته إِلَى غَيره بِلَا مُوجب وَأما مَا غالط بِهِ الْمهْدي رَحمَه الله من أَن المرابطين مجسمة وَأَن جهادهم أوجب من جِهَاد الْكفَّار فضلا عَن أَن تكون طاعتهم وَاجِبَة فسفسطة مِنْهُ عَفا الله عَنَّا وَعنهُ وَلما قتل تاشفين وَفتحت تلمسان وفاس وقويت شَوْكَة عبد الْمُؤمن بَايعه القَاضِي عِيَاض حِينَئِذٍ وَقبل صلته لِأَن من قويت شوكته وَجَبت طَاعَته ثمَّ لما ضعف أمره ثَانِيًا بِسَبَب قيام الماسي عَلَيْهِ وَإِجْمَاع قبائل الْمغرب على التَّمَسُّك بدعوته رَجَعَ القَاضِي بِأَهْل سبتة عَن بيعَته إِلَى طَاعَة المرابطين الَّذين لَهُم الْحق فِي الْإِمَامَة بطرِيق الْأَصَالَة وَلم يَأْخُذ بدعوة الماسي لِأَنَّهُ ثَائِر أَيْضا هَذَا مَعَ مَا كَانَ ينْقل عَن الْمهْدي من أَنه غلبت نَزعَة خارجية عَلَيْهِ وَأَنه يَقُول بعصمة الإِمَام وَذَلِكَ بِدعَة كَمَا لَا يخفى فَتكون إِمَامَته وإمامة أَتْبَاعه مقدوحا فِيهَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة لَكِن حَيْثُ حصل التغلب والإستيلاء وَجَبت الطَّاعَة فَالْحَاصِل أَن مَا فعله القَاضِي عِيَاض أَولا وَثَانِيا وثالثا كُله صَوَاب مُوَافق للْحكم الشَّرْعِيّ فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن تفهم أَحْوَال أَئِمَّة الدّين وأعلام الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بعلومهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَأما الْقَتْل وَالتَّحْرِيق الَّذِي صدر من أهل سبتة فالظن بِالْقَاضِي عِيَاض رَحمَه الله أَنه لَا يُوَافق على ذَلِك وَلَا يرضاه لَكِن الْعَامَّة تتسرع إِلَى مُجَاوزَة الْحُدُود لَا سِيمَا أَيَّام الْفِتَن وَذَلِكَ مَعْرُوف من حَالهم وَالله الْمُوفق وَلما دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة مكناسة الْقَدِيمَة بعد حصارهم إِيَّاهَا سبع سِنِين اقتحموها عنْوَة يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة فخربت وَقتل أَكثر رجالها وَسبي حريمهم وخمست أَمْوَالهم ثمَّ بنيت مكناسة تاكرارت الْمَدِينَة الْمَوْجُودَة الْآن أَخْبَار الأندلس وفتوحها كَانَ عبد الْمُؤمن لما فتح تلمسان وفاسا بعث إِلَى الأندلس جَيْشًا من عشرَة آلَاف فَارس من أنجاد الْمُوَحِّدين وَقَالَ ابْن خلدون بعث عبد الْمُؤمن بعد فتح مراكش جَيْشًا من الْمُوَحِّدين لنظر بدران بن مُحَمَّد المسوفي النازع إِلَى عبد الْمُؤمن من جملَة تاشفين بن عَليّ وَعقد لَهُ على حَرْب الأندلس وَمن بهَا من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر مُوسَى بن سعيد وَبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صَالح الصنهاجي وَلما أَجَازُوا إِلَى الأندلس نزلُوا بِأبي الْغمر بن عزرون صَاحب شريش فَكَانَ أول بلد فتحُوا من الأندلس بلد شريش خرج إِلَيْهِم صَاحبهَا أَبُو الْغمر فِيمَن مَعَه من المرابطين وبايعهم لعبد الْمُؤمن وَدخل فِي طَاعَته فَكَانَ الموحدون يسمون أهل شريش بالسابقين الْأَوَّلين وحررت أملاكهم فَلم تزل محررة سَائِر أيامهم فَلم يكن فِي أملاكهم رباعة وَجَمِيع بِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الأندلس مربعة وَكَانَ مُلُوك الْمُوَحِّدين إِذا قدم عَلَيْهِم وُفُود الأندلس كَانَ أول من يُنَادي مِنْهُم أهل شريش فَكَانَ يُقَال أَيْن السَّابِقُونَ فَيدْخلُونَ للسلام فَإِذا سلمُوا وقضيت حاجاتهم انصرفوا فَدخل غَيرهم حِينَئِذٍ وَكَانَ فتح شريش فاتح ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ زحف الموحدون إِلَى لبلة وَكَانَ بهَا من الثوار يُوسُف بن أَحْمد البطروجي فبذل لَهُم الطَّاعَة ثمَّ زحفوا إِلَى شلب ففتحوها ثمَّ نهضوا إِلَى باجة وبطليوس ففتحوهما أَيْضا ثمَّ زحفوا إِلَى إشبيلية فحاصروها برا وبحرا إِلَى أَن فتحوها فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وفر من كَانَ بهَا من المرابطين إِلَى قرمونة وَقتل من أدْركهُ الْقَتْل مِنْهُم وَقتل فِي جُمْلَتهمْ عبد الله ولد القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الْحَافِظ الْمَشْهُور وَأُصِيب فِي هيعة تِلْكَ الدخلة من غير قصد وَكتب الموحدون بِالْفَتْح إِلَى عبد الْمُؤمن ثمَّ قدم عَلَيْهِ وفدهم بمراكش مبايعين لَهُ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَرَئِيس الْوَفْد يَوْمئِذٍ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور فألفوا عبد الْمُؤمن مَشْغُولًا بِحَرب مُحَمَّد بن هود الماسي فأقاموا بمراكش سنة وَنصفا لم يلقوه فِيهَا حَتَّى كَانَ يَوْم عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَلَقوهُ بالمصلى فَسَلمُوا عَلَيْهِ سَلام الْجَمَاعَة ثمَّ بعد ذَلِك دخلُوا عَلَيْهِ فسملوا عَلَيْهِ السَّلَام الْخَاص وَقبلت بيعتهم وَسَأَلَ عبد الْمُؤمن القَاضِي أَبَا بكر بن الْعَرَبِيّ عَن الْمهْدي هَل كَانَ لقِيه عِنْد الإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ فَقَالَ مَا لَقيته وَلَكِن سَمِعت بِهِ فَقَالَ لَهُ فَمَا كَانَ أَبُو حَامِد يَقُول فِيهِ قَالَ كَانَ يَقُول إِن هَذَا الْبَرْبَرِي لَا بُد أَن سَيظْهر ثمَّ صرف عبد الْمُؤمن أهل إشبيلية بعد أَن أجازهم وَكتب لَهُم منشورا بتحرير أملاكهم فانصرفوا عَنهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَلَمَّا قربوا من مَدِينَة فاس توفّي الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ رَحمَه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الله فَحمل وَدفن خَارج بَاب المحروق مِنْهَا بتربة الْقَائِد مظفر وقبره مزارة إِلَى الْآن وَعَلِيهِ قبَّة حَسَنَة وَفِي هَذِه السّنة ملك الموحدون قرطبة وَكَانَ بهَا يحيى بن عَليّ المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية مُقيما لدَعْوَة المرابطين فَلَمَّا دخل الموحدون الأندلس واشتعلت نَار الْفِتْنَة بِحَرب المرابطين انتهز الطاغية الفرصة فِي بِلَاد الْإِسْلَام وضايق ابْن غانية بقرطبة وألح على جهاته حَتَّى نزل لَهُ عَن بياسة وأبدة وتغلب على أشبونة وطرطوشة والمرية وماردة وأفراغة وشنترين وشنتمرية وَغَيرهَا من حصون الأندلس وطالب ابْن غانية بِالزِّيَادَةِ على مَا بذل لَهُ أَو الإفراج عَن قرطبة فَأرْسل ابْن غانية إِلَى بدران بن مُحَمَّد أَمِير الْمُوَحِّدين واجتمعا بأستجة وَضمن لَهُ بدران أَمَان الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن على أَن يتخلى لَهُ عَن قرطبة وقرمونة فَفعل ثمَّ لحق بغرناطة وَبهَا مَيْمُون بن بدر اللمتوني فِي جمَاعَة من المرابطين وَأَرَادَ أَن يكلمهُ فِي الدُّخُول فِي طَاعَة الْمُوَحِّدين وَأَن يُمكنهُم من غرناطة كَمَا فعل هُوَ بقرطبة فَتوفي بغرناطة يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن فِي القصبة بِإِزَاءِ قبر باديس بن حبوس الصنهاجي وانتهز الطاغية الفرصة فِي قرطبة فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَجهز إِلَيْهِ الموحدون الَّذين كَانُوا بإشبيلية أَبَا الْغمر بن عزرون لحمايتها وَوصل إِلَيْهِ مدد يُوسُف البطروجي من لبلة وَبلغ الْخَبَر عبد الْمُؤمن فَبعث إِلَيْهَا عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن يغمور وَلما دَخلهَا أفرج عَنْهَا الطاغية لأيام من مدخله وبادر ثوار الأندلس إِلَى يحيى بن يغمور فِي طلب الْأمان من عبد الْمُؤمن ثمَّ تَلَاحَقُوا بِهِ بمراكش فتقلبهم وصفح لَهُم عَمَّا سلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قدوم عبد الْمُؤمن إِلَى سلا ووفادة أهل الأندلس عَلَيْهِ بهَا لما كَانَت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة قدم عبد الْمُؤمن من مراكش إِلَى سلا فَنظر فِي أمرهَا وأجرى إِلَيْهَا مَاء عين غبولة حَتَّى وصل إِلَى رباطها وَلم تكن رِبَاط الْفَتْح يَوْمئِذٍ قد بنيت لِأَن بانيها حافده يَعْقُوب الْمَنْصُور كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَإِنَّمَا كَانَ يُقَال رِبَاط سلا ثمَّ أذن عبد الْمُؤمن لأهل الأندلس فِي الْوِفَادَة عَلَيْهِ بسلا فقدموا عَلَيْهِ فِي نَحْو خَمْسمِائَة فَارس من الْفُقَهَاء والقضاة والخطباء والأشياخ والقواد فَتَلقاهُمْ الشَّيْخ أَبُو حَفْص الهنتاتي والوزير الْكَاتِب أَبُو جَعْفَر بن عَطِيَّة وأشياخ الْمُوَحِّدين على نَحْو ميلين من الْمَدِينَة فَأمر عبد الْمُؤمن بإنزالهم وأفاض عَلَيْهِم سِجَال الْإِكْرَام وأنواع الضيافات والإنعام وبقوا على ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أذن لَهُم فِي الدُّخُول فَدَخَلُوا عَلَيْهِ أول يَوْم من الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فَسَلمُوا عَلَيْهِ وَأَشَارَ الْوَزير ابْن عَطِيَّة لأهل قرطبة بالتقدم فَتقدم قاضيهم أَبُو الْقَاسِم بن الْحَاج فَأَرَادَ أَن يتَكَلَّم فدهش ثمَّ وصف حَال قرطبة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الفنش لَعنه الله قد أضعفها فتلافاه أَبُو بكر بن الْجد بالحطبة البليغة فَجلى فِي ذَلِك الْمجْلس وَاسْتحْسن عبد الْمُؤمن خطبَته وَوصل الْجَمِيع كلا على قدره وَقضى مطالبهم وأوصاهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَأمرهمْ بالإنصراف إِلَى بِلَادهمْ فانصرفوا فرحين مغتبطين وَقَالَ ابْن خلدون استدعى عبد الْمُؤمن أهل الأندلس وَهُوَ بسلا فوفدوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ جَمِيعًا وَبَايَعَهُ الرؤساء من الثوار على الإنخلاع من الْأَمر مثل سدراتي ابْن وَزِير صَاحب باجة ويابرة ويوسف البطروجي صَاحب لبلة وَابْن عزرون صَاحب شريش ورندة وَمُحَمّد بن الْحجام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 صَاحب بطليوس وعامل بن مهيب صَاحب طلبيرة وتخلف ابْن الْقَيْسِي وَأهل شلب عَن هَذَا الْجمع فَكَانَ سَببا لقَتله من بعد وَانْصَرف أهل الأندلس إِلَى بِلَادهمْ وَرجع عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش واستصحب الثوار فَلم يزَالُوا بِحَضْرَتِهِ وَالله تَعَالَى أعلم غَزْو إفريقية وَفتح مَدِينَة بجاية ثمَّ بلغ عبد الْمُؤمن اضْطِرَاب بِلَاد إفريقية بِسَبَب تنَازع مُلُوكهَا من بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين واستطالة الْعَرَب عَلَيْهِم بهَا فاجمع الرحلة إِلَى غزوها بعد أَن شاور الشَّيْخ أَبَا حَفْص وَأَبا إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا من المشيخة فوافقوه فَخرج من مراكش أَوَاخِر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة واستخلف عَلَيْهَا الشَّيْخ أباحفص الهنتاتي وَسَار حَتَّى وصل إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا شَهْرَيْن ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى سبتة مظْهرا أَنه يُرِيد العبور إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد فَلَمَّا وصل إِلَى سبتة استدعى فُقَهَاء قرطبة وإشبيلية وأعيان الأندلس وقوادها فاستوضح مِنْهُم أَحْوَال الْبِلَاد وأوصاهم بِمَا إِلَيْهِم مِنْهَا وودعهم ورحل عَن سبتة مظْهرا الْعود إِلَى مراكش وَصَارَ حَتَّى وصل إِلَى الْقصر الْكَبِير وَهُوَ قصر كتامة فميز جيوشه وأزاح عللهم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَأمرهمْ بتجديد الأزواد وَخرج يعتسف الْبِلَاد على غير طَرِيق فَجعل مَدِينَة فاس عَن يَمِينه وجد السّير حَتَّى خرج على وَادي ملوية ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ خرج مِنْهَا وَولى السّير قَاصِدا بجاية فطرق الجزائر على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَدَخلَهَا وأمنهم وفر صَاحبهَا الْقَائِم بن يحيى بن الْعَزِيز إِلَى أَبِيه يحيى ببجاية وَخرج إِلَى عبد الْمُؤمن الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحب المهدية وَكَانَ الفرنج قد أَخْرجُوهُ مِنْهَا فقصد ابْن عَمه يحيى بن الْعَزِيز صَاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 بجاية فَعدل بِهِ إِلَى الجزائر وأنزله بهَا كالمسجون فَلَمَّا طرق عبد الْمُؤمن الجزائر فِي هَذِه الْمرة خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ الْمَذْكُور فصحبه وَوصل يَده بِيَدِهِ حَتَّى كَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله ثمَّ اعترضت جيوش صنهاجة عبد الْمُؤمن بِأم الْعُلُوّ فَهَزَمَهُمْ وصبح بجاية من الْغَد فَدَخلَهَا وفر صَاحبهَا يحيى بن الْعَزِيز الصنهاجي آخر مُلُوك بني حَمَّاد أَصْحَاب القلعة فَركب الْبَحْر فِي أسطولين كَانَ أعدهما لذَلِك وَاحْتمل فيهمَا ذخيرته وأمواله وعزم على الْمسير إِلَى مصر ثمَّ عدل إِلَى بونة فَنزل على أَخِيه الْحَارِث فَأنْكر عَلَيْهِ سوء صَنِيعه وإفراجه عَن الْبَلَد فارتحل عَنهُ إِلَى قسنطينة فَنزل على أَخِيه الْحسن فتخلى لَهُ عَن الْأَمر وَفِي خلال ذَلِك دخل الموحدون قلعة حَمَّاد عنْوَة وَكَانَ عبد الْمُؤمن وَجه جَيْشًا من الْمُوَحِّدين إِلَيْهَا وَأمر عَلَيْهِم ابْنه أَبَا مُحَمَّد عبد الله فَدَخَلُوهَا وأضرموا النيرَان فِي مساكنها وخربوها وَقتلُوا بهَا نَحْو ثَمَانِيَة عشر ألفا وامتلأت أَيدي الْمُوَحِّدين من الْغَنَائِم والسبي ثمَّ جمع لَهُم الْعَرَب الَّذين هُنَاكَ من الأثبج وزغبة ورياح وَغَيرهم بسطيف فأوقعوا بهم واستلحموهم وَسبوا نِسَاءَهُمْ واكتسحوا أَمْوَالهم وَأما يحيى بن الْعَزِيز فَإِنَّهُ بَايع لعبد الْمُؤمن سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَنزل لَهُ عَن قسنطينة وَاشْترط لنَفسِهِ فوفى لَهُ عبد الْمُؤمن وَنَقله إِلَى مراكش بأَهْله وخاصته فسكنها وأفاض عَلَيْهِ سِجَال الْإِحْسَان وأنزله منزلَة رفيعة ثمَّ انْتقل إِلَى سلا سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة فسكن بقصر ابْن عشرَة مِنْهَا إِلَى أَن مَاتَ من سنته رَحمَه الله ووفد على عبد الْمُؤمن بمراكش كبراء الْعَرَب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ مغتبطين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 فتح المرية وبياسة وأبدة كَانَت هَذِه الْبِلَاد قد استولى عَلَيْهَا الفرنج أَيَّام الْمُوَحِّدين والمرابطين بالأندلس فَلَمَّا كَانَت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة عبر الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى الأندلس فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَمَعَهُ السَّيِّد أَبُو سعيد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ برسم الْجِهَاد وَكَانَ بَنو عبد الْمُؤمن يسمون أَبْنَاءَهُم بالسادة فنزلوا المرية وضيقوا عَلَيْهَا بالحصار وَبنى السَّيِّد أَبُو سعيد على محلته سورا واستغاث نَصَارَى المرية بالفنش فأغاثهم بِمُحَمد بن مردنيش وَكَانَ واصلا يَده بِيَدِهِ وَوجه مَعَه السلطين أحد قواد الفرنج فِي جَيش كثيف فَلم يتمكنوا من الْبَلَد وَلَا من محلّة الْمُوَحِّدين لكَونهَا مُحصنَة بالسور فَرجع ابْن مردنيش والسلطين بخفي حنين وافترقا فَلم يجتمعا بعد ثمَّ عمد السلطين إِلَى بياسة وأبدة فأخلاهما من النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بهما خوفًا عَلَيْهِم وَرجع عوده على بدئه وَأما السَّيِّد أَبُو سعيد فَإِنَّهُ شدد الْحصار على المرية حَتَّى نزلُوا على الْأمان بِوَاسِطَة الْوَزير ابْن عَطِيَّة وَفِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَجه عبد الْمُؤمن على يصليتن قريب الْمهْدي فَأتى بِهِ مكبولا من سبتة فَأمر بقتْله وصلبه بِبَاب مراكش لأمر نقمه عَلَيْهِ ثمَّ ارتحل عبد الْمُؤمن بعد مقتل يصليتن إِلَى تينملل بِقصد زِيَارَة قبر الْمهْدي فزار وَفرق فِي أَهلهَا أَمْوَالًا عَظِيمَة وَأمر بِبِنَاء مَسْجِدهَا وتوسعتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 قدوم عبد الْمُؤمن مَدِينَة سلا وتولية أَوْلَاده على النواحي بهَا لما قضى عبد الْمُؤمن إربه من تينملل ارتحل مِنْهَا إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين بعْدهَا فَبَايع لِابْنِهِ السَّيِّد أبي عبد الله مُحَمَّد بِولَايَة الْعَهْد وَأمر أَن يذكر فِي الْخطْبَة بعده وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع الْآفَاق ثمَّ عقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي الْحسن عَليّ على فاس وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن سُلَيْمَان وَعقد لانه السَّيِّد أبي حَفْص عمر على تلمسان وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا مُحَمَّد عبد الْحق بن وانودين واستكتب لَهُ أَبَا الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش وَعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي سعيد عُثْمَان على سبتة وطنجة واستوزر لَهُ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان وَأَبا عُثْمَان سعيد بن مَيْمُون الصنهاجي واستكتب لَهُ أَبَا بكر بن طفيل الْقَيْسِي وَأَبا بكر بن حُبَيْش الْبَاجِيّ وَعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الله على بجاية وأعمالها واستوزر لَهُ أَبَا سعيد يخلف بن الْحسن وَعقد للشَّيْخ أبي زيد بن يكيث على قرطبة وأعمالها وَيُقَال إِن قرطبة كَانَت فِي هَذَا التَّارِيخ بيد يحيى بن يغمور وَالله أعلم واستقامت الْأَحْوَال لعبد الْمُؤمن وبنيه وَصفا لَهُ المغربان والأندلس وَالله غَالب على أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 إِيقَاع عبد الْمُؤمن بِعَبْد الْعَزِيز وَعِيسَى أخوي الْمهْدي وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ عبد الْعَزِيز وَعِيسَى أخوي الْمهْدي من مشيخة الْعَسْكَر ووجوه الْجَيْش بإشبيلية أَيَّام فتحهَا ووفادة أَهلهَا على عبد الْمُؤمن بمراكش حَسْبَمَا تقدم ثمَّ سَاءَ أثرهما بهَا واستطالت أَيْدِيهِمَا على أَهلهَا واستباحا الدِّمَاء وَالْأَمْوَال ثمَّ اعتزما على الفتك بِيُوسُف البطروجي صَاحب لبلة فلحق بِبَلَدِهِ وَأخرج الْمُوَحِّدين الَّذين بهَا وحول الدعْوَة عَنْهُم إِلَى المرابطين وَنَشَأ عَن ذَلِك فَسَاد كَبِير بالأندلس ثمَّ لحق أخوا الْمهْدي بالعدوة فِي خبر طَوِيل وَاسْتمرّ حَالهمَا إِلَى أَن بَايع عبد الْمُؤمن لِابْنِهِ مُحَمَّد بِولَايَة الْعَهْد وَعقد لإخوته على العمالات والنواحي ففسدت نِيَّة عبد الْعَزِيز وَعِيسَى بذلك مَعَ مَا كَانَ صدر من عبد الْمُؤمن من قتل ابْن عَمهمَا يصليتن وَكَانَا يَوْمئِذٍ بفاس وَعبد الْمُؤمن بسلا فَخَرَجَا من فاس إِلَى مراكش على طَرِيق الْمَعْدن مضمرين للغدر واتصل خبر خروجهما بِعَبْد الْمُؤمن فَخرج من سلا فِي أثرهما متلافيا أَمر مراكش وَقدم أَمَامه وزيره أَبَا جَعْفَر بن عَطِيَّة فسبقاه إِلَيْهَا وداخلا بعض الأوباش بهَا فِي شَأْنهمَا فَوَثَبُوا بعاملها أبي حَفْص عمر بن تافراكين فَقَتَلُوهُ بمكانه من القصبة وَوصل على أثرهما الْوَزير ابْن عَطِيَّة ثمَّ عبد الْمُؤمن على أَثَره فأطفا تِلْكَ النائرة وتقبض عبد الْمُؤمن على عبد الْعَزِيز وَعِيسَى فَقَتَلَهُمَا وصلبهما وتتبع المداخلين لَهما فألحقهم بهما وَانْقطع الشغب وَزَالَ الْفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك لما كَانَت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فتح الموحدون مَدِينَة لبلة وَكَانَ المتولى لفتحها يحيى بن يغمور وَالِي قرطبة وإشبيلية حاصرها مُدَّة ثمَّ اقتحهما عنْوَة وَقبض على أَهلهَا فَخرج بهم إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة وَصفهم فِي صَعِيد وَاحِد ثمَّ عرضهمْ على السَّيْف أَجْمَعِينَ حَتَّى خلص الْقَتْل مِنْهُم إِلَى الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحُكَّام بن بطال والفقيه الصَّالح أبي عَامر بن الْجد وَكَانَ عدد من قتل من أهل لبلة فِي ذَلِك الصَّعِيد ثَمَانِيَة آلَاف وَقتل بأحوازها نَحْو أَرْبَعَة آلَاف ثمَّ بِيعَتْ نِسَاؤُهُم وأبناؤهم وأمتعتهم وأسلابهم فعل ذَلِك افتياتا على عبد الْمُؤمن وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بمراكش فسخطه وَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن سُلَيْمَان فجَاء بِهِ معتقلا إِلَى الحضرة يَوْم عيد الْفطر فألزمه بَيته وَبَقِي على ذَلِك مُدَّة ثمَّ عَفا عَنهُ وسرحه مَعَ ابْنه السَّيِّد أبي حَفْص إِلَى تلمسان وَلم يصرف إِلَى أهل لبلة شَيْئا مِمَّا أَخذ لَهُم واستقام أَمر الأندلس وَنزل مَيْمُون بن بدر اللمتوني عَن غرناطة للموحدين فملكوها وَأَجَازَ إِلَيْهَا السَّيِّد أَبُو سعيد صَاحب سبتة بِعَهْد أَبِيه عبد الْمُؤمن إِلَيْهِ بذلك وَلحق الملثمون بمراكش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 أَمر عبد الْمُؤمن بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى الْأُصُول من الْكتاب وَالسّنة لما كَانَت سنة خمسين وَخَمْسمِائة أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن بن عَليّ بإصلاح الْمَسَاجِد وبنائها فِي جَمِيع ممالكه وبتغيير الْمُنْكَرَات مَا كَانَت وَأمر مَعَ ذَلِك بتحريق كتب الْفُرُوع ورد النَّاس إِلَى قِرَاءَة كتب الحَدِيث واستنباط الْأَحْكَام مِنْهَا وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع طلبة الْعلم من بِلَاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا نقل الْمُصحف العثماني من قرطبة إِلَى مراكش وَبِنَاء جَامع الكتبيين بهَا كَانَ بقرطبة ثمَّ بجامعها الْأَعْظَم الْمَشْهُور مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ ذكر جمَاعَة من المؤرخين مِنْهُم أبن بشكوال وَغَيره وَكَانَ ذَلِك الْمُصحف الْكَرِيم متداولا عِنْد بني أُميَّة وَأهل الأندلس وَاسْتمرّ بقرطبة إِلَى دولة الْمُوَحِّدين فنقله عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش قَالَ ابْن بشكوال أخرج الْمُصحف العثماني من قرطبة وَغرب مِنْهَا وَكَانَ بجامعها الْأَعْظَم لَيْلَة السبت الْحَادِي عشر من شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة فِي أَيَّام أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ وبأمره وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 أحد الْمَصَاحِف الْأَرْبَعَة الَّتِي بعث بهَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْأَمْصَار مَكَّة وَالْبَصْرَة والكوفة وَالشَّام وَمَا قيل من أَن فِيهِ دم عُثْمَان بعيد وَإِن يكن أَحدهَا فَلَعَلَّهُ الشَّامي قَالَ ابْن عبد الْملك قَالَ أَبُو الْقَاسِم التجِيبِي السبتي أما الشَّامي فَهُوَ بَاقٍ بمقصورة جَامع بني أُميَّة بِدِمَشْق وعاينته هُنَالك سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة كَمَا عَايَنت الْمَكِّيّ بَقِيَّة الشَّرَاب قَالَ فعله الْكُوفِي أَو الْبَصْرِيّ قَالَ الْخَطِيب ابْن مَرْزُوق فِي كتاب الْمسند الصَّحِيح الْحسن اختبرت الَّذِي بِالْمَدِينَةِ وَالَّذِي نقل من الأندلس فألفيت خطهما سَوَاء وَمَا توهموه أَنه خطه بِيَمِينِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيح فَلم يخط عُثْمَان وَاحِدًا مِنْهَا وَإِنَّمَا جمع عَلَيْهَا بَعْضًا من الصَّحَابَة كَمَا هُوَ مَكْتُوب على ظهر المتني وَنَصّ مَا على ظَهره هَذَا مَا أجمع عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَذكر الْعدَد الَّذِي جمعه عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على كتب الْمُصحف اه وَكَانَ من خبر نَقله إِلَى مراكش مَا ذكره ابْن رشيد فِي رحلته عَن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن طفيل الْمَذْكُور قَالَ وصل إِلَى عبد الْمُؤمن ابناه السيدان أَبُو سعيد وَأَبُو يَعْقُوب من الأندلس وَفِي صحبتهما مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الإِمَام الَّذِي لم يخْتَلف فِيهِ مُخْتَلف فَتلقى وُصُوله بالإجلال والإعظام وبودر إِلَيْهِ بِمَا يجب من التبجيل وَالْإِكْرَام وَكَانَ فِي وُصُوله ذَلِك الْوَقْت من عَظِيم الْعِنَايَة وباهر الْكَرَامَة مَا هُوَ مُعْتَبر لأولي الْأَلْبَاب وَذَلِكَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن كَانَ قبل ذَلِك بأيام قد جرى ذكره فِي خاطره وتروى مَعَ نَفسه فِي كَيْفيَّة جلبه من مَدِينَة قرطبة مَحل مثواه الْقَدِيم فتوقع أَن يتَأَذَّى أهل ذَلِك الْقطر بِفِرَاقِهِ ويستوحشوا لفقدان إضاءته وإشراقه فَوقف عَن ذَلِك فأوصله الله إِلَيْهِ تحفة سبنية وهدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 هنيَّة دون أَن يكدرها من الْبشر اكْتِسَاب أَو يتقدمها استدعاء أَو اجتلاب بل أوقع الله تَعَالَى فِي نفوس أهل ذَلِك الْقطر من الْفَرح بإرساله مَا أطلع بِالْمُشَاهَدَةِ على صِحَة صدقه وعضلت مخايل برقه سواكب ودقه وعد ذَلِك من كرامات أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن وسعادته ثمَّ عزم عبد الْمُؤمن على تَعْظِيم الْمُصحف الْكَرِيم وَشرع فِي انتخاب كسوته وَاخْتِيَار حليته فحشر الصناع المتقنين مِمَّن كَانَ بالحضرة وَسَائِر بِلَاد الْمغرب والأندلس فَاجْتمع لذَلِك حذاق كل صناعَة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين وَلم يبْق من يُوصف ببراعة أَو ينْسب إِلَى الحذق فِي صناعَة إِلَّا أحضر للْعَمَل فِيهِ والاشتغال بِمَعْنى من مَعَانِيه وَبِالْجُمْلَةِ فقد صنعت لَهُ أغشية بَعْضهَا من السندس وَبَعضهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة ورصع ذَلِك بأنواع اليواقيت وأصناف الْأَحْجَار الغريبة النَّوْع والتشكل العديمة الْمِثَال وَاتخذ للغشاء محمل بديع مِمَّا يُنَاسب ذَلِك فِي غرابة الصَّنْعَة وبداعة الصبغة وَاتخذ للمحمل كرْسِي على شاكلته ثمَّ اتخذ للْجَمِيع تَابُوت يصان فِيهِ على ذَلِك المنوال وَوصف ذَلِك يطول وَفِي خلال هَذِه الْمدَّة أَمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِحَضْرَة مراكش حرسها الله فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وكمل فِي منتصف شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة على أكمل الْوُجُوه وَأغْرب الصَّنَائِع وأفسح المساحة وَأحكم الْبناء والنجارة وَفِيه من شمسيات الزّجاج ودرجات الْمِنْبَر وسياج الْمَقْصُورَة مَا لَو عمل فِي السنين العديدة لاستغرب تَمَامه فَكيف فِي هَذَا الأمد الْيَسِير الَّذِي لم يتخيل أحد من الصناع أَن يتم فِيهِ تَقْدِيره وتخطيطه فضلا عَن بنائِهِ وَصليت فِيهِ صَلَاة الْجُمُعَة منتصف شعْبَان الْمَذْكُور ونهض عبد الْمُؤمن عقب ذَلِك لزيارة رَوْضَة الْمهْدي بِمَدِينَة تينملل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة شعْبَان ومعظم رَمَضَان وَحمل فِي صحبته الْمُصحف العثماني فِي التابوت الْمَذْكُور وَمَعَهُ مصحف الْمهْدي وَختم الْقُرْآن الْعَزِيز فِي مَسْجِد الْمهْدي وَعند ضريحه ختمات كَثِيرَة وَعَاد إِلَى مراكش وَلم يزل الموحدون يعتنون بِهَذَا الْمُصحف الْكَرِيم ويحملونه فِي أسفارهم متبركين بِهِ كتابوت بني إِسْرَائِيل إِلَى أَن حمله مِنْهُم السعيد وَهُوَ عَليّ بن إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور الملقب بالمعتضد بِاللَّه حِين توجه إِلَى تلمسان آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَقتل السعيد قَرِيبا من تلمسان وَوَقع النهب فِي الخزائن واستولت الْعَرَب وَغَيرهم على مُعظم الْعَسْكَر وَنهب الْمُصحف فِي جملَة مَا نهب مِنْهُ وعثر عَلَيْهِ مُلُوك بني عبد الواد أَصْحَاب تلمسان فَلم يزل فِي خزانتهم بهَا إِلَى أَن افتتحها السُّلْطَان الْأَعْظَم أَبُو الْحسن المريني أَوَاخِر شهر رَمَضَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَحصل عِنْده فَكَانَ يتبرك بِهِ ويحمله فِي أَسْفَاره على الْعَادة إِلَى أَن أُصِيب فِي وقْعَة طريف وَحصل فِي بِلَاد البرتغال وأعمل أَبُو الْحسن الْحِيلَة فِي استخلاصه حَتَّى وصل إِلَى فاس سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة على يَد بعض تجار آزمور وَاسْتمرّ فِي خزانته إِلَى أَن سَافر أَبُو الْحسن سفرته الْمَعْلُومَة إِلَى إفريقية فاستولى عَلَيْهَا وَلما كَانَت سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب أَبُو الْحسن الْبَحْر من تونس قَافِلًا إِلَى الْمغرب وَذَلِكَ فِي إبان هيجان الْبَحْر فغرقت مراكبه وَهَلَكت نفوس تجل عَن الْحصْر وضاعت نفائس يعز وجود مثلهَا وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف العثماني فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ وَمِمَّا يُنَاسب ذكره هُنَا الْمُصحف العقباني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَكَانَ متداولا عِنْد ملوكه ومتبركا بِهِ وَثَانِي المصحفين فِي الْمنزلَة عِنْد أهل الْمغرب قَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي كتاب النزهة إِن السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه الْمَعْرُوف بالذهبي لما جدد ولَايَة الْعَهْد لوَلَده الْمَأْمُون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 بعث إِلَيْهِ بالقدوم من مَدِينَة فاس فوافاه بتامسنا وباشر الْمَنْصُور أَخذ الْبيعَة لَهُ بِنَفسِهِ وَحضر الْأَعْيَان وَأهل العقد والحل وأحضر الْمُصحف الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ قَالَ وَهُوَ من ذخائر الْخُلَفَاء وأحضر الصحيحان لِلشَّيْخَيْنِ وَقُرِئَ ظهير الْبيعَة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَلم يزل الْمُصحف العقباني متداولا بَين الْمُلُوك السعديين إِلَى أَن انقرضت دولتهم وَجَاءَت الدولة الشَّرِيفَة العلوية السجلماسية فانتقل الْمُصحف الْمَذْكُور إِلَيْهَا وتداولته مُلُوكهَا إِلَى أَن جَاءَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله فَبعث هَدِيَّة سنية مَعَ ركب الْحَاج للحرم النَّبَوِيّ وَبعث فِي جُمْلَتهَا الْمُصحف الْمَذْكُور قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما سَافر الركب النَّبَوِيّ يَعْنِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف وَجه مَعَه السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثَلَاثَة وَعشْرين مُصحفا بَين كَبِير وصغير كلهَا محلاة بِالذَّهَب منبتة بالدر والياقوت وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف الْكَبِير العقباني الَّذِي كَانَ الْمُلُوك يتوارثونه بعد الْمُصحف العثماني وَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري نسخه بالقيروان من الْمُصحف العثماني فَوَقع هَذَا الْمُصحف بيد الْأَشْرَاف الزيدانيين يتداولونه بَينهم إِلَى أَن بلغ إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله الْمَذْكُور فغربه من الْمغرب إِلَى الْمشرق وَرجع الدّرّ إِلَى صدفه والإبريز إِلَى معدنه قَالَ الشَّيْخ المسناوي وَقد وقفت عَلَيْهِ حِين أَمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بتوجيهه إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَظهر لي أَن تَارِيخ كثبه بالقيروان فِيهِ نظر لبعد مَا بَينهمَا وَوجه مَعَه السُّلْطَان الْمَذْكُور ألفي حَصَاة بالتثنية وَسَبْعمائة حَصَاة من الْيَاقُوت الْمُخْتَلفَة الألوان إِلَى الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام وَهَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَت متباعدة التَّارِيخ فَهِيَ متناسبة الْمَعْنى جمعناها هُنَا ليقف النَّاظر عَلَيْهَا فِي مَحل وَاحِد وَتحصل فائدتها متناسقة وَالله الْمُوفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 نكبة الْوَزير ابْن عَطِيَّة وَالسَّبَب فِيهَا كَانَ الْوَزير أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عَطِيَّة من أهل مراكش وَأَصله الْقَدِيم من طرطوشة ثمَّ بعد من دانية وَكَانَ أَبوهُ أَبُو أَحْمد بن عَطِيَّة كَاتبا لأمير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف اللمتوني ثمَّ لِابْنِهِ تاشفين من بعده وَتحصل فِي قَبْضَة الْمُوَحِّدين فَعَفَا عَنهُ عبد الْمُؤمن وَلما حاصر عبد الْمُؤمن فاسا اعتزم أَبُو أَحْمد هَذَا الْفِرَار فتقبض عَلَيْهِ فِي طَرِيقه وسيق إِلَى عبد الْمُؤمن فَاعْتَذر فَلم يقبل عبد الْمُؤمن عذره وسحب إِلَى مصرعه فَقتل رَحمَه الله وَكَانَ ابْنه أَبُو جَعْفَر صَاحب التَّرْجَمَة كَاتبا لإسحاق بن عَليّ اللمتوني بمراكش فشمله عَفْو أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَن شَمله من ذَلِك الفل وَخرج فِي جملَة الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي حِين نَهَضَ لقِتَال مُحَمَّد بن هود الماسي فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح وَكتب رسَالَته الْمُتَقَدّمَة وقف عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن فاستحسنها واستكتبه لذَلِك ثمَّ ارْتَفَعت مكانته عِنْده فاستوزره فَظهر غناؤه وكفايته وحمدت سيرته وإدارته وقاد العساكر وَجمع الْأَمْوَال وبذلها وَبعد فِي الدولة صيته ونال من الرُّتْبَة عِنْد السُّلْطَان مَا لم ينله أحد فِي دولته وتحبب إِلَى النَّاس بإجمال السَّعْي وَالْإِحْسَان فعمت صنائعه وَفَشَا معروفه وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وَكَانَت وزارته زينا للْوَقْت وكمالا للدولة رَحمَه الله ثمَّ لما كَانَت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَفد أَشْيَاخ إشبيلية على عبد الْمُؤمن وَرَغبُوا مِنْهُ فِي ولَايَة بعض أبنائه عَلَيْهِم فعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي يَعْقُوب عَلَيْهَا وَبعث مَعَه لوزير ابْن عَطِيَّة الْمَذْكُور لمباشرة الْأُمُور وَإِصْلَاح الْأَحْوَال فأغنى فِي ذَلِك الْغناء الْجَمِيل وَلما غَابَ وَجهه عَن الحضرة وجد حساده السَّبِيل إِلَى التَّدْبِير عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وَالسَّعْي بِهِ حَتَّى أوغروا صدر الْخَلِيفَة عَلَيْهِ فاستوزر عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي وانبرى لمطالبة ابْن عَطِيَّة وجد فِي التمَاس عوراته وتشنيع سقطاته وطرحت بِمَجْلِس السُّلْطَان أَبْيَات مِنْهَا (قل للْإِمَام أَطَالَ الله مدَّته ... قولا تبين لذِي لب حقائقه) (إِن الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه) (وللوزير إِلَى آرائهم ميل ... فَذَاك مَا كثرت فيهم علائقه) (فبادر الحزم فِي إطفاء نارهم ... فَرُبمَا عَاق من أَمر عوائقه) (هم الْعَدو وَمن والاهم كهم ... فاحذر عَدوك وَاحْذَرْ من يصادقه) (الله يعلم أَنِّي نَاصح لكم ... وَالْحق أَبْلَج لَا تخفى طرائقه) قَالُوا فَلَمَّا وقف عبد الْمُؤمن على هَذِه الأبيات البليغة فِي مَعْنَاهَا وغر صَدره على وزيره أبي جَعْفَر وأضمر لَهُ فِي نَفسه شرا فَكَانَ ذَلِك من أقوى أَسبَاب نكبته وَقيل أفْضى إِلَيْهِ بسر فأفشاه وانْتهى ذَلِك كُله إِلَى أبي جَعْفَر وَهُوَ بالأندلس فقلق وَعجل الِانْصِرَاف إِلَى مراكش فحجب عِنْده قومه ثمَّ قيد إِلَى الْمَسْجِد فِي الْيَوْم بعده حاسر الْعِمَامَة واستحضر النَّاس على طبقاتهم وقرروا على مَا يعلمُونَ من أمره وَمَا صَار إِلَيْهِ مِنْهُم فَأجَاب كل بِمَا اقْتَضَاهُ هَوَاهُ وَأمر بسجنه ولف مَعَه أَخُوهُ أَبُو عقيل عَطِيَّة وَتوجه فِي أثر ذَلِك عبد الْمُؤمن إِلَى زِيَارَة تربة الْمهْدي فاستصحبهما بِحَال ثقاف وَصدر عَن أبي جَعْفَر فِي هَذِه الْحَرَكَة من لطائف الْآدَاب نظما ونثرا فِي سَبِيل التوسل بتربة إمَامهمْ الْمهْدي عجائب فَلم تَجِد شَيْئا مَعَ نُفُوذ الله تَعَالَى فِيهِ وَلما انْصَرف من وجهته أعادهما مَعَه قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا حَاذَى تاكمارت أنفذ الْأَمر بِقَتْلِهِمَا بالشعراء الْمُتَّصِلَة بالحصن على مقربة من الملاحة هُنَالك فمضيا لسبيلهما وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمِمَّا خَاطب بِهِ الْوَزير الْمَذْكُور عبد الْمُؤمن مستعطفا لَهُ من رِسَالَة تغالى فِيهَا فغالته الْمنية وَلم ينل الأمنية وَهَذِه سنة الله تَعَالَى فِيمَن لَا يحترم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 جناب الألوهية وَلم يحرص لِسَانه من الْوُقُوع فِيمَا يخدش فِي وَجه فضل الْأَنْبِيَاء على غَيرهم قَوْله سامحه الله تالله لَو أحاطت بِي كل خطية وَلم تنفك نَفسِي عَن الْخيرَات بطية حَتَّى سخرت بِمن فِي الْوُجُود وأنفت لآدَم من السُّجُود وَقلت إِن الله تَعَالَى لم يوحي فِي الْفلك إِلَى نوح وأبرمت لحطب نَار الْخَلِيل حبلا وبريت لقدار ثَمُود نبْلًا وحططت عَن يُونُس شَجَرَة اليقطين وَأوقدت مَعَ هامان على الطين وقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وافتريت على الْعَذْرَاء البتول فقذفتها وكتبت صحيفَة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الْأَحْزَاب بالقصوى من العدوة وأبغضت كل قرشي وأكرمت لأجل وَحشِي كل حبشِي وَقلت إِن بيعَة السَّقِيفَة لَا توجب إِمَامَة الْخَلِيفَة وشحذت شفرة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة واعتلقت من حِصَار الدَّار وَقتل أشمطها بشعبة وَقلت تقاتلوا رَغْبَة فِي الْأَبْيَض والأصفر وسفكوا الدِّمَاء على الثَّرِيد الأعفر وغادرت الْوَجْه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سنّ الْحُسَيْن قَضِيبًا ثمَّ أتيت حَضْرَة الْمَعْصُوم لائذا ويقبر الإِمَام الْمهْدي عَائِدًا لأذن لمقالتي أَن تسمع وَتغْفر لي هَذِه الخطيئات أجمع مَعَ أَنِّي مقترف وبالذنب معترف (فعفوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمن لنا ... بِحمْل قُلُوب هدها الخفقان) وَالسَّلَام على الْمقَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَكتب مَعَ ابْن لَهُ صَغِير آخِرَة (عطفا علينا أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد ... بَان العزاء لفرط البث والحزن) (قد أغرقتنا ذنُوب كلهَا لجج ... وَرَحْمَة مِنْكُم أنجى من السفن) (وصادفنا سِهَام كلنا غَرَض ... وعطفة مِنْكُم أوفى من الجنن) (هَيْهَات للخطب أَن تسطو حوادثه ... بِمن أجارته رحماكم من المحن) (من جَاءَ عنْدكُمْ يسْعَى على ثِقَة ... بنصره لم يخف بطشا من الزَّمن) (فالثوب يطهر عِنْد الْغسْل من درن ... والطرف يرهص بعد الركض فِي سنَن) (أَنْتُم بذلتم حَيَاة الْخلق كلهم ... من دون من عَلَيْهِم لَا وَلَا أثمن) (وَنحن من بعض من أحيت مكاركم ... كلتا الحياتين من نفس وَمن بدن) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 (وصبية كفراخ الْوَرق من صغر ... لم يألفوا النوح فِي فرع وَلَا فنن) (قد أوجدتهم أياد مِنْك سَابِقَة ... وَالْكل لولاك لم يُوجد وَلم يكن) فَوَقع عبد الْمُؤمن على هَذِه القصيدة الْآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين وَمِمَّا كتب بِهِ من السجْن (أنوح على نَفسِي أم أنْتَظر الصفحا ... فقد آن أَن تنسى الذُّنُوب وَأَن تمحى) (فها أَنا فِي ليل من السخط حائر ... وَلَا اهتدي حَتَّى أرى للرضا صبحا) وامتحن عبد الْمُؤمن الشُّعَرَاء بهجو ابْن عَطِيَّة فَلَمَّا أسمعوه مَا قَالُوا أعرض عَنْهُم وَقَالَ ذهب ابْن عَطِيَّة وَذهب الْأَدَب مَعَه وَكَانَ لأبي جَعْفَر أَخ اسْمه عَطِيَّة قتل مَعَه كَمَا قُلْنَا ولعطية هَذَا ابْن أديب كَاتب وَهُوَ أَبُو طَالب عقيل بن عَطِيَّة وَمن نظمه فِي رجل تعشق قينة كَانَت ورثت مَالا من مَوْلَاهَا فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَمَّا فرغ المَال ملها فَقَالَ أَبُو طَالب (لَا تلحه إِن مل من حبها ... فَلم يكن ذَلِك عَن ود) (لما رَآهَا قد صفا مَا لَهَا ... قَالَ صفا الوجد مَعَ الوجد) ويروى أَن الْوَزير ابْن عَطِيَّة رَحمَه الله مر مَعَ الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن بِبَعْض طرق مراكش فأطلت جَارِيَة بارعة الْجمال من شباك فَقَالَ عبد الْمُؤمن (قدت فُؤَادِي من الشباك إِذْ نظرت ... ) فَقَالَ الْوَزير مجيزا لَهُ (حوراء ترنو إِلَى العشاق بالمقل ... ) فَقَالَ عبد الْمُؤمن (كَأَنَّمَا لحظها فِي قلب عاشقها ... ) فَقَالَ الْوَزير (سيف الْمُؤَيد عبد الْمُؤمن بن عَليّ ... ) وَلَا خَفَاء أَن هَذِه طبقَة عالية رحم الله الْجَمِيع بمنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 غَزْو إفريقية ثَانِيًا وَفتح المهدية وَغَيرهَا من الثغور كَانَت بِلَاد إفريقية بيد بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين من لدن الدولة العبيدية بهَا وَفِي هَذَا التَّارِيخ كَانَت دولتهم قد أشرفت على الْهَرم وَكثر التَّنَازُع بَينهم وزاحمتهم الثوار من الْعَرَب وَغَيرهم بِتِلْكَ الأقطار فانتهز الفرنج أَصْحَاب صقلية الفرصة فيهم وملكوا مِنْهُم عدَّة ثغور مثل صفاقس وَسْوَسَة وَغَيرهمَا ثمَّ ملكوا بعد ذَلِك المهدية وَهِي يَوْمئِذٍ دَار ملك الْحسن بن عَليّ الصنهاجي آخر مُلُوك بني زيري بن مُنَاد ففر الْحسن عَنْهَا إِلَى ابْن عَمه يحيى بن الْعَزِيز صَاحب بجاية فأنزله بالجزائر وَلما طرق عبد الْمُؤمن ثغر الجزائر فِي غزوته الأولى إِلَى إفريقية خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ هَذَا وَصَحبه وَصَارَ فِي جملَته فَكَانَ الْحسن يغريه بغزو إفريقية واستنقاذها من يَد الْعَدو وَكَانَ عبد الْمُؤمن يحب ذَلِك ويرغب فِيهِ إِلَّا أَنه كَانَ ينْتَظر إبان الفرصة فاتفق أَن فرنج صقلية أوقعوا بِأَهْل زويلة وَهِي مَدِينَة بَينهَا وَبَين المهدية نَحْو ميدان وقْعَة شنيعة حَتَّى أَنهم قتلوا النِّسَاء والأطفال ففر جمَاعَة مِنْهُم إِلَى عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَهُوَ بمراكش يستغيثونه ويستنصرونه على الْعَدو فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أكْرمهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا جرى على الْمُسلمين وَأَنه لَيْسَ فِي مُلُوك الْإِسْلَام من يقْصد سواهُ وَلَا يكْشف هَذَا الكرب غَيره فَدَمَعَتْ عَيناهُ وأطرق ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أَبْشِرُوا لأنصرنكم وَلَو بعد حِين وَأمر بإنزالهم وَأطلق لَهُم ألفي دِينَار ثمَّ أَمر بِعَمَل الروايا والقرب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْعَسْكَر فِي السّفر وَكتب إِلَى جَمِيع نوابه فِي الْمغرب وَكَانَ قد ملك العدوتين الأندلس وَالْمغْرب واتسعت خطة مَمْلَكَته إِلَى قرب مَدِينَة تونس فَكتب إِلَى من بطريقه من النواب يَأْمُرهُم بِحِفْظ جَمِيع مَا يتَحَصَّل من الغلات وَأَن يتْرك الزَّرْع فِي سنبله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ويخزن فِي موَاضعه وَأَن يحفروا الْآبَار فِي الطّرق فَفَعَلُوا جَمِيع مَا أَمرهم بِهِ وجمعوا غلات الْحبّ ثَلَاث سِنِين ونقلوها إِلَى الْمنَازل الَّتِي على الطَّرِيق وطينوا عَلَيْهَا فَصَارَت كَأَنَّهَا تلال فَلَمَّا كَانَ صفر من سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة سَار عبد الْمُؤمن من مراكش يؤم بِلَاد إفريقية وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ عبد الْمُؤمن فِي هَذِه السفرة قد عزم على العبور إِلَى الأندلس لما بلغه من اضْطِرَاب أحوالها واستطالة الطاغية بهَا فَنَهَضَ يُرِيد الْجِهَاد واحتل بسلا فَبَلغهُ انْتِقَاض إفريقية وأهمه شَأْن النَّصَارَى بالمهدية فَلَمَّا توافرت العساكر بسلا اسْتخْلف الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي على الْمغرب وَعقد ليوسف بن سُلَيْمَان على مَدِينَة فاس ونهض يغد السّير إِلَى إفريقية وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من العساكر مائَة ألف مقَاتل وَمن الأتباع والسوقة أمثالهم وَكَانَ هَذَا الْجند يَمْتَد أميالا وَبلغ من حفظه وَضَبطه أَنهم كَانُوا يَمْشُونَ بَين الزروع فَلَا تتأذى بهم سنبلة وَإِذا نزلُوا صلوا بِإِمَام وَاحِد بتكبيرة وَاحِدَة لَا يتَخَلَّف مِنْهُم أحد كَائِنا من كَانَ وَقدم بَين يَدَيْهِ الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحب المهدية وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ كَمَا قُلْنَا فَلم يزل يسير إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة تونس فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وَبهَا صَاحبهَا أَحْمد بن خُرَاسَان وَأَقْبل أسطوله فِي الْبَحْر فِي سبعين شينا وطريدة وشلندا فَلَمَّا نازلها راسل أَهلهَا يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة فامتنعوا فَقَاتلهُمْ من الْغَد أَشد قتال وَلما جن اللَّيْل نزل سَبْعَة عشر رجلا من أَعْيَان أَهلهَا إِلَى عبد الْمُؤمن يسألونه الْأمان لأهل بلدهم فأجابهم عبد الْمُؤمن بِأَن لَهُم الْأمان فِي أنفسهم وأهليهم وَأَمْوَالهمْ لمبادرتهم إِلَى الطَّاعَة وَأما من عداهم من سَائِر أهل الْبَلَد فيؤمنهم فِي أنفسهم وأهليهم ويقاسمهم على أَمْوَالهم وأملاكهم نِصْفَيْنِ وَأَن يخرج صَاحب الْبَلَد هُوَ وَأَهله فاستقر الْأَمر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ذَلِك وتسلم الْبَلَد وَبعث إِلَيْهِم من يمْنَع العساكر من الدُّخُول عَلَيْهِم وَبعث أمناءه ليقاسموا النَّاس على أَمْوَالهم وأملاكهم وَأقَام أهل تونس بهَا على أُجْرَة تُؤْخَذ عَن نصف مساكنهم وَعرض عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام على من بهَا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمن أسلم سلم وَمن أَبى قتل وَأقَام عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار إِلَى المهدية وأسطوله يحاذيه فِي الْبَحْر فوصل إِلَيْهَا ثامن عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ بالمهدية يَوْمئِذٍ خَواص الفرنج من أَوْلَاد مُلُوكهَا وأبطال فرسانها وَقد أخلوا مَدِينَة زويلة الْمُجَاورَة للمهدية فَدَخلَهَا عبد الْمُؤمن وامتلأت بالعساكر والسوقة فَصَارَت مَدِينَة معمورة فِي سَاعَة وَاحِدَة وَمن لم يكن لَهُ مَوضِع من الْعَسْكَر نزل بظاهرها وانضاف إِلَيْهِ من صنهاجة وَالْعرب وَأهل إفريقية مَا يخرج عَن الإحصاء وَأَقْبلُوا يُقَاتلُون المهدية مُدَّة أَيَّام فَلَا يُؤثر فِيهَا لحصانتها وَقُوَّة سورها وضيق محَال الْقِتَال عَلَيْهَا لِأَن الْبَحْر دائر بأكثرها فَكَأَنَّهَا كف فِي الْبَحْر وزندها مُتَّصِل بِالْبرِّ وَكَانَت الفرنج تخرج شجعانها إِلَى أَطْرَاف الْعَسْكَر فتنال مِنْهُ ويعودون سَرِيعا فَأمر عبد الْمُؤمن بِبِنَاء سور غربي الْمَدِينَة يمنعهُم من الْخُرُوج وأحاط الأسطول بهَا فِي الْبَحْر وَركب عبد الْمُؤمن شينيا وَمَعَهُ الْحسن بن عَليّ الَّذِي كَانَ صَاحبهَا وَتَطوف بهَا فِي الْبَحْر فهاله مَا رأى من حصانتها وَعلم أَنَّهَا لَا تفتح بِقِتَال برا وَلَا بحرا وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا المطاولة وَقَالَ لِلْحسنِ كَيفَ نزلت عَن مثل هَذَا الْحصن فَقَالَ لقلَّة من يوثق بِهِ وَعدم الْقُوت وَحكم الْقدر فَقَالَ صدقت وَعَاد عبد الْمُؤمن من الْبَحْر وَأمر بِجمع الغلات والأقوات وَترك الْقِتَال فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى صَار فِي المعسكر مثل الجبلين من الْحِنْطَة وَالشعِير فَكَانَ من يصل إِلَى المعسكر من بعيد يَقُول مَتى حدثت هَذِه الْجبَال فَيُقَال هِيَ حِنْطَة وشعيرا فيتعجب من ذَلِك وَتَمَادَى الْحصار وَفِي مُدَّة هَذَا الْحصار استولى عبد الْمُؤمن على طرابلس وصفاقص وَسْوَسَة وجبل نفوسة وقصور إفريقية وَمَا والاها وَفتح مَدِينَة قابس بِالسَّيْفِ وسير ابْنه السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد من مَكَان حصاره للمهدية فِي جَيش فَفتح بلادا أُخْرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 ثمَّ أطاعه أهل مَدِينَة قفصة وَقدم عَلَيْهِ صَاحبهَا فوصله بِأَلف دِينَار وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ استخلص فِي هَذِه الْمدَّة جَمِيع بِلَاد إفريقية من أَيدي القائمين بهَا وَلما كَانَ الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة جَاءَ أسطول صَاحب صقلية فِي مائَة وَخمسين شينيا غير الطرائد مُمِدًّا لأهل المهدية وَكَانَ هَذَا الأسطول قد قدم من جَزِيرَة يابسة من بِلَاد الأندلس وَقد سبى أَهلهَا وأسرهم وَحَملهمْ مَعَه فَأرْسل إِلَيْهِم ملك الفرنج يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ إِلَى المهدية ليمدوا إخْوَانهمْ الَّذين بهَا فقدموا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَلَمَّا قاربوا الْمَدِينَة حطوا شرعهم ليدخلوا الميناء فَخرج إِلَيْهِم أسطول عبد الْمُؤمن وَركب الْعَسْكَر جَمِيعه ووقفوا على جَانب الْبَحْر فاستعظم الفرنج مَا رَأَوْا من كَثْرَة العساكر وداخل الرعب قُلُوبهم وَنزل عبد الْمُؤمن إِلَى الأَرْض فَجعل يمرغ وَجهه ويبكي وَيَدْعُو للْمُسلمين بالنصر واقتتلوا فِي الْبَحْر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وَسَارُوا وتبعهم الْمُسلمُونَ فَأخذُوا مِنْهُم سبع شواني وَكَانَ أمرا عجيبا وفتحا غَرِيبا وَعَاد أسطول الْمُسلمين مظفرا منصورا وَفرق فيهم عبد الْمُؤمن الْأَمْوَال ويئس أهل المهدية حِينَئِذٍ من النجَاة وَمَعَ ذَلِك فقد صَبَرُوا على الْحصار أَرْبَعَة أشهر أُخْرَى إِلَى أخر ذِي الْحجَّة من السّنة فَنزل حِينَئِذٍ من فرسَان الفرنج إِلَى عبد الْمُؤمن عشرَة وسألوا الْأمان لمن فِيهَا من الفرنج على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ لِيخْرجُوا مِنْهَا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَ قوتهم قد فنى حَتَّى أكلُوا الْخَيل فَعرض عَلَيْهِم عبد الْمُؤمن الْإِسْلَام ودعاهم إِلَيْهِ فَقَالُوا مَا جِئْنَا لهَذَا وَإِنَّمَا جِئْنَا نطلب فضلك وترددوا إِلَيْهِ أَيَّامًا وَكَانَ من جملَة مَا استعطفوه بِهِ أَن قَالُوا أَيهَا الْخَلِيفَة مَا عَسى أَن تكون المهدية وَمن بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملكك الْعَظِيم وأمرك الْكَبِير وَإِن أَنْعَمت علينا كُنَّا أرقاء لَك فِي أَرْضنَا فَعَفَا عَنْهُم وَكَانَ الْفضل شيمته وَأَعْطَاهُمْ سفنا ركبُوا فِيهَا وَسَارُوا وَكَانَ الزَّمن شتاء فغرق أَكْثَرهم وَلم يصل مِنْهُم إِلَى صقلية إِلَّا النَّفر الْيَسِير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وَكَانَ صَاحب صقلية قد قَالَ إِن قتل عبد الْمُؤمن أَصْحَابنَا بالمهدية قتلنَا الْمُسلمين الَّذين عندنَا بِجَزِيرَة صقلية وأخذنا حرمهم وَأَمْوَالهمْ فَأهْلك الله الفرنج غرقا وَكَانَت مُدَّة استيلائهم على المهدية اثْنَتَيْ عشرَة سنة فَدَخلَهَا عبد الْمُؤمن صَبِيحَة يَوْم عَاشُورَاء من الْمحرم سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة فَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة سنة الْأَخْمَاس وَأقَام عبد الْمُؤمن بالمهدية عشْرين يَوْمًا حَتَّى رتب أحوالها واصلح مَا انثلم من سورها وَنقل إِلَيْهَا الذَّخَائِر والأقوات وَالرِّجَال وَالْعدَد واستخلف عَلَيْهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن فرج الكومي وَجعل مَعَه الْحسن بن عَليّ الصنهاجي الَّذِي كَانَ صَاحبهَا وَأمره أَن يَقْتَدِي بِرَأْيهِ فِي أَفعاله وأقطع الْحسن بهَا إقطاعا وَأَعْطَاهُ دورا نفيسة يسكنهَا وَكَذَلِكَ فعل بأولاده وصفت إفريقية كلهَا لعبد الْمُؤمن وَدخل أَهلهَا فِي طَاعَته من برقة إِلَى تلمسان وَلم يبْق لَهُ بهَا مُنَازع فَفرق فِيهَا عماله وقضاته وَضبط ثغورها وَأصْلح شؤونها وثنى عنانه إِلَى الْمغرب أول صفر من السّنة الْمَذْكُورَة وانقطعت عَادِية الفرنج عَن بِلَاد إفريقية مُدَّة مديدة وَالله تَعَالَى أعلم توظيف عبد الْمُؤمن الْخراج على أَرض الْمغرب وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة أَمر عبد الْمُؤمن بتكسير بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب فَكسر من برقة فِي جِهَة الشرق إِلَى بِلَاد نول من السوس الْأَقْصَى فِي جِهَة الغرب بالفراسخ والأميال طولا وعرضا ثمَّ أسقط فِي التكسير الثُّلُث فِي الْجبَال والغياض والأنهار والسماخ والخزون والطرق وَمَا بَقِي قسط عَلَيْهِ الْخراج وألزم كل قَبيلَة بقسطها من الزَّرْع وَالْوَرق فَهُوَ أول من أحدث ذَلِك فِي الْمغرب عَفا الله عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بِنَاء عبد الْمُؤمن جبل طَارق كَانَ عبد الْمُؤمن رَحمَه الله وَهُوَ بإفريقية قد أَمر بِبِنَاء جبل الْفَتْح وتحصينه وَهُوَ جبل طَارق فَبنِي وشيد حصنه وَكَانَ ابْتِدَاء الْبناء بِهِ فِي تَاسِع ربيع الأول من سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة الْمَذْكُورَة وكمل بِنَاؤُه فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا بِنَاء عبد الْمُؤمن مَدِينَة الْبَطْحَاء لما كَانَ عبد الْمُؤمن قَافِلًا من بِلَاد إفريقية بنى مَدِينَة الْبَطْحَاء وَسبب بنائِهِ إِيَّاهَا أَنه لما طَالب بالموحدين الْإِقَامَة بالمشرق والتغرب عَن أوطانهم عزمت طَائِفَة مِنْهُم على قتل عبد الْمُؤمن والفتك بِهِ فِي خبائه إِذا نَام فتأتى شيخ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين مِمَّن اطلع على ذَلِك إِلَى عبد الْمُؤمن فَأخْبرهُ الْخَبَر وَقَالَ لَهُ دَعْنِي أَبَت اللَّيْلَة فِي وضعك وأنم على فراشك فَإِن فعلوا مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ كنت قد فديتك بنفسي فِي حق الْمُسلمين وَأجْرِي فِي ذَلِك على الله وَإِن حصلت السَّلامَة فَمن الله تَعَالَى وَيكون أجري على قدر نيتي فَبَاتَ على فرَاشه فاستشهد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَلَمَّا اصبح عبد الْمُؤمن وَصلى الصُّبْح افتقده فَوَجَدَهُ قَتِيلا على فرَاشه فَأَخذه وَحمله بَين يَدَيْهِ على نَاقَة لَا يَقُودهَا أحد فسارت النَّاقة يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى بَركت وَحدهَا فَأمر عبد الْمُؤمن بالشيخ فَأنْزل عَنْهَا وَأخذ بزمام النَّاقة فأزيلت عَن مبركها وحفر قَبره فِيهِ وَدفن وبنيت عَلَيْهِ قبَّة وَبنى بِإِزَاءِ الْقبَّة جَامعا ثمَّ أَمر بِبِنَاء الْمَدِينَة حول الْمَسْجِد وَترك بهَا عشرَة أهل بَيت من كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب فقبر الشَّيْخ هُنَالك مزارة عَن أهل تِلْكَ الْبِلَاد إِلَى الْيَوْم قَالَه فِي القرطاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَلما دخل عبد الْمُؤمن إِلَى تلمسان فِي هَذِه الرّجْعَة قبض على وزيره عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الكومي فسجنه ثمَّ سمه من جرعة لبن هلك بهَا من ليلته عبور عبد الْمُؤمن إِلَى جبل طَارق وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ عبد الْمُؤمن وَهُوَ بإفريقية قد بلغه أَن مُحَمَّد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس قد خرج من مرسية ونازل جيان وأطاعه واليها مُحَمَّد بن عَليّ الكومي ثمَّ نَازل بعْدهَا قرطبة ورحل عَنْهَا وغدر بقرمونة وملكها ثمَّ رَجَعَ إِلَى قرطبة وَخرج ابْن يكيت لحربه فَهَزَمَهُ ابْن مردنيش وَقَتله فَكتب عبد الْمُؤمن إِلَى عماله بالأندلس يُخْبِرهُمْ بِفَتْح إفريقية عَلَيْهِ وَأَنه وَاصل إِلَيْهِم فَلَمَّا نَهَضَ من تلمسان فِي رجعته هَذِه عدل إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَأقَام بهَا إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَخمسين بعْدهَا فَعبر مِنْهَا إِلَى الأندلس وَنزل بجبل طَارق فَأَقَامَ بِهِ شَهْرَيْن واستشرف مِنْهُ أَحْوَال الأندلس ووفد عَلَيْهِ قوادها وأشياخها فَأمر بغزو غرب الأندلس فَنَهَضَ إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي حَفْص الهنتاتي من قرطبة فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين فَفتح حصن المرنكش من أحواز بطليوس وَقتل جَمِيع من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى وَخرج الفنش من طليطلة لإغاثته فَوَجَدَهُ قد فتح وصمد الموحدون لقتاله فَهَزَمَهُ الله وَقتل من عسكره سِتَّة آلَاف وسَاق الْمُسلمُونَ السَّبي إِلَى قرطبة وإشبيلية وَفِي هَذِه السّنة ملك الموحدون بطليوس وباجة ويابورة وحصن الْقصر فولى عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحَاج وَعَاد إِلَى مراكش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 قدوم كومية قَبيلَة عبد الْمُؤمن عَلَيْهِ بمراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك تقدم لنا أَن عبد الْمُؤمن لم يكن من المصامدة وَإِنَّمَا كَانَ من كومية إِحْدَى بطُون بني فاتن من البرابرة البتر وَكَانَت مواطنهم بالمغرب الْأَوْسَط إِلَى أَن استدعاهم عبد الْمُؤمن إِلَى مراكش سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما هَمت الطَّائِفَة من الْمُوَحِّدين بقتْله وَقتلُوا الشَّيْخ الَّذِي فدَاه بِنَفسِهِ وَتحقّق ذَلِك مِنْهُم وَرَأى أَنه غَرِيب بَين أظهرهم لَيْسَ لَهُ قبيل يسْتَند إِلَيْهِ وَلَا عشير يَثِق بِهِ ويعتمد عَلَيْهِ أرسل فِي خُفْيَة إِلَى أَشْيَاخ كومية الَّذين هم قبيلته وعشيرتهم وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ وَأَن يركبُوا كل من بلغ الْحلم مِنْهُم ويأتوه فِي أحسن زِيّ وأكمل عدَّة وسرب إِلَيْهِم الْأَمْوَال والكسى فَاجْتمع مِنْهُم أَرْبَعُونَ ألف فَارس ثمَّ أَقبلُوا إِلَى عبد الْمُؤمن وَهُوَ بمراكش برسم خدمته وَالْقِيَام بَين يَدَيْهِ وَلما دخلُوا أَرض الْمغرب تشوش أَهله من قدوم هَذَا الْجَيْش الحفيل من غير أَن يتَقَدَّم لَهُم سَبَب ظَاهر وَتقول النَّاس الْأَقَاوِيل فَسَار جَيش كومية حَتَّى نزلُوا على وَادي أم الرّبيع وتسامع الموحدون بِإِقْبَالِهِمْ فارتابوا مِنْهُم وَعرفُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن بخبرهم فَأمر عبد الْمُؤمن الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي أَن يخرج إِلَيْهِ فِي جمَاعَة من الْمُوَحِّدين وأشياخهم ليتعرفوا خبرهم فَسَار حَتَّى لَقِيَهُمْ على وَادي أم الرّبيع فَقَالَ لَهُم مَا أَنْتُم أسلم لنا أم حَرْب قَالُوا بل نَحن سلم نَحن قبيل أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحن كومية قصدنا زيارته وَالسَّلَام عَلَيْهِ فَرجع أَبُو حَفْص وَأَصْحَابه وَعرف عبد الْمُؤمن الْخَبَر فَأمر جَمِيع الْمُوَحِّدين أَن يخرجُوا إِلَى لقائهم فَفَعَلُوا واحتفلوا لذَلِك وَكَانَ يَوْم دُخُولهمْ مراكش يَوْمًا مشهودا فرتبهم عبد الْمُؤمن فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة من أهل الدِّيوَان وجعلهم بَين قَبيلَة تينملل والقبيلة التابعة لَهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وجعلهم بطانته يركبون خلف ظَهره ويمشون بَين يَدَيْهِ إِذا خرج ويقومون على رَأسه إِذا جلس فاعتضد بهم عبد الْمُؤمن وَبَنوهُ سَائِر دولتهم إِلَى انقراضها وَالله غَالب على أمره استعداد عبد الْمُؤمن للْجِهَاد وإنشاؤه الأساطيل بسواحل الْمغرب وَمَا يتبع ذَلِك من وَفَاته رَحمَه الله لما تمهد لعبد الْمُؤمن ملك المغربين وإفريقية والأندلس وطاعت لَهُ سَائِر الأقطار وخضعت لَهُ الرّقاب فِي الْبَوَادِي والأمصار تفرغ لشأنه وتاقت نَفسه للْجِهَاد فعزم على غَزْو بِلَاد الفرنج برا وبحرا فَأمر رَحمَه الله فِي هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة بإنشاء الأساطيل فِي جَمِيع سواحل ممالكه فأنشئ لَهُ مِنْهَا أَرْبَعمِائَة قِطْعَة فَمِنْهَا بحلق المعمورة وَهِي الَّتِي تسمى الْيَوْم المهدية مائَة وَعِشْرُونَ قِطْعَة وَمِنْهَا بطنجة وسبتة وباديس ومراسي الرِّيف مائَة قِطْعَة وَمِنْهَا بِبِلَاد إفريقية ووهران ومرسى هنين مائَة قِطْعَة وَمِنْهَا بِبِلَاد الأندلس ثَمَانُون قِطْعَة وَنظر فِي استجلاب الْخَيل للْجِهَاد والاستكثار من أَنْوَاع السِّلَاح وَالْعدَد وَأمر بِضَرْب السِّهَام فِي جَمِيع عمله فَكَانَ يضْرب لَهُ مِنْهَا فِي كل يَوْم نَحْو عشرَة قناطير جدية فَجمع لَهُ من ذَلِك مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَفِي خلال هَذَا وفدت عَلَيْهِ قَبيلَة كومية كَمَا مر ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْمُؤمن من مراكش قَاصِدا الأندلس برسم الْجِهَاد وَكَانَ خُرُوجه يَوْم الْخَمِيس خَامِس ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فوصل إِلَى رِبَاط سلا فَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاد الْمغرب والقبلة وإفريقية والسوس وَغير ذَلِك يستنفرهم إِلَى الْجِهَاد فَأَجَابَهُ خلق كثير وَاجْتمعَ لَهُ من عَسَاكِر الْمُوَحِّدين والمرتزقة وَمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 قبائل الْعَرَب والبربر وزناتة أَزِيد من ثَلَاثمِائَة ألف فَارس وَمن جيوش المتطوعة ثَمَانُون ألف فَارس وَمِائَة ألف راجل فضاقت بهم الأَرْض وانتشرت المحلات والعساكر فِي أَرض سلا من عين غبولة إِلَى عين خَمِيس إِلَى حلق المعمورة فَلَمَّا استوفيت لَدَيْهِ الحشود وتكاملت لَدَيْهِ الْجنُود والوفود كَانَ الْمَعْنى الَّذِي أَشَارَ الله الْقَائِل (إِذْ تمّ أَمر بدا نَقصه ... ترقب زوالا إِذا قيل تمّ) فابتدأ بِعَبْد الْمُؤمن مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ وَتَمَادَى بِهِ ألمه فخاف أَن يفجأه الْحمام فَأمر بعزل وَلَده مُحَمَّد عَن ولَايَة الْعَهْد وَإِسْقَاط اسْمه من الْخطْبَة لما ظهر لَهُ من الْعَجز عَن الْقيام بِأَمْر الْخلَافَة وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتب بذلك إِلَى جَمِيع طَاعَته وَتَمَادَى بِهِ مَرضه وَاشْتَدَّ ألمه فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَقيل غير ذَلِك وَحمل إِلَى تينملل فَدفن بهَا إِلَى جنب قبر الإِمَام الْمهْدي رَحمَه الله فسبحان من لَا يبيد ملكه وَلَا يَنْقَضِي عزه وَنقل ابْن خلكان فِي كَيْفيَّة عزل ولي الْعَهْد وَجها آخر قَالَ نَاقِلا من خطّ الْعِمَاد بن جِبْرِيل أَن عبد الْمُؤمن كَانَ فِي حَيَاته عهد إِلَى أكبر أَوْلَاده وَهُوَ مُحَمَّد وَبَايَعَهُ النَّاس بعد تَحْلِيف الْجند لَهُ وَكتب ببيعته إِلَى الْبِلَاد فَلَمَّا مَاتَ عبد الْمُؤمن لم يتم لَهُ الْأَمر لِأَنَّهُ كَانَ على أُمُور لَا يصلح مَعهَا للمملكة من إدمان شرب الْخمر وَاخْتِلَاف الرَّأْي وَكَثْرَة الطيش وَجبن النَّفس وَيُقَال إِنَّه مَعَ هَذَا كُله كَانَ بِهِ ضرب من الجذام واضطرب أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَاخْتلف النَّاس عَلَيْهِ فَخلع وَكَانَت مُدَّة ولَايَته خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَذَلِكَ فِي شعْبَان من سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ الَّذِي سعى فِي خلعه أَخَوَيْهِ أَبَا يَعْقُوب يُوسُف وَأَبا حَفْص عمر ابْني عبد الْمُؤمن وَلما تمّ خلعه دَار الْأَمر بَين الْأَخَوَيْنِ الْمَذْكُورين وهما من نجباء أَوْلَاد عبد الْمُؤمن وَمن ذَوي الرَّأْي فَتَأَخر مِنْهُمَا أَبُو حَفْص عمر وَسلم الْأَمر إِلَى أَخِيه أبي يَعْقُوب يُوسُف فَبَايعُوهُ النَّاس واتفقت عَلَيْهِ الْكَلِمَة وَالله تَعَالَى أعلم بَقِيَّة أَخْبَار عبد الْمُؤمن وَسيرَته قَالَ ابْن خلكان كَانَ عبد الْمُؤمن عِنْد وَفَاته شَيخا نقي الْبيَاض قَالَ ونقلت من تَارِيخ فِيهِ سيرته وحليته فَقَالَ مُؤَلفه رَأَيْته شَيخا معتدل الْقَامَة عَظِيم الهامة أشهل الْعَينَيْنِ كث كث اللِّحْيَة شثن الْكَفَّيْنِ طَوِيل الْقعدَة وَاضح بَيَاض الْأَسْنَان بخده الْأَيْمن خَال وَكَانَ رَحمَه الله فصيحا فَقِيها عَالما بالأصول والجدل والْحَدِيث مشاركا فِي كثير من الْعُلُوم الدِّينِيَّة والدنيوية ذَا حزم وسياسة وإقدام فِي الْحَرْب ومهمات الْأُمُور سري الهمة مَيْمُون النقيبة لم يقْصد قطّ بَلَدا إِلَّا فَتحه وَلَا جَيْشًا إِلَّا هجمه محبا لأهل الْعلم وَالْأَدب مكرما لوفادتهم منفقا لبضاعتهم ذكر الْعِمَاد الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب الخريدة أَن الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس التيفاشي لما أنْشدهُ (مَا هز عطفيه بَين الْبيض والأسل ... مثل الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ) أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يقْتَصر على هَذَا الْبَيْت وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار وَقد تقدم مَا دَار بَينه وَبَين وزيره ابْن عَطِيَّة من الشّعْر الَّذِي تجاذباه فِي أَمر الْجَارِيَة الَّتِي أطلت فِي الشباك وَذَلِكَ دَلِيل على سراوة طبعه وخفة روحه رَحمَه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ قَالَ ابْن خلدون لما هلك عبد الْمُؤمن أَخذ السَّيِّد أَبُو حَفْص بن عبد الْمُؤمن الْبيعَة على النَّاس لِأَخِيهِ أبي يَعْقُوب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِاتِّفَاق من الْمُوَحِّدين كَافَّة ورضى من الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي خَاصَّة واستقل فِي رُتْبَة وزارته وَذكر القَاضِي أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن عمر مؤرخ دولتهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بُويِعَ بيعَة الْجَمَاعَة يَوْم الْجُمُعَة ثامن ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ بعد وَفَاة وَالِده عبد الْمُؤمن بِسنتَيْنِ لِأَنَّهُ لما بُويِعَ بعد وَفَاة وَالِده توقف عَن بيعَته نَاس من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَامْتنع من بيعَته أَخَوَاهُ السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله صَاحب قرطبة فَكف عَنْهُم وَلم يطالبهم ببيعته وَتسَمى بالأمير وَلم يتسم بأمير الْمُؤمنِينَ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس وَذكر ابْن مطروح فِي تَارِيخه أَنه لما مَاتَ عبد الْمُؤمن كَانَ وَلَده يُوسُف بإشبيلية فأخفى أَصْحَابه مَوته وَأَرْسلُوا إِلَى يُوسُف فوصل من إشبيلية إِلَى سلا فِي أقرب وَقت فبويع بهَا وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته إِلَّا نَاس قَلِيلُونَ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِم وَكَانَ أول شَيْء فعله بعد الْبيعَة أَن سرح الجيوش المجتمعة للْجِهَاد إِلَى بِلَادهمْ وقبائلهم وَكتب إِلَى الْبِلَاد بتسريح المساجين وتفريق الصَّدقَات فِي جَمِيع عمله وَتسَمى بالأمير ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا وَكتب إِلَى جَمِيع أهل طَاعَته من الْمُوَحِّدين يطلبهم بالبيعة فَأَتَتْهُ الْبيعَة من جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس مَا خلا قرطبة وبجاية فَإِن ولاتهما وهما أَخَوَاهُ توقفا عَن ذَلِك وانتشر خبر أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف فِي أقطار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الْبِلَاد وأدان لَهُ من بالعدوتين من الْعباد وَفرق الْأَمْوَال فِي الْقَبَائِل والأجناد وَفِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة قدم عَلَيْهِ أَخَوَاهُ السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله صَاحب قرطبة تَائِبين مبايعين وَقدم مَعَهُمَا أَشْيَاخ بلديهما وفقهائهما فوصلهم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بالأموال وَالْخلْع وَأحسن إِلَيْهِم وَفِي هَذِه السّنة ثار مرزدغ الصنهاجي من صنهاجة مِفْتَاح وَضرب السِّكَّة باسمه وَكتب فِيهَا مرزدغ الْغَرِيب نَصره الله عَن قريب وَكَانَت ثورته بِبِلَاد غمارة فَبَايعهُ خلق كثير من غمارة وصنهاجة وأوربة فأفسد تِلْكَ النَّاحِيَة وَدخل مَدِينَة تازا وَقتل بهَا خلقا كثيرا وسبى فَبعث إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف جَيْشًا من الْمُوَحِّدين فَقتل وَحمل رَأسه إِلَى مراكش وَفِي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة كَانَت وقْعَة الْجلاب بالأندلس بَين السَّيِّد أبي سعيد بن عبد الْمُؤمن وجيوش الفرنج مَعَ ابْن مردنيش وَكَانَت الفرنج ثَلَاثَة عشر ألفا فَهزمَ ابْن مردنيش وَقتل من مَعَه من الفرنج بأجمعهم وَكتب السَّيِّد أَبُو سعيد بِالْفَتْح إِلَى أَخِيه أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة عقد أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف على بجاية لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي زَكَرِيَّاء وعَلى إشبيلية للشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أدال مِنْهُ بأَخيه السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم وَأقر الشَّيْخ أبي عبد الله على وزارته وَعقد على قرطبة لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي إِسْحَاق وَأقر السَّيِّد أَبَا سعيد على غرناطة ثمَّ نظر الموحدون فِي وضع الْعَلامَة الْمَكْتُوبَة بِخَط الْخَلِيفَة فَاخْتَارُوا الْحَمد لله وَحده لما وقفُوا عَلَيْهَا بِخَط الإِمَام الْمهْدي فِي بعض مخاطباته فَكَانَت علامتهم إِلَى آخر دولتهم وَالله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ثورة سبع بن منغفاد بجبال غمارة وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثار سبع بن منغفاد وَسَماهُ ابْن أبي زرع يُوسُف بن منغفاد بجبل تيزيران من بِلَاد غمارة وعظمت الْفِتْنَة فِي قبائلها وجاذبهم فِيهَا جيرانهم من صنهاجة فَبعث إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن عَسَاكِر الْمُوَحِّدين إِلَى نظر الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاتي ثمَّ تعاظمت فتْنَة غمارة وصنهاجة فَخرج إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِنَفسِهِ وأوقع بهم واستأصلهم وَقتل سبع بن مغفاد وَحمل رَأسه إِلَى مراكش وانحسم داؤهم وَعقد يُوسُف لِأَخِيهِ السَّيِّد أبي عَليّ الْحسن على سبتة وَسَائِر بِلَادهمْ وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ اجْتمع الموحدون على تَجْدِيد الْبيعَة ليوسف بن عبد الْمُؤمن واللقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وخاطب الْعَرَب بإفريقية يستدعيهم إِلَى الْغَزْو ويحرضهم وَكتب إِلَيْهِم فِي ذَلِك بقصيدة ورسالة مَشْهُورَة بَين النَّاس فَكَانَ من احتفالهم ووفودهم عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْرُوف وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ بعْدهَا وَفد عَلَيْهِ أهل الْأَمْصَار من إفريقية وَالْمغْرب والأندلس الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء والخطباء وَالشعرَاء والأشياخ والأعيان برسم التهنئة والمطالعة بأحوال بِلَادهمْ فوصلت الْوُفُود إِلَى مراكش فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وهنؤوه بالخلافة وَوصل الْجَمِيع كل على قدره وأوصاهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَكتب لَهُم الظهائر بمطالبهم وَإِصْلَاح شؤونهم وَانْصَرفُوا شاكرين وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا بعث أَمِير الْمُؤمنِينَ الشَّيْخ أَبَا حَفْص الهنتاتي فِي جيوش الْمُوَحِّدين إِلَى الأندلس لاستنقاذ بطليوس من حِصَار الْعَدو واحتفل أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى إشبيلية بلغه أَن الْمُوَحِّدين وَأهل بطليوس هزموا الْعَدو وأسروا قَائِد جَيْشه فَسَار الشَّيْخ أَبُو حَفْص إِلَى قرطبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ بعْدهَا وَجه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا حَفْص إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد فَعبر الْبَحْر من قصر الْمجَاز إِلَى طريف فِي عشْرين ألفا من الْمُوَحِّدين والمتطوعة فَدَخَلُوا بِلَاد الْعَدو وَبعث السَّيِّد أَبُو حَفْص أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا سعيد إِلَى بطليوس فعقد الصُّلْح مَعَ الطاغية ابْن أذفونش وَهُوَ يَوْمئِذٍ أعظم مُلُوك فرنج الجزيرة وَانْصَرف ونهضوا جَمِيعًا إِلَى مرسية وَمَعَهُمْ إِبْرَاهِيم بن همشك كَانَ من قواد ابْن مردنيش فَنزع عَنهُ إِلَى الْمُوَحِّدين فحاصروا ابْن مردنيش الثائر بمرسية وأعمالها واستولوا على أَكثر بِلَاده واتصل الْخَبَر بالخليفة بمراكش وَقد خف إِلَى الْجِهَاد وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِبِنَاء قنظرة تانسيفت وَكَانَ الشُّرُوع فِي بنائها يَوْم الْأَحَد ثَالِث صفر من السّنة الْمَذْكُورَة الْجَوَاز الأول لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد لما اتَّصل بأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن مَا اتّفق لشقيقه السَّيِّد أبي حَفْص من الِاسْتِيلَاء على غَالب بِلَاد ابْن مردنيش وَظُهُور الْمُسلمين على عدوهم بهَا وَكَانَ بعض مُلُوك الفرنج بهَا لم يزَالُوا يشغبون على الْمُسلمين بالغارات على أَطْرَاف بِلَادهمْ تاقت نَفسه إِلَى العبور إِلَى بِلَاد الأندلس بِقصد إصْلَاح حَالهَا وَجِهَاد الْعَدو بهَا وَقد توافدت لَدَيْهِ وَهُوَ بمراكش جموع الْعَرَب من إفريقية صُحْبَة السَّيِّد أبي زَكَرِيَّا صَاحب بجاية وَالسَّيِّد أبي عمرَان صَاحب تلمسان وَكَانَ يَوْم قدومهم عَلَيْهِ يَوْمًا مشهودا فاعترضهم وَسَائِر عساكرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ونهض إِلَى الأندلس فِي مائَة ألف من الْعَرَب والموحدين واستخلف على مراكش أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا عمرَان فاحتل بقرطبة سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ ارتحل بعْدهَا إِلَى إشبيلية ولقيه السَّيِّد أَبُو حَفْص هُنَالك منصرفا من بعض غَزَوَاته وَلما نزل أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بإشبيلية خافه مُحَمَّد بن مردنيش وَحمل على قلبه فَمَرض وَمَات وَقيل إِن أمه سمته لِأَنَّهُ كَانَ قد أَسَاءَ إِلَى خواصه وكبراء دولته فنصحته فتهددها وخافت بطشه فَسَمتْهُ وَلما مَاتَ مُحَمَّد بن مردنيش جَاءَ أَوْلَاده وَإِخْوَته إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَهُوَ بإشبيلية فَسَلمُوا إِلَيْهِ جَمِيع بِلَاد شَرق الأندلس الَّتِي كَانَت لأبيهم فَأحْسن إِلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتزَوج أختهم وَأَصْبحُوا عِنْده فِي أعز منزلَة وصنع فِي وليمتها مهرجانا عَظِيما يقصر الْوَصْف عَنهُ وَلما صفت لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الأندلس خرج من إشبيلية غازيا بِلَاد الْعَدو فَنزل على مَدِينَة لَهُ تسمى وبذة فَأَقَامَ محاصرا لَهَا شهورا إِلَى أَن اشْتَدَّ عَلَيْهِم الْحصار وعطشوا فراسلوه فِي تَسْلِيم الْمَدِينَة وَأَن يعطيهم الْأمان على نُفُوسهم فَامْتنعَ من ذَلِك فَلَمَّا اشْتَدَّ بهم الْعَطش سمع لَهُم فِي بعض اللَّيَالِي لغط عَظِيم وأصوات هائلة وَذَلِكَ أَنهم اجْتَمعُوا بأسرهم ودعوا الله تَعَالَى فَجَاءَهُمْ مطر عَظِيم مَلأ مَا كَانَ عِنْدهم من الصهاريج فارتووا وتقووا على الْمُسلمين فَانْصَرف عَنْهُم إِلَى إشبيلية بعد أَن هادنهم مُدَّة سبع سِنِين فليعتبر الْوَاقِف على هَذِه الْقَضِيَّة وليعلم أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار جاحدون ينسبون إِلَى الله تَعَالَى مَا لَا يَلِيق بِهِ من التَّثْلِيث وأنواع الْكفْر وَمَعَ ذَلِك لما انْقَطع رجاؤهم وَرَجَعُوا إِلَيْهِ تَعَالَى بالاضطرار الصَّادِق رَحِمهم سُبْحَانَهُ وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي بعد هَذَا لِلْمُؤمنِ الموحد إِذا حصل فِي شدَّة أَن ييأس من رَحْمَة الله فَإِنَّهُ {لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} والسر فِي الِاضْطِرَار فَإِنَّهُ عِنْد أَرْبَاب البصائر هُوَ اسْم الله الْأَعْظَم الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 إِذا دعِي بِهِ أجَاب وَإِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا يَا مَوْلَانَا عنْدك من المرحومين وَاجعَل كل من يَرْحَمنَا عنْدك من المرحومين فَأَنت أهل ذَلِك والقادر عَلَيْهِ ثمَّ بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ خُرُوج الْعَدو إِلَى أَرض الْمُسلمين مَعَ القومس الأحدب فَخرج إِلَيْهِم وأوقع بهم بِنَاحِيَة قلعة رَبَاح وأثخن فيهم وَرجع إِلَى إشبيلية وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة شرع أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فِي بِنَاء جَامع إشبيلية فتم وَصليت بِهِ الْجُمُعَة فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا عقد أَمِير الْمُؤمنِينَ الجسر على وَادي إشبيلية بالقوارب وَبنى قصبتها الداخلية وَبنى الزلاليق للسور وَبنى سور بَاب جَوْهَر وَبنى الرصفان المتدرجة بضفتي الْوَادي وجلب المَاء من قلعة جَابر حَتَّى أدخلهُ إشبيلية وَأنْفق فِي ذَلِك أَمْوَالًا لَا تحصى ثمَّ انْتقض ابْن أذفونش وأغار على بِلَاد الْمُسلمين فاحتشد الْخَلِيفَة وسرح السَّيِّد أَبَا حَفْص إِلَيْهِ فغزاه بعقر دَاره وافتتح قنصرة بِالسَّيْفِ وَهزمَ جموعه فِي كل جِهَة ثمَّ ارتحل الْخَلِيفَة من إشبيلية رَاجعا إِلَى مراكش سنة إِحْدَى وَسبعين لخمس سِنِين من إِجَازَته إِلَى الأندلس وَعقد على قرطبة لِأَخِيهِ أبي الْحسن وعَلى إشبيلية لِأَخِيهِ أبي عَليّ وَأصَاب مراكش طاعون فَهَلَك من السَّادة أَبُو عمرَان وَأَبُو سعيد وَأَبُو زَكَرِيَّا وَقدم الشَّيْخ أَبُو حَفْص الهنتاتي من قرطبة فَهَلَك فِي طَرِيقه وَدفن بِمَدِينَة سلا وَهُوَ جد الْمُلُوك الحفصيين أَصْحَاب تونس وإفريقية واستدعى الْخَلِيفَة أَخَوَيْهِ السيدين أَبَا عَليّ وَأَبا الْحسن فعقد لأبي عَليّ على سجلماسة وَرجع أَبُو الْحسن إِلَى قرطبة وَعقد لِابْني أَخِيه السَّيِّد أبي حَفْص لأبي زيد مِنْهُمَا على غرناطة وَلأبي مُحَمَّد على مالقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين سَطَا بذرية بني جَامع وزرائه وغربهم إِلَى ماردة وَفِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة عقد لغانم بن مُحَمَّد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مَدِينَة أشبونة فغنم وَرجع وفيهَا كَانَت وَفَاة أَخِيه الْوَزير السَّيِّد أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن بعد مَا أبلى فِي الْجِهَاد وَبَالغ فِي نكاية الْعَدو وَتقدم ابناه من الأندلس فأخبرا الْخَلِيفَة بانتقاض الطاغية واعتزم على الْجِهَاد وَأخذ فِي استدعاء الْعَرَب من إفريقية وَالله تَعَالَى أعلم غَزْو أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِلَاد إفريقية وَفتح مَدِينَة قفصة وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَت قفصة من بِلَاد إفريقية قد استبد بهَا بَنو الرند أَوَاخِر دولة صنهاجة من بني زيري بن مُنَاد كَانَ جدهم عبد الله بن مُحَمَّد بن الرند عَاملا لَهُم بهَا فتوارثها بنوه من بعده فاستبدوا بهَا آخر الدولة وَلما غزا عبد الْمُؤمن بِلَاد إفريقية اسْتَنْزَلَهُمْ فِي جملَة من استنزل من الثوار بهَا وَلما مَاتَ عبد الْمُؤمن وبويع ابْنه يُوسُف بلغه سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة أَن بعض بني الرند قد عَاد إِلَى قفصة وثار بهَا فاضطربت لأجل ذَلِك أحوالها فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي سنة خمس وَسبعين بعْدهَا فَانْتهى إِلَى إفريقية وَنزل على مَدِينَة قفصة وضيق عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ والحصار حَتَّى دَخلهَا وظفر بِابْن الرند الْقَائِم بهَا فَقتله وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ عَاد إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي سنة سبع وَسبعين بعْدهَا هَكَذَا فِي القرطاس وَنَحْوه لِابْنِ خلدون فِي أَخْبَار بني عبد الْمُؤمن وَذكر عِنْد الْكَلَام على بني الرند وَجها آخر فَقَالَ كَانَ عبد الْمُؤمن قد ولى على قفصة عمرَان بن مُوسَى الصنهاجي فأساء إِلَى الرّعية فبعثوا عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 عَليّ بن الْعَزِيز بن المعتز الرندي من بجاية وَكَانَ بهَا فِي مضيعة يحترف بالخياطة فَقدم عَلَيْهِم وثاروا بعمران بن مُوسَى عَامل الْمُوَحِّدين فَقَتَلُوهُ وَقدمُوا مَكَانَهُ عَليّ بن الْعَزِيز فساس ملكه وحاط رَعيته وأغزاه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا زَكَرِيَّاء فحاصره وضيق عَلَيْهِ وَأَخذه وأشخصه إِلَى مراكش بأَهْله وَمَاله وَاسْتَعْملهُ على الأشغال بِمَدِينَة سلا إِلَى أَن هلك بهَا وفنيت دولة بني الرند والبقاء لله وَحده اه كَلَامه فَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف من مراكش لبِنَاء حصن أزكندر فبناه على الْمَعْدن الَّذِي ظهر هُنَالك. الْجَوَاز الثَّانِي لأمير الْمُؤمنِينَ يُوسُف ابْن عبد الْمُؤمن إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد وَمَا يتَّصل بذلك من وَفَاته رَحمَه الله لما قدم أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن من فتح قفصة سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة قدم عَلَيْهِ وُلَاة الأندلس ورؤساؤها يهنئونه بالإياب فَأكْرم وفادتهم وَانْصَرفُوا ثمَّ بلغه الْخَبَر بِأَن أذفونش بن سانجة نَازل قرطبة وَشن الغارات على جِهَة مالقة ورندة وغرناطة ثمَّ نزل إستجة وتغلب على حصن شقيلة وأسكن بِهِ النَّصَارَى وَانْصَرف فاستنفر السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق سَائِر النَّاس للغزو ونازل الْحصن نَحوا من أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ بلغه خُرُوج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفا رَاجعا وَخرج مُحَمَّد بن يُوسُف بن وانودين من إشبيلية فِي جموع الْمُوَحِّدين ونازل طلبيرة فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فأوقع بهم وَانْصَرف بالغنائم فاعتزم الْخَلِيفَة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن على معاودة الْجِهَاد وَولى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الأندلس أمناءه وَقَدَّمَهُمْ للإحتشاد فعقد لِابْنِهِ السَّيِّد أبي زيد على غرناطة ولابنه السَّيِّد أبي عبد الله على مرسية ونهض سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَفِي القرطاس كَانَ خُرُوجه من مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور على بَاب دكالة قَالَ برسم غَزْو إفريقية فَلَمَّا وصل إِلَى سلا أَتَاهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن جَامع من إفريقية فَأعلمهُ بهدوئها وسكونها فصرف عزمه إِلَى الأندلس فَنَهَضَ من سلا ضحوة يَوْم الْخَمِيس الموفي ثَلَاثِينَ من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بظاهرها وَبَات هُنَاكَ ثمَّ نَهَضَ يَوْم الْجُمُعَة الموَالِي لَهُ فوصل إِلَى مكناسة يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس من ذِي الْحجَّة فعيد بهَا عيد الْأَضْحَى خَارِجهَا ثمَّ ارتحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا بَقِيَّة الشَّهْر ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة فَفِي الْيَوْم الرَّابِع بهَا نَهَضَ من فاس وَسَار حَتَّى انْتهى إِلَى سبتة فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة الشَّهْر الْمحرم وَأمر النَّاس بِالْجَوَازِ إِلَى الأندلس فجازت قبائل الْعَرَب أَولا ثمَّ قبائل زناتة ثمَّ المصامدة ثمَّ مغراوة وصنهاجة وأوربة وأصناف البربر ثمَّ عبرت جيوش الْمُوَحِّدين والأغزاز وَالرُّمَاة فَلَمَّا اسْتكْمل النَّاس الْجَوَاز عبر هُوَ فِي آخِرهم فِي الْحَاشِيَة وَالْعَبِيد وَكَانَ جَوَازه يَوْم الْخَمِيس خَامِس صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بجبل الْفَتْح ثمَّ ارتحل مِنْهُ إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ سَار إِلَى إشبيلية فَلَمَّا أشرف عَلَيْهَا يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر خرج إِلَيْهِ وَلَده السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق وَمَعَهُ فُقَهَاء إشبيلية وأشياخها فَبعث إِلَيْهِم يَأْمُرهُم بِالْوُقُوفِ بآخر الْمنية حَتَّى يصل إِلَيْهِم فَلَمَّا صلى الظّهْر وَركب اجتاز بهم فَلَمَّا دنا مِنْهُم نزلُوا عَن دوابهم فَوقف لَهُم حَتَّى سلمُوا عَن آخِرهم وركبوا ثمَّ نَهَضَ إِلَى غَزْو مَدِينَة شنترين من بِلَاد غرب الأندلس فَانْتهى إِلَيْهَا فِي السَّابِع من ربيع الأول فَنزل عَلَيْهَا وأدار بِهِ الجيوش وشدد عَلَيْهَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 الْحصار والقتال وبذل المجهود إِلَى لَيْلَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الْمَذْكُور فانتقل من مَوضِع نُزُوله بجوفي شنترين إِلَى غربها فَأنْكر الْمُسلمُونَ ذَلِك وَلم يعلمُوا لَهُ سَببا فَلَمَّا جن اللَّيْل وَصلى الْعشَاء الْآخِرَة بعث إِلَى وَلَده السَّيِّد أبي إِسْحَاق صَاحب إشبيلية فَأمره بالرحيل من غَد تِلْكَ اللَّيْلَة لغزو أشبونة وَشن الغارات على أنحائها وَأَن يسير إِلَيْهَا فِي جيوش الأندلس خَاصَّة وَأَن يكون رحيله نَهَارا فأساء الْفَهم وَظن أَنه أمره بالرحيل لَيْلًا وصرخ الشَّيْطَان فِي محلّة الْمُسلمين أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد عزم على الرحيل فِي هَذِه اللَّيْلَة وتحدث النَّاس بذلك وتأهبوا لَهُ ورحلت طَائِفَة مِنْهُم بِاللَّيْلِ وَلما كَانَ قرب الْفجْر أقلع السَّيِّد أَبُو اسحاق وأقلع من كَانَ مواليا لَهُ وتتابع النَّاس بالرحيل وتسابقوا لاختيار الْمنَازل وأمير الْمُؤمنِينَ مُقيم فِي مَكَانَهُ لَا علم لَهُ بذلك فَلَمَّا أصبح وَصلى الصُّبْح وأضاء النَّهَار لم يجد حوله من أهل المحلات أحدا إِلَّا يَسِيرا من خاصته وحشمه الَّذين يرحلون لرحيله وينزلون لنزوله وَإِلَّا قواد الأندلس فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا يَسِيرُونَ أَمَام ساقته وَخلف محلته من أجل من يتَخَلَّف عَنْهَا من الضُّعَفَاء فَلَمَّا طلعت الشَّمْس وتطلع النَّصَارَى المحصورون على الْمحلة من سور الْبَلَد وَرَأَوا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُنْفَردا فِي عبيده وحشمه وتحققوا ذَلِك من جواسيسهم فتحُوا الْبَلَد وَخرج جَمِيع من فِيهِ خرجَة مُنكرَة وهم ينادون الرّيّ الرّيّ أَي أقصدوا السُّلْطَان فَضربُوا فِي محلّة العبيد إِلَى أَن وصلوا إِلَى أخبية أَمِير الْمُؤمنِينَ فمزقوها واقتحموها فبرز إِلَيْهِم وَقَاتلهمْ بِسَيْفِهِ حَتَّى قتل سِتَّة مِنْهُم ثمَّ طعنوه طعنة نَافِذَة وَقتل عَلَيْهِ ثَلَاث من جواريه كن قد أكببن عَلَيْهِ وَلما طعن وَقع بِالْأَرْضِ وتصايح العبيد وَنَادَوْا بالفرسان والأجناد فتراجع الْمُسلمُونَ وقاتلوا النَّصَارَى حَتَّى أزاحوهم عَن الأخبية وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَينهم وتواقفوا سَاعَة ثمَّ انهزم الفرنج وركبهم الْمُسلمُونَ بِالسَّيْفِ حَتَّى أدخلوهم الْمَدِينَة وَقتل مِنْهُم خلق كثير يزِيدُونَ على الْعشْرَة آلَاف وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين جمَاعَة وَركب أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وَقد أنفذته الطعنة وارتحل النَّاس وَلَا يَدْرُونَ أَيْن ثمَّ اهتدوا بالطبول فقصدوا جِهَة إشبيلية ثمَّ سَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد العبور إِلَى الْمغرب فَاشْتَدَّ ألمه وَمَات بِالطَّرِيقِ رَحمَه الله قَالَه ابْن مطروح وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت الْعَاشِر من شهر ربيع الآخر سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة قرب الجزيرة الخضراء فَحمل إِلَى تينملل فَدفن بهَا إِلَى جنب قبر أَبِيه وَقيل إِنَّه لم يمت حَتَّى وصل إِلَى مراكش وَكَانَ وَلَده يَعْقُوب الْخَلِيفَة بعده هُوَ الَّذِي يدْخل على ابيه وَيخرج وَيصرف الْأُمُور بَين يَدَيْهِ من يَوْم طعن إِلَى أَن مَاتَ قَالُوا وكتم وَلَده مَوته حَتَّى وصل إِلَى مَدِينَة سلا فأفشاه وَكَانَ قبل مَوته بأشهر كثيرا مَا ينشد قَول الشَّاعِر ويردده (طوى الجديدان مَا قد كنت أنشره ... وأنكرتني ذَوَات الْأَعْين النجل) ورثاه الأديب أَبُو بكر يحيى بن مجير بقصيدة طَوِيلَة أَجَاد فِيهَا وأولها (جلّ الأسى فأسل دم الأجفان ... مَاء الشؤون لغير هَذَا الشان) بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَسيرَته قَالَ ابْن خلكان كَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن أَبيض تعلوه حمرَة شَدِيد سَواد الشّعْر مستدير الْوَجْه أفوه أعين إِلَى الطول مَا هُوَ فِي صَوته جهارة رَقِيق حَوَاشِي الطَّبْع حُلْو الْأَلْفَاظ حسن الحَدِيث طيب المجالسة أعرف النَّاس كَيفَ تَكَلَّمت الْعَرَب وأحفظهم لأيامها فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام صرف عنايته إِلَى ذَلِك وَلَقي فضلاء إشبيلية أَيَّام ولَايَته بهَا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا متفننا لِأَن أَبَاهُ هذبه وَقرن بِهِ وبإخواته أكمل رجال الْحَرْب والمعارف فَنَشَأَ فِي ظُهُور الْخَيل بَين أبطال الفرسان وَفِي قِرَاءَة الْعلم بَين أفاضل الْعلمَاء وَكَانَ ميله إِلَى الْحِكْمَة والفلسفة أَكثر من ميله إِلَى الْأَدَب وبقيه الْعُلُوم وَيُقَال إِنَّه كَانَ يحفظ صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 الْكَرِيم مَعَ جملَة صَالِحَة من الْفِقْه ثمَّ طمح إِلَى علم الْحِكْمَة وَبَدَأَ من ذَلِك بِعلم الطِّبّ وَجمع من كتب الْحِكْمَة شَيْئا كثيرا وَكَانَ مِمَّن صَحبه من الْعلمَاء بِهَذَا الشَّأْن الْوَزير أَبُو بكر مُحَمَّد بن طفيل كَانَ متحققا بِجَمِيعِ أَجزَاء الْحِكْمَة قَرَأَ على جمَاعَة من أَهلهَا مِنْهُم أَبُو بكر بن الصَّائِغ الْمَعْرُوف بِابْن باجة وَغَيره وَلابْن طفيل هَذَا تصانيف كَثِيرَة وَكَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن حَرِيصًا على الْجمع بَين علم الشَّرِيعَة وَالْحكمَة وَلم يزل يجمع إِلَيْهِ الْعلمَاء من كل فن من جَمِيع الأقطار وَمن جُمْلَتهمْ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد وَكَانَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن شَدِيد الملوكية بعيد الهمة جماعا مناعا ضابطا لخراج مَمْلَكَته عَارِفًا بسياسة رَعيته وَكَانَ سخيا جوادا فِي مَحل السخاء والجود قد اسْتغنى النَّاس فِي أَيَّامه وَكَانَ من ضَبطه وسياسته رُبمَا يحضر حَتَّى لَا يكَاد يغيب حَتَّى لَا يكَاد يحضر وَله فِي غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الْأُمُور إِلَيْهِم لما علم من صَلَاحهمْ وأهليتهم لذَلِك قَالَ ابْن خلكان وَالدَّنَانِير اليوسفية المغربية منسوبة إِلَيْهِ وَمِمَّا يستطرف من أخباره رَحمَه الله أَن الأديب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد السَّلَام الكرواني وكروان قَبيلَة من البربر مَنَازِلهمْ بضواحي فاس كَانَ نِهَايَة فِي حفظ الْأَشْعَار الْقَدِيمَة والمحدثة وَتقدم فِي هَذَا الشَّأْن وَله فِيهِ تآليف وَكَانَ مَعَ ذَلِك صَاحب نَوَادِر جَالس بهَا عبد الْمُؤمن ثمَّ وَلَده يُوسُف ثمَّ وَلَده يَعْقُوب فَمن نوادره أَنه حضر يَوْمًا إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الْمَذْكُور وَحضر إِلَيْهِ أَيْضا الطَّبِيب سعيد الغماري فَقَالَ أَمِير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 الْمُؤمنِينَ لبَعض خدمه انْظُر من بِالْبَابِ من الْأَصْحَاب فَخرج الْخَادِم ثمَّ عَاد إِلَيْهِ فَقَالَ يَا سَيِّدي بهامد الكرواني وَسَعِيد الغماري فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف من عجائب الدُّنْيَا شَاعِر نم كروان وطبيب من غمارة فَبلغ ذَلِك الكرواني وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه أعجب مِنْهُمَا وَالله خَليفَة من كومية فَيُقَال إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف لما بلغه ذَلِك قَالَ أعاقبه بالحلم عَنهُ فَفِيهِ تَكْذِيب لَهُ وَمن شعر الكرواني من جملَة قصيدة يمدح بهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الْمَذْكُور وَهُوَ بديع (إِن الإِمَام هُوَ الطَّبِيب وَقد شفا ... علل البرايا ظَاهرا ودخيلا ص) (حمل البسيطة وَهِي تحمل شخصه ... كالروح يُوجد حَامِلا مَحْمُولا) الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بن عَليّ قَالَ ابْن خلدون لما توفّي الْخَلِيفَة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن على حصن شنترين فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ ابْنه أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَرجع بِالنَّاسِ إِلَى إشبيلية فاستكمل الْبيعَة واشتوزر الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الهنتاتي واستنفر النَّاس للغزو مَعَ أَخِيه السَّيِّد يحيى فاستولى على بعض الْحُصُون وأثخن فِي بِلَاد الْكَفَّارَة ثمَّ أجَاز الْبَحْر إِلَى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السَّيِّد أَبَا زَكَرِيَّا ابْن السَّيِّد أبي حَفْص قادما من تلمسان مَعَ مشيخة بني زغبة من عرب هِلَال وَمضى إِلَى مراكش فَغير المناكر وَبسط الْعدْل وَنشر الْحُكَّام اه وَفِيه نوع مُخَالفَة لما قدمْنَاهُ وَقَالَ ابْن أبي زرع لما تمت لَهُ الْبيعَة وطاعت لَهُ الْأمة كَانَ أول شَيْء فعله أَن أخرج مائَة ألف دِينَار ذَهَبا من بَيت المَال ففرقها فِي الضُّعَفَاء من بيوتات الْمغرب وَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاده بستريح السجون ورد الْمَظَالِم الَّتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ظلمها الْعمَّال فِي أَيَّام أَبِيه وَأكْرم الْفُقَهَاء وراعى الصلحاء وَأهل الْفضل وأجرى على أَكْثَرهم الْإِنْفَاق من بَيت المَال وَفرق فِي الْمُوَحِّدين وَسَائِر الأجناد أَمْوَالًا جمة وَكَانَ أول شَيْء حدث فِي دولته شَأْن بني غانية المسوفيين أَصْحَاب جَزِيرَة ميورقة وأعمالها فلنأت بِشَيْء من ذَلِك خُرُوج عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية على يَعْقُوب الْمَنْصُور قد تقدم لنا فِي أَخْبَار الدولة اللمتونية أَن أَمِير الْمُسلمين عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني كَانَ قد اسْتعْمل على الجزائر الشرقية من بِلَاد الأندلس وَهِي ميورقة ومنورقة ويابسة مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَهِي أَهَمَّهُمْ فتوارثها بنوه من بعده إِلَى أَيَّام يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فَبعث إِلَيْهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد المسوفي الْمَذْكُور بِالطَّاعَةِ فَقبل ذَلِك يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَبعث إِلَيْهِ قائده عَليّ بن الروبرتير ليختبر أمره ويعقد لَهُ الْبيعَة عَلَيْهِ ويؤكد الْأَمر فِي ذَلِك وَكَانَ لمُحَمد بن إِسْحَاق الْمَذْكُور عدَّة اخوة يساهمونه فِي الرياسة فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِم ابْن الروبرتير وَعَلمُوا الْأَمر الَّذِي قدم لأَجله أَنْكَرُوا على أخيهم ذَلِك لِأَنَّهُ لم يكن أعلمهم بمكاتبة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فخلصوا نجيا دونه وتقبضوا عَلَيْهِ وعَلى ابْن الروبرتير وَقدمُوا مَكَانَهُ أَخَاهُم عَليّ بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد ثمَّ بَلغهُمْ خبر وَفَاة يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَولَايَة ابْنه يَعْقُوب الْمَنْصُور فَركب عَليّ بن إِسْحَاق أسطوله وطرق بجاية على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَعَلَيْهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الرّبيع بن عبد الله بن عبد الْمُؤمن وَكَانَ خَارِجا فِي بعض مذاهبه فاستولى عَلَيْهَا ابْن غانية فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وَحكى ابْن أبي زرع فِي اسْتِيلَاء ابْن غانية على بجاية وَجها آخر قَالَ دخل الميورقي وَهُوَ عَليّ بن إِسْحَاق الْمَذْكُور مَدِينَة بجاية يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس من شعْبَان سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَ أَبْوَاب المدن قبل ذَلِك لَا تغلق وَقت صَلَاة الْجُمُعَة فَارْتَقِبْ ابْن غانية النَّاس حَتَّى أَحْرمُوا بِصَلَاة الْجُمُعَة ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم الْمَدِينَة وَعمد إِلَى الْجَامِع الْأَعْظَم وأدار بِهِ الْخَيل وَالرجل فَمن بَايعه خلى سَبيله وَمن توقف عَن بيعَته ضرب عُنُقه قَالَ وَأقَام بهَا سَبْعَة أشهر ثمَّ استرجعت من يَده قَالَ وَمن ذَلِك الْيَوْم اتخذ النَّاس غلق أَبْوَاب المدن يَوْم الْجُمُعَة وَقت الصَّلَاة وَالله أعلم ثمَّ استولى عَليّ بن إِسْحَاق على الجزائر ثمَّ على مازونة ثمَّ على مليانة ثمَّ على القلعة ثمَّ نَازل قسنطينة فامتنعت عَلَيْهِ واتصل الْخَبَر بالمنصور فسرح السَّيِّد أَبَا زيد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن وَعقد لَهُ على حَرْب ابْن غانية وَعقد لمُحَمد بن إِبْرَاهِيم بن جَامع على الأساطيل وَإِلَى نظره أَبُو مُحَمَّد بن عطوش وَأحمد الصّقليّ فوصل السَّيِّد أَبُو زيد إِلَى أفريقية وشرد ابْن غانية عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء فِي أَخْبَار طَوِيلَة ثمَّ عاود ابْن غانية الإجلاب على بِلَاد إفريقية وَظَاهره على ذَلِك قراقوش الْغَزِّي من موَالِي السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب الْكرْدِي صَاحب مصر وَكَانَ قد تغلب على طرابلس وَمَا والاها وَبلغ الْمَنْصُور أَن ابْن غانية قد استولى على قفصة فَنَهَضَ بِنَفسِهِ من حَضْرَة مراكش ثَالِث شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَوصل إِلَى فاس فأراح بهَا ثمَّ سَار إِلَى رِبَاط تازا ثمَّ سَار على التعبية إِلَى تونس وَجمع ابْن غانية من إِلَيْهِ من الملثمين وَالْعرب وَجَاء مَعَه قراقوش الْغَزِّي صَاحب طرابلس فسرح إِلَيْهِم الْمَنْصُور مُقَدّمَة من جَيْشه لنظر السَّيِّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 أبي يُوسُف يَعْقُوب ابْن السَّيِّد أبي حَفْص عمر بن عبد الْمُؤمن فَلَقِيَهُمْ ابْن غانية فِي جموعه فانتصر عَلَيْهِم وَانْهَزَمَ الموحدون وَقبل جمَاعَة من وُجُوههم وَأسر عَليّ بن الروبرتير فِي آخَرين وامتلأت أَيدي الْعَرَب من أثاثهم وأسلابهم وَوصل سرعَان النَّاس إِلَى الْمَنْصُور وَهُوَ بتونس فَنَهَضَ إِلَيْهِم فِي الْحَال وَنزل القيروان ثمَّ أغذ السّير إِلَى الحامة فَالتقى الْجَمْعَانِ وأنشبوا الْحَرْب فَكَانَت الْهَزِيمَة على ابْن غانية وأحزابه وأفلت من المعركة بذماء نَفسه وَمَعَهُ خَلِيله قراقوش وأتى الْقَتْل على أَكْثَرهم ثمَّ صبح الْمَنْصُور مَدِينَة قابس وَكَانَت فِي يَد قراقوش فافتتحها وَنقل من كَانَ بهَا من حرم ابْن غانية وَذَوِيهِ فِي الْبَحْر إِلَى تونس وثنى الْعَنَان إِلَى توزر فافتتحها وَقتل من وجد بهَا ثمَّ إِلَى قفصة فنازلها أَيَّامًا حَتَّى نزلُوا على حكمه فَقتل من كَانَ بهَا من الحشود وَهدم سورها واستبقى أَهلهَا وَجعل أملاكهم بِأَيْدِيهِم على حكم الْمُسَاقَاة وَلما فرغ من أَمر قفصة نَهَضَ إِلَى عرب إفريقية ففتك بهم واستباح حللهم وَأَمْوَالهمْ وشردهم فِي كل وَجه ثمَّ بعد ذَلِك جاؤوه تَائِبين خاضعين فَنقل أهل الْفِتْنَة وَالْخلاف مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَرجع إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة الْخَبَر عَن انْتِقَال الْعَرَب من جزيرتهم إِلَى ارْض إفريقية ثمَّ مِنْهَا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى وَالسَّبَب فِي ذَلِك أعلم أَن أَرض إفريقية وَالْمغْرب لم تكن للْعَرَب بوطن فِي الْأَيَّام السالفة لَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي صدر الْإِسْلَام وَإِنَّمَا كَانَ الْمغرب وطنا لأمة البربر خَاصَّة لَا يشاركهم فِيهِ غَيرهم وَلما جَاءَت الْملَّة الإسلامية وأظهرها الله على الدّين كُله زحفت جيوش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الْمُسلمين من الْعَرَب إِلَى أَرض الْمغرب فِي جملَة مَا زحف إِلَيْهِ من أقطار الأَرْض لَكِن الْعَرَب الداخلون إِلَى أَرض الْمغرب فِي ذَلِك الْعَصْر إِنَّمَا كَانُوا يدْخلُونَ إِلَيْهِ غزَاة مجاهدين على ظُهُور خيولهم فيقضون الوطر من فتح الأقطار والأمصار ثمَّ يَنْقَلِب جمهورهم إِلَى وطنهم ومقرهم من جَزِيرَة الْعَرَب وَإِن بَقِي الْقَلِيل مِنْهُم بِهِ فَإِنَّمَا كَانُوا يستوطنون مِنْهُ الْأَمْصَار دون الْبَادِيَة ويسكنون الْقُصُور دون الْخيام فَلم تكن الْعَرَب تسكن الْمغرب يَوْمئِذٍ بقبائلهم وخيامهم وَلَا استوطنوه بأحيائهم وحللهم كَمَا هُوَ شَأْنهمْ الْيَوْم لِأَن الْملك الَّذِي حصل لَهُم والغلب الَّذِي مكنهم الله مِنْهُ كَانَ يمنعهُم من سُكْنى الْبَادِيَة ويعدل بهم إِلَى الحضارة وَلَا بُد فَكَانَت الْخَيْمَة بِأَرْض الْمغرب مَعْدُومَة رَأْسا أَو قَليلَة جدا لبَعض البربر مِمَّن كَانَ يتخذها مِنْهُم وهم قَلِيل وَإِنَّمَا كَانَ يسكن الْجُمْهُور مِنْهُم بالمداشر وكهوف الْجبَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أواسط الْمِائَة الْخَامِسَة فَدخلت الْعَرَب أَرض إفريقية واستوطنها بحللهم وخيامهم ثمَّ لما كَانَت أَوَاخِر الْمِائَة السَّادِسَة فِي دولة يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله نقل الْكثير مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فاستوطنوه بحللهم وخيامهم كَذَلِك وَصَارَت أَرض الْمغرب منقسمة بَين أمتين أمة الْعَرَب أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَأمة البربر أهل اللِّسَان الْبَرْبَرِي بعد أَن كَانَت بِلَاده خَاصَّة بالبربر لَا يشاركهم فِيهَا غَيرهم كَمَا قُلْنَا وَاعْلَم أَن أمة الْعَرَب تَنْقَسِم أَولا إِلَى قسمَيْنِ عدنان وقحطان ثمَّ يَنْقَسِم كل من عدنان وقحطان إِلَى شعبين عظيمين فَأَما عدنان وهم الإسماعيلية ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام فينقسمون إِلَى ربيعَة وَمُضر وَأما قحطان وهم اليمانية ذُرِّيَّة قحطان بن عَابِر بن شالح بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام فينقسمون إِلَى حمير وكهلان هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف الْمَشْهُور من نسب الْفَرِيقَيْنِ وَقد يذكر النسابون لكل مِنْهُمَا شعوبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 أخر لَكنا لم نعتبرها إِمَّا لانقراضها أَو لقُوَّة الْخلاف فِيهَا أَو لقلتهَا جدا واندراجها فِيمَن ذَكرْنَاهُ. ثمَّ يتشعب كل من هَذِه الشعوب الْأَرْبَعَة إِلَى قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ وفصائل لَا حصر لَهَا لكننا ننبه على الْغَرَض الْمَقْصُود مِنْهَا فَنَقُول من جملَة قبائل مُضر بَنو سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مُضر وَمن قبائلها أَيْضا بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوازان بن مَنْصُور الْمَذْكُور فِي النّسَب السَّابِق وَقد نسبت الخنساء جشم هَذَا إِلَى جده فَقَالَت تهجو دُرَيْد بن الصمَّة (معَاذ الله ينكحني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر) وَمن قبائلها أَيْضا بَنو هِلَال بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر الْمَذْكُور أَيْضا وَمن جملَة قبائل كهلان القحطانيين بَنو الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو بن عِلّة بن جلد بن مذْحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان وكهلان هُوَ ابْن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ الَّتِي ذكر المؤرخون أَنَّهَا انْتَقَلت إِلَى أفريقية وَالْمغْرب وَقد يُضَاف إِلَيْهِم غَيرهم من قبائل الْعَرَب لكِنهمْ لَيْسُوا بمشهورين كالأربعة الْمَذْكُورَة وَأما خبر دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب وَالسَّبَب فِيهِ فقد ذكر المؤرخون أَن بني سليم بن مَنْصُور وَبني هِلَال بن عَامر لم يزَالُوا بِجَزِيرَة الْعَرَب بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن مضى الصَّدْر من دولة بني الْعَبَّاس وَكَانُوا أَحيَاء ناجعة بِأَرْض الْحجاز ونجد فبنوا سليم مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة المنورة وَبَنُو هِلَال فِي جبل غَزوَان عِنْد الطَّائِف ثمَّ تحيز بَنو سليم وَالْكثير من هِلَال بن عَامر إِلَى الْبَحْرين وعمان وصاروا جندا للقرامطة ثمَّ غلب القرامطة على بِلَاد الشَّام وظاهرهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ذَلِك بَنو سليم وَبَنُو هِلَال ثمَّ انْتَقَلت دولة العبيديين من إفريقية إِلَى مصر وغلبوا القرامطة على الشَّام وانتزعوه مِنْهُم وردوهم على أَعْقَابهم إِلَى الْبَحْرين ونقلوا أشياعهم من بني سليم وَبني هِلَال فأنزلوهم بصعيد مصر فِي العدوة الشرقية من بَحر النّيل فأقاموا هُنَالك وَكَانَ لَهُم أضرار بالبلاد وَلما انْتَقَلت الدولة العبيدية من إفريقية إِلَى مصر كَمَا قُلْنَا استنابوا على إفريقية بني زيري بن مُنَاد الصنهاجيين فملكوها وَكَانُوا يخطبون بملوك العبيديين على منابرهم ويضربون السِّكَّة بِأَسْمَائِهِمْ ويؤدون إِلَيْهِم إتاوة مَعْلُومَة وَطَاعَة مَعْرُوفَة وَلما انساق ملك إفريقية إِلَى الْمعز بن باديس بن الْمَنْصُور بن بلكين بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي كَانَ لَهُ رَغْبَة فِي مَذْهَب أهل السّنة خَالف فِيهِ أسلافه الَّذين كَانُوا على مَذْهَب الشِّيعَة الرافضة وَكَانَ الْخَلِيفَة من العبيديين بِمصْر يَوْمئِذٍ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه معد بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم بن الْعَزِيز بن الْمعز لدين الله والمعز هَذَا هُوَ الَّذِي انْتقل إِلَى مصر وَبنى مَدِينَة الْقَاهِرَة وَكَانَ الْمعز بن باديس الصنهاجي لَا تزَال المراسلات والهدايا تخْتَلف بَينه وَبَين الْمُسْتَنْصر العبيدي صَاحب مصر كَمَا كَانَت أسلافهما ثمَّ إِن الْمعز بن باديس ركب ذَات يَوْم لبَعض مذاهبه وَذَلِكَ فِي أول ولَايَته فكبا بِهِ فرسه فَنَادَى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَسَمعته الْعَامَّة وَكَانَ جمهورهم سنيا فثاروا بالرافضة وقتلوهم أَبْرَح قتل وأعلنوا بالمعتقد الْحق وَنَادَوْا بشعار الْإِيمَان وَقَطعُوا من الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة فِي أَيَّام الظَّاهِر العبيدي وَالِد الْمُسْتَنْصر فكاتب الْمعز بن باديس فِي ذَلِك فَاعْتَذر إِلَيْهِ بالعامة فأغضى عَنهُ وَاسْتمرّ ابْن باديس على إِقَامَة الدعْوَة لَهُم والمهاداة مَعَهم وَهُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك يُكَاتب وزيرهم الْقَائِم بِأُمُور دولتهم أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد الجرجرائي ويستميله ويعرض ببني عبيد وشيعتهم ويغض مِنْهُم ثمَّ هلك الْوَزير أَبُو الْقَاسِم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَولي الوزارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 بعده أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ اليازوري أَصله من قرى فلسطين وَكَانَ أَبوهُ فلاحا بهَا فَلَمَّا ولي الوزارة خاطبه الْمعز بن باديس دون مَا كَانَ يُخَاطب بِهِ من قبله من الوزراء كَانَ يَقُول فِي كِتَابه إِلَيْهِم عبدكم وَصَارَ يَقُول فِي كتاب اليازوري صنيعتكم فحقد ذَلِك عَلَيْهِ وَصَارَت القوارص تسري من بَعضهم إِلَى بعض إِلَى أَن أظلم الجو بَين الْمعز بن باديس وَبَين الْمُسْتَنْصر العبيدي ووزيره اليازوري فَقطع ابْن باديس الْخطْبَة بهم على منابره سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وأحرق بنود الْمُسْتَنْصر ومحا اسْمه من السبكة والطرز ودعا للقائم العباسي خَليفَة بَغْدَاد وجاءه خطابه وَكتاب عَهده فقرئ بِجَامِع القيروان ونشرت الرَّايَات السود وهدمت دور الإسماعيلية وَبلغ الْخَبَر بذلك كُله إِلَى الْمُسْتَنْصر بِالْقَاهِرَةِ فَقَامَتْ قِيَامَته ففاوض وزيره أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ اليازوري فِي أَمر ابْن باديس فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يسرح لَهُ الْعَرَب من بني هِلَال وَبني جشم الَّذين بالصعيد وَأَن يتَقَدَّم إِلَيْهِم بالاصطناع ويستميل مشايخهم بالعطاء وتولية أَعمال إفريقية وتقليدهم أمرهَا بَدَلا من صنهاجة الَّذين بهَا لينصروا الشِّيعَة ويدافعوا عَنْهُم فَإِن صدقت المخيلة فِي ظفرهم بِابْن باديس وَقَومه صنهاجة كَانُوا أَوْلِيَاء للدولة وعمالا بِتِلْكَ القاصية وارتفع عدوانهم من ساحة الْخلَافَة وَإِن كَانَت الْأُخْرَى فلهَا مَا بعْدهَا وَأمر الْعَرَب على كل حَال أَهْون على الدولة من أَمر صنهاجة الْمُلُوك فَبعث الْمُسْتَنْصر وزيره إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاء وأرضخ لأمرائهم فِي الْعَطاء وَوصل عامتهم بِبَعِير ودينار لكل وَاحِد مِنْهُم وأباح لَهُم إجَازَة النّيل وَقَالَ لَهُم قد أعطيناكم الْمغرب وَملك ابْن باديس العَبْد الآباق فَلَا تفتقرون بعْدهَا وَكتب اليازوري إِلَى الْمعز أما بعد فقد أنفذنا إِلَيْكُم خيولا فحولا وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهَا رجَالًا كهولا ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا فشرهت الْعَرَب إِذْ ذَاك وعبروا النّيل إِلَى برقة فنزلوا بهَا واستباحوها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وافتتحوا أمصارها وأعجبتهم الْبِلَاد فَكَتَبُوا لإخوانهم الَّذين بقوا شَرْقي النّيل يرغبونهم فِي الْبِلَاد فأجازوا إِلَيْهِم بعد أَن أعْطوا للمستنصر لكل رَأس دينارين فَأخذ مِنْهُم أَضْعَاف مَا أَخَذُوهُ وتقارعوا على الْبِلَاد فَحصل لبني سليم شرقها ولبني هِلَال غربها ثمَّ انتشروا فِي أقطار أفريقية مثل الْجَرَاد لَا يؤمرون بِشَيْء إِلَّا أَتَوا عَلَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلم تمر إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى استولوا على ضواحي إفريقية ونازلوا أمصارها واقتضوا من أَهلهَا الإتاوة وحضروا ابْن باديس فِي مصره وصاهرهم ببناته تأليفا لَهُم وَمَعَ ذَلِك فَلم يجد شَيْئا والْحَدِيث فِي ذَلِك طَوِيل وَلَيْسَ تتبعه من غرضنا قَالَ ابْن خلدون ولهؤلاء الهلاليين فِي الْحِكَايَة عَن دُخُولهمْ إِلَى إفريقية طرق يَزْعمُونَ أَن الشريف ابْن هَاشم كَانَ صَاحب الْحجاز وَمَكَّة ويسمونه شكر بن أبي الْفتُوح وَأَنه أصهر إِلَى الْحسن بن سرحان فِي أُخْته جازية فأنكحه إِيَّاهَا وَولدت مِنْهُ ولدا واسْمه مُحَمَّد وَإنَّهُ حدث بَينهم وَبَين الشريف الْمَذْكُور مغاضبة وفتنة فَأَجْمعُوا الرحلة عَن أَرض نجد إِلَى إفريقية وتحيلوا عَلَيْهِ فِي استرجاع أختهم جازية الْمَذْكُورَة فطالبته بزيارة أَبَوَيْهَا فأزارها إيَّاهُم وَخرج بهَا إِلَى حللهم وَأقَام مَعهَا مُدَّة الزِّيَارَة فارتحلوا بِهِ وَبهَا وكتموا رحلتهم عَنهُ وموهوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُم يباكرون بِهِ للصَّيْد والقنص وَيَرُوحُونَ بِهِ إِلَى بُيُوتهم بعد بنائها فَلم يشْعر بالرحلة إِلَى أَن فَارق مَوضِع ملكه وَصَارَ حَيْثُ لَا يملك أمرهَا عَلَيْهِم ففارقوه وَرجع إِلَى مَكَانَهُ من مَكَّة وَبَين جوانحه من حبها دَاء دخيل وَأَنَّهَا من بعد ذَلِك كلفت بِهِ مثل مَا كلف بهَا الى ان مَاتَت من حبه ويتناقلون من أَخْبَارهَا فِي ذَلِك مَا يعفي على خبر قيس وليلى ويروون كثيرا من أشعارها محكمَة المباني مثقفة الْأَطْرَاف وفيهَا المطبوع والمنتحل والمصنوع لم يفقد فِيهَا من البلاغة شَيْء وَإِنَّمَا فقد مِنْهَا الْإِعْرَاب فَقَط وَلَا مدْخل لَهُ فِي البلاغة وَفِي هَذِه الْأَشْعَار شَيْء كثير دَخلته الصَّنْعَة وفقدت فِيهِ صِحَة الرِّوَايَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 فَلذَلِك لَا يوثق بِهِ وَلَو صحت رِوَايَته لكَانَتْ فِيهِ شَوَاهِد بآياتهم ووقائعهم مَعَ زناتة وحروبهم وَضبط لأسماء رجالاتهم وَكثير من أَحْوَالهم لَكنا لَا نثق بروايتها وَرُبمَا يشْعر الْبَصِير بالبلاغة بالمصنوع مِنْهَا وَغَيره وهم متفقون على الْخَبَر عَن حَال جازية هَذِه والشريف خلفا عَن سلف وجيلا عَن جيل ويكاد القادح فِيهَا والمستريب فِي أمرهَا أَن يرْمى عِنْدهم بالجنون لتواترها بَينهم وَهَذَا الشريف الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ هُوَ من الهواشم وَهُوَ شكر بن أبي الْفتُوح الْحسن بن جَعْفَر بن أبي هَاشم مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْأَكْبَر ابْن مُوسَى الثَّانِي ابْن عبد الله أبي الْكِرَام بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَأَبُو الْفتُوح هُوَ الَّذِي خطب لنَفسِهِ بِمَكَّة أَيَّام الْحَاكِم العبيدي وَبَايع لَهُ بَنو الْجراح أُمَرَاء طيىء بِالشَّام وبعثوا عَنهُ فوصل إِلَى أحيائهم وَبَايع لَهُ كَافَّة الْعَرَب ثمَّ غلبتهم عَسَاكِر الْحَاكِم العبيدي وَرجع إِلَى مَكَّة وَهلك سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فولي بعده ابْنه شكر هَذَا وَهلك سنة ثَلَاث وَخمسين وَولي بعده ابْنه مُحَمَّد الَّذِي يزْعم هَؤُلَاءِ الهلاليون أَنه من جازية هَذِه وَقَالَ ابْن حزم إِن شكر بن أبي الْفتُوح لم يُولد لَهُ قطّ وَإِنَّمَا صَار أَمر مَكَّة من بعده إِلَى عبد كَانَ لَهُ وَقَالَ ابْن خلدون بل أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من الهلاليين لهَذَا الْعَهْد أَنه وقف على بِلَاد الشريف شكر بن أبي الْفتُوح وَأَنَّهَا بقْعَة من أَرض نجد مِمَّا يَلِي الْفُرَات وَإِن وَلَده بهَا لهَذَا الْعَهْد وَالله أعلم وَاعْلَم أَن جازية بنت سرحان هَذِه كَانَت من بني دُرَيْد بن أثبج بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة فَهِيَ هلالية أثبجية دريدية وَمن مزاعمهم أَنَّهَا لما صَارَت إِلَى إفريقية وَفَارَقت الشريف ابْن هَاشم الْمَذْكُور خَلفه عَلَيْهَا مِنْهُم ماضي بن مقرب من رجالات دُرَيْد فأقامت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 عِنْده مُدَّة ثمَّ غاضبته وَلَحِقت بأخيها الْحسن بن سرحان فَمنعهَا مِنْهُ فَقَامَتْ عشيرة ماضي بن مقرب مَعَه وقاتلوا الْحسن بن سرحان وعشيرته وثارت الْفِتْنَة بَينهم وَقتل فِيهَا الْحسن بن سرحان واستمرت الْعَدَاوَة بَينهم إِلَى أَيَّام الْمُوَحِّدين فَهَذَا سَبَب انْتِقَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب من الْحجاز ونجد إِلَى إفريقية وَأما سَبَب انتقالهم من إفريقية إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى فقد ذكرنَا أَن بني سليم بن مَنْصُور وَبني هِلَال بن عَامر اقترعوا على بِلَاد إفريقية فَكَانَ لبني سليم شرقها ولبني هِلَال غربها ثمَّ تغلبُوا على ضواحيها وأمصارها وضايقوا مُلُوكهَا بهَا وانضم إِلَى بني هِلَال بن عَامر بَنو جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر فعلت أَيْديهم على الْجَمِيع وَاسْتمرّ أَمرهم على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت دولة يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي رَحمَه الله وثار ابْن غانية بِبِلَاد إفريقية كَمَا تقدم فظاهرته الْعَرَب من جشم وهلال على الْمُوَحِّدين وأوقعوا بمقدمة الْمَنْصُور فَنَهَضَ إِلَيْهِم من تونس وأوقع بالملثمين أَولا ثمَّ بالعرب ثَانِيًا وَقل جمعهم وَاتبع آثَارهم إِلَى أَن شردهم إِلَى صحارى برقة وانتزع تِلْكَ الْبِلَاد من أَيْديهم ثمَّ راجعوا بصائرهم فَأتوهُ طائعين خاضعين حَسْبَمَا قدمنَا الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وَكَانَ الَّذين قَاتلُوهُ أَولا ثمَّ راجعوا طَاعَته ثَانِيًا هم قبائل هِلَال بن عَامر وجشم بن مُعَاوِيَة بن بكر كَمَا قُلْنَا وهم أَصْحَاب غرب إفريقية وَأما بَنو سليم بن مَنْصُور فَلم يقاتله مِنْهُم أحد فَلذَلِك بَقِي بَنو سليم بِأَرْض إفريقية وَنقل الْمَنْصُور رَحمَه الله بني هِلَال وَبني جشم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى حِين أَتَوْهُ طائعين وَكَانَ ذَلِك سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَأنْزل قَبيلَة ريَاح من بني هِلَال بِبِلَاد الهبط فِيمَا بَين قصر كتامة الْمَعْرُوف بِالْقصرِ الْكَبِير إِلَى أزغار الْبَسِيط الأفيح هُنَاكَ إِلَى سَاحل الْبَحْر الْأَخْضَر فاستقروا بهَا وطاب لَهُم الْمقَام وَأنزل قبائل جشم بِلَاد تامسنا الْبَسِيط الأفيح مَا بَين سلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ومراكش وَهُوَ أَوسط بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وأبعدها عَن الثنايا المفضية إِلَى القفار لإحاطة جبل الدَّرن بهَا فَلم ييمموا بعْدهَا قفرا وَلَا أبعدوا رحْلَة وَاعْلَم أَن هذَيْن البسيطين يسميان الْيَوْم فِي عرف عَامَّة أهل الْمغرب بالغرب والحوز فالغرب عبارَة عَن بِلَاد الهبط وأزغار وَمَا فِي حكمهَا والحوز عبارَة عَن بِلَاد تامسنا وَمَا اتَّصل بهَا إِلَى مراكش فَكَانَ لرياح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ لجشم بِلَاد الْحَوْز ثمَّ أعلم أَيْضا أَن قَبيلَة ريَاح هم بَنو ريَاح بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة وهم بطُون كَثِيرَة وجلهم قد بَقِي بِأَرْض إفريقية وَالَّذين انتقلوا مِنْهُم إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى كَانَ رئيسهم فِي ذَلِك الْعَصْر مَسْعُود بن سُلْطَان بن زِمَام الذوادي من بني ذواد بن مرداس بن ريَاح فَأَقَامَ مَعَهم مُدَّة ثمَّ جمع جمَاعَة من قومه وفر إِلَى إفريقية وَذَلِكَ فِي حُدُود التسعين وَخَمْسمِائة وأبدأ وَأعَاد هُنَالك فِي الإجلاب مَعَ الثوار إِلَى أَن هلك فِي بعض تِلْكَ الْمدَّة وَأقَام الْبَاقُونَ بعد فرار كَبِيرهمْ مَسْعُود الْمَذْكُور بِبِلَاد الهبط وأزغار إِلَى أَن انقرضت دولة الْمُوَحِّدين وَكَانَ عُثْمَان بن نصر رئيسهم أَيَّام الْمَأْمُون الموحدي وَقَتله سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَلما تغلب بَنو مرين على ضواحي الْمغرب ضرب الموحدون على ريَاح هَؤُلَاءِ الْبَعْث مَعَ عساكرهم فَقَامُوا بحماية ضواحيهم وانضم إِلَيْهِم بَنو عَسْكَر بن مُحَمَّد المرينيون حِين خالفوا إخْوَانهمْ بني حمامة بن مُحَمَّد سلف الْمُلُوك مِنْهُم فَكَانَت بَين الْفَرِيقَيْنِ جَوْلَة قتل فِيهَا عبد الْحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة أَبُو الْمُلُوك المرينيين وَقتل مَعَه ابْنه إِدْرِيس فأوجدت ريَاح السَّبِيل لبني مرين على أنفسهم فِي طلب الثأر فأثخنوا فيهم بعد أَن ملكوا الْمغرب واستلحموهم قتلا وسبيا مرّة بعد أُخْرَى وَكَانَ آخر من أوقع بهم السُّلْطَان أَبُو ثَابت المريني سنة سبع وَسَبْعمائة تتبعهم بِالْقَتْلِ إِلَى أَن لَحِقُوا برؤوس الهضاب وأسنمه الرِّبَا المتوسطة فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 المرج المستبحر بأزغار فصاروا إِلَى عدد قَلِيل وَلَحِقُوا بالقبائل الغارمة وَذَهَبت ريَاح أدراج الرِّيَاح هَذَا خبرهم على الْجُمْلَة وَأما بَنو جشم أَصْحَاب تامسنا فَإِن الْمَنْصُور لما نقلهم إِلَيْهَا نقل مَعَهم قبائل أُخْرَى كَانُوا قد قَاتلُوهُ مَعَهم وَلم يَكُونُوا ن نسبهم وَلَكنهُمْ كَانُوا مندرجين فيهم فَكَانَ يُطلق على الْجَمِيع جشم وَهَؤُلَاء الْقَبَائِل هم الْمُقدم والعاصم من بني هِلَال بن عَامر ثمَّ من الأثبج مِنْهُم وقرة من بني هِلَال أَيْضا والخلط من بني عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر فَهَؤُلَاءِ الْقَبَائِل لَيْسُوا من جشم كَمَا ترى وَلَكنهُمْ لما انغمروا فيهم وانتقلوا إِلَى الْمغرب بانتقالهم أطلق على الْجَمِيع جشم فَأَما الْمُقدم والعاصم فهما ابْنا مشرف بن أثبج بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال بن عَامر بن صعصعة وَأما قُرَّة فهم بَنو قُرَّة بن عبد منَاف بن أبي ربيعَة بن نهيك بن هِلَال فَهَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الثَّلَاثَة أَعنِي الْمُقدم والعاصم وقرة هلاليون وَأما الْخَلْط فهم بطن من بني عقيل بِالتَّصْغِيرِ قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ الْخَلْط بَنو عَوْف وَبَنُو مُعَاوِيَة ابْني المنتفق بن عَامر بن عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة الْمَذْكُور فِي الْأَنْسَاب الْمُتَقَدّمَة فقد بَان لَك بِهَذَا أَن هَذِه الْقَبَائِل الْأَرْبَع أَعنِي العاصم ومقدما وقرة والخلط لَيْسُوا من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر من حَيْثُ النّسَب وَأَن الثَّلَاث الأول من بني هِلَال بن عَامر وَأَن الرَّابِعَة وَهِي الْخَلْط من بني عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر يجْتَمع الْجَمِيع كَمَا ذَكرْنَاهُ أَولا وَالله تَعَالَى أعلم ولنتكلم الْآن على أَخْبَار جشم على الْجُمْلَة فَنَقُول لما نزل بَنو جشم ببسيط تامسنا أَقَامُوا بِهِ بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ تميز جمهورهم إِلَى العاصم ومقدم وَبني جَابر وسُفْيَان والخلط فَأَما مقدم والعاصم فَكَانُوا مَعَ إخْوَانهمْ ببسيط تامسنا الْمَذْكُور وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 للموحدين عَلَيْهِم عسكرة وجباية وَكَانَ شيخ العاصم لعهد الْمُوَحِّدين ثمَّ عهد الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور مِنْهُم حسن بن زيد وَكَانَ لَهُ أثر فِي الْفِتْنَة الَّتِي ثارت بَين الْمَأْمُون وَبَين يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور وَلما هلك يحيى الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة أَمر الرشيد بن الْمَأْمُون بقتل حسن بن زيد الْمَذْكُور مَعَ قَائِد وقائد ابْني عَامر من شُيُوخ بني جَابر كل مِنْهُمَا اسْمه قَائِد فَقتلُوا جَمِيعًا ثمَّ صَارَت الرياسة لأبي عياد وبنيه وَكَانَ رئيسهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد وَكَانَ لَهُ تلون على الدولة فِي النفرة تَارَة والاستقامة أُخْرَى فر إِلَى تلمسان وَرجع مِنْهَا أَعْوَام تسعين وسِتمِائَة وفر إِلَى السوس وَرجع مِنْهُ سنة سبع وَسَبْعمائة وَلم يزل هَذَا دأبه وَكَانَت لَهُ ولَايَة مَعَ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني من قبل ذَلِك ومقاماته فِي الْجِهَاد مَعَه مَذْكُورَة وَبقيت رياسته فِي بنيه إِلَى أَن انقرض أَمرهم وتلاشوا وَالله خير الْوَارِثين وَأما بَنو جَابر بن جشم فَكَانَت لَهُم شَوْكَة أَيْضا وَكَانَ لَهُم أثر فِي الْفِتْنَة الناشئة بَين الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور وَيحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور فَكَانُوا شيعَة ليحيى وَلما ولي الرشيد بن الْمَأْمُون أَمر بقتل قَائِد وقائد ابْني عَامر وهما يَوْمئِذٍ شَيخا بني جَابر فقتلا وَقتل مَعَهم حسن بن زيد شيخ العاصم كَمَا تقدم وَكَانُوا جَمِيعًا معتقلين عِنْد الرشيد وَولي أَمر بني جَابر بعدهمَا يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن قيطون ثمَّ قبض عَلَيْهِ قَائِد الْمُوَحِّدين أَبُو الْحسن بن يَعْلُو وَكَانَ ذَلِك بِأَمْر أبي حَفْص المرتضى الموحدي وَولي رياسة بني جَابر بعده إِسْمَاعِيل بن يَعْقُوب بن قيطون ثمَّ تحيز بَنو جَابر هَؤُلَاءِ عَن أَحيَاء جشم إِلَى سفح الْجَبَل بتادلا وَمَا إِلَيْهَا يجاورون هُنَالك صناكة من البربر الساكنين بقنته وهضابه فيسهلون إِلَى الْبَسِيط تَارَة ويأوون إِلَى الْجَبَل فِي حلف البربر وجوارهم أُخْرَى إِذا دهمتهم مَخَافَة من السُّلْطَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 قَالَ ابْن خلدون والرياسة فيهم لهَذِهِ العصور يَعْنِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّامِنَة فِي ورديغة من بطونهم قَالَ أدْركْت شَيخا عَلَيْهِم لعهد السُّلْطَان أبي عنان حُسَيْن بن عَليّ الورديغي ثمَّ هلك وأقيم مقَامه ابْنه النَّاصِر بن حُسَيْن وَلحق بهم الْوَزير الْحسن بن عمر عِنْد نزوعه عَن السُّلْطَان أبي سَالم المريني سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة ونهضت إِلَيْهِم عَسَاكِر السُّلْطَان فأمكنوا مِنْهُ ثمَّ لحق بهم أَبُو الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم عِنْد فراره من مراكش سنة ثَمَان وَسِتِّينَ ونازله السُّلْطَان عبد العزيز المريني وأحاط بِهِ وبهم فلحق ببرابرة صناكة ثمَّ أمكنوا مِنْهُ على مَال حمل إِلَيْهِم وَلحق بهم أثْنَاء هَذِه الْفِتَن الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن المريني على عهد الْوَزير عمر بن عبد الله المتغلب على الْمغرب وَطَلَبه الْوَزير عمر فأخرجوه عَنْهُم وَطَالَ بذلك مراس النَّاصِر هَذَا للفتنة فنكرته الدولة وتقبضت عَلَيْهِ وأودعته السجْن فَمَكثَ فِيهِ سِنِين ثمَّ تجافت عَنهُ الدولة من بعد ذَلِك وأطلقته ثمَّ رَجَعَ من الْمشرق فتقبض عَلَيْهِ الْوَزير أَبُو بكر بن غَازِي المستبد بالمغرب على ولد السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأودعه السجْن ونقلوا الرياسة عَن بَيته إِلَى غَيرهم وَالله تَعَالَى مُقَلِّب الْأُمُور وَقد يزْعم كثير من النَّاس أَن ورديغة من بني جَابر لَيْسُوا من جشم وَأَنَّهُمْ بطن من بطُون سدراته إِحْدَى شعوب لواتة من البربر ويستدلون على ذَلِك بموطنهم وجوارهم البربر وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة ذَلِك وَأما سُفْيَان فهم الَّذين كَانَت لَهُم الرياسة والشوكة عِنْد دُخُول الْعَرَب إِلَى الْمغرب كَانَت رياستهم يَوْمئِذٍ فِي أَوْلَاد جرمون على سَائِر بطُون جشم واستمروا على ذَلِك سَائِر أَيَّام الْمُوَحِّدين وَلما ضعف أَمر بني عبد الْمُؤمن استكثروا بهم فِي حروبهم فَكَانَت لَهُم عزة ودالة على الدولة بِسَبَب الْكَثْرَة وَقرب الْعَهْد بالبداوة وخبوا وَوَضَعُوا فِي الْفِتَن مَعَ أعقاب الْمُلُوك من بني عبد الْمُؤمن المتنازعين على الْملك وظاهروا الْبَعْض مِنْهُم على الْبَعْض وَسَاءَتْ آثَارهم بالمغرب وَكَانَ شيخهم الْمَشْهُور على عهد يحيى بن النَّاصِر الموحدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 جرمون بن عِيسَى السفياني وَكَانَت بَينهم وَبَين الْخَلْط عَدَاوَة فَصَارَت الْخَلْط شيعَة لِلْمَأْمُونِ وبنيه وَصَارَت سُفْيَان بِسَبَب ذَلِك شيعَة ليحيى بن النَّاصِر مُنَازعَة فِي الْخلَافَة بمراكش ثمَّ قتل الرشيد ن الْمَأْمُون مَسْعُود بن حمدَان شيخ الْخَلْط رُبمَا نذْكر بعد فصاروا إِلَى يحيى بن النَّاصِر وَصَارَت سُفْيَان إِلَى الرشيد ثمَّ ظهر بَنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مَعَ الْمُوَحِّدين وَنزع جرمون سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة عَن الرشيد وَلحق بِمُحَمد بن عبد الْحق المريني حَيَاء مِمَّا وَقع لَهُ مَعَ الرشيد وَذَلِكَ أَنه نادمه ذَات لَيْلَة حَتَّى سكر فَقَامَ يرقص طَربا ثمَّ حمل عَلَيْهِ وَهُوَ سَكرَان وعربد وأساء الْأَدَب ثمَّ أَفَاق فندم وفر إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْحق وَهلك سنة تسع وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وَعلا كَعْب ابْنه كانون بن جرمون عِنْد السعيد بن الْمَأْمُون ثمَّ خَالف عَلَيْهِ عِنْد نهوضه إِلَى بني مرين سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَرجع إِلَى آزمور فملكها وفت ذَلِك فِي عضد السعيد فَرجع عَن حركته وَقصد كانون بن جرمون ففر أَمَامه ثمَّ حضر مَعَه بعد ذَلِك حركته إِلَى تلمسان وَقتل بحصن تامزردكت قبل مقتل السعيد بِيَوْم وَاحِد قتلته الْخَلْط فِي فتْنَة وَقعت بَينهم فِي محلّة السعيد وَهِي الَّتِي جرت عَلَيْهَا تِلْكَ الْوَاقِعَة وَقَامَ بِأَمْر سُفْيَان من بعده أَخُوهُ يَعْقُوب بن جرمون وَقتل ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن كانون وَحضر مَعَ عمر المرتضى الموحدي حَرَكَة أَمَان أيملولين سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَرَحل يَعْقُوب عَن السُّلْطَان واختل عسكره بِسَبَب ذَلِك فَرجع وَاتبعهُ بَنو مرين فَكَانَت الْهَزِيمَة ثمَّ عَفا لَهُ المرتضى عَنْهَا ثمَّ قَتله مَسْعُود وَعلي ابْنا أَخِيه كانون بثأر أخيهما مُحَمَّد سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة ولحقا بِيَعْقُوب بن عبد الْحق المريني وَقدم المرتضى ابْنه عبد الرَّحْمَن فعجز عَن الْقيام بأَمْره فَقدم عَمه عبد الله بن جرمون فعجز أَيْضا فَقدم مَسْعُود بن كانون فَأَقَامَ شَيخا على سُفْيَان واستمرت حَالهم مَعَ الْمُوَحِّدين وَبني مرين على هَذَا النَّحْو من إخلاص الطَّاعَة والنصرة تَارَة والتمريض فيهمَا أُخْرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وَقَالَ ابْن خلدون واتصلت الرياسة على سُفْيَان فِي بني جرمون هَؤُلَاءِ إِلَى عهدنا قَالَ وَأدْركت شَيخا عَلَيْهِم لعهد السُّلْطَان أبي عنان يَعْقُوب بن عَليّ بن مَنْصُور بن عِيسَى بن يَعْقُوب بن جرمون بن عِيسَى وَكَانَت سُفْيَان هَؤُلَاءِ أَحيَاء حلوا بأطراف تامسنا مِمَّا يَلِي آسفي وغلبتهم الْخَلْط على بسائطها الفسيحة وَبَقِي من أحيائهم الْحَارِث والكلابة ينتجعون أَرض السوس وقفاره وَيطْلبُونَ ضواحي بِلَاد حاحة من المصامدة فَبَقيت فيهم لذَلِك شدَّة وبأس ورياستهم فِي أَوْلَاد مُطَاع من الْحَارِث وَطَالَ عيثهم فِي ضواحي مراكش وإفسادهم فَلَمَّا استبد سُلْطَان مراكش الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن المريني سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة كَمَا نذْكر استخلصهم وَرفع مَنْزِلَتهمْ ثمَّ استقدمهم فِي بعض أَيَّامه للعرض بخيلهم ورجلهم على الْعَادة وشيخهم يَوْمئِذٍ مَنْصُور بن يعِيش من أَوْلَاد مُطَاع فتقبض عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَقتل من قتل مِنْهُم وأودع الآخرين سجونه فَذَهَبُوا مثلا لآخرين وخضضت شوكتهم وَالله قَادر على مَا يَشَاء وَأما الْخَلْط فقد كَانُوا ببسيط تامسنا أولي عدد وَقُوَّة وَكَانَ شيخهم هِلَال بن حميدان بن مقدم وَلما ولي الْعَادِل بن الْمَنْصُور الموحدي خالفوا عَلَيْهِ وهزموا عساكره وَبعث هِلَال بيعَته إِلَى الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَتَبعهُ الموحدون على ذَلِك ثمَّ جَاءَ الْمَأْمُون فظاهروه على أمره وتحيزت أعداؤهم إِلَى يحيى بن النَّاصِر منازعه وَلم يزل هِلَال بن حميدان مَعَ الْمَأْمُون الى أَن هلك فِي حركته سنته وَبَايع بعده لِابْنِهِ الرشيد وَجَاء بِهِ إِلَى مراكش وَهزمَ سُفْيَان واستباحهم ثمَّ هلك هِلَال بن حميدان فولي مَكَانَهُ أَخُوهُ مَسْعُود بن حميدان ثمَّ خَالف على الرشيد فاحتال الرشيد عَلَيْهِ حَتَّى وَفد عَلَيْهِ بمراكش فَقتله فِي جمَاعَة من قومه سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَولي أَمر الْخَلْط بعده يحيى بن هِلَال وفر بقَوْمه إِلَى يحيى بن النَّاصِر وحاصروا مراكش ثمَّ استولوا عَلَيْهَا وعاثوا فِيهَا وَخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الرشيد إِلَى سجلماسة ثمَّ عَاد إِلَيْهِم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وغلبهم عَلَيْهَا ثمَّ راجعوا طَاعَة الرشيد وطردوا يحيى بن النَّاصِر إِلَى بني معقل عرب الصَّحرَاء فتقبض الرشيد على وشاح وَعلي ابْني هِلَال وسجنهم بآزمور سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ثمَّ أطلقهُم ثمَّ بعد ذَلِك غدر بمشيختهم بعد الاستدعاء والتأنيس وقتلهم أَجْمَعِينَ ثمَّ بعد ذَلِك حَضَرُوا مَعَ السعيد بن الْمَأْمُون حركته إِلَى بني عبد الواد أَصْحَاب تلمسان وجروا عَلَيْهِ الْوَاقِعَة حَتَّى قتل فِيهَا بِسَبَب فتنتهم مَعَ سُفْيَان يَوْمئِذٍ فَلم يزل المرتضى يعْمل الْحِيلَة فيهم إِلَى أَن تقبض على أَشْيَاخهم سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة فَقَتلهُمْ وَلحق عواج بن هِلَال بن حميدان ببني مرين وَقدم المرتضى عَلَيْهِم عَليّ بن أبي عَليّ من بَيت الرياسة فيهم ثمَّ رَجَعَ عواد إِلَى الْمُوَحِّدين سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فأغزاه عَليّ بن أبي عَليّ فَقتل فِي غزاته تِلْكَ ثمَّ كَانَت وَاقعَة أم الرجلَيْن لبني مرين على المرتضى سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة فَنزع عَليّ بن أبي عَليّ إِلَى بني مرين ثمَّ صَار الْخَلْط كلهم إِلَى بني مرين وَكَانَت الرياسة فيهم أول دولة بني مرين لأبي عَطِيَّة مهلهل بن يحيى الخلطي وأصهر إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فأنكحه مهلهل ابْنَته عَائِشَة الَّتِي كَانَ مِنْهَا ابْنه السُّلْطَان أَبُو سعيد بن يَعْقُوب وَلم يزل مهلهل كَبِيرا عَلَيْهِم إِلَى أَن هلك سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة ثمَّ قَامَ بِأَمْر الْخَلْط ابْنه عَطِيَّة وَكَانَ لعهد السُّلْطَان أبي سعيد وَابْنه السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَعثه السُّلْطَان أَبُو الْحسن سفيرا عَنهُ إِلَى سُلْطَان مصر الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وَلما هلك عَطِيَّة قَامَ بِأَمْر الْخَلْط ابْنه عِيسَى بن عَطِيَّة ثمَّ ابْن أَخِيه رمام بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة وَهُوَ الَّذِي بلغ المبالغ من الْعِزّ والترف والدالة على السُّلْطَان والقرب من مَجْلِسه إِلَى أَن هلك فولي أَمر الْخَلْط بعده أَخُوهُ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أخوهما سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم ثمَّ أخوهم مبارك بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 إِبْرَاهِيم على مثل حَالهم أَيَّام السُّلْطَان أبي عنان المريني وَمن بعده إِلَى أَن كَانَت الْفِتْنَة بالمغرب بعد مهلك السُّلْطَان أبي سَالم المريني وَاسْتولى على الْمغرب أَخُوهُ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأقطع ابْنه نَاحيَة مراكش فَكَانَ إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة هَذَا مَعَه وَلما تقبض على أبي الْفضل تقبض على مبارك الْمَذْكُور وأودع السجْن إِلَى أَن غلب السُّلْطَان عبد الْعَزِيز على عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وَقَتله فَقتل مَعَه مبارك بن إِبْرَاهِيم هَذَا لما كَانَ يعرف بِهِ من صحبته ومداخلته فِي الْفِتَن كَمَا يذكر فِي أَخْبَار بني مرين وَولي ابْنه مُحَمَّد بن مبارك على قبيل الْخَلْط قَالَ ابْن خلدون إِلَّا أَن الْخَلْط الْيَوْم دثرت كَأَن لم تكن بِمَا أَصَابَهُم من الخصب والترف مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين بذلك الْبَسِيط الأفيح زِيَادَة على الْعِزّ والدعة فأكلتهم السنون وَذهب بهم الترف وَالله غَالب على أمره أه وَلما انقرضت الدولة المرينية من الْمغرب وَجَاءَت دولة الشرفاء السعديين وَقَامَ مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَعْرُوف بالمهدي انحاشت الْخَلْط إِلَيْهِ وأظهروا الْخدمَة والنصيحة وَغلب مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور على فاس وَأخرج أَبَا حسون الوطاسي عَنْهَا فَذهب أَبُو حسون الْمَذْكُور إِلَى دولة التّرْك بالجزائر واستنصر بهم على السعديين فلبوا دَعوته وَقدم مَعَه مِنْهُم عَسْكَر جرار إِلَى فاس فأخرجوا مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ عَنْهَا بعد حروب عَظِيمَة جرت الْخَلْط هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ فِيهَا الْهَزِيمَة فَلَمَّا اسْتَقل بِالْأَمر مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور خلع الْخَلْط من الجندية ووظف عَلَيْهِم الْخراج ومحا اسمهم من ديوَان الْخدمَة وَنقل أعيانهم إِلَى مراكش واتخذهم رهائن عِنْده وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك إِلَى دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالذهبي فَرَأى جلاد الْخَلْط وقتالهم يَوْم وَادي المخازن وإبلاءهم الإبلاء الْحسن فَاخْتَارَ النّصْف مِنْهُم وردهم إِلَى الجندية وَأبقى النّصْف الآخر فِي غمار الرّعية ونقلهم إِلَى أزغار فاستوطنوه فعاثوا فِي تِلْكَ الْبِلَاد وَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد ومدوا أَيْديهم إِلَى أَوْلَاد مُطَاع فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إِلَى الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فَضرب عَلَيْهِم مغرما سبعين ألفا فَلم يزِيدُوا إِلَّا شدَّة فَضرب عَلَيْهِم بعثا إِلَى تكرارين من أَرض الصَّحرَاء فامتنعوا من ذَلِك فَبعث إِلَيْهِم الْقَائِد مُوسَى بن أبي جمادة الْعمريّ فَانْتزع مِنْهُم الْخَيل وأبقاهم رجالة ثمَّ حكم فيهم السَّيْف فمزقهم كل ممزق وَمن ثمَّ خمدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم ثمَّ ختموا أَعْمَالهم بفعلتهم الشنعاء الَّتِي مَلَأت الأفواه وأسالت من الجفون الأمواه وَهِي قَتلتهمْ ولي الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَبَا عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد اليعاشي الْمَالِكِي رَحمَه الله فَمَا زلنا نسْمع أَن قَبيلَة الْخَلْط إِنَّمَا سلبوا الْعِزّ مُنْذُ قَتلهمْ للْوَلِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ ذَلِك فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن بني معقل عرب الصَّحرَاء من أَرض الْمغرب وَتَحْقِيق نسبهم وَبَيَان شعوبهم وبطونهم قَالَ ابْن خلدون هَذَا الْقَبِيل لهَذَا الْعَهْد من أوفر قبائل الْعَرَب ومواطنهم بقفار الْمغرب الْأَقْصَى مجاورون لني عَامر من زغبة الهلاليين فِي مواطنهم بقبلة تلمسان وينتهون إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط من جِهَة الغرب وَهِي ثَلَاثَة بطُون ذَوي عبيد الله وَذَوي مَنْصُور وَذَوي حسان فذوي عبيد الله مِنْهُم هم المجاورون لبني عَامر ومواطنهم بَين تلمسان وتاوريرت فِي التل وَمَا يواجهها من الْقبْلَة ومواطن ذَوي مَنْصُور من تاوريرت إِلَى بِلَاد درعة فيستولون على ملوية كلهَا إِلَى سجلماسة وعَلى درعة وَمَا يحاذيها من التل مثل تازا وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمعدن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 ومواطن ذَوي حسان من درعة إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط وَينزل شيوخهم بِلَاد بَوْل قَاعِدَة السوس فيستولون على السوس الْأَقْصَى وَمَا إِلَيْهِ وينتجعون كلهم فِي الرمال إِلَى مَوَاطِن الملثمين من كدالة ومسوفة ولمتونة وَكَانَ دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب مَعَ الهلاليين فِي عدد قَلِيل يُقَال إِنَّهُم لم يبلغُوا الْمِائَتَيْنِ واعترضتهم بَنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إِلَى الهلالين مُنْذُ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مِمَّا يَلِي ملوية ورمال تافيلالت وجاوروا زناتة فِي القفار فعفوا وكثروا وأثروا فِي صحارى الْمغرب الْأَقْصَى فغمروا رماله وتقلبوا فِي فيافيه وَكَانُوا هُنَالك أحلافا لزناتة سَائِر أيامهم وَبَقِي مِنْهُم بإفريقية جمع قَلِيل اندرجوا فِي جملَة بني كَعْب بن سليم وداخلوهم حَتَّى كَانُوا وزراء لَهُم فِي الِاسْتِخْدَام للسُّلْطَان واستئلاف الْعَرَب فَلَمَّا ملكت زناتة بِلَاد الْمغرب ودخلوا إِلَى الْأَمْصَار والمدن أَقَامَ بَنو معقل هَؤُلَاءِ فِي القفار وتفردوا فِي الْبَيْدَاء فنموا نموا لاكفاء لَهُ وملكوا قُصُور الصَّحرَاء الَّتِي اختطها زناتة بالقفر مثل قُصُور السوس غربا ثمَّ توات ثمَّ بودة ثمَّ تمنطيت ثمَّ واركلان ثمَّ تاسبيبت ثمَّ تيكرارين شرقا وكل وَاحِدَة من هَذِه وَطن مُنْفَرد يشْتَمل على قُصُور عديدة ذَات نخيل وأنهار وَأكْثر سكانها من زناتة وَبينهمْ فتن وحروب على رياستها فحازت عرب معقل هَذِه الأوطان فِي مجالاتهم وَوَضَعُوا عَلَيْهَا الإتاوات والضرائب وَصَارَت لَهُم جباية يعتدون فِيهَا ملكا وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة السالفة يُعْطون الصَّدقَات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها جمل الرحيل وَكَانَ لَهُم الْخِيَار فِي تَعْيِينهَا وَلم يكن هَؤُلَاءِ الْعَرَب يحْمُونَ من أَطْرَاف الْمغرب وتلوله حمى وَلَا يعرضون لسابلة سجلماسة وَلَا غَيرهَا من بِلَاد الصَّحرَاء بأذية وَلَا مَكْرُوه لما كَانَ بالمغرب من اعتزاز الدّين وسد الثغور وَكَثْرَة الحامية أَيَّام الْمُوَحِّدين وزناتة من بعدهمْ وَكَانَ لَهُم بِإِزَاءِ ذَلِك أقطاع من الدول يمدون إِلَى أَخذه الْيَد السُّفْلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وعددهم قَلِيل كَمَا قُلْنَا وَإِنَّمَا كَثُرُوا بِمن اجْتمع إِلَيْهِم من الْقَبَائِل من غير نسبهم فَإِن فيهم من فَزَارَة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر وَفِيهِمْ من أَشْجَع بن ريث بن غطفان أَحيَاء كَبِيرَة يظغنون مَعَ بني معقل بجهات سجلماسة ووادي ملوية وَلَهُم عدد وَذكر وَفِيهِمْ الصَّباح من الْأَخْضَر وَيَقُولُونَ إِنَّهُم من ولد أَخْضَر بن عَامر وعامر هَذَا هُوَ وَالله أعلم من ولد ريَاح الهلاليين وَفِيهِمْ المهاية من عِيَاض إِحْدَى بطُون الأثبج الهلاليين وَفِيهِمْ العمور من الأثبج أَيْضا وَفِيهِمْ بطُون أخر من بني هِلَال وَبني سليم وَغَيرهَا وَأما أنسابهم عِنْد الْجُمْهُور فخفية ومجهولة والنسابون من عرب هِلَال يعدونهم من بطونهم وَهُوَ غير صَحِيح وهم أَعنِي بني معقل يَزْعمُونَ أَن نسبهم فِي أهل الْبَيْت إِلَى جَعْفَر بن أبي طَالب وَلَيْسَ ذَلِك أَيْضا بِصَحِيح لِأَن الطالبيين والهاشميين لم يَكُونُوا أهل بادية ونجعة هَكَذَا ذكر ابْن خلدون لكنه لم تكلم على جُهَيْنَة إِحْدَى بطُون قضاعة وَذكر أَنهم نزلُوا بِلَاد الصَّعِيد وملؤوها قَالَ وَنزل مَعَهم فِي تِلْكَ المواطن من أسوان إِلَى قوص بَنو جَعْفَر بن أبي طَالب حِين غلبهم بَنو الْحسن على نواحي الْمَدِينَة وأخرجوهم مِنْهَا فهم يعْرفُونَ بَينهم بالشرفاء الجعافرة ويحترفون فِي غَالب أَحْوَالهم بِالتِّجَارَة اه كَلَامه فعلى هَذَا لَا يبعد أَن تكون طَائِفَة من هَؤُلَاءِ الجعافرة قد انتقلوا من ارْض الصَّعِيد ودخلوا مَعَ بني هِلَال الى بِلَاد الْمغرب وأوطنوا صحراءه وهم بَنو معقل المذكورون وَالنَّاس مصدقون فِي أنسابهم وَالله تَعَالَى أعلم بحقائق الْأُمُور ثمَّ قَالَ ابْن خلدون وَالصَّحِيح وَالله أعلم من أَمرهم أَنهم من عرب الْيمن فَإِن فِي الْيمن بطنين يُسمى كل وَاحِد مِنْهُمَا معقل ذكرهمَا ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيره فأحدهما من قضاعة بن مَالك بن حمير وَهُوَ معقل بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 كَعْب بن عليم بن جناب وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى قضاعة وَالْآخر من بني الْحَارِث بن كَعْب أَصْحَاب نَجْرَان الَّذين كَانَ مِنْهُم بَنو عبد المدان مُلُوك نَجْرَان فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَهُوَ معقل بن كَعْب بن ربيعَة بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى كهلان قَالَ والأنسب أَن يَكُونُوا من هَذَا الْبَطن الآخر وَقد عده الإخباريون فِي بطُون هِلَال الداخلين إِلَى إفريقية لمجاورتهم فِي الوطن قَالَ وَمن إملاء نسابهم أَن معقلا جدهم لَهُ من الْوَلَد سجير وَمُحَمّد فولد سجير عبيد الله وثعلب فَمن عبيد الله ذَوي عبيد الله الْبَطن الْكَبِير مِنْهُم وَمن ثَعْلَب الثعالبة الَّذين كَانُوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر وَولد مُحَمَّد مُخْتَارًا ومنصورا وجلالا وسالما وَعُثْمَان فولد مُخْتَار بن مُحَمَّد حسان وشبانة فَمن حسان ذَوي حسان الْبَطن الْمَذْكُور أهل السوس الْأَقْصَى وَمن شبانة الشبانات جيرانهم هُنَالك وَمن جلال وَسَالم وَعُثْمَان الرقيطات بادية فِي ذَوي حسان ينتجعون مَعَهم وَولد مَنْصُور بن مُحَمَّد حُسَيْنًا وَأَبا الْحُسَيْن وهما شقيقان وَعمْرَان ومنبا وهما شقيقان أَيْضا وهما الأحلاف وَيُقَال لعمران العمرانية ولمنبا المنبات ثمَّ يُقَال لجَمِيع الْبُطُون الْأَرْبَعَة ولد مَنْصُور بن مُحَمَّد ذَوي مَنْصُور وهم إِحْدَى بطونهم الثَّلَاث الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم بغيبه فَهَذِهِ أصُول عرب الْمغرب الْأَقْصَى وَكَيْفِيَّة دُخُولهمْ إِلَيْهِ واستيطانهم إِيَّاه وَبَعض فصولهم قد ذَكرنَاهَا ملخصة من تَارِيخ إِمَام الْفَنّ أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون وَمن جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ حزم وزدنا مَا يحْتَاج مِنْهَا إِلَى الْبَيَان بَيَانا وَالله تَعَالَى الْمُوفق ولنرجع إِلَى مَا كُنَّا بسبيله من أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله فَإِنَّهُ لما رَجَعَ من إفريقية إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة رفع إِلَيْهِ أَن أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا حَفْص صَاحب مرسية الملقب بالرشيد وَعَمه السَّيِّد أَبَا الرّبيع صَاحب تادلا عِنْدَمَا بلغهما خبر الْوَقْعَة الَّتِي كَانَت على مُقَدّمَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الْمَنْصُور بإفريقية حَدثا أَنفسهمَا بالتوثب على الْخلَافَة فَلَمَّا قدما عَلَيْهِ بالتهنئة أَمر باعتقالهما خلال مَا استملأ أَمرهمَا ثمَّ قَتلهمَا وَعقد للسَّيِّد أبي الْحسن ابْن السَّيِّد أبي حَفْص على بجاية وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة شرع الْمَنْصُور فِي إِدْخَال ساقية المَاء إِلَى مراكش ثمَّ تاقت نَفسه إِلَى الْجِهَاد فَكَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ الْجَوَاز الأول ليعقوب الْمَنْصُور رَحمَه الله إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد قَالَ ابْن أبي زرع وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة تحرّك أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى الأندلس برسم غَزْو بِلَاد غربها وَهِي أولى غَزَوَاته فَعبر من قصر الْمجَاز إِلَى الخضراء يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ نَهَضَ من الخضراء حَتَّى نزل شنترين وَشن الغارات على مَدِينَة أشبونة وأنحائها فَقطع الثِّمَار وَحرق الزروع وَقتل وسبا وأضرم النيرَان فِي الْقرى وأبلغ فِي النكاية وَانْصَرف إِلَى العدوة بِثَلَاثَة عشر ألفا من السَّبي فَدخل فاسا فِي آخر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة مراسلة السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب صَاحب مصر ليعقوب الْمَنْصُور رحمهمَا الله والتماسه مِنْهُ الأساطيل للْجِهَاد كَانَت الفرنج قد ملكوا سواحل الشَّام فِي آخر الدولة العبيدية مُنْذُ تسعين سنة قبل هَذَا التَّارِيخ وملكوا مَعهَا بَيت الْمُقَدّس شرفه الله فَلَمَّا استولى السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَحمَه الله على ديار مصر وَالشَّام اعتزم على جهادهم وَصَارَ يفتح حصونها وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى أَتَى على جَمِيعهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وافتتح بَيت الْمُقَدّس سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهدم الْكَنِيسَة الَّتِي بنواحيه وَانْقَضَت أُمَم النَّصْرَانِيَّة من كل جِهَة وَتَتَابَعَتْ أساطيلهم الكفرية بالمدد من كل نَاحيَة لتِلْك الثغور الْقَرِيبَة من بَيت الْمُقَدّس واعترضوا أسطول صَلَاح الدّين فِي الْبَحْر وَلم تقاومهم أساطيل الْإسْكَنْدَريَّة لِضعْفِهَا يَوْمئِذٍ عَن ممانعتهم فَبعث صَلَاح الدّين صَرِيحَة إِلَى الْمَنْصُور سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِطَلَب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور وطرابلس الشَّام وأوفد عَلَيْهِ أَبَا الْحَارِث عبد الرَّحْمَن بن منقذ من بَيت بني منقذ مُلُوك شيزر من حصون الشَّام وَكَانَ صَلَاح الدّين قد ملكهَا من أَيْديهم وَأبقى عَلَيْهِم فِي دولته فَبعث صَلَاح الدّين عبد الرَّحْمَن هَذَا إِلَى يَعْقُوب الْمَنْصُور طَالبا مدد الأساطيل لتحول فِي الْبَحْر بَين أساطيل الفرنج وَبَين أَمْدَاد النَّصْرَانِيَّة بِالشَّام ولمنازلة الثغور الَّتِي ذكرنَا وَبعث مَعَه إِلَى الْمَنْصُور بهدية تشْتَمل على مصحفين كريمين منسوبين وَمِائَة دِرْهَم من دهن البلسان وَعشْرين رطلا من الْعود وسِتمِائَة مِثْقَال من الْمسك والعنبر وَخمسين قوسا عَرَبِيَّة بأوتارها وَعشْرين من النصول الْهِنْدِيَّة وسروج عدَّة مثقلة فوصل إِلَى الْمغرب فصادف الْمَنْصُور بالأندلس فانتظره بفاس إِلَى أَن رَجَعَ فَلَقِيَهُ وَأدّى الرسَالَة وَقدم الْهَدِيَّة وَكَانَ الْكتاب الَّذِي بعث بِهِ صَلَاح الدّين من إنْشَاء الأديب عبد الرَّحِيم البيسني الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي الْفَاضِل وَكَانَ عنوان الْكتاب من صَلَاح الدّين إِلَى أَمِير الْمُسلمين وَفِي أَوله الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى يُوسُف بن أَيُّوب وَبعده الْحَمد لله الَّذِي اسْتعْمل على الْملَّة الحنيفة من استعمر الأَرْض وأغنى من أَهلهَا من سَأَلَهُ الْقَرْض وأجرى من أجْرى على يَده النَّافِلَة وَالْفَرْض وزين سَمَاء الْملَّة بدراري الذَّرَارِي الَّتِي بَعْضهَا من بعض وَهُوَ كتاب طَوِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وَلما وقف عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَرَأى تجافيهم فِيهِ عَن خطابه بأمير الْمُؤمنِينَ لم يُعجبهُ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه وَحمل الرَّسُول على مناهج الْبر والكرامة ورده إِلَى مرسله وَلم يجبهُ إِلَى حَاجته وَيُقَال إِنَّه جهز لَهُ بعد ذَلِك مائَة وَثَمَانِينَ أسطولا وَمنع النَّصَارَى من سواحل الشَّام وَالله تَعَالَى أعلم قَالَ ابْن خلدون وَفِي هَذَا دَلِيل على اخْتِصَاص مُلُوك الْمغرب يَوْمئِذٍ بالأساطيل الجهادية وَعدم عناية الدول بِمصْر وَالشَّام لذَلِك الْعَهْد بهَا وَكَانَ ابْن منقذ الْمَذْكُور قد مدح الْمَنْصُور بقصيدة يَقُول فِيهَا (سأشكر بحرا ذَا عباب قطعته ... إِلَى بَحر جود مَا لأخراه سَاحل) (إِلَى مَعْدن التَّقْوَى إِلَى كعبة الندى ... إِلَى من سمت بِالذكر مِنْهُ الْأَوَائِل) (إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم تزل ... إِلَى بابك المأمول تزجي الرَّوَاحِل) (قطعت إِلَيْك الْبر وَالْبَحْر موقنا ... بِأَن نداك الْغمر بالنجح كافل) (وحزت بقصديك العلى فبلغتها ... وَأدنى عطاياك العلى والفواضل) (فَلَا زلت للعلياء والجود بانيا ... تبلغك الآمال مَا أَنْت آمل) وعدتها أَرْبَعُونَ بَيْتا فَأعْطَاهُ بِكُل بَيت ألفا وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا أعطيناك لفضلك ولبيتك يَعْنِي لَا لأجل صَلَاح الدّين عود الْمَنْصُور إِلَى إفريقية وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما قدم الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى فاس وَفرغ من شَأْن ابْن منقذ تَوَاتَرَتْ إِلَيْهِ الْأَخْبَار بِأَن ابْن غانية قد ظهر بإفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي ثامن شعْبَان من تِلْكَ السّنة فَدخل تونس فِي أول ذِي الْقعدَة مِنْهَا فَألْقى بِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 إفريقية سَاكِنة وَقد فر ابْن غانية عَنْهَا إِلَى الصَّحرَاء حِين سمع بقدومه وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة استولى الفرنج على مَدِينَة شلب وباجة ويابورة من غرب الأندلس وَذَلِكَ لما علمُوا أَن الْمَنْصُور قد أبعد عَنْهُم واشتغل بِأَمْر إفريقية فاغتنموا الفرصة فِيهَا واتصل الْخَبَر بالمنصور فَغَاظَهُ ذَلِك وأعظمه وَكتب إِلَى قواد الأندلس يوبخهم وَيَأْمُرهُمْ بغزو بِلَاد الفرنج وَيُعلمهُم أَنه قادم عَلَيْهِم فِي أثر كِتَابه فَاجْتمع قواد الأندلس إِلَى مُحَمَّد بن يُوسُف وَالِي قرطبة فَخرج بهم فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَالْعرب وَأهل الأندلس حَتَّى نزل على شلب فَشدد عَلَيْهَا الْحصار وتابع عَلَيْهَا الْقِتَال حَتَّى فتحهَا وَفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابورة وَرجع إِلَى قرطبة فَدَخلَهَا بِخَمْسَة عشر ألفا من السَّبي وَثَلَاثَة آلَاف أَسِير قدمهم بَين يَدَيْهِ فِي القطائن خَمْسُونَ علجا فِي كل قطينة وَذَلِكَ فِي شَوَّال سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَفِي هَذَا الشَّهْر رَجَعَ الْمَنْصُور من إفريقية فَانْتهى إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي فاتح محرم من سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَهِي سنة آكرواو خرج الْمَنْصُور من تلمسان إِلَى فاس وَهُوَ مَرِيض فَكَانَ يركب فِي آكرواو فَدخل فاسا وَأقَام بهَا مَرِيضا سَبْعَة أشهر حَتَّى أبل من علته ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الْغَزْوَة الْكُبْرَى بالأرك من بِلَاد الأندلس قَالَ ابْن خلكان كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله قد خافه الفنش صَاحب طليطلة وَسَأَلَهُ الصُّلْح فَصَالحه إِلَى خمس سِنِين فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْهُدْنَة وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل خرجت طَائِفَة من الفرنج فِي جَيش كثيف إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فنهبوا وَسبوا وعاثوا عيثا فظيعا فَانْتهى الْخَبَر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ بمراكش فتجهز لقصدهم فِي جَيش عَرَمْرَم من قبائل الْمُوَحِّدين وَالْعرب واحتفل فِي ذَلِك وَعبر الْبَحْر إِلَى الأندلس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة واتصل بالفرنج عبوره إِلَيْهِم فَجمعُوا خلقا كثيرا من أقْصَى بِلَادهمْ وأدانيها وَأَقْبلُوا نَحوه قَالَ ابْن خلكان وَقد رَأَيْت بِدِمَشْق جُزْء بِخَط الشَّيْخ الْحَافِظ تَاج الدّين عبد الله بن حموية السَّرخسِيّ وَكَانَ قد سَافر إِلَى مراكش وَأقَام بهَا مُدَّة وَكتب فصولا تتَعَلَّق بِتِلْكَ الدولة فَمن ذَلِك فصل يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْوَقْعَة فَيَنْبَغِي ذكره هَهُنَا قَالَ لما انْقَضتْ الْهُدْنَة بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَبَين الأذفونش الفرنجي صَاحب غرب جَزِيرَة الأندلس وَقَاعِدَة مَمْلَكَته يَوْمئِذٍ طليطلة وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة تسعين وَخَمْسمِائة عزم يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش على التَّوَجُّه إِلَى جَزِيرَة الأندلس لمحاربة الفرنج وَكتب إِلَى وُلَاة الْأَطْرَاف وقواد الجيوش بالحضور وَخرج إِلَى مَدِينَة سلا ليَكُون اجْتِمَاع العساكر بظاهرها فاتفق أَنه مرض مَرضا شَدِيدا حَتَّى يئس مِنْهُ أطباؤه فتوقف الْحَال عَن تَدْبِير تِلْكَ الجيوش وَحمل يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى مراكش وَهُوَ مَرِيض فطمع المجاورون لَهُ من الْعَرَب وَغَيرهم فِي الْبِلَاد وعاثوا فِيهَا وأغاروا على النواحي والأطراف وَكَذَلِكَ فعل الأذفونش فِيمَا يَلِيهِ من بِلَاد الْمُسلمين بالأندلس وَاقْتضى الْحَال تَفْرِقَة الجيوش الَّتِي جمعهَا يَعْقُوب الْمَنْصُور شرقا وغربا وَاشْتَغلُوا بالمدافعة والممانعة فَكثر طمع الأذفونش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فِي الْبِلَاد وَبعث رَسُولا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور يهدد ويتوعد وَيطْلب بعض الْحُصُون المتاخمة لَهُ من بِلَاد الأندلس وَكتب إِلَيْهِ رِسَالَة من إنْشَاء وَزِير لَهُ من ضعفاء الْمُسلمين يعرف بِابْن الفخار وَهِي بِاسْمِك اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَصلى الله على السَّيِّد الْمَسِيح روح الله وكلمته الرَّسُول الفصيح أما بعد فَإِنَّهُ لَا يخفى على ذِي ذهن ثاقب وَلَا ذِي عقل لازب إِنَّك أَمِير الْملَّة الحنيفية كَمَا أَنِّي أَمِير الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وَقد علمت الْآن مَا عَلَيْهِ رُؤَسَاء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال أَمر الرّعية وإخلادهم إِلَى الرَّاحَة وَأَنا أسومهم بِحكم الْقَهْر وخلاء الديار وأسبي الذَّرَارِي وأمثل بِالرِّجَالِ وَلَا عذر لَك فِي التَّخَلُّف عَن نَصرهم إِذا أمكنتك يَد الْقُدْرَة وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَن الله فرض عَلَيْكُم قتال عشرَة منا بِوَاحِد مِنْكُم فَالْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا وَنحن الْآن نُقَاتِل عشرَة مِنْكُم بِوَاحِد منا لَا تَسْتَطِيعُونَ دفاعا وَلَا تَمْلِكُونَ امتناعا وَقد حُكيَ لي عَنْك أَنَّك أخذت فِي الاحتفال وأشرفت على ربوة الْقِتَال وتماطل نَفسك عَاما بعد عَام تقدم رجلا وتؤخر أُخْرَى فَلَا أَدْرِي أَكَانَ الْجُبْن قد أَبْطَأَ بك أم التَّكْذِيب بِمَا وعد رَبك ثمَّ قيل لي إِنَّك لَا تَجِد إِلَى جَوَاز الْبَحْر سَبِيلا لعِلَّة لَا يسوغ لَك التقحم مَعهَا وَهَا أَنا أَقُول لَك مَا فِيهِ الرَّاحَة لَك وأعتذر لَك وعنك على أَن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرِّهَان وَترسل إِلَيّ جملَة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إِلَيْك فأقاتلك فِي أعز الْأَمَاكِن لديك فَإِن كَانَت لَك فغنيمة كَبِيرَة جلبت إِلَيْك وهدية عَظِيمَة مثلت بَين يَديك وَإِن كَانَت لي كَانَت يَدي الْعليا عَلَيْك واستحققت إِمَارَة الملتين وَالْحكم على البرين وَالله تَعَالَى يوفق للسعادة ويسهل الْإِرَادَة لَا رب غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور مزقه وَكتب على ظهر قِطْعَة مِنْهُ وَكَانَ الْمَنْصُور يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن التوقيع كَمَا يَأْتِي فِي بَقِيَّة أخباره {ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وهم صاغرون) ثمَّ كتب الْجَواب مَا ترى لَا مَا تسمع فَهُوَ أول من تكلم بِهِ فَأرْسلهُ مثلا وَأنْشد متمثلا (وَلَا كتب إِلَّا المشرفية والقنى ... وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم) ثمَّ أَمر بالإستنفار واستدعاء الجيوش من الْأَمْصَار وَضرب السرادقات بِظَاهِر الْبَلَد من يَوْمه وَجمع العساكر وَسَار إِلَى الْبَحْر الْمَعْرُوف بزقاق سبتة يُرِيد الأندلس وَقَالَ ابْن أبي زرع خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور من حَضْرَة مراكش يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة يولي السّير ويطوي المناهل وَلَا يلوي على فَارس وَلَا راجل والجيوش تتَابع فِي أَثَره من سَائِر الأقطار فَلَمَّا انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز أَخذ فِي إجَازَة الجيوش الْوَارِدَة عَلَيْهِ لَا يفرغ من طَائِفَة إِلَّا وَقد لحقت بهَا أُخْرَى فَأجَاز أَولا قبائل الْعَرَب ثمَّ زناتة ثمَّ المصامدة ثمَّ غمارة ثمَّ المتطوعة من قبائل الْمغرب ثمَّ الأغزاز وَالرُّمَاة ثمَّ الموحدون ثمَّ العبيد ثمَّ أجَاز أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَثَرهم فِي موكب عَظِيم من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وَأهل النجدة والزعامة وَمَعَهُ فُقَهَاء الْمغرب وصلحاؤه وَاسْتقر بالجزيرة الخضراء بعد صَلَاة الْجُمُعَة الموفي عشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن تخمد قرائح الْمُجَاهدين وتضعيف نياتهم فَسَار حَتَّى بَقِي بَينه وَبَين حصن الأرك الَّذِي كَانَ الْعَدو نازلا بإزائه نَحْو مرحلَتَيْنِ فَنزل هُنَالك وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شعْبَان من السّنة فَجمع النَّاس ذَلِك الْيَوْم وفاوضهم ووعظهم ثمَّ اخْتصَّ أهل الأندلس بمزيد المشورة وَقَالَ لَهُم إِن جَمِيع من استشرته وَإِن كَانُوا أولي بَأْس وَمَعْرِفَة بِالْحَرْبِ لكِنهمْ لَا يعْرفُونَ من قتال الفرنج مَا تعرفونه أَنْتُم لتمرسكم بهم وتمرسهم بكم فأحالوه فِي الرَّأْي على الْقَائِد أبي عبد الله بن صَنَادِيد فعول الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي ذَلِك على رَأْيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور رَحمَه الله عرض جَيْشه وَأخذ فِي تقريب الْقرب الى الله تَعَالَى بَين يَدي جهاده فسرح السجون وأدر الأرزاق وَعين الصَّدقَات ورحل فَنزل الأرك وَقد خيمت بأحوازه محلات الْعَدو يضيق عَنْهَا المتسع وَقَامَ الْمَنْصُور بعد أَن اجْتمع النَّاس فتحلل من الْمُسلمين وَقَالَ أَيهَا النَّاس اغفروا لي فِيمَا عَسى أَن يكون صدر مني فبكي النَّاس وَقَالُوا مِنْكُم يطْلب الرضى والغفران وخطب الخطباء بَين يَدَيْهِ محرضين ومذكرين فنشط النَّاس وَطَابَتْ النُّفُوس وَمن الْغَد صدع الْمَنْصُور بالنداء وَأمر بِأخذ السِّلَاح والبروز إِلَى اللِّقَاء فَكَانَت التعبئة تَحت الْغَلَس وَحكى ابْن أبي زرع أَن الْمَنْصُور بَات تِلْكَ اللَّيْلَة عاكفا بمصلاه على الرُّكُوع وَالسُّجُود وَإنَّهُ أغفى إغفاءه فَرَأى ملكا نزل من السَّمَاء فِي صُورَة بشر وَبِيَدِهِ راية خضراء وبشره بِالْفَتْح وأنشده فِي ذَلِك أبياتا بقيت على ذكر الْمَنْصُور إِلَى أَن اسْتَيْقَظَ وقص رُؤْيَاهُ على وُجُوه الْجند فازداد النَّاس طمأنينة وبصيرة فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت خَامِس شعْبَان جلس الْمَنْصُور فِي قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة للْجِهَاد ثمَّ دَعَا بكبير وزرائه الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَقدمه على ذَلِك الْجَيْش وَعقد لَهُ رايته وَقدمه بَين يَدَيْهِ فرفرفت على رَأسه الرَّايَات وقرعت بَين يَدَيْهِ الطبول وَسَار فِي قبيل هنتاتة وَبَين يَدَيْهِ الْقَائِد ابْن صَنَادِيد فِي جَيش الأندلس ثمَّ عقد الْمَنْصُور لجرمون بن ريَاح على قبائل الْعَرَب ولمنديل بن عبد الرَّحْمَن المغراوي على قبائل مغراوة ولمحيو بن أبي بكر بن حمامة المريني جد الْمُلُوك المرينيين على قبائل بني مرين ولجابر بن يُوسُف العَبْد الْوَادي على قبائل بني عبد الواد ولعباس بن عَطِيَّة التوجيني على قبائل بني توجين ولتلجين بن عَليّ على قبائل هسكورة وَسَائِر المصامدة ولمحمد بن منغفاد على قبائل غمارة وَعقد للفقيه الصَّالح أبي خزر يخلف بن خزر الأوربي على المتطوعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَقَالَ ابْن خلدون إِن الَّذِي كَانَ على المتطوعة يَوْمئِذٍ هُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وَالْكل إِلَى نظر الشَّيْخ أبي يحيى بن أبي حَفْص وَبَقِي الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي جَيش الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد وَأمر الشَّيْخ أَبَا يحيى بالرحيل والتقدم أَمَامه إِلَى جِهَة الْعَدو وَكَانَ الْمَنْصُور قد ضفر مَعَ ابْن صَنَادِيد من الرَّأْي أَن يبْقى هُوَ مُتَأَخِّرًا فِي الْمُوَحِّدين وَالْعَبِيد والجشم على مَسَافَة يخفى بهَا عَن أعين الْعَدو وَيقدم الشَّيْخ أَبَا يحيى بِبَعْض الرَّايَات والطبول فِي هَيْئَة السُّلْطَان فَيلقى الْعَدو فَإِن كَانَت للْمُسلمين فَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِن كَانَت عَلَيْهِم كَانَ الْمَنْصُور ردأ لَهُم ثمَّ يسْتَأْنف الْقِتَال مَعَ الْعَدو وَقد انفل حَده ولانت شوكته فَسَار الشَّيْخ أَبُو يحيى على هَذَا التَّرْتِيب وَابْن صَنَادِيد أَمَامه فِي فرسَان الأندلس وحماتها فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يحيى إِذا أقلع بجيشه عَن مَوضِع صباحا خَلفه الْمَنْصُور فِيهِ بجيشه مسَاء حَتَّى أشرف الشَّيْخ أَبُو يحيى على جموع الفرنج وَهِي يَوْمئِذٍ إِلَى جنب حصن الأرك وَيُقَال الأركو بِزِيَادَة الْوَاو فِي آخِرَة قد ضربت أخبيتها على ربوة عالية ذَات مهاو وأحجار كبار قد مَلَأت السهل والوعر وَنزل الشَّيْخ أَبُو يحيى بجيشه فِي الْبَسِيط ضحوة يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع من شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَعند ابْن خلكان أَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس قَالَ واقتفى الْمَنْصُور فِي ذَلِك طَريقَة أَبِيه وجده فَإِنَّهُم أَكثر مَا كَانُوا يصافون يَوْم الْخَمِيس ومعظم حركاتهم فِي صفر فعبأ الشَّيْخ أَبُو يحيى عساكره تعبئة الْحَرْب وَعقد الرَّايَات لأمراء الْقَبَائِل وأوقف كل قَبيلَة فِي مركزها الَّذِي عين لَهَا فَجعل عَسْكَر الأندلس فِي الميمنة وَجعل زناتة والمصامدة وَالْعرب وَسَائِر قبائل الْمغرب فِي المسيرة وَجعل المتطوعة والأغزاز وَالرُّمَاة فِي الْمُقدمَة وَبَقِي هُوَ فِي الْقلب فِي قَبيلَة هنتاتة وَلما أَخذ النَّاس مراكزهم من حومة الْقِتَال خرج جرمون بن ريَاح يمشي فِي صُفُوف الْمُسلمين ويحضهم على الثَّبَات وَالصَّبْر وبينما النَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 على ذَلِك إِذْ انفصلت من جيوش الْعَدو كَتِيبَة عَظِيمَة من نَحْو عشرَة آلَاف فَارس كلهم مدجج فِي الْحَدِيد وَكَانَت هَذِه الكتيبة هِيَ شَوْكَة ذَلِك الْجَيْش وَحده كَانَ الفنش لَعنه الله قد انتخبهم وصلت أقسته عَلَيْهِم صَلَاة النَّصْر ورشوهم بِمَاء المعمودية وتحالفوا عِنْد الصلبان أَن لَا يبرحوا حَتَّى يقتلُوا الْمُسلمين أَو يهْلكُوا دونهم فَلَمَّا برزت هَذِه الكتيبة نَادَى مُنَادِي الشَّيْخ أبي يحيى معشر الْمُسلمين اثبتوا فِي مَصَافكُمْ وَأَخْلصُوا لله تَعَالَى ينتكم وأذكروا الله عز وَجل فِي قُلُوبكُمْ وبرز عَامر الزعيم من أُمَرَاء الْعَرَب فحض النَّاس على الصَّبْر وثبتهم وحملت كَتِيبَة الْعَدو حَتَّى اندقت رماح الْمُسلمين فِي صُدُور خيلها أَو كَادَت ثمَّ تقهقرت قَلِيلا ثمَّ عاودت الحملة فَكَانَت كالأولى ثمَّ تهيأت للحملة الثَّالِثَة فَدفعت حَتَّى خالطت صُفُوف الْمُسلمين وخلص الْبَعْض مِنْهَا إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى يطنونه الْمَنْصُور فاستشهد رَحمَه الله بعد مَا أحسن الْبلَاء وَقَاتل قتالا شَدِيدا وَاسْتشْهدَ مَعَه جمَاعَة من الْمُسلمين من هنتاتة والمتطوعة وَغَيرهم وَسمي بَنو الشَّيْخ أبي يحيى ببني الشَّهِيد وَعرفُوا بِهِ من يَوْمئِذٍ وأظلم الجو بالغبار واختلطت الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَانْفَرَدَ كل قرن بقرنه وَأَقْبَلت الْعَرَب والمتطوعة فأحاطوا بالكتيبة الَّتِي دفعت إِلَى الشَّيْخ أبي يحيى وزحفت زناتة والمصامدة وغمارة إِلَى الربوة الَّتِي فِيهَا الفنش وجموعه وَكَانَت على مَا قيل تنيف على ثَلَاثمِائَة ألف بَين فَارس وراجل فتوغل الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الأوعار إِلَيْهِم وخالطوهم بهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَال واستحر الْقَتْل فِي الكتيبة الَّتِي دفعت أَولا وَانْقَضَت عَلَيْهِم الْعَرَب والمتطوعة وهنتاتة فطحنوهم طحنا وانكسرت شَوْكَة الفنش بهلاكهم إِذْ كَانَ اعْتِمَاده ومعوله عَلَيْهِم وأسرعت خيل من الْعَرَب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور فأعلموه بِأَن الله تَعَالَى قد فل شَوْكَة الْعَدو وأشرف على الإنهزام فَعندهَا أَمر الْمَنْصُور بالرايات فَرفعت وبالطبول فقرعت وَرفع الْمُسلمُونَ أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ وتسابقوا لقِتَال الْعَدو وخفقت البنود وزحف أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحْو المعركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 فَلم يرع الفنش اللعين إِلَّا الرَّايَات قد أَقبلت تخفق من كل جِهَة وزعقات الطبول والأبواق وأصوات الْمُجَاهدين بِالتَّكْبِيرِ قد زلزلت الأَرْض فَقَالَ مَا هَذَا فَقيل هَذَا الْمَنْصُور قد أقبل فِي جَيْشه وَمَا قَاتلك سَائِر الْيَوْم إِلَّا طلائعه ومقدماته فقذف الله الرعب فِي قلبه وخشعت نفوس جموعه وزلزلت بهم الأَرْض زِلْزَالهَا فَوَلوا الأدبار لَا يلوون على شَيْء وأسعدهم يَوْمئِذٍ من وجد فِي فرسه بَقِيَّة تنجيه وأتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأحاط بَعضهم بحصن الْأَرَاك يظنون أَن الفنش قد تحصن بِهِ وَكَانَ عَدو الله قد دخل على بَاب وَخرج على آخر من النَّاحِيَة الْأُخْرَى واقتحم الْمُسلمُونَ الْحصن عنْوَة وأضرموا النيرَان فِي أبوابه واحتووا على جَمِيع مَا كَانَ فِيهِ وَفِي محلّة الْعَدو من الْأَمْوَال والذخائر وأنواع السِّلَاح الَّتِي تفوت الْحصْر وقلا ابْن خلدون كَانَ مُلُوك الفرنج الَّذين قَاتلُوا الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة ابْن أذفونش وَابْن الرند والبيبوج قَالَ واعتصم فَلهم بحصن الأرك وَكَانُوا خَمْسَة آلَاف من زعمائهم فاستنزلهم الْمَنْصُور على حكمه حَتَّى فودي بهم عَددهمْ من الْمُسلمين وَفِي القرطاس أَن عدد أُسَارَى الأرك كَانُوا أَرْبَعَة وَعشْرين ألفا فَمن عَلَيْهِم الْمَنْصُور وأطلقهم قَالَ فعز ذَلِك على جَمِيع الْمُوَحِّدين وَسَائِر الْمُسلمين وعدت للمنصور سقطة من سقطات الْمُلُوك وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَت الدائرة يَوْم الأرك أَولا على الْمُسلمين ثمَّ عَادَتْ على الفرنج وانهزموا أقبح هزيمَة وَكَانَ عدد من قتل من الفرنج أَزِيد من مائَة ألف وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم شَيْئا كثيرا فَمن الْخيام مائَة ألف وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن الْخَيل سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَقيل ثَمَانُون ألفا وَمن البغال مائَة ألف وَمن الْحمير أَرْبَعمِائَة ألف قَالَ فِي نفح الطّيب جَاءَ بهَا الْكفَّار لحمل أثقالهم لأَنهم لَا إبل لَهُم قَالَ وَأما الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال فَلَا تحصى وَبيع الْأَسير بدرهم وَالسيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 بِنصْف دِرْهَم وَالْفرس بِخَمْسَة دَرَاهِم وَالْحمار بدرهم وَقسم الْمَنْصُور الْغَنَائِم بَين الْمُسلمين بِمُقْتَضى الشَّرْع كَذَا فِي نفح الطّيب وَفِي كَامِل ابْن الْأَثِير أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله نَادَى فِي عسكره من غنم شَيْئا فَهُوَ لَهُ سوى السِّلَاح وأحصى مَا حمل إِلَيْهِ مِنْهُ فَكَانَ زِيَادَة على سبعين ألف لبس وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو عشْرين ألفا ثمَّ تقدم الْمَنْصُور بجيوشه إِلَى بِلَاد الفرنج وَأخذ يخرب المدن والقرى وَيفتح الْحُصُون والمعاقل وَيقتل وَيَسْبِي ويأسر حَتَّى وصل إِلَى جبل سُلَيْمَان ثمَّ ثنى عنانة رَاجعا وَقد أمتلأت أَيدي الْمُسلمين من الْغَنَائِم وَلم يُعَارضهُ من الفرنج معَارض حَتَّى وصل الى إشبيلية فاستقر بهَا وَأما الفنش فَإِنَّهُ لما انهزم وصل إِلَى طليطلة فِي أَسْوَأ حَال فحلق رَأسه ولحيته ونكس صليبه وَركب حمارا وَأقسم أَن لَا يركب فرسا وَلَا بغلا وَلَا ينَام على فرَاش وَلَا يقرب النِّسَاء حَتَّى تنصر النَّصْرَانِيَّة فَجمع جموعا عَظِيمَة وَبلغ الْخَبَر بذلك الى الْمَنْصُور فَبعث الى بِلَاد الْمغرب مراكش وَغَيرهَا يستنفر النَّاس من غير إِكْرَاه فَأَتَاهُ من المتطوعة والمرتزقة جمع عَظِيم ثمَّ نَهَضَ إِلَى الفنش فَالْتَقوا فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَانْهَزَمَ الفرنج هزيمَة قبيحة وغنم الْمُسلمُونَ مَا مَعَهم من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب وَغَيرهَا ثمَّ تقدم الْمَنْصُور إِلَى مَدِينَة طليطلة فحاصرها وقاتلها قتالا شَدِيدا وَقطع أشجارها وَشن الغارات على مَا حولهَا من الْبِلَاد وَفتح فِيهَا عدَّة حصون مثل قلعة رَبَاح ووادي الْحِجَارَة ومجريط وجبل سُلَيْمَان وأفليج وَكثير من أحواز طليطلة ثمَّ ارتحل عَن طليطلة إِلَى مَدِينَة طلمنكة فَدَخلَهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل الْمُقَاتلَة وسبا النِّسَاء والذرية وغنم أموالها وَهدم أسوارها وأضرم النيرَان فِي جوانبها وَتركهَا قاعا صفصفا وثنى عنانه إِلَى إشبيلية فَدَخلَهَا غرَّة صفر سنة ثَلَاث وَتِسْعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَخَمْسمِائة فَرفع إِلَيْهِ فِي القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد مقالات نسب فِيهَا إِلَى الْمَرَض فِي دينه ومعتقده وَكَانَ أحد فلاسفة الْإِسْلَام وَرُبمَا ألفى بَعْضهَا بِخَط يَده فحبس ثمَّ أطلق وأشخص إِلَى مراكش وَبهَا كَانَت وَفَاته رَحمَه الله ثمَّ خرج الْمَنْصُور من إشبيلة غازيا بِلَاد ابْن أذفونش فَسَار حَتَّى احتل بِسَاحَة طليطلة وبغله أَن صَاحب برشلونة قد أمد ابْن أذفونش بعساكره وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا بحصن مجريط فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَلما أطل عَلَيْهِم انفضت جموع ابْن أذفونش من قبل الْقِتَال ثمَّ انكفأ الْمَنْصُور رَاجعا إِلَى إشبيلية ثمَّ اجْتمع مُلُوك الفرنج وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وصالحهم على مُدَّة خمس سِنِين بعد أَن كَانَ عَازِمًا على الِامْتِنَاع مرِيدا لملازمة الْجِهَاد إِلَى أَن يفرغ مِنْهُم فَأَتَاهُ خبر عَليّ بن إِسْحَاق المسوفي الْمَعْرُوف بِابْن غانية وَأَنه دخل إفريقية وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا ففت ذَلِك فِي عزمه وصالحهم على الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا وَعقد على إشبيلية للسَّيِّد أبي زيد بن الْخَلِيفَة وعَلى مَدِينَة بطليوس للسَّيِّد أبي الرّبيع ابْن السَّيِّد أبي حَفْص وعَلى الْمغرب للسَّيِّد أبي عبد الله بن السَّيِّد أبي حَفْص ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب فوصل إِلَى مراكش فِي شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَفِي نفح الطّيب أَن يَعْقُوب الْمَنْصُور لما حاصر طليطلة وضيق عَلَيْهَا وَلم يبْق إِلَّا فتحهَا خرجت إِلَيْهِ وَالِدَة الأذفونش وَبنَاته ونساؤه وبكين بَين يَدَيْهِ وسألنه إبْقَاء الْبَلَد عَلَيْهِنَّ فرق لَهُنَّ وَمن عَلَيْهِنَّ بِهِ ووهب لَهُنَّ من الْأَمْوَال والجواهر مَا جلّ وردهن مكرمات وَعَفا بعد الْقُدْرَة وَالله تَعَالَى أعلم لَطِيفَة قَالَ الشَّيْخ محيي الدّين بن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي رَحمَه الله فِي كتاب الفتوحات المكية مَا نَصه وَلَقَد كنت بِمَدِينَة فاس سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وعساكر الْمُوَحِّدين قد عبرت إِلَى الأندلس لقِتَال الْعَدو حِين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 استفحل أمره على الْإِسْلَام فَلَقِيت رجلا من رجال الله وَلَا أزكى على الله أحدا وَكَانَ من أخص أودائي فَسَأَلَنِي مَا تَقول فِي هَذَا الْجَيْش هَل يفتح لَهُ وينصر فِي هَذِه السّنة أم لَا فَقلت لَهُ مَا عنْدك فِي ذَلِك فَقَالَ إِن الله تَعَالَى قد ذكره فِي كِتَابه ووعد نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الْفَتْح فِي هَذِه السّنة وَبشر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي كِتَابه الَّذِي أنزلهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} فموضع الْبُشْرَى فتحا مُبينًا من غير تكْرَار الْألف فَإِنَّهَا لإِطْلَاق الْوُقُوف فِي تَمام الْآيَة فَانْظُر أعدادها بِحِسَاب الْجمل فَنَظَرت فَوجدت الْفَتْح يكون فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ثمَّ جزت إِلَى الأندلس وَقد نصر الله جَيش الْمُسلمين وَفتح الله بِهِ قلعة رَبَاح والأركو وكركرا وَمَا انضاف إِلَى هَذِه القلاع من الولايات هَذَا عاينته من الْفَتْح مِمَّن هَذِه صفته فَأخذت للفاء ثَمَانِينَ وللتاء أَرْبَعمِائَة وللحاء الْمُهْملَة ثَمَانِيَة وللألف وَاحِد وللميم أَرْبَعِينَ وللباء اثْنَيْنِ وللياء عشرَة وللنون خمسين وَأما الْألف فقد أَخذ عَددهَا وَكَانَ الْمَجْمُوع إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهِي سنو الْهِجْرَة إِلَى هَذِه السّنة فَهَذَا من الْفَتْح الإلهي لهَذَا الشَّخْص انْتهى ذكر مَا شيده الْمَنْصُور رَحمَه الله من الْآثَار بالمغرب والأندلس كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله لما عزم عى الْمسير إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد أوصى إِلَى نوابه ووكلائه بِبِنَاء قَصَبَة مراكش والاعتناء بتشييد قُصُورهَا فَمن آثاره الْبَاقِيَة بهَا إِلَى الْآن بَابهَا الْمَعْرُوف بِبَاب أكناور وَلَا مزِيد على ضخامته وارتفاعه وَأمرهمْ بِبِنَاء الْجَامِع الْأَعْظَم بهَا الْمَنْسُوب إِلَيْهِ إِلَى الْيَوْم وتشييد مناره الماثل بِهِ ومنار جَامع الكتبيين الْمَضْرُوب بِهِ الْمثل فِي الِارْتفَاع وَعظم الهيكل قَالَ ابْن سعيد طول صومعة الكتبيين بمراكش مائَة ذِرَاع وَعشر أَذْرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وَلما اجتاز الْمَنْصُور فِي سَفَره هَذَا بِأَرْض سلا أَمر أَيْضا بِبِنَاء مَدِينَة رِبَاط الْفَتْح فأسست سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وأكمل سورها وَركبت أَبْوَابهَا وَأمر بِبِنَاء الْمَسْجِد الْأَعْظَم بطالعة سلا ومدرسة الجوفية مِنْهُ قَالَ صَاحب الرَّوْض المعطار كَانَ يعْمل فِي بنائِهِ وَنقل حجارته وترابه سَبْعمِائة أَسِير من أُسَارَى الفرنج فِي قيودها وَأمر بِبِنَاء جَامع حسان ومناره الْأَعْظَم الْمَضْرُوب بِهِ الْمثل فِي الضخامة وَحسن الصَّنْعَة قَالُوا وَلم يتم بِنَاؤُه وَلما فرغ الْمَنْصُور من وقْعَة الأرك واحتل بِمَدِينَة إشبيلية أَخذ فِي إتْمَام بِنَاء جَامعهَا الْأَعْظَم وتشييد مناره المشاكل للمنارين الْمُتَقَدِّمين فَهُوَ ثَالِثَة الأثافي بِالنِّسْبَةِ لَهما بل قيل إِنَّه لَيْسَ فِي بِلَاد الْإِسْلَام منار أعظم مِنْهُ وَعمل لهَذَا الْمنَار تفافيح من أَمْلَح مَا يكون قَالَ فِي القرطاس بلغت من الْعظم إِلَى مَا لَا يعرف قدره إِلَّا أَن الْوُسْطَى مِنْهَا لم تدخل على بَاب الْمنَار حَتَّى قلعت الرخامة من أَسْفَله وزنة العمود الَّذِي ركبت عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ ربعا من الْحَدِيد وَكَانَ الَّذِي صنعها ورفعها فِي أَعلَى الْمنَار الْمَذْكُور الْمعلم أَبُو اللَّيْث الصّقليّ وموهت تِلْكَ التفافيح بِمِائَة ألف دِينَار ذَهَبا وَلما كمل جَامع إشبيلية وَصلى فِيهِ أَمر بِبِنَاء حصن البرج على وَادي إشبيلية وَقد تقدم لنا فِي أَخْبَار عبد الْمُؤمن أَنه هدم أسوار مَدِينَة فاس وَأَن حافده الْمَنْصُور هَذَا شرع فِي بنائها ثمَّ أتمهَا ابْنه النَّاصِر من بعده وَلما رَجَعَ الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش وجد كل مَا أَمر بِهِ من البناءات قد تمّ على أكمل حَال واحسنه مثل القصبة والقصور وَالْجَامِع والصوامع وَأنْفق على ذَلِك كُله من أَخْمَاس الْغَنَائِم وَكَانَ قد تغير على الوكلاء والصناع الَّذين توَلّوا بِنَاء ذَلِك لِأَنَّهُ سعى إِلَيْهِ بِأَنَّهُم احتجنوا الْأَمْوَال وصنعوا للجامع سَبْعَة أَبْوَاب على عدد أَبْوَاب جَهَنَّم فَلَمَّا دخله الْمَنْصُور وَتَطوف بِهِ أعجبه فَسَأَلَ عَن عدد أبوابه فَقيل إِنَّهَا سَبْعَة أَبْوَاب وَالثَّامِن هُوَ الَّذِي دخل مِنْهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الْمَنْصُور عِنْد ذَلِك لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَاتخذ الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي جَامعه هَذَا لمصلاه بِهِ مَقْصُورَة عَجِيبَة كَانَت مُدبرَة بحيل هندسية بِحَيْثُ تنصب إِذا اسْتَقر الْمَنْصُور ووزراؤه بمصلاه مِنْهَا وتختفي إِذا انفصلوا عَنْهَا حكى الشريف الغرناطي شَارِح الحازمين عَن الْكَاتِب البارع أبي الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش أحد كتاب الْمَنْصُور قَالَ كَانَت لأبي بكر يحيى بن مجير الشَّاعِر الْمَشْهُور وفادة على الْمَنْصُور فِي كل سنة فصادف فِي إِحْدَى وفاداته فَرَاغه من إِحْدَاث الْمَقْصُورَة الَّتِي كَانَ أحدثها بجامعه الْمُتَّصِل بقصره فِي حَضْرَة مراكش وَكَانَت قد وضعت على حركات هندسية ترْتَفع بهَا لِخُرُوجِهِ وتنخفض لدُخُوله وَكَانَ جَمِيع من بِبَاب الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ من الشُّعَرَاء والأدباء قد نظموا أشعارا أنشدوه إِيَّاهَا فِي ذَلِك فَلم يزِيدُوا على شكره وتجزيته الْخَيْر فِيمَا جدد من معالم الدّين وآثاره وَلم يكن فيهم من تصدى لوصف الْحَال حَتَّى قدم أَبُو بكر بن مجير فَأَنْشد قصيدته الَّتِي أَولهَا (أعلمتني ألقِي عَصا التسيار ... فِي بَلْدَة لَيست بدار قَرَار) وَاسْتمرّ فِيهَا حَتَّى ألم بِذكر الْمَقْصُورَة فَقَالَ يصفها (طورا تكون بِمن حوته مُحِيطَة ... فَكَأَنَّهَا سور من الأسوار) (وَتَكون حينا عَنْهُم مخبوءة ... فَكَأَنَّهَا سر من الْأَسْرَار) (وَكَأَنَّهَا علمت مقادير الورى ... فتصرفت لَهُم على مِقْدَار) (فَإِذا أحست بِالْإِمَامِ يزورها ... فِي قومه قَامَت إِلَى الزوار) (يَبْدُو فتبدو ثمَّ تخفى بعده ... كتكون الهلالات للأقمار) فطرب الْمَنْصُور لسماعها وارتاح لاختراعها قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب وَقد بطلت حركات هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 الْمَقْصُورَة الْآن وَبقيت آثارهما حَسْبَمَا شاهدته سنة عشر وَألف وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَمن شعر ابْن مجير يصف خيل الْمَنْصُور من قصيدة مدحه بهَا قَوْله (لَهُ حلبة الْخَيل الْعتاق كَأَنَّهَا ... نشاوى تهادت تطلب العزف والقصفا) (عرائس أغنتها الحجول عَن الحلى ... فَلم تَبْغِ خلخالا وَلَا التسمت وَقفا) (فَمن يقق كالطرس تحسب أَنه ... وَإِن جردوه فِي ملاءته التقا) (وأبلق أعْطى اللَّيْل نصف إهابه ... وغار عَلَيْهِ الصُّبْح فاحتبس النصفا) (وَورد تغشى جلده شفق الدجا ... فَإذْ حازه دلى لَهُ الذيل والعرفا) (وأشقر مج الراح صرفا أديمه ... وأصفر لم يمسح بهَا جلده صرفا) (وَأَشْهَب قضى الْأَدِيم مدثر ... عَلَيْهِ خطوط غير مفهمة حرفا) (كَمَا خطخط الراهي بمهرق كَاتب ... فجر عَلَيْهِ ذيله وَهُوَ مَا جَفا) (تهب على الْأَعْدَاء مِنْهَا عواصف ... ستنسف أَرض الْمُشْركين بهَا نسفا) (ترى كل طرف كالغزال فتمتري ... أظبيا ترى تَحت الْعَجَاجَة أم طرفا) (وَقد كَانَ فِي الْبَيْدَاء يألف سربه ... فربته مهْرا وَهِي تحسبه خشفا) (تنَاوله لفظ الْجواد لِأَنَّهُ ... إِذا مَا أردْت الجري أعطاكه ضعفا) وَمِمَّا مدح بِهِ الْمَنْصُور رَحمَه الله قَول بعض شعراء عصره حِين طلب مِنْهُ الفنش الصُّلْح فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ (أهل بَان يسْعَى إِلَيْهِ ويرتجى ... ويزار من أقْصَى الْبِلَاد على الرجا) (من قد غَدا بالمكرمات مُقَلدًا ... وموشحا ومختما ومتوجا) (عمرت مقامات الْمُلُوك بِذكرِهِ ... وتعطرت مِنْهُ الرِّيَاح تأرجا) وَدخل عَلَيْهِ الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الكانمي الْأسود الشَّاعِر فأنشده (أَزَال حجابه عني وعيني ... ترَاهُ من المهابة فِي حجاب) (وقربني تفضله وَلَكِن ... بَعدت مهابة عِنْد اقترابي) وكانم بِكَسْر النُّون جنس من السودَان وهم بَنو عَم تكروره وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 اسمهما للانتساب لأَب أَو أم وَإِنَّمَا كانم اسْم بَلْدَة بنواحي غانة فَسُمي هَذَا الْجِنْس بهَا وَكَذَلِكَ تكرور اسْم للْأَرْض الَّتِي هم بهَا فسموا بهَا وَالله أعلم بَقِيَّة أَخْبَار الْمَنْصُور وَسيرَته قَالَ ابْن أبي زرع كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله ذَا رَأْي وحزم وَدين وسياسة قَالَ وَهُوَ أول من كتب الْعَلامَة بِيَدِهِ مُلُوك الْمُوَحِّدين الْحَمد لله وَحده فَجرى عَمَلهم على ذَلِك وَقد تقدم لنا أَن ذَلِك كَانَ فِي دولة أَبِيه فَالله أعلم وَهُوَ وَاسِطَة عقد مُلُوك الْمُوَحِّدين الَّذِي ضخم الدولة وشرفها وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام دعة وَأمن ورخاء ورفاهية وبهجة صنع الله عز وَجل فِي أَيَّامه الْأَمْن بالمشرق وَالْمغْرب والأندلس فَكَانَت الظعينة تخرج من بِلَاد نول فتنتهي إِلَى برقة وَحدهَا لَا ترى من يعرض لَهَا وَلَا من يسومها بِسوء ضبط الثغور وحصن الْبِلَاد وَبنى الْمَسَاجِد والمدارس فِي بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب والأندلس وَبنى الموستانات للمرضى والمجانين وأجرى عَلَيْهِم الْإِنْفَاق فِي جَمِيع أَعماله وأجرى المرتبات على الْفُقَهَاء وطلبة الْعلم كل على قدر مرتبته وَبنى الصوامع والقناطر وحفر الْآبَار للْمَاء فِي الْبَريَّة وَاتخذ عَلَيْهَا الْمنَازل من السوس الْأَقْصَى إِلَى سويقة بن مصكوك فَكَانَت أَيَّامه زِينَة للدهر وشرفا لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَقَالَ ابْن خلكان كَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله صافي السمرَة جدا إِلَى الطول مَا هُوَ جميل الْوَجْه أفوه أعين شَدِيد الْكحل ضخم الْأَعْضَاء جوهري الصَّوْت جزيل الْأَلْفَاظ من أصدق النَّاس لهجة وَأَحْسَنهمْ حَدِيثا وَأَكْثَرهم إِصَابَة بِالظَّنِّ مجريا للأمور ولي وزارة أَبِيه فبحث عَن الْأَحْوَال بحثا شافيا وطالع مَقَاصِد الْعمَّال والولاة وَغَيرهم مطالعة أفادته معرفَة جزئيات الْأُمُور فَلَمَّا مَاتَ أَبوهُ اجْتمع رَأْي أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 على تَقْدِيمه فَقَامَ بِالْأَمر أحسن قيام وَرفع راية الْجِهَاد وَنصب ميزَان الْعدْل وَبسط أَحْكَام النَّاس على حَقِيقَة الشَّرْع وَنظر فِي أُمُور الدّين والورع وَأقَام الْحُدُود حَتَّى فِي أَهله وعشيرته الْأَقْرَبين كَمَا أَقَامَهَا فِي سَائِر النَّاس أَجْمَعِينَ فاستقامت الْأَحْوَال فِي أَيَّامه وعظمت الفتوحات وَكَانَ قد أَمر لأوّل دولته بِقِرَاءَة الْبَسْمَلَة فِي أول الْفَاتِحَة فِي الصَّلَوَات وَأرْسل بذلك إِلَى سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي فِي ملكه فَأجَاب قوم وَامْتنع آخَرُونَ وَكَانَ ملكا جوادا عادلا متمسكا بِالشَّرْعِ المطهر يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر كَمَا يَنْبَغِي من غير مُحَابَاة وَيُصلي بِالنَّاسِ الصَّلَوَات الْخمس ويلبس الصُّوف وَيقف للْمَرْأَة والضعيف وَيَأْخُذ لَهُم بِالْحَقِّ قَالَ ابْن خلكان وَسمعت عَنهُ حِكَايَة يَلِيق أَن نذكرها هُنَا وَهِي أَن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر أبي حَفْص كَانَ قد تزوج أُخْت يَعْقُوب الْمَنْصُور فأقامت عِنْده ثمَّ جرت بَينهمَا منافرة فَجَاءَت إِلَى بَيت أَخِيهَا يَعْقُوب الْمَنْصُور فسير الشَّيْخ عبد الْوَاحِد فِي طلبَهَا فامتنعت عَلَيْهِ فَشكى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد ذَلِك إِلَى قَاضِي الْجَمَاعَة بمراكش وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن مَرْوَان فَاجْتمع القَاضِي الْمَذْكُور بأمير الْمُؤمنِينَ يَعْقُوب الْمَنْصُور وَقَالَ لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد يطْلب أَهله فَسكت عَنهُ الْمَنْصُور وَمَضَت أَيَّام ثمَّ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد اجْتمع بِالْقَاضِي الْمَذْكُور فِي قصر الْمَنْصُور بمراكش وَقَالَ لَهُ أَنْت قَاضِي الْمُسلمين وَقد طلبت أَهلِي فَمَا جاؤوني فَاجْتمع القَاضِي بالمنصور وَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد قد طلب أَهله مرّة وَهَذِه الثَّانِيَة فَسكت الْمَنْصُور ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة لَقِي الشَّيْخ عبد الْوَاحِد القَاضِي بِالْقصرِ الْمَذْكُور فَقَالَ لَهُ يَا قَاضِي الْمُسلمين قد قلت لَك مرَّتَيْنِ وَهَذِه الثَّالِثَة أَنا أطلب أَهلِي وَقد مَنَعُونِي مِنْهُم فَاجْتمع القَاضِي بالمنصور وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن الشَّيْخ عبد الْوَاحِد قد تكَرر طلبه لأَهله فَأَما أَن تسير إِلَيْهِ أَهله وَإِمَّا أَن تعزلني عَن الْقَضَاء فَسكت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الْمَنْصُور وَقيل أَنه قَالَ لَهُ يَا عبد الله مَا هَذَا إِلَّا جد كَبِير ثمَّ استدعى خَادِمًا وَأمره سرا بِأَن تحمل أهل الشَّيْخ عبد الْوَاحِد إِلَيْهِ فَحملت إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْيَوْم وَلم يتَغَيَّر على القَاضِي وَلَا قَالَ لَهُ شَيْئا يكرههُ وَتبع فِي ذَلِك حكم الشَّرْع المطهر وانقاد لأَمره وَهَذِه حَسَنَة تعد لَهُ وللقاضي أَيْضا فَإِنَّهُ بَالغ فِي إِقَامَة منار الشَّرْع وَالْعدْل وَكَانَ الْمَنْصُور يشدد فِي إِلْزَام الرّعية بِإِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس وَقتل فِي بعض الأحيان على شرب الْخمر وَقتل الْعمَّال الَّذين تشكوهم الرعايا أَمر برفض فروع الْفِقْه وإحراق كتب الْمذَاهب وَأَن الْفُقَهَاء لَا يفتون إِلَّا من الْكتاب وَالسّنة النَّبَوِيَّة وَلَا يقلدون أحدا من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين بل تكون أحكامهم بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الْكتاب والْحَدِيث وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس قَالَ ابْن خلكان وَلَقَد أدركنا جمَاعَة من مَشَايِخ الْمغرب وصلوا إِلَيْنَا وهم على ذَلِك الطَّرِيق مثل أبي الْخطاب بن دحْيَة وأخيه أبي عَمْرو ومحيي الدّين بن عَرَبِيّ نزيل دمشق وَغَيرهم وَكَانَ يُعَاقب على ترك الصَّلَوَات وَيَأْمُر بالنداء فِي الْأَسْوَاق بالمبادرة إِلَيْهَا فَمن غفل عَنْهَا أَو اشْتغل بمعيشته عزره تعزيرا بليغا وَكَانَ قد عظم ملكه واتسعت دَائِرَة سلطنته حَتَّى أَنه لم يبْق بِجَمِيعِ أقطار بِلَاد الْمغرب من الْبَحْر الْمُحِيط إِلَى برقة إِلَّا من هُوَ فِي طَاعَته وداخل فِي ولَايَته إِلَى غير ذَلِك من جَزِيرَة الأندلس وَكَانَ محسنا محبا للْعُلَمَاء مقربا للأدباء مصغيا إِلَى الْمَدْح مثيبا عَلَيْهِ وَله ألف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد السَّلَام الجراوي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ صفوة الْأَدَب وديوان الْعَرَب فِي مُخْتَار الشّعْر وَهُوَ مَجْمُوع مليح أحسن فِي اخْتِيَاره كل الْإِحْسَان وَكَانَ الْمَنْصُور يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن التوقيع وإجادته وَقد تقدم لنا مَا وَقع بِهِ على كتاب الفنش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَحكى ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل أَن الْمَنْصُور طلب يَوْمًا من قاضيه أَن يخْتَار لَهُ رجلَيْنِ لغرضين من تَعْلِيم ولد وَضبط أَمر فَعرفهُ برجلَيْن قَالَ فِي أَحدهمَا وَهُوَ بَحر فِي علمه وَقَالَ فِي الآخر وَهُوَ بر فِي دينه وَلما خرج الْمَنْصُور أحضرهما واختبرهما فقصرا بَين يَدَيْهِ وأكذبا الدَّعْوَى فَوَقع الْمَنْصُور على رقْعَة القَاضِي أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر قَالَ ابْن الْخَطِيب وَهَذَا من التوقيع العريق فِي الإجادة والصنعة وَكَانَ مجْلِس الْمَنْصُور رَحمَه الله مجْلِس الْفُضَلَاء والأدباء وأرباب المعارف والفنون حكى أَبُو الْفضل التيفاشي قَالَ جرت مناظرة بَين يَدي ملك الْمغرب يَعْقُوب الْمَنْصُور وَكَانَت بَين الْفَقِيه أبي الْوَلِيد بن رشد الْمَعْرُوف بالحفيد والرئيس الْوَزير أبي بكر بن زهر بِضَم الزَّاي وَكَانَ الأول قرطبيا وَالثَّانِي إشبيليا فَقَالَ ابْن رشد لِابْنِ زهر فِي تَفْضِيل قرطبة مَا أَدْرِي مَا تَقول غير أَنه إِذا مَاتَ عَالم بإشبيلية فَأُرِيد بيع كتبه حملت إِلَى قرطبة حَتَّى تبَاع فِيهَا وَإِن مَاتَ مطرب بقرطبة فَأُرِيد بيع آلاته حملت إِلَى إشبيلية وَهَذَا الْوَزير ابْن زهر هُوَ أحد أَعْيَان وزراء الدولة الموحدية وَزِير للمنصور ولأبيه من قبله قَالَ ابْن خلكان كَانَ ابْن زهر من أهل بَيت كلهم عُلَمَاء رُؤَسَاء حكماء وزراء نالوا الْمَرَاتِب وتقدموا عِنْد الْمُلُوك ونفذت أوامرهم وَكَانَ يتَكَرَّر وُرُوده على الحضرة بمراكش فيقيم بهَا وَيرجع إِلَى الأندلس وَمِمَّا قَالَه بمراكش يتشوق إِلَى ولد لَهُ صَغِير تَركه بإشبيلية (ولى وَاحِد مثل فرخ القطا ... صَغِير تخلف قلبِي لَدَيْهِ) (نأت عَنهُ دَاري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وَذَاكَ الْوَجِيه) (تشوقني وتشوقته ... فيبكي عَليّ وأبكي عَلَيْهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 (لقد تَعب الشوق مَا بَيْننَا ... فَمِنْهُ إِلَيّ ومني إِلَيْهِ) قَالَ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب أَخْبرنِي الطَّبِيب الماهر الثِّقَة الصَّالح الْعَلامَة سَيِّدي أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْوَزير الغساني الأندلسي الأَصْل الفاسي المولد والنشأة حَكِيم حَضْرَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور بِاللَّه السَّعْدِيّ أَن ابْن زهر لما قَالَ هَذِه الأبيات وسمعها يَعْقُوب الْمَنْصُور أرسل المهندسين إِلَى إشبيلية يَعْنِي من غير علم من ابْن زهر وَأمرهمْ أَن يحيطوا علما ببيوت ابْن زهر وحارته ثمَّ يبنوا مثلهَا بِحَضْرَة مراكش فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ فِي أقرب مُدَّة وفرشها بِمثل فرشه وَجعل فِيهَا مثل آلاته ثمَّ أَمر بِنَقْل عِيَال ابْن زهر وَأَوْلَاده وحشمه وأسبابه إِلَى تِلْكَ الدَّار ثمَّ احتال عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى ذَلِك الْموضع فَرَآهُ أشبه شَيْء ببيوته وحارته فاحتار لذَلِك وَظن أَنه نَائِم وَأَن ذَلِك أَحْلَام فَقيل لَهُ ادخل الْبَيْت الَّذِي يشبه بَيْتك فدخله فَإِذا وَلَده الَّذِي يتشوق إِلَيْهِ يلْعَب فِي الْبَيْت فَحصل لَهُ من السرُور مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَلَا يعبر عَنهُ هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا وَمن أطباء الْمَنْصُور الْوَزير الطَّبِيب الشهير أَبُو بكر بن طفيل من أهل وَادي آش كَانَ حاذقا بصناعة الطِّبّ والجراحات وَمن أطبائه أَيْضا الْحَفِيد بن رشد الْمُتَقَدّم الذّكر وَمن كِتَابه الْكَاتِب البارع أَبُو الْحسن عبد الْملك بن عَيَّاش الْقُرْطُبِيّ النشأة اليابوري الأَصْل والفقيه البارع أَبُو الْفضل بن طَاهِر من أهل بجاية وَمن الْفُقَهَاء الَّذين كَانُوا يجالسونه ويسامرونه الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْجد والفقيه القَاضِي أَبُو عبد الله بن الصَّقْر وَغَيرهم رحم الله الْجَمِيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وَفَاة يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحمَه الله قَالَ ابْن أبي زرع لما رَجَعَ الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش أَخذ الْبيعَة لوَلَده أبي عبد الله مُحَمَّد الملقب بالناصر لدين الله فَبَايعهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وَسَائِر أهل الْأَمْصَار والأقطار فَلَمَّا تمت الْبيعَة للناصر الْمَذْكُور وَجلسَ فِي مَحل الْخلَافَة وَجَرت الْأَحْكَام والأوامر باسمه وعَلى يَدَيْهِ فِي حَيَاة أَبِيه دخل الْمَنْصُور قصره فَلَزِمَهُ وَقَالَ ابْن خلكان لما وصل الْمَنْصُور إِلَى مراكش يَعْنِي بعد قدومه من الأندلس أَمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السّفر للتوجه إِلَى بِلَاد إفريقية فَاجْتمع إِلَيْهِ مَشَايِخ الْمُوَحِّدين وَقَالُوا لَهُ يَا سيدنَا قد طَالَتْ غيبتنا بالأندلس فمنا من لَهُ خمس سِنِين وَغير ذَلِك فتنعم علينا بالمهلة هَذَا الْعَام وَتَكون الْحَرَكَة فِي أول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فأجابهم إِلَى سُؤَالهمْ وانتقل إِلَى مَدِينَة سلا وَشَاهد مَا فِيهَا من المنتزهات الْمعدة لَهُ وَكَانَ قد بنى بِالْقربِ من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة مَدِينَة عَظِيمَة سَمَّاهَا رِبَاط الْفَتْح على هَيْئَة الْإسْكَنْدَريَّة فِي الإتساع وَحسن التَّقْسِيم وإتقان الْبناء وتحصينه وتحسينه وبناها على الْبَحْر الْمُحِيط الَّذِي هُنَاكَ وَهِي على نهر سلا مُقَابلَة لَهَا من الْبر القبلي واطاف تِلْكَ الْبِلَاد وتنزه فِيهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مراكش قَالَ ابْن خلكان وَبعد هَذَا اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أمره فَمن النَّاس من يَقُول إِنَّه ترك مَا كَانَ فِيهِ وتجرد وساح فِي الأَرْض حَتَّى انْتهى إِلَى بِلَاد الشرق وَهُوَ مستخف لَا يعرف وَمَات خاملا وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه لما رَجَعَ إِلَى مراكش كَمَا ذَكرْنَاهُ توفّي فِي غرَّة جُمَادَى الأولى وَقيل فِي ربيع الْآخِرَة فِي سَابِع عشرَة وَقيل فِي غرَّة صفر وَلم ينْقل شَيْء من أَحْوَاله بعد ذَلِك إِلَى حِين وَفَاته وَقيل توفى بِمَدِينَة سلا قَالَ ابْن خلكان ثمَّ حكى لي جمع كثير بِدِمَشْق أَن بِالْقربِ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 المجدل البليدة الَّتِي من أَعمال الْبِقَاع العزيزي قَرْيَة يُقَال لَهُ حمارة وَإِلَى جَانبهَا مشْهد يعرف بِقَبْر الْأَمِير يَعْقُوب ملك الْمغرب وكل أهل تِلْكَ النواحي متفقون على ذَلِك وَلَيْسَ عِنْدهم فِيهِ خلاف وَهَذَا الْقَبْر بَينه وَبَين المجدل مِقْدَار فرسخين من جِهَتهَا الْقبلية بغرب قَالَ وَكَانَ أوصى أَن يدْفن على قَارِعَة الطَّرِيق ليترحم عَلَيْهِ من يمر بِهِ قَالَ الْمقري فِي نفخ الطّيب هَذِه عامية لَا يتبتها عُلَمَاء الْمغرب وَسبب هَذِه الْمقَالة تولع الْعَامَّة بِهِ فكذبوا فِي مَوته وَقَالُوا إِنَّه ترك الْملك وحكوا مَا شاع إِلَى الْآن وذاع مِمَّا لَيْسَ لَهُ أصل ثمَّ نقل عَن الشريف الغرناطي مثل ذَلِك فَانْظُرْهُ قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن إِنْكَار مَا حَكَاهُ ابْن خلكان لَيْسَ بجيد وهب أَن أهل الْمغرب قَالُوا ذَلِك تولعا بِهِ فَمَا بَال أهل الْمشرق يتولعون بِهِ ويتخذون لَهُ المشهد ثمَّ يتَّفق كَبِيرهمْ وصغيرهم على أَنه قبر يَعْقُوب ملك الْمغرب من غير اصل وَلَا مُسْتَند هَذَا بعيد فِي الْعَادة بل لَا بُد أَن يكون لذَلِك أصل وَالله أعلم بحقيقته نعم مَا تزعمه عَامَّة الْمغرب فِي حمة أبي يَعْقُوب الَّتِي بِقرب مَدِينَة فاس أَنَّهَا منسوبة ليعقوب الْمَنْصُور هَذَا وَأَنه رصد لَهَا عفريتين يوقدان عَلَيْهَا إِلَى الْأَبَد وَأَن حرارة مَائِهَا بِسَبَب ذَلِك الإيقاد وَأَن الشِّفَاء الَّذِي حصل للمستحمين إِنَّمَا هُوَ ببركة يَعْقُوب الْمَنْصُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَجعلُوا لَهُ زَوْجَة أَو بِنْتا اسْمهَا شافية اشتقاقا من لفظ الشِّفَاء الْحَاصِل بِتِلْكَ الْعين كُله بَاطِل وَإِنَّمَا حرارة الْعين لخاصية أودعها الله فِي أَصْلهَا ومنبعها وَكَذَا الشِّفَاء الْحَاصِل بهَا إِنَّمَا هُوَ بخاصية فِي ذَلِك المَاء ولعلها مَا فِيهِ من الكريتية فَإنَّا نرى أَصْحَاب الجرب يتلطخون بالكبريت المعالج فيشفون وَكم من عين على وَجه الأَرْض فِي الْمشرق وَالْمغْرب وبلاد الْمُسلمين وَالْكفَّار على هَذِه الْحَالة كَمَا أخبر بذلك غير وَاحِد وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح الْحمة الْعين الحارة يستشفي بهَا الأعلاء والمرضى وَفِي الحَدِيث الْعَالم كالحمة اه وَمثله فِي الْقَامُوس بل ذكر فِيهِ مَدِينَة تفليس وَهِي قَصَبَة كرجستان عَلَيْهَا سوران قَالَ وحمامتها تنبع مَاء حارا بِغَيْر نَار وَقد ذكر ابْن أبي زرع فِي القرطاس حمة أبي يَعْقُوب هَذِه وَذكر مَعهَا حمتين أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ وبالقرب أَيْضا من مَدِينَة فاس على ميسرَة أَرْبَعَة أَمْيَال مِنْهَا حمة عَظِيمَة تعرف بحمة خولان مَاؤُهَا فِي أَشد مَا يكون من السخونة وبالقرب أَيْضا مِنْهَا حمة وشنانة وحمة أبي يَعْقُوب وَهِي من الحمات الْمَشْهُورَة بالمغرب اه كَلَامه فقد ذكر أَبَا يَعْقُوب بِلَفْظ الكنية فَهُوَ غير يَعْقُوب الْمَنْصُور قطعا وَلَعَلَّه أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر الْآتِي ذكره فِي أَحْدَاث الْمِائَة السَّابِعَة ولنرجع إِلَى الْكَلَام على وَفَاة الْمَنْصُور عِنْد عُلَمَاء الْمغرب فَنَقُول قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل توفّي يَعْقُوب الْمَنْصُور رَحْمَة الله فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَدفن بِمَجْلِس سكناهُ من مراكش وَكذب الْعَامَّة بِمَوْتِهِ ولوعا وتمسكا بِهِ فَادعوا أَنه ساح فِي الأَرْض اه وَقَالَ ابْن أبي زرع لما حضرت الْمَنْصُور الْوَفَاة قَالَ مَا نَدِمت على شَيْء فعلته فِي خلافتي إِلَّا على ثَلَاث وددت أَنِّي لم أَفعَلهَا الأولى إِدْخَال الْعَرَب من إفريقية إِلَى الْمغرب مَعَ إِنِّي أعلم أَنهم أهل فَسَاد وَالثَّانيَِة بِنَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 رِبَاط الْفَتْح أنفقت فِيهِ بَيت المَال وَهُوَ بعد لَا يعمر وَالثَّالِثَة إطلاقي أُسَارَى الأرك وَلَا بُد لَهُم أَن يطلبوا بثأرهم قلت مَا ذكره رَحمَه الله فِي رِبَاط الْفَتْح من أَنه لَا يعمر قد تخلف ظَنّه فِيهِ فَهُوَ الْيَوْم من أعمر أَمْصَار الْمغرب وأحضرها حرسه الله وحرس سَائِر أَمْصَار الْمُسلمين من آفَاق النُّقْصَان وطوارق الْحدثَان ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول فِي سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة هدم عَليّ بن عِيسَى بن مَيْمُون وَكَانَ من رُؤَسَاء الْبَحْر فِي دولة اللمتونيين صنم قادس وقادس هَذِه هِيَ الجزيرة الْمُسَمَّاة فِي لِسَان الْعَامَّة الْيَوْم بقالص وَكَانَ بهَا صنم عظميم على صُورَة رجل وَبِيَدِهِ مِفْتَاح يُقَال إِن حكماء اليونان انخذوه طلسما هُنَاكَ كَانَ من خاصيته أَن يمْنَع هبوب الرّيح فِيمَا جاوره من الْبَحْر الْمُحِيط فَكَانَت السفن لَا تجْرِي هُنَاكَ على مَا قيل فَلَمَّا ثار ابْن مَيْمُون الْمَذْكُور بالجزيرة الْمَذْكُورَة ظن أَن تَحت الصَّنَم مَالا فهدمه فَلم يجد شَيْئا وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة توفّي أَبُو عَليّ مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم المساطسي دَفِين آزمور وَكَانَ كَبِير الشَّأْن من أهل الْعلم وَالْعَمَل وَمن اشياخ أبي شُعَيْب السارية وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة توفّي الإِمَام الْهمام الْحَافِظ البارع أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى الْيحصبِي قَالَ ابْن خلكان توفّي بمراكش يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل فِي شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بِبَاب آيلان دَاخل الْمَدِينَة وَذَلِكَ فِي دولة عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَفِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حرزهم يَنْتَهِي نسبه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ من أهل مَدِينَة فاس وَبهَا توفّي أخريات شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ فَقِيها زاهدا صوفيا قَالَ أَبُو الْحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 الْمَذْكُور اعتكفت على قِرَاءَة الْإِحْيَاء سنة فجردت الْمسَائِل الَّتِي تنتقد عَلَيْهِ وعزمت على إحراق الْكتاب فَنمت فَرَأَيْت قَائِلا يَقُول جردوه واضربوه حد الْفِرْيَة فَضربت ثَمَانِينَ سَوْطًا فَلَمَّا استيقظت جعلت أقلب ظَهْري وَوجدت الْأَلَم الشَّديد من ذَلِك فتبت إِلَى الله ثمَّ تَأَمَّلت تِلْكَ الْمسَائِل فَوَجَدتهَا مُوَافقَة للْكتاب وَالسّنة وَقد تقدم لنا مَا اتّفق لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي جَنَازَة أبي الْحَكِيم بن برجان وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو شُعَيْب أَيُّوب بن سعيد الصنهاجي الملقب بِسَارِيَة من أهل مَدِينَة آزمور وَبهَا توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ شَدِيد المراقبة والورع وَالْخَوْف من الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا وقف فِي صلَاته يُطِيل الْقيام فَلذَلِك لقب بالسارية ونقلت عَنهُ فِي الْوَرع وَالْخَوْف حكايات انْظُر التشوف قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ كنت زرت ضريح هَذَا الشَّيْخ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ومدحته بقصيدة سلكت فِيهَا مَسْلَك الأدباء من النّسَب وَغَيره وأنشدتها عِنْد ضريحه فَرَأَيْت لَهَا بركَة وَالْحَمْد لله فَأَحْبَبْت أَن أذكرها هُنَا وَهِي هَذِه (لله يَا ربع مَا هيجت من شجن ... على الْفُؤَاد وَمن ضنى على الْبدن) (وقفت فِيك ركابا طالما وقفت ... على الْقُصُور على الأطلال والدمن) (أَيَّام فِيك حسان مَا أشبههَا ... بالشمس حسنا وَلَا فِي اللين بالغصن) (وفيك أَسد من الْمُلُوك عَادَتهَا ... بذل النضار وصون الْبيض والحصن) (يحْمُونَ مِنْك عراصا كنت أعهدها ... مأوى السرُور فَعَادَت موقف الْحزن) (عاثت يَد الدَّهْر فيهم مُنْذُ أزمنة ... كَأَن بأسهم الْمَحْذُور لم يكن) (قوم عرفت نداهم قبل معرفتي ... نَفسِي وفاجأني فِي المهد بِالْمَتْنِ) (ومذ ترعرعت لم أعلق بغيرهم ... حَتَّى كَأَنِّي رضعت الْحبّ فِي اللَّبن) (قضيت حق الشَّبَاب فِي مَنَازِلهمْ ... أَيَّام عَيْش لنا أحلى من الوسن) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 (من ظن بالدهر خيرا فَهُوَ منخدع ... فوده هدنة تبنى على دخن) (لَا أنتحي منهلا إِلَّا شرفت بِهِ ... وَلَا احل مَكَانا لَيْسَ بالخشن) (وَلَا أصَاحب من هَذَا الورى بشرا ... إِلَّا حصلت على رزق من الإحن) (حَتَّى توهمت أنني جنيت لَهُم ... حَرْب البسوس وأنني أَبُو الْفِتَن) (وَمَا لذِي الْفضل من ذَنْب يلام بِهِ ... سوى فضيلته فِي دهره الزَّمن) (فعد يَا قلب عَن شكوى أضيق بهَا ... ذرعا فشكواك لي ضرب من الوهن) (وَلست أَحسب هَذَا الدَّهْر مرعويا ... وَلَو تعلّقت مِنْهُ بِابْن ذِي يزن) (حلا لقد علقت يَدي بِمن علقت ... أَيدي العفاة بِهِ فِي الشَّام واليمن) (بأعظم النَّاس منزلا ومنزلة ... وأسمح النَّاس كفا بالندى الهتن) (وأشمخ النَّاس قدرا فِي الورى وَعلا ... وَأحكم النَّاس للفروض وَالسّنَن) (ذَاك الْوَلِيّ الَّذِي كل الْأَنَام غَدا ... يَتْلُو مناقبه فِي السِّرّ والعلن) (أَبُو شُعَيْب الَّذِي من بحره انشعبت ... جداول الْيمن فِي الْأَحْيَاء والمدن) (بدر غَدا فِي سَمَاء الْمجد مكتملا ... بِهِ علا ذكر آزمور فِي الوطن) (أَرض إِذا الضَّرع المحروم يممها ... ألفى بهَا بدل الأهلين والسكن) (أود من أجل ثاويها حجارتها ... وَاجعَل الترب لي مسكا بِلَا ثمن) (كَيفَ لَا تطبي قلبِي منَازِل من ... بِهِ أكون من الْأَحْدَاث فِي جنن) (مجلي الغياهب مبذول الْمَوَاهِب مقفو ... الْمَذْهَب بالجنيد والقرني) (بَحر الْحَقِيقَة والغوث الَّذِي لهجت ... بِهِ الْقَبَائِل فِي الْمقَام والظعن) (مَا زَالَ يرقى الذرى من كل صَالِحَة ... حَتَّى اكتسى شهرة النيرَان فِي القنن) (يَا خير من أمه الْعَافِي ولاذ بِهِ ... أهل الجرائم والأوزار والمحن) (إِنِّي خدمتك فِي شعر عنيت بِهِ ... وَلَيْسَ لَوْلَا حلاك الزهر بالْحسنِ) (أَشْكُو إِلَيْك سقاما أَنْت مبرئه ... وَلست أَرْجُو سواك مِنْهُ ينعشني) (وَشد أزري فَإِنِّي كنت مُعْتَقدًا ... إِذا بلغتك قدت الدَّهْر بالرسن) (وَانْظُر بِفَضْلِك من وافك معتفيا ... فَإِن نظرت فَكل الْخَيْر يشملني) (وَأعظم السُّؤَال مِنْك النَّفس تصلحها ... وطهر الْقلب مَا لأمراض والدرن) (وامنحه نورا وتوفيقا وَمَعْرِفَة ... أرى بهَا علمي وَالْبر فِي قرن) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 (فجد بِمَا رمت من جداوك يَا أملي ... فبحر جودك عذب لَيْسَ بالأجن) (سقى ضريحك غيث مَا يزَال بِهِ ... بُسْتَان أنسك وَهُوَ مُورق الفنن) (بجاه أفضل خلق الله كلهم ... مُحَمَّد ذِي المزايا الغر والمنن) (عَلَيْهِ أزكى صَلَاة الله مَا تليت ... صحف وَمَا نسج القريض ذُو لسن) (والآل والصحب والأزواج قاطبة ... وَمن قفا نهجهم فِي كل مَا زمن) وَاعْلَم أَن التَّعَلُّق بأولياء الله رَضِي الله عَنْهُم يجب أَن يكون مَعَ استحضار أَن الله تَعَالَى هُوَ الْمَطْلُوب على الْحَقِيقَة وَالْفَاعِل للأشياء كلهَا لَا معبود غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَإِنَّمَا التَّمَسُّك بِأَهْل الله لأجل التَّبَرُّك بهم والاستشفاع بهم إِلَى الله تَعَالَى لأَنهم أَبْوَاب الله والدالون عَلَيْهِ نفعنا الله بهم وأفاض علينا من مددهم آمين وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن قرقول صَاحب كتاب مطالع الْأَنْوَار الَّذِي وَضعه على مِثَال كتاب مَشَارِق الْأَنْوَار للْقَاضِي عِيَاض كَانَ من الأفاضل وَصَحب جمَاعَة من عُلَمَاء الأندلس وَتُوفِّي بِمَدِينَة فاس يَوْم الْجُمُعَة أول وَقت الْعَصْر سادس شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ قد صلى الْجُمُعَة فِي الْجَامِع ذَلِك الْيَوْم فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة تلى سُورَة الْإِخْلَاص وَجعل يكررها بِسُرْعَة ثمَّ تشهد ثَلَاث مَرَّات وَسقط على وَجهه سَاجِدا فَوَقع مَيتا رَحمَه الله وَفِي سنة سبعين بعْدهَا توفّي الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بالمتيطي ومتيطية قَرْيَة بأحواز الجزيرة الخضراء وَهُوَ الموثق الْمَشْهُور لَازم بِمَدِينَة فاس خَاله أَبَا الْحجَّاج المتيطي وَبَين يَدَيْهِ تعلم عقد الشُّرُوط وَله كتاب كَبِير فِي الوثائق سَمَّاهُ النِّهَايَة والتمام فِي معرفَة الوثائق وَالْأَحْكَام ثمَّ انْتقل إِلَى سبتة فاستوطنها ولازم مجَالِس علمائها بالمناظرة والتفقه وَمهر فِي كِتَابه الشُّرُوط واشتغل بهَا حَتَّى لم يكن فِي وقته أقدر مِنْهُ عَلَيْهَا وَكَانَ لَهُ فِي السجلات الْيَد الطُّولى وطبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 عَلَيْهَا حَتَّى كَاد طبعه لَا يواتيه فِي سواهَا بل كَانَ طبعه فِي ذَلِك أَكثر من فقهه ثمَّ ولي الْقَضَاء بشريش وأصابه خضر لَازمه نَحْو السنتين ثمَّ توفّي مستهل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة توفّي وحيد عصره وأعجوبة دهره الْوَلِيّ الْعَارِف الشَّيْخ أَبُو يعزى يلنور بن مَيْمُون قَالَ قوم إِنَّه من هزميرة إيرجان وَقيل من بني صبيح من هسكورة مَاتَ وَقد نَيف على الْمِائَة بِنَحْوِ الثَّلَاثِينَ سنة وَدفن بجبل إيرجان فِي أَوَائِل شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ يَقُول رَأَيْت أَخْبَار الصَّالِحين من زمن أويس الْقَرنِي إِلَى زَمَاننَا هَذَا فَمَا رَأَيْت أعجب من أَخْبَار أبي يعزى قَالَ وَنظرت فِي كتب التصوف فَمَا رَأَيْت مثل الْإِحْيَاء للغزالي وَكَانَ لِبَاس الشَّيْخ أبي يعزى برنسا أسود مرقوعا إِلَى أَسْفَل من رُكْبَتَيْهِ وجبة من تليس مطرف وشاشية من عزف وَكَانَ يتعيش من نَبَات الأَرْض وَلَا يُشَارك النَّاس فِي مَعَايشهمْ وَكَانَ طَويلا رَقِيقا أسود اللَّوْن وَكَانَ إِذا جنه اللَّيْل دخل غيضة كَثِيرَة السبَاع يتعبد فِيهَا فَإِذا قرب الْفجْر أعلم أَصْحَابه بِهِ وأحواله رَضِي الله عَنهُ وكراماته كَثِيرَة وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف أَبُو الْحسن عَليّ بن خلف بن غَالب الْقرشِي دَفِين قصر كتامة نَشأ بشلب من بِلَاد الأندلس وَقَرَأَ بقرطبة وَاسْتقر آخرا بقصر كتامة وَبِه توفّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَقيل إِن وَفَاته كَانَت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ قبل هَذَا التَّارِيخ وَالله أعلم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مُتَمَكنًا فِي عُلُوم الْقَوْم وَكَانَ الْأَوْلِيَاء يحْضرُون مَجْلِسه وَهُوَ من تلامذة أبي الْعَبَّاس بن العريف الْمُتَقَدّم الذّكر وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله التاودي الْعلم من أهل مَدِينَة فاس وَمن أَصْحَاب الشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ يعلم الصّبيان فَيَأْخُذ الْأجر من أَوْلَاد الْأَغْنِيَاء فَيردهُ على أَوْلَاد الْفُقَرَاء وَمَات بفاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَهَذِه النِّسْبَة إِلَى بني تاودي وَهِي قَبيلَة بِقرب فاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا توفّي الإِمَام الْمَشْهُور أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد السُّهيْلي الْخَثْعَمِي صَاحب كتاب الرَّوْض الْأنف وَغَيره من التآليف الحسان وَصَاحب الأبيات الْمَشْهُورَة فِي الدُّعَاء وَهِي (يَا من يرى مَا فِي الضَّمِير وَيسمع ... أَنْت الْمعد لكل مَا يتَوَقَّع) (يَا من يُرْجَى للشدائد كلهَا ... يَا من إِلَيْهِ المشتكى والمفزع) (يَا من خَزَائِن رزقه فِي قَول كن ... أمنن فَإِن الْخَيْر عنْدك أجمع) (مَا لي سوى فقري إِلَيْك وَسِيلَة ... فبالافتقار إِلَيْك فقري أدفَع) (مَا لي سوى قرعي لبابك حِيلَة ... فلئن رددت فَأَي بَاب أَقرع) (وَمن الَّذِي أَدْعُو وأهتف باسمه ... إِن كَانَ فضلك عَن فقيرك يمْنَع) (حاشى لجودك أَن تقنط عَاصِيا ... الْفضل أجزل والمواهب أوسع) كَانَ ببلدته سُهَيْل وَهِي قَرْيَة بِالْقربِ من مالقة يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حَتَّى نمى خَبره إِلَى السُّلْطَان بمراكش فَطَلَبه إِلَيْهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَأَقْبل بِوَجْهِهِ غَايَة الإقبال عَلَيْهِ فَأَقَامَ بهَا نَحْو ثَلَاث سِنِين ثمَّ توفّي بهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن وَقت الظّهْر خَارج بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش وَكَانَ رَحمَه الله ضريرا نفعنا الله تَعَالَى بِهِ وَفِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة توفّي ولي الله تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الْحَلِيم بن عبد الله المراسي الْمَعْرُوف بالغماد من صلحاء سلا كَانَ رَحمَه الله عبدا صَالحا يَدُور على الْمكَاتب ويستوهب الدُّعَاء من الصّبيان ويبكي على نَفسه وَله كرامات وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ الْمَذْكُور وقبره مَعْرُوف ملاصق لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَم قرب بَابه الْكَبِير من جِهَة الْقبْلَة وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عَليّ الْمُبْتَلى الْمَعْدُود فِي سَبْعَة رجال من صلحاء مراكش كَانَ رَضِي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 عَنهُ كَبِير الشَّأْن فَاضلا صَابِرًا رَاضِيا على ربه فِيمَا ابتلاه بِهِ من دَاء الجذم سقط بعد جسده ذَات يَوْم فَصنعَ طَعَاما كثيرا للْفُقَرَاء شكرا لله تَعَالَى على ذَلِك وَكَانَ يسكن بحارة الجذمي العتيقة قبلي مراكش وَبهَا مَاتَ فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب أغمات عِنْد رابطة الْغَار واحتفل النَّاس لجنازته رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مَدين شُعَيْب بن الْحسن الْأنْصَارِيّ الْوَلِيّ الْكَبِير الْمَشْهُور أَصله من حصن قطنيانة من عمل إشبيلية ثمَّ انْتقل إِلَى العدوة فَأخذ عَن الشَّيْخ أبي الْحسن بن حزرهم وَعَن الشَّيْخ أبي يعزى وَبِه انْتفع وَعَلِيهِ تخرج وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ من العارفين الراسخين قد خَاضَ من الْأَحْوَال بحارا وَمن المعارف أسرارا وجال فِي حَدَاثَة سنه فِي بِلَاد الْمغرب من سبتة ومراكش وفاس ولازم بفاس الشَّيْخ ابْن حرزهم كَمَا قُلْنَا ثمَّ سمع بِخَبَر الشَّيْخ أبي يعزى فقصده وَأخذ عَنهُ وَظَهَرت عَلَيْهِ بركته قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَدين لما قدمت فاسا لقِيت بهَا الْأَشْيَاخ فَسمِعت رِعَايَة المحاسبي على أبي الْحسن بن حرزهم وَكتاب السّنَن لِلتِّرْمِذِي على أبي الْحسن بن غَالب وَأخذت طَريقَة التصوف على أبي عبد الله الدقاق وَأبي الْحسن السلاوي قَالَ وَكنت أَزور الشَّيْخ أبي يعزى مرَارًا فَقَالَ لي جمَاعَة من الْفُقَهَاء المجاورين لأبي يعزى قد ثبتَتْ عندنَا ولَايَة أبي يعزى وَلَكنَّا نشاهده يلمس بطُون النِّسَاء وصدورهن ويتفل عَلَيْهِنَّ فيبرأن وَنحن نرى أَن لمسهن حرَام فَإِن تكلمنا فِي هَذَا هلكنا وَإِن سكتنا حرنا فَقلت لَهُم أَرَأَيْتُم لَو أَن ابْنة أحدكُم أَو أُخْته أَصَابَهَا دَاء لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الزَّوْج وَلم يُوجد من يعانيه إِلَّا طَبِيب يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ ألستم تجيزون ذَلِك مَعَ أَن دواءه مظنون ودواء أبي يعزى أَنْتُم على يَقِين مِنْهُ فَبلغ كَلَامي أبي يعزى فَاسْتَحْسَنَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 قَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ خرج الشَّيْخ أَبُو مَدين ألف تلميذ وجاءه رجل ليعترض عَلَيْهِ فَجَلَسَ فِي الْحلقَة فَقَالَ لَهُ أَبُو مَدين لم جِئْت قَالَ لأقتبس من نورك فَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي فِي كمك فَقَالَ لَهُ مصحف فَقَالَ لَهُ افتحه واقرأ أول سطر يخرج لَك فَفعل فَخرج لَهُ قَوْله تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين} فَقَالَ لَهُ ابو مَدين أما يَكْفِيك هَذَا فاعترف الرجل وَتَابَ وكراماته رَضِي الله عَنهُ كَثِيرَة وَكَانَ استوطن فِي آخر عمره بجاية وَكثر عَلَيْهِ النَّاس وَظَهَرت على يَده كرامات فوشى بِهِ بعض عُلَمَاء الظَّاهِر عِنْد يَعْقُوب الْمَنْصُور وَقَالَ لَهُ إِنَّا نَخَاف مِنْهُ على دولتكم فَإِن لَهُ شبها بِالْإِمَامِ الْمهْدي وَأَتْبَاعه كَثِيرُونَ بِكُل بلد فَوَقع مِنْهُ ذَلِك فَكتب لصَاحب بجاية يَبْعَثهُ إِلَيْهِ وأوصاه بالاعتناء بِهِ وَأَن يحملهُ إِلَيْهِ خير محمل فَفعل وَلما كَانَ الشَّيْخ أَبُو مَدين رَضِي الله عَنهُ بِالطَّرِيقِ مرض مرض مَوته فَلَمَّا وصل وَادي يسر قرب تلمسان اشْتَدَّ بِهِ مَرضه فنزلوا بِهِ هُنَالك فَكَانَ آخر كَلَامه الله الْحق فَتوفي وَدفن برابطة الْعباد قرب تلمسان وَسمع أهل تلمسان بجنازته فحضروها وَكَانَت من الْمشَاهد الْعَظِيمَة وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَهْدَوِيّ صَاحب كتاب الْهِدَايَة أَقَامَ نَحْو أَرْبَعِينَ سنة لم تفته صَلَاة فِي جمَاعَة إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا لعذر عاقه عَن ذَلِك دخل مَدِينَة فاس وَمَعَهُ نَحْو من أَرْبَعِينَ ألفا من المَال فَمَا زَالَ ينفقها فِي سَبِيل الْخَيْر حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا دَار سكناهُ فَبَاعَهَا من بعض أهل فاس وأعمره المُشْتَرِي لَهَا فَلَمَّا خرجت مِنْهَا جنَازَته حازها المُشْتَرِي الْمَذْكُور وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وَاعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن الشَّيْخ أَبَا مَدين كَانَ تلميذا للشَّيْخ أبي يعزى وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو يعزى تلميذا للشَّيْخ أبي شُعَيْب السارية وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 شُعَيْب تلميذا للشَّيْخ ابي ينور الدكالي نفعنا الله بجميعهم وأفاض علينا من مددهم آمين ولنرجع إِلَى أَخْبَار الدولة الموحدية فَنَقُول الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بِاللَّه بُويِعَ لأبي عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله فِي حَيَاة وَالِده يَعْقُوب الْمَنْصُور ثمَّ جددت لَهُ الْبيعَة بعد وَفَاته وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ أَبوهُ فَأَقَامَ بمراكش بَقِيَّة ربيع الأول وربيع الثَّانِي ثمَّ نَهَضَ فِي فاتح جُمَادَى الأولى إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا بَقِيَّة السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ غزا جبال غمارة من أجل علودان الغماري الثائر بهَا فَفَتحهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فَأَتمَّ بِنَاء سورها الَّذِي كَانَ خربه عبد الْمُؤمن وَبنى قصبتها ورتب امورها وَأقَام بهَا إِلَى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَعَاد إِلَى مراكش وَأقَام بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ غَزْو النَّاصِر بِلَاد إفريقية وَولَايَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن أبي حَفْص عَلَيْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما هلك الْمَنْصُور رَحمَه الله قوي أَمر يحيى بن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بِابْن غانية بإفريقية وَاسْتولى على أَعمال قراقوش الْغَزِّي صَاحب طرابلس وعَلى المهدية وتغلب على بِلَاد الجريد ثمَّ نَازل تونس سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وافتتحها عنْوَة لأربعة أشهر من حصارها فِي ختام الْمِائَة السَّادِسَة وَقبض على السَّيِّد أبي زيد وَابْنه وَمن كَانَ مَعَه من الْمُوَحِّدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وطالب أهل تونس بِالنَّفَقَةِ الَّتِي أنْفق وَبسط عَلَيْهِم الْعَذَاب حَتَّى هلك فِي الامتحان كثير من بيوتاتهم ثمَّ دخل فِي دَعوته أهل القيروان وَغَيرهَا من الْبِلَاد وانتظمت لَهُ أَعمال إفريقية وَفرق الْعمَّال وخطب للخليفة العباسي واتصل بالناصر وَهُوَ بمراكش هَذَا كُله فامتعض لذَلِك وشاور الْمُوَحِّدين فِي أَمر إفريقية فأشاروا عَلَيْهِ بمسالمة ابْن غانية وَأَشَارَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص بالنهوض إِلَيْهَا والمدافعة عَنْهَا فَعمل على رَأْيه ونهض إِلَيْهَا سنة سِتّمائَة وَبعث الأسطول فِي الْبَحْر لنظر يحيى بن ابي زَكَرِيَّا الهزرجي واتصل ذَلِك بِابْن غانية فَبعث ذخائره وَحرمه إِلَى المهدية مَعَ عَليّ بن الغاني من قرَابَته وولاه عَلَيْهَا وَلما قرب النَّاصِر من إفريقية خرج ابْن غانية من تونس إِلَى القيروان ثمَّ إِلَى قفصة وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْعَرَب وَأَعْطوهُ الرهائن على المظاهرة والدفاع وَسَار إِلَى حمامة مطماطة ثمَّ إِلَى جبل بني دمر فتحصن بِهِ وَوصل النَّاصِر إِلَى تونس ثمَّ سَار فِي اتِّبَاع ابْن غانية إِلَى قفصة ثمَّ إِلَى قابس ثمَّ عَاد إِلَى المهدية فَعَسْكَرَ عَلَيْهَا وَاتخذ الْآلَة لحصارها وسرح الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد لقِتَال ابْن غانية فِي أَرْبَعَة آلَاف من الْمُوَحِّدين سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة فَلَقِيَهُ بجبل تاجورة من نواحي قابس وأوقع بِهِ وَقتل أَخَاهُ جبارَة بن إِسْحَاق واستنفذ السَّيِّد أَبَا زيد من معتقله وَأما النَّاصِر فَإِنَّهُ اسْتمرّ محاصرا للمهدية وَبهَا يَوْمئِذٍ عَليّ بن الغاني وَكَانَ يدعى بالحاج وَكَانَ شهما مُحَاربًا فَامْتنعَ على النَّاصِر وَأبْدى من مكايد الْحَرْب وخداعه مَا يقصر عَنهُ الْوَصْف وأشجى الْمُوَحِّدين وَبَالغ فِي نكايتهم فَكَانُوا يسمونه الْحَاج الْكَافِر ثمَّ نزل على الْأمان وَأحسن إِلَيْهِ النَّاصِر إحسانا تَاما وَسَماهُ بالحاج الْكَافِي بِالْيَاءِ بدل الرَّاء لما رأى من مُرَاعَاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 لصَاحبه وَحسن عَهده مَعَه وَاسْتشْهدَ الْحَاج الْكَافِي هَذَا فِي وقْعَة الْعقَاب الْآتِيَة وَكَانَ فتح المهدية فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَولى النَّاصِر عَلَيْهَا مُحَمَّد بن يغمور الهرغي وارتحل عَنْهَا فِي عشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة فَدخل تونس غرَّة رَجَب وَأقَام بهَا بَقِيَّة السّنة وَأكْثر الَّذِي بعْدهَا وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة ثَلَاث وسِتمِائَة أشاع النَّاصِر الْحَرَكَة إِلَى الْمغرب واستخلف على إفريقية ثقته ووزيره الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص الهنتاني جد الْمُلُوك الحفصيين بعد مُرَاجعَة وَامْتِنَاع قَالَ ابْن خلدون امْتنع الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد إِلَى أَن بعث إِلَيْهِ النَّاصِر فِي ذَلِك بِابْنِهِ يُوسُف فأكبر مَجِيئه وأذعن وَيُقَال إِن النَّاصِر قَالَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّد أَنْت تعلم مَا تجشمناه من المشاق والصوائر فِي استنقاذ هَذَا الْقطر وَلَا آمن عَلَيْهِ من عَدو متوثب وَلَا يقوم بحمايته إِلَّا أَنا أَو أَنْت فَامْضِ إِلَى حفظ ممالكنا المغربية وأقيم أَنا أَو قُم أَنْت وارجع أَنا فقنعه الْحيَاء حِينَئِذٍ وأذعن للإقامة وَاشْترط شُرُوطه الْمَعْرُوفَة وَهِي أَن يُقيم ثَلَاث سِنِين ريثما تترتب الْأَحْوَال ثمَّ يعود إِلَى وَطنه وَأَن يحكمه النَّاصِر فِيمَن يحْبسهُ مَعَه من الْجند ويرضاه من أهل الْكِفَايَة وَأَن لَا يتعقب أمره فِي ولَايَة وَلَا عزل فَقبل النَّاصِر شُرُوطه وَلما عزم النَّاصِر على النهوض إِلَى الْمغرب خرج إِلَيْهِ أهل تونس رافعي أَصْوَاتهم بَين يَدَيْهِ إشفاقا من عود ابْن غانية إِلَيْهِم فاستدعى وُجُوههم وكلمهم بِنَفسِهِ وَقَالَ إِنَّا قد اخترنا لكم من يقوم مقامنا فِيكُم وآثرناكم بِهِ على شدَّة حاجتنا إِلَيْهِ وَهُوَ فلَان فيباشر النَّاس بولايته وشيع النَّاصِر إِلَى باجة وَرجع واليا على جَمِيع بِلَاد إفريقية واستقل بأمرها ونهيها فَمن هُنَا ورثت الْمُلُوك الحفصيون سلطنة تونس وإفريقية وقفل النَّاصِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 إِلَى الْمغرب فَدخل مراكش فِي ربيع سنة أَربع وسِتمِائَة وَلما اسْتَقر بالحضرة وفدت عَلَيْهِ الْوُفُود وهنأته الشُّعَرَاء بِالْفَتْح فَكَانَ من ذَلِك مَا أنْشدهُ ابْن مرج الْكحل وَهُوَ قَوْله (وَلما توالى الْفَتْح من كل وجهة ... وَلم تبلغ الأوهام فِي الْوَصْف حَده) (تركنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لشكره ... بِمَا أودع السِّرّ الإلهي عِنْده) (فَلَا نعْمَة إِلَّا تُؤَدّى حُقُوقهَا ... علامته بِالْحَمْد لله وَحده) فَاسْتحْسن الْكتاب مِنْهُ ذَلِك وَوَقع أحسن موقع وَأَشَارَ بذلك إِلَى الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة عِنْد الْمُوَحِّدين فَإِنَّهَا كَانَت أَن يكْتب السُّلْطَان بِيَدِهِ بِخَط غليظ فِي رَأس المنشور الْحَمد لله وَحده وَقد تقدم ذَلِك وَالله أعلم فتح جَزِيرَة ميورقة كَانَت جَزِيرَة ميورقة لبني غانية المسوفيين من عهد عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين اللمتوني وَكَانَ يَعْقُوب الْمَنْصُور قد بعث إِلَيْهَا أسطوله مرَارًا فامتنعت عَلَيْهِ وَلما ولي ابْنه النَّاصِر وغزا إفريقية وَجه إِلَيْهَا من ثغر الجزائر أسطولا مَعَ عَمه السَّيِّد أبي الْعَلَاء وَالشَّيْخ أبي سعيد بن أبي حَفْص فنازلوها ثمَّ اقتحموها عنْوَة وَقتلُوا صَاحبهَا عبد الله بن إِسْحَاق المسوفي وَانْصَرف السَّيِّد إِلَى مراكش بعد أَن ولي عبد الله بن طاع الله الكومي ووفد أَهلهَا على النَّاصِر فَأكْرم وفادتهم وَولي الْقَضَاء عَلَيْهِم الْفَقِيه الْجَلِيل الْمُحدث أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بِابْن حوط الله ذكره ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة فَقَالَ كَانَ مَشْهُورا بِالْعقلِ وَالْفضل مُعظما عِنْد الْمُلُوك مَعْلُوم الْقدر لديهم يخْطب فِي مجَالِس الْأُمَرَاء والمحافل الجمهورية مقدما فِي ذَلِك ذَا بلاغة وفصاحة إِلَى أبعد مضمار ولي قَضَاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسلا وميورقة فتظاهر بِالْعَدْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَعرف بِمَا أبطن من الدّين وَالْفضل وَكَانَ من الْعلمَاء العاملين مجانبا لأهل الْبدع والأهواء بارع الْخط حسن التَّقْيِيد إِلَى غير ذَلِك ثمَّ ولى النَّاصِر على ميورقة عَمه السَّيِّد أَبَا زيد وَجعل ابْن طاع الله على قيادة الْبَحْر وَبعد السَّيِّد أبي زيد وَليهَا السَّيِّد أَبُو عبد الله بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن ثمَّ أَبُو يحيى بن عَليّ بن أبي عمرَان التينمللي وَمن يَده أَخذهَا النَّصَارَى سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما ثورة ابْن الْفرس وَمَا كَانَ من أمره كَانَ عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن الْفرس من طبقَة الْعلمَاء بالأندلس وَيعرف بِالْمهْرِ وَحضر مجْلِس يَعْقُوب الْمَنْصُور فِي بعض الْأَيَّام وَتكلم بِمَا خشِي عاقبته فِي عقده فَخرج من الْمجْلس واختفى مُدَّة ثمَّ القحطاني المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يخرج رجل من قحطان يَسُوق النَّاس بعصاه يملأها عدلا كَمَا ملئت جورا الحَدِيث وَكَانَ مِمَّا نسب إِلَيْهِ من الشّعْر قَوْله (قولا لأبناء الْمُؤمن بن عَليّ ... تأهبوا لوُقُوع الْحَادِث الجلل) (قد جَاءَ سيد قحطان وعالمها ... ومنتهى القَوْل والغلاب للدول) (وَالنَّاس طوع عَصَاهُ وَهُوَ سائقهم ... بِالْأَمر وَالنَّهْي بَحر الْعلم وَالْعَمَل) (وَبَادرُوا أمره فَالله ناصره ... وَالله خَادع أهل الزيغ والميل) فَبعث النَّاصِر إِلَيْهِ الجيوش فهزموه وَقتل وسيق رَأسه إِلَى مراكش فنصب بهَا وسكنت الْفِتْنَة وَقد ثار أَيْضا فِي سنة سِتّمائَة رجل من آل الْبَيْت من العبيديين واسْمه مُحَمَّد بن عبد الله بن العاضد وَهَذَا العاضد هُوَ آخر خلفاء الشِّيعَة بِمصْر فثار حافده مُحَمَّد بن عبد الله الْمَذْكُور بجبال ورغة من أحواز فاس فظفر بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَقتل وعلق رَأسه بِبَاب الشَّرِيعَة أحد أَبْوَاب فاس وأحرق جسده فِي وسط الْبَاب الْمَذْكُور وَركبت مصارعه فَسُمي الْبَاب بَاب المحروق بعد أَن كَانَ يُسمى بَاب الشَّرِيعَة ثمَّ فِي سنة عشر وسِتمِائَة ثار ولد هَذَا المحروق بجبال غمارة وَادّعى أَنه الفاطمي وَتَبعهُ خلق كثير من أهل الْجَبَل والبادية فَبعث إِلَيْهِ النَّاصِر جَيْشًا فظفر بِهِ وَقتل وَفِي سنة إِحْدَى وسِتمِائَة بنى عَامل الرِّيف من قبل النَّاصِر واسْمه يعِيش سور بادس ولمديه ومليلية حياطة وتحصينا من فَجْأَة الْعَدو وَفِي سنة أَربع وسِتمِائَة أَمر النَّاصِر بتجديد سور مَدِينَة وَجدّة وإصلاحها فشرع فِي ذَلِك فِي فاتح رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا أَيْضا أَمر النَّاصِر بِبِنَاء دَار الْوضُوء والسقاية بِإِزَاءِ جَامع الأندلس بفاس فبنيت وجلب إِلَيْهَا المَاء من الْعين الَّتِي خَارج بَاب الْحَدِيد وَأمر بِبِنَاء الْبَاب الْكَبِير المدرج الَّذِي بحصن الْجَامِع الْمَذْكُور وَأنْفق فِي ذَلِك كُله من بَيت المَال وفيهَا أَيْضا أَمر بِبِنَاء مصلى الْقرَوِيين وَأمر أَن لَا يصلى بمصلى الأندلس فَأَقَامَ النَّاس يصلونَ بعدوة الْقرَوِيين ثَلَاث سِنِين ثمَّ عَادوا يصلونَ بالأندلس والقرويين مَعًا كَمَا كَانُوا أَولا بعد أَن شهد أَنَّهَا قديمَة وَفِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة نَهَضَ النَّاصِر من فاس إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 غَزْوَة الْعقَاب الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين ثمَّ اتَّصَلت الْأَخْبَار بالناصر وَهُوَ بمراكش أَن الفنش لَعنه الله قد استطال على ثغور الْمُسلمين بالأندلس وَأَنه يُغير على قراها وينهب الْأَمْوَال وَيَسْبِي النِّسَاء والذرية فأهمه ذَلِك وأقلقه وَكتب إِلَى الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية يستشيره فِي الْغَزْو فَأبى عَلَيْهِ فخالفه وَأخذ فِي الْحَرَكَة للْجِهَاد وَكَانَ النَّاصِر معجبا بِرَأْيهِ مستبدا بأموره فَفرق الْأَمْوَال على القواد والأجناد وَكتب إِلَى جَمِيع بِلَاد إفريقية وَالْمغْرب وبلاد الْقبْلَة يستنفر الْمُسلمين لغزو الْكفَّار فَأَجَابَهُ خلق كثير وألزم كل قَبيلَة من قبائل الْعَرَب بِحِصَّة من الْخَيل وَالرجل تخرج للْجِهَاد فتقدمت عَلَيْهِ الجيوش من سَائِر الأقطار وتسارع النَّاس إِلَيْهِ خفافا وثقالا من الْبَوَادِي والأمصار فَلَمَّا تكاملت لَدَيْهِ الحشود وتوافت بِحَضْرَتِهِ الْجنُود خرج من مراكش فِي تَاسِع عشر شعْبَان سنة سبع وسِتمِائَة فَانْتهى إِلَى قصر الْمجَاز فَأَقَامَ بِهِ وَشرع فِي إجَازَة الجيوش من أَوَائِل شَوَّال إِلَى أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَتَلقاهُ هُنَالك قواد الأندلس وفقهاؤها ورؤساؤها وَأقَام بطريف ثَلَاثًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى إشبيلية فِي أُمَم لَا تحصى وجيوش لَا تستقصى قد مَلَأت السهل والوعر حكى بعض الثِّقَات من مؤرخي الْمغرب أَنه اجْتمع مَعَ النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة من أهل الْمغرب والأندلس سِتّمائَة ألف مقَاتل وَكَانَ النَّاصِر رَحمَه الله قد أعجبه مَا رأى من كَثْرَة جُنُوده وأيقن بالظفر فقسم النَّاس على خمس فرق فَجعل الْعَرَب فرقة وزناتة وصنهاجة والمصامدة وغمارة وَسَائِر أَصْنَاف قبائل الْمغرب فرقة وَجعل المتطوعة فرقة وَجعل جند الأندلس فرقة والموحدين فرقة وَأمر كل فرقة أَن تنزل نَاحيَة واهتزت جَمِيع بِلَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الفرنج لجوازه وَتمكن رعبه فِي قُلُوبهم فَأخذُوا فِي تحصين بِلَادهمْ وإخلاء مَا قرب من الْمُسلمين من قراهم وحصونهم وَكتب إِلَيْهِ أَكثر أمرائهم يسألونه السّلم وَيطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو ووفد عَلَيْهِ مِنْهُم ملك ينبلونة مستسلما خاضعا طَالبا للصلح فَيُقَال إِنَّه قدم بَين يَدَيْهِ كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كتبه إِلَى هِرقل ملك الرّوم يستشفع بِهِ وَقد كَانَ هَذَا الْكتاب وَقع إِلَيْهِ وراثة من بعض سلفه فاحتفل النَّاصِر لقدومه وصف لَهُ الجيوش من بَاب مَدِينَة قرمونة إِلَى بَاب إشبيلية أَرْبَعِينَ ميلًا ثمَّ عقد لَهُ الصُّلْح مَا دَامَت دولة الْمُوَحِّدين وَصَرفه إِلَى بِلَاده مكرما مسعفا بِجَمِيعِ مطالبه وَعند ابْن خلدون أَن الَّذِي وَفد على النَّاصِر فِي هَذِه الْغَزْوَة هُوَ البيبوج أحد الْمُلُوك الثَّلَاثَة الَّذين شهدُوا وقْعَة الْأَرَاك قَالَ وَهُوَ الَّذِي مكر بالناصر يَوْم الْعقَاب قدم عَلَيْهِ وَأظْهر لَهُ التنصح وبذل لَهُ أَمْوَالًا ثمَّ غدر بِهِ وجر عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَالله أعلم ثمَّ خرج النَّاصِر من إشبيلية غازيا بِلَاد قشتالة فِي أَوَائِل صفر سنة ثَمَان وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل حصن سلبطرة وَهُوَ حصن منيع وضع على قمة جبل وَقد تعلق بِأَكْنَافِ السَّحَاب لَيْسَ لَهُ مَسْلَك إِلَّا من طَرِيق وَاحِد فِي مضائق وأوعار فَنزل عَلَيْهِ لناصر وأدار بِهِ الجيوش وَنصب عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ منجنيقا فهتك أرباضه وَلم يقدر مِنْهُ على شَيْء قَالُوا وَكَانَ وزيره أَبُو سعيد بن جَامع قد تمكن من النَّاصِر فأقصى شُيُوخ الْمُوَحِّدين وأعيانهم وَذَوي الحنكة والرأي مِنْهُم عَن بساطه وَانْفَرَدَ هُوَ بِهِ فَكَانَ يُشِير على النَّاصِر فِي غزوته هَذِه بآراء كَانَت سَبَب الضعْف والوهن وجلبت الكرة على الْمُسلمين من ذَلِك أَن النَّاصِر لما أعياه أَمر الْحصن عزم على النهوض عَنهُ إِلَى غَيره فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْن جَامع بِأَن لَا يتجاوزه حَتَّى يَفْتَحهُ فَيُقَال إِنَّه أَقَامَ على ذَلِك الْحصن ثَمَانِيَة اشهر فنيت فِيهَا أزواد النَّاس وَقلت علوفاتهم وكلت عزائمهم وفسدت نياتهم وانقطعت الأمداد عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 الْمحلة فغلت بهَا الأسعار وَدخل فصل الشتَاء فَاشْتَدَّ الْبرد وَأصَاب الْمُسلمين كل ضرّ وَيُقَال إِنَّه من طول مقَام النَّاصِر على ذَلِك الْحصن عشش الخطاف فِي جَانب خبائه وباض وأفرخ وطارت فِرَاخه وَهُوَ مُقيم على حَاله واتصل بالفنش لَعنه الله مَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُسلمين من الضجر وَقلة الْمَادَّة وتشوش البواطن وَاخْتِلَاف الرَّأْي فاغتنم الفرصة وَبعث الحاشرين فِي مدائنه ودعا كل من قدر على حمل السِّلَاح من رَعيته فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَا لَا حصر لَهُ ثمَّ خَالف النَّاصِر إِلَى قلعة ريَاح فنازلها وَبهَا يَوْمئِذٍ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن قادس من قواد الأندلس وزعمائها كَانَ قد ترَتّب فِي ذَلِك الْحصن فِي جمَاعَة من الْخَيل لحمايته وَضَبطه فحاصره الفنش وَبَالغ فِي التَّضْيِيق عَلَيْهِ فَكَانَ ابْن قادس يكْتب لأمير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر يُعلمهُ بِحَالهِ ويستمده على عدوه وَهُوَ على حصن سلبطرة فَكَانَ الْوَزير ابْن جَامع إِذا وصلت إِلَيْهِ كتب ابْن قادس أخفاها عَن النَّاصِر لِئَلَّا يرحل عَن الْحصن قبل فَتحه فَلَمَّا طَال الْحصار على ابْن قادس وفنى مَا عِنْده من الأقوات وَالسِّلَاح ويئس من إمداد النَّاصِر إِيَّاه وخشي على من فِي الْحصن من النِّسَاء والذرية صَالح الفنش على تَسْلِيم الْحصن لَهُ وَخُرُوج الْمُسلمين آمِنين على أنفسهم فَفعل وَاسْتولى الفنش على قلعة رَبَاح وَسَار ابْن قادس إِلَى النَّاصِر ليجتمع بِهِ ويعلمه بِالْأَمر على وَجهه وَسَار مَعَه صهر لَهُ بعد أَن عزم ابْن قادس عَلَيْهِ أَن يرجع فَأبى وَقَالَ إِن قتلت قتلت مَعَك وَلما وصل إِلَى الْوَزير ابْن جَامع أَمر بحبسه وَحبس صهره مَعَه ثمَّ دخل على النَّاصِر فَقَالَ لَهُ إِن ابْن قادس قد دفع الْحصن إِلَى الْعَدو ثمَّ قدم عَلَيْك وَأَرَادَ الدُّخُول عَلَيْك وَكَانَ النَّاصِر قد تغير بَاطِنه على أهل الأندلس واتهمهم بكتمان أَمر الْعَدو عَنهُ حِين كَانَ بمراكش فَلَمَّا قدم ابْن قادس فِي هَذِه الْمرة وَقَالَ لَهُ ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 جَامع مَا قَالَ أَمر بقتْله هُوَ وصهره قطعا بِالرِّمَاحِ رحمهمَا الله فحقدت جيوش الأندلس على ابْن جَامع وفسدت نياتهم على النَّاصِر وأحس ابْن جَامع بذلك فَأمر بإحضار قوادهم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ اعتزلوا جَيش الْمُوَحِّدين فَلَا حَاجَة لنا بكم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} وسننظر بعد هَذَا فِي أَمر كل فَاجر وَلما علم النَّاصِر بِحَال الفنش وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْقُوَّة وَكَثْرَة الجموع واستيلائه على قلعة ريَاح الَّتِي هِيَ أمنع ثغور الْمُسلمين شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب حَتَّى مرض من شدَّة الوجد ثمَّ شدد فِي قتال سلبطرة وبذل الْأَمْوَال الجليلة حَتَّى فتحهَا صلحا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وسِتمِائَة ثمَّ زحف الفنش إِلَى النَّاصِر ونهض النَّاصِر إِلَيْهِ فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يعرف بحصن العقبان فَضرب المصاف وَضرب للناصر قُبَّته الْحَمْرَاء الْمعدة لِلْقِتَالِ على رَأس ربوة وَقعد أمامها على درقته وفرسه قَائِم بإزائه ودارت العبيد بالقبة من كل نَاحيَة وَمَعَهُمْ السِّلَاح التَّام ووقفت الساقات والبنود والطبول أَمَام العبيد مَعَ الْوَزير ابْن جَامع وَأَقْبَلت جموع الفرنج على مصافها كَأَنَّهَا الْجَرَاد المنشر فتقدمت إِلَيْهِم المتطوعة وحملوا عَلَيْهِم أَجْمَعُونَ وَكَانُوا مائَة وَسِتِّينَ ألفا فغابوا فِي صفوفهم وانطبقت عَلَيْهِم الفرنج فَاقْتَتلُوا قتالا شَدِيدا فاستشهد المتطوعة عَن آخِرهم هَذَا وعساكر الْمُوَحِّدين وَالْعرب والأندلس ينظرُونَ إِلَيْهِم لم يُحَرك إِلَيْهِم مِنْهُم أحد وَلما فرغ الفرنج من المتطوعة حملُوا بأجمعهم على عَسَاكِر الْمُوَحِّدين وَالْعرب حَملَة مُنكرَة فَلَمَّا انتشب الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ فرقت قواد الأندلس وجيوشها لما كَانُوا قد حقدوه على ابْن جَامع فِي قتل ابْن قادس أَولا وتهديدهم وطرده لَهُم ثَانِيًا فجروا الْهَزِيمَة على الْمُسلمين وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وتبعهم قبائل البربر والموحدون الْعَرَب وركبتهم الفرنج بِالسَّيْفِ وكشفوهم عَن النَّاصِر حَتَّى انْتَهوا إِلَى الدائرة الَّتِي دارت عَلَيْهِ من العبيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 والحشم فألفوها كالبنيان المرصوص لم يقدروا مِنْهَا على شَيْء وَدفع الفرنج بخيلهم المدرعة على رماح العبيد وَهِي مشرعة إِلَيْهِم فَدَخَلُوا فِيهَا والناصر قَاعد على درقته أَمَام خبائه يَقُول صدق الرَّحْمَن وَكذب الشَّيْطَان حَتَّى كَانَت الفرنج تصل إِلَيْهِ وَحَتَّى قتل حوله من عبيد الدائرة نَحْو عشرَة آلَاف ثمَّ أقبل إِلَيْهِ بعض فرسَان الْعَرَب على فرس لَهُ أُنْثَى فَقَالَ لَهُ إِلَى مَتى قعودك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد نفذ حكم الله وَتمّ أمره وفنى الْمُسلمُونَ فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ النَّاصِر إِلَى جواد لَهُ سَابق كَانَ إِمَامه فَأَرَادَ أَن يركبه فترجل الْعَرَبِيّ عَن فرسه وَقَالَ لَهُ اركب هَذِه الْحرَّة فَإِنَّهَا لَا ترْضى بِعَارٍ فَلَعَلَّ الله ينجيك عَلَيْهَا فَإِن فِي سلامتك الْخَيْر كُله فركبها النَّاصِر وَركب الْعَرَبِيّ جَوَاده وَتقدم أَمَامه فِي كوكبة عَظِيمَة من العبيد مُحِيطَة بهم والفرنج فِي أَعْقَابهم تقتلهم ونادى مُنَادِي الفنش يَوْمئِذٍ أَلا لَا أسر إِلَّا الْقَتْل وَمن أَتَى بأسير قتل هُوَ وأسيره فحكمت سيوف الفرنج فِي الْمُسلمين إِلَى اللَّيْل وَكَانَت هَذِه الرزية الْعَظِيمَة يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر صفر سنة تسع وسِتمِائَة فَذَهَبت قُوَّة الْمُسلمين بالمغرب ولأندلس من يَوْمئِذٍ وَلم تنصر لَهُم بعْدهَا راية مَعَ الفرنج إِلَى أَن تدارك الله رَمق الأندلس بالسلطان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني رَحمَه الله كَمَا سنقص خبر ذَلِك مُسْتَوفى عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله قَالَ ابْن الْخَطِيب لما لحق النَّاصِر بإشبيلية حمل السَّيْف على طَائِفَة كَبِيرَة مِمَّن تَوَجَّهت إِلَيْهِم الظنة وَقَالَ ابْن خلدون ثمَّ رجعت الفرنج إِلَى ألأندلس بعد الكائنة للإغارة على بِلَاد الْمُسلمين فَلَقِيَهُمْ السَّيِّد أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن قَرِيبا من إشبيلية فَهَزَمَهُمْ وانتعش الْمُسلمُونَ بهَا واتصلت الْحَال على ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَفَاة النَّاصِر رَحمَه الله قَالَ ابْن أبي زرع لما قدم النَّاصِر إِلَى مراكش منصرفا من وقْعَة الْعقَاب أَخذ الْبيعَة لوَلَده يُوسُف الملقب بالمنتصر فَبَايعهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وخطب لَهُ على جَمِيع مَنَابِر الْمغرب والأندلس فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من ذِي الْحجَّة سنة تسع وسِتمِائَة وَلما تمت لَهُ الْبيعَة دخل النَّاصِر قصره واحتجب فِيهِ عَن النَّاس وانغمس فِي لذاته مصطحبا ومغتبقا إِلَى شعْبَان من سنة عشر وسِتمِائَة فَمَاتَ مسموما بتدبير وزرائه عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي عشر من شعْبَان الْمَذْكُور وَقَالَ ابْن خلكان تَقول المغاربة إِن النَّاصِر رَحمَه الله كَانَ قد أوصى إِلَى عبيده المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أَن كل من ظهر لَهُم بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُبَاح الدَّم لَهُم ثمَّ أَرَادَ أَن يختبر قدر أمره عِنْدهم فتنكد وَجعل يمشي فِي الْبُسْتَان لَيْلًا فعندما رَأَوْهُ جَعَلُوهُ غَرضا لرماحهم فَجعل يَقُول أَنا الْخَلِيفَة أَنا الْخَلِيفَة فَمَا تحققوه حَتَّى فرغوا مِنْهُ وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك قلت الصَّحِيح فِي وَفَاة النَّاصِر مَا ذكره الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل قَالَ ثمَّ صرف النَّاصِر وَجهه إِلَى غَزْو الأندلس فِي عزم لم يبلغ إِلَيْهِ ملك قبله وَلما احتل رِبَاط الْفَتْح من سلا نزل بِهِ الْمَوْت فَتوفي لَيْلَة الثُّلَاثَاء عَاشر شعْبَان سنة عشر وسِتمِائَة فانحل الْعَزْم وَتَفَرَّقَتْ الجموع والبقاء لَهُ وَحده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ يُوسُف الْمُنْتَصر بِاللَّه ابْن النَّاصِر بن الْمَنْصُور رَحمَه الله لما هلك مُحَمَّد النَّاصِر لدين الله بُويِعَ ابْنه أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْمَنْصُور وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة ولقب بالمنتصر بِاللَّه وَغلب عَلَيْهِ الْوَزير أَبُو سعيد بن جَامع ومشيخة الْمُوَحِّدين فَقَامُوا بأَمْره واستبدوا عَلَيْهِ وتأخرت بيعَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص من إفريقية لصِغَر سنّ الْمُنْتَصر ثمَّ وَقعت المحاولة من الْوَزير ابْن جَامع وَصَاحب الأشغال عبد الْعَزِيز بن أبي زيد فوصلت بيعَته حِينَئِذٍ واشتغل الْمُنْتَصر عَن تَدْبِير الْأَمر وَالْجهَاد بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّبَاب وَعقد للسادات على عمالات ملكه فعقد للسَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم إِسْحَاق بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن ويلقب بِالظَّاهِرِ على فاس وأعمالها وَهُوَ أَخُو الْمَنْصُور ووالد عمر المرتضى الْآتِي ذكره وَعقد لِعَمِّهِ السَّيِّد أبي إِسْحَاق بن الْمَنْصُور على إشبيلية وَمَا اضيف إِلَيْهَا ولعمه أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْمَنْصُور على بلنسية وشاطبة وأعمالها ولعمه أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْمَنْصُور على مرسية ودانية وأعمالها وَبعث مَعَه الشَّيْخ أَبَا زيد بن يرجان وَكَانَ من أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين ودهاتهم وَفِي دولة الْمُنْتَصر هَذَا فشل أَمر الْمُوَحِّدين وَذَهَبت ريحهم وأشرفت دولتهم على الْهَرم وَاسْتولى الفنش على المعاقل الَّتِي أَخذهَا الْمُسلمُونَ وَهزمَ حامية الأندلس فِي كل جِهَة واستبدت السَّادة بالأطراف والتاثت الْأُمُور بالأندلس وَالْمغْرب أجمع أما الأندلس فبتكالب الْعَدو عَلَيْهَا وفناء حماتها وَأما الْمغرب فبخلاء كثير من قراه وأمصاره من وقْعَة الْعقَاب ثمَّ ظَهرت بَنو مرين بِجِهَة فاس سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَكَانُوا موطنين بصحراء فيجيج وَمَا والاها فاقتحموا الْمغرب فِي هَذِه السنين لخلائه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 من الحامية واكتسحوا بسائطه بالغارت وانحازت رعاياه إِلَى المعاقل والحصون وَكَثُرت الشكايات بهم إِلَى الْمُنْتَصر وَهُوَ مُقيم بمراكش فَكتب إِلَى السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم صَاحب فاس يَأْمُرهُ بغزوهم فَخرج إِلَيْهِم وَهُوَ بِبِلَاد الرِّيف فأوقعوا بِهِ وقْعَة شنعاء كَانَت باكورة فتحهم وَعَاد السَّيِّد مفلولا إِلَى فاس وَأَصْحَابه عُرَاة بَين يَدَيْهِ يخصفون عَلَيْهِم من ورق النَّبَات الْمَعْرُوف بالمشعلة فسميت السّنة سنة المشعلة وَكَانُوا قد أَسرُّوا السَّيِّد أَبَا إِبْرَاهِيم ثمَّ عرفوه فأطلقوه ثمَّ صمدت بَنو مرين بعْدهَا إِلَى تازا ففلوا حاميتها وعظمت شوكتهم بالمغرب على مَا نذكرهُ بعد أَن شَاءَ الله وَفِي سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة هزم الْمُسلمُونَ بقصر أبي دانس من الأندلس وَهِي من الهزائم الْكِبَار الَّتِي تقرب من هزيمَة الْعقَاب لِأَن الْعَدو كَانَ قد نزل قصر أبي دانس وحاصره فَخرج إِلَيْهِ جَيش إشبيلية وجيش قرطبة وجيش جيان وحشود بِلَاد غرب الأندلس لاستنقاذ قصر أبي دانس وَكَانَ ذَلِك بِأَمْر الْمُنْتَصر فَسَارُوا يؤمُّونَ الْعَدو فَلم تقع عينهم على عينه إِلَّا وَقد خامر قُلُوب الْمُسلمين الرعب وولوا الأدبار لما كَانَ قد رسخ فِي نُفُوسهم من بأسه يَوْم الْعقَاب فتكالب الْعَدو بعْدهَا على الْمُسلمين وتمرس بهم وَهَان عَلَيْهِ أَمرهم وخشعت نُفُوسهم لَهُ وَلما فروا مِنْهُ فِي هَذِه الخرجة ركبهمْ بِالسَّيْفِ وقتلهم عَن آخِرهم وَرجع الفنش إِلَى قصر أبي دانس فحاصره حَتَّى اقتحمه عنْوَة وَقتل جَمِيع من بِهِ من الْمُسلمين وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة توفّي صَاحب إفريقية الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص فَبَايع الموحدون بإفريقية ابْنه ابا زيد عبد الرَّحْمَن فَقَامَ بِالْأَمر وأطفأ النائرة وافاض الْعَطاء ومهد النواحي ورتب الْأُمُور حَتَّى ورد كتاب الْمُنْتَصر من مراكش لثَلَاثَة أشهر من ولَايَته بِتَأْخِيرِهِ وتولية السَّيِّد أبي الْعَلَاء الْأَكْبَر مَكَانَهُ وَهُوَ إِدْرِيس بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فَقدم إفريقية فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة ووالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الهزائم على ابْن غانية الثائر بإفريقية حَتَّى شرد إِلَى الصَّحرَاء وَأَبُو الْعَلَاء هَذَا هُوَ الَّذِي بنى البرجين اللَّذين على بَاب المهدية وحصنها وَهُوَ الَّذِي بنى برج الذَّهَب بإشبيلية أَيَّام ولَايَته عَلَيْهَا فِي دولة أَبِيه وَأقَام أَبُو الْعَلَاء بإفريقية إِلَى أَن توفّي بتونس مِنْهَا فِي شعْبَان سنة عشْرين وسِتمِائَة وَاسْتولى على إفريقية بعده ابْنه أَبُو زيد بن إِدْرِيس وَسَاءَتْ سيرته فِي النَّاس وَأقَام على ذَلِك إِلَى دولة الْعَادِل عبد الله بن الْمَنْصُور صَاحب مراكش فَعَزله وَولى مَكَانَهُ عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص ثمَّ غلب عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وتداول ملك إفريقية بنوه من بعده واستبدوا بهَا واقتطعوها عَن نظر بني عبد الْمُؤمن أَصْحَاب مراكش فَلم تعد إِلَيْهِم بعد وَأما يُوسُف الْمُنْتَصر فَإِنَّهُ اسْتمرّ مُقيما بمراكش على لذاته إِلَى أَن توفّي وَكَانَ من خبر وَفَاته أَنه كَانَ مُولَعا باتخاذ الْحَيَوَان واستنتاجه فَكَانَ يُؤْتى إِلَيْهِ بأصناف الْبَقر من الأندلس فيرسلها فِي بستانه الْكَبِير من حَضْرَة مراكش وَيحمل بَعْضهَا على بعض للتناسل فَخرج ذَات يَوْم للتطوف على تِلْكَ الْبَقر وَالنَّظَر إِلَيْهَا فتوسط قطيعا مِنْهَا وَقد ركب فنشيا فأنكرته بقرة شرود كَانَت فِي ذَلِك القطيع فطعنته فِي صَدره طعنة أَتَت عَلَيْهِ من حِينه وَذَلِكَ فِي عشي يَوْم السبت الثَّانِي عشرَة من ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وسِتمِائَة وَلم يخلف إِلَّا حملا من جَارِيَة لَهُ قَالَ ابْن خلكان لم يكن فِي بني عبد الْمُؤمن أحسن وَجها من الْمُنْتَصر وَلَا أبلغ فِي المخاطبة إِلَّا أَنه كَانَ مشغوفا براحته فَلم يبرح عَن حَضرته فضعفت الدولة فِي أَيَّامه وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْوَاحِد المخلوع ابْن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رَحمَه الله لما هلك الْمُنْتَصر فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع الْوَزير ابْن جَامع والموحدون وَبَايَعُوا للسَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن يُوسُف وَهُوَ أَخُو الْمَنْصُور قَالَ ابْن أبي زرع بَايعُوهُ على كره مِنْهُ بقبة الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَهُوَ يَوْمئِذٍ فِي سنّ الشيخوخة وَكَانَ عَالما فَاضلا متورعا فاستقام لَهُ الْأَمر نَحْو شَهْرَيْن وخطب لَهُ فِي جَمِيع أَعمال الْمُوَحِّدين مَا عدا مرسية فَإِن ابْن أَخِيه السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْمَنْصُور الملقب بالعادل كَانَ واليا عَلَيْهَا وَكَانَ وزيره بهَا الشَّيْخ أَبَا زيد بن يرجان الْمَعْرُوف بالأصفر وَكَانَ من دهاة الْمُوَحِّدين وَكَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله إِذا رَآهُ يستعيذ بِاللَّه من شَره وَيَقُول مَاذَا يجْرِي على يَديك من الْفِتَن يَا اصفر وَكَانَ من خَبره أَنه لما بُويِعَ المخلوع أَمر بِإِطْلَاق ابْن يجارن لِأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا على مَا عِنْد ابْن خلدون فَأطلق ثمَّ صده ابْن جَامع عَن ذَلِك وأنفذ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاق فِي الأسطول ليغربه إِلَى ميورقة فلاذ ابْن يرجان حِينَئِذٍ بِعَبْد الله بن الْمَنْصُور صَاحب مرسية وَنزل مِنْهُ منزلَة الْوَزير وأغراه بالتوثب على الْأَمر وَشهد لَهُ أَنه سمع من الْمَنْصُور رَحْمَة الله الْعَهْد لَهُ بالخلافة من بعد النَّاصِر وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ إِنَّك أَحَق بالخلافة من عبد الْوَاحِد أَنْت ولد الْمَنْصُور وأخو النَّاصِر وَعم الْمُنْتَصر وَلَك الرَّأْي وَحسن السياسة والحزم وَلَو دَعَوْت الْمُوَحِّدين إِلَى بيعتك لم يخْتَلف عَلَيْك اثْنَان وَكَانَ النَّاس على كره من ابْن جَامع وولاة الأندلس يَوْمئِذٍ كلهم بَنو الْمَنْصُور فأصغى إِلَيْهِ عبد الله هَذَا وَكَانَ مترددا فِي بيعَة عَمه فبرز إِلَى مجْلِس حكمه واستدعى من بمرسية وأعمالها من الْمُوَحِّدين وَالْفُقَهَاء والأشياخ فَدَعَاهُمْ إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ وَتسَمى بالعادل وَكَانَ إخْوَته أَبُو الْعَلَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الْأَصْغَر صَاحب قرطبة وَأَبُو الْحسن صَاحب غرناطة وَأَبُو مُوسَى صَاحب مالقة فَبَايعُوهُ سرا وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي عبد الله بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن الْمَعْرُوف بالبياسي صَاحب جيان وَقد عَزله المخلوع بِعَمِّهِ أبي الرّبيع بن أبي حَفْص فَانْتقضَ وَبَايع للعادل وزحف مَعَ ابي الْعَلَاء صَاحب قرطبة وَهُوَ أَخُو الْعَادِل إِلَى إشبيلية وَبهَا عبد الْعَزِيز أَخُو الْمَنْصُور والمخلوع فَدخل فِي دعوتهم وَامْتنع السَّيِّد أَبُو زيد بن أبي عبد الله أَخُو البياسي عَن بيعَة الْعَادِل وَتمسك بِطَاعَة المخلوع وَخرج الْعَادِل من مرسية إِلَى إشبيلية فَدَخلَهَا مَعَ أبي زيد بن يرجان وَبلغ الْخَبَر إِلَى مراكش فَاخْتلف الموحدون على المخلوع وَبَادرُوا بعزل ابْن جَامع وتغريبه إِلَى هسكورة لكراهيتهم لَهُ وَجَرت خطوب أفضت إِلَى خلع عبد الْوَاحِد وَقَتله وَفِي القرطاس أَن عبد الْوَاحِد الْعَادِل كتب إِلَى أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين الَّذين بِحَضْرَة مراكش يَدعُوهُم إِلَى بيعَته وخلع عبد الْوَاحِد وَوَعدهمْ على ذَلِك الْأَمْوَال الجزيلة والمنازل الرفيعة والولايات الجليلة فسارعوا إِلَى ذَلِك ودخلوا على عبد الْوَاحِد وتهددوه بِالْقَتْلِ إِلَّا أَن يخلع نَفسه ويبايع للعادل فأجابهم إِلَى ذَلِك فَخَرجُوا عَنهُ ووكلوا بِالْقصرِ من يحفظه وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد بعده دخلُوا على عبد الْوَاحِد الْقصر وأحضروا القَاضِي وَالْفُقَهَاء والأشياخ فَأشْهد على نَفسه بِالْخلْعِ وَبَايع للعادل ثمَّ دخلُوا عَلَيْهِ بعد مُضِيّ ثَلَاث عشرَة لَيْلَة من خلعه فخنقوه حَتَّى مَاتَ وانتهبوا قصره واستولوا على أَمْوَاله وحريمه فَكَانَ عبد الْوَاحِد هَذَا أول من خلع وَقتل من بني عبد الْمُؤمن وَصَارَ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين لخلفائهم كالأتراك لبني الْعَبَّاس فَكَانَ فعلهم ذَلِك سَببا لذهاب ملكهم وانقراض دولتهم وَالله تَعَالَى لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَكَانَت وَفَاة عبد الْوَاحِد المخلوع خَامِس رَمَضَان الْمُعظم سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الله الْعَادِل ابْن الْمَنْصُور رَحمَه الله بُويِعَ لَهُ الْبيعَة الأولى بمرسية من بِلَاد الأندلس منتصف صفر سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة وتلقب بالعادل فِي أَحْكَام الله ثمَّ خلص لَهُ الْأَمر وَبَايَعَهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وخطب لَهُ بِحَضْرَة مراكش أَوَاخِر شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَتوقف عَن بيعَته السَّيِّد أَبُو زيد بن أبي عبد الله أَخُو البياسي كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَكَانَ واليا على بلنسية وشاطبة ودانية وَلما رأى السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد البياسي أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا زيد توقف عَن بيعَة الْعَادِل وَضبط بِلَاده ثار هُوَ ببياسة وَمَا انضاف إِلَيْهَا من قرطبة وجيان وقيجاطة وحصون الثغر الْأَوْسَط وتلقب بالظافر وَإِنَّمَا دعِي البياسي لقِيَامه من بياسة فوصلت بيعَة الْمُوَحِّدين من مراكش إِلَى الْعَادِل وَمَعَهَا كتاب أبي زَكَرِيَّا يحيى ابْن الشَّهِيد شيخ هنتانة بِقصَّة المخلوع وَمَا كَانَ من أمره فصادف وصولها هيجان هَذِه الْفِتْنَة فشغل الْعَادِل بهَا عَن مراكش وَبعث أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا الْعَلَاء الْأَصْغَر وَهُوَ إِدْرِيس بن الْمَنْصُور فِي جَيش كثيف إِلَى البياسي فحاصره ببياسة وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار أظهر الطَّاعَة والانقياد وَبَايع للعادل حَتَّى إِذا أفرج عَنهُ أَبُو الْعَلَاء عَاد إِلَى النكث وَبعث إِلَى الفنش يستنصره على الْعَادِل وَضمن لَهُ أَن ينزل لَهُ عَن بياسة وقيجاطة فَكَانَ أول من سنّ إِعْطَاء الْحُصُون والبلاد للفرنج فَوجه إِلَيْهِ الفنش بِجَيْش من عشْرين ألفا وَلما توافت لَدَيْهِ جموع الفرنج نَهَضَ من قرطبة يُرِيد إشبيلية حَتَّى إِذا دنا مِنْهَا خرج إِلَيْهِ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء الْأَصْغَر وَهُوَ الَّذِي دعِي بعد بالمأمون فَالْتَقوا واقتتلوا قتالا شَدِيدا فَانْهَزَمَ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء وَاسْتولى البياسي والفرنج على محلته بِمَا فِيهَا من أثاث وَسلَاح ودواب وَغير ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وَلما رأى الْعَادِل مَا وَقع بأَخيه وجنده خشِي أَن يَتَفَاقَم دَاء البياسي ويمتد عباب فتنته إِلَى مراكش فَترك أَخَاهُ أَبَا الْعَلَاء قبالته وَعبر الْبَحْر إِلَى العدوة وَلما احتل بقصر الْمجَاز دخل عَلَيْهِ عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الْمَدْعُو بعبو فَقَالَ لَهُ الْعَادِل كَيفَ حالك فأنشده (حَال مَتى علم ابْن الْمَنْصُور بهَا ... جَاءَ الزَّمَان إِلَيّ مِنْهَا تَائِبًا) فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ وولاه إفريقية وَهَذَا الْبَيْت لأبي الطّيب المتنبي وَإِنَّمَا تمثل بِهِ عبو لموافقة اسْم مَنْصُور فِيهِ لاسم وَالِد الْعَادِل فَحسن التَّمْثِيل بِهِ وانْتهى الْعَادِل فِي سيره إِلَى سلا فَأَقَامَ بهَا وَبعث عَن شُيُوخ جشم عرب تامسنا وَكَانَ لِابْنِ يرجان عناية واختصاص بِهِلَال بن حميدان أَمِير الْخَلْط فتثاقل جرمون بن عِيسَى أَمِير سُفْيَان عَن الْوُصُول إِلَى الْعَادِل ثمَّ بَادر الْعَادِل إِلَى مراكش وقاسى فِي طَرِيقه إِلَيْهَا من الْعَرَب شَدَائِد ثمَّ دَخلهَا واستوزر أَبَا زيد بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص وَتغَير لِابْنِ يرجان ففسد بَاطِنه وسعى فِي إِفْسَاد الدولة وَغلب أَبُو زَكَرِيَّا بن الشَّهِيد شيخ هنتاتة ويوسف بن عَليّ شيخ تينملل على أَمر الْعَادِل ثمَّ خَالَفت عَلَيْهِ عرب الْخَلْط وهسكورة وعاثوا فِي نواحي مراكش وخربوا بِلَاد دكالة فَخرج إِلَيْهِم ابْن يرجان فَلم يغن شَيْئا فأنفذ إِلَيْهِم الْعَادِل عسكرا من الْمُوَحِّدين لنظر إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل ابْن الشَّيْخ أبي حَفْص فَانْهَزَمَ وَقتل واضطربت الْأَحْوَال على الْعَادِل وَخرج ابْن الشَّهِيد ويوسف بن عَليّ إِلَى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة وَالْعرب فاتفقا أَيْضا على خلع الْعَادِل واضطربت الْأُمُور وَلما انْتهى إِلَى أبي الْعَلَاء صَاحب الأندلس خبر أَخِيه الْعَادِل وَمَا هُوَ فِيهِ بمراكش من الِاضْطِرَاب دَعَا لنَفسِهِ بإشبيلية فبويع بهَا وأجابه أَكثر أهل الأندلس وتلقب بالمأمون وَبَايع لَهُ السَّيِّد أَبُو زيد صَاحب بلنسية وَهُوَ أَخُو البياسي وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَلما تمت بيعَته كتب إِلَى الْمُوَحِّدين الَّذين بمراكش يَدعُوهُم إِلَى بيعَته وَيُعلمهُم باجتماع أهل الأندلس والموحدين الَّذين بهَا عَلَيْهِ وَوَعدهمْ فِي ذَلِك ومناهم فَكَانَ مِنْهُم بعض توقف ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على مبايعته وخلع أَخِيه الْعَادِل فَدَخَلُوا عَلَيْهِ قصره وسألوه أَن يخلع نَفسه فَامْتنعَ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ ودسوا رَأسه فِي خصة مَاء كَانَت هُنَاكَ وَقَالُوا لَهُ لَا نُفَارِقك أَو تشهد على نَفسك بِالْخلْعِ فَقَالَ اصنعوا مَا بدا لكم وَالله لَا أَمُوت إِلَّا أَمِير الْمُؤمنِينَ فوضعوا عمَامَته فِي عُنُقه وخنقوه وَرَأسه فِي الخصة حَتَّى فاظ وَكَانَ خيرا فَاضلا رَحمَه الله وَكَانَت وَفَاته فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَتَبُوا بيعتهم إِلَى أبي الْعَلَاء الْمَأْمُون وبعثوا بهَا إِلَيْهِ مَعَ الْبَرِيد ثمَّ بدا لَهُم فِي بيعَة الْمَأْمُون بعد انْفِصَال الْبَرِيد عَنْهُم فنكثوها وَبَايَعُوا يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور واضطربت الْأَحْوَال بالمغرب والأندلس وطما عباب الْفِتَن وَكَانَ مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور ومزاحمة يحيى بن النَّاصِر لَهُ كَانَ الْمَأْمُون وَهُوَ أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور لما بلغه انْتِقَاض الْمُوَحِّدين وَالْعرب بالحضرة على أَخِيه وتلاشي أمره دَعَا لنَفسِهِ بإشبيلية وَبَايَعَهُ أهل الأندلس والموحدون بالحضرة كَمَا قُلْنَا ثمَّ لما انْفَصل الْبَرِيد ببيعته من الحضرة نَدم الموحدون على ذَلِك لما يعلموه من شهامته وصرامته وتخلقه بأخلاق الْحجَّاج بن يُوسُف وتخوفوا أَن يَأْخُذهُمْ بِدَم عَمه عبد المخلوع ثمَّ أَخِيه عبد الله الْعَادِل فاتفق رَأْيهمْ على مبايعة يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور وَهُوَ شَاب غر كَمَا يقل عذاره وَإِنَّمَا وَقع اختيارهم عَلَيْهِ ليَكُون أطوع لَهُم فَإِن سنه يَوْمئِذٍ كَانَت سِتَّة عشر سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فَبَايعُوهُ بِجَامِع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة وَامْتنع عرب الْخَلْط وقبائل هسكورة من بيعَته وَقَالُوا قد بَايعنَا الْمَأْمُون فَلَا ننكث بيعَته وَتَأَخر قدوم الْمَأْمُون إِلَى مراكش وَبَقِي بالأندلس لأسباب يَأْتِي شرحها وَأقَام يحيى بمراكش واستتب أمره بهَا بعض الشَّيْء وجهز جَيْشًا من الْمُوَحِّدين والجند إِلَى قتال الْخَلْط وهسكورة وهم يَوْمئِذٍ فِي طَاعَة الْمَأْمُون فَانْهَزَمَ جَيش يحيى وَقتل مِنْهُ خلق كثير وَعَاد مفلولا إِلَى مراكش ثمَّ اطلع يحيى على مداخلة أبي زيد بن يرجان للْعَرَب وهسكورة فِي الْغَارة على مراكش واطلع على ذَلِك أَيْضا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن الشَّهِيد فَقتل ابا زيد بن يرجان وَابْنه عبد الله وَنصب رؤوسهما على بَاب الْكحل وطوف أجسادهما بأسواق الْمَدِينَة ثمَّ اضْطَرَبَتْ الْأَحْوَال على يحيى وانتقضت الْبِلَاد وغلت الأسعار وَعم الخراب وَالْفساد بِلَاد الْمغرب واستحوذ بَنو مرين على ضواحيه وضايقوا الْمُوَحِّدين فِي كثير فِي أمصاره واقتضوا جبايته ونبغت الثوار فِي الأقطار على مَا نذكرهُ ثورة مُحَمَّد بن أبي الطواجين الكتامي بجبال غمارة وَلما كَانَت سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة ثار بجبال غمارة مُحَمَّد بن أبي الطواجين الكتامي المتنبي وَكَانَ أَبوهُ من قصر كتامة منقبضا عَن النَّاس وَكَانَ ينتحل صناعَة الكيمياء فَكَانَ يلقب بِأبي الطواجين لِكَثْرَة الظروف الَّتِي كَانَ يستعملها فِي ذَلِك بِزَعْمِهِ وتلقن ذَلِك عَنهُ ابْنه هَذَا ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة وَنزل على بني سعيد بأحوازها وَادّعى صناعَة الكيمياء فَتَبِعَهُ الغوغاء ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَشرع الشَّرَائِع وَأظْهر أنواعا من الشعبذة فَكثر تابعوه ثمَّ اطلعوا على خبثه فنبذوا إِلَيْهِ عَهده وزحفت إِلَيْهِ عَسَاكِر سبتة ففر عَنْهُم ثمَّ قَتله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 بعض البرابرة غيلَة بوادي لاو بَين بِلَاد بني سعيد وبلاد بني زيات وَابْن أبي الطواجين هَذَا هُوَ الَّذِي تسبب فِي قتل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله أَخْبَار الثوار وَمَا آل إِلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين بهَا لما ضعف أَمر الْمُوَحِّدين بالمغرب وَكَثُرت الْفِتَن فِي أقطاره ونواحيه وانتزى السادات مِنْهُم بنواحي الأندلس كل فِي عمله وَاسْتظْهر كل وَاحِد مِنْهُم على أمره بالطاغية ونزلوا لَهُ عَن كثير من الْحُصُون فَسدتْ من أجل ذَلِك ضمائر أهل الأندلس عَلَيْهِم وتصدى للثورة على الْمُوَحِّدين مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الجذاميين مُلُوك الطوائف بسرقسطة وَكَانَ يؤمل لَهَا وَرُبمَا امتحنه الْمُوَحِّدين لذَلِك مَرَّات فَخرج فِي نفر من الأجناد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وجهز إِلَيْهِ وَالِي مرسية يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الْعَبَّاس بن أبي عمرَان مُوسَى بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن عسكرا فَهَزَمَهُمْ وزحف إِلَى مرسية فَدَخلَهَا واعتقل السَّيِّد بهَا وخطب للخليفة الْمُسْتَنْصر العباسي صَاحب بَغْدَاد وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الْخَطِيب فِي رقم الْحلَل عِنْد ذكره لبني هود هَؤُلَاءِ (وَكَانَ من أعقابه الْأَمِير ... مُحَمَّد بن يُوسُف الْأَخير) (وَكَانَ باسلا شَدِيد الْبَأْس ... وَبَايع الْمُسْتَنْصر العباسي) ثمَّ زحف إِلَيْهِ السَّيِّد أَبُو زيد بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَخُو البياسي الْمُتَقَدّم ذكره من شاطبة وَكَانَ واليا بهَا كَمَا مر فَهَزَمَهُ ابْن هود وَرجع إِلَى شاطبة واستجاش بالمأمون وَهُوَ يَوْمئِذٍ بإشبيلية فَخرج فِي العساكر ولقيه ابْن هود فَانْهَزَمَ وَاتبعهُ الْمَأْمُون إِلَى مرسية فحاصره مُدَّة وامتنعت عَلَيْهِ فأقلع عَنهُ وَرجع إِلَى إشبيلية ثمَّ انْتقض على السَّيِّد أبي زيد ببلنسية زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الْحجَّاج يُوسُف بن سعيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 مردنيش وَخرج عَنهُ إِلَى أبدة سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ بني مردنيش هَؤُلَاءِ أهل عِصَابَة وأولي باس وقوه فتوقع أَبُو زيد اختلال أمره وَبعث إِلَيْهِ ولاطفه فِي الرُّجُوع فَأبى فَخرج أَبُو زيد من بلنسية وَلحق بطاغية برشلونة وَدخل فِي دين النَّصْرَانِيَّة وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَبَايع أهل شاطبة لِابْنِ هود ثمَّ تَتَابَعَت بِلَاد الأندلس على بيعَته وَدخل فِي طَاعَته أهل قرطبة وإشبيلية بعد رحيل الْمَأْمُون عَنهُ إِلَى مراكش وَلم يبْق للموحدين بالأندلس سُلْطَان ثمَّ فِي سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة ثار مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر بحصن أرجونة من أَعمال قرطبة ودعا لأبي زَكَرِيَّاء الحفصي صَاحب إفريقية ثمَّ دخل فِي طَاعَته أهل قرطبة وتنازع ابْن الْأَحْمَر وَابْن هود رئاسة الأندلس وتجاذبا حَبل الْملك بهَا وَكَانَت خطوب استولى لطاغية فِيهَا على كثير من حصون الأندلس ثمَّ اسْتَقر قدم ابْن الْأَحْمَر فِي الْملك وأورثه بنيه من بعده وَالله غَالب على أمره قدوم أبي الْعَلَاء الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور من الأندلس إِلَى مراكش وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك قد تقدم لنا أَن الْمُوَحِّدين بمراكش خنقوا الْعَادِل وَبَايَعُوا أَخَاهُ الْمَأْمُون وَبعد انْفِصَال الْبَرِيد بالبيعة ندموا وَبَايَعُوا ابْن أَخِيه يحيى بن النَّاصِر فوصلت بيعَة الْمُوَحِّدين إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ يَوْمئِذٍ بإشبيلية فسر بهَا وَأمر بإقرائها على مَنَابِر الأندلس ثمَّ أَخذ فِي التَّجْهِيز وَالْحَرَكَة إِلَى مراكش دَار ملكهم فَسَار حَتَّى إِذا وصل إِلَى الجزيرة الخضراء اتَّصل بِهِ الْخَبَر أَن الْمُوَحِّدين قد نكثوا بيعَته وَبَايَعُوا ابْن أَخِيه يحيى فَوَجَمَ لذَلِك وأطرق مَلِيًّا ثمَّ أنْشد متمثلا بقول حسان رَضِي الله عَنهُ (لتسمعن وشيكا فِي دِيَارهمْ ... الله أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 ثمَّ كتب من حِينه إِلَى ملك قشتالة يستنصره على الْمُوَحِّدين ويسأله أَن يبْعَث لَهُ جَيْشًا من الفرنج يجوز بهم إِلَى العدوة لقِتَال يحيى وَمن مَعَه من الْمُوَحِّدين فَشرط عَلَيْهِ صَاحب قتشالة أَن يُعْطِيهِ عشرَة حصون مِمَّا يَلِي بِلَاده يختارها هُوَ وَأَن يَبْنِي بمراكش إِذا دَخلهَا لجيش النَّصَارَى الَّذين مَعَه كَنِيسَة يظهرون بهَا دينهم ويضربون فِيهَا نواقيسهم لصلواتهم وَأَن من اسْلَمْ مِنْهُم لَا يقبل مِنْهُ إِسْلَامه وَيرد إِلَى إخوانه فيحكمون فِيهِ بأحكامهم إِلَى غير ذَلِك فأسعفه الْمَأْمُون فِي جَمِيع مَا طلبه مِنْهُ وَكَانَ يحيى بن النَّاصِر صَاحب مراكش لما رأى اخْتِلَاف أَحْوَاله بهَا كَمَا قُلْنَا ومبايعته أَكثر أهل الْمغرب لِعَمِّهِ الْمَأْمُون خرج فَارًّا بِنَفسِهِ إِلَى تيمنلل وَكَانَ ذَلِك فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَلما فر يحيى عَن الحضرة قدم اشياخ الْمُوَحِّدين الَّذين بهَا واليا يضبطها لِلْمَأْمُونِ ريثما يقدم عَلَيْهِم وجددوا لَهُ الْبيعَة وَكَتَبُوا إِلَيْهِ يخبروه بفرار يحيى إِلَى الْجَبَل ويرغبون إِلَيْهِ فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا هِلَال بن حميدان أَمِير الْخَلْط وَاسْتمرّ يحيى معتصما بِالْجَبَلِ أَرْبَعَة اشهر ثمَّ بدا لَهُ فَعَاد إِلَى مراكش وَقتل عَامل الْمَأْمُون الَّذِي قدمه الْمُوَحِّدين بهَا وَاسْتمرّ بهَا نَحْو سَبْعَة أَيَّام ثمَّ خرج إِلَى جبل جليز وعسكر بِهِ وَأقَام منتظرا لقدوم الْمَأْمُون ودفاعه عَن مراكش ثمَّ بعث صَاحب قشتالة إِلَى الْمَأْمُون جَيْشًا من اثْنَي عشر ألفا برسم الْخدمَة مَعَه والمقاتلة دونه على الشُّرُوط الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ وصولهم إِلَيْهِ فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة ثمَّ عبر بهم من الجزيرة الخضراء إِلَى سبتة فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ أول من أَدخل عَسْكَر الفرنج أَرض الْمغرب واستخدمهم بهَا فأراح بسبتة أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش حَتَّى إِذا دنى مِنْهَا لقِيه يحيى بجيوش الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ عشي يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الدَّاخِلَة فَانْهَزَمَ يحيى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وفر إِلَى الْجَبَل وَقتل كثير من جَيْشه وَدخل الْمَأْمُون حَضْرَة مراكش وَبَايَعَهُ الموحدون وَصعد الْمِنْبَر بِجَامِع الْمَنْصُور وَكَانَ عَلامَة أديبا بليغا فَخَطب النَّاس وَلعن الْمهْدي على الْمِنْبَر وَقَالَ لَا تَدعُوهُ بالمهدي الْمَعْصُوم وادعوه بالغوي المذموم أَلا لَا مهْدي إِلَّا عِيسَى وَإِنَّا قد نَبَذْنَا أمره النحس وَلما انْتهى إِلَى آخر خطْبَة قَالَ معشر الْمُوَحِّدين لَا تظنوا أَنِّي أَنا إِدْرِيس الَّذِي تندرس دولتكم على يَده كلا إِنَّه سَيَأْتِي بعدِي إِن شَاءَ الله ثمَّ نزل وَأمر بالكتب إِلَى جَمِيع الْبِلَاد بمحو اسْم الْمهْدي من السِّكَّة وَالْخطْبَة وتغيير سنَنه الَّتِي ابتدعها للموحدين وَجرى عَلَيْهَا سلفهم ونعى عَلَيْهَا النداء للصَّلَاة باللغة البربرية وزيادته فِي أَذَان الصُّبْح وَللَّه الْحَمد وَغير ذَلِك من السّنَن الَّتِي اخْتصَّ بهَا الْمهْدي وَأمر بتدوير الدَّرَاهِم الَّتِي ضربهَا الْمهْدي مربعة وَقَالَ كل مَا فعله الْمهْدي وَتَابعه عَلَيْهِ أسلافنا فَهُوَ بِدعَة وَلَا سَبِيل إِلَى إبقائه وأبدا فِي ذَلِك وَأعَاد ثمَّ دخل قصره فاحتجب عَن النَّاس ثَلَاثًا ثمَّ خرج فِي الْيَوْم الرَّابِع فَأمر بأشياخ الْمُوَحِّدين وأعيانهم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُم يَا معشر الْمُوَحِّدين إِنَّكُم قد أظهرتم علينا العناد وأكثرتم فِي الأَرْض الْفساد ونقضتم العهود وبذلتم فِي حربنا المجهود وقتلتم الإخوان والأعمام وَلم ترقبوا فيهم إِلَّا وَلَا ذمام ثمَّ أخرج كتاب بيعتهم الَّذِي بعثوا بِهِ إِلَيْهِ وَاحْتج عَلَيْهِم بنكثهم الَّذِي نكثوا بعده فَقَامَتْ الْحجَّة عَلَيْهِم فَبُهِتُوا وَسقط فِي أَيْديهم والتفت إِلَى قَضِيَّة المكيدي وَكَانَ بإزائه قد قدم مَعَه من إشبيلية فَقَالَ لَهُ مَا ترى ايها القَاضِي فِي أَمر هَؤُلَاءِ النَّاكِثِينَ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله تَعَالَى يَقُول {فَمن نكث فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه} فَقَالَ الْمَأْمُون صدق الله الْعَظِيم فَإنَّا نحكم فيهم بِحكم الله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} ثمَّ أَمر بِجَمِيعِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين وأشرافهم فسحبوا إِلَى مصَارِعهمْ وَقتلُوا من عِنْد آخِرهم وَلم يبْق على كَبِيرهمْ وَلَا صَغِيرهمْ حَتَّى أَنه أُتِي بِابْن أُخْت لَهُ صَغِير يُقَال إِن سنه كَانَ ثَلَاث عشرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 سنة وَكَانَ قد حفظ الْقُرْآن فَلَمَّا قدم للْقَتْل قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اعْفُ عني لثلاث قَالَ مَا هن قَالَ صغر سني وَقرب رحمي وحفظي لكتاب الله الْعَزِيز فَيُقَال إِن الْمَأْمُون نظر إِلَى القَاضِي كالمستشير لَهُ وَقَالَ لَهُ كَيفَ ترى قُوَّة جأش هَذَا الْغُلَام وإقدامه على الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام فَقَالَ القَاضِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا فَأمر بِهِ فَقتل رَحمَه الله ثمَّ أَمر بالرؤوس فعلقت بدائر سور الْمَدِينَة ذكر ابْن أبي زرع أَنَّهَا كَانَت تنيف على أَرْبَعَة آلَاف رَأس وَكَانَ الزَّمَان زمن قيظ فنتنت بهَا الْمَدِينَة وتأذى النَّاس بريحها فَرفع إِلَيْهِ ذَلِك فَقَالَ إِن هَهُنَا مجانين وَأَن تِلْكَ الرؤوس حروز لَهُم لَا يصلح حَالهم إِلَّا بهَا وَإِنَّهَا لعطرة عِنْد المحبين ونتنة عِنْد المبغظين ثمَّ أنْشد (أهل الْحِرَابَة وَالْفساد من الورى ... بِالْقطعِ وَالتَّعْلِيق فِي الْأَشْجَار) (ففساده فِيهِ الصّلاح لغيره ... يعزون فِي التَّشْبِيه للذكار) (فرؤوسهم ذكرى إِذا مَا أَبْصرت ... فَوق الْجُذُوع وَفِي ذرى الأسوار) (وَكَذَا الْقصاص حَيَاة أَرْبَاب النهى ... وَالْعدْل مألوف بِكُل جوَار) (لَو عَم حلم الله سَائِر خلقه ... مَا كَانَ أَكْثَرهم من أهل النَّار) وَهَذِه الفتكة الَّتِي ارتكبها الْمَأْمُون من الْمُوَحِّدين أنست فتكة الْحَارِث بن ظَالِم والبراض الْكِنَانِي والحجاف بن حَكِيم وَهِي الَّتِي استأصلت جمهورهم وأماتت نخوتهم وَإِذن الْمَأْمُون لِلنَّصَارَى القادمين مَعَه فِي بِنَاء الْكَنِيسَة وسط مراكش على شرطهم الْمُتَقَدّم فَضربُوا بهَا نواقيسهم وَكَانَت الْكَنِيسَة فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالسجينة وَقبض على قَاضِي الْجَمَاعَة بمراكش وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن عبد الْحق فقيده وَدفعه إِلَى هِلَال بن حميدان الخلطي فحبسه حَتَّى أفتدي مِنْهُ بِسِتَّة آلَاف دِينَار وَأقَام الْمَأْمُون بمراكش خَمْسَة أشهر ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْجَبَل لقِتَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 يحيى بن النَّاصِر وَمن مَعَه من الْمُوَحِّدين وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة فَالتقى مَعَه على الْموضع الْمَعْرُوف بالكاعة فَانْهَزَمَ يحيى وَقتل من عسكره وَمن أهل الْجَبَل خلق كثير سيق من رؤوسهم إِلَى مراكش أَرْبَعَة آلَاف رَأس وَفِي هَذِه السّنة استبد الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا ابْن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن حَفْص الهنتاتي بإفريقية وخلع طَاعَة الْمُوَحِّدين وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا نفذت كتب الْمَأْمُون إِلَى سَائِر الْبِلَاد بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وفيهَا خرجت بِلَاد الأندلس كلهَا من ملك الْمُوَحِّدين ونفاهم عَنْهَا ابْن هود لثائر بهَا وقتلتهم الْعَامَّة فِي كل وَجه وَفِي سنة تسع وَعشْرين بعْدهَا خرج على الْمَأْمُون أَخُوهُ السَّيِّد أَبُو مُوسَى عمرَان بن الْمَنْصُور بِمَدِينَة سبتة وَتسَمى بالمؤيد فاتصل الْخَبَر بالمأمون فَخرج إِلَيْهِ وبلغه فِي طَرِيقه أَن قبائل بني فازاز ومكلاثه قد حاصروا مكناسة وعاثوا فِي نَوَاحِيهَا فَسَار إِلَيْهِم وحسم مَادَّة فسادهم وَعَاد إِلَى سبتة فحاصر بهَا أَخَاهُ السَّيِّد أَبَا مُوسَى مُدَّة فَلم يقدر مِنْهُ على شَيْء وَكَانَت سبتة من أحصن مدن الْمغرب وَلما طَالَتْ غيبَة الْمَأْمُون عَن الحضرة اغتنم يحيى بن النَّاصِر الفرصة فَنزل من الْجَبَل واقتحمها مَعَ عرب سُفْيَان وشيخهم جرمون بن عِيسَى وَمَعَهُمْ أَبُو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة وعاثوا فِيهَا وهدموا كَنِيسَة النَّصَارَى الَّتِي بنيت بهَا وَقتلُوا كثيرا من يهودها وَسبوا أَمْوَالهم وَدخل يحيى الْقصر فَحمل مِنْهُ جَمِيع مَا وجده بِهِ إِلَى الْجَبَل واتصل الْخَبَر بالمأمون وَهُوَ على حِصَار سبتة فارتحل عَنْهَا مسرعا إِلَى مراكش وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما أبعد عَن سبتة عبر أَبُو مُوسَى صَاحبهَا إِلَى الأندلس فَبَايعهُ ابْن هود وَأَعْطَاهُ سبتة فَعوضهُ ابْن هود عَنْهَا بالمرية فَكَانَ السَّيِّد أَبُو مُوسَى بهَا إِلَى أَن مَاتَ وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْمَأْمُون وَهُوَ فِي طَرِيقه بِأَن ابْن هود قد ملك سبتة فتوالت عَلَيْهِ الفجائع فَمَرض أسفا وَمَات بوادي العبيد وَهُوَ قافل من حِصَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 سبتة وَكَانَت وَفَاته فِي آخر يَوْم من سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام شقاء وعناء ومنازعة افْتَرَقت دولة الْمُوَحِّدين فِيهَا فرْقَتَيْن فرقة مَعَه وَفرْقَة مَعَ يحيى بن النَّاصِر وَكَانَ محق دولة الْمُوَحِّدين واستئصال أَرْكَانهَا وَذَهَاب نخوتها على يَده قَالُوا وَلَوْلَا أَن الْأُمُور قد استحالت إِلَى مَا ذكر لَكَانَ الْمَأْمُون مُوَافقا لِأَبِيهِ الْمَنْصُور فِي كثير من الْخلَل ومتبعا سنَنه فِي الْأَحْوَال وَكَانَ الْمَأْمُون فصيح اللِّسَان فَقِيها حَافِظًا للْحَدِيث ضابطا للرواية عَارِفًا بالقراءات حسن الصَّوْت والتلاوة مقدما فِي علم اللُّغَة والعربية وَالْأَدب وَأَيَّام النَّاس كَاتبا بليغا حسن التوقيع لم يزل سَائِر أَيَّام خِلَافَته يسْرد كتب الحَدِيث مثل البُخَارِيّ والموطأ وَسنَن أبي دَاوُد وَكَانَ مَعَ ذَلِك شهما حازما مقداما على عظائم الْأُمُور ولي الْخلَافَة والبلاد تضطرم نَارا والممالك قد توزعتها الثوار فَكَانَ الْمَأْمُون إِذا فكر فِي حَال الثوار وَمَا آل إِلَيْهِ حَال الدولة مَعَهم وَمَا دهاه من كثرتهم ينشد متمثلا (تكاثرت الظبا على خِدَاش ... فَمَا يدْرِي خِدَاش مَا يصيد) يُشِير إِلَى حَاله مَعَهم وَأَنه لم يدْرِي مَا يتلافى من ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن دولة أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الرشيد ابْن الْمَأْمُون ابْن الْمَنْصُور رَحمَه الله لما هلك الْمَأْمُون بُويِعَ ابْنه عبد الْوَاحِد ولقب بالرشيد قَالَ ابْن أبي زرع بُويِعَ لَهُ بالخلافة بوادي العبيد ثَانِي يَوْم من وَفَاة أَبِيه وَهُوَ الْأَحَد فاتح محرم سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وسنه يَوْمئِذٍ أَربع عشرَة سنة وَكَانَ الَّذين أخذُوا لَهُ الْبيعَة كانون بن جرمون السفياني وَشُعَيْب بن أوقاليط الهسكوري وفرنسيل قَائِد جَيش الفرنج فَإِنَّهُ لما مَاتَ الْمَأْمُون كتمت جَارِيَته بعد مَوته وَاسْمهَا حباب وَكَانَت فرنجية الأَصْل وَمن دهاة النِّسَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وعقلائهن وَهِي أم الرشيد فاستدعت هَؤُلَاءِ النَّفر الثَّلَاثَة وَكَانُوا عُمْدَة جَيش الْمَأْمُون يركب كل وَاحِد مِنْهُم فِي أَزِيد من عشرَة آلَاف من قومه وأعوانه وَلِأَن أهل الْحل وَالْعقد من الْمُوَحِّدين قد أَتَت عَلَيْهِم فتكت الْمَأْمُون فجاؤوا إِلَيْهِ فأعلمتهم بِمَوْت الْخَلِيفَة ورغبت إِلَيْهِم فِي بيعَة ابْنهَا الرشيد وَالْقِيَام مَعَه وبذلت لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا جمة ووعدتهم مَعَ ذَلِك أَنهم إِذا فتحُوا الحضرة وَكَانَ يحيى قد استولى عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَا تجعلها لَهُم فَيْئا فَبَايعُوهُ وَأخذُوا الْبيعَة لَهُ على سواهُم فَبَايع النَّاس طَوْعًا وَكرها خوفًا من سيوفهم وَلما تمّ أمره جعل أَبَاهُ فِي تَابُوت وَقدمه أَمَامه وَسَار إِلَى مراكش وَسمع يحيى واهل مراكش بِمَا شرطته حباب للقواد الثَّلَاثَة من جعل مدينتهم فَيْئا فَخَرجُوا لقِتَال الرشيد بأجمعهم واستخلف يحيى على مراكش أَبَا سعيد بن وانودين والتقى الْجَمْعَانِ فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ يحيى وَقتل أَكثر من مَعَه وصبح الرشيد مراكش فتحصن مِنْهُ أَهلهَا فَأَمنَهُمْ وَصَالح قَائِد الفرنج وَأَصْحَابه على فَيْئهَا بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وَدخل الرشيد مراكش وَاسْتقر بهَا وَكَانَ قد وصل فِي صُحْبَة عَمه السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد سعد بن الْمَنْصُور فَحل من تِلْكَ الدولة بمَكَان وَكَانَ إِلَيْهِ التَّدْبِير والحل وَالْعقد وَبعد اسْتِقْرَار الرشيد بمراكش قدم عَلَيْهِ عمر بن أوقاريط الهسكوري صُحْبَة أَوْلَاد الْمَأْمُون الَّذين كَانُوا بإشبيلية ونفاهم ابْن هود عَنْهَا وَكَانَ ابْن أوقاريط هَذَا منحرفا عَن الْمَأْمُون ايام حَيَاته فتذمم بِصُحْبَة هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد وَقدم على الرشيد فتقبله واتصل بالسيد أبي مُحَمَّد وَحسنت مَنْزِلَته لَدَيْهِ ثمَّ لما هلك السَّيِّد أَبُو مُحَمَّد لحق ابْن أوقاريط بقَوْمه ومعتصمه وكشف وَجه الْخلاف وَأخذ بدعوة يحيى بن النَّاصِر واستنفر لَهُ قبائل الْمُوَحِّدين ونهض إِلَيْهِم الرشيد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة واستخلف على الحضرة صهره أَبَا الْعَلَاء إِدْرِيس وَصعد إِلَيْهِم الْجَبَل فأوقع بِيَحْيَى وجموعه بمكانهم من هزرجة وَاسْتولى على معسكرهم وَلحق يحيى بِبِلَاد سجلماسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وانكفأ الرشيد رَاجعا إِلَى حَضرته وَاسْتَأْمَنَ لَهُ كثير من الْمُوَحِّدين الَّذين كَانُوا مَعَ يحيى فَأَمنَهُمْ وَلَحِقُوا بِحَضْرَتِهِ وَكَانَ كَبِيرهمْ أَبُو عُثْمَان سعيد بن زَكَرِيَّا القدميوي وَجَاء الْبَاقُونَ على أَثَره بعد أَن شرطُوا عَلَيْهِ إِعَادَة مَا كَانَ أزاله الْمَأْمُون من رسوم الْمهْدي وسننه فأعيدت واطمأنوا لإعادة رسوم الدعْوَة المهدية واستقامت الْأَحْوَال فِي هَذِه الْأَيَّام إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ فتْنَة الْخَلْط مَعَ الرشيد واستيلاؤهم على حَضْرَة مراكش كَانَ مَسْعُود بن حميدان كَبِير الْخَلْط قد أغراه عمر بن أوقاريط بِالْخِلَافِ لصحبة بَينهمَا وَكَانَ مدلا ببأسه وَكَثْرَة جموعه يُقَال إِن الْخَلْط كَانُوا يَوْمئِذٍ يناهزون اثْنَي عشرَة ألف فَارس سوى الرجل والأتباع والحشود فَمَرض مَسْعُود فِي الطَّاعَة وتثاقل عَن الْوِفَادَة إِلَى الحضرة وَلما علم بِعقد الْمُوَحِّدين واجتماع كلمتهم على الرشيد غاظه ذَلِك وَأخذ فِي السَّعْي للفرقة والشتات بَينهم فأعمل الرشيد الْحِيلَة فِي استدعائه وَصرف عساكره إِلَى بعض الْجِهَات حَتَّى خلا لمسعود الجو وَذهب عَنهُ الريب واستقدمه الرشيد فأسرع اللحاق بالحضرة وَقدم مَعَه مُعَاوِيَة عَم عمر بن أوقاريط فَقبض على مُعَاوِيَة وَقتل لحينه واستدعى الرشيد ابْن حميدان إِلَى الْمجْلس الخلافي للْحَدِيث فتقبض عَلَيْهِ وعَلى خَمْسَة وَعشْرين من أَصْحَابه من كبار الْخَلْط وَقتلُوا ساعتئذ بعد جَوْلَة وهيعة وَقضى الرشيد حَاجَة فِي نَفسه مِنْهُم وَلما بلغ خبر مقتلهم إِلَى قَومهمْ قدمُوا عَلَيْهِم يحيى بن هِلَال بن حميدان وأجلبوا على سَائِر النواحي وأعلنوا بدعوة يحيى بن النَّاصِر واستقدموه من مَكَانَهُ بقاصية الصَّحرَاء وداخلهم فِي ذَلِك عمر بن أوقاريط وزحفوا لحصار مراكش وَخرجت العساكر لقتالهم وَمَعَهُمْ عبد الصَّمد بن يلولان فدافع ابْن أوقاريط بجموعه فِي تِلْكَ العساكر فَانْهَزَمُوا وأحيط بجند النَّصَارَى فَقتلُوا وتفاقم الْأَمر بالحضرة وعدمت الأقوات واعتزم الرشيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 على الْخُرُوج إِلَى جبل الْمُوَحِّدين فَخرج إِلَيْهَا وَسَار مِنْهَا إِلَى سجلماسة فملكها وَاشْتَدَّ الْحصار على مراكش واقتحمها يحيى بن النَّاصِر وأنصاره من الْخَلْط وهسكورة فنهبوها وساء أَثَرهم فِيهَا واضطربت أَحْوَال الْخلَافَة بهَا وتغلب على السُّلْطَان السَّيِّد أَبُو إِبْرَاهِيم بن أبي حَفْص الملقب بِأبي حافة وَهَذِه الْفِتَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة هجوم نَصَارَى جنوة على مَدِينَة سبتة وحصارهم إِيَّاهَا وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة نَازل الفرنج الجنويون سبتة بأجفان لَا تحصى ونصبوا عَلَيْهَا المنجنيقات والآلات الْمعدة للحصار واستمروا على ذَلِك إِلَى أَن دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ بعْدهَا فَلم يقدروا مِنْهَا على شَيْء وَلما اشْتَدَّ الْحصار على أهل سبتة صَالحُوا الفرنج فِي الإفراج عَنْهُم بأربعمائة ألف دِينَار فقبلوا وأقلعوا عَنْهُم بعد الْحصار الشَّديد والتضييق الْعَظِيم عود الرشيد إِلَى مراكش وفرار يحيى عَنْهَا إِلَى بني معقل ومقتله بهم وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة خرج الرشيد من سجلماسة يقْصد مراكش وخاطب جرمون بن عِيسَى وَقَومه من سُفْيَان فَأَجَابُوهُ وعبروا وَادي أم الرّبيع وبرز إِلَيْهِ يحيى فِي جموعه والتقى الْفَرِيقَانِ فانهزمت جموع يحيى واستحر الْقَتْل فيهم وَدخل الرشيد إِلَى الحضرة ظافرا وَأَشَارَ ابْن أوقاريط على الْخَلْط بالاستصراخ بِابْن هود صَاحب الأندلس وَالْأَخْذ بدعوته بدعوته فَنَكَثُوا بيعَة يحيى وبعثوا وفدهم إِلَى ابْن هود صُحْبَة ابْن أوقاريط فاستقر هُنَاكَ وَلم يرجع إِلَيْهِم قولا فَعلم الْخَلْط أَنَّهَا حِيلَة من ابْن أوقاريط وَأَنه تخلص من الورطة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَخرج الرشيد من مراكش وفر الْخَلْط أَمَامه وَسَار إِلَى فاس وَأقَام بهَا أَيَّامًا وَفرق فِي فقهائها وصلحائها أَمْوَالًا ورباعا مغلة وسرح الْوَزير السَّيِّد أَبَا مُحَمَّد إِلَى غمارة وفازاز لجباية أموالهما وَكَانَ يحيى بن النَّاصِر لما نكث الْخَلْط بيعَته لحق بعرب معقل فأجاروه ووعدوه النُّصْرَة واشتطوا عَلَيْهِ فِي المطالب فأسف بَعضهم بِالْمَنْعِ فاغتاله فِي جِهَة تازا وسيق رَأسه إِلَى الرشيد بفاس فَبَعثه إِلَى مراكش وأوعز إِلَى نَائِبه بهَا أبي عَليّ بن عبد الْعَزِيز بقتل الْعَرَب الَّذين كَانُوا فِي اعتقاله وهم حسن بن زيد شيخ العاصم وقائد ابْنا عَامر شَيخا بنى جَابر فَقَتلهُمْ وانكفأ الرشيد رَاجعا إِلَى حَضرته سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ ابْن أوقاريط لما فصل ابْن هود صَاحب الأندلس أَقَامَ عِنْده إِلَى هَذِه السّنة فَركب الْبَحْر فِي أسطول من أساطيل ابْن هود وَقصد مَدِينَة سلا وَبهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء صهر الرشيد فنازلها وَكَاد يغلب عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ عَنْهَا بِلَا طائل وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ بعْدهَا بَايع أهل إشبيلية للرشيد وَنَقَضُوا طَاعَة ابْن هود وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو عمر بن الْجد وَوصل وفدهم إِلَى الحضرة ومروا فِي طريقهم بسبتة فَافْتدى أَهلهَا بهم فِي بيعَة الرشيد وَقدمُوا على الحضرة وَولى عَلَيْهِم الرشيد أَبَا عَليّ بن خلاص مِنْهُم وَانْصَرف وَفد إشبيلية وسبتة راضين واستقدم الرشيد رُؤَسَاء الْخَلْط وَكَانُوا راجعوا طَاعَته بعد مقتل يحيى فقدموا عَلَيْهِ وتقبض عَلَيْهِم وَبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحيائهم ثمَّ أَمر بقتل مشيختهم وَقتل مَعَهم ابْن أوقاريط وَكَانَ أهل إشبيلية قد بعثوا بِهِ إِلَيْهِ فَقطع دابرهم وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وصلت بيعَة مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر الثائر بالأندلس على ابْن هود وَكَانَ قد بَايع أَولا أَبَا زَكَرِيَّا الحفصي صَاحب إفريقية ثمَّ بدا لَهُ فَرد الْبيعَة إِلَى الرشيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 اسْتِيلَاء الْعَدو على قرطبة وَفِي هَذِه السّنة كَانَ اسْتِيلَاء الْعَدو دمره الله على مَدِينَة قرطبة قَاعِدَة بِلَاد الأندلس وَدَار مملكتها وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ بعْدهَا انْتَشَر بَنو مرين بِبِلَاد الْمغرب واشتدت شوكتهم بِهِ وزحف إِلَيْهِم الرشيد فهزموه ثمَّ زحف ثَانِيَة وثالثة فهزموه وَأقَام فِي محاربتهم سنتَيْن وَرجع عَنْهُم إِلَى الحضرة فَاشْتَدَّ عدوانهم بالمغرب وألحوا على مكناسة حَتَّى أعْطوا الإتاوة لبني حمامة مِنْهُم واتصل أغلبهم فِي نَوَاحِيهَا وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة قتل الرشيد كَاتبه ابْن المومياني لمداخلة لَهُ مَعَ بعض السَّادة وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز بن يُوسُف ووقف الرشيد على كتب بِخَطِّهِ غلط الرَّسُول بهَا فَدَفعهَا بدار الْخلَافَة فَوَقَعت إِلَى الرشيد فَقتله وَفَاة الرشيد رَحمَه الله مَاتَ الرشيد رَحمَه الله غريقا فِي بعض صهاريج بستانه بِحَضْرَة مراكش وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَيُقَال إِنَّه أخرج من المَاء حَيا فَحم لوقته وَمَات وَذكر أَبُو عبد الله أكنسوس أَن غرق الرشيد كَانَ فِي الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء من أجدال الْيَوْم قَالَ وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر لِأَن مُلُوك بني عبد الْمُؤمن الَّذين أنشؤوها كَانُوا يرسلون فِيهَا الزوارق والفلك الصغار بِقصد النزهة والفرجة وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 الْخَبَر عَن دولة أبي الْحسن السعيد عَليّ بن الْمَأْمُون بن الْمَنْصُور رَحمَه الله لما هلك الرشيد بُويِعَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ أَبُو الْحسن على الْمَدْعُو السعيد بِتَعْيِين أبي مُحَمَّد بن وانودين وتلقب بالمعتضد بِاللَّه واستوزر السَّيِّد أَبَا إِسْحَاق ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن ويحي بن عطوش وتقبض على جملَة من مشيخة الْمُوَحِّدين واستصفى أَمْوَالهم واصطنع لنَفسِهِ رُؤَسَاء الْعَرَب من جشم وَاسْتظْهر بجموعهم على أمره وَكَانَ شيخ سُفْيَان كانون بن جرمون كَبِير مَجْلِسه وَكَانَ ضَرَر بني مرين قد تفاقم بالمغرب وداؤهم قد أعضل فَخرج السعيد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة لتمهيد بِلَاد الْمغرب فَانْتهى إِلَى سجلماسة وَكَانَ صَاحبهَا عبد الله بن زَكَرِيَّا الهزرجي قد انْتقض عَلَيْهِ فَقتله وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ حَتَّى نزل المقرمدة من أَرض فاس وَعقد المهادنة مَعَ بني مرين وقفل إِلَى مراكش فَكَانَت هدنة على دخن فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى عاود النهوض إِلَيْهِم سنة ثَلَاثَة وَأَرْبَعين بعْدهَا واستخلف السَّيِّد أَبَا زيد ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم أَخا الْوَزير الْمَذْكُور آنِفا على مراكش وَاسْتعْمل أخاهما السَّيِّد أَبَا حَفْص وَهُوَ المرتضى على سلا وَسَار نَحْو بني مرين فَجمع لَهُ أَمِيرهمْ أَبُو بكر بن عبد الْحق جموع زناتة وصمد نَحوه حَتَّى إِذا ترَاءى الْجَمْعَانِ وتهيأ الْقَوْم للقاء خَالف كانون بن جرمون إِلَى آزمور فاستولى عَلَيْهَا وَغلب الْمُوَحِّدين عَلَيْهَا فَرجع السعيد أدراجه فِي أَتْبَاعه ففر كانون عَنْهَا فاعترضه السعيد فأوقع بِهِ واستلحم كثير من قومه سُفْيَان وَاسْتولى على مَا كَانَ لَهُم من مَال وماشية وَلحق كانون ببني مرين وَرجع السعيد إِلَى الحضرة ثمَّ تقدم الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق المريني إِلَى مكناسة فضايقها وخطب طَاعَة أَهلهَا فثارت الْعَامَّة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فَقَتَلُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وحذر شيوخها وكبراؤها من سطوته فحولوا الدعْوَة إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا الحفصي صَاحب إفريقية وَكَانَ استبد على بني عبد الْمُؤمن ورام التغلب حَتَّى على كرسيهم بمراكش فَبَايعهُ أهل مكناسة بمواطأة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ فِي أول أمره وَكَذَا أَخُوهُ السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق من بعده ثمَّ اسْتَقل بِنَفسِهِ واستبد بأَمْره عِنْدَمَا تمّ لَهُ ملك الْمغرب حَسْبَمَا نَقصه بعد إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه السّنة بعث أهل إشبيلية وَأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زَكَرِيَّا الحفصي أَيْضا وَبعث أَبُو عَليّ بن خلاص صَاحب سبتة إِلَيْهِ بهدية مَعَ ابْنه فِي أسطول أنشأه لذَلِك فغرق عِنْد إقلاعه من المرسى وَقبل هَذِه الْمدَّة بِيَسِير كَانَ الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا الحفصي قد تغلب على تلمسان وَبَايَعَهُ صَاحبهَا يغمراسن بن زيان العَبْد الْوَادي وَهُوَ جد ملك بني زيان أَصْحَاب تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط فَعظم قدر أبي زَكَرِيَّا بِسَبَب هَذِه البيعات الَّتِي انثالت عَلَيْهِ من سَائِر الْجِهَات وحدثته نَفسه بالتوثب على كرْسِي الْخلَافَة بمراكش وغص بَنو عبد الْمُؤمن بمكانه وَعظم عَلَيْهِم استبداده ثمَّ طمعه فِي كرسيهم وقرارة عزهم مَعَ أَنه مَا كَانَ إِلَّا جدولا من بحرهم وفرعا من دوحتهم وَالْأَمر كُله لله نهوض السعيد من مراكش إِلَى غَزْو الثوار بالمغربين ومحاصرته يغمراسن بن زيان وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر من مَقْتَله رَحمَه الله لما بلغ السعيد وَهُوَ بمراكش استبداد الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا بن أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص الهنتاتي بإفريقية ومبايعة أُمَرَاء الْجِهَات لَهُ أعمل نظره فِي الْحَرَكَة إِلَى هَؤُلَاءِ الثوار والنهوض لتدويخ هَذِه الأقطار وَكَانَ السعيد شهما حازما يقظا بعيد الهمة فَنظر فِي أعطاف دولته وفاوض الْمَلأ من الْمُوَحِّدين فِي تثقيف أطرافها وتقويم أودها وحرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 هممهم وأثار حفائظهم وأراهم كَيفَ اقتطع عَنْهُم الْأَمر شَيْئا فَشَيْئًا فَابْن أبي حَفْص اقتطع إفريقية ويغمراسن بن زيان اقتطع الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ أَقَامَ فِيهِ الدعْوَة الحفصية وَابْن هود اقتطع الأندلس وَأقَام فِيهَا دَعْوَة بني الْعَبَّاس وَابْن الْأَحْمَر بالجانب الآخر مِنْهَا مُقيم للدعوة الحفصية أَيْضا وَهَؤُلَاء بَنو مرين قد تغلبُوا على ضواحي الْمغرب ثمَّ سموا إِلَى تملك أمصاره وَإِن سكتنا على هَذَا فيوشك أَن يخْتل الْأَمر وتنقرض الدولة فتذامروا وتداعوا إِلَى النهوض إِلَيْهِم فحشد السعيد الْجنُود وجهز العساكر وأزاح عللهم واستنفر عرب الْمغرب وَمَا يَلِيهِ واحتشد كَافَّة المصامدة ونهض من مراكش آخر سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص ثَالِثا وَلما نزل بوادي بهت أَخذ فِي عرض عساكره وتمييزها فَخرج الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق من مكناسة لَيْلًا وَحده يتجسس الْأَخْبَار فَأَشْرَف على جموع السعيد فَرَأى مَا لَا قبل لَهُ بِهِ فَعَاد إِلَى قومه وَأَفْرج للسعيد عَن الْبِلَاد وتلاحقت بِهِ بَنو مرين من أماكنها الَّتِي كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر أنزلهم بهَا واجتمعوا عَلَيْهِ بحصن تازا وطامن بِلَاد الرِّيف وَتقدم السعيد إِلَى مكناسة فَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا يطْلبُونَ مِنْهُ الْعَفو وَقدمُوا بَين أَيْديهم الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عَليّ مَنْصُور بن حرزوز وتلقوه بالصبيان من الْمكَاتب على رؤوسهم الألواح وَبَين أَيْديهم الْمَصَاحِف وَخرج النِّسَاء حاسرات يطلبن الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ ارتحل إِلَى تازا فِي أَتبَاع بني مرين وانتقل أَبُو بكر بن عبد الْحق إِلَى بني يزناسن ثمَّ رَاجع نظره فِي مسالمة الْمُوَحِّدين وَالدُّخُول فِي أَمرهم فَبعث ببيعته إِلَى السعيد وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتازا مَعَ جمَاعَة من وُجُوه بني مرين فقبلها السعيد وَعَفا لَهُم عَمَّا سلف فَسَأَلَهُ وفدهم أَن يستكفي بالأمير أبي بكر فِي أَمر تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان وَقد كتب إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 بذلك يَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ارْجع إِلَى حضرتك وقوني بالجيش وَأَنا أكفيك أَمر يغمراسن وَافْتَحْ لَك تلمسان فَاسْتَشَارَ السعيد وزراءه فَقَالُوا لَا تفعل فَإِن الزناتي أَخُو الزناتي لَا يَخْذُلهُ وَلَا يُسلمهُ فَكتب إِلَيْهِ السعيد بِأَن يبْعَث إِلَيْهِ جمَاعَة من قومه يعسكرون مَعَه فأمده الْأَمِير أَبُو بكر بِخَمْسِمِائَة من قبائل بني مرين وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه أبي عياد بن ابي يحيى بن حمامة وَخَرجُوا تَحت رايات السعيد ونهض من تازا يُرِيد تلمسان وَعند ابْن أبي زرع أَن السعيد لما فرغ من أَمر مكناسة عَسْكَر بِظَاهِر فاس وهنالك أَتَتْهُ بيعَة بني مرين قَالَ ثمَّ ارتحل السعيد عَن فاس فِي الرَّابِع عشر من محرم سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَخسف الْقَمَر تِلْكَ اللَّيْلَة خسوفا كليا وَأصْبح السعيد غاديا يُرِيد تلمسان فَلَمَّا ركب فرسه انْكَسَرت لؤلؤة المنصوري فتطير وَنزل وَلم يرتحل إِلَّا فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما سمع يغمراسن بإقبال السعيد إِلَيْهِ خرج من تلمسان فِي عشيرته وَقَومه من سَائِر بني عبد الواد وتحملوا بأهليهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى قلعة تامزردكت قبْلَة وَجدّة فَاعْتَصمُوا بهَا ووفد على السعيد الْفَقِيه عبدون وَزِير يغراسن مُؤديا للطاعة وساعيا فِي مَذَاهِب الْخدمَة ومتوليا من حاجات الْخَلِيفَة بتلمسان مَا يَدعُوهُ إِلَيْهِ ويصرفه فِي سَبيله ومعتذرا تخلف يغمراسن عَن الْوُصُول إِلَى حَضْرَة السعيد فلج السعيد فِي شَأْنه وَلم يعذرهُ وأبى إِلَّا مُبَاشرَة طَاعَته بِنَفسِهِ وساعده فِي ذَلِك كانون بن جرمون السفياني صَاحب الشورى بمجلسه وَمن حضر من الْمَلأ وردوا الْفَقِيه عبدون إِلَى يغمراسن ليستقدمه فتثاقل يغمراسن عَن الْقدوم خشيَة على نَفسه وَاعْتمد السعيد الْجَبَل فِي عساكره حَتَّى أَنَاخَ بهَا فِي ساحة القلعة وَأخذ بمخنقهم ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع ركب مهجرا فِي وَقت القيلولة على حِين غَفلَة من النَّاس ليتطوف بالقلعة ويتقرى مكامنها فَبَصر بِهِ فَارس من بني عبد الواد يعرف بِيُوسُف الشَّيْطَان كَانَ أَسْفَل الْجَبَل بِقصد الحراسة وَاتفقَ أَن يغمراسن بن زيان وَابْن عَمه يَعْقُوب بن جَابر كَانَا قريبين مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فعرفوا السعيد فَانْفَضُّوا عَلَيْهِ من بعض الشعاب أَمْثَال العقبان وطعنه يُوسُف الشَّيْطَان فكبه عَن فرسه وَعمد يَعْقُوب بن جَابر إِلَى وزيره يحيى بن عطوش فَقتله ثمَّ استحلموا لوقتهم موَالِيه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان وقائد جند النَّصَارَى وَهُوَ أَخُو القمط ووليدا يافعا من ولد السعيد وَيُقَال إِنَّمَا كَانَ ذَلِك يَوْم عبى السعيد العساكر وَصعد الْجَبَل لِلْقِتَالِ وَتقدم أَمَام النَّاس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعرة فِي طَرِيقه فتواثب عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الفرسان وَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ وَذَلِكَ منسلخ صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وانْتهى الْخَبَر إِلَى الْمحلة فارتجت وَمَاجَتْ وَأخذ أَهلهَا فِي الْفِرَار وبادر يغمراسن إِلَى السعيد فَنزل إِلَيْهِ وَهُوَ صريع على الأَرْض فحياه وفداه وَأقسم لَهُ على الْبَرَاءَة من دَمه والسعيد رَحمَه الله واجم بمصرعه يجود بِنَفسِهِ إِلَى أَن فاظ وانتهب المعسكر بجملته وَاسْتولى بَنو عبد الواد على مَا كَانَ بِهِ من الأخبية الْحَسَنَة والفازات الرفيعة واختص يغمراسن بفسطاط السُّلْطَان فَكَانَ لَهُ خَالِصَة دون قومه وَاسْتولى على الدخيرة الَّتِي كَانَت فِيهِ مِنْهَا مصحف عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَزْعمُونَ أَنه أحد الْمَصَاحِف الَّتِي انتسخت لعهد خِلَافَته وَإنَّهُ كَانَ فِي خَزَائِن قرطبة عِنْد ولد عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل ثمَّ صَار فِي ذخائر لمتونة فِيمَا صَار إِلَيْهِم من ذخائر مُلُوك الطوائف بالأندلس ثمَّ صَار إِلَى خَزَائِن الْمُوَحِّدين من يَد لمتونة قَالَ ابْن خلدون وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد فِي خَزَائِن بني مرين فِيمَا استولوا عَلَيْهِ من ذخيرة آل زيان وَذَلِكَ عِنْد غلب السُّلْطَان أبي الْحسن المريني على تلمسان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة كَمَا نذكرهُ اه وَقد تقدم لنا الْخَبَر عَن هَذَا الْمُصحف العثماني وَفِيه مُخَالفَة لبَعض مَا هُنَا وَسَيَأْتِي لنا فِي دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني مَا يُخَالف ذَلِك كُله وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَمن الذَّخَائِر الَّتِي صَارَت ليغمراسن من فسطاط السعيد العقد المنتظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 من خَرَزَات الْيَاقُوت الفاخر والدر النفيس الْمُشْتَمل على مئين مُتعَدِّدَة من حصبائه وَكَانَ يُسمى بالثعبان ثمَّ صَار إِلَى بني مرين أَيْضا إِلَى أَن تلف فِي الْبَحْر عِنْد غرق الأسطول بالسلطان أبي الْحسن بمرسى بجاية مرجعة من تونس حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِلَى ذخائر من أَمْثَاله وطرف من أشباهه مِمَّا يستخلصه الْمُلُوك لأَنْفُسِهِمْ ويعتدونه من ذخائرهم وَلما سكنت الْفِتْنَة وركد عاصف تِلْكَ الهيعة نظر يغمراسن فِي شَأْن مواراة الْخَلِيفَة فجهزه وَرَفعه على أعواده فدفنه بالعباد بمقبرة الشَّيْخ أبي مَدين رَضِي الله عَنهُ ثمَّ نظر فِي شَأْن حرمه وَأُخْته تاعزونت الشهيرة الذّكر بعد أَن جاءها وَاعْتذر إِلَيْهَا مِمَّا وَقع وأصحبهن جملَة من مشيخة بني عبد الواد إِلَى مأمنهن فألحقوهن بدرعة من تخوم طاعتهم فَكَانَ ليغمراسن بذلك حَدِيث جميل فِي الْإِبْقَاء على الْحرم ورعي حُقُوق الْملك وَأما أهل محلّة السعيد فَإِنَّهُم بعد نهوضهم تداعوا واجتمعوا إِلَى عبد الله بن السعيد وقفلوا قَاصِدين مراكش واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر بن عبد الْحق وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببني يزنسن وقدمت عَلَيْهِ الْحصَّة الَّتِي كَانَ وَجههَا مَعَ السعيد فتحقق الْخَبَر وانتهز الفرصة فِي الْمُوَحِّدين فَاعْترضَ عَسْكَرهمْ بجهات تازا فَقتل عبد الله بن السعيد واستلبهم وَاسْتولى على مَا بَقِي من أثاثهم ثمَّ جد السّير إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا وملكها وَلحق فل الْمُوَحِّدين بمراكش فَبَايعُوا عمر المرتضى كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن دولة أبي حَفْص عمر المرتضى ابْن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن رَحمَه الله لما توفّي أَبُو الْحسن السعيد كَانَ عمر المرتضى واليا من قبله بقصبة رِبَاط الْفَتْح من سلا كَمَا قدمنَا فَاجْتمع الموحدون بِجَامِع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وعقدوا لَهُ الْبيعَة وبعثوا بهَا إِلَيْهِ ونهض هُوَ مُتَوَجها إِلَى مراكش فَلَقِيَهُ وفدهم أثْنَاء طَرِيقه بتامسنا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ أَشْيَاخ الْعَرَب فَبَايعُوهُ أَيْضا واستقام أمره وتلقب بالمرتضى وَعقد ليعقوب بن كانون على بني جَابر ولعمه يَعْقُوب بن جرمون على عرب سُفْيَان بعد أَن كَانَ قومه قدموه عَلَيْهِم وَدخل الحضرة واستوزر أَبَا مُحَمَّد بن يُونُس من قرَابَته وَقبض على حَاشِيَة السعيد ثمَّ وصل أَخُوهُ السَّيِّد أَبُو إِسْحَاق الَّذِي كَانَ وزيرا للسعيد من قبل ناجيا من وقْعَة تامزردكت آخِذا على طَرِيق سجلماسة فاستوزره أَيْضا وَأسْندَ إِلَيْهِ أمره وَاسْتولى أَبُو بكر بن عبد الْحق أَمِير بني مرين بعد مهلك السعيد على رِبَاط تازا ومكناسة ثمَّ استولى سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة على فاس وأعمالها فاقتطع عَن المرتضى بِلَاد الغرب كلهَا وَلم يبْق لَهُ إِلَّا بِلَاد الْحَوْز من سلا إِلَى السوس ولأول دولة المرتضى كَانَ اسْتِيلَاء الْعَدو على إشبيلية إِحْدَى قَوَاعِد الأندلس فَإِن طاغية قشتالة وَهُوَ الإصبنيول خذله الله حاصرها سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس من شعْبَان من السّنة بعْدهَا ملكهَا صلحا بعد منازلتها حولا كَامِلا وَخَمْسَة أشهر وانتقل كرْسِي المملكة الإسلامية بالأندلس إِلَى غرناطة وَذَلِكَ فِي دولة بني الْأَحْمَر وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ملك الْأَمِير أَبُو بكر المريني سلا ورباط الْفَتْح ووفد على المرتضى بمراكش مُوسَى بن زيان الونكاسي وَأَخُوهُ عَليّ بن زيان من قبيل بني مرين وأغروه بِقِتَال بني عبد الْحق فأسعفهم وَلما انْتهى إِلَى أَمَان إيملولين أشاع يَعْقُوب بن جرمون السفياني قَضِيَّة الصُّلْح بَينهمَا وَأصْبح راحلا وَقد استولى الْجزع على قُلُوب الْجَيْش فَانْفَضُّوا وَوَقعت الْهَزِيمَة من غير قتال وَوصل المرتضى إِلَى الحضرة وأغضى ليعقوب عَمَّا صدر مِنْهُ وَفِي سنة خمسين وسِتمِائَة اسْترْجع المرتضى سلا ورباط الْفَتْح من يَد بني مرين وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين بعْدهَا فر من حَاشِيَة المرتضى عَليّ بن يدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 من بني باداسن وَلحق بِبِلَاد السوس وتحصن بِبَعْض جبالها ثمَّ حاصر تارودانت قَاعِدَة بِلَاد السوس فاستولى عَلَيْهَا واستخدم الشبانات وَذَوي حسان من عرب معقل وأطاعته قبائل جزولة واستفحل أمره وَاسْتولى على بسائط السوس فَوجه إِلَيْهِ المرتضى عدَّة جيوش فَهزمَ الْبَعْض وَقتل الْبَعْض ثمَّ جَاءَ ابو دبوس من بعد المرتضى فَنَهَضَ إِلَيْهِ وحاصره بِبَعْض حصونه قرب تارودانت وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار رغب فِي الْإِقَالَة ومعاودة الطَّاعَة فَقبل ذَلِك مِنْهُ أَبُو دبوس وأقلع عَن حصاره وَعَاد إِلَى الحضرة وَلما استولى بَنو مرين على مراكش سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة استبد على بني يدر هَذَا عَلَيْهِم وتملك قطر السوس وَاسْتولى على تارودانت وَسَائِر قراه ومعاقله وأرهف حَده للْعَرَب وسامهم الهضيمة فزحفوا إِلَيْهِ وقتلوه فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ توارث قطر السوس من بعده جمَاعَة من عشيرته وَاسْتمرّ ملكهم عَلَيْهِ إِلَى زمَان السُّلْطَان أبي الْحسن المريني فَغَلَبَهُمْ عَلَيْهِ وانقرض أَمرهم رَجَعَ إِلَى أَخْبَار عمر المرتضى وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة خرج أَبُو الْحسن بن يَعْلُو قَائِد المرتضى فِي جَيش من الْمُوَحِّدين إِلَى تامسنا ليكشف أَحْوَال الْعَرَب وَمَعَهُ يَعْقُوب بن شيخ بني جَابر قبض عَلَيْهِ وعَلى وزيره ابْن مُسلم وطير بهما إِلَى الحضرة معتقلين وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين بعْدهَا خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس وأعمالها من يَد بني مرين المتغلبين عَلَيْهَا واحتفل فِي الاحتشاد وَبَالغ فِي الاستعداد فَكَانَ جَيْشه ثَمَانِينَ ألف فَارس من الْمُوَحِّدين وَالْعرب والأغزاز وَأهل الأندلس والفرنج فَسَار حَتَّى نزل جبل بني بهْلُول قبْلَة فاس وَكَانَت هَيْبَة بني مرين وناموسهم قد تمكن من قُلُوب جَيش المرتضى فَكَانُوا مُنْذُ قربوا من أحواز فاس لَا ينامون إِلَّا غرارا فَانْطَلق ذَات لَيْلَة فرس لبَعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الجنديين وَجرى بَين الأخبية وَجرى النَّاس خَلفه ليأخذوه فَظن أهل الْمحلة أَن بني مرين قد أَغَارُوا عَلَيْهِم فَرَكبُوا خيولهم وماج بَعضهم فِي بعض وانقلبوا منهزمين لَا يلوون على شَيْء واتصل الْخَبَر بِأبي بكر بن عبد الْحق وَهُوَ بفاس فَخرج للْوَقْت واحتوى على جَمِيع مَا فِي محلّة الْمُوَحِّدين من الأخبية والأثاث وَالسِّلَاح وَالْمَال وَمر المرتضى على وَجهه فَدخل مراكش فِي جمع قَلِيل من الْأَشْيَاخ والإفرنج وَأقَام بهَا وَأعْرض عَن بني مرين وتسلى عَنْهُم سَائِر أَيَّامه وازدادت شَوْكَة الْمُوَحِّدين ضعفا واستبد أَبُو الْقَاسِم العزفي بسبتة واستتب أمره بهَا وتوارث الرياسة بهَا عشيرته من بعده زَمَانا إِلَى أَن غلبهم عَلَيْهَا بَنو مرين وَفِي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة استولى أَبُو بكر بن عبد الْحق على سجلماسة وتقبض على واليها عبد الْحق بن أصكوا بمداخلة خديم لَهُ يعرف بِمُحَمد القطراني وَشرط على الْأَمِير أبي بكر أَن يكون هُوَ الْوَالِي عَلَيْهَا فَأمْضى لَهُ شَرطه وَأنزل مَعَه بهَا جمَاعَة من رجالات بني مرين حَتَّى إِذا هلك أَبُو بكر بن عبد الْحق أخرجهم مُحَمَّد القطراني واستبد بِأَمْر سجلماسة وراجع دَعْوَة المرتضى وَاعْتذر إِلَيْهِ وَاشْترط عَلَيْهِ الاستبداد فَأمْضى لَهُ شَرطه إِلَّا فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة وَبعث أَبَا عمر بن حجاج قَاضِيا من الحضرة وَبَعض السَّادة للنَّظَر فِي الْقَضِيَّة وَقَائِدًا من النَّصَارَى بعسكر للحماية فأعمل القَاضِي ابْن حجاج الْحِيلَة فِي قتل القطراني وَتَوَلَّى الفتك بِهِ قَائِد النَّصَارَى واستبد السَّيِّد بِأَمْر سجلماسة بدعوة المرتضى واستفحل أَمر بني مرين أثْنَاء ذَلِك وَنزل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق بسائط تامسنا فسرح إِلَيْهِم المرتضى عَسَاكِر الْمُوَحِّدين لنظر يحيى بن عبد الله بن وانودين فأجفلوا إِلَى وَادي أم الرّبيع واتبعهم الموحدون وألحوا عَلَيْهِم فعطف عَلَيْهِم بَنو مرين واقتتلوا بِبَطن الْوَادي فانهزمت عَسَاكِر الْمُوَحِّدين وغدر بهم بَنو جَابر وَكَانَ فِي مسيل الْوَادي كدى يحسر عَنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 المَاء فتبدو كَأَنَّهَا أرجل فسميت الْوَاقِعَة من أجل ذَلِك بِأم الرجلَيْن وَذَلِكَ فِي سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة وَبَقِي المرتضى يعالج أَمر عَليّ بن بدر الثائر بالسوس إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَأقبل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي جموع بني مرين حَتَّى نزل على مراكش واتصل الْحَرْب بَينه وَبَين الْمُوَحِّدين بظاهرها أَيَّامًا هلك فِيهَا عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد الْحق فَبعث المرتضى إِلَى أَبِيه يَعْقُوب بالتعزية ولاطفه وَضرب إتاوة يبْعَث بهَا إِلَيْهِ فِي كل سنة فَرضِي يَعْقُوب وارتحل عَنْهَا وَقيل إِن مقتل عبد الله بن يَعْقُوب كَانَ سنة سِتِّينَ قبل وقْعَة أم الرجلَيْن وَالله تَعَالَى أعلم انْتِقَاض أبي دبوس على المرتضى واستيلاؤه على مراكش ومقتل المرتضى عقب ذَلِك لما ارتحل بني مرين عَن مراكش بعد مهلك عبد الله بن يَعْقُوب فر من الحضرة قَائِد حروب المرتضى وَابْن عَمه وَهُوَ السَّيِّد أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس الملقب بِأبي دبوس ابْن السَّيِّد أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن السَّيِّد أبي حَفْص عمر بن عبد الْمُؤمن لسعاية تمكنت فِيهِ عِنْد المرتضى وَأَنه يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ فاحس أَبُو دبوس بِالشَّرِّ وَلحق بِيَعْقُوب بن عبد الْحق فأدركه عِنْد مقدمه إِلَى فاس قَافِلًا من مَنَازِله مراكش فَأقبل عَلَيْهِ الْأَمِير يَعْقُوب وَبَالغ فِي إكرامه فَطلب مِنْهُ أَبُو دبوس الْإِعَانَة على حَرْب المرتضى وَكَانَ بطلا محربا وَضمن لَهُ فتح مراكش وَاشْترط لَهُ الْمُقَاسَمَة فِيمَا يغلب عَلَيْهِ من السُّلْطَان وَمَا يستفيده من الذَّخِيرَة وَالْمَال فأمده الْأَمِير يَعْقُوب بِخَمْسَة آلَاف من بني مرين وبالكفاية من المَال وبالمستجاد من آلَة الْحَرْب من طبول وبنود وَنَحْو ذَلِك وَكتب لَهُ مَعَ ذَلِك إِلَى عرب جشم وأميرهم يَوْمئِذٍ عَليّ بن أبي الخلطي أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة فَسَار أَبُو دبوس حَتَّى وصل إِلَى سلا فَكتب مِنْهَا إِلَى الْعَرَب وأشياخ الْمُوَحِّدين والمصامدة الَّذين فِي طَاعَة المرتضى يَدعُوهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 إِلَى بيعَته ويعدهم ويمنيهم فَتَلَقَّتْهُ وُفُود الْعَرَب والهساكرة وصنهاجة آزمور بِبَعْض الطَّرِيق فَبَايعُوهُ وَسَارُوا مَعَه حَتَّى نزل بِلَاد هسكورة ثمَّ كتب إِلَى خاصته من وزراء المرتضى أَن يعلموه بِحَال الْبَلَد والدولة فراجعوه أَن أسْرع السّير وَأَقْبل وَلَا تخشن شَيْئا فَإنَّا قد فرقنا الْجند فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَهَذَا وَقت انتهاز الفرصة فزحف أَبُو دبوس إِلَى مراكش حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى أغمات وجد بهَا الْوَزير أَبَا زيد بن يكيت فِي جَيش من حاميتها فناجزه الْحَرْب فَانْهَزَمَ ابْن يكيت وَقتل عَامَّة أَصْحَابه وَسَار أَبُو دبوس يؤم مراكش وَمَعَهُ سُفْيَان وَبنى جَابر وَكَبِيرهمْ يَوْمئِذٍ علوش بن كانون السفياني فَلَمَّا دنوا من مراكش أغار علوش على بَاب الشَّرِيعَة مِنْهَا وَالنَّاس فِي صَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى ركز رمحه بمصراع الْبَاب وَدخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة والمرتضى بمراكش غافل عَن شَأْن أبي دبوس والأسوار خَالِيَة من الحامية والحراص فقصد أَبُو دبوس بَاب أغمات وتسور الْبَلَد من هُنَالك وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وصمد إِلَى القصبة فاقتحمها من بَاب الطبول وَاسْتولى عَلَيْهَا وَقَالَ ابْن أبي زرع إِن دُخُول أبي دبوس مراكش كَانَ من بَاب الصَّالِحَة وَذَلِكَ ضحى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة والصالحة الَّتِي اضيف إِلَيْهَا هَذَا الْبَاب هِيَ بُسْتَان كَبِير من جملَة بساتين أجدال دَار الْخلَافَة بمراكش وَلَا زَالَ هَذَا الْبُسْتَان مَشْهُور بِهَذَا الإسم إِلَى الْآن وَهُوَ من إنْشَاء عبد الْمُؤمن بن عَليّ رَحمَه الله فقد ذ كرّ الشَّيْخ أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد عذارى الأندلسي فِي كتاب الْبَيَان المعرب عَن أَخْبَار الْمغرب أَن بُسْتَان المسرة الَّذِي بِظَاهِر جنان الصَّالِحَة أنشأه عبد الْمُؤمن بن عَليّ كَبِير الْمُوَحِّدين قَالَ وَهُوَ بُسْتَان طوله ثَلَاثَة أَمْيَال وَعرضه قريب مِنْهَا فِيهِ كل فَاكِهَة تشْتَهى وجلب إِلَيْهِ المَاء من أغمات واستنبط لَهُ عيُونا كَثِيرَة قَالَ ابْن اليسع وَمَا خرجت أَنا من مراكش فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وَخَمْسمِائة إِلَّا وَهَذَا الْبُسْتَان الَّذِي غرسه عبد الْمُؤمن يبلغ مَبِيع زيتونه وفواكهه ثَلَاثِينَ ألف دِينَار مؤمنية على رخص الْفَاكِهَة بمراكش اه قلت ولشهرة هَذَا الْبُسْتَان وموقعه من النَّاس لهجت بِهِ صبيانهم وسجعوا بِهِ فَيَقُولُونَ يَا جردة مالحة أَيْن بت سارحة فِي جنان الصَّالِحَة فِي أسجاع غير هَذِه تجْرِي على أَلْسِنَة الصّبيان وَالله أعلم رَجَعَ إِلَى خبر أبي دبوس قَالَ ابْن أبي زرع لما اقتحم أَبُو دبوس مراكش سَار حَتَّى وقف بِبَاب البنود من القصبة فغلقت الْأَبْوَاب دونه وَقَامَ عبيد المخزن عَلَيْهَا يقاتلونه وَلما رأى المرتضى أَن أَبَا دبوس قد التحف مَعَه كسَاء دَار الْملك خرج من الْقصر ناجيا بِنَفسِهِ من بَاب الْفَاتِحَة وَمَعَهُ الْوَزير أَبُو زيد بن يَعْلُو الكومي وَأَبُو مُوسَى بن عزوز الهنتاتي ثمَّ انْتقل مِنْهَا إِلَى كدميوة ثمَّ إِلَى شفشاوة ثمَّ لحق آخرا بآزمور وَنزل على صهر لَهُ من بني عطوش كَانَ واليا عَلَيْهَا من قبله وَكَانَ ابْن عطوش هَذَا قد أسره الْعَدو فافتكه المرتضى بِمَال جسيم وزوجه ابْنَته وولاه آزمور فَلَمَّا وَقعت عَلَيْهِ الكائنة بمراكش ذهب إِلَيْهِ مستجيرا بِهِ ومطمئنا إِلَيْهِ فَكَانَ من جَزَائِهِ لَهُ أَن قبض عَلَيْهِ وَقَيده وَكتب إِلَيْهِ أبي دبوس يُعلمهُ بِشَأْنِهِ فَكتب أَبُو دبوس إِلَيْهِ يستكشفه فِي شَأْن الذَّخِيرَة فَأنْكر المرتضى أَن يكون قد أذخر شَيْئا وَحلف على ذَلِك ومت إِلَيْهِ بالرحم حَتَّى كَاد أَبُو دبوس يعْطف عَلَيْهِ ثمَّ أغراه خاصته بِهِ فَوجه إِلَيْهِ من قَتله فِي الطَّرِيق وأتى إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ وَسَار ابْن عطوش بفعلته هَذِه أظلم من الخيفقان وَكَانَ مقتل المرتضى فِي الْعشْر الآواخر من شهر ربيع الْأُخَر سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَكَانَ رَحمَه الله ينتمي إِلَى التصوف والزهد والورع وَتسَمى بثالث العمرين وَكَانَ مُولَعا بِالسَّمَاعِ لَا يكَاد يَخْلُو مِنْهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَكَانَ فِي أَيَّامه رخاء مفرط لم ير أهل مراكش مثله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَ ابْن الْخَطِيب كَانَ المرتضى فَاضلا خيرا عفيفا مغمد السَّيْف مائلا إِلَى الْهُدْنَة رَحمَه الله الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَلَاء إِدْرِيس الواثق بِاللَّه الْمَعْرُوف بِأبي دبوس لما تقدم أَبُو دبوس حَضْرَة الْخلَافَة على المرتضى وفر المرتضى عَنْهَا ملكهَا أَبُو دبوس واستتب أمره بهَا وَبَايَعَهُ كَافَّة الْمُوَحِّدين وَأهل العقد والحل من الوزراء وَالْفُقَهَاء والأشياخ وَكَانَ ذَلِك بِجَامِع الْمَنْصُور يَوْم الْأَحَد الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة واستقل أَبُو دبوس بمملكة مراكش وأعمالها وتلقب بالواثق بِاللَّه وَالْمُعْتَمد على الله وبذل الْعَطاء وَنظر فِي الولايات وَرفع المكوس عَن الرّعية وَلما اتَّصل بالأمير يَعْقُوب بن عبد الْحق مَا كَانَ من أبي دبوس واستيلائه على المملكة كتب إِلَيْهِ يهنئه بِالْفَتْح وَيطْلب مِنْهُ أَن يُمكنهُ من الشَّرْط الَّذِي شَرط لَهُ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْكتاب أَدْرَكته النخوة وَغلب عَلَيْهِ الْكبر وَقَالَ للرسول قل ليعقوب بن عبد الْحق يغتنم سَلَامَته وَيبْعَث إِلَيّ ببيعته حَتَّى أقره على مَا بِيَدِهِ وَإِلَّا غزوته بِجُنُود لَا قبل لَهُ بهَا فَعَاد الرَّسُول إِلَى الْأَمِير يَعْقُوب وأبلغه الْخَبَر وَدفع إِلَيْهِ كتاب أبي دبوس فَإِذا هُوَ يخاطبه مُخَاطبَة الْخُلَفَاء لعمالهم والرؤساء لخدمهم فتحقق الْأَمِير نكثه وغدره فَنَهَضَ إِلَيْهِ فِي جموع بني مرين وعساكر الْمغرب فَلَمَّا اشرف على مراكش خام أَبُو دبوس عَن اللِّقَاء وتحصن بداره ولجأ إِلَى أسواره فَتقدم الْأَمِير يَعْقُوب حَتَّى نزل على مراكش وحاصرها أَيَّامًا وعادت فِي نَوَاحِيهَا وانتسف مَا حولهَا وَلما رأى أَبُو دبوس مَا نزل بِهِ مِنْهُ كتب إِلَى قريعه يغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان يطْلب مِنْهُ أَن يشغل عَنهُ الْأَمِير يَعْقُوب بِمَا وَرَاءه من أَعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فاس وَالْمغْرب وأسنى لَهُ الْهَدِيَّة فِي ذَلِك وأكد الْعَهْد فِي الْمُوَالَاة والمناصرة فَأَجَابَهُ يغمراسن إِلَى ذَلِك نَهَضَ من حِينه فشن الغارات على ثغور الْمغرب واضرم نَار الْفِتْنَة بهَا واتصل ذَلِك بالأمير يَعْقُوب وَهُوَ محاصر لمراكش فَرجع عوده على بدنه وَسَار إِلَى يغمراسن فناجزه الْحَرْب وانتصف مِنْهُ على مَا يَنْبَغِي وحسم مَادَّة فَسَاده ثمَّ كرّ رَاجعا إِلَى مراكش فِي شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَلما عبر وَادي أم الرّبيع شن الغارات على النواحي وَبث السَّرَايَا فِي الْجِهَات وَطَالَ عيثه فِي الْبِلَاد وأبدأ فِي ذَلِك وَأعَاد حَتَّى ضَاقَتْ صُدُور بني عبد الْمُؤمن بمراكش وتكدر عيشهم فحرضهم أولياؤهم من عرب جشم وأغروهم باستنهاض أبي دبوس لمدافعة عدوه ووعدوهم النَّصْر من أنفسهم فَتحَرك أَبُو دبوس لذَلِك واشرأبت نَفسه إِلَى الْقِتَال فحشد وأبلغ وبرز من الحضرة فِي جيوش ضخمة وجموع وافرة وَلما علم الْأَمِير يَعْقُوب بِخُرُوجِهِ ودنوه مِنْهُ أظهر من نَفسه الْعَجز عَن لِقَائِه وكر رَاجعا إِلَى جِهَة بِلَاده يستجره بذلك ليبعد عَن الحضرة ومددها وَتَمَادَى أَبُو دبوس فِي اتِّبَاعه حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي ودغفو فكر عَلَيْهِ الْأَمِير يَعْقُوب والتحم الْقِتَال وَقَامَت الْحَرْب على سَاق فَلم تمض إِلَّا سَاعَة حَتَّى انهزم الْمُوَحِّدين وَأطلق أَبُو دبوس عنانه للفرار يُرِيد مراكش فَأَدْرَكته خيل بني مرين وتناولته رماحهم وخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ واحتز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى الْأَمِير يَعْقُوب فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى ثمَّ بعث بِهِ إِلَى فاس وَتقدم هُوَ إِلَى مراكش فاستولى عَلَيْهَا فِي أَوَائِل محرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وفر الموحدون الَّذين كَانُوا بمراكش إِلَى جبل تينملل فَبَايعُوا إِسْحَاق بن أبي إِبْرَاهِيم أَخا المرتضى فَبَقيَ ذبالة هُنَالك إِلَى سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق هُوَ وَابْن عَمه السَّيِّد أَبُو سعيد بن أبي الرّبيع ووزيره القبائلي وَأَوْلَاده فَقتلُوا جَمِيعًا وانقرضت دولة بني عبد الْمُؤمن من الأَرْض وَذَهَبت محَاسِن مراكش يَوْمئِذٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 بذهاب دولتهم والبقاء لله وَحده لَا رب غَيره وَلَا معبود سواهُ ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة إِحْدَى وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن جَعْفَر الخزرجي الْمَعْرُوف بالسبتي دَفِين مراكش وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب تاغزوت وَكَانَ شَيْخه أَبُو عبد الله الفخار من أَصْحَاب القَاضِي أبي الْفضل عِيَاض وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ جميل الصُّورَة أَبيض اللَّوْن حسن الثِّيَاب فصيح اللِّسَان قَادِرًا على الْكَلَام لَا يناظره أحد إِلَّا أَفْحَمَهُ حَتَّى كَأَن مواقع الْحجَج من الْكتاب وَالسّنة مَوْضُوعَة على طرف لِسَانه وَكَانَ مَعَ ذَلِك حَلِيمًا صبورا عطوفا يحسن إِلَى من يُؤْذِيه ويحلم عَمَّن يسفه عَلَيْهِ برا باليتامى وَالْمَسَاكِين رحِيما بهم يجلس حَيْثُ أمكنه الْجُلُوس من الْأَسْوَاق والطرقات ويحض النَّاس على الصَّدَقَة وَيَأْتِي بِمَا جَاءَ فِي فَضلهَا من الْآيَات والْآثَار فتنثال عَلَيْهِ من كل جَانب فيفرقها على الْمَسَاكِين وينصرف وَكَانَ لَهُ مَعَ الله تَعَالَى فِي التَّوَكُّل عَلَيْهِ عقد أكيد ومقام حميد قد ظهر أَثَره على روضته الْمُبَارَكَة بعد وَفَاته حدث أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الخزرجي قَالَ بَعَثَنِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد من قرطبة وَقَالَ لي إِذا رَأَيْت أَبَا الْعَبَّاس السبتي بمراكش فَانْظُر مذْهبه واعلمني بِهِ قَالَ فَجَلَست مَعَ السبتي كثيرا إِلَى أَن حصلت على مذْهبه فأعلمته بذلك فَقَالَ لي أَبُو الْوَلِيد هَذَا رجل مذْهبه أَن الْوُجُود ينفعل بالجود وَقَالَ الْوَزير ابْن الْخَطِيب كَانَ سَيِّدي أَبُو الْعَبَّاس السبتي رَضِي الله عَنهُ مَقْصُودا فِي حَيَاته مستغاثا بِهِ فِي الأزمات وحاله من أعظم الْآيَات الخارقة للْعَادَة ومبنى أمره على انفعال الْعَالم عَن الْجُود وَكَونه حِكْمَة فِي تأثر الْوُجُود لَهُ فِي ذَلِك أَخْبَار ذائعة وأمثال باهرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَلما توفّي ظهر هَذَا الْأَثر على تربته وانسحبت على مَكَانَهُ عَادَة حَيَاته وَوَقع الْإِجْمَاع على تَسْلِيم هَذِه الدَّعْوَى وتخطى النَّاس مُبَاشرَة قَبره بِالصَّدَقَةِ إِلَى بعثها لَهُ من أماكنهم على بعد المدى وَانْقِطَاع الْأَمَاكِن القصى تحملهم أَجْنِحَة نياتهم فَتَهْوِي إِلَيْهِ بمقاصدهم من كل فج عميق فيجدون الثَّمَرَة الْمَعْرُوفَة والكرامة الْمَشْهُورَة وَفِي سنة عشر وسِتمِائَة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب والأندلس وَفِي سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السّلمِيّ البلفيقي يَنْتَهِي نسبه إِلَى الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله من كبار الْعلمَاء العاملين والزهد الْمُحَقِّقين مثابرا على الِاجْتِهَاد والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى وَظَهَرت عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ المرية من عدوة الأندلس كرامات وَاجْتمعَ عَلَيْهِ خلق كثير وشاع ذكره هُنَالك فوشوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَة صَاحب مراكش وَهُوَ يُوسُف الْمُنْتَصر الموحدي فَكتب إِلَى عَامله على المرية يَأْمُرهُ بتوجيهه الشَّيْخ أبي إِسْحَاق مكرما غير مروع وَلما عزم الْعَامِل على تَوْجِيهه قَامَ الْعَامَّة والأتباع دون الشَّيْخ وَأَرَادُوا أَن يحولوا بَينه وَبَين الْعَامِل فَقَالَ لَهُم الشَّيْخ طَاعَة السُّلْطَان وَاجِبَة وَلما انْتهى إِلَى مراكش وَدخل على الْمُنْتَصر هابه وجله وَنَدم على مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ ثمَّ بَالغ فِي إكرامه وَبعد ذَلِك مرض الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَتُوفِّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة واحتفل النَّاس لجنازته وحضرها الْأُمَرَاء والكبراء وَكسر الْعَامَّة نعشه واقتسموا أعواده تبركا بِهِ وقبره مَشْهُور بمراكش بسوق الدَّقِيق مِنْهَا وبقرب ضريحه مَسْجِد جَامع ينْسب إِلَيْهِ والعامة تَقول جَامع سَيِّدي إِسْحَاق بِدُونِ لفظ الكنية وَلَيْسَ كَذَلِك وَفِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة كَانَ الْجَرَاد والقحط والغلاء الشَّديد بالمغرب وفيهَا ألف الْفَقِيه أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يحيى التادلي المراكشي الدَّار عرف بِابْن الزيات كِتَابه الْمُسَمّى بالتشوف إِلَى رجال التصوف وَذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 فِيهِ أَنه لم يتَعَرَّض لذكر أحد من أَوْلِيَاء زَمَانه الْأَحْيَاء غير أَنه ذكر أَن من جملَة أَوْلِيَاء زَمَانه الَّذين كَانُوا قيد الْحَيَاة الشَّيْخ الصَّالح الصُّوفِي أَبَا مُحَمَّد صَالح بن ينضارن بن عفيان الدكالي ثمَّ الماجري نزيل ربط آسفي قَالَ وَهُوَ الْآن يفتر من الْجِهَاد والمحافظة على المواصلة والأوراد وَمن كَلَامه الْفَقِير لَيْسَ لَهُ نِهَايَة إِلَّا الْمَوْت قَالَ وحَدثني عَنهُ تلامذته بعجائب من الكرامات وَالْكَلَام على الخواطر وَهُوَ على سنَن الْمَشَايِخ الأول رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَقيل فِيمَا بعد إِلَى سنة خمس وَعشْرين وَتُوفِّي رَضِي الله عَنهُ شَهِيدا بجبل الْعلم من جبال غمارة وقبره هُنَاكَ مَشْهُور من أعظم مزارات الْمغرب وَكَانَ سَبَب شَهَادَته أَن مُحَمَّدًا بن أبي الطواجين الكتامي كَانَ قد ثار بِتِلْكَ الْبِلَاد وَانْتَحَلَ صناعَة الكيمياء ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة حَسْبَمَا سلف وَتَبعهُ على ضلالته طغاة غمارة والبربر فَكَانَ عَدو الله يغص بمَكَان الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ لما آتَاهُ الله من شرف التَّقْوَى والاستقامة الْمُؤَيد بشرف النّسَب الصميم والعنصر الْكَرِيم فسول لَهُ الشَّيْطَان أَنه لَا يتم أَمر مخرقته فِي تِلْكَ النَّاحِيَة إِلَّا بقتل الشَّيْخ فَدس لَهُ جمَاعَة من أَتْبَاعه وأشياعه فرصدوا الشَّيْخ حَتَّى نزل من خلوته فِي سحر من الأسحار إِلَى عين هُنَالك قرب الْجَبَل الْمَذْكُور فَتَوَضَّأ مِنْهَا وَولى رَاجعا إِلَى مَحل عِبَادَته وارتقاب فجره فعدوا عَلَيْهِ وقتلوه وَمن الشَّائِع أَنه ألقِي عَلَيْهِم ضباب كثيف أضلهم عَن الطَّرِيق ودفعوا إِلَى شَوَاهِق تردوا مِنْهَا فِي مهاوي سحيقة تمزقت فِيهَا أشلاؤهم وَلم يرجع مِنْهُم خبر وَالشَّيْخ عبد السَّلَام هَذَا هُوَ ابْن مشيش بن أبي بكر بن عَليّ بن حُرْمَة بن عِيسَى بن سَلام بتَشْديد اللَّام بن مزوار بِفَتْح الْمِيم وبالراء الْمُهْملَة أخيرا ابْن حيدرة واسْمه عَليّ بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الله بن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا استأسد الْعَدو الْكَافِر على الْمُسلمين بالأندلس وتوالت لَهُ عَلَيْهِم الهزائم بمواضع مُتعَدِّدَة وَاسْتولى على كثير من الْحُصُون واستلحم مِنْهُم عدَّة أُلُوف حَتَّى خلت الْمَسَاجِد والأسواق وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة اشْتَدَّ الغلاء بالمغرب والأندلس حَتَّى بيع القفيز من الْقَمْح بِخَمْسَة عشرَة دِينَارا وَعم الْجَرَاد بِلَاد الْمغرب وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة كَانَ السَّيْل الْعَظِيم بفاس هدم من سورها القبلي نَحْو مسافتين وَهدم من جَامع الأندلس ثَلَاثَة بلاطات وَهدم دورا كَثِيرَة وفنادق مُتعَدِّدَة من عدوة الأندلس وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة كَانَ الغلاء بِبِلَاد الْمغرب وَكثر بهَا الْجُوع والوباء حَتَّى بلغ القفيز من الْقَمْح ثَمَانِينَ دِينَارا وخلت الْأَمْصَار من أَهلهَا وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة عاود الغلاء والوباء أَرض الْمغرب فَأكل النَّاس بَعضهم بَعْضًا وَكَانَ يدْفن فِي الحفير الْوَاحِد الْمِائَة من النَّاس وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَقع الْحَرِيق بأسواق فاس فاحترقت حارة بَاب السلسلة بأسرها إِلَى حمام الرحبة وَبِاللَّهِ تَعَالَى الْعِصْمَة والتوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة المرينية الْخَبَر عَن دولة بني مرين مُلُوك فاس وَالْمغْرب وَذكر أوليتهم وأصلهم اعْلَم أَن الْعَلامَة الرئيس أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون رَحمَه الله قسم جبل زناتة إِلَى طبقتين الطَّبَقَة الأولى هِيَ الَّتِي كَانَ مِنْهَا مغراوة مُلُوك فاس وَبَنُو يفرن مُلُوك سلا وَقد تقدم الْكَلَام على دولتهم مُسْتَوفى والطبقة الثَّانِيَة هِيَ الَّتِي كَانَ مِنْهُم بَنو عبد الواد مُلُوك تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَبَنُو مرين مُلُوك فاس وَالْمغْرب الْأَقْصَى وَهَؤُلَاء هم الَّذين تعلق الْغَرَض الْآن بذكرهم فَاعْلَم أَن جبل زناتة فِي الْمغرب كَمَا قَالَ الرئيس الْمَذْكُور جبل قديم مَعْرُوف الْعين والأثر وهم لهَذَا الْعَهْد آخذون من شعار الْعَرَب فِي سُكْنى الْخيام واتخاذ الْإِبِل وركوب الْخَيل والتقلب فِي الأَرْض وإيلاف الرحلتين وتخطف النَّاس من الْعمرَان والإباية من الانقياد إِلَى النصفة وشعارهم من بَين البربر اللُّغَة الَّتِي يتراطنون بهَا وَهِي مشتهرة بنوعها عَن سَائِر رطانة البربر ومواطنهم فِي سَائِر مَوَاطِن البربر بإفريقية وَالْمغْرب فَمنهمْ بِبِلَاد النخيل مَا بَين غدامس والسوس الْأَقْصَى حَتَّى أَن عَامَّة تِلْكَ الْقرى الجريدية بالصحراء مِنْهُم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية وبجبل أوراس بقايا مِنْهُم سكنوا مَعَ الْعَرَب الهلاليين لهَذَا الْعَهْد وأذعنوا لحكمهم وَالْأَكْثَر مِنْهُم بالمغرب الْأَوْسَط حَتَّى أَنه ينْسب إِلَيْهِم وَيعرف بهم فَيُقَال وَطن زناته وَمِنْهُم بالمغرب الْأَقْصَى أُمَم أخر وَكَانَ بَنو مرين مِنْهُم قبل استيلائهم على ملك الْمغرب أَحيَاء ظواعن بمجالات الْفقر من فيجج إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 سجلماسة إِلَى ملوية وَرُبمَا يخطون فِي ظعنهم إِلَى بِلَاد الزاب وَيذكر نسابتهم أَن الرياسة كَانَت فيهم فِي تِلْكَ العصور لمُحَمد بن ورزيز بن فكوس بن كرماط بن مرين ومرين يتَّصل نسبه بزانا بن يحيى أبي الجيل وَكَانَ لمُحَمد الْمَذْكُور سَبْعَة من الْوَلَد اثْنَان مِنْهُم شقيقان وهم حمامة وعسكر وَخَمْسَة أَبنَاء علات وَكَانَ يُقَال لَهُم بِلِسَان زناتة تيربعين وَمَعْنَاهُ الْجَمَاعَة ويزعمون أَن مُحَمَّد بن ورزيز لما هلك قَامَ بأَمْره من قومه ابْنه حمامة بن مُحَمَّد وَكَانَ الْأَكْبَر من وَلَده ثمَّ من بعده شقيقه عَسْكَر بن مُحَمَّد ثمَّ من بعده ابْنه المخضب بن عَسْكَر وَهلك سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة فِي بعض الحروب الَّتِي كَانَت بَين عبد الْمُؤمن والمرابطين ثمَّ قَامَ بِأَمْر بني مرين بعد المخضب ابْن عَمه أَبُو بكر بن حَمَاقَة بن مُحَمَّد إِلَى أَن هلك فَقَامَ بأمرهم ابْنه أَبُو خَالِد محيو بن أبي بكر وَلم يزل مُطَاعًا فيهم إِلَى أَن استنفرهم يَعْقُوب الْمَنْصُور إِلَى غَزْوَة الأرك بالأندلس فشهدوها وأبلوا فِيهَا الْبلَاء الْحسن وأصابت محيو بن أبي بكر يَوْمئِذٍ جراحات هلك مِنْهَا بصحراء الزاب سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ من رياسة عبد الْحق ابْنه من بعده وبقائها فِي عقبَة مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن دُخُول بني مرين أَرض الْمغرب الْأَقْصَى واستيلائهم عَلَيْهِ وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ السَّبَب فِي دُخُول بني مرين لهَذَا الْقطر المغربي أَنه لما كَانَت وقْعَة الْعقَاب بالأندلس سنة تسع وسِتمِائَة وَهزمَ النَّاصِر وَهلك الْجُمْهُور من حامية الْمغرب ورعاياه حَتَّى خلت الْبِلَاد من أَهلهَا ثمَّ حدث عقب ذَلِك الوباء الْعَظِيم الَّذِي تحيف النَّاس إِلَّا قَلِيلا وَهلك النَّاصِر سنة عشر بعْدهَا فَبَايع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الموحدون ابْنه يُوسُف الْمُنْتَصر وَهُوَ يَوْمئِذٍ صبي حدث لَا يحسن التَّدْبِير وشغلته مَعَ ذَلِك أَحْوَال الصِّبَا ولذات الْملك عَن الْقيام بِأَمْر الرّعية فتضافرت هَذِه الْأَسْبَاب على الدولة الموحدية فأضعفتها لحينها وأمرضتها الْمَرَض الَّذِي كَانَ سَببا لحينها وَكَانَ بَنو مرين يَوْمئِذٍ موطنين بِبِلَاد الْقبْلَة من زاب إفريقية إِلَى سجلماسة يتنقلون فِي تِلْكَ القفار والصحارى لَا يدْخلُونَ تَحت حكم سُلْطَان وَلَا تنالهم الدولة بهضيمة وَلَا يؤدون إِلَيْهَا ضريبة كَثِيرَة وَلَا قَليلَة وَلَا يعْرفُونَ تِجَارَة وَلَا حرثا إِنَّمَا شغلهمْ الصَّيْد وطراد الْخَيل والغارات على أَطْرَاف الْبِلَاد وَكَانَت طَائِفَة مِنْهُم ينتجعون تخوم الْمغرب وتلوله زمَان الرّبيع والصيف فيكتالون من أَطْرَاف الْبِلَاد مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْميرَة ويرعون فِيهَا تِلْكَ الْمدَّة أنعامهم وشاءهم حَتَّى إِذا أقبل فصل الشتَاء اجْتمع نجعهم بأكرسيف ثمَّ شدوا الرحلة إِلَى بِلَادهمْ فَكَانَ ذَلِك دأبهم على مر السنين فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وسِتمِائَة أقبل نجعهم على عَادَته للارتفاق والمبرة حَتَّى إِذا أطلوا على الْمغرب من ثناياه ألفوه قد تبدلت أَحْوَاله وبادت خيله وَرِجَاله وفنيت حماته وأبطاله وعريت من أَهله أوطانه وخف مِنْهَا سكانه وقطانه ووجدوا الْبِلَاد مَعَ ذَلِك طيبَة المنبت خصيبة المرعى غزيرة المَاء وَاسِعَة الأكناف فسيحة الْمزَارِع متوفرة العشب لقلَّة راعيها مخضرة التلول والربى لعدم غاشيها فأقاموا بمكانهم وبعثوا إِلَى إخْوَانهمْ فَأَخْبرُوهُمْ بِحَال الْبِلَاد وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الخصب والأمن وَعدم المحامي والمدافع فاغتنموا الفرصة وَأَقْبلُوا مُسْرِعين بنجعهم وحللهم وانتشروا فِي نواحي الْمغرب وأوجفوا عَلَيْهَا بخيلهم وركابهم واكتسحوا بالغارات والنهب بسيطها ولجأت الرعايا إِلَى حصونها ومعاقلها وَتمّ لَهُم مَا أَرَادوا من الِاسْتِيلَاء على بسيط الْمغرب وسهله وانتجاع مواقع طله ووبله الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن محيو المريني رَحمَه الله لما دخل بَنو مرين الْمغرب كَانَ الْأَمِير عَلَيْهِم يَوْمئِذٍ عبد الْحق بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 محبو بن أبي بكر بن حمامة بن مُحَمَّد المريني فَكثر عيثهم وضررهم بالمغرب وأعضل داؤهم وتضاعف على الرّعية بلاؤهم فَرفعت الشكايات بهم إِلَى الْخَلِيفَة بمراكش وَهُوَ يَوْمئِذٍ يُوسُف الْمُنْتَصر بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور فَجهز لَهُم جَيْشًا كثيفا من عشْرين ألفا وَعقد عَلَيْهِ لأبي عَليّ بن وانودين وَكتب لَهُ إِلَى صَاحب فاس السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ مَعَه لغزو بني مرين والإثخان فيهم وَعدم الْإِبْقَاء عَلَيْهِم مهما قدر على ذَلِك واتصل الْخَبَر ببني مرين وهم فِي جِهَات الرِّيف وبلاد بطوية فتركوا أثقالهم وعيالهم بحصن تازوطا من أَرض الرِّيف وصمدوا إِلَى الْمُوَحِّدين فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي نكور فَكَانَ الظُّهُور لبني مرين على الْمُوَحِّدين فهزموهم وقتلوهم وامتلأت الْأَيْدِي من أسلابهم وأمتعتهم وَرجع الموحدون إِلَى فاس يخصفون عَلَيْهِم من ورق النَّبَات الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْمغرب بالمشعلة لِكَثْرَة الخصب يَوْمئِذٍ واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلي فسميت تِلْكَ السّنة يَوْمئِذٍ بعام المشعلة وَهِي سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة ثمَّ زحف الْأَمِير عبد الْحق فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة بجموع بني مرين إِلَى رِبَاط تازة حَتَّى وقف بِإِزَاءِ زيتونها فَخرج عاملها لحربه فِي جَيش كثيف من الْمُوَحِّدين وَالْعرب والحشد من قبائل تسول ومكناسة وَغَيرهم فقتلت بَنو مرين الْعَامِل الْمَذْكُور وهزموا جيوشه وَجمع عبد الْحق الأسلاب وَالْخَيْل وَالسِّلَاح وَقسم ذَلِك كُله فِي قبائل بني مرين وَلم يمسك مِنْهَا لنَفسِهِ شَيْئا وَقَالَ لِبَنِيهِ إيَّاكُمْ أَن تَأْخُذُوا من هَذِه الْغَنَائِم شَيْئا فَإِنَّهُ يكفيكم مِنْهَا الثَّنَاء والظهور على أعدائكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 حَرْب بني مرين مَعَ عرب ريَاح ومقتل الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله لما انتصر بَنو مرين على أعدائهم الْمُوَحِّدين حصل فِي نفوس بني عَسْكَر بن مُحَمَّد من عشيرتهم نفاسة عَلَيْهِم وَضَاقَتْ صُدُورهمْ من اسْتِقْلَال بني عمهم حمامة بن مُحَمَّد بالرياسة دونهم فخالفوا الْأَمِير عبد الْحق وعشيرته إِلَى مُظَاهرَة الْمُوَحِّدين وأوليائهم من عرب ريَاح وَكَانَت ريَاح يَوْمئِذٍ أَشد قبائل الْمغرب قُوَّة وَأَقْوَاهُمْ شَوْكَة وَأَكْثَرهم خيلا ورجالا لحدوث عَهدهم بالعز والبداوة فأغراهم الموحدون يَوْمئِذٍ ببني مرين لينتصفوا لَهُم مِنْهُم واتفقت كلمتهم عَلَيْهِم وَسمعت بَنو مرين بإقبال الْعَرَب والموحدين وَبني عَسْكَر إِلَيْهِم فَاجْتمعُوا إِلَى أَمِيرهمْ عبد الْحق فَقَالُوا لَهُ مَا ترى فِي أَمر هَؤُلَاءِ الْعَرَب المقبلين إِلَيْنَا فَقَالَ يَا معشر مرين أما مَا دمتم فِي أَمركُم مُجْتَمعين وَفِي آرائكم متفقين وكنتم على حَرْب عَدوكُمْ أعوانا وَفِي ذَات الله إخْوَانًا فَلَا أخْشَى أَن ألْقى بكم جَمِيع أهل الْمغرب وَإِن اخْتلفت أهواؤكم وتشتت آراؤكم ظفر بكم عَدوكُمْ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا نجدد لَك الْآن بيعَة على السّمع وَالطَّاعَة وَأَن لَا نَخْتَلِف عَلَيْك وَلَا نفر عَنْك أَو نموت دُونك فانهض بِنَا إِلَيْهِم على بركَة الله فَنَهَضَ الْأَمِير عبد الْحق فِي جموع بني مرين فَكَانَ اللِّقَاء بمقربة من وَادي سبو على أَمْيَال من تافرطاست فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَقتل فِيهَا الْأَمِير عبد الْحق وكبير أَوْلَاده إِدْرِيس وَلما رَأَيْت بَنو مرين مَا وَقع بأميرها وَابْنه حميت وغضبت وَأَقْسَمت بأيمانها أَن لَا يدْفن حَتَّى يَأْخُذُوا بثاره فصمموا الْعَزْم لقِتَال ريَاح واستأنفوا الْجد لقراعهم وصبروا صبرا جميلا فنصرهم الله على عدوهم فهزموا رياحا وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وشردوهم فِي الشعاب والأودية ورؤوس الهضاب واحتووا على مَا كَانَ فِي محلتهم من السِّلَاح وَالْخَيْل والأثاث وَقَامَ بِأَمْر بني مرين بعد هَلَاك عبد الْحق ابْنه عُثْمَان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 بَقِيَّة أَخْبَار الْأَمِير عبد الْحق وَسيرَته قَالُوا كَانَ الْأَمِير عبد الْحق المريني مَشْهُورا فِي قومه بالتقى وَالْفضل وَالدّين موسوما بالصلاح وَصِحَّة الْيَقِين مَعْرُوفا بالورع والعفاف مَوْصُوفا فِي سيرته بِالْعَدْلِ والإنصاف يطعم الطَّعَام ويكفل الْأَيْتَام ويؤثر الْمَسَاكِين ويحنو على الْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَت لَهُ بركَة مَعْرُوفَة ودعوة مستجابة مَوْصُوفَة وَكَانَت قلنسوته وسراويله يتبرك بهما فِي جَمِيع أَحيَاء زناتة وَكَانُوا يحملون فضلَة وضوئِهِ فيستشفون بهَا لمرضاهم وَكَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يزَال صَائِما طول عمره فِي الْحر وَالْبرد لَا يرى مُفطرا إِلَّا فِي أَيَّام الأعياد كثير الذّكر والأوراد لَا يفتر عَنْهَا فِي سَائِر الْحَالَات متحريا لأكل الْحَلَال لَا يقتات إِلَّا من لُحُوم إبِله وَأَلْبَانهَا أَو مَا يعانيه من الصَّيْد مُعظما فِي بني مرين مُطَاعًا فيهم يقفون عِنْد أمره وَلَا يصدرون إِلَّا عَن رَأْيه حكى ابْن أبي زرع عَمَّن حَدثهُ من الثِّقَات أَنه قدم على أَمِير الْمُسلمين يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي وَفد من أَعْيَان فاس وفقهائها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة والأمير يَعْقُوب يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح يُرِيد العبور إِلَى ألأندلس برسم الْجِهَاد قَالَ فَجرى فِي مَجْلِسه ذكر وَالِده الْأَمِير عبد الْحق فَقَالَ الْأَمِير يَعْقُوب كَانَ الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله صَادِق القَوْل إِذا قَالَ فعل وَإِذا عَاهَدَ وفى لم يحلف بِاللَّه قطّ بارا وَلَا حانثا وَلم يشرب مُسكرا قطّ وَلَا ارْتكب فَاحِشَة تضع الْحَوَامِل ببركة إزَاره مَتى عسرت عَلَيْهِنَّ الْولادَة وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَيقوم أَكثر اللَّيْل وَإِذا سمع بِخَبَر صَالح أَو عَابِد قصد لزيارته واستوهب مِنْهُ الدُّعَاء شَدِيد الْخَوْف من الصَّالِحين متواضعا لَهُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك سما لأعدائه قاهرا لَهُم وَمَا وجدنَا إِلَّا بركته وبركة من دَعَا لَهُ من الصَّالِحين قَالُوا وَكَانَ الْأَمِير عبد الْحق فِي ابْتِدَاء أمره قَلِيل الْأَوْلَاد فَرَأى ذَات لَيْلَة فِي مَنَامه كَانَ شعلا أَرْبعا من نَار خرجن مِنْهُ فعلون فِي جو الْمغرب ثمَّ احتوين على جَمِيع أقطاره فَكَانَ تَأْوِيلهَا تمْلِيك بنيه الْأَرْبَعَة من بعده وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 مثل الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا عبد الْملك بن مَرْوَان من يوله فِي الْمِحْرَاب أَربع مَرَّات فَكَانَ تَأْوِيلهَا أَن ولي الْخلَافَة أَرْبَعَة من بنيه الْوَلِيد وَسليمَان وَيزِيد وَهِشَام وَكَانَ للأمير عبد الْحق تِسْعَة من الْوَلَد إِدْرِيس وَهُوَ أكبرهم وَقتل مَعَه فِي حَرْب ريَاح وَعُثْمَان وَمُحَمّد وَأَبُو بكر وَيَعْقُوب وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة هم الَّذين ولوا الْأَمر بعده وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَيُقَال لَهُ بلسانهم رحو وزيان وَأَبُو عياد وَبنت هِيَ الْعَاشِرَة وَالله أعلم الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق رَحمَه الله لما فرغ بَنو مرين من حَرْب ريَاح وَرَجَعُوا من اتباعهم اجْتَمعُوا إِلَى الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق وَكَانَ أكبر بني أَبِيه بعد إِدْرِيس فعزوه بمصاب أَبِيه وأخيه وَبَايَعُوهُ عَن رضى مِنْهُم فاجتمعت عَلَيْهِ كلمتهم وَلما فرغ الْأَمِير أَبُو سعيد من تجهيز أَبِيه وأخيه ودفنهما أقسم أَن لَا يرجع عَن حَرْب ريَاح حَتَّى يثأر بِمِائَة شيخ مِنْهُم فَسَار إِلَيْهِم وأثخن فيهم حَتَّى شفى نَفسه وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة ولاذوا بالسلم فسالمهم على إتاوة يؤدونها إِلَيْهِ كل سنة ثمَّ ضعفت شَوْكَة الْمُوَحِّدين وتداعى أَمرهم إِلَى الاختلال واشرف ملكهم على ربوة الاضمحلال وتقلص ظلّ حكامهم عَن البدو جملَة وفسدت السابلة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل فَلَمَّا رأى الْأَمِير أَبُو سعيد مَا عَلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين من الضعْف وَمَا نزل برغايا الْمغرب من الْجور والعسف جمع أَشْيَاخ مرين وندبهم إِلَى الْقيام بِأَمْر الدّين وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين فَأَسْرعُوا إِلَى إجَابَته وَبَادرُوا لتلبية دَعوته فَسَار بهم أَبُو سعيد فِي نواحي الْمغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويتتبع تلوله ودروبه وَيَدْعُو النَّاس إِلَى طَاعَته وَالدُّخُول فِي عَهده وحمايته فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم أَمنه وَوضع عَلَيْهِ قدرا مَعْلُوما من الْخراج وَمن أَبى عَلَيْهِ نابذه وأوقع بِهِ فَبَايعهُ من قبائل الْمغرب هوارة وزكارة ثمَّ تسول ومكناسة ثمَّ بطوية وفشتالة ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 سدرانة وبهلولة ومديونة فَفرض عَلَيْهِم الْخراج وَفرق فيهم الْعمَّال ثمَّ فرض على أَمْصَار الْمغرب مثل فاس ومكناسة وتازا وَقصر كتامة ضريبة مَعْلُومَة يؤدونها على رَأس كل حول على أَن يكف الْغَارة عَنْهُم وَيصْلح سابلتهم ثمَّ لما كَانَت سنة عشْرين وسِتمِائَة غزا بِلَاد فازاز وَمن بهَا من ظواعن زناتة فأثخن فيهم حَتَّى أذعنوا للطاعة وَقبض أَيْديهم عَن إذابة النَّاس بالغارات والنهب فِي الطرقات ثمَّ فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعْدهَا غزا عرب ريَاح أهل أزغار وبلاد الهبط فأثخن فيهم حَتَّى كَاد يَأْتِي عَلَيْهِم وَلم يزل دأبه ذَلِك من تدويخ بِلَاد الْمغرب وأقطاره حَتَّى هلك باغتيال علج لَهُ كَانَ رباه صَغِيرا فشب وسول لَهُ الشَّيْطَان الفتك بِهِ فترصد غرته وطعنه بِحَرْبَة فِي منحره فَمَاتَ لوقته سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَكَانَ ذَا نجدة وشجاعة وعزم وكرم وإيثار مكرما للفقهاء وَأهل الصّلاح سالكا فِي ذَلِك سنَن أَبِيه رَحمَه الله الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي معرف مُحَمَّد بن عبد الْحق رَحمَه الله لما هلك الْأَمِير أَبُو سعيد قَامَ بِالْأَمر بعده أَخُوهُ أَبُو معرف مُحَمَّد بن عبد الْحق فاقتفى سنَن أخبه فِي تدويخ بِلَاد الْمغرب وَأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم من باديته وَبعث الرشيد بن الْمَأْمُون صَاحب مراكش قائده أَبَا مُحَمَّد بن وانودين لِحَرْب بني مرين وَعقد لَهُ على مكناسة فأجحف بِأَهْلِهَا فِي المغارم ثمَّ نزل بَنو مرين فِي بعض الأحيان بنواحيها وأجلبوا عَلَيْهَا فَنَادَى أَبُو مُحَمَّد فِي عسكره وَخرج إِلَيْهِم فدارت بَينهم حَرْب شَدِيدَة هلك فِيهَا خلق من الْجَانِبَيْنِ وبارز مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الْحق قائدا من قواد الفرنج فاختلفا ضربتين هلك العلج بِإِحْدَاهُمَا وجرح مُحَمَّد بِالْأُخْرَى فاندمل جرحه وَصَارَ أثرا فِي وَجهه لقب من أَجله بِأبي ضَرْبَة ثمَّ شدّ بَنو مرين على الْمُوَحِّدين فانكشفوا وَرجع بن وانودين إِلَى مكناسة مفلولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وَبَقِي بَنو عبد الْمُؤمن من أثْنَاء ذَلِك فِي مرض من الْأَيَّام وتثاقل عَن الحماية ثمَّ أَوْمَضْت دولتهم إيماضة الخمود وَذَلِكَ أَنه لما هلك الرشيد بن الْمَأْمُون سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَولي أَخُوهُ عَليّ وتلقب بالسعيد وَبَايَعَهُ أهل الْمغرب انصرفت عَزَائِمه إِلَى غَزْو بني مرين وَقطع أطماعهم عَمَّا سمت إِلَيْهِ من تملك المواطن فَجهز عَسَاكِر الْمُوَحِّدين لقتالهم وَمَعَهُمْ قبائل الْعَرَب والمصامدة وجموع الفرنج فنهضوا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فِي جَيش كثيف يناهز عشْرين ألفا فَسمع الْأَمِير أَبُو مَعْرُوف بِإِقْبَالِهِمْ فاستعد لقتالهم وزحف إِلَيْهِم فَكَانَ اللِّقَاء بِموضع يعرف بصخرة أبي بياش من أحواز فاس فدارت بَينهم حَرْب شَدِيدَة وصبر الْفَرِيقَانِ وَلما كَانَ عشي النَّهَار قتل الْأَمِير أَبُو معرف بن عبد الْحق فِي الجولة بيد زعيم من زعماء الفرنج تحاملا فعثر فرس أبي معرف بِهِ وأمكنت العلج فِيهِ الفرصة فاغتنمها وطعنه فَمَاتَ فانهزمت بَنو مرين وتبعهم الموحدون فاتخذوا اللَّيْل جملا وأسروا طول ليلتهم بحللهم وعيالاتهم وَأَمْوَالهمْ فَأَصْبحُوا بجبال غياثة من نواحي تازا فَاعْتَصمُوا بهَا أَيَّامًا ثمَّ خَرجُوا إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وولوا عَلَيْهِم أَبَا بكر بن عبد الْحق على مَا نذكرهُ وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة وهلاك الْأَمِير أبي معرف عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة الْخَبَر عَن دولة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق رَحمَه الله هَذَا الْأَمِير هُوَ الَّذِي رفع من راية بني مرين وسما بهَا إِلَى مرتبَة الْملك وكنيته أَبُو يحيى وَهُوَ أول من جند الْجنُود مِنْهُم وَضرب الطبول وَنشر البنود وَملك الْحُصُون والبلاد واكتسب الطارف والتلاد بَايعه بَنو مرين بعد مهلك أَخِيه أبي معرف فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَكَانَ أول مَا ذهب إِلَيْهِ وَرَآهُ من النّظر لِقَوْمِهِ أَن قسم بِلَاد الْمغرب وقبائل جبايته بَين بني مرين وَأنزل كلا مِنْهُم يناحية مِنْهُ سوغهم إِيَّاهَا سَائِر الْأَيَّام طعمة لَهُم وَأمر كل وَاحِد من أَشْيَاخ بني مرين أَن يستركب الرجل ويستلحق الأتباع فحسنت حَالهم وَكَثُرت غاشيتهم وتوفرت جموعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وبيعة أَهلهَا لِابْنِ أبي حَفْص بواسطته ثمَّ سَار الْأَمِير أَبُو بكر بمحلته فَنزل جبل زرهون ودعا أهل مكناسة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ على دَعوته وَفِي ولَايَته وحاصرها وضيق عَلَيْهَا بِمَنْع الْمرَافِق وترديد الغارات إِلَى أَن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة أَخِيه يَعْقُوب بن عبد الْحق لزعيمها أبي الْحسن بن أبي الْعَافِيَة وبعثوا ببيعتهم إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَكَانَت الْبيعَة من إنْشَاء أبي الْمطرف بن عميرَة المَخْزُومِي وَكَانَ من أَعْلَام ذَلِك الْعَصْر ومشاهيره ولي الْقَضَاء لبني عبد الْمُؤمن بِمَدِينَة سلا ثمَّ استقضوه بعْدهَا بمكناسة فَشهد هَذِه الْقَضِيَّة وَكتب الْبيعَة وَلما فتح الْأَمِير أَبُو بكر مكناسة أقطع أَخَاهُ يَعْقُوب ثلث جبايتها جَزَاء لَهُ على وساطته وَكَانَ فتح مكناسة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ آنس الْأَمِير أَبُو بكر من نَفسه الاستبداد وَمن قبيله الِاسْتِيلَاء فَاتخذ الْآلَة لذَلِك وسما بِنَفسِهِ إِلَى مرتبَة الْملك وَأعد لَهُ عدته وانْتهى الْخَبَر إِلَى السعيد صَاحب مراكش بتغلب الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وصرفها لِابْنِ أبي حَفْص فَوَجَمَ لَهَا وفاوض الْمَلأ من أهل دولته فِي أمره وأراهم كَيفَ اقتطع الْأَمر عَنْهُم شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى لم يبْق بيدهم إِلَّا قرارة مراكش وَمَا حولهَا بعد امتداد ظلّ ملكهم على المغربين وإفريقية والأندلس ثمَّ نَهَضَ السعيد من مراكش سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن بن زيان ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص آخرا وَلما وصل إِلَى وَادي بهت عرض جيوشه وميزها واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ بمكناسة فَخرج وَحده لَيْلًا يتجسس الْأَخْبَار ويستطلع أَحْوَال السعيد وجموعه فَتقدم حَتَّى أشرف على محلّة السعيد من كثب وَلَا علم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 لأحد بِهِ فَرَأى مَا لَا طَاقَة لَهُ بِهِ وَرَأى من الرَّأْي أَن يتخلى للسعيد عَن الْبِلَاد وَلَا يناجزه الْحَرْب فلحق بمكناسة واستدعى بني مرين من أماكنهم الَّتِي عين لَهُم فتلاحقوا بِهِ وَسَارُوا إِلَى قلعة تازوطا من بِلَاد الرِّيف فَتَحَصَّنُوا بهَا وَتقدم السعيد إِلَى مكناسة فَتَلقاهُ أَهلهَا خاضعين مستشفعين إِلَيْهِ بشيوخهم وصبيانهم فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ سَار إِلَى فاس فَنزل بظاهرها من نَاحيَة الْقبْلَة وَخرج إِلَيْهِ أشياخها فَسَلمُوا عَلَيْهِ وسألوه الدُّخُول إِلَى الْبَلَد فتكرم عَنْهُم وَأبي ثمَّ ارتحل إِلَى رِبَاط تازا فَنزل بظاهرها وَهُنَاكَ بعث إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر ببيعته فقبلها وَكتب لَهُ ولقومه بالأمان وَكَانَ فِيمَا خاطبه بِهِ الْأَمِير أَبُو بكر أَن قَالَ لَهُ ارْجع يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى حضرتك وَأَنا أكفيك أَمر يغمراسن وَافْتَحْ لَك تلمسان فَشَاور السعيد خاصته فِي ذَلِك فَقَالُوا لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الزناتي أَخُو الزناتي لَا يُسلمهُ وَلَا يَخْذُلهُ وَإِنَّا نَخَاف أَن يصطلحا على حربك فاسعفهم وَكتب إِلَى الْأَمِير أبي بكر يَقُول لَهُ أقِم بموضعك وَابعث إِلَيّ بِحِصَّة من قَوْمك فأمده بِخَمْسِمِائَة من بني مرين وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِ عَمه أبي عياد بن أبي يحيى بن حمامة وَتقدم السعيد إِلَى تلمسان فَكَانَ من هَلَاكه على قلعة تامذردكت مَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار دولته وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر لما نزل حصن تازوطا وَأهل ذَلِك الْحصن يَوْمئِذٍ هم بَنو وطاس بطن من بني مرين أَجمعُوا الفتك بِهِ غَيره ونفاسة عَلَيْهِ فَدس إِلَيْهِ بذلك بعض شيوخهم وأعلمه بِمَا تواطؤوا عَلَيْهِ من غدره فارتحل الْأَمِير أَبُو بكر عَنْهُم إِلَى بني بزناسن وَكَانُوا نازلين يَوْمئِذٍ بِعَين الصَّفَا فَأَقَامَ هُنَالك مَعَهم حَتَّى رجعت إِلَيْهِ الْحصَّة الَّتِي كَانَت مَعَ السعيد وأعلموه بمقتله وافتراق جموعه فانتهز الْأَمِير أَبُو بكر الفرصة فِي فل الْمُوَحِّدين واعترضهم بأكرسيف فاستلبهم وانتزع الْآلَة من أَيْديهم وأدار إِلَيْهِ كَتِيبَة الفرنج والناشبة من الأغزاز وَاتخذ الْمركب الملوكي من يَوْمئِذٍ ثمَّ أغذ السّير إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى أَعمال وطاط وحصون ملوية فافتتحها ودوخ جبالها وَذَلِكَ أَوَاخِر صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على فاس وبيعة أَهلهَا لَهَا لما فرغ الْأَمِير أَبُو بكر من فتح حصون ملوية صرف عزمه إِلَى فتح فاس وانتزاعها من يَد بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ الْعَامِل بهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبَا الْعَبَّاس من بني عبد الْمُؤمن فَأَنَاخَ عَلَيْهَا الْأَمِير أَبُو بكر بخيله وَرجله وتلطف فِي مداخلة أَهلهَا وَضمن لَهُم جميل النّظر وَحميد السِّيرَة وكف الْأَذَى عَنْهُم فَأَجَابُوهُ ووثقوا بعهده وغنائه وأووا إِلَى ظله وركنوا إِلَى طَاعَته وانتحال الدعْوَة الحفصية بأَمْره ونبذوا طَاعَة بني عبد الْمُؤمن بَأْسا من صريخهم فَبَايعُوهُ بالرابطة خَارج بَاب الشَّرِيعَة وَحضر هَذِه الْبيعَة الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الفشتالي ونشده الله على الْوَفَاء بِمَا اشْترط على نَفسه من النّظر لَهُم والذب عَنْهُم وسلوك طَرِيق الْعدْل فيهم فَكَانَ حُضُوره ملاك تِلْكَ الْعقْدَة وَالْبركَة الَّتِي يتعرف أَثَرهَا خَلفهم فِي تِلْكَ الْبيعَة وَدخل الْأَمِير أَبُو بكر مَدِينَة فاس زَوَال يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بعد موت السعيد صَاحب مراكش بشهرين وَلما دخل الْأَمِير أَبُو بكر قَصَبَة فاس أَمن السَّيِّد أَبَا الْعَبَّاس عَامل الْمُوَحِّدين بهَا وَأخرجه من القصبة بعياله وَأَوْلَاده وَبعث مَعَه سبعين فَارِسًا يبلغونه إِلَى مأمنه فأجازوه وَادي أم الرّبيع وَرَجَعُوا ثمَّ نَهَضَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى منازلة تازا وَبهَا يَوْمئِذٍ السَّيِّد أَبُو عَليّ بن مُحَمَّد أَخُو أبي دبوس فنازلها أَرْبَعَة أشهر حَتَّى نزلُوا على حكمه فَقتل بَعضهم وَمن على آخَرين مِنْهُم وسد ثغورها وأقطع أَخَاهُ يَعْقُوب بن عبد الْحق رِبَاط تازا وحصون ملوية وَرجع إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا نَحْو سنة واستقامت لَهُ الْأُمُور وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود وَأمر الْقَبَائِل بالنزول فِي البسائط وَعمارَة الْقرى والمداشر وَأمنت الطرقات وتحركت التُّجَّار ورخصت الأسعار وَصلح أَمر النَّاس واغتبطوا بولايته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 انْتِقَاض أهل فاس على الْأَمِير أبي بكر ومحاصرته إيَّاهُم لما استولى الْأَمِير أَبُو بكر على الْمغرب وَملك مَدِينَة فاس كَمَا ذكرنَا نَهَضَ فِي ربيع الأول سنة سبع واربعين وسِتمِائَة إِلَى مَعْدن الْعَوام من بِلَاد فازاز لفتح بِلَاد زناتة وتدويخ نَوَاحِيهَا واستخلف على فاس مَوْلَاهُ السُّعُود بن خرباش من جمَاعَة الحشم أحلاف بني مرين وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر لما فتح فاسا استبقى من كَانَ فِيهَا من عَسْكَر بني عبد الْمُؤمن من غير نسبهم على الْوَجْه الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ من الْخدمَة مَعَ الْمُوَحِّدين وَكَانَ من جُمْلَتهمْ طَائِفَة من النَّصَارَى نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَعَلَيْهِم قَائِد مِنْهُم يُقَال لَهُ شريد الفرنجي فَكَانُوا من حِصَّة السُّعُود هُنَالك فَوَقَعت بَينهم وَبَين شيعَة الْمُوَحِّدين من أهل فاس مداخلة وعزم الفاسيون على الفتك بالسعود وتحويل الدعْوَة إِلَى المرتضى فَاجْتمعُوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الرَّحْمَن المغيلي وفاوضوه فِي ذَلِك فوافقهم على رَأْيهمْ فاستدعوا شَرِيدًا وَقَالُوا لَهُ تقتل هَذَا الْأسود وتضبط الْبَلَد حَتَّى نكتب إِلَى المرتضى فيبعث إِلَيْنَا من يقوم بأمرنا فأجابهم إِلَى ذَلِك وَكَانَ ميله إِلَى الْمُوَحِّدين وهواه مَعَهم لكَونه صنيعتهم وَكَانَ الَّذِي مَشى فِي هَذِه الثورة وَتَوَلَّى كبرها المشرف ولد القَاضِي الْمَذْكُور وَابْن جشار وَأَخُوهُ وَابْن أبي طاط وَولده فَلَمَّا كَانَت صَبِيحَة الثُّلَاثَاء الموفي عشْرين من شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة طلع الْأَشْيَاخ المذكورون إِلَى القصبة للسلام على السُّعُود على عَادَتهم فِي ذَلِك فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِمَجْلِس حكمه وهاجوه بِبَعْض المحاورات فَغَضب وانتهرهم فَوَثَبُوا بِهِ وَنَادَوْا بشعارهم وَكَانَ شريد الفرنجي وَاقِفًا فِي عسكره أَمَام القصبة قد وأطأهم على ذَلِك فاقتحم على السُّعُود فَقتله وَقتل مَعَه أَرْبَعِينَ من رِجَاله واحتز الْعَامَّة رَأسه ورفعوه على عَصا وطافوا بِهِ فِي أسواق الْبَلَد وسككها واقتحموا الْقصر فانتهبوه وَسبوا الْحرم ونصبوا النَّصْرَانِي لضبط الْبَلَد وبعثوا ببيعتهم إِلَى المرتضى صَاحب مراكش واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ منَازِل بِلَاد فازاز فأفرج عَنْهَا وَأخذ السّير إِلَى فاس فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بعساكره وشمر لحصارها وَقطع الْمَادَّة عَنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وَبعث أهل فاس إِلَى المرتضى بالصريخ فَلم يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا ملك لَهُ ضرا وَلَا نفعا وَلَا وجد لكشف مَا نزل بهم حِيلَة وَلَا وَجها سوى أَنه استجاش على الْأَمِير أبي بكر بيغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان وأمله لكشف هَذِه النَّازِلَة عَمَّن انحاش إِلَى طَاعَته فَأَجَابَهُ يغمراسن إِلَى ذَلِك وطمع أَن يكون ذَلِك سَببا لَهُ فِي تملك الْمغرب وسلما للصعود إِلَى ذرْوَة ملكه فاحتشد لحركته ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الْأَمِير أبي بكر عَن فاس وَأَهْلهَا واتصل بالأمير أبي بكر خبر نهوضه إِلَيْهِ لتسعة أشهر من منازلته فاسا فجمر الْكَتَائِب عَلَيْهَا وصمد إِلَيْهِ قبل فصوله عَن تخوم بِلَاده فَلَقِيَهُ بوادي أيسلي من بسيط وَجدّة فتزاحف الْقَوْم وَكَانَت ملحمة عَظِيمَة هلك فِيهَا عبد الْحق بن مُحَمَّد بن عبد الْحق بيد إِبْرَاهِيم بن هِشَام من بني عبد الواد ثمَّ انكشفت بَنو عبد الواد وَنَجَا يغمراسن بن زيان إِلَى تلمسان بِرَأْس طمرة ولجام وَترك محلته بِمَا فِيهَا فاحتوى عَلَيْهَا الْأَمِير أَبُو بكر وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس للأخذ بمخنقها فوصل إِلَيْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وأناخ عَلَيْهَا بكلكله واستأنف الْجد وأرهف الْحَد وشدد فِي الْحصار وأيس أهل فاس من إغاثة المرتضى وَسقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا وَلم يَجدوا وليجة من دون مُرَاجعَة طَاعَة بني مرين فسألوا الْأَمِير أَبَا بكر الْأمان فبذله لَهُم على غرم مَا أتلفوا لَهُ بِالْقصرِ من المَال يَوْم الثورة وَقدره مائَة ألف دِينَار فتحملوها وأمكنوه من قياد الْبَلَد فَدَخلَهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور فَأَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب الموَالِي لَهُ وطالبهم بِالْمَالِ فسوفوه وتلووا فِي الْمقَال فَلَمَّا رأى ذَلِك مِنْهُم قبض على جمَاعَة من أشياخها وأمنائها وأثقلهم بالحديد وطالبهم بِالْمَالِ والأثاث الَّذِي انتهبوه من الْقصر فَقَالَ لَهُ شيخ يعرف بِابْن الخبا إِنَّمَا فعل الذَّنب منا سِتَّة فَكيف تُهْلِكنَا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا وَلَو فعل الْأَمِير مَا أُشير بِهِ عَلَيْهِ لَكَانَ صَوَابا من الرَّأْي فَقَالَ وَمَا ذَلِك قَالَ تعمد إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفر السِّتَّة وَالَّذين سعوا فِي الْفِتْنَة فتأخذ رؤوسهم وتشرد بهم من خَلفهم ثمَّ تأخذنا نَحن بغرم المَال فَقَالَ لعمري لقد أصبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 ثمَّ أَمر بِالْقَاضِي المغيلي وَابْنه وَابْن أبي طاط وَابْنه وَابْن جشار وأخيه فَقتلُوا وَرفعت على الشرفات رؤوسهم وَأخذ البَاقِينَ بغرم المَال طَوْعًا وَكرها قَالَ ابْن خلدون فَكَانَ ذَلِك مِمَّا عبد رعية فاس وقادها لأحكام بني مرين وَضرب الرهب على قُلُوبهم فخشعت مِنْهُم الْأَصْوَات وانقادت مِنْهُم الهمم وَلم يحدثوا بعْدهَا أنفسهم بغمس يَد فِي فتْنَة وَكَانَ مقتل النَّفر الْمَذْكُورين خَارج بَاب الشَّرِيعَة يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من رَجَب الْمَذْكُور اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على مَدِينَة سلا ثمَّ ارتجاعها مِنْهُ وهزيمة المرتضى بعد ذَلِك لما أكمل الله للأمير أبي بكر فتح مَدِينَة فاس واستوسق أَمر بني مرين بهَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ من منازلة بِلَاد فازاز فافتتحها ودوخ أوطان زناتة وَاقْتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين بهَا ثمَّ تخطى ذَلِك إِلَى مَدِينَة سلا ورباط الْفَتْح سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فملكها وتاخم الْمُوَحِّدين بثغرها وَاسْتعْمل عَلَيْهَا ابْن أَخِيه يَعْقُوب بن عبد الله بن عبد الْحق وَعقد لَهُ على ذَلِك الثغر وَضم الْأَعْمَال إِلَيْهِ وَبلغ الْخَبَر بذلك إِلَى المرتضى بمراكش فأهمه الشَّأْن وأحضر الْمَلأ من الْمُوَحِّدين وفاوضهم واعتزم على حَرْب بني مرين وسرح العساكر سنة خمسين وسِتمِائَة فأحاطت بسلا ثمَّ افتتحوها وعادت إِلَى طَاعَة المرتضى وَعقد عَلَيْهَا لأبي عبد الله بن يَعْلُو من مشيخة الْمُوَحِّدين ثمَّ اجْمَعْ المرتضى النهوض بِنَفسِهِ إِلَى بني مرين فَبعث فِي الْمَدَائِن والقبائل حاشرين فأهرعت إِلَيْهِ أُمَم الْمُوَحِّدين وَالْعرب والمصامدة وَغَيرهم وَفصل من مراكش سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة فِي نَحْو الثَّمَانِينَ ألفا وَولى السّير حَتَّى انْتهى إِلَى جبال بهلولة من نواحي فاس وصمد إِلَيْهِ الْأَمِير أَبُو بكر فِي عَسَاكِر بني مرين وَمن اجْتمع إِلَيْهِم من ذويهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 والتقى الْجَمْعَانِ هُنَالك وَصدقهمْ بَنو مرين الجلاد فاختل مصَاف الْمُوَحِّدين وانهزمت عَسَاكِر المرتضى وأسلمه قومه وَرجع إِلَى مراكش مفلولا وَاسْتولى بَنو مرين على مُعَسْكَره واستباحوا سرادقة وانتهبوا فساطيطه وغنموا جَمِيع مَا وجدوا لَهَا من المَال والذخيرة وَاسْتَاقُوا سَائِر الكراع وَالظّهْر وامتلأت أَيْديهم من الْغَنَائِم واعتز أَمرهم وانبسط سلطانهم وَكَانَ يَوْمًا لَهُ مَا بعده وَفِي القرطاس أَن انهزام جَيش المرتضى فِي هَذِه الْمرة كَانَ عَن جولان فرس بَين أخبيتهم لَيْلًا فَحَسبُوا أَن بني مرين قد أَغَارُوا عَلَيْهِم فَانْهَزَمُوا لَا يلوون على شَيْء وَالله أعلم ثمَّ غزا الْأَمِير أَبُو بكر بعد هَذَا بِلَاد تادلا فاستباح حاميتها من بني جَابر عرب جشم واستلحم أبطالهم والآن من جدهم وخضد من شوكتهم وَفِي خلال هَذِه الحروب كَانَ مقتل عَليّ بن عُثْمَان بن عبد الْحق وَهُوَ ابْن أخي الْأَمِير أبي بكر شعر مِنْهُ بِفساد الدخيلة وَالْإِجْمَاع للتوثب على الْأَمر فَدس لِابْنِهِ أبي حَدِيد مِفْتَاح بن أبي بكر بقتْله فَقتله فِي جِهَات مكناسة سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَالله تَعَالَى أعلم اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على سجلماسة وَدِرْعه وَسَائِر بِلَاد الْقبْلَة لما كَانَت سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة نَهَضَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى محاربة يغمراسن بن زيان وَسمع بِهِ يغمراسن فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَيْضا فَكَانَ اللِّقَاء بِأبي سليط فَاقْتَتلُوا وَانْهَزَمَ يغمراسن واعتزم الْأَمِير أَبُو بكر على اتِّبَاعه فثناه عَن رَأْيه فِي ذَلِك أَخُوهُ يَعْقُوب بن عبد الْحق لعهد تَأَكد بَينه وَبَين يغمراسن فَرجع وَلما انْتهى إِلَى المقرمدة من أحواز فاس بلغه أَن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة كَانَت لَهُ من بعض أَهلهَا وعورة أطمعته فِي ملكهَا فأسرع الْأَمِير أَبُو بكر السّير بجموعه إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا قبل وُصُول يغمراسن إِلَيْهَا بِيَوْم ثمَّ جَاءَ يغمراسن حَتَّى نزل خَارِجهَا بِبَاب تاحسنت وَسقط فِي يَده ويئس من غَلَبَة الْأَمِير أبي بكر عَلَيْهَا ودارت بَينهمَا حَرْب تكافأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 الْفَرِيقَانِ فِيهَا وَهلك سُلَيْمَان بن عُثْمَان بن عبد الْحق ابْن أخي الْأَمِير أبي بكر وانقلب يغمراسن إِلَى بَلَده وَعقد الْأَمِير أَبُو بكر على سجلماسة ودرعة وَسَائِر بِلَاد الْقبْلَة ليوسف بن يزكاسن وَاسْتعْمل على الجباية عبد السَّلَام الأوربي وَجعل مسلحة الْجند بهَا لنظر أبي يحيى القطراني وَملكه قيادتهم وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس وَالله تَعَالَى أعلم وَفَاة الْأَمِير أبي بكر رَحمَه الله لما رَجَعَ الْأَمِير أَبُو بكر من حَرْب يغمراسن على سجلماسة أَقَامَ بفاس أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى سجلماسة أَيْضا متفقدا لثغورها فَانْقَلَبَ مِنْهَا عليلا وَوصل إِلَى فاس فَتوفي بقصره من قصبتها أواسط رَجَب سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَدفن دَاخل بَاب الجيزيين من أَبْوَاب عدوة الأندلس بِإِزَاءِ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الفشتالي حَسْبَمَا أوصى بذلك وتصدى للْقِيَام بِالْأَمر بعده ابْنه عمر على مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة أبي حَفْص الْأَمِير عمر بن أبي بكر بن عبد الْحق رَحمَه الله لما مَاتَ الْأَمِير أَبُو بكر رَحمَه الله اشْتَمَل الْعَامَّة من بني مرين على ابْنه أبي حَفْص عمر فَبَايعُوهُ ونصبوه لِلْأَمْرِ وتباروا فِي خدمته ومالت المشيخة وَأهل العقد والحل إِلَى عَمه يَعْقُوب بن عبد الْحق وَكَانَ غَائِبا عِنْد مهلك أَخِيه بتازا فَلَمَّا بلغه الْخَبَر أسْرع اللحاق بفاس وتوجهت إِلَيْهِ وُجُوه الأكابر وأحس عمر بميل النَّاس إِلَى عَمه يَعْقُوب فقلق لذَلِك وأغراه أَتْبَاعه بِالْفَتْكِ بِعَمِّهِ فاعتصم بالقصبة ثمَّ سعى النَّاس فِي الْإِصْلَاح بَينهمَا فتفادى يَعْقُوب من الْأَمر وَدفعه إِلَى ابْن أَخِيه على أَن تكون لَهُ بِلَاد تازا وبطوية وملوية الَّتِي كَانَ أقطعه إِيَّاهَا أَخُوهُ من قبل فانفصلوا على ذَلِك وخلص الْأَمر لعمر وَاسْتمرّ بفاس أشهرا إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ عَمه الْمَذْكُور حَسْبَمَا نقص عَلَيْك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله هَذَا السُّلْطَان جليل الْقدر عَظِيم الشان وَهُوَ سيد بني مرين على الْإِطْلَاق وستسمع من أخباره الْحَسَنَة مَا يسْتَغْرق الْوَصْف ويستوقف السّمع والطرف وَهُوَ رَابِع الْإِخْوَة الْأَرْبَعَة الَّذين ولوا الْأَمر بالمغرب من بني عبد الْحق وَكَانَت أمه وَاسْمهَا أم الْيمن بنت عَليّ البطوي رَأَتْ وَهِي بكر كَأَن الْقَمَر خرج من قبلهَا حَتَّى صعد إِلَى السَّمَاء وأشرق نوره على الأَرْض فقصت رؤياها على أَبِيهَا فَسَار إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عُثْمَان الورياكلي فَقَصَّهَا عَلَيْهِ فَقَالَ إِن صدقت رؤياها فستلد ملكا عَظِيما فَكَانَ كَذَلِك وَلما انْفَصل الْأَمِير يَعْقُوب بن عبد الْحق عَن ابْن أَخِيه عمر بِولَايَة تازا وَمَا أضيف إِلَيْهَا اجْتمع إِلَيْهِ كَافَّة بني مرين وعذلوه فِيمَا كَانَ مِنْهُ من التخلي عَن الْملك وَحَمَلُوهُ على الْعود فِي الْأَمر ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والنصر إِلَى أَن يتم أمره فَأجَاب وَبَايَعُوهُ وصمد الى فاس فبرز الْأَمِير عمر للقائه وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ خذل عمر جُنُوده وأسلموه فَرجع إِلَى فاس مفلولا وَوجه الرَّغْبَة إِلَى عَمه أَن يقطعهُ مكناسة وَينزل لَهُ عَن الْأَمر فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَدخل السُّلْطَان يَعْقُوب مَدِينَة فاس فملكها سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة ونفذت كَلمته فِي بِلَاد الْمغرب مَا بَين ملوية وَأم الرّبيع وَمَا بَين سجلماسة وَقصر كتامة وَاقْتصر عمر على إِمَارَة مكناسة فتولاها اياما ثمَّ اغتاله بعض عشيرته فَقَتَلُوهُ لنَحْو سنة من إمارته فَكفى الْأَمِير يَعْقُوب أمره واستقام سُلْطَانه وَذهب التَّنَازُع والشقاق عَن ملكه وَكَانَ يغمراسن بن زيان لما سمع بِمَوْت قرنه الْأَمِير أبي بكر سما لَهُ أمل فِي الإجلاب على الْمغرب فَجمع لذَلِك قومه من بني عبد الواد وَاسْتظْهر ببني توجين ومغراوة وَوَعدهمْ ومناهم وأطمعهم فِي غيل الْأسد ثمَّ نَهَضَ بهم الى الْمغرب حَتَّى إِذا انْتَهوا إِلَى كلدمان صَمد إِلَيْهِم الْأَمِير يَعْقُوب ففلهم وردهم على أَعْقَابهم وَمر يغمراسن فِي طَرِيقه بتافرسيت من بِلَاد بطوية فَأحرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وانتسف واستباح وَأعظم النكاية وَرجع الْأَمِير يَعْقُوب إِلَى فاس واقتفى مَذْهَب أَخِيه الْأَمِير أبي بكر فِي فتح أَمْصَار الْمغرب وتدويخ أقطاره وَكَانَ مِمَّا أكْرمه الله بِهِ أَن فتح أمره باستنقاذ مَدِينَة سلا من أَيدي نَصَارَى الإصبنيول فَكَانَ لَهُ بهَا أثر جميل وَذكر خَالِد رَحمَه الله اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على مَدِينَة سلا وإيقاع السُّلْطَان يَعْقُوب بهم وطردهم عَنْهَا كَانَ يَعْقُوب بن عبد الله بن عبد الْحق قد اسْتَعْملهُ عَمه الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مَدِينَة سلا لما ملكهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلما استرجعها الموحدون من يَده أَقَامَ يتقلب فِي جهاتها مترصدا للفرصة وإمكانها فِيهَا وَلما بُويِعَ عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق آسفته بعض الْأَحْوَال مِنْهُ فَذهب مغاضبا حَتَّى نزل عين غبولة وألطف الْحِيلَة فِي تملك رِبَاط الْفَتْح وسلا ليعتدهما ذَرِيعَة لما اسر فِي نَفسه من التوثب على الْأَمر فتمت لَهُ الْحِيلَة وَملك سلا وَركب عاملها أَبُو عبد الله بن يَعْلُو الْبَحْر فَارًّا إِلَى آزمور وَخلف أَمْوَاله وَحرمه فتملك يَعْقُوب بن عبد الله ذَلِك وَتمكن من الْبَلَد وجاهر بِالْخلْعِ وَصرف إِلَى مُنَازعَة عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب وُجُوه الْعَزْم وتمكنت الوحشة بَين اليعقوبين وداخل يَعْقُوب سلا تجار الْحَرْب من الإصبنيول فِي الْإِمْدَاد بِالسِّلَاحِ فتباروا فِي ذَلِك وَكَثُرت سفن المترددين مِنْهُم إِلَيْهَا حَتَّى كَثُرُوا أَهلهَا وَزَاد عَددهمْ فعزموا على الثورة بهَا واهتبلوا فِيهَا غرَّة عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة عِنْد اشْتِغَال النَّاس بعيدهم وثاروا بسلا فِي الْيَوْم الثَّانِي من شَوَّال فوضعوا السَّيْف فِي أَهلهَا وَقتلُوا الرِّجَال وَسبوا الْحرم وانتهبوا الْأَمْوَال وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما وضبطوا الْبَلَد وتحصن يَعْقُوب بن عبد الله برباط الْفَتْح وطار الصَّرِيخ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة تازا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 دَخلهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة لاستشراف أَحْوَال يغمراسن بن زيان فوصل إِلَيْهِ الْخَبَر فِي الْيَوْم الرَّابِع من شَوَّال الْمَذْكُور فَنَهَضَ السُّلْطَان يَعْقُوب من فوره بعد أَن صلى الْعَصْر بتازا من ذَلِك الْيَوْم فَأسْرى ليلته تِلْكَ فِي نَحْو الْخمسين فَارِسًا وَمن الْغَد صلى الْعَصْر بِظَاهِر سلا فَكَانَ قطعه مَسَافَة مَا بَينهمَا فِي يَوْم وَلَيْلَة وَهَذَا أَمر خارق للْعَادَة بِلَا شكّ أظهره الله على يَد هَذَا السُّلْطَان لصدق عزمه وَحسن نِيَّته وَإِلَّا فالمسافة مَا بَين تازا وسلاست مراحل أَو أَكثر ثمَّ تلاحقت بِهِ جيوش الْمُسلمين من الْقَبَائِل المتطوعة من جَمِيع آفَاق الْمغرب فحاصر النَّصَارَى بهَا وضيق عَلَيْهِم ووالى الْقِتَال عَلَيْهِم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار حَتَّى اقتحمها عَلَيْهِم عنْوَة لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة من حصارها وأثخن فيهم بِالْقَتْلِ وَنَجَا من نجا مِنْهُم إِلَى سفنهم فنشروا قلوعهم وذهبوا يلتفتون وَرَاءَهُمْ ثمَّ شرع السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فِي بِنَاء السُّور الغربي من سلا الَّذِي يُقَابل الْوَادي مِنْهَا فَإِنَّهَا كَانَ لَا سور لَهَا من تِلْكَ الْجِهَة من أَيَّام عبد الْمُؤمن بن عَليّ فَإِنَّهُ كَانَ قد هدم أسوار قَوَاعِد الْمغرب مثل فاس وسبتة وسلا حَسْبَمَا قدمنَا الْخَبَر عَنهُ فِي دولته وَمن هَذِه التلمة كَانَ دُخُول النَّصَارَى الى سلا فشرع السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فِي بنائِهِ فبناه من أول دَار الصِّنَاعَة قبْلَة إِلَى الْبَحْر جوفا وَكَانَ رَحمَه الله يقف على بنائِهِ بِنَفسِهِ ويناول الْحجر بِيَدِهِ ابْتِغَاء ثَوَاب الله وتواضعا وسعيا فِي صَلَاح الْمُسلمين حَتَّى تمّ السُّور الْمَذْكُور على أحصن وَجه وأكمله وَدَار الصِّنَاعَة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْخَبَر هِيَ الدَّار الَّتِي كَانَت تصنع بهَا الأساطيل البحرية والمراكب الجهادية يجلب إِلَيْهَا الْعود من غابة المعمورة فتصنع هُنَالك ثمَّ ترسل فِي الْوَادي وَكَانَ ذَلِك من الْأَمر المهم فِي دولة الْمُوَحِّدين حَسْبَمَا سلف قَالَ فِي الجذوة دَار الصِّنَاعَة بسلا بناها الْمعلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَاج من أهل إشبيلية وَكَانَ من العارفين بالحيل الهندسية وَمن أهل المهارة فِي نقل الأجرام وَرفع الأثقال بَصيرًا باتخاذ الْآلَات الحربية الجافية اه وَأما يَعْقُوب بن عبد الله الثائر فَإِنَّهُ خشِي بادرة السُّلْطَان يَعْقُوب بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 عبد الْحق فَخرج من رِبَاط الْفَتْح وأسلمه فضبطه السُّلْطَان وثقفه ثمَّ نَهَضَ إِلَى بِلَاد تأمسنا فاستولى عَلَيْهَا وَملك مَدِينَة آنفى وَهِي الْمُسَمَّاة الْآن بِالدَّار الْبَيْضَاء فضبطها وَلحق يَعْقُوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة فَامْتنعَ بِهِ وسرح السُّلْطَان ابْنه أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد وَعلي بن زيان لمنازلته وَسَار هُوَ إِلَى لِقَاء يغمراسن فَلَقِيَهُ وَعقد مَعَه المهادنة وافترقا على السّلم وَوضع أوزار الْحَرْب وَرجع السُّلْطَان إِلَى الْمغرب فَخرج عَلَيْهِ بَنو أَخِيه إِدْرِيس على مَا نذكرهُ خُرُوج بني إِدْرِيس بن عبد الْحق على عمهم السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قد تقدم لنا أَن الْأَمِير عبد الْحق المريني كَانَ لَهُ تِسْعَة من الْوَلَد أكبرهم إِدْرِيس وَقتل مَعَ وَالِده فِي حَرْب ريَاح وَكَانَ لإدريس هَذَا عدَّة أَوْلَاد بقوا فِي كَفَالَة أعمامهم وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ أَوْلَاد إِدْرِيس قد ملكوا أَمر أنفسهم واشتدت شكيمتهم فنفسوا عَلَيْهِ مَا أَتَاهُ الله من الْملك وَرَأَوا أَنهم أَحَق بِهِ مِنْهُ لِأَن أباهم هُوَ الْأَكْبَر من ولد عبد الْحق كَمَا مر فَخَرجُوا على عمهم يَعْقُوب وَلَحِقُوا بقصر كتامة وتابعوا ابْن عمهم يَعْقُوب بن عبد الله على رأية واجتمعوا الى كَبِيرهمْ مُحَمَّد بن ادريس بن عبد الْحق وانضم اليه من كَانَ على رَأْيهمْ من عشيرتهم ومواليهم واعتصموا بجبال غمارة فَنَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان يَعْقُوب وتلطف بهم حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ واسترضاهم وَعقد لعامر بن إِدْرِيس مِنْهُم سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة على عَسْكَر من ثَلَاثَة آلَاف فَارس أَو يزِيدُونَ من المتطوعة من بني مرين وأغزاهم الأندلس لجهاد الْعَدو بهَا وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء وشفع بِهَذِهِ الفعلة الْحَسَنَة عمله فِي وَاقعَة سلا وَهُوَ أول جَيش عبر الْبَحْر إِلَى الأندلس من بني مرين فَكَانَ لَهُم فِي الْجِهَاد والمرابطة مَوَاقِف مَذْكُورَة ومقامات محمودة تبع الْخلف فِيهَا السّلف ودام ذَلِك فيهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقَامُوا عَن أهل الْمغرب والأندلس بِهَذَا الْوَاجِب الْعَظِيم رَحِمهم الله وجزاهم عَن الْمُسلمين خيرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَأما يَعْقُوب بن عبد الله صَاحب سلا فَإِنَّهُ أَقَامَ خَارِجا بالنواحي متنقلا فِي الْجِهَات إِلَى أَن قَتله طَلْحَة بن محلي من أَوْلِيَاء السُّلْطَان يَعْقُوب على سَاقيه غبولة من نَاحيَة رِبَاط الْفَتْح سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَكفى السُّلْطَان يَعْقُوب أمره حِصَار السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش ونزوع أبي دبوس مِنْهَا إِلَيْهِ وهلاك المرتضى بعد ذَلِك لما فرغ السُّلْطَان يَعْقُوب من شَأْن الخارجين عَلَيْهِ من عشيرته أجمع رَأْيه لمنازلة المرتضى والموحدين فِي دَارهم وحضرتهم وَرَأى أَنه أوهن لشوكتهم وَأقوى لأَمره عَلَيْهِم فَبعث فِي قومه وحشد أهل مَمْلَكَته واستكمل التعبئة وَسَار سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى جبل جيليز فشارف دَار الْخلَافَة وَنزل بعقرها وَأخذ بمخنقها وخفقت ألويته على جنباتها وَعقد المرتضى على حربه لأبي دبوس إِدْرِيس بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن فعبأ كتائبه ورتب مصافه وبرز لمدافعتهم ظَاهر الحضرة فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا هلك فِيهَا الْأَمِير عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ففت مهلكه فِي عضدهم وَارْتَحَلُوا عَنْهَا إِلَى أَعْمَالهم واعترضتهم عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بوادي أم الرّبيع وَعَلَيْهِم يحيى بن عبد الله بن وانودين فَاقْتَتلُوا فِي بطن الْوَادي وانهزمت عَسَاكِر الْمُوَحِّدين هزيمَة شنعاء وَتركُوا الْأَمْوَال والأثاث فاحتوى بَنو مرين على ذَلِك كُله وَهِي وَاقعَة أم الرجلَيْن ثمَّ سعى سماسرة الْفِتَن عِنْد الْخَلِيفَة المرتضى فِي ابْن عَمه وقائد حربه أبي دبوس بِأَنَّهُ يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ وَشعر هُوَ بالسعاية فِي جَانِبه فخشي بادرة المرتضى وَلحق بالسلطان يَعْقُوب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة عِنْد دُخُوله إِلَى فاس من محاصرته مراكش فَأَقَامَ عِنْده مَلِيًّا ثمَّ سَأَلَهُ الْإِعَانَة على أمره بعسكر يمده بِهِ وَآلَة يتخذها لملكه وَمَال يصرفهُ فِي ضرورياته على أَن يشركهُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 الْفَتْح وَالْغنيمَة وَالسُّلْطَان فأمده السُّلْطَان يَعْقُوب بِخَمْسَة آلَاف من بني مرين وبالمستجاد من الْآلَة والكفاية من المَال وأهاب لَهُ بالعرب والقبائل من أهل مَمْلَكَته وَغَيرهم أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة حَتَّى يبلغ مُرَاده فِي فتح مراكش وَسَار أَبُو دبوس فِي الْكَتَائِب حَتَّى شَارف الحضرة ودس إِلَى أشياعه من الْمُوَحِّدين بأَمْره فثاروا بالمرتضى فَكَانَ من فراره إِلَى آزمور ونزوله على صهره ابْن عطوش ومقتله على يَده مَا قدمنَا ذكره فِي دولته واستتب أَمر أبي دبوس بمراكش وَثَبت قدمه بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان فِي الْوَفَاء بالمشارطة فاستنكف واستكبر وَنقض الْعَهْد وأساء الرَّد فَنَهَضَ إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فِي جموع بني مرين وعساكر الْمغرب فخام عَن اللِّقَاء واعتصم بالأسوار فزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وحاصره أَيَّامًا ثمَّ سَار فِي الْجِهَات والنواحي يحطم الزروع وينسف الأقوات وَعجز أَبُو دبوس عَن مدافعته فاستجاش عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليفت فِي عضده ويشغله عَمَّا أَمَامه بِمَا وَرَاءه فَكَانَ مَا نذكرهُ وقْعَة تلاغ بَين يَعْقُوب بن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان لما نزل السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش وربض على ترائبه للتوثب عَلَيْهَا لم يجد أَبُو دبوس ملْجأ من دون الِاسْتِظْهَار عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليَأْخُذ بحجزته عَنْهَا فَبعث إِلَيْهِ بالصريخ فِي ذَلِك وأكد الْعَهْد وأسنى الْهَدِيَّة فشمر يغمراسن لاستنفاذه وجذب السُّلْطَان يَعْقُوب عَنهُ من خَلفه بشن الغارات على ثغور الْمغرب وَإِيقَاد نَار الْفِتْنَة بهَا فهاج عَلَيْهِ من السُّلْطَان يَعْقُوب لَيْث عاديا وأرهف مِنْهُ حدا مَاضِيا فأفرج للْوَقْت عَن مراكش وَرجع عوده على بدئه يُرِيد تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان فَنزل فاسا وتلوم بهَا أَيَّامًا حَتَّى أَخذ أهبة الْحَرْب وعدة النزال ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان منتصف محرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وسلك على أكرسيف ثمَّ على تافرطاست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وتزاحف الْفَرِيقَانِ بوادي تلاغ وعبأ كل مِنْهُمَا كتائبه ورتب مصافه وبرز النِّسَاء فِي القباب سافرات على سَبِيل التحريش والتحريض والتحم الْقِتَال وَطَالَ القراع والنزال وَلما فَاء الْفَيْء وَمَال النَّهَار وَكَثُرت حشود بني مرين جموع بني عبد الواد وَمن إِلَيْهِم انكشفوا ومنحوا الْعَدو أكتافهم وَهلك فِي الحومة أَبُو حَفْص عمر بن يغمراسن بن زيان وَكَانَ كَبِير أَوْلَاده وَولي عَهده وَهلك مَعَه جمَاعَة من عشيرته وَلما انهزم بَنو عبد الواد بَقِي يغمراسن فِي ساقتهم حاميا لَهُم من بني مرين أَن تركبهم من خَلفهم فَكَانَ ردْءًا لَهُم إِلَى أَن وصلوا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَت وقْعَة تلاغ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عشر من جُمَادَى الْأَخِيرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى مَكَانَهُ من حِصَار مراكش وَالله غَالب على أمره فتح حَضْرَة مراكش ومقتل أبي دبوس وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بهَا لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من حَرْب يغمراسن صرف عزمه إِلَى غَزْو مراكش وَالْعود إِلَى حصارها كَمَا كَانَ أول مرّة فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَلما عبروا وَادي أم الرّبيع بَث السَّرَايَا وَشن الغارات وَأطلق الأعنة وَالْأَيْدِي للنهب والعيث فحطموا زروعها وانتسفوا آثارها وتقرى نَوَاحِيهَا كَذَلِك بَقِيَّة عَامه ثمَّ غزا عرب الْخَلْط من جشم بتادلا فأثخن فيهم واستباحهم ثمَّ نزل وَادي العبيد فَأَقَامَ هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ غزا بِلَاد صنهاجة فاستباحها وَلم يزل ينْقل ركابه فِي أحواز مراكش ويجوس خلالها إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَاجْتمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل من الْعَرَب والمصامدة عِنْد أبي دبوس وَقَالُوا لَهُ يَا مَوْلَانَا كم تقعد عَن حَرْب بني مرين وَقد ترى مَا نزل بِنَا فِي حريمنا وَأَمْوَالنَا مِنْهُم فَاخْرُج بِنَا إِلَيْهِم لَعَلَّ الله يَجعله سَبَب الْفَتْح فَإِنَّهُم قَلِيلُونَ وجمهورهم وذوو الشَّوْكَة مِنْهُم قد بقوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 برباط تازا لحراسة ذَلِك الثغر من بني عبد الواد وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أجابهم إِلَى رَأْيهمْ فاستعد للحرب وبرز من حَضْرَة مراكش فِي جيوش ضخمة وجموع وافرة فاستجره السُّلْطَان يَعْقُوب بالفرار أَمَامه ليبعد عَن مدد الصَّرِيخ فيستمكن مِنْهُ فَلم يزل أَبُو دبوس يسْعَى خَلفه حَتَّى نزل ودغفوا فَحِينَئِذٍ كرّ عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فالتحمت الْحَرْب واختل مصَاف أبي دبوس وفر يسابق إِلَى مراكش وَأَيْنَ مِنْهُ مراكش فَأَدْرَكته الْخُيُول وحطمته الرماح فَخر صَرِيعًا واحتز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي محرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ تقدم السُّلْطَان يَعْقُوب نَحْو مراكش وفر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى تينملل وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى فَبَقيَ ذبالة هُنَالك إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَجِيء بِهِ فِي جمَاعَة من قومه إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقتلُوا جَمِيعًا وانقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين ثمَّ خرج الْمَلأ وَأهل الشورى من الحضرة إِلَى لِقَاء السُّلْطَان يَعْقُوب ففرح بهم وأمنهم ووصلهم وَدخل مراكش فِي عَسْكَر ضخم وموكب فخم يَوْم الْأَحَد التَّاسِع من محرم الْمَذْكُور وَورث ملك آل عبد الْمُؤمن وتملاه واستوسق أمره بالمغرب وتطامن النَّاس لِبَأْسِهِ وَسَكنُوا لظل سُلْطَانه وَأقَام بمراكش إِلَى رَمَضَان من سنته ثمَّ أغزا ابْنه الْأَمِير أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب بِلَاد السوس فافتتحها وأوغل فِي ديارها ودوخ أقطارها وَرجع إِلَى أَبِيه وَاسْتمرّ السُّلْطَان يَعْقُوب بمراكش يصلح شؤونها إِلَى رَمَضَان من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَخرج بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد درعة فأوقع بعربها الوقيعة الْمَشْهُورَة الَّتِي خضدت من شوكتهم وَرجع لشهرين من غزاته ثمَّ أجمع الرحلة إِلَى دَار ملكه بفاس فعقد على مراكش لمُحَمد بن عَليّ بن يحيى من كبار أَوْلِيَائِهِمْ وَمن أهل خؤلته وَكَانَ من طبقَة الوزراء وأنزله بقصبة مراكش وَجعل المسالح فِي أَعمالهَا لنظره وعهد إِلَيْهِ بتدويخ الأقطار ومحو آثَار بني عبد الْمُؤمن وَفصل من مراكش قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 مراسلة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الحفصي للسُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمهمَا الله كَانَت دولة بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فرعا من دولة بني عبد الْمُؤمن وَشعْبَة مِنْهَا حَسْبَمَا نبهنا عَلَيْهِ غير مرّة وَلما ضعفت دولة بني عبد الْمُؤمن بمراكش وَالْمغْرب كَانَ صَاحب إفريقية أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَاحِد الهنتاني يأمل الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا والتملك لَهَا ويتمنى ذَلِك لَو ساعده الْقدر لِأَنَّهُ كَانَ يرى انه اولى بِتِلْكَ الحضرة من غَيره حَتَّى من بني عبد الْمُؤمن لِأَنَّهَا أَرض سلفه وموطن أَصله وعشيرته لِأَن عمالة مراكش لم تعرف إِلَّا للمصامدة من قديم الزَّمَان وقبيلة هنتانة هِيَ صميمها وذؤابتها فَبِهَذَا وَنَحْوه كَانَ بَنو أبي حَفْص يتطاولون إِلَى ملك مراكش وَلما نبغ بَنو مرين بالمغرب وغلبوا على الْكثير من ضواحيه كَانُوا يدعونَ إِلَى أبي زَكَرِيَّاء الحفصي تأليفا لأهل الْمغرب واستجلابا لمرضاتهم وإتيانا لَهُم من نَاحيَة أهوائهم إِذْ كَانَت صبغة الدعْوَة الموحدية قد رسخت فِي قُلُوبهم فَلَو دعوا إِلَى غَيرهَا من أول الْأَمر لحاصوا عَنْهَا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَلما لم يُمكن بني مرين أَن يدعوا إِلَى بني عبد الْمُؤمن لأَنهم أقتالهم وإياهم ينازعون وَلَهُم يُحَاربُونَ ويجالدون دعوا إِلَى طَاعَة الحفصيين الَّذين هم فرع مِنْهُم والدعوة إِلَى الْفَرْع كالدعوة إِلَى أَصله فَلم تنفر نفوس أهل الْمغرب عَنْهَا وَإِنَّمَا كَانَ بَنو مرين يسرون من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَلِهَذَا لما اسْتَقل السُّلْطَان يَعْقُوب بِالْأَمر وَتمكن لَهُ السُّلْطَان بالمغرب قطع دَعْوَة الحفصيين حَالا بعد أَن كَانَ أَولا يَدْعُو إِلَيْهَا هُوَ وَإِخْوَته من قبله وَكَانَ بَنو أبي حَفْص ينشطون لذَلِك ويهادون بني مرين ويمدونهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك وَلما عزم السُّلْطَان يَعْقُوب على منازلة مراكش كتب إِلَى أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص يُخبرهُ بذلك ويستمده حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 كَأَنَّهُ نَائِب عَنهُ لَا غير وَأرْسل بكتابه مَعَ ابْن أَخِيه عَامر بن إِدْرِيس بن عبد لحق فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَأكْرم الْمُسْتَنْصر وفادتهم ثمَّ لما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا بعث إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصر بهدية فِيهَا من أَصْنَاف الْخَيل الْجِيَاد وَالسِّلَاح وَالثيَاب الرفيعة مَا اخْتَارَهُ وَاسْتَحْسنهُ وَبعث بذلك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه دولته أَيْضا وَفِيهِمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي فتلطف الْكَاتِب الْمَذْكُور فِي ذكر الْمُسْتَنْصر على مِنْبَر مراكش حَتَّى تمّ لَهُ ذَلِك بِمحضر وَفد الْمُوَحِّدين فَعظم سرورهم وانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ بالْخبر واتصلت الْمَوَدَّة والمهاداة بَين الْمُسْتَنْصر وَالسُّلْطَان يَعْقُوب سَائِر أيامهم وَلما هلك الْمُسْتَنْصر وبويع ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى الْمَدْعُو بالواثق اقتفى سنَن أَبِيه فِي ذَلِك فَبعث إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بهدية حافلة مَعَ قَاضِي بجاية أبي الْعَبَّاس الغماري سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة فَعظم موقعها من السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ لأبي الْعَبَّاس الغماري هَذَا بالمغرب ذكر تحدث النَّاس بِهِ ذهرا وَقطع السُّلْطَان يَعْقُوب لأوّل أمره الدعْوَة إِلَى الحفصيين كَمَا قُلْنَا وَالله تَعَالَى أعلم عقد السُّلْطَان يَعْقُوب ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي مَالك بسلا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من خُرُوج قرَابَته عَلَيْهِ كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين خرج من مراكش بعد فتحهَا قَاصِدا حَضْرَة فاس دَار ملك بني مرين اجتاز بِمَدِينَة سلا فأراح بهَا أَيَّامًا فطرقه مرض وعك مِنْهُ وعكا شَدِيدا فَلَمَّا أبل من مَرضه جمع قومه وَعقد الْعَهْد لأكبر أَوْلَاده أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب لما علم من أَهْلِيَّته لذَلِك وَأخذ لَهُ الْبيعَة عليم جَمِيعًا فأعطوها طواعية وَعز ذَلِك على الْقَرَابَة من بني عبد الْحق وهم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء بَنو إِدْرِيس بن عبد الْحق وَبَنُو عبد الله بن عبد الْحق وَبَنُو رحو بن عبد الْحق وَإِنَّمَا قيل لَهُم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من بني عبد الْحق كَانُوا أشقاء أمّهم اسْمهَا سَوط النِّسَاء فَلَمَّا بَايع السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 يَعْقُوب لِابْنِهِ أبي مَالك بِولَايَة الْعَهْد آسفهم ذَلِك لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر حَسْبَمَا سلف فَارْتَدُّوا على أَعْقَابهم وقلبوا لعمهم ظهر الْمِجَن وعادت هيف إِلَى أديانها وأسروا من ليلتهم من سلا وَلم يصبحوا إِلَّا بجبل علودان من بِلَاد غمارة عش خلافهم ومدرج فتنتهم وَكَانَ ذَلِك فِي عيد الْفطر من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وانضم إِلَيْهِم بَنو أبي عياد بن عبد الْحق وشايعوهم على رَأْيهمْ فَخرج السُّلْطَان يَعْقُوب فِي أَثَرهم وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه لاأمير يُوسُف بن يَعْقُوب فِي خَمْسَة آلَاف فأحاط بهم وَأخذ بمخنقهم وَلحق بِهِ أَخُوهُ أَبُو مَالك فِي عسكره وَمَعَهُ مَسْعُود بن كانون شيخ سُفْيَان ثمَّ لحق بهم السُّلْطَان يَعْقُوب فِي عساكره فحاصروهم ثَلَاثَة وَلما رَأَوْا أَن قد أحيط بهم سَأَلُوا الْأمان فبذله لَهُم وأنزلهم وَمسح صُدُورهمْ واسترضاهم واستل سخائمهم وَوصل بهم إِلَى حَضرته فسألوا مِنْهُ الْأذن فِي اللحاق بتلمسان حَيَاء مِمَّا ارتكبوه من الْخلاف فَأذن لَهُم فأجازوا الْبَحْر إِلَى الأندلس وَخَالفهُم عَامر بن إِدْرِيس لما آنس من ميل عَمه إِلَيْهِ فَبَقيَ بتلمسان حَتَّى توثق لنَفسِهِ بالعهد وَعَاد إِلَى قومه بعد منازلة السُّلْطَان يَعْقُوب لتلمسان حَسْبَمَا نذكرهُ عَن قريب قَالَ ابْن خلدون واحتل هَؤُلَاءِ الْقَرَابَة من بني عبد الْحق بِأَرْض الأندلس على حِين أقفر من الحامية جوها واستأسد الْعَدو على ثغورها وتحلبت شفاهه لالتهامها فتبوءوها أسودا ضارية وسيوفا مَاضِيا معودين لِقَاء الْأَبْطَال وقراع الحتوف والنزال مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة الْعِزّ وبساله التوحش فعظمت نكايتهم فِي الْعَدو واعترضوا فِي صَدره سجى دون الوطن الَّذِي كَانَ طعمة لَهُ فِي ظَنّه وارتدوه على عقبه ونشطوا من همم الْمُسلمين الْمُسْتَضْعَفِينَ وَرَاء الْبَحْر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم وزاحموا أَمِير الأندلس قي رياستها بمنكب قوي فتجافى لَهُم عَن خطة الْحَرْب ورياسة الْغُزَاة من أهل العدوة من أعياصهم وَغَيرهم من أُمَم البربر وثافنوه فِي مُسْتَقر عزه وساهموه فِي الجباية بِفَرْض الْعَطاء والديوان فبذله لَهُم واستعدوا على الْعَدو وَحسن أَثَرهم فِيهِ حَسْبَمَا تلمع بِالْبَعْضِ من ذَلِك إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 هجوم النَّصَارَى على العرائش وتيشمس من ثغور الْمغرب لما كَانَ الْمحرم من سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة هجم النَّصَارَى على مَدِينَة العرائش وتيشمس من ثغور العدوة المغربية فَقتلُوا رجالها وَسبوا نساءها وانتهبوا أموالها وأضرموها نَارا وَرَجَعُوا عودهم على بدءهم فَرَكبُوا أجفانهم وَلَحِقُوا ببلادهم وَلم تنلهم شَوْكَة السُّلْطَان يَعْقُوب لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِفَتْح مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلم يبين فِي القرطاس هَؤُلَاءِ النَّصَارَى من هم وقْعَة إيسلي بَين السُّلْطَان يَعْقُوب ابْن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان لما أنعم الله على السُّلْطَان يَعْقُوب بامتداد ظلّ ملكه فِي أقطار الْمغرب ونواحيه ونفوذ كَلمته فِي حواضره وبواديه وتمم لَهُ الصنع بِفَتْح مراكش ووراثة كرْسِي بني عبد الْمُؤمن بهَا وَعَاد إِلَى فاس كَمَا قُلْنَا تحرّك مَا كَانَ فِي نَفسه من ضغائن يغمراسن بن زيان وَمَا آسفه بِهِ من تخذيل عَزَائِمه ومجاذبته عَن قَصده وَرَأى أَن وقْعَة تلاغ لم تشف صَدره وَلَا أطفأت نَار موجدته فأجمع أمره لغزوة ونشطه لذَلِك مَا صَار إِلَيْهِ من الْملك وسعة السُّلْطَان فحشد جَمِيع أهل الْمغرب وعزم على استئصاله وَقطع دابره فَعَسْكَرَ بفاس وَبعث وَلَده أَبَا مَالك إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من خواصة حاشرين فِي مدائنها وضواحيها فَاجْتمع عَلَيْهِ من قبائل الْعَرَب والمصامدة وصنهاجة وبقايا عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بالحضرة وحامية الْأَمْصَار من جند الفرنج وناشبة الْغَزْو استكثر من ذَلِك كُله واحتفل السُّلْطَان يَعْقُوب بفاس كَذَلِك ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا غرَّة صفر سنة سبعين وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل وَادي ملوية فَأَقَامَ عَلَيْهِ أَيَّامًا حَتَّى لحقه ابْنه أَبُو مَالك فِي جموعه وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد الْعَرَب من قبائل جشم أهل تامسنا الَّذين هم سُفْيَان والخلط والعاصم وَبَنُو جَابر وَمن مَعَهم من الأثبج وقبائل ذَوي حسان والشبانات من معقل أهل السوس الْأَقْصَى وقبائل ريَاح أهل أزغار وبلاد الهبط فَعرض هُنَالك عساكره وميزها ورتبها فَيُقَال إِنَّهَا بلغت ثَلَاثِينَ ألفا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وارتحل يُرِيد تلمسان وَلما انْتهى إِلَى أنكاد قدمت عَلَيْهِ رسل ابْن الْأَحْمَر ووفد أهل الأندلس يستصرخونه على الْعَدو ويسألونه الْإِعَانَة والنصر ويخبرونه بِأَنَّهُ قد كلب عَلَيْهِم وشره لالتهام بِلَادهمْ فتحركت همته رَحمَه الله للْجِهَاد وَنصر الْمُسلمين وإغاثة الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُم وَنظر فِي صرف الشواغل عَن ذَلِك وجنح للسلم مَعَ يغمراسن وعزم عَلَيْهَا وَاسْتَشَارَ الْمَلأ من أَشْيَاخ الْعَرَب وَبني مرين فِي ذَلِك فصوبوا رَأْيه لما كَانُوا عَلَيْهِ أَيْضا من إِيثَار الْجِهَاد ومحبته فَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب جمَاعَة من أَشْيَاخ الْقَبَائِل إِلَى يغمراسن يَدعُونَهُ إِلَى الصُّلْح واجتماع الْكَلِمَة وَقَالَ لَهُم فِي جملَة قَوْله إِن الصُّلْح خير كُله فَإِن جنح يغمراسن إِلَيْهِ وأناب فَذَاك وَإِلَّا فَأَسْرعُوا إِلَيّ بالْخبر فَسَار الْأَشْيَاخ إِلَى يغمراسن فوافوه بِظَاهِر تلمسان وَقد أَخذ أهبته واستعد للقاء وحشد قبائل زناتة المجاورين لَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من بني عبد الواد وَبني رَاشد وأحلافهم ومغراوة من عرب بني زغبة فبلغوه الرسَالَة وعرضوا عَلَيْهِ مقَالَة السُّلْطَان يَعْقُوب فَأبى واستكبر وصم عَن سَماع قَوْلهم وموعظتهم وَقَالَ أبعد مقتل وَلَدي أصالحه وَالله لَا كَانَ ذَلِك أبدا حَتَّى أثأر بِهِ وأذيق أهل الْمغرب النكال من أَجله فَرَجَعت الرُّسُل إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بالْخبر وتزاحف الْفَرِيقَانِ فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي ايسلي من بسيط وَجدّة وعبأ السُّلْطَان يَعْقُوب كتائبه ورتب مصافه وَجعل ابْنه عبد الْوَاحِد فِي الميمنة وَابْنه يُوسُف فِي الميسرة ووقف هُوَ فِي الْقلب ودارت بَينهم رحى الْحَرْب وركدت مَلِيًّا وَهلك فِي الحومة أَبُو عنان فَارس بن يغمراسن بن زيان فِي جمَاعَة من بني عبد الواد وَهلك عَامَّة عَسْكَر الفرنج الَّذين كَانُوا مَعَهم لثباتهم بثبات يغمراسن فطحنتهم رحى الْحَرْب وتقبض على قائدهم برنيس وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَنَجَا يغمراسن فِي فَلهُ حاميا لَهُم ومدافعا عَنْهُم من خَلفهم وَمر فِي هزيمته بفساطيطه فأضرمها نَارا تفاديا من حصرة اسْتِيلَاء الْعَدو عَلَيْهَا وانتهبت بَنو مرين بَاقِي مُعَسْكَره واستبيحت حرمه وارتحل السُّلْطَان يَعْقُوب من الْغَد فِي أَثَره حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى وَجدّة وقف عَلَيْهَا فَأمر بهدمها فتسارعت أَيدي الْجند إِلَيْهَا وَجعلُوا عاليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 سافلها وألصقوا بالرغام جدرانها وتركوها قاعا صفصفا وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة منتصف رَجَب من سنة سبعين وسِتمِائَة ثمَّ تقدم إِلَى تلمسان فَنزل عَلَيْهَا وحاصرها أَيَّامًا وَأطلق الْأَيْدِي فِي ساحتها بالنهب والعيث ثمَّ شن الغارات على البسائط فاكتسحها سَببا ونسفها نسفا وَهلك فِي طَرِيقه إِلَى تلمسان وزيره عِيسَى بن ماساي وَكَانَ من عَلَيْهِ وزرائه وحماة ميدانه وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَذْكُورَة وَكَانَ مهلكه فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَقدم عَلَيْهِ وَهُوَ محاصر لتلمسان الْأَمِير أَبُو زيان مُحَمَّد بن عبد الْقوي بن الْعَبَّاس بن عَطِيَّة كَبِير بني توجين من زناتة فِي جَيش كثيف من قومه مباهيا ببنوده وطبوله وَآلَة حربه وَكَانَ قدومه هَذَا بِقصد مُظَاهرَة السُّلْطَان يَعْقُوب على يغمراسن وتلمسان لعداوة كَانَت بَينهمَا فَأكْرم السُّلْطَان يَعْقُوب وفادته واستركب النَّاس للقائه وَاتخذ رُتْبَة السِّلَاح لمباهاته وَاسْتمرّ الْحصار على تلمسان وعظمت نكاية بني توجين فِيهَا بتخريب الرباع وانتساف الجنات وَقطع الثِّمَار وإفساد الزَّرْع وتحريق الْقرى والضياع لما كَانَ يغمراسن يعاملهم فِي بِلَادهمْ بِمثل ذَلِك أَو أَكثر وَلما امْتنعت تلمسان على السُّلْطَان يَعْقُوب وأيس من فتحهَا لحصانتها واشتداد شَوْكَة حاميتها عزم على الإفراج عَنْهَا وَأَشَارَ على الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي بالقفول إِلَى مأمنه قبل أَن ينْهض هُوَ عَن تلمسان وَوَصله وَقَومه وملأ حقائبهم من التحف وجنب لَهُم مائَة من الْخَيل المقربات الْجِيَاد بمراكبها وأراح عَلَيْهِم ألف نَاقَة حَلُوب وعمهم بِالْخلْعِ الفاخرة والصلات الوافرة واستكثر لَهُم من السِّلَاح والفازات والفساطيط وَحَملهمْ على الظّهْر وَارْتَحَلُوا إِلَى منجاتهم ومقرهم من جبل وانشريس وتلوم السُّلْطَان يَعْقُوب عَلَيْهِم أَيَّامًا ريثما وصلوا حذرا عَلَيْهِم من يغمراسن أَن ينتهز الفرصة فِي اتباعهم ثمَّ أقلع السُّلْطَان عَن تلمسان وثنى عنانه إِلَى الْمغرب فوصل إِلَى رِبَاط تازا فِي أول يَوْم من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة فعيد بهَا عيد النَّحْر ثمَّ ارتحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى الْيَوْم الْحَادِي عشر من صفر فَتوفي وَلَده وَولي عَهده الْأَمِير أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فأسف لفقده ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 صَبر واحتسب ثمَّ نَهَضَ إِلَى مراكش فَدَخلَهَا أَوَائِل ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بهَا شهرا حَتَّى أصلح من شَأْنهَا ثمَّ نَهَضَ إِلَى طنجة وسبتة على مَا نذكرهُ فتح طنجة وسبتة وَمَا كَانَ من أَمر العزفي بهما قد تقدم لنا فِي دولة أبي حَفْص عمر المرتضي أَن الْفَقِيه أَبَا الْقَاسِم العزفي استبد عَلَيْهِ بسبتة وتوارث ذَلِك بنوه من بعده وَكَانَ هَؤُلَاءِ العزفيون من بيوتات سبتة وَأهل الرياسة وَالْعلم وَالدّين فيهم وَلما ضعف أَمر بني عبد الْمُؤمن بالمغرب اسْتَقل الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم بن أبي الْعَبَّاس العزفي برياستها وضبطها وانتظم فِي طَاعَته سَائِر أَعمالهَا وَلما كَانَت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بعث الْفَقِيه الْمَذْكُورَة أجفانه إِلَى مَدِينَة أصيلا فهدموا أسوارها وَنَقَضُوا قصبتها لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهَا من خلائها أَن يملكهَا الْعَدو ويتمنع بهَا واستمرت أُمُوره فِي سبتة ونواحيها على الشداد وَكَانَت طنجة تالية لسبتة فِي سَائِر أحوالها وكانتا مَعًا من أحصن بِلَاد الْمغرب فَدخل صَاحب طنجة وَهُوَ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن مُحَمَّد الْهَمدَانِي الْمَعْرُوف بِابْن الْأَمِير فِي طَاعَة أبي الْقَاسِم الْمَذْكُور ثمَّ انتفض عَلَيْهِ لمضي سنة من طَاعَته واستبد وخطب لِابْنِ أبي حَفْص صَاحب إفريقية ثمَّ للخليفة العباسي صَاحب بَغْدَاد ثمَّ لنَفسِهِ وسلك فِي طنجة مَسْلَك العزفي فِي سبتة وَلَبِثُوا على ذَلِك مَا شَاءَ الله حَتَّى إِذا ملك بَنو مرين الْمغرب وافتتحوا معاقله وحصونه وَهلك الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق وَابْنه أَبُو حَفْص عمر من بعده فتحيز بنوه فِي أتباعهم وحشمهم إِلَى نَاحيَة طنجة وَأَصِيلا فأوطنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ضاحيتها وعاثوا فِي نَوَاحِيهَا وضيقوا على أهل طنجة حَتَّى شارطهم ابْن الأميرعلى خراج مَعْلُوم على أَن يكفوا الأذية ويحموا الْحَوْزَة ويصلحوا السابلة فاتصلت يَده بيدهم وترددوا إِلَى الْبَلَد لاقْتِضَاء حاجاتهم ثمَّ مكروا وأضمروا الْغدر فَدَخَلُوا فِي بعض الْأَيَّام متأبطين السِّلَاح وفتكوا بِابْن الْأَمِير غيلَة فثارت بهم عَامَّة أهل طنجة واستلحموهم لحينهم فِي مصرع وَاحِد سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة واجتمعوا على وَلَده فَبَايعُوهُ وَبقيت فِي ملكته خَمْسَة أشهر ثمَّ استولى عَلَيْهَا أَبُو الْقَاسِم العزفي فَنَهَضَ إِلَيْهَا بعساكره من الرجل برا وبحرا وملكها وفر ابْن الْأَمِير فلحق بتونس وَنزل على الْمُسْتَنْصر الحفصي واستقرت طنجة فِي إيالة العزفي فضبطها وَقَامَ بأمرها وَولي عَلَيْهَا من قبله وأشرك الْمَلأ من أَشْرَافهَا فِي الشورى وَلما استولى السُّلْطَان يَعْقُوب على حَضْرَة مراكش ومحا دولة آل عبد الْمُؤمن مِنْهَا وَفرغ من أَمر عدوه يغمراسن هم بِتِلْكَ النَّاحِيَة وَأحب أَن يضيفها إِلَى مَا بِيَدِهِ ليصفوا لَهُ أَمر الْمغرب الْأَقْصَى كُله فَنَهَضَ إِلَى طنجة ونازلها مفتتح اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة لِأَنَّهَا كَانَت فِي الْبَسِيط دون سبتة فَكَانَ أمرهَا أسهل فحاصرها نَحْو ثَلَاثَة أشهر فامتنعت عَلَيْهِ ويئس مِنْهَا وعزم على الإفراج عَنْهَا فَبَيْنَمَا هُوَ يُقَاتل فِي عشي الْيَوْم الَّذِي عزم على النهوض فِي غده إِذا بِجَمَاعَة من رماتها قَامُوا على برج وَرفعُوا لِوَاء أَبيض وَنَادَوْا بشعار بني مرين وَذَلِكَ لخلاف وَقع بَينهم دَاخل الْبَلَد فَتسَارع الْجند إِلَيْهِم فملكوهم البرج فتسوروا إِلَيْهِ الْحِيطَان وقاتلوا عَلَيْهِ سَائِر ليلتهم إِلَى الصَّباح ثمَّ تكاثرت جيوش بني مرين واقتحموا الْبَلَد عنْوَة ونادى مُنَادِي السُّلْطَان يَعْقُوب بالأمان فَلم يهْلك من أَهلهَا إِلَّا نفر يسير مِمَّن رفع يَده لِلْقِتَالِ وَشهر السِّلَاح سَاعَة الدُّخُول وَكَانَ ذَلِك فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة وَلما فرغ السُّلْطَان يَعْقُوب من طنجة بعث وَلَده الْأَمِير يُوسُف إِلَى سبتة فحاصر بهَا العزفي أَيَّامًا ثمَّ لَاذَ بِالطَّاعَةِ على أَن يبْقى مُمْتَنعا بحصنه وَيُؤَدِّي للسُّلْطَان خراجا مَعْلُوما كل سنة فَقبل السُّلْطَان مِنْهُ ذَلِك وأفرجت عَنهُ عساكره وَعَاد إِلَى فاس وَالله غَالب على أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فتح سجلماسة وَمَا كَانَ من أمرهَا قد ذكرنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق على سجلماسة ودرعة وَأَنه عقد على مسلحتها لأبي يحيى الفطراني الَّذِي كَانَ السَّبَب فِي غَلبه عَلَيْهَا المرتضى وَقتل القطراني بِوَاسِطَة القَاضِي ابْن حجاج حَسْبَمَا تقدم ذَلِك كُله ثمَّ غلب عَلَيْهَا بعد حِين يغمراسن بن زيان بِوَاسِطَة عرب المنبات من بني معقل أهل الصَّحرَاء وَعقد عَلَيْهَا لعبد الْملك بن مُحَمَّد العَبْد الْوَادي الْمَعْرُوف بِابْن حنينة نِسْبَة إِلَى أمه وَهِي أُخْت يغمراسن بن زيان وَلما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب بِلَاد الْمغرب وانتظمها فِي ملكته وَجه عزمه إِلَى افْتِتَاح سجلماسة وانتزاعها من أَيدي بني عبد الواد المتغلبين عَلَيْهَا فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة فِي جموع بني مرين وقبائل الْمغرب من الْعَرَب والبربر ونازلها وَنصب عَلَيْهَا آلَات الْحصار من المجانيق والعرادات وَغير ذَلِك قَالَ ابْن خلدون وَنصب عَلَيْهَا هندام النفط الْقَاذِف بحصى الْحَدِيد ينبعث من خزانَة أَمَام النَّار الموقدة فِي البارود بطبيعة غَرِيبَة ترد الْأَفْعَال إِلَى قدرَة بارئها اه كَلَامه قلت وَفِيه فَائِدَة أَن البارود كَانَ مَوْجُودا فِي ذَلِك التَّارِيخ وَأَن النَّاس كَانُوا يُقَاتلُون بِهِ ويستعملونه فِي محاصراتهم وحروبهم يَوْمئِذٍ وَفِيه رد لما نَقله أَبُو زيد الفاسي فِي شرج منظومته الْمَوْضُوعَة فِي الْعَمَل الْجَارِي بفاس قَالَ كَانَ حُدُوث البارود سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا ذكره بَعضهم فِي تأليف لَهُ فِي الْجِهَاد وَأَنه استخرجه حَكِيم كَانَ يعْمل الكيمياء ففرقع لَهُ فَأَعَادَهُ فأعجبه فاستخرج مِنْهُ هَذَا البارود اه وصرخ الشَّيْخ أَبُو عبد الله بناني فِي حَاشِيَته على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل بِأَن حُدُوثه كَانَ فِي وسط الْمِائَة الثَّامِنَة وَهُوَ غير صَوَاب لما علمت من كَلَام ابْن خلدون أَنه كَانَ مَوْجُودا قبل ذَلِك بِنَحْوِ مائَة سنة ويغلب على ظَنِّي أَن لفظ الستمائة تصحف بالسبعمائة فسرى الْغَلَط من ذَلِك وَالله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب على حِصَار سجلماسة حولا كَامِلا وَكَانَ سفهاؤها يصعدون فَوق الأسوار ويعلنون بالسب وَالْفُحْش إِلَى أَن هتك المنجنيق ذَات يَوْم طَائِفَة من سورها فَدخلت من هُنَالك عنْوَة بِالسَّيْفِ وعاث الْجند فِي أَهلهَا فَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا الذُّرِّيَّة وأتى الْقَتْل على عاملها عبد الْملك بن حنينة وَمن كَانَ بهَا من أَشْيَاخ بني عبد الواد وعرب المنبات وَكَانَ فتحهَا آخر صفر وَقيل يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وكمل بِفَتْحِهَا للسُّلْطَان يَعْقُوب فتح بِلَاد الْمغرب وتمشت طَاعَته فِي أقطاره فَلم يبْق فِيهِ أهل حصن يدينون بِغَيْر دَعوته وَلَا جمَاعَة تتحيز إِلَى غير فئته أَخْبَار السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ لَهُ بالأندلس من الذّكر الْجَمِيل وَالْفَخْر الجزيل رَحمَه الله قد تقدم لنا مَا كَانَ لِلْعَدو الْكَافِر على الْمُسلمين فِي وقْعَة الْعقَاب من الظُّهُور وَالْغَلَبَة وَأَن تِلْكَ الْوَقْعَة كَانَت سَبَب ضعف الْمُسلمين بالمغرب والأندلس واستيلاء الْعَدو الْكَافِر على جلّ ثغورها وحصونها وَلما ضعف أَمر الْمُوَحِّدين بالمغرب استبد السَّادة مِنْهُم بالأندلس وصاروا إِلَى المنافسة فِيمَا بَينهم واستظهار بَعضهم على بعض بالطاغية وَإِسْلَام حصون الْمُسلمين إِلَيْهِ فِي سَبِيل تِلْكَ الْفِتْنَة فمشت رجالات الأندلس بَعضهم إِلَى بعض وَأَجْمعُوا على إِخْرَاج الْمُوَحِّدين من أَرضهم فثاروا بهم لوقت وَاحِد وأخرجوهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الجذامي ثمَّ من بعده مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر وَنَازع ابْن هود الرياسة بالأندلس وَلَا الشهيرة الَّتِي مِنْهَا قرطبة وإشبيلية قاعدتا أَرض الأندلس كَانَ كل وَاحِد من هذَيْن الثائرين يتَقرَّب إِلَى الطاغية بِمَا غلب عَلَيْهِ من ذَلِك ليعينه على صَاحبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وَالْأَمر لله وَحده وانقرض أَمر ابْن هود عَن أمد قريب واستمرت دولة ابْن الْأَحْمَر فِي عقبه إِلَى آخر الْمِائَة التَّاسِعَة وَلما استتب أَمر ابْن الْأَحْمَر بالأندلس عقد السّلم مَعَ الطاغية على أَن ينزل لَهُ عَن جَمِيع بسائط عرب الأندلس فَنزل لَهُ عَنْهَا أجمع ولجأ بِالْمُسْلِمين إِلَى سيف الْبَحْر معتصمين بأوعاره ومتشبثين بمعاقله وحصونه وَاخْتَارَ ابْن الْأَحْمَر لنزوله مَدِينَة غرناطة واتخذها كرْسِي مَمْلَكَته وابتنى بهَا لسكناه حصن الْحَمْرَاء وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر هَذَا يدعى بالشيخ وَكَانَ قد عهد إِلَى وَلَده الْقَائِم من بعده مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالفقيه لانتحاله طلب الْعلم فِي صغره وأوصاه إِذا نابه أَمر من الْعَدو أَو وصل إِلَيْهِ مَكْرُوه أَن يستنصر عَلَيْهِ ببني مرين ويدرا بهم فِي نَحره ويجعلهم وقاية بَين الْعَدو وَبَين الْمُسلمين فَلَمَّا تكالب الطاغية على بِلَاد الأندلس بَادر مُحَمَّد الْفَقِيه إِلَى الْعَمَل بِإِشَارَة وَالِده وأوفد مشيخة الأندلس كَافَّة على السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فَلَقِيَهُ وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة فتبادروا للسلام عَلَيْهِ وألقوا إِلَيْهِ كنه الْخَبَر عَن كلب الْعَدو على الْمُسلمين وَثقل وطأته فَحَيَّا وفدهم واستبشر بمقدمهم وبادر لإجابة دَاعِي الله وإيثار الْجنَّة وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله مُنْذُ أول أمره مؤثرا عمل الْجِهَاد كلفا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ لَو أعطي الْخِيَار على سَائِر أَعماله حَتَّى لقد كَانَ اعتزم على الْغَزْو إِلَى الأندلس أَيَّام أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَطلب إِذْنه فِي ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ فَكَانَ فِي نَفسه من ذَلِك شغل وَله إِلَيْهِ صاغية فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ هَذَا الْوَفْد نبهوا عزيمته وأيقظوا همته فأعمل فِي الاحتشاد وَبعث فِي النفير ونهض من فاس فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة فوصل إِلَى طنجة وَأقَام هُنَالك وجهز خَمْسَة آلَاف من قومه أزاح عللهم وأجزل أعطياتهم وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِهِ أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 زيان وَأَعْطَاهُ الرَّايَة واستدعى من العزفي صَاحب سبتة السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الْمجَاز مِنْهُ عشرُون أسطولا فَأجَاز الْعَسْكَر الْمَذْكُور وَنزل بطريف فِي السَّادِس عشر من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فأراح الْأَمِير أَبُو زيان بطريف ثَلَاثًا ثمَّ دخل دَار الْحَرْب وتوغل فِيهَا وأجلب على ثغورها وبسائطها وامتلات أَيْديهم من الْمَغَانِم وأثخنوا بِالْقَتْلِ والأسر وتخريب الْعمرَان ونسف الْآثَار حَتَّى نزل بِسَاحَة شريش فخام حاميتها عَن اللِّقَاء وتحصنوا بالأسوار وقفل الْأَمِير أَبُو زيان الجزيرة الخضراء وَقد أمتلأت أَيدي عسكره من الْأَمْوَال وحقائبهم من السَّبي وركائبهم من السِّلَاح والأثاث وَرَأى أهل الأندلس أَن قد ثأروا بعام الْعقَاب بعد أَن لم تنصر لَهُم راية من ذَلِك الْيَوْم إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره الْجَوَاز الأول للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد ثمَّ اتَّصل الْخَبَر بالسلطان يَعْقُوب رَحمَه الله أَن الْعَدو قد أَخذ فِي الاستعداد وعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فاعتزم على الْغَزْو بِنَفسِهِ وخشي على ثغور بِلَاده من عَادِية يغمراسن صَاحب تلمسان فَبعث حافده تاشفين بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فِي وَفد من بني مرين لعقد السّلم مَعَ يغمراسن وَالرُّجُوع للاتفاق وَالْمُوَادَعَة وَوضع أوزار الْحَرْب بَين الْمُسلمين للْقِيَام بوظيفة الْجِهَاد فَأكْرم موصله وموصل قومه وبادر إِلَى الْإِجَابَة والألفة وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السُّلْطَان يَعْقُوب لعقد السّلم وَبعث مَعَهم الرُّسُل وأسني الْهَدِيَّة وَجمع الله كلمة الْإِسْلَام وَعظم موقع هَذَا السّلم من السُّلْطَان يَعْقُوب لما كَانَ فِي نَفسه من الْميل الى الْجِهَاد وإيثار مبرورات الْأَعْمَال فَبَثَّ الصَّدقَات شكرا لله تَعَالَى على مَا منحه من التفرغ لذَلِك ثمَّ اسْتنْفرَ الكافة واحتشد الْقَبَائِل والجموع ودعا الْمُسلمين إِلَى جِهَاد عدوهم وخاطب فِي ذَلِك سَائِر أهل الْمغرب من زناتة وَالْعرب والموحدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأروبة ومكناسة وَجَمِيع قبائل البربر من المرتزقة والمتطوعة وأهاب بهم وَشرع فِي عبور الْبَحْر فأجازهم من فرضة قصر الْمجَاز فِي صفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة واحتل بساحل طريف وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين استصرخه ابْن الْأَحْمَر وأوفد عَلَيْهِ مَشَايِخ الأندلس اشْترط عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب النُّزُول عَن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره بهَا فتجافى لَهُ عَن رندة وطريف وَلما أحس الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة بِإِجَازَة السُّلْطَان يَعْقُوب قدم إِلَيْهِ الْوَفْد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق من أَصْهَار ابْن الْأَحْمَر وَكَانَا مستوليين على مالقة ووادي آش وقمارش وَوَقعت بَينهمَا وَبَين ابْن الْأَحْمَر مُنَافَسَة فَخَرَجَا عَن طَاعَته وَلما عبر السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس بَادر أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة إِلَيْهِ واتصل بِهِ وأمحضه الود والنصح وسابق ابْن الْأَحْمَر فِي ذَلِك ونازعه فِي برور مقدمه والإذعان لَهُ وَرُبمَا صدرت من ابْن أشقيلولة فِي حق ابْن الْأَحْمَر جفوة بِمحضر السُّلْطَان يَعْقُوب أدَّت إِلَى بعض الْفساد وَانْصَرف ابْن الْأَحْمَر مغاضبا للسُّلْطَان من أجل ذَلِك وَلما احتل السُّلْطَان بِنَاحِيَة طريف مَلَأت كتائبه ساحة الأَرْض مَا بَينهَا وَبَين الجزيرة الخضراء ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن يسْبق إِلَيْهِم الْخَبَر فَدخل دَار الْحَرْب وانْتهى إِلَى الْوَادي الْكَبِير فعقد هُنَالك لوَلَده الْأَمِير يُوسُف على خَمْسَة آلَاف من عسكره قدمهَا بَين يَدَيْهِ ثمَّ تبعه على أَثَره وسرح كتائبه فِي البسائط وخلال المعاقل تنسف الزروع وتخطم الغروس وتخرب الْعمرَان وتنتهب الْأَمْوَال وتكتسح السَّرْح وَتقتل الْمُقَاتلَة وَتَسْبِي النِّسَاء والذرية حَتَّى انْتهى إِلَى حصن المدور وبياسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنْوَة وأتى على سَائِر الْحُصُون فِي طَرِيقه فطمس معالمها واكتسح أموالها وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله وَالْأَرْض تموج سبيا إِلَى أَن عرس بأستجه من تخوم دَار الْحَرْب وجاءه النذير بِاتِّبَاع الْعَدو آثاره لاستنقاذ أسراه واسترجاع أَمْوَاله وَأَن زعيم الفرنج وعظيمهم نونه خرج فِي طَلَبهمْ فِي أُمَم النَّصْرَانِيَّة من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَقدم السُّلْطَان الْغَنَائِم بَين يَدَيْهِ وسرح ألفا من الفرسان أمامها وَسَار يقتفيها من خلفهَا حَتَّى إِذا أطلت رايات الْعَدو مر ورائهم كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الزَّحْف ورتب المصاف وجرد السَّيْف وَذكر اسْم الله وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت فِي طَاعَة رَبهَا والذب عَن دينهَا وَجَاءَت بِمَا يعرف من بأسها وبلائها فِي مقاماتها ومواقفها فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وَظهر أَمر الله وانكشفت جموع النَّصْرَانِيَّة وَقتل الزعيم نونه وَكَانَ هَذَا اللعين زعيم النَّصْرَانِيَّة بالأندلس قد قدمه الفنش على جيوشه وَاسْتَعْملهُ على حروبه وفوض لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره وَكَانَ النَّصَارَى قد سعدوا بطائرة وتيمنوا بنقيبته لِأَنَّهُ لم تهزم لَهُ قطّ راية وَكَانَ وبالا على بِلَاد الْإِسْلَام كثير الغارات عَلَيْهَا حَتَّى جمع الله بَينه وَبَين السُّلْطَان يَعْقُوب فأراحه من تَعب الْحَرْب وكد الغارات وألحقه بِأُمِّهِ الهاوية ومنح الْمُسلمين رِقَاب الفرنج واستحر فيهم الْقَتْل حَتَّى بلغت قتلاهم عدد الألوف وجمعوا من رؤوسهم مآذن أذنوا عَلَيْهَا لصلاتي الظّهْر وَالْعصر وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين مَا يناهز الثَّلَاثِينَ أكْرمهم الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ وآثرهم بِمَا عِنْده وَنصر الله حزبه وأعز أوليائه وَأظْهر دينه وبدا لِلْعَدو مَا لم يكن يحتسبه بمحاماة هَذِه الْعِصَابَة عَن الْملَّة وقيامها بنصر الْكَلِمَة وَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بِرَأْس الزعيم نونه إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَيُقَال إِنَّه بَعثه سرا إِلَى قومه بعد أَن طيبه وأكرمه ولَايَة أخلصها لَهُم ومداراة وانحرافا عَن السُّلْطَان يَعْقُوب ظَهرت شَوَاهِد ذَلِك عَلَيْهِ بعد حِين وَاعْلَم أَن هَذَا الزعيم يُسَمِّيه كثير من المؤرخين دون نونه وَلَفظه دون مَعْنَاهَا فِي لسانهم السَّيِّد أَو الْعَظِيم أَو مَا أشبه ذَلِك فَلِذَا أسقطناها وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه إِلَى الجزيرة الخضراء منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم فِي الْمُجَاهدين الْغَنَائِم وَمَا نفلوه من أَمْوَال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المَال على مُوجب الْكتاب وَالسّنة ليصرفه فِي مصارفه وَيُقَال كَانَ مبلغ الْغَنَائِم فِي هَذِه الْغُزَاة مائَة ألف من الْبَقر وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا من السَّبي وَمن الْأُسَارَى سَبْعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَثَلَاثُونَ وَمن الكراع أَرْبَعَة عشر ألفا وسِتمِائَة وَأما الْغنم فاتسعت عَن الْحصْر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 كَثْرَة حَتَّى لقد زَعَمُوا أَنه قد بِيعَتْ الشَّاة الْوَاحِدَة بدرهم وَكَذَلِكَ السِّلَاح وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا إشبيليه فجاس خلالها وتقرى نَوَاحِيهَا وأقطارها وأثخن بِالْقَتْلِ والنهب فِي جهاتها وعاث فِي عمرانها وأوغل فِي مسيره حَتَّى وقف على بَابهَا وزعقت طبوله فِي جوها وخفقت ألويته على جنباتها ولجأت الفرنج إِلَى الأسوار واعتمدوا على الْحصار وَلم يخرج إِلَيْهِ مِنْهُم أحد ثمَّ ارتحل إِلَى شريش فأذاقها من وبال العيث والاكتساح مثل ذَلِك أَو أَكثر وَرجع إِلَى الجزيرة لشهرين من غزاته فبيعت الفرنجية من سبيه بهَا بمثقال وَنصف لِكَثْرَة السَّبي حِينَئِذٍ وَدخل فصل الشتَاء فَنظر السُّلْطَان يَعْقُوب فِي اختطاط مَدِينَة بفرضة الْمجَاز من العدوة لنزول عسكره منتبذا عَن الرّعية لما يلحقهم من ضَرَر الْعَسْكَر وجفائهم وتخير لَهَا مَكَانا ملاصقا للجزيرة فأوعز بِبِنَاء الْمَدِينَة الْمَشْهُورَة بالبنية ثمَّ أجَاز الْبَحْر إِلَى الْمغرب فِي رَجَب من سنته أَعنِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة فَكَانَ مغيبه وَرَاء الْبَحْر سِتَّة أشهر واحتل بقصر مصمودة وَأمر بِبِنَاء السُّور على باديس مرفأ السفن وَمحل العبور من بِلَاد غمارة ثمَّ رَحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا فِي النّصْف من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة فتح جبل تينملل ونبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن على يَد الملياني عَفا الله عَنهُ قد تقدم لنا أَن جبل تينملل كَانَ حصنا للموحدين وملجأ لَهُم إِذا نابهم مَكْرُوه وَكَانَ مَسْجده مزارا عَظِيما لَهُم لِأَنَّهُ مدفن إمَامهمْ وملحد خلفائهم فَكَانُوا يعكفون عَلَيْهِ ويلتمسون بركَة زيارته ويقدمون ذَلِك بَين يَدي غزواتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 قربَة يَتَقَرَّبُون بهَا إِلَى الله تَعَالَى وَلما استولى السُّلْطَان يَعْقُوب على مراكش فر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى الْجَبَل الْمَذْكُور واعتصموا بِهِ وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى وأملوا مِنْهُ رَجَعَ الكرة وإدالة الدولة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى هَذِه السّنة فَنَهَضَ عَامل مراكش من قبل السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن محلي أحد خؤلته ونازل الْجَبَل الْمَذْكُور وحاصره مُدَّة ثمَّ اقتحمه عنْوَة وافتض عذرته وَفك ختامه وتقبض عل خَليفَة الْمُوَحِّدين إِسْحَاق وَابْن عَمه السَّيِّد أبي سعيد بن أبي الرّبيع وَمن مَعَهُمَا من الْأَوْلِيَاء وجنبوا إِلَى مصَارِعهمْ بِبَاب الشَّرِيعَة من مراكش فَضربت أَعْنَاقهم وصلبت أشلاؤهم وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم الْكَاتِب القبائلي وَأَوْلَاده وعاثت عَسَاكِر بني مرين فِي جبل تينملل واكتسحوا أَمْوَاله ونبشوا قُبُور خلفاء بني عبد الْمُؤمن وَاسْتَخْرَجُوا أشلاءهم وَكَانَ فِيهَا شلو يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَابْنه يَعْقُوب الْمَنْصُور فَقطعت رؤوسهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو عَليّ أَحْمد الملياني كَانَ أَبُو عَليّ هَذَا ثار على الحفصيين بِمَدِينَة مليانة فجهزوا إِلَيْهِ عساكره وأجهضوه عَنْهَا ففر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقبله وآواه وأقطعه بلد أغمات إِكْرَاما لَهُ فَحَضَرَ هَذِه الْوَقْعَة فِي جملَة الْعَسْكَر وارتكب هَذَا الْفِعْل الشنيع وَرَأى أَنه قد شفى نَفسه باستخراج هَؤُلَاءِ الْخَلَائق من أرماسهم والعبث بأشلائهم وَقد أنكر النَّاس عَامَّة وَالسُّلْطَان يَعْقُوب خَاصَّة هَذِه الفعلة مِنْهُ وَلم يرضوها وَمَعَ ذَلِك فقد تجَاوز لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب عَنْهَا تأنيسا لغربته ورعيا لجواره وَلما توفّي السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف سعى إِلَيْهِ فِي الملياني هَذَا فنبكه على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَلما وصل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته إِلَى فاس انْتقض عَلَيْهِ طَلْحَة بن محلي أحد أَخْوَاله وتمنع بجبل آصروا من بِلَاد فازاز فَسَار إِلَيْهِ لسلطان يَعْقُوب وحاصره بِهِ فأناب إِلَى الطَّاعَة وَنزل على الْأمان وَذَلِكَ فِي منتصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَفِي ثَانِي يَوْم من شَوَّال من هَذِه السّنة ثارت الْعَامَّة باليهود بفاس بِسَبَب حدث أحدثوه فَقتلُوا مِنْهُم أَرْبَعَة عشر يَهُودِيّا وَلَوْلَا أَن السُّلْطَان ركب بِنَفسِهِ ورد الْعَامَّة عَنْهُم لكَانَتْ إِيَّاهَا بِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء الْمُسَمَّاة الْيَوْم بفاس الْجَدِيد لما فتح جبل تينملل ومحيت مِنْهُ بَقِيَّة آل عبد الْمُؤمن وتمهد ملك الْمغرب للسُّلْطَان يَعْقُوب واستفحل أمره وَكَثُرت غاشيته رأى أَن يختط بَلَدا ينْسب إِلَيْهِ ويتميز بسكناه وَينزل فِيهِ بحاشيته وأوليائه الحاملين لسرير ملكه فَأمر بِبِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء ملاصقة لمدينة فاس على ضفة واديها المخترق لَهَا من جِهَة أَعْلَاهُ وَشرع فِي تأسيسها ثَالِث شَوَّال من سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَركب السُّلْطَان بِنَفسِهِ فَوقف عَلَيْهَا حَتَّى خطت مساحتها وأسست جدرانها وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وَحشر الصناع والعملة لبنائها وأحضر لَهَا أهل النجامة والمعدلين لحركات الْكَوَاكِب فَاخْتَارُوا لَهَا من الطوالع مَا يرضون أَثَره ويحمدون سيره وأسست فِيهِ وَكَانَ فِي أولائك االمعدلين إمامان شهيران أَبُو الْحسن بن الْقطَّان وَأَبُو عبد الله بن الحباك المقدمان فِي الصِّنَاعَة فكمل تشييد هَذِه الْمَدِينَة على مَا رسم رَحمَه الله وكما رَضِي ونزلها بحاشيته وَذَوِيهِ سنة أَربع وَسبعين الْمَذْكُورَة واختط النَّاس بهَا الدّور والمنازل وأجريت فِيهَا الْمِيَاه إِلَى الْقُصُور وَكَانَت من أعظم آثَار هَذِه الدولة وأبقاها على الْأَيَّام قَالَ ابْن أبي زرع وَمن سَعَادَة طالعها أَنه لَا يَمُوت فِيهَا خَليفَة وَلم يخرج مِنْهَا لِوَاء قطّ إِلَّا كَانَ منصورا وَلَا جَيش إِلَّا كَانَ ظافرا ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِبِنَاء قَصَبَة مكناسة فشرع فِي بنائها وَبِنَاء جَامعهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ استوزر صنيعته أَبَا سَالم فتح الله السدراتي وأجرى لَهُ رزق الوزارة على عَادَتهم ثمَّ كافأ يغمراسن بن زيان على هديته الَّتِي كَانَ بعث بهَا إِلَيْهِ قبل إِجَازَته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 إِلَى الأندلس فَبعث إِلَيْهِ فسطاطا رائقا كَانَ صنع لَهُ بمراكش وَثَلَاثِينَ من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وَغير ذَلِك مِمَّا يباهي بِهِ مُلُوك الْمغرب وَفِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة أهْدى إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي التوجيني صَاحب جبل وانشريس أَرْبَعَة من الْجِيَاد انتقاها من خيل الْمغرب كَافَّة وَرَأى أَنَّهَا على قلَّة عَددهَا أحفل هَدِيَّة وَفِي نَفسه أثْنَاء هَذَا كُله من أَمر الْجِهَاد شغل شاغل يتخطى إِلَيْهِ سَائِر أَعماله حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الْجَوَاز الثَّانِي للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته الأولى واستنزل الْخَوَارِج وثقف الثغور وهادى الْمُلُوك واختط الْمَدِينَة الْبَيْضَاء لنزوله كَمَا ذكرنَا خرج فاتح سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة إِلَى جِهَة مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل فِي أَرض السوس وَبعث وزيره فتح الله السدراتي فِي العساكر فجاس خلالها ثمَّ انكفأ رَاجعا وَهُنَاكَ خَاطب السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله قبائل الْمغرب كَافَّة بالنفير إِلَى الْجِهَاد فتثاقلوا عَلَيْهِ فَلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين بعْدهَا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَلَيْهِ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح وتلوم بِهِ أَيَّامًا فِي انْتِظَار الْغُزَاة فأبطؤوا عَلَيْهِ فخف فِي خاصته وَتقدم فِي حَاشِيَته حَتَّى انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز وَقد تلاحق بِهِ النَّاس من كل جِهَة لما رَأَوْا من عزمه وتصميمه فَأجَاز بهم الْبَحْر واحتل بطريف آخر محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ إِلَى رندة فوافاه بهَا الرئيسان أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْحسن عَليّ بن أشقيلولة صَاحب مالقة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن برسم الْجِهَاد مَعَه ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من رندة فاتح ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى إشبيلية فعرس عَلَيْهَا يَوْم المولد النَّبَوِيّ وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ ملك الجلالقة أَن أذفونش فَلم يجد بدا من الْخُرُوج إِلَيْهِ بعد أَن خام عَن اللِّقَاء أَولا فبرز فِي جموعه وصفهَا على ضفة الْوَادي الْكَبِير من نَاحيَة السُّلْطَان وَأظْهر من أبهة الْحَرْب مَا قدر عَلَيْهِ فَكَانَت جيوشه كلهَا فِي الدروع السوابغ وَالْبيض اللوامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وَالسُّيُوف البواتر وَغير ذَلِك من آلَات الْحَرْب الَّتِي يكَاد شعاعها يدهش الْبَصَر وزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بعد أَن صلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَوعظ النَّاس وَذكرهمْ فرتب مصافه وَجعل وَلَده الْأَمِير يُوسُف فِي الْمُقدمَة وزحف على التعبية فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزَمت الفرنج فتساقط بَعضهم فِي الْوَادي وَانْحَدَرَ آخَرُونَ مَعَ ضفته وتصاعد آخَرُونَ كَذَلِك واقتحم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وسط المَاء وقتلوهم فِي لجته حَتَّى صَار المَاء أَحْمَر وطفت جيفهم من الْغَد عَلَيْهِ فَكَانَ فيهم عِبْرَة لمن اعْتبر وَبَات السُّلْطَان والمسلمون تِلْكَ اللَّيْلَة على صهوات خيولهم يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأضرموا النيرَان بِسَاحَة إشبيلية حَتَّى صَار اللَّيْل نَهَارا وباتت الفرنج على الأسوار ينفخون فِي الْقُرُون ويحترسون طول ليلتهم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من الْغَد إِلَى جبل الشّرف وَبث السَّرَايَا فِي نواحيه فَلم يزل يتقرى تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى أباد عمرانها وطمس معالمها وَدخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنْوَة وأثخن فِي الْقَتْل والسبي ثمَّ ارتحل بالغنائم والأثقال إِلَى الجزيرة الخضراء فَدَخلَهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور فأراح بهَا وَقسم الْغَنَائِم فِي الْمُجَاهدين ثمَّ خرج غازيا مَدِينَة شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الْحَرْب ووبال الْحصار وَقطع الزياتين وَالْأَعْنَاب وَسَائِر الْأَشْجَار وأباد خضراءها وَحرق ديارها وأثخن فِيهَا بِالْقَتْلِ والأسر وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب يُبَاشر قطع الشّجر وَالثَّمَر بِيَدِهِ وسرح وَلَده الْأَمِير يُوسُف من مُعَسْكَره فِي سَرِيَّة للغارة على إشبيلية وحصون الْوَادي الْكَبِير فَبَالغ فِي النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطر ثمَّ صبح إشبيلية فاكتسحها وانكفأ رَاجعا بالمغانم والسبي إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فسر بمقدمه وقفلوا جَمِيعًا إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح السُّلْطَان بهَا أَيَّامًا وَقسم فِي الْمُجَاهدين غنائمهم ثمَّ جمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل وندبهم إِلَى غَزْو قرطبة وَقَالَ يَا معشر الْمُجَاهدين إِن إشبيلية وشريش وأحوازهما قد ضعفت وبادت وَلم يبْق لكم بهَا كَبِير نفع وَلَا نكاية وَإِن قرطبة وأعمالها بِلَاد حَصِينَة عامرة وَعَلَيْهَا اعْتِمَاد الفرنج وَمِنْهَا معاشهم ومادتهم فَإِن عزوتموها واستأصلتم خضراءها مثل مَا فَعلْتُمْ بإشبيلية وشريش كَانَ ذَلِك سَبَب ضعف النَّصْرَانِيَّة بِهَذَا الْقطر فَأَجَابُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَدَعَا لَهُم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَالْخلْع وخاطب ابْن الْأَحْمَر يستنفره للْجِهَاد مَعَه وَقَالَ إِن خُرُوجك معي إِلَى قرطبة يكون لَك مهابة فِي قُلُوب الفرنج مَا عِشْت سوى مَا تستوجبه من الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي ذَلِك ونهض السُّلْطَان إِلَى قرطبة فاتح جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَسبعين الْمَذْكُورَة فوافاه ابْن الْأَحْمَر بِنَاحِيَة شدونه فَأكْرم موصله وشكر خفوفه إِلَى الْجِهَاد وَبِدَارِهِ إِلَيْهِ ونازلوا حصن بني بشير فدخلوه عنْوَة وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت النِّسَاء ونفلت الْأَمْوَال وَهدم الْحصن حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر ثمَّ بَث السُّلْطَان رَحمَه الله السَّرَايَا والغارات فِي البسائط فاكتسحها وامتلأت الْأَيْدِي وأثرى الْعَسْكَر وفاض عَلَيْهِم من الْغنم وَالْبَقر والمعز وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير والقمح وَالشعِير وَالزَّيْت وَالْعَسَل مَا لَا يُوصف ثمَّ سَارُوا يتقترون الْمنَازل والعمران فِي طريقهم حَتَّى احتلوا بِسَاحَة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السُّلْطَان فِي نَوَاحِيهَا وزعقت طبوله فِي فضائها وَتقدم فِي أبطاله وحماته حَتَّى وقف على بَابهَا ثمَّ داربأسوارها ينظر كَيفَ الْحِيلَة فِي قتالها ووقف ابْن الاحمر بعساكر الأندلس أَمَام محلّة الْمُسلمين يحرسونها خوفًا من كرة الْعَدو وخنس الفرنج وَرَاء الأسوار وانبثت بعوث الْمُسلمين وسراياهم فِي نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بِالسَّيْفِ وَأقَام السُّلْطَان على قرطبة ثَلَاثًا ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى حصن بركونة فدخله عنْوَة ثمَّ أرجونة كَذَلِك ثمَّ قدم بعثا إِلَى مَدِينَة جيان فقاسمها حظها من الْخَسْف والدمار وخام الطاغية عَن اللِّقَاء وأيقن بخراب عمرانه وَإِتْلَاف بِلَاده فجنح إِلَى السّلم وخطبه من السُّلْطَان يَعْقُوب وَرغب فِيهِ إِلَيْهِ وَبعث الأقسة والرهبان للوساطة فِي ذَلِك فرفعهم السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَجعل الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ تكرمة لمشهده ووفاء بِحقِّهِ وَقَالَ لوفد الفرنج إِنَّمَا أَنا ضيف والضيف لَا يُصَالح على رب الْمنزل فَسَارُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَقَالُوا لَهُ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب قد رد الْأَمر إِلَيْك وَنحن قد جئْنَاك لنعقد مَعَك صلحا مُؤَبَّدًا لَا يعقبه غدر وَلَا حَرْب وأقسموا لَهُ بصلبانهم إِن لم يرضه الفنش ليخلعنه لِأَنَّهُ لم ينصر الصَّلِيب وَلَا حمى الْحَوْزَة فأجابهم ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من حِصَار الجزيرة الخضراء وَغير ذَلِك قد تقدم لنا أَن بَنو اشقيلولة كَانُوا أصهارا لِابْنِ الْأَحْمَر وانهم لما قدمُوا على السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء فِي جَوَازه الأول صدرت من ابْن اشقيلولة كَلِمَات أحفظت ابْن الْأَحْمَر وغاظته فَذهب لأَجلهَا مغاضبا وانحرف عَن السُّلْطَان يَعْقُوب وَلم يشْهد مَعَه الْغَزْو وَلَا عرج على الْجِهَاد وَلما نصر الله السُّلْطَان يَعْقُوب على عدوه وَقتل العلج وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى ابْن الْأَحْمَر طيبه وَبَعثه إِلَى قومه انحرافا عَن السُّلْطَان وموالاة لِلْعَدو وَلما جَازَ السُّلْطَان يَعْقُوب الْجَوَاز الثَّانِي انقض عَنهُ ابْن الْأَحْمَر وَلم يلقه حَتَّى خاطبه السُّلْطَان واستنفره إِلَى الْجِهَاد فَلحقه بشدونة كَمَا مر وَلما صنع الله للسُّلْطَان مَا صنع من الظُّهُور والعز الَّذِي الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَاسْتولى على مالقة من يَد ابْن اشقيلولة ارتاب ابْن الْأَحْمَر بمكانه وَظن بِهِ الظنون وتخوف مِنْهُ مَا كَانَ من يُوسُف بن تاشفين للمعتمد بن عباد وَغَيره من مُلُوك الطوائف فغص بمكانه وأظلم الجو بَينهمَا ودارت بَينهمَا مخاطبات شعرية على أَلْسِنَة الْكتاب فِي معنى العتاب وَلم تزل القوارص بَين السلطانين تجْرِي وعقارب السّعَايَة تدب وتسري وَخَوف ابْن الْأَحْمَر على ملكه يشْتَد وَيزِيد وأواصر الْأُخوة الإسلامية تتلاشى وتبيد إِلَى أَن استحكمت الْبغضَاء وضاق بَينهمَا رحب الفضاء فَفَزعَ ابْن الْأَحْمَر إِلَى مداخلة الطاغية فِي شَأْنه واتصال يَده بِيَدِهِ وحبله بحبله وَأَن يعود إِلَى منزله أَبِيه مَعَه من ولَايَته ليدافع بِهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وَقَومه عَن أرضه ويأمن مَعَه من زَوَال سُلْطَانه فاغتنم الطاغية هَذِه الفرصة ونكث عهد السُّلْطَان يَعْقُوب وَنقض السّلم واعلن بِالْحَرْبِ وأغزا أساطيله الجزيرة الخضراء حَيْثُ كَانَت مسالح السُّلْطَان يَعْقُوب وَجُنُوده وأرست بالزقاق حَيْثُ فراض الْمجَاز وانقطعت عَسَاكِر السُّلْطَان وَرَاء الْبَحْر وَحَال الْعَدو بَينهم وَبَين إغاثته إيَّاهُم واتصلت يَد ابْن الْأَحْمَر بيد الطاغية واتفقا على منع السُّلْطَان يَعْقُوب من عبور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الْبَحْر وداخل ابْن الْأَحْمَر عمر بن يحيى بن محلى صَاحب مالقة فِي النُّزُول لَهُ عَنْهَا بعوض فَفعل وَاسْتولى ابْن الْأَحْمَر عَلَيْهَا ثمَّ راسل هُوَ والطاغية يغمراسن بن زيان من وَرَاء الْبَحْر وراسلهم هُوَ فِي مشاقة السُّلْطَان وإفساد ثغوره وإنزال الْعَوَائِق الْمَانِعَة لَهُ من حركته وَالْأَخْذ بأذياله عَن النهوض إِلَى الْغَزْو وأسنوا فِيمَا بَينهمَا الْهَدَايَا والتحف وجنب يغمراسن إِلَى ابْن الْأَحْمَر ثَلَاثِينَ من عتاق الْخَيل مَعَ ثِيَاب من عمل الصُّوف وَبعث إِلَيْهِ ابْن الْأَحْمَر مُكَافَأَة على ذَلِك عشرَة آلَاف دِينَار فَلم يرض بِالْمَالِ ورده وأصفقت آراؤهم جَمِيعًا على السُّلْطَان يَعْقُوب وَرَأَوا أَن قد أبلغوا فِي أَحْكَام أَمرهم وسد مذاهبه إِلَيْهِم واتصل خبر هَذَا كُله بالسلطان وَهُوَ بمراكش كَانَ خرج إِلَيْهَا مرجعه من الْغَزْو فِي الْمحرم سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة لما كَانَ من عيث عرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة فثقف أطرافها وحسم مَادَّة فَسَادهَا ثمَّ اتَّصل بِهِ خبر ابْن محلي ونزوله عَن مالقة لِابْنِ الْأَحْمَر ومنازلة الطاغية بأساطيله للجزيرة الخضراء وتضييقه على الْمُسلمين بهَا فَبلغ ذَلِك مِنْهُ كل مبلغ ونهض من مراكش ثَالِث شَوَّال من السّنة يُرِيد طنجة فوصل إِلَى قَرْيَة مكول من بِلَاد تامسنا فتوالت عَلَيْهِ بهَا الأمطار والسيول وعاقته عَن النهوض وبينما هُوَ فِي ذَلِك ورد عَلَيْهِ الْخَبَر أَيْضا بنزول الطاغية على الجزيرة الخضراء برا وإحاطة عسكره بهَا بعد أَن كَانَت أساطيله منازلة لَهَا فِي الْبَحْر مُنْذُ سِتَّة أشهر أَو سَبْعَة وَأَنه مشرف على التهامها وبعثوا إِلَيْهِ يستصرخونه ويخبرونه بِالْحَال فاعتزم على الرحيل ثمَّ اتَّصل بِهِ الْخَبَر ثَالِثا بِخُرُوج مَسْعُود بن كانون السفياني بِبِلَاد نَفِيس من أَرض المصامدة خَامِس ذِي الْقعدَة من السّنة وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا إِلَيْهِ من قومه وَغَيرهم فانخرقت على السُّلْطَان الفتوق وتوالت عَلَيْهِ الخطوب وَلم يدر مَا يصنع إِلَّا أَنه رأى أَن يقدم أَمر ابْن كانون وَالْعرب فكر رَاجعا إِلَيْهِ وَقدم بَين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 يَدَيْهِ حافده تاشفين بن أبي مَالك ووزيره يحيى بن حَازِم الْعلوِي وَجَاء هُوَ على ساقتهم وفر مَسْعُود بن كانون وجموعه أَمَام السُّلْطَان فانتهب معسكرهم وحللهم واستباح عرب الْحَارِث من سُفْيَان وَلحق مَسْعُود بجبل سكسيوة فاعتصم بِهِ وشايع عبد الْوَاحِد السكسيوي الْقَائِم بِهِ على خِلَافه ونازله السُّلْطَان يَعْقُوب بعساكره أَيَّامًا وسرح ابْنه الْأَمِير أَبَا زيان منديل إِلَى بِلَاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها فأوغل فِي ديارها وقفل إِلَى أَبِيه فِي آخر يَوْم من السّنة الْمَذْكُورَة واتصل بالسلطان مَا تضَاعف على أهل الجزيرة من ضيق الْحصار وَشدَّة الْقِتَال وإعواز الأقوات وَأَنَّهُمْ ختنوا الأصاغر من أَوْلَادهم خشيَة عَلَيْهِم من معرة الْكفْر فأهمه ذَلِك وَكَانَ أقسم أَن لَا يرتحل عَن ابْن كانون حَتَّى ينزل على حكمه أَو يهْلك دون ذَلِك فأعمل النّظر فِيمَا يكون بِهِ خلاص أهل الجزيرة فعقد لوَلِيّ عَهده ابْنه الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ بمراكش عل الْغَزْو إِلَيْهَا وَكَانَ أهل الجزيرة كَمَا قُلْنَا قد أحَاط بهم الْعَدو برا وبحرا وانقطعت عَنْهُم الْموَاد وعميت عَلَيْهِم الأنباء إِلَّا مَا يَأْتِيهم بِهِ الْحمام من جبل طَارق وفني أَكْثَرهم بِالْقَتْلِ والجوع وسهر اللَّيْل على الأسوار وَشدَّة الْحصار حَتَّى أشرف بَقِيَّتهمْ على الْهَلَاك وَأَيِسُوا من الْحَيَاة فَحِينَئِذٍ جمعُوا صبيانهم وختنوهم كَمَا مر وبينما هم على ذَلِك قدم الْأَمِير يُوسُف بجيوشه إِلَى طنجة وَكَانَ قدومه فِي أَوَائِل صفر من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب لما بعث ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى طنجة قد كتب إِلَى الثغور بإعداد الأساطيل وعمارتها وتوجيهها إِلَيْهِ وَقسم الإعطاءات وحض النَّاس على النهوض فتوفرت همم الْمُسلمين على الْجِهَاد وَأَجَابُوا من كل نَاحيَة وأبلى الْفَقِيه أَبُو خَاتم العزفي صَاحب سبتة لما بلغه الْخطاب من السُّلْطَان فِي شَأْن الأساطيل الْبلَاء الْحسن وَقَامَ فِيهِ الْمقَام الْمَحْمُود فَهَيَّأَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 خَمْسَة وَأَرْبَعين أسطولا واستنفر كَافَّة أهل بَلَده من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَرَكبُوا الْبَحْر أَجْمَعُونَ وَلم يبْق بسبتة إِلَّا النِّسَاء والشيوخ وَالصبيان وَرَأى ابْن الْأَحْمَر مَا نزل بِأَهْل الجزيرة وإشراف الطاغية على أَخذهَا فندم على ممالاته إِيَّاه وَأعد أساطيل سواحله من الْمنْكب والمرية ومالقة فَكَانَت اثْنَي عشر أسطولا فبعثها مدَدا للْمُسلمين وَقدم من بادس وسلا وآنفى خَمْسَة عشر أسطولا فَنَهَضَ فِي الْوَقْت اثْنَان وَسَبْعُونَ أسطولا وَاجْتمعت كلهَا بمرفأ سبتة وَقد أخذت بطرفي الزقاق فِي أحفل زِيّ وأكمل استعداد ثمَّ تقدّمت إِلَى طنجة ليراها الْأَمِير يُوسُف فشاهدها وسر بهَا وَعقد لَهُم رايته مَعَ جمَاعَة من أبطال بني مرين رَغِبُوا فِي الْجِهَاد ثمَّ أقلعت الأساطيل عَن طنجة ثامن ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة وانتشرت قلوعهم فِي الْبَحْر فأجازوه وَبَاتُوا لَيْلَة المولد الْكَرِيم بمرفأ جبل الْفَتْح وصبحوا الْعَدو وأساطيله يَوْمئِذٍ تناهز أَرْبَعمِائَة فتظاهر الْمُسلمُونَ فِي دروعهم وأسبغوا من شكتهم وَأَخْلصُوا لله عزائمهم وتنادوا بِالْجنَّةِ وشعارها وَوعظ خطباؤهم وَذكر صلحاؤهم والتحم الْقِتَال وَنزل الصَّبْر فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى نضحوا الْعَدو بِالنَّبلِ ففسدت أفروطتهم واختل مَصَافهمْ وانكشفوا وتساقطوا فِي عباب الْبَحْر فاستلحمهم السَّيْف وغشيهم اليم وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على أساطيلهم فملكوها وأسروا قائدها الملند فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَاسْتمرّ مثقفا بفاس حَتَّى فر بعد ذَلِك وسر الْمُسلمُونَ الَّذين بداخل الجزيرة بِفساد أفروطة الْعَدو وهلاكها وَلما رأى عَسْكَر الطاغية الَّذِي فِي الْبر مَا أصَاب أهل الْبَحْر مِنْهُم من الْقَتْل والأسر داخلهم الرعب وخافوا من هجوم الْأَمِير يُوسُف عَلَيْهِم إِذْ كَانَ مُقيما بساحل طنجة مستعدا للعبور فقوضوا أبنيتهم وأفرجوا عَن الْبَلَد لحينهم وانتشر الْمُسلمُونَ وَالنِّسَاء وَالصبيان بِسَاحَة الْبَلَد كَأَنَّمَا نشرُوا من قبر وغلبت مُقَاتلَتهمْ كثيرا من عَسْكَر الْعَدو على مَتَاعهمْ فغنموا من الْحِنْطَة والإدام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 والفواكه مَا مَلأ أسواق الْبَلَد أَيَّامًا حَتَّى وصلتها الْميرَة من النواحي وَأَجَازَ الْأَمِير يُوسُف الْبَحْر من حِينه فاحتل بساحل الجزيرة وأرهب الْعَدو فِي كل نَاحيَة لكنه صده عَن الْغَزْو شَأْن الْفِتْنَة مَعَ ابْن الْأَحْمَر فَرَأى أَن يعْقد مَعَ الطاغية سلما ويصل يَده بِيَدِهِ لمنازلة غرناطة دَار ابْن الْأَحْمَر فَأَجَابَهُ الطاغية إِلَى ذَلِك رهبة من بأسه وموجدة على ابْن الْأَحْمَر فِي مدد أهل الجزيرة وَبعث أساقفته لعقد ذَلِك وإحكامه فأجازهم الْأَمِير يُوسُف إِلَى أَبِيه وَهُوَ بِنَاحِيَة مراكش فَغَضب لَهَا وَأنكر على ابْنه وزوى عَنهُ وَجه رِضَاهُ وَأقسم أَن لَا يرى أسقفا مِنْهُم إِلَّا أَن يرَاهُ بأرضه ورجعهم إِلَى طاغيتهم مخفقي السَّعْي كاسفي البال ووصلت فِي هَذِه السّنة هَدِيَّة السُّلْطَان أبي زَكَرِيَّاء يحيى الواثق الحفصي مَعَ أبي الْعَبَّاس الغماري حَسْبَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ قبل هَذَا ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله رَجَعَ إِلَى فاس وَبعث خطابه إِلَى الْآفَاق مستنفرا للْجِهَاد وَفصل عَنْهَا غرَّة رَجَب من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى طنجة وعاين مَا اخْتَلَّ من أَحْوَال الْمُسلمين فِي تِلْكَ الفترة وَمَا جرت إِلَيْهِ فتْنَة ابْن الْأَحْمَر من اعتزاز الطاغية وَمَا حدثته نَفسه من التهام الجزيرة الأندلسية وَمن فِيهَا وَكَانَ قد أَمر أمره فِي هَذِه الْمدَّة وَظَاهره أَعدَاء ابْن الْأَحْمَر من بني اشقيلولة وَغَيرهم عَلَيْهِ حَتَّى حاصروا غرناطة ومرج أَمر الأندلس ونغلت أطرافها وأشفق السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله على الْمُسلمين الَّذين بهَا وعَلى ابْن الْأَحْمَر مِمَّا ناله من خسف الطاغية فراسله فِي الْمُوَادَعَة واتفاق الْكَلِمَة على أَن ينزل لَهُ عَن مالقة الَّتِي خَادع عَنْهَا ابْن محلي كَمَا تقدم فَامْتنعَ ابْن الْأَحْمَر وأساء الرَّد فِي ذَلِك فَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى إِزَالَة الْعَوَائِق عَن شَأْنه فِي الْجِهَاد وَكَانَ من أعظمها فتْنَة يغمراسن واستيقن مَا دَار بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر والطاغية ابْن أذفونش من الِاتِّصَال والإصفاق على تعويقه عَن الْغَزْو فَبعث إِلَى يغمراسن يسْأَله عَن الَّذِي بلغه عَنهُ وَيطْلب مِنْهُ تَجْدِيد الصُّلْح وَجمع الْكَلِمَة فلج فِي الْخلاف وكشف وَجه العناد وأعلن بِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَقع بَينه وَبَين أهل العدوة الأندلسية مسلمهم وكافرهم من الوصلة وَأَنه معتزم على وَطْء بِلَاد الْمغرب فصرف السُّلْطَان يَعْقُوب عزمه إِلَى غَزْو يغمراسن وقفل إِلَى فاس لثَلَاثَة أشهر من حُلُوله بطنجة فَدَخلَهَا آخر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَأعَاد الرُّسُل إِلَى يغمراسن لإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا خاطبه بِهِ إِلَى مَتى يَا يغمراسن هَذَا النفور والتمادي فِي الْغرُور أما آن أَن تَنْشَرِح الصُّدُور وتنقضي هَذِه الشرور فِي كَلَام غير هَذَا فَصم يغمراسن عَن ذَلِك كُله وَلم يرفع بِهِ رَأْسا وَلما أيس السُّلْطَان يَعْقُوب من إقلاعه ورجوعه نَهَضَ إِلَيْهِ من فاس آخر سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة وَقدم ابْنه الْأَمِير يُوسُف فِي العساكر وَتَبعهُ فأدركه بتازا وَلما انْتهى إِلَى ملوية تلوم أَيَّامًا فِي انْتِظَار العساكر ثمَّ ارتحل حَتَّى نزل وَادي تافنا وصمد إِلَيْهِ يغمراسن بجموع زناتة وَالْعرب بحللهم ونجعهم وشائهم ونعمهم والتقت طوالع الْقَوْم أَولا فَكَانَت بَينهمَا حَرْب ثمَّ ركب على آثارهما العسكران والتحم الْقِتَال سَائِر النَّهَار وَكَانَ الزَّحْف بالموضع الْمَعْرُوف بالملعب من أحواز تلمسان ثمَّ انْكَشَفَ بَنو عبد الواد عِنْدَمَا أراح الْقَوْم وانتهب معسكرهم بِمَا فِيهِ من الكراع وَالسِّلَاح والفساطيط وَالْمَتَاع وَبَات عَسْكَر السُّلْطَان يَعْقُوب تِلْكَ اللَّيْلَة على متون جيادهم وَاتبعُوا من الْغَد آثَار عدوهم واكتسحت أَمْوَال الْعَرَب الناجعة الَّذين كَانُوا مَعَ يغمراسن وامتلأت أَيدي بني مرين من شائهم ونعمهم وتوغلوا فِي أَرض يغمراسن ووافاه هُنَالك مُحَمَّد بن عبد الْقوي أَمِير بني توجين لقِيه بِنَاحِيَة القصبات وعاثوا جَمِيعًا فِي بِلَاده تخريبا ونهبا ثمَّ أذن السُّلْطَان يَعْقُوب لبني توجين فِي اللحاق ببلادهم وَأخذ هُوَ بمخنق تلمسان محاصرا لَهَا حَتَّى يصل مُحَمَّد بن عبد الْقوي إِلَى مأمنه من جبل وانشريس خوفًا عَلَيْهِ من غائله يغمراسن واتباعه إِيَّاه ثمَّ أفرج عَنْهَا وقفل إِلَى الْمغرب فَدخل حَضْرَة فاس فِي رَمَضَان سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة ثمَّ نَهَضَ الى مراكش فَدَخلَهَا فاتح سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا فَبنى بهَا بِامْرَأَة مَسْعُود بن كانون السفياني لِأَنَّهُ كَانَ قد هلك قبل هَذِه السّنة وسرح ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى السوس لتدويخ أقطاره ثمَّ وافاه وَهُوَ بمراكش صريخ الطاغية على مَا نذكرهُ الْآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الْجَوَاز الثَّالِث للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس مغيثا للطاغية ومغتنما فرْصَة الْجِهَاد لما كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بمراكش سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة قدم عَلَيْهِ كتاب طاغية الإضبنيول واسْمه هراندة مَعَ وَفد من بطارقته وزعماء دولته مستصرخا لَهُ على ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ فِي طَائِفَة من النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ غلبوه على أمره زاعمين بِأَنَّهُ شاخ وَضعف عَن تدبيرهم وَلم يقدر على الْقيام بنصرتهم فاستنصره عَلَيْهِم وَدعَاهُ لحربهم وأمله لاسترجاع ملكه من يدهم فاغتنم السُّلْطَان يَعْقُوب هَذِه الفرصة فِي الْحَال وَجعل جَوَابه نفس النهوض والارتحال فَسَار مَعَهم لم يعرج على شَيْء حَتَّى أَتَى قصر الْمجَاز وَهُوَ قصر مصمودة فَعبر مِنْهُ واحتل لوقته بالجزيرة الخضراء فِي ربيع الثَّانِي من سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وأوعز الى النَّاس بالنفير إِلَى الْجِهَاد وَاجْتمعت عَلَيْهِ مسالح الثغور بالأندلس وَسَار حَتَّى نزل صَخْرَة عباد وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ الطاغية هراندة ذليلا لعزة الْإِسْلَام مؤملا صريخ السُّلْطَان فَأكْرم موصله وَأكْرم وفادته وَذكر ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا من الْأَثْبَات أَن هَذَا الطاغية لما اجْتمع بالسلطان يَعْقُوب قبل يَده إعظاما لقدره وخضوعا لعزه فَدَعَا السُّلْطَان رَحمَه الله بِمَاء فَغسل يَده من تِلْكَ الْقبْلَة بِمحضر من كَانَ هُنَاكَ من جموع الْمُسلمين والفرنج ثمَّ التمس الطاغية من السُّلْطَان أَن يمده بِشَيْء من المَال ليستعين بِهِ على حربه ونفقاته فأسلفه السُّلْطَان مائَة ألف دِينَار من بَيت مَال الْمُسلمين رهنة الطاغية فِيهَا تاجه الْمَوْرُوث عَن سلفه قَالَ ابْن خلدون وَبَقِي هَذَا التَّاج بدار بني يَعْقُوب بن عبد الْحق فخرا لِلْأَعْقَابِ لهَذَا الْعَهْد قلت وَمَا أبعد حَال هَذَا الطاغية المهين من حَال عُطَارِد بن حَاجِب التَّمِيمِي الَّذِي لم يسلم قَوس أَبِيه على تطاول السنين والقصة مَشْهُورَة فَانْظُر مَا بَين الهمم الْعَرَبيَّة والعجمية من البون وَحَال الْفَرِيقَيْنِ فِي الابتذال والصون ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله تقدم مَعَ الطاغية وَدخل دَار الْحَرْب غازيا حَتَّى نَازل قرطبة وَبهَا يَوْمئِذٍ سانجة ابْن الطاغية الْخَارِج عَلَيْهِ مَعَ طائفته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 فقاتلها أَيَّامًا ثمَّ أفرج عَنْهَا وتنقل فِي جهاتها وَبعث سراياه إِلَى جيان فأفسدوا زروعها ثمَّ ارتحل إِلَى طليطلة فعاث فِي جهاتها وَخرب عمرانها حَتَّى انْتهى إِلَى حصن مجريط من أقْصَى الثغر فامتلأت أَيدي الْمُسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم الَّتِي استاقوها فقفل السُّلْطَان من أجل ذَلِك إِلَى الجزيرة فاحتل بهَا فِي شعْبَان وَأقَام بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت غَزْوَة لم يسمح الدَّهْر بِمِثْلِهَا وَفِي هَذِه السّنة توفّي يغمراسن بن زيان على مَا فِي القرطاس وَذكر ابْن خلدون أَنه لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان وَقَالَ لَهُ يَا بني إِن بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على حَضْرَة الْخلَافَة بمراكش لَا طَاقَة لنا بلقائهم فإياك أَن تحاربهم فَإِن مددهم موفور ومددك مَحْصُور وَلَا يغرنك أَنِّي كنت أحاربهم وَلَا أنكص عَن لقائهم لِأَنِّي كنت أخْشَى معرة الْجُبْن عَنْهُم بعد التمرس بهم والاجتراء عَلَيْهِم وَأَنت لَا يَضرك ذَلِك لِأَنَّك لم تحاربهم وَلم تتمرس بهم فَعَلَيْك بالتحصن ببلدك مَتى زحفوا إِلَيْك وحاول مَا اسْتَطَعْت الِاسْتِيلَاء على مَا جاورك من عمالات الْمُوَحِّدين أَصْحَاب تونس يستفحل بهَا ملكك وتكافئ حشد الْعَدو بحشدك قَالَ فَعمل ابْنه عُثْمَان على وَصيته وأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ بالأندلس فِي جَوَازه الرَّابِع فعقد مَعَه السّلم على مَا أحب وانكفأ رَاجعا إِلَى أَخِيه فطابت نَفسه وتفرغ لافتتاح الْبِلَاد الشرقية انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما اتَّصَلت يَد السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بيد الطاغية وَقَامَ مَعَه فِي ارتجاع ملكه خشِي ابْن الْأَحْمَر عاديته فجنح إِلَى مُوالَاة ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ وَوصل يَده بِيَدِهِ وأكد لَهُ العقد واضطرمت الأندلس نَارا وفتنة بِسَبَب هَذَا الْخلاف وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته مَعَ الطاغية وَقد ظهر على ابْنه أجمع على منازلة مالقة الَّتِى استحوذ عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وخدع عَنْهَا ابْن محلي فَنَهَضَ السُّلْطَان إِلَيْهَا من الجزيرة الخضراء فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فغلب أَولا على الْحُصُون الغربية كلهَا ثمَّ أَسف إِلَى مالقة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بعساكره وضاق على ابْن الْأَحْمَر النطاق وَلم تغن عَنهُ مُوالَاة سانجة شَيْئا وبدا لَهُ سوء المغبة فِي شَأْن مالقة وَنَدم على تنَاولهَا فأعمل نظره فِي الْخَلَاص من ورطتها وَلم ير لَهَا إِلَّا الْأَمِير يُوسُف ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب فخاطبه بمكانه من الْمغرب مستصرخا لَهُ لرقع هَذَا الْخرق ورتق هَذَا الفتق وَجمع كلمة الْمُسلمين على عدوهم فَأَجَابَهُ واغتنم المثوبة فِي مسعاه وَعبر الْبَحْر إِلَى الأندلس فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة فَوَافى أَبَاهُ بمعسكره على مالقة وَرغب مِنْهُ السّلم لِابْنِ الْأَحْمَر فِي شَأْنهَا والتجافي لَهُ عَنْهَا فأسعف رَغْبَة ابْنه لما يؤمل فِي ذَلِك من رضى الله عز وَجل فِي جِهَاد عدوه وإعلاء كَلمته وانعقد السّلم وانبسط أمل ابْن الْأَحْمَر وتجددت عزائم الْمُسلمين للْجِهَاد وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب الى الجزيرة الخضراء فَبَثَّ السَّرَايَا فِي دَار الْحَرْب فأوغلوا وأثخنوا ثمَّ أستأنف الْغَزْو بِنَفسِهِ الى طليطلة فَخرج من الجزيرة غازيا غرَّة ربيع الثَّانِي من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى قرطبة فأثخن وغنم وَخرب الْعمرَان وافتتح الْحُصُون ثمَّ ارتحل نَحْو البرت وَترك محلته على بياسة بالمغانم والأثقال وَترك مَعهَا خَمْسَة آلَاف فَارس يحمونها من كرة الْعَدو ثمَّ أغذ السّير فِي أَرض قفرة لَيْلَتَيْنِ حَتَّى انْتهى إِلَى البرت من نواحي طليطلة فسرح الْخَيل فِي البسائط وجالت فِي أكنافها وَلم تَنْتَهِ إِلَى طليطلة لتثاقل النَّاس بِكَثْرَة الْغَنَائِم وأثخن فِي الْقَتْل وقفل على غير طَريقَة فأثخن وَخرب وانْتهى إِلَى أبذة فَوقف بساحتها وقاتلها سَاعَة من نَهَار فَرَمَاهُ علج من خلف السُّور بِسَهْم أصَاب فرسه فارتحل عَنْهَا إِلَى مُعَسْكَره ببياسة فأراح بهَا ثَلَاثًا ينسف آثارها ويقتلع أشجارها وقفل إِلَى الجزيرة وَبَين يَدَيْهِ من السَّبي والغنائم مَا يعجز عَنهُ الْوَصْف فَدَخلَهَا فِي شهر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم الْغَنَائِم وَنفل من الْخمس وَولى على الجزيرة حافده عِيسَى بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فَهَلَك شَهِيدا على شريش بِسَهْم مَسْمُوم لشهرين من ولَايَته ثمَّ عبر السُّلْطَان إِلَى الْمغرب فاتح شعْبَان وَمَعَهُ ابْنه أَبُو زيان منديل فأراح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 بطنجة ثَلَاثًا ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا آخر شعْبَان وَلما قضى صِيَامه ونسك عيده ارتحل إِلَى مراكش لتمهيدها وتفقد أحوالها وَقسم من نظره لنواحي سلا حظا فَأَقَامَ برباط الْفَتْح شَهْرَيْن اثْنَيْنِ وَتوفيت فِي هَذِه الْمدَّة الْحرَّة أم الْعِزّ بنت مُحَمَّد بن حَازِم الْعلوِي وَهِي أم الْأَمِير يُوسُف وَكَانَت وفاتها برباط الْفَتْح فدفنت بشالة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فاتح ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وبلغه مهلك الطاغية هراندة بن أذفونش واجتماع النَّصْرَانِيَّة على ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ فحركت همته إِلَى الْجِهَاد ثمَّ سرح ابْنه الْأَمِير يُوسُف ولي عَهده بالعسكر إِلَى بِلَاد السوس لغزو الْعَرَب الَّذين بهَا وكف عاديتهم ومحو آثَار الْخَوَارِج المنتزين على الدولة فأجفلوا أَمَامه وَاتبع آثَارهم إِلَى الساقية الْحَمْرَاء آخر الْعمرَان من بِلَاد السوس فَهَلَك أَكثر الْعَرَب فِي تِلْكَ القفار جوعا وعطشا وقفل رَاجعا لما بلغه من اعتلال وَالِده السُّلْطَان يَعْقُوب فوصل إِلَى مراكش وَقد أبل من مَرضه وعزم على الْجِهَاد شكرا لله تَعَالَى على نعْمَة الْعَافِيَة وَفِي هَذِه السّنة وصل مَاء عين غبولة إِلَى قَصَبَة رِبَاط الْفَتْح بِأَمْر السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ ذَلِك على يَد الْمعلم المهندس أبي الْحسن عَليّ بن الْحَاج وَالله تَعَالَى أعلم الْجَوَاز الرَّابِع للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد لما اعتزم السُّلْطَان يَعْقُوب على العبور إِلَى الأندلس عرض جُنُوده وحاشيته وأزاح عللهم وَبعث فِي قبائل الْمغرب بالنفير ونهض من مراكش فِي جُمَادَى الْآخِرَة لثلاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة واحتل برباط الْفَتْح منتصف شعْبَان فَقضى بِهِ صَوْمه ونسكه ثمَّ ارتحل إِلَى قصر الْمجَاز وَشرع فِي إجَازَة العساكر والحشود من المرتزقة والمتطوعة خَاتم سنته ثمَّ أجَاز الْبَحْر بِنَفسِهِ غرَّة صفر من سنة أَربع وَثَمَانِينَ بعْدهَا واحتل بِظَاهِر طريف ثمَّ سَار إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج غازيا حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي لَك وسرح الْخُيُول فِي بِلَاد الْعَدو وبسائطه يحرق وينسف فَلَمَّا خرب بِلَاد النَّصْرَانِيَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَدَمرَ أَرضهم قصد مَدِينَة شريش فَنزل بساحتها وأناخ عَلَيْهَا فِي الْعشْرين من صفر سنة أَربع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وَبث السَّرَايَا والغارات فِي جَمِيع نَوَاحِيهَا وَبعث عَن المسالح الَّتِي كَانَت بالثغور فتوافت لَدَيْهِ ولحقه حافده عمر بن عبد الْوَاحِد بِجمع وافر من الْمُجَاهدين من أهل الْمغرب فُرْسَانًا ورجالا ووافته حِصَّة العزفي صَاحب سبتة غزاه ناشبة تناهز خَمْسمِائَة وأوعز إِلَى ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف باستنفار من بَقِي من أهل العدوة وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله لما أَنَاخَ على شريش بعث وزيره مُحَمَّد بن عطوا وَمُحَمّد بن عمرَان عيُونا فوافوا حصن القناطر وروطة واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور وعادوا إِلَى السُّلْطَان فأخبروه ثمَّ عقد السُّلْطَان لحافده مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد على ألف فَارس من بني مرين والغز وعرب العاصم والخلط والأثبج وَأَعْطَاهُ الرَّايَة وَبَعثه لغزو إشبيلية وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فغنموا ومروا بقرمونة فِي منصرفهم فاستباحوها وأثخنوا بِالْقَتْلِ والأسر وَرَجَعُوا وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم ثمَّ عقد ثَانِيَة لحافده عمر بن عبد الْوَاحِد على مثلهَا من الفرسان فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث من شهر ربيع الأول من السّنة وَأَعْطَاهُ الرَّايَة وسرحه إِلَى بسائط وَادي لَك فَرَجَعُوا من الْغَنَائِم بِمَا مَلأ العساكر بعد أَن أثخنوا فِيهَا بِالْقَتْلِ والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثِّمَار وأبادوا عمرانها ثمَّ سرح ثامن ربيع الْمَذْكُور عسكرا من خَمْسمِائَة فَارس للإغارة على حصن ركش فوافوه على غرَّة فاكتسحوا أَمْوَالهم وَسبوا ثمَّ عقد تَاسِع ربيع أَيْضا لِابْنِهِ أبي معرف على ألف من الفرسان وسرحه لغزو إشبيلية فَسَارُوا حَتَّى هجموا عَلَيْهَا يَوْم المولد الْكَرِيم وتحصنت مِنْهُ حاميتها بالأسوار فخرب عمرانها وَقطع أشجارها وامتلأت أَيدي عسكره سبيا وأموالا وَرجع إِلَى محلّة السُّلْطَان وَهِي نازلة على شريش كَمَا قدمنَا مَمْلُوء الحقائب ثمَّ عقد ثَالِثَة لحافده عمر منتصف ربيع الْمَذْكُور لغزو حصن كَانَ بِالْقربِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 من مُعَسْكَره كَانَ أَهله يقطعون الطَّرِيق على من خرج من المحله مُفردا أَو فِي قلَّة وسرح مَعَه الرجل من الناشبة والفعلة بآلات من الْمساحِي والفؤوس وأمده بِالرجلِ من المصامدة وغزاة سبتة فاقتحموه عنْوَة على أَهله وَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا النِّسَاء والذرية وألصقوا خَدّه بِالتُّرَابِ ونسفوا آثاره نسفا ولسبعة عشر من الشَّهْر ركب السُّلْطَان إِلَى حصن مرتقوط قَرِيبا من مُعَسْكَره فخربه وَحَرقه بالنَّار واستباحه وَقتل الْمُقَاتلَة وسبى الْأَهْل ولعشرين من شهره الْمَذْكُور وصل ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف من العدوة المغربية بنفير أهل الْمغرب وكافة الْقَبَائِل فِي جيوش ضخمة وعساكر موفورة وَركب السُّلْطَان للقائهم وبرور مقدمهم وَعرض العساكر القادمة مَعَه يَوْمئِذٍ فَكَانَت ثَلَاثَة عشر ألفا من المصامدة وَثَمَانِية آلَاف من برابرة الْمغرب كلهم مُتَطَوّع بِالْجِهَادِ فعقد السُّلْطَان لوَلِيّ الْعَهْد على خَمْسَة آلَاف من المرتزقة وألفين من المتطوعة وَثَلَاثَة عشر ألفا من الرجل وألفين من الناشبة وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور وسرحه لغزو إشبيلية والإثخان فِي نَوَاحِيهَا فعبأ كتائبه ونهض لوجهه وَبث الغارات بَين يَدَيْهِ فأثخنوا وَسبوا وَقتلُوا واقتحموا الْحُصُون واكتسحوا الْأَمْوَال وعاج ولي الْعَهْد على الشّرف والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم بعض حصونها وقفل إِلَى معسكر السُّلْطَان وَهُوَ بمكانه من حِصَار شريش وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّادِس من ربيع الثَّانِي قدم أَبُو زيان منديل ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب من الْمغرب فِي جَيش كثيف فيهم خَمْسمِائَة فَارس من عرب بني جَابر أهل تادلا مَعَ كَبِيرهمْ يُوسُف بن قيطون وَفِيهِمْ من المتطوعة والناشبة عدد كثير فعقد لَهُ السُّلْطَان غَدَاة وُصُوله وأمده بعسكر آخر وأغزاه قرمونة والوادي الْكَبِير فَأَغَارَ على قرمونة وطمعت حاميتها فِي المدافعة فبرزوا لَهُ وَصدقهمْ الْقِتَال فانكشفوا حَتَّى أدخلوهم الْبَلَد ثمَّ أحاطوا ببرج كَانَ قَرِيبا من الْبَلَد فقاتلوه سَاعَة من نَهَار واقتحموه عنْوَة وَلم يزل يتقرى الْمنَازل والعمران حَتَّى وقف بِسَاحَة إشبيلية فَأَغَارَ واقتحم برجا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 كَانَ هُنَالك عينا على الْمُسلمين وأضرمه نَارا وامتلأت أَيدي عساكره وقفل إِلَى معسكر السُّلْطَان على شريش ولثلاث عشرَة لَيْلَة من ربيع الثَّانِي عقد السُّلْطَان لوَلِيّ الْعَهْد الْأَمِير يُوسُف لمنازلة جَزِيرَة كبتور فصمد إِلَيْهَا وقاتلها واقتحمها عنْوَة وَفِي ثَانِي جُمَادَى الأولى عقد السُّلْطَان للْحَاج أبي الزبير طَلْحَة بن يحيى بن محلى وَكَانَ بعد مداخلته أَخَاهُ عمر فِي شَأْن مالقة سنة خمس وَسبعين خرج إِلَى الْحَج فَقضى فَرْضه وَرجع وَمر فِي طَرِيقه بتونس فاتهمه الدعي ابْن أبي عمَارَة كَانَ بهَا يَوْمئِذٍ فاعتقله سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ثمَّ سرحه وَلحق بقَوْمه بالمغرب ثمَّ عبر إِلَى الأندلس غازيا مَعَ السُّلْطَان يَعْقُوب فعقد لَهُ فِي هَذَا الْيَوْم على مِائَتَيْنِ من الفرسان وسرحه إِلَى إشبيلية ليَكُون ربيئة للمعسكر وَبعث مَعَه لذَلِك عيُونا من الْيَهُود والمعاهدين من النَّصَارَى يتعرفون أَخْبَار الطاغية سانجة وَالسُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله أثْنَاء هَذَا كُله يغادي شريش ويراوحها بِالْقَتْلِ والتخريب ونسف الْآثَار وَبث السَّرَايَا كل يَوْم وَلَيْلَة فِي بِلَاد الْعَدو فَلَا يَخْلُو يَوْم من تجهيز عَسْكَر أَو إغزاء جَيش أَو عقد راية أَو بعث سَرِيَّة حَتَّى انتسف الْعمرَان فِي جَمِيع بِلَاد النَّصْرَانِيَّة وَخرب بسائط إشبيلية ولبلة وقرمونة وإستجة وجبال الشّرف وَجَمِيع بسائط الفرنتيرة وأبلى فِي هَذِه الْغَزَوَات عياد بن أبي عياد العاصمي من شُيُوخ جشم وَالْخضر الْغَزِّي من أُمَرَاء الأكراد بلَاء عَظِيما وَكَانَ لَهُم فِيهَا ذكر وصيت وَكَذَلِكَ غزَاة سبتة وَكَذَا سَائِر الْمُجَاهدين من عرب جشم وَغَيرهم مثل مهلهل بن يحيى الخلطي صهر السُّلْطَان ويوسف بن قيطون الجابري وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن يطول ذكرهم فَلَمَّا دمرها تدميرا وأوسعها تخريبا ونسفها نسفا واكتسحها غَارة ونهبا وهجم فصل الشتَاء وانقطعت الْميرَة عَن الْعَسْكَر اعتزم السُّلْطَان على القفول وَأَفْرج عَن شريش لآخر جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة بعد أَن حاصرها نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام واتصل بِهِ أَن الْعَدو أوعز إِلَى أساطيله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض فأوعز السُّلْطَان إِلَى جَمِيع سواحله من سبتة وطنجة وبلاد الرِّيف ورباط الْفَتْح والمنكب والجزيرة وطريف بتوجيه أساطيلهم فتوافت مِنْهَا سِتَّة وَثَلَاثُونَ أسطولا متكاملة فِي عدتهَا فأحجمت اساطيل الْعَدو عَنْهَا وارتدت على أعقابها واحتل السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بخوزيرت غرَّة رَمَضَان من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَنزل بقصره من الْمَدِينَة الجديدة الَّتِي بناها بإزائها فبرزت أساطيل الْمُسلمين أَمَامه بالمرسى وَهُوَ جَالس بمشور قصره فلعبوا بمرأى مِنْهُ فِي الْبَحْر وتجاولوا وتناطحوا وتطاردوا كفعلهم سَاعَة الْحَرْب فسر بذلك وَأحسن إِلَيْهِم وصرفهم إِلَى حَال سبيلهم وفادة الطاغية على السُّلْطَان يَعْقُوب بأحواز الجزيرة الخضراء وَعقد الصُّلْح بَينهمَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك قَالَ ابْن خلدون رَحمَه الله لما نزل بِبِلَاد النَّصْرَانِيَّة من السُّلْطَان يَعْقُوب مَا نزل من تدمير قراهم واكتساح أَمْوَالهم وَسبي نِسَائِهِم وإبادة مفاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم زاغت مِنْهُم الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر واستيقنوا أَن لَا عَاصِم لَهُم من أَمِير الْمُسلمين فَاجْتمعُوا إِلَى طاغيتهم سانجة خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة متوجعين مِمَّا أذاقهم جنود الله من سوء الْعَذَاب وأليم النكال وَحَمَلُوهُ على الضراعة لأمير الْمُسلمين فِي السّلم وإيفاد الْمَلأ من كبار النَّصْرَانِيَّة عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَإِلَّا فَلَا تزَال تصيبهم مِنْهُ قَارِعَة أَو تحل قَرِيبا من دَارهم فَأجَاب إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ من الْخَسْف والهضيمة لدينِهِ وأوفد على أَمِير الْمُسلمين وَهُوَ بالجزيرة الخضراء وَفْدًا من بطارقتهم وشمامستهم يخطبون السّلم ويضرعون فِي المهادنة والإبقاء وَوضع أوزار الْحَرْب فردهم أَمِير الْمُسلمين اعتزازا عَلَيْهِم ثمَّ أعادهم الطاغية بترديد الرَّغْبَة على أَن يشْتَرط مَا شَاءَ من عز دينه وَقَومه فأسعفهم أَمِير الْمُسلمين وجنح إِلَى السّلم لما تَيَقّن من صاغيتهم إِلَيْهِ وذلهم لعز الْإِسْلَام وأجابهم إِلَى مَا سَأَلُوهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَاشْترط عَلَيْهِم مَا تقبلوه من مسالمة الْمُسلمين كَافَّة من قومه وَغير قومه وَالْوُقُوف عِنْد مرضاته فِي ولَايَة جِيرَانه من الْمُلُوك أَو عدواتهم وَرفع الضريبة عَن تجار الْمُسلمين بدار الْحَرْب من بِلَاده وَترك التضريب بَين مُلُوك الْمُسلمين وَالدُّخُول بَينهم فِي فتْنَة واستدعى السُّلْطَان الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْحق الترجمان وَبَعثه لاشْتِرَاط ذَلِك وإحكام عقده فَسَار عبد الْحق إِلَى الطاغية سانجة وَهُوَ بإشبيلية فعقد مَعَه الصُّلْح واستبلغ وأكد فِي الْوَفَاء بِهَذِهِ الشُّرُوط ووفدت رسل ابْن الْأَحْمَر على الطاغية وَهُوَ عِنْده لعقد السّلم مَعَه على قومه وبلاده دون أَمِير الْمُسلمين وَأَن يكون مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ فأحضرهم الطاغية بمشهد عبد الْحق وأسمعهم مَا عقد مَعَ أَمِير الْمُسلمين على قومه وَأهل مِلَّته كَافَّة وَقَالَ لَهُم إِنَّمَا أَنْتُم عبيد آبَائِي فلستم معي فِي مقَام السّلم وَالْحَرب وَهَذَا أَمِير الْمُسلمين على الْحَقِيقَة وَلست أُطِيق مقاومته وَلَا دفاعه عَن نَفسِي فَكيف عَنْكُم فانصرفوا وَلما رأى عبد الْحق ميله إِلَى رضَا السُّلْطَان وسوس إِلَيْهِ بالوفادة عَلَيْهِ لتتمكن الألفة وتستحكم الْعقْدَة وَأرَاهُ مغبة ذَلِك فِي سل السخيمة وتسكين الحفيظة فَمَال إِلَى مُوَافَقَته وَسَأَلَهُ لَقِي الْأَمِير يُوسُف ولي عهد السُّلْطَان أَولا لِيَطمَئِن قلبه فوصل إِلَيْهِ ولقيه على فراسخ من شريش وباتا بمعسكر الْمُسلمين هُنَالك ثمَّ ارتحلا من الْغَد للقاء السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ قد أَمر النَّاس بالاحتفال للقاء الطاغية وَقَومه وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وأبهته وَأَن لَا يلبسوا إِلَّا الْبيَاض فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الْملَّة وَشدَّة الشَّوْكَة ووفور الحامية وَقدم الطاغية فِي جماعته سود اللبَاس خاضعين ذليلين فَاجْتمعُوا بالأمير بحصن الصخرات على مقرب من وَادي لَك وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَتقدم الطاغية فَلَقِيَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَحْسَن مبرة وَأتم كَرَامَة يلقى بهَا مثله من عُظَمَاء الْملَل وَقدم الطاغية بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة من طرف بِلَاده أتحف بهَا السُّلْطَان وَولي عَهده كَانَ فِيهَا زوج من الْخُيُول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 الوحشي الْمُسَمّى بالفيل وحمارة من حمر الْوَحْش إِلَى غير ذَلِك من الطّرف فقبلها السُّلْطَان وَابْنه وأضعفوا لَهُ الْمُكَافَأَة وكمل عقد السّلم وَقبل الطاغية سَائِر الشُّرُوط وَرَضي بعز الْإِسْلَام عَلَيْهِ وانقلب إِلَى قومه بملء صَدره من الرضى والمسرة وَسَأَلَ مِنْهُ السُّلْطَان أَن يبْعَث إِلَيْهِ بكتب الْعلم الَّتِي بأيدي النَّصَارَى مُنْذُ استيلائهم على مدن الْإِسْلَام فَبعث إِلَيْهِ مِنْهَا ثَلَاثَة عشر حملا فِيهَا جملَة من مصاحف الْقُرْآن الْكَرِيم وتفاسيره كَابْن عَطِيَّة والثعلبي وَمن كتب الحَدِيث وشروحاتها كالتهذيب والاستذكار وَمن كتب الْأُصُول وَالْفُرُوع واللغة والعربية وَالْأَدب وَغير ذَلِك فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بحملها إِلَى فاس وتحبيسها على الْمدرسَة الَّتِي أسسها بهَا لطلبة الْعلم وقفل السُّلْطَان فاحتل بقصره من الجزيرة لليلتبن بَقِيَتَا من شعْبَان فَقضى صَوْمه ونسك عيده وَجعل من قيام لَيْلَة جزأ لمحاضرة أهل الْعلم وَأعد الشُّعَرَاء كَلِمَات أنشدوها يَوْم عيد الْفطر بمشهد الْمَلأ فِي مجْلِس السُّلْطَان وَكَانَ من أسبقهم فِي ذَلِك الميدان شَاعِر الدولة أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الأَصْل المكناسي الدَّار وَيعرف بعزوز أَتَى بقصيدة طَوِيلَة من بَحر الوافر على رُوِيَ الْبَاء الْمَفْتُوحَة المردوفة بِالْألف ذكر فِيهَا سيرة السُّلْطَان وغزواته وغزوات بنيه وحفدته وامتدح قبائل مرين ورتبهم على مَنَازِلهمْ وَذكر فَضلهمْ وقيامهم بِالْجِهَادِ وَذكر قبائل الْعَرَب على اختلافها وأنشدت بِمحضر السُّلْطَان والحاشية فَأمر لمنشئها بِأَلف دِينَار وخلعة ولمنشدها بِمِائَتي دِينَار ثمَّ أعمل السُّلْطَان نظره فِي الثغور فرتب بهَا المسالح وَبعث وَلَده الْأَمر أَبَا زيان منديلا ليقف على الْحَد بَين أرضه وَأَرْض ابْن الْأَحْمَر وَعقد لَهُ على تِلْكَ النَّاحِيَة وأنزله بحصن ذكْوَان قرب مالقة وأوصاه أَن لَا يحدث فِي بِلَاد ابْن الْأَحْمَر حَدثا وَعقد لعياد بن أبي عياد العاصمي على مسلحة أُخْرَى وأنزله بأسطبونة وَأَجَازَ ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى الْمغرب لتفقد أَحْوَاله ومباشرة أُمُوره وَأمره أَن يَبْنِي على قبر وَالِده أبي الْمُلُوك عبد الْحق بتافر طاست زَاوِيَة فاختط هُنَالك رِبَاطًا حفيلا وَبنى على قبر الْأَمِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 عبد الْحق إِدْرِيس أسنمة من الرخام ونقشها بِالْكِتَابَةِ ورتب عَلَيْهَا قراء لتلاوة الْقُرْآن ووقف على ذَلِك ضيَاعًا وأرضا تسع حرث أَرْبَعِينَ زوجا رحم الله الْجَمِيع بمنه وَفَاة السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله وَفِي آخر ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة مرض السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق مَرضه الَّذِي توفّي مِنْهُ فَلم يزل ألمه يشْتَد وحاله يضعف إِلَى أَن توفّي بقصره من الجزيرة الخضراء من ارْض الأندلس فِي ضحى يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَحمل إِلَى رِبَاط الْفَتْح من بِلَاد العدوة فَدفن بِمَسْجِد شالة وقبره الْيَوْم طامس الْأَعْلَام رَحمَه الله بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله أَبيض اللَّوْن تَامّ الْقد معتدل الْجِسْم حسن الْوَجْه وَاسع الْمَنْكِبَيْنِ كَامِل اللِّحْيَة معتدلها أشيب نقي الْبيَاض حَلِيمًا متواضعا جوادا مظفرا مَنْصُور الرَّايَة مَيْمُون النقيبة لم يقْصد جَيْشًا إِلَّا هَزَمه وَلَا عدوا إِلَّا قهره وَلَا بَلَدا إِلَّا فَتحه صواما قواما دَائِم الذّكر كثير الْبر لَا تزَال سبحته فِي يَده مقربا للْعُلَمَاء مكرما للصلحاء صادرا فِي أَكثر أُمُوره عَن رَأْيهمْ وَلما استقام لَهُ الْأَمر بنى المرستانات للمرضى والمجانين ورتب لَهُم الْأَطِبَّاء لتفقد أَحْوَالهم وأجرى على الْكل المرتبات والنفقات من بَيت المَال وَكَذَا فعل بالجذمى والعمي والفقراء رتب لَهُم مَالا مَعْلُوما يقبضونه فِي كل شهر من جِزْيَة الْيَهُود وَبنى الْمدَارِس لطلبة الْعلم ووقف عَلَيْهَا الْأَوْقَاف وأجرى عَلَيْهِم بهَا المرتبات كل ذَلِك ابْتِغَاء ثَوَاب الله تَعَالَى نَفعه الله بِقَصْدِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان النَّاصِر لدين الله يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله تَعَالَى لما مرض السُّلْطَان يَعْقُوب بقصره من الجزيرة الخضراء مَرضه نساؤه وطيرن بالْخبر الى ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ يَوْمئِذٍ بالمغرب فاتصل بِهِ الْخَبَر وَهُوَ بأحواز فاس فأسرع السّير إِلَى طنجة وَقد مَاتَ أَبوهُ قبل وُصُوله فَأخذ الْبيعَة لَهُ الوزراء والأشياخ وَلما عبر إِلَيْهِم الْبَحْر واحتل بالجزيرة جددوا لَهُ الْبيعَة غرَّة صفر سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وأخذوها لَهُ على الكافة فاستتب ملكه واستقام أمره فَفرق الْأَمْوَال وأجزل الصلات وسرح السجون وَرفع عَن النَّاس الْأَخْذ بِزَكَاة الْفطر ووكلهم فِيهَا إِلَى أمانتهم وكف أَيدي الظلمَة والعمال عَن النَّاس وأزال المكوس وَرفع الأنزال عَن دور الرّعية وَصرف اعتناءه إِلَى إصْلَاح السابلة فأزال أَكثر الرتب والقبالات الَّتِي كَانَت بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الأقطار الخالية والمفازات المخوفة فخضعت مرين تَحت قهره وَصلح أَمر النَّاس فِي أَيَّامه وَكَانَ أول شَيْء أحدث من أمره أَن بعث إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَضرب لَهُ موعدا للإجتماع بِهِ فبادر إِلَيْهِ ولقيه بِظَاهِر مربالة فِي الْعشْر الأول من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فلقاه السُّلْطَان مبرة وتكريما وتجافى لَهُ عَن جَمِيع الثغور الأندلسية الَّتِي كَانَت فِي مكلة أَبِيه وَنزل لَهُ عَنْهَا مَا عدى الجزيرة ورندة وطريف وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة وَرجع السُّلْطَان يُوسُف إِلَى الجزيرة فَقدم عَلَيْهِ بهَا وَفد الطاغية سانجة مجددين عقد السّلم الَّذِي عقده لَهُم السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله وَلما تمهد للسُّلْطَان يُوسُف أَمر الأندلس عقد لِأَخِيهِ أبي عَطِيَّة الْعَبَّاس بن يَعْقُوب على الثغور الغربية وأوصاه بضبطها وَعقد للشَّيْخ الْمُجَاهِد أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن يزكاتن على مسلحتها وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْحَرْب وأعنة الْخَيل وأمده بِثَلَاثَة آلَاف من بني مرين وَالْعرب ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب يَوْم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَنزل بقصر الْمجَاز ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة فاس فَدَخلَهَا ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى مِنْهَا ولحين استقراره بهَا خرج عَلَيْهِ مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عبد الْحق فِي بنيه وَإِخْوَته وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِ وَلحق بجبال ورغة ودعا لنَفسِهِ فسرح إِلَيْهِ السُّلْطَان يُوسُف أَخَاهُ أَبَا معرف مُحَمَّد بن يَعْقُوب فَبَدَا لَهُ فِي النُّزُوع إِلَيْهِم فلحق بهم وشايعهم على رَأْيهمْ من الْخلاف فأغزاهم السُّلْطَان يُوسُف عساكره وردد إِلَيْهِم الْبعُوث والكتائب ثمَّ تلطف فِي استنزال أَخِيه حَتَّى نزل على الْأمان وفر بَنو إِدْرِيس إِلَى تلمسان فَقبض عَلَيْهِم اثناء طريقهم وَجِيء بهم فِي الْحَدِيد إِلَى تازا فَبعث السُّلْطَان يُوسُف أَخَاهُ أَبَا زيان فَقَتلهُمْ خَارج بَاب الشَّرِيعَة مِنْهَا فِي رَجَب من السّنة ورهب الأعياص من بني عبد الْحق يَوْمئِذٍ وخافوا بادرة السُّلْطَان يُوسُف فَلَحقُوا بغرناطة ملتفين على بني إِدْرِيس مِنْهُم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى مراكش لتمهيد نَوَاحِيهَا وتثقيف أطرافها فَدَخلَهَا فِي شَوَّال وَأقَام بهَا إِلَى رَمَضَان الْقَابِل من سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فَنَهَضَ من مراكش لغزو عرب معقل بصحراء درعة لأَنهم كَانُوا قد اضروا بالرعايا وأفسدوا السابلة فَسَار إِلَيْهِم فِي اثْنَي عشر الْفَا من الْخَيل وَمر على بِلَاد هسكورة مُعْتَرضًا جبل درن وأدركهم نواجع بالقفر فأثخن فيهم بِالْقَتْلِ والسبي واستكثر من رؤوسهم فعلقت بشرفات مراكش وسجلماسة وفاس وقفل من غَزوه آخر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة الى مراكش فنكب مُحَمَّد بن عَليّ بن محلى عاملها الْقَدِيم الْولَايَة بهَا من لدن انْقِرَاض الدولة الموحدية لما وَقع من الإرتياب بأولاد محلى بِكَثْرَة خُرُوجهمْ على الدولة وَكَانَت نكبته غرَّة محرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَهلك فِي السجْن فِي صفر الموَالِي لَهُ وَعقد السُّلْطَان يُوسُف على مراكش وأعمالها لمُحَمد بن عطوا الجاناتي من موَالِي دولتهم وَلَاء حلف وَترك مَعَه ابْنه أَبَا عَامر عبد بن يُوسُف ثمَّ ارتحل السُّلْطَان يُوسُف إِلَى فاس فَدَخلَهَا منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 قدوم بني اشقيلولة على السُّلْطَان يُوسُف بسلا وإقطاعه إيَّاهُم قصر كتامة وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا أَن بني اشقيلولة كَانُوا من وُجُوه الأندلس وَأهل الرياسة بهَا حَتَّى صاهرهم ابْن الْأَحْمَر بابنته وَأُخْته وَقَامُوا مَعَه فِي إِثْبَات قَوَاعِد ملكه ثمَّ انحرفوا عَنهُ إِلَى مُوالَاة بني مرين وَنزل مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي الْحسن مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب عَن مالقة وَكَانَ عَمه أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْحسن صَاحب وَادي آش وأعمالها واتصل ذَلِك فِي بنيه إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان يُوسُف فَقَامُوا بدعوته فِيهَا ثمَّ حصلت المصافاة وتأكدت الْمَوَدَّة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر على مَا أسلفناه آنِفا فَطلب ابْن الْأَحْمَر من السُّلْطَان يُوسُف أَن ينزل لَهُ عَن وَاد آش الَّتِي هِيَ لبني اشقيلولة المتمسكين بدعوته كَمَا نزل لَهُ عَن غَيرهَا من الثغور فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَى أبي الْحسن بن إِسْحَاق بن اشقيلولة يَأْمُرهُ بالتخلي لَهُ عَنْهَا فَتَركهَا لَهُ وَعبر هُوَ وحاشيته الْبَحْر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف سنة سبع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة فَلَقِيَهُ بِمَدِينَة سلا فَأعْطَاهُ السُّلْطَان يُوسُف الْقصر الْكَبِير وأعماله طعمه سوغه إِيَّاهَا فَلم تزل ولَايَته متوارثة فِي بنيه حَتَّى انقرضوا آخر دولة بني مرين واستمكن ابْن الْأَحْمَر من وَادي آش وحصونها وَلم يبْق لَهُ بالأندلس مُنَازع من قرَابَته وَالله أعلم حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَعُثْمَان بن يغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان قد تقدم لنا أَن يغمراسن لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان أَن لَا يحدث مَعَ بني مرين حَربًا وَلَا يوافقهم فِي زحف مَا اسْتَطَاعَ لاستغلاظ أَمرهم عَلَيْهِ بملكهم الْمغرب الْأَقْصَى وأعماله وَأَن عُثْمَان قد عمل على ذَلِك فأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب بالأندلس وَعقد مَعَه السّلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وَرجع إِلَى أَخِيه كَمَا تقدم وَلما ولي السُّلْطَان يُوسُف وقفل من مراكش إِلَى فاس فِي هَذِه الْمرة بعد أَن ترك ابْنه أَبَا عَامر عبد الله مَعَ مُحَمَّد بن عطوا عَامل مراكش ثار أَبُو عَامر الْمَذْكُور بهَا وخلع طَاعَة أَبِيه ودعا إِلَى نَفسه وشايعه ابْن عطوا على ذَلِك واتصل الْخَبَر بالسلطان يُوسُف وَهُوَ بفاس فأسرع السّير إِلَى مراكش وبرز إِلَيْهِ ابْنه أَبُو عَامر فَاقْتَتلُوا ثمَّ انهزم أَبُو عَامر فَعَاد إِلَى مراكش واكتسح بَيت المَال بهَا وفر إِلَى تلمسان وَمَعَهُ ابْن عطوا الْمَذْكُور فقدماها سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فآواهم عُثْمَان بن يغمراسن ومهد لَهُم الْمَكَان فلبثوا عِنْده مَلِيًّا ثمَّ عطف السُّلْطَان على ابْنه الرَّحِم فَرضِي عَنهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ وطالب عُثْمَان بن يغمراسن أَن يسلم إِلَيْهِ ابْن عطوا الناجم فِي النِّفَاق مَعَ ابْنه فَأبى من إِضَاعَة جواره وإخفار ذمَّته وَأَغْلظ لَهُ الرَّسُول فِي القَوْل فسطا بِهِ عُثْمَان واعتقله فثارت من السُّلْطَان يُوسُف الحفائظ الكامنة وتحركت مِنْهُ إلاحن الْقَدِيمَة والنزغات المتوارثة فاعتزم على غَزْو تلمسان ونهض إِلَيْهَا من مراكش فِي صفر من سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد أَن عقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب بن يُوسُف ثمَّ نَهَضَ من فاس إِلَيْهَا آخر ربيع الآخر من سنته فِي عساكره وَجُنُوده وحشد الْقَبَائِل وكافة أهل الْمغرب وَسَار حَتَّى نَازل تلمسان فتحصن مِنْهُ عُثْمَان وَقَومه بأسوارها فحاصره السُّلْطَان يُوسُف وضيق عَلَيْهِ وَنصب عَلَيْهِ المجانيق وَكَانَ حصاره إِيَّاهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ سَار فِي نَوَاحِيهَا ينسف الْآثَار وَيخرب الْقرى ويحطم الزروع ثمَّ نزل بِذِرَاع الصابون من ناحيتها ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى تامت وحاصرها أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقطع أشجارها وأباد خضراءها وَلما امْتنعت عَلَيْهِ أفرج عَنْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب وَقضى نسك الْفطر بِعَين الصَّفَا من بِلَاد بني يزناسن ونسك الْأَضْحَى وقربانه بتازا وتلبث بهَا أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد على مَا نذكرهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 انْتِقَاض الطاغية سانجة وإجازة السُّلْطَان يُوسُف إِلَيْهِ لما رَجَعَ السُّلْطَان يسف من غَزْو تلمسان وافاه الْخَبَر وَهُوَ بتازا أَن الطاغية سانحة قد انْتقض ونبذ الْعَهْد وَتجَاوز التخوم وأغار على الثغور فأوعز السُّلْطَان إِلَى قَائِد المسالح بالأندلس عَليّ بن يُوسُف بن يزكاتن بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب ومنازلة شريش وَشن الغارات على بِلَاد الطاغية فَنَهَضَ لذَلِك فِي ربيع الآخر من سنة تسعين وسِتمِائَة وجاس خلالها وتوغل فِي أقطارها وابلغ فِي النكاية ثمَّ فصل السُّلْطَان يُوسُف من تازا غازيا أَثَره فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة واحتل قصر مصمودة وَهُوَ قصر الْمجَاز واستنفر أهل الْمغرب وقبائله فنفروا وَشرع فِي إجازتهم الْبَحْر فَبعث الطاغية أساطيله إِلَى الزقاق حجزا لَهُم دون الْإِجَازَة فأوعز السُّلْطَان يُوسُف إِلَى قواد أساطيله بالسواحل بمعمارتها لمقابلة أساطيل الْعَدو فَفَعَلُوا وقدمت فالتقت مَعَ أساطيل الْعَدو ببحر الزقاق فِي شعْبَان من السّنة فَاقْتَتلُوا وانكشف الْمُسلمُونَ ومحصهم الله وَقتل قواد الأساطيل فَأمر السُّلْطَان يُوسُف باستئناف الْعِمَارَة ثمَّ أغزاهم ثَانِيَة فخامت أساطيل الْعَدو عَن اللِّقَاء وصاعدوا عَن الزقاق فملكته أساطيل السُّلْطَان فَأجَاز أخريات رَمَضَان من السّنة واحتل بطريف ثمَّ دخل دَار الْحَرْب غازيا فنازل حصن بجير ثَلَاثَة أشهر وضيق عَلَيْهِم وَبث السَّرَايَا فِي أَرض الْعَدو وردد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إِلَى أَن بلغ فِي النكاية والإثخان غَرَضه وَقضى من الْجِهَاد وطره وهجم عَلَيْهِ فصل الشتَاء وانقطعت الْميرَة عَن الْعَسْكَر فأفرج عَن الْحصن وَرجع إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ عبر إِلَى الْمغرب فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة فتظاهر ابْن الْأَحْمَر والطاغية على مَنعه من الْجَوَاز مرّة أُخْرَى كَمَا نذكرهُ الْآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر واستيلاء الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا لما قفل السُّلْطَان يُوسُف من الأندلس وَقد أبلغ فِي نكاية الْعَدو كَمَا قُلْنَا عظم على الطاغية أمره وثقلت عَلَيْهِ وطأته فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْإِفْسَاد بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر يتخوف من السُّلْطَان يُوسُف أَن يغلبه على بِلَاده فخلص مَعَ الطاغية نجيا وتفاوضا فِي أَمر السُّلْطَان يُوسُف وَأَن تمكنه من الْإِجَازَة إِلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ لقرب مَسَافَة بَحر الزقاق وانتظام ثغور الْمُسلمين حفافيه وَتصرف شوانيهم وسفنهم فِيهِ مَتى أَرَادوا فضلا عَن الأساطيل الجهادية وَأَن أم تِلْكَ الثغور هِيَ طريف وَأَنَّهُمْ إِذا استمكنوا مِنْهَا منعُوا السُّلْطَان من العبور وَكَانَت عينا لَهُم على الزقاق وَكَانَ أسطولهم بمرفئها رصدا لأساطيل صَاحب الْمغرب الخائضة لجة ذَلِك الْبَحْر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف وَبهَا يَوْمئِذٍ مسلحة بني مرين وتكفل لَهُ ابْن الْأَحْمَر بمظاهرته على ذَلِك وَالْتزم لَهُ بالمدد والميرة للعسكر أَيَّام منازلتها على أَن تكون لَهُ إِن خلصت للطاغية وتعاهدوا على ذَلِك وأناخ الطاغية بعساكر النَّصْرَانِيَّة على طريف وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وَنصب الْآلَات من المجانيق والعرادات وأحاط بهَا برا وبحرا وَانْقطع المدد والميرة عَن أَهلهَا وحالت أساطيل الْعَدو بَينهم وَبَين صريخ السُّلْطَان واضطرب ابْن الْأَحْمَر مُعَسْكَره بمالقة قَرِيبا من عَسْكَر الطاغية وسرب إِلَيْهِ المدد من الرِّجَال وَالسِّلَاح والميرة وأصناف الأقوات وَبعث عسكرا لمنازلة حصن إسطبونة فتغلب عَلَيْهِ بعد مُدَّة من الْحصار واتصلت هَذِه الْحَال أَرْبَعَة أشهر حَتَّى أصَاب أهل طريف الْجهد ونال مِنْهُم الْحصار فراسلوا الطاغية فِي الصُّلْح وَالنُّزُول عَن الْبَلَد فَصَالحهُمْ واستنزلهم وتملكها آخر يَوْم من شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة ووفى لَهُم بِمَا عاهدهم عَلَيْهِ واستشرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى تجافي الطاغية لَهُ عَنْهَا حَسْبَمَا تعاهدا عَلَيْهِ فَأَعْرض عَن ذَلِك واستأثر بهَا بعد أَن كَانَ نزل لَهُ عَن سِتَّة من الْحُصُون عوضا عَنْهَا فَخرج من يَده الْجَمِيع وَلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 يحصل على طائل فَكَانَت حَاله فِي ذَلِك كَحال صَاحِبَة النعامة الْمَضْرُوب بهَا الْمثل عِنْد الْعَرَب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثورة عمر بن يحيى بن الْوَزير الوطاسي بحصن تازوطا اعْلَم أَن بني وطاس فَخذ من بني مرين لكِنهمْ لَيْسُوا من بني عبد الْحق وَكَانَت الرياسة فيهم لبني الْوَزير مِنْهُم وَبَنُو الْوَزير يَزْعمُونَ أَن نسبهم دخيل فِي مرين وَأَنَّهُمْ من أعقاب يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لَحِقُوا بالبادية ونزلوا على بني وطاس فالتحموا بهم ولبسوا جلدتهم وحازوا رياستهم وَلما دخل بَنو مرين الْمغرب واقتسموا أَعماله كَمَا قدمنَا بقيت بِلَاد الرِّيف خَالِصَة لبني وطاس هَؤُلَاءِ فَكَانَت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وَكَانَ حصن تازوطا بهَا من أمنع معاقل الْمغرب وَلما غلب الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مكناسة وَأقَام فِيهَا دَعْوَة الحفصيين ونهض السعيد بن الْمَأْمُون الموحدي من مراكش لغزوه فر أَمَامه إِلَى حصن تازوطا هَذَا وَنزل بِهِ على بني الْوَزير هَؤُلَاءِ لاجئا إِلَيْهِم ومستجيرا بهم فأرادوا الفتك بِهِ غيرَة مِنْهُ وحسدا لَهُ فشعر بهم وتحول عَنْهُم إِلَى عين الصَّفَا من بِلَاد بني يزناسن حَسْبَمَا تقدم ذَلِك كُله وَلما انقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن واستقام ملك الْمغرب لبني مرين صرفُوا عنايتهم إِلَى هَذَا الْحصن فَكَانُوا ينزلون بِهِ من الحامية من يثقون بغنائه واضطلاعه ليَكُون آخِذا بناصية هَؤُلَاءِ الرَّهْط من بني وطاس لما يعلمُونَ من سموهم إِلَى الرياسة وتطلعهم إِلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله قد عقد على هَذَا الْحصن لِابْنِ أَخِيه مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب وَكَانَ عمر وعامر ابْنا يحيى ابْن الْوَزير رئيسين على بني وطاس لذَلِك الْعَهْد فاستهونوا أَمر السُّلْطَان يُوسُف بعد موت وَالِده وَحَدثُوا أنفسهم بالثورة فِي ذَلِك الْحصن والاستبداد بِتِلْكَ النَّاحِيَة فَوَثَبَ عمر بن يحيى مِنْهُم بمنصور بن عبد الْوَاحِد فِي شعْبَان من سنة إِحْدَى وَتِسْعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وسِتمِائَة وفتك بحاشيته وَرِجَاله وأزعجه عَن الْحصن وغلبه على مَا كَانَ بقصره من مَال وَسلَاح ومتاع وأعشار للروم كَانَت مختزنة هُنَالك وَضبط الْحصن وشحنه بِرِجَالِهِ ووجوه قومه وَلحق مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بِعَمِّهِ السُّلْطَان يُوسُف فَهَلَك لليال أسفا على مَا أَصَابَهُ وسرح السُّلْطَان يُوسُف وزيره الناصح أَبَا عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي العساكر لمنازلة حصن تازوطا فَأَنَاخَ عَلَيْهِ بكلكله ثمَّ تبعه السُّلْطَان يُوسُف على أَثَره وَفِي صحبته عَامر بن يحيى بن الْوَزير أَخُو عمر الثائر فَإِنَّهُ كَانَ قد نزع إِلَيْهِ فأحاط السُّلْطَان بالحصن وضيق عَلَيْهِ حَتَّى اشفق عمر لشدَّة الْحصار ويئس من الْخَلَاص وَظن أَنه قد أحبط بِهِ فَدس إِلَى أَخِيه عَامر فِي كشف مَا نزل بِهِ فضمن عَامر للسُّلْطَان يُوسُف نزُول أَخِيه إِن هُوَ تَركه يصعد إِلَيْهِ حَتَّى يجْتَمع بِهِ فَأذن لَهُ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك فَصَعدَ إِلَيْهِ وتفاوضا فِي أَمرهمَا وَآخر الْأَمر أَن عمر احْتمل الذَّخِيرَة وفر لَيْلًا الى تلمسان وبدا لعامر فِي النُّزُول عِنْدَمَا صَار فِي الْحصن فَامْتنعَ بِهِ قيل لِأَنَّهُ بلغه أَن السُّلْطَان يُوسُف عزم على قَتله أخذا بثار ابْن أَخِيه مَنْصُور ولإفلاته أَخَاهُ من يَده وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن قدم على السُّلْطَان يُوسُف وَفد الأندلس وَفِيهِمْ الرئيس أَبُو سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة رَاغِبًا فِي الصُّلْح مَعَ ابْن عَمه ومعتذرا عَنهُ فأرسى أساطيله بمرسى غساسة وَنزل إِلَى السُّلْطَان وَقدم بَين يَده هَدِيَّة تناسب الْحَال فَسمع بهم عَامر الوطاسي وَهُوَ فِي الْحصن فَبعث إِلَيْهِم يسألهم الشَّفَاعَة لَهُ عِنْد السُّلْطَان يُوسُف لوجاهتهم لَدَيْهِ فشفع لَهُ الرئيس أَبُو سعيد فَقبل السُّلْطَان يُوسُف شَفَاعَته بِشَرْط أَن ينْتَقل بحاشيته إِلَى المرسى وَركب أَكْثَرهم الأسطول وَتَأَخر عَامر إِلَى جَوف اللَّيْل فَنزل من الْحصن وخاض الفلاة إِلَى تلمسان فتبعت الْخَيل أَثَره ففاتهم وأدركوا وَلَده أَبَا الْخَيل فجيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يُوسُف فَبعث بِهِ إِلَى فاس فَضربت عُنُقه وصلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 هُنَالك وَأنزل السُّلْطَان يُوسُف بَقِيَّة الْحَاشِيَة من الأسطول فَأمر بهم فاستلحموا مَعَ من كَانَ من بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذرياتهم وتملك السُّلْطَان يُوسُف حصن تازوطا وَأنزل بِهِ عماله ومسلحته وقفل إِلَى حَضرته بفاس أخر جُمَادَى الأولى من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة وَلما كَانَ السُّلْطَان نازلا على تازوطا قدم عَلَيْهِ رجل من فرنج جنوة بهدية جليلة فِيهَا شَجَرَة مموهة بِالذَّهَب عَلَيْهَا أطيار تصوت بحركات هندسية مثل مَا صنع للمتوكل العباسي وَفِي هَذِه الْمدَّة سعي عِنْد السُّلْطَان يُوسُف بأولاد الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق وَأَنَّهُمْ أَرَادوا الْخُرُوج عَلَيْهِ فحقد عَلَيْهِم لذَلِك وأحسوا بِالشَّرِّ فَفرُّوا إِلَى تلمسان وَأَقَامُوا هُنَالك إِلَى أَن بعث السُّلْطَان يُوسُف إِلَيْهِم بالأمان فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بصبرة من نَاحيَة ملوية اعْتَرَضَهُمْ الْأَمِير أَبُو عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف فاستلحمهم أَجْمَعِينَ وَهُوَ يرى أَنه قد أرْضى أَبَاهُ بذلك الْفِعْل واتصل الْخَبَر بالسلطان يُوسُف فسخطه وأقصاه وتبرأ مِنْهُ فَلم يزل طريدا بِبِلَاد الرِّيف وجبال غمارة إِلَى أَن هلك ببني سعيد مِنْهُم آخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالزاوية الَّتِي دَاخل بَاب الْفتُوح وَخلف ثَلَاثَة أَوْلَاد عَامر وَسليمَان وَدَاوُد فكفلهم جدهم السُّلْطَان يُوسُف إِلَى أَن هلك فولي الْأَمر بعده حافده عَامر وَبعد عَامر سُلَيْمَان وَسَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر ووفادته عَلَيْهِ بطنجة لما استولى الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا وَنقض الطاغية عهد ابْن الْأَحْمَر فِي النُّزُول لَهُ عَنْهَا سقط فِي يَد ابْن الْأَحْمَر وَنَدم على فعله وَرجع إِلَى التَّمَسُّك بالسلطان يُوسُف فأوفد عَلَيْهِ ابْن عَمه الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل ووزيره أَبَا سُلْطَان عَزِيز الداني فِي وَفد من أهل حَضرته لتجديد الْعَهْد وتأكيد الْمَوَدَّة وَتَقْرِير المعذرة عَن شَأْن طريف فوافوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 بمكانه من حِصَار تازوطا كَمَا قدمنَا فأبرموا العقد وأحكموا الصُّلْح وَانْصَرفُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة بإسعاف غَرَضه من المؤاخاة واتصال الْيَد فَوَقع ذَلِك مِنْهُ أجمل موقع وطار سُرُورًا من أعواده وَأجْمع الرحلة إِلَى السُّلْطَان لإحكام العقد والاستبلاغ فِي الْعذر عَن وَاقعَة طريف وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي نَصره بِلَاد الأندلس وإغاثة الْمُسلمين الَّذين بهَا فتهيأ لذَلِك وَعبر الْبَحْر فِي ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة واحتل بجبل بيونش من نَاحيَة سبتة ثمَّ ارتحل إِلَى طنجة فَلَقِيَهُ بهَا الأميران أَبُو عَامر عبد الله وَأَبُو عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْنا السُّلْطَان يُوسُف وَكَانَ أَبُو عَامر لَا زَالَ يَوْمئِذٍ من أَبِيه بِعَين الرِّضَا وَلما علم السُّلْطَان يُوسُف بقدومه خرج من فاس للقائه وبرور مقدمه فوافاه بطنجة فَقدم ابْن الْأَحْمَر بَين يَدي نَجوَاهُ هَدِيَّة أتحف بهَا السُّلْطَان يُوسُف كَانَ من أحْسنهَا موقعا لَدَيْهِ الْمُصحف الْكَبِير الَّذِي يُقَال إِنَّه مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ كَانَ بَنو أُميَّة يتوارثونه بقرطبة ثمَّ خلص إِلَى ابْن الْأَحْمَر فأتحف بِهِ السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وكافأه بأضعافه وَبَالغ فِي تكرمته وأسعفه بِجَمِيعِ مطالبه وَأَرَادَ ابْن الْأَحْمَر أَن يبسط الْعذر عَن شَأْن طريف فتجافى السُّلْطَان يُوسُف عَن سَماع ذَلِك وأضرب عَن ذكره صفحا وبر وأحفى وَوصل وأجزل وَنزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن الجزيرة ورندة والغربية وَعشْرين حصنا من ثغور الأندلس كَانَت قبل فِي ملكته وملكة أَبِيه وَعَاد ابْن الْأَحْمَر إِلَى أندلسه آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة محبوا محبورا وعبرت مَعَه عَسَاكِر السُّلْطَان يُوسُف لحصار طريف ومنازلته وَعقد على حربها لوزيره الشهير الذّكر عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي فنازلها مُدَّة فامتنعت عَلَيْهِ وَأَفْرج عَنْهَا وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين بعْدهَا فرغ السُّلْطَان يُوسُف من بِنَاء جَامع تازا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وعلقت بِهِ الثريا الْكُبْرَى من النّحاس الْخَالِص وَزنهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ قِنْطَارًا وَعدد كؤوسها خَمْسمِائَة كأس وَأَرْبَعَة عشر كأسا وَأنْفق السُّلْطَان فِي بِنَاء الْجَامِع وَعمل الثريا الْمَذْكُورَة ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار ذَهَبا وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين بعْدهَا خرج السُّلْطَان يُوسُف لغزو تلمسان فوصل إِلَى تاوريرت وَكَانَت تخما لعمل بني مرين وَبني عبد الْوَاحِد فنصفها للسُّلْطَان يُوسُف وَنِصْفهَا لعُثْمَان بن يغمراسن وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا بهَا عَامل من ناحيته فطرد السُّلْطَان يُوسُف عَامل ابْن يغمراسن وَشرع فِي بِنَاء الْحصن الَّذِي هُنَالك فأدار سوره وشيده وَركب أبوابه مصفحة بالجديد وَكَانَ يقف على بنائِهِ بِنَفسِهِ من صَلَاة الْغَدَاة إِلَى الْمسَاء لَا يغيب عَن العملة إِلَّا فِي أَوْقَات الضَّرُورَة وَفرغ من بنائِهِ وتحصينه فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ شحنه بالعسكر وَالسِّلَاح وَعقد عَلَيْهِ لِأَخِيهِ أبي بكر بن يَعْقُوب ويكنى أَبَا يحيى وانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة ثمَّ خرج من فاس سنة خمس وَتِسْعين بعْدهَا بِقصد تلمسان فَسَار حَتَّى نزل على ندرومة فحاصرها وشدد فِي قتالها ورماها بالمنجنيق أَرْبَعِينَ يَوْمًا فامتنعت عَلَيْهِ فأفرج عَنهُ ثَانِي عيد الْفطر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة فَسَار إِلَى تلمسان وبرز عُثْمَان بن يغمراسن لمدافعته فَانْهَزَمَ وتحصن بالأسوار وَتقدم السُّلْطَان يُوسُف حَتَّى نزل على تلمسان وَقتل من أَهلهَا خلقا ثمَّ أقلع عَنْهَا وَرجع إِلَى الْمغرب فَقضى نسك الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة برباط تازا وَأمر بِبِنَاء الْقصر بهَا وَسَار إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة ثمَّ ارتحل إِلَى مكناسة فَقضى بهَا بعض الوطر ثمَّ عَاد إِلَى فاس ثمَّ خرج مِنْهَا فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا تلمسان وَمر فِي طَرِيقه بِمَدِينَة وَجدّة فَأمر ببنائها وَكَانَ أَبوهُ السُّلْطَان يَعْقُوب قد هدمها كَمَا مر فبناها السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة وحصن أسوارها وَبنى بهَا قَصَبَة ودارا لسكناه وحماما ومسجدا ثمَّ سَار إِلَى تلمسان فَنزل بساحتها وأحاطت عساكره بهَا إحاطة الهالة بالقمر وَنصب عَلَيْهَا الْقوس الْبَعِيدَة النزع الْعَظِيمَة الهيكل الْمُسَمَّاة بقوس الزيار اخترعها المهندسون والصناع وتقربوا إِلَى السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 بعملها فَأَعْجَبتهُ وَكَانَت تحمل على أحد عشر بغلا وَلما امْتنعت تلمسان عَلَيْهِ أفرج عَنْهَا فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَمر فِي عوده إِلَى الْمغرب بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد لنظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر بن يَعْقُوب كَمَا كَانُوا بتاوريرت وَأمرهمْ بشن الغارات على أَعمال تلمسان مَعَ السَّاعَات والأحيان فَفَعَلُوا وَاسْتولى الْأَمِير أَبُو بكر بذلك على أَكثر تِلْكَ الْجِهَات وَالله تَعَالَى أعلم فتكة ابْن الملياني بشيوخ المصامدة وتزويره الْكتاب بهم وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على فتح جبل تنيملل أَن أَبَا عَليّ الملياني كَانَ قد سعى فِي نبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن والعبث بأشلائهم وَأَن النَّاس قد غاظهم ذَلِك لَا سِيمَا المصامدة مِنْهُم وَلما هلك السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف اسْتعْمل أَبَا عَليّ الملياني على جباية المصامدة فباشرها مُدَّة ثمَّ سعى بِهِ شُيُوخ المصامدة عِنْد السُّلْطَان بِأَنَّهُ احتجن المَال لنَفسِهِ فَأمر السُّلْطَان بمحاسبته فحوسب وَظَهَرت مخايل صدقهم عَلَيْهِ فنكبه السُّلْطَان يُوسُف أَولا ثمَّ قَتله ثَانِيًا واصطنع ابْن أَخِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الملياني وَاسْتَعْملهُ فِي كِتَابَته وأقامه بِبَابِهِ فِي جملَة كِتَابه وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف قد سخط على بعض شُيُوخ المصامدة مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد كَبِير هنتانة وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى كَبِير قدميوة وأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير عَليّ بن يُوسُف بمراكش باعتقالهما فاعتقلهما فِيمَن لَهما من الْوَلَد والحاشية وأحس بذلك أَحْمد بن الملياني فاستعجل الثأر الَّذِي كَانَ يعتده عَلَيْهِم فِي عَمه أبي عَليّ وَكَانَت الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة يَوْمئِذٍ موكولة إِلَى كتاب الدولة لم تخْتَص بِوَاحِد مِنْهُم لما كَانُوا كلهم ثِقَات أُمَنَاء وَكَانُوا عِنْد السُّلْطَان كأسنان الْمشْط فَكتب أَحْمد بن الملياني إِلَى الْأَمِير أبي عَليّ كتابا على لِسَان وَالِده يَأْمُرهُ فِيهِ أمرا جزما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 بقتل مشيخة المصامدة وَلَا يمهلهم طرفَة عين وَوضع عَلَيْهِ الْعَلامَة الَّتِي تنفذ بهَا الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة وَختم الْكتاب وَبعث بِهِ مَعَ الْبَرِيد قَالَ ابْن الْخَطِيب وَلما أكد على حامله فِي الْعجل وضايقه فِي تَقْدِير الْأَجَل تأنى حَتَّى إِذا علم أَنه قد وصل وَأَن غَرَضه قد حصل فر الى تلمسان وَهِي بِحَال حصارها فاتصل بأنصارها حَالا بَين أنوفها وأبصارها وتعجب النَّاس من فراره وَسُوء اغتراره ورجمت الظنون فِي آثاره ثمَّ وصلت الْأَخْبَار بِتمَام الْحِيلَة واستيلاء الْقَتْل على أَعْلَام تِلْكَ الْقَبِيلَة فَتَركهَا شنعاء على الْأَيَّام وعارا فِي الأقاليم على حَملَة الأقلام اه وَلما وصل الْكتاب إِلَى ولد السُّلْطَان أخرج أُولَئِكَ الرَّهْط المعتقلين إِلَى مصَارِعهمْ وَحكم السَّيْف فِي رِقَاب جَمِيعهم فَقتل عَليّ بن مُحَمَّد الهنتاني وَولده وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى القدميوي وَبَنوهُ الثَّلَاثَة عِيسَى وَعلي مَنْصُور وَابْن أَخِيه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وطير الْأَمِير عَليّ بالأعلام إِلَى وَالِده مَعَ بعض وزرائه وَهُوَ يرى أَنه قد امتثل الْأَمر واستوجب الشُّكْر فَلَمَّا وصل الرَّسُول بالْخبر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بَطش بِهِ فَقتله غيظا عَلَيْهِ وأنفذ الْبَرِيد فِي الْحَال باعتقال وَلَده وَقَامَ وَقعد لذك وَمن ذَلِك الْوَقْت قصر السُّلْطَان علامته على من يختاره من ثِقَات الْكتاب وعدولهم وَجعلهَا يَوْمئِذٍ للفقيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين وَكَانَ من الكفاة المضطلعين بِأُمُور الدولة المتحملين للكثير من أعبائها وَأما ابْن الملياني فَإِنَّهُ فر إِلَى تلمسان وَالسُّلْطَان يُوسُف محاصر لَهَا وَلما وَقع الإفراج عَنْهَا بعد حِين انْتقل إِلَى الأندلس فَبَقيَ هُنَالك إِلَى أَن توفّي بغرناطة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وَمن شعره يفخر بِهَذِهِ الفعلة وَغَيرهَا قَوْله (الْعِزّ مَا ضربت عَلَيْهِ قبابي ... وَالْفضل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ ثِيَابِي) (والزهر مَا أهداه غُصْن يراعتي ... والمسك مَا أبداه نقس كتابي) فالمجد يمْنَع أَن يزاحم موردي ... والعزم يَأْبَى أَن يضام جنابي) (فَإِذا بلوت صَنِيعَة جَازَيْتهَا ... بجميل شكري أَو جزيل ثوابي) (وَإِذا عقدت مَوَدَّة أجريتها ... مجْرى طَعَامي من دمي وشرابي) (وَإِذا طلبت من الفراقد والسهى ... ثارا فَأوشك أَن أنال طلابي) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الْحصار الطَّوِيل وَمَا تخَلّل ذَلِك من الْأَحْدَاث على تلمسان تقدم لنا أَن السُّلْطَان يُوسُف لما رَجَعَ من محاصرة تلمسان فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة مر فِي طَرِيقه بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر إِلَى نظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَأمره بشن الغارات على أَعمال بني زيان فامتثل الْأَمِير أَبُو بكر أمره وألح على النواحي بالغارات وإفساد السابلة فَضَاقَ أهل ندرومة بذلك ذرعا وأوفدوا وَفْدًا مِنْهُم على الْأَمِير أبي بكر يسألونه الْأمان لَهُم وَلمن وَرَاءَهُمْ من قَومهمْ على أَن يمكنوه من قياد بلدهم ويدينوا بِطَاعَة السُّلْطَان يُوسُف فبذل لَهُم من ذَلِك مَا ارضاهم ونهض الى الْبَلَد فدخله بعسكره وتبعهم على ذَلِك أهل تاونت فأوفد الْأَمِير أَبُو بكر جمَاعَة من أهل البلدين على أَخِيه السُّلْطَان يُوسُف فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَجَب من سنة ثَمَان وَتِسْعين الْمَذْكُورَة فادوا طاعتهم فقبلها وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الْحَرَكَة إِلَى بِلَادهمْ ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم عُثْمَان بن يغمراسن ووصفوا لَهُ من عسفه وجورة وَضَعفه عَن الحماية مَا أكد عزمه على النهوض فَنَهَضَ لحينه من فاس فِي رَجَب الْمَذْكُور بعد أَن اسْتكْمل حشده ونادى فِي قومه وَعرض عسكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم وَسَار فِي التعبية حَتَّى نزل بِسَاحَة تلمسان ثَانِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بككله وربض قبالتها على ترائبه وَأنزل محلته بفنائها وأحاط بِجَمِيعِ جهاتها وتحصن يغمراسن وَقَومه بالجدران وعولوا على الْحصار وَلما رأى السُّلْطَان يُوسُف ذَلِك أدَار سورا عَظِيما جعله سياجا على تلمسان وَمَا اتَّصل بهَا من الْعمرَان وصيرها فِي وَسطه ثمَّ أرْدف ذَلِك السُّور من وَرَائه بحفير بعيد المهوى وَفتح فِيهِ مدَاخِل لحربها ورتب على ابواب تِلْكَ المداخل مسالح تحرسه وأوعد بالعقاب من يخْتَلف إِلَى تلمسان بِرِفْق أَو يتسلل إِلَيْهَا بقوت وَأخذ بمخنقها من بَين يَديهَا وَمن خلفهَا حَتَّى لم يخلص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 إِلَيْهَا الطير لَا بل الطيف وَاسْتمرّ مُقيما عَلَيْهَا كَذَلِك مائَة شهر وَلما دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة اختط إِلَى جَانب ذَلِك السُّور بمَكَان فسطاطه وقبابه قصرا لسكانه وَاتخذ بِهِ مَسْجِدا لصلاته وأدار عَلَيْهِمَا سورا يحرزهما ثمَّ أَمر النَّاس بِالْبِنَاءِ حول ذَلِك فبنوا الدّور الواسعة والمنازل الرحيبة والقصور الأنيقة وَاتَّخذُوا الْبَسَاتِين وأجروا الْمِيَاه وَأمر السُّلْطَان باتخاذ الحمامات والفنادق والمارستان وابتنى مَسْجِدا جَامعا أَقَامَهُ على الصهريج الْكَبِير وشيد لَهُ منارا رفيعا وَجعل على رَأسه تفافيح من ذهب صير عَلَيْهَا سَبْعمِائة دِينَار ثمَّ أدَار السُّور على ذَلِك كُله فَصَارَت مَدِينَة عَظِيمَة استبحر عمرانها ونفقت أسواقها ورحل إِلَيْهَا التُّجَّار بالبضائع من جَمِيع الْآفَاق وسماها المنصورة فَكَانَت من أعظم أَمْصَار الْمغرب وأحفلها إِلَى أَن خربها آل يغمراسن عِنْد مهلك السُّلْطَان يُوسُف وارتحال جيوشه عَنْهَا وَلما تمكن السُّلْطَان يُوسُف من حِصَار تلمسان سرح كتائبه وسراياه فِي أَعمالهَا وحصونها فاستولى فِي مُدَّة قريبَة على ندرومة وهنين ووهران وتالموت وتامزردكت ومستغانم وتنس وشرشال وبرشك والبطحاء ومازونة ووانشريس ومليانة والقصبات ولمدية وتافرجينت وَجَمِيع بِلَاد بني عبد الواد وبلاد بني توجين وبلاد مغراوة وَبَايَعَهُ ابْن عَلان صَاحب الجزائر وَأخذ رعبه بملوك الناحي وَكَانَت دولة بني أبي حَفْص يَوْمئِذٍ قد انقسمت بقسمين فَصَارَ كرْسِي مِنْهَا بتونس وَآخر ببجاية فتنافس صَاحب تونس وَصَاحب بجاية فِي مصانعة السُّلْطَان يُوسُف والتقرب إِلَيْهِ بالهدايا والتحف وَصَارَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك الْوَقْت ملك الْمغرب على الْحَقِيقَة وَالْإِطْلَاق وَالله غَالب على أمره نكبة بَين وقاصة من يهود فاس كَانَ بَنو وقاصة هَؤُلَاءِ من يهود ملاح فاس وَكَانُوا مداخلين للسُّلْطَان يُوسُف من صغره إِلَى كبره وَكَانُوا يتولون قهرمة دَاره ويقضون أُمُوره الْخَاصَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 بِهِ ويخلصون إِلَى الْكثير من بَاطِن أمره قد التحموا بِهِ التحاما وامتزجوا بِهِ امتزاجا يجالسونه فِي خلواته وينادمونه فِي أنسه فَعظم جاههم عِنْد الْحَاشِيَة لإقبال السُّلْطَان عَلَيْهِم واستتبعوا الوزراء فَمن دونهم من رجال الدولة وتعددت فيهم الرؤساء والقهارمة فَكَانَ مِنْهُم خَليفَة بن وقاصة وَأَخُوهُ إبراهم وصهره مُوسَى بن السبتي وَابْن عَمه خَليفَة الْأَصْغَر وَغَيرهم واستمروا على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ إِن السُّلْطَان يُوسُف استفاق استفاقة والتفت إِلَيْهِم التفاتة وراجع بصيرته فِي شَأْنهمْ فأهمه أَمرهم وَشعر كَاتبه بذلك الْقَائِم بِأُمُور دولته أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ابي مَدين فسعى عِنْده فيهم وأوجده السَّبِيل عَلَيْهِم فسطا بهم سطوة مُنكرَة واعتقلوا فِي شعْبَان من سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة بمعسكره من حِصَار تلمسان وَقتل خليفه الْكَبِير وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن السبتي وَإِخْوَته بعد أَن امتحنوا وَمثل بهم وَأَتَتْ النكبة على حاشيتهم وأقاربهم فَلم تبْق مِنْهُم بَاقِيَة إِلَّا أَن السُّلْطَان استبقى مُهِمّ خَليفَة الْأَصْغَر احتقارا لشأنه حَتَّى كَانَ من قَتله بعد مَا نذكرهُ وعبث بسائرهم وطهرت الدولة من رجسهم وأزيل مِنْهَا معرة رياستهم والأمور بيد الله سُبْحَانَهُ ثمَّ لما كَانَت سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة توفّي عُثْمَان بن يغمراسن فِي الْحصار عقب شربة لبن يُقَال إِنَّه جعل فِيهَا سما وشربه فعل ذَلِك بِنَفسِهِ تفاديا من معرة غَلبه عدوه عَلَيْهِ فَاجْتمع بَنو عبد الواد لحينهم وَبَايَعُوا ابْنه مُحَمَّد بن عُثْمَان واجتمعوا عَلَيْهِ ثمَّ برزوا إِلَى قتال عدوهم على الْعَادة حَتَّى كَأَن عُثْمَان لم يمت وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف فتفجع على عُثْمَان وَعجب من صرامة قومه من بعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 انْتِقَاض ابْن الْأَحْمَر واستيلاء الرئيس أبي سعيد على سبتة كَانَ مُحَمَّد بن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالفقيه قد هلك سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمخلوع واستبد عَلَيْهِ كَاتبه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحَكِيم الرندي وَكَانَ من أول مَا فعله مُحَمَّد المخلوع بعد استقلاله بِالْأَمر الْمُبَادرَة إِلَى أَحْكَام عقد الْمُوَالَاة بَينه وَبَين السُّلْطَان يُوسُف فأوفد عَلَيْهِ وَزِير أَبِيه أَبَا سُلْطَان عبد الْعَزِيز بن سُلْطَان الداني ووزيره الْكَاتِب أَبَا عبد الله بن الْحَكِيم فوصلا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بمعسكره من حِصَار تلمسان فتلقاهما بِالْقبُولِ والمبرة وجددت لَهما أَحْكَام الود وَالْولَايَة وانقلبا إِلَى مرساهما خير مُنْقَلب وَطلب السُّلْطَان مِنْهُمَا أَن يمدوه بِالرجلِ من عَسْكَر الأندلس وناشبتهم المعودين منازلة الْحُصُون والمثاغرة بالرباط فأسعفوه ثمَّ فسد مَا بَينهمَا لمنافسات جرت إِلَى ذَلِك فَانْتقضَ ابْن الْأَحْمَر وَعَاد لسنة سلفه من مُوالَاة الطاغية وممالاته على الْمُسلمين أهل الْمغرب وَأحكم الْعَهْد مَعَ هراندة بن سانجة من بني أذفونش مُلُوك قشتالة خذلهم الله ثمَّ أوعز ابْن الْأَحْمَر الى ابْن عَمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل صَاحب مالقة فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْغدر بِأَهْل سبتة فَفعل وداخل فِي ذَلِك بعض عُمَّال بني العزفي بهَا فأمكنه من الْبَلَد فاقتحمها بأساطيله وجنده على حِين غَفلَة من أَهلهَا وتقبض على بني العزفي ولى حاشيتهم وأركبهم الأسطول وَبعث بهم إِلَى مالقة ثمَّ مِنْهَا إِلَى غرناطة فَتَلقاهُمْ ابْن الْأَحْمَر واحتفل لَهُم وأنزلهم بقصوره وأجرى عَلَيْهِم النَّفَقَة واستقروا بالأندلس بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ عَادوا إِلَى الْمغرب كَمَا نذْكر وَأسْندَ الرئيس أَبُو سعيد بِأَمْر سبتة وثقف أطرافها وسد ثغورها وَبلغ الْخَبَر بذلك إل السُّلْطَان يُوسُف فحمى أَنفه وَعظم عَلَيْهِ الْأَمر فَبعث وَلَده الْأَمِير أَبَا سَالم إِبْرَاهِيم فِي جَيش كثيف إِلَى حصارها وحشد إِلَيْهَا قبائل الرِّيف وقيائل تازا فَلم يغن شَيْئا وَرجع مهزوما فسخطه السُّلْطَان لذَلِك وَأَهْمَلَهُ وَبَقِي على ذَلِك الى وَفَاة السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَانَ انْتِقَاض ابْن الْأَحْمَر سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ثورة عُثْمَان بن ابي الْعَلَاء بجبال غمارة كَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن عبد الْحق من أعياص الْملك المريني وَكَانَ قد قدم من الأندلس فِي صُحْبَة الرئيس أبي سعيد عِنْد استيلائه على سبتة ثمَّ ثار بعد ذَلِك بِبِلَاد غمارة ودعا لنَفسِهِ وَبَقِي متنقلا هُنَالك مُدَّة فتغلب على تكساس وآصيلا والعرايش وانْتهى إِلَى قصر كتامة وخب فِي الْفِتْنَة وَوضع إِلَى أَن لحق بالأندلس لأوّل دولة السُّلْطَان أبي الرّبيع فولي بهَا مشيخة الْغُزَاة وَكَانَت لَهُ فِي جِهَاد الْعَدو الْيَد الْبَيْضَاء كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَفِي سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة بعث السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ محاصر لتلمسان ركب الْحَاج المغربي إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين واعتنى بشأن هَذَا الركب فَبعث مَعَهم حامية من زناتة تناهز خَمْسمِائَة فَارس من الْأَبْطَال وخاطب صَاحب الديار المصرية لعهده وهوالملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الصَّالِحِي من مماليك بني أَيُّوب المعروفين بالبحرية واستوصاه بحاج أهل الْمغرب وأتحفه بهدية استكثر فِيهَا من الْخَيل العراب والمطايا الفارهة يُقَال كَانَ عدد الْخَيل والمطايا أَرْبَعمِائَة إِلَى غير ذَلِك مَا يُنَاسب من طرف الْمغرب وماعونه وَبعث مَعَهم إِلَى حرم مَكَّة مُصحفا ضخما اعتنى بِهِ واستكتبه وَجعل لَهُ غشاء مكللا بنفيس الدّرّ وشريف الْيَاقُوت ورفيع الْأَحْجَار ونهج السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله بِهَذَا الركب والهدية السَّبِيل لحاج الْمغرب فَأَجْمعُوا الْحَج سنة أَربع بعْدهَا فَاجْتمع مِنْهُم عدد وافر وَركب ضخم فعقد السُّلْطَان يُوسُف على دلالتهم لأبي زيد الْغِفَارِيّ وفصلوا من تلمسان فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي شهر ربيع الآخر بعده قدم حَاج الركب الأول الَّذين حملُوا الْمُصحف والهدية ووفد مَعَهم على السُّلْطَان يُوسُف شرِيف مَكَّة السَّيِّد لبيدة بن أبي نمي نازعا عَن سُلْطَان التّرْك صَاحب مصر لما كَانَ قد قبض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 على أَخَوَيْهِ حميضة ورميثة بعد مهلك أَبِيهِم أبي نمي صاب مَكَّة فاستبلغ السُّلْطَان يُوسُف من إكرامه والتنويه بِقَدرِهِ وسرحه إِلَى الْمغرب ليجول فِي أقطاره وَيَطوف على معالم الْملك وقصوره وأوعز إِلَى الْعمَّال بالبرور بِهِ وإتحافه على مَا يُنَاسب قدره وَرجع هَذَا الشريف إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان من تلمسان سنة خمس وَسَبْعمائة ثمَّ فصل مِنْهَا إِلَى مشرقه وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة قدم أَبُو زيد الْغِفَارِيّ دَلِيل ركب الْحَاج الثَّانِي وَمَعَهُ بيعَة الشرفاء أهل مَكَّة للسُّلْطَان يُوسُف لما كَانَ صَاحب مصر قد آسفهم بالتقبض على إخْوَانهمْ وَكَانَ ذَلِك شَأْنهمْ مَتى غاظهم السُّلْطَان وأهدوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف ثوبا من كسْوَة الْكَعْبَة أعجب بِهِ فَاتخذ مِنْهُ ثوبا للبوسه فِي الْجمع والأعياد كَانَ يتبطنه بَين ثِيَابه تبركا بِهِ وَأما الْملك النَّاصِر صَاحب مصر فَإِنَّهُ كافأ السُّلْطَان يُوسُف على هديته بِأَن جمع من طرف بِلَاد الْمشرق مَا يستغرب جنسه وشكله من الثِّيَاب والحيوانات وَنَحْو ذَلِك مثل الْفِيل والزرافة وَنَحْوهمَا وأوفد بِهِ مَعَ عُظَمَاء دولته وفصلوا من الْقَاهِرَة آخر سنة خمس وَسَبْعمائة فوصلوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ بالمنصورة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ بعْدهَا واهتز لقدومهم وأركب النَّاس للقيهم وَأكْرم وفادتهم وبعثهم إِلَى الْمغرب للتطوف بِهِ على الْعَادة فِي مبرة أمثالهم وَهلك السُّلْطَان يُوسُف أثْنَاء ذَلِك وأفضى الْأَمر إِلَى حافده أبي ثَابت فَأحْسن منقلبهم مَلأ حقائبهم وفصلوا من الْمغرب إِلَى بِلَادهمْ فِي ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَسَبْعمائة وَلما انْتَهوا إِلَى بِلَاد بني حسن فِي ربيع من سنة ثَمَان بعْدهَا اعْتَرَضَهُمْ الْأَعْرَاب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إِلَى مصر بجريعة الذقن فَلم يعاودوا بعْدهَا إِلَى الْمغرب سفرا وَلَا لفتوا إِلَيْهِ وَجها وطالما أوفد عَلَيْهِم مُلُوك الْمغرب بعْدهَا من رجال دولتهم من يوبه لَهُ ويهادونهم ويكافئون وَلَا يزِيدُونَ فِي ذَلِك كُله على الْخطاب شَيْئا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وَفَاة السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قد اتخذ فِي جملَة حَاشِيَته ومماليكه خَصيا اسْمه سَعَادَة وَكَانَ هَذَا الْخصي قد تصير إِلَيْهِ من جِهَة أبي عَليّ الملياني أَيَّام كَانَ عَاملا لَهُ على مراكش وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ابْتِدَاء أمره يخلط الخصيان بأَهْله وَلَا يحجبهم عَن حرمه وَعِيَاله ثمَّ حدثت للسُّلْطَان رِيبَة فِي بعض الخصيان فَأعتق جملَة مِنْهُم كَانَ فيهم عنبر الْكَبِير عريفهم وحجب سَائِرهمْ فارتاعوا لذَلِك وفسدت نياتهم فسولت لهَذَا الْخصي الْخَبيث نَفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فَعمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بعض حجر قصره فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فألفاه مُسْتَلْقِيا على فرَاشه مختضبا بحناء فَوَثَبَ عَلَيْهِ وطعنه طعنات قطع بهَا أمعاءه وَخرج هَارِبا وَانْطَلق بعض الْأَوْلِيَاء فِي أَثَره فأدركه من الْعشي بِنَاحِيَة تاسلت فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى الْقصر فَقتلته العبيد والحاشية وصابر السُّلْطَان يُوسُف منيته إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ قضى رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَسَبْعمائة وقبر هُنَالك ثمَّ نقل بعد مَا سكنت الهيعة إِلَى مقبرتهم بشالة فَدفن بهَا مَعَ سلفه وأطلال ضريحه لَا زَالَت مائلة إِلَى الْآن وبموت السُّلْطَان يُوسُف انْقَضتْ مُدَّة الْحصار عَن آل يغمراسن وقومهم من بني عبد الواد وَسَائِر أهل تلمسان وَكَانَت الْمدَّة فِي ذَلِك مائَة شهر كَمَا قُلْنَا نالهم فِيهَا من الْجهد والشدة مَا لم ينل أمة من الْأُمَم واضطروا إِلَى أكل الْجِيَف والقطوط والفيران حَتَّى أَنهم أكلُوا فِيهَا أشلاء الْمَوْتَى من النَّاس وخربوا السقوف للوفود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وَسَائِر الْمرَافِق بِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 تجَاوز حد الْعَادة وَعجز وجدهم عَنْهَا فَكَانَ ثمن مكيال الْقَمْح ومقداره اثْنَا عشر رطلا وَنصف مثقالين وَنصفا من الذَّهَب الْعين وَثمن الشَّخْص الْوَاحِد من الْبَقر سِتِّينَ مِثْقَالا وَمن الضَّأْن سَبْعَة مَثَاقِيل وَنصفا وأثمان اللَّحْم من الْجِيَف الرطل من لحم البغال وَالْحمير بِثمن المثقال وَمن الْخَيل بِعشر المثقال والرطل من الْجلد البقري ميتَة أَو مذكى بِثَلَاثِينَ درهما والهر الداجي بمثقال وَنصف وَالْكَلب بِمثلِهِ والفأر بِعشْرَة دَرَاهِم والحية بِمثل ذَلِك والدجاجة بِثَلَاثِينَ درهما وَالْبيض وَاحِدَة بِسِتَّة دَرَاهِم والعصافير كَذَلِك وَالْأُوقِية من الزَّيْت بِاثْنَيْ عشر درهما وَمن السّمن بِمِثْلِهَا وَمن الشَّحْم بِعشْرين درهما وَمن الْملح بِعشْرَة دَرَاهِم وَمن الْحَطب كَذَلِك وَالْأَصْل الْوَاحِد من الكرنب بِثَلَاثَة أَثمَان المثقال وَمن الخس بِعشْرين درهما وَمن اللفت بِخَمْسَة عشر درهما والواحدة من القثاء والفقوس بِأَرْبَعِينَ درهما وَالْخيَار بِثَلَاثَة أَثمَان الدِّينَار والبطيخ بِثَلَاثِينَ ردهما والحبة من التِّين والإجاص بِدِرْهَمَيْنِ واستهلك النَّاس أَمْوَالهم وموجودهم وَضَاقَتْ أَحْوَالهم وَهَلَكت حاميتهم فاعتزموا على الْإِلْقَاء بِالْيَدِ وَالْخُرُوج للاستماتة فَهَيَّأَ الله لَهُم الصنع الْغَرِيب وَنَفس عَن مخنقهم بمهلك السُّلْطَان يُوسُف على يَد الْخصي الْمُرِيب وأذهب الله العناء عَن آل زيان وقومهم وَخَرجُوا كَأَنَّمَا نشرُوا من الْقُبُور وَكَتَبُوا بعد هَذِه الْحَادِثَة فِي سكنهم مَا أقرب فرج الله استغرابا لَهَا قَالَ ابْن خلدون حَدثنِي شَيخنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الابلي قَالَ جلس السُّلْطَان أَبُو زيان بن عُثْمَان بن يغمراسن صَبِيحَة يَوْم الْفرج وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة فِي زَاوِيَة من زَوَايَا قصره يفكر واستدعى ابْن جحاف خَازِن الزَّرْع فَسَأَلَهُ كم بَقِي من الأهراء والمطامير المختومة فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا بَقِي عولة الْيَوْم وغد فاستوصاه بكتمان ذَلِك وبينما هم يتذاكرون فِي ذَلِك دخل عَلَيْهِم أَخُوهُ أَبُو حمو فأخبروه بذلك فَوَجَمَ وجلسوا سكُوتًا لَا ينطقون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وَإِذا بدعد قهرمانة الْقصر وَكَانَت وصيفة من وصائف بنت السُّلْطَان أبي إِسْحَاق حظية أَبِيهِم قد خرجت من الْقصر إِلَيْهِم وحيتهم وَقَالَت لَهُم تَقول لكم خَطَايَا قصركم وَبَنَات زيان حرمكم مَا لنا وللبقاء وَقد أحيط بكم وأسف عَدوكُمْ لالتهامكم وَلم يبْق الأفواق نَاقَة لمصارعكم فأريحونا من معرة السَّبي وقربونا إِلَى مصارعنا وأريحوا أَنفسكُم فِينَا فالحياة فِي الذل عَذَاب والوجود بعدكم عدم فَالْتَفت أَبُو حمو إِلَى أَخِيه أبي زيان وَكَانَ من الشَّفَقَة بمَكَان فَقَالَ قد صدقتك الْخَبَر فَمَا تنْتَظر بِهن فَقَالَ يَا مُوسَى أرجئني ثَلَاثًا لَعَلَّ الله يَجْعَل بعد عسر يسرا وَلَا تشاورني بعْدهَا فِيهِنَّ بل سرح الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى قتلهن وَتَعَالَى إِلَيّ نخرج مَعَ قَومنَا إِلَى عدونا فنستميت وَيَقْضِي الله مَا شَاءَ فَغَضب أَبُو حمو وَأنكر عَلَيْهِ التَّأْخِير فِي ذَلِك وَقَالَ إِنَّمَا نَحن وَالله نتربص المعرة بِهن وبأنفسنا وَقَامَ عَنهُ مغضبا وجهش السُّلْطَان أَبُو زيان بالبكاء قَالَ أَيْن جحاف وَأَنا بمكاني بَين يَدَيْهِ لَا أملك مُتَأَخِّرًا وَلَا مُتَقَدما إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ النّوم فَمَا راعني إِلَّا حرسي يالباب يُشِير إِلَيّ أَن أعلم السُّلْطَان بمَكَان رَسُول جَاءَ من محلّة بني مرين وَهَا هُوَ بسدة الْقصر قَالَ ابْن جحاف فَلم أطق رد جَوَابه إِلَّا بِالْإِشَارَةِ وانتبه السُّلْطَان من همسنا فَزعًا فأعلمته فاستدعاه للحين فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب هلك السَّاعَة وَأَنا رَسُول حافده أبي ثَابت إِلَيْكُم فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان أَبُو زيان واستدعى أَخَاهُ وَقَومه حَتَّى بلغ الرَّسُول الْمَذْكُور رسَالَته بمسمع مِنْهُم فَكَانَت إِحْدَى المغربات فِي الْأَيَّام وَكَانَ من خبر هَذِه الرسَالَة أَن السُّلْطَان يُوسُف لما هلك تطاول لِلْأَمْرِ بعده القربابه من إخْوَته وَولده وحفدته وتحيز حافده أَبُو ثَابت إِلَى بني ورتاجن لخؤلة كَانَت لَهُ فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وَبعث إِلَى بني زيان أَن يعطوه آلَة الْحَرْب ويكونوا مفزعا لَهُ إِن أخفق مسعاه على أَنه إِن تمّ أمره قوض عَنْهُم معسكر بني مرين وَأَفْرج عَنْهُم فعاقدوه على ذَلِك فوفى لَهُم لما تمّ أمره وَنزل لَهُم عَن جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي كَانَ السُّلْطَان يُوسُف غلب عَلَيْهَا من بِلَادهمْ ورحلوا إِلَى مغربهم وَالله غَالب على أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان يُوسُف وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله أَبيض حسن الْقد مليح الْوَجْه أقنى الْأنف مهيبا لَا يكَاد أحد يبدأه بالْكلَام جوادا مشفقا على الرّعية متفقدا لأحوالها شجاعا شهما ذَا عَزِيمَة (إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ همه ... ونكب عَن ذكر العواقب جانبا) وَهُوَ أول من هذب ملك بني مرين وأكسبه رون لحضارة وبهاء الْملك وَكَانَ غليظ الْحجاب لَا يكَاد يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بعد الْجهد وَمن أَعْيَان كِتَابه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَمن أَعْيَان شعرائه أَبُو الحكم مَالك بن المرحل السبتي وَأَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي المكناسي وَغَيرهمَا وَالله تَعَالَى أعلم ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق كَانَ الرخَاء المفرط بالمغرب بِحَيْثُ كَانَ الدَّقِيق يُبَاع بفاس وَغَيرهَا ربع مِنْهُ بدرهم والقمح سِتَّة دَرَاهِم للصحفة وَالشعِير ثَلَاثَة دَرَاهِم للصحفة وَأما القطاني فَلم يكن لَهَا ثمن وَالْعَسَل ثَلَاثَة أَرْطَال بدرهم وَالزَّيْت أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة بدرهم وَالزَّبِيب دِرْهَم وَنصف للربع وَالثَّمَر ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم واللوز صَاع بدرهم والشابل الطري فردة بقيراط وَالْملح حمل بدرهم وَلحم الْبَقر مائَة أُوقِيَّة بدرهم وَلحم الضَّأْن سَبْعُونَ أُوقِيَّة بدرهم والكبش بِخَمْسَة دَرَاهِم وَهَكَذَا وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وستمائه ظهر النَّجْم أَبُو الذوائب وَكَانَ ابْتِدَاء ظُهُوره لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَبَقِي يطلع كل لَيْلَة وَقت السحر نَحوا من عشْرين يَوْمًا وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة كَانَ دُخُول الشريف الْمولى حسن بن قَاسم الحسني من أَرض يَنْبع الْحجاز إِلَى سجلماسة وَهَذَا الشريف هُوَ جد الْأَشْرَاف العلويين السجلماسيين مُلُوك الْمغرب الْأَقْصَى فِي عصرنا هَذَا أَعلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 الله تَعَالَى قدرهم وخلد مجدهم وفخرهم وَعند الْكَلَام على دولتهم السعيدة نذْكر كَيْفيَّة دُخُول هَذَا الشريف إِلَى الْمغرب وَالسَّبَب فِيهِ إِن شَاءَ الله وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة سرق من بَيت المَال بقصبة فاس اثْنَا عشر ألف دِينَار وَثَلَاث قلائد يساوين أَكثر من ذَلِك وَفِي حُدُود السّبْعين وسِتمِائَة كَانَ ظُهُور البارود على مَا مر من أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فتح بِهِ سجلماسة فِي هَذِه الْمدَّة وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بنى الْمَسْجِد الْجَامِع بفاس الْجَدِيد وَفِي سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة علقت بِهِ ثرياه وَذَلِكَ يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول مِنْهَا وَوزن هَذِه الثريا سَبْعَة قناطير وَخَمْسَة عشر رطلا وَعدد كؤوسها مِائَتَا كأس بالتثنية وَسبع وَثَمَانُونَ كأسا وفيهَا كَانَ الْجَرَاد الْعَام بالمغرب أكل الجسر وَالزَّرْع وَلم يتْرك خضراء على وَجه الأَرْض وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للصاع وَفِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قنطرة وَادي النجَاة وقنطرة ماريج وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَ بالمغرب قحط شَدِيد لم ير النَّاس قَطْرَة مَاء حَتَّى كَانَ الْيَوْم السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي توفيت فِيهِ الْحرَّة أم الْعِزّ بنت مُحَمَّد بن حَازِم العلوية من بني عَليّ بن عَسْكَر وَهِي أم السُّلْطَان يُوسُف فغاث الله الْعباد وأحيى برحمته الْبِلَاد وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قَصَبَة تطاوين وفيهَا ركبت الناعورة الْكُبْرَى على وَاد فاس شرع فِي عَملهَا فِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ودارت فِي صفر من السّنة بعْدهَا وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بني سور قصر الْمجَاز وَركبت أبوابه وفيهَا غرس بُسْتَان المصارة بفاس الْجَدِيد وبنيت الدَّار الْبَيْضَاء بهَا أَيْضا وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَت الرّيح الشرقية المتوالية الهبوب وَنَشَأ عَنْهَا الْقَحْط الشَّديد وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى آخر سنة تسعين بعْدهَا فرحم الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 بِلَاده وعباده وفيهَا توفّي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر بالكندرتين من بِلَاد بني بهْلُول من أحواز فاس وَلَعَلَّ أَبَا يَعْقُوب هَذَا هُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْحمة الَّتِي قدمنَا الْكَلَام عَلَيْهَا فِي أَخْبَار الْمَنْصُور الموحدي وَالله أعلم وفيهَا بني الْمَسْجِد الْجَامِع بِمَدِينَة تازا وبنيت قبَّة مكناسة الزَّيْتُون ورباعها وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة أَمر السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بِعَمَل المولد النَّبَوِيّ وتعظيمه والاحتفال لَهُ وصيره عيدا من الأعياد فِي جَمِيع بِلَاده وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الْأَمر بِهِ قد صدر عَنهُ وَهُوَ بصبره من بِلَاد الرِّيف فِي آخر صفر من السّنة فوصل برسم إِقَامَته بِحَضْرَة فاس الْفَقِيه ابو يحيى بن أبي الصَّبْر وَاعْلَم أَنه قد كَانَ سبق السُّلْطَان يُوسُف إِلَى هَذِه المنقبة المولدية بَنو العزفي أَصْحَاب سبتة فهم أول من أحدث عمل المولد الْكَرِيم بالمغرب وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة كَانَ كسوف الشَّمْس وَذَلِكَ قرب زَوَال يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة كسف مِنْهَا نَحْو الثُّلثَيْنِ وَصلى بِالنَّاسِ صَلَاة الْكُسُوف بِجَامِع الْقرَوِيين من فاس الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن أبي الصَّبْر حَتَّى انجلت فَخرج من الْمِحْرَاب ووقف بإزائه فوعظ النَّاس وَذكرهمْ فِي هَذِه السّنة رفعت أَيدي الموثقين من الشَّهَادَة بفاس وَلم يبْق بهَا مِنْهُم سوى خَمْسَة عشر رجلا من أهل الْعَدَالَة والمعرفة وَكَانُوا قيل ذَلِك أَرْبَعَة وَتِسْعين وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا كَانَت الْجَمَاعَة الشَّدِيدَة والوباء الْعَظِيم عَم ذَلِك بِلَاد الْمغرب وإفريقية ومصر فَكَانَت الْمَوْتَى تحمل اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة على المغتسل وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للمد والدقيق سِتّ أَوَاقٍ بدرهم وَأمر السُّلْطَان يُوسُف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 بتبديل الصيعان وَجعلهَا على مد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ذَلِك بالحضرة على يَد الْفَقِيه ابي فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الشَّاعِر الْمَشْهُور ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فِيهَا صلح أَمر النَّاس وانجبرت أَحْوَالهم ورخصت الأسعار فِي جَمِيع الْأَمْصَار فَبيع الْقَمْح بِعشْرين درهما للصحفة وَفِي هَذِه السّنة كسفت الشَّمْس أَيْضا الْكُسُوف الْكُلِّي بِحَيْثُ غَابَ قرص الشَّمْس كُله وَصَارَ النَّهَار لَيْلًا كالحالة الَّتِي تكون مَا بَين العشاءين وَظَهَرت النُّجُوم وماج النَّاس وَضَاقَتْ نُفُوسهم وَلَوْلَا أَن الله سُبْحَانَهُ تداركهم بِسُرْعَة انجلائها لهلكوا جزعا وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة ظهر الثُّلَاثَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَتِسْعين الْمَذْكُورَة وَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب مدينته المنصورة بِإِزَاءِ تلمسان وَهُوَ محاصر لَهَا الْحصار الطَّوِيل حَسْبَمَا مر الْخَبَر على ذَلِك مُسْتَوفى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي ثَابت عَامر بن عبد الله ابْن يُوسُف ابْن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قد تقدم لنا أَن أَبَا عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف كَانَ قد انتبذ عَن أَبِيه وَبَقِي متنقلا فِي جِهَات الرِّيف وبلاد غمارة إِلَى أَن هلك فِي بِلَاد بني سعيد مِنْهُم وَأَنه خلف ثَلَاثَة أَوْلَاد أحدهم أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله هَذَا الَّذِي ولي الْأَمر بعد جده وَذَلِكَ أَنه لما هلك السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله بالمنصورة كَمَا تقدم كَانَ حافده أَبُو ثَابت هَذَا فِي جملَته وَكَانَ لَهُ فِي بني ورتاجن من أهل تِلْكَ الْبِلَاد خؤلة فلحق بهم ودعا لنَفسِهِ فَبَايعُوهُ وَقَامُوا مَعَه فِي أمره وَبَايَعَهُ مَعَهم أَشْيَاخ بني مرين وَالْعرب بِظَاهِر المنصورة يَوْم الْخَمِيس ثَانِي يَوْم وَفَاة جده يُوسُف وبادر الْحَاشِيَة والوزراء وَمن شايعهم بداخل المنصورة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي سَالم بن السُّلْطَان يُوسُف وَكَاد أَمر بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 مرين يفْسد وكلمتهم تتفرق فَبعث السُّلْطَان أَبُو ثَابت لحينه وَكَانَ شهما مقداما إِلَى صَاحِبي تلمسان أبي زيان وَأبي حمو ابْني عُثْمَان بن يغمراسن فعقد لَهما عهدا على أَن يرحل عَنْهُم بجموعه وَأَن يمدوه بالآلة ويرفعوا لَهُ كسر بَيتهمْ ويضموه إِلَيْهِم إِن خَابَ أمله وَلم يتم لَهُ أَمر فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَحضر العقد أَبُو حمو فأحكمه وَشرط عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو ثَابت أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمدينة جده المنصورة بِسوء وَأَن يتعاهدوا مساجدها وقصورها بالإصلاح وَأَن من أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا من أَهلهَا فَمَا لأحد عَلَيْهِ من سَبِيل لِأَن النَّاس كَانُوا قد استوطنوها وألفوها وطاب مقامهم بهَا وتأثلوا بهَا الأثاث وَالْمَتَاع والخرثي وَسَائِر الماعون مِمَّا يثبط المرتحل ويثقل جنَاح الناهض فَقبل أَبُو حمو ذَلِك كُله وتفرغ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لشأنه وَجمع كلمة قومه واختل أَمر أبي سَالم فَلم يتم وَكتب السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى حامية بني مرين وحصصها الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي الثغور الشرقية الَّتِي استولى عَلَيْهَا السُّلْطَان يُوسُف أَيَّام حَيَاته فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَنْسلونَ من كل حدث وَأَسْلمُوا الْبِلَاد إِلَى أَهلهَا من بني عبد الواد وَقتل السُّلْطَان أَبُو ثَابت عَمه أَبَا سَالم بن يُوسُف ثمَّ أتبعه بعم أَبِيه أبي بكر بن يَعْقُوب فِي آخَرين من الْقَرَابَة وَغَيرهم مِمَّن يتَوَقَّع مِنْهُ الشَّرّ وفر بَقِيَّة الْقَرَابَة خشيَة على أنفسهم من سطوة أبي ثَابت فَلَحقُوا بعثمان بن أبي الْعَلَاء الثائر بجبال غمارة من عهد السُّلْطَان يُوسُف فشايعوه على أمره وتقوى بهم على مَا نذكرهُ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي جموع لاتحصى وأمم لَا تستقصى فعيد عيد الْأَضْحَى من سنة سِتّ وَسَبْعمائة فِي طَرِيقه بن تلمسان ووجدة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ نَهَضَ بعد ذَلِك إِلَى مراكش على مَا نذكرهُ وَلما علم بَنو يغمراسن أَن أَبَا ثَابت قد أبعد عَنْهُم وَأَنه توغل فِي الْبِلَاد المراكشية واشتغل بحروب الثائرين بهَا عَمدُوا إِلَى المنصورة فَجعلُوا عاليها سافلها وطمسوا معالمها ومحوا آثارها فَأَصْبَحت كَأَن لم تغن بالْأَمْس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد ابْن عبد الْحق وَمَا كَانَ من أمره كَانَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لما فصل من تلمسان قدم بَين يَدَيْهِ ابْن عَمه الْحسن بن عَامر بن عبد الله بن يَعْقُوب وَأمره بِالنّظرِ فِي أَحْوَال فاس وَالْمغْرب وَأمره بضبطها وتسريح سجونها ورد مظالمها وتفريق الْأَمْوَال على الْخَاصَّة والعامة فَفعل وَلما قدم حَضْرَة فاس عقد لِابْنِ عَمه يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بن عبد الْحق على مراكش ونواحيها وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أحوالها وضبطها صَمد إِلَيْهَا واحتل بهَا وَتمكن مِنْهَا ثمَّ حدثته نَفسه بالإنتزاء فاستلحق واستركب وَاتخذ الْآلَة وجاهر بالخلعان وتقبض على الْوَالِي بمراكش الْحَاج المسعود فَقتله من تَحت السِّيَاط فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسَبْعمائة ودعا لنَفسِهِ واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي ثَابت وَهُوَ بفاس فسرح إِلَيْهِ وزيره يُوسُف بن عِيسَى بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة وَيَعْقُوب بن آصناك فِي خَمْسَة آلَاف فَارس فَسَارُوا إِلَى مراكش وبرز يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد إِلَى حربهم وَعبر إِلَيْهِم وَادي أم الرّبيع فَالْتَقوا مَعَه على ضفته الشرقية فهزموه وَعَاد إِلَى مراكش وَاتبعهُ الْوَزير وَدخل ابْن أبي عياد مراكش فَقتل جمَاعَة من جند الفرنج الَّذين بهَا وسبى ذَرَارِيهمْ وَخرج مِنْهَا إِلَى أغمات فَلم يسْتَقرّ بهَا ثمَّ إِلَى جبال هسكورة فَنزل على كبيرها مخلوف بن هنو الهسكوري وَلحق بِهِ مُوسَى بن سعيد الصبيحي من أغمات تدلى من سورها فلحق بِهِ وَدخل السُّلْطَان أَبُو ثَابت مراكش منتصف رَجَب من سنة سبع وَسَبْعمائة وَأمر بقتل أوربة المداخلين لِابْنِ أبي عياد فِي انتزائه فاستلحموا جَمِيعًا وَلما لحق ابْن أبي عياد بمخلوف بن هنو الهسكوري واستجار بِهِ فَلم يجره على السُّلْطَان أبي ثَابت بل قبض عَلَيْهِ مَعَ ثَمَانِيَة من كبار أَصْحَابه وبعثهم فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 الْحَدِيد إِلَيْهِ وَهُوَ بمراكش فَقتلُوا فِي مصرع وَاحِد بعد أَن مثل بهم بالسياط وَبعث بِرَأْس ابْن أبي عياد إِلَى فاس فطيف بِهِ وَنصب على سورها ثمَّ أثخن أَبُو ثَابت فِي كل من كَانَ على رَأْي ابْن أبي عياد وخاض مَعَه فِي الْفِتْنَة فاستلحم مِنْهُم بمراكش مَا ينيف على الستمائة وصلبهم على سورها من بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش إِلَى برج دَار الْحرَّة عزونه وَقتل فِي أغمات مِنْهُم مثل ذَلِك وَخرج منتصف شعْبَان إِلَى منازلة السكسيوي وتدويخ جِهَات مراكش فَنزل بتامزوارت وتلقاه السكسيوي بالبيعة والهدية والضيافة فَقبل السُّلْطَان أَبُو ثَابت ذَلِك مِنْهُ ثمَّ بعث قائده يَعْقُوب بن آصناك فِي جَيش من ثَلَاثَة آلَاف فَارس إِلَى بِلَاد حاحة برسم غَزْو قبائل زكنة فَفرُّوا بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخلُوا بِلَاد الْقبْلَة وَانْقطع أَثَرهم وَرجع إِلَى معسكر السُّلْطَان بتامزوارت وَأخْبرهُ بِسُكُون الْبِلَاد وأمنها فانكفأ السُّلْطَان أَبُو ثَابت رَاجعا إِلَى مراكش فَدَخلَهَا غرَّة رَمَضَان من سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ خرج مِنْهَا فِي منتصفه قَاصِدا رِبَاط الْفَتْح فاجتاز على بِلَاد صنهاجة وَعبر وَادي أم الرّبيع من مشرع كتامة فِي القوارب لزِيَادَة المَاء يَوْمئِذٍ ثمَّ ارتحل فاجتاز بِبِلَاد تامسنا فَتَلقاهُ بهَا عرب جشم من قبائل الْخَلْط وسُفْيَان وَبني جَابر والعاصم فاستصحبهم مَعَه إِلَى مَدِينَة آنفي بعد أَن استأذنوه فِي الرُّجُوع فَلم يَأْذَن لَهُم وَلما أحتل بآنفي دَعَا بأشياخهم فَحَضَرُوا عِنْده فَقبض على سِتِّينَ مِنْهُم أودعهم سجن آنفى وَضرب أَعْنَاق عشْرين من فسادهم القاطعين للسبل وصلبهم على سور آنفى ثمَّ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فدخله فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان فعيد هُنَالك عيد الْفطر وَقتل بِهِ ثَلَاثِينَ من فتاك لعرب المتهمين بالحرابة وَقطع الطَّرِيق وصلبهم على أسوار العدوتين ثمَّ ارتحل منتصف شَوَّال لغزو عرب ريَاح الموطنين بِأبي طَوِيل وفحص آزغار وبلاد الهبط فغزاهم وَأَخذهم بالإجن الْقَدِيمَة فَقتل مِنْهُم خلقا وسبى ذَرَارِيهمْ وانتهب أَمْوَالهم ونهض إِلَى فاس فاحتل بهَا منتصف ذِي الْقعدَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى ثمَّ نَهَضَ إِلَى سبتة على مَا نذكرهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 غَزْو السُّلْطَان أبي ثَابت بِلَاد غمارة وسبتة ومحاصرته لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ قد ورد من الأندلس صُحْبَة الرئيس أبي سعيد بن الْأَحْمَر المتغلب على سبتة أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف وَأَنه ثار بجبال غمارة ودعا لنَفسِهِ واستحوذ عَلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف بلغه خَبره وأهمه شَأْنه إِلَّا أَنه كَانَ يَرْجُو أَن يفتح تلمسان عَن قريب ثمَّ ينْهض إِلَيْهِ فعاجله الْحمام دون ذَلِك وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي ثَابت وَقدم حَضْرَة فاس شغله عَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء مَا كَانَ من ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بمراكش كَمَا قدمْنَاهُ فعقد على حَرْب عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِابْنِ عَمه عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق فزحف إِلَيْهِ ونهض عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء الى لِقَائِه منتصف ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسَبْعمائة فَهَزَمَهُ عُثْمَان بن ابي الْعَلَاء واستلحم من كَانَ مَعَه من جند الفرنج وَهلك فِي تِلْكَ الْوَقْعَة عبد الْوَاحِد الفودودي من رجالات الدولة المرشحين للوزارة وَسَار عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى قصر كتامة فدخله وَاسْتولى على جهاته وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال وعَلى أثر ذَلِك كَانَ رُجُوع السُّلْطَان أبي ثَابت من غزَاة مراكش وَقد حسم الدَّاء ومحى أثر النِّفَاق فاعتزم على النهوض إِلَى بِلَاد غمارة ليمحو مِنْهَا أثر دَعْوَة ابْن أبي الْعَلَاء الَّتِي كَادَت تلج عَلَيْهِ دَار ملكه ويستخلص سبتة من يَد ابْن الْأَحْمَر المتغلب عَلَيْهَا لِأَنَّهَا صَارَت ركابا لمن يروم الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْقَرَابَة المستقرين وَرَاء الْبَحْر غزَاة فِي سَبِيل الله فَنَهَضَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت من فاس عقب عيد الْأَضْحَى من سنة سبع وَسَبْعمائة حَتَّى انْتهى إِلَى قصر كتامة فَتلوم بِهِ ثَلَاثًا حَتَّى تلاحق بِهِ قبائل مرين وَالْعرب وَالرُّمَاة من سَائِر الْبِلَاد فَعرض جَيْشه وارتحل قَاصِدا جبال غمارة وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء قد فر أَمَامه إِلَى نَاحيَة سبتة فَسَار السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي أَتْبَاعه حَتَّى نَازل حصن علودان واقتحمه عنْوَة واستلحم بِهِ زهاء أَرْبَعمِائَة ثمَّ نَازل بلد الدمنة على شاطئ الْبَحْر فَقتل الرِّجَال وسبى النِّسَاء والذرية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وانتهب الْأَمْوَال وَكَانُوا قد تمسكوا بِطَاعَة ابْن أبي الْعَلَاء وأجازوه إِلَى الْقصر فِي وسط بِلَادهمْ وبالغوا فِي تضييفه وإكرامه ودخلوا مَعَه الْقصر وآصيلا ونهبوا كثيرا من مَال أهلهما ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وتحصن ابْن أبي الْعَلَاء بسبتة مَعَ أوليائه من ابْن الْأَحْمَر وسرح السُّلْطَان أَبُو ثَابت عسكره فتفرقت فِي نواحي سبتة بالغارات واكتساح الْأَمْوَال بِنَاء مَدِينَة تطاوين ثمَّ أَمر السُّلْطَان باختطاط مَدِينَة تطاوين لنزول عسكره وللأخذ بمخنق سبتة هَكَذَا عِنْد ابْن أبي زرع وَابْن خلدون وَاعْلَم أَن تطاوين هَذِه هِيَ تطاوين الْقَدِيمَة وَقد تقدم لنا أَن قصبتها بنيت فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ثمَّ بنى السُّلْطَان أَبُو ثَابت هَذِه الْمَدِينَة عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّارِيخ الَّذِي هُوَ فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَكَانَ بناؤها خَفِيفا شبه الْقرْيَة عدا قصبتها فَإِن بناءها كَانَ محكما وثيقا واستمرت هَذِه الْمَدِينَة عامرة إِلَى صدر الْمِائَة التَّاسِعَة فخربت ثمَّ جدد بناؤها بعد نَحْو تسعين سنة حَسْبَمَا يَأْتِي الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالُوا وَلَفظ تطاوين مركب من كَلِمَتَيْنِ تبط وَمَعْنَاهَا فِي لِسَان البربر الْعين ووين وَهِي كِنَايَة عَن الْمُخَاطب نَحْو يَا فلَان وَمَا أشبه ذَلِك قَالُوا وَالسَّبَب فِي تَسْمِيَتهَا بذلك أَنهم فِي وَقت اختطاطهم لَهَا كَانُوا يضعون الحرس على تطاوين أَي يَا فلَان افْتَحْ عَيْنك لِأَن عَادَة الحارس أَن يَقُول ذَلِك فَصَارَ هَذَا بَعضهم تيط مَعْنَاهَا الْعين ووين مَعْنَاهَا المقلة وَمعنى مَجْمُوع الْكَلِمَتَيْنِ مقلة الْعين وَالْإِضَافَة مَقْلُوبَة كَمَا هِيَ فِي لِسَان بعض الْأُمَم العجمية فَإِنَّهُ لَا مُسْتَند لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وَلما شرع السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي بِنَاء مَدِينَة تطاوين أوفد كَبِير الْفُقَهَاء بمجلسه أَبَا يحيى بن أبي الصَّبْر إِلَى ابْن الْأَحْمَر صَاحب سبتة فِي شَأْن النُّزُول لَهُ عَن الْبَلَد وَأقَام هُوَ بقصبة طنجة ينْتَظر الْجَواب بِمَاذَا يكون وَفِي أثْنَاء ذَلِك مرض مرض مَوته وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من شهر صفر سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَدفن بِظَاهِر طنجة ثمَّ حمل شلوه بعد أَيَّام إِلَى مدفن آبَائِهِ بشالة فووري هُنَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن أبي عَامر عبد الله بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله لما هلك السُّلْطَان أَبُو ثَابت تصدى للْقِيَام بِالْأَمر عَمه عَليّ بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن زريقاء وَهِي أمه وعَلى هَذَا هُوَ الَّذِي قتل شُيُوخ المصامدة بِكِتَاب ابْن الملياني كَمَا تقدم وخلص الْمَلأ من بني مرين أهل الْحل وَالْعقد إِلَى أبي الرّبيع الْمَذْكُور أخي أبي ثَابت فَبَايعُوهُ واستتب أمره فتقبض على عَمه عَليّ بن زريقاء وسجنه بطنجة فَبَقيَ مسجونا بهَا إِلَى أَن هلك سنة عشر وَسَبْعمائة وَبث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْعَطاء فِي النَّاس وأجزل الصلات فأرضى الْخَاصَّة والعامة وَصفا لَهُ الْأَمر ثمَّ ارتحل نَحْو فاس واستدعى من كَانَ بمحلة تطاوين من الْجند فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وأرضاهم بِالْمَالِ كَذَلِك وَلما فصل من طنجة تبعه عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من سبتة فِي جَيش كثيف ليضْرب فِي محلته لَيْلًا فَنَذر بِهِ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الرّبيع فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على صهوات خيولهم فوافاهم عُثْمَان بِسَاحَة علودان وهم على ذَلِك فناجزهم الْحَرْب فهزموه وتقبض على وَلَده وَكثير من عسكره وَقتل آخَرُونَ وَكَانَ للسُّلْطَان أبي الرّبيع الظُّهُور الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَوصل أَبُو يحيى بن أبي الصَّبْر من الأندلس وَقد أحكم عقدَة الصُّلْح مَعَ ابْن الْأَحْمَر صَاحب غرناطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وَلما رأى عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء ذَلِك سقط فِي يَده وأيس من الْمغرب فَعبر الْبَحْر فِيمَن مَعَه من الْقَرَابَة إِلَى الأندلس وَولي مشيخة الْغُزَاة بهَا فَكَانَت لَهُ فِي جِهَاد الْعَدو الْيَد الْبَيْضَاء وَعلا أمره بالأندلس وزاحم بني الْأَحْمَر مُلُوكهَا فِي رياستهم وجبايتهم حَتَّى كَاد يستولي على الْأَمر من أَيْديهم وشرقوا بدائه ومارسهم ومارسوه مُدَّة طَوِيلَة وَعدلُوا فِي أمره إِلَى المصانعة والمجاملة فِي أَخْبَار لَيْسَ جلبها من غرضنا إِلَى أَن توفّي لَكنا نذْكر من ذَلِك أنموذجا يسْتَدلّ بِهِ الْوَاقِف عَلَيْهِ على مَا وَرَاءه فَنَقُول لما توفّي عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء رَحمَه الله كتب على قَبره مَا صورته هَذَا قبر شيخ الحماة وَصدر الْأَبْطَال والكماة وَاحِد الْجَلالَة لَيْث الْإِقْدَام والبسالة علم الْأَعْلَام حامي ذمار الْإِسْلَام صَاحب الْكَتَائِب المنصورة وَالْأَفْعَال الْمَشْهُورَة والمغازي المسطورة وَإِمَام الصُّفُوف الْقَائِم بِبَاب الْجنَّة تَحت ظلال السيوف سيف الْجِهَاد وقاصم الأعاد وَأسد الآساد العالي الهمم الثَّابِت الْقدَم الْهمام الْمَاجِد الأرضى البطل الباسل الأمضى الْمُقَدّس المرحوم أبي سعيد عُثْمَان ابْن الشَّيْخ الْجَلِيل الْهمام الْكَبِير الْأَصِيل الشهير الْمُقَدّس المرحوم أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن عبد الله بن عبد الْحق كَانَ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة أنفقهُ مَا بَين رَوْحَة فِي سَبِيل الله وغدوة حَتَّى استوفى فِي المشهورر سَبْعمِائة واثنتين وَثَلَاثِينَ غَزْوَة وَقطع عمره مُجَاهدًا مُجْتَهدا فِي طَاعَة الرب محتسبا فِي إدارة الْحَرْب ماضي العزائم فِي جِهَاد الْكفَّار مصادما بَين جموعهم تدفق التيار وصنع الله تَعَالَى لَهُ فيهم من الصَّنَائِع الْكِبَار مَا سَار ذكره فِي الأقطار أشهر من الْمثل السيار حَتَّى توفّي رَحمَه الله وغبار الْجِهَاد طي أثوابه وَهُوَ مراقب لطاغية الْكفَّار وأحزابه فَمَاتَ على مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَفِي ملحمة الْجِهَاد قَبضه الله إِلَيْهِ واستأثر بِهِ سعيدا مرتضى وسيفه على رَأس ملك الرّوم منتضى مُقَدّمَة قبُول وإسعاد ونتيجة جِهَاد وجلاد ودليلا على نِيَّته الصَّالِحَة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله برحمة من عِنْده توفّي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي لذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وَأما السُّلْطَان أَبُو الرّبيع فَإِنَّهُ لما سَار عَن طنجة دخل حَضْرَة فاس حادي عشر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا سنة المولد الْكَرِيم وَفرق الْأَمْوَال واستقامت الْأُمُور وتمهد الْملك وَعقد السّلم مَعَ صَاحب تلمسان أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن وَأقَام وادعا بِحَضْرَتِهِ مجتنيا ثَمَرَة ملكه وَكَانَ فِي أَيَّامه غلاء إِلَّا أَن النَّاس انفتحت لَهُم فِيهَا أَبْوَاب المعاش والترف حَتَّى تغَالوا فِي أَثمَان الْعقار فبلغت قيمتهَا فَوق الْمُعْتَاد حَتَّى لقد بيع كثير من الدّور بفاس بِأَلف دِينَار من الذَّهَب الْعين وتنافس النَّاس فِي الْبناء فاتخذوا الْقُصُور المشيدة وتأنفوا فِيهَا بالزليج والرخام وأنواع النقوش وتناغو فِي لبس الْحَرِير وركوب الفاره وَأكل الطّيب واقتناء الْحلِيّ من الذَّهَب وَالْفِضَّة واستبحر الْعمرَان وَظَهَرت الزِّينَة والأمور كلهَا بيد الله تَعَالَى نكبة الْفَقِيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين واستئصال بني وقاصة الْيَهُودِيين بعد ذَلِك كَانَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين شُعَيْب بن مخلوف من بني أبي عُثْمَان إِحْدَى قبائل كتامة المجاورين للقصر الْكَبِير وَكَانَ بَيته بَيت الْعلم وَالدّين واتصلوا خدمَة بني مرين أَيَّام دُخُولهمْ الْمغرب واستيلائهم عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا من خَاصَّة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب وَجعل بِيَدِهِ وضع الْعَلامَة على الرسائل وفوض إِلَيْهِ فِي حسبان الْخراج وَالضَّرْب على أَيدي الْعمَّال وتنفيذ الْأَوَامِر بِالْقَبْضِ والبسط فيهم واستخلصه لمناجاته والإفضاء إِلَيْهِ بسره وَلما هلك السُّلْطَان يُوسُف وَولي بعده السُّلْطَان أَبُو ثَابت ضاعف رُتْبَة هَذَا الرجل وشفع لَدَيْهِ حَظه ومنصبه وَرفع على الأقدار قدره ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ أَبُو الرّبيع فسلك فِيهِ مَذْهَب سلفه واضطلع أَبُو مُحَمَّد بن أبي مَدين بِأُمُور دولته وَكَانَ بَنو وقاصة الْيَهُود حِين نكبوا أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف يرَوْنَ أَن نكبتهم كَانَت بسعاية أبي مُحَمَّد فيهم وَكَانَ خَليفَة الْأَصْغَر مِنْهُم قد أفلت من تِلْكَ النكبة كَمَا ذَكرْنَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع اسْتعْمل خَليفَة هَذَا بداره فِي بعض المهن فباشر الْأُمُور وترقى فِيهَا حَتَّى اتَّصل بالسلطان فَجعل غَايَة قَصده السّعَايَة بِأبي مُحَمَّد بن أبي مَدين وَكَانَ يُؤثر عَن السُّلْطَان أبي الرّبيع أَنه يختلي مَعَ حرم حَاشِيَته وتعرف خَليفَة ذَلِك من مقالات النَّاس فَدس إِلَى السُّلْطَان بِأَن ابْن أبي مَدين يعرض باتهامك فِي ابْنَته وَأَن صَدره قد وغر لذَلِك وَأَنه مترصد بالدولة ومتربص بهَا الدَّوَائِر فتمكنت سعايته من السُّلْطَان وَظن أَنه صَادِق وَكَانَ يخْشَى غائلة ابْن أبي مَدين بِمَا كَانَ لَهُ من الوجاهة فِي الدولة ومداخلة الْقَبِيل فاستعجل السُّلْطَان أَبُو الرّبيع دفع غائلته ودس إِلَى قَائِد جند الفرنج بقتْله فَسَار إِلَيْهِ ولقيه بمقبرة الشَّيْخ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ فرصده وَأَتَاهُ من خَلفه فطعنه طعنة كبته على ذقنه واحتز رَأسه وألقاه بَين يَدي السُّلْطَان أبي الرّبيع وَدخل الْوَزير سُلَيْمَان بن يرزيكن فَوجدَ الرَّأْس بَين يَدَيْهِ فَذَهَبت نَفسه عَلَيْهِ وعَلى مَكَانَهُ من الدولة حسرة وأسفا وَأَيْقَظَ السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وأطلعه على خبثه وَأخرج لَهُ بَرَاءَة كَانَ بعث بهَا ابْن أبي مَدين مَعَه إِلَى السُّلْطَان يتنصل فِيهَا وَيحلف على كذب مَا رمي بِهِ عِنْده فَتنبه السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وَعلم أَنه قد خدعه وَنَدم حَيْثُ لم يَنْفَعهُ النَّدَم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وحاشيته من الْيَهُود المتصدين للْخدمَة وسطا بهم سطوة الهلكة فَأَصْبحُوا مثلا للآخرين انْتِقَاض أهل سبتة على بني الْأَحْمَر ومراجعتهم طَاعَة بني مرين كَانَ أهل سبتة قد سئموا ملكة أهل الأندلس وثقلت عَلَيْهِم ولايتهم لَا سِيمَا حِين رَحل عَنْهُم عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وَعبر الْبَحْر بِقصد الْجِهَاد كَمَا مر واتصل خبر ذَلِك بالسلطان أبي الرّبيع فانتهز الفرصة فيهم وَعقد لِثِقَتِهِ تاشفين بن يَعْقُوب الوطاسي أخي وزيره عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب على عَسْكَر ضخم من بني مرين وَسَائِر طَبَقَات الْجند وَبَعثه إِلَى سبتة فأغذ السّير إِلَيْهَا وَنزل بساحتها وَلما أحس بِهِ أهل الْبَلَد تمشت رجالاتهم فِيمَا بَينهم وتنادوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 بشعار بني مرين وثاروا على من كَانَ بسبتة من حامية ابْن الْأَحْمَر فأخرجوهم مِنْهَا واقتحم تاشفين بن يَعْقُوب الْبَلَد عَاشر صفر من سنة تسع وَسَبْعمائة وتقبض على قَائِد القصبة أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن مليلة وعَلى قَائِد الْبَحْر أبي الْحسن بن كماشة وعَلى قَائِد الْحَرْب بهَا من الْقَرَابَة عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الْحق وطير تاشفين بالْخبر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع فَعم السرُور وَعظم الْفَرح واتصل ذَلِك بِابْن الْأَحْمَر فَضَاقَ ذرعه وخشي عَادِية بني مرين وجيوش الْمغرب حِين انْتَهوا إِلَى الفرضة وملكوها فَقلب رَأْيه وَرَأى أَن يجنح إِلَى السّلم مَعَ السُّلْطَان أبي الرّبيع لشدَّة شوكته ولكلب الطاغية عَلَيْهِ فِي أرضه لَوْلَا أَن غزاه بني مرين يكفون من غربه فبادر السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر وَهُوَ أَبُو الجيوش نصر بن مُحَمَّد أَخُو المخلوع الَّذِي كَانَ قبله وأوفد رسله على السُّلْطَان أبي الرّبيع راغبين فِي السّلم خاطبين للولاية وتبرع بالنزول عَن الجزيرة ورندة وحصونها ترغيبا للسُّلْطَان أبي الرّبيع فِي الْجِهَاد فَقبل مِنْهُ ذَلِك وَعقد لَهُ الصُّلْح على مَا أَرَادَ وخطب مِنْهُ أُخْته فأنكحه ابْن الْأَحْمَر إِيَّاهَا وَبعث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع إِلَيْهِ بالمدد للْجِهَاد أَمْوَال وخيولا جنائب مَعَ ثقته عُثْمَان بن عِيسَى اليريناني أخي وزيره إِبْرَاهِيم بن عِيسَى واتصلت بَينهمَا الْولَايَة إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان أَبُو الرّبيع رَحمَه الله انْتِقَاض الْوَزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي على السُّلْطَان أبي الرّبيع ومبايعته لعبد الْحق بن عُثْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما انْعَقَد الصُّلْح بَين السُّلْطَان أبي الرّبيع وَابْن الْأَحْمَر وحصلت الْمُصَاهَرَة بَينهمَا والمودة كَانَت رسل ابْن الْأَحْمَر لَا تزَال تَتَرَدَّد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس فَقدم مِنْهُم ذَات يَوْم بعض المنهمكين فِي اللَّهْو المدمنين للشُّرْب والقصف فكشف صفحة وَجهه فِي معاقرة الْخمر وتجاهر بذلك بَين النَّاس وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الرّبيع قد عزل قَاضِي فاس أَبَا غَالب المغيلي وَولى الْقَضَاء مَكَانَهُ الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا الْحسن الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير صَاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 التَّقْيِيد على الْمُدَوَّنَة وَكَانَ رَحمَه الله قد شدد على أهل الفسوق والمناكر فسيق إِلَيْهِ ذَات يَوْم هَذَا الأندلسي وَهُوَ سَكرَان فَأمر الْعُدُول فاستروحوه واشتموا مِنْهُ رَائِحَة الْخمر وأدوا شَهَادَتهم على ذَلِك فَأمْضى القَاضِي حكم الله فِيهِ وَجلده الْحَد فاضطرم الأندلسي غيظا وَتعرض للوزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي وَيُقَال لَهُ رحو بِاللِّسَانِ الزناتي فكشف لَهُ عَن ظَهره يرِيه أثر السِّيَاط وينعي عَلَيْهِ سوء هَذَا الْفِعْل مَعَ رسل الدول فضجر الْوَزير من ذَلِك وأخذته الْعِزَّة بالإثم وَلَعَلَّه كَانَ فِي قلبه شَيْء على القَاضِي فَأمر وزعته بإحضاره على أَسْوَأ الْحَالَات وعزم على الْبَطْش بِهِ فتبادروا إِلَيْهِ واعتصم القَاضِي بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع ونادى فِي الْمُسلمين فثارت الْعَامَّة بهم ومرج أَمر النَّاس وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان فتلافى الْأَمر وأحضر أَصْحَاب الْوَزير فَضرب أَعْنَاقهم وشرد بهم من خَلفهم جزاه الله خيرا فأسرها الْوَزير فِي نَفسه وداخل الْحسن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وَكَانَ من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى فيهم وداخل قَائِد الفرنج غنصالوا الْمُنْفَرد برياسة الْعَسْكَر وشوكة الْجند وَكَانَ لهَؤُلَاء الفرنج بالوزير اخْتِصَاص بِحَيْثُ آثروه على السُّلْطَان فَدَعَاهُمْ لخلع طَاعَة السُّلْطَان أبي الرّبيع وبيعة عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق كَبِير الْقَرَابَة وَأسد الأعياص فَأَجَابُوهُ وَبَايَعُوا لَهُ وَتمّ أَمرهم وَلما كَانَ يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من ربيع الآخر من سنة عشر وَسَبْعمائة فر الْوَزير الْمَذْكُور وقائده الفرنجي وَمن شايعهم على رَأْيهمْ فَخَرجُوا إِلَى ظَاهر الْبَلَد الجديدة وجاهروا بالخلعان وَأَقَامُوا الْآلَة والرسم وَبَايَعُوا سلطانهم عبد الْحق على عُيُون الْمَلأ وعسكروا بالعدوة القصوى من سبو ثمَّ سَارُوا إِلَى نَاحيَة تازا وَلما استقروا برباطها أخذُوا فِي جمع الجيوش ومكاتبة الْخَاصَّة من بني مرين وَالْعرب يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم والمشايعة لَهُم على رَأْيهمْ وأوفدوا على أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان يَدعُونَهُ إِلَى المظاهرة على أَمرهم واتصال الْيَد والمدد بالعسكر وَالْمَال فتوقف أَبُو حمو وَلم يقدم وَلم يحجم وَبَقِي ينْتَظر عماذا ينجلي أَمرهم واتصل خبر ذَلِك كُله بالسلطان أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 الرّبيع فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَقدم بَين يَدَيْهِ يُوسُف بن عِيسَى الحشمي وَعمر بن مُوسَى الفودودي فِي جَيش كثيف من بني مرين وَسَار هُوَ فِي ساقتهم واتصل خبر خُرُوجه بِعَبْد الْحق بن عُثْمَان ووزيره فانكشفوا عَن تازا وَلَحِقُوا بتلمسان وَكَانُوا يظنون أَن السُّلْطَان لايخرج إِلَيْهِم وَحمد أَبُو حمو عَاقِبَة توقفه عَن نَصرهم ويئسوا من صريخه إيَّاهُم وَلما ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ أجَاز عبد الْحق بن عُثْمَان ووزيره إِلَى الأندلس وَرجع الْحسن بن عَليّ وَمن مَعَه إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع بعد أَن أَخذ مِنْهُ الْأمان وَهلك رحو بن يَعْقُوب بالأندلس لمُدَّة قريبَة وَلما احتل السُّلْطَان أَبُو الرّبيع بتازا حسم الدَّاء ومحا أثر الشقاق وأثخن فِي حَاشِيَة الْخَوَارِج وشيعتهم بِالْقَتْلِ والسبي ثمَّ اعتل أَيَّامًا أثْنَاء ذَلِك فَتوفي بتازا بَين العشاءين لَيْلَة الْأَرْبَعَاء منسلخ جُمَادَى الْأَخِيرَة من سنة عشر وَسَبْعمائة وَدفن من ليلته تِلْكَ بِصَحْنِ الْجَامِع الْأَعْظَم من تازا رَحمَه الله الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي سعيد عُثْمَان ابْن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله كَانَ هَذَا السُّلْطَان من أهل الْعلم والحلم والعفاف جوادا متواضعا متوقفا فِي سفك الدِّمَاء لقبه السعيد بِفضل الله وَأمه حرَّة اسْمهَا عَائِشَة بنت الْأَمِير أبي عَطِيَّة مهلهل بن يحيى الخلطي وَلما هلك السُّلْطَان أَبُو الرّبيع بتازا فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تطاول لِلْأَمْرِ عَمه أَبُو سعيد الْأَصْغَر وَهُوَ عُثْمَان بن السُّلْطَان يُوسُف وخب فِي ذَلِك وَوضع وأسدى وألحم فَلم يحصل على شَيْء وَاجْتمعَ الوزراء والمشيخة بِالْقصرِ بعد هدأة من اللَّيْل وتفاوضوا فِي أَمرهم حَتَّى وَقع اختيارهم على أبي سعيد الْأَكْبَر وَهُوَ عُثْمَان ابْن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فاستدعوه فَحَضَرَ فَبَايعُوهُ ليلتئذ وَتمّ أمره وأنفذ كتبه إِلَى النواحي والجهات باقتضاء الْبيعَة وسرح ابْنه الْأَكْبَر الْأَمِير أَبَا الْحسن عَليّ بن عُثْمَان إِلَى فاس فَدَخلَهَا غرَّة رَجَب من سنة عشر وَسَبْعمائة وَملك قصر الْخلَافَة بالحضرة واحتوى على أَمْوَاله وذخيرته وَفِي غَد ليلته أخذت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الْبيعَة للسُّلْطَان أبي سعيد بِظَاهِر تازا على بني مرين وَسَائِر زناتة وَالْعرب والعسكر والحاشية والموالي والصنائع وَالْعُلَمَاء والصلحاء ونقباء النَّاس وعرفائهم والخاصة والدهماء فَقَامَ بِالْأَمر واستوسق لَهُ الْملك وَفرق الأعطيات وأسنى الجوائز وتفقد الدَّوَاوِين وَرفع الظلامات وَحط المغارم والمكوس وسرح السجون وَرفع عَن أهل فاس مَا كَانَ يلْزم رباعهم من الْوَظَائِف المخزنية فِي كل سنة فصلح حَال النَّاس فِي أَيَّامه ثمَّ ارتحل لعشرين من رَجَب من السّنة فَدخل حَضْرَة فاس فاستقر بهَا وَقدم عَلَيْهِ وُفُود التهنئة من جَمِيع بِلَاد الْمغرب ثمَّ خرج فِي ذِي الْقعدَة الى رِبَاط الْفَتْح لتفقد الْأَحْوَال وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية وإنشاء الأساطيل الجهادية فعيد هُنَالك عيد الْأَضْحَى وباشر أُمُور النَّاس وَأمر بإنشاء الأساطيل بدار الصِّنَاعَة من سلا برسم جِهَاد الفرنج ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فعقد سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة لِأَخِيهِ الْأَمِير أبي الْبَقَاء يعِيش على ثغور الأندلس الجزيرة ورندة وَمَا إِلَيْهِمَا من الْحُصُون ثمَّ نَهَضَ سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة إِلَى نَاحيَة مراكش لما كَانَ بهَا من اختلال الْأَحْوَال وَخُرُوج عدي بن هنو الهسكوري ونقضه للطاعة فنازله السُّلْطَان أَبُو سعيد وحاصره مُدَّة ثمَّ اقتحم عَلَيْهِ حصنه عنْوَة وَقبض عَلَيْهِ وَبَعثه موثقًا فِي الْحَدِيد إِلَى فاس فأودعه المطبق وقفل رَاجعا إِلَى حَضرته فاحتل بهَا مؤيدا منصورا وَالله تَعَالَى أعلم غَزْو السُّلْطَان أبي سعيد نَاحيَة تلمسان كَانَ بَنو مرين قد حقدوا على أبي حمو صَاحب تلمسان من أجل توقفه فِي أَمر عبد الْحق بن عُثْمَان ووزيره رحو بن يَعْقُوب الوطاسي وتسهيله الطَّرِيق لَهُم إِلَى الأندلس ومداهنته فِي ذَلِك وَكَانَ مُقْتَضى الصُّلْح المنعقد بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الرّبيع أَن يقبض عَلَيْهِم وَيبْعَث بهم إِلَيْهِ حَالا فحقد بَنو مرين على أبي حمو ووجدوا فِي أنفسهم عَلَيْهِ وَلم أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد واستوسق ملكه ودوخ الْجِهَات المراكشية وَفرغ من شَأْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 الْمغرب اعتزم على غَزْو تلمسان فَنَهَضَ إِلَيْهَا سنة أَربع عشرَة وَلما انْتهى إِلَى وَادي ملوية قدم ابنيه الأميرين أَبَا الْحسن وَأَبا عَليّ فِي عسكرين عظيمين فِي الجناحين وَسَار هُوَ فِي ساقتهما فَدخل بِلَاد بني عبد الواد على هَذِه التعبية فاكتسح نَوَاحِيهَا وَاصْطلمَ نعمتها ثمَّ نَازل وَجدّة فقاتلها قتالا شَدِيدا فمتنعت عَلَيْهِ ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان فَنزل بالملعب من ساحتها وتحصن أَبُو حمو بالأسوار وَغلب السُّلْطَان ابو سعيد على معاقلها وَسَائِر ضواحيها فحطمها حطما ونسفها نسفا ودوخ جبال بني يزناسن وأثخن فيهم وانْتهى فِي قفوله إِلَى وَجدّة ففر أَخُوهُ أَبُو الْبَقَاء يعِيش وَكَانَ فِي مُعَسْكَره من أجل استرابة لحقته من السُّلْطَان وَسَار إِلَى تلمسان فَنزل على أبي حمو وَرجع السُّلْطَان أَبُو سعيد على التعبية فَانْتهى إِلَى تازا فَأَقَامَ بهَا وَبعث ابْنه الْأَمِير أَبَا عَليّ إِلَى فاس فَكَانَ من خُرُوجه عَلَيْهِ مَا نذكرهُ خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ للسُّلْطَان أبي سعيد ولدان أَحدهمَا وَهُوَ الْأَكْبَر من أمته الحبشية وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان وَثَانِيهمَا وَهُوَ الْأَصْغَر من علجة من سبي الفرنج وَهُوَ أَبُو عَليّ عمر بن عُثْمَان وَكَانَ هَذَا الْأَصْغَر أعلق بقلب السُّلْطَان وأحبهما إِلَيْهِ وَلما استولى على ملك الْمغرب رشحه لولاية الْعَهْد وَهُوَ شَاب لم يطر شَاربه وَوضع لَهُ ألقاب الْإِمَارَة وصير مَعَه الجلساء والخاصة وَالْكتاب وَأمره باتخاذ الْعَلامَة فِي كتبه وَلم يدّخر عَنهُ شَيْئا من مراسم الرياسة وَالْملك وَعقد على وزارته لإِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني من كبار الدولة ووجوهها وَكَانَ أَخُوهُ الْأَكْبَر أَبُو الْحسن شَدِيد البرور بِأَبِيهِ فَلَمَّا رأى إقبال أَبِيه على أَخِيه عَليّ انحاش هُوَ أَيْضا إِلَيْهِ وَصَارَ فِي جملَته وخلط نَفسه بحاشيته طَاعَة لِأَبِيهِ ومسارعة فِي هَوَاهُ واستمرت حَال الْأَمِير أبي عَليّ على هَذَا وخاطبه مُلُوك النواحي وخاطبهم وهادوه وهاداهم وَعقد الرَّايَات وَأثبت فِي الدِّيوَان ومحا وَزَاد فِي الْعَطاء وَنقص وَكَاد يستبد بِالْأَمر كُله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وَلما قفل السُّلْطَان أَبُو سعيد من تلمسان أَوَاخِر سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة أَقَامَ بتازا وَبعث ولديه إِلَى فاس فَلَمَّا اسْتَقر الْأَمِير أَبُو عَليّ بهَا حدثته نَفسه بِالْقيامِ على أَبِيه وخلع طَاعَته فراوده المداخلون لَهُ على التَّرَبُّص حَتَّى يمكر بِأَبِيهِ وَيقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ فابى واستعجل الْأَمر وَركب الْخلاف وجاهر بالخلعان ودعا لنَفسِهِ فأطاعه النَّاس وَلم يتوقفوا عَنهُ لما كَانَ أَبوهُ جعله إِلَيْهِ من أَمرهم وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد يُرِيد غَزْو أَبِيه فبرز السُّلْطَان أَبُو سعيد من تازا فِي عسكره يقدم رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى ثمَّ بدا للأمير أبي عَليّ فِي وزيره إِبْرَاهِيم بن عِيسَى وعزم على الْقَبْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بلغه أَنه يُكَاتب أَبَاهُ فَبعث للقبض عَلَيْهِ عمر بن يخلف الفودودي وتفطن الْوَزير لما أَرَادَهُ من الْمَكْر بِهِ فَقبض هُوَ على الفودودي وَنزع إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فتقبله وَرَضي عَنهُ وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْحسن قد لحق بِأَبِيهِ قبل ذَلِك نازعا عَن جملَة أَخِيه فقوي جنَاح السُّلْطَان بهما وارتحل إِلَى لِقَاء ابْنه أبي عَليّ وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ بالمقرمدة مَا بَين فاس وتازا اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان وَانْهَزَمَ جريحا إِلَى تازا فَتَبِعَهُ ابْنه أَبُو عَليّ وحاصره بهَا وَيُقَال إِن أَبَا الْحسن إِنَّمَا لحق بِأَبِيهِ بعد المحنة ثمَّ سعى الْخَواص بَين السُّلْطَان وَابْنه أبي عَليّ بِالصُّلْحِ على أَن يخرج لَهُ السُّلْطَان عَن الْأَمر ويقتصر على تازا وجهاتها فَقَط فَرضِي السُّلْطَان بذلك وَشهد الْمَلأ من مشيخة الْعَرَب وزناتة وَأهل الْأَمْصَار واستحكم العقد بَينهمَا وانكفأ الْأَمِير أَبُو عَليّ رَاجعا إِلَى حَضْرَة فاس مملكا على الْمغرب وتوافت إِلَيْهِ بيعات الْأَمْصَار ووفودهم واستوسق أمره ثمَّ تدارك الله السُّلْطَان أَبَا سعيد بِلُطْفِهِ ورد عَلَيْهِ من حَقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَذَلِكَ أَن الْأَمِير أَبَا عَليّ اعتل عقب وُصُوله إِلَى فاس وَاشْتَدَّ وَجَعه حَتَّى أشرف على الْهَلَاك وخشي النَّاس على أنفسهم اختلال الْأَمر بِمَوْتِهِ فتسايلوا إِلَى وَالِده السُّلْطَان أبي سعيد بتازا وَلحق بِهِ سَائِر خَواص الدولة وَحَمَلُوهُ على تلافي الْأَمر وانتهاز الفرصة فَنَهَضَ من تازا وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كَافَّة بني مرين والجند وعسكر على الْبَلَد الْجَدِيد وَأقَام محاصرا لَهُ وابتنى دَارا لسكناه وَجعل لِابْنِهِ الْأَمِير أبي الْحسن مَا كَانَ لِأَخِيهِ أبي عَليّ من ولَايَة الْعَهْد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وتفويض الْأَمر وَلما تبين للأمير أبي عَليّ اخْتِلَاف أمره بعث إِلَى أَبِيه فِي الصُّلْح على أَن يعوض سجلماسة وَمَا والاها فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وفى لَهُ السُّلْطَان بِمَا اشْترط وارتحل إِلَى سجلماسة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا دولة فخيمة وَاسْتولى على بِلَاد الْقبْلَة وَدون الدَّوَاوِين واستلحق واستركب واستخدم ظواعن الْعَرَب من بني معقل وافتتح معاقل الصَّحرَاء وقصور توات وتيكرارين وتامنطيت وَغير ذَلِك وَأما السُّلْطَان أَبُو سعيد فَإِنَّهُ دخل إِلَى فاس الْجَدِيد وَنزل بقصره وَأصْلح شؤون ملكه وَأنزل ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن بِالدَّار الْبَيْضَاء من قصوره وفوض إِلَيْهِ فِي سُلْطَانه تَفْوِيض الِاسْتِقْلَال وَأذن لَهُ فِي اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة على كتبه وَسَائِر مَا كَانَ لِأَخِيهِ ووفدت عَلَيْهِ بيعات الْأَمْصَار بالمغرب وَرَجَعُوا إِلَى طَاعَته وَفِي سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِبِنَاء الْبَاب أَمَام القنطرة من الجزيرة الخضراء ثمَّ بعد ذَلِك أدَار الستارة بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وفيهَا سَار إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا حَتَّى اصلح شؤونها وَعَاد إِلَى الحضرة وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة نكب السُّلْطَان أَبُو سعيد كَاتبه منديل بن مُحَمَّد الْكِنَانِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما ثار الْأَمِير أَبُو عَليّ على ابيه وخلعه انحاش إِلَيْهِ منديل هَذَا ثمَّ لما اخْتَلَّ أَمر أبي على عَاد منديل إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد وترتب فِي مَنْزِلَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْحسن يحقد عَلَيْهِ لأجل انحياشه إِلَى أَخِيه لما كَانَ بَينهمَا من المنافسة وَكَانَ هُوَ كثيرا مَا يوغر صدر أبي الْحسن بِإِيجَاب حق أَخِيه عَلَيْهِ وامتهانه فِي خدمته فطوى لَهُ أَبُو الْحسن على البث حَتَّى إِذا فصل أَبُو عَليّ إِلَى سجلماسة وَانْفَرَدَ أَبُو الْحسن بِمَجْلِس أَبِيه وخلاله وَجهه أحكم السّعَايَة فِي منديل عِنْد أَبِيه وَكَانَ منديل كثيرا مَا يغْضب السُّلْطَان فِي المحاورة وَالْخطاب دَالَّة عَلَيْهِ وكبرا فاعتد السُّلْطَان عَلَيْهِ بِشَيْء من ذَلِك مَعَ مَا كَانَ ابْنه أَبُو الْحسن يغريه بِهِ فسخطه سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة وَأذن لِابْنِهِ أبي الْحسن فِي نكبته فاعتقله واستصفى أَمْوَاله وطوى ديوانه وامتحنه أَيَّامًا ثمَّ قَتله بمحبسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 خنقا وَقيل جوعا وَذهب فِي الذاهبين وَأَبوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي هُوَ الَّذِي بَعثه السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق إِلَى الْمُسْتَنْصر الحفصي عِنْد فتح مراكش وَعَاد إِلَيْهِ مِنْهُ بالهدية صُحْبَة وَفد أهل تونس وتلطف أَبُو عبد الله الْكِنَانِي حَتَّى ذكر الْمُسْتَنْصر فِي الْخطْبَة على مِنْبَر مراكش وَفَرح الْوَفْد بذلك حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى وَنَشَأ ابْنه منديل هَذَا فِي ظلّ الدولة المرينية فَكَانَ من أمره مَا قصصناه عَلَيْك وفادة أهل الأندلس على السُّلْطَان أبي سعيد واستصراخهم إِيَّاه على الطاغية وَمَا نَشأ عَن ذَلِك كَانَ الْمُلُوك من بني مرين قد انْقَطع غزوهم عَن الأندلس بُرْهَة من الدَّهْر مُنْذُ دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب لاشتغاله فِي آخر أمره بحصار تلمسان واشتغال حفدته من بعده بِأَمْر الْمغرب مَعَ قصر مدتهم فتطاول الْعَدو وَرَاء الْبَحْر على الْمُسلمين بِسَبَب هَذِه الفترة وَاشْتَدَّ كَلْبه كَلْبه على ثغورها مَعَ أَن الْقَرَابَة من بني مرين كَانُوا شجى فِي صَدره وقذى فِي عَيْنَيْهِ فِي تِلْكَ الْبِلَاد حَسْبَمَا ألمعنا إِلَيْهِ غير مرّة وَلما أفْضى الْأَمر الى السُّلْطَان أبي سعيد اشْتغل فِي صدر دولته بِأَمْر ابْنه عَليّ وَخُرُوجه عَلَيْهِ فاهتبل الطاغية الْغرَّة فِي الأندلس وزحف فِي جموعه إِلَى غرناطة سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ من خبر هَذِه الْوَقْعَة أَن الطاغية بطرة بن سانجة وَيُقَال دون بطرة وَقد نبهنا على لَفظه دون فِيمَا سبق ذهب إِلَى طليطلة وَدخل على مرجعهم الَّذِي يُقَال لَهُ البابا وَسجد لَهُ وتضرع بَين يَدَيْهِ وَطلب مِنْهُ استئصال مَا بَقِي من الْمُسلمين بِأَرْض الأندلس وأكد عزمه وتأهب لذَلِك غَايَة الأهبة فوصلت أثقاله ومجانيقه وآلات الْحصار والأقوات فِي المراكب وَتقدم فِي جموعه حَتَّى نزل بأحواز غرناطة وَكَانَ رديفه فِي ذَلِك الْجند علجا آخر يُقَال لَهُ جوان وانضم إِلَيْهِم مُلُوك آخَرُونَ من مُلُوك الْأَطْرَاف قيل سَبْعَة وَقيل أَكثر وامتلأت الأَرْض بهم وعزموا على استئصال بَقِيَّة الْمُسلمين بالأندلس وَكَانَ جيشهم فِيمَا قيل يشْتَمل على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألفا من الفرسان وعَلى نَحْو مائَة ألف من الرجالة الْمُقَاتلَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وَلما رأى أهل الأندلس ذَلِك بعثوا صريخهم إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَقدم عَلَيْهِ وفدهم بِحَضْرَتِهِ من فاس وَفِيهِمْ من وُجُوه الأندلس وصلحائها الشَّيْخ أَبُو عبد الله الطنجالي وَالشَّيْخ ابْن الزيات البلشي وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْعَاصِ وَغَيرهم فَاعْتَذر إِلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد بمَكَان عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من دولتهم وَمحله من دَار ملكهم وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء يتَوَلَّى يَوْمئِذٍ مشيخة الْغُزَاة بالأندلس لِأَن وَفَاته تَأَخَّرت إِلَى سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا مر فَشرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد أَن يمكنوه مِنْهُ ليتأتى لَهُ العبور إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد وَجِهَاد الْعَدو بهَا من غير تشويش وَقَالَ ادفعوه إِلَيْنَا برمتِهِ حَتَّى يتم أَمر الْجِهَاد ثمَّ نرده عَلَيْكُم حياطة على الْمُسلمين وخشية من تَفْرِيق كلمتهم فاستصعب أهل الأندلس هَذَا الشَّرْط لما يعلمونه من صرامة عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وإدلاله ببأسه وبأس عشيرته فأخفق سَعْيهمْ وَرَجَعُوا منكسرين وأطالت الفرنج الْمقَام على غرناطة وطمعوا فِي التهامها ثمَّ إِن الله تَعَالَى نفس عَن مخنقهم ودافع بقدرته عَنْهُم وهيأ لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء فِي الفرنج وَاقعَة كَانَت من أغرب الوقائع وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم المهرجان وَهُوَ الْخَامِس من جُمَادَى الأولى من سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة عمد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى جمَاعَة جنده وَاخْتَارَ من أنجاد بني مرين مِنْهُم نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَقيل أَكثر وَتقدم بهم نَحْو جَيش الفرنج فَظن النَّصَارَى أَنهم إِنَّمَا خَرجُوا لأمر غير الْقِتَال من مُفَاوَضَة أَو إبلاغ رِسَالَة أَو نَحْو ذَلِك حَتَّى إِذا سامتوا موقف الطاغية ورديفه جوان صمموا نَحْوهمَا حَتَّى خالطوهما فِي مراكزهما فصرعوهما فِي جملَة من الْحَاشِيَة وَانْهَزَمَ ذَلِك الْجمع من حِينه وولوا الأدبار واعترضهم من ورائهم مسارب المَاء للشُّرْب على نهر شنيل فتطارحوا فِيهَا وَهلك أَكْثَرهم واكتسحت أَمْوَالهم وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج أهل غرناطة لجمع الْأَمْوَال وَأخذ الأسرى فاستولوا على أَمْوَال عَظِيمَة مِنْهَا من الذَّهَب فِيمَا قيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن الْفضة مائَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن السَّبي سَبْعَة آلَاف نفس حَسْبَمَا كتب بذلك بعض الغرناطيين إِلَى الديار المصرية وَكَانَ من جملَة الْأُسَارَى امْرَأَة الطاغية وَأَوْلَاده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 فبذلت فِي نَفسهَا مَدِينَة طريف وجبل الْفَتْح وَثَمَانِية عشر حصنا فِيمَا حكى بعض المؤرخين فَلم يقبل الْمُسلمُونَ ذَلِك قلت هَذَا خطأ فِي الرَّأْي وَضعف فِي السياسة قَالُوا وزادت عدَّة الْقَتْلَى فِي هَذِه الْغَزْوَة على خمسين ألفا وَيُقَال إِنَّه هلك مِنْهُم بالوادي مثل هَذَا الْعدَد لعدم معرفتهم بِالطَّرِيقِ وَأما الَّذين هَلَكُوا بالجبال والشعاب فَلَا يُحصونَ وَقتل الْمُلُوك السَّبْعَة جَمِيعهم وَقيل خَمْسَة وَعِشْرُونَ وَاسْتمرّ البيع فِي الأسرى والسبي وَالدَّوَاب سِتَّة أشهر ووردت البشائر بِهَذَا النَّصْر الْعَظِيم إِلَى سَائِر الْبِلَاد وَمن الْعجب أَنه لم يقتل من الْمُسلمين سوى ثَلَاثَة عشر نفسا وَقيل عشرَة أنفس وسلخ الطاغية بطرة وحشى جلده قطنا وعلق على بَاب غرناطة وَبَقِي مُعَلّقا سِنِين وَطلبت النَّصَارَى الْهُدْنَة فعقدت لَهُم وَالله تَعَالَى أعلم انْتِقَاض الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة انْتقض الْأَمِير أَبُو عَليّ صَاحب سجلماسة والصحراء على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وتغلب على درعة وسما إِلَى طلب مراكش فعقد السُّلْطَان أَبُو سعيد على حربه لِأَخِيهِ الْأَمِير أبي الْحسن واغزاه إِيَّاه ثمَّ نَهَضَ على اثره فاحتل بمراكش وثقف أطرافها وحسم عللها وَعقد عَلَيْهَا لكندوز بن عُثْمَان من صنائع دولتهم وقفل إِلَى الحضرة ثمَّ لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة نَهَضَ الْأَمِير أَبُو عَليّ فِي جموعه من سجلماسة وأغذ السّير إِلَى مراكش فاقتحمها بعساكره قبل أَن يجْتَمع لكندوز أمره وتقبض عَلَيْهِ وَضرب عُنُقه وَرَفعه على القناه وَملك مراكش وَسَائِر ضواحيها وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَخرج من حَضرته فِي عساكره بعد أَن احتشد وأزاح الْعِلَل وَاسْتوْفى الأعطيات وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 ولي عَهده وَجَاء هُوَ على ساقته وَسَارُوا على هَذِه التعبية وَلما انْتَهوا إِلَى وَادي ملوية اتَّصل بهم الْخَبَر أَن أَبَا عَليّ يُرِيد أَن يبيتهم فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على ظُهُور خيلهم وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل طرقهم أَبُو عَليّ فِي جموعه فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وفل عسكره وَارْتَحَلُوا من الْغَد فِي أَثَره وَكَانَ قد سلك جبل درن فافترقت جُنُوده فِي أوعاره ولحقهم من المشاق مَا يفوت الْوَصْف حَتَّى ترجل الْأَمِير أَبُو عَليّ عَن فرسه وسعى على قَدَمَيْهِ وخلص من ورطة ذَلِك الْجَبَل بعد عصب الرِّيق وَلحق بسجلماسة ومهد السُّلْطَان أَبُو سعيد نواحي مراكش وَعقد عَلَيْهَا لمُوسَى بن عَليّ الهنتاتي فَعظم غناؤه فِي ذَلِك واضطلاعه وامتدت أَيَّام ولَايَته وارتحل السُّلْطَان إِلَى سجلماسة فدافعه الْأَمِير أَبُو عَليّ بالخضوع وَرغب إِلَيْهِ فِي الصفح وَالرِّضَا وَالْعود إِلَى السّلم فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك لما كَانَ قد شغفه من حبه فقد كَانَ يُؤثر عَنهُ من ذَلِك غرائب وَرجع إِلَى الحضرة وَأقَام الْأَمِير أَبُو عَليّ بمكانه وَمن مملكه الْقبْلَة إِلَى أَن هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد وتغلب عَلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله بِنَاء مدارس الْعلم بِحَضْرَة فاس حرسها الله قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله كَانَ قد بنى مدرسته الَّتِي بفاس مَعَ غَيرهَا مِمَّا سبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ ووقف عَلَيْهَا كتب الْعلم الَّتِي بعث بهَا إِلَيْهِ الطاغية سانجة عِنْد عقد الصُّلْح مَعَه ووقف عَلَيْهَا غير ذَلِك واقتفى أَثَره فِي هَذِه المنقبة الشَّرِيفَة بنوه من بعده فاستكثروا من بِنَاء الْمدَارِس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الْأَوْقَاف المغلة وأجروا على الطّلبَة بهَا الجرايات الكافية فأمسكوا بِسَبَب ذَلِك من رَمق الْعلم وأحيوا مراسمه وَأخذُوا بضبعيه جزاهم الله عَن نيتهم الصَّالِحَة خيرا وَلما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله بِبِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بفاس الْجَدِيد فبنيت أتقن بِنَاء وَأحسنه ورتب فِيهَا الطّلبَة لقِرَاءَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 الْقُرْآن وَالْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى عَلَيْهِم المرتبات والمؤن فِي كل شهر وَحبس عَلَيْهَا الرباع والضياع ابْتِغَاء ثَوَاب الله ورغبة فِيمَا عِنْده وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعْدهَا بنى ولي عَهده الْأَمِير أَبُو الْحسن الْمدرسَة الَّتِي بغربي جَامع الأندلس من حَضْرَة فاس فَجَاءَت على أكمل الهيئات وأعجبها وَبنى حولهَا سِقَايَة وَدَار الْوضُوء وفندقا لسكنى طلبة الْعلم وجلب المَاء إِلَى ذَلِك كُله من عين خَارج بَاب الْجَدِيد أحد أَبْوَاب فاس وَأنْفق على ذَلِك أَمْوَالًا جليلة تزيد عَن مائَة ألف دِينَار وشحنها بطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن وَحبس عَلَيْهَا رباعا كَثِيرَة ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء للتدريس وأجرى عَلَيْهِم الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة نَفعه الله بِقَصْدِهِ وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي فاتح شعْبَان مِنْهَا أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيْضا بِبِنَاء الْمدرسَة الْعُظْمَى بِإِزَاءِ جَامع الْقرَوِيين بفاس وَهِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة العطارين فنيت على يَد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار وَحضر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِنَفسِهِ فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر حَتَّى أسست وَشرع فِي بنائها بمحضره فَجَاءَت هَذِه الْمدرسَة من أعجب مصانع الدول بِحَيْثُ لم يبن ملك قبله مثلهَا وأجرى بهَا مَاء معينا من بعض الْعُيُون هُنَالك وشحنها بالطلبة ورتب فِيهَا إِمَامًا ومؤذنين وقومة يقومُونَ بأمرها ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى على الْكل المرتبات والمؤن فَوق الْكِفَايَة وَاشْترى عدَّة أَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا احتسابا بِاللَّه تَعَالَى وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه على مَا بناه ابْنه أَبُو الْحسن من ذَلِك أَيَّام ولَايَته وحافده أَبُو عنان وَغَيرهمَا إِن شَاءَ الله وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ لبني مرين جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي الْعلم وَأَهله تشهد بذلك آثَارهم الْبَاقِيَة إِلَى الْآن فِي مدارسهم العلمية وَغَيرهَا وَفِي مثل ذَلِك يحسن أَن ينشد (همم الْمُلُوك إِذا أَرَادوا ذكرهَا ... من بعدهمْ فبألسن الْبُنيان) (إِن الْبناء إِذا تعاظم شَأْنه ... أضحى يدل على عَظِيم الشان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 أَخْبَار بني العزفي أَصْحَاب سبتة قد تقدم لنا أَن الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة كَانَ قد غدر بِأَهْل سبتة وَقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إِلَى غرناطة سنة خمس وَسَبْعمائة فاستقروا هُنَالك فِي إيالة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالمخلوع مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الرّبيع المريني على سبتة وَنفى بني الْأَحْمَر عَنْهَا استأذنه بَنو العزفي فِي الرُّجُوع إِلَى الْمغرب والقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُم واستقروا بفاس وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْنا أبي طَالب عبد الله بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس احْمَد العزفي من سرواتهم وَأهل الْمُرُوءَة وَالدّين فيهم وَكَانُوا يغشون مجَالِس الْعلم بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس لما كَانُوا عَلَيْهِ من انتحاله وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيَّام ولَايَة بني أَبِيه من قبله يحضر مجْلِس الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الْحسن الصَّغِير وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب يلازمه ويتودد إِلَيْهِ فاتصل بِهِ وَصَارَت لَهُ بذلك وَسِيلَة عِنْده فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد رعى لبني العزفي تِلْكَ الْوَسِيلَة فأنعم عَلَيْهِم وَعقد لأبي زَكَرِيَّاء مِنْهُم على سبتة وردهم إِلَى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد والتزموا طَاعَته وَلما فوض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى ابْنه ابي عَليّ الْأَمر وَجعل لَهُ الإبرام والنقض عقد أَبُو عَليّ على سبتة لأبي زَكَرِيَّاء حيون بن أبي الْعَلَاء الْقرشِي وعزل أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب مِنْهَا واستقدمه إِلَى فاس فَقَدمهَا هُوَ وَأَبوهُ أَبُو طَالب وَعَمه أَبُو حَاتِم واستقروا فِي جملَة السُّلْطَان وَهلك أَبُو طَالب بفاس أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة ثمَّ كَانَ من خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه وانتقاضه عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فلحق أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب وَأَخُوهُ أَبُو زيد بالسلطان أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 سعيد نازعين إِلَيْهِ ومفارقين لِابْنِهِ الثائر عَلَيْهِ واستمروا فِي جملَته إِلَى أَن مرض الْأَمِير أَبُو عَليّ وزحف أَبوهُ إِلَيْهِ وحاصره بفاس حَسْبَمَا مر فَحِينَئِذٍ عقد السُّلْطَان أَبُو سعيد لأبي زَكَرِيَّاء على سبتة ثَانِيًا وَبَعثه إِلَيْهَا ليقيم دَعوته فِي تِلْكَ الْجِهَات وَترك ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء تَحت يَده رهنا على الطَّاعَة فاستقل أَبُو زَكَرِيَّاء بإمارتها وَأقَام دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد بهَا واتصل ذَلِك مِنْهُ نَحْو سنتَيْن ثمَّ هلك عَمه أَبُو حَاتِم بسبتة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة وانتقض أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب على السُّلْطَان أبي سعيد وَرجع إِلَى حَال سلفه من الاستبداد وَإِقَامَة الشورى بِالْبَلَدِ واستقدم من الأندلس عبد الْحق بن عُثْمَان الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع مَعَ الْوَزير عبد الرَّحْمَن الوطاسي فَقدم عَلَيْهِ وَعقد لَهُ على الْحَرْب ليفرق بِهِ كلمة بني مرين بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عَلَيْهِ وطأتهم واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سعيد فَقَامَ وَقعد وجهز إِلَى سبتة العساكر من بني مرين وَعقد على حربها للوزير إِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَاعْتَذر إِلَيْهِ أَبُو زَكَرِيَّاء بِحَبْس ابْنه عَنهُ ومفارقته لَهُ وَأَنه إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنه بذل الطَّاعَة وراجع الدعْوَة فَأعْلم الْوَزير السُّلْطَان بذلك فَبعث إِلَيْهِ بِالْوَلَدِ ليسلمه إِلَى أَبِيه بعد أَن يَقْتَضِي مِنْهُ مُوجبَات الطَّاعَة وأسبابها وَجَاء الْخَبَر إِلَى أبي زَكَرِيَّاء بِأَن ابْنه قد قدم وَأَنه كَائِن بفسطاط الْوَزير بساحل الْبَحْر بِحَيْثُ تتأتى الفرصة فِي أَخذه فَبعث أَبُو زَكَرِيَّاء إِلَى عبد الْحق بن عُثْمَان قَائِد الْحَرْب وأعلمه بمَكَان ابْنه فواطأه عبد الْحق على انْتِزَاعه مِنْهُم ثمَّ هجم لَيْلًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته على فسطاط الْوَزير فَاحْتمل الْوَلَد وَأصْبح بِهِ عِنْد أَبِيه وَسمع أهل عَسْكَر الْوَزير بالهيعة فَرَكبُوا وتبعوا الْأَثر فَلم يقفوا على خبر وتفقد الْوَزير الْوَلَد الَّذِي كَانَ عِنْده فَلم يجده واتهم الْجَيْش الْوَزير بِأَنَّهُ مالأ شيعَة أَبِيه على أَخذه وَإِلَّا فَلَا يقدم أحد هَذَا الْإِقْدَام بِدُونِ مداخلة من بعض الْجَيْش فتقبضوا على الْوَزير وَحَمَلُوهُ الى السُّلْطَان إبلاء فِي الطَّاعَة وابلاغا فِي الْعذر فَشكر لَهُم ذَلِك واطلق الْوَزير لعلمه ببراءته ونصحه ثمَّ رغب أَبُو زَكَرِيَّاء بعْدهَا فِي رضَا السُّلْطَان وطاعته وولايته فَنَهَضَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله سنة سِتّ عشرَة إِلَى طنجة لاختبار طَاعَة أبي زَكَرِيَّاء فَبَان لَهُ صدقه وَعقد لَهُ على سبتة وَاشْترط هُوَ على نَفسه حمل الجباية إِلَى السُّلْطَان وإسناء الْهَدِيَّة فِي كل سنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك أَبُو زَكَرِيَّاء سنة عشْرين وَسَبْعمائة وَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء إِلَى نظر ابْن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَقِيه أبي الْقَاسِم شيخ قرابتهم وَكَانَ قَائِد الأساطيل بسبتة ولي النّظر فِيهَا بعد أَن نزع الْقَائِد يحيى الرنداحي إِلَى الأندلس وتغلب مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا بسبتة وَاخْتلفت كلمة الغوغاء واضطرب الْأَمر على بني العزفي بهَا فانتهز السُّلْطَان أَبُو سعيد الفرصة فِيهَا وَأجْمع النهوض إِلَيْهَا فَنَهَضَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وَنزل عَلَيْهَا فبادر أهل سبتة بإيتاء طاعتهم وَعجز مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء عَن المناهضة وظنها مُحَمَّد بن عَليّ من نَفسه فتعرض لِلْأَمْرِ فِي أوغاد من لفيفها اجْتَمعُوا إِلَيْهِ فدافعهم الْمَلأ من أهل سبتة عَن ذَلِك وحملوهم على الطَّاعَة واقتادوا بني العزفي إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فانقادوا إِلَيْهِ واحتل السُّلْطَان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم مِثْلَمَا واصلح خللها وَاسْتعْمل كبار رجالاته وخواص مَجْلِسه فِي أَعمالهَا فعقد لحاجبه عَامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها وَعقد لأبي الْقَاسِم بن أبي مَدين العثماني على جبايتها وَالنَّظَر فِي مبانيها وَإِخْرَاج الْأَمْوَال للنفقات فِيهَا وأسنى جوائز الْمَلأ من مشيختها ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم وأوعز بِبِنَاء الْبَلَد الْمُسَمّى أفراك على سبتة فشرعوا فِي بنائها سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَقد ذكر ابْن الْخَطِيب فِي كتاب الإكليل مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء هَذَا فَقَالَ فِيهِ مَا صورته فرع تأود من الرياسة فِي دوحة وَتردد بَين غدْوَة فِي الْمجد وروحة نَشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله والدهر ييسر أمله الْأَقْصَى ويسهله حَتَّى اتسقت اسباب سعده وانتهت إِلَيْهِ رياسة سلفه من بعده فَأَلْقَت إِلَيْهِ رِحَالهَا وحطت ومتعته بقربها بعد مَا شطت ثمَّ كلح لَهُ الدَّهْر بعد مَا تَبَسم وَعَاد زعزعا نسيمه الَّذِي كَانَ تنسم وعاق هلاله عَن تمه مَا كَانَ من تغلب ابْن عَمه وَاسْتقر بِهَذِهِ الْبِلَاد نازح الدَّار بِحكم الأقدار وَإِن كَانَ نبيه المكانة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 والمقدار وَجَرت عَلَيْهِ جراية وَاسِعَة ورعاية متتابعة إِلَى آخر كَلَامه وَيَعْنِي بقوله هَذِه الْبِلَاد بِلَاد الأندلس وَالله أعلم الْمُصَاهَرَة بَين السُّلْطَان أبي سعيد فِي ابْنه أبي الْحسن وَبَين أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ أَبُو تاشفين عبد الرَّحْمَن بن أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان قد ضايق بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فِي بِلَادهمْ وَاسْتولى على كثير من ثغورهم وردد الْبعُوث والسرايا إِلَى أَطْرَاف ممالكهم وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة جهز ابو تاشفين إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا وَعقد عَلَيْهِ ليحي بن مُوسَى من صنائع دولته وَنصب مَعَ ذَلِك لملك تونس وإفريقية بعض أعقاب الحفصيين وَهُوَ مُحَمَّد بن ابي عمرَان كَانَ لَجأ إِلَيْهِ فِي بعض الْفِتَن الَّتِي كَانَت لَهُ مَعَ بني عَمه وَتقدم هَذَا الْجَيْش إِلَى أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي فهزموه واقتحموا مَدِينَة تونس فاستولوا عَلَيْهَا ونصبوا لملكها وَالْولَايَة عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي عمرَان الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ من الْملك إِلَّا الِاسْم وَالْأَمر كُله بيد يحيى بن مُوسَى قَائِد الْجَيْش وخلص السُّلْطَان أَبُو بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي إِلَى بونة جريحا مطرودا عَن كرْسِي ملكه وَدَار عزه فعزم حِينَئِذٍ على الْوِفَادَة على السُّلْطَان أبي سعيد المريني ليَأْخُذ لَهُ حَقه من آل يغمراسن المتغلبين عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَعَ ذَلِك تَجْدِيد الوصلة الَّتِي كَانَت لسلفه مَعَ بني مرين فَأَشَارَ عَلَيْهِ حَاجِبه مُحَمَّد بن سيد النَّاس بإنفاذ ابْنه الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء صَاحب الثغر استنكافا لَهُ عَن مثلهَا فَقبل إِشَارَته وأركب ابْنه الْمَذْكُور الْبَحْر وَبعث مَعَه وزيره أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين نافضا أَمَامه طرق الْمَقَاصِد والمحاورات ونزلوا بمرسى غساسة من سَاحل الْمغرب وَقدمُوا على السُّلْطَان أبي سعيد بِحَضْرَتِهِ فأبلغوه رِسَالَة أبي بكر الحفصي فاهتز لذَلِك هُوَ وَابْنه الْأَمِير أَبُو الْحسن وَقَالَ لوفد الحفصيين وَالله لأبذلن فِي مظاهرتكم مَالِي وقومي وَنَفْسِي ولأسيرن بعساكري إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 تلمسان فأنازلها وَكَانَ فِيمَا شَرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد مسير أبي بكر الحفصي بعساكره إِلَى منازلة تلمسان مَعَه فقبلوا وَانْصَرفُوا إِلَى مَنَازِلهمْ مسرورين ونهض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى تلمسان سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَلما انْتهى إِلَى وَادي ملوية وعسكر بصبره جَاءَهُ الْخَبَر الْيَقِين بِعُود أبي بكر الحفصي إِلَى تونس وجلوسه على كرسيه بهَا فاستدعى السُّلْطَان أَبُو سعيد ابْنه أَبَا زَكَرِيَّاء ووزيره أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين وأعلمهما الْخَبَر وأسنى جوائزهم وَأمرهمْ بالانصراف إِلَى صَاحبهمْ فَرَكبُوا أساطيلهم من غساسة وَبعث مَعَهم إِبْرَاهِيم بن أبي حَاتِم العزفي وَالْقَاضِي بِحَضْرَتِهِ أَبَا عبد الله بن عبد الرَّزَّاق يخطبون بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي لِابْنِهِ الْأَمِير أبي الْحسن فوصلوا إِلَى الحفصي وأدوا الرسَالَة وانعقد الصهر بَينهم فِي ابْنَته فَاطِمَة شَقِيقَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء وزفها إِلَيْهِم فِي أساطيله مَعَ مشيخة الْمُوَحِّدين وَكَبِيرهمْ ابي الْقَاسِم بن عتو فوصلوا إِلَى مرسى غساسة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَقَامَ بَنو مرين لَهَا على أَقْدَام الْبر والكرامة وبعثوا بِالظّهْرِ إِلَى غساسة لركوبها وَحمل أثقالها صنعت حكمات الذَّهَب وَالْفِضَّة ومدت ولايا الْحَرِير المغشاة بِالذَّهَب واحتفل السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لوفدها وأعراسها بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ فِي دولتهم وتحدث النَّاس بِهِ دهرا وَهلك السُّلْطَان أَبُو سعيد بَين يَدي موصلها كَمَا نذْكر وَفَاة السُّلْطَان أبي سعيد بن يَعْقُوب رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لما بلغه الْخَبَر بوصول الْعَرُوس فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ارتحل بِنَفسِهِ إِلَى تازا ليشارف أحوالها كَرَامَة لَهَا ولأبيها وسرورا بعرس ابْنه فاعتل هُنَالك وازداد مَرضه حَتَّى إِذا أشفا على الهلكة ارتحل بِهِ ولي الْعَهْد لأمير أَبُو الْحسن إِلَى الحضرة وَحمله فِي فرَاشه على أكتاد الْحَاشِيَة والجند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 حَتَّى نزل بواد سبو ثمَّ أدخلهُ كَذَلِك لَيْلًا إِلَى قصره فَأَدْرَكته الْمنية فِي طَرِيقه فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ مَرضه بعلة النقرس فوضعوه بمكانه من بَيته واستدعى ابْنه أَبُو الْحسن الصَّالِحين لمواراته فَدفن بِبَعْض قبابه رَحمَه الله وَكَانَت أَيَّامه أعيادا ومواسم وَمن أكَابِر كِتَابه الرئيس أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ السبتي الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه أبي الْحسن عَليّ ابْن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله هَذَا السُّلْطَان هُوَ أفخم مُلُوك بني مرين دولة وأضخمهم ملكا وأبعدهم صيتًا وأعظمهم أبهة وَأَكْثَرهم آثارا بالمغربين والأندلس وَيعرف عِنْد الْعَامَّة بالسلطان الأكحل لِأَن لأمه كَانَت حبشية فَكَانَ أسمر اللَّوْن والعامة تسمي الأسمر وَالْأسود أكحل وَإِنَّمَا الأكحل فِي لِسَان الْعَرَب أكحل الْعَينَيْنِ فَقَط وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو عَليّ لمملوكة من سبي النَّصَارَى فَكَانَ أَبيض وانضاف لذَلِك أَن كَانَ أَبُو الْحسن ملكا على الحضرة وَأَبُو عَليّ ملكا على بِلَاد الْقبْلَة فَكَانَا أَخَوَيْنِ ملكَيْنِ فِي عصر وَاحِد أَحدهمَا أسمر وَالْآخر أَبيض فَعرف هَذَا بالأكحل وَالْآخر بالأبيض للمقابلة وَلما هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله اجْتمع الْخَاصَّة من المشيخة ورجالات الدولة على ولي عَهده أبي الْحسن الْمَذْكُور وعقدوا لَهُ على أنفسهم وآتوه طاعتهم فَأمر للحين بِنَقْل مُعَسْكَره من نَاحيَة سبو إِلَى الزَّيْتُون من نَاحيَة فاس وَلما فرغ من دفن أَبِيه خرج إِلَى مُعَسْكَره بِالْمحل الْمَذْكُور وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ على طبقاتهم لأَدَاء الْبيعَة بفسطاطة وَتَوَلَّى أَخذ الْبيعَة لَهُ يَوْمئِذٍ على النَّاس الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار والمزوار فِي لِسَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 زناتة مَعْنَاهُ الرئيس وَكَانَ هَذَا الرجل رَئِيس الوزعة والمتصرفين وحاجب الْبَاب السلطاني قديم الْولَايَة فِي ذَلِك مُنْذُ عهد السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب ثمَّ زفت على السُّلْطَان أبي الْحسن زَوجته الحفصية فَبنى بهَا بمكانه من المعسكر الْمَذْكُور وَأجْمع رَأْيه على الإنتقام لأَبِيهَا من عدوه أبي تاشفين الزياني على مَا نذكرهُ حُدُوث الْفِتْنَة بَين الْأَخَوَيْنِ أبي الْحسن وَأبي عَليّ ثمَّ مقتل أبي عَليّ وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله لما عهد بِالْأَمر لِابْنِهِ أبي الْحسن وَتحقّق مصيره إِلَيْهِ كثيرا مَا يستوصيه بأَخيه أبي عَليّ لكلفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَى أبي الْحسن وَكَانَ موثرا رضَا أَبِيه جهده اعتزم على الْحَرَكَة إِلَى سجلماسة لمشارفة أَحْوَال أَخِيه وَاخْتِيَار أمره وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من سلم أَو حَرْب ليعْمَل على مُقْتَضى ذَلِك فارتحل من مُعَسْكَره بالزيتون قَاصِدا سجلماسة فَتَلَقَّتْهُ وُفُود أَخِيه أبي عَليّ أثْنَاء الطَّرِيق مُؤديا حَقه وموجبا مبرته ومهنئا لَهُ بِمَا آتَاهُ الله من الْملك ويعمله مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ متجاف عَن الْمُنَازعَة لَهُ قَانِع من تراث أَبِيه بِمَا فِي يَده طَالب مِنْهُ أَن يعْقد لَهُ بذلك فَأَجَابَهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى مَا سَأَلَ وَعقد لَهُ على سجلماسة وَمَا والاها من بِلَاد الْقبْلَة كَمَا كَانَ لعهد أَبِيه وَأشْهد على ذَلِك الْمَلأ من بني مرين وَسَائِر زناتة وَالْعرب وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى تلمسان عَازِمًا على الإنتقام من أبي تاشفين الزياني فَسَار حَتَّى انْتهى إِلَى تلمسان ثمَّ تجوزها إِلَى جِهَة الشرق حَتَّى نزل بتاسالت منتظرا لقدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر الحفصي عَلَيْهِ وَفَاء بالعهد الَّذِي كَانَ انْعَقَد لَهُ مَعَ السُّلْطَان أبي سعيد أَيَّام وفادة ابْنه أبي زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ من أَنَّهُمَا يكونَانِ يدا وَاحِدَة على حِصَار تلمسان حَتَّى يحكم الله بَينهمَا وَبَين صَاحبهَا فَعَسْكَرَ أَبُو الْحسن بتاسالت ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده فِي الْبَحْر إِلَى صهره الحفصي مدَدا لَهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببجايه يُقَاتل جَيش بن زيان عَلَيْهَا وَلم اتَّصل الْخَبَر بِأبي تاشفين صَاحب تلمسان فكر فِي أَمر أبي الْحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وأعمل الْحِيلَة بِأَن دس الى أَخِيه الْأَمِير أبي عَليّ صَاحب سجلماسة فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ والاتفاق مَعَه على أَخِيه أبي الْحسن وَأَن يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا بحجزته عَن صَاحبه ويشغله عَنهُ حَتَّى يتمكنا مِنْهُ ووعده أَبُو تاشفين ومناه وَلم يزل بِهِ حَتَّى انْتقض على أَخِيه ونهض من سجلماسة إِلَى درعة فَقتل عاملها وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله ثمَّ سرح العساكر إِلَى جِهَة مراكش وأجلب عَلَيْهَا بخيله وَرجله واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن وَهُوَ بمعسكره من تاسالت ينْتَظر قدوم الحفصي عَلَيْهِ فانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة مجمعا الانتقام من أَخِيه وَلما انْتهى فِي طَرِيقه إِلَى حصن تاوريرت شحنه بالعسكر وَعقد عَلَيْهِ لِابْنِهِ تاشفين بن أبي الْحسن ووقف أمره على نظر منديل بن حمامة شيخ بني تيربعين ثمَّ أغذ السّير إِلَى سجلماسة فَنزل عَلَيْهَا وَأخذ بمخنقها وَحشر الفعلة والصناع لصنع الْآلَات وَالْبناء بساحتها وَأقَام عَلَيْهَا يغاديها بِالْقِتَالِ ويراوحها حولا كَامِلا ونهض أَبُو تاشفين فِي عساكره من تلمسان يُرِيد الْغَارة على أَطْرَاف الْمغرب كي يشغل أَبَا الْحسن عَن أَخِيه بذلك فَانْتهى إِلَى تاوريرت فبرز إِلَيْهِ تاشفين بن ابي الْحسن فِي عَسَاكِر مرين فهزموه وردوه على عقبه إِلَى تلمسان ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده مدَدا للأمير أبي عَليّ فتسربوا إِلَى سجلماسة جماعات وأفذاذا حَتَّى تكاملوا لَدَيْهِ فَلم يغنوا شَيْئا وطاولهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْحصار أنزل بهم أَنْوَاع النكال حَتَّى اقتحم الْبَلَد عنْوَة تَاسِع عشر محرم سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وتقبض على الْأَمِير أبي عَليّ عِنْد بَاب قصره وَجِيء بِهِ إِلَى أَخِيه أبي الْحسن وَقد خامره الْجزع فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ تضرع إِلَيْهِ وَقبل حافر فرسه فَأمر أَبُو الْحسن بتثقيفه وَحمله على بغل إِلَى فاس وانكفأ هُوَ رَاجعا إِلَى الحضرة فَلَمَّا دَخلهَا اعتقل أَخَاهُ بِبَعْض حجر الْقصر أشهرا ثمَّ قَتله فصدا وخنقا وَكَانَت سنّ أبي عَليّ يَوْمئِذٍ سبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت دولته بسجلماسة تسع عشرَة سنة وأشهرا وَكَانَ رَقِيق الْحَاشِيَة ينتمي إِلَى الْأَدَب وَهُوَ الَّذِي استقدم ابا مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ من سبتة واستكتبه أَيَّام أَبِيه وَمن شعر الْأَمِير أبي عَليّ يُخَاطب أَخَاهُ أَبَا الْحسن أَيَّام حصاره لَهُ بسجلماسة وَقد أَيقَن بِزَوَال أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 (فَلَا يغرنك الدَّهْر الخؤون فكم ... أباد من كَانَ قبلي يَا أَبَا الْحسن) (الدَّهْر مذ كَانَ لَا يبْقى على صفة ... لابد من فَرح فِيهِ وَمن حزن) (أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت تهابهم ... أَسد العرين ثووا فِي اللَّحْد والكفن) (بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عَن كل ذِي حسن) (فاعمل لأخرى وَكن بِاللَّه مؤتمرا ... واستغن بِاللَّه فِي سر وَفِي علن) (واختر لنَفسك أمرا أَنْت آمره ... كأنني لم أكن يَوْمًا وَلم تكن) وفادة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر على السُّلْطَان أبي الْحسن بِحَضْرَة فاس وَفتح جبل طَارق لما هلك السُّلْطَان أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن الْأَحْمَر المتغلب على ملك الأندلس من يَد ابْن عَمه أبي الجيوش قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد طفْلا صَغِيرا واستبد عَلَيْهِ وزيره مُحَمَّد بن المحروق فَقتله بَعْدَمَا شب وعقل وَكَانَ الطاغية قد استولى على جبل الْفَتْح وَهُوَ جبل طَارق سنة تسع وَسَبْعمائة وزاحم الفرنج بِهِ ثغور الْمُسلمين وَصَارَ شجى فِي صدر الدولتين المرينية والأحمرية وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن بُويِعَ الْأَمِير السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد اقْتِدَاء بِمذهب جده يَعْقُوب بن عبد الْحق فبادر السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر إِلَى الْوِفَادَة عَلَيْهِ لإحكام عقد الْمَوَدَّة مَعَه وللمفاوضة فِي أَمر الْجِهَاد وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ صَلَاح لدولته فَقدم عَلَيْهِ بدار ملكه بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأكبر السُّلْطَان أَبُو الْحسن موصله وأركب النَّاس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق دَاره واستبلغ فِي إكرامه وفاوضه ابْن الْأَحْمَر فِي شَأْن الْمُسلمين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أَهَمَّهُمْ من عدوهم وشكى إِلَيْهِ حَال الْجَبَل واعتراضه شجى فِي صُدُور الثغور قبل وشكى إِلَيْهِ أَمر بني عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لأَنهم كَانُوا قد استطالوا عَلَيْهِ فِي أرضه فأشكاه أَبُو الْحسن وعامل الله تَعَالَى فِي أَسبَاب الْجِهَاد وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا بفتنة أَخِيه أبي عَليّ وَمَعَ ذَلِك فقد أمده بالجند وَعقد لِابْنِهِ أبي مَالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 على خَمْسَة آلَاف من آنجاد بني مرين وأنفذهم مَعَ ابْن الْأَحْمَر لمنازلة جبل الْفَتْح فاحتل أَبُو مَالك بالجزيرة الخضراء وَتَتَابَعَتْ إِلَيْهِ الأساطيل بالمدد وَأرْسل ابْن الْأَحْمَر فِي الأندلس حاشرين فتسايل النَّاس إِلَيْهِ من كل جِهَة وزحفوا جَمِيعًا إِلَى الْجَبَل وَأَحَاطُوا بِهِ وأبلوا فِي منازلته الْبلَاء الْحسن إِلَى أَن فتحوه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واقتحمه الْمُسلمُونَ عنْوَة ونفلهم الله من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى بِمَا مَعَهم وَشرع الْمُسلمُونَ فِي شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة الخضراء على خيولهم خوفًا من كرة الْعَدو وباشر نقلهَا الأميران أَبُو مَالك وَابْن الْأَحْمَر بأنفسهما ونقلها النَّاس عَامَّة وتحيز الْأَمِير أَبُو مَالك إِلَى الجزيرة الخضراء وَترك بِالْجَبَلِ يحيى بن طَلْحَة بن محلي من وزراء أَبِيه وَوصل الطاغية بعد ثَلَاث من فَتحه فَأَنَاخَ عَلَيْهِ وحاصره وبرز أَبُو مَالك بعساكره من الجزيرة فَنزل بإزائه وزحف ابْن الْأَحْمَر فَنزل بإزائه أَيْضا ثمَّ خَافَ ابْن الْأَحْمَر عَادِية الْعَدو لقرب الْعَهْد بارتجاع الْجَبَل وخفة من بِهِ من الحامية وَالسِّلَاح فبادر إِلَى لِقَاء الطاغية وَسبق النَّاس إِلَى فسطاطة عجلا بَائِعا نَفسه من الله فِي رضَا الْمُسلمين وسد خلتهم فَتَلقاهُ الطاغية رَاجِلا حاسرا إعظاما لَهُ وأجابه إِلَى مَا سَأَلَ من الإفراج عَن هَذَا المعقل وأتحفه بذخائر مِمَّا لَدَيْهِ وارتحل من فوره وَشرع الْأَمِير أَبُو مَالك فِي تحصين ذَلِك الثغر وسد فروجه وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي النفخ ارتجع السطلان أَبُو الْحسن جبل طَارق بعد أَن أنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَصرف إِلَيْهِ الْجنُود والحشود ونازلته جيوشه مَعَ وَلَده وخواصه وضيقوا بِهِ إِلَى أَن استرجعوه ليد الْمُسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وَأنْفق عَلَيْهِ أحمال المَال فِي بنائِهِ وحصنه وسوره وَبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه وَلما كَاد يتم ذَلِك نازله الْعَدو برا وبحرا فَصَبر الْمُسلمُونَ وَخيَّب الله سعي الْكَافرين فَأَرَادَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن يحصن سفح الْجَبَل بسور مُحِيط بِهِ من جَمِيع جهاته حَتَّى لَا يطْمع عَدو فِي منازلته وَلَا يجد سَبِيلا للتضييق عَلَيْهِ بمحاصرته وَرَأى النَّاس ذَلِك من الْمحَال فأنفق الْأَمْوَال وأنصف الْعمَّال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وَكَانَ بَقَاء هَذَا الْجَبَل بيد الْعَدو نيفا وَعشْرين سنة وحاصره السُّلْطَان أَبُو الْحسن سِتَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 أشهر وَزَاد فِي تحصينه ابْنه السُّلْطَان أَبُو عنان رحمهمَا الله تَعَالَى وَأما ابْن الْأَحْمَر فَإِن أَوْلَاد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء شُيُوخ الْغَزْو بالأندلس لما رَأَوْا مَا حصل بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن من الْوِفَاق واتصال الْيَد خَافُوا أَن تعود موافقتهم بِالضَّرَرِ عَلَيْهِم إِذْ كَانُوا أَعدَاء للدولتين مَعًا أما دولة الْمغرب فبخروجهم عَلَيْهِم ومنابذتهم إيَّاهُم غير مرّة وَأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أَهلهَا ومزاحمتهم إيَّاهُم فِي رياستها فتشاوروا فِيمَا بَينهم وفتكوا بِابْن الْأَحْمَر يَوْم رحيله عَن الْجَبَل إِلَى غرناطة فتقاصفوه بِالرِّمَاحِ وَقدمُوا أَخَاهُ ابا الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل مَكَانَهُ فَقَامَ بِالْأَمر بعده وشمر للأخذ بثار أَخِيه فاحتال على بني أبي الْعَلَاء حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ فتح تلمسان ومقتل صَاحبهَا أبي تاشفين وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه لما استقام ملك الْمغرب للسُّلْطَان أبي الْحسن بمقتل أَخِيه أبي عَليّ صَاحب سجلماسة وَنصر الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صَاحبهَا أبي تاشفين الَّذِي ضايق أصهاره من بني أبي حَفْص فِي أَرضهم ونازعهم فِي ملكهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن قد بعث لأوّل بيعَته شُفَعَاء إِلَى أبي تاشفين فِي أَن يتخلى عَن عمل الْمُوَحِّدين وَيرجع إِلَى تخوم أَعماله الَّتِي ورثهَا عَن سلفه وَقَالَ لَهُ فِي جملَة ذَلِك كف عَنْهُم وَلَو سنة وَاحِدَة ليسمع النَّاس أَنِّي نافحت عَن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أَبُو تاشفين من ذَلِك وَأَغْلظ للرسل فِي القَوْل وأفحش بعض السُّفَهَاء من عبيده فِي الرَّد عَلَيْهِم بمجلسه ونالوا من السُّلْطَان أبي الْحسن بمحضره فَعَادَت الرُّسُل إِلَيْهِ وأعلموه بالقضية على وَجههَا فحمي لذَلِك وَغَضب وتأكد عزمه على النهوض إِلَى تلمسان فَكَانَ من نهوضه أَولا وانتقاض أَخِيه عَلَيْهِ وَعوده إِلَيْهِ من تاسالت مَا قصصناه قبل مُسْتَوفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 ثمَّ عاود السُّلْطَان النهوض إِلَى تلمسان فِي هَذِه الْمرة فَعَسْكَرَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد وَبعث وزراءه ووجوه دولته إِلَى قاصية الْبِلَاد المراكشية لحشد الْقَبَائِل والجموع ثمَّ تعجل وَعرض جُنُوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وَفصل فِي التعبية من فاس أواسط خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَسَار يجر الشوك والمدر من أُمَم الْمغرب وَجُنُوده وَمر بوجدة فجمر عَلَيْهَا الْكَتَائِب للحصار ثمَّ مر بندرومة فقاتلها بعض يَوْم ثمَّ اقتحمها عنْوَة فاستولى عَلَيْهَا وَقتل حاميتها ثمَّ سَار على التعبية حَتَّى أَنَاخَ على تلمسان ثمَّ بلغه الْخَبَر بتغلب عسكره على وَجدّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأوعز إِلَيْهِم بتخريب أسوارها فأضرعوها بِالْأَرْضِ وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد النواحي وحشودها ووفدت عَلَيْهِ قبائل مغراوة وَبنى توجين فَأتوهُ طاعتهم وسرح كتائبه إِلَى القاصية فتغلب على وهران وهنين ثمَّ على مليانة وتنس والجزائر وَغَيرهَا وَاسْتولى على الضواحي وَنزع إِلَيْهِ يحيى بن مُوسَى كَبِير قواد أبي تاشفين وَصَاحب الثغور الشرقية من أَعماله فلقاه مبرة وكرامة وَرفع بساطه ونظمه فِي طَبَقَات وزرائه وجلسائه وَعقد على فتح الْبِلَاد الشرقية ليحيى بن سُلَيْمَان العسكري شيخ بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وصهر السُّلْطَان على ابْنَته فَسَار فِي الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حَتَّى انْتهى إِلَى لمدية ونظم الْبِلَاد فِي طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن واحتشد جموعها فَلَحقُوا بمعسكره وَاسْتعْمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عماله على الْجِهَات واختط بغربي تلمسان الْبَلَد الْجَدِيد لسكناه ونزول عساكره وَأَحْيَا معالم المنصورة الَّتِي كَانَ اختطها عَمه يُوسُف بن يَعْقُوب وخربها بَنو زيان من بعده فأدار عَلَيْهَا سياجا من السُّور ونطاقا من الخَنْدَق وَنصب المجانيق وآلات من وَرَاء خندقه وَجعلت رماته تنضح رُمَاة الْعَدو بِالنَّبلِ ويشغلونهم بِأَنْفسِهِم حَتَّى شيد برجا آخر يقرب مِنْهُم وترتفع شرفاته فَوق خندقهم وتماصع الْمُقَاتلَة بِالسُّيُوفِ من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وَأحكم عَملهَا لدكها فنالت من ذَلِك فَوق الْغَايَة وَعظم أَثَرهَا فِي الْقُصُور الْعَظِيمَة والقباب الرفيعة الَّتِي تأنق أَبُو تاشفين فِي تشييدها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يصبح الْمُقَاتلَة كل يَوْم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وَيَطوف على الْبَلَد من جَمِيع جهاته لتفقد رُؤَسَاء الْعَسْكَر فِي مراكزهم وَرُبمَا انْفَرد فِي طَوَافه فَطَافَ فِي بعض الْأَيَّام منتبذا عَن الْحَاشِيَة فاهتبل بَنو عبد الواد غرته حَتَّى إِذا سلك مَا بَين الْجَبَل والبلد فتحُوا أَبْوَابهَا وَأَرْسلُوا عَلَيْهِ عقبان جنودهم يحسبونها فرْصَة كَالَّتِي كَانَت ليغمراسن بن زيان فِي السعيد الموحدي واضطروه إِلَى سفح الْجَبَل حَتَّى لحق بأوعاره وَكَاد ينزل عَن فرسه هُوَ ووليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد وأحس أهل المعسكر بذلك فَرَكبُوا زرافات ووحدانا وَركب ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك وهما جنَاحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إِلَيْهِم صقور بني مرين من كل جو فَانْكَشَفَتْ عَسَاكِر بني عبد الواد وولوا الأدبار منهزمين لَا يلوي أحد مِنْهُم على أحد واعترضهم مهوى الخَنْدَق فتطارحوا فِيهِ وتهافتوا على ردمه فَكَانَ الْهَالِك يَوْمئِذٍ فِيهِ أَكثر من الْهَالِك بِالسِّلَاحِ وَهلك من بني توجين يَوْمئِذٍ عمر بن عُثْمَان كَبِير الحشم وعامل جبل وانشريس وَمُحَمّد بن سَلامَة بن عَليّ كَبِير بني يدللتن وَصَاحب قلعة تاوغروت وهما مَا هما فِي زناتة إِلَى أشباه لَهما استلحموا فِي هَذِه الْوَقْعَة فحص هَذَا الْيَوْم من جناج دولة بني زيان وحطم مِنْهَا واتصل الْحصار مُدَّة من ثَلَاث سِنِين حَتَّى إِذا كَانَ السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة اقتحم السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَدِينَة تلمسان عنْوَة ووقف أَبُو تاشفين رَحمَه الله عِنْد بَاب قصره فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مِنْهُم ولداه عُثْمَان ومسعود ووزيره مُوسَى بن عَليّ ووليه عبد الْحق بن عُثْمَان وَهُوَ الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع وَبَايَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي حَسْبَمَا مر فَإِنَّهُ لحق بِهِ بعد تِلْكَ الْوَقْعَة بتلمسان ثمَّ مِنْهَا إِلَى الأندلس ثمَّ حضر انْتِقَاض العزفي بسبتة سنة سِتّ عشرَة كَمَا مر ثمَّ لحق بِأبي بكر الحفصي ثمَّ نزع عَنهُ إِلَى أبي تاشفين وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى هَذَا الْيَوْم فشهده فِي جمَاعَة من بنيه وَبني أَخِيه وَكَانُوا أحلاس حَرْب وفتيان كريهة فمانعوا دون الْقصر واستماتوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استلحموا وَرفعت رؤوسهم على عَصا الرماح فطيف بهَا وغصت سِكَك الْبَلَد من داخلها وخارجها بالعساكر وكظت أَبْوَابهَا بالزحام حَتَّى لقد كب النَّاس على أذقانهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وتواقعوا على مساربهم فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم مَا بَين الْبَابَيْنِ حَتَّى ضَاقَ المسلك مَا بَين السّقف ورحبة الْبَاب وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على الْمنَازل نهبا واكتساحا وَأما أَبُو تاشفين فَإِنَّهُ قَاتل حَتَّى قتل ابناه عُثْمَان ومسعود أَمَامه وخلصت إِلَيْهِ جراحات فأثخنته وتقبض عَلَيْهِ بعض الفرسان فساقه إِلَى السُّلْطَان فَلَقِيَهُ ابْنه الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَأمر بِهِ فَقتل فِي الْحِين واحتز رَأسه وَسخط السُّلْطَان ذَلِك من فعله لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على توبيخه وتقريعه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وقف أَبُو تاشفين وَبَنوهُ بِإِزَاءِ الْقصر مدافعين عَن أنفسهم وَقَامُوا مقَام الصَّبْر والإستجماع وَصَدقُوا عَن أنفسهم الدفاع إِلَى أَن كوثروا وأعجلتهم ميتَة الْعِزّ عَن شدّ الوثاق وَإِمْكَان الشمات فَكَانَ فِي شَأْنهمْ عِبْرَة رَحِمهم الله وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بحاشيته واستدعى شُيُوخ الْفتيا بتلمسان وهما الإمامان الشهيران أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مُوسَى عِيسَى ابْنا الإِمَام فخلصوا إِلَيْهِ بعد الْجهد ووعظوه وذكروه بِمَا نَالَ النَّاس من النهب والعيث فَركب لذَلِك بِنَفسِهِ وَسكن النَّاس وَقبض أَيدي الْجند عَن الْفساد وَعَاد إِلَى مُعَسْكَره بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَقد كمل الْفَتْح وَعز النَّصْر وَاسْتولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على تِلْكَ الْإِمَارَة المؤثلة بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من نَفِيس الحلى وثمين الذَّخِيرَة وفاخر الْمَتَاع وخطير الْعدة وبديعة الْآلَة وصامت المَال وضروب الرَّقِيق وصنوف الأثاث والماعون وَرفع الْقَتْل عَن بني عبد الواد أعدائه وشفا نَفسه بقتل سلطانهم وَعَفا عَنْهُم وأثبتهم فِي الدِّيوَان وَفرض لَهُم الْعَطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وَجمع كلمة بني واسين من بني مرين وَبني عبد الواد وَبني توجين وَسَائِر زناتة وصاروا عصبا تَحت لوائه وسد بِكُل طَائِفَة مِنْهُم ثغرا من أَعماله فَأنْزل مِنْهُم بقاصية السوس وبلاد غمارة وَأَجَازَ مِنْهُم إِلَى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا فِي جملَته واتسع نطاق مَمْلَكَته وَأصْبح أَبُو الْحسن ملك زناتة بعد أَن كَانَ ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أَن كَانَ سُلْطَان الْمغرب فَقَط {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لسلطان مصر وَبَعثه الْمَصَاحِف من خطه إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة شرفها الله كَانَ للسُّلْطَان أبي الْحسن مَذْهَب وَرَأى فِي ولَايَة مُلُوك الْمشرق والمكلف بالمعاهد الشَّرِيفَة اقْتِدَاء فِي ذَلِك بِعَمِّهِ يُوسُف بن يَعْقُوب وَغَيره من سلفه وضاعف ذَلِك لَدَيْهِ متين ديانته ورفيع همته وَلما قضى من أَمر تلمسان مَا قضى وَاسْتولى على المغربين خَاطب لحينه صَاحب مصر وَالشَّام والحجاز الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعرفه بِالْفَتْح وارتفاع الْعَوَائِق عَن ركب الْحَاج فِي سابلتهم وَكَانَ سفيره فِي ذَلِك فَارس بن مَيْمُون بن وردار وَعَاد بِجَوَاب الْكتاب وَتَقْرِير الْمَوَدَّة بَين الْخلف كَمَا كَانَت بَين السّلف فأجمع السُّلْطَان أَبُو الْحسن حِينَئِذٍ على كتب نُسْخَة عتيقة من الْمُصحف الْكَرِيم بِخَط يَده ليوقفها بِالْحرم الشريف حرم مَكَّة قربَة إِلَى الله تَعَالَى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بِيَدِهِ وَجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لَهَا وعَاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصَّنْعَة وَغشيَ بصفائح الذَّهَب ورصع بالجوهر والياقوت وَاتخذ لَهُ أصونة الْجلد المحكمة الصَّنْعَة المرقوم أديمها بخطوط الذَّهَب وَمن فَوْقهَا غلائف الْحَرِير والديباج وأغشية الْكَتَّان وَأخرج من خزائنه أملا عينهَا لشراء الضّيَاع بالمشرق لتَكون وَقفا على الْقُرَّاء فِيهَا وأوفد على الْملك النَّاصِر خَواص مَجْلِسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أَمِير بني زغبة من عرب بني هِلَال وَمثل السَّابِق الْمُقدم فِي بساطه على كل خَالِصَة عَطِيَّة بن مهلهل بن يحيى كَبِير أَخْوَاله من عرب الْخَلْط وَبعث كَاتبه أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وعريف الوزعة بِبَابِهِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار واحتفل فِي الْهَدِيَّة للسُّلْطَان صَاحب مصر احتفالا تحدث النَّاس بِهِ دهرا قَالَ ابْن خلدون وقفت على برنامج الْهَدِيَّة بِخَط أبي الْفضل بن أبي مَدين الرَّسُول الْمَذْكُور ووعيته ثمَّ أنسيته وَذكر لي بعض قهارمة الدَّار أَنه كَانَ فِيهَا خَمْسمِائَة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 عتاق الْخَيل المقربات بسروج الذَّهَب وَالْفِضَّة ولجمها خَالِصا ومغشى ومموها وَخَمْسمِائة حمل من مَتَاع الْمغرب وماعونه وأسلحته وَمن نسج الصُّوف الْمُحكم ثيابًا وأكسية وبرانس وعمائم وإزرا معلمة وَغير معلمة وَمن نسج الْحَرِير الْفَائِق الْمعلم بِالذَّهَب ملونا وَغير ملون وساذجا ومنمقا وَمن الدرق المجلوبة من بِلَاد الصَّحرَاء المحكمة الدبغ المنسوبة إِلَى الملط وَمن خرثي الْمغرب وَمَا عونة مَا تستطرف صناعته بالمشرق حَتَّى لقد كَانَ فِيهَا مَكِيل من حَصى الْجَوْهَر والياقوت واعتزمت حظية من حظايا أَبِيه على الْحَج فِي ذَلِك الركب فَأذن لَهَا واستبلغ فِي تكرمتها واستوصى بهَا وفده وسلطان مصر فِي كِتَابه وفصلوا من تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ووصلوا إِلَى مصر فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وأدوا رسالتهم إِلَى الْملك النَّاصِر وَقدمُوا هديتهم إِلَيْهِ فقبلها وَحسن موقعها لَدَيْهِ وَكَانَ يَوْم وفادتهم عَلَيْهِ بِمصْر يَوْمًا مشهودا تحدث النَّاس بِهِ دهرا ولقاهم سُلْطَان مصر فِي طريقهم أَنْوَاع الْبر والكرامة حَتَّى قضوا فرضهم وَوَضَعُوا الْمُصحف الْكَرِيم حَيْثُ أَمرهم صَاحبه وأسنى الْملك النَّاصِر هَدِيَّة السُّلْطَان من الفساطيط المشرقية الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب وَمن ثِيَاب الْإسْكَنْدَريَّة البديعة النسج المرقومة بِالذَّهَب ورجعهم بهَا إِلَى مرسلهم وَقد استبلغ فِي تكرمتهم وصلتهم وَبَقِي حَدِيث هَذِه الْهَدِيَّة مَذْكُورا بَين النَّاس لهَذَا الْعَهْد اه كَلَام ابْن خلدون بِبَعْض إِيضَاح وَقد ذكر الإِمَام الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فِي كِتَابه الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن هَذِه الْهَدِيَّة وَفصل مِنْهَا بعض مَا أجمله إِبْنِ خلدون فَقَالَ أرسل السُّلْطَان أَبُو الْحسن للناصر بن قلاوون صَاحب الديار المصرية من أَحْجَار الْيَاقُوت الْعَظِيم الْقدر وَالثمن ثَمَانمِائَة وَخَمْسَة وَعشْرين وَمن الزمرد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الزبرجد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الْجَوْهَر النفيس الملوكي ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَأرْسل حللا كَثِيرَة مِنْهَا مذهبَة ثَلَاثَة عشر وَمن الأنان عشْرين مذهبَة وَمن الخلادي سِتَّة وَأَرْبَعين وَمن القنوع سِتَّة وَعشْرين مذهبَة وَمن المحرارت المختمة ثَمَانمِائَة وَمن الرصان عشْرين شقة وَمن الأكسية المحررة أَرْبَعَة وَعشْرين وَمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 البرانس المحررة ثَمَانِيَة عشر وَمن المشقفات مائَة وَخمسين وَمن أحارم الصُّوف المحررة عشْرين وَمن شقق الملف الرفيع سِتَّة عشر وَمن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق وَالْحلَل ثَمَانمِائَة وَمن أوجه اللحف المذهبة عشْرين وحائطين حلَّة وحنابل مائَة واثني عشر كلهَا حَرِير وفرش جلد مخروز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن السيوف المحلات بِالذَّهَب المنظم بالجوهر عشرَة والسروج عشرَة بركب الذَّهَب كَذَلِك ومهاميز الذَّهَب وَثَلَاثَة ركب فضَّة وَسِتَّة مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مِمَّا يَلِيق بالملوك وشاشية حَدِيد بِذَهَب مكلل بالجوهر وَمن لزمات الْفضة عشرَة وسروج مخروزة بِالْفِضَّةِ عشرَة وَعشر عَلَامَات مغشاة مذهبَة وَعشر رايات مذهبَة وَعشر براقع مذهبَة وَعشر أَمْثِلَة مرقومة وَثَلَاثُونَ جلدا شرك وَأَرْبَعَة آلَاف درقة لمط مِنْهَا مِائَتَان بنهود الذَّهَب وَثَمَانمِائَة بنهود الْفضة وخباء قبَّة كَبِيرَة من مائَة بنيقة لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب وقبة أُخْرَى مضربة من سِتّ وَثَلَاثِينَ بنيقة مبطنة بحلة مذهبية وَهِي من حَرِير أَبيض ومرابطها حَرِير ملون وعمودها عاج وآبنوس وأكبارها من فضَّة مذهبَة وَمن البزات الْأَحْرَار المنتقات أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ وَمن عتاق الْخَيل العراب ثَلَاثمِائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ وَمن البغال الذُّكُور وَالْإِنَاث مائَة وَعشْرين وَمن الْجمال سَبْعمِائة وتوجهت مَعَ هَذِه الْهَدِيَّة أُمَم برسم الْحَج مَعَ الربعة المكرمة يَعْنِي ربعَة الْمُصحف الْكَرِيم وَأعْطى السُّلْطَان الْحرَّة أم أُخْته أم ولد أَبِيه مَرْيَم ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا ولقاضي الركب ثَلَاثمِائَة وَكِسْوَة ولقائد الركب أَرْبَعمِائَة وكساوى مُتعَدِّدَة وبغلات وَلِلرَّسُولِ الْمعِين للهدية ألفا ولشيخ الركب أَحْمد بن يُوسُف بن أبي مُحَمَّد صَالح خَمْسمِائَة ولجماعة الضُّعَفَاء من الْحجَّاج سِتّمائَة وبرسم الْعَطاء للْعَرَب ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة ولشراء الرباع سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة ذَهَبا اه وَذكر فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن أهْدى هَدَايَا غير هَذِه لكثير من الْمُلُوك مِنْهَا لصَاحب الأندلس صلَة وَصدقَة وهدية فِي مَرَّات وَمِنْهَا لملوك النَّصَارَى بعد هداياهم وَمِنْهَا لسلاطين السودَان كصاحب مَالِي وَمِنْهَا لصَاحب إفريقية وَمِنْهَا لصَاحب تلمسان اه وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي مؤرخ مصر فِي كتاب السلوك مَا نَصه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وَفِي ثَانِي وَعشْرين من رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة من عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب المريني صَاحب فاس تُرِيدُ الْحَج وَمَعَهَا هَدِيَّة جليلة إِلَى الْغَايَة نزل لحملها من الأسطول السلطاني ثَلَاثُونَ قطارا من بغال النَّقْل سوى الْجمال وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَرْبَعمِائَة فرس مِنْهَا مائَة حجرَة وَمِائَة فَحل وَمِائَتَا بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَعضهَا سُرُوجهَا وركبها ذهب وَكَذَلِكَ لجمها وعدتها اثْنَان وَأَرْبَعُونَ رَأْسا مِنْهَا سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ بازا وفيهَا سيف قرَابه ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيهَا مائَة كسَاء وَغير ذَلِك من القماش العالي وَكَانَ قد خرج المهمندار إِلَى لقائهم وأنزلهم بالقرافة قريب مَسْجِد الْفَتْح وهم جمع كثير جدا وَكَانَ يَوْم طُلُوع الْهَدِيَّة من الْأَيَّام الْمَذْكُورَة فَفرق السُّلْطَان الْهَدِيَّة على الْأُمَرَاء بأسرهم على قدر مَرَاتِبهمْ حَتَّى نفدت كلهَا سوى الْجَوْهَر واللؤلؤ فَإِنَّهُ اخْتصَّ بِهِ فقدرت قيمَة هَذِه الْهَدِيَّة بِمَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار ثمَّ نقلت الْحرَّة إِلَى الميدان بِمن مَعهَا ورتب لَهَا من الْغنم والدجاج وَالسكر والجلواء والفاكهة فِي كل يَوْم بكرَة وَعَشِيَّة مَا عمهم وَفضل عَنْهُم فَكَانَ مرتبهم كل يَوْم عدَّة ثَلَاثِينَ رَأْسا من الْغنم وَنصف أردب أرزا وقنطارا حب رمان وَربع قِنْطَار سكرا وثمان فانوسيات شمعا وتوابل الطَّعَام وَحمل إِلَيْهَا برسم النَّفَقَة مبلغ خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَأُجْرَة حمل أثقالهم مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم ثمَّ خلع على جَمِيع من قدم مَعَ الْحرَّة فَكَانَت عدَّة الْخلْع مِائَتَيْنِ وَعشْرين خلعة على قدر طبقاتهم حَتَّى خلع على الرِّجَال الَّذين قادوا الْخُيُول وَحمل إِلَى الْحرَّة من الْكسْوَة مَا يجل قدره وَقيل لَهَا أَن تملي مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يعوزها شَيْء وَإِنَّمَا تُرِيدُ عناية السُّلْطَان إكرامها وإكرام من مَعهَا حَيْثُ كَانُوا فَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو وَإِلَى الْأَمِير أَحْمد إِن بغى بتجهيزها اللَّائِق بهَا فقاما بذلك واستخدما لَهَا السقائين والضوئية وهيأ كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي سفرها من أَصْنَاف الحلاوات وَالسكر والدقيق والبجماط وطلبا الْحمالَة لحمل جهازها وأزودتها وَندب السُّلْطَان للسَّفر مَعهَا جمال الدّين مُتَوَلِّي الجيزة وَأمره أَن يرحل بهَا فِي مركب لَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 بمفردها قُدَّام الْمحمل ويمتثل كلما تَأمر بِهِ وَكتب لأميري مَكَّة وَالْمَدينَة بخدمتها أتم خدمَة اه وَفِيه بعض مُخَالفَة لما وَصفه ابْن مَرْزُوق فِي الْهَدِيَّة والخطب سهل ثمَّ انتسخ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم على القانون الأول ووقفها على الْقُرَّاء بِالْمَدِينَةِ وَبعث بهَا من تخيره لذَلِك الْعَهْد من أهل دولته سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَفعل مثل ذَلِك بحرم بَيت الْمُقَدّس قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني قد كتب ثَلَاثَة مصاحف شريفة بِخَطِّهِ وأرسلها إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال ووقف عَلَيْهَا أوقافا جليلة كتب سُلْطَان مصر وَالشَّام توقيعه بمسامحتها من إنْشَاء الأديب الشهير جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ وَنَصّ مَا يتَعَلَّق بِهِ الْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله وَهُوَ الَّذِي مد يَمِينه بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات الشَّرِيفَة فأيد الله حزبه بِمَا سطره من أحزابها واتصلت مَلَائِكَة النَّصْر بلوائه تَغْدُو وَتَروح وَكَثُرت فتوحه لأملياء الغرب فَقَالَت أوقاف الشرق لَا بُد للْفُقَرَاء من فتوح ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي ورتب عَلَيْهَا أوقافا تجْرِي أَقْلَام الْحساب فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا وَحبس أملاكا شامية تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الأَرْض إِلَى مشرقها وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الختمات بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف وينفع الْجَالِس من وُلَاة الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف اه قَالَ الْمقري وَقد رَأَيْت أحد الْمَصَاحِف الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي بِبَيْت الْمُقَدّس وربعته فِي غَايَة الصَّنْعَة اه وَالله تَعَالَى أعلم واتصلت الْولَايَة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي أَمر مصر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 نكبة الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن وفرار وزيره زيان بن عمر الوطاسي وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله عِنْدَمَا نَهَضَ إِلَى تلمسان أَولا وَثَانِيا ينْتَظر قدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي عَلَيْهِ لما كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين أَبِيه أبي سعيد رَحمَه الله من الِاجْتِمَاع على تلمسان والتعاون على حصارها وَلما فتح أَبُو الْحسن تلمسان فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم كَانَ وَزِير الحفصيين الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين شَاهدا لذَلِك الْفَتْح قدم رَسُولا من عِنْد مخدومه السُّلْطَان أبي بكر الْمَذْكُور فَأسر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن بِأَن مخدومه قادم عَلَيْهِ للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه فتشوف السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَيْهَا لما كَانَ يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وارتحل عَن تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وعسكر بمتيجة منتظرا لوفادة صهره عَلَيْهِ فتكاسل الحفصي عَن الْقدوم بِسَبَب تثبيط مُحَمَّد بن الْحَكِيم من رجال دولته إِيَّاه عَن ذَلِك وَقَالَ لَهُ إِن لِقَاء سلطانين لَا يتَّفق إِلَّا فِي يَوْم على أَحدهمَا فكره الحفصي ذَلِك وتقاعد عَنهُ وَطَالَ مقَام السُّلْطَان أبي الْحسن فِي انْتِظَاره ثمَّ طرقه بفسطاطه مرض ألزمهُ الْفراش حَتَّى تحدث أهل الْعَسْكَر بمهلكه وَكَانَ ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك متناغيين فِي ولَايَة عهد مُنْذُ أَيَّام جدهما أبي سعيد وَكَانَ أَبوهُمَا قد جعل لَهما لأوّل دولته ألقاب الْإِمَارَة وَأَحْوَالهَا من اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَإِثْبَات الْعَطاء واستلحاق الفرسان وانفراد كل بعسكره على حِدة وَجعل لَهما مَعَ ذَلِك الْجُلُوس بمقعد فَصله مناوبة لتنفيذ الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة فَكَانَا لذَلِك رديفين لَهُ فِي سُلْطَانه وَلما اشْتَدَّ وجع السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة تمشت سماسرة الْفِتَن بَينهمَا وتحزب أهل الْعَسْكَر لَهما حزبين وشوشوا بواطنهما فَبَثَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا المَال وَحمل على المقربات وَصَارَ الْجَيْش شيعًا وهم الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن بالتوثب على الْأَمر قبل أَن يتَبَيَّن حَال السُّلْطَان بإغراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وزرائه وبطانته بذلك وتفطن خَاصَّة السُّلْطَان لما وَقع فأخبروه الْخَبَر وحضوه على الْخُرُوج إِلَى النَّاس قبل أَن يَتَفَاقَم الْأَمر ويتسع الْخرق فبرز السُّلْطَان إِلَى فسطاط جُلُوسه وتسامع أهل المعسكر بِهِ فازدحموا إِلَى بساطة وتقبيل يَده وتقبض على أهل الظنة من الْجَيْش فأودعهم السجْن وَسخط على الأميرين وَأمر برحيل من كَانَ مَعَهُمَا من الْجند فردهم إِلَى مُعَسْكَره ثمَّ رَجَعَ إِلَى فسطاطه وطفئت نَار الْفِتْنَة وَسكن سعي المفسدين وانتبذ النَّاس عَن الأميرين الْمَذْكُورين فبقيا أوحش من وتد بقاع فَاشْتَدَّ جزع الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن وَركب من فسطاطه وخاض اللَّيْل فَأصْبح بحلة أَوْلَاد على أُمَرَاء بني زغبة من هِلَال الموطنين بِأَرْض حَمْزَة فتقبض عَلَيْهِ أَمِيرهمْ مُوسَى بن أبي الْفضل ورده إِلَى أَبِيه فاعتقله بوجدة ورتب الْعُيُون لحراسته وَلحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين أَصْحَاب تونس فأجاروه وَرَضي السُّلْطَان صَبِيحَة فرار أبي عبد الرَّحْمَن عَن أَخِيه أبي مَالك وَعقد لَهُ على ثغور عمله بالأندلس وَصَرفه إِلَيْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان وَالله أعلم ثورة ابْن هيدور الجزار وَمَا كَانَ من أمره لما تقبض السُّلْطَان أَبُو الْحسن على ابْنه عبد الرَّحْمَن وأودعه السجْن تفرق خدمه وحشمه فِي الْجِهَات وَكَانَ مِنْهُم رجل جزار مُرَتّب فِي مطبخه يعرف بِابْن هيدور وَكَانَ لَهُ شبه فِي الصُّورَة بِأبي عبد الرَّحْمَن فلحق ببني عَامر بن زغبة وَكَانُوا لذَلِك الْعَهْد منحرفين عَن طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن لاختصاصه عريف بن يحيى أَمِير بني سُوَيْد أعدائهم فَلَمَّا لحق بهم ابْن هيدور هَذَا انتسب لَهُم إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَأَنه ابْنه أَبُو عبد الرَّحْمَن فَشبه لَهُم وَبَايَعُوهُ وأجلبوا بِهِ على نواحي لمدية فبرز إِلَيْهِم قائدها فهزموه ثمَّ جمع لَهُم ونزمار بن عريف بن يحيى فَهَزَمَهُمْ وافترق جمعهم ونبذوا للجزار عَهده فلحق ببني يزناتن من زواوة فَنزل على شيختهم شمسي من بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 عبد الصَّمد مِنْهُم وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة قد ملكتهم وغلبت عَلَيْهِم بقومها ورجالها وَكَانَ لَهَا بنُون عشرَة فاستفحل أمرهَا بهم وَلما نزل عَلَيْهَا الجزار الْمَذْكُور وانتسب لَهَا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن قَامَت بأَمْره وشمرت عزائمها لإجارته وحملت قَومهَا على طَاعَته وشاع فِي النَّاس خَبره فَمن مُصدق وَمن مكذب وسرب السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْأَمْوَال فِي قَومهَا وبنيها على إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأَبت ثمَّ نمى إِلَيْهَا الْخَبَر بكذبه وتمويهه فنبذت إِلَيْهِ عَهده وَخرج عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَرَب فلحق بالذواودة أُمَرَاء ريَاح من بني هِلَال وَنزل على سيدهم يَعْقُوب بن عَليّ وانتسب لَهُ فِي مصل ذَلِك فأجاروه إِن صدق نسبه وأوعز السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى صهره أبي بكر الحفصي فِي شَأْن الجزار فَبعث الحفصي إِلَى يَعْقُوب بن عَليّ فِي ذَلِك فأشخصه إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مَعَ بعض حَاشِيَته فلحق بِهِ بمكانه بسبتة يُرِيد الْجِهَاد فامتحنه وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وَبَقِي الْمغرب تَحت جراية من الدولة إِلَى أَن هلك فِي بعض السنين وَأما الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما سجن بوجدة بَقِي هُنَالك إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَوَثَبَ ذَات يَوْم بالسجان فَقتله واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فأنفذ حَاجِبه عَلان بن مُحَمَّد فَقضى عَلَيْهِ رحم الله الْجَمِيع أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ من وقْعَة طريف الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين وَغير ذَلِك لما فرغ السُّلْطَان أَبُو الْحسن من شَأْن عدوه وعلت على الْأَيْدِي يَده وَانْفَسَحَ نطاق ملكه دَعَتْهُ همته إِلَى الْجِهَاد وَكَانَ كلفا بِهِ فأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير أبي مَالك أَمِير الثغور الأندلسية سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب وجهز إِلَيْهِ العساكر من حَضرته وأنفذ إِلَيْهِ الوزراء فشخص أَبُو مَالك غازيا وتوغل فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة واكتسحها وَخرج بِالسَّبْيِ والغنائم إِلَى أدنى صدر من أَرضهم وأناخ بهَا فاتصل بِهِ الْخَبَر أَن النَّصَارَى قد جمعُوا لَهُ وَأَنَّهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 أغذو السّير فِي اتِّبَاعه فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمَلأ بِالْخرُوجِ من أَرضهم وعبور الْوَادي الَّذِي كَانَ تخما بَين أَرض الْمُسلمين وَدَار الْحَرْب ويتحيز إِلَى مدن الْمُسلمين فَيمْتَنع بهَا فلج فِي إبايته وصمم على التَّعْرِيس وَكَانَ قرما ثبتا إِلَّا أَنه غير بَصِير بِالْحَرْبِ لصِغَر سنه فصحبتهم عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة فِي مضاجعهم قبل أَن يركبُوا وخالطوهم فِي بياتهم وأدركوا الْأَمِير أَبَا مَالك بِالْأَرْضِ قبل أَن يَسْتَوِي على فرسه فجدلوه واستلحموا الْكثير من قومه واحتووا على المعسكر بِمَا فِيهِ من أَمْوَال الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وَرَجَعُوا على اعقابهم واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فتفجع لهلاك ابْنه واسترحم لَهُ واحتسب عِنْد الله أجره ثمَّ أنفذ وزراءه إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل وَفتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجنُود وأزاح عللهم واستنفر أهل الْمغرب كَافَّة ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة ليباشر أَحْوَال الْجِهَاد وتسامعت بِهِ أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاسْتَعدوا للدفاع وَأخرج الطاغية أسطوله إِلَى الزقاق ليمنع السُّلْطَان من الْإِجَازَة واستحث السُّلْطَان أساطيل الْمُسلمين من مراسي الْمغرب وَبعث إِلَى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إِلَيْهِ فعقدوا عَلَيْهِ لزيد بن فَرِحُونَ قَائِد أسطول بجاية ووافى سبتة فِي سِتَّة عشر أسطولا من أساطيل إفريقية كَانَ فِيهَا من طرابلس وَقَابِس وجربة وتونس وبونة وبجاية وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الْمِائَة وَعقد السُّلْطَان عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ العزفي الَّذِي كَانَ صَاحب سبتة يَوْم فتحهَا أَيَّام السُّلْطَان أبي سعيد وَأمره بمناجزة أسطول النَّصَارَى بالزقاق وَقد تَكَامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا فِي السِّلَاح وزحفوا إِلَى أسطول النَّصَارَى وتواقفوا مَلِيًّا ثمَّ قربوا الأساطيل بَعْضهَا من بعض وقرنوها للمصاف فَلم يمض إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وأظفر الله الْمُسلمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 بعدوهم وخالطوهم فِي أساطيلهم واستلحموهم هبرا بِالسُّيُوفِ وطعنا بِالرِّمَاحِ وألقوا أشلاءهم فِي اليم وَقتلُوا قائدهم الملند وَاسْتَاقُوا أساطيلهم مجنوبة إِلَى مرسى سبتة فبرز النَّاس لمشاهدتها وطيف بِكَثِير من رؤوسهم فِي جَوَانِب الْبَلَد ونظمت أصفاد الأسرى بدار الْإِنْشَاء وَعظم الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان للتهنئة وَأنْشد الشُّعَرَاء بَين يَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت سادس شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة فَكَانَ من أعز أَيَّام الْإِسْلَام ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إجَازَة العساكر من المتطوعة والمرتزقة وانتظمت الأساطيل سلسلة وَاحِدَة من العدوة إِلَى العدوة وَلما تكاملت العساكر بالعبور وَكَانَت نَحْو سِتِّينَ ألفا أجازهو فِي أسطوله مَعَ خاصته وحشمه آخر سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَنزل بِسَاحَة طريف وأناخ عَلَيْهَا ثَالِث محرم من السّنة بعْدهَا وَشرع فِي منازلتها ووافاه سُلْطَان الأندلس أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر فِي عَسْكَر الأندلس من غزَاة بني مرين وحامية الثغور ورجالة البدو فعسكروا حذاء مُعَسْكَره وَأَحَاطُوا بطريف نطاقا وَاحِدًا وأنزلوا بهَا أَنْوَاع الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا الْآلَات وجهز الطاغية أسطولا آخر اعْترض بِهِ الزقاق لقطع الْمرَافِق عَن المعسكر وَطَالَ مقَام الْمُسلمين بمكانهم حول طريف ففنيت أَزْوَادهم وَقلت العلوفات فوهن الظّهْر واختلت أَحْوَالهم ثمَّ احتشد الطاغية أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَظَاهره البرتقال صَاحب أشبونة وَغرب الأندلس وزحفوا إِلَى الْمُسلمين لسِتَّة أشهر من نزولهم على طريف وَلما قرب الطاغية من معسكر الْمُسلمين سرب إِلَى طريف جَيْشًا من النَّصَارَى أكمنه بهَا إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ فَدَخَلُوهَا لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس الَّذين أرصدوا لَهُم وأحسوا بهم آخر اللَّيْل فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أَعْقَابهم قبل دُخُول الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم عددا وَقد نجا أَكْثَرهم فلبسوا على السُّلْطَان أَنه لم يدْخل الْبَلَد سواهُم حذرا من سطوته ثمَّ زحف الطاغية من الْغَد فِي جموعه إِلَى الْمُسلمين وعبأ السُّلْطَان مواكبه صُفُوفا وتزاحفوا وَلما نشبت الْحَرْب برز الْجَيْش الكمين من الْبَلَد وَهُوَ الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 دخل لَيْلًا وخالفوا الْمُسلمين إِلَى معسكرهم وعمدوا إِلَى فسطاط السُّلْطَان فدافعهم عَنهُ الناشبة الَّذين كَانُوا على حراسته فاستلحموهم لقلتهم ثمَّ دافعهم النِّسَاء عَن أنفسهم فقتلوهن كَذَلِك وخلصوا إِلَى حظايا السُّلْطَان مِنْهُنَّ عَائِشَة بنت عَمه أبي بكر بن يَعْقُوب بن عبد الْحق وَفَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَغَيرهمَا من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن ومثلوا بِهن وانتهبوا سَائِر الْفسْطَاط وأضرموا المعسكر نَارا ثمَّ أحس الْمُسلمُونَ بِمَا وَرَاءَهُمْ فِي معسكرهم فاختل مَصَافهمْ وَارْتَدوا على أَعْقَابهم بعد أَن كَانَ تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن صمم فِي طَائِفَة من قومه وحاشيته حَتَّى خالطهم فِي صفوفهم فأحاطوا بِهِ وتقبضوا عَلَيْهِ وَعظم الْمُصَاب بأسره وَكَانَ الْخطب على الْإِسْلَام قَلما فجع بِمثلِهِ وَذَلِكَ ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن متحيزا إِلَى فِئَة الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ كثير من الْغُزَاة وَتقدم الطاغية حَتَّى انْتهى إِلَى فسطاط السُّلْطَان من الْمحلة فَأنْكر قتل النِّسَاء والولدان وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى أَثَره ثمَّ انكفأ رَاجعا إِلَى بِلَاده وَلحق ابْن الْأَحْمَر بغرناطة وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ مِنْهَا إِلَى جبل الْفَتْح ثمَّ ركب الأسطول إِلَى سبتة فِي لَيْلَة غده ومحص الله الْمُسلمين وأجزل ثوابهم اسْتِيلَاء الْعَدو على الجزيرة الخضراء لما رَجَعَ الطاغية من طريف استأسد على الْمُسلمين بالأندلس وطمع فِي التهامهم وَجمع عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة ونازل أَولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعَلى مرحلة مِنْهَا وَجمع الْآلَات وَالْأَيْدِي على حصارها وَأخذ بمخنقها فَأَصَابَهُمْ الْجهد من الْعَطش فنزلوا على حِكْمَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأدال الله الطّيب مِنْهَا بالخبيث وَانْصَرف الطاغية إِلَى بِلَاده وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن لما أجَاز إِلَى سبتة أَخذ نَفسه بِالْعودِ إِلَى الْجِهَاد لرجع الكرة فَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين وَأخرج قواده إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل فتكامل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 لَهُ مِنْهَا عدد مُعْتَبر ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس وَقدم عساكره إِلَيْهَا مَعَ وزيره عَسْكَر بن تاحضريت وَعقد على الجزيرة الخضراء لمُحَمد بن الْعَبَّاس بن تاحضريت من قرَابَة الْوَزير وَبعث إِلَيْهَا مدَدا من الْعَسْكَر مَعَ مُوسَى بن إِبْرَاهِيم اليريناني من المرشحين للوزارة نِيَابَة وَبلغ الطاغية خَبره فَجهز أسطوله وأجراه إِلَى بَحر الزقاق لمدافعته وتلاقت الأساطيل ومحص الله الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ مِنْهُم أعداد وتغلب اسطول الطاغية على بَحر الزقاق فملكه دون الْمُسلمين وَأَقْبل الطاغية من إشبيلية فِي عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة حَتَّى أَنَاخَ بهَا على الجزيرة الخضراء مرفأ أساطيل الْمُسلمين وفرضة الْمجَاز وَرَجا أَن ينظمها فِي مَمْلَكَته مَعَ جارتها طريف وَحشر الفعلة والصناع للآلات وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وطاولها الْحصار وَاتخذ أهل المعسكر بُيُوتًا من الْخشب للمطاولة وَجَاء السطلان أبوالحجاج بن الْأَحْمَر بعساكر الأندلس فَنزل قبالة الطاغية بِظَاهِر جبل الْفَتْح فِي سَبِيل الممانعة وَأقَام السُّلْطَان أَبُو الْحسن بمكانه من سبتة يسرب إِلَى أهل الجزيرة المدد من الفرسان وَالْمَال والقوت فِي أَوْقَات الْغَفْلَة من أساطيل الْعَدو تَحت جنَاح اللَّيْل وَأُصِيب كثير من الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلم يغن على أهل الجزيرة ذَلِك المدد شَيْئا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم الْحصار وأصابهم الْجهد وَأَجَازَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن يفاوضه فِي شَأْن السّلم مَعَ الطاغية بعد أَن أذن الطاغية لَهُ فِي الْإِجَازَة مكرا بهَا وأصدر لَهُ بعض الأساطيل فِي طَرِيقه فَصَدَّقَهُمْ الْمُسلمُونَ الْقِتَال وخلصوا إِلَى السَّاحِل بعد غص الرِّيق وَضَاقَتْ أَحْوَال أهل الجزيرة وَمن كَانَ بهَا من عَسْكَر السُّلْطَان فسألوا الطاغية الْأمان على أَن ينزلُوا لَهُ عَن الْبَلَد فبذله لَهُم وَخَرجُوا فوفى لَهُم وأجازوا إِلَى الْمغرب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم السُّلْطَان ببلاده على خير نزل ولقاهم من المبرة والكرامة مَا عوضهم بِمَا فاتهم وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ ووصلهم بِمَا تحدث النَّاس بِهِ وتقبض على وزيره عَسْكَر بن تاحضريت عُقُوبَة لَهُ على تَقْصِيره فِي المدافعة مَعَ تمكنه مِنْهَا وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى حَضرته موقنا بِظُهُور أَمر الله وإنجاز وعده وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بَقِيَّة أَخْبَار بني أبي الْعَلَاء قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ يَلِي مشيخة الْغُزَاة بالأندلس وَأَنه اسْتشْهد سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بأَمْره ابْنه أَبُو ثَابت فاستحوذ بعصبيته وَقَومه على بني الْأَحْمَر فَقتلُوا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل مِنْهُم مرجعه من فتح جبل الْفَتْح ونصبوا لِلْأَمْرِ أَخَاهُ يُوسُف بن إِسْمَاعِيل حَسْبَمَا تقدم الإلماع بذلك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا الْحجَّاج هَذَا بَقِي بَين جَنْبَيْهِ دَاء دخيل من بني أبي الْعَلَاء الَّذين فتكوا بأَخيه فَلم يزل يسْعَى فِي أَمرهم حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس فنزلوا على السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّا الحفصي واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فَكتب إِلَيْهِ باعتقالهم فَفعل ثمَّ بدا لَهُ فَبعث إِلَيْهِ مَعَ عريف الوزعة بِبَابِهِ مَيْمُون بن بكرون فِي إشخاصهم إِلَى حَضرته فتوقف الحفصي عَن ذَلِك وأبى من إخفار ذمتهم فَأَشَارَ عَلَيْهِ وزيره أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين ببعثهم إِلَيْهِ وَأَنه لَا يُرِيد بهم إِلَّا الْخَيْر فبعثهم وَبعث كِتَابه بالشفاعة فيهم فقدموا على السُّلْطَان أبي الْحسن مرجعه من الْجِهَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَتَلقاهُمْ بِالْبرِّ والكرامة إِكْرَاما لشفيعهم وأنزلهم بمعسكره وَحَملهمْ على الْخُيُول المسومة بالمراكب الثَّقِيلَة وَضرب لَهُم الفساطيط وأسنى لَهُم الْخلْع والجوائز وَفرض لَهُم فِي أَعلَى رتب الْعَطاء وصاروا فِي جملَته وَلما احتل بسبتة لمشارفة أَحْوَال الجزيرة الخضراء سعى عِنْده فيهم بِأَن كثيرا من المفسدين يداخلونهم فِي الْخُرُوج والتوثب على الْأَمر فتقبض عَلَيْهِم وأودعهم السجْن بمكناسة الزَّيْتُون واستمروا هُنَالك إِلَى أَن قَامَ أَبُو عنان فَأَطْلَقَهُمْ واستعان بهم على أمره حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لصَاحب مصر أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن راسل الْملك النَّاصِر صَاحب مصر وهاداه بِمَا عظم وقعه عِنْد الْخَاصَّة والعامة واتصلت الْولَايَة بَينه وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا وأتحفه وَعَزاهُ عَن أَبِيه وأوفد عَلَيْهِ كَاتبه وَصَاحب ديوَان الْخراج أَبَا الْفضل بن أبي عبد لله بن أبي مَدين وَفِي صحبته الْحرَّة أُخْت السُّلْطَان أبي الْحسن فَقضى من وفادته مَا حمل وأصحبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن كتابا إِلَى الْملك الصَّالح أبي الْفِدَاء وَكَانَ وُصُوله إِلَى مصر منتصف شعْبَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَنَصّ الْكتاب بعد الْبَسْمَلَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله رب الْعَالمين الْمَنْصُور بِفضل الله المتَوَكل عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فِي جَمِيع أُمُوره لَدَيْهِ سُلْطَان البرين حامي العدوتين مُؤثر المرابطة والمثاغرة موازر حزب الْإِسْلَام حق الموازرة نَاصِر الْإِسْلَام مظَاهر دين الْملك العلام ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين فَخر السلاطين حامي حوزة الدّين ملك البرين إِمَام العدوتين ممهد الْبِلَاد مبدد شَمل الأعاد مجند الْجنُود الْمَنْصُور الرَّايَات والبنود محط الرّحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين حَسَنَة الْأَيَّام حسام الْإِسْلَام أبي الْأَمْلَاك مشجي أهل العناد والإشراك مَانع الْبِلَاد رَافع علم الْجِهَاد مدوخ أقطار الْكفَّار مصرخ من ناداه للانتصار الْقَائِم لله بإعلاء دين الْحق أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أخْلص الله لوجهه جهاده وَيسر فِي قهر عداة الدّين مُرَاده إِلَى مَحل ولدنَا الَّذِي طلع فِي أفق الْعلَا بَدْرًا تما وصدع بأنواع الفخار فَجلى ظلاما وظلما وَجمع شَمل المملكة الناصرية فأعلى مِنْهَا علما وأحيى رسما حَائِط الْحَرَمَيْنِ الْقَائِم بِحِفْظ الْقبْلَتَيْنِ باسط الْأمان قَابض كف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الْعدوان الجزيل النوال الْكَفِيل تأمينه بحياطة النُّفُوس وَالْأَمْوَال قطب الْمجد وسماكه حسب الْحَمد وملاكه السُّلْطَان الْجَلِيل الرفيع الْأَصِيل الحافل الْعَادِل الْفَاضِل الْكَامِل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان المؤزر الْمُؤَيد المظفر الْملك الصَّالح أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مَحل أخينا الشهير علاؤة المستطير فِي الْآفَاق ثَنَاؤُهُ زين الْأَيَّام والليال كَمَال عين إناس الْمجد وإنسان عين الْكَمَال وَارِث الدول النافث بِصَحِيح رَأْيه فِي عُقُود أهل الْملَل والنحل حامي الْقبْلَتَيْنِ بعدله وحسامه النامي فِي حفظ الْحَرَمَيْنِ أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين وجيوشها هَادِم الْكَنَائِس وَالْبيع فَهِيَ خاوية على عروشها السُّلْطَان الْأَجَل الْهمام الأحفل الأفخم الأضخم الْفَاضِل الْعَادِل الشهير الْكَبِير الرفيع الخطير الْمُجَاهِد المرابط المقسط عدله فِي الجائر والقاسط الْمُؤَيد المظفر الْمُنعم الْمُقَدّس المطهر زين السلاطين نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الْملك الأرضى الْهمام الأمضى وَالِد السلاطين الأخيار عَاقد لِوَاء النَّصْر فِي قهر الأرمن والفرنج والتتار محيي رسوم الْجِهَاد معلي كلمة الْإِسْلَام فِي الْبِلَاد جمال الْأَيَّام ثمال الْأَعْلَام فاتح الأقاليم صَالح مُلُوك عصره المتقادم الإِمَام الْمُؤَيد الْمَنْصُور المسدد قسيم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَا تقلد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون مكن الله لَهُ تَمْكِين أوليائه ونمى دولته الَّتِي أطلعها لَهُ السعد شمسا فِي سمائه وَأحسن إيزاعه للشكر أَن جعله وَارِث آبَائِهِ سَلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصِّبَا مجْرَاه يَصْحَبهُ رضوَان يَدُوم مَا دَامَت تقل الْفلك حركاته ويتولاه روح وَرَيْحَان تحييه بِهِ رَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله مَالك الْملك جَاعل الْعَاقِبَة للتقوى صدعا بِالْيَقِينِ ودفعا للشَّكّ وخاذل من أسر النِّفَاق فِي النَّجْوَى فاصر على الدخن والإفك وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد رَسُوله الَّذِي محى بأنوار الْهدى ظلم الشّرك وَنبيه الَّذِي ختم بِهِ الْأَنْبِيَاء وَهُوَ وَاسِطَة ذَلِك السلك ودعا بِهِ حجَّة الْحق فمادت بالكفرة مَحْمُولَة الأفلاك وَمَاجَتْ بهم حاملة الْفلك وَالرِّضَا عَن آله وَصَحبه الَّذين سلكوا سَبِيل هداه فسلك فِي قُلُوبهم أجمل السلك وملكوا أعنه هواهم فلزموا من محجة الصَّوَاب أنجح السلك وَصَابِرُوا فِي جِهَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 الْأَعْدَاء فَزَاد خلوصهم مَعَ الِابْتِلَاء وَالذَّهَب يزِيد خلوصا على السبك وَالدُّعَاء لأولياء الْإِسْلَام وحماته الْأَعْلَام بنصر لمضائه فِي العدي أعظم الفتك وَيسر بِقَضَائِهِ دَرك آمال الظُّهُور وأحفل بذلك الدَّرك فَكَتَبْنَاهُ إِلَيْكُم كتب الله لكم رسوخ الْقدَم وسبوغ النعم من حضرتنا مَدِينَة فاس المحروسة وصنع الله سُبْحَانَهُ يعرف مَذَاهِب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الْأَلْسِنَة فِي الْقُصُور عَن شكرها بالاعتراف وَيصرف من أمره الْعَظِيم وقضائه المتلقى بِالتَّسْلِيمِ مَا يتكون بَين النُّون وَالْكَاف ومكانكم العتيد سُلْطَانه وسلطانكم الْمجِيد مَكَانَهُ وولاؤكم الصَّحِيح برهانه وعلاؤكم الفسيح فِي مجَال الْجلَال ميدانه وَإِلَى هَذَا زَاد الله سلطانكم تمكينا وَأفَاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنَن من خلفتموه سَبِيلا مُبينًا فَلَا خَفَاء بِمَا كَانَت عقدته أَيدي التَّقْوَى ومهدته الرسائل الَّتِي على الصفاء تطوى بَيْننَا وَبَين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مَعَ الْأَبْرَار فِي عليين أنسه من مؤاخاة أحكمت مِنْهَا العهود تالية الْكتب والفاتحة وَحفظ عَلَيْهَا مُحكم الْإِخْلَاص معوذاتها الْمحبَّة وَالنِّيَّة الصَّالِحَة فانعقدت على التَّقْوَى والرضوان واعتضدت بتعارف الْأَرْوَاح عِنْد تنازح الْأَبدَان حَتَّى استحكمت وصلَة الْوَلَاء والتأمت كلحمة النّسَب لحْمَة الإخاء فَمَا كَانَ إِلَّا وشيكا من الزَّمَان وَلَا عجب قصر زمن الوصلة أَن يشكوه الخلان ورد وَارِد أورد رنق المشارب وحقق قَول وَمن يسْأَل الركْبَان عَن كل غَائِب أنبأ باستثارة الله تَعَالَى بِنَفسِهِ الزكية وإكنان درته السّنيَّة وانقلابه إِلَى مَا أعد لَهُ من الْمنَازل الرضوانية بجليل مَا وقر لفقده فِي الصُّدُور وعظيم مَا تأثرت لَهُ النُّفُوس لوُقُوع ذَلِك الْمَقْدُور حنانا لِلْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الأقطار وإشفاقا من أَن يعتور قاصدي بَيت الله الْحَرَام من جراء الْفِتَن عَارض الْإِضْرَار ومساهمة فِي مصاب الْملك الْكَرِيم وَالْوَصِيّ الْحَمِيم ثمَّ عميت الْأَخْبَار وطويت طي السّجل الْآثَار فَلم نر مخبرا صدقا وَلَا معلما بِمن اسْتَقر لَهُ ذَلِكُم الْملك حَقًا وَفِي أثْنَاء ذَلِك حفزنا للحركة عَن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الْأَخْبَار بِأَن النَّصَارَى أَجمعُوا على خراب أوطانها وَنحن أثْنَاء ذَلِك الشَّأْن نستخبر الوراد من تلكم الْبلدَانِ عَمَّا أجلى عَنهُ ليل الْفِتَن بتلكم الأوطان فَبعد لأي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وقعنا مِنْهَا على الْخَبِير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أَن الْملك اسْتَقر مِنْكُم فِي نصابه وتداركه الله تَعَالَى مِنْكُم بفاتح الْخَيْر من أبوابه فأطفأ بكم نَار الْفِتْنَة وأخمدها مِنْهُ أدواء النِّفَاق مَا أعل الْبِلَاد وأفسدها فَقَامَ سَبِيل الْحَج سابلا وَعبر طَرِيقه لمن جَاءَ قَاصِدا وقافلا وَلما احتفت بِهَذَا الْخَبَر الْقَرَائِن وتواتر بِنَقْل الْحَاضِر المعاين أثار حفظ الإعتقاد البواعث والود الصَّحِيح تجره حَقًا الموارث فأصدرنا لكم هَذِه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بَين الْخَبَر والإستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار وَمثل ذَلِك الْملك رضوَان الله عَلَيْهِ من تجل المصائب لفقدانه وَتحل عرى الإصطبار بِمَوْتِهِ ولات حِين أَوَانه وَلَكِن الصَّبْر اجمل مَا ارتداه ذُو عقل حُصَيْن وَالْأَجْر أولى مَا اقتناه ذُو دين متين ومثلكم من لَا يخف وقاره وَلَا يشف عَن ظُهُور الْجزع الْحَادِث اصطباره وَمن خلفتموه فَمَا مَاتَ ذكره وَمن قُمْتُم بأَمْره فَمَا زَالَ بل زَاد فخره وَقد طَالَتْ وَالْحَمْد لله العيشه الراضية بالحقب وطاب بَين مبداه ومحتضره هَنِيئًا بِمَا من الْأجر اكْتسب وَصَارَ حميدا إِلَى خير مُنْقَلب ووفد من كرم الله على أفضل مَا منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بَيته مقيلة أَو معرسة وَنحن بعد بسط هَذِه التَّعْزِيَة نهنيكم بِمَا خولكم الله أجمل التهنية وَفِي ذَات الله الْإِيرَاد والإصدار وَفِي مرضاته سُبْحَانَهُ الْإِضْمَار والإظهار فَاسْتَقْبلُوا دولة ألْقى الْعِزّ عَلَيْهَا رواقه وَعقد الظُّهُور عَلَيْهَا نطاقه وَأَعْطَاهُ أَمَان الزَّمَان عقده وميثاقه وَنحن على مَا عاهدنا عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر رضوَان الله عَلَيْهِ من عهود موثقة وموالاة مُحَققَة وثناء كمائمه عَن أذكى من الزهر غب الْقطر مفتقه وَلم يغب عَنْكُم مَا كَانَ من بعثنَا المصحفين الأكرمين اللَّذين خطتهما منا الْيَمين وآوت بهما الرَّغْبَة من الْحَرَمَيْنِ الشريفين إِلَى قَرَار مكين وَإنَّهُ كَانَ لوالدكم الْملك النَّاصِر تولاة الله برضونه وَأوردهُ موارد إحسانه فِي ذَلِكُم من الْفِعْل الْجَمِيل والصنع الْجَلِيل مَا ناسب مَكَانَهُ الرفيع وشاكل فَضله من الْبر الَّذِي لَا يضيع حَتَّى طبق فعله الْآفَاق ذكرا وطوق أَعْنَاق الوراد والقصاد برا وَكَانَ من أجمل مَا بِهِ تحفى وأتحف وَأعظم مَا بعرفه إِلَى الْملك العلام فِي ذَلِك تعرف إِذْنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 للمتوجهين إِذا ذَاك فِي شِرَاء رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم الْمُبَارَكَة بتحرير ذَلِك الْوَقْف مَعَ اخْتِلَاف الجديدين فجرت أَحْوَال الْقُرَّاء فِيهَا بذلك الْخراج السمتفاد ريثما يصلهم من خراج مَا وقفناه عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْبِلَاد على مَا رسمه رَحْمَة الله عَلَيْهِ من عناية بِهِ مُتَّصِلَة واحترام فِي تِلْكَ الْأَوْقَاف فوائدها بِهِ متوفرة متحصلة وَقد أمرنَا مؤدي هَذَا لَكمَا لكم وموفده على جلالكم كاتبنا الْأَسْنَى الْفَقِيه الْأَجَل الأحظى الْأَكْمَل أَبَا الْمجد ابْن كاتبنا الشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْحَاج الأتقى الأرضى الْأَفْضَل الأحظى الْأَكْمَل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مَدين حفظ الله عَلَيْهِ رتبته وَيسر فِي قصد الْبَيْت الْحَرَام بغيته بِأَن يتفقد أَحْوَال تِلْكَ الْأَوْقَاف ويتعرف تصرف النَّاظر عَلَيْهَا وَمَا فعله من سداد وإسراف وَأَن يتَخَيَّر لَهَا من يرتضي لذَلِك ويحمد تصرفه فِيمَا هُنَالك وخاطبنا سلطانكم فِي هَذَا الشَّأْن جَريا على الود الثَّابِت الْأَركان وإعلاما بِمَا لوالدكم رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْأَفْعَال الحسان وكما لكم يَقْتَضِي تخليد ذَلِكُم الْبر الْجَمِيل وتجديد علم ذَلِك الْملك الْجَلِيل وتشييد مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الشِّرَاء الْأَصِيل وَالْأَجْر الجزيل والتقدم بِالْإِذْنِ السلطاني فِي إِعَانَة هَذَا الْوَافِد بِهَذَا الْكتاب على مَا يتوخاه فِي ذَلِك الشَّأْن من طرق الصَّوَاب وثناؤنا عَلَيْكُم الثَّنَاء الَّذِي يفاوح زهر الرِّبَا ويطارح نغم حمام الأيك مطربا وبحسب المصافاة وَمُقْتَضى الْمُوَالَاة نشرح لكم المتزايدات بِهَذِهِ الْجِهَات وننبئكم بِمُوجب إبطاء إِنْفَاذ هَذَا الْخطاب على ذَلِكُم الجناب وَذَلِكَ أَنه لما وصلنا من الأندلس الصَّرِيخ ونادى منا للْجِهَاد عزما لمثل ندائه يصيخ أَنبأَنَا أَن الْكفَّار قد جمعُوا أحزابهم من كل صوب وَفرض عَلَيْهِم باباهم اللعين التناصر من كل أَوب وَأَن تقصد طوائفهم الْبِلَاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرْضهَا من أطرافها ليمحو كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ويقلصوا ظلّ الْإِيمَان عَنْهَا فقدمنا من يشْتَغل بالأساطيل من القواد وسرنا على اثرهم إِلَى سبتة مُنْتَهى الغرب الْأَقْصَى وَبَاب الْجِهَاد فَمَا وصلناها إِلَّا وَقد أَخذه الْعَدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجَاز العبور وَأتوا من أجفانهم بِمَا لَا يُحْصى عددا وأرصدوها بمجمع الْبَحْرين حَيْثُ الْمجَاز إِلَى دفع العدا وتقلصوا عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 الانبساط فِي الْبِلَاد واجتمعوا إِلَى الجزيرة الخضراء أَعَادَهَا الله بِكُل من جَمَعُوهُ من الأعاد لَكنا مَعَ انسداد تِلْكَ السَّبِيل وَعدم أُمُور نستعين بهَا فِي ذَلِكُم الْعَمَل الْجَلِيل حاولنا إمداد تلكم الْبِلَاد بِحَسب الْجهد وأصرخناهم بِمَا أمكن من الْجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرْصَة الْإِجَازَة تَتَرَدَّد على خطر بِمن جهز للْجِهَاد جهازه وأمرنا لصَاحب الأندلس من المَال بِمَا يُجهز بِهِ حركته لمداناة محلّة حزب الضلال وأجرينا لَهُ ولجيشه الْعَطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لَهُم من النوال مَا نرجو بِهِ ثَوَاب الْآخِرَة وَجعلت أجفاننا تَتَرَدَّد فِي مينا السواحل وتلج أَبْوَاب الْخَوْف العاجل لإحراز الْأَمْن الآجل مشحونة بِالْعدَدِ الموفورة والأبطال الْمَشْهُورَة وَالْخَيْل المسومة والأقوات المقومة فَمن نَاجٍ حَارب دونه الْأَجَل وشهيد مضى لما عِنْد الله عز وَجل وَمَا زَالَت الأجفان تَتَرَدَّد على ذَلِك الْخطر حَتَّى تلف مِنْهَا سبع وَسِتُّونَ قِطْعَة غزوية أجرهَا عِنْد الله يدّخر ثمَّ لم نقنع بِهَذَا الْعَمَل فِي الْإِمْدَاد فَبَعَثنَا أحد أَوْلَادنَا أسعدهم الله مساهمة بِهِ لأهل تِلْكَ الْبِلَاد فلقي من هول الْبَحْر وارتجاجه وإلحاح الْعَدو ولجاجه مَا بِهِ الْأَمْثَال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب وَلما خلص لتِلْك العدوة بِمن أبقته الشدائد نزل بِإِزَاءِ الْكَافِر الجاحد حَتَّى كَانَ مِنْهُ بفرسخين أَو أدنى وَقد ضرب بِعَطَن يصابح الْعَدو ويماسيه بِحَرب بهَا يمنى وَقد كَانَ من مددنا بالجزيرة جَيش شريت شرارته وقويت فِي الْحَرْب إدارته يبلون الْبلَاء الأصدق وَلَا يبالون بالعدو وهم مِنْهُ كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاء فِي الْبَعِير الأورق إِلَّا أَن المطاولة بحصارها فِي الْبَحْر مُدَّة ثَلَاثَة أَعْوَام وَنصف ومنازلتها فِي الْبر نَحْو عَاميْنِ معقودا عَلَيْهَا الصَّفّ بالصف أدّى إِلَى فنَاء الأقوات فِي الْبَلَد حَتَّى لم يبْق لأهليه قوت شهر مَعَ انْقِطَاع المدد وَبِه من الْخلق مَا يربى على عشرَة آلَاف دون الْحرم وَالْولد فَكتب إِلَيْنَا سُلْطَان الأندلس يرغب فِي الْأذن لَهُ فِي عقد الصُّلْح وَوَقع الِاتِّفَاق على أَنه لاستخلاص الْمُسلمين من وُجُوه النجع فأذنا لَهُ فِيهِ الْإِذْن الْعَام إِذْ فِي إصراخه وإصراخ من بقطره من الْمُسلمين توخينا ذَلِك المرام هُنَالك دَعَا النَّصَارَى إِلَى السّلم فاستجابوا وَقد كَانُوا علمُوا فنَاء الْقُوت وَمَا استرابوا فتم الصُّلْح إِلَى عشر سِنِين وَخرج من بهَا من فرسَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَرِجَال وَأهل وبنين وَلَا رزئوا مَالا وَلَا عدَّة وَلَا لقوا فِي خُرُوجهمْ غير النزوح عَن أول أَرض مس الْجلد ترابها شدَّة ووصلوا إِلَيْنَا فأجزلنا لَهُم الْعَطاء وأسليناهم عَمَّا جرى بالحباء فَمن خيل تزيد على الْألف عتاقها وخلع تربى على عشرَة آلَاف أطواقها وأموال عَمت الْغَنِيّ وَالْفَقِير ورعاية شملت الْجَمِيع بالعيش النَّضِير كف الله ضرّ الطواغيت عَمَّا عَداهَا وَمَا انقلبوا بِغَيْر مَدَرَة عَفا رسمها وصم صداها وَقد كَانَ من لطف الله حِين قضى بِأخذ هَذَا الثغر أَن قدر لنا فتح جبل طَارق من أَيدي الْكفْر وَهُوَ المطل على هَذِه المدرة والفرصة مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى متيسرة حَتَّى يفرق عقد الْكفَّار ويفرج بِهَذِهِ الْجِهَة مِنْهُم مجاورو هَذِه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جَانب وكونهم سدوا مَسْلَك العبور بِمَا لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بأصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتِّفَاقهم وَلَكِن للموانع أَحْكَام وَلَا راد لما جرت بِهِ الأقلام وَقد أمرنَا لذَلِك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا لَهُ ولسائر تِلْكَ الْبِلَاد الْعدَد وَالْعدَد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السّفر ونرتبط الْجِيَاد وننتخب الْعدَد لوقت الظُّهُور المنتظر ونكون على أهبة الْجِهَاد وعَلى مرقبة الفرصة عِنْد تمكنها فِي الأعاد وَعند عودنا من تِلْكَ المحاولة نيسر الركب الْحِجَازِي موجها إِلَى هُنَاكُم رواحله فأصدرنا إِلَيْكُم هَذَا الْخطاب إصدار الود الْخَالِص وَالْحب اللّبَاب وَعِنْدنَا لكم مَا عِنْد أحنى الْآبَاء واعتقادنا فِيكُم فِي ذَات الله لَا يخْشَى جديده من الْبلَاء ومالكم من غَرَض بِهَذِهِ الأنحاء موفي قَصده على أكمل الْأَهْوَاء موَالِي تتميمه على أجمل الأراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب وَالْأَيْدِي على مَا فِيهِ مرضاة الله عز وَجل منعقدة جعل الله ذَلِكُم خَالِصا لرب الْعباد مدخورا ليَوْم التناد مسطورا فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَوْم الْمعَاد بمنه وفضله هُوَ سُبْحَانَهُ يصل إِلَيْكُم سَعْدا تتفاخر بِهِ سعود الْكَوَاكِب وتتضافر على الانقياد لَهُ صُدُور المواكب وتتقاصر عَن نيل مجده متطاولات المناكب وَالسَّلَام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَكتب فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين لشهر صفر الْمُبَارك من عَام خَمْسَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَصُورَة الْعَلامَة وَكتب فِي التَّارِيخ المؤرخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 قَالَ ابْن خلدون فَقضى أَبُو الْفضل بن أبي عبد الله بن ابي مَدين من وفادته مَا حمل وَكَانَ شَأْنه عجبا فِي إِظْهَار أبهة سُلْطَانه والإنفاق على الْمُسْتَضْعَفِينَ من إلحاج فِي طَرِيقه وإتحاف رجال الدولة التركية بِذَات يَده وَالتَّعَفُّف عَمَّا فِي أَيْديهم رَحمَه الله وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي وَفِي منتصف شعْبَان من سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة أُخْت صَاحب الْمغرب فِي جمَاعَة كَثِيرَة وعَلى يَدهَا كتاب السُّلْطَان أبي الْحسن يتَضَمَّن السَّلَام وَأَن يَدْعُو لَهُ الخطباء فِي يَوْم الْجُمُعَة ومشايخ الصّلاح وَأهل الْخَيْر بالنصر على عدوهم وَيكْتب إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ بذلك اه وَلَعَلَّ هَذَا الْكتاب آخر غير الَّذِي سردناه يتَضَمَّن مَا ذكره وَالله أعلم ونشخة الْجَواب عَن الْكتاب الَّذِي سردناه من إنْشَاء خَلِيل الصَّفَدِي شَارِح لآمية الْعَجم بعد الْبَسْمَلَة فِي قطع النّصْف بقلم الثُّلُث عبد الله ووليه صُورَة الْعَلامَة وَلَده إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد السُّلْطَان الْملك الصَّالح السَّيِّد الْعَالم الْعَادِل الْمُؤَيد الْمُجَاهِد المرابط المظفر الْمَنْصُور عماد الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي الْعدْل فِي الْعَالمين منصف المظلومين من الظَّالِمين وَارِث الْملك ملك الْعَرَب والعجم وَالتّرْك فاتح الأقطار واهب الممالك والأمصار إسكندر الزَّمَان مملك أَصْحَاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه مَالك الْبَحْرين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين سيد الْمُلُوك والسلاطين جَامع كلمة الْمُوَحِّدين ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك النَّاصِر نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون خلد الله تَعَالَى سُلْطَانه وَجعل الْمَلَائِكَة أنصاره واعوانه يخص الْمقَام العالي الْملك الْأَجَل الْكَبِير الْمُجَاهِد الْمُؤَيد المرابط المثاغر الْمُعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد السّني السّري الْمَنْصُور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَمِير الْمُسلمين أبي سعيد عُثْمَان بن أَمِير الْمُسلمين أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أمده الله بالظفر وَقرن عزمه بالتأييد فِي الآصال وَالْبكْر سَلام وشت البروق وشائعه وادخرت الْكَوَاكِب ودائعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 واستوعب الزَّمَان ماضيه ومستقبله ومضارعه وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه وَنبهَ بالتغريد فِي الرَّوْض سواجعه وجلى فِي كأسه من الشَّفق المحمر مدامه وَمن النُّجُوم فواقعه أما بعد حمد الله على نعم أدَّت لنا الْأَمَانَة فِي عود سلطنة والدنا الموروثة وأجلستنا على سَرِير مملكة زرابيها بَين النُّجُوم مبثوثة وأحسنت بِنَا الْخلف عَن سلف عهدوه فِي الْأَعْنَاق غير منكورة وَلَا منكوثة وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله وعَلى آله وَصَحبه الَّذين بلغ بجهادهم فِي الْكَفَرَة غَايَة أمله وسؤله صَلَاة تحط بالرضوان سيولها وتجر بالغفران ذيولها مَا تراسل أَصْحَاب وتواصل أحباب فيوضح للْعلم الْكَرِيم وُرُود كتابكُمْ الْعَظِيم وخطابكم الْفَائِق على الدّرّ النظيم تفاخر الخمائل سطوره ويصبغ خد الْورْد بالخجل منثوره ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عَلَيْهَا طيوره ويخلع على الْآفَاق حلل الْأَيَّام والليالي فالطرس صباحه والنقس ديجوره لَفظه يطرب وَمَعْنَاهُ يعرب فيغرب وبلاغته تدل على أَنه آيَة لِأَن شمس بَيَانهَا طلعت من الْمغرب فاتخذنا سطوره ريحانا ورجعنا أَلْفَاظه ألحانا ورجعنا إِلَى الْجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح وورقه بصقال الصفاح وحروفه المفرقه بأفواه الْجراح وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة يَوْم الكفاح وانتهينا إِلَى مَا أودعتموه من اللَّفْظ المسجوع وَالْمعْنَى الَّذِي يطرب طَائِره المسموع والبلاغة الَّتِي فَضَح التطبع بَيَانهَا المطبوع فَأَما العزاء بأخيكم الْوَالِد قدس الله روحه وَسَقَى عَهده وَأحسن لسلفه خلفا بعده فلنا برَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة وَلَوْلَا الوثوق بِأَنَّهُ فِي عدَّة الشُّهَدَاء مَا رام الْقلب قراره وَلَا الطّرف وَسنة عَاشَ سعيدا يملك الأَرْض وَمَات شَهِيدا. 000 يفوز بِالْجنَّةِ يَوْم الْعرض قد خلد الله ذكره يسير مسير الشَّمْس فِي الْآفَاق وَيُوقف عِنْد نضارة حدائقه الأحداق وورثنا مِنْهُ حسن الآخاء لكم وَالْوَفَاء بعهود مَوَدَّة تشبه فِي اللطف شمائلكم وَأما الهناء بوراثة ملكه والإنخراط مَعَ الْمُلُوك فِي سلكه فقد شكرنا لكم منحى هَذِه المنحة وقابلناها بثناء يعطر النسيم فِي كل نفحه ووقفنا عَلَيْهَا حمدا جعل الود علينا إِيرَاده وعَلى أنفاس سرحة الرَّوْض شَرحه وتحققنا بِهِ حسن ودكم الْجَمِيل وكريم إخائكم الَّذِي لَا يميد طود رسوخه وَلَا يمِيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وَأما مَا ذكرتموه من أَمر المصحفين الكريمين الشريفين الَّذين وقفتموهما على الْحَرَمَيْنِ المنيفين وَإِنَّكُمْ جهزتم كاتبكم الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الأسمى أَبَا الْمجد ابْن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مَدين أعزه الله لتفقد أحوالهما وَالنَّظَر فِي أَمر أوقافهما فقد وصل الْمَذْكُور بِمن مَعَه فِي حرز السَّلامَة وَأَكْرمنَا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الْإِحْسَان إِلَيْهِم شملهم وَحضر الْمَذْكُور بَين أَيْدِينَا وقربناه وَسَمعنَا كَلَامه وخاطبناه وأمرنا فِي أَمر المصحفين الشريفين بِمَا أشرتم ورسمنا لنوابنا فِي توخي أوقافهما بِمَا ذكرْتُمْ وَهَذَا الْوَقْف المبرور جَار على أحسن عَادَة ألفها وَأثبت قَاعِدَة عرفهَا مرعي الجوانب محمي الْمنَازل وَالْمُضَارب آمن إِزَالَة رسمه أَو إذالة حكمه بدره أبدا فِي مطالع تمه وزهرة دَائِما يرقص فِي كمه لَا يزْدَاد إِلَّا تخليدا وَلَا إِطْلَاق ثُبُوته إِلَّا تقييدا وَلَا عنق اجْتِهَاده إِلَّا تقليدا جَريا على قَاعِدَة أوقاف ممالكنا وَعَادَة تصرفاتنا فِي مسالكنا وَله مزِيد الرِّعَايَة وإفادة الحماية ووفادة الْعِنَايَة وَأما مَا وصفتموه من أَمر الجزيرة الخضراء وَمَا لاقاه أَهلهَا ومني بِهِ من الْكفَّار حزنها وسهلها فَإِنَّهُ شقّ علينا سَمَاعه الَّذِي أنكى أهل الْإِيمَان وَعدد بِهِ نوب الزَّمَان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النَّصْر على عَدوكُمْ فجر ذيل الْهَزِيمَة وفر وَلَكِن الْحَرْب سِجَال وكل زمَان لدوائره دولة ولرجائه رجال وَلَو أمكنت المساعدة لطارت بِنَا إِلَيْكُم عقبان الْجِيَاد المسومة وسالت على عَدوكُمْ أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عين النُّجُوم بمراود الرماح وَجَعَلنَا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الْحَرْب بتوالي الكرات وعطفنا عَلَيْهِم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات وَلَكِن أَيْن الْغَايَة من هَذَا المدى المتطاول وَأَيْنَ الثريا من يَد المتناول وَمَا لنا غير إمدادكم بِجُنُود الدُّعَاء الَّذِي نرفعه نَحن ورعايانا والتوجه الصَّادِق الَّذِي تعرفه مَلَائِكَة الْقبُول من سجايانا أما مَا فقدتموه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الأجفان الَّتِي طرقها طيف الْإِتْلَاف وَأم حرم فنائها الفناء وَطَاف بِهِ بعد الألطاف فقد روع هَذَا الْخَبَر قلب الْإِسْلَام وَنَوع لَهُ الْحزن على اخْتِلَاف الإصباح والإظلام وَهَذِه الدَّار لَا يَخْلُو صفوها من كدر الْقدر وطالما انامت بالأمن أول اللَّيْل وخاطبت بالخطب فِي السحر وَلَكِن فِي بقائكم مَا يسلي عَن خطب العطب وَمَعَ سَلامَة نفسكم الْكَرِيمَة فَالْأَمْر هَين لِأَن الدّرّ يفدى بِالذَّهَب وَأما مَا رَأَيْتُمُوهُ من الصُّلْح فَرَأى عقده مبارك وَأمر مَا فِيهِ فارط عزم وَإِن كَانَ فيتدارك وَالْأَمر يَجِيء كَمَا يحب لَا كَمَا نحب والحروب يزورها نصرها تَارَة ويغب مَعَ الْيَوْم غَدا وَقد يرد الله الردى وَيُعِيد الظفر بالعدا وَأما عودكم إِلَى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عنْدكُمْ من الْجنُود وتجهيزا لمن يصل من عنْدكُمْ إِلَى الْحجاز الشريف من الْوُفُود فَهَذَا أَمر ضَرُورِيّ التَّدْبِير سروري التثمير لِأَن النُّفُوس تمل وثير المهاد فَكيف مُلَازمَة صهوات الْجِيَاد وتسأم من مجالسة الشّرْب فَكيف بممارسة الْحَرْب وَتعرض عَن دوَام اللَّذَّة فَكيف بِمُبَاشَرَة المنايا الفذة وَهَذَا جبل طَارق الَّذِي فتح الله بِهِ عَلَيْكُم وسَاق هدي هديته إِلَيْكُم لَعَلَّه يكون سَببا إِلَى ارتجاع مَا شرد وحسما لهَذَا الطاغية الَّذِي مرد وردا لهَذَا النَّازِل الَّذِي كدرر ورد الصَّبْر لما ورد فعادة الألطاف بكم مَعْرُوفَة وعزماتكم إِلَى جِهَات الْجِهَاد مصروفة وَقد تفاءلنا لكم من هَذَا الْجَبَل بِأَنَّهُ طَارق خير من الرَّحْمَن يطْرق وجبل يعْصم من سهم يمر من قسي الْكفَّار ويمرق وَأما مَا منحتموه من الْخَيل الْعتاق والملابس الَّتِي تطلع بدور الْوُجُوه من مَشَارِق الأطواق وَالْأَمْوَال الَّتِي زكتْ عِنْد الله تَعَالَى ونمت على الْإِنْفَاق فعلى الله عز وَجل خلفهَا وَلكم فِي منَازِل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة سرفها وشرفها وإليكم تساق هَدَايَا أثنيتها وتحفكم تحفها وَإِذا وصل وفدكم الْحَاج وأنار لَهُ بِوَجْه إقبالنا عَلَيْهِم ليلهم الداج وَكَانُوا مقيمين تَحت ظلّ إكرامنا وشمول إسعافنا لَهُم وإنعامنا يتخولون تحفا أَنْتُم سَببهَا ويتناولون طرفا فِي كؤوس الاعتناء بهم ينضد حببها وَإِذا كَانَ أَوَان الرحيل إِلَى الْحَج فسحنا لَهُم الطَّرِيق وسهلنا لَهُم الرفيق وبلغناهم بحول الله تَعَالَى مُنَاهُمْ من منى وسألهم مِمَّن إِذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 زاروا حجراته الشَّرِيفَة حازوا الشَّرِيفَة حازوا الرَّاحَة من العناء وفازوا بالغنى وَإِذا عَادوا عاملناهم بِكُل جميل ينسبهم مشقة ذَلِك الدَّرْب ويخيل إِلَيْهِم أَن لَا مَسَافَة لمسافر بَين الشرق والغرب وغمرناهم بِالْإِحْسَانِ فِي الْعود إِلَيْكُم وأمرناهم بِمَا ينهونه شفاها لديكم وعناية الله تَعَالَى تحوط ذاتكم وتوفر لأخذ الثار حماتكم وتخصكم بتأييد تَنْزِلُونَ روضه الأنضر وتجنون بِهِ ثَمَر النَّصْر اليانع من ورق الْحَدِيد الْأَخْضَر وتتحفكم بِسَعْد لَا يبْلى قشيبه وَعز لَا يمحو شبابه مشيبة وتحيته الْمُبَارَكَة تغاديكم وترواحكم وتفاوحكم أنفاسها الْمُعْتَبرَة وتنافحكم بمنه وَكَرمه فِي سادس رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَالَ ابْن خلدون ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن بعد استيلائه على إفريقية كَمَا نذكرهُ فِي كتب نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم ليوقفها بِبَيْت الْمُقَدّس فَلم يقدر إِتْمَامهَا وَهلك قبل فَرَاغه من نسخهَا اه وَهُوَ يَقْتَضِي أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور ماا كتب سوى مصحفين اثْنَيْنِ وَيُؤَيِّدهُ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ المسرودين آنِفا مَعَ أَنه تقدم النَّقْل عَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمقري أَنه وقف على النُّسْخَة الْمَوْقُوفَة بِبَيْت الْمُقَدّس وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر هَدِيَّة السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى ملك مَالِي من السودَان المجاورين للمغرب اعْلَم أَن أَرض السودَان الْمُجَاورَة للمغرب تشْتَمل على ممالك مِنْهَا مملكة غانة وَمِنْهَا مملكة مَالِي وَمِنْهَا مملكة كاغو وَمِنْهَا مملكة برنو وَغير ذَلِك وَكَانَ ملك مَالِي وَهُوَ السُّلْطَان منسى مُوسَى بن أبي بكر من أعظم مُلُوك السودَان فِي عصره وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على الْمغرب الْأَوْسَط وَغلب بني زيان على ملكهم عظم قدره وَطَالَ ذكره وشاعت أخباره فِي الْآفَاق فسما هَذَا السُّلْطَان وَهُوَ منسى مُوسَى إِلَى مُخَاطبَة السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ مجاورا لمملكة الْمغرب على نَحْو مائَة مرحلة فِي القفر فأوفد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل مَمْلَكَته مَعَ ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة فوفدوا على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي سَبِيل التهنئة بالظفر فَأكْرم وفادتهم وَأحسن مثواهم ومنقلبهم وَنزع إِلَى مذْهبه فِي الْفَخر فانتخب طرفا من مَتَاع الْمغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة دَاره وأسنى الْهَدِيَّة وَعين رجَالًا من أهل دولته كَانَ فيهم كَاتب الدِّيوَان أَبُو طَالب بن مُحَمَّد بن أبي مَدين ومولاه عنبر الْخصي فأوفدهم بهَا على ملك مَالِي منسى سُلَيْمَان لمهلك أَخِيه مُوسَى قبل مرجع وفده وأوعز إِلَى أَعْرَاب الفلاة من بني معقل بالسير مَعَهم ذَاهِبين وجاءين فشمر لذَلِك عَليّ بن غَانِم أَمِير أَوْلَاد جرار من معقل وصحبهم فِي طريقهم امتثالا لأمر لسلطان وتوغل ذَلِك الركب فِي القفر إِلَى بلد مَالِي بعد الْجهد وَطول الشقة فَأحْسن منسى سُلَيْمَان مبرتهم وَأعظم موصلهم وَأكْرم وفادتهم ومنقلبهم وعادوا إِلَى مرسلهم فِي وَفد من كبار مَالِي يعظمون السُّلْطَان أَبَا الْحسن ويوجبون حَقه ويؤدون طَاعَته ويذكرون من خضوع مرسلهم وقيامه بِحَق السُّلْطَان أبي الْحسن واعتماله فِي مرضاته مَا استوصاهم بِهِ وَاعْلَم أَن منسى مُوسَى الَّذِي ذَكرْنَاهُ كَانَ من كبار الْمُلُوك كَمَا قُلْنَا وَهُوَ الَّذِي صَحبه أَبُو إِسْحَاق الساحلي الْمَعْرُوف بالطويجي من شعراء الأندلس كَانَ قد لقِيه فِي لموسم بِعَرَفَة فحلى بِعَيْنِه وحظيت مَنْزِلَته عِنْده فصحبه إِلَى بِلَاده وَأقَام عِنْده مصحوبا بِالْبرِّ والكرامة وَبنى للسُّلْطَان الْمَذْكُور قبَّة رائعة فازدادت حظوته عِنْده قَالَ ابْن خلدون أطرف أَبُو إِسْحَاق الطويجن السُّلْطَان منسى مُوسَى بِبِنَاء قبَّة مربعة الشكل استفرغ فِيهَا إجادته وَكَانَ صناع الْيَدَيْنِ وأضفى عَلَيْهَا من الكلس ووالى عَلَيْهَا بالأصباغ المشبعة فَجَاءَت من أتقن المباني وَوَقعت من السُّلْطَان منسى مُوسَى موقع الاستغراب لفقدان صَنْعَة الْبناء بأرضهم وَوَصله بِاثْنَيْ عشر ألفا من مَثَاقِيل التبر مثوبة عَلَيْهَا اه وَكَانَت وَفَاة أبي إِسْحَاق بتنبتكوا يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 مصاهرة السُّلْطَان أبي الْحسن ثَانِيًا مَعَ السُّلْطَان أبي بكر الحفصي رحمهمَا الله قد تقدم لنا مَا كَانَ من وقْعَة طريف وَإنَّهُ هلك فِيهَا حرم السُّلْطَان أبي الْحسن من جملتهن فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي فَلَمَّا فقدها أَبُو الْحسن بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا حنين إِلَى مَا شغفته بِهِ من خلالها ولذادة الْعَيْش فِي عشرتها فسما لَهُ من الإعتياض عَنْهَا بِبَعْض أخواتها فأوفد فِي خطبتها وليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد من بني زغبة الهلاليين وَكَاتب الجباية والعسكر بدولته أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وفقيه الْفَتْوَى بمجلسه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي ومولاه عنبر الْخصي فوفدوا على السُّلْطَان أبي بكر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم منزل الْبر والكرامة ثمَّ دس إِلَيْهِ حَاجِبه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين غَرَض وفادتهم وَأَنَّهُمْ قدمُوا خاطبن بعض كرائمه لسلطانهم فَأبى من ذَلِك صونا لحرمه عَن جَوْلَة الأقطار وتحكم الرِّجَال مثل مَا وَقع فِي ابْنَته الأولى فَلم يزل حَاجِبه الْمَذْكُور يخْفض عَلَيْهِ الشَّأْن ويعظم عَلَيْهِ حق السُّلْطَان أبي الْحسن فِي رد خطبَته مَعَ مَا بَينهمَا من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف وَجعل ذَلِك للحاجب الْمَذْكُور فانعقد الصهر بَين السلطانين على ابْنَته عزونه شَقِيقَة ابْنه أبي الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر صَاحب بونة وَأخذ الْحَاجِب فِي شوار الْعرس وتأنق فِيهِ واحتفل واستكثر وَطَالَ مقَام الرُّسُل بتونس إِلَى أ، اسْتكْمل الجهاز فارتحلوا مِنْهَا فِي ربيع سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأوعز السُّلْطَان أَبُو بكر إِلَى ابْنه الْفضل شَقِيق الْعَرُوس الْمَذْكُورَة أَن يزفها على السُّلْطَان أبي الْحسن قيَاما بِحقِّهِ وَبعث من بَابه جمَاعَة من مشيخة الْمُوَحِّدين فوفدوا جَمِيعًا على السُّلْطَان أبي الْحسن واتصل بهم الْخَبَر فِي طريقهم بوفاة السُّلْطَان أبي بكر فَجْأَة لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فعزاهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَنهُ عِنْد مَا وصلوا إِلَيْهِ واستبلغ فِي إكرامهم وأجمل موعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 أَخِيهَا الْفضل بسلطانه ومظاهرته على تراث أَبِيه فاطمأنت بِهِ الدَّار عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى أَن سَار فِي جملَته وَتَحْت لوائه إِلَى إفريقية كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله غَزْو السُّلْطَان أبي الْحسن إفريقية واستيلاؤه على تونس وأعمالها كَانَ السُّلْطَان أَبُو بكر الحفصي رَحمَه الله قد عهد بِالْأَمر بعده لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ أوفد على السُّلْطَان أبي الْحسن حَاجِبه ابا الْقَاسِم بن عتو فِي غَرَض لَهُ وأصحبه كتاب الْعَهْد إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور ليُوَافق عَلَيْهِ فَوقف عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكتب على حشايته بِخَطِّهِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ رَحمَه الله وَأحكم العقد فِي ذَلِك وَلما مَاتَ السُّلْطَان أَبُو بكر كَانَ ولي الْعَهْد غَائِبا عَن الحضرة فَبَايع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين لِابْنِهِ عمر ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الوانشريسي فِي أقضية المعيار عَن الشَّيْخ ابْن عَرَفَة أَن سُلْطَان إفريقية أَبَا بكر الحفصي كتب الْعَهْد لوَلَده أَحْمد فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور أحضر أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قاضيي تونس قَاضِي الْجَمَاعَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام وقاضي الأنكحه أَبَا عبد الله الآجمي وَأَمرهمَا أَن يبايعا ولد الخليفه عمر فَقَالَا كَيفَ نُبَايِعهُ وَنحن شَهِدنَا بيعَة أَخِيه أَحْمد والتزمناها وَكَانَ الْحَاجِب ابْن تافراجين نبيلا فَلَمَّا دخلا أحضر الْحَاجِب الْمَذْكُور أهل العقد والحل وَأمرهمْ أَن يباييعوا عمر فَبَايعُوهُ فَلَمَّا خرج القاضيان وجدا الْبيعَة قد حصلت وَكَانَ فِي انْتِظَار أَحْمد الْمَشْهُود لَهُ بالعهد وَهُوَ غَائِب بقفصة خوف الْفِتْنَة فَبَايع القاضيان وَكَانَ ابْن عَرَفَة يستصوب فعل الْحَاجِب وَامْتِنَاع القاضيين أَولا وبيعتهما ثَانِيًا ثمَّ قدم ولي الْعَهْد وَوَقع بَينه وَبَين أَخِيه قتال وَجَرت خطوب كَانَ فِي آخرهَا قتل ولي الْعَهْد وَقتل وليه أبي الهول بن حَمْزَة أَمِير الكعوب من عرب سليم فِي آخَرين مِنْهُم وَقطع عمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 أَيْضا أَخَوَيْهِ عبد الْعَزِيز وخالدا من خلاف فهلكا وَكَانَ الْحَاجِب أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قد حس بِالشَّرِّ من جِهَة عمر المتغلب وتوقع النكبة من جَانِبه فتسلل إِلَى قصره وَأخذ مَا خف من ذخيرته وَلحق بالسلطان أبي الْحسن وقص عَلَيْهِ الْخَبَر وأغراه بتملك إفريقية وَأوجب عَلَيْهِ النّظر للْمُسلمين فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يتَمَنَّى ذَلِك لَوْلَا مَكَان صهره أبي بكر فَأَقَامَ بتحين لَهَا الْأَوْقَات ويترقب لَهَا الفرص حَتَّى كَانَت هَذِه وَإِنَّمَا تنجع الْمقَالة فِي الْمَرْء إِذا صادقت هوى فِي القؤاد فأظهر أَبَوا لحسن الإمتعاض لما فعله عمر بأَخيه ولي الْعَهْد من مَنعه من حَقه أَولا ثمَّ غراقة دَمه ثَانِيًا لَا سِيمَا وَقد كَانَ أعْطى خطّ يَده بالموافقة على الْعَهْد الْمَذْكُور فأجمع الْحَرَكَة إِلَى إفريقية وَلحق بِهِ خَالِد بن حَمْزَة بن عمر أَخُو أبي الهول الْمَقْتُول مَعَ ولي الْعَهْد فاستعداه على عدوه فَفتح السُّلْطَان أبوة الْحسن ديوَان الطعاء ونادى فِي النَّاس بِالْمَسِيرِ إِلَى إفريقية وأزاح عللهم وعسكر بِظَاهِر تلمسان ثمَّ نَهَضَ فِي صفر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة يجر الدُّنْيَا بِمَا حملت بعد أَن عقد لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عنان على الْمغرب الْأَوْسَط وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أُمُوره كَافَّة وَجعل إِلَيْهِ جبايته وقدمت عَلَيْهِ فِي طَرِيقه أَعْرَاب إفريقية وولاة قابس وبلاد الجريد وأطاعته طرابلس والزاب وبجاية وصاحبها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر وَلما وصل قسنطينة خرج غليه أَبنَاء الْأَمِير أبي عبد الله بن أبي بكر وَلما وصل إِلَى قسنطينة خرج إِلَيْهِ أَبنَاء الْأُمِّي أبي عبد الله بن أبي بكر فَبَايعُوهُ فَأقبل عَلَيْهِم وصرفهم إِلَى الْمغرب وأنزلهم بوحدة وأقطعهم جبايتها وَأنزل بقسنطينة خلفاءه وعماله وَقد كَانَ صرف أَبَا عبد الله صَاحب بجاية إِلَى ندرومة فأنزله بهَا وأقطعه الْكِفَايَة من جبايتها ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بَنو حَمْزَة بن عمر أُمَرَاء الكعوب من سليم فأخبروه بإجفال عمر المتغلب بتونس مَعَ ظاعنة أَوْلَاد مهلهل واستحثوه فِي اعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر فسرح مَعَهم العساكر فِي طلبه لنظر حمو بن يحيى العسكري وتلوم السُّلْطَان أَبُو الْحسن بقسنطينة وَعرض جيوشه بسطح الجعاب مِنْهَا ثمَّ ارتحل على أَثَرهم وأغذ حمو بن يحيى السّير مَعَ ناجعة أَوْلَاد أبي اللَّيْل فَلَحقُوا بعمر صَاحب تونس بِأَرْض الحامة من نَاحيَة قابس فدافعوا عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 أنفسهم بعض الشَّيْء ثمَّ انْهَزمُوا وكبا بعمر جَوَاده فِي نافقاء بعض اليرابيع وانجلى الْغُبَار عَنهُ وَعَن مَوْلَاهُ ظافر راجلين فتقبض عَلَيْهِمَا وأوثقهما قَائِد الْعَسْكَر بِيَدِهِ حَتَّى إِذا جن اللَّيْل ذبحهما خوفًا من أَن تفتكهما الْعَرَب من يَده وَبعث برأسيهما إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن فوصلا إِلَيْهِ بباجية وخلص الفل من تِلْكَ الْوَقْعَة إِلَى قابس فتقبض عبد الْملك بن مكي صَاحبهَا على رجالات من أهل الدولة كَانَ فيهم أَبُو الْقَاسِم بن عتو من مشيخة الْمُوَحِّدين وصخر بن مُوسَى من رجالات سدويكش وَغَيرهمَا من أَعْيَان الدولة فَبعث بهم ابْن مكي إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ممقرنين فِي الأصفاد فَأَما ابْن عتو وصخر بن مُوسَى وَعلي بن مَنْصُور فقطعهم من خلاق لفتيا الْفُقَهَاء بجرابتهم واعتقل الْبَاقِي وسرح السُّلْطَان عساكره إِلَى تونس وَعقد عَلَيْهِم لصهره على ابْنَته يحيى بن سُلَيْمَان من بني عَسْكَر فاحتلوا بتونس ثمَّ جَاءَ السُّلْطَان على أَثَرهم فَنزل بظاهرها يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وتلقاه وَفد تونس وشيوخها من أهل الْفتيا وأرباب الشورى فآتوه طاعتهم وانقلبوا مسرورين بولايته مغتبطين بملكته وَكَانَت تونس يَوْمئِذٍ مشحونة بالأعلام الأكابر مِنْهُم ابْن عبد السَّلَام وَابْن عَرَفَة وَابْن عبد الرفيع وَابْن رَاشد القفصي وَابْن هَارُون وأعلام آخَرُونَ ثمَّ عبا السُّلْطَان أَبُو الْحسن يَوْم السبت مواكبه لدُخُول الحضرة فَصف جُنُوده سماطين من مُعَسْكَره بسيجوم إِلَى بَاب الْبَلَد نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال وَركبت بَنو مرين من مراكزهم من جموعهم وَتَحْت راياتهم وَركب السُّلْطَان من فسطاطه وَعَن يَمِينه وليه عريف بن يحييى كَبِير سُوَيْد ويليه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين وَعَن يسَاره الْأَمِير أ [وَعبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء وَهُوَ أَخُو السُّلْطَان أبي بكر ويليه الْأَمِير أَبُو عبد الله ابْن أَخِيه خَالِد كَانَا معتقلين بقسنطينة فأطلقهما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وصحببوه إِلَى تونس فَكَانُوا طراز ذَلِك الموكب فِيمَن لَا يُحْصى من أعياص بني مرين وكبرائهم وهدرت طبوله وخفقت راياته وَكَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو الْمِائَة وَجَاء السُّلْطَان والمواكب تَجْتَمِع عَلَيْهِ صفاصفا إِلَى أَن وصل إِلَى الْبَلَد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وَقد ماجت الأَرْض بالجيوش قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فِيمَا عَقَلْنَاهُ قلت كَانَ سنّ أبن خلدون يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة لِأَنَّهُ ولد غرَّة رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ قدم فِي جملَة السُّلْطَان أبي الْحسن جمَاعَة كَبِيرَة من أَعْلَام الْمغرب كَانَ يلْزمهُم شُهُود مَجْلِسه ويتجمل بمكانهم نيه ثمَّ دخل الْقصر الخلافي وخلع على أبي مُحَمَّد بن تافراجين وَقرب إِلَيْهِ فرسا بسرجه ولجامه وَطعم النَّاس بَين يَدَيْهِ وانتشروا إِلَى مَنَازِلهمْ ثمَّ دخل السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَعَ ابْن تافراجين إِلَى حجر الْقصر ومساكن الْخُلَفَاء فَطَافَ عَلَيْهَا وَدخل مِنْهَا الى الرياض الْمُتَّصِلَة بهَا المدعوة بِرَأْس الطابية فَطَافَ على تِلْكَ الْبَسَاتِين وسرح نظره فِيهَا وَاعْتبر بِحَالِهَا ثمَّ أفْضى مِنْهَا إِلَى مُعَسْكَره وَأنزل يحيى بن سُلَيْمَان بقصبة تونس فِي عَسْكَر لحمايتها ثمَّ ارتحل من الْغَد إِلَى القيروان فجال فِي نَوَاحِيهَا ووقف على اثار الْأَوَّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين وَالْتمس الْبركَة فِي زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي نذْكر للصحابة وَالسَّلَف من التَّابِعين والأولياء فِي ساحتها ثمَّ سَار إِلَى سوسة ثمَّ إِلَى المهدية ووقف على سَاحل الْبَحْر مِنْهَا وَتَطوف فِي معالمها وَنظر فِي عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبله أَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض وَاعْتبر باحوالهم وَمر فِي طَرِيقه بقصر الأجم ورباط المنستير وانكفأ رَاجعا إِلَى تونس فاحتل بهَا غرَّة رَمَضَان من السّنة وَنزل المسالح على ثغور إفريقية وأقطع بني مرين الْبِلَاد والضواحي وأمضى إقطاعات الْعَرَب الَّتِي كَانَت لَهُم من قبل الحفصيين وَاسْتعْمل على الْجِهَات وخفتت الْأَصْوَات وسكنت الدهماء وانقبضت أَيدي أهل الْفساد وانقرض أَمر الحفصيين فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنه عقد على بونة لصهره الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر إِكْرَاما لصهره ووفادته عَلَيْهِ واتصلت ممالك السُّلْطَان أبي الْحسن مَا بَين مسراته إِلَى السوس الْأَقْصَى من هَذِه العدوة وَإِلَى رندة من عدوة الأندلس وَدخل الْمغرب بأسره فِي طَاعَته وحذر مُلُوك مصر وَالشَّام مَا شاع من بسطته وانفساخ دولته ونفوذ كَلمته وَالْملك لله يؤتيه من يَشَاء من عبَادَة وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَقد كَانَ الشُّعَرَاء رفعوا إِلَيْهِ قصائد فِي سَبِيل التهنئة بِالْفَتْح وَكَانَ سَابق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 الحلبة يَوْمئِذٍ أَبُو الْقَاسِم الرحوي فِي قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا (أجابك شَرق إِذْ دَعَوْت ومغرب ... فمكة هشت للقاء وَيشْرب) وَهِي طَوِيلَة تخطيناها اختصارا وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بمنه انْتِقَاض عرب سليم بإفريقية على السُّلْطَان أبي الْحسن وَمَا نَشأ عَن ذَلِك قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على الْعَرَب الداخلين إِلَى الْمغرب أَن جمهورهم كَانَ من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَبني هِلَال بن عَامر بن صعصعه وَبني سليم بن مَنْصُور وَإِن الَّذين بقوا مِنْهُم بإفريقية هم بَنو سليم وَبَعض هِلَال وَكَانَ لَهُم استطالة على الدول واعتزاز عَلَيْهَا فَكَانَ مُلُوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات وَنَحْو ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني حَاله مَعَ عرب الْمغرب الْأَقْصَى غير حَال الحفصين مَعَ عرب إفريقية وملكته لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فَلَمَّا ورد إفريقية وَاسْتولى عَلَيْهَا رَأْي من اعتزاز الْعَرَب بهَا على الدولة وَكَثْرَة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار مَا تجَاوز الْحَد الْمُعْتَاد عِنْده فَأنْكر ذَلِك وَضرب على أَيْديهم وعوضهم عَنهُ بأعطيات فَرضهَا لَهُم فِي الدِّيوَان من جملَة الْجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الْكثير مِنْهَا ثمَّ شكا إِلَيْهِ الرّعية من أُولَئِكَ الْعَرَب وَمَا ينالونهم بِهِ من الظلامات وَضرب الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فَقبض أَيْديهم عَن ذَلِك كُله وَتقدم إِلَى الرعايا بمنعهم مِنْهَا فارتابت الْعَرَب لذَلِك وفسدت ضمائرهم وثقلت وَطْأَة الدولة المرينية عَلَيْهِم فتربصوا بهَا وتحزبوا لَهَا وتعاوت ذئابهم فِي بواديهم فَاجْتمعُوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم فِي ثغور إفريقية حَتَّى أَنهم أَغَارُوا على ضواحي تونس فَاسْتَاقُوا الظّهْر الَّذِي كَانَ فِي مرعاها وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ بهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أَيَّام الْفطر من رجالاتهم خَالِد بن حَمْزَة أَمِير بني كَعْب وَأَخُوهُ أَحْمد وَخَلِيفَة بن عبد الله من بني مِسْكين وَابْن عَمه خَليفَة بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ارتحل من ساحة تونس يُرِيد الْعَرَب فوافاهم بالموضع الْمَعْرُوف بالتينة بَين بسيط تونس وبسيط القيروان فأجفلوا أَمَامه فأتبعهم وألح عَلَيْهِم إِلَى أَن وصلوا إِلَى القيروان فَلَمَّا رَأَوْا أَن لَا ملْجأ لَهُم مِنْهُ عزموا على الثَّبَات لَهُ وتحالفوا على الإستماتة وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الْحسن يَوْمئِذٍ مشحونا بأعدائه من بني عبد الواد المغلوبين على ملكهم ومغراوة وَبني توجين وَغَيرهم فدسوا إِلَى الْعَرَب أثْنَاء هَذِه المناوشة بِأَن يناجزوا السُّلْطَان غَدا حَتَّى يتميزوا إِلَيْهِم ويجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فأجابوهم إِلَى ذَلِك وصبحوا معسكر السُّلْطَان من الْغَد فَركب إِلَيْهِم فِي التعبية وَلما تقابلوا تحيز إِلَيْهِم الْكثير مِمَّن كَانَ مَعَه واختل مصافه فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء وبادر الى القيروان فَدَخلَهَا فِيمَن مَعَه من الفل مستجيرا بهَا ودافع عَنهُ أَهلهَا وتسابقت الْعَرَب إِلَى مُعَسْكَره فانتهبوه بِمَا فِيهِ من الْمضَارب وَالْعدَد والآلات ودخلوا فسطاط السُّلْطَان فاستولوا على ذخيرته وَالْكثير من حرمه وَأَحَاطُوا بالقيروان وزحفت إِلَيْهَا حللهم فدارت بهَا سياجا وَاحِدًا وتعاوت ذئابهم بأطراف الْبِقَاع وأجلب ناعق الْفِتْنَة مِنْهُم بِكُل قاع واضطرمت إفريقية نَارا وَكَانَت الْهَزِيمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع محرم من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى تونس وَكَانَ السُّلْطَان قد خلف بهَا عِنْد رحيله الْكثير من أبنائه وَحرمه ووجوه قومه وأمناء بَيت مَاله وَبَعض الْحَاشِيَة من جنده فَتَحَصَّنُوا بالقصبة وأحاط بهم الغوغاء كي يستنزلوهم عَنْهَا فامتنعوا عَلَيْهِم وَكَانُوا بهَا أملك مِنْهُم وَكَانَ الْأَمِير أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أبي الْحسن قد جَاءَ من الْمغرب فِي هَذَا التَّارِيخ فوافاه الْخَبَر قرب القيروان فانفض مُعَسْكَره وَرجع إِلَى تونس فَكَانَ مَعَهم فِي القصبة ثمَّ نزع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين عَن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ محصورا مَعَه بالقيروان وَكَانَ قد سئم صحبته ومل خدمته لِأَنَّهُ كَانَ أَيَّام حجابته للسُّلْطَان الحفصي مستبدا عَلَيْهِ مفوضا إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُوره فَلَمَّا استوزره السُّلْطَان أَبُو الْحسن لم يجره على تِلْكَ الْعَادة لِأَنَّهُ كَانَ قَائِما على أُمُوره بِنَفسِهِ وَلَيْسَ التَّفْوِيض للوزراء من شَأْنه وَكَانَ ابْن تافراجين يظنّ أَنه سيوكل إِلَيْهِ أَمر إفريقية وَينصب مَعَه لملكها الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر شَقِيق زَوجته وَرُبمَا زَعَمُوا أَنه عاهده على ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 فَكَانَ فِي قلبه من الدولة المرينية مرض وَكَانَ الْعَرَب أَيَّام عزمهم على الْخُرُوج يفاوضونه بِذَات صُدُورهمْ فَلَمَّا حصلوا على البغية من الظُّهُور على السُّلْطَان وحصاره بالقيروان احْتَالُوا فِي أَمر ابْن تافراجين فبعثوا إِلَى السُّلْطَان يطْلبُونَ مِنْهُ بَعثه إِلَيْهِم ليفاوضوه فِي الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة والانخراط فِي سلك الْجَمَاعَة فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِم وَوصل يَده بيدهم وَلم يرجع الى السُّلْطَان أبي الْحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابْن أبي دبوس ثمَّ سرحوه إِلَى حِصَار من بالقصبة من بني مرين وطمعوا فِي الإستيلاء عَلَيْهَا وفض ختامها فَسَار ابْن تافراجين إِلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين فِي زعانف من الغوغاء وَأَحَاطُوا بالقصبة ثمَّ لحق بهم ابْن أبي دبوس فعاودوها الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق فامتنعت عَلَيْهِم وَلم يغنوا شَيْئا وَابْن تافرجين فِي أثْنَاء ذَلِك يحاول الْفِرَار بِنَفسِهِ لاضطراب الْأُمُور واختلال الرسوم إِلَى أَن بلغه خلوص السُّلْطَان أبي الْحسن من القيروان إِلَى سوسة وَكَانَ من خَبره أَن الْعَرَب بعد حصارهم إِيَّاه بالقيروان اخْتلفت كلمتهم لَدَيْهِ وَكَانَ قد دخل أَوْلَاد مهلهل فِي الإفراج عَنهُ وَاشْترط لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا وَنذر بَنو أبي اللَّيْل بذلك فاضربت كلمتهم وَدخل عَلَيْهِ قُتَيْبَة بن حَمْزَة مِنْهُم بمكانه من القيروان زعيما بِالطَّاعَةِ فتقبله وَأطلق أَخَوَيْهِ خَالِدا وَأحمد وَمَعَ ذَلِك فَلم يطمئن إِلَيْهِم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن طَالب من أَوْلَاد مهلهل وَخَلِيفَة بن أبي زيد وَأَبُو الهول بن يَعْقُوب من أَوْلَاد الْقوس وَعَاهَدُوهُ على الإفراج عَنهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه فَخرج مَعَهم لَيْلًا على التعبية وذؤبان الْعَرَب تطَأ أذياله وضباعها تنوشه إِلَى أَن اسْتَقر بسوسة وَأمن على نَفسه وَقد أَتَى النهب على جلّ مَا كَانَ مَعَه وَلما سمع ابْن تافراجين وَهُوَ محاصر للقصبة بوصول السُّلْطَان إِلَى سوسة تسلل من أَصْحَابه وَركب الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَصْبحُوا وَقد فقدوه فاضطرب أَمرهم وارتاب سلطانهم ابْن أبي دبوس لما علم بِخَبَرِهِ فانفض جمعهم عَن القصبة وأفرجوا عَنْهَا وَخرج بَنو مرين فملكوا الْبَلَد وخربوا منَازِل الْحَاشِيَة بهَا ثمَّ ركب السُّلْطَان أَبُو الْحسن من سوسة الْبَحْر فاحتل بتونس فِي ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وَسَبْعمائة فَاجْتمع شَمله واستتب أمره وَكتب إِلَى صَاحب مصر فِي التقبض على ابْن تافراجين فأجاره بعض الْأُمَرَاء وَانْصَرف لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج واعتمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إصْلَاح أسوار تونس وإدارة الخَنْدَق عَلَيْهَا وَأقَام لَهَا من الصيانة والحصانة رسما دفع بِهِ فِي نحر عدوه وَبَقِي لَهُ ذكره من بعده ثمَّ أجلب الْعَرَب وسلطانهم ابْن أبي دبوس على تونس ونازلوا أَبَا الْحسن بهَا واستبلغوا فِي حصاره وخلصت ولَايَة أَوْلَاد مهلهل للسُّلْطَان فعول عَلَيْهِم ثمَّ رَاجع بَنو حَمْزَة بصائرهم وصاروا إِلَى مهادنته فعقد لَهُم السّلم وَدخل عَلَيْهِ عمر بن حَمْزَة وافدا فحبسه حَتَّى قبض إخوانه على أَمِيرهمْ ابْن أبي دبوس وقادوه إِلَيْهِ استبلاغا فِي الطَّاعَة وإمحاضا للولاية فَتقبل فئتهم وأودع ابْن أبي دبوس السجْن وَعقد الصهر بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة فزوج ابْنه عمر بِابْنِهِ أبي الْفضل وَاخْتلفت أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الطَّاعَة تَارَة والانحراف أُخْرَى مُدَّة إِقَامَته بتونس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَالله غَالب على أمره انْتِقَاض الْأَطْرَاف وثورة أبي عنان ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن واستيلاؤه على الْمغرب قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا بكر الحفصي رَحمَه الله لما زوج ابْنَته من السُّلْطَان أبي الْحسن بعث مَعَهُمَا فِي زفافها شقيقها أَبَا الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر وَأَن خبر وَفَاة وَالِده أدْركهُ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن عزاهُ عَن مصاب أَبِيه ووعده بالمظاهرة على ملكه فَبَقيَ عِنْده بتلمسان إِلَى أَن نَهَضَ فِي صحبته إِلَى إفريقية فَلَمَّا غلب السُّلْطَان أَبُو الْحسن على بجاية وقسنطينة وارتحل إِلَى تونس عقد لَهُ على بونة الَّتِي كَانَ يَلِي عَملهَا أَيَّام أَبِيه فَانْقَطع أمله وَفَسَد ضَمِيره وطوى على البث حَتَّى إِذا كَانَت نكبة القيروان سما إِلَى التوثب على ملك سلفه وَكَانَ أهل قسنطينة وبجاية قد سئموا ملكة بني مرين وبرموا بولايتهم لمخالفتهم بعض العوائد الَّتِي كَانَت لَهُم مَعَ الْمُلُوك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 الحفصيين وَلِأَن الصبغة الحفصية كَانَت قد رسخت فِي نُفُوسهم جيلا بعد جيل فصعب عَلَيْهِم نَزعهَا (نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى ... مَا الْحبّ إِلَّا للحبيب الأول) (كم منزل فِي الأَرْض يألفه الْفَتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل) فأشرأبوا إِلَى الثورة على المرينيين لما سمعُوا بنكبة القيروان وَاتفقَ أَن قدم قسنطينة ركب من أهل الْمغرب قَاصِدين إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ فيهم عُمَّال الجباية قدمُوا بجبايتهم عِنْد راس الْحول كَمَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي ذَلِك وَمَعَهُمْ ابْن صَغِير للسُّلْطَان اسْمه عبد الله وَفِيهِمْ وَفد من رُؤَسَاء الفرنج بَعثهمْ طاغيتهم بِقصد التهنئة بِفَتْح إفريقية وَمَعَهُمْ تاشفين ابْن السُّلْطَان الَّذِي أسر يَوْم طريف أطلقهُ الطاغية بعد أَن أَصَابَهُ خبال فِي عقله وَأرْسل مَعَه بهدية نفيسة وَفِيهِمْ وَفد من أهل مَالِي بَعثهمْ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بِقصد التهنئة أَيْضا فتوافت هَؤُلَاءِ الْوُفُود بقسنطينة وَقد طم عباب الْفِتْنَة على إفريقية فَأَرَادَ غوغاؤها وانتهاب مَا مَعَهم ثمَّ تخلصوا مِنْهُم فِي خبر طَوِيل وَفِي أثْنَاء ذَلِك ثار الْفضل بن السُّلْطَان أبي بكر صَاحب بونة فراسله أهل قسنطينة فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم فَقَدمهَا وَجَرت خطوب واتصل بِأَهْل بجاية مَا فعله أهل قسنطينة فتبعوهم على رَأْيهمْ من الانتقاض ووثبوا على من كَانَ عِنْدهم من حامية بني مرين فاستلبوهم وأخرجوهم عُرَاة واستدعوا الْفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إِلَيْهِم وَاسْتولى على بجاية واستتب أمره بهَا وَأعَاد ألقاب الْخلَافَة وبينما هُوَ يحدث نَفسه بغزو تونس ثار عَلَيْهِ أَبنَاء أَخِيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا مِنْهُ بجاية وردوه إِلَى عمله الأول وانتقض على السُّلْطَان أبي الْحسن أَيْضا سَائِر زناتة من بني عبد الواد ومغراوة وَبني توجين وَبَايع بَنو عبد الواد لعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان وَسَارُوا إِلَى تلمسان فاستجدوا بهَا ملك سلفهم فِي أَخْبَار طَوِيلَة وَجَرت هَذِه الخطوب وَالسُّلْطَان أَبُو الْحسن مُقيم بتونس تغاديه الْعَرَب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 بِالْقِتَالِ وترواحه وتعوج عَلَيْهِ تَارَة وتستقيم أُخْرَى وَطَالَ مقَامه بهَا وعميت أنباؤه على أهل الْمغرب وَحدث فِي الْخلق الوباء الْعَظِيم الَّذِي عَم الْمشرق وَالْمغْرب فَأَرْجَفَ بِمَوْتِهِ واضطربت الْأَحْوَال بالمغارب الثَّلَاثَة الْأَدْنَى والأوسط والأقصى واتصل ذَلِك بالأمير أبي عنان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان كَانَ أَبوهُ قد ولاه عَلَيْهَا عِنْد ذَهَابه إِلَى إفريقية حَسْبَمَا مر فَلَمَّا أرجف بمهلك أَبِيه وتساقط إِلَيْهِ الفل من عسكره عُرَاة زرافات ووحدانا تطاول إِلَى الاستئثار بِملك أَبِيه دون سَائِر إخْوَته وَكَانَ مرشحا عِنْده لذَلِك لمزيد فَضله عَلَيْهِ فِي غير وصف وَاتفقَ أَن كَانَ عِنْده رجل من بني عبد الواد اسْمه عُثْمَان بن يحيى بن مُحَمَّد بن جرار وَكَانَ ينْسب إِلَى علم الْحدثَان وَلما سَافر السُّلْطَان إِلَى إفريقية كَانَ هَذَا الرجل أول المرجفين بِهِ وَأَنه لَا يرجع من سفرته وَأَن الْأَمر صائر إِلَى أبي عنان ونجع ذَلِك فِي أبي عنان لموافقته هَوَاهُ فَاشْتَمَلَ على ابْن جرار وخلطه بِنَفسِهِ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بنكبة السُّلْطَان وانحصاره أَولا بالقيروان ثمَّ بتونس لم يستزب أَبُو عنان فِي صدق ابْن جرار وَأَنه على بَصِيرَة من أمره فتحفز للوثبة وصمم على الثورة ثمَّ أكد عزمه على ذَلِك مَا اتَّصل بِهِ من خبر ابْن أَخِيه مَنْصُور بن أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أبي الْحسن بفاس الْجَدِيد وَأَنه ثار بهَا وَفتح ديوَان الْعَطاء واستلحق واستركب ورام التغلب على الْمغرب واحتياز الْأَمر لنَفسِهِ دون غَيره وروى فِي ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا عزم على الذّهاب إِلَى إفريقية لاستنفاذ السُّلْطَان من هوة الْحصار يسر من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وتفطن لشأنه الْحسن بن سُلَيْمَان بن يزريكن عَامل القصبة بفاس وَصَاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه فِي اللحاق بالسلطان فَأذن لَهُ رَاحَة مِنْهُ فلحق بِأبي عنان على حِين أمضى عزيمته على التوثب فَأخْرج مَا كَانَ بقصر السُّلْطَان بالمنصورة من المَال والذخيرة وجاهر بِالدُّعَاءِ لنَفسِهِ وَجلسَ لِلْبيعَةِ بِمَجْلِس السُّلْطَان من قصره فِي ربيع الثَّانِي من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَبَايعهُ الْمَلأ وَقَرَأَ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثمَّ بَايعه الْعَامَّة وانفض الْمجْلس وَقد استتب سُلْطَانه ورست قَوَاعِد ملكه وَركب فِي التعبية والآلة حَتَّى نزل بقبة الملعب وَطعم النَّاس وانتشروا وَعقد على وزارته لِلْحسنِ بن سُلَيْمَان بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يرزيكن القادم عَلَيْهِ ثمَّ لفارس بن مَيْمُون بن وردار وَجعله رديفا لَهُ وَرفع مَكَان ابْن جرار عَلَيْهِم كلهم واختص لمناجاته كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو ثمَّ فتح الدِّيوَان وَجعل يستركب كل من تساقط إِلَيْهِ من قبل أَبِيه ويخلع عَلَيْهِم وارتحل إِلَى الْمغرب وَعقد على تلمسان لِابْنِ جرار وأنزله بِالْقصرِ الْقَدِيم مِنْهَا فاستمر بهَا واستبد إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ بَنو عبد الواد مُجْتَمعين على سلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فَقَتَلُوهُ غرقا فِي خبر طَوِيل وَلما انْتهى الْأَمِير أَبُو عنان إِلَى وَادي الزَّيْتُون وشى إِلَيْهِ بالوزير الْحسن بن سُلَيْمَان وَأَنه عازم على الفتك بِهِ بتازا تقربا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ووفاء بِطَاعَتِهِ وَأَنه قد دَاخل فِي ذَلِك حافده مَنْصُور بن أبي مَالك الثائر بفاس وأطلعه هَذَا الواشي على كتاب الْوَزير فِي ذَلِك فَلَمَّا قَرَأَهُ تقبض عَلَيْهِ ثمَّ قَتله خنقا فِي مسَاء ذَلِك الْيَوْم وأغذ السّير إِلَى الْمغرب وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَنْصُور صَاحب فاس فزحف للقائه والتقى الْجَمْعَانِ بوادي أبي الأجراف من نَاحيَة تازا فاختل مصَاف مَنْصُور وانهزمت جموعه وَلحق بفاس الْجَدِيد فتحصن بهَا وَتَبعهُ أَبُو عنان فَأَنَاخَ عَلَيْهِ خَارِجهَا وَقد تسايل النَّاس على طبقاتهم إِلَيْهِ وآتوه طاعتهم وَكَانَ قد سلك مَعَ الرّعية والجند من الْبَذْل والاستيلاف طَرِيقا لم يسْبق إِلَيْهِ وَكَانَت منازلته لفاس الْجَدِيد فِي ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأخذ بمخنقها وَأجْمع الْأَيْدِي والفعلة على الْآلَات لحصارها ثمَّ أرسل إِلَى مكناسة بِإِطْلَاق أَوْلَاد أبي الْعَلَاء المعتقلين بالقصبة مِنْهَا فأطلقوا وَلَحِقُوا بِهِ وحاصروا مَعَه فاس الْجَدِيد وضيقوا عَلَيْهَا إِلَى أَن ضَاقَتْ أَحْوَال أَهلهَا وَاخْتلفت أهواؤهم وَنزع إِلَى أبي عنان أهل الشَّوْكَة مِنْهُم ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء احتال فِي فتح الْبَلَد بِأَن أظهر النُّزُوع عَن أبي عنان إِلَى مَنْصُور المحصور فَدخل الْبَلَد وَتمكن مِنْهُ وثار بِهِ فِيمَن مَعَه من حَاشِيَته واقتحمه الْأَمِير أَبُو عنان عَلَيْهِم وَنزل مَنْصُور على حكمه فاعتقله إِلَى أَن قَتله بمحبسه وَاسْتولى على ذَلِك الْملك وتسابقت إِلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار للتهنئة بالبيعة وَتمسك أهل سبتة بِطَاعَة السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 أبي الْحسن ثمَّ رجعُوا عَن ذَلِك وثاروا على عاملهم عبد الله بن عَليّ بن سعيد من طبقَة الوزراء فقبضوا عَلَيْهِ وقادوه إِلَى أبي عنان مبايعين لَهُ متقربين بِهِ إِلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك فيهم زعيمهم الشريف أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن رَافع الصّقليّ من آل الْحُسَيْن السبط رَضِي الله عَنهُ كَانَ سلفه قد انتقلوا من صقلية إِلَى سبتة فاستوطنوها ثمَّ استوطنوا بعْدهَا حَضْرَة فاس واستوسق للأمير أبي عنان ملك الْمغرب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ قومه من بني مرين إِلَّا من أَقَامَ مَعَ أَبِيه بتونس وَفَاء بِحقِّهِ وحص جنَاح أَبِيه عَن الكرة على بني كَعْب النَّاكِثِينَ لعهده الناكبين عَن طَاعَته فَأَقَامَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله بتونس يَرْجُو الْأَيَّام ويأمل الكرة والأطراف تنْتَقض والخوارج تتجدد وَقَنطَ من كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وسئموا الْمقَام بِأَرْض لَيست لَهُم بدار مقَام فحسنوا لَهُ النهوض إِلَى الْمغرب فأسعفهم وعزم على الرحلة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر كتابا من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب يسائله عَن أَحْوَاله ويعزيه عَن مصابه ويتأسف لَهُ وَنَصّ الْكتاب الْمقَام الَّذِي أقمار أسعده فِي انتظام واتساق وجياد عزه الى الْغَايَة القصوى ذَات استباق والقلوب على حبه ذَات اتِّفَاق وعناية الله تَعَالَى عَلَيْهِ مديدة الرواق وأياديه الجمة فِي الْأَعْنَاق ألزم من الأطواق وَأَحَادِيث مجده سمر النوادي وَحَدِيث الرفاق مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي شَأْن قُلُوبنَا الاهتمام بِشَأْنِهِ وَأعظم مطلوبنا من الله تَعَالَى سَعَادَة سُلْطَانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا إِبْنِ السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى والصنائع الإلهية تحط بِبَابِهِ والألطاف الْخفية تعرس فِي جنابه والنصر الْعَزِيز يحف بركابه وَأَسْبَاب التَّوْفِيق مُتَّصِلَة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه مُعظم سُلْطَانه الَّذِي لَهُ الْحُقُوق المحتومة والفواضل الْمَشْهُورَة الْمَعْلُومَة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر المنسوقة الْمَنْظُومَة الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى فِي وقاية ذَاته المعصومة وحفظها على هَذِه الْأمة المرحومة الْأَمِير عبد الله يُوسُف بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن فرج بن نصر سَلام كريم طيب عميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 كَمَا سطعت فِي غياهب الشدَّة أنوار الْفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطة الأرج يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد اله جالي الظُّلم بعد اعتكارها ومقيل الْأَيَّام من عثارها ومزين سَمَاء الْملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح الْقُلُوب من وَحْشَة أفكارها ومنشئ سَحَاب الرَّحْمَة على هَذِه الْأمة بعد افتقارها وَشدَّة اضطرابها ومتداكها باللطف الْكَفِيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد رَسُوله صفوة النُّبُوَّة ومختارها ولباب مجدها السَّامِي ونجارها نَبِي الْمَلَاحِم وخائض تيارها وَمذهب رسوم الْفِتَن ومطفئ نارها الَّذِي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حَتَّى بلغت كلمة الله مَا شَاءَت من سطوع أنوارها ووضوح أثارها وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين تمسكوا بعهده على إجلاء الْحَوَادِث وإمرارها وَبَاعُوا نُفُوسهم فِي إعلاء دَعوته الحنيفية وإظهارها وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى باتصال السَّعَادَة واستمرارها وانسحاب الْعِنَايَة الإلهية وإسدال أستارها حَتَّى تقف الْأَيَّام بباكم موقف اعتذارها وَتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة فِي اغتفارها فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم أوفى مَا كتب لصالحي الْمُلُوك من مواهب السَّعَادَة وعرفكم عوارف الآلاء فِي إصدار أَمركُم الرفيع وإيراده وأجرى الْفلك الدوار بِحكم مُرَاده وَجعل لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي مُحكم كِتَابه الْمُبين للصالحين من عباده من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِفضل الله الَّذِي عَلَيْهِ فِي الشدائد الِاعْتِمَاد وَإِلَى كنف فَضله الِاسْتِنَاد ثمَّ ببركة جاه نَبينَا الَّذِي وضح بهدايته سَبِيل الرشاد إِلَّا الصَّنَائِع الَّتِي تشام بوراق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بِطُلُوع السُّعُود واستقبالها وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها لله الْحَمد على نعمه الَّتِي نرغب فِي كمالها ونستدر عذب زلالها وَعِنْدنَا من الاستبشار باتساق أَمركُم وانتظامه وَالسُّرُور بسعادة أَيَّامه وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره وإتمامه مَا لَا تفي الْعبارَة بأحكامه وَلَا تتعاطى حصر أَحْكَامه وَإِلَى هَذَا أيد الله تَعَالَى أَمركُم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 الْحَاضِر وَالْغَائِب وخلص الخلوص الَّذِي لَا تغيره الشوائب مَا عندنَا من الْحبّ الَّذِي وضحت مِنْهُ الْمذَاهب وَإنَّهُ لما اتَّصل بِنَا مَا جرت بِهِ الْأَحْكَام من الْأُمُور الَّتِي صَحِبت مقامكم فِيهَا الْعِنَايَة من الله والعصمة وَجعل على الْعباد والبلاد الْوِقَايَة وَالنعْمَة لَا يسْتَقرّ بقلوبنا الْقَرار وَلَا تتأتى بأوطاننا الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم اللَّيْل وَالنَّهَار ورجاؤنا فِي اسْتِئْنَاف سعادتكم يشْتَد على الْأَوْقَات وَيُقَوِّي علما بِأَن الْعَاقِبَة للتقوى وَفِي هَذِه الْأَيَّام عميت الأنباء وتكالبت فِي الْبر وَالْبَحْر الْأَعْدَاء وَاخْتلفت الْفُصُول والأهواء وعاقت الْوَارِد الأنواء وعَلى ذَلِك من فضل الله الرَّجَاء وَلَو كُنَّا نجد للاتصال بكم سَببا أَو نلقي لإعانتكم مذهبا لما شغلنا الْبعد الَّذِي بَيْننَا اعْترض والعدو بساحتنا فِي هَذِه الْأَيَّام ربض وَكَانَ خديمكم الَّذِي رفع من الْوَفَاء راية خافقة واقتنى مِنْهُ فِي سوق الكساد بضَاعَة نافقة الشَّيْخ الْأَجَل الأوفى الأود الأخلص الأصفى على أَبُو مُحَمَّد بن آجانا سنى الله مأموله وبلغه من سَعَادَة أَمركُم سؤله وَقد ورد على بابنا وتحيز إِلَى اللحاق بجانبنا ليتيسر لَهُ من جهتنا الْقدوم ويتأتى لَهُ بإعانتنا الْغَرَض المروم فَبَيْنَمَا نَحن نَنْظُر فِي تتميم غَرَضه وإعانته على الْوَفَاء الَّذِي قَامَ بمفترضه إِذا اتَّصل بِنَا خبر قرقورتين من الأجفان الَّتِي استعنتم بهَا على الْحَرَكَة والعزمة المقترنة بِالْبركَةِ حطت إِحْدَاهمَا بمرسى الْمنْكب وَالْأُخْرَى بمرسى المرية فِي كنف الْعِنَايَة الإلهية فتلقينا من الواصلين فِيهَا الأنباء المحققة بعد التباسها وَالْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها وتعرفنا مَا كَانَ من عزمكم على السّفر وحركتكم المقرونة بِالْيمن وَالظفر وَإِنَّكُمْ استخرتم الله تَعَالَى فِي اللحاق بالأوطان الَّتِي يُؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها وَيصْلح أحوالها وَيذْهب أهوالها وَإِنَّكُمْ سبقتم حركتها بِعشْرَة أَيَّام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور واليمن الرَّائِق السفور والأسطول الْمَنْصُور فَلَا تسألوا عَن انبعاث الآمال بعد سكونها ونهوض طيور الرَّجَاء من وَكَونهَا واستبشار الْأمة المحمدية مِنْكُم بقرة عيونها وَتحقّق ظنونها وارتياح الْبِلَاد إِلَى دعوتكم الَّتِي ألبستها ملابس الْعدْل وَالْإِحْسَان وقلدتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 قلائد السّير الحسان وَمَا مِنْهَا إِلَّا من باح بِمَا يخفيه من وجده وجهر بشكر الله تَعَالَى وحمده وابتهل إِلَيْهِ فِي تيسير غَرَض مقامكم الشهير وتتميم قَصده واستئناس نور سعده وَكم مطل الِانْتِظَار بديون آمالها والمطاولة من اعتلالها وَأما نَحن فَلَا تسألوا عَمَّن استشعر دنو حَبِيبه بعد طول مغيبه إِنَّمَا هُوَ صدر رَاجعه فُؤَاده وطرف أَلفه رقاده وفكر ساعده مُرَاده فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر بادرنا إِلَى إنجاز مَا بذلنا لخديمكم الْمَذْكُور من الْوَعْد واغتنمنا مِيقَات هَذَا السعد ليصل سَببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فَعنده خدم نرجو أَن ييسر الله تَعَالَى بحوله أَسبَابهَا وَيفتح بنيتكم الصَّالِحَة أَبْوَابهَا وَقد شَاهد من امتعاضنا لذَلِك الْمقَام الَّذِي ندين لَهُ بالتشيع الْكَرِيم الوداد ونصل لَهُ على بعد المزار ونزوح الأقطار سَبَب الِاعْتِدَاد مَا يُغني عَن الْقَلَم والمداد وَقد القينا إِلَيْهِ من ذَلِك كُله مَا يلقيه إِلَى مقامكم الرفيع الْعِمَاد وكتبنا إِلَى من بالسواحل من ولاتنا نحد لَهُم مَا يكون عَلَيْهِ عَمَلهم فِي بر من يرد عَلَيْهِم من جِهَة أبوتكم الكرمية ذَات الْحُقُوق الْعَظِيمَة والأيادي الحديثة والقديمة وهم يعْملُونَ فِي ذَلِك بِحَسب المُرَاد وعَلى شاكلة جميل الِاعْتِقَاد وَيعلم الله تَعَالَى أننا لَو لم تعق الْعَوَائِق الْكَبِيرَة والموانع الْكَثِيرَة والأعداء الَّذين غصت بهم فِي الْوَقْت هَذِه الجزيرة مَا قدمنَا عملا على اللحاق لكم والاتصال بسببكم حَتَّى نوفي لأبوتكم الْكَرِيمَة حَقّهَا ونوضح من المسرة طرقها لَكِن الْأَعْذَار وَاضِحَة وضوح الْمثل السائر وَإِلَى الله تَعَالَى نبتهل فِي أَن يُوضح لكم من التَّيْسِير طَرِيقا وَيجْعَل لكم السعد مصباحا ورفيقا وَلَا يعدمكم عناية مِنْهُ وتوفيقا وَيتم سرورنا عَن قريب بتعريف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فَذَلِك مِنْهُ سُبْحَانَهُ غَايَة آمالنا وَفِيه أَعمال ضراعتنا وابتهالنا هَذَا مَا عندنَا بادرنا لإعلامكم بِهِ أسْرع البدار وَالله تَعَالَى يوفد علينا أكْرم الْأَخْبَار بسعادة ملككم السَّامِي الْمِقْدَار وييسر مَا لَهُ من الأوطار ويصل سعدكم ويحرس مجدكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته اه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 ركُوب السُّلْطَان أبي الْحسن الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب وَمَا جرى عَلَيْهِ من المحن فِي ذَلِك كَانَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْفضل أَبُو السُّلْطَان أبي بكر الحفصي بعد أَن لحق بِعَمَلِهِ الْقَدِيم من بونة قد وَفد عَلَيْهِ مشيخة الْعَرَب من اولاد أبي اللَّيْل وأغروه بِملك إفريقية والنهوض إِلَى تونس ومحاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض إِلَيْهَا بعد عيد الْفطر سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فحاصرها مُدَّة ثمَّ انفض عَنْهَا ثمَّ عاود حصارها ثمَّ انفض عَنْهَا وَدخل الْفقر مَعَ أَوْلَاد أبي اللَّيْل إِلَى أَن بَايعه أهل بِلَاد الجريد بِإِشَارَة أبي الْقَاسِم بن عتو الْمَقْطُوع وَدخل فِي طَاعَته توزر وقفصة ونفطة والحامة وَقَابِس وجربة وانْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن باستيلاء الْفضل على هَذِه الْأَمْصَار واستفحال أمره بهَا وَأَنه ناهض إِلَى تونس فأهمه شَأْنه وخشي على الْأَمر وَكَانَت بطانته توسوس إِلَيْهِ بالرحلة إِلَى الْمغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه مَعَ مَا أَصَابَهُم بتونس من الغلاء وَالْمَوْت الذريع فاجابهم إِلَى ذَلِك وشحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل الْمُسَافِرين وَلما قضى نسك عيد الْفطر من سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب الْبَحْر فِي فصل الشتَاء وهيجان الْبَحْر وكلب الْبرد بعد أَن عقد لِابْنِهِ أبي الْفضل على تونس ثِقَة بِمَا بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة من الْمُصَاهَرَة وتفاديا بمكانه من معرة الغوغاء وثورتهم بِهِ وَكَانَت مُدَّة محاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بتونس سنة وَنصفا واتصل خبر رحيله بِالْفَضْلِ بن أبي بكر وَهُوَ بِبِلَاد الجريد فأغذ السّير إِلَى تونس وَنزل بهَا على أبي الْفضل المريني وَمن كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وَأهل دولته ثمَّ اقتحمها واتصلت يَده بيد أهد الْبَلَد ثمَّ أحاطوا بالقصبة يَوْم منى حَتَّى استنزلوا أَبَا الْفضل على الْأمان فَخرج إِلَى دَار أصهاره من بني حَمْزَة فَبَقيَ عِنْدهم حَتَّى أنفذوا مَعَه من أوصله إِلَى أَبِيه فلحق بِهِ بثغر الجزائر وَأما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وجيشه الرَّاكِب الْبَحْر مَعَه فَإِنَّهُم لما لججوا احتاجوا إِلَى المَاء فَدَخَلُوا مرسى بجاية لخمس لَيَال من إقلاعهم عَن تونس فَمَنعهُمْ صَاحب بجاية الحفصي من الْوُرُود وأوعز إِلَى سَائِر سواحله بمنعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فزحفوا إِلَى السَّاحِل وقاتلوا من صدهم عَن المَاء إِلَى أَن غلبوهم واستقوا وأقلعوا ثمَّ عصفت بهم الرّيح فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وجاءهم الموج من كل مَكَان وتكسرت الأجفان وغرق الْكثير من بطانة السُّلْطَان وَعَامة النَّاس وَقذف الموج بالسلطان فَأَلْقَاهُ على حجر قرب السَّاحِل من بِلَاد زواوة عاري الْجَسَد مباشرا للْمَوْت وَقد هلك من كَانَ مَعَه من الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء وَالْكتاب والأشراف والخاصة وَهُوَ يُشَاهد مصَارِعهمْ واختطاف الموج لَهُم من فَوق الصخور الَّتِي تعلقوا بهَا فَمَكَثُوا ليلتهم على ذَلِك وصبحهم جفن من بقيه الأساطيل كَانَ قد سلم من ذَلِك العاصف فبادر أهل الجفن إِلَيْهِ حِين رَأَوْهُ فاحتملوه وَقد تصايح بِهِ البربر من الْجبَال وتواثبوا إِلَيْهِ حِين وضح النَّهَار وأبصروه فَتَدَاركهُ الله بِهَذَا الجفن فاحتملوه وقذفوا بِهِ فِي مَدِينَة الجزائر وَفِي نفح الطّيب أَن أساطيل السُّلْطَان أبي الْحسن كَانَت نَحْو الستمائة فغرقت كلهَا وَنَجَا هُوَ على لوح وَهلك من كَانَ مَعَه من أَعْلَام الْمغرب وهم نَحْو أَرْبَعمِائَة عَالم مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي شَارِح الحوفي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الصّباغ المكناسي الَّذِي أمْلى فِي مجْلِس درسه بمكناسة على حَدِيث يَا ابا عُمَيْر مَا فعل النغير أَرْبَعمِائَة فَائِدَة والأستاذ الزواوي أَبُو الْعَبَّاس وَغير وَاحِد وَكَانَ غرق الأسطول على سَاحل تدلس وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله الأبي فِي شرح مُسلم كَلَامه على أَحَادِيث الْعين مَا مَعْنَاهُ أَن رجلا كَانَ بِتِلْكَ الديار مَعْرُوفا بِإِصَابَة الْعين فَسَأَلَ مِنْهُ بعض الموتورين للسُّلْطَان أبي الْحسن أَن يُصِيب أساطيله بِالْعينِ وَكَانَت كَثِيرَة نَحْو الستمائة فَنظر إِلَيْهَا الرجل العائن فَكَانَ غرقها بقدرة الله الَّذِي يفعل مَا يَشَاء ونجى السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَجَرت عَلَيْهِ محن اه وَلما احتل بالجزائر وَقد تمسك أَهلهَا بِطَاعَتِهِ استنشق ريح الْحَيَاة ولأم الصدع وَأقَام الرَّسْم وخلع على من وصل إِلَيْهِ من قل الأساطيل واستلحق واستركب وَلحق بِهِ ابْنه النَّاصِر من بسكرة والتف عَلَيْهِ بعض الْعَرَب من أحواز الجزائر ووفد عَلَيْهِ أولياؤه من عرب سُوَيْد فَنَهَضَ إِلَى جِهَة تلمسان وَقد استولى عَلَيْهَا بَنو زيان وسلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فبرز إِلَيْهِ أَبُو ثَابت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 أَخُو عُثْمَان الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان أبي الْحسن واستبيح مُعَسْكَره وانتبهت فساطيطه وَقتل ابْنه النَّاصِر وَظهر يَوْمئِذٍ من بسالته وَصدق دفاعه وَشدَّة حملاته حَتَّى أَنه أركب ظعائنه وخلص محاميا عَنْهَا وَاحْتمل وَلَده جريحا فَتوفي بِالطَّرِيقِ فواراه فِي التُّرَاب وأخفى قَبره ثمَّ خلص إِلَى الصَّحرَاء مَعَ وليه ونزمار بن عريف بن يحيى السويدي وَلحق بحلل قومه قبْلَة جبل وانشريس وَأجْمع أمره على قصد الْمغرب موطن قومه ومنبت عزه وَدَار ملكه فارتحل مَعَه وليه ونزمار بالناجعة من قومه وَخَرجُوا إِلَى جبل رَاشد ثمَّ قطعُوا المفاوز إِلَى سجلماسة فِي القفر فَلَمَّا أطلوا عَلَيْهَا وعاين أَهلهَا السُّلْطَان تهافتوا عَلَيْهِ تهافت الْفراش على ضوء السراج حَتَّى خرج إِلَيْهِ العذارى من ستورهن ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي ولَايَته وفر الْعَامِل بسجلماسة إِلَى منجاته وَكَانَ الْأَمِير أَبُو عنان لما بلغه الْخَبَر بِقصد أَبِيه سجلماسة نَهَضَ إِلَيْهِ فِي قومه وجموعه بعد أَن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم وَكَانَت بَنو مرين نافرة عَن السُّلْطَان أبي الْحسن حاذرة من عُقُوبَته لجنايتهم بالتخاذل فِي المواقف والفرار عَنهُ فِي الشدائد وَلما كَانَ يبعد بهم فِي الْأَسْفَار ويتجشم بهم المهالك والأخطار فَكَانُوا لذَلِك مُجْمِعِينَ على منابذته ومخلصين فِي طَاعَة ابْنه وَلما اتَّصل خبر قدومهم بالسلطان أبي الْحسن علم من حَاله أَنه لَا يُطيق دفاعهم وَكَانَ ونزمار قد أجفل عَنهُ فِي قومه سُوَيْد لِأَن أَبَاهُ عريف بن يحيى كَانَ قد نزع إِلَى أبي عنان قبل قدوم السُّلْطَان من تونس فَأكْرم مَحَله وَرفع مَنْزِلَته فَكتب إِلَى ابْنه ونزمار ينهاه عَن ولَايَة السُّلْطَان أبي الْحسن ومظاهرته لَهُ وَأقسم لَهُ لَئِن لم يُفَارق السُّلْطَان ليوقعن بِابْنِهِ عنتر وَكَانَ مَعَه فِي جملَة الْأَمِير أبي عنان فآثر ونزمار رضَا أَبِيه وَعلم أَن غناءه عَن السُّلْطَان فِي وَطن الْمغرب قَلِيل فأجفل عَنهُ وَلحق بسكرة فَكَانَ بهَا إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى أبي عنان بعد هَذَا وَلما قرب أَبُو عنان من سجلماسة أجفل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى نَاحيَة مراكش وَدخل أَبُو عنان سجلماسة فثقف أطرافها وسد فروجها وَعقد عَلَيْهَا ليحتاتن بن عمر بن عبد الْمُؤمن كَبِير بني ونكاسن وبلغه أَن أَبَاهُ قد سَار إِلَى مراكش فاعتزم على اتِّبَاعه إِلَيْهَا فَلم تطاوعه بَنو مرين فَرجع بهم إِلَى فاس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي الْحسن على مراكش ثمَّ انهزامه عَنْهَا إِلَى هنتاته أهل جبل درن ووفاته هُنَاكَ لما أجفل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَن سجلماسة سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة قصد مراكش وَركب إِلَيْهَا الأوعار من جبال المصامدة وَلما شارفها تسارع إِلَيْهِ أهل جهاتها بِالطَّاعَةِ من كل أَوب ونسلوا إِلَيْهِ من كل حدب وفر عَامل مراكش إِلَى أبي عنان وَنزع إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن صَاحب ديوَان الجباية أَبُو الْمجد بن مُحَمَّد بن أبي مَدين بِمَا كَانَ فِي الخزانة من مَال الجباية فاختصه واستكتبه وَجعل إِلَيْهِ علامته واستركب واستلحق وجبى الْأَمْوَال وَبث الْعَطاء وَدخل فِي طَاعَته قبائل الْعَرَب من جشم وَسَائِر المصامدة وثاب لَهُ بمراكش ملك رجى مَعَه أَن يستولي على سُلْطَانه ويرتجع فارط أمره وَكَانَ أَبُو عنان لما رَجَعَ إِلَى فاس عَسْكَر بساحتها وَشرع فِي الْعَطاء وإزاحة الْعِلَل ثمَّ ارتحل فِي جموع بني مرين إِلَى مراكش وبرز السُّلْطَان أَبُو الْحسن للقائه وانْتهى كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى وَادي أم الرّبيع وتربص كل وَاحِد بِصَاحِبِهِ عبور الْوَادي فعبره أَبُو الْحسن وَكَانَ اللِّقَاء بتامد غوست فِي آخر صفر من سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة فاختل مصَاف السُّلْطَان وَانْهَزَمَ عسكره وَلحق بِهِ أبطال بني مرين ثمَّ راجعوا عَنهُ حَيَاء وهيبة وكبى بِهِ فرسه يَوْمئِذٍ فِي مفره فَسقط إِلَى الأَرْض والفرسان تحوم حوله فاعترضهم دونه أَبُو دِينَار سُلَيْمَان بن عَليّ بن أَحْمد أَمِير الذواودة من عرب ريَاح ورديف أَخِيه يَعْقُوب كَانَ هَاجر مَعَ السُّلْطَان من الجزائر وَلم يزل فِي جملَته إِلَى هَذَا الْيَوْم فدافع عَنهُ حَتَّى ركب وَسَار من وَرَائه ردا لَهُ وَأسر حَاجِبه علال بن مُحَمَّد فأودعه أَبُو عنان السجْن ثمَّ امتن عَلَيْهِ بعد وَفَاة أَبِيه وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله إِلَى جبل هنتانة من جبال درن وَمَعَهُ كَبِيرهمْ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عَليّ الهنتاني فَنزل عَلَيْهِ وَأَجَارَهُ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمَلأ من قومه هنتانة وَمن انضاف إِلَيْهِم من المصامدة وَتَآمَرُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وتعاهدوا على المدافعة عَنهُ وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت وَجَاء أَبُو عنان على أَثَره حَتَّى احتل بمراكش وَأنزل عساكره على جبل هنتانة ورتب المسالح لحصاره وحربه وَطَالَ عَلَيْهِ ثواؤه حَتَّى طلب السُّلْطَان من ابْنه الْإِبْقَاء عَلَيْهِ وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عمر فَحَضَرَ عِنْده وَأحسن الْعذر عَن الْأَمِير أبي عنان وَالْتمس لَهُ الرِّضَا مِنْهُ فَرضِي عَنهُ وَكتب لَهُ بِولَايَة عَهده وأوعز إِلَيْهِ بِأَن يبْعَث لَهُ مَالا وكسى فسرح الْحَاجِب ابْن أبي عمر بإخراجها من الْمُودع بدار ملكهم واعتل السُّلْطَان خلال ذَلِك فمرضه أولياؤه وخاصته وافتصد لإِخْرَاج الدَّم ثمَّ بَاشر المَاء للطَّهَارَة فورم مَحل الفصادة وَمَات رَحمَه الله فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة هَكَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا وَالَّذِي رَأَيْته مَكْتُوبًا بالنقش على رخامة قَبره بشالة أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَبعث أَوْلِيَاء السُّلْطَان بالْخبر إِلَى ابْنه وَهُوَ بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أَعْوَاد نعشه إِلَيْهِ فَتَلقاهُ حافيا حاسرا وَقبل أعواده وَبكى واسترجع ورضني عَن أوليائه وخاصته وأنزلهم بِالْمحل الَّذِي رضوه من دولته ثمَّ دفن أَبَاهُ بمراكش قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة بالموضع الَّذِي بِهِ الْيَوْم قُبُور الْمُلُوك الْأَشْرَاف السعديين ثمَّ لما نَهَضَ أَبُو عنان إِلَى فاس احْتمل شلو أَبِيه مَعَه حَتَّى دَفنه بشالة مَقْبرَة سلفهم وَلَا زَالَ ضريحه قَائِم الْعين والأثر إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله أسمر طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل معتدل اللِّحْيَة حسن الْوَجْه وَكَانَ عَفا مائلا إِلَى التَّقْوَى مُولَعا بالطيب لم يشرب الْخمر قطّ لَا فِي صغره وَلَا فِي كبره محبا للصالحين عدلا فِي رَعيته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَقَالَ بعض المشارقة فِي حَقه مَا صورته ملك أَضَاء الْمغرب بأنوار هلاله وَجَرت إِلَى الْمشرق أنواء نواله وَطَابَتْ نسماته واشتهرت عزماته كَانَ حسن الْكِتَابَة كثير الْإِنَابَة ذَا بلاغة وبراعة وشهامة وشجاعة اه وَبنى رَحمَه الله عدَّة مدارس مِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بمراكش قبلي جَامع ابْن يُوسُف قَالَ الْعَلامَة اليفرني فِي النزهة إِن الَّذِي بناها هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْمَذْكُور قلت وَمن وقف على هَذِه الْمدرسَة وَتَأمل تنجيدها وتنميقها قدر هَذَا السُّلْطَان وَعلم عظم أهميته ومحبته للْعلم وَأَهله وَمِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بطالعه سلا قبلي الْمَسْجِد الْأَعْظَم مِنْهَا بناها رَحمَه الله على هَيْئَة بديعة وصنعة رفيعة وأودع جوانبها من أَنْوَاع النقش وضروب التخريم مَا يحير الْبَصَر ويدهش الْفِكر ووقف عَلَيْهَا عدَّة أوقاف رصع أسماءها بالنقش والأصباغ على رخامة عَظِيمَة ثمَّ نصب الرخامة بِالْحَائِطِ الجوفي مِنْهَا كل ذَلِك مُحَافظَة على تِلْكَ الْأَوْقَاف أَن تغير وَأما الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومدرسته الجوفية فهما من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي حَسْبَمَا تقدم ذَلِك فِي أخباره وَعِنْدِي أَن السُّور الْمَحْمُول عَلَيْهِ المَاء الدَّاخِل إِلَى سلا الْمَعْرُوف عِنْدهم بسور الأقواس من بِنَاء السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله ولي فِي ذَلِك مُسْتَند غَرِيب وَهُوَ أَنِّي كنت ذَات يَوْم أفاوض بعض القناقنة بسلا مِمَّن كَانَ يُبَاشر أَمر الْمِيَاه بهَا وَيصْلح مَا احْتَاجَ إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا فَقلت كالمستفهم لنَفْسي من غير قصد تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ يَا ترى من الَّذِي بنى سور المَاء الدَّاخِل إِلَى الْبَلَد فَقَالَ على البديهة الَّذِي بنى الْمدرسَة هُوَ الَّذِي بنى سور المَاء فَقلت لَهُ وَكنت متشوفا يَوْمئِذٍ لتحقيق ذَلِك وَمَا علمك بِهَذَا فَقَالَ إِن بيلة الْمدرسَة بنيت يَوْم بنيت الْمدرسَة بِدَلِيل الزليج المرصوف حولهَا بِالْعَمَلِ الْكَبِير الْمَوْجُود نَظِيره فِي سَائِر حيطان الْمدرسَة وسواريها وَهَذِه البيلة لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا إِلَى أَن باشرت إصلاحها فِي هَذِه الْأَيَّام فحفرت عَن قنواتها وتتبعت مَادَّة المَاء الْوَاصِل إِلَيْهَا فَإِذا عمل تِلْكَ القوادس وصنعة بنائها حَتَّى الكلس المفرغ عَلَيْهَا الْجَامِع بَينهَا مماثل لعمل قنوات مَبْنِيَّة بالسور الْمَذْكُور دَاخِلَة فِيهِ بِحَيْثُ بنى عَلَيْهَا يَوْم تأسيسه من غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 فَوق بَين هَذِه وَتلك فِي جَمِيع عملهما وَلَيْسَ بِشَيْء من القنوات الْحَادِثَة بعدهمَا يشبههما فَعلمت أَن الَّذِي بناهما وَاحِد فَأَعْجَبَنِي كَلَامه وباحثته فِي ذَلِك فصمم على معتقده وحاولت تشكيكه بِكُل وَجه فَلم يتشكك فَظهر لي صدق دَلِيله وَغلب على ظَنِّي مَا جزم بِهِ وَعند الله علم حَقِيقَة الْأَمر وَاعْلَم أَن هَذَا السُّور من المباني العادية والهياكل الْعَظِيمَة الَّتِي تدل على فخامة الدولة وَكَمَال قوتها مثل مَا يُقَال عَن حنايا قرطاجنة وَنَحْوهَا وَهَذَا السُّور مسوق من عُيُون الْبركَة خَارج مَدِينَة سلا على أَمْيَال كَثِيرَة ممتدا من الْقبْلَة إِلَى الْجوف على أضخم بِنَاء وأحكمه مَوْزُون سطحه بالميزان الهندسي ليَأْتِي جَرَيَان المَاء فَوْقه على اسْتِوَاء وَلذَلِك ينخفض إِلَى الأَرْض مَتى ارْتَفَعت ويعلو عَنْهَا إِذا انخفضت وَيجْرِي على مَتنه من المَاء مِقْدَار النَّهر الصَّغِير فِي سَاقيه قد اتَّخذت لَهُ وَلما شَارف الْبَلَد عظم ارتفاعه جدا لأجل انخفاض الأَرْض عَنهُ وَكلما مر فِي سيره بطرِيق مسلوك فتحت لَهُ فِيهِ أقواس فَسُمي لذَلِك سور الأقواس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاهد لبانية بضخامة الدولة وَعظم الهمة وللسلطان أبي الْحسن رَحمَه الله بفاس ومكناسة وَغَيرهمَا من بِلَاد الْمغرب آثَار كَثِيرَة فَمن آثاره بفاس بيلة الرخام الْأَبْيَض المجلوبة من المرية زنتها مائَة قِنْطَار وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا سيقت من المرية الى مُوسَى العرائش ثمَّ طلعت فِي وَادي قصر كتامة ثمَّ حملت على عجل الْخشب تجرها الْقَبَائِل إِلَى منزل أَوْلَاد مَحْبُوب الَّذين على ضفة وَادي سبو فوسقت فِيهِ إِلَى أَن وصلت إِلَى ملتقاه مَعَ وَادي فاس ثمَّ حملت على عجل الْخشب أَيْضا يجرها النَّاس إِلَى أَن وصلت إِلَى مدرسة الصهريج الَّتِي بعدوة الأندلس ثمَّ نقلت مِنْهَا بعد ذَلِك بأعوام إِلَى مدرسة الرخام الَّتِي أَمر رَحمَه الله ببنائها جَوف جَامع الْقرَوِيين الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة مِصْبَاح ومصباح هَذَا هُوَ أَبُو الضياء مِصْبَاح بن عبد الله الياصلوتي الْفَقِيه الْمَشْهُور وَإِنَّمَا نسبت إِلَيْهِ لِأَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما بناها كَانَ أَبُو الضياء أول من تصدى للدرس بهَا فنسبت إِلَيْهِ وَقد تقدم لنا خبر الْمدرسَة الَّتِي بناها غربي جَامع الأندلس أَيَّام أَبِيه وَأنْفق عَلَيْهَا أَكثر من مائَة ألف دِينَار وَمن آثاره بمكناسة الزَّيْتُون الزاويتان القدمى والجديدة وَكَانَ بنى القدمى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 فِي زمَان أَبِيه والجديدة حِين ولي الْخلَافَة وَله فِي هَذِه الْمَدِينَة عدَّة آثَار سوى الزاويتين من القناطر والسقايات وَغَيرهَا وَمن أجل ذَلِك الْمدرسَة الجديدة بهَا وَكَانَ قدم للنَّظَر على بنائها قاضيه على الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ بناؤها جَاءَ إِلَيْهَا من فاس ليقف عَلَيْهَا وَيرى عَملهَا وصنعتها فَقعدَ على كرْسِي من كراسي الْوضُوء حول صهريجها وَجِيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللَّازِمَة فِيهَا فغرقها من الصهريج قبل أَن يطالع مَا فِيهَا وَأنْشد (لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن ... لَيْسَ لما قرت بِهِ الْعين ثمن) وَكَانَ لَهُ معرفَة بالشعر فَمن شعره قَوْله (أرضي الله فِي سر وجهر ... وأحمي الْعرض عَن دنس ارتياب) (وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا ... وأضرب بِالسَّيْفِ طلي الرّقاب) وأخباره كَثِيرَة وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيلها فَعَلَيهِ بِكِتَاب الْخَطِيب بن مَرْزُوق الَّذِي أَلفه فِي دولته وَسيرَته وَسَماهُ الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَحَادِيث السُّلْطَان أبي الْحسن وَلما ذكر الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي كِتَابه رقم الْحلَل هَذَا السُّلْطَان وَصفه بقوله (الْملك الْمَعْدُود من خير سلف ... ومجموع القَوْل إِذا القَوْل اخْتلف) (الدّين والعفاف وَالْجَلالَة ... والعز وَالْقُدْرَة والجزالة) (وَالْعلم والحلم وَفضل الدّين ... وصفوه الصفوة من مرين) (ممهد الْملك ومسدي المنن ... وَوَاحِد الدَّهْر وفخر الزَّمن) (باني المباني النخبة الشَّرِيفَة ... بِمُقْتَضى همته المنيفة) (وتارك الْمدَارِس الظريفة ... شاهدة بِأَنَّهُ الْخَلِيفَة) (وقاطع الدَّهْر بِغَيْر لَهو ... فِي مجْلِس مُعظم أَو بهو) (أما لتدريس وَعلم يدرس ... أَو لبلاد من عَدو تحرس) (أَو لأياد فِي عباد ثغرس ... أَو لثواب ورضا يلْتَمس) (أَو نسخ قُرْآن وَعرض حزب ... أَو عدَّة معدة لِحَرْب) وَمن أَعْيَان وزرائه عَامر بن فتح الله السدراتي وَعبد الله بن إِبْرَاهِيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 الفودودي وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَأَبُو الْحسن عَليّ بن القبايلي التينمللي رحم الله الْجَمِيع بمنه ولنذكر مَا كَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة فَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق تلمسان الجديدة الْمُسَمَّاة بالمنصورة حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنْهَا مُسْتَوفى وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة كَانَ الْقَحْط بالمغرب فَاسْتَسْقَى النَّاس وَخرج السُّلْطَان أَبُو سعيد مَاشِيا على قَدَمَيْهِ لإِقَامَة سنة الاسْتِسْقَاء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُور وَتَقَدَّمت أَمَامه الصلحاء وَالْفُقَهَاء والقراء يدعونَ الله تَعَالَى وَقدم بَين يَدي نَجوَاهُ صدقَات وَفرق أَمْوَالًا وَفِي يَوْم السبت بعده خرج فِي جنده إِلَى قبر الشَّيْخ أبي يَعْقُوب الْأَشْقَر بجبل الكندرتين فَدَعَا هُنَالك ورحم الله تَعَالَى عباده وغاث أرضه وبلاده وَفِي سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْحق الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير بِضَم الصَّاد وَفتح الْغَيْن وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة وَكَانَ ربعَة آدم اللَّوْن خَفِيف العارضين يلبس أحسن زِيّ ويدرس بِجَامِع الأجدع من فاس يقْعد على كرْسِي عَال ليسمع الْقَرِيب والبعيد على انخفاض كَانَ فِي صَوته وَكَانَ حسن الإقراء وقورا صبورا ثبتا وَكَانَ أحد الأقطاب الَّذين تَدور عَلَيْهِم الْفتيا بالمغرب فَيحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 التوقيع عَلَيْهَا على طَرِيق الِاخْتِصَار وَترك فضول القَوْل ولاه السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْقَضَاء بفاس وَشد عضده فَجرى فِي الْعدْل على صِرَاط مُسْتَقِيم وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَزْدِيّ المراكشي الْمَعْرُوف بِابْن الْبناء الإِمَام الْمَشْهُور فِي علم التعاليم والهيئة والنجوم والأزياج وَغير ذَلِك وَكَانَ رَحمَه الله عز وَجل مَعْرُوفا بِاتِّبَاع السّنة موسوما بِطَهَارَة الِاعْتِقَاد منعوتا بالصلاح وَكَانَ انتفاعه بِصُحْبَة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا هبت ريح شَدِيدَة بفاس ومكناسة وأحوازهما وَاسْتمرّ هبوبها يَوْمَيْنِ وليلتين فعاقت عَن الْأَسْفَار وهدمت الدّور وقلعت الْأَشْجَار وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا فِي الْمحرم مِنْهَا جرت الْعين الموالية للمشرق من عُيُون صنهاجة بأحواز فاس بِدَم عبيط من وَقت الْعَصْر إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ عَادَتْ إِلَى حَالهَا وفيهَا كَانَ الْمَطَر الْعَظِيم والثلج الْكثير بالمغرب وَعدم الفحم والحطب حَتَّى بيع الفحم بفاس بِدِرْهَمَيْنِ للرطل وَفِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا احْتَرَقَ سوق العطارين الْكُبْرَى بفاس فجدده السُّلْطَان أَبُو سعيد من بَاب مدرسة العطارين إِلَى رَأس عقبَة الجزارين وَعقد عَلَيْهِ هُنَالك بَابا ضخما وأفرده للعطارين دون غَيرهم وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة كَانَت المجاعة بالمغرب وَارْتَفَعت الأسعار فِي جَمِيع الْبِلَاد فَبلغ الْمَدّ من الْقَمْح بفاس خَمْسَة عشر درهما والصحفة مِنْهُ تسعين دِينَارا وغلا الإدام وعدمت الْخضر بأسرها وكسى السُّلْطَان أَبُو سعيد وَأطْعم فِي هَذِه المسغبة شَيْئا كثيرا ودام ذَلِك إِلَى قرب منتصف السّنة بعْدهَا وفيهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر رَمَضَان مِنْهَا نَشأ خَارج فاس من جِهَة جوفيها سَحَاب عَظِيم وظلمة شَدِيدَة ورياح عَاصِفَة أعقب ذَلِك برد كثير عَظِيم الجرم تزن الْوَاحِدَة مِنْهُ ربع رَطْل وَأَقل وَأكْثر وَنزل فِي خلاله مطر وابل جَاءَت مِنْهُ السُّيُول طامية حملت النَّاس وَالدَّوَاب وأهلكت جَمِيع مَا بجبل زالغ من الكروم وَالزَّيْتُون وَسَائِر الشّجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى مِنْهَا دخل السَّيْل الْعَظِيم مَدِينَة فاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهَا بِحَيْثُ هدم الدّور والمساجد والأسواق وَأهْلك آلافا من الْخلق حَتَّى خيف على الْبَلَد التّلف وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة انْتهى تَارِيخ ابْن أبي زرع الْمُسَمّى بالأنيس الْمغرب القرطاس فِي أَخْبَار مُلُوك الْمغرب وتاريخ مَدِينَة فاس وَمِمَّا هُوَ الْغَايَة فِي بَاب الأغراب مَا ذكره ابْن خلدون قَالَ حضر أشياخنا بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْحسن وَقد رفع إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أَنفسهمَا عَن الْأكل جملَة مُنْذُ سِنِين وشاع أَمرهمَا وَوَقع اختبارهما فصح شَأْنهمَا واتصل على ذَلِك حَالهمَا إِلَى أَن ماتتا وذكرهما أَيْضا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمحاضرات قَالَ وَردت على تلمسان فِي الْعشْرَة الْخَامِسَة من الْمِائَة الثَّامِنَة امْرَأَة من رندة لَا تَأْكُل وَلَا تشرب وَلَا تبول وَلَا تتغوط وتحيض فَلَمَّا اشْتهر هَذَا من أمرهَا أنكرهُ الْفَقِيه أَبُو مُوسَى ابْن الإِمَام وتلى كَانَا يأكلان الطَّعَام فَأخذ النَّاس يبثون ثِقَات نِسَائِهِم ودهاتهن إِلَيْهَا فكشفوا عَنْهَا بِكُل وَجه يمكنهن فَلم يَقِفن على غير مَا ذكر وسئلت هَل تشتهين الطَّعَام فَقَالَت هَل تشتهون التِّبْن بَين يَدي الدَّوَابّ وسئلت هَل يَأْتِيهَا شَيْء فَأخْبرت أَنَّهَا صَامت ذَات يَوْم فأدركها الْجُوع والعطش فنامت فَأَتَاهَا آتٍ فِي النّوم بِطَعَام وشراب فَأكلت وشربت فَلَمَّا أفاقت وجدت نَفسهَا قد استغنت فَهِيَ على تِلْكَ الْحَال تُؤْتى فِي الْمَنَام بِالطَّعَامِ وَالشرَاب إِلَى الْآن وَلَقَد جعلهَا السُّلْطَان فِي مَوضِع بقصره وحفظها بالعدول وَمن يكْشف عَمَّا عَسى تَجِيء أمهَا بهَا إِذا أَتَت إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلم يُوقف لَهَا على أَمر قَالَ بيد أَنِّي أردْت أَن يُزَاد فِي عدد الْعُدُول وَيضم إِلَيْهِم الْأَطِبَّاء وَمن يَخُوض فِي المعقولات من عُلَمَاء الْملَل الْمُسلمين وَغَيرهم ويوكل من نسَاء الْفرق من يُبَالغ فِي كشف من يدْخل إِلَيْهَا وَلَا يتْرك أحدا يَخْلُو بهَا وَبِالْجُمْلَةِ يُبَالغ فِي ذَلِك ويستدام رعيها عَلَيْهِ سنة لاحْتِمَال أَن يغلب عَلَيْهَا طبع فتستغني فِي فصل دون فصل ثمَّ يكْتب هَذَا فِي الْعُقُود ويشاع أمره فِي الْعَالم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يهدم حكم الطبيعة الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 هُوَ أضرّ الْأَحْكَام على الشَّرِيعَة وَيبين كَيْفيَّة غذَاء أهل الْجنَّة وَأَن الْحيض لَيْسَ من فضلات الْغذَاء وَيبْطل التَّأْثِير والتولد وَيُوجب ان الاقترانات بالعادات لَا باللزوم وَعند الْأَسْبَاب لَا بهَا إِلَى غير ذَلِك إِلَّا إِنِّي لما أَشرت بِهَذَا انقسم من أَشرت عَلَيْهِ بتبليغه إِلَى من لم يفهم مَا قلت وَمن لم يرفع بِهِ رَأْسا لإيثار الدُّنْيَا على الدّين فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون قَالَ الْمقري وَقد ذكر أَن امْرَأَة أُخْرَى كَانَت مَعهَا على تِلْكَ الْحَالة وحَدثني غير وَاحِد من الثِّقَات مِمَّن أدْرك عَائِشَة الجزرية أَنَّهَا كَانَت كَذَلِك وَإِن عَائِشَة بنت أبي بكر يَعْنِي زَوْجَة السُّلْطَان أبي الْحسن الَّتِي استشهدت فِي طريف اختبرتها أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَيْضا وَكم من آيَة أضيعت وَحجَّة نسيت مِمَّا لم يعرف مثله قبل الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَذَلِكَ الوباء الْعَام الْقَرِيب فروطه يُوشك أَن يطول أمره فينسى ذكره ويكذب الْمُحدث بِهِ اذا انْقَضى عصره وَكم فِيهِ من أَدِلَّة على أصُول الْملَّة اه كَلَام الشَّيْخ أبي عبد الله الْمقري رَحمَه الله وَيَعْنِي بالوباء الْقَرِيب فروطه وباء منتصف الْمِائَة الثَّامِنَة أَيَّام كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن بتونس فَإِنَّهُ كَانَ وباء عَظِيما لم يعْهَد مثله قد عَم أقطار الأَرْض وتحيف الْعمرَان جملَة حَتَّى كَاد يَأْتِي على الخليقة أجمع والأمور كلهَا بيد الله لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي عنان فَارس بن أبي الْحسن رَحمَه الله كَانَ هَذَا السُّلْطَان محبوبا فِي قومه وعشيرته أثيرا عِنْد وَالِده متميزا بذلك عَن سَائِر اخوته لفضله وَعَمله وصيانته وعفافه واستظهار الْقُرْآن الْكَرِيم وَغير ذَلِك من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا شمس الضُّحَى وقبرها بشالة مَعْرُوف إِلَى الْآن رَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالنقش أَنَّهَا توفيت لَيْلَة السبت رَابِع رَجَب الْفَرد سنة خمسين وَسَبْعمائة ودفنت إِثْر صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور وَحضر لدفنها أَعْيَان الْمشرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وَالْمغْرب اه وَكَانَ مولد السُّلْطَان أبي عنان بفاس الْجَدِيد فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وبويع فِي حَيَاة وَالِده يَوْم ثار عَلَيْهِ بتلمسان حَسْبَمَا فدمنا الْخَبَر عَنهُ وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء منسلخ ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَلما هلك وَالِده أَبُو الْحسن بجبل هنتانة وانقضى شَأْن الْحصار ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى فاس وَنقل شلو أَبِيه إِلَى شالة فدفنه بهَا وأغذ السّير إِلَى فاس وَقد استتب أمره وخلا لَهُ الجو فاحتل بدار ملكه وَأجْمع أمره على غَزْو بني عبد الواد لارتجاع مَا بِأَيْدِيهِم من الْملك الَّذِي تطاولوا إِلَيْهِ وَلما دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة نَادَى بالعطاء وأزاح الْعِلَل وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد وَعرض جَيْشه ثمَّ نَهَضَ يُرِيد تلمسان واتصل خَبره بسلطانها أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الزياني فَجمع لَهُ قومه وَمن شايعهم من زناتة وَالْعرب ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَخُوهُ ووزيره أَبُو ثَابت فَكَانَ اللِّقَاء ببسيط أَن كَاد آخر ربيع الثَّانِي من السّنة المكذورة وَأجْمع بَنو عبد الواد على صدمة المرينيين وَقت القائلة وَعند ضرب الْأَبْنِيَة وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر فِي حاجاتهم فحملوا عَلَيْهِم وأعجلوهم عَن تَرْتِيب المصاف وَركب السُّلْطَان أَبُو عنان لتلافي الْأَمر وخاض بَحر الْقِتَال وَقد أظلم الجو بالغبار حَتَّى إِذا خلص إِلَيْهِم وخالطم فِي صفوفهم ولوا الأدبار وَاتبع بَنو مرين آثَارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوهم قتلا وسبيا وصفدوهم أسرى وَلم يزَالُوا فِي اتباعهم إِلَى اللَّيْل وتقبضوا على سلطانهم أبي سيعد فساقوه إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاعتقله وَتقدم على التعبية إِلَى تلمسان فَدَخلَهَا فِي ربيع الْمَذْكُور واستوت فِي ملكهَا قدمه وأحضر أَبَا سعيد فوبخه وَأرَاهُ أَعماله حسرات عَلَيْهِ ثمَّ أحضر الْفُقَهَاء وأرباب الْفتيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فافتوا بحرابته وَقَتله فَأمْضى حكم الله فِيهِ فذبح فيمحبسه لتاسعة من أعتقاله وفر أَخُوهُ الزعيم أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق بعد أَن احْتمل مَعَه حرمه وَحرم أَخِيه ومتخلفهم واحتل بوادي شلف من بِلَاد مغرواة فَعَسْكَرَ هُنَالك وَاجْتمعَ عَلَيْهِ أَو شَاب من زناتة وَحدث نَفسه باللقاء ووعدها بِالصبرِ والثبات واتصل خَبره بالسلطان أبي عنان فسرح إِلَيْهِ وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي عَسَاكِر بني مرين والجند فأغذ السّير إِلَيْهِم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان من تلمسان على أَثَره وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ تَصَادقا الحملة وخاض النَّهر بَعضهم إِلَى بعض ثمَّ صدق بَنو مرين الحملة فاجتازوا النَّهر وانكشفت بَنو عبد الواد وَاتبع بنومرين آثَارهم فاستلحموهم ثَانِيَة واستباحوا معسركهم وَاسْتَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ ودوابهم وَكتب الْوَزير بالتفح إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق فِي نفر من عشيرته وَبني أَبِيه فاعترضتهم قبائل زواوة فانتهبوا أسلابهم وأرجلوهم عَن خيولهم ومروا على وجوهم حُفَاة عُرَاة لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَكتب الْوَزير إِلَى أُمَرَاء الثغور فِي شَأْن أبي ثَابت وَأَصْحَابه فأذكوا الْعُيُون عَلَيْهِم وقعدوا لَهُم بالمراصد حَتَّى عثر عَلَيْهِم بعض الحشم فقبضوا على أبي ثَابت وَابْن أَخِيه أبي زيان بن أبي سعيد الْمَقْتُول ووزيرهم يحيى بن دَاوُد فرفعوهم إِلَى أَمِير بجاية أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر الحفصي وَكَانَ خَالِصَة للسُّلْطَان أبي عنان مُنْذُ أَيَّام وَالِده فاعتقلهم عِنْده حَتَّى وَفد بهم عَلَيْهِ بالمدية فَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان وفادته وَركب للقائه لما تراءيا نزل الحفصي عَن فرسه إعظاما للسُّلْطَان فَنزل السُّلْطَان مُكَافَأَة لَهُ ولقاه مبرة وكرامة وأودع أَبَا ثَابت السجْن وتوافت إِلَيْهِ وُفُود الذواودة بمكانه من لمدية فَأكْرم وفادتهم وأسنى عطاياهم من الْخلْع والحملان وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وانقلبوا خير مُنْقَلب ووافته بمكانه ذَلِك بيعَة ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب مَعَ وفدهم فأكرمهم ووصلهم وَفرغ السُّلْطَان أَبُو عنان من شَأْن الْمغرب الْأَوْسَط وَبث عماله فِي نواحيه وثقف أَطْرَافه وسمى إِلَى تملك إفريقية على مَا نذكرهُ إنْشَاء الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 تملك السُّلْطَان أبي عنان بجاية وتولية عمر بن عَليّ الوطاسي عَلَيْهَا لما وَفد أَبُو عبد الله الحفصي على السُّلْطَان أبي عنان بلمدية فِي شعْبَان من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وَبَالغ فِي إكرامه ناجاه بِذَات صَدره وشكا إِلَيْهِ مَا يلقاه من رَعيته من الِامْتِنَاع من الجباية وَالسَّعْي فِي الْفساد وَمَا يتبع ذَلِك من شقَاق الحامية واستبداد البطانة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان متشوفا لمثلهَا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بالنزول عَنْهَا وَأَن يعوضه عَنْهَا مَا شَاءَ من بِلَاده فسارع إِلَى قبُول ذَلِك ودس إِلَيْهِ السُّلْطَان مَعَ حَاجِبه مُحَمَّد بن أبي عَمْرو أَن يشْهد بذلك على رُؤُوس الْمَلأ فَفعل وعوضه عَنْهَا مكناسة الزَّيْتُون ونقم بطانة الحفصي عَلَيْهِ وَنزع بَعضهم عَنهُ إِلَى إفريقية وَأمره السُّلْطَان أَبُو عنان أَن يكْتب بِخَطِّهِ إِلَى عَامله على بجاية بالنزول عَنْهَا وتمكين عُمَّال السُّلْطَان مِنْهَا فَفعل وَعقد أَبُو عنان عَلَيْهَا لعمر بن عَليّ الوطاسي من بني الْوَزير الَّذين قدمنَا خبر ثورتهم بحصن تازوطا أَيَّام يُوسُف بن يَعْقُوب وَلما قضى السُّلْطَان أَبُو عنان حَاجته من الْمغرب الْأَوْسَط وَاسْتولى على بجاية ثغر إفريقية انكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان لشهود عيد الْفطر بهَا ودخلها فِي يَوْم مشهود حمل أَبَا ثَابت الزياني ووزيره يحيى بن دَاوُد على جملين وَدخل بهما تلمسان يخطوان بهما فِي ذَلِك المحفل بَين السماطين فَكَانَا عِبْرَة لمن حضر ثمَّ جنبا من الْغَد إِلَى مصارعهما فقتلا قعصا بِالرِّمَاحِ وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور ثورة أهل بجاية ومقتل عمر بن الوطاسي بهَا لما قدم عمر بن عَليّ الوطاسي بجاية وَاسْتقر بهَا ثقل أمره على نفوس أَهلهَا لألفهم ملكة الحفصيين وانصباغهم بالميل إِلَيْهِم فتربصوا بالوطاسي الدَّوَائِر وَكَانَ أَبُو عبد الله الحفصي قد استصحب مَعَه فِي وفادته على السُّلْطَان أبي عنان حَاجِبه فارحا مولى ابْن سيد النَّاس فَلَمَّا نزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 للسُّلْطَان عَن بجاية نقم فارح عَلَيْهِ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه إِلَى أَن بَعثه الحفصي الْمَذْكُور مَعَ الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون دَاره إِلَى الْمغرب فَانْتهى إِلَى بجاية وبينما هُوَ يحاول مَا أرسل فِي شَأْنه شكا إِلَيْهِ الصنهاجيون سوء ملكة بني مرين فنجع كَلَامهم فِيهِ وَنَفث لَهُم بِمَا عِنْده من الضغن ودعاهم إِلَى الثورة بالمرينيين وَالْقِيَام بدعوة الحفصيين فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وتواعدوا للفتك بعلي بن عمر الوطاسي بمجلسه من القصبة وَتَوَلَّى كبرها مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج من مشيختهم وباكره فِي دَاره على عَادَة الْأُمَرَاء وَلما أكب عَلَيْهِ ليلثم أَطْرَافه طعنه بخنجره ثمَّ ولج عَلَيْهِ الْبَاقُونَ فاستلحموه وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وثارت الغوغاء بِالْبَلَدِ وهتف الْهَاتِف بدعوة أبي زيد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي صَاحب قسنطينة وطيروا إِلَيْهِ بالْخبر واستدعوه فتثاقل عَنْهُم وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاتهم أَبَا عبد الله الحفصي بمداخلة حَاجِبه فارح فِي ذَلِك فاعتقله بداره واعتقل وَفْدًا من أَشْرَاف بجاية كَانُوا بِبَابِهِ ثمَّ رَاجع شُيُوخ بجاية بصائرهم وتداركوا أَمرهم فِي الرُّجُوع إِلَى طَاعَة السُّلْطَان أبي عنان وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن يرقعوا هَذَا الْخرق ويسدوا هَذِه الثلمة براس الْحَاجِب فارح وصنهاجة الثائرين مَعَه وداخلهم فِي ذَلِك الْقَائِد هِلَال مولى ابْن سيد النَّاس وَلما عزموا على أَمرهم دعوا الْحَاجِب فارحا إِلَى الْمَسْجِد ليفاوضوه فِيمَا نزل بهم فأحس بِالشَّرِّ ولجأ إِلَى دَار الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِدْرِيس البجائي إِمَام بجاية ومفتيها فاقتحموا عَلَيْهِ الدَّار وباشره مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن سيد النَّاس بطعنة فأنفذه وَرمى بشلوه من أَعلَى الدَّار فاحتزوا رَأسه وبعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج وَقَومه صنهاجة عَن الْبَلَد وسرح السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهَا حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي عَمْرو فِي الْكَتَائِب فَدَخلَهَا فاتح سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَذَهَبت صنهاجة فِي كل وَجه وَلحق أَصْحَاب الفعلة مِنْهُم بتونس وتقبض الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو على جمَاعَة من غوغاء بجاية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 المتهمين بالخوض فِي الْفِتْنَة يناهزون الْمِائَتَيْنِ فاعتقلهم وأركبهم الأسطول إِلَى الْمغرب فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وتوافت لَدَيْهِ وُفُود الذواودة من كل جِهَة فأجزل صلَاتهم ووفد عَلَيْهِ عَامل الزاب يُوسُف بن مزني فَأكْرم وفادته ثمَّ ارتحل إِلَى تلمسان غرَّة جمدى الأولى من السّنة وَمَعَهُ شُيُوخ الذواودة ووجوه بجاية قَالَ ابْن خلدون وَكنت يَوْمئِذٍ فِي جُمْلَتهمْ فَجَلَسَ السُّلْطَان للوفد وَعرض مَا جنب إِلَيْهِ من الْجِيَاد والهدايا وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَانْصَرفُوا إِلَى مواطنهم فاتح شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ وانقلبت مَعَ الْحَاجِب بعد إسناء الْجَائِزَة وَالْخلْع والحملان من السُّلْطَان والوعد الْجَمِيل بتجديد مَا إِلَى قومِي ببلدي من الإقطاعات وَلما احتل الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو ببجاية ضبط أمرهَا وَأقَام أودها وألح على قسنطينة بترديد الْبعُوث وتجهيز الْكَتَائِب إِلَى أَن أذعنوا للطاعة ومكنوه من تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن الْمَنْصُوب هُنَاكَ للفتنة وأوفد أَبُو زيد الحفصي صَاحب قسنطينة ابْنه على السُّلْطَان أبي عنان فَقبل وفادته وشكر سَعْيه وانكفأ الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو إِلَى بجاية وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة فَذهب حميد السِّيرَة عِنْد أهل الْبَلَد وَعقد السُّلْطَان أَبُو عنان على بجاية لعبد الله بن عَليّ بن سعيد أحد وزرائه فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فاستقر بهَا وسلك سنَن الْحَاجِب قبله وَسيرَته وجهز العساكر إِلَى حِصَار قسنطينة إِلَى أَن كَانَ من فتحهَا مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله خُرُوج أبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن بِبِلَاد السوس ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما ركب الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب عقد على تونس لِابْنِهِ أبي الْفضل هَذَا وَأَنه لما أقلع عَنْهَا ثار أهل الْبَلَد وشيعة الحفصيين عَلَيْهِ فأخرجوه عَنْهَا وَلحق بِأَبِيهِ فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن هلك وخلص الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فلحق بِهِ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو سَالم ففكر أَبُو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 عنان فِي أَمرهمَا وخشي عَاقِبَة ترشيحهما فأشخصهما إِلَى الأندلس ليكونا مَعَ الْغُزَاة والقرابة فِي إيالة السُّلْطَان أبي الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر ثمَّ نَدم على ذَلِك وَلما استولى على تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَرَأى أَن قد استفحل أمره واعتز سُلْطَانه أنفذ الرُّسُل إِلَى أبي الْحجَّاج فِي أَن يشخصهما إِلَيْهِ لِأَن مقامهما عِنْده أحوط لجمع الْكَلِمَة بِخِلَاف مَا إِذا غابا عَن حَضرته وخشي أَبُو الْحجَّاج غائلته عَلَيْهِمَا فَأبى من إسلامهما الْيَد وَأجَاب الرُّسُل بِأَنَّهُ لَا يخفر ذمَّته وَلَا يسيء جوَار الْمُسلمين الْمُجَاهدين لَدَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان أَبُو عنان لذَلِك وَقَامَ وَقعد وَأمر حَاجِبه ابْن أبي عَمْرو أَن يكْتب إِلَه ويبالغ فِي التوبيخ واللوم فَفعل الْحَاجِب الْمَذْكُور قَالَ ابْن خلدون وَقد أوقفني الْحَاجِب على ذَلِك الْكتاب ببجاية فَقضيت عجبا من فصوله وأغراضه وَلما قَرَأَهُ أَبُو الْحجَّاج ابْن الْأَحْمَر دس إِلَى أبي الْفضل وَكَانَ أكبر الْأَخَوَيْنِ باللحاق بالطاغية وَكَانَت بَينهمَا ولَايَة ومخالصة فَنزع إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وجهز الطاغية لَهُ أسطولا أركبه فِيهِ وأنزله بساحل السوس من أَرض الْمغرب وَنذر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك فأوعز إِلَى قَائِد أسطوله باعتراض أسطول الطاغية فاعترضه وأوقع بِهِ وَكتب ابْن الْأَحْمَر أثْنَاء ذَلِك كتابا إِلَى السُّلْطَان أبي عنان يعْتَذر عَن أَمر أبي الْفضل من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب وَنَصه الْمقَام الَّذِي شهد اللَّيْل وَالنَّهَار بأصالة سعادته وَجرى الْفلك الدوار بِحكم إِرَادَته وتعود الظفر بِمن يناويه فاطرد وَالْحَمْد لله جَرَيَان عَادَته فَوَلِيه مُتَحَقق لإفادته وعدوه مرتقب لإبادته وحلل الصَّنَائِع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته مقَام مَحل أخينا الَّذِي سهم سعده صائب وأمل من كاده خاسر خائب وسير الْفلك الْمدَار فِي مرضاته دائب وصنائع الله تَعَالَى لَهُ تصحبها الألطاف الْعَجَائِب فسيان شَاهد مِنْهُ فِي عصمَة وغائب السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى مُسَددًا لسهم ماضي الْعَزْم تجل سعوده عَن تصور الْوَهم وَلَا زَالَ مرهوب الْحَد ممتثل الرَّسْم موفور الْحَظ من نعْمَة الله تَعَالَى عِنْد تعدد الْقسم فائزا بفلج الْخِصَام عِنْد لد الْخصم مُعظم قدره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وملتزم بره مبتهج بِمَا يسببه الله تَعَالَى لَهُ من إعزاز نَصره وَإِظْهَار أمره فلَان سَلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى ومثابتكم الفضلى الَّتِي حازت فِي الْفَخر الأمد الْبعيد وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي فسح لملككم الرفيع فِي الْعِزّ مدى وعرفه عوارف آلائه وعوائد النَّصْر على أعدائه يَوْمًا وَغدا وحرس سَمَاء علائه بشهب من قدره وقضائه فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا وَجعل نجح آماله وَحسن مآله قِيَاسا مطردا فَرب مُرِيد ضره ضرّ نَفسه وهاد إِلَيْهِ الْجَيْش أهْدى وَمَا هدي وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد نبيه وَرَسُوله الَّذِي مَلأ الْكَوْن نورا وَهدى وَأَحْيَا مراسم الْحق وَقد صَارَت طرائق قددا أَعلَى الْأَنَام يدا وأشرفهم محتدا الَّذِي بجاهه نلبس أَثوَاب السَّعَادَة جددا ونظفر بالنعيم الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين رفعوا لسماء سنته عمدا وأوضحوا لسبيل اتِّبَاعه مقصدا وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وَسجدا سيوفا على من اعْتدى ونجوما لمن اهْتَدَى حَتَّى علت فروع مِلَّته صعدا وَأصْبح بناؤها مديدا مخلدا وَالدُّعَاء لمقامكم الأسمى بالنصر الَّذِي يتوالى مثنى وموحدا كَمَا جمع لملككم مَا تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب فَجعل سيفكم سِفَاحًا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم صنعا يشْرَح لِلْإِسْلَامِ خلدا ونصرا يُقيم للدّين الحنيفي أوادا وعزما يمْلَأ أَفْئِدَة الْكفْر كمدا وجعلكم مِمَّن هيأ لَهُ من أمره رشدا وَيسر لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز وَالله أصدق موعدا من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله وَلَا زَائِد بِفضل الله سُبْحَانَهُ إِلَّا استطلاع سعودكم فِي آفَاق الْعِنَايَة واعتقاد جميل صنع الله فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَالْعلم بِأَن ملككم تحدى من الظُّهُور على أعدائه بِآيَة وأجرى جِيَاد السعد فِي ميدان لَا يحد بغاية وخرق حجاب الْمُعْتَاد بِمَا لم يظْهر إِلَّا لأَصْحَاب الْكَرَامَة وَالْولَايَة وَنحن على مَا علمْتُم من السرُور بِمَا يهز لملككم الْمَنْصُور عطفا ويسدل عَلَيْهِ من الْعِصْمَة سجفا فقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تَعَالَى نصفا وَنصفا ونعقد بَين أنباء مسرته وَبَين الشُّكْر لله حلفا ونعد التَّشَيُّع لَهُ مِمَّا يقربنا إِلَى الله زلفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 ونؤمل من إمداده ونرتقب من جهاده وقتا يكفل بِهِ الدّين ويكفى وتروى غلل النُّفُوس وتشفى وَإِلَى هَذَا وصل الله سعدكم ووالى نصركم وعضدكم فَإنَّا من لدن صدر عَن أخيكم أبي الْفضل مَا صدر من الانقياد لخدع الآمال والاغترار بموارد الْآل وَقَالَ رَأْيه فِي اقتحام الْأَهْوَال وتورط فِي هفوة حَار فِيهَا حيرة أهل الْكَلَام فِي الْأَحْوَال وناصب من أَمركُم السعيد جبلا قضى الله لَهُ بالاستقرار والاستقلال وَمن ذَا يزاحم الأطواد ويزحزح الْجبَال وأخلف الظَّن منا فِي وفائه وأضمر عملا اسْتَأْثر عَنَّا بإخفائه واستعان من عَدو الدّين بِمعين فَلَا ورى لمن استنصر بِهِ زند وَلَا خَفق لمن تولاه بالنصر بند وَإِن الطاغية أَعَانَهُ وأنجده وَرَأى أَنه سهم على الْمُسلمين سدده وعضب للفتنة جرده فَسخرَ لَهُ الْفلك وأمل أَن يستخدمه بِسَبَب ذَلِك الْملك فَأوردهُ الهلك وَالظُّلم الحلك علمنَا أَن طرف سعادته كاب وسحائب آماله غير ذَات انسكاب وَقدم عزته لم يسْتَقرّ من السداد فِي غرز ركاب فَإِن نجاح أَعمال النُّفُوس مُرْتَبِط بنياتها وغايات الْأُمُور تظهر فِي بداياتها وعوائد الله تَعَالَى فِيمَن نَازع قدرته لَا تجْهَل وَمن غَالب أَمر الله خَابَ مِنْهُ الْمعول فَبَيْنَمَا نَحن ترنقب خسار تِلْكَ الصَّفْقَة المعقودة وخمود تِلْكَ الشعلة الموقودة وصلنا كتابكُمْ يشْرَح الصُّدُور ويشرح الْأَخْبَار وَيهْدِي طرف المسرات على أكف الاستبشار ويعرب بِلِسَان حَال المسارعة والابتدار عَن الود الْوَاضِح وضوح النَّهَار والتحقق بخلوصنا الَّذِي يُعلمهُ عَالم الْأَسْرَار فَأَعَادَ فِي الإفادة وأبدأ وأسدى من الْفَضَائِل الجلائل مَا أسدى فَعلم مِنْهُ مآل من رام يقْدَح زند الشتات من بعد الالتئام ويثير عجاجة الْمُنَازعَة من بعد ركُوب القتام هَيْهَات تِلْكَ قلادة الله تَعَالَى الَّتِي مَا كَانَ ليتركها بِغَيْر نظام وَلم يدر أَنكُمْ نصبتم لَهُ من الحزم حبالة لَا يفلتها قنيص سددتم لَهُ من السعد سَهْما مَا لَهُ عَنهُ من محيص بِمَا كَانَ من إرْسَال جوارح الأسطول السعيد فِي مطاره حَائِلا بَينه وَبَين أوطاره فَمَا كَانَ إِلَّا التَّسْمِيَة والإرسال ثمَّ الْإِمْسَاك والقتال ثمَّ الاقتيات والاستعمال فيا لَهُ من زجر استنطق لِسَان الْوُجُود مجدله واستنصر الْبَحْر فخذله وصارع الْقدر فجدله لما جد لَهُ وَإِن خدامكم استولوا على مَا كَانَ فِيهِ من مُؤَمل غَايَة بعيدَة ومنتسب إِلَى نِسْبَة غير سعيدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وشانئ غمرته من الْكفَّار خدام المَاء وأولياء النَّار تحكمت فيهم أَطْرَاف العوالي وصدور الشفار وَتحصل مِنْهُم من تخطاه الْحمام فِي قَبْضَة الأسار فعجبنا من تيسير هَذَا المرام وإخماد الله لهَذَا الضرام وَقُلْنَا تكييف لَا يحصل فِي الأوهام وتسديد لَا تَسْتَطِيع إِصَابَته السِّهَام كلما قدح الْخلاف زندا أطفأ سعدكم شعلته أَو أظهر الشتات ألما أَبْرَأ يمن طائركم علته مَا ذَاك إِلَّا لنِيَّة صدقت معاملتها فِي جنب الله تَعَالَى وَصحت واسترسلت بركتها وسحت وَجِهَاد نذرتموه إِذا فرغت شواغلكم وتمت واهتمام بِالْإِسْلَامِ يَكْفِيهِ الخطوب الَّتِي أهمت فَنحْن نهنيكم بمنح الله ومننه ونسأله أَن يلْبِسكُمْ من إعانته أوقى جننه فأملنا أَن تطرد آمالكم وتنجح فِي مرضات الله أَعمالكُم فمقامكم هُوَ الْعُمْدَة الَّتِي يدافع الْعَدو بسلاحها وتنبلج ظلماته بصفاحها وَكَيف لانهنئكم بصنع على جهتنا يعود وبشابقنا تطلع مِنْهُ السُّعُود فتيقنوا مَا عندنَا من الِاعْتِقَاد الَّذِي رسومه قد اسْتَقَلت وكتفت وديمه بِسَاحَة الود قد وكفت وَالله عز وَجل يَجْعَل لكم الْفتُوح عَادَة وَلَا يعدمكم عناية وسعادة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلي مقامكم وينصر أعلامكم ويهني الْإِسْلَام أيامكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه وَلما نزل أَبُو الْفضل بساحل السوس لحق بِعَبْد الله السكسيوي صَاحب الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ودعا لنَفسِهِ وَكَانَ ذَلِك إِثْر مقدم الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو من فتح بجاية سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة فَجهز السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهِ عسكره من تلمسان وَعقد على حَرْب السكسيوي وابي الْفضل لوزيره فَارس بن مَيْمُون بن وردار فَسَار حَتَّى نزل على جبل السكسيوي وأحاط بِهِ وَأخذ بمخنقه واختط مَدِينَة لمعسكره وتجمير كتائبه بسفح ذَلِك الْجَبَل سَمَّاهَا الْقَاهِرَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على السكسيوي بعث إِلَى الْوَزير يسْأَله الرُّجُوع إِلَى طَاعَته الْمَعْرُوفَة وَأَن ينْبذ الْعَهْد إِلَى أبي الْفضل ففارقه وانتقل إِلَى جبال المصامدة وَدخل الْوَزير فَارس أَرض السوس فدوخ أقطارها ومهد أكنافها وسارت الألوية والجيوش فِي جهاتها ورتب المسالح فِي ثغورها وأمصارها وَسَار أَبُو الْفضل ينْتَقل فِي جبال المصامدة إِلَى أَن انْتهى إِلَى صناكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وَألقى بِنَفسِهِ على ابْن الْحميدِي مِنْهُم مِمَّا يَلِي بِلَاد درعة فأجاره وَقَامَ بأَمْره ونازله عَامل درعة يَوْمئِذٍ عبد الله بن مُسلم الزردالي من مشيخة بني عبد الواد كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله قد اصطنعه أَيَّام فَتحه لتلمسان فاستقر فِي دولتهم واندرج فِي صنائعهم فَأخذ بمخنق ابْن الْحميدِي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إِلَيْهِ وداخله فِي التقبض على أبي الْفضل وَأَن يبْذل لَهُ من المَال فِي ذَلِك مَا أحب فَأجَاب ولاطف عبد الله بن مُسلم الْأَمِير أَبَا الْفضل ووعده من نَفسه الدُّخُول فِي الْأَمر وَطلب لقاءه فَركب إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وَلما استمكن مِنْهُ ابْن مُسلم تقبض عَلَيْهِ وَدفع لِابْنِ الْحميدِي مَا اشْترط لَهُ من المَال وأشخصه معتقلا إِلَى أَخِيه السُّلْطَان أبي عنان سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة فأودعه السجْن وَكتب بِالْفَتْح إِلَى القاصية ثمَّ قَتله لليال يسيرَة من اعتقاله خنقا بمحبسه وانقضى أَمر الْخَوَارِج وتمهدت الدولة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وفادة الْوَزير ابْن الْخَطِيب من قبل سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه على السُّلْطَان أبي عنان رَحِمهم الله كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر قد أوفد وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي عنان إِثْر مهلك السُّلْطَان أبي الْحسن معزيا لَهُ بمصابه فَقدم ابْن الْخَطِيب وَأدّى الرسَالَة وجلى فِي اغراض تِلْكَ السفارة وَعَاد إِلَى غرناطة ثمَّ هلك السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة بمصلى عيد الْفطر وَهُوَ ساجد طعنه بعض الزعانف فأصماه لوقته وَبَايع النَّاس ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف الْغَنِيّ بِاللَّه وَقَامَ بِأَمْر دولته مَوْلَاهُ رضوَان الراسخ الْقدَم فِي قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من مُلُوكهمْ واستبد بِالْأَمر وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بوزارته كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ من قبل وَاتخذ لكتابته غَيره وَجعل ابْن الْخَطِيب رديفا لرضوان فِي أمره وتشاركا فِي الاستبداد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 مَعًا فجرت الدولة على أحسن حَال ثمَّ إِن السُّلْطَان الْغَنِيّ بِاللَّه بعث وزيره ابْن الْخَطِيب سفيرا عَنهُ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان مستمدا لَهُ على عدوه الطاغية على عَادَة سلفه فِي ذَلِك قَالَ ابْن الْخَطِيب لما أشرفت على مَدِينَة فاس فِي غَرَض هَذِه الرسَالَة خاطبني الْخَطِيب الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَرْزُوق التلمساني بمنزل الشاطبي على مرحلة مِنْهَا بِمَا نَصه ( (يَا قادما وافي بِكُل نجاح ... أبشر بِمَا تَلقاهُ من أفراح) (هذي ذرى ملك الْمُلُوك فلذ بهَا ... تنَلْ المنى وتفز بِكُل سماح) (مغنى الإِمَام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر بالندا طفاح) (من قَاس جود أبي عنان فِي الندا ... بسواه قَاس الْبَحْر بالضحضاح) (ملك يفِيض على العفاة نواله ... قبل السُّؤَال وَقبل بسطة رَاح) (فلجود كَعْب وَابْن سعد فِي الندا ... ذكر محاه عَن نداه ماح) (مَا أَن سَمِعت وَلَا رَأَيْت بِمثلِهِ ... من أريحي للندا مرتاح) (بسط الْأمان على الْأَنَام فَأَصْبحُوا ... قد ألحفوا مِنْهُ بِظِل جنَاح) (وهم على العافين سيب نواله ... حَتَّى حكى سح الْغَمَام الساح) (فنواله وجلاله وفعاله ... فاقت وأعيت السن المداح) (وَبِه الدنا أضحت تروق وأصبحت ... كل المنى تنقاد بعد جماح) (من كَانَ ذَا ترح فرؤية وَجهه ... متلافة الأحزان والأتراح) (فانهض أَبَا عبد الْإِلَه تفز بِمَا ... تبغيه من أمل ونيل نجاح) (لَا زلت ترتشف الْأَمَانِي رَاحَة ... من رَاحَة الْمولى بِكُل صباح) فَالْحَمْد لله يَا سَيِّدي وَأخي على نعمه الَّتِي لَا تحصى حمد يؤم بِهِ جميعنا الْمَقْصد الْأَسْنَى فَيبلغ الأمد الْأَقْصَى فطالما كَانَ مُعظم سَيِّدي للأسى فِي خبال وللأسف بَين اشْتِغَال بَال واشتعال بلبال ولقدومكم على هَذَا الْمحل المولوي فِي ارتقاب ولمواعيدكم بذلك فِي تحقق وُقُوعه من غير شكّ وَلَا ارتياب فها أَنْت تجتني من هَذَا الْمقَام الْعلي بتشيعك وُجُوه المسرة صباحا وتتلقى أَحَادِيث مكارمه ومواهبه مُسندَة صحاحا بحول الله تَعَالَى ولسيدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الْفضل فِي قبُول مركوبة الْوَاصِل إِلَيْهِ بسرجه ولجامه فَهُوَ من بعض مَا لَدَى الْمُعظم من إِحْسَان مَوْلَاهُ وإنعامه ولعمري لقد كَانَ وافدا على سَيِّدي فِي مستقره مَعَ غير فَالْحَمْد لله الَّذِي يسر فِي إيصاله على أفضل أَحْوَاله قَالَ ابْن الْخَطِيب فراجعته بِمَا نَصه (راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخْفض للجنوح جنَاح) (وسرت تدل على الْقبُول كَأَنَّمَا ... دلّ النسيم على انبلاج صباح) (حسناء قد غنيت بِحسن صفاتها ... عَن دملج وقلادة ووشاح) (أمست تَحض على اللياد بِمن جرت ... بسعوده الأقلام فِي الألواح) (بخليفة الله الْمُؤَيد فَارس ... شمس الْمَعَالِي الْأَزْهَر الوضاح) (مَا شِئْت من شيم وَمن همم غَدَتْ ... كالزهر أَو كالزهر فِي الأوداح) (فضل الْمُلُوك فَلَيْسَ يدْرك شأوه ... أَنى يُقَاس الْغمر بالضحضاح) (أَسْنَى بني عباسهم بلوائه ... الْمَنْصُور أَو بحسامه السفاح) (وغدت مغاني الْملك لما حلهَا ... تزري ببدر هدى وبحر سماح) (وحياة من أهداك تحفة قادم ... فِي الْعرف مِنْهَا رَاحَة الْأَرْوَاح) (مَا زلت أجعَل ذكره وثناءه ... روح وريحاني الأريح وَرَاح) (وَلَقَد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الْأَجْسَام بالأرواح) (وَلَو أنني أَبْصرت يَوْمًا فِي يَدي ... أَمْرِي لطرت إِلَيْهِ دون جنَاح) (فَالْآن ساعدني الزَّمَان وأيقنت ... من قربه نَفسِي بفوز قداح) (إيه أَبَا عبد الْإِلَه وَإنَّهُ ... لنداء ود فِي علاك صراح) (أما إِذا استنجدتني من بعد مَا ... ركدت لما جنت الخطوب ريَاح) (فإليكها مَهْزُولَة وَأَنا امْرُؤ ... قررت عجزي وأطرحت سلَاح) سَيِّدي أبقاك الله لعهد تحفظه وَوَلَاء بِعَين الْوَفَاء تلحظه وصلتني رقعتك الَّتِي ابتدعت وبالحق من مولى الْخَلِيفَة صدعت والفتنى وَقد سطت بِي الأوحال حَتَّى كَادَت تتْلف الرّحال وَالْحَاجة إِلَى الْغَدَاء قد شمرت عَن كشح البطين وثانية العجماوين قد توقع فَوَات وَقتهَا وَإِن كَانَت صلَاتهَا صَلَاة الطين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 والفكر قد غاض مُعينَة وَضعف وعَلى الله جَزَاء الْمولى الَّذِي يُعينهُ فغزتني بكتيبتي بَيَان أسدها هسور وَعلمهَا مَنْصُور وألفاظها لَيْسَ فِيهَا قُصُور ومعانيها عَلَيْهَا الْحسن مَقْصُور واعتراف مثلي بِالْعَجزِ فِي المضايق حول وَمِنْه وَقَول لَا أَدْرِي للْعَالم فَكيف بِغَيْرِهِ جنَّة لَكِنَّهَا بشرتني بِمَا يقل لمؤديه بذل النُّفُوس وَإِن جلت وأطلعتني من السَّرَّاء على وَجه تحسده الشَّمْس إِذا تجلت بِمَا أعلمتني بِهِ من جميل اعْتِقَاد مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله فِي عَبده وَصدق المخيلة فِي كرم مجده وَهَذَا هُوَ الْجُود الْمَحْض وَالْفضل الَّذِي شكره هُوَ الْفَرْض وَتلك الْخلَافَة المولوية تتصف بِصِفَات من يبْدَأ بالنوال من قبل الضراعة وَالسُّؤَال من غير اعْتِبَار للأسباب وَلَا مجازات للأعمال نسْأَل الله تَعَالَى أَن يبقي مِنْهَا على الْإِسْلَام أَو فِي الظلال ويبلغها من فَضله أقْصَى الآمال وَوصل مَا بَعثه سَيِّدي صحبتهَا من الْهَدِيَّة والتحفة الودية وقبلتها امتثالا واستجليت مِنْهَا عتقا وجمالا وسيدي فِي الْوَقْت أنسب باتخاذ ذَلِك الْجِنْس وأقدر على الاستكثار من إناث البهم وَالْإِنْس وَأَنا ضَعِيف الْقُدْرَة غير مستطيع لذَلِك إِلَّا فِي الندرة فَلَو رأى سَيِّدي ورايه سداد وقصده فضل ووداد أَن ينْقل الْقَضِيَّة إِلَى بَاب الْعَارِية من بَاب الْهِبَة مَعَ وجود الْحُقُوق المترتبة لبسط خاطري وَجمعه وَعمل فِي رفع الْمُؤْنَة على شاكلة حَالي مَعَه وَقد استصحبت مركوبا يشق عَليّ هجره ويناسب مقَامي شكله ونجره وسيدي فِي الْإِسْعَاف على الله أجره وَهَذَا أَمر عرض وَفرض فرض وعَلى نظره الْمعول واعتماد إغضائه هُوَ الْمَعْقُول الأول وَالسَّلَام على سَيِّدي من مُعظم قدره وملتزم بره ابْن الْخَطِيب فِي لَيْلَة الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين لذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَالسَّمَاء قد جَادَتْ بمطر سهرت مِنْهُ الأجفان وَظن أَنه طوفان واللحاق فِي غدها بِالْبَابِ المولوي مُؤَمل بحول الله اه وَلما قدم الْوَزير الْمَذْكُور على السُّلْطَان الْمَذْكُور تقدم الْوَفْد الَّذين مَعَه من وزراء الأندلس وفقهائها وممثل بَين يَدَيْهِ واستأذنه فِي إنشاد شَيْء من الشّعْر يقدمهُ بَين يَدي نَجوَاهُ فَأذن لَهُ وَأنْشد وَهُوَ قَائِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 (خَليفَة الله ساعد الْقدر ... علاك مَا لَاحَ فِي الدجى قمر) (ودافعت عَنْك كف قدرته ... مَا لَيْسَ يَسْتَطِيع دَفعه الْبشر) (وَجهك فِي النائبات بدر دجى ... لنا وَفِي الْمحل كفك الْمَطَر) (وَالنَّاس طرا بِأَرْض أندلس ... لولاك مَا أوطنوا وَلَا عمروا) (وَمن بِهِ مذ وصلت حبلهم ... مَا جَحَدُوا نعْمَة وَلَا كفرُوا) (وَجُمْلَة الْأَمر أَنه وَطن ... فِي غير علياك مَا لَهُ وطر) (وَقد أهمتهم نُفُوسهم ... فوجهوني إِلَيْك وَانْتَظرُوا) فاهتز السُّلْطَان أَبُو عنان لهَذِهِ الأبيات وَأذن لَهُ فِي الْجُلُوس وَقَالَ لَهُ قبل أَن يجلس مَا ترجع إِلَيْهِم إِلَّا بِجَمِيعِ طلباتهم ثمَّ أدّى الرسَالَة وَدفع الْكتاب وَلما عزموا على الِانْصِرَاف أثقل كاهلهم بِالْإِحْسَانِ وردهم بِجَمِيعِ مَا طلبوه قَالَ ابْن خلدون قَالَ شَيخنَا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الشريف وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَفْد لم نسْمع بسفير قضى سفارته قبل أَن يسلم على السُّلْطَان إِلَّا هَذَا وَنَصّ الْكتاب الَّذِي قدم بِهِ ابْن الْخَطِيب الْمقَام الَّذِي يُغني عَن كل مَفْقُود بِوُجُودِهِ ويهز إِلَى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ونستضيء عِنْد إظلام الخطوب بِنور سعوده ونرث من الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ أَسْنَى ذخر يَرِثهُ الْوَلَد عَن آبَائِهِ وجدوده مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي رعى الأذمة شَأْنه وصلَة الرَّاعِي سجية انْفَرد بهَا سُلْطَان ومواعد النَّصْر ينجزها زَمَانه وَالْقَوْل وَالْفِعْل فِي ذَات الله تَعَالَى تكفلت بهما يَده الْكَرِيمَة وَلسَانه وتطابق فيهمَا إسراره وإعلانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى محروسا من غير الْأَيَّام جنابه مَوْصُولَة بالوقاية الإلهية أَسبَابه مسدولا على ذَاته الْكَرِيمَة ستر الله تَعَالَى وحجابه مصروفا عَنهُ من صروف الْقدر مَا يعجز عَن رده بوابه وَلَا زَالَ ملْجأ تنْفق لَدَيْهِ الْوَسَائِل الَّتِي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ويسطر فِي صحف الْفَخر ثَوَابه وتشتمل على مَكَارِم الدّين وَالدُّنْيَا أثوابه وتتكفل بنصر الْإِسْلَام وجبر الْقُلُوب عِنْد طوارق الْأَيَّام كتائبه وَكتابه مُعظم مَا عظم من حَقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه المستضيء فِي ظلمَة الْخطب بِنور أفقه الْأَمِير عبد الله مُحَمَّد بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْحجَّاج ابْن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد بن فرج بن نصر سَلام كريم بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي لاراد لأَمره وَلَا معَارض لفعله مصرف الْأَمر بقدرته وحكمته وعدله الْملك الْحق الَّذِي بِيَدِهِ ملاك الْأَمر كُله مُقَدّر الْآجَال والأعمار فَلَا يتَأَخَّر شَيْء عَن مِيقَاته وَلَا يبرح عَن مَحَله جَاعل الدُّنْيَا مناخ نَقله لَا يغتبط الْعَاقِل بِمِائَة وَلَا بظله وسبيل رحْلَة فَمَا أكثب ظعنه من حلّه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وَسيد رسله الَّذِي نعتصم بِسَبَبِهِ الْأَقْوَى ونتمسك بحبله ونمد يَد الافتقار إِلَى فَضله ونجاهد فِي سَبيله من كذب بِهِ أَو حاد عَن سبله ونصل إِلَيْهِ ابْتِغَاء مرضاته وَمن أَجله وَالرِّضَا عَن آله وأحزابه وأنصاره وَأَهله المستولين من ميدان الْكَمَال على خصله وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى بعز نَصره ومضاء فَضله فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم وقاية لَا تطرق الخطوب حماها وعصمة ترجع عَنْهَا سِهَام النوائب كلما فَوْقهَا الدَّهْر ورماها وعناية لَا تغير الْحَوَادِث اسْمهَا وَلَا مسماها وَعزا يزاحم أجرام الْكَوَاكِب منتماها من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَنعم الله سُبْحَانَهُ تتواتر لدينا دفعا ونفعا وألطافه نتعرفها وترا وشفعا ومقامكم الأبوي هُوَ الْمُسْتَند الْأَقْوَى والمورد الَّذِي ترده آمال الْإِسْلَام فتروي وتهوي إِلَيْهِ أفئدتهم فتجد مَا تهوى ومثابتكم الْعدة الَّتِي تأسست مبانيها على الْبر وَالتَّقوى وَإِلَى هَذَا وصل الله تَعَالَى سعدكم وَأبقى مجدكم فَإنَّا لما نعلم من مساهمة مجدكم الَّتِي يقتضيها كرم الطباع وطباع الْكَرم وَتَدْعُو إِلَيْهَا ذمم الرَّعْي ورعي الذمم نعرفكم بعد الدُّعَاء لملككم بدفاع الله تَعَالَى عَن إرتقائه وامتاع الْمُسلمين بِبَقَائِهِ بِمَا كَانَ من وَفَاة مَوْلَانَا الْوَالِد نَفعه تَعَالَى بالسعادة الَّتِي ألبسهُ حلتها وَالشَّهَادَة الَّتِي فِي أَعمالهَا الزكية كتبهَا والدرجة الْعَالِيَة الَّتِي حتمها لَهُ وأوجبها وَبِمَا تصير لنا من أمره وَضم بِنَا من نشره وسدل على من خَلفه من ستره وَإِنَّهَا لعبرة لمن ألْقى السّمع وموعظة تهز الْجمع وَترسل الدمع وحادثة أجمل الله تَعَالَى فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الدّفع وَشرح مجملها وَإِن اخرس اللِّسَان هولها وَأسلم الْعبارَة قوتها وحولها إِنَّه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما برز لإِقَامَة سنة هَذَا الْعِيد مستشعرا شعار كلمة التَّوْحِيد مظْهرا سمة الخضوع للْمولى الَّذِي تضرع بَين يَدَيْهِ رِقَاب العبيد آمنا بَين قومه وَأَهله متسربلا فِي حلل نعم الله تَعَالَى وفضله قرير الْعين باكتمال عزه واجتماع شَمله قد احترس بأقصى استطاعته وَاسْتظْهر بخلصان طَاعَته وَالْأَجَل الْمَكْتُوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت الْقَضَاء وَالْقدر وَسجد بعد الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صلَاته أَتَاهُ أمرالله لميقاته على حِين الشَّبَاب غض جلبابه وَالسِّلَاح زاخر عبابه وَالدّين بِهَذَا الْقطر قد أينع بالأمن جنابه وَأمر من يَقُول للشَّيْء كن فَيكون قد بلغ كِتَابه وَلم يرعه وَقد اطمأنت بِذكر الله تَعَالَى الْقُلُوب وخلصت الرغبات إِلَى فَضله الْمَطْلُوب إِلَّا شقي قيضه الله تَعَالَى لسعادته غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب وخبيث لم يكن بمعتبر وَلَا مَحْسُوب تخَلّل الصُّفُوف المعقودة وَتجَاوز الْأَبْوَاب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم المحشورة إِلَى طَاعَة الله المحشودة لَا تدل الْعين عَلَيْهِ شارة وَلَا بزَّة وَلَا تحمل على الحذر من مثله أَنفه وَلَا عزة وَإِنَّمَا هُوَ خَبِيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وَحي مَحْذُور وَآلَة مصرفة لينفذ بهَا قدر مَقْدُور فَلَمَّا طعنه وأثبته وأعلق بِهِ شرك الْحِين فَمَا أفلته قبض عَلَيْهِ من الخلصان الْأَوْلِيَاء من خبر ضَمِيره وَأحكم تَقْرِيره فَلم يجب عِنْد الِاسْتِفْهَام جَوَابا يعقل وَلَا عثر على شَيْء عَنهُ ينْقل لطفا من الله أَفَادَ بَرَاءَة الذمم وتعاورته للحين أَيدي التمزيق وَاتبع شلوه بالتحريق وَاحْتمل مَوْلَانَا الْوَالِد رَحمَه الله إِلَى الْقصر وَبِه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إِلَّا أيسر من الْيَسِير وتخلف الْملك ينظر من الطّرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وَقد عَاد جمع السَّلامَة إِلَى جمع التكسير إِلَّا أَن الله تَعَالَى تدارك هَذَا الْقطر الْغَرِيب أَن أقامنا مقَامه لوقته وحينه وَرفع عماد بِنَاء ملكه وَلم شعث دينه وَكَانَ جَمِيع من حضر المشهد من شرِيف النَّاس ومشروفهم وأعلامهم ولفيفهم قد جمعه ذَلِك الْمِيقَات وَحضر الْأَوْلِيَاء الثِّقَات فَلم تخْتَلف علينا كلمة وَلَا شذت مِنْهُم عَن بيعتنا نفس مسلمة وَلَا أخيف بري وَلَا حذر جري وَلَا فرى فري وَلَا وَقع لبس وَلَا استوحشت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 نفس وَلَا نبض للفتنة وَلَا أغفل للدّين حق فاستند النَّقْل إِلَى نَصه وَلم يعْدم من فقيدنا غير شخصه وبادرنا إِلَى مُخَاطبَة الْبِلَاد نمهدها ونسكنها ونقرر الطَّاعَة فِي النُّفُوس ونمكنها وأمرنا النَّاس بهَا بكف الْأَيْدِي وَرفع التَّعَدِّي وَالْعَمَل من حفظ شُرُوط المسالمة المعقودة بِمَا يجدي من شَره مِنْهُم للفرارا عاجلناه بالإنكار وصرفنا على النَّصَارَى مَا أوصاه مصحبا بالإعتذار وخاطبنا صَاحب قشتالة نرى مَا عِنْده فِي صلَة السّلم إِلَى أمدها من الْأَخْبَار واتصلت بِنَا البيعات من جَمِيع الأقطار وَعفى على حزن الْمُسلمين بوالدنا مَا ظهر عَلَيْهِم بولايتنا من الإستبشار واستبقوا تطير بهم أَجْنِحَة الإبتدار جعلنَا الله تَعَالَى مِمَّن قَابل الْحَوَادِث بالإعتبار وَكَانَ على حذر من تصاريف الأقدار وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وأعاننا على إِقَامَة دينه فِي هَذَا الوطن الْغَرِيب الْمُنْقَطع بَين الْعَدو الطاغي وَالْبَحْر الزخار وألهمنا من شكره مَا يتكفل بالمزيد من نعمه وَلَا قطع عَنَّا عوائد كرمه وَإِن فَقدنَا والدنا فَأَتمَّ لنا من بعده الْوَالِد والذخر الَّذِي تكرم مِنْهُ العوائد وَالْحب يتوارث كَمَا ورد فِي الْأَخْبَار الَّتِي صحت مِنْهَا الشواهد وَمن أعد مثلكُمْ لِبَنِيهِ فقد تيسرت من بعد الْمَمَات أمانيه وتأسست قَوَاعِد ملكه وتشيدت مبانيه فالإعتقاد الْجَمِيل مَوْصُول وَالْفُرُوع لَهَا فِي التَّشَيُّع إِلَيْكُم أصُول وَفِي تَقْرِير فخركم محصول وَأَنْتُم ردء الْمُسلمين بِهَذِهِ الْبِلَاد الْمسلمَة الَّذِي يعينهم بإرفاده وَيَنْصُرهُمْ بإنجاده ويعامل الله تَعَالَى فِيهَا بِصدق جهاده وعندما اسْتَقر هَذَا الْأَمر الَّذِي تبِعت المحنة فِيهِ المنحة وراقت من فضل الله تَعَالَى ولطفه فِيهِ الصفحة وأخذنا الْبيعَة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أَيْمَانهم وتأصلت قَوَاعِد ألفاظها ومعانيها فِي قُلُوبهم وآذانهم وضمنوا الْوَفَاء بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ وَقد خبر سلفنا وَالْحَمْد لله وَفَاء ضمانهم بادرنا تَعْرِيف مقامكم الَّذِي نعلم مساهمته فِيمَا سَاءَ وسر أحلى وَأمر عملا بِمُقْتَضى الخلوص الَّذِي ثَبت وَاسْتقر وَالْحب الَّذِي مَا مَال يَوْمًا وَلَا أَزور وَمَا أَحَق تَعْرِيف مقامكم بِوُقُوع هَذَا الْأَمر الْمَحْذُور وانجلاء ليله عَن صبح الصنع البادي السفور وَإِن كُنَّا قد خاطبنا من خدامكم من يُبَادر إعلامكم بالأمور إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 أَنه أَمر لَهُ مَا بعده وحادث يَأْخُذ حَده ونبعث إِلَى بَابَكُمْ من شَاهد الْحَال مَا بَين وُقُوعهَا إِلَى استقرارها رَأْي العيان وَتَوَلَّى تسديد الْأُمُور بِأَعْمَالِهِ الْكَرِيمَة ومقاصده الحسان ليَكُون أبلغ فِي الْبر وأشرح للصدر وأوعب للْبَيَان فوجهنا إِلَيْكُم وَزِير أمرنَا وَكَاتب سرنا الْفَقِيه الْأَجَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْخَطِيب وألقينا إِلَيْهِ من تَقْرِير تعويلنا على ذَلِك الْمقَام الْأَسْنَى واستنادنا من التَّشَيُّع إِلَيْهِ إِلَى الرُّكْن الوثيق الْمَبْنِيّ مَا نرجو أَن يكون لَهُ فِيهِ الْمقَام الأغنى وَالثَّمَرَة العذبة الْمَجْنِي فلاهتمامه بِهَذَا الْغَرَض الأكيد الَّذِي هُوَ أساس بنائنا وقامع أَعْدَائِنَا آثرنا تَوْجِيهه على توفر الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ ومدار الْحَال عَلَيْهِ والمرغوب من أبوتكم المؤملة أَن يتلقاه قبُولهَا بِمَا يَلِيق بِالْملكِ العالي والخلافة السامية الْمَعَالِي وَالله عز وَجل يديم أيامكم لصلة الْفضل المتوالي ويحفظ مجدكم من غير الْأَيَّام والليالي وَهُوَ سُبْحَانَهُ يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويوالي نصركم وعضدكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه وللسلطان الْغَنِيّ بِاللَّه هَذَا مَعَ السُّلْطَان أبي عنان رحمهمَا الله مراسلات عديدة ومكاتبات مديدة قد ذكر صَاحب نفح الطّيب مِنْهَا جملَة وافرة مَعَ التَّنْبِيه على أَسبَابهَا فانظرها فِيهِ إِن شِئْت وَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي هَذِه الْوِفَادَة وَغَيرهَا إِكْرَاما بليغا وَلما انْصَرف عَنهُ مدحه بقصيدة طَوِيلَة طنانة يَقُول فِي أَولهَا (أبدى لداعي الْفَوْز وَجه منيب ... وأفاق من عذل وَمن تأنيب) وَيَقُول فِي أَثْنَائِهَا (يَا نَاصِر الدّين الحنيف وَأَهله ... إنضاء مسغبة وفل خطول) (حقق ظنون بنيه فِيك فَإِنَّهُم ... يتعللون بوعدك المرقوب) (ضَاقَتْ مَذَاهِب نَصرهم فتعلقوا ... بجناب عز من علاك رحيب) (ودجا ظلام الْكفْر فِي آفاقهم ... أَو لَيْسَ صبحك مِنْهُم بقريب) (فَانْظُر بِعَين الْعِزّ من ثغر غَدا ... حذر العدا يرنو بِطرف مريب) (نادتك أندلس ومجدك ضَامِن ... أَلا يخيب لديك ذُو مَطْلُوب) وَهِي طَوِيلَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة انْتقض على السُّلْطَان أبي عنان وزيره وَصَاحب شواره عِيسَى بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من شُيُوخ بني مرين ووجوها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان قد اسْتَعْملهُ على جبل طَارق فتمكنت رياسته بِهِ وانتقض على السُّلْطَان لأسباب يطول شرحها ثمَّ التاثت حَاله وَضَاقَتْ مذاهبه فَقبض عَلَيْهِ وأحضر بَين يَدي السُّلْطَان أبي عنان هُوَ وَابْنه يَوْم منى من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فتنصلا واعتذرا فَلم يقبل مِنْهُمَا وأودعهما السجْن وضيق عَلَيْهِمَا وَلما كَانَ آخر السّنة أَمر بهما فجنبا إِلَى مصارعهما وَقتل عِيسَى قعصا بِالرِّمَاحِ وَقطع ابْنه أَبُو يحيى من خلاف وأبى من مداواة قطعه فَلم يزل يتخبط فِي دَمه إِلَى أَن هلك بعد ثَلَاثَة أَيَّام من قطعه وَعقد السُّلْطَان على جبل طَارق وَسَائِر ثغور الأندلس لِسُلَيْمَان بن دَاوُد ثمَّ عقد بعده لوَلَده أبي بكر السعيد وَهُوَ الَّذِي تولى الْملك بعده وَالله أعلم رحْلَة السُّلْطَان أبي عنان الى سلا وتطارحه على وَليهَا الْأَكْبَر أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ كَانَ لبني مرين عُمُوما وللسلطان أبي عنان خُصُوصا جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي أَهله وَتعرض لمن يشار إِلَيْهِ بالصلاح واستمطار لطله ووبله وَكَانَ الشَّيْخ الْأَشْهر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر الأندلس رَضِي الله عَنهُ قد استوطن فِي هَذَا التَّارِيخ مَدِينَة سلا وَكَانَ من الْأَفْرَاد الجامعين بَين الْعلم وَالْعَمَل المتمسكين بِالْكتاب وَالسّنة الناهجين سنَن السّلف الصَّالح فِي الزّهْد والورع والإنقطاع عَن الْخلق جملَة بِحَيْثُ طَار ذكره وَعظم لَدَى الْخَاص وَالْعَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 قدره فتحركت همة السُّلْطَان أبي عنان لزيارته والإقتباس مِمَّا يفتح الله بِهِ من وعظه وإشارته فارتحل سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة إِلَى سلا فَقَدمهَا وحرص على الإجتماع بالشيخ الْمَذْكُور ووقف بِبَابِهِ مرَارًا فَلم يَأْذَن لَهُ وترصده يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة وَلما انفض النَّاس تبعه على قَدَمَيْهِ وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يرَاهُ فَقَالَ السُّلْطَان عِنْد ذَلِك لقد منعنَا من هَذَا الْوَلِيّ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ وَلَده رَاغِبًا ومستعطفا فَأَجَابَهُ بِمَا قطع رَجَاءَهُ من لِقَائِه غير أَنه كتب إِلَيْهِ كتابا وعظه فِيهِ وَذكره فسر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك الْكتاب وحزن لما فَاتَهُ من الإجتماع بالشيخ وَقد ذكر الْفَقِيه الْعَلامَة الْبركَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بن عبد الرَّحْمَن السلاوي الْمَدْعُو بالحافي فِي كِتَابه تحفة الزائر فِي مَنَاقِب الشَّيْخ ابْن عَاشر نَص هَذَا الْكتاب وَلم يحضرني الْآن فَانْظُرْهُ فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق غَزْوَة السُّلْطَان أبي عنان إفريقية وَفتح قسنطينة ثمَّ فتح تونس بعْدهَا لما كَانَ أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة اعتزم السُّلْطَان أَبُو عنان على النهوض إِلَى إفريقية واضطرب مُعَسْكَره بِسَاحَة فاس الْجَدِيد وَبعث فِي الحشد إِلَى مراكش وأوعز إِلَى بني مرين بِأخذ الأهبه للسَّفر وَجلسَ للعطاء وَعرض الْجنُود من لدن عزمه على النهوض إِلَى شهر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَخمسين بعْدهَا ثمَّ ارتحل من فاس وسرح فِي مقدمته وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي العساكر وَسَار هُوَ فِي ساقته على التعبية إِلَى أَن احتل ببجاية وتلوم لإزاحة الْعِلَل ثمَّ نَازل الْوَزير قسنطينة وَجَاء السُّلْطَان على أَثَره وَلما أطلت راياته وَمَاجَتْ الأَرْض بجُنُوده ذعر أهل الْبَلَد وألقوا بِأَيْدِيهِم إِلَى الأذعان وانفضوا من حول سلطانهم أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي وجاؤوا مهطعين إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وتحيز الحفصي فِي خاصته إِلَى القصبة ثمَّ طلبُوا الْأمان من السُّلْطَان أبي عنان فبذله لَهُم وَخَرجُوا وأنزلهم بمعسكره أَيَّامًا ثمَّ بعث بِأبي الْعَبَّاس فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الأسطول إِلَى سبتة فاعتقله بهَا وَعقد على قسنطينة لمنصور بن الْحَاج خلوف الياباني من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى مِنْهُم وأنزله بالقصبة فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة ووصلت إِلَيْهِ بيعات أُمَرَاء الْأَطْرَاف من توزر ونفطة وَقَابِس وَغَيرهَا ووفد عَلَيْهِ أَوْلَاد مهلهل أُمَرَاء بني كَعْب من سليم وأقبال بني أبي اللَّيْل مِنْهُم يستحثونه لملك تونس فسرح مَعَهم العساكر وَعقد عَلَيْهَا ليحيى بن عبد الرَّحْمَن بن تاشفين وَبعث أسطوله فِي الْبَحْر مدَدا لَهُم وَعقد عَلَيْهِ للرئيس مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بالأبكم من أُمَرَاء بني الْأَحْمَر وَكَانَ سُلْطَان تونس يَوْمئِذٍ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الحفصي وَلما اتَّصل بِهِ خبر بني مرين أخرج حَاجِبه أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين لقتالهم فزحفت الجيوش إِلَى تونس وَوصل الأسطول إِلَى مرْسَاها فَقَاتلهُمْ ابْن تافارجين يَوْمًا أَو بعض يَوْم ثمَّ ركب اللَّيْل إِلَى المهدية فتحصن بهَا وَدخل أَوْلِيَاء السُّلْطَان إِلَى تونس فِي رَمَضَان من سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا بهَا الدعْوَة المرينية واحتل يحيى بن عبد الرَّحْمَن بالقصبة وأنفذ الْأَوَامِر وَكتب إِلَى السُّلْطَان أبي عنان بِالْفَتْح فَعظم سروره وَنظر بعد ذَلِك فِي أَحْوَال ذَلِك الْقطر وَقبض أَيدي الْعَرَب من ريَاح عَن الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فارتابوا وطالبهم بِالرَّهْنِ عَن الطَّاعَة فَأَجْمعُوا الْخلاف والتفوا على أَمِيرهمْ يَعْقُوب بن عَليّ وَلَحِقُوا بالزاب وارتحل السُّلْطَان فِي اثرهم فأجفلوا أَمَامه إِلَى القفر فخرب حصونهم الَّتِي بالزاب وَرجع عَنْهُم وَحمل لَهُ ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب جبايته وَأطلق الْمُؤَن للعسكر من الإدام وَالْحِنْطَة والحملان والعلوفة ثَلَاثَة أَيَّام وكافأه السُّلْطَان على صَنِيعه فَخلع عَلَيْهِ وعَلى أَهله وَولده وأسنى جوائزهم وَرجع إِلَى قسنطينة واعتزم على الرحلة إِلَى تونس وَضَاقَتْ العساكر ذرعا بشأن النَّفَقَات والإبعاد فِي الرحلة وارتكاب الْخطر فِي دُخُول إفريقية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 فتمشت رجالاتهم فِي الانفضاض عَن السُّلْطَان وداخلو الْوَزير فَارس بن مَيْمُون فِي ذَلِك فوفقهم ثمَّ أذن شُيُوخ الْعَسْكَر ونقباؤه لمن تَحت أَيْديهم من الْقَبَائِل فِي اللحاق بالمغرب حَتَّى يبقو منفردين وأنهى إِلَى السُّلْطَان أبي عنان أَن شُيُوخ الْعَسْكَر قد عزموا على قَتله وَنصب إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِلْأَمْرِ فأسرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَرَأى قلَّة من مَعَه من الْجند فارتاب وكر رَاجعا إِلَى الْمغرب بعد أَن كَانَ ارتحل عَن قسنطينة إِلَى جِهَة تونس مرحلَتَيْنِ فانكفأ وأغذ السّير إِلَى فاس فاحتل بهَا غرَّة ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وَخمسين الْمَذْكُورَة وتقبض يَوْم دُخُوله على وزيره فَارس بن مَيْمُون لِأَنَّهُ اتهمه بمداخلة بني مرين فِي شَأْنه وَقَتله رَابِع أَيَّام التَّشْرِيق قعصا بِالرِّمَاحِ وتقبض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع طَائِفَة مِنْهُم السجْن وَلما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية بلغ خَبره إِلَى الْجِهَات فارتحل أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين من المهدية إِلَى تونس وَلما أطل عيها ثارت شيعَة الحفصيين على من كَانَ بهَا من جَيش بني مرين فنجوا إِلَى السفن وركبوا الْبَحْر إِلَى الْمغرب وَجَاء على أَثَرهم يحيى بن عبد الرَّحْمَن فِيمَن كَانَ مَعَه من العساكر وَأَوْلَاد مهلهل وَكَانَ يَوْم الهيعة بِنَاحِيَة الجريد لاقْتِضَاء جبايته فصوب إِلَى الْمغرب واجتمعوا كلهم بِبَاب السُّلْطَان أبي عنان فأرجأ حركته إِلَى الْعَام لقابل وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وزارة سُلَيْمَان بن دَاوُد ونهوضه بالعساكر إِلَى إفريقية لما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية وَلم يستتم فتحهَا بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا شَيْء وخشي على ضواحي قسنطينة من يَعْقُوب بن عَليّ وَمن مَعَه من الذواودة الْمُخَالفين فأهمه شَأْنهمْ واستدعى سُلَيْمَان بن دَاوُد من مَكَانَهُ بجبل طَارق وَعقد لَهُ على وزارته وسرحه فِي العساكر إِلَى إفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان لما خَالف عَلَيْهِ يَعْقُوب بن عَليّ وفر إِلَى القفر أَقَامَ مَكَانَهُ أَخَاهُ المنازع لَهُ فِي رياسة ريَاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 مَيْمُون بن عَليّ وَقدمه على أَوْلَاد مُحَمَّد من الذواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو فَنزع إِلَيْهِ عَن أَخِيه يَعْقُوب الْكثير من قومه وَتمسك بِطَاعَة السُّلْطَان أَيْضا طوائف من أَوْلَاد سِبَاع بن يحيى فانحاشوا جَمِيعًا للوزير ونزلوا بحللهم على مُعَسْكَره ثمَّ ارتحل السُّلْطَان ابو عنان من فاس حَتَّى احتل بتلمسان فَأَقَامَ بهَا لمشارفة أَحْوَال الْوَزير الْمَذْكُور واحتل الْوَزير بوطن قسنطينة وَبعث إِلَى عَامل بسكرة والزاب يُوسُف بن مزني بِأَن تكون يَده مَعَه وَأَن يفاوضه فِي أَحْوَال الذواودة لرسوخه فِي مَعْرفَتهَا فارتحل إِلَيْهِ من بسكرة ونازلوا جبل أوراين واقتضوا جبايته ومغارمه وشردوا الْمُخَالفين من الذواودة عَن العيث فِي الوطن فتم غرضهم من ذَلِك وانْتهى الْوَزير وعساكر السُّلْطَان إِلَى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات ريَاح وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب فَوَافى السُّلْطَان أَبَا عنان بتلمسان ووصلت مَعَه وُفُود الْعَرَب الَّذين أبلوا فِي الْخدمَة فوصلهم السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء بالزاب وَكتب لَهُم بذلك وانقلبوا إِلَى أَهْليهمْ فرحين مغتبطين ووفد على اثرهم أَحْمد بن يُوسُف بن مزني اوفده أَبوهُ بهدية إِلَى السُّلْطَان من الْخَيل وَالرَّقِيق والدرق فتقبلها السُّلْطَان وَأكْرم وفادته ثمَّ استصحبه إِلَى فاس ليريه أَحْوَال كرامته وليستبلغ فِي الاحتفاء بِهِ واحتل بدار ملكه منتصف ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَفَاة السُّلْطَان أبي عنان رَحمَه الله لما وصل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى دَار ملكه بفاس احتل بهَا بَين يَدي الْعِيد الْأَكْبَر حَتَّى إِذا قضى الصَّلَاة من يَوْم الْأَضْحَى أدْركهُ الْمَرَض بالمصلى وأعجله طائف الوجع عَن الْجُلُوس للنَّاس يَوْم الْعِيد على الْعَادة فَدخل قصره وَلزِمَ فرَاشه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وَذكر ابْن خلدون مَا حَاصله إِنَّه كَانَت بَين الْوَزير حسن بن عمر الفودودي وَبَين ولي الْعَهْد أبي زيان مُحَمَّد بن السُّلْطَان أبي عنان نفرة مستحكمة لسوء طويته وَشر ملكته فاتفق الْوَزير الْمَذْكُور مَعَ من كَانَ على رَأْيه من أهل مجْلِس السُّلْطَان على تَحْويل الْأَمر عَنهُ إِلَى غَيره من أَبنَاء السُّلْطَان فَأَجْمعُوا الفتك بِهِ والبيعة لِأَخِيهِ أبي بكر السعيد طفْلا خماسيا ثمَّ أغروا الْوَزير مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي بتطلب أبي زيان ولي الْعَهْد فِي نواحي الْقصر والتقبض عَلَيْهِ فَدخل إِلَيْهِ وتلطف فِي إِخْرَاجه من بَين الْحرم وقاده إِلَى أَخِيه السعيد فَبَايع وثل إِلَى بعض حجر الْقصر فاتلفت فِيهَا مهجته واستقل الْحسن بن عمر بِالْأَمر يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَالسُّلْطَان أَبُو عنان أثْنَاء ذَلِك يجود بِنَفسِهِ وارتقب النَّاس دَفنه يَوْم الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس بعده فَلم يدْفن فارتابوا وفشى الْكَلَام فَدخل الْوَزير زَعَمُوا إِلَيْهِ بمكانه من قصره ثمَّ غطه حَتَّى أتْلفه وَدفن يَوْم السبت وحجب الْحسن بن عمر الْوَلَد الْمَنْصُوب لِلْأَمْرِ وأغلق عَلَيْهِ بَابه وَتفرد بِالْأَمر وَالنَّهْي دونه انْتهى وَهَذَا أول مرض نزل بالدولة المرينية وَقَالَ فِي الجذوة توفّي السُّلْطَان أَبُو عنان قَتِيلا خنقه وزيره الْحسن بن عمر الفودودي يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة متم سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَسنة يَوْم توفّي ثَلَاثُونَ سنة بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي عنان وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان رَحمَه الله أَبيض اللَّوْن تعلوه صفرَة طَوِيل الْقَامَة يشرف على النَّاس بِطُولِهِ نحيف الْبدن عالي الْأنف حسنه أعين أدعج جَهورِي الصَّوْت فِي كَلَامه عجلة حَتَّى لَا يكَاد السَّامع يفهم مَا يَقُول عَظِيم اللِّحْيَة تملأ صَدره أسودها وَإِذا مرت بهَا الرّيح تَفَرَّقت نِصْفَيْنِ حَتَّى يستبين مَوضِع الذقن وَكَانَ فَارِسًا شجاعا يقوم فِي الْحَرْب مقَام جنده وَكَانَ فَقِيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 يناظر الْعلمَاء الجلة عَارِفًا بالْمَنْطق وأصول الدّين وَله حَظّ صَالح من علمي الْعَرَبيَّة والحساب وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بناسخه ومنسوخه حَافِظًا للْحَدِيث عَارِفًا بِرِجَالِهِ فصيح الْقَلَم كَاتبا بليغا حسن التوقيع شَاعِرًا أنْشد لَهُ صَاحب الجذوة اشعارا حَسَنَة من ذَلِك فِي الْحِكْمَة قَوْله (وَإِذا تصدر للرياسة خامل ... جرت الْأُمُور على الطَّرِيق الأعوج) وَقَالَ ابْن الْأَحْمَر كنت يَوْمًا جَالِسا مَعَه بمقعد ملكه من الْمَدِينَة الْبَيْضَاء بفاس فَدخل عَلَيْهِ رجل يتصلح فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ بديهة تراهم فِي ظواهرهم كراما ... ويخفون المكيدة والخداعا) وللسلطان أبي عنان رَحمَه الله آثَار دينية من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا وَغير ذَلِك ومدرسته العنانية بفاس مَشْهُورَة إِلَى الْآن وَمن مدارسه الْمدرسَة العجيبة بحومة بَاب حُسَيْن من سلا وَقد صَارَت الْيَوْم فندقا يعرف بفندق أسكور وَمِمَّا قَالَه أَبُو بكر بن جزي فِي بعض مَا أنشأه السُّلْطَان الْمَذْكُور من الزوايا قَوْله (هَذَا مَحل الْفضل والإيثار ... والرفق بالسكان وَالزُّوَّارِ) (دَار على الْإِحْسَان شيدت والتقى ... فجزاؤها الْحسنى وعقبى الدَّار) (هِيَ ملْجأ للواردين ومورد ... لِابْنِ السَّبِيل وكل ركب ساري) (آثَار مَوْلَانَا الْخَلِيفَة فَارس ... أكْرم بهَا فِي الْمجد من آثَار) (لَا زَالَ مَنْصُور اللِّوَاء مظفرا ... ماضي العزائم سامي الْمِقْدَار) (بنيت على يَد عبدهم وخديم ... بابهم الْعلي مُحَمَّد بن حدار) (فِي عَام أَرْبَعَة وَخمسين انْقَضتْ ... من بعد سبعمئين فِي الْأَعْصَار) وَقَالَ صَاحب الجذوة حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد اليدري أَن السُّلْطَان أَبَا عنان هُوَ الَّذِي أحدث بفاس الْعلم الْأَزْرَق فِي الصومعة يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ فِي مَوْضُوع آخر مِنْهَا حُكيَ أَن السُّلْطَان ابا عنان المريني صعد الصومعة يَعْنِي بالقرويين ليعتبر الْمَدِينَة وترتيبها ووقف على المنجانة وَمَا اتَّصل بهَا فَاسْتحْسن ذَلِك وأنعم على النَّاظر فِيهَا بمرتب وسع عَلَيْهِ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 ليستعين بِهِ على الْقيام بشعائر الْإِسْلَام وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَالَ وَأمر بإثر ذَلِك بِأَن ينصب بِأَعْلَى الصومعة صاري من خشب وينشر فِيهِ علم فِي الْأَوْقَات الَّتِي يصلى فِيهَا وفنار فِيهِ سراج مزهر فِي أَوْقَات صَلَاة اللَّيْل ليستدل بذلك من بعد وَمن لم يسمع النداء وَفِي ذَلِك اعتناء بِأُمُور الْأَوْقَاف وَمَا يتَعَلَّق بهَا من وجوب الصَّلَوَات وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا من وُجُوه الْحُقُوق فِي الْعَادَات والعبادات وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك (نور بِهِ علم الْإِيمَان مُرْتَفع ... للمهتدين بِهِ للحق إرشاد) (يأْتونَ من كل صوب نَحوه فَلهم ... لَدَيْهِ للرشد إصدار وإيراد) وَقد لخص ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله فِي رقم الْحلَل سيرة السُّلْطَان أبي عنان فَقَالَ (وخلص الْأَمر لكف فَارس ... باني الزوايا الكثر والمدارس) (الْأسد المفترس الْمَصْنُوع لَهُ ... من نَالَ من كل المساعي أمله) (وَاحِد آحَاد الْمُلُوك العظما ... ومطلع النَّصْر إِذا مَا أقدما) (ومخجل الْغَيْث إِذا الْغَيْث هما ... الْملك وَملك العلما) (أوجب حق الشّعْر وَالْكِتَابَة ... فَأَمْلَتْ أعلامها جنابه) (واستجلب الأماثل الكبارا ... النبهاء الْعلية الأخيارا) (يجبرهم على حُضُور الدولة ... فهم بدور وشموس حوله) (وَكَانَ جبارا على خُدَّامه ... ينالهم فِي القسر فِي أَحْكَامه) (مذْهبه أَلا يقيل عثره ... حَتَّى لأرباب التقى والثرة) (فطْرَة السَّيْف تناغي الدرة ... إِذْ غلبت على المزاج الْمرة) (وَمَات فِيمَا قيل شَرّ ميتَة ... بغيلة لنَفسِهِ مفيته) (لم يغن عَنهُ الْبَأْس والبسالة ... وأصبحت مهجته مسالة) (وألقيت أزمة التَّدْبِير ... من بعده فِي رَاحَة الْوَزير) وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو الْقَاسِم بن رضوَان وَأَبُو الْقَاسِم الْبُرْجِي وَمن أَعْيَان قُضَاته أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 جد أبي الْعَبَّاس الْمقري صَاحب نفح الطّيب وَغَيره من التآليف الحسان وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الفشتالي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 4 - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة المرينية الْقسم الثَّانِي الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان السعيد بِاللَّه أبي بكر بن أبي عنان بن أبي الْحسن المريني هَذَا السُّلْطَان أول من استبد عَلَيْهِ من مُلُوك بني مرين أمه أم ولد اسْمهَا الياسمين كنيته أَبُو يحيى وَهِي كنية كل من اسْمه أَبُو بكر لقبه السعيد بِاللَّه صفته دري اللَّوْن مستدير الْوَجْه حسن الْأنف ألعس الشفتين براق الثنايا جعد الشّعْر بُويِعَ وَأَبوهُ مَرِيض فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ محجوبا بوزيره حسن بن عمر الفودودي لَا يملك مَعَه ضرا وَلَا نفعا وَلما بُويِعَ لحق أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي عنان بجبل الكاي وَكَانَ أسن مِنْهُ وَإِنَّمَا آثروه لمَكَان ابْن عَمه مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي من وزارته فبعثوا إِلَيْهِ من لاطفه واستنزله على الْأمان وَجَاء بِهِ إِلَى أَخِيه فاعتقله الْحسن ابْن عمر بقصبته من فاس وَبعث على أَبنَاء السُّلْطَان الأصاغر الْأُمَرَاء بالثغور فجَاء المعتصم من سجلماسة وَامْتنع الْمُعْتَمد بمراكش وَكَانَ بهَا فِي كَفَالَة عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وَكَانَ عَامر هَذَا من بيوتات هنتاتة وَأهل الرياسة والشرف فيهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان قد أوصى إِلَيْهِ بولده الْمَذْكُور وَجعله هُنَالك لنظره فَلَمَّا بعثوا عَلَيْهِ مَنعه من الْوُصُول إِلَيْهِم وَخرج بِهِ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 مراكش إِلَى حصنه من جبل هنتاتة فَجهز إِلَيْهِ الْوَزير حسن بن عمر الجيوش لنظر الْوَزير سُلَيْمَان بن دَاوُد مُشَاركَة فِي الاستبداد وسرحه فِي الْمحرم سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة فَسَار إِلَى مراكش فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ تخطى إِلَى الْجَبَل فأحاط بِهِ وضيق على عَامر حَتَّى أشرف على اقتحام الْحصن إِلَى أَن بلغه خبر افْتِرَاق بني مرين بفاس وَظُهُور مَنْصُور بن سُلَيْمَان بهَا على مَا نذكرهُ فانفض الْعَسْكَر من حوله وتسابقوا إِلَى مَنْصُور فَلَحقُوا بِهِ وَلحق بِهِ سُلَيْمَان ابْن دَاوُد أَيْضا وتنفس الْحصار عَن عَامر ومكفوله وَالله غَالب على أمره ظُهُور أبي حمو مُوسَى بن يُوسُف الزياني واستيلاؤه على تلمسان ونهوض مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن إِلَيْهِ وطرده عَنْهَا كَانَ بَنو عَامر بن زغبة من عرب هِلَال خَارِجين على السُّلْطَان أبي عنان مُنْذُ استيلائه على تلمسان وَكَانَت رياستهم إِلَى صَغِير بن عَامر بن إِبْرَاهِيم وَلما رَجَعَ أَبُو عنان إِلَى فاس اعتزم صَغِير على الرحلة بقَوْمه إِلَى وطنهم من صحراء الْمغرب لأَنهم كَانُوا منتبذين عَنْهَا بأطراف إفريقية فدعوا أَبَا حمو مُوسَى بن يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان إِلَى الرحلة مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ ويجلبوا بِهِ على تلمسان فأجابهم إِلَى ذَلِك وأغذوا السّير إِلَى الْمغرب للعيث فِي نوا حيه فَجمع لَهُم أعداؤهم من سُوَيْد وَكَانُوا خَالِصَة لبني مرين فَالْتَقوا بقبلة تلمسان فانهزمت سُوَيْد وَهلك كَبِيرهمْ عُثْمَان بن ونزمار واتصل بهم فِي أثْنَاء ذَلِك خبر وَفَاة السُّلْطَان أبي عنان بفاس فأغذوا السّير إِلَى تلمسان وقاتلوا علهيا حامية بني مرين ثمَّ اقتحموها عَلَيْهِم لليال خلون من ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة واستباحوا من كَانَ بهَا مِنْهُم وامتلأت أَيْديهم من أسلابهم وَاسْتولى أَبُو حمو على ملك تلمسان واستأثر بِمَا ألفاه بهَا من مَتَاع بني مرين وَمن جملَته هَدِيَّة كَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان أعدهَا هُنَالك ليَبْعَث بهَا إِلَى طاغية برشلونة وفيهَا فرس أدهم من مقرباته بمركب ولجام مذهبين ثقيلين فَاتخذ أَبُو حمو الْفرس لركوبه وَصرف بَاقِي الْهَدِيَّة فِي وُجُوه مقاصده وَلما انْتهى إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 الْوَزير حسن بن عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عَلَيْهَا جمع شُيُوخ بني مرين وَأخْبرهمْ بالنهوض إِلَيْهَا فَأَبَوا عَلَيْهِ من النهوض بِنَفسِهِ وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه من أنفسهم الْمسير كَافَّة فَفتح ديوَان الْعَطاء وَفرق الْأَمْوَال وأسنى الصلات وأزاح الْعِلَل وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد ثمَّ عقد عَلَيْهِم لمسعود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَحمل مَعَه المَال وَأَعْطَاهُ الْآلَة وَسَار فِي العساكر والألوية وَلما اتَّصل خبر مسيره بِأبي حمو أفرج لَهُ عَن تلمسان ودخلها مَسْعُود فِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة فاستولى عَلَيْهَا وَخرج أَبُو حمو إِلَى الصَّحرَاء إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ ظُهُور مَنْصُور بن سُلَيْمَان وبيعة مَسْعُود ابْن عبد الرَّحْمَن لَهُ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك مَنْصُور هَذَا هُوَ مَنْصُور بن سُلَيْمَان بن مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب ابْن عبد الْحق وَكَانَ النَّاس يرجفون بِأَن ملك الْمغرب سَائِر إِلَيْهِ بعد وَفَاة أبي عنان وشاع ذَلِك على أَلْسِنَة النَّاس حَتَّى تحدث بِهِ السمر والندمان وخشي مَنْصُور على نَفسه من ذَلِك فجَاء إِلَى الْوَزير حسن بن عمر وشكا إِلَيْهِ ذَلِك فَنَهَاهُ أَن يختلج بفكرة هَذَا الوسواس وانتهره انتهارا خلا عَن وَجه السياسة فانزجر واستكان قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد شهِدت هَذَا الموطن فرحمت ذلة انكساره وخضوعه فِي موقفه ثمَّ لما نَهَضَ مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن إِلَى تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا كَانَ مَنْصُور هَذَا فِي جملَته وَلما فر أَبُو حمو إِلَى الصَّحرَاء اجْتمعت عَلَيْهِ جموع الْعَرَب من بني زغبة وَبني معقل ثمَّ خالفوا بني مرين إِلَى الْمغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم فَجهز إِلَيْهِم مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن عسكرا من جُنُوده انتقى فِيهِ مشيخة بني مرين وأمراءهم وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه عَامر بن عبد الله بن ماساي وسرحه فزحف إِلَى الْعَرَب بِسَاحَة وَجدّة فَصدقهُ الْعَرَب الْقِتَال فَانْكَشَفَتْ بَنو مرين واستبيح معسكرهم واستلبت مشيختهم وأرجلوا عَن خيولهم ودخلوا إِلَى وَجدّة عُرَاة وَبلغ الْخَبَر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 إِلَى بني مرين الَّذين بتلمسان وَكَانَ فِي قُلُوبهم مرض من استبداد حسن بن عمر عَلَيْهِم وحجره لسلطانهم فَكَانُوا يتربصون بالدولة الدَّوَائِر فَلَمَّا بَلغهُمْ هَذَا الْخَبَر حاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وخلصوا نجيا بِسَاحَة الْبَلَد فاتفقوا على الْبيعَة ليعيش بن عَليّ بن أبي زيان بن يُوسُف بن يَعْقُوب فَبَايعُوهُ وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ فِي جملَته مَنْصُور بن سُلَيْمَان كَمَا قُلْنَا فأكرهه على الْبيعَة وَبَايَعَهُ مَعَه الرئيس الأبكم من بني الْأَحْمَر وقائد النَّصَارَى والقهردور وتسايل إِلَيْهِ النَّاس من كل جَانب وتسامع الْمَلأ من بني مرين بالْخبر فتهاروا إِلَيْهِ وَذهب يعِيش بن عَليّ لوجهه فَركب الْبَحْر إِلَى الأندلس واستتب أَمر مَنْصُور بن سُلَيْمَان وَاجْتمعَ بَنو مرين على كَلمته فارتحل بهم من تلمسان يُرِيد الْمغرب واعترضتهم جموع الْعَرَب فِي طريقهم فأوقعت بهم بَنو مرين وامتلأت أَيْديهم من أسلابهم وظعنهم ثمَّ أغذوا السّير إِلَى الْمغرب فاحتلوا بوادي سبو فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى الْحسن بن عمر فبرز واضطرب مُعَسْكَره بِسَاحَة الْبَلَد وَأخرج السُّلْطَان السعيد فِي الْآلَة والتعبية إِلَى أَن أنزلهُ بفسطاطه وَلما غشيهم اللَّيْل انفض عَنهُ الْمَلأ إِلَى مَنْصُور فَأوقد الْوَزير الشموع وأذكى النيرَان وَجمع الموَالِي والجند حول الْفسْطَاط حَتَّى أركب السُّلْطَان وَعَاد بِهِ إِلَى قصره وتحصن بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَأصْبح مَنْصُور بن سُلَيْمَان فارتحل فِي التعبية حَتَّى نزل بكدية العرائس فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَغدا على فاس الْجَدِيد بِالْقِتَالِ وَجمع الْأَيْدِي على اتِّخَاذ الْآلَات للحصار وانثالت عَلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار بالمغرب لِلْبيعَةِ وَلَحِقت بِهِ كتائب بني مرين الَّتِي كَانَت مجمرة على حصن عَامر بن مُحَمَّد الهنتاني وَلحق بِهِ أَيْضا قائدها سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَاد أمره يتم وَأقَام على فاس الْجَدِيد يغاديها الْقِتَال ويراوحها ثمَّ بدا الْخلَل فِي عسكره وَنزع عَنهُ إِلَى الْوَزير حسن بن عمر طَائِفَة من بني مرين وَلحق آخَرُونَ ببلادهم ووقفوا ينتظرون مآل أمره وَاسْتمرّ هَذَا الْحَال إِلَى غرَّة شعْبَان فَبَيْنَمَا النَّاس فِي ذَلِك إِذْ ظهر السُّلْطَان أَبُو سَالم بجبال غمارة فَانْصَرَفت إِلَيْهِ وُجُوه أهل الْمغرب وَبَطل أَمر السلطانين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 أبي بكر السعيد وَمَنْصُور بن سُلَيْمَان مَعًا وذابا كَمَا يذوب الْملح فَأَما مَنْصُور بن سُلَيْمَان فَإِنَّهُ فر إِلَى بادس فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم فَقتله وَأما السعيد فَإِن وزيره الْحسن بن عمر لما سمع بِظُهُور السُّلْطَان أبي سَالم واستفحال أمره نبذ دَعْوَة سُلْطَانه الْمَذْكُور وَبعث بِطَاعَتِهِ إِلَى أبي سَالم ووعده بالتمكين من دَار الْملك إِن قدم عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك وخلع السعيد يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ قتل بعد ذَلِك غرقا فِي الْبَحْر فَإِن السُّلْطَان أَبَا سَالم بَعثه فِي جملَة الْأَبْنَاء المرشحين من بني أبي الْحسن إِلَى الأندلس ووكل بهم من يحرسهم ثمَّ بعد ذَلِك بعث إِلَى الْمُوكل بهم فحملهم فِي سفينة كَأَنَّهُ يُرِيد بهم الْمشرق ثمَّ غرقهم فِي الْبَحْر وَالْأَمر لله وَحده الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المستعين بِاللَّه أبي سَالم إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن المريني كَانَ هَذَا السُّلْطَان جوادا جم الْعَطاء مَعْرُوفا بِالْوَفَاءِ كثير الْحيَاء كنيته أَبُو سَالم لقبه المستعين بِاللَّه أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا قمر صفته آدم اللَّوْن معتدل الْقَامَة رحب الْوَجْه وَاسع الجبين بادن الْجِسْم أعين أدعج معتدل اللِّحْيَة أسودها وَكَانَ بعد مهلك وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله قد اسْتَقر بالأندلس بَعثه إِلَيْهَا أَخُوهُ أَبُو عنان كَمَا مر وَلما مَاتَ أَبُو عنان الْمَذْكُور وَولي ابْنه الصَّبِي طمع أَبُو سَالم هَذَا فِي الْملك فَاسْتَأْذن الْحَاجِب رضوَان مُدبر دولة ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فِي اللحاق ببلاده فَأبى عَلَيْهِ فغاضه ذَلِك وَنزع عَنهُ إِلَى طاغية قشتالة وتطارح عَلَيْهِ فِي أَن يحملهُ إِلَى بر العدوة يطْلب ملك أَبِيه فأسعفه وَأمر بِهِ فَحمل فِي مركب وَألقى بِهِ ملاحه فِي سَاحل بِلَاد غمارة بعد أَن تردد فِي أَي السواحل يلقيه وَوَافَقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ذَلِك اخْتِلَاف الْكَلِمَة بفاس ومحاصرة مَنْصُور بن سُلَيْمَان للمدينة الْبَيْضَاء فتسامع النَّاس بِخُرُوجِهِ بِبِلَاد غمارة أحْوج مَا كَانُوا إِلَيْهِ فتسايلوا إِلَيْهِ من كل وَجه وانفض النَّاس من حول مَنْصُور وَمَشى أهل مُعَسْكَره بأجمعهم على التعبية فَلَحقُوا بالسلطان أبي سَالم واستغذوه إِلَى دَار ملكه فأغذ السّير إِلَيْهَا وخلع الْحسن بن عمر سُلْطَانه السعيد من الْأَمر لتسعة أشهر من خِلَافَته وأسلمه إِلَى عَمه فَخرج إِلَيْهِ وَبَايَعَهُ وَدخل السُّلْطَان أَبُو سَالم الْبَلَد الْجَدِيد يَوْم الْجُمُعَة منتصف شعْبَان من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة وَاسْتولى على ملك الْمغرب وتوافت وُفُود النواحي بالبيعات وَعقد لِلْحسنِ بن عمر على مراكش وجهزه إِلَيْهَا بالعساكر تخففا مِنْهُ وريبة بمكانه من الدولة واستوزر مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَالْحسن بن يُوسُف الورتاجني وَاصْطفى من خواصه خطيب أَبِيه الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَرْزُوق وَجعل إِلَى أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون صَاحب التَّارِيخ توقيعه وَكِتَابَة سره قَالَ وَكنت نزعت إِلَيْهِ من معسكر مَنْصُور بن سُلَيْمَان بكدية العرائس لما رَأَيْت من اخْتِلَاف أَحْوَاله ومصير الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم فَأقبل عَليّ وأنزلني بِمحل التنويه واستخلصني لكتابته أه قدوم الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر ووزيره ابْن الْخَطِيب مخلوعين على السُّلْطَان أبي سَالم وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحجَّاج قتل يَوْم عيد الْفطر بالمصلى سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه الْغَنِيّ بِاللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه إِسْمَاعِيل فَجعله الْغَنِيّ بِاللَّه فِي بعض الْقُصُور من حَمْرَاء غرناطة احتفاظا بِهِ إِلَى أَن كَانَ رَمَضَان من سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة فَخرج الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى بعض منتزهاته خَارج القصبة وَلما كَانَت لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور أَو ثَمَان وَعشْرين مِنْهُ تسور جمَاعَة من شيعَة إِسْمَاعِيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الْمَحْبُوس عَلَيْهِ القصبة لَيْلًا وأخرجوه من محبسه وأعلنوا بدعوته ثمَّ اقتحموا على حَاجِبه رضوَان دَاره فَقَتَلُوهُ على فرَاشه وَبَين نِسَائِهِ وضبطوا القصبة وأعلنوا بالدعوة وَلم يرع الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَّا قرع الطبول بالقصبة فِي جَوف اللَّيْل فاستكشف الْخَبَر وَتسمع فَعلم بِمَا تمّ عَلَيْهِ من خلعه وتولية أَخِيه فَركب فرسه وخاض اللَّيْل إِلَى وَادي آش فاستولى عَلَيْهَا وضبطها وَبَايَعَهُ أَهلهَا على الْمَوْت ثمَّ عمد شيعَة إِسْمَاعِيل الثائر إِلَى الْوَزير ابْن الْخَطِيب فأودعوه السجْن بعد أَن أغروا بِهِ ثائرهم واكتسحوا دَاره واصطلموا نعْمَته وأتلفوا موجوده وَكَانَ شَيْئا يجل عَن الْحصْر واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سَالم وَكَانَت لَهُ مصافاة مَعَ ابْن الْأَحْمَر من لدن كَانَ عِنْده بالأندلس فَكتب إِسْمَاعِيل الثائر وشيعته يَأْمُرهُم بتخلية طَرِيق الْغَنِيّ بِاللَّه للقدوم عَلَيْهِ ويشفع فِي تَسْرِيح ابْن الْخَطِيب وتخلية سَبيله فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك وَقدم الْغَنِيّ بِاللَّه بن الْأَحْمَر ووزيره ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي سَالم فِي السَّادِس من محرم فاتح سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فأجل السُّلْطَان أَبُو سَالم قدومه وَركب للقائه وَدخل بِهِ إِلَى مجْلِس ملكه وَقد احتفل فِي ترتيبه وَقد غص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابْن الْخَطِيب على قَدَمَيْهِ فَأَنْشد السُّلْطَان أَبَا سَالم قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بِمَا أبكى النَّاس شَفَقَة لَهُ ورحمه وَنَصّ القصيدة (سلا هَل لَدَيْهَا من مخبرة ذكر ... وَهل أعشب الْوَادي ونم بِهِ الزهر) (وَهل باكر الوسمي دَارا على اللوا ... عفت آيها إِلَّا التَّوَهُّم وَالذكر) (بلادي الَّتِي عاطيت مشمولة الْهوى ... بِأَكْنَافِهَا والعيش فينان مخضر) (وجوى الَّذِي ربى جناحي وَكره ... فها أَنا ذَا مَا لي جنَاح وَلَا وكر) (نبت بِي لَا عَن جفوة وملالة ... وَلَا نسخ الْوَصْل الهني بهَا هجر) (وَلكنهَا الدُّنْيَا قَلِيل متاعها ... ولذاتها دأبا تزور وتزور) (فَمن لي بِقرب الْعَهْد مِنْهَا ودوننا ... مدى طَال حَتَّى يَوْمه عندنَا شهر) (وَللَّه عينا من رآنا وللأسى ... ضرام لَهُ فِي كل جانحة جمر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 (وَقد بددت در الدُّمُوع يَد النَّوَى ... وللشوق أشجان يضيق لَهَا الصَّدْر) (بكينا على النَّهر الشروب عشيه ... فَعَاد أجاجا بَعدنَا ذَلِك النَّهر) (أَقُول لأظعاني وَقد غالها السرى ... وآنسها الْحَادِي وأوحشها الزّجر) (رويدك بعد الْعسر يسران أَبْشِرِي ... بإنجاز وعد الله قد ذهب الْعسر) (وَللَّه فِينَا علم غيب وَرُبمَا ... أَتَى النَّفْع من حَال أُرِيد بهَا الضّر) (وَإِن تخن الْأَيَّام لم تخن النهى ... وَأَن يخذل الأقوام لم يخذل الصَّبْر) (وَإِن عركت مني الخطوب مجربا ... نقابا تساوى عِنْده الحلو والمر) (فقد عجمت عودا صليبا على الردى ... وعزما كَمَا تمْضِي المهندة البتر) (إِذا أَنْت بالبيضاء قررت منزلي ... فَلَا اللَّحْم حل مَا حييت وَلَا الظّهْر) (زجرنا بإبراهيم برْء همومنا ... فَلَمَّا رَأينَا وَجهه صدق الزّجر) (بمنتخب من آل يَعْقُوب كلما ... دجا الْخَطِيب لم يكذب لعزمته فجر) (تناقلت الركْبَان طيب حَدِيثه ... فَلَمَّا رَأَتْهُ صدق الْخَبَر الْخَبَر) (ندى لَو حواه الْبَحْر لذ مذاقه ... وَلم يتعقب مده أبدا جزر) (وبأس غَدا يرتاع من خَوفه الردى ... وترفل فِي أذياله الفتكة الْبكر) (أَطَاعَته حَتَّى العصم فِي قنن الرِّبَا ... وهشت إِلَى تأميله الأنجم الزهر) (قصدناك يَا خير الْمُلُوك على النَّوَى ... لتنصفنا مِمَّا جنى عَبدك الدَّهْر) (كففنا بك الْأَيَّام عَن غلوائها ... وَقد رابنا مِنْهَا التعسف وَالْكبر) (وعدنا بذلك الْمجد فانصرم الردى ... ولدنَا بِذَاكَ الْعَزْم فَانْهَزَمَ الذعر) (وَلما أَتَيْنَا الْبَحْر يرهب موجه ... ذكرنَا نداك الْعُمر فاحتقر الْبَحْر) (خلافتك الْعُظْمَى وَمن لم يدن بهَا ... فإيمانه لَغْو وعرفانه نكر) (ووصفك يهدي الْمَدْح قصد صَوَابه ... إِذا ظلّ فِي أَوْصَاف من دُونك الشّعْر) (دعتك قُلُوب الْمُؤمنِينَ وأخلصت ... وَقد طَابَ مِنْهَا السِّرّ لله والجهر) (ومدت إِلَى الله الأكف ضراعة ... فَقَالَ لَهُنَّ الله قد قضى الْأَمر) (وألبسها النعمى ببيعتك الَّتِي ... لَهَا الطَّائِر الميمون والمحتد الْحر) (فَأصْبح ثغر الثغر يبسم ضَاحِكا ... وَقد كَانَ مِمَّا نابه لَيْسَ يفتر) (وَآمَنت بالسلم الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... فَلَا ظبة تعرى وَلَا روعة تعرو) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 (وَقد كَانَ مَوْلَانَا أَبوك مُصَرحًا ... بأنك فِي أَوْلَاده الْوَلَد الْبر) (وَكنت حَقِيقا بالخلافة بعده ... على الْفَوْر لَكِن كل شَيْء لَهُ قدر) (فأوحشت من دَار الْخلَافَة هَالة ... أَقَامَت زَمَانا لَا يلوح بهَا الْبَدْر) (فَرد عَلَيْك الله حَقك إِذْ قضى ... بِأَن تَشْمَل النعمى وينسدل السّتْر) (وقاد إِلَيْك الْملك رفقا بخلقه ... وَقد عدموا ركن الْإِمَامَة واضطروا) (وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ... وَأَجرا وَلَوْلَا السبك مَا عرف التبر) (وَأَنت الَّذِي يدعى إِذا دهم الردى ... وَأَنت الَّذِي يُرْجَى إِذا أخلف الْقطر) (وَأَنت إِذا جَار الزَّمَان مُحكم ... لَك النَّقْض والإبرام وَالنَّهْي وَالْأَمر) (وَهَذَا ابْن نصر قد أَتَى وجناحه ... مهيض وَمن علياك يلْتَمس الْجَبْر) (غَرِيب يرجي مِنْك مَا أَنْت أَهله ... فَإِن كنت تبغي الْفَخر قد جَاءَك الْفَخر) (ففز يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الْغدر) (وَمثلك من يرْعَى الدخيل وَمن دَعَا ... بيا لمرين جَاءَهُ الْعِزّ والنصر) (وَخذ يَا إِمَام الْحق ثاره ... فَفِي ضمن مَا تَأتي بِهِ الْعِزّ وَالْأَجْر) (وَأَنت لَهَا يَا نَاصِر الْحق فلتقم ... بِحَق فَمَا زيد يُرْجَى وَلَا عَمْرو) (فَإِن قيل مَال مَالك الدثر وافر ... وَإِن قيل جَيش عنْدك الْعَسْكَر المجر) (يكف بك العادي ويحيا بك الْهدى ... وَيَبْنِي بك الْإِسْلَام مَا هدم الْكفْر) (أعده إِلَى أوطانه عَنْك رَاضِيا ... وطوقه نعماك الَّتِي مَا لَهَا حصر) (وعاجل قُلُوب النَّاس فِيهِ بجبرها ... فقد صدهم عَنهُ التغلب والقهر) (وهم يرقبون الْفِعْل مِنْك وصفقة ... تحاولها يمناك مَا بعْدهَا خسر) (مرامك سهل لَا يؤودك كلفة ... سوى عرض مَا إِن لَهُ فِي الْعلَا خطر) (وَمَا الْعُمر إِلَّا زِينَة مستعارة ... ترد وَلَكِن الثَّنَاء هُوَ الْعُمر) (وَمن بَاعَ مَا يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح الْمَسْعَى وَقد ربح التَّجر) (وَمن دون مَا تبغيه يَا ملك الْهدى ... جِيَاد المذاكي والمحجلة الغر) (وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در) (وشهب إِذا مَا ضمرت يَوْم غَارة ... مصممة غارت بهَا الأنجم الزهر) (وَأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض وآسالها سمر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 (عَلَيْهَا من المأذي كل مفاضة ... تدافع فِي أعطافها اللجج الْخضر) (هم الْقَوْم إِن هبوا لكشف ملمة ... فَلَا الْمُلْتَقى صَعب وَلَا المرتقى وعر) (إِذا سئلوا أعْطوا وَإِن نوزعوا سطوا ... وَإِن واعدوا وفوا وَإِن عَاهَدُوا بروا) (وَإِن مدحوا اهتزوا ارتياحا كَأَنَّهُمْ ... نشاوى تمشت فِي معاطفهم خمر) (وَإِن سمعُوا العوراء فروا بأنفس ... حرَام على هاماتها فِي الوغى الفر) (وَتَبَسم مَا بَين الوشيج ثغورهم ... وَمَا بَين قضب الدوح يبتسم الزهر) (أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ... طباعي فَلَا طبع يعين وَلَا فكر) (وَلَوْلَا حنان مِنْك داركتني بِهِ ... وأحييتني لم يبْق عين وَلَا أثر) (فأوجدت مني فائتا أَي فَائت ... وأنشرت مَيتا ضم أشلاءه قبر) (بدأت بِفضل لم أكن لعظيمه ... بِأَهْل فجل اللطف وانشرح الصَّدْر) (وطوقتني النعمى المضاعفة الَّتِي ... يقبل عَلَيْهَا مني الْحَمد وَالشُّكْر) (وَأَنت بتتميم الصَّنَائِع كافل ... إِلَى أَن يعود الجاه والعز والوفر) (جَزَاك الَّذِي أَسْنَى مقامك رَحْمَة ... يفك بهَا عان وينعش مُضْطَر) (إِذا نَحن أثنينا عَلَيْك بمدحة ... فهيهات يُحْصى الرمل أَو يحصر الْقطر) (ولكننا نأتي بِمَا نستطيعه ... وَمن بذل المجهود حق لَهُ الْعذر) ثمَّ انفض الْمجْلس وَانْصَرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى منزله الْمعد لَهُ وَقد فرشت الْقُصُور وَقربت لَهُ الْجِيَاد بالمراكب المذهبة وَبعث إِلَيْهِ بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات لَهُ ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصَّنَائِع وانحفظ عَلَيْهِ رسم سُلْطَانه فِي الرَّاكِب والراجل وَلم يفقد من ألقاب ملكه إِلَّا الأداة أدبا مَعَ السُّلْطَان وَاسْتقر فِي جملَته إِلَى أَن لحق بعد بالأندلس وَعَاد لَهُ ملكه سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وأرغد السُّلْطَان أَبُو سَالم عَيْش ابْن الْخَطِيب وأفاض عَلَيْهِ الجرايات ورتب لَهُ الإقطاعات غير أَنه كَانَ مضمرا لمفارقة السُّلْطَان والتخلي عَن خدمته والانفراد بِنَفسِهِ لاغتنام مَا بَقِي من عمره فِي طَاعَة الله تَعَالَى فَكَانَ من أمره فِي ذَلِك مَا نذكرهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 سفر ابْن الْخَطِيب إِلَى مراكش وأعمالها وزيارته لأوليائها ورجالها وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله عِنْدَمَا حصلت لَهُ هَذِه النكبة وخلصه الله مِنْهَا بانتقاله إِلَى بِلَاد العدوة قد عَن لَهُ رَأْي فِي التزهد والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى واغتنام بَقِيَّة الْعُمر فِيمَا يعود نَفعه فِي العاجل والآجل ورفض السُّلْطَان وأسبابه وَترك مَا يلجئه للوقوف بِبَابِهِ فتلطف فِي اسْتِئْذَان السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله وَطلب مِنْهُ الْإِذْن فِي الذّهاب إِلَى جِهَات مراكش وَالْوُقُوف على آثَار الأقدمين بهَا والتطارح على أوليائها والمثول بأعتابها والتعلق بأذيالها والتمسك بأسبابها جاعلا ذَلِك مِفْتَاح الْعُزْلَة والتخلي عَن الدولة فَأذن لَهُ وَكتب إِلَى الْعمَّال بإتحافه والاعتناء بِهِ فتباروا فِي ذَلِك كَمَا يفصح عَنهُ بعض شعره الْآتِي وَجعل طَرِيقه على مَدِينَة سلا فَتَأمل أحوالها وَرَآهَا أوفق لمراده فِي الْعُزْلَة فأضمر الاستيطان بهَا عِنْد عوده من وجهته وَلما دخل مَدِينَة أنفى وَهِي الدَّار الْبَيْضَاء مر بهَا على دَار عَظِيمَة تنْسب إِلَى وَالِي جبايتها عبو من بني الترجمان قَارون قومه وغني صنفه وَكَانَ قد هلك قبل ذَلِك فَقَالَ ابْن الْخَطِيب (قد مَرَرْنَا بدار عبو الْوَالِي ... وَهِي ثَكْلَى تَشْكُو صروف اللَّيَالِي) (أقصدت رَبهَا الْحَوَادِث لما ... رشقته بصائبات النبال) (كَانَ بالْأَمْس واليا مستطيلا ... وَهُوَ الْيَوْم مَا لَهُ من وَالِي) وَأَظنهُ فِي هَذِه الوجهة خَاطب شيخ الْعَرَب مبارك بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة ابْن مهلهل الخلطي وَنَصّ مَا خاطبه بِهِ (ساحات دَارك للضياف مبارك ... وبضوء نَار قراك يهدي السالك) (ونوالك المبذول قد شَمل الورى ... طرا وفضلك لَيْسَ فِيهِ مشارك) (قل للَّذي قَالَ الْوُجُود قد انطوى ... والبأس لَيْسَ لَهُ حسام فاتك) (والجود لَيْسَ لَهُ غمام هاطل ... وَالْمجد لَيْسَ همام باتك) (جمع الشجَاعَة والرجاحة والندى ... والبأس والرأي الْأَصِيل مبارك) (للدّين وَالدُّنْيَا وللشيم الْعلَا ... والجود إِن شح الْغَمَام السافك) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 (عِنْد الْهياج ربيعَة بن مكدم ... وَالْفضل وَالتَّقوى الفضيل وَمَالك) (ورث الْجَلالَة عَن أَبِيه وجده ... فكأنهم مَا غَابَ مِنْهُم هَالك) (فجياده للآملين مراكب ... وخيامه للقاصدين أرائك) (فَإِذا الْمَعَالِي أَصبَحت مَمْلُوكَة ... أعناقها بِالْحَقِّ فَهُوَ الْمَالِك) (يَا فَارس الْعَرَب الَّذِي من بَيته ... حرم لَهَا حج بِهِ ومناسك) (يَا من يبشر باسمه قصاده ... فَلهم إِلَيْهِ مسارب ومسالك) (أَنْت الَّذِي استأثرت فِيك بغبطتي ... وَسوَاك فِيهِ مآخذ ومتارك) (لَا زلت نورا يَهْتَدِي بضيائه ... من جنه للروع ليل حالك) (ويخص مجدك من سلامي عاطر ... كالمسك صاك بِهِ الغوالي صائك) الْحَمد لله تَعَالَى الَّذِي جعل بَيْتك شهيرا وجعلك للْعَرَب أَمِيرا وَجعل اسْمك فالا ووجهك جمالا وقربك جاها ومالا وَآل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلا أسلم عَلَيْك يَا أَمِير الْعَرَب وَابْن أمرائها وقطب سادتها وكبرائها وأهنيك بِمَا منحك الله تَعَالَى من شهرة تبقى ومكرمة لَا يضل المتصف بهَا وَلَا يشقى إِذْ جعل خيمتك فِي هَذَا الْمغرب على اتساعه وَاخْتِلَاف أشياعه مأمنا للخائف على كَثْرَة الْمذَاهب والطوائف وَصرف الْأَلْسِنَة إِلَى مدحك وَالْخُلُود إِلَى حبك وَمَا ذَلِك إِلَّا لسريرة لَك عِنْد رَبك وَلَقَد كنت أَيَّام تجمعني وَإِيَّاك الْمجَالِس السُّلْطَانِيَّة على معرفتك متهالكا وطوع الأمل سالكا لما يلوح لي على وَجهك من سِيمَا الْمجد وَالْحيَاء والشيم الدَّالَّة على العلياء وزكاء الْأُصُول وكرم الأباء وَكَانَ وَالِدي رَحمَه الله قد عين للقاء خَال السُّلْطَان قريبكم لما توجه فِي الرسَالَة إِلَى الأندلس نَائِبا فِي تأنيسه عَن مخدومه ومنوها حَيْثُ حل بقدومه واتصلت بعد ذَلِك بَينهمَا المهاداة والمعرفة والرسائل الْمُخْتَلفَة فَعظم لأجل هَذِه الْوَسَائِل شوقي إِلَى التشرف بزيارة ذَلِك الجناب الَّذِي حُلُوله شرف وفخر ومعرفته كنز وَذخر فَلَمَّا ظهر الْآن لمحل الْأَخ الْقَائِد فلَان اللحاق بك والتعلق بسببك رَأَيْت أَنه قد اتَّصل بِهَذَا الْغَرَض المؤمل بَعْضِي وَالله تَعَالَى ييسر فِي الْبَعْض عِنْد تَقْرِير الْأَمر وهدنة الأَرْض وَهَذَا الْفَاضِل بركَة حَيْثُ حل لكَونه من بَيت أَصَالَة وَجِهَاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وماجدا وَابْن أمجاد وَمثلك لَا يوصى بِحسن جواره وَلَا يُنَبه على إيثاره وقبيلك من الْعَرَب فِي الحَدِيث وَالْقَدِيم وَهُوَ الَّذِي أوجب لَهَا مزية التَّقْدِيم لم تفتخر قطّ بِذَهَب يجمع وَلَا ذخر يرفع وَلَا قصر يبْنى وَلَا غرس يجنى إِنَّمَا فخرها عَدو يغلب وثناء يجلب وجزر تنحر وَحَدِيث يذكر وجود على الْفَاقَة وسماحة بِحَسب الطَّاقَة فَلَقَد ذهب الذَّهَب وفنى النشب وتمزقت الأثواب وَهَلَكت الْخَيل العراب وكل الَّذِي فَوق التُّرَاب تُرَاب وَبقيت المحاسن تروى وتنقل والأعراض تجلى وتصقل وَللَّه در الشَّاعِر إِذْ يَقُول (إِنَّمَا الْمَرْء حَدِيث بعده ... فَكُن حَدِيثا حسنا لمن وعى) (هَذِه مُقَدّمَة إِن يسر الله بعد لِقَاء ... الْأَمِير فيجلى اللِّسَان عَمَّا فِي الضَّمِير) (ومدحي على الْأَمْلَاك وقف وَإِنَّمَا ... رَايَتك مِنْهَا فامتدحت على وَسمي) (وَمَا كنت بالمهدي لغيرك مدحتي ... وَلَو أَنه قد حل فِي مفرق النَّجْم) وَقَالَ فِي الشَّيْخ ابْن بطان الصنهاجي صنهاجة آزمور (لله دَرك يَا ابْن بطان فَمَا ... لشهير جودك فِي البسيطة جَاحد) (إِن كَانَ فِي الدُّنْيَا كريم وَاحِد ... يزن الْجَمِيع فَأَنت ذَاك الْوَاحِد) (أجريت فضلك جعفرا يحيى بِهِ ... مَا كَانَ من مجد فذكرك خَالِد) (فالقوم مِنْك تجمعُوا فِي مُفْرد ... ولد كَمَا شَاءَ الْعَلَاء ووالد) (وَهِي اللَّيَالِي لَا تزَال صروفها ... يشقى بموقعها الْكَرِيم الْمَاجِد) (وبمستعين الله يصلح مِنْك مَا ... قد كَانَ أفْسدهُ الزَّمَان الْفَاسِد) وَقَالَ رَحمَه الله عِنْدَمَا توَسط بسيط تامسنا (كأنا بتامسنا نجوس خلالها ... وممدودها فِي سيرنا لَيْسَ يقصر) (مراكب فِي الْبَحْر الْمُحِيط تخبطت ... وَلَا جِهَة تَدْرِي وَلَا الْبر يبصر) وَقَالَ رَحمَه الله يُخَاطب أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف حفيد الْمولى الصَّالح سَيِّدي أبي مُحَمَّد صَالح النَّائِم فِي ظلّ صيته رَضِي الله عَنهُ (يَا حفيد الْوَلِيّ يَا وَارِث الْفَخر ... الَّذِي نَالَ فِي مقَام وَحَال) (لَك يَا أَحْمد بن يُوسُف جبنا ... كل قطر يعي أكف الرّحال) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وَقَالَ فِي نفاضة الجراب لما خرجت من آسفي سرت إِلَى منزل ينْسب إِلَى أبي حدو وَفِيه رجل من بني الْمَنْسُوب إِلَيْهِ اسْمه يَعْقُوب فألطف وأجزل وآنس فِي اللَّيْل وطلبني بتذكرة تثبت عِنْدِي معرفَة فَكتبت لَهُ (نزلنَا على يَعْقُوب نجل أبي حدو ... فَعرفنَا الْفضل الَّذِي مَا لَهُ حد) (وقابلنا بالبشر واحتفل الْقرى ... فَلم يبْق لحم لم ننله وَلَا زبد) (يحِق علينا أَن نقوم بِحقِّهِ ... ويلقاه منا الْبر وَالشُّكْر وَالْحَمْد) وَقَالَ رَحمَه الله وَقد انتابه البرغوث (زحفت إِلَيّ ركائب البرغوث ... نم الظلام بركبها المحثوث) (بالحبة السَّوْدَاء قَابل مقدمي ... لله أَي قرى أعد خَبِيث) (كسحت بِهن ذُبَاب سرح تجلدي ... لَيْلًا فحبل الصَّبْر جد رثيث) (إِن صابرت نَفسِي أَذَاهُ تعبدت ... أَو صحت مِنْهُ أنفت من تحنيثي) (جيشان من ليل وبرغوث فَهَل ... جَيش الصَّباح لصرختي بمغيث) وَقَالَ رَحمَه الله وَقد أشرف على الحضرة المراكشية حاطها الله تَعَالَى (مَاذَا أحدث عَن بَحر سبحت بِهِ ... من الْبحار فَلَا إِثْم وَلَا حرج) (دَعَاهُ مُبْتَدع الْأَشْيَاء مستويا ... مَا إِن بِهِ دَرك كلا وَلَا درج) (حَتَّى إِذا مَا الْمنَار الْفَرد لَاحَ لنا ... صحت أَبْشِرِي يَا مطايا جَاءَك الْفرج) (قربت من عَامر دَارا ومنزلة ... وَالشَّاهِد الْعدْل هَذَا الطّيب والأرج) وَلما وقف على مصانع مراكش وقصورها وقصبتها وَاعْتبر مَا صَار إِلَيْهِ حَالهَا بعد الْمُوَحِّدين قَالَ (بلد قد غزاه صرف اللَّيَالِي ... وأباح المصون مِنْهُ مُبِيح) (فَالَّذِي خر من بناة قَتِيل ... وَالَّذِي خر مِنْهُ بعض جريح) (وَكَأن الَّذِي يزور طَبِيب ... قد تَأتي لَهُ بهَا التشريح) (أعجمت مِنْهُ أَربع ورسوم ... كَانَ قدما بهَا اللِّسَان الفصيح) (كم معَان غَابَتْ بِتِلْكَ المغاني ... وجمال أخفاه ذَاك الضريح) (وملوك تعبدوا الدَّهْر لما ... أصبح الدَّهْر وَهُوَ عبد صَرِيح) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 2 - 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 وأصبحت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ديار الأندلس وَهِي البلاقع وَحسنت من استدعائك إيَّايَ المواقع وَقَوي الْعَزْم وَإِن لم يكن ضَعِيفا وَعرضت على نَفسِي السّفر بسببك فَأَلْفَيْته خَفِيفا والتمست الْإِذْن حَتَّى لَا نرى فِي قبْلَة السداد تحريفا واستقبلتك بصدر مشروح وزند للعزم مقدوح وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحَقّق السول ويسهل بمثوى الأمائل المثول ويهيئ من قبيل هنتاتة الْقبُول بفضله انْتهى وَلما ذهب إِلَى عَامر بن مُحَمَّد الْمَذْكُور ورقي الْجَبَل زار الْموضع الَّذِي توفّي بِهِ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله وَقد ألم بِذكر ذَلِك فِي نفاضة الجراب إِذْ قَالَ وشاهدت بجبل هنتاتة مَحل وَفَاة السُّلْطَان الْمُقَدّس أَمِير الْمُسلمين أبي الْحسن رَحمَه الله حَيْثُ أَصَابَهُ طَارق الْأَجَل الَّذِي فصل الخطة وأصمت الدعْوَة وَرفع الْمُنَازعَة وعاينته مرفعا عَن الابتذال بِالسُّكْنَى مفروشا بالحصباء مَقْصُودا بالابتهال وَالدُّعَاء فَلم أَبْرَح يَوْم زيارته أَن قلت (يَا حسنها من أَربع وديار ... أضحت لباغي الْأَمْن دَار قَرَار) (وجبال عز لَا تذل أنوفها ... إِلَّا لعز الْوَاحِد القهار) (ومقر تَوْحِيد واس خلَافَة ... آثارها تبنى عَن الْأَخْبَار) (مَا كنت أَحسب أَن أَنهَار الندى ... تجْرِي بهَا فِي جملَة الْأَنْهَار) (مَا كنت أَحسب أَن أنوار الحجا ... تلتاح فِي قنن وَفِي أَحْجَار) (مجت جوانبها البرود وَإِن تكن ... شبت بهَا الْأَعْدَاء جذوة نَار) (هدت بناها فِي سَبِيل وفائها ... فَكَأَنَّهَا صرعى بِغَيْر عقار) (لما توعدها على الْمجد العدا ... رضيت بعيث النَّار لَا بالعار) (عمرت بحلة عَامر وأعزها ... عبد الْعَزِيز بمرهف بتار) (فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والباس فِي طلق وَفِي مضمار) (ورثا عَن النّدب الْكَبِير أَبِيهِمَا ... مَحْض الْوَفَاء ورفعة الْمِقْدَار) (وَكَذَا الْفُرُوع تطول وَهِي شَبيهَة ... بِالْأَصْلِ فِي ورق وَفِي أثمار) (أزرت وُجُوه الصَّيْد من هنتاتة ... فِي جوها بمطالع الأقمار) (لله أَي قَبيلَة تركت لَهَا النظراء ... دَعْوَى الْفَخر يَوْم فخار) (نصرت أَمِير الْمُسلمين وَملكه ... قد أسلمته عزائم الْأَنْصَار) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 (وارت عليا عِنْد مَا عظم الردى ... والروع بالأسماع والأبصار) (وتخاذل الْجَيْش اللهام وَأصْبح ... الْأَبْطَال بَين تقاعد وفرار) (كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهرا مِنْهَا بعز جوَار) (وَأقَام بَين ظُهُورهَا لَا يَتَّقِي ... وَقع الردى وَقد ارتمى بشرار) (فَكَأَنَّهَا الْأَنْصَار لما أَن سمت ... فِيمَا تقدم غربَة الْمُخْتَار) (لما غَدا لحظا وهم أجفانه ... نابت شفارهم عَن الأشفار) (حَتَّى دَعَاهُ الله بَين بُيُوتهم ... فَأجَاب ممتثلا لأمر الْبَارِي) (لَو كَانَ يمْنَع من قَضَاء الله مَا ... خلصت إِلَيْهِ نوافذ الأقدار) (قد كَانَ يأمل أَن يُكَافِئ بعض مَا ... أولوه لَوْلَا قَاطع الْأَعْمَار) (مَا كَانَ يقنعه لَو امْتَدَّ المدى ... إِلَّا الْقيام بِحَقِّهَا من دَار) (فَيُعِيد ذَاك المَاء ذائب فضَّة ... وَيُعِيد ذَاك الترب ذوب نضار) (حَتَّى تفوز على النَّوَى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار) (حَتَّى يلوح على وُجُوه وُجُوههم ... أثر الْعِنَايَة سَاطِع الْأَنْوَار) (ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير مَا ثنيا وَلَا استعصار) (مَا كَانَ يرضى الشَّمْس أَو بدر الدجا ... عَن دِرْهَم فيهم وَلَا دِينَار) (أَو أَن يتوج أَو يُقَلّد هامها ... ونحورها بأهلة ودراري) (حق على الْمولى ابْنه إِيثَار مَا ... بذلوه من نصر وَمن إِيثَار) (فلمثلها ذخر الْجَزَاء وَمثله ... من لَا يضيع صنائع الْأَحْرَار) (وَهُوَ الَّذِي يقْضِي الدُّيُون وبره ... يرضيه فِي علن وَفِي أسرار) (حَتَّى تحج محلّة رفعوا بهَا ... علم الْوَفَاء لأعين النظار) (فَيصير مِنْهَا الْبَيْت بَيْتا ثَانِيًا ... للطائفين إِلَيْهِ أَي بدار) (تغني قُلُوب الْقَوْم عَن هدى بِهِ ... ودموعهم تَكْفِي لرمي جمار) (حييت من دَار تكفل سعيها الْمَحْمُود ... بالزلفى وعقبى الدَّار) (وضفت عَلَيْك من الْإِلَه عناية ... مَا كرّ ليل فِيك أثر نَهَار) وَيَعْنِي بالمولى ابْنه السُّلْطَان أَبَا سَالم بن أبي الْحسن ثمَّ سَار ابْن الْخَطِيب إِلَى أغمات فزار مشاهدها وَشَاهد معاهدها فَحكى عَن نَفسه رَحمَه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 قَالَ وقفت على قبر الْمُعْتَمد بن عباد فِي مَدِينَة أغمات فِي حَرَكَة أعملتها إِلَى الْجِهَات المراكشية باعثها لِقَاء الصَّالِحين ومشاهدة الْآثَار سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَهُوَ بمقبرة أغمات فِي نشز من الأَرْض وَقد حفت بِهِ سِدْرَة وَإِلَى جنبه قبر اعْتِمَاد حظيته مولاة رميك وَعَلَيْهِمَا أثر التغرب ومعاناة الخمول من بعد الْملك فَلم تملك الْعين دمعها عِنْد رُؤْيَتهمَا فأنشدت فِي الْحَال (قد زرت قبرك عَن طوع بأغمات ... رَأَيْت ذَلِك من أولى الْمُهِمَّات) (لم لَا أزورك يَا أندى الْمُلُوك يدا ... وَيَا سراج اللَّيَالِي المدلهمات) (وَأَنت من لَو تخطى الدَّهْر مصرعه ... إِلَى حَياتِي لجادت فِيهِ أَبْيَات) (أناف قبرك من هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التَّحِيَّات) (كرمت حَيا وَمَيتًا واشتهرت علا ... فَأَنت سُلْطَان أَحيَاء وأموات) (مارئي مثلك فِي مَاض ومعتقدي ... أَلا يرى الدَّهْر فِي حَال وَلَا آتٍ) وَلما انكفأ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله رَاجعا من سفرته هَذِه وانْتهى إِلَى سلا أَقَامَ بهَا منتبذا عَن سُلْطَانه رافضا للْملك وأسبابه طول مقَامه بالمغرب على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله بَقِيَّة أَخْبَار ابْن الْخَطِيب بسلا حرسها الله قد قدمنَا أَن ابْن الْخَطِيب كَانَ قد عزم على التخلي عَن الدُّنْيَا والانقطاع إِلَى الله تَعَالَى وَأَنه اخْتَار أَن يكون مقَامه بسلا لكَونهَا يَوْمئِذٍ أعون لَهُ على مُرَاده من غَيرهَا حَسْبَمَا يُؤْخَذ ذَلِك من مَوَاضِع من كَلَامه من ذَلِك أَنه لما وصف أَمْصَار الأندلس وَالْمغْرب فِي مقاماته الْمَشْهُورَة وصف مَدِينَة سلا بقوله العقيلة المفضله والبطيحة المخضله وَالْقَاعِدَة المؤصله وَالسورَة المفصله ذَات الوسامة والنضارة والجامعة بَين البداوة والحضارة مَعْدن الْقطن وَالْكتاب والمدرسة والمارستان والزاوية كَأَنَّهَا الْبُسْتَان والوادي المتعدد الأجفان الْقطر الْأمين عِنْد الرجفان والعصير الْعَظِيم الشَّأْن والأسواق السارة حَتَّى برقيق الحبشان اكتنفها المسرح وَالْخصب الَّذِي لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 يبرح وَالْبَحْر الَّذِي يأسو ويجرح وشقها الْوَادي الَّذِي يتمم محاسنها ويشرح وقابلها الرِّبَاط الَّذِي ظهر بِهِ من الْمَنْصُور الِاغْتِبَاط حَيْثُ القصبة والساباط ثمَّ يَقع الانحطاط إِلَى شالة مرعى الذمم ونتيجة الهمم ومشمخ الأنوف ذَوَات الشمم وعنوان الرمم حَيْثُ الْحَسَنَات المكتتبة والأوقاف الْمرتبَة والقباب كالأزهار مجودة بِذكر الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وطلل حسان الْمثل فِي الاشتهار وَهِي على الْجُمْلَة من غَيرهَا أوفق ومغارمها لاحترام الْمُلُوك الْكِرَام أرْفق ومقبرتها المنضدة عجب فِي الانتظام مَعْدُودَة فِي المواقف الْعِظَام ويتأتى بهَا للعباد الْخلْوَة وتوجد عِنْدهَا للهموم السلوة كَمَا قَالَ ابْن الْخَطِيب (وصلت حثيث السّير فِيمَن فلى الفلا ... فَلَا خاطري لما نأى وانجلا انجلا) (وَلَا نسخت كربي بقلبي سلوة ... فَلَمَّا سوى فِيهِ نسيم سلا سلا) وَكفى بالشابل رزقا طريا وسمكا بالتفضيل حريا يبرز عدد قطر الديم وَيُبَاع ببخس الْقيم ويعم المجاشر النائية والخيم أه وَمَا قَالَه فِي حق سلا من كَونهَا تتأتى بهَا للعباد الْخلْوَة هُوَ كَذَلِك مَعْرُوف عِنْد صلحاء الْمغرب وعباده من لدن قديم وَلذَا لما قدم أَبُو الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ من الأندلس وتنقل فِي بِلَاد الْمغرب مثل فاس ومكناسة لم يطب لَهُ الْقَرار إِلَّا بسلا وَقد صرح رَضِي الله عَنهُ بذلك حَيْثُ قَالَ (سلا كل قلب غير قلبِي مَا سلا ... أيسلو بفاس والأحبة فِي سلا) (بهَا خيموا فالقلب خيم عِنْدهم ... فأجروا دموعي مُرْسلا ومسلسلا) وَلما ذكر أَبُو الْعَبَّاس الصومعي رَحمَه الله فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ اسْتِحْبَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء قَالَ مَا نَصه وَلَا سِيمَا فِي مشَاهد الأخيار إِذا اجْتَمعُوا فِي مَكَان من الْأَمْكِنَة المشرفة كَمَا كَانُوا يَجْتَمعُونَ قبل هَذَا برباط شَاكر وبساحل دكالة وبسلا وبجبل الْعلم وَعند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 الشَّيْخ أبي يعزى فِي أَيَّام الرّبيع وَغير ذَلِك أه وَأَقُول على ذكر سلا فقد كتب إِلَيّ وَأَنا بمراكش حرسها الله الْأَخ فِي الله الْفَقِيه الأديب المحاضر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عزوز الرباطي أصلا المراكشي دَارا بطاقة يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله وَحده السَّيِّد الْأَخ الَّذِي ثوب إخائه مَا اتسخ الْفَقِيه الْعَلامَة اللابس من أسلحة الْعُلُوم الدرْع واللامة أَبَا الْعَبَّاس السَّيِّد أَحْمد الناصري سَلام عَلَيْك سَلاما ذكي الْعرف رائج الصّرْف وَبعد فقد اشتقنا إِلَى لذيذ مذكراتكم وحلو فكاهتكم والآن نحب من السِّيَادَة أَن تشرفونا بِنَقْل قدمكم وتكرمونا بطلعتكم السعيدة بكرَة غَد إِن شَاءَ الله وعَلى الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي فاتح رَجَب الْفَرد سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَألْحق بأسفلها مَا نَصه (سلا الْبَحْر مَا بَحر بنيت بشطه ... كبحر عُلُوم فِيك أنشئ صَالحا) (فَهَذَا هُوَ الْفَيَّاض بِالْعلمِ والتقى ... وَذَاكَ هُوَ الْفَيَّاض بِالْمَاءِ مالحا) وَلم ندر هَل البيتان لَهُ أَو تمثل بهما وعَلى كل حَال فَمَا قَالَه حفظه الله إِنَّمَا حمله عَلَيْهِ حسن نِيَّته وصفاء طويته وَأما الْمَكْتُوب إِلَيْهِ بهما فَلَا وَالله لَا علم وَلَا تقى إِلَّا أَن يتغمدنا الله برحمته ثمَّ إِنِّي أَجَبْته بنثر تركته للاختصار ووصلته بِأَبْيَات أَقُول فِيهَا مَا نَصه (بعثت أَبَا عبد الْإِلَه مدائحا ... هُوَ الدّرّ حسنا والشذور لوائحا) (فنبهت فكرا طالما بَات نَائِما ... وروضت ذهنا طالما ظلّ جامحا) (وشيدت من ذكري وَقد كَانَ خاملا ... وهيجت من قلبِي الشجي القرائحا) (وطوقتني النعمى بتقريضك الَّذِي ... بِهِ ظلّ مجدي للنجوم مصافحا) (وَإِلَّا فَمَا قدري وَإِن جد جده ... وَمَا قيمتي لَو لم تكن لي مادحا) (فَأَنت أديب الْعَصْر حَقًا وَمن غذا ... لعمري لأبواب المعارف فاتحا) (فَخذ من أَخِيك العي واستر عيوبه ... وسامح فظني أَن تكون مسامحا) (فوصفك يعيي كل أشدق بارع ... وَلَو ظلّ فِي بَحر البلاغة سابحا) (فَلَقِيت من ذِي الْعَرْش كل كَرَامَة ... ووقيت من هَذَا الزَّمَان الطوائحا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 4 - (وَلَا زَالَ هَذَا الدَّهْر طوعك خَادِمًا ... علاك وطرف السعد نَحْوك طامحا) وَمِمَّا مدح بِهِ سلا وَأَهْلهَا قَول الإِمَام الْعَلامَة الْهمام أبي عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي رَضِي الله عَنهُ (مرسى سلا مأوى الشمم ... وَالْمجد عَن طول الْأُمَم) (بلد بحسبك منظر مِنْهُ ومخبره أتم ... مسري الهموم ومسرح الْأَبْصَار مسلاة الغمم) (مترفلا فِي حلَّة من حسنه جنب الْعلم ... كَالْحرَّةِ الْحَسْنَاء فِي كنف الْهمام الْمُحْتَرَم) (وتراه من جناته متلألئا بَين الأجم ... كالدر بَين زمرد فِي قرط مَارِيَة انتظم) (وكوجه خود حفه السوالف فِي دلم ... {وكغرة فِي أدهم وَالصُّبْح فِي حنج الإحم) (والثغر من زنجية ترنو إِلَيْهِ وَقد بِسم ... والبدر مَا بَين الدجى والشيب فِي سود اللمم) (يَعْلُو فويق جنبه علم تدلى من أُمَم ... فَكَأَنَّهُ تَاج اللجين على جبيني ذِي عظم) (أَو كالكبير مزملا أودى بنهضته الْهَرم ... فِي رَأسه صلع وَفِيمَا تَحت جَبهته غمم) (أَو كالجواد بِأَنْفِهِ من ذَلِك الْقصر الرثم ... يَكْفِيك مِنْهُ هواؤه لَا خبث فِيهِ وَلَا وخم) (عجبا صَحِيح والهوى أبدا عليل ذُو سقم ... وزلاله العذب الَّذِي يشفي الْفُؤَاد من الضرم) (حاكى الْعقار وفاقها بصفاء لون الشيم ... أَبنَاء مجد فِي الألى كَانُوا يراعون الذمم) (من نبلهم دون العويص ونبلهم خلف الْحرم ... ونفيسهم فقع الفلا ونفوسهم بيض الرخم) (من كل أَبيض وَجهه تجلى بِهِ سدف الظُّلم ... فِي الْخطب بدر لامع ولدى الندى بَحر خضم) (وأحبة كَانُوا لنا كَالْمَاءِ بِالرَّاحِ التأم ... لم يعد بَين بَيْننَا وَلَو الْفِرَاق بِنَا ألم) (الْبَين بَين جسومنا لَا بَين أَنْفُسنَا يحم ... والعهد حَبل مَا انفصا عَنهُ الوداد وَلَا انفصم) (والصدق نهج قد علا فِي كل أوجهه علم ... وَالْبر مرعاة قرى من فِيهِ للحسنى قرم) (وَالنَّفس أَرض قد كرا الْمعِين ذَوُو الْكَرم ... وَالدّين روض قد رعى فِيهِ من العقبى رعم) (وَالْعلم ورد مَا حلا إِلَّا لمن نزع الْحلم ... والسر برق مَا أضا إِلَّا لمن غسل الإضم) (والدهر دولاب شما فِيهِ سوى أهل الشمم ... من ذاق مورده الصري يَوْمًا فللدنيا صرم) ولنرجع إِلَى بَقِيَّة أَخْبَار ابْن الْخَطِيب وَلما اسْتَقر بسلا وَاطْمَأَنَّ جنبه بهَا قَالَ (يَا أهل هَذَا الْقطر ساعده الْقطر ... بليت فدلوني لمن يرفع الْأَمر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 (تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطا ... وَفِي شغلي أَو نومتي سرق الْعُمر) ثمَّ حرص على لِقَاء الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى ظفر بِهِ فَعظم سروره بذلك وتبجح بِهِ إِذْ قَالَ فِي نفاضة الجراب وَلَقِيت من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى بسلا الْوَلِيّ الزَّاهِد الْكَبِير الْمُنْقَطع القرين فِرَارًا عَن زهرَة الدُّنْيَا وعزوفا عَنْهَا وإغراقا فِي الْوَرع وشهرة بالكشف وَإجَابَة الدعْوَة وَظُهُور الكرامات أَبَا الْعَبَّاس بن عَاشر يسر الله تَعَالَى لقاءه على تعذره لصعوبة تَأتيه وكثافة هيبته قَاعِدا بَين الْقُبُور فِي الْخَلَاء رث الهيثة مطرق اللحظ كثير الصمت مفرط الانقباض وَالْعُزْلَة قد ضرسه أهل الدُّنْيَا وتطارحهم فَهُوَ شَدِيد الاشمئزاز من قاصده مجرمز للوثبة من طارقه نفع الله تَعَالَى بِهِ أه كَلَامه فِي النفاضة وَقَالَ رَحمَه الله من قصيدته العينية السلاوية الَّتِي وَجههَا إِلَى سلا أَيَّام خلف بهَا أَهله وَولده (بولِي الله فابدأ وابتدر ... وَاحِدًا الأحاد فِي بَاب الْوَرع) وَمرَاده بولِي الله ابْن عَاشر الْمَذْكُور ثمَّ إِن ابْن الْخَطِيب بعد رُجُوعه من مراكش جعل ينتاب رِبَاط شالة مدفن الْمُلُوك من بني مرين وَمِنْهُم السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله للدُّعَاء وَقِرَاءَة الْقُرْآن بهَا وتعاهدها وَقد كتب بذلك إِلَى السُّلْطَان أبي سَالم وَطلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد أهل الأندلس فِي رد مَتَاعه الَّذِي أتلفوه عَلَيْهِ أَيَّام النكبة وَنَصّ الْكتاب مولَايَ المرجو لإتمام الصنيعة وصلَة النِّعْمَة وإحراز الْفَخر أبقاكم الله تَعَالَى تضرب بكم الْأَمْثَال فِي الْبر وَالرِّضَا وعلو الهمة ورعي الْوَسِيلَة مقبل موطئ قدمكم الْمُنْقَطع إِلَى تربة الْمولى والدكم ابْن الْخَطِيب من الضريح الْمُقَدّس بشالة وَقد حط رَحل الرَّجَاء فِي الْقبَّة المقدسة وَتيَمّم بالتربة الزكية وَقعد بِإِزَاءِ لحد الْمولى أبيكم سَاعَة إيابه من الوجهة الْمُبَارَكَة وزيارة الرَّبْط الْمَقْصُودَة والترب المعظمة وَقد عزم أَن لَا يبرح طَوْعًا من هَذَا الْجوَار الْكَرِيم والدخيل المرعى حَتَّى يصله من مقامكم مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 يُنَاسب هَذَا التطارح على قبر هَذَا الْمولى الْعَزِيز على أهل الأَرْض ثمَّ عَلَيْكُم والتماس شَفَاعَته فِي أَمر سهل عَلَيْكُم لَا يجر إنفاد مَال وَلَا اقتحام خطر إِنَّمَا هُوَ إِعْمَال لِسَان وَخط بنان وَصرف عزم وإحراز فَخر وإطابة ذكر وَأجر وَذَلِكَ أَن العَبْد عرفكم يَوْم وداعكم أَنه ينْقل عَنْكُم إِلَى الْمولى الْمُقَدّس بِلِسَان الْمقَال مَا يحضر مِمَّا يفتح الله تَعَالَى فِيهِ ثمَّ ينْقل عَنهُ لكم بِلِسَان الْحَال مَا يتلَقَّى عَنهُ من الْجَواب وَقَالَ لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة الْمولى والدكم سَيِّدي الْخَطِيب يَعْنِي ابْن مَرْزُوق سنى الله تَعَالَى أمله من سَعَادَة مقامكم وَطول عمركم أَنْت يَا فلَان وَالْحَمْد لله مِمَّن لَا يُنكر عَلَيْهِ الْوَفَاء بِهَذَيْنِ الفرضين وَصدر عَنْكُم من الْبشر وَالْقَبُول والإنعام مَا صدر جزاكم الله تَعَالَى جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وَقد تقدم تَعْرِيف مولَايَ بِمَا كَانَ من قيام العَبْد بِمَا نَقله إِلَى التربة الزكية عَنْكُم حَسْبَمَا أَدَّاهُ من حضر ذَلِك المشهد من خدامكم وَالْعَبْد الْآن يعرض عَلَيْكُم الْجَواب وَهُوَ أَنِّي لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الْمَلأ الْكَبِير والجم الْغَفِير أكببت على اللَّحْد الْكَرِيم دَاعيا ومخاطبا وأصغيت بإذني نَحْو قَبره وَجعل فُؤَادِي يتلَقَّى مَا يوحيه إِلَيْهِ لِسَان حَاله فَكَأَنِّي بِهِ يَقُول لي قل لمولاك يَا وَلَدي وقرة عَيْني الْمَخْصُوص برضاي وبري وَستر حريمي ورد ملكي وصان أَهلِي وَأكْرم صنائعي وَوصل عَمَلي أسلم عَلَيْك وأسأل الله تَعَالَى أَن يرضى عَنْك وَيقبل عَلَيْك الدُّنْيَا دَار غرور {وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} وَمَا النَّاس إِلَّا هَالك وَابْن هَالك وَلَا تَجِد إِلَّا مَا قدمت من عمل يَقْتَضِي الْعَفو وَالْمَغْفِرَة أَو ثَنَاء يجلب الدُّعَاء بِالرَّحْمَةِ وَمثلك من ذكر فَتذكر وَعرف فَمَا أنكر وَهَذَا ابْن الْخَطِيب قد وقف على قَبْرِي وتهمم بِي وَسبق النَّاس إِلَى رثائي وأنشدني ومجدني وَبكى لي ودعا لي وَهَنأَنِي بمصير أَمْرِي إِلَيْك وعفر وَجهه فِي تربتي وأملني لما انْقَطَعت مني آمال النَّاس فَلَو كنت يَا وَلَدي حَيا لما وسعني أَن أعمل مَعَه إِلَّا مَا يَلِيق بِي وَأَن أستقل فِيهِ الْكثير وأحتقرن الْعَظِيم لَكِن لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 عجزت عَن جَزَائِهِ وكلته إِلَيْك وأحلته يَا حبيب قلبِي عَلَيْك وَقد أَخْبرنِي أَنه سليب المَال كثير الْعِيَال ضَعِيف الْجِسْم قد ظهر فِي عدم نشاطه أثر السن وأمل أَن يَنْقَطِع بِجوَارِي ويستتر بدخيلي وخدمتي وَيرد عَلَيْهِ حَقه بخدمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعبد الله تَعَالَى تَحت حرمتك وحرمتي وَقد كنت تشوفت إِلَى استخدامه فِي الْحَيَاة حَسْبَمَا يُعلمهُ حبيبنا الْخَاص الْمحبَّة وَخَطِيبِنَا الْعَظِيم المزية الْقَدِيم الْقرْبَة أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فَاسْأَلْهُ يذكرك واستخبره يُخْبِرك فَأَنا الْيَوْم أُرِيد أَن يكون هَذَا الرجل خديمي بعد الْمَمَات إِلَى أَن نلحق جَمِيعًا برضوان الله تَعَالَى وَرَحمته الَّتِي وسعت كل شَيْء وَله يَا وَلَدي ولد نجيب يخْدم ببابك وينوب عَنهُ فِي مُلَازمَة بَيت كتابك وَقد اسْتَقر ببابك قراره وَتعين بِأَمْرك مرتبه ودثاره فَيكون الشَّيْخ خديم الشَّيْخ والشاب خديم الشَّاب هَذِه رغبتي مِنْك وحاجتي إِلَيْك وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث لَا بُد أَن يذكر ويتحدث فِي الدُّنْيَا وَبَين أَيدي الْمُلُوك والكبراء فاعمل مَا يبْقى لَك فخره ويتخلد ذكره وَقد أَقَامَ مجاورا ضريحي تاليا كتاب الله تَعَالَى على منتظرا مَا يصله مِنْك ويقرأه على من السَّعْي فِي خلاص مَاله والاحتجاج بِهَذِهِ الْوَسِيلَة فِي جبره وإجراء مَا يَلِيق بك من الْحُرْمَة والكرامة وَالنعْمَة فَالله الله يَا إِبْرَاهِيم اعْمَلْ مَا يسمع عني وعنك فِيهِ ولسان الْحَال أبلغ من لِسَان الْمقَال أه وَالْعَبْد يَا مولَايَ مُقيم تَحت حرمته وَحُرْمَة سلفه منتظر مِنْكُم قَضَاء حَاجته ولتعلموا وتتحقوا أنني لَو ارتكبت الجرائم ورزأت الْأَمْوَال وسفكت الدِّمَاء وَأخذت خسائف الْمُلُوك الأعزة مِمَّن وَرَاء النَّهر من التتار وَخلف الْبَحْر من الرّوم ووراء الصَّحرَاء من الْحَبَشَة وأمكنهم الله تَعَالَى مني من غير عهد بعد أَن بَلغهُمْ تذلمي بِهَذَا الدخيل ومقامي بَين هَذِه الْقُبُور الْكَرِيمَة مَا وسع أحد مِنْهُم من حَيْثُ الْحيَاء والحشمة من الْأَحْيَاء والأموات وَإِيجَاب الْحُقُوق الَّتِي لَا يغفلها الْكِبَار للكبار إِلَّا الْجُود الَّذِي لَا يتعقبه الْبُخْل وَالْعَفو الَّذِي لَا تفسده الْمُؤَاخَذَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 فضلا عَن سُلْطَان الأندلس أسعده الله تَعَالَى وَعلا بموالاتكم فَهُوَ فَاضل وَابْن مُلُوك أفاضل وَحَوله أكياس مَا فيهم من يجهل قدركم وَقدر سلفكم لَا سِيمَا مولَايَ والدكم الَّذِي أتوسل بِهِ إِلَيْكُم وإليهم فقد كَانَ يتبنى مولَايَ أَبَا الْحجَّاج ويشمله بنظره وصارخه بِنَفسِهِ وأمده بأمواله ثمَّ صير الله تَعَالَى ملكه إِلَيْكُم وَأَنْتُم من أَنْتُم ذاتا وقبيلا فقد قرت يَا مولَايَ عين العَبْد بِمَا رَأَتْ فِي هَذَا الوطن المراكشي من وفور حشودكم وَكَثْرَة جنودكم وترادف أَمْوَالكُم وعددكم زادكم الله تَعَالَى من فَضله وَلَا شكّ عِنْد عَاقل أَنكُمْ إِن انْحَلَّت عُرْوَة تأميلكم وأعرضت عَن ذَلِك الوطن الأندلسي اسْتَوَت عَلَيْهِ يَد عدوه وَقد علم تطارحي بَين الْمُلُوك الْكِرَام الَّذين خضعت لَهُم التيجان وتعلقي بِثَوْب الْملك الصَّالح وَالِد الْمُلُوك الْكِرَام مولَايَ والدكم وشهرة حُرْمَة شالة مَعْرُوفَة حاش الله أَن يضيعها أهل الأندلس وَمَا توسل إِلَيْهِم قطّ بهَا إِلَّا الْآن وَمَا يجهلون اغتنام هَذِه الْفَضِيلَة الغريبة وأملي مِنْكُم أَن يتَعَيَّن من بَين يديكم خديم بِكِتَاب كريم يتَضَمَّن الشَّفَاعَة فِي رد مَا أَخذ لي ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر مَا ألزمتكم بِسَبَب هَذَا الترامي من الضَّرُورَة المهمة والوظيفة الْكَبِيرَة عَلَيْكُم وعَلى قبيلكم حَيْثُ كَانُوا وتطلبون مِنْهُ عَادَة المكارمة بِحل هَذِه الْعقْدَة وَمن الْمَعْلُوم أَنِّي لَو طلبت بِهَذِهِ الْوَسَائِل من صلب مَا وسعهم بِالنّظرِ الْعقلِيّ إِلَّا حفظ الْوَجْه مَعَ هَذَا الْقَبِيل وَهَذَا الوطن فالحياء والحشمة يأبيان الْعذر عَن هَذَا فِي كل مِلَّة ونحلة وَإِذا تمّ هَذَا الْغَرَض وَلَا شكّ فِي إِتْمَامه بِاللَّه تَعَالَى تقع صدقتكم على الْقَبْر الْكَرِيم بِي وتعينوني لخدمة هَذَا الْمولى وزيارته وتفقده ومدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة المولد فِي جواره وَبَين يَدَيْهِ وَهُوَ غَرِيب مُنَاسِب لبركم بِهِ إِلَى أَن أحج بَيت الله بعناية مقامكم وأعود دَاعيا مثنيا مستدعيا للشكر وَالثنَاء من أهل الْمشرق وَالْمغْرب وأتعوض من ذِمَّتِي بالأندلس ذمَّة بِهَذَا الرِّبَاط الْمُبَارك يَرِثهَا ذريتي وَقد ساومت فِي شَيْء من ذَلِك منتظرا ثمنه مِمَّا يُبَاع بالأندلس بشفاعتكم وَلَو ظَنَنْت أَنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 يتوقفون لكم فِي مثل هَذَا أَو يتَوَقَّع فِيهِ وَحْشَة أَو جفَاء وَالله مَا طلبته لكِنهمْ أسرى وَأفضل وانقطاعي أَيْضا لوالدكم مِمَّا لَا يسع مجدكم إِلَّا عمل مَا يَلِيق بكم فِيهِ وَهَا أَنا أترقب جوابكم بِمَا لي عنْدكُمْ من الْقبُول ويسعني مجدكم فِي الطّلب وَخُرُوج الرَّسُول لاقْتِضَاء هَذَا الْغَرَض وَالله سُبْحَانَهُ يطلع من مولَايَ على مَا يَلِيق بِهِ وَالسَّلَام وَكتب فِي الْحَادِي عشر من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَفِي مدرج الْكتاب بعد نثر هَذِه القصيدة (مولَايَ هَا أَنا فِي جوَار أبيكا ... فابذل من الْبر الْمُقدر فيكا) (أسمعهُ مَا يرضيه من تَحت الثرى ... وَالله يسمعك الَّذِي يرضيكا) (وَاجعَل رِضَاهُ إِذا نهدت كَتِيبَة ... تهدي إِلَيْك النَّصْر أَو تهديكا) (واجبر بجبري قلبه تنَلْ المنا ... وتطالع الْفَتْح الْمُبين وشيكا) (فَهُوَ الَّذِي سنّ البرور بِأُمِّهِ ... وَأَبِيهِ فاشرع شَرعه لبنيكا) (وَابعث رَسُولك منذرا ومحذرا ... وَبِمَا تؤمل نيله يأتيكا) (قد هز عزمك كل قطر نازح ... وأخاف مَمْلُوكا بِهِ ومليكا) (فَإِذا سموت إِلَى مرام شاسع ... فغصونه ثَمَر المنا تجنيكا) (ضمنت رجال الله مِنْك مطالبي ... لما جعلتك فِي الثَّوَاب شَرِيكا) (فلئن كفيت وجوهها فِي مقصدي ... ورعيتها بركاتها تكفيكا) (وَإِذا قضيت حوائجي وأريتني ... أملا فربك مَا أردْت يريكا) (وَاشْدُدْ على قولي يدا فَهُوَ الَّذِي ... برهانه لَا يقبل التشكيكا) (مولَايَ مَا استأثرت عَنْك بمهجتي ... إِنِّي ومهجتي الَّتِي تفديكا) (لَكِن رَأَيْت جناب شالة مغنما ... يضفي على الْعِزّ فِي ناديكا) (وفروض حَقك لَا تفوت فوقتها ... بَاقٍ إِذا استجزيته يجزيكا) (ووعدتني وتكرر الْوَعْد الَّذِي ... أَبَت المكارم أَن يكون أفيكا) (أضفى عَلَيْك الله ستر عناية ... من كل مَحْذُور الطَّرِيق يقيكا) (ببقائك الدُّنْيَا تحاط وَأَهْلهَا ... فَالله جلّ جَلَاله يبقيكا) وَقَالَ أَيْضا فِي الْغَرَض الْمَذْكُور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 (عَن بَاب والدك الرضي لَا أَبْرَح ... يأسو الزَّمَان لأجل ذَا أَو يجرح) (ضربت خيامي فِي حماه فصبيتي ... تجني الْحَمِيم بِهِ وبهمي بشرح) (حَتَّى يُرَاعِي وَجهه فِي وجهتي ... بعناية تشفي الصُّدُور وتشرح) (أيسوغ عَن مثواه سيري خائبا ... ومنابر الدُّنْيَا بذكرك تصدح) (أَنا فِي حماه وَأَنت أبْصر بِالَّذِي ... يرضيه مِنْك فوزن عقلك أرجح) (فِي مثلهَا سيف الحمية ينتضى ... فِي مثلهَا زند الحفيظة يقْدَح) (وَعَسَى الَّذِي بَدَأَ الْجَمِيل يُعِيدهُ ... وَعَسَى الَّذِي سدا الْمذَاهب يفتح) فَأَجَابَهُ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله بِمَا صورته من عبد الله المستعين بِاللَّه إِبْرَاهِيم أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين أبي الْحسن ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين أبي سعيد ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق أيد الله أمره وأعز نَصره إِلَى الشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأحظى الْأَوْجه الأنوه الصَّدْر الأحفل المُصَنّف البليغ الأعرف الْأَكْمَل أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْأَجَل الْأَعَز الْأَسْنَى الْوَزير الأرفع الأنجد الْأَصِيل الْأَكْمَل المرحوم المبرور أبي مُحَمَّد بن الْخَطِيب وصل الله عزته ووالى رفعته سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله تَعَالَى وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالرِّضَا على آله وَصَحبه أَعْلَام الْإِسْلَام وأئمة الرشد وَالْهدى وصلَة الدُّعَاء لهَذَا الْأَمر الْعلي الْعَزِيز الْمَنْصُور المستعيني بالنصر الْأَعَز وَالْفَتْح الْأَسْنَى فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم بُلُوغ الْأَمر ونجح القَوْل وَالْعَمَل من منزلنا الأسعد بضفة وَادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل وَمِنْه جزيل وَالْحَمْد لله وَلكم عندنَا المكانة الْوَاضِحَة الدَّلَائِل والعناية المتكفلة برعي الْوَسَائِل ذَلِك بِمَا تميزتم بِهِ من التَّمَسُّك بالجناب الْعلي المولوي الْعلوِي جدد الله تَعَالَى عَلَيْهِ ملابس غفرانه وسقاه غيوث رَحمته وحنانه وَبِمَا أهديتم إِلَيْنَا من التَّقَرُّب لدينا بِخِدْمَة ثراه الطَّاهِر والاشتمال بمطارف حرمته السامية الْمظَاهر وَإِلَى هَذَا وصل الله حظوتكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 ووالى رفعتكم فَإِنَّهُ ورد علينا خطابكم الْحسن عندنَا قَصده الْمُقَابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على مَا نَصه واستوفينا مَا شَرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم فِي التوسل بأكبر الْوَسَائِل إِلَيْنَا ورعينا أكمل الرِّعَايَة حق ذَلِكُم الجناب الْعَزِيز علينا وَفِي الْحِين عينا لكَمَال مطلبكم وَتَمام مأربكم والتوجه بخطابنا فِي حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أَبَا الْبَقَاء بن تاشكورت وَأَبا زَكَرِيَّاء بن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تَارِيخه انفصلا مودعين إِلَى الْغَرَض الْمَعْلُوم بعد التَّأْكِيد عَلَيْهِمَا فِيهِ وَشرح الْعَمَل الَّذِي يُوفيه فكونوا على علم من ذَلِكُم وابسطوا لَهُ جملَة آمالكم وَإِنَّا لنَرْجُو ثَوَاب الله فِي جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم وَالله سُبْحَانَهُ يصل مبرتكم ويتولى تكرمتكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته كتب فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ فَرَاجعه ابْن الْخَطِيب بِمَا نَصه مولَايَ خَليفَة الله بِحَق وكبير مُلُوك الأَرْض عَن حجَّة ومعدن الشَّفَقَة وَالْحكمَة ببرهان وَحِكْمَة أبقاكم الله تَعَالَى على الدرجَة فِي المنعمين وافري الْحَظ عِنْد جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وأراكم ثَمَرَة بر أبيكم فِي الْبَنِينَ وصنع لكم فِي عَدوكُمْ الصنع الَّذِي لَا يقف عِنْد مُعْتَاد وأذاق الْعَذَاب الْأَلِيم من أَرَادَ فِي مثابتكم بإلحاد عبدكم الَّذِي ملكتم رقّه وآويتم غربته وسترتم أَهله وَولده وأسنيتم رزقه وجبرتم قلبه وَيقبل موطئ الأخمص الْكَرِيم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بِفضل الله تَعَالَى لموقف النَّصْر الفارغة هضبة الْعِزّ المعملة الخطوة فِي مجَال السعد ومسير الْحَظ ابْن الْخَطِيب من شالة الَّتِي تَأَكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيتكم عهدها واستبشر بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وَقد ورد على العَبْد الْجَواب المولوي الْبر الرَّحِيم الْمُنعم المحسن بِمَا يَلِيق بِالْملكِ الْأَصِيل وَالْقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الْأَب الْكَرِيم فَثَابَ الرَّجَاء وانبعث الأمل وَقَوي الْعَضُد وزار اللطف فَالْحَمْد لله الَّذِي أجْرى الْخَيْر على يدكم الْكَرِيمَة وأعانكم على رعي ذمام الصَّالِحين المتوسل إِلَيْكُم أَولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 أجداثهم ثمَّ بِقَبْر مولَايَ ومولاكم وَمولى الْخلق أَجْمَعِينَ الَّذِي تسبب فِي وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بِلُطْفِهِ وحنانه وعلمكم آدَاب الشَّرِيعَة وأورثكم ملك الدُّنْيَا وهيأتكم دَعْوَاهُ بالاستقامة إِلَى ملك الْآخِرَة بعد طول المدى وانفساخ الْبَقَاء وَفِي علومكم المقدسة مَا تَضَمَّنت الحكايات عَن الْعَرَب من النُّصْرَة عَن طَائِر داست أفراخه نَاقَة فِي جوَار رَئِيس مِنْهُم وَمَا انْتهى إِلَيْهِ الامتعاض لذَلِك مِمَّا أهينت فِيهِ الْأَنْفس وَهَلَكت الْأَمْوَال وقصارى من امتعض لذَلِك أَن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فَمَا الظَّن بكم وَأَنْتُم الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم فِيمَن لَجأ أَولا إِلَى حماكم بالأهل وَالْولد عَن حَسَنَة تبرعتم بهَا وَصدقَة حملتكم الْحُرِّيَّة على بذلها ثمَّ فِيمَن حط رَحل الاستجارة بضريح أكْرم الْخلق عَلَيْكُم دامع الْعين خافق الْقلب واهي الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عَلَيْهِم فِي الْحَيَاة أَمَام الذعر يذهل الْعقل ويحجب عَن التميز بقصر دَاره ومضجع رقاده مَا من يَوْم إِلَّا وأجهر بعد التِّلَاوَة ياليعقوب يالمرين نسْأَل الله تَعَالَى أَن لَا يقطع عني معروفكم وَلَا يسلبني عنايتكم ويستعملني مَا بقيت فِي خدمتكم ويتقبل دعائي فِيكُم ولحين وُصُول الْجَواب الْكَرِيم نهضت إِلَى الْقَبْر الْمُقَدّس وَوَضَعته بإزائه وَقلت يَا مولَايَ يَا كَبِير الْمُلُوك وَخَلِيفَة الله وبركة بني مرين صَاحب الشُّهْرَة وَالذكر فِي الْمشرق وَالْمغْرب عَبدك الْمُنْقَطع إِلَيْك المترامي بَين يَدي قبرك المتوسل إِلَى الله ثمَّ ولدك بك ابْن الْخَطِيب وَصله من مَوْلَاهُ ولدك مَا يَلِيق بمقامه من رعي وَجهك والتقرب إِلَى الله برعيك والاشتهار فِي مشرق الدُّنْيَا وَمَغْرِبهَا ببرك وَأَنْتُم من أَنْتُم من إِذا صنع صَنِيعه كملها وَإِذا من منَّة تممها وَإِذا أسدى يدا أبرزها طَاهِرَة بَيْضَاء غير مَعِيبَة وَلَا ممنونة وَلَا منتقصة وَأَنا بعد تَحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حَتَّى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نِعْمَتك بِي ويطمئن إِلَى مأمنك قلبِي ثمَّ قلت للطلبة أَيهَا السَّادة بيني وَبَيْنكُم تِلَاوَة كتاب الله تَعَالَى مُنْذُ أَيَّام ومناسبة النحلة وأخوة التَّأْلِيف بِهَذَا الرِّبَاط الْمُقَدّس وَالسُّكْنَى بَين أظْهركُم فَأمنُوا على دعائي بإخلاص من قُلُوبكُمْ واندفعت فِي الدُّعَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 والتوسل الَّذِي أَرْجُو أَن يتقبله الله تَعَالَى وَلَا يضيعه وخاطب العَبْد مَوْلَاهُ شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته ومسرورا بقبوله وشأنه من التَّعَلُّق والتطارح شَأْنه حَتَّى يكمل الْقَصْد وَيتم الْغَرَض معمور الْوَقْت بِخِدْمَة يرفعها وَدُعَاء يردده وَالله الْمُسْتَعَان أه وَلما وصل كتاب السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى أهل الأندلس أعظموا وسيلته وقبلوا شَفَاعَته وردوا إِلَى ابْن الْخَطِيب مَا تأتى رده مِمَّا كَانَ ضَاعَ لَهُ وأتلف عَلَيْهِ وَاسْتمرّ مُقيما بسلا سنتَيْن وَزِيَادَة ثمَّ استدعاه سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى الأندلس بعد رُجُوعه إِلَيْهَا واحتوائه على ملكهَا فَأجَاب حَيَاء لَا رَغْبَة ومكرها لَا بطلا إِلَى كَانَ مَا نذكرهُ من شَأْنه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله ونوادره بسلا وَمَا جرياته كَثِيرَة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة انْتِقَاض الْحسن بن عمر الفودودي وَخُرُوجه بتادلا ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك قد قدمنَا أَن السُّلْطَان أَبَا سَالم لما استولى على ملك فاس وَالْمغْرب عقد لِلْحسنِ بن عمر على مراكش وَوَجهه إِلَيْهَا تخففا مِنْهُ وريبة بمكانه من الدولة فاستقر بهَا وتأثلت لَهُ بهَا رياسة نَفسهَا عَلَيْهِ أهل مجْلِس السُّلْطَان وَسعوا فِيهِ عِنْده حَتَّى تنكر لَهُ وأظلم الجو بَينهمَا وأحس الْحسن بن عمر بذلك فخشي على نَفسه وَخرج من مراكش فِي صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فلحق بتادلا منحرفا عَن السُّلْطَان ومرتكبا للْخلاف فَتَلقاهُ بَنو جَابر من عرب جشم وأجاروه واعصوصبوا عَلَيْهِ فسرح إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو سَالم وزيره الْحسن بن يُوسُف الورتاجني فاحتل بتادلا وانشمر الْحسن بن عمر إِلَى الْجَبَل بهَا فاعتصم بِهِ وَمَعَهُ كَبِير بني جَابر الْحسن بن عَليّ الورديغي فأحاطت بهم العساكر وَأخذُوا بمخنقهم وداخل الْوَزير بعض أهل الْجَبَل من برابرة صناكة فِي الثورة بهم وسرب إِلَيْهِم المَال فثاروا بهم وانفض جمعهم وتقبضوا على الْحسن بن عمر وقادوه برمتِهِ إِلَى الْحسن بن يُوسُف فاعتقله وانكفأ رَاجعا بِهِ إِلَى الحضرة فَدَخلَهَا فِي يَوْم مشهود استركب السُّلْطَان فِيهِ الْجند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وَجلسَ ببرج الذَّهَب مَقْعَده من ساحة الْبَلَد وَحمل الْحسن بن عمر على جمل فطيف بِهِ بَين تِلْكَ الجموع وَلما قرب من مجْلِس السُّلْطَان أَوْمَأ إِلَى تَقْبِيل الأَرْض من فَوق جمله ثمَّ ركب السُّلْطَان إِلَى قصره وانفض الْجمع وَقد شهر الْحسن بن عمر وَأَصْحَابه فصاروا عِبْرَة لمن اعْتبر وَلما دخل السُّلْطَان قصره جلس على كرسيه واستدعى خاصته وجلساءه وأحضر ابْن عمر فوبخه وَقرر عَلَيْهِ ذنُوبه فتلوى بالمعاذير وفزع إِلَى الْإِنْكَار قَالَ ابْن خلدون وَحَضَرت هَذَا الْمجْلس يَوْمئِذٍ فِيمَن حَضَره من الْخَاصَّة فَكَانَ مقَاما تسيل فِيهِ الْعُيُون رَحْمَة وعبرة ثمَّ أَمر بِهِ السُّلْطَان فسحب على وَجهه ونتفت لحيته وَضرب بالعصى وثل إِلَى محبسه ثمَّ قتل بعد لَيَال قعصا بِالرِّمَاحِ خَارج الْبَلَد وَنصب شلوه بِبَاب المحروق رَحمَه الله تَعَالَى نهوض السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا لما استوسق للسُّلْطَان أبي سَالم ملك الْمغرب ومحا أثر الْخَوَارِج مِنْهُ سمت همته إِلَى تملك تلمسان كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وأخيه من قبل وأكد عزمه على ذَلِك مَا كَانَ من فرار عبد الله بن مُسلم الزرد إِلَى عاملهم على درعة إِلَيْهَا فأجمع السُّلْطَان أَبُو سَالم النهوض إِلَيْهَا وعسكر بِظَاهِر فاس الْجَدِيد منتصف سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَلما توافت لَدَيْهِ الحشود وتكاملت بسدته الْجنُود ارتحل إِلَى تلمسان واتصل خبر نهوضه بسلطانها أبي حمو بن يُوسُف الزياني ووزيره عبد الله بن مُسلم الزردالي فَنَادوا فِي الْعَرَب من بني عَامر بن زغبة وَبني معقل فأجابوهم كَافَّة الأشرذمة قَليلَة من الأحلاف ثمَّ خرج أَبُو حمو وشيعته عَن تلمسان إِلَى الصَّحرَاء والتفت عَلَيْهِ الْعَرَب بحللها وَلما دخل السُّلْطَان أَبُو سَالم تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا خَالفه أَبُو حمو فِي عربه إِلَى الْمغرب فنزلوا آكرسيف ووطاط وبلاد ملوية وحطموا زروعها وانتسفوا بركتها وخربوا عمرانها وَبلغ السُّلْطَان أَبَا سَالم مَا كَانَ من إفسادهم فأهمه أَمر الْمغرب وَكَانَ فِي جملَته من بني زيان مُحَمَّد بن عُثْمَان ابْن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 السُّلْطَان أبي تاشفين ويكنى أَبَا زيان فعقد لَهُ على تلمسان وَأَعْطَاهُ الْآلَة وَجمع لَهُ جَيْشًا من مغراوة وَبني توجين وَدفع لَهُم أعطياتهم وانكفأ رَاجعا إِلَى فاس فأجفل أَبُو حمو وَالْعرب أَمَامه ثمَّ خالفوه إِلَى تلمسان فطردوا عَنْهَا أَبَا زيان واستولوا عَلَيْهَا وَثَبت قدم أبي حمو بهَا وَعَاد أَبُو زيان إِلَى الْمغرب لاحقا بالسلطان أبي سَالم قبله وَعقد المهادنة مَعَ أبي حمو وَاسْتقر الْأَمر على ذَلِك وَقد كَانَ ابْن الْخَطِيب عِنْدَمَا بلغه اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي سَالم على تلمسان هنأه بقصيدة طَوِيلَة يَقُول فِي مطْلعهَا (أطَاع لساني فِي مديحك إحساني ... وَقد لهجت نَفسِي بِفَتْح تلمسان) وَيَقُول فِي أَثْنَائِهَا وَقد ألم بِشَيْء من علم الْأَحْكَام النجومية لميل السُّلْطَان إِلَيْهِ (وَللَّه من ملك سعيد ونصبة ... قضى المُشْتَرِي فِيهَا بعزلة كيوان) (وسجل حكم الْعدْل من بيوتها ... وقوفا مَعَ الْمَشْهُور من رَأْي يونان) (فَلم تخشى سهم الْقوس صفحة بدرها ... وَلم تشك فِيهَا الشَّمْس من بخس ميزَان) (وَلم يعْتَرض مبتزها قطع قَاطع ... وَلَا نازعت نوبهرها كف عدوان) (تولى اخْتِيَار الله حسن اخْتِيَارهَا ... فَلم يحْتَج الفرغان فِيهَا لفرغان) (وَلَا صرفت فِيهَا دقائق نِسْبَة ... وَلَا حققت فِيهَا طوالع بلدان) وفادة السودَان من أهل مَالِي على السُّلْطَان أبي سَالم وإغرابهم فِي هديتهم بالزرافة الْحَيَوَان الْمَعْرُوف قد تقدم لنا مَا جرى من المواصلة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَالسُّلْطَان منسا مُوسَى وأخيه أَو ابْنه من بعده منسا سُلَيْمَان وَتردد الْوُفُود وإسناء الْهَدَايَا بَينهم وَقد كَانَ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان قد هيأ هَدِيَّة نفيسة بِقصد أَن يبعثها إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مُكَافَأَة لَهُ على هديته فَهَلَك السُّلْطَان أَبُو الْحسن خلال ذَلِك ثمَّ هلك السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بعده وَاخْتلف أهل مَالِي وافترق أَمرهم وتقاتلوا على الْملك إِلَى أَن جمع الله كلمتهم على السُّلْطَان منسا زاطة واستوسق لَهُ الْأَمر ثمَّ نظر فِي أعطاف ملكه وَأخْبر بشأن الْهَدِيَّة الَّتِي كَانَ منسا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 سُلَيْمَان قد هيأها لملك الْمغرب فَأمر بإنفاذها إِلَيْهِ وَضم إِلَيْهَا الزرافة الْحَيَوَان الْغَرِيب الشكل الْعَظِيم الهيكل الْمُخْتَلف الشّبَه بالحيوانات وفصلوا بهَا من بِلَادهمْ فوصلوا إِلَى حَضْرَة فاس فِي صفر من سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْم وفادتهم يَوْمًا مشهودا جلس لَهُم السُّلْطَان ببرج الذَّهَب بمجلسه الْمعد لعرض الْجنُود وَنُودِيَ فِي النَّاس بالبروز إِلَى الصَّحرَاء فبرزوا يَنْسلونَ من كل حدب حَتَّى غص بهم الفضاء وَركب بَعضهم بَعْضًا فِي الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وَحضر الْوَفْد بَين يَدي السُّلْطَان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عَن إبطاء الْهَدِيَّة بِمَا كَانَ من اخْتِلَاف أهل مَالِي وتواثبهم على الْأَمر وتعظيم سلطانهم وَمَا صَار إِلَيْهِ والترجمان يترجم عَنْهُم وهم يصدقونه بالنزع فِي أوتار قسيهم عَادَة مَعْرُوفَة لَهُم وحيوا السُّلْطَان بِأَن جعلُوا يحثون التُّرَاب على رؤوسهم على سنة مُلُوك الْعَجم وَأنْشد الشُّعَرَاء فِي معرض الْمَدْح والتهنئة وَوصف الْحَال ثمَّ ركب السُّلْطَان إِلَى قصره وانفض ذَلِك الْجمع وَقد طَار بِهِ طَائِر الاشتهار وَاسْتقر الْوَفْد تَحت جراية السُّلْطَان أبي سَالم إِلَى أَن هلك قبل انصرافهم فوصلهم الْقَائِم بِالْأَمر من بعده وَانْصَرفُوا إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى ذَوي حسان عرب السوس الْأَقْصَى من بني معقل المتصلين ببلادهم وَمن هُنَاكَ لَحِقُوا بسلطانهم وَالْأَمر كُله لله وَكَانَ مِمَّا قيل من الشّعْر فِي ذَلِك الْيَوْم قَول ابْن خلدون من قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا (قدحت يَد الأشواق من زند ... وهفت بقلبي زفرَة الوجد) إِلَى أَن قَالَ فِي وصف الزرافة (ورقيمة الأعطاف حَالية ... موشية بوشائع الْبرد) (وحشية الْأَنْسَاب مَا أنست ... فِي موحش الْبَيْدَاء بالقرد) (تسمو بجيد بَالغ صعدا ... شرف الصروح بِغَيْر مَا جهد) (طَالَتْ رُؤُوس الشامخات بِهِ ... ولربما قصرت عَن الوهد) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 (قطعت إِلَيْك تنائفا وصل ... أسئادها بِالنَّصِّ والوخد) (تحدى على استصعابها ذللا ... وتبيت طوع الْقِنّ وَالْقد) (بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الْحَيَاة بعيشة رغد) (جاءتك فِي وَفد الأحابش لَا ... يرجون غَيْرك مكرم الْوَفْد) (وافوك أنضاء تقليبهم ... أَيدي السرى بالغور والنجد) (كالطيف يستقري مضاجعه ... أَو كالحسام يسل من غمد) (يثنون بِالْحُسْنَى الَّتِي سبقت ... من غير إِنْكَار وَلَا جحد) (ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند) (يَا مستعينا جلّ فِي شرف ... عَن رُتْبَة الْمَنْصُور وَالْمهْدِي) (جازاك رَبك عَن خليقته ... خير الْجَزَاء فَنعم مَا تسدى) (وَبقيت للدنيا وساكنها ... فِي عزة أبدا وَفِي سعد) وَقَول الْكَاتِب البارع أبي عبد الله بن زمرك الأندلسي من قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا (لَوْلَا تألق بارق التذْكَار ... مَا صاب واكف دمعي المدرار) (لكنه مهما تعرض خافقا ... قدحت يَد الأشواق زند أواري) إِلَى أَن قَالَ فِي الْغَرَض الْمَذْكُور (وغريبة قطعت إِلَيْك على الونى ... بيدا تبيد بهَا هموم الساري) (تنسيه طيته الَّتِي قد أمهَا ... والركب فِيهَا ميت الْأَخْبَار) (يقتادها من كل مُشْتَمل الدجى ... فَكَأَنَّمَا عَيناهُ جذوة نَار) (تشدو بِحَمْد المستعين حداتها ... يتعللون بِهِ على الأكوار) (إِن مسهم لفح الهجير أبلهم ... مِنْهُ نسيم ثنائك المعطار) (خَاضُوا بهَا لجج الفلا فتخلصت ... مِنْهَا خلوص الْبَدْر بعد سرار) (سلمت بسعدك من غوائل مثلهَا ... وَكفى بسعدك حاميا لذمار) (وأتتك يَا ملك الزَّمَان غَرِيبَة ... قيد النواظر نزهة الْأَبْصَار) (موشية الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يَد الأقدار) (راق الْعُيُون أديمها فَكَأَنَّهُ ... روض تفتح عَن شَقِيق بهار) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 (مَا بَين مبيض وأصفر فَاقِع ... سَالَ اللجين بِهِ خلال نضار) (يَحْكِي حدائق نرجس فِي شَاهِق ... تنساب فِيهِ أراقم الْأَنْهَار) (تحدو قَوَائِم كالجذوع وفوقها ... جبل أَشمّ بنوره متواري) (وسمت بجيد مثل جذع مائل ... سهل التعطف لين خوار) (تستشرف الجدرات مِنْهُ ترائبا ... فَكَأَنَّمَا هُوَ قَائِم بمنار) (تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ... وَمَشى بهَا الْإِعْجَاب مشي وقار) (خَرجُوا لَهَا الجم الْغَفِير وَكلهمْ ... متعجب من لطف صنع الْبَارِي) (كل يَقُول لصحبه قومُوا انْظُرُوا ... كَيفَ الْجبَال تقاد بالأسيار) (أَلْقَت ببابك رَحلهَا ولطالما ... ألْقى الْغَرِيب بِهِ عَصا التسيار) (علمت مُلُوك الأَرْض أَنَّك فخرها ... فتسابقت لرضاك فِي مضمار) (يتبوؤون بِهِ وَإِن بعد المدى ... من جاهك الْأَعْلَى أعز جوَار) (فارفع لِوَاء الْفَخر غير مدافع ... واسحب ذيول الْعَسْكَر الجرار) (واهنأ بأعياد الْفتُوح مخولا ... مَا شِئْت من نصر وَمن أنصار) (وإليكها من روض فكري نفحة ... شف الثَّنَاء بهَا على الأزهار) (فِي فصل منطقها ورائق رسمها ... مستمتع الأسماع والأبصار) (وتميل من أصغى لَهَا فكأنني ... عاطيته مِنْهَا كؤوس عقار) مقتل السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله قد غلب على هَوَاهُ الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق وَألقى زِمَام الدولة بِيَدِهِ فنقم خَاصَّة السُّلْطَان وحاشيته ذَلِك عَلَيْهِ وسخطوا الدولة من أَجله ومرضت قُلُوب أهل الْحل وَالْعقد من تقدمه فتربصوا بالدولة الدَّوَائِر إِلَى أَن كَانَت أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فتحول السُّلْطَان أَبُو سَالم عَن دَار الْملك من فاس الْجَدِيد إِلَى القصبة من فاس الْقَدِيم واختط بهَا إيوانا فخما لجلوسه فَلَمَّا استولى عمر بن عبد الله ابْن عَليّ بن سعيد الفودودي أحد كبراء الدولة ووزرائها على دَار الْملك إِذْ كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم قد خَلفه أَمينا عَلَيْهَا حدثته نَفسه بالتوثب وَسَهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ذَلِك عَلَيْهِ مَا كَانَ قد عرفه من مرض الْقُلُوب على السُّلْطَان لمَكَان ابْن مَرْزُوق فداخل قَائِد جند النَّصَارَى غرسية بن أنطول واتعدوا لذَلِك لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع عشر من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فعمدوا إِلَى تاشفين الموسوس ابْن أبي الْحسن فخلعوا عَلَيْهِ وألبسوه شارة الْملك وقربوا لَهُ مركبا وأجلسوه مجْلِس السُّلْطَان وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة مُحَمَّد بن الزَّرْقَاء على الْبيعَة وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إِلَى بَيت المَال ففرضوا الْعَطاء من غير تَقْدِير وَلَا حِسَاب وماج الْجند بفاس الْجَدِيد بَعضهم فِي بعض واختطفوا مَا وصلوا إِلَيْهِ من الْعَطاء ثمَّ انتهبوا مَا كَانَ بالمخازن الخارجية من السِّلَاح وَالْعدة وأضرموا النيرَان فِي بيوتها سترا على مَا ضَاعَ مِنْهَا وَأصْبح السُّلْطَان أَبُو سَالم بمكانه من قَصَبَة فاس الْقَدِيم وَكَانَ قد تحول إِلَيْهَا فِرَارًا من قَاطع فلكي خَوفه إِيَّاه بعض منجميه فَكَانَ الْبلَاء فِيهِ موكلا بالْمَنْطق فَلَمَّا علم بالكائنة ركب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ من حضر من أوليائه وَغدا على فاس الْجَدِيد وَطَاف بهَا يروم اقتحامها فامتنعت عَلَيْهِ ثمَّ اضْطربَ مُعَسْكَره بكدية العرائس لحصارها ونادى فِي النَّاس بالاجتماع إِلَيْهِ وَلما كَانَ وَقت الهاجرة دخل فسطاطة للقيلولة فتسايل النَّاس عَنهُ إِلَى فاس الْجَدِيد فوجا بعد فَوْج بمرأى مِنْهُ إِلَى أَن انفض عَنهُ خاصته وَأَهله مَجْلِسه فَطلب النَّجَاء بِنَفسِهِ وَركب فِي لمة من الفرسان وَفِيهِمْ وزيراه سُلَيْمَان بن دَاوُد ومسعود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي ومقدم الموَالِي والجند بِبَابِهِ سُلَيْمَان بن ونصار وَأذن لِابْنِ مَرْزُوق فِي الدُّخُول إِلَى دَاره وَمضى هُوَ على وَجهه فِيمَن مَعَه وَلما غشيهم اللَّيْل انْفَضُّوا عَنهُ حَتَّى بَقِي وَحده وَرجع الوزيران إِلَى دَار الْملك فتقبض عَلَيْهِمَا رَئِيس الثورة عمر بن عبد الله الفودودي ومشاركه فِيهَا غرسية بن أنطول النَّصْرَانِي واعتقلاهما مُتَفَرّقين وَبعث عمر بن عبد الله الطّلب فِي أثر السُّلْطَان أبي سَالم فعثروا عَلَيْهِ نَائِما من الْغَد فِي بعض المجاشر بوادي ورغة وَقد غير لِبَاسه اختفاء بشخصه وتواريا عَن الْعُيُون بمكانه فتقبضوا عَلَيْهِ وَحَمَلُوهُ على بغل وطيروا بالْخبر إِلَى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شُعَيْب بن مَيْمُون بن دَاوُد وَفتح الله بن عَامر بن فتح الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 السدراتي وَأَمرهمَا بقتْله وإنفاذ رَأسه فلقياه بخندق الْقصب إزاء كدية العرائس فأمرا بعض جند النَّصَارَى أَن يتَوَلَّى ذبحه فَفعل وحملوا رَأسه فِي مخلاة ووضعوه بَين يَدي الْوَزير الثائر ومشيخته وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَدفن بالقلة خَارج بَاب الجيسة بِأَعْلَى جبل الْعرض الْمَعْرُوف بجبل الزَّعْفَرَان قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة كَانَ السُّلْطَان أَبُو سَالم رَحمَه الله بَقِيَّة الْبَيْت وَآخر الْقَوْم دماثه وحياء وبعدا عَن الشرور وركونا للعافية قَالَ وأنشدت على قَبره الَّذِي ووريت بِهِ جثته قصيدة أدّيت فِيهَا بعض حَقه (بنى الدُّنْيَا بني لمع السراب ... لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب) وَمن أَعْيَان وزرائه أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَرْزُوق العجيسي الْخَطِيب الْمَشْهُور الَّذِي مر ذكره آنِفا وَمن قُضَاة عسكره أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن يحيى الأندلسي الْبُرْجِي وَمن أَعْيَان كِتَابه الرئيس أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون صَاحب التَّارِيخ وَأَبُو الْقَاسِم عبد الله بن يُوسُف بن رضوَان النجاري من أهل مالقة صَاحب كتاب السياسة وَغَيره وَمِمَّا نظمه هَذَا الْفَاضِل عَن إِذن السُّلْطَان أبي سَالم رَحمَه الله ليكتب فِي طرة قبَّة رياض الغزلان من حَضرته قَوْله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 (هَذَا مَحل المنى بالأمن مغمور ... من حلّه فَهُوَ بالأمان محبور) (مأوى النَّعيم بِهِ مَا شِئْت من ترف ... تهوى محاسنه الْولدَان والحور) (ويطلع الرَّوْض مِنْهُ مصنعا عجبا ... يضاحك النُّور من لألائه النُّور) (ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ... ينافح الندى نشر مِنْهُ منشور) (مغنى السرُور سقَاهُ الله مَا حملت ... غر الْغَمَام وحلته الأزاهير) (انْظُر إِلَى الرَّوْض تنظر كل معجبة ... مِمَّا ارْتَضَاهُ لرأي الْعين تحبير) (مر النسيم بِهِ يَبْغِي القرا فقرا ... دَرَاهِم النُّور تبديد وتنثير) (وهامت الشَّمْس فِي حسن الظلال بِهِ ... ففرقت فَوْقه مِنْهَا دَنَانِير) (كَأَنَّمَا الطير فِي أفنائها صدحت ... بشكر مَالِكهَا وَالْفضل مشكور) (والدوح ناعمة تهتز من طرب ... همسا وَصَوت غناء الطير مجهور) (وَالنّهر شقّ بِسَاط الأَرْض تحسبه ... سَيْفا وَلكنه فِي السّلم مَشْهُور) (ينساب للجنة الخضراء أزرقه ... كالأيم جد انسياب وَهُوَ مذعور) (هذي مصانع مَوْلَانَا الَّتِي جمعت ... شَمل السرُور وَأمر السعد مَأْمُور) (وَهَذِه الْقبَّة الغراء مَا نظرت ... لشكلها الْعين إِلَّا عز تنظير) (وَلَا يصورها فِي الْفَهم ذُو فكر ... إِلَّا وَمِنْه لكل الْحسن تَصْوِير) (وَلَا يرام بحصر وصف مَا جمعت ... من المحاسن إِلَّا صد تَقْصِير) (فِيهَا المقاصير تحميها مهابته ... لله مَا جمعت تِلْكَ المقاصير) (كَأَنَّهَا الْأُفق تبدو النيرات بِهِ ... ويستقيم بهَا فِي السعد تسيير) (وينشأ المزن فِي أرجائه وَله ... من عنبر الشحر إنْشَاء وتسخير) (وينهمي الْقطر مِنْهُ وَهُوَ منسكب ... مَاء من الْورْد يذكو مِنْهُ تعطير) (وتخفق الرّيح مِنْهُ وَهِي ناسمة ... مِمَّا أهب بِهِ مسك وكافور) (ويشرق الصُّبْح مِنْهُ وَهُوَ من غرر ... غر تلألأ مِنْهُنَّ الأسارير) (وتطلع الشَّمْس فِيهِ من سنا ملك ... تَبَسم الدَّهْر مِنْهُ وَهُوَ مسرور) وَمضى فِي مدح السُّلْطَان وَالله تَعَالَى يتغمد الْجَمِيع برحمته بمنه وَكَرمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عمر تاشفين الموسوس ابْن أبي الْحسن المريني هَذَا السُّلْطَان كَانَ محجوبا لوزيره عمر بن عبد الله الفودودي لَا يملك مَعَه ضرا وَلَا نفعا أمه أم ولد اسْمهَا مَيْمُونَة صفته طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ أعين أدعج وَكَانَ فَارِسًا بطلا قوي الساعد إِلَّا أَنه كَانَ نَاقص الْعقل وَلما ثار عمر بن عبد الله بالسلطان أبي سَالم وسعى فِي هَلَاكه إِلَى أَن قتل كَمَا مر استبد بِأَمْر الدولة وَنصب هَذَا الموسوس يموه بِهِ على النَّاس فبويع لَيْلَة الثُّلَاثَاء التَّاسِع عشر من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا سبق وَكَانَ نُقْصَان عقل تاشفين من أجل الْأسر الَّذِي أَصَابَهُ بوقعة طريف أَيَّام وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى أَن افتدي وَبَقِي نَاقص الْعقل مختل المزاج إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ الفتك بغرسية بن أنطول قَائِد النَّصَارَى ومقتل جنده مَعَه وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما قبض عمر بن عبد الله على الوزيرين مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وَسليمَان بن دَاوُد سجنهما مُتَفَرّقين فَأخذ إِلَيْهِ ابْن ماساي لمَكَان صهره مِنْهُ وَدفع لغرسية سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَانَ سُلَيْمَان بن ونصار قد فر مَعَ السُّلْطَان أبي سَالم كَمَا مر وَلما رَجَعَ عَنهُ فِيمَن رَجَعَ نزل على غرسية فَقبله وأكرمه وَكَانَ يعاقره الْخمر ففاوضه ذَات لَيْلَة فِي الثورة بعمر بن عبد الله واعتقاله وَإِقَامَة سُلَيْمَان بن دَاوُد المسجون بداره مقَامه لما هُوَ عَلَيْهِ من السن ورسوخ الْقدَم فِي الْأَمر ونما الْخَبَر بذلك إِلَى عمر بن عبد الله فارتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وَكَانَ خلوا من العصبية فَفَزعَ إِلَى قَائِد الْمركب السلطاني من ناشبة الأندلس ورماتها وَهُوَ يَوْمئِذٍ إِبْرَاهِيم البطروجي فعاقده على أمره وَبَايَعَهُ على الاستماتة دونه ثمَّ رأى أَن ذَلِك لَا يَكْفِيهِ فَفَزعَ ثَانِيًا إِلَى يحيى بن عبد الرَّحْمَن شيخ بني مرين وَصَاحب شوارهم فَشَكا إِلَيْهِ فأشكاه ووعده الفتك بِابْن أنطول وَأَصْحَابه وانبرم عقد ابْن أنطول وَسليمَان بن ونصار أَيْضا على عمر بن عبد الله وغدوا إِلَى الْقصر وداخل ابْن أنطول طَائِفَة من النَّصَارَى استظهارا بهم وتوافت بَنو مرين بِمَجْلِس السُّلْطَان على عَادَتهم وَحضر ابْن أنطول والبطروجي وَيحيى بن عبد الرَّحْمَن وَغير هَؤُلَاءِ من الْوُجُوه فَسَأَلَ عمر بن عبد الله من ابْن أنطول تَحْويل سُلَيْمَان بن دَاوُد من دَاره إِلَى السجْن فَأبى وضن بِهِ عَن الإهانة حَتَّى سَأَلَ مثلهَا من ابْن ماساي صَاحبه فَأمر عمر بالتقبض عَلَيْهِ فكشر فِي وُجُوه الرِّجَال وَاخْتَرَطَ سكينه للمدافعة فتواثبت بَنو مرين عَلَيْهِ وقتلوه لحينه واستلحموا من وجدوا بِالدَّار من جنده النَّصَارَى عِنْد دُخُولهمْ مَعَ قائدهم وفر بَعضهم إِلَى معسكرهم وَيعرف بالملاح جوَار فاس الْجَدِيد وأرجف الغوغاء بِالْمَدِينَةِ أَن ابْن أنطول قد غدر بالوزير فَقتلُوا جند النَّصَارَى حَيْثُ وجدوهم من سِكَك الْمَدِينَة وتزاحفوا إِلَى الملاح لاستلحام من بَقِي بِهِ مِنْهُم وَركبت بَنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهب يَوْمئِذٍ الْكثير من أَمْوَالهم وآنيتهم وأمتعتهم وَقتل النَّصَارَى أَيْضا كثيرا من مجان الْمُسلمين كَانُوا يعاقرون الْخمر بالملاح ثمَّ سكنت الهيعة وَمَا كَادَت واستبد عمر بن عبد الله بدار الْملك واعتقل سُلَيْمَان بن ونصار إِلَى اللَّيْل ثمَّ بعث من قَتله بمحبسه وحول سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَى بعض الدّور من دَار الْملك فاعتقله بهَا وَاسْتولى على أمره ثمَّ خَاطب عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ واقتسام ملك الْمغرب بَينه وَبَينه وَبعث إِلَيْهِ بِأبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم اعتده عِنْده ليَوْم مَا ثمَّ فسد مَا بَينه وَبَين مشيخة بني مرين فَاجْتمعُوا على كَبِيرهمْ يحيى بن عبد الرَّحْمَن وعسكروا بِبَاب الْفتُوح واستدعوا عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ ابْن السُّلْطَان أبي سعيد من تلمسان على مَا نذكرهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ظُهُور عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بن أبي سعيد ومحاصرته لفاس الْجَدِيد ثمَّ فراره عَنْهَا قد قدمنَا فِي أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن أَن أَخَاهُ أَبَا عَليّ صَاحب سجلماسة كَانَ قد انْتقض عَلَيْهِ فأمكنه الله مِنْهُ فَقتله وكفل أَوْلَاده فَلم يُمَيّز بَينهم وَبَين أَوْلَاده فِي شَيْء من الْأَشْيَاء وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى أبي عنان بعث جمَاعَة من إخْوَته وقرابته إِلَى الأندلس تَحت حياطة ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ فيهم أَوْلَاد أبي عَليّ هَؤُلَاءِ ثمَّ بعد حِين سرحوا وَقدمُوا تلمسان على سلطانها أبي حمو بن يُوسُف فَكَانُوا عِنْده إِلَى هَذَا التَّارِيخ فَلَمَّا فسد مَا بَين عمر بن عبد الله وشيوخ بني مرين بعثوا إِلَى تلمسان جملَة مِنْهُم لاستقدام عبد الْحَلِيم الْمَذْكُور فسرحه أَبُو حمود وأعانه بِشَيْء من الْآلَة وَجمع عَلَيْهِ من رغب فِي طَاعَته وزحف إِلَى فاس فَتَلَقَّتْهُ جمَاعَة بني مرين بسبو ونزلوا على فاس الْجَدِيد يَوْم السبت سَابِع محرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة واضطربوا معسكرهم بكدية العرائس وحاصروا دَار الْملك سَبْعَة أَيَّام وَتَتَابَعَتْ وفودهم وحشودهم ثمَّ إِن عمر بن عبد الله برز يَوْم السبت الْقَابِل فِي مُقَدّمَة السُّلْطَان تاشفين بِمن مَعَه من جند الْمُسلمين وَالنَّصَارَى رامحة وناشبة ووكل بالسلطان من جَاءَ بِهِ فِي السَّاقَة على التعبية المحكمة وناوشهم الْحَرْب فزحفوا إِلَيْهِ فاستطرد لَهُم ليتَمَكَّن الناشبة من عقرهم من الأسوار حَتَّى فَشَتْ فيهم الْجِرَاحَات ثمَّ صمم نحوهم فانفرج الْقلب وانفضت الجموع ثمَّ زحف السُّلْطَان تاشفين فِي السَّاقَة فابذعروا فِي الْجِهَات وافترق بَنو مرين إِلَى مواطنهم وَلحق يحيى بن عبد الرَّحْمَن بمراكش مَعَ مبارك بن إِبْرَاهِيم شيخ الْخَلْط وَلحق عبد الْحَلِيم وَإِخْوَته بتازا بعد أَن شهد لَهُم رجال الدولة بِصدق الجلاد وَحسن الْبلَاء فِي ذَلِك الْمقَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 ثمَّ إِن الْوَزير عمر بن عبد الله رَاجع بصيرته فِي تَقْدِيم الْمَعْتُوه لِلْأَمْرِ وَعلم أَن الْأَمر لَا يَسْتَقِيم لَهُ بذلك فبادر باستقدام أبي زيان مُحَمَّد بن أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ عِنْد الطاغية بدار الْحَرْب فَقدم وخلع الْوَزير الْمَذْكُور سُلْطَانه الموسوس يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فَكَانَت دولته ثَلَاثَة أشهر ويومين وَمَات وسنه سِتُّونَ سنة وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي زيان مُحَمَّد بن أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب بن أبي الْحسن المريني هَذَا السُّلْطَان كَانَ محجوبا للوزير عمر بن عبد الله أَيْضا كنيته أَبُو زيان لقبه المتَوَكل على الله أمه أم ولد اسْمهَا فضَّة صفته آدم اللَّوْن شَدِيد الأدمة معتدل الْقَامَة منفرج الْأنف دَقِيق الْعَينَيْنِ وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة حَاله فَاضل سُكُون منقاد مشتغل بِخَاصَّة نَفسه قَلِيل الْكَلَام حسن الشكل درب بركض الْخَيل مفوض للوزراء عَظِيم التأني لأغراضهم وَكَانَ قبل ولَايَته عِنْد الطاغية بالأندلس فر إِلَيْهِ خوفًا على نَفسه وَلما التبست الْأُمُور على عمر بن عبد الله طلبه إِلَى الطاغية فسمح بِهِ بعد اشْتِرَاط واشتطاط وَفصل من إشبيلية فِي الْمحرم فاتح سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَنزل بسبته وَبهَا سعيد بن عُثْمَان من قرَابَة الْوَزير عمر بن عبد الله أرصده لِقَوْمِهِ فطير إِلَيْهِ بالْخبر فَحِينَئِذٍ خلع عمر تاشفين الموسوس وَبعث إِلَى السُّلْطَان أبي زيان بالبيعة والآلة والفساطيط ثمَّ جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ السّير إِلَى الحضرة فَنزل منتصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 صفر بكدية العرائس واضطرب مُعَسْكَره بهَا وتلقاه يَوْمئِذٍ الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني وَبَايَعَهُ وَأخرج فسطاطه فاضطرب بمعسكره وتلوم السُّلْطَان أَبُو زيان هُنَالك ثَلَاثًا ثمَّ دخل فِي الْيَوْم الرَّابِع إِلَى قصره واقتعد أريكته وتودع ملكه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة كَانَ دُخُوله دَاره مغرب لَيْلَة الْجُمُعَة بطالع الثَّامِن من السرطان وَبِه السعد الْأَعْظَم كَوْكَب المُشْتَرِي من السيارة السَّبْعَة أه وَلما تمّ لَهُ الْأَمر خاطبه ابْن الْخَطِيب من سلا مهنئا لَهُ بقوله (يَا ابْن الخلائف يَا سمي مُحَمَّد ... يَا من علاهُ لَيْسَ يحصر حاصر) (أبشر فَأَنت مُجَدد الْملك الَّذِي ... لولاك أصبح وَهُوَ رسم داثر) (من ذَا يعاند مِنْك وَارثه الَّذِي ... بسعوده فلك الْمَشِيئَة دائر) (أَلْقَت إِلَيْك يَد الْخلَافَة أمرهَا ... إِذْ كنت أَنْت لَهَا الْوَلِيّ النَّاصِر) (هَذَا وَبَيْنك للصريخ وَبَينهَا ... حَرْب مضرسة وبحر زاخر) (من كَانَ هَذَا الصنع أول أمره ... حسنت لَهُ العقبى وَعز الآخر) (مولَايَ عِنْدِي فِي علاك محبَّة ... وَالله يعلم مَا تكن ضمائر) (قلبِي يحدثني بأنك جَابر ... كسْرَى وحظي مِنْك حَظّ وافر) (بثرى جدودك قد حططت حقيبتي ... فوسيلتي لعلاك نور باهر) (وبذلت وسعي واجتهادي مثل مَا ... يلقى لملكك سيف أَمرك عَامر) (فَهُوَ الْوَلِيّ لَك الَّذِي اقتحم الردى ... وَقضى الْعَزِيمَة وَهُوَ سيف باتر) (وَولي جدك فِي الشدائد عِنْدَمَا ... خذلت علاهُ قبائل وعشائر) (فاستهد مِنْهُ النصح وَاعْلَم أَنه ... فِي كل معضلة طَبِيب ماهر) (إِن كنت قد عجلت بعض مدائحي ... فَهِيَ الرياض وللرياض بواكر) ثمَّ أتبعهَا بنثر أضربنا عَنهُ اختصارا وَالله تَعَالَى الْمُوفق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وفادة ابْن الْخَطِيب من سلا على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رحمهمَا الله قَالَ فِي الْإِحَاطَة وفدت على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن ابْن أبي الْحسن من مَحل الِانْقِطَاع بسلا وأنشدته قولي (لمن علم فِي هضبة الْملك خفاق ... أفاقت بِهِ من غشية الْهَرج آفَاق) (تقل ريَاح النَّصْر عَنهُ غمامة ... تمد لَهَا أيد وتخضع أَعْنَاق) (وبيعة شُورَى أحكم السعد عقدهَا ... وأعمل إِجْمَاع عَلَيْهَا وإصفاق) (قضى عمر فِيهَا بِحَق مُحَمَّد ... فسجل عهد للوفاء وميثاق) (أحلما ترى عَيْنَايَ أم هِيَ فَتْرَة ... أعندكما فِي مُشكل الْأَمر مصداق) (وفاض لفضل الله فِي الأَرْض تبتغي ... ومجتمعات لَا تريب وأسواق) (وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ... وفلح لسقي الْغَيْث قَامَ لَهُ سَاق) (وَقد كَانَ طيف الْحلم لَا يعْمل الخطا ... وللفتنة العمياء فِي الأَرْض إطباق) (وللغيث إمْسَاك وَفِي الأَرْض رجة ... وللدين وَالدُّنْيَا وجوم وإطراق) (فَكل فريق فِيهِ للبغي راية ... وكل طَرِيق فِيهِ للعيث طراق) (أجل إِنَّه من آل يَعْقُوب وَارِث ... يحن لَهُ الْبَيْت الْعَتِيق ويشتاق) (لَهُ من جنَاح الرّوح ظلّ مسجف ... وَمن رَفْرَف الْعِزّ الإلهي رستاق) (أطل على الدُّنْيَا وَقد عَاد ضوءها ... ودجى وعَلى الأحداق للذعر إحداق) (فأشرقت الأرجاء من نور رَبهَا ... وساح بهَا لله لطف وإشفاق) (فَمن ألسن بالشكر لله أعلنت ... وَكَانَ لَهَا من قبل هَمس وإطباق) (وَلَيْسَ لأمر أبرم الله نَاقض ... وَلَيْسَ لمسعى النجح فِي الله إخفاق) (مُحَمَّد قد أَحييت دين مُحَمَّد ... وللخلق أدماء تفيض وأرماق) (وَلَو لم تثبت غطى على شفق الضحا ... دم لسيوف الْبَغي فِي الأَرْض مهراق) (فأيمن بمشحون من الْفلك سابح ... لَهُ بِاخْتِيَار الله حط وإيساق) (أقلك والدأماء تظهر طَاعَة ... إِلَيْك صفح المَاء أَزْرَق رقراق) (إِلَى هدف السعد انبرى مِنْهُ والدجا ... تضل الحجى سهم من السعد رشاق) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 (فخطت لتقويم القوام جداول ... وَصحت من التَّوْفِيق واليمن أوفاق) (تبَارك من أهداك لِلْخلقِ رَحْمَة ... ومستبعد أَن يهمل الْخلق خلاق) (هُوَ الله يبلو النَّاس بِالْخَيرِ فتْنَة ... وبالشر وَالْأَيَّام سم وترياق) (سمت مِنْك أَعْنَاق الورى لخليفة ... لَهُ فِي مجَال السعد عَدو وأعناق) (وَقَالُوا بنان مَا اسْتَقل بكفه ... تفيض على العافين أم هِيَ أرزاق) (وَأَطْنَبَ فِيك المادحون وأغرقوا ... فَلم يجد إطناب وَلم يغن إغراق) (أَلَسْت من الْقَوْم الَّذين أكفهم ... غمام ندى إِن أخلف الْغَيْث غيداق) (أَلَسْت من الْقَوْم الَّذين وُجُوههم ... بدور لَهَا فِي ظلمَة الروع إشراق) (رياض إِذا الْعَافِي استظل ظلالها ... فَفِيهَا جنى ملْء الأكف وإيراق) (أَبوك ولي الْعَهْد لَو سَالم الردى ... وَجدك قد فاق الْمُلُوك وَإِن فاقوا) (فَمن ذَا لَهُ جد كجدك أَو أَب ... لآلئ وَالْمجد المؤثل نساق) (وَحسب الْعلَا فِي آل يَعْقُوب أَنهم ... هم الأَصْل فِي العلياء وَالنَّاس إِلْحَاق) (أسود سروج أَو بدور أسرة ... فَإِن حَاربُوا راعوا وَإِن سالموا راقوا) (يطول لتَحْصِيل الْكَمَال سهادهم ... فهم للمعالي والمكارم عشاق) وَمِنْهَا (لقد نسيت إِحْسَان جدك فرقة ... تزر على أَعْنَاقهم مِنْهُ أطواق) (أجازت خُرُوج ابْن ابْنه عَن تراثه ... وَلم تدر مَا ضمت من الذّكر أوراق) (وَمن دون مَا راموه لله قدرَة ... وَمن دون مَا أموه لِلْفَتْحِ إغلاق) (خُذ الْعَفو وابذل فيهم الْعرف ولتسع ... جريرة من أبدى لَك الْعذر أَخْلَاق) (فَرُبمَا تنبو مهندة الظبي ... وتهفو حلوم الْقَوْم وَالْقَوْم حذاق) (وَمَا النَّاس إِلَّا مذنب وَابْن مذنب ... وَللَّه إرفاد عَلَيْهِم وإرفاق) (وَلَا ترج فِي كل الْأُمُور سوى الَّذِي ... خزائنه مَا ضرها قطّ إِنْفَاق) (إِذا هُوَ أعْطى لم يضر منع مَانع ... وَإِن حشدت طسم وَعَاد وعملاق) (عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ... تخوم لمختط الصَّلِيب وأعماق) (فيسر لليسرى وأحيى بك الورى ... وللروع إرعاد عَلَيْك وإبراق) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 (فَجَاز صَنِيع الله وازدد بشكره ... مواهب جود غيثها الدَّهْر دفاق) (وأوف لمن أوفى وكاف الَّذِي كفى ... فَأَنت كريم طهرت مِنْك أعراق) (وتهنيك يَا مولى الْمُلُوك خلَافَة ... شجتها تباريح إِلَيْك وأشواق) (فقد بلغت أقْصَى المنى بك نَفسهَا ... وَكم فَازَ بالوصل المهنا مشتاق) (فَلَا رَاع مِنْهَا السرب للدهر رائع ... وَلَا نَالَ مِنْهَا جدة السعد أَخْلَاق) (أمولاي رَاع الدَّهْر سربي وغالني ... فطرفي مذعور وقلبي خفاق) (وَلَيْسَ لكسرى غَيْرك الْيَوْم جَابر ... وَلَا ليدي إِلَّا بمجدك أعلاق) (ولي فِيك ود واعتداد غرسته ... فراقت بِهِ من يَانِع الْحَمد أوراق) (وَقد عيل صبري فِي ارتقابي خَليفَة ... تحل بِهِ للضر عني أوهاق) (وَأَنت حسام الله وَالله نَاصِر ... وَأَنت أَمِين الله وَالله رزاق) (وَأَنت الْأمان المستجار من الردى ... إِذا رَاع خطب أَو توقع إملاق) (وأهون مَا يُرْجَى لديك شَفَاعَة ... إِذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق) (ودونكها من ذائع الْحَمد مخلص ... لَهُ فِيك تَقْيِيد يروق وَإِطْلَاق) (إِذا قَالَ أما كل سمع لقَوْله ... فمصغ وَأما كل أنف فنشاق) (وَدم خافق الْأَعْلَام بالنصر كلما ... ذهبت لمسعى لم يكن فِيهِ إخفاق) قَالَ وعدت مِنْهُ ببر كَبِير واحترام شهير يُشِير بذلك إِلَى مَا أكْرمه بِهِ وَكتب لَهُ من الظهير الَّذِي يتَضَمَّن كَمَال الاحترام والتوقير وَنَصه هَذَا ظهير كريم من أَمِير الْمُسلمين فلَان أيده الله وَنَصره وسنى لَهُ الْفَتْح الْمُبين ويسره للشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنور الأرقى الْعَالم الْعلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المُصَنّف الْمُفِيد الصَّدْر الأحفل الْأَفْضَل الْأَكْمَل أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْفَقِيه الْوَزير الْأَجَل الْأَسْنَى الْأَعَز الأرفع الأمجد الْوَجِيه الأنوه الأحفل الْأَفْضَل الحسيب الأَصْل الْأَكْمَل المبرور المرحوم أبي مُحَمَّد ابْن الْخَطِيب قابله أيده الله بِوَجْه الْقبُول والإقبال وأضفى عَلَيْهِ ملابس الإنعام والإفضال ورعى لَهُ خدمَة السّلف الرفيع الْجلَال وَمَا تقرر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 مقاصده الْحَسَنَة فِي خدمَة أمرنَا العال وَأمر فِي جملَة مَا سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بِأَن يجدد لَهُ حكم مَا بِيَدِهِ من الْأَوَامِر الْمُتَقَدّم تاريخها المتضمنة تمشية خَمْسمِائَة دِينَار من الْفضة العشرية فِي كل شهر عَن مُرَتّب لَهُ ولولده الَّذِي لنظره من مجبي مَدِينَة سلا حرسها الله وَمن حَيْثُ جرت الْعَادة أَن تمشي لَهُ وَرفع الِاعْتِرَاض ببابها فِيمَا يجلب من الْأدم والأقوات على اختلافها من حَيَوَان وسواه وَفِيمَا يستفيده خُدَّامه بخارجها وأحوازها من عِنَب وقطن وكتان وَفَاكِهَة وخضر وَغير ذَلِك فَلَا يطْلب فِي شَيْء من ذَلِك بمغرم وَلَا وظيف وَلَا يتَوَجَّه فِيهِ إِلَيْهِ بتكليف يتَّصل لَهُ حكم جَمِيع مَا ذكر فِي كل عَام تجديدا تَاما واحتراما عَاما أعلن بتجديد الحظوة واتصالها وإتمام النِّعْمَة وإكمالها من تواريخ الْأَوَامِر الْمَذْكُورَة إِلَى الْآن وَمن الْآن إِلَى مَا يَأْتِي على الدَّوَام واتصال الْأَيَّام وَأَن يحمل جَانِبه فِيمَن يشركهُ أَو يَخْدمه محمل الرَّعْي والمحاشاة فِي السخر مهما عرضت والوظائف إِذا افترضت حَتَّى يتَّصل لَهُ تالد الْعِنَايَة بالطارف وتتضاعف أَسبَاب المنن والعوارف بِفضل الله وتحرر لَهُ الْأزْوَاج الَّتِي يحرثها بتالماغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أَو ضريبة بالتحرير التَّام بحول الله وعونه وَمن وقف على هَذَا الظهير الْكَرِيم فليعمل بِمُقْتَضَاهُ وليمض مَا أَمْضَاهُ إِن شَاءَ الله وَكتب فِي الْعَاشِر من شهر ربيع الْآخِرَة من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَكتب فِي التَّارِيخ أهـ وَقَوله وَكتب فِي التَّارِيخ هُوَ الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة فِي ذَلِك الزَّمَان يكْتب بقلم غليظ وَبَعض مُلُوك الْمغرب يكْتب عِنْد الْعَلامَة صَحَّ فِي التَّارِيخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وفادة ابْن مُحَمَّد الهنتاتي على السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رحمهمَا الله كَانَ الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني مَوَدَّة ومصافاة مَعَ الرئيس الشهير أبي ثَابت عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي كَبِير جبل درن والبلاد المراكشية وَكَانَ الْوَزير عمر الْمَذْكُور قد بعث إِلَيْهِ بصهره وظهيره على الْملك مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن ابْن ماساي يكون عِنْده عدَّة وعتادا ليَوْم مَا فَلَمَّا بُويِعَ السُّلْطَان أَبُو زيان استقدم عمر بن عبد الله صهره الْمَذْكُور لوزارته وَكَانَ عَامر بن مُحَمَّد مجمعا الْقدوم على السُّلْطَان الْمَذْكُور فَقدم فِي صحبته مَسْعُود وَنزلا من الدولة بِخَير منزل وَعقد السُّلْطَان أَبُو زيان لمسعود الْمَذْكُور على وزارته بِإِشَارَة الْوَزير عمر بن عبد الله فاضطلع بهَا وَدفعه عمر إِلَيْهَا استمالة الْيَد وثقة بمكانه واستظهارا بعصبيته وَعقد مَعَ عَامر بن مُحَمَّد الْحلف على مقاسمة الْمغرب شقّ الأبلمة وَجعل إِمَارَة مراكش لأبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم إسعافا لغَرَض عَامر بن مُحَمَّد فِي ذَلِك وخطب إِلَيْهِم عَامر بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي الَّتِي توفى عَنْهَا السُّلْطَان أَبُو عنان فَأَجَابُوهُ وحملوا أولياءها على العقد عَلَيْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى مَكَان عمله بمراكش يجر الدُّنْيَا وَرَاءه عزا وثروة وتابعا وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فاستقل بِأَمْر النَّاحِيَة الغربية من مراكش وجبال المصامدة وَمَا إِلَيْهَا من الْأَعْمَال واستبد بهَا وَنصب أَبَا الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي سَالم صُورَة واستوزر لَهُ وَتمكن سُلْطَانه وَعلا ذكره وَصَارَت كَأَنَّهَا دولة مُسْتَقلَّة فصرف إِلَيْهِ النازعون من بني مرين عَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 الدولة وُجُوه مفرهم ولجؤوا إِلَيْهِ فأجارهم على السُّلْطَان وَاجْتمعَ إِلَيْهِ مِنْهُم مَلأ واتسع الْخرق على الرافع واضطربت الْأَحْوَال بالمغرب وَخرج على السُّلْطَان أبي زيان الْأَمِير عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بن أبي سعيد وتغلب على سجلماسة وأعمالها ثمَّ غلب عَلَيْهِ أَخُوهُ عبد الْمُؤمن بن أبي عَليّ فَخرج عبد الْحَلِيم إِلَى الْمشرق لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج وَاسْتمرّ عبد الْمُؤمن بسجلماسة وَأقَام بهَا دولة كَمَا كَانَ لوالده من قبل إِلَى أَن فتحهَا الْوَزير مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي وأضافها إِلَى مملكة فاس ثمَّ انْتقض الْوَزير مَسْعُود أَيْضا وَبَايع الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن بن أبي عَليّ ونصبه لِلْأَمْرِ وَصَارَ يشوش بِهِ على الدولة وشرق عمر بن عبد الله بدائه فِي أَخْبَار طَوِيلَة وَلما لم يتم لَهُ أَمر عبر هُوَ وسلطانه الْبَحْر من مرسى غساسة إِلَى الأندلس فاتح سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وأقبلا على الْجِهَاد واستراح الْوَزير عمر وسلطانه أَبُو زيان من شغبهما وَالله غَالب على أمره مقتل السُّلْطَان أبي زيان بن أبي عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله لما طَال استبداد الْوَزير عمر بن عبد الله على السُّلْطَان أبي زيان وحجره أَبَاهُ إِذْ كَانَ وضع عَلَيْهِ الرقباء والعيون حَتَّى من حرمه وَأهل قصره عزم على الفتك بالوزير الْمَذْكُور وتناجى بذلك مَعَ بعض ندمائه وَأعد لَهُ طَائِفَة من العبيد كَانُوا يختصون بِهِ فنما ذَلِك إِلَى الْوَزير بِوَاسِطَة بعض الْحرم كَانَت عينا لَهُ عَلَيْهِ فعاجله وَكَانَ قد بلغ من الاستبداد عَلَيْهِ أَن كَانَ الْحجاب مَرْفُوعا لَهُ عَن خلوات السُّلْطَان وَحرمه فَدخل عَلَيْهِ وَهُوَ فِي وسط حشمه فطردهم عَنهُ ثمَّ غطه حَتَّى فاظ وَأمر بِهِ فألقي فِي بِئْر بروض الغزلان واستدعى الْخَاصَّة فَأَرَاهُم مَكَانَهُ بهَا وَأَنه سقط عَن دَابَّته وَهُوَ سَكرَان وَذَلِكَ فِي محرم فاتح سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة كَذَا عِنْد ابْن خلدون وَقَالَ فِي الجذوة توفّي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَله ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة وَدفن بِجَامِع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 قصره فَكَانَت دولته أَربع سِنِين وَعشرَة أشهر وَيَوْما وَاحِدًا وَالله أعلم الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي فَارس عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن رَحمَه الله هَذَا السُّلْطَان هُوَ الَّذِي أنعش دولة بني مرين بعد تلاشيها وَأعَاد إِلَيْهَا شبابها بعد هرمها وتقاضيها وأزال عَنْهَا وصمة الْحجر والاستبداد وأعادها من الْعِزّ إِلَى حَالهَا الْمُعْتَاد وَهُوَ الَّذِي ذكره ابْن خلدون فِي أول تَارِيخه الْكَبِير وألفه برسمه وحلى ديباجته باسمه أمه مولدة اسْمهَا مَرْيَم صفته أَدَم اللَّوْن شَدِيد الأدمة طَوِيل الْقَامَة يشرف على النَّاس بِطُولِهِ نحيف الْجِسْم أعين أدعج أخنس فِي وَجهه أثر جدري وَكَانَ عَفا متمسكا بِالدّينِ محبا فِي الْخَيْر وَأَهله لم يشرب خمرًا وَلَا وَقع فِي فَاحِشَة قطّ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ من صالحي الْمُلُوك رَحمَه الله وَلما كَانَ من الْوَزير عمر بن عبد الله الياباني إِلَى السُّلْطَان أبي زيان رَحمَه الله مَا كَانَ من الخنق وَالْإِلْقَاء فِي الْبِئْر استدعى عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن هَذَا وَكَانَ فِي بعض الدّور من القصبة بفاس محتاطا عَلَيْهِ من قبل الْوَزير الْمَذْكُور فَأحْضرهُ بِالْقصرِ وَأَجْلسهُ على سَرِير الْملك وَبَايَعَهُ وَفتحت الْأَبْوَاب لبني مرين وَسَائِر الْخَاصَّة والعامة فازدحموا على تَقْبِيل يَده معطين الصَّفْقَة بِطَاعَتِهِ فتم أمره وَثَبت ملكه وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ثمَّ إِن الْوَزير عمر جرى مَعَه على عَادَته من الاستبداد وَمنع التَّصَرُّف فِي شَيْء من أُمُور الْملك فَأَنف السُّلْطَان عبد الْعَزِيز من ذَلِك وتأفف مِنْهُ ودارت بَينه وَبَين الْوَزير أُمُور إِلَى أَن عمل السُّلْطَان على الفتك بِهِ فأعد لَهُ جمَاعَة من الخصيان بزوايا دَاره ثمَّ أحضرهُ ووبخه وثار بِهِ أُولَئِكَ الخصيان فتناولوه هبرا بِالسُّيُوفِ وَصَاح الْوَزير الْمَذْكُور صَيْحَة أسمع بهَا بطانته خَارج الدَّار فَوَثَبُوا على الْأَبْوَاب فكسروها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 واقتحموا الدَّار فَإِذا صَاحبهمْ مضرج بدمائه قد فرغ مِنْهُ فَوَلوا الأدبار هاربين ثمَّ تتبع السُّلْطَان عبد الْعَزِيز حَاشِيَة الْوَزير بالاعتقال وَالْقَتْل حَتَّى أَتَى على الْجَمِيع فِي خبر طَوِيل واستبد بِملكه واضطلع بِهِ وأدار الْأُمُور فِيهِ على مَا يَنْبَغِي وَالله تَعَالَى أعلم انْتِقَاض أبي الْفضل بن أبي سَالم ثمَّ مَقْتَله بعد ذَلِك قد قدمنَا أَن أَبَا الْفضل بن أبي سَالم كَانَ قد عقد لَهُ الْوَزير عمر بن عبد الله على مراكش إسعافا لكافله عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي فَلَمَّا فتك السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بالوزير الْمَذْكُور سَوَّلت لأبي الْفضل نَفسه مثلهَا فِي عَامر بن مُحَمَّد لاستبداده عَلَيْهِ وأغراه بذلك بطانته فأحس عَامر بِالشَّرِّ فتمارض بداره من مراكش ثمَّ استأذنه فِي الصعُود إِلَى معتصمه من الْجَبَل ليمرضه هُنَالك حرمه وأقاربه فارتحل بجملته واحتل بحصنه وَكَانَ أعز من الأبلق الْفَرد فيئس أَبُو الْفضل من الاستمكان مِنْهُ ثمَّ أغرته بطانته إِذْ فاتهم عَامر بِالْفَتْكِ بِعَبْد الْمُؤمن بن أبي عَليّ وَكَانَ قد انضاف إِلَيْهِ بعد إجفاله عَن سجلماسة فَسَكِرَ أَبُو الْفضل ذَات لَيْلَة وَبعث عَن قَائِد الْجند من النَّصَارَى فَأمره بقتل عبد الْمُؤمن بمَكَان معتقله من قَصَبَة مراكش فجَاء بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ وطار الْخَبَر بذلك إِلَى عَامر فارتاع وَحمد الله إِذْ خلصه من غائلته وَبعث ببيعته إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأغراه بِأبي الْفضل ورغبه فِي ملك مراكش ووعده بالمظاهرة فأجمع السُّلْطَان أمره على النهوض إِلَيْهَا ونادى فِي النَّاس بالعطاء وَقضى أَسبَاب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَقد استبد أَبُو الْفضل بمراكش وأعملها وَأقَام بهَا رسم الْملك واستوزر واستلحق وَجعل شوراه لمبارك بن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة الخلطي وَلما نَهَضَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز من فاس اتَّصل خَبره بِأبي الْفضل وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 منَازِل لعامر بن مُحَمَّد فانفض مُعَسْكَره وَلحق بتادلا ليعتصم بجبل بني جَابر مِنْهَا فَتَبِعَهُ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَيْهَا ونازله وَأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره ثمَّ دَاخل بعض بني جَابر فِي جر الْهَزِيمَة عَلَيْهِ على مَال يُعْطِيهِ لَهُم فَفَعَلُوا وانهزمت جيوشه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إِبْرَاهِيم إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فاعتقله إِلَى أَن قَتله مَعَ عَامر بن مُحَمَّد كَمَا نذْكر وَلحق أَبُو الْفضل بقبائل صناكة وَرَاء بني جَابر فداخل بَنو جَابر فِي شَأْنه وبذلوا لَهُم عَن السُّلْطَان مَالا دثرا فِي إِسْلَامه فأسلموه وَبعث السُّلْطَان إِلَيْهِم وزيره يحيى بن مَيْمُون فجَاء بِهِ أَسِيرًا وأحضره أَمَام السُّلْطَان فوبخه ثمَّ اعتقله بفسطاط مجاور لَهُ ثمَّ غط من اللَّيْل فَكَانَ مهلكه فِي رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة لمضي ثَمَان سِنِين من إمارته على مراكش وَبعث السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَى عَامر بن مُحَمَّد يختبر طَاعَته فَأبى عَلَيْهِ وجاهر بِالْخِلَافِ إِلَى أَن كَانَ من شَأْنه مَا نذكرهُ انْتِقَاض عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي وحصار السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِيَّاه وظفره بِهِ كَانَ عَامر بن مُحَمَّد الهنتاتي مجير السُّلْطَان أبي الْحسن من ابْنه أبي عنان على مَا وَصفنَا من بُلُوغ الْغَايَة فِي الرياسة والاعتزاز على الدولة وَطول الاستبداد بمراكش وأحوازها وَكَانَ قد حصل فِي مُدَّة رياسته على ثروة عَظِيمَة وجاه كَبِير وَكَانَ لَهُ معتصم بجبل درن أعز من بيض الأنوق قد حصن فِيهِ مَاله وسلاحه وذخيرته وَكَانَ كلما هاجه هائج صعد إِلَيْهِ وَأمن على نَفسه فَلَمَّا صفا الْأَمر للسُّلْطَان عبد الْعَزِيز جعل عَامِرًا هَذَا من أهم أمره فنصب لَهُ واستعد لقتاله وَعقد على وزارته لأبي بكر بن غَازِي بن يحيى بن الكاس ونهض إِلَيْهِ من فاس سنة سبعين وَسَبْعمائة فحاصره فِي جبله سنة كَامِلَة وَلما طَال الْحصار على عَامر وشيعته اخْتلفت كلمتهم عَلَيْهِ وَفَسَد مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 بَينه وَبَين ابْن أَخِيه فَارس بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد فَبعث إِلَى السُّلْطَان وَسَهل لَهُ الطَّرِيق لاقتحام الْجَبَل فزحفت العساكر والجنود وشارفت المعتصم وَلما استيقن عَامر أَن قد أحيط بِهِ بعث إِلَى ابْنه أبي بكر أَن يلْحق بالسلطان مُخْتَارًا لَهُ ومشيرا عَلَيْهِ بِالَّتِي هِيَ أحسن وَأسلم فَألْقى الْوَلَد بِنَفسِهِ إِلَى السُّلْطَان فَقبله وبذل لَهُ الْأمان وألحقه بجملته وانتبذ عَامر عَن النَّاس وَذهب لوجهه ليخلص إِلَى السوس فَرده الثَّلج وَقد كَانَت السَّمَاء أرْسلت بِهِ مُنْذُ أَيَّام حَتَّى تراكم بِالْجَبَلِ بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عَامر حَتَّى هلك فِيهِ بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين الهلكة العاجلة فَرجع أدراجه مختفيا حَتَّى آوى إِلَى غَار مَعَ أدلاء كَانَ قد استخلصهم وبذل لَهُم مَالا على أَن يسلكوا بِهِ ظهر الْجَبَل إِلَى صحراء السوس فأقاموا ينتظرون إمْسَاك الثَّلج وَقد شدد السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فِي التنقير عَنهُ والبحث فعثر عَلَيْهِ بعض البربر بِالْغَارِ الْمَذْكُور فسيق إِلَى السُّلْطَان فَأحْضرهُ بَين يَدَيْهِ ووبخه فَاعْتَذر واعترف بالذنب وَرغب فِي الْإِقَالَة فَحمل إِلَى مضرب بني لَهُ بِإِزَاءِ فسطاط السُّلْطَان واعتقل هُنَالك وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على معاقل عَامر ودياره فانتهب من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح والذخيرة وَالزَّرْع والأقوات مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَاسْتولى السُّلْطَان على الْجَبَل ومعاقله فِي رَمَضَان من سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة لحول من يَوْم حصاره وَعقد على هنتاتة لِابْنِ أخي عَامر وَهُوَ فَارس بن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عَليّ الهنتاتي وارتحل إِلَى فاس فاحتل بهَا آخر رَمَضَان الْمَذْكُور ودخلها فِي يَوْم مشهود برز فِيهِ النَّاس وَحمل عَامر وسلطانه تاشفين من بني عبد الْحق كَانَ نَصبه لِلْأَمْرِ مموها بِهِ على عَادَته فحملا مَعًا على جملين وَقد أفرغ عَلَيْهِمَا لِبَاس رث وعبثت بهما أَيدي الإهانة فَكَانَ ذَلِك عِبْرَة لمن رَآهُ وَلما قضى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز نسك عيد الْفطر أحضر عَامِرًا فقرعه بذنوبه وأتى بِكِتَاب بِخَطِّهِ يُخَاطب فِيهِ أَبَا حمو بن يُوسُف الزياني ويستنجده على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 السُّلْطَان فَشهد عَلَيْهِ بِهِ وَأمر السُّلْطَان بامتحانه فَلم يزل يجلد حَتَّى انْتَشَر لَحْمه وَضرب بالعصى حَتَّى ورمت أعضاؤه وَهلك بَين يَدي الوزعة وجنب تاشفين سُلْطَانه إِلَى مصرعه فَقتل قعصا بِالرِّمَاحِ وجنب مبارك بن إِبْرَاهِيم الخلطي من محبسه بعد الاعتقال فَألْحق بهم وَلكُل أجل كتاب وَصفا الجو للسُّلْطَان عبد الْعَزِيز من المنازعين وتفرغ لغزو تلمسان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله ارتجاع الجزيرة الخضراء من يَد الإسبانيول قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الطاغية على الجزيرة الخضراء أَيَّام السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله فاستمرت فِي ملكتهم إِلَى هَذَا التَّارِيخ فَنَشَأَتْ بَينهم فتْنَة وتقاتلوا على الْملك وأعروا ثغورهم الموالية للْمُسلمين من الحامية والجند فَبَقيت عَورَة وتشوف الْمُسلمُونَ إِلَى ارتجاع الجزيرة الخضراء الَّتِي قرب عَهدهم بانتظامها فِي ملكة الْمُسلمين وَكَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فِي شغل عَن ذَلِك بفتنة أبي الْفضل بن أبي سَالم وعامر بن مُحَمَّد وانتقاضهما فَبعث إِلَى ابْن الْأَحْمَر صَاحب الأندلس أَن يزحف إِلَيْهَا بعساكره وَعَلِيهِ عطاؤهم وإمدادهم بِالْمَالِ والأساطيل على أَن تكون مثوبة جهاده خَالِصَة لَهُ فَأجَاب ابْن الْأَحْمَر إِلَى ذَلِك وَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بأحمال المَال وأوعز إِلَى أساطيله بسبتة فانعمرت وأقلعت حَتَّى احتلت بمرسى الجزيرة الخضراء لحصارها وزحف ابْن الْأَحْمَر بعساكر الْمُسلمين على أَثَرهَا بعد أَن قسم فيهم الْعَطاء وأزاح الْعدَد وَأعد الْآلَات للحصار فنازلها أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ أَيقَن النَّصَارَى بالهلكة لبعدهم عَن الصَّرِيخ ويأسهم من مدد مُلُوكهمْ فَألْقوا بِالْيَدِ وسألوا النُّزُول على الصُّلْح فأجابهم ابْن الْأَحْمَر إِلَيْهِ ونزلوا عَن الْبَلَد وأقيمت فِيهِ شَعَائِر الْإِسْلَام ومحيت مِنْهُ كلمة الْكفْر وَكتب الله أجرهَا لمن أخْلص فِي مُعَامَلَته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وَكَانَ ذَلِك سنة سبعين وَسَبْعمائة وَولي ابْن الْأَحْمَر عَلَيْهَا من قبله وَلم تزل إِلَى نظره إِلَى أَن وَقع الِاخْتِيَار على هدمها خشيَة اسْتِيلَاء النَّصْرَانِيَّة عَلَيْهَا مرّة أُخْرَى فهدمت أَعْوَام الثَّمَانِينَ وَسَبْعمائة وأصبحت خاوية كَأَن لم تغن بالْأَمْس نهوض السُّلْطَان عبد الْعَزِيز إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا وفرار سلطانها أبي حمو بن يُوسُف عَنْهَا كَانَ أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني قد فسد مَا بَينه وَبَين عرب سُوَيْد وَقبض على بعض رُؤَسَائِهِمْ مُحَمَّد بن عريف فاستصرخوا عَلَيْهِ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وَكَانَت القوارص لَا تزَال تسري إِلَيْهِ من أبي حمو الْمَذْكُور فصادفوا مِنْهُ صاغية إِلَى مَا التمسوا مِنْهُ واعتزم على النهوض إِلَى تلمسان وَبعث الحاشرين إِلَى الْجِهَات المراكشية فتوافى النَّاس إِلَيْهِ على طبقاتهم واجتمعوا عِنْده أَيَّام منى سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة فَأَفَاضَ الْعَطاء وأزاح الْعِلَل وَلما قضى نسك عيد الْأَضْحَى عرض الْجند ونهض إِلَى تلمسان فاحتل بتازا واتصل خَبره بِأبي حمو فَجمع الجموع وهم باللقاء ثمَّ اخْتلفت كلمة أَصْحَابه وتفرق عَنهُ الْعَرَب من بني معقل فأجفل هُوَ وأشياعه من بني عَامر بن زغبة فَدَخَلُوا القفر وَتقدم السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فاحتل بتلمسان يَوْم عَاشُورَاء من سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَسَبْعمائة فَدَخلَهَا فِي يَوْم مشهود وَاسْتولى عَلَيْهَا وَعقد لوزيره أبي بكر بن غَازِي بن الكاس على عَسَاكِر مرين وَالْعرب وسرحه فِي اتِّبَاع أبي حمو فأدركه بِبَعْض بِلَاد زناتة الشرق فأجهضوه عَن مَاله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أَمْوَال الْعَرَب الَّذين مَعَه وَنَجَا بذمائه إِلَى مصاب وتلاحق بِهِ وَلَده وَقَومه مُتَفَرّقين على كل مفازة ثمَّ دخلُوا القفر بعد ذَلِك ودوخ الْوَزير الْمَذْكُور بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وشرد عصاته واستنزل ثواره فِي أَخْبَار طَوِيلَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَاسْتولى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز على سَائِر الوطن من الْأَمْصَار والأعمال وَعقد عَلَيْهَا للولاة والعمال واستوسق لَهُ ملك الْمغرب الْأَوْسَط كَمَا كَانَ لسلفه وَاسْتمرّ مُقيما بتلمسان إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ نزوع الْوَزير ابْن الْخَطِيب عَن سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتلمسان قد قدمنَا مَا كَانَ من رُجُوع الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر إِلَى ملكه بالأندلس سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَلما استولى على غرناطة وَثَبت قدمه بهَا بعث عَن مخلفه بفاس من الْأَهْل وَالْولد والقائم بالدولة يَوْمئِذٍ عمر بن عبد الله فاستقدم عمر ابْن الْخَطِيب من سلا وبعثهم إِلَى نظره فسر السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر بمقدمه ورده إِلَى مَنْزِلَته وَدفع إِلَيْهِ تَدْبِير المملكة وخلط بَينه بندمائه وَأهل خلوته وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بِالْحلِّ وَالْعقد وانصرفت إِلَيْهِ الْوُجُوه وعلقت بِهِ الآمال وغشى بَابه الْخَاصَّة والكافة وغصت بِهِ بطانة السُّلْطَان وحاشيته فتوافقوا على السّعَايَة فِيهِ وَقد صم السُّلْطَان عَن قبُولهَا ونما بذلك الْخَبَر إِلَى ابْن الْخَطِيب فشمر عَن ساعده للرحلة عَن الأندلس واللحاق بالمغرب وَكَانَ لَهُ حنين إِلَيْهِ ورغبة فِي الإيالة المرينية من قبل ذَلِك فَقدم الْوَسَائِل إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وأوعز إِلَيْهِ بِمَا عزم عَلَيْهِ من اللحاق بِحَضْرَتِهِ فوعده السُّلْطَان بالجميل وَبسط أمله فَحِينَئِذٍ اسْتَأْذن السُّلْطَان الْغَنِيّ بِاللَّه فِي تفقد الثغور الغربية من أَرض الأندلس فَأذن لَهُ وَسَار إِلَيْهَا فِي جمَاعَة من فرسانه وَمَعَهُ ابْنه عَليّ فَلَمَّا حَاذَى جبل طَارق مَال إِلَيْهِ فَخرج قَائِد الْجَبَل لتلقيه وَقد كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز أوعز إِلَيْهِ بذلك وجهز إِلَيْهِ الأسطول من حِينه فاحتل بسبتة ثمَّ سَار مِنْهَا فَقدم على السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتلمسان سنة ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة فاهتزت لَهُ الدولة وأركب السُّلْطَان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه مَحل الْأَمْن وَالْغِبْطَة وَمن دولته بمَكَان الشّرف والعزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وَأخرج لوقته كَاتبه أَبَا يحيى بن أبي مَدين سفيرا إِلَى الأندلس فِي مطلب أَهله وَولده فجَاء بهم على أكمل الْحَالَات من الْأَمْن والتكرمة ثمَّ نزل بعد ذَلِك مَدِينَة فاس الْقَدِيمَة فَاسْتَكْثر بهَا من شِرَاء الضّيَاع وتأنق فِي بِنَاء المساكن واغتراس الجنات وحفظت عَلَيْهِ رسومه السُّلْطَانِيَّة وتوقيراته وَأقَام مطمئنا بِخَير دَار عِنْد أعز جَار وَفَاة السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز قد أَصَابَهُ مرض النحول فِي صغره وَلأَجل ذَلِك تجافى السُّلْطَان أَبُو سَالم عَن بَعثه مَعَ الْأَبْنَاء إِلَى الأندلس فَأَقَامَ بالمغرب وَلما شب أَفَاق من مَرضه وَصلح بدنه ثمَّ عاوده وَجَعه فِي مثواه بتلمسان وتزايد نحوله وَلما كمل الْفَتْح واستفحل الْملك اشْتَدَّ بِهِ الوجع فصابره وكتمه عَن النَّاس خشيَة الإرجاف ثمَّ عَسْكَر خَارج تلمسان للحاق بالمغرب وَلما كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة قضى نحبه رَحمَه الله بِظَاهِر تلمسان بَين أَهله وَولده وسيق إِلَى فاس فَدفن بِجَامِع قصره وسنه يَوْمئِذٍ أَربع وَعشْرين سنة وَكَانَت دولته سِتّ سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَمن نظمه مَا ذكره ابْن الْأَحْمَر فِي نثير الجمان مذيلا بَيْتِي وَالِده السُّلْطَان أبي الْحسن اللَّذين هما قَوْله (أرضي الله فِي سر وجهر ... وأحمي الْعرض من دنس ارتياب) (وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا ... وأضرب بِالسُّيُوفِ طلي الرّقاب) فَقَالَ هُوَ وَأحسن (وأرغب خالقي فِي الْعَفو عني ... وأطلب حلمه يَوْم الْحساب) (وَأَرْجُو عونه فِي عز نصر ... على الْأَعْدَاء محروس الجناب) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 (وَعَبْدك وَاقِف بِالْبَابِ فَارْحَمْ ... عبيدا خَائفًا ألم الْعقَاب) الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان السعيد بِاللَّه أبي زيان مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن هَذَا السُّلْطَان مِمَّن ولي الْأَمر وَهُوَ صبي وَفِيه ألف ابْن الْخَطِيب كِتَابه الْمُسَمّى بأعلام الْأَعْلَام بِمن بُويِعَ من مُلُوك الْإِسْلَام قبل الِاحْتِلَام كنيته أَبُو زيان أمه عَائِشَة بنت الْقَائِد فارح العلج صفته آدم اللَّوْن شَدِيد الأدمة وَلما مَاتَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز رَحمَه الله بِظَاهِر تلمسان خرج الْوَزير أَبُو بكر بن غَازِي بن الكاس على النَّاس وَقد احْتمل أَبَا زيان ابْن السُّلْطَان عبد الْعَزِيز فعزاهم عَن سلطانهم ثمَّ طرح ابْنه بَين أَيْديهم فازدحموا عَلَيْهِ بَاكِينَ متفجعين يعطونه الصَّفْقَة ويقبلون يَدَيْهِ لِلْبيعَةِ ثمَّ أَخْرجُوهُ للمعسكر وأنزلوه بفساطيط أَبِيه وَتمّ أمره وكفله الْوَزير الْمَذْكُور فَكَانَ إِلَيْهِ الإبرام والنقض وَالصَّبِيّ كَالْعدمِ إِذْ لم يكن فِي سنّ التَّصَرُّف ثمَّ إِن الْوَزير ارتحل بِالنَّاسِ وجد السّير فَدخل حَضْرَة فاس وأجلس الصَّبِي لبيعة الْعَامَّة فَبَايعُوا ثمَّ توافت لَدَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار على الْعَادة واستبد الْوَزير أَبُو بكر وَاسْتعْمل على الْجِهَات وَجلسَ بِمَجْلِس الْفَصْل واشتغل بِأَمْر الْمغرب إبراما ونقضا وَلما فصل بَنو مرين عَن تلمسان عَاد إِلَيْهَا سلطانها أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني والتفت عَلَيْهِ بَنو عبد الواد من كل جَانب ومحا دَعْوَة بني مرين من ضواحي الْمغرب الْأَوْسَط وأمصاره واتصل الْخَبَر بالوزير أبي بكر بن غَازِي فهم بالنهوض إِلَيْهِ ثمَّ ثنى عزمه مَا كَانَ من خُرُوج الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن بن أبي عَليّ بن أبي سعيد بِنَاحِيَة بطوية فَإِن السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر كَانَ قد سرحه من الأندلس صُحْبَة وزيره مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 لطلب ملك الْمغرب تشغيبا على الْوَزير أبي بكر بن غَازِي ثمَّ أتبعه بالأمير أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن السُّلْطَان أبي سَالم الَّذِي كَانَ محتاطا عَلَيْهِ بطنجة فزحف الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور إِلَى فاس وَظَاهره ابْن عَمه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن فحاصروا الْوَزير أَبَا بكر بن غَازِي وسلطانه أَبَا زيان ابْن عبد الْعَزِيز وضربوا على فاس الْجَدِيد سياجا بِالْبِنَاءِ للحصار وأنزلوا بِهِ أَنْوَاع الْقِتَال بعد أَن بعث ابْن الْأَحْمَر رسله إِلَى الْأَمِير عبد الرَّحْمَن باتصال الْيَد بِابْن عَمه الْأَمِير أبي الْعَبَّاس ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وَعقد بَينهمَا الِاتِّفَاق والمواصلة وَأَن يخْتَص عبد الرَّحْمَن بِملك سلفه من سجلماسة وأعمالها فتراضيا وزحفا إِلَى فاس كَمَا قُلْنَا وأمدهم ابْن الْأَحْمَر بِجمع من جنده فاستمر الْحَال على حِصَار فاس إِلَى أَن أذعن الْوَزير أَبُو بكر لخلع سُلْطَانه أبي زيان ومبايعة الْأَمِير أبي الْعَبَّاس فخلعه يَوْم الْأَحَد السَّادِس من محرم فاتح سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَغرب إِلَى الأندلس فَكَانَت دولته سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَالله غَالب على أمره الْخَبَر عَن الدولة الأولى للسُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي سَالم بن أبي الْحسن هَذَا السُّلْطَان يُقَال لَهُ ذُو الدولتين لِأَنَّهُ ولي الْملك مرَّتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي أمه حرَّة بنت أبي مُحَمَّد السبائي كنيته أَبُو الْعَبَّاس لقبه الْمُسْتَنْصر بِاللَّه صفته أَبيض اللَّوْن ربعَة تعلوه صفرَة رقيقَة أدعج أسود الشّعْر أكحل الحاجبين ضيق البلج أسيل الْخَدين براق الثنايا جميل الْوَجْه مليح الصُّورَة ظريف المنزع لطيف الشَّمَائِل حسن الشكل إِذا ركب بُويِعَ أَولا بطنجة فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسبعين وَسَبْعمائة ثمَّ بُويِعَ الْبيعَة الْعَامَّة بِالْمَدِينَةِ الْبَيْضَاء بعد استيلائه عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد السَّادِس من محرم سنة سِتّ وَسبعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 وَسَبْعمائة وَكَانَ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن عِنْدَمَا أشرفوا على فتح فاس شَرط عَلَيْهِم ولَايَة مراكش عوضا عَن سجلماسة فعقدوا لَهُ على كره مَخَافَة أَن تفترق كلمتهم وَلَا يتم أَمرهم فَفَعَلُوا وطووا لَهُ على النكث فارتحل إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ فَارقه وزيره مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن وَأَجَازَ الْبَحْر إِلَى الأندلس فاستقر بهَا فِي إيالة ابْن الْأَحْمَر واستقل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم بِملك فاس وأعمالها واستوزر مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وفوض إِلَيْهِ أُمُوره فغلب على هَوَاهُ وَجعل أَمر الشورى إِلَى سُلَيْمَان بن دَاوُد فاستقل بهَا وَحَازَ رياسة المشيخة واستحكمت الْمَوَدَّة بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَجعلُوا إِ ليه الْمرجع فِي نقضهم وإبرامهم فَصَارَ لَهُ بذلك تحكم فِي الدولة المرينية وَأصْبح الْمغرب كَأَنَّهُ من بعض أَعمال الأندلس وَذَلِكَ بِمَا كَانَ لِابْنِ الْأَحْمَر من إِعَانَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس على ملك الْمغرب حَتَّى تمّ لَهُ وَبِمَا كَانَ تَحت يَده من أَبنَاء الْمُلُوك المرشحين لِلْأَمْرِ فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس وحاشيته يصانعونه لأجل ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم محنة الْوَزير ابْن الْخَطِيب ومقتله رَحمَه الله لما لَجأ ابْن الْخَطِيب إِلَى بني مرين وَأصَاب عِنْدهم دَارا وقرارا عز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر وسعى بطانته عِنْده فِي ابْن الْخَطِيب لعداوتهم لَهُ ثمَّ بلغه أَنه يغري السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بتملك أَرض الأندلس وَقطع دَعْوَة بني الْأَحْمَر مِنْهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك ودبر الْحِيلَة فِي قتل ابْن الْخَطِيب وتتبع أعداؤه كَلِمَات زَعَمُوا أَنَّهَا صدرت مِنْهُ فِي بعض تآليفه فأحصوها عَلَيْهِ ورفعوها إِلَى قَاضِي غرناطة أبي الْحسن النباهي فاسترعاها وسجل عَلَيْهِ بالزندقة وَبعث ابْن الْأَحْمَر برسم الشَّهَادَة مَعَ هَدِيَّة لم يسمع بِمِثْلِهَا إِلَى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز وَطلب مِنْهُ إِقَامَة الْحَد على ابْن الْخَطِيب أَو إِ سَلَامه إِلَيْهِ فَصم السُّلْطَان عبد الْعَزِيز عَن ذَلِك وأنف لذمته أَن تخفر ولجواره أَن يُؤْذى وَقَالَ للوفد هلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 انتقمتم مِنْهُ وَهُوَ عنْدكُمْ وَأَنْتُم عالمون بِمَا كَانَ عَلَيْهِ وَأما أَنا فَلَا يخلص إِلَيْهِ بذلك أحد مَا كَانَ فِي جواري ثمَّ وفر الجراية والإقطاع لَهُ ولبنيه وَلمن جَاءَ من فرسَان الأندلس فِي جملَته ثمَّ لما مَاتَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز رَحمَه الله وَولي ابْنه أَبُو زيان وَقَامَ بأَمْره الْوَزير أَبُو بكر ابْن غَازِي عاود ابْن الْأَحْمَر الْكَلَام فِي شَأْن ابْن الْخَطِيب وَبعث بهدية أُخْرَى إِلَى الْوَزير الْمَذْكُور وَطلب مِنْهُ إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأبى الْوَزير وأساء الرَّد وعادت رسل ابْن الْأَحْمَر إِلَيْهِ مخفقين وَقد رهبوا سطوته فَعِنْدَ ذَلِك عمد ابْن الْأَحْمَر إِلَى الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن وَكَانَ عِنْده بالأندلس فأطمعه فِي ملك الْمغرب وأركبه الْبَحْر فقذف بِهِ بساحل بطوية من بِلَاد الرِّيف تشغيبا على الْوَزير أبي بكر بن غَازِي كَمَا مر ثمَّ ثاب لَهُ رَأْي آخر فأغرى مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وَهُوَ ابْن عَم أبي بكر بن غَازِي الْمَذْكُور وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسبتة قَائِما على ثغرها فداخله فِي الْبيعَة لأبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسبتة محتاطا عَلَيْهِ فِي جملَة من الْقَرَابَة وَالْتزم أَن يمده بِالْمَالِ وَالرِّجَال حَتَّى يتم أمره لَكِن بِشَرْط أَن ينزل لَهُ عَن جبل طَارق وَيبْعَث لَهُ بِالْقَرَابَةِ الَّذين هم بطنجة ليكونوا تَحت يَده وَيسلم إِلَيْهِ ابْن الْخَطِيب مَتى قدر عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس لما استولى على الْأَمر نزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن جبل طَارق فمحا دَعْوَة بني مرين من وَرَاء الْبَحْر ثمَّ ملك بعد ذَلِك سبتة فاستولى عَلَيْهَا وَبعث إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ الْمَذْكُورين فأوسع لَهُم جنابه بغرناطة ثمَّ قبض السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس ووزيره مُحَمَّد بن عُثْمَان على ابْن الْخَطِيب وطيروا بالأعلام لِابْنِ الْأَحْمَر فَحِينَئِذٍ بعث وزيره أَبَا عبد الله بن زمرك وَكَانَ من تلاميذه ابْن الْخَطِيب وَبِه تخرج فَقدم على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وأحضروا ابْن الْخَطِيب بالمشور فِي مجْلِس الْخَاصَّة وَأهل الشورى من الْفُقَهَاء وعرضوا عَلَيْهِ بعض كَلِمَات وَقعت لَهُ فِي بعض كتبه فَعظم عَلَيْهِ النكير فِيهَا فوبخ وَنكل وامتحن بِالْعَذَابِ بمشهد ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الْمَلأ ثمَّ ثل إِلَى محبسه وتفاوضوا فِي قَتله بِمُقْتَضى تِلْكَ المقالات المسجلة عَلَيْهِ فَأفْتى بعض الْفُقَهَاء بقتْله فَدس سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَيْهِ بعض الأوغاد حَاشِيَته من حَاشِيَته فطرقوا السجْن لَيْلًا وَمَعَهُمْ زعانفة من أهل الأندلس جاؤوا فِي لفيف ذَلِك الْوَفْد فَقَتَلُوهُ خنقا فِي محبسه وأخرجوا شلوه من الْغَد فَدفن فِي مَقْبرَة بَاب المحروق ثمَّ أصبح من الْغَد طريحا على شافة قَبره وَقد جمعُوا لَهُ أعوادا فأضرموها عَلَيْهِ نَارا فَاحْتَرَقَ شعره واسود بشره وأعيد إِلَى حفرته وَكَانَ فِي ذَلِك انْتِهَاء محنته وَعجب النَّاس من هَذِه السفاهة الَّتِي جَاءَ بهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد واعتدوها من هنتاته وَعظم النكير فِيهَا عَلَيْهِ وعَلى قومه وَأهل دولته وَكَانَ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله أَيَّام مقَامه بالسجن يتَوَقَّع مُصِيبَة الْمَوْت فتجيش هواتفه بالشعر يبكي نَفسه فمما قَالَ فِي ذَلِك (بَعدنَا وَإِن جاورتنا الْبيُوت ... وَجِئْنَا بوعظ وَنحن صموت) (وأنفسنا سكنت دفْعَة ... كجهر الصَّلَاة تلاه الْقُنُوت) (وَكُنَّا عظاما فصرنا عظاما ... وَكُنَّا نقوت فها نَحن قوت) (وَكُنَّا شموس سَمَاء الْعلَا ... غربنا فناحت عَلَيْهَا السموت) (فكم جدلت ذَا الحسام الظبي ... وَذُو البخت كم جدلته البخوت) (وَكم سيق للقبر فِي خرقَة ... فَتى ملئت من كَسَاه التخوت) (فَقل للعدا ذهب ابْن الْخَطِيب ... وَفَاتَ وَمن ذَا الَّذِي لَا يفوت) (فَمن كَانَ يفرح مِنْكُم لَهُ ... فَقل يفرح الْيَوْم من لَا يَمُوت) وَكَانَت نكبته رَحمَه الله أَوَائِل سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَعند الله تَجْتَمِع الْخُصُوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير مراكش عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن رَحمَه الله قد تقدم لنا مَا كَانَ من معاقدة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس والأمير عبد الرَّحْمَن ابْن أبي يفلوسن على ولَايَة سجلماسة أَولا ثمَّ التعويض عَنْهَا بمراكش ثَانِيًا فَلَمَّا فتح السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فاسا وفى للأمير عبد الرَّحْمَن بعقده فَسَار إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وعَلى أَعمالهَا واقتسمت مملكة الْمغرب الْأَقْصَى يَوْمئِذٍ بنصفين وَكَانَ الْحَد بَين الدولتين ثغر آزمور فَكَانَت فِي إيالة صَاحب فاس وَمَا وَرَاءَهَا إِلَى مراكش فِي إيالة صَاحب مراكش ثمَّ كَانَت بَينهمَا بعد ذَلِك مواصلات ومناقضات ومسالمات ومحاربات يطول جلبها واتصل ذَلِك إِلَى منتصف سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة فظفر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بِعَبْد الرَّحْمَن بعد محاصرته بقصبة مراكش تِسْعَة أشهر وَلما أشرف السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس على فتحهَا وانفض النَّاس من حول الْأَمِير عبد الرَّحْمَن ونزلوا من الأسوار ناجين إِلَى السُّلْطَان وَبَقِي هُوَ فِي قصبته مُنْفَردا بَات ليلته يُرَاوِد ولديه على الاستماتة وهما سليم وَأَبُو عَامر وَركب السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس من الْغَد فِي التعبية إِلَى القصبة فاقتحمها بمقدمته ولقيه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن وولداه مسابقين إِلَى الميدان ومباشرين الْقِتَال بَين أَبْوَاب دُورهمْ فجالوا مَعَهم جَوْلَة قتل فِيهَا الْولدَان قَتلهمْ عَليّ بن إِدْرِيس وزيان بن عمر الوطاسي قَالَ ابْن خلدون وطالما كَانَ زيان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خُيَلَاء فِي جاههم فَذهب مثلا فِي كفران النِّعْمَة وَسُوء الْجَزَاء وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة وَكَانَ ذَلِك خَاتم جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة لمضي عشر سِنِين من إِمَارَة عبد الرَّحْمَن على مراكش ثمَّ رَحل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس منقلبا إِلَى فاس وَقد استولى على سَائِر أَعمال الْمغرب وظفر بعدوه وَدفع النازعين عَن ملكه وَالله غَالب على أمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 ذكر الشاوية وَبَيَان نسبهم وأوليتهم وَشرح لقبهم وتسميتهم ذكر ابْن خلدون أَن الشاوية من ولد حسان بن أبي سعيد الصبيحي نِسْبَة إِلَى صبيح بِالتَّصْغِيرِ بطن من سُوَيْد وسُويد إِحْدَى قبائل بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ دُخُول حسان وأخيه مُوسَى ابْني أبي سعيد إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى أَيَّام السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قدمُوا فِي صُحْبَة عبد الله بن كندوز العَبْد الْوَادي ثمَّ الكمي وَكَانَ عبد الله هَذَا قد نزع عَن يغمراسن بن زيان إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب الْمَذْكُور فَقدم عَلَيْهِ قبل فتح مراكش فاهتز السُّلْطَان يَعْقُوب لقدومه وأحله بِالْمَكَانِ الرفيع من دولته وَأنزل قومه بجهات مراكش وأقطعهم الْبِلَاد الَّتِي كفتهم مهماتهم وَجعل انتجاع إبِله ورواحله وَسَائِر ظَهره فِي إحيائهم فَقدم عبد الله بن كندوز على رعايتها حسان وأخاه مُوسَى الصبيحيين وَكَانَا عارفين برعاية الْإِبِل وَالْقِيَام عَلَيْهَا فأقاموا يَتَقَلَّبُونَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد ويتعدون فِي نجعتها إِلَى أَرض سوس وَكَانَت مَاشِيَة السُّلْطَان يَعْقُوب مُتَفَرِّقَة فِي سَائِر الْمغرب فجمعها لعبد الله بن كندوز وَجَمعهَا عبد الله لحسان الصبيحي الْمَذْكُور فَكَانَ حسان يُبَاشر أُمُور السُّلْطَان فِي شَأْن تِلْكَ الْمَاشِيَة ويطالعه بمهماته فحصلت لَهُ مداخلة مَعَه جلبت إِلَيْهِ الْحَظ حَتَّى ارْتَفع قدره وَنَشَأ بنوه فِي ظلّ الدولة وعزها وتصرفوا فِي الولايات مِنْهَا وانفردوا بخطة الشاوية فَلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بَينهم لهَذَا الْعَهْد إِلَى مَا كَانُوا يتصرفون فِيهِ من غير ذَلِك من الولايات وَكَانَ لحسان من الْوَلَد عَليّ وَيَعْقُوب وَطَلْحَة وَغَيرهم وَمن حسان هَذَا تفرعت شعوبهم فِي وَلَده قَالَ ابْن خلدون وهم لهَذَا الْعَهْد يتصرفون فِي الدولة على مَا كَانَ لسلفهم من ولَايَة الشاوية وَالنَّظَر فِي رواحل السُّلْطَان وَالظّهْر الَّذِي يحمل من الْإِبِل وَلَهُم عدد وَكَثْرَة ونباهة فِي الدولة أه قلت وَلَفظ الشاوية نِسْبَة إِلَى الشَّاء الَّتِي هِيَ جمَاعَة الْغنم مثلا قَالَ الصِّحَاح وَالنِّسْبَة إِلَى الشَّاء شاوي قَالَ الراجز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 (لَا ينفع الشاوي فِيهَا شاته ... وَلَا حماراه وَلَا علاته) وَإِن سميت بِهِ رجلا قلت شائي وَإِن شِئْت شاوي اه وَاعْلَم أَن الشاوية الْيَوْم يطلقون على سكان تامسنا من قبائل شَتَّى بَعْضهَا عرب وَبَعضهَا زناتة وبربر غير أَن لِسَان الْجَمِيع عَرَبِيّ وَكَانَ أصل جمهورهم من هَؤُلَاءِ الَّذين ذكر ابْن خلدون ثمَّ انضافت إِلَيْهِم قبائل أخر واختلطوا بهم فَأطلق على الْجَمِيع شاوية تَغْلِيبًا وَهَكَذَا وَقع فِي سَائِر عرب الْمغرب الْأَقْصَى المواطنين بتلوله فَإِنَّهُم وَقع فيهم اخْتِلَاط كَبِير حَتَّى نسوا أنسابهم وأصولهم الأولى إِلَّا فِي النَّادِر وَذَلِكَ بِسَبَب تعاقب الْأَعْصَار وتناسخ الأجيال وتوالي المجاعات والانتجاعات ووقعات الْمُلُوك بهم فِي كثير من الأحيان وتفريق بَعضهم من بعض وَنقل بَعضهم إِلَى بِلَاد بعض وَمَعَ ذَلِك فأسماؤهم الأولى لَا زَالَت قَائِمَة فيهم لن تَتَغَيَّر إِلَى الْآن فَمِنْهَا يَهْتَدِي الفطن إِلَى التنقير عَن أنسابهم وإلحاق فروعهم بأصولهم مَتى احْتَاجَ إِلَى ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم نهوض السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس إِلَى تلمسان وَفتحهَا وتخريبها لما نَهَضَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى مراكش وحاصر بهَا عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن خَالفه إِلَى الْمغرب أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني فِي جمع من أَوْلَاد حُسَيْن عرب معقل وَذَلِكَ بإغراء عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فَدَخَلُوا إِلَى أحواز مكناسة وعاثوا فِيهَا ثمَّ عَمدُوا إِلَى مَدِينَة تازا فحاصروها سبعا وخربوا قصر الْملك هُنَالك ومسجده الْمَعْرُوف بقصر تازروت وبينما هم على ذَلِك بَلغهُمْ الْخَبَر الْيَقِين بِفَتْح مراكش وَقتل الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فأجفلوا من كل نَاحيَة وَمر أَبُو حمو فِي طَرِيقه إِلَى تلمسان بقصر ونزمار بن عريف السويدي فِي نواحي بطوية الْمُسَمّى بمرادة فهدمه وَوصل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى فاس فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ أجمع النهوض إِلَى تلمسان فَانْتهى إِلَى تاوريرت وَبلغ الْخَبَر إِلَى أبي حمو فاضطرب رَأْيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 واعتزم على الْحصار وَجمع أهل الْبَلَد عَلَيْهِ فَاسْتَعدوا لَهُ ثمَّ بدا لَهُ فَخرج فِي بعض تِلْكَ اللَّيَالِي بولده وَأَهله وخاصته وَأصْبح مخيما بالصفيصف فأهرع أهل الْبَلَد إِلَيْهِ بعيالهم وَأَوْلَادهمْ مُتَعَلقين بِهِ تفاديا من معرة هجوم الْعَسْكَر عَلَيْهِم فَلم يزعه ذَلِك عَن قَصده وارتحل ذَاهِبًا إِلَى الْبَطْحَاء ثمَّ قصد بِلَاد مغراوة فَنزل فِي بني بو سعيد قَرِيبا من شلف وَأنزل أَوْلَاده الأصاغرة وَأَهله بحصن تاجحمومت وَجَاء السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى تلمسان فملكها وَاسْتقر بهَا أَيَّامًا ثمَّ هدم أسوارها وقصور الْملك بهَا بإغراء وليه ونزمار جَزَاء بِمَا فعله أَبُو حمو فِي تخريب قصر تازروت وحصن مُرَادة ثمَّ خرج من تلسمان فِي اتِّبَاع أبي حمو وَنزل على مرحلة مِنْهَا وهنالك بلغه الْخَبَر بِإِجَازَة مُوسَى بن أبي عنان من الأندلس إِلَى الْمغرب وَأَنه خَالفه إِلَى دَار الْملك فانكفأ رَاجعا عوده على بدئه وَرجع أَبُو حمو إِلَى تلمسان فاستقر ملكه بهَا إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله خلع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم وتغريبه إِلَى الأندلس وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا مَا كَانَ من تحكم ابْن الْأَحْمَر فِي مملكة الْمغرب ودالته على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِمَا أَنه كَانَ السَّبَب فِي ولَايَته وَبِمَا تَحت يَده من الْقَرَابَة المرشحين الَّذين أرصدهم للتشغيب على دَار الْملك بالمغرب مَتى رأى من أحدهم مَا لَا يُوَافق هَوَاهُ وَكَانَ مَعَ كَثْرَة تحكمه فيهم يتجنى عَلَيْهِم فِي بعض الْأَوْقَات بِمَا يأتونه من تَقْصِير فِي شَفَاعَة أَو مُخَالفَة فِي أَمر لَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا فيضطغن ذَلِك عَلَيْهِم وَكَانَ يعْتد على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِشَيْء من هَذِه الهنات فَلَمَّا نَهَضَ إِلَى تلمسان وَاسْتولى عَلَيْهَا سنة خمس وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة اتَّصل بِابْن الْأَحْمَر أَن دَار الْملك بفاس قد بقيت عَورَة من الْجند والحامية فانتهز الفرصة وبادر بتسريح مُوسَى ابْن السُّلْطَان أَبى عنان إِلَى الْمغرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 واستوزر لَهُ مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي رَئِيس الْفِتْنَة وقطب رحاها وَكَانَ عِنْده بالأندلس بعد مُفَارقَة عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن فَنزل مُوسَى ابْن أبي عنان سبتة فاستولى عَلَيْهَا وَسلمهَا لِابْنِ الْأَحْمَر فَدخلت فِي طَاعَته ثمَّ تقدم إِلَى فاس فَدَخلَهَا من يَوْمه وَاسْتقر قدمه بهَا واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْعَبَّاس وَهُوَ بتلمسان فجَاء مبادرا وَنزل بتازا فَأَقَامَ بهَا أَرْبعا ثمَّ تقدم إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالركن فَانْتقضَ عَلَيْهِ رُؤَسَاء جَيْشه وتسللوا إِلَى مُوسَى طوائف وأفرادا وَلما رأى مَا نزل بِهِ رَجَعَ إِلَى تازا بعد أَن انتهب مُعَسْكَره وأضرمت النَّار فِي خيامه وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الموفي ثَلَاثِينَ من ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة ثمَّ بعث مُوسَى بن أبي عنان من أَتَاهُ بالسلطان أبي الْعَبَّاس فِي الْأمان فَقدم عَلَيْهِ وَقَيده وَبعث بِهِ إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَبَقيَ عِنْده محتاطا عَلَيْهِ إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَكَانَت دولته هَذِه عشر سِنِين وشهرين وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا وَمن وزرائه فِي هَذِه الدولة مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس المجذولي وَمن كِتَابه عبد الْمُهَيْمِن ابْن أبي سعيد بن عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ تغمد الله الْجَمِيع برحمته الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي فَارس مُوسَى ابْن أبي عنان بن أبي الْحسن أمه مولدة اسْمهَا تاملالت صفته أسمر مائل إِلَى السوَاد قصير الْقَامَة جاحظ الْعَينَيْنِ عَظِيم اللِّحْيَة تملأ صَدره قَائِم الْأنف وَإِذا تكلم يمْلَأ لِسَانه فَمه فَيخرج من بَين شَفَتَيْه ويتحرك فيقبح كَلَامه بُويِعَ يَوْم الْخَمِيس الموفي عشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بِأَمْر دولته وزيره مَسْعُود بن ماساي مستبدا عَلَيْهِ وَلما اسْتَقر أمره بالحضرة وَجه إِلَيْهِ ابْن الْأَحْمَر أمه وَعِيَاله وَكَانُوا عِنْده وهناه وزيره أَبُو عبد الله بن زمرك بتوشيح يَقُول فِي مطلعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 (قد نظم الشمل أتم انتظام ... ولاحت الأقمار بعد المغيب) (وضاحك الرَّوْض ثغور الْغَمَام ... عَن مبسم الزهر البرود الشيب) إِلَى أَن قَالَ فِي آخِره (مولَايَ يهنيك وَحقّ الهنا ... قد نظم الشمل كنظم السُّعُود) (قد فزت بالفخر ونيل المنى ... وأنجز السعد جَمِيع الوعود) (وقرت الْعين وَزَالَ العنا ... وَكلما مر صَنِيع يعود) (وَلم يزل ملكك حلف الدَّوَام ... يحوز فِي التخليد أوفى نصيب) (يَتْلُو عَلَيْك الدَّهْر بعد السَّلَام ... نصر من الله وَفتح قريب) خُرُوج الْحسن بن النَّاصِر بغمارة ونهوض الْوَزير ابْن ماساي إِلَيْهِ كَانَ الْحسن بن النَّاصِر بن أبي عَليّ بن أبي سعيد قد لحق من مقره بالأندلس بِحَضْرَة تونس فِي سَبِيل طلب الْملك وَكَانَ الْوَزير مَسْعُود بن ماساي قد قتل مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الكاس وافترقت حَاشِيَته فِي الْجِهَات فطلبوا بطن الأَرْض دون ظهرهَا وَلحق مِنْهُم ابْن أَخِيه الْعَبَّاس بن الْمِقْدَاد بتونس فعثر على الْحسن بن النَّاصِر بهَا فَثَابَ لَهُ رَأْي فِي الرُّجُوع بِهِ إِلَى الْمغرب لطلب الْأَمر فَخرج بِهِ من تونس وَقطع المفاوز إِلَى أَن انْتهى إِلَى جبال غمارة وَنزل على أهل الصفيحة مِنْهُم فأكرموا مثواه ومنقلبه وأعلنوا بِالْقيامِ بدعوته واستوزر الْعَبَّاس بن الْمِقْدَاد وَبلغ الْخَبَر إِلَى مَسْعُود الْوَزير فَجهز العساكر مَعَ أَخِيه مهْدي بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي فحاصره بجبل الصَّحِيفَة أَيَّامًا فَامْتنعَ عَلَيْهِ فَنَهَضَ إِلَيْهِ مَسْعُود بِنَفسِهِ على مَا نذكرهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَفَاة السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان رَحمَه الله لما كَانَ من استبداد ابْن ماساي على السُّلْطَان مُوسَى مَا قدمْنَاهُ استنكف من ذَلِك وداخل بطانته فِي الفتك بِهِ فنما ذَلِك إِلَيْهِ وحصلت لَهُ نفرة من السُّلْطَان طلب لأَجلهَا الْبعد عَنهُ وبادر إِلَى الْخُرُوج لدافعة الْحسن بن النَّاصِر الْقَائِم بغمارة واستخلف على دَار الْملك أَخَاهُ يعِيش بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي فَلَمَّا انْتهى إِلَى قصر كتامة بلغه الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان مُوسَى وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الْآخِرَة طرقه الْمَرَض فَهَلَك ليَوْم وَلَيْلَة من مَرضه وَكَانَ النَّاس يرْمونَ يعِيش أَخا الْوَزير بِأَنَّهُ سمه قَالَه ابْن خلدون وَقَالَ ابْن القَاضِي فِي الجذوة توفّي السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان مسموما يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَله إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة فَكَانَت دولته سنتَيْن وَأَرْبَعَة أشهر وَولي بعده مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سَالم اه وَمن كِتَابه أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو التَّمِيمِي وَأَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن سَوْدَة المري وَمن قُضَاته أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد المغيلي وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن دولة الْمُنْتَصر بِاللَّه السُّلْطَان أبي زيان مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم بن أبي الْحسن أمه حرَّة وَهِي رقية بنت السُّلْطَان أبي عنان صفته أَبيض اللَّوْن قَائِم الْأنف أسيل الْخَدين بُويِعَ بعد خَاله مُوسَى بن أبي عنان يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وسنه يَوْم بُويِعَ خمس سِنِين وخلع يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَغرب إِلَى الأندلس مَعَ أَبِيه فَكَانَت دولته ثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا تَحت استبداد الْوَزير مَسْعُود عَفا الله عَنهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الواثق بِاللَّه أبي زيان مُحَمَّد بن أبي الْفضل بن أبي الْحسن أمه أم ولد اسْمهَا عسيلة صفته أسود اللَّوْن عَظِيم الْخلق رحب الْوَجْه طَوِيل الْقَامَة والساقين ممتلئ الْأنف عَظِيم الساعدين وَكَانَ قبل ولَايَته عِنْد ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فِي جملَة الْقَرَابَة وَلما استوحش الْوَزير مَسْعُود من السُّلْطَان مُوسَى بن أبي عنان بعث ابْنه يحيى إِلَى ابْن الْأَحْمَر يسْأَل مِنْهُ إِعَادَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس إِلَى ملكه فَأخْرجهُ ابْن الْأَحْمَر من الاعتقال وَجَاء بِهِ إِلَى جبل الْفَتْح يروم إِجَازَته إِلَى العدوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان مُوسَى بدا للوزير مَسْعُود فِي أمره ودس لِابْنِ الْأَحْمَر فِي رده وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ بالواثق هَذَا وَرَآهُ أليق بالاستبداد وَالْحجر فأسعفه ابْن الْأَحْمَر فِي ذَلِك ورد السُّلْطَان أَحْمد إِلَى مَكَانَهُ بالحمراء وَجِيء بالواثق فَحَضَرَ بجبل الْفَتْح عِنْده فَأَجَازَهُ إِلَى سبتة وَاتفقَ أَن جمَاعَة من الْحَاشِيَة انتقضوا على الْوَزير مَسْعُود وَلَحِقُوا بسبتة فَقدم عَلَيْهِم الواثق بهَا وَرَجَعُوا بِهِ إِلَى الْمغرب وتقلبوا فِي نواحيه إِلَى أَن وصلوا إِلَى جبل مغيلة قرب فاس فبرز الْوَزير مَسْعُود فِي العساكر وَنزل قبالتهم وَقَاتلهمْ هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن يُبَايع مَسْعُود للواثق بِشَرْط الاستبداد فتم العقد على ذَلِك قَالَ فِي الجذوة بُويِعَ السُّلْطَان الواثق بِاللَّه أَبُو زيان مُحَمَّد بن أبي الْفضل يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بأَمْره الْوَزير مَسْعُود بن ماساي ثمَّ حدثت الْفِتْنَة بَين الْوَزير الْمَذْكُور وَابْن الْأَحْمَر بِسَبَب أَن الْوَزير طلب مِنْهُ إِعَادَة سبتة إِلَى الإيالة المرينية وَكَانَ مُوسَى ابْن أبي عنان قد نزل لَهُ عَنْهَا كَمَا مر وَكَانَ طلبه على سَبِيل الملاطفة فاستشاط ابْن الْأَحْمَر غَضبا وأساء الرَّد فَجهز ابْن ماساي العساكر لحصار سبتة مَعَ الْعَبَّاس بن عمر بن عُثْمَان الوسنافي وَيحيى بن علال بن آمصمود والرئيس مُحَمَّد بن أَحْمد الأبكم من بني الْأَحْمَر فاستولى عَلَيْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 ثمَّ سرح ابْن الْأَحْمَر السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس من اعتقاله وَبَعثه إِلَى الْمغرب لطلب ملكه وللتشغيب على ابْن ماساي الجاحد لإحسانه فَعبر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْبَحْر إِلَى الْمغرب فاحتل سبتة وَاسْتولى عَلَيْهَا ثمَّ تقدم إِلَى فاس فحاصرها وضيق على ابْن ماساي وسلطانه الواثق بِاللَّه وأهرع النَّاس إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَته حَتَّى من مراكش فاستمر الْحصار على فاس الْجَدِيد ثَلَاثَة أشهر ثمَّ أذعن الْوَزير مَسْعُود للطاعة على شَرط أَن يبْقى وزيرا ويغرب سُلْطَانه إِلَى الأندلس فَأُجِيب وخلع الواثق بِاللَّه ثمَّ خرج إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَبَايعهُ وَتقدم أَمَامه فَدخل دَاخل ملكه يَوْم الْخَمِيس خَامِس رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة ولحين دُخُوله قبض على الواثق بِاللَّه فقيده وَبعث بِهِ إِلَى طنجة فَقتل بهَا بعد ذَلِك وسنه يَوْم قتل ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَبهَا قبر وَمن وزرائه يعِيش بن عَليّ بن فَارس الياباني ومسعود بن رحو بن ماساي وَمن كِتَابه مَنْصُور بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي وَأَبُو يحيى مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن أبي مَدين وَمن قُضَاته أَبُو يحيى مُحَمَّد بن مُحَمَّد السكاك رَحِمهم الله تَعَالَى بمنه الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم بن أبي الْحسن لما دخل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس حَضْرَة فاس الْجَدِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ الْبيعَة الْعَامَّة فِي الْيَوْم الثَّالِث من دُخُوله وَهُوَ يَوْم السبت السَّابِع من رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة لمضي ثَلَاث سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام من خلعه وَلما ملك أَمر نَفسه قبض على الْوَزير ابْن ماساي وعَلى إخْوَته وحاشيته وامتحنهم امتحانا بليغا فهلكوا من الْعَذَاب ثمَّ سلط على مَسْعُود من الْعَذَاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 والانتقام مَا لَا يعبر عَنهُ واعتد عَلَيْهِ بِمَا كَانَ يَفْعَله فِي دور بني مرين النازعين عَنهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَتى هرب مِنْهُم أحد عمد إِلَى بيوته فنهبها فَأمر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بعقابه فِي أطلالها فَكَانَ يُؤْتى بِهِ إِلَى كل بَيت فِيهَا فَيضْرب عشْرين سَوْطًا إِلَى أَن برح بِهِ الْعَذَاب وَتجَاوز الْحَد ثمَّ أَمر بِهِ فَقطعت أربعته فَهَلَك عِنْد قطع الثَّانِيَة وَذهب مثلا للآخرين ظُهُور مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم بن أبي عَليّ بسجلماسة ثمَّ اضمحلاله بعد ذَلِك قد قدمنَا أَن الْأَمِير عبد الْحَلِيم بن أبي سعيد كَانَ تغلب على سجلماسة ثمَّ غَلبه عَلَيْهَا أَخُوهُ عبد الْمُؤمن وسافر عبد الْحَلِيم إِلَى الْمشرق فَهَلَك فِي سفرته تِلْكَ وَكَانَ قد ترك ابْنه مُحَمَّدًا هَذَا رضيعا فشب متقلبا بَين الدول من ملك إِلَى آخر على أَن أَكثر مقَامه إِنَّمَا كَانَ عِنْد أبي حمو صَاحب تلمسان وَلما حاصر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فاس الْجَدِيد كَانَ مُحَمَّد هَذَا عِنْد الْعَرَب الأحلاف فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحصار على مَسْعُود بن ماساي دس إِلَى الأحلاف أَن ينصبوا مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم لِلْأَمْرِ ويجلبوا بِهِ على الْمغرب ليَأْخُذ بحجزة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس عَنهُ فَفَعَلُوا وَدخل مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم سجلماسة فملكها حَتَّى إِذا استولى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس على فاس الْجَدِيد وأوقع بمسعود ابْن ماساي وَإِخْوَته خرج مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم عَن سجلماسة وَلحق بأحياء الْعَرَب فسارت طَائِفَة مِنْهُم مَعَه إِلَى أَن أبلغوه مأمنه وَنزل على أبي حموا بتلمسان إِلَى أَن هلك فَسَار إِلَى تونس وَنزل على صَاحبهَا أبي الْعَبَّاس الحفصي ثمَّ ارتحل بعد وَفَاته إِلَى الْمشرق لحج الْفَرِيضَة وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 نكبة الْكَاتِب ابْن أبي عَمْرو وحركات بن حسون ومقتلهما كَانَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو التَّمِيمِي وَقد تقدم ذكر وَالِده فِي دولة السُّلْطَان أبي عنان كَاتبا عِنْد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فِي دولته الأولى فَلَمَّا خلع وَولي مُوسَى بن أبي عنان تقرب إِلَيْهِ بسالف المخالصة لِأَبِيهِ من أبي عنان فقد كَانَ أعز بطانته كَمَا مر فاستخلصه السُّلْطَان مُوسَى للشورى وَرفع مَنْزِلَته على منَازِل أهل الدولة وَجعل إِلَيْهِ كِتَابَة علامته على المراسم السُّلْطَانِيَّة كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وَكَانَ يفاوضه فِي مهماته وَيرجع إِلَيْهِ فِي أُمُوره حَتَّى غص بِهِ أهل الدولة وسعى هُوَ عِنْد السُّلْطَان مُوسَى فِي جمَاعَة من بطانة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَأتى عَلَيْهِم النكال وَالْقَتْل لكلمات كَانَت تجْرِي بَينهم وَبَينه فِي مجَالِس المنادمة عِنْد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس حقدها عَلَيْهِم فَلَمَّا ظفر بالحظ من السُّلْطَان مُوسَى سعى بهم عِنْده فَقَتلهُمْ وَكَانَ القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم اليزناسني من بطانة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَكَانَ يحضر مَعَ ندمائه فحقد عَلَيْهِ ابْن أبي عَمْرو وأغرى بِهِ السُّلْطَان مُوسَى فَضَربهُ وأطافه وَجَاء بهَا شنعاء غَرِيبَة فِي الْقبْح ثمَّ سفر ابْن أبي عَمْرو عَن سُلْطَانه مُوسَى إِلَى الأندلس فَكَانَ يمر بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس من مَحل اعتقاله فَلَا يلم بِهِ وَرُبمَا يلقاه فَلَا يحييه وَلَا يُوجب لَهُ حَقًا فأحفظ ذَلِك السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس فَلَمَّا رد الله عَلَيْهِ ملكه وَفرغ من ابْن ماساي قبض على ابْن أبي عَمْرو هَذَا وأودعه السجْن ثمَّ امتحنه بعد ذَلِك إِلَى أَن هلك تَحت السِّيَاط وَحمل إِلَى دَاره وبينما أَهله يحضرونه إِلَى قَبره إِذا بالسلطان قد أَمر بِأَن يسحب فِي نواحي الْمَدِينَة إبلاغا فِي النكال فَحمل من نعشه وَقد ربط فِي رجله حَبل وسحب فِي سِكَك الْمَدِينَة ثمَّ ألقِي على بعض الْمَزَابِل ثمَّ قبض السُّلْطَان على حركات بن حسون شيخ الْعَرَب وَكَانَ مجلبا فِي الْفِتْنَة وَكَانَ الْعَرَب المخالفون من معقل لما أجَاز السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 سبتة وحركات هَذَا بتادلا راودوه على طَاعَة السُّلْطَان فَامْتنعَ أَولا ثمَّ أكرهوه وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان فطوى على ذَلِك حَتَّى إِذا استقام أمره وَملك حَضْرَة فاس الْجَدِيد قبض عَلَيْهِ وامتحنه إِلَى أَن هلك وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور أَخْبَار تلمسان واستيلاء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس عَلَيْهَا كَانَ السُّلْطَان أَبُو حمو بن يُوسُف الزياني قد عَاد إِلَى تلمسان وَثَبت قدمه بهَا كَمَا قُلْنَا إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ ابْنه أَبُو تاشفين آخر سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة فَوَقَعت بَينهمَا حروب وشرق أَبوهُ بدائه ثمَّ عَادَتْ لَهُ الكرة عَلَيْهِ فِي أَخْبَار طَوِيلَة فاستمد أَبُو تاشفين السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس فأمده بِابْنِهِ الْأَمِير أبي فَارس ووزيره مُحَمَّد بن يُوسُف بن علال عقد لَهما على جَيش كثيف من بني مرين وَغَيرهم فانتصر أَبُو تاشفين على أَبِيه فَقتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس ثمَّ تقدم فَدخل تلمسان آخر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَاسْتمرّ بهَا مُقيما لدَعْوَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فَكَانَ يخْطب لَهُ على مَنَابِر تلمسان وَيبْعَث إِلَيْهِ بالضريبة كل سنة كَمَا شَرط على نَفسه عِنْد تَوْجِيه العساكر مَعَه وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَسَبْعمائة فتغلب على تلمسان أَخُوهُ الْأَخير يُوسُف بن أبي حمو وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْعَبَّاس خرج من الحضرة إِلَى تازا وَمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 هُنَالك بعث ابْنه الْأَمِير أَبَا فَارس فِي العساكر إِلَى تلمسان فاستولى عَلَيْهَا وَأقَام فِيهَا دَعْوَة وَالِده وفر يُوسُف بن أبي حمو إِلَى بعض الْحُصُون فاعتصم بِهِ إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وُصُول هَدِيَّة صَاحب مصر السُّلْطَان الظَّاهِر برقوق إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بتازا وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ الْعَلامَة الرئيس ولي الدّين ابْن خلدون قد استوطن فِي آخر عمره مصر الْقَاهِرَة وَنزل من سلطانها بالمنزلة الرفيعة قَالَ رَحمَه الله وَكَانَ يُوسُف ابْن عَليّ بن غَانِم أَمِير أَوْلَاد حُسَيْن من معقل ثمَّ من أَوْلَاد جرار مِنْهُم قد حج سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة واتصل بِصَاحِب مصر الْملك الظَّاهِر برقوق أول مُلُوك الجراكسة من التّرْك قَالَ فتقدمت إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور فِيهِ وأخبرته بمحله من قومه فَأكْرم تلقيه وَحمله بعد قَضَاء حجه هَدِيَّة إِلَى صَاحب الْمغرب يطرفه فِيهَا بتحف من بضائع بَلَده على عَادَة الْمُلُوك فَلَمَّا قدم يُوسُف بهَا على السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أعظم موقعها وَجلسَ فِي مجْلِس حفل لعرضها والمباهاة بهَا وَشرع فِي الْمُكَافَأَة عَلَيْهَا بمتخير الْجِيَاد والبضائع وَالثيَاب حَتَّى إِذا اسْتكْمل من ذَلِك مَا رضيه وعزم على بعثها مَعَ يُوسُف بن عَليّ حاملها الأول وَإنَّهُ يَبْعَثهُ بهَا من مَوضِع مقَامه بتازا اخترمته الْمنية دون ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله ... كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بِمحل مقَامه من تازا وَهُوَ يشارف أَحْوَال ابْنه أبي فَارس ووزيره صَالح بن حمو الياباني وَكَانَ قد قدمهما لفتح تلمسان والبلاد الشرقية فَأَصَابَهُ حمامه هُنَالك لَيْلَة الْخَمِيس السَّابِع من محرم فاتح سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالقلة وسنه يَوْمئِذٍ تسع وَثَلَاثُونَ سنة فَكَانَت دولته الثَّانِيَة سِتّ سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَمن وزرائه فِي هَذِه الدولة صَالح بن حمو الياباني وَمُحَمّد بن يُوسُف بن علال الصنهاجي وَمن حجابه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي وَمن كِتَابه الشريف أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله الحسني السبتي والقائد مُحَمَّد بن مُوسَى بن مَحْمُود الْكرْدِي وَيحيى بن الْحسن بن أبي دلامة التسولي وَمن قُضَاته القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم اليزناسني قَالَ فِي الجذوة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس شَاعِرًا مفلقا بديع التَّشْبِيه فَمن نظمه قَوْله (أما الْهوى يَا صَاحِبي فألقته ... وعهدته من عهد أَيَّام الصِّبَا) (ورأيته قوت النُّفُوس وحليها ... فتخذته دينا إِلَيّ ومذهبا) (ولبست دون النَّاس مِنْهُ حلَّة ... كَانَ الْوَفَاء لَهَا طرازا مذهبا) (لَكِن رَأَيْت لَهُ الْفِرَاق منغصا ... لَا بفراقنا لَا مرْحَبًا) وَمن أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس مَا حَكَاهُ فِي نفح الطّيب أَن الأديب الْكَاتِب أَبَا الْحسن عَليّ ابْن الْوَزير لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب كَانَ مصاحبا للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس هَذَا فَحَضَرَ مَعَه ذَات يَوْم فِي بُسْتَان سح فِيهِ مَاء المذاكرة الهتان وَقد أبدى الْأَصِيل شَوَاهِد الاصفرار وأزمع النَّهَار لما قدم اللَّيْل على الْفِرَار فَقَالَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس لما لَان جَانِبه وَسَأَلت بَين سرحات الْبُسْتَان جداوله ومذانبه (يَا فاس أَنِّي وأيم الله ذُو شغف ... بِكُل ربع بِهِ مغناه يسبيني) (وَقد أنست بقربك مِنْك يَا آملي ... ونظرة فِيكُم بالأنس تحييني) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 فَأَجَابَهُ أَبُو الْحسن ابْن الْخَطِيب بقوله الْمُصِيب (لَا أوحش الله ربعا أَنْت زَائِره ... يَا بهجة الْملك وَالدُّنْيَا مَعَ الدّين) (يَا أَحْمد الْحَمد أبقاك الْإِلَه لنا ... فَخر الْمُلُوك وسلطان السلاطين) وَمن أخباره أَيْضا أَن كَاتبه أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أَحْمد بن عبد المنان دخل عَلَيْهِ عشَاء فَقَالَ لَهُ أنعم الله صباح مَوْلَانَا فَأنْكر السُّلْطَان ذَلِك وَظن أَنه ثمل فتفطن أَبُو زَكَرِيَّاء لما صدر مِنْهُ وتدارك ذَلِك فَأَنْشد مرتجلا (صبحته عِنْد الْمسَاء فَقَالَ لي ... مَاذَا الْكَلَام وَظن ذَلِك مزاحا) (فأجبته إشراق وَجهك غرني ... حَتَّى توهمت الْمسَاء صباحا) الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي فَارس عبد الْعَزِيز ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله من الِاتِّفَاق الْغَرِيب أَن سُلْطَان فاس وَالْمغْرب فِي هَذَا التَّارِيخ كَانَ اسْمه عبد الْعَزِيز بن أَحْمد وسلطان تونس وإفريقية كَانَ اسْمه أَيْضا عبد الْعَزِيز بن أَحْمد وَكَانَت ولايتهما فِي سنة وَاحِدَة إِلَّا أَن مُدَّة الحفصي طَالَتْ جدا أم هَذَا السُّلْطَان أم ولد اسْمهَا جَوْهَر صفته شَاب السن ربعَة من الْقَوْم أدعج الْعَينَيْنِ جميل الْوَجْه لما توفّي السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله بتازا كَانَ ابْنه أَبُو فَارس هَذَا بتلمسان فاستدعاه رجال الدولة مِنْهَا فَقدم عَلَيْهِم بتازا وَبَايَعُوهُ بهَا يَوْم السبت التَّاسِع من محرم سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَلما تمّ أمره أطلق أَبَا زيان بن أبي حمو الزياني وَكَانَ معتقلا عِنْده بفاس لالتجائه إِلَى أَبِيه من قبل فِي خبر لَيْسَ تَفْصِيله من غرضنا وَبَعثه إِلَى تلمسان أَمِيرا عَلَيْهَا من قبله فَسَار إِلَيْهَا أَبُو زيان وملكها وَأقَام فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي فَارس ثمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ يُوسُف بن أبي حمو واتصل بأحياء بني عَامر بن زغبة وعزم على الإجلاب عَلَيْهِ بهم فسرب أَبُو زيان فيهم الْأَمْوَال فَقَتَلُوهُ وبعثوا إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ فسكنت أَحْوَال تلمسان وَذَهَبت الْفِتْنَة بذهاب يُوسُف واستقامت أُمُور دولة السُّلْطَان أبي فَارس قَالَه ابْن خلدون وَهُوَ آخر مَا ورخه عَن دولة الْمغرب وَاعْلَم أَن مَا نسوقه بعد هَذَا من الْأَخْبَار عَن هَذِه الدولة المرينية لم يسمح لنا الْوَقْت بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ فِي تأليف يَخُصهَا أَو مَوْضُوع يقص أَخْبَارهَا نسقا وينصها وَإِنَّمَا تتبعنا مَا أَثْبَتْنَاهُ من ذَلِك فِي مَوَاضِع ذكرت فِيهَا بِحَسب التبع لَا بِالْقَصْدِ الأول وعَلى الله تَعَالَى فِي الْهِدَايَة إِلَى الصَّوَاب الْمعول بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان عبد الْعَزِيز ووفاته قَالُوا كَانَ السُّلْطَان عبد الْعَزِيز بن أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله كثير الشَّفَقَة رَقِيق الْقلب منقبضا عَن الْغدر متوقفا فِي سفك الدِّمَاء وَكَانَ فَارِسًا عَارِفًا بركض الْخَيل وَيحسن قرض الشّعْر وَيُحب سَمَاعه فَمن نظمه وَقد نزل الْمَطَر يشْكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ قَوْله (الله يلطف بالعباد فَوَاجِب ... أَن يشكروا فِي كل حَال نعْمَته) (فَهُوَ الَّذِي فيهم ينزل غيثه ... من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته) توفّي رَحمَه الله يَوْم السبت ثامن صفر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَدفن مَعَ أَبِيه بالقلة فَكَانَت دولته ثَلَاث سِنِين وشهرا وَمن وزرائه صَالح بن حمو الياباني وَيحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري وَمن كِتَابه يحيى بن الْحسن ابْن أبي دلامة وَمن قُضَاته عبد الْحَلِيم بن أبي إِسْحَاق اليزناسني رَحِمهم الله تَعَالَى بمنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي عَامر عبد الله ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم رَحمَه الله تَعَالَى هَذَا السُّلْطَان شَقِيق الَّذِي قبله أمه الْجَوْهَر الْمُتَقَدّمَة صفته أدعج الْعَينَيْنِ حسن الْأنف لامي العذار بُويِعَ بعد أَخِيه عبد الْعَزِيز يَوْم السبت الثَّامِن من صفر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَكَانَ التَّصَرُّف والنقض والإبرام فِي هَذِه الْمدَّة كلهَا للوزراء وَتُوفِّي السُّلْطَان الْمَذْكُور بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء الموفي ثَلَاثِينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانمِائَة فَكَانَت دولته سنة وَخَمْسَة أشهر سوى أَيَّام وَمن وزرائه صَالح بن حمو وَيحيى بن علال وَمن قُضَاته عبد الرَّحِيم اليزناسني وَمن حجابه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي وفارح بن مهْدي العلج وَالله تَعَالَى أعلم وَأما أَخْبَار الْغَنِيّ بِاللَّه ابْن الْأَحْمَر بالأندلس فَإِنَّهُ كَانَ أسقط رياسة الْجِهَاد من بني مرين بهَا ومحا رسمها من مَمْلَكَته أَيَّام أجَاز عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن للتشغيب على أبي بكر بن غَازِي بن الكاس حَسْبَمَا تقدم وَصَارَ أَمر الْغُزَاة والمجاهدين إِلَيْهِ وباشر أَحْوَالهم بِنَفسِهِ وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة فولي مَكَانَهُ ابْنه أَبُو الْحجَّاج يُوسُف وَبَايَعَهُ النَّاس وَقَامَ بأَمْره خَالِد مولى أَبِيه وتقبض على إخْوَته سعد وَمُحَمّد وَنصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بهم وَلم يُوقف لَهُم بعد على خبر ثمَّ سعى عِنْده فِي خَالِد الْقَائِم بدولته وَأَنه أعد السم لقَتله وَأَن يحيى بن الصَّائِغ الْيَهُودِيّ طَبِيب دَارهم قد دَاخله فِي ذَلِك ففتك بِخَالِد وتناوشته السيوف بَين يَدَيْهِ لسنة أَو نَحْوهَا من ملكه ثمَّ حبس الطَّبِيب الْمَذْكُور فذبح فِي محبسه ثمَّ هلك سنة أَربع وَتِسْعين وَسَبْعمائة لِسنتَيْنِ أَو نَحْوهَا من ولَايَته وَقد وقفت لبَعض الإصبنيوليين واسْمه منويل باولو القشتيلي على كتاب مَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى فنقلت مِنْهُ بعض أَخْبَار لم أَجدهَا إِلَّا عِنْده وَهُوَ وَإِن كَانَ ينْقل الغث والسمين والرخيص والثمين إِلَّا أَن النَّاقِد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الْبَصِير يُمَيّز حصباءه من دره وَيفرق بَين حشفه وثمره فَمن ذَلِك أَنه حكى عَن السُّلْطَان أبي الْحجَّاج الْمَذْكُور مَا صورته قَالَ كَانَت مراسلات السُّلْطَان المريني يَعْنِي السُّلْطَان أَبَا الْعَبَّاس مَعَ السُّلْطَان يُوسُف بن الْغَنِيّ بِاللَّه صَاحب غرناطة حَسَنَة فِي الظَّاهِر تدل على الْمُوَافقَة والمحبة وَكَانَ المريني فِي الْبَاطِن يحب الِاسْتِيلَاء على مملكة غرناطة وَلما لم يُمكنهُ ذَلِك بِالسَّيْفِ عدل إِلَى أَعمال الْحِيلَة فأهدى إِلَى السُّلْطَان أبي الْحجَّاج كسى رفيعة أَحدهَا مَسْمُومَة فلبسها فَهَلَك لحينه وَمَعَ ذَلِك فَلم يدْرك المريني غَرَضه فَإِنَّهُ لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى توفّي أَيْضا اه وَلم توفّي أَبُو الْحجَّاج بُويِعَ ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف وَقَامَ بأَمْره الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الخصاصي من صنائع أَبِيه قَالَ ابْن خلدون وَالْحَال على ذَلِك لهَذَا الْعَهْد ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة خمسين وَسَبْعمائة كَانَ الوباء الَّذِي عَم المسكونة شرقا وغربا على مَا نبهنا عَلَيْهِ فِيمَا مضى وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة توفّي الْوَلِيّ الزَّاهِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن عمر بن مُحَمَّد بن عَاشر الأندلسي نزيل سلا الْعَارِف الْمَشْهُور قَالَ أَبُو عبد الله بن سعد التلمساني فِي كِتَابه النَّجْم الثاقب فِيمَا لأولياء الله من المناقب كَانَ ابْن عَاشر أحد الْأَوْلِيَاء الأبدال معدودا فِي كبار الْعلمَاء مَشْهُورا بإجابة الدُّعَاء مَعْرُوفا بالكرامات مقدما فِي صُدُور الزهاد مُنْقَطِعًا عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَلَو كَانُوا من صالحي الْعباد ملازما للقبور فِي الْخَلَاء الْمُتَّصِل ببحر مَدِينَة سلا مُنْفَردا عَن الْخلق لَا يفكر فِي أَمر الرزق وَله أَخْبَار جليلة وكرامات عَجِيبَة مَشْهُورَة مِمَّن جمع الله لَهُ الْعلم وَالْعَمَل وَألقى عَلَيْهِ الْقبُول من الْخلق شَدِيد الهيبة عَظِيم الْوَقار كثير الخشية طَوِيل التفكير وَالِاعْتِبَار قَصده أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو عنان وارتحل إِلَيْهِ سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة فَوقف بِبَابِهِ طَويلا فَلم يَأْذَن لَهُ وَانْصَرف وَقد امْتَلَأَ قلبه من حبه وإجلاله ثمَّ عاود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الْوُقُوف بِبَابِهِ مرَارًا فَمَا وصل إِلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ بعض أَوْلَاده بِكِتَاب كتبه إِلَيْهِ يستعطفه لزيارته ورؤيته فَأَجَابَهُ بِمَا قطع رَجَاءَهُ مِنْهُ وأيأسه من لِقَائِه فَاشْتَدَّ حزنه وَقَالَ هَذَا ولي من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى حجبه الله عَنَّا اه ومناقب الشَّيْخ ابْن عَاشر وكراماته كَثِيرَة وَقد ألف فِيهَا أَبُو الْعَبَّاس بن عَاشر الحافي من عُلَمَاء سلا كِتَابه الْمُسَمّى بتحفة الزائر فِي مَنَاقِب الشَّيْخ ابْن عَاشر فَانْظُرْهُ وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَهِي السّنة الَّتِي قتل فِيهَا ابْن الْخَطِيب كَانَ الْجُوع بالمغرب قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْخَطِيب القسنطيني الْمَعْرُوف بِابْن قنفذ فِي كِتَابه أنس الْفَقِير مَا حَاصله أَنه رَجَعَ من هجرته بالمغرب الْأَقْصَى فِي السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى بَلَده قسنطينة فاجتاز فِي طَرِيقه بتلمسان قَالَ وَفِي هَذِه السّنة كَانَت المجاعة الْعَظِيمَة وَعم الخراب الْمغرب فأقمت بتلمسان نَحْو شهر أنْتَظر تيَسّر سلوك الطَّرِيق فالتجأت إِلَى قبر الشَّيْخ أبي مَدين ودعوت الله عِنْده فَوَقع مَا أملته وَارْتَحَلت بعد أَيَّام يسيرَة فَرَأَيْت فِي الطَّرِيق من الْخَيْر مَا كَانَ يتعجب مِنْهُ من شَاهده وَكَانَ أَمر الطَّرِيق فِي الْخَوْف والجوع بِحَيْثُ أَن كل من نقدم عَلَيْهِ يتعجب من وصولنا سَالِمين ثمَّ عِنْد ارتحالنا من عِنْده يتأسف علينا حَتَّى أَن مِنْهُم من يسمعنا ضرب الأكف خلفنا تحسرا علينا حَتَّى انْتهى سفرنا على وفْق اختيارنا وَالْحَمْد لله وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُحدث أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمرَان الفنزاري السلاوي الْمَعْرُوف بِابْن المجراد صَاحب لامية الْجمل وَشرح الدُّرَر وَغَيرهمَا من التآليف الحسان قَالَ صَاحب بلغَة الأمنية ومقصد الْبَيْت فِيمَن كَانَ بسبتة فِي الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب فِي حق الشَّيْخ الْمَذْكُور كَانَ مُحدثا حَافِظًا راوية لَهُ معرفَة بِالرِّجَالِ والمغازي وَالسير وَكَانَ رجلا صَالحا حسن السِّيرَة صَادِق اللهجة انْتفع بِهِ النَّاس وَظَهَرت بركته على كل من عرفه أَو لَازم مَجْلِسه أَو قَرَأَ عَلَيْهِ من صَغِير أَو كَبِير قَالَ وَذَلِكَ عندنَا مَعْرُوف بسبتة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 مَشْهُور بَين أَهلهَا وانتقل إِلَى بَلَده سلا وَتُوفِّي بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة قلت وقبره مَشْهُور بهَا إِلَى الْآن وَعَلِيهِ قبَّة صَغِيرَة وَهُوَ من مزارات سلا خَارج بَاب الْمُعَلقَة مِنْهَا عَن يَمِين الْخَارِج على نَحْو غلوة وَأهل سلا يسمونه سَيِّدي الإِمَام السلاوي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَارِف الْمُحَقق الرباني أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم النفزي الْمَعْرُوف بِابْن عباد شَارِح الحكم العطائية وَأحد تلامذة الشَّيْخ ابْن عَاشر الْمَذْكُور آنِفا قَالَ صَاحبه وَأَخُوهُ فِي الله الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء السراج فِي حَقه مَا نَصه كَانَ حسن السمت طَوِيل الصمت كثير الْوَقار وَالْحيَاء جميل اللِّقَاء حسن الْخلق والخلق على الهمة متواضعا مُعظما عِنْد الْخَاصَّة والعامة نَشأ ببلدة رندة على أكمل طَهَارَة وعفاف وصيانة وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين ثمَّ اشْتغل بعد بِطَلَب الْعُلُوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية حَتَّى رَأس فِيهَا وَحصل مَعَانِيهَا ثمَّ أَخذ فِي طَرِيق الصُّوفِيَّة والمباحثة عَن الْأَسْرَار الإلهية حَتَّى أُشير إِلَيْهِ وَتكلم فِي عُلُوم الْأَحْوَال والمقامات والعلل والآفات وَألف فِيهَا تآليف عَجِيبَة وتصانيف بديعة غَرِيبَة وَله أجوبة كَبِيرَة فِي مسَائِل الْعُلُوم نَحْو مجلدين ودرس كتبا وحفظها كلهَا أَو جلها إِلَى أَن قَالَ وَلَقي بسلا الشَّيْخ الْحَاج الصَّالح السّني الزَّاهِد الْوَرع أَحْمد بن عَاشر وَأقَام مَعَه وَمَعَ أَصْحَابه سِنِين عديدة قَالَ رَحمَه الله قصدتهم لوجدان السَّلامَة مَعَهم وَتُوفِّي رَحمَه الله بفاس بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وَحضر جنَازَته السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس بن أبي سَالم فَمن دونه وهمت الْعَامَّة بِكَسْر نعشه تبركا بِهِ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَمن فَوَائده الَّتِي نقلهَا عَن شَيْخه ابْن عَامر مَا ذكره فِي رسائله قَالَ كنت قد مَا خرجت فِي يَوْم مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَائِما إِلَى سَاحل الْبَحْر فَوجدت هُنَالك سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَجَمَاعَة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 أَصْحَابه وَمَعَهُمْ طَعَام يَأْكُلُونَهُ فأرادوا مني الْأكل فَقلت إِنِّي صَائِم فَنظر إِلَيّ سَيِّدي الْحَاج نظرة مُنكرَة وَقَالَ لي هَذَا يَوْم فَرح وسرور يستقبح فِي مثله الصَّوْم كالعيد فتأملت قَوْله فَوَجَدته حَقًا وَكَأَنَّهُ أيقظني من النّوم اه وَاعْلَم أَنه فِي آخر هَذَا الْقرن الثَّامِن تبدلت أَحْوَال الْمغرب بل وأحوال الْمشرق وَنسخ الْكثير من عوائد النَّاس ومألوفاتهم وأزيائهم قَالَ ابْن خلدون فِي مُقَدّمَة تَارِيخه بعد أَن ذكر أَن الْأَحْوَال الْعَامَّة للآفاق والأجيال والأعصار هِيَ أس المؤرخ الَّذِي تنبني عَلَيْهِ أَكثر مقاصده مَا نَصه وَأما لهَذَا الْعَهْد وَهُوَ آخر الْمِائَة الثَّامِنَة فقد انقلبت أَحْوَال الْمغرب الَّذِي نَحن شاهدوه وتبدلت بِالْجُمْلَةِ واعتاض من أجيال البربر أَهله على الْقدَم بِمن طَرَأَ فِيهِ من لدن الْمِائَة الْخَامِسَة من أجيال الْعَرَب بِمَا كثروهم وغلبوهم وانتزعوا مِنْهُم عَامَّة الأوطان وشاركوهم فِيمَا بَقِي من الْبلدَانِ بملكتهم وبأسهم هَذَا إِلَى مَا نزل بالعمران شرقا وغربا فِي منتصف هَذِه الْمِائَة الثَّامِنَة من الطَّاعُون الجارف الَّذِي تحيف الْأُمَم وَذهب بِأَهْل الجيل وطوى كثيرا من محَاسِن الْعمرَان ومحاها وَجَاء للدول على حِين هرمها وبلوغ الْغَايَة من مداها فقلص من ظلالها وفل من حَدهَا وأوهن من سلطانها وتداعت إِلَى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمرَان الأَرْض بانتقاص الْبشر فخربت الْأَمْصَار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل السَّاكِن وَكَأَنِّي بالمشرق قد نزل بِهِ مثل مَا نزل بالمغرب لَكِن على نسبته وَمِقْدَار عمرانه وكأنما نَادَى لِسَان الْكَوْن فِي الْعَالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَإِذا تبدلت الْأَحْوَال جملَة فَكَأَنَّمَا تبدل الْخلق من أَصله وتحول الْعَالم بأسره وَكَأَنَّهُ خلق جَدِيد ونشأة مستأنفة وعالم مُحدث إِلَى آخر كَلَامه رَحمَه الله فَافْهَم هَذِه الْجُمْلَة وتفطن لأحوال الدول الَّتِي سردنا أَخْبَارهَا فِيمَا مضى وأحوال الَّتِي نسرد أَخْبَارهَا فِيمَا بعد وَتَأمل الْفرق بَين ذَلِك وَالسَّبَب فِيهِ وَالله تَعَالَى الْمُوفق للصَّوَاب بمنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي سعيد عُثْمَان بن أبي الْعَبَّاس ابْن أبي سَالم هَذَا السُّلْطَان هُوَ ثَالِث الْإِخْوَة الأشقاء من بني أبي الْعَبَّاس الَّذين ولوا الْأَمر من بعد وَلَاء أمه الْجَوَاهِر أم أَخَوَيْهِ قبله بُويِعَ بعد صَلَاة الْعَصْر لَهُ من يَوْم الثُّلَاثَاء الموفي ثَلَاثِينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانمِائَة وسنه يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة وَكَانَ النَّقْض والإبرام وَسَائِر التَّصَرُّفَات فِي دولته للوزراء والحجاب وَالسُّلْطَان متفرغ لِاسْتِيفَاء لذاته وَمن أكبر حجابه أَبُو الْعَبَّاس القبائلي الَّذِي نذْكر خَبره الْآن حجابة أبي الْعَبَّاس القبائلي ونكبته ومقتله وَالسَّبَب فِي ذَلِك بَيت بني القبائلي بَيت مَشْهُور فِي الوزارة والحجابة وَالْكِتَابَة من لدن الدولة الموحدية بمراكش إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَكَانَ الرئيس الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ القبائلي كَاتبا مَشْهُورا وحاجبا مَذْكُورا وَكَانَ قد بذ الأقران وتصدر الْأَعْيَان وَبلغ من الجاه ونفوذ الْكَلِمَة مبلغا عَظِيما وَكَانَ يحابي بالخطط السُّلْطَانِيَّة الْأَقَارِب والأرحام لَا يعدل بهَا عَمَّن سواهُم فاضطغنت عَلَيْهِ الْقُلُوب وَكَثُرت فِيهِ السعايات إِلَى أَن نفذ أَمر الله فأوقع بِهِ السُّلْطَان أَبُو سعيد وقْعَة شنعاء كَانَ من خَبَرهَا أَنه كَانَ للحاجب الْمَذْكُور ولد اسْمه عبد الرَّحْمَن وَكَانَ من فضلاء وقته وَكَانَ لعبد الرَّحْمَن هَذَا ولد اسْمه عَليّ وَكَانَ من نجباء الْأَبْنَاء فَكَانَ لجده أبي الْعَبَّاس لذَلِك ميل إِلَيْهِ ومحبة وافتتان بِهِ فاتفق أَن مرض هَذَا الحافد ذَات يَوْم فَنزل جده أَبُو الْعَبَّاس من الحضرة بفاس الْجَدِيد لعيادته بدار وَلَده عبد الرَّحْمَن من عدوة الْقرَوِيين من فاس الْقَدِيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وَكَانَت الدَّار بزنقة الجيلة من الطالعة فَبَاتَ الشَّيْخ عِنْد حافده تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ مُنْذُ ولي خطة الحجابة لم يغب عَن دَار الْملك لَيْلَة وَاحِدَة بل كَانَ يَأْخُذ فِي ذَلِك بالحزم بِحَيْثُ يسد أَبْوَاب الحضرة ويفتحها ويباشر سَائِر الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة بِنَفسِهِ فَلَمَّا أَرَادَ الله إِنْفَاذ قدره غطى على عقله وبصره فتساهل فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَبعث وَلَده أَبَا الْقَاسِم ليقوم مقَامه فِي غلق الْأَبْوَاب وَفتحهَا مَعَ صَاحب السقيف ومساهمه فِي الْقيام بالأمور السُّلْطَانِيَّة أبي مُحَمَّد عبد الله الطريفي الْآتِي ذكره فغلقا الْأَبْوَاب على الْعَادة وَلما كَانَ الصَّباح من الْغَد تقدم الْوَلَد أَبُو الْقَاسِم لأخذ المفاتيح من دَار الْخلَافَة فأخرجت إِلَيْهِ وَتَوَلَّى فتح الْأَبْوَاب وَحده دون أَن يحضر الطريفي المشارك لَهُ فِي ولَايَة السقيف فَلَمَّا جَاءَ أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور وَرَأى الْأَبْوَاب مفتحة بِدُونِ حُضُوره أَخذه من ذَلِك مَا قدم وَمَا حدث وأسرها فِي نَفسه حَتَّى إِذا كَانَ الْمسَاء وَحضر الْوَقْت الْمَعْهُود لغلق الْأَبْوَاب طلع للحضرة ولد آخر من ولد الْحَاجِب القبائلي يعرف بِأبي سعيد فبادر أَبُو مُحَمَّد فسد الْأَبْوَاب فِي وَجهه قبل أَن يصل إِلَيْهِ وَأمْسك المفاتيح عِنْده واستبد بهَا فَطلب مِنْهُ أَبُو سعيد أَن يفتح لَهُ الْبَاب فتجهمه وَامْتنع وَكَأَنَّهُ أَمر دبر بلَيْل ثمَّ تقدم الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَأعلمهُ بِمَا اتّفق لَهُ مَعَ أَوْلَاد الْحَاجِب فأوعز إِلَيْهِ السُّلْطَان أَن لَا يفتح الْبَاب بعد غلقه إِلَّا وَقت فَتحه الْمُعْتَاد وَزَاد فِي الْوَصِيَّة بِأَن لَا يفتح وَلَا يغلق إِلَّا بِمحضر السعيد ابْن السُّلْطَان أبي عَامر رَحمَه الله وَلما رَجَعَ أَبُو سعيد إِلَى وَالِده بعدوة الْقرَوِيين من فاس أعلمهُ بِمَا اتّفق لَهُ مَعَ الْقَائِد الطريفي فَامْتَلَأَ غيظا وَقَامَت قِيَامَته وَكَانَت فِيهِ دَالَّة على السُّلْطَان فَتخلف عَن الْحُضُور وَلم يذكر مَا قالته الْحُكَمَاء إِذا عاديت من يملك فَلَا تلمه إِنَّه يهلكك ثمَّ استعطفه السُّلْطَان فَأبى أَن يعْطف ثمَّ بعث إِلَيْهِ بِبَرَاءَة بِخَطِّهِ ليزيل مَا بصدره من الموجدة فَكتب الْحَاجِب جوابها وَأقسم أَن لَا يطَأ بساطا فِيهِ فارح بن مهْدي العلج وَكَانَ فارح هَذَا بِعَين التجلة من السُّلْطَان فَلَمَّا وقف السُّلْطَان أَبُو سعيد على جَوَاب الْحَاجِب حمى أَنفه وأظلمت الدُّنْيَا فِي عَيْنَيْهِ وَأمر بالإيقاع بالحاجب فِي الْحِين فذبح هُوَ وَولده عبد الرَّحْمَن يَوْم الْخَمِيس الموفي ثَلَاثِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 من شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانمِائَة وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا فَاضلا شَاعِرًا فَمن شعره فِي الْغَزل قَوْله (اتسمع فِي الْهوى قَول اللواحي ... وَقد أَبْصرت خشف بني ريَاح) (غزال خلف الصب المعني ... من الوجد المبرح غير صَاح) (وَقد قتلت وَلَا إِثْم عَلَيْهَا ... مراض جفونه كل الصِّحَاح) (يَقُول ولحظه بِالْعقلِ يزري ... علام تطيل وصفي وامتداحي) (فَقلت فنون سحر فِيك راقت ... قَضَت للقلب بالعشق الصراح) (جبينك والمقلد والثنايا ... صباح فِي صباح فِي صباح) وَبَقِي الحافد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور مُرَتبا فِي جملَة الْكتاب وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا أَيْضا وَلما مرض السُّلْطَان أَبُو سعيد فِي شعْبَان سنة سبع وَثَمَانمِائَة وَصَحَّ من مَرضه وهنأته الشُّعَرَاء بقصائد كَثِيرَة فَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَبُو الْحسن الْمَذْكُور فَقَالَ (هَنِيئًا لنا وَلكُل الْأَنَام ... براحة فَخر الْمُلُوك الْهمام) (إِمَام أَقَامَ رسوم الْعلَا ... وَحل من الْمجد أَعلَى السنام) (بِهِ قرت الْعين لما بدا ... صَحِيحا وَمَا إِن بِهِ من سقام) (وَهل هُوَ إِلَّا كبدر الدجا ... يواري قَلِيلا وَرَاء الْغَمَام) (وَيظْهر طورا فيجلو بِهِ ... عَن النَّاس يَا صَاح ساجي الظلام) (أَو اللَّيْث يعكف فِي غيله ... فتحذر مِنْهُ السباح اهتجام) (أمولاي عُثْمَان بَحر الندى ... ومردي العداة ونجل الْكِرَام) (لقد رفع الله مقداركم ... فنفسي الْفِدَاء لكم من إِمَام) (أمولاي عَبدك قد ضره ... أفول رضاكم وَبعد المرام) (وأضحى كئيبا لإبعادكم ... مشوقا لتقبيل ذَاك الْمقَام) (فَكُن راحما يَا إِمَام الورى ... عطوفا بمملوكك المستهام) (لَعَلَّ الَّذِي ناله يَنْقَضِي ... وتشمل مِنْك هبات جسام) (فأيدك الله بالنصر مَا ... ترنم فَوق الغصون حمام) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 حجابة فارح بن مهْدي وأوليته وَسيرَته قَالَ ابْن خلدون يَا فراح بن مهْدي من معلوجي السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس وَأَصله من موَالِي بني زيان مُلُوك تلمسان اه وَقَالَ فِي الجذوة هُوَ من موَالِي السُّلْطَان أبي سعيد بن أبي الْعَبَّاس وَلَا مُنَافَاة بَين الْكَلَامَيْنِ وَالله أعلم وَلما قتل أَبُو الْعَبَّاس القبائلي ولي الحجابة من بعده فارح بن مهْدي هَذَا قَالَ فِي الجذوة وَلم يكن من أهل الْعلم لكنه كَانَ شَيخا مجربا للأمور عَارِفًا مجيدا فِي التَّدْبِير قد أعْطى الرياسة حَقّهَا والخطط مستحقها وَكَانَ ممسكا عنانه فَلَا يمِيل مَعَ نَفسه وَلَا يسحب أردانه وَلَا يوحش سُلْطَانه موسوما عِنْد الْخلَافَة بالأمانة ملحوظا لَدَيْهَا بِعَين الْمَرْوَة والصيانة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد يعتني بِهِ لأجل كبر سنه وتربيته الْحرَّة آمنهُ بنت السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس كَانَت تبدي لَهُ وَجههَا فِي حَالي صغرها وكبرها فَكَانَت لَهُ بذلك مزية لم تكن لغيره بِهَذَا ذكره التاورتي وَلَعَلَّ فِيهِ تعريضا بالحاجب قبله وَلما تكلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي كِتَابه مرْآة المحاسن على مَدِينَة تيجساس وصفهَا بقوله إِنَّهَا فِي شَرْقي تطاوين على مسيرَة يَوْم مِنْهَا فِي مَوضِع كثير الْحِجَارَة والصخر فِي سفح جبل من غربيها وتحتها من شمالها جرف كثير الصخر عَظِيمَة على مكسر موج الْبَحْر وَلها نهر نفاع يجلب إِلَيْهَا مِنْهُ جدول وَلها بسيط تركبه الجداول من كل جِهَة فتسقي الزَّرْع والكتان وَالثِّمَار فأهلها فِي أَمن من الْقَحْط إِلَى أَن قَالَ وَلم تزل عامرة إِلَى حُدُود ثَمَانمِائَة فجلا عَنْهَا أَهلهَا بِسَبَب جور فارح بن مهْدي الْوَالِي عَلَيْهَا من قبل بني مرين فخلت من سكانها وانتقلوا إِلَى الْقَبَائِل وَغَيرهَا وَلم يزل سورها ماثلا إِلَى الْآن اه قلت وَفِي هَذِه الْمدَّة خربَتْ تطاوين الْقَدِيمَة أَيْضا فَزعم منويل فِي تَارِيخه أَن قراصين الْمُسلمين من أهل تطاوين وَغَيرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 كَانَت تغير على سواحل أصبانيا وتغنم مراكبها وَلما كَانَت سنة ألف وَأَرْبَعمِائَة مسيحية الْمُوَافقَة لسنة ثَلَاث وَثَمَانمِائَة هجرية بعث الطاغية الريكي الثَّالِث شكوادرة لغزو تطاوين ومراكبها فانتهت إِلَى وَادي مرتيل وأفسدت قراصين الْمُسلمين الَّتِي بِهِ ثمَّ نزلت عَسَاكِر الإصبنيول للبر فَاقْتَحَمت مَدِينَة تطاوين بعد أَن جلا أَهلهَا عَنْهَا وخربتها وعاثت فِيهَا وَبقيت خربة نَحْو تسعين سنة ثمَّ جدد بناؤها على يَد الرئيس أبي الْحسن عَليّ المنظري الغرناطي كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَت وَفَاة فارح بن مهْدي فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة سِتّ وَثَمَانمِائَة وَالله تَعَالَى أعلم حجابة أبي مُحَمَّد الطريفي وَسيرَته لما توفّي الْحَاجِب فارح بن مهْدي ولي الحجابة من بعده أَبُو مُحَمَّد عبد الله الطريفي وَكَانَ من فضلاء الْحجاب وَهُوَ الَّذِي بنى مَسْجِد السُّوق الْكَبِير بفاس الْجَدِيد وَحبس عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة فَكَانَ ذَلِك من حَسَنَاته الْبَاقِيَة نَفعه الله بِقَصْدِهِ حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان أبي سعيد وَالسُّلْطَان أبي فَارس الحفصي وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما توفّي السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الحفصي صَاحب تونس ولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو فَارس الْمَذْكُور فوزع الْوَظَائِف من الْإِمَارَة والوزارة وَولَايَة الْأَعْمَال على إخْوَته فاعتضد بهم وَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَخُوهُ أَبُو بكر بن أبي الْعَبَّاس بقسنطينة فنازعه بهَا ابْن عَمه الْأَمِير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي صَاحب بونة وألح عَلَيْهِ فِي الْحصار فصمد إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو فَارس الحفصي وأوقع بِهِ على سيبوس وقْعَة شنعاء انْتَهَت بِهِ هزيمتها إِلَى فاس مستصرخا صَاحبهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَبُو فَارس المريني فَأَقَامَ أَبُو عبد الله بفاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 إِلَى سنة عشر وَثَمَانمِائَة فِي دولة السُّلْطَان أبي سعيد فاتفق أَن فسد مَا بَين السُّلْطَان أبي فَارس الحفصي وَبَين أَعْرَاب إفريقية من سليم فَقدمت طَائِفَة مِنْهُم حَضْرَة فاس مستنجدين السُّلْطَان أَبَا سعيد على صَاحبهمْ أبي فَارس فألفوا عِنْده الْأَمِير أَبَا عبد الله المنهزم بسيبوس كَمَا مر فعقد لَهُ السُّلْطَان أَبُو سعيد على جَيش من بني مرين وَغَيرهم وَبَعثه مَعَ الْعَرَب فَلَمَّا انْتهى إِلَى بجاية تَلَقَّتْهُ أَعْرَاب إفريقية طَائِعَة وهون عَلَيْهِ المرابط شيخ حَكِيم مِنْهَا أَمر تونس فَرد الْجَيْش المريني وقصدها بِمن انْضَمَّ إِلَيْهِ من الحشود فَأخذ بجاية من أبي يحيى وفر فِي الْبَحْر وَعقد أَبُو عبد الله عَلَيْهَا لِابْنِهِ الْمَنْصُور ثمَّ زحف إِلَى السُّلْطَان أبي فَارس فخالفه إِلَى بجاية فَافْتَكَّهَا من يَد ابْنه الْمَنْصُور وَوجه بِهِ مَعَ جمَاعَة من كبار أَهلهَا معتقلين إِلَى الحضرة وَعقد عَلَيْهَا لِأَحْمَد ابْن أَخِيه ونهض لقِتَال ابْن عَمه أبي عبد الله الْمَذْكُور فَنزع المرابط عَنهُ إِلَى السُّلْطَان أبي فَارس لعهد كَانَ بَينهمَا فانفض جمع أبي عبد الله وَقتل واحتز رَأسه وَوَجهه السُّلْطَان أَبُو فَارس مَعَ من علقه بِبَاب المحروق أحد أَبْوَاب فاس إغاظة للسُّلْطَان أبي سعيد وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَثَمَانمِائَة ثمَّ تحرّك السُّلْطَان أَبُو فَارس إِلَى جِهَة الْمغرب قَاصِدا أَخذ الثار من السُّلْطَان أبي سعيد فاستولى على تلمسان ثمَّ قصد حَضْرَة فاس فَلَمَّا شارفها جنح السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى السّلم فَوجه إِلَيْهِ بِهَدَايَا جليلة فَقبل ذَلِك أَبُو فَارس وكافأ عَلَيْهِ وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَلَحِقتهُ فِي طَرِيقه بيعَة أهل فاس وانتظم لَهُ ملك الْمغرب وَبَايَعَهُ صَاحب الأندلس أَيْضا قَالَه صَاحب الْخُلَاصَة النقية وَهُوَ الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْبَاجِيّ أحد كتاب الدولة التركية بتونس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 // اسيتلاء البرتغال على مَدِينَة سبتة أَعَادَهَا الله كَانَ جنس البرتغال وَهُوَ البردقيز فِي هَذِه السنين قد كثر بعد الْقلَّة واعتز بعد الذلة وَظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر فِي الأقطار وسما إِلَى تملك الْأَمْصَار فَانْتهى إِلَى أَطْرَاف السودَان بل وأطراف الصين على مَا قيل وألح على سواحل الْمغرب الْأَقْصَى فاستولى فِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة على مَدِينَة سبتة أَعَادَهَا الله بعد محاصرته لَهَا حصارا طَويلا وسلطان الْمغرب يَوْمئِذٍ أَبُو سعيد بن أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة وسلطان البرتغال يَوْمئِذٍ خوان الأول وَذكر منويل فِي تَارِيخه أَن سُلْطَان الْمغرب يَوْمئِذٍ عبد الله بن أَحْمد أَخُو أبي سعيد الْمَذْكُور وَسَيَأْتِي كَلَامه بِتَمَامِهِ وَذكر صَاحب نشر المثاني فِي كَيْفيَّة اسْتِيلَاء البرتغال على سبتة قصَّة تشبه قصَّة قصير مَعَ الزباء قَالَ رَأَيْت بِخَط من يظنّ بِهِ التثبت والصدق أَن النَّصَارَى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أَن بهَا سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة من بعض شهور سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة وَكَانَت تِلْكَ الصناديق مَمْلُوءَة رجَالًا عَددهمْ أَرْبَعَة آلَاف من الشَّبَاب الْمُقَاتلَة فَخَرجُوا على حِين غَفلَة من الْمُسلمين واستولوا على الْبَلَد وَجَاء أَهله إِلَى سُلْطَان فاس مستصرخين لَهُ وَعَلَيْهِم المسوح وَالشعر والوبر وَالنعال السود رجَالًا وَنسَاء وولدانا فأنزلهم بملاح الْمُسلمين ثمَّ ردهم إِلَى الفحص قرب بِلَادهمْ لعَجزه عَن نصرتهم حَتَّى تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وَالْأَمر لله وَحده قَالَ وَسمعت من بَعضهم أَن الَّذِي جرأ النَّصَارَى على ارْتِكَاب تِلْكَ المكيدة هُوَ أَنهم كَانُوا قد قاطعوا أَمِير سبتة على أَن يُفَوض إِلَيْهِم التَّصَرُّف فِي المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا لَهُ خراجا مَعْلُوما فِي كل سنة فَكَانَ حكم المرسى حِينَئِذٍ لَهُم دون الْمُسلمين وَلَو كَانَ الْمُسلمُونَ هم الَّذين يلون حكم المرسى مَا تركوهم ينزلون ذَلِك الْعدَد من الصناديق مقفلة لَا يعلمُونَ مَا فِيهَا وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وَلما استولى البرتغال على سبتة اعتنى بهَا وحصنها واستمرت فِي ملكتهم مُدَّة تزيد على مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة ثمَّ ملكهَا مِنْهُم طاغية الإصبنيول فِي سَبِيل مهادنة وشروط انْعَقَدت بَينهم بمدنية أشبونة فِي حُدُود الثَّمَانِينَ وَألف وأخبار السُّلْطَان أبي سعيد كَثِيرَة وَقد أرخ دولته وَسيرَته الْكَاتِب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد التاورتي رَحمَه الله وَتُوفِّي السُّلْطَان الْمَذْكُور سنة ثَلَاث وَعشْرين وَثَمَانمِائَة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه عبد الْحق الْأَخير كَذَا ذكره فِي جذوة الاقتباس وَقد ذكر منويل فِي أَمر أبي سعيد ووفاته مَا يُخَالف هَذَا قَالَ لما كَانَت دولة السُّلْطَان أبي سعيد المريني كَانَ الْمُسلمُونَ أهل جبل طَارق قد سئموا ملكة ابْن الْأَحْمَر صَاحب غرناطة وتحققوا بِأَن المريني أقوى مِنْهُ شَوْكَة وأقدر على تخليصهم مِمَّا عَسى أَن ينالهم بِهِ الإصبنيول من حِصَار وَنَحْوه فبعثوه إِلَيْهِ يخطبون ولَايَته ويعرضون عَلَيْهِ الدُّخُول فِي طَاعَته إِن هُوَ أمدهم بِمَا يدْفَعُونَ بِهِ فِي نحر ابْن الْأَحْمَر فأعجب أَبَا سعيد ذَلِك وللحين بعث إِلَيْهِم أَخَاهُ عبد الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بسيدي عبو وَمَعَهُ طَائِفَة من الْجَيْش إمدادا لَهُم وَكَانَ قصد أبي سعيد ببعث أَخِيه عبد الله الْحُصُول على إِحْدَى الفائدتين أما فتح جبل طَارق إِن كَانَ الظُّهُور لَهُ أَو الاسْتِرَاحَة مِنْهُ إِن كَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يشوش عَلَيْهِ فجَاء الْأَخ الْمَذْكُور حَتَّى نزل بِإِزَاءِ جبل طَارق فَفتح أهل الْبَلَد الْبَاب وأدخلوه وأدخلوا جنده وتحصن قَائِد الغرناطي وَعَسْكَره بقلعة الْجَبَل وطير الْأَعْلَام بذلك إِلَى صَاحبه فَبعث إِلَيْهِ جَيْشًا قويت بِهِ نَفسه فَنزل من القلعة وانضم إِلَيْهِ مدده وقاتلوا جَيش المريني فهزموه وقبضوا على عبد الله بِالْيَدِ وعَلى جمَاعَة من أَصْحَابه وبعثوا بهم أسرى إِلَى صَاحب غرناطة فَعمد صَاحب غرناطة إِلَى عبد الله وأنزله فِي مَحل مُعْتَبر وَأحسن إِلَيْهِ فَتخلف ظن السُّلْطَان أبي سعيد فِيمَا كَانَ يحب لِأَخِيهِ من التّلف وغاظه فعل ابْن الْأَحْمَر مَعَه من الْإِحْسَان والإبقاء عَلَيْهِ ثمَّ أَن أَبَا سعيد دبر حِيلَة بِأَن بعث من قبله رجلا إِلَى أَخِيه ليسقيه السم ويستريح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 مِنْهُ مَعَ أَن غوغاء أهل الْمغرب وقبائله المنحرفة عَن السُّلْطَان كَانُوا قد تشوقوا لقدومه عَلَيْهِم وقيامهم مَعَه فبطلت حِيلَة أبي سعيد فِي السم وَلم يحصل على طائل ثمَّ إِن ابْن الْأَحْمَر اتّفق مَعَ عبد الله على أَن يمده بالعسكر وَالْمَال ويسرحه إِلَى الْمغرب ليستولي على ملكه وَيَأْخُذ لَهُ بالثأر من أَخِيه فَقبل عبد الله ذَلِك وأمده ابْن الْأَحْمَر وسرحه إِلَى الْمغرب فَلَمَّا احتل بِهِ تبعه عدد وافر من قبائله الَّذين كَانُوا مستثقلين لوطأة أبي سعيد فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَبُو سعيد فَكَانَت الكرة عَلَيْهِ وَرجع مفلولا فِي يسير من الْجند إِلَى فاس فتقبض عَلَيْهِ أَهلهَا وسجنوه وأعلنوا بنصر أَخِيه عبد الله وفتحوا الْبَاب فَدخل الحضرة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَتمّ أمره وسجن أَخَاهُ أَبَا سعيد إِلَى أَن مَاتَ قَالَ وَلما اسْتَقل عبد الله بِأَمْر الْمغرب كُله هدأت الرّعية واستقامت الْأَحْوَال إِلَّا أَنه تكدر عيشه بذهاب سبتة الَّتِي استولى عَلَيْهَا طاغية البرتغال خوان الأول بعد مَا حاصرها أَشد الْحصار وَكَانَ ذَلِك على السُّلْطَان من أعظم النحوس وتكدر الْمُسلمُونَ غَايَة لفَوَات هَذِه الْمَدِينَة الْعَظِيمَة مِنْهُم ثمَّ ثَارُوا على السُّلْطَان عبد الله واعتورته رماحهم حَتَّى فاظ وَلما قتل تنَازع الْملك بعده اثْنَان من اخوته وَبعد قتال شَدِيد وَلم ينتصف أحد مِنْهُمَا من صَاحبه اتّفق أهل الْحل وَالْعقد على أَن يولوا عبد الْحق بن أبي سعيد اه كَلَام منويل وَهَذَا السُّلْطَان عبد الله الَّذِي زَاده منويل بَين أبي سعيد وَعبد الْحق لم يذكرهُ صَاحب جذوة الاقتباس وَيبعد أَن يكون هَذَا الْخَبَر الَّذِي سَاقه منويل لَا أصل لَهُ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَمن جملَة حجاب السُّلْطَان أبي سعيد الرئيس أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الملياني قَالَ فِي الجذوة أَصله من زرهون وَتَوَلَّى حجابة السُّلْطَان الْمَذْكُور قَالَ فغدر مَوْلَاهُ ومخدومه وهتك ستره وَخرب دَاره وعبث بحريمه وَقتل أَوْلَاده وإخوانه وَرفع الأذناب وَحط الرؤساء وَكَانَ فَسَاد الْمغرب على يَده وَقد ذكره التاورتي فَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ فِي الجذوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وَوجدت فِي طرة ذمه وتنقيصه وَالله أعلم وَمن وزراء السُّلْطَان أبي سعيد صَالح بن حمو الياباني وَيحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري وَقد تقدم ذكرهمَا وَمن كِتَابه الْفَقِيه الأديب أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي الْحسن بن أبي دلامة وَكَانَ صَاحب الْعَلامَة عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور وَمِمَّنْ شهد لَهُ أهل عصره بالتبريز فِي النّظم الْفَائِق ثمَّ ابْنه مُحَمَّد من بعده وَمن قُضَاته الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم اليزناسني وَقد تقدم ذكره وَالله تَعَالَى أعلم الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعيد ابْن أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم المريني رَحمَه الله هَذَا السُّلْطَان هُوَ آخر مُلُوك بني عبد الْحق من بني مرين وَهُوَ أطولهم مُدَّة وأعظمهم محنة وَشدَّة وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن أبي سعيد عُثْمَان ابْن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي سَالم إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن عَليّ بن أبي سعيد عُثْمَان بن أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق الزناتي المريني أمه علجة إصبنيولية على مَا ذكره منويل وَفِي أَيَّامه ضعف أَمر بني مرين جدا وتداعى إِلَى الانحلال وَكَانَ التَّصَرُّف للوزراء والحجاب شَأْن دولة أَبِيه من قبله على نذكرهُ زحف البرتغال إِلَى طنجة ورجوعهم عَنْهَا بالخيبة قَالَ منويل كَانَ لطاغية البرتغال خَمْسَة إخْوَة شجعان فأرادوا أَن يدركوا فخرا باستيلائهم على ثغر من ثغور الْمغرب يضيفونه إِلَى سبتة ويوسعون بِهِ مَا ملكوه من أَعمالهَا فَرَكبُوا قراصينهم فِي سِتَّة آلَاف عسكري ونزلوا بسبتة ثمَّ زحفوا إِلَى طنجة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وحاصروها وضيقوا على أَهلهَا ثمَّ عاجلهم سُلْطَان فاس وسلطان مراكش وأرهقوهم عَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فتحهَا وأوقعوا بهم وقبضوا على كَبِير عَسْكَرهمْ فرناندو وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وعادوا بهم أسرى إِلَى فاس فَلَمَّا صَارَت عُظَمَاء البرتغال فِي يَد الْمُسلمين وأسرهم جنحوا إِلَى السّلم فسالمهم الْمُسلمُونَ على أَن يردوا لَهُم سبتة ويسرحوا لَهُم كَبِيرهمْ وَأَصْحَابه الَّذين مَعَه فَرضِي البرتغال بذلك وانعقد الصُّلْح عَلَيْهِ ثمَّ كَانَ من قدر الله أَن هلك كَبِير البرتغال الَّذِي وَقع الشَّرْط عَلَيْهِ فِي سجن فاس واستمرت سبتة فِي يَد الْعَدو وعد ذَلِك من سوء بخت الْمُسلمين وَالْأَمر لله وَحده وَقد ذكر صَاحب الْمرْآة أَن البرتغال استولى على طنجة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَهُوَ غير صَوَاب وَإِنَّمَا كَانَ الْحصار فَقَط وَالله تَعَالَى أعلم أَخْبَار الوزراء والحجاب وتصرفاتهم كَانَ من جملَة وزراء السُّلْطَان عبد الْحق الْوَزير صَالح بن صَالح بن حمو الياباني قَالُوا وَهُوَ الَّذِي أوقع بالفقيه القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الرَّحِيم ابْن إِبْرَاهِيم اليزناسني قَتله ذبحا سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وَمن وزراء السُّلْطَان الْمَذْكُور الْوَزير أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان الوطاسي قَالُوا وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة غزا الْوَزير الْمَذْكُور الشاوية وَكَانُوا قد تمردوا على الدولة وأعضل داؤهم ففل الْوَزير الْمَذْكُور جمعهم وَخرب مَنَازِلهمْ ثمَّ كَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَمَانمِائَة قَتله عرب أنكاد على سَبِيل الْغدر قعصا بِالرِّمَاحِ وَحمل قَتِيلا إِلَى فاس فَدفن بالقلة خَارج بَاب الحبيسة وَولي الوزارة بعده عَليّ بن يُوسُف الوطاسي قَالُوا فَكَانَت أَيَّامه مواسم لديانته وصيانته وَحفظه أُمُور الْملك ورفقه بالرعية مَعَ الْعدْل وَحسن الإدارة ثمَّ توفّي بتامسنا خَامِس رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالقلة أَيْضا وَفِي هَذِه السّنة أَو الَّتِي قبلهَا استولى البرتغال على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قصر الْمجَاز وَهُوَ الْمَعْرُوف بقصر مصمودة وَالْقصر الصَّغِير وَهُوَ الْآن خراب وَالله أعلم وزارة يحيى بن يحيى الوطاسي ومقتله ومقتل الوطاسيين مَعَه وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما توفّي الْوَزير عَليّ بن يُوسُف رَحمَه الله قدم للوزارة بعده أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن يحيى بن عمر بن زيان الوطاسي قَالُوا فَكَانَت ولَايَة هَذَا الْوَزير هِيَ مبدأ الشَّرّ ومنشأ الْفِتْنَة وَذَلِكَ أَنه لما اسْتَقل بالحجابة أَخذ فِي تَغْيِير مراسم الْملك وعوائد الدولة وَزَاد وَنقص فِي الْجند وَنقض جلّ مَا أبرمه قبله الوزراء وعامل الرّعية بالعسف وَمن جملَة مَا نقم عَلَيْهِ أَنه عزل قَاضِي فاس الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن علال المصمودي وَقدم مَكَانَهُ الْفَقِيه يَعْقُوب التسولي وَكَانَ المصمودي من الدّين وتحرى المعدلة بمَكَان فَلَمَّا رأى السُّلْطَان عبد الْحق فعل الْوَزير واستحواذه على أُمُور الدولة وَتبين لَهُ أَن الوطاسيين قد التحقوا مَعَه رِدَاء الْملك وشاركوه فِي بِسَاط الْعِزّ وكادوا يغلبونه على أمره سَطَا بهم سطوة استأصلت جمهورهم إِلَّا من حماه الْأَجَل مِنْهُم فتقبض على الْوَزير يحيى وعَلى أَخَوَيْهِ أبي بكر وَأبي شامة وعَلى عمهم فَارس بن زيان وقريبهم مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف وأتى الذّبْح على جَمِيعهم وَاسْتمرّ الْبَحْث عَن مُحَمَّد الشَّيْخ وَمُحَمّد الحلو أخوي الْوَزير الْمَذْكُور فَلم يوجدا لذهاب الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم للصَّيْد واختفاء الحلو عِنْد قيام الهيعة فَكَانَ ذَلِك من لطف الله بهما واتصل بهما مَا جرى على عشيرتهم وَبني أَبِيهِم فذهبا إِلَى منجاتهما وَكَانَ من أَمرهمَا مَا نذكرهُ وَكَانَت هَذِه الْحَادِثَة الصماء بعد مُضِيّ سبعين يَوْمًا من وزارة يحيى بن يحيى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الْمَذْكُور وَصفا للسُّلْطَان عبد الْحق أمره وَرَأى أَن قد شفا نَفسه من الوطاسيين ونقى بِسَاط حَضرته من قضضهم وَأَبْرَأ جسم ملكه من مرضهم وَالله غَالب على أمره رياسة الْيَهُودِيين هَارُون وشاويل وَمَا نَشأ عَن استبدادهما من المحنة والفتنة قَالُوا كَانَ السُّلْطَان عبد الْحق مُنْذُ أوقع ببني وطاس لم تسمح نَفسه بِإِعْطَاء منصب الوزارة لأحد ثمَّ نما إِلَيْهِ أَن الْعَامَّة وَكَثِيرًا من الْخَاصَّة قد نقموا عَلَيْهِ إِيقَاعه بالوطاسيين وَأَن أذنهم صاغية إِلَى مُحَمَّد الشَّيْخ صَاحب آصيلا وَكَانَ قد استولى عَلَيْهَا بعد فراره حَسْبَمَا نذْكر وَرُبمَا شافهه الْبَعْض مِنْهُم بذلك فولى عَلَيْهِم الْيَهُودِيين الْمَذْكُورين تأديبا لَهُم وتشفيا مِنْهُم زَعَمُوا فشرع اليهوديان فِي أَخذ أهل فاس بِالضَّرْبِ والمصادرة على الْأَمْوَال واعتز الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ وتحكموا فِي الْأَشْرَاف وَالْفُقَهَاء فَمن دونهم وَكَانَ الْيَهُودِيّ هَارُون قد ولى على شرطته رجلا يُقَال لَهُ الْحُسَيْن لَا يألو جهدا فِي العسف واستلاب الْأَمْوَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك وَالنَّاس فِي شدَّة وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة انتزع الإصبنيول جبل طَارق من يَد ابْن الْأَحْمَر اسْتِيلَاء البرتغال على طنجة ثمَّ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة استولى البرتغال على طنجة زحفوا إِلَيْهَا من سبتة فِي أُلُوف من العساكر واستولوا عَلَيْهَا واستمرت بِأَيْدِيهِم أَكثر من مِائَتَيْنِ وَخمْس سِنِين ثمَّ بذلوها لطاغية النجليز سنة أَربع وَسبعين وَألف فِي سَبِيل المهاداة والصهر الَّذِي انْعَقَد بَينهمَا كَمَا سَيَأْتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 مقتل السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك ثمَّ إِن الْيَهُودِيّ عمد إِلَى امْرَأَة شريفة من أهل حومة البليدة فَقبض عَلَيْهَا والبليدة حومة بفاس قَالُوا وَكَانَت بدار الكومى قرب درب جنيارة فأنحى عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ وَلما ألهبتها السِّيَاط جعلت تتوسل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحمى الْيَهُودِيّ وَكَاد يتَمَيَّز غيظا من سَماع ذكر الرَّسُول وَأمره بالإبلاغ فِي عقابها وَسمع النَّاس ذَلِك فأعظموه وتمشت رجالات فاس بَعضهم إِلَى بعض فَاجْتمعُوا عِنْد خطيب الْقرَوِيين الْفَقِيه أبي فَارس عبد الْعَزِيز بن مُوسَى الورياكلي وَكَانَت لَهُ صلابة فِي الْحق وجلادة عَلَيْهِ بِحَيْثُ يلقِي نَفسه فِي العظائم وَلَا يُبَالِي وَقَالُوا لَهُ أَلا ترى إِلَى مَا نَحن فِيهِ من الذلة وَالصغَار وتحكم الْيَهُود فِي الْمُسلمين والعبث بهم حَتَّى بلغ حَالهم إِلَى مَا سَمِعت فنجع كَلَامهم فِيهِ وللحين أغراهم بِالْفَتْكِ باليهود وخلع طَاعَة السُّلْطَان عبد الْحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الْحَفِيد فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك واستدعوا الشريف الْمَذْكُور فَبَايعُوهُ والتفت عَلَيْهِ خاصتهم وعامتهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أهل حومة القلقليين مِنْهُم ثمَّ تقدم الورياكلي بهم إِلَى فاس الْجَدِيد فصمدوا إِلَى حارة الْيَهُود فَقَتَلُوهُمْ واستلبوهم واصطلموا نعمتهم واقتسموا أَمْوَالهم وَكَانَ السُّلْطَان عبد الْحق يَوْمئِذٍ غَائِبا فِي حَرَكَة لَهُ بِبَعْض النواحي قَالَ فِي نشر المثاني خرج السُّلْطَان عبد الْحق بجيشه إِلَى جِهَة الْقَبَائِل الهبطية وَترك الْيَهُودِيّ يقبض من أهل فاس المغارم فَشد عَلَيْهِم حَتَّى قبض على امْرَأَة شريفة وأوجعها ضربا وَحكى مَا تقدم فاتصل ببعد الْحق الْخَبَر وانفض مسرعا إِلَى فاس واضطرب عَلَيْهِ أَمر الْجند ففسدت نياتهم وتنكرت وُجُوههم وَصَارَ فِي كل منزلَة تنفض عَنهُ طَائِفَة مِنْهُم فأيقن عبد الْحق بالنكبة وعاين أَسبَاب الْمنية وَلما قرب من فاس اسْتَشَارَ هَارُون الْيَهُودِيّ فِيمَا نزل بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيّ لَهُ لَا تقدم على فاس لغليان قدر الْفِتْنَة بهَا وَإِنَّمَا يكون قدومنا على مكناسة الزَّيْتُون لِأَنَّهَا بلدنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وَبهَا قوادنا وشيعتنا وَحِينَئِذٍ يظْهر لنا مَا يكون فَمَا استتم الْيَهُودِيّ كَلَامه حَتَّى انتظمه بِالرُّمْحِ رجل من بني مرين يُقَال لَهُ تيان وَعبد الْحق ينظر وَقَالَ وَمَا زلنا فِي تحكم الْيَهُود وَاتِّبَاع رَأْيهمْ وَالْعَمَل بإشارتهم ثمَّ تعاورته الرماح من كل جَانب وخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ والفم ثمَّ قَالُوا للسُّلْطَان عبد الْحق تقدم أمامنا إِلَى فاس فَلَيْسَ لَك الْيَوْم اخْتِيَار فِي نَفسك فَأسلم نَفسه وانتهبت محلته وفيئت أَمْوَاله وحلت بِهِ الإهانة وَجَاءُوا بِهِ إِلَى أَن بلغُوا عين القوادس خَارج فاس الْجَدِيد فاتصل الْخَبَر بِأَهْل فاس وسلطانهم الْحَفِيد فَخرج إِلَى عبد الْحق وأركبه على بغل بالبردعة وانتزع مِنْهُ خَاتم الْملك وَأدْخلهُ الْبَلَد فِي يَوْم مشهود حَضَره جمع كَبِير من أهل الْمغرب وَأَجْمعُوا على ذمه وشكروا الله على أَخذه ثمَّ جنب إِلَى مصرعه فَضربت عُنُقه صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَدفن بِبَعْض مَسَاجِد الْبَلَد الْجَدِيد ثمَّ أخرج بعد سنة وَنقل إِلَى الْقلَّة فَدفن بهَا وانقرضت بمهلكه دولة بني عبد الْحق من الْمغرب والبقاء لله وَحده وَنقل الثِّقَات أَن الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد زَرُّوق رَحمَه الله كَانَ قد ترك الصَّلَاة خلف الْفَقِيه أبي فَارس الورياكلي لما صدر مِنْهُ فِي حق السُّلْطَان عبد الْحق وَكَانَ يَقُول لَا آمن الغندور على صَلَاتي يعِيبهُ بذلك والغندور فِي لِسَان المغاربة ذُو النخوة والإباية وَمَا أشبه ذَلِك وَالله يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته آمين ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول فِي سنة سبع وَثَمَانمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن صَالح المكودي عَالم فاس وأديبها ونحويها صَاحب الْمَقْصُورَة وَشرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 الْخُلَاصَة وَغير ذَلِك من التآليف قيل هُوَ آخر من درس كتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو بفاس وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر ابْن الْفتُوح التلمساني ثمَّ المكناسي يُقَال إِن سَبَب انْتِقَاله من تلمسان أَنه كَانَ شَابًّا حسن الصُّورَة جميل الشارة فمرت بِهِ امْرَأَة جميلَة فَجعل ينظر إِلَيْهَا من طرف خَفِي فَقَالَت اتَّقِ الله يَا ابْن الْفتُوح يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور فتأثر لقولها واتعظ وَتَابَ إِلَى الله تَعَالَى وَجعل من تَمام تَوْبَته أَن يُهَاجر من الأَرْض الَّتِي قارف الذَّنب فِيهَا فارتحل إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة وانتفع النَّاس بِهِ ثمَّ انْتقل بعْدهَا إِلَى مكناسة فَتوفي بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة قَالُوا وَهُوَ أول من أَدخل مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل مَدِينَة فاس وَالْمغْرب وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة كَانَ الوباء الْعَظِيم بالمغرب هلك فِيهِ جمع من كبار الْعلمَاء والأعيان وَيُسمى هَذَا الوباء عِنْد أهل فاس بوباء عزونة وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله العبدوسي مفتي فاس وعالمها الْكَبِير ومحدثها الشهير وَكَانَ من أهل الصّلاح وَالْخَيْر والإيثار وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي إِمَام الْجَمَاعَة بفاس الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الأندلسي الأَصْل الْمَعْرُوف بالقوري وَدفن بِبَاب الْحَمْرَاء مِنْهَا وَفِي سنة تسع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة فِي أَوَاخِر صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه المحق أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد البرنسي الشهير بزروق وَكَانَت وَفَاته بمسراته من أَعمال طرابلس وَالله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 بَقِيَّة أَخْبَار بني الْأَحْمَر واستيلاء الْعَدو على غرناطة وَسَائِر الأندلس مِنْهَا وانقراض كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا كَانَت دولة بني الْأَحْمَر فِي هَذِه الْمدَّة متماسكة والفتنة بَين أعياصها متشابكة والعدو فِيمَا بَين ذَلِك يخادعهم عَمَّا بِأَيْدِيهِم ويراوغهم ويسالمهم تَارَة ويحاربهم إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ ابْن السُّلْطَان سعد ابْن الْأَمِير عَليّ ابْن السُّلْطَان يُوسُف ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الْغَنِيّ بِاللَّه فنازعه أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعد الْمَدْعُو بالزغل قدم من بِلَاد النَّصَارَى وبويع بمالقة وَبَقِي بهَا مُدَّة وَعظم الْخطب واشتدت الْفِتَن وشرق الْمُسلمُونَ بداء الْخلاف الْوَاقِع بَين هذَيْن الْأَخَوَيْنِ وتكالب الْعَدو عَلَيْهِم وَوجد السَّبِيل إِلَى تَفْرِيق كلمتهم والتمكن من فسخ عَهدهم وذمتهم وَذَلِكَ أَعْوَام الثَّمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ انْقَادَ أَبُو عبد الله لأبي السحن فسكنت أَحْوَال الأندلس بعض الشَّيْء ثمَّ خرج عَلَيْهِ وَلَده أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن وأسره النَّصَارَى فِي بعض الوقعات فراجع النَّاس طَاعَة أبي الْحسن ثمَّ نزل لِأَخِيهِ أبي عبد الله الزغل عَن الْأَمر لآفة أَصَابَته فِي بَصَره ثمَّ إِن الْعَدو عمد لأسيره أبي عبد الله ابْن الْحسن فوعده ومناه وَأظْهر لَهُ من أكاذيبه وخدعه غَايَة مناه وَبَعثه للتشغيب على عَمه طلبا لتفريق كلمة الْمُسلمين وَعكس مُرَادهم وتوصلا إِلَى مَا بَقِي عَلَيْهِ من حصون الْمُسلمين وبلادهم وطالت الْفِتْنَة بَين الْعم وَابْن الْأَخ وكل عقد كَانَ بَين الْعَدو وَبَينه انحل وانفسخ وخبت الْعَامَّة الَّذين هم أَتبَاع كل ناعق فِي ذَلِك وَوضعت وَكَانَ ذَلِك من أعظم الْأَسْبَاب الْمعينَة لِلْعَدو على التَّمَكُّن من أَرض الأندلس والتهامها واستئصال كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ثمَّ إِن ابْن الْأَخ استولى على غرناطة بعد خُرُوج الْعم عَنْهَا إِلَى الْجِهَاد ففت ذَلِك فِي عضده وَعطف إِلَى وَادي آش فاعتصم بهَا وحاصر الْعَدو مالقة فقاتله أَهلهَا بِكُل مَا أمكنهم حَتَّى إِذا لم يَجدوا لِلْقِتَالِ مساغا نزلُوا على الْأمان فاستولى الْعَدو عَلَيْهَا أَوَاخِر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ثمَّ استولى بعد ذَلِك على وَادي آش وأعمالها صلحا وَدخل فِي طَاعَته صَاحبهَا أَبُو عبد الله الْعم بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 أَن استهوى الْعَدو قواده بالأموال الجزيلة ثمَّ إِن الْعَدو خذله الله وَأرْسل أَبَا عبد الله بن أبي الْحسن صَاحب غرناطة وَعرض عَلَيْهِ الدُّخُول فِي الخطة الَّتِي دخل فِيهَا عَمه من النُّزُول لَهُ عَن الْبِلَاد على أَمْوَال جزيلة يبذلها لَهُ وَيكون تَحت حكمه مُخَيّرا فِي أَي بِلَاد الأندلس شَاءَ فَشَاور رَعيته فاتفق النَّاس على الِامْتِنَاع والقتال فَعِنْدَ ذَلِك أرهف الْعَدو حَده وَجعل غرناطة وَأَهْلهَا من شَأْنه بعد أَن استولى أثْنَاء هَذِه الْفِتَن والتضريبات على حصون كَثِيرَة لم نتعرض لذكرها حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا غرناطة وأعمالها وَقد اختصرنا مُعظم هَذِه الْأَخْبَار إِذْ لم تكن من مَوْضُوع الْكتاب وَإِنَّمَا ألممنا بِهَذِهِ النبذة تتميما للفائدة وَزِيَادَة فِي الإمتاع وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة خرج الْعَدو بمحلاته إِلَى مرج غرناطة وأفسد الزَّرْع ودوخ الأَرْض وَهدم الْقرى وَأمر بِبِنَاء مَوضِع بالسور والحفير فأحكمه وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه عازم على الِانْصِرَاف فَإِذا بِهِ قد صرف عزمه إِلَى الْحصار وَالْإِقَامَة وَصَارَ يضيق على غرناطة كل يَوْم ودام الْقِتَال سَبْعَة أشهر وَاشْتَدَّ الْحصار بِالْمُسْلِمين غير أَن النَّصَارَى على بعد الطّرق بَين غرناطة والبشرات مُتَّصِلَة بالمرافق وَالطَّعَام يَأْتِي من نَاحيَة جبل شلير إِلَى أَن تمكن فصل الشتَاء وكلب الْبرد وَنزل الثَّلج فانسد بَاب الْمرَافِق وَانْقطع الجالب وَقل الطَّعَام وَاشْتَدَّ الغلاء وَعظم الْبلَاء وَاسْتولى الْعَدو على أَكثر الْأَمَاكِن خَارج الْبَلَد وَمنع الْمُسلمين من الْحَرْث وَالسَّبَب وضاق الْحَال وَبَان الاختلال وَعظم الْخطب وَذَلِكَ أول سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وطمع الْعَدو فِي الِاسْتِيلَاء على غرناطة بِسَبَب الْجُوع والغلاء دون الْحَرْب والقتال ففر نَاس كَثِيرُونَ من الْجُوع إِلَى البشرات ثمَّ اشْتَدَّ الْأَمر فِي شهر صفر من السّنة وَقل الطَّعَام وتفاقم الْخطب فَاجْتمع نَاس مَعَ من يشار إِلَيْهِ من أهل الْعلم كَأبي عبد الله الْمُوَافق شَارِح الْمُخْتَصر وَغَيره وَقَالُوا انْظُرُوا لأنفسكم وَتَكَلَّمُوا مَعَ سلطانكم فأحضر السُّلْطَان أَبُو عبد الله بن أبي الْحسن أهل دولته وأرباب مشورته وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْأَمر وَأَن الْعَدو يزْدَاد مدده كل يَوْم وَنحن لَا مدد لنا وَكُنَّا نظن أَنه يقْلع عَنَّا فِي فصل الشتَاء فخاب الظَّن وَبنى وَأسسَ وَأقَام وَقرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 منا فانظروا لأنفسكم وَأَوْلَادكُمْ فاتفق الرَّأْي على ارْتِكَاب أخف الضررين وشاع أَن الْكَلَام وَقع بَين النَّصَارَى ورؤساء الأجناد قبل ذَلِك فِي إِسْلَام الْبَلَد خوفًا على نُفُوسهم وعَلى النَّاس ثمَّ عددوا مطَالب وشروطا أداروها وَزَادُوا أَشْيَاء على مَا كَانَ فِي صلح وَادي آش مِنْهَا أَن صَاحب رومة يُوَافق على الِالْتِزَام وَالْوَفَاء بِالشّرطِ إِذا مكنوه من حَمْرَاء غرناطة والمعاقل والحصون وَيحلف على عَادَة النَّصَارَى فِي العهود وَتكلم النَّاس فِي ذَلِك وَذكروا أَن رُؤَسَاء أجناد الْمُسلمين لما خَرجُوا للْكَلَام فِي ذَلِك امتن عَلَيْهِم النَّصَارَى بِمَال جزيل وذخائر ثمَّ عقدت بَينهم الوثائق على شُرُوط قُرِئت على أهل غرناطة فانقادوا إِلَيْهَا ووافقوا عَلَيْهَا وَكَتَبُوا الْبيعَة لصَاحب قشتالة فقبلها مِنْهُم وَنزل سُلْطَان غرناطة أَبُو عبد الله عَن الْحَمْرَاء وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَفِي ثَانِي ربيع الأول من السّنة أَعنِي سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استولى النَّصَارَى على الْحَمْرَاء ودخلوها بعد أَن استوثقوا من أهل غرناطة بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْأَعْيَان رهنا خوف الْغدر وَكَانَت الشُّرُوط سَبْعَة وَسِتِّينَ شرطا مِنْهَا تَأْمِين الصَّغِير وَالْكَبِير فِي النَّفس والأهل وَالْمَال وإبقاء النَّاس فِي أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم وَمِنْهَا إِقَامَة شريعتهم على مَا كَانَت وَلَا يحكم على أحد مِنْهُم إِلَّا بِشَرِيعَتِهِ وَأَن تبقى الْمَسَاجِد كَمَا كَانَت والأوقاف كَذَلِك وَأَن لَا يدْخل النَّصَارَى دَار مُسلم وَلَا يغصبوا أحدا وَأَن لَا يولي على الْمُسلمين نَصْرَانِيّ أَو يَهُودِيّ مِمَّن يتَوَلَّى عَلَيْهِم من قبل سلطانهم وَأَن يفتك جَمِيع من أسر فِي غرناطة حَيْثُ كَانُوا وخصوصا أعيانا نَص عَلَيْهِم وَمن هرب من أُسَارَى الْمُسلمين وَدخل غرناطة لَا سَبِيل عَلَيْهِ لمَالِكه وَلَا لغيره وَالسُّلْطَان يدْفع ثمنه لمَالِكه وَمن أَرَادَ الْجَوَاز إِلَى العدوة لَا يمْنَع ويجوزون فِي مُدَّة عينت فِي مراكب السُّلْطَان لَا يلْزمهُم إِلَّا الْكِرَاء ثمَّ بعد تِلْكَ الْمدَّة يُعْطون عشر مَالهم والكراء وَأَن لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره وَأَن لَا يجْبر من أسلم على الرُّجُوع لِلنَّصَارَى وَدينهمْ وَأَن من تنصر من الْمُسلمين يُوقف أَيَّامًا حَتَّى يظْهر حَاله ويحضر لَهُ حَاكم من الْمُسلمين وَآخر من النَّصَارَى فَإِن أَبى الرُّجُوع إِلَى الْإِسْلَام تَمَادى على مَا أَرَادَ وَلَا يُعَاتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 على من قتل نَصْرَانِيّا أَيَّام الْحَرْب وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ مَا سلب من النَّصَارَى أَيَّام الْعَدَاوَة وَلَا يُكَلف الْمُسلم بضيافة أجناد النَّصَارَى وَلَا يسفر لجِهَة من الْجِهَات وَلَا يزِيدُونَ على المغارم الْمُعْتَادَة وترفع عَنْهُم جَمِيع الْمَظَالِم والمغارم المحدثة وَلَا يطلع نَصْرَانِيّ للسور وَلَا يتطلع على دور الْمُسلمين وَلَا يدْخل مَسْجِدا من مَسَاجِدهمْ ويسير الْمُسلم فِي بِلَاد النَّصَارَى آمنا فِي نَفسه وَمَاله وَلَا يَجْعَل عَلامَة كَمَا يَجْعَل الْيَهُود وَأهل الدجن وَلَا يمْنَع مُؤذن وَلَا صَائِم وَلَا مصل وَلَا غَيره من أُمُور دينه وَمن ضحك مِنْهُم يُعَاقب ويتركون من المغارم سِنِين مَعْلُومَة وَأَن يُوَافق على كل الشُّرُوط صَاحب رومة وَيَضَع خطّ يَده وأمثال هَذَا مِمَّا تركنَا ذكره وَبعد انبرام ذَلِك وَدخُول النَّصَارَى للحمراء وَالْمَدينَة جعلُوا قائدا بالحمراء وحكاما ومقدمين بِالْبَلَدِ وَلما علم بذلك أهل البشرات دخلُوا فِي هَذَا الصُّلْح وشملهم حكمه على هَذَا الْوَجْه ثمَّ أَمر الْعَدو بِبِنَاء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَمْرَاء وتحصينها وتجديد بِنَاء قُصُورهَا وَإِصْلَاح سورها وَصَارَ الطاغية يخْتَلف إِلَى الْحَمْرَاء نَهَارا ويبيت بمحلته لَيْلًا إِلَى أَن اطْمَأَن من خوف الْغدر فَدخل الْمَدِينَة وَتَطوف بهَا وأحاط خَبرا بِمَا يرومه مِنْهَا ثمَّ أَمر سُلْطَان الْمُسلمين أَن ينْتَقل لسكنى البشرات وَأَنَّهَا تكون لَهُ فِي سكناهُ بأندرش فَانْصَرف إِلَيْهَا وَأخرج الأجناد مِنْهَا ثمَّ احتال عَدو الله فِي نَفْيه لبر العدوة وَأظْهر أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور طلب مِنْهُ ذَلِك ثمَّ كتب لصَاحب المرية أَنه سَاعَة وُصُول كتابي هَذَا لَا سَبِيل لأحد أَن يمْنَع مولَايَ أَبَا عبد الله من السّفر حَيْثُ أَرَادَ من بر العدوة وَمن وقف على هَذَا الْكتاب فليصرفه وليقف مَعَه وَفَاء بِمَا عهد لَهُ فَانْصَرف السُّلْطَان أَبُو عبد الله فِي الْحِين بِنَصّ هَذَا الْكتاب وَركب الْبَحْر فَنزل بمليلة واستوطن فاسا وَكَانَ قبل ذَلِك قد طلب الْجَوَاز لناحية مراكش فَلم يسعف بذلك وَحين جَوَازه لبر العدوة لَقِي شدَّة وَغَلَاء وبلاء ثمَّ إِن النَّصَارَى نكثوا الْعَهْد وَنَقَضُوا الشُّرُوط عُرْوَة عُرْوَة إِلَى أَن آل الْحَال لحملهم الْمُسلمين على التنصر سنة أَربع وَتِسْعمِائَة بعد أُمُور وَأَسْبَاب أعظمها عَلَيْهِم أَنهم قَالُوا إِن القسيسين كتبُوا على جَمِيع من أسلم من النَّصَارَى أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 يرجع مهرعا لدينِهِ فَفَعَلُوا ذَلِك وَتكلم النَّاس وَلَا جهد لَهُم وَلَا قُوَّة ثمَّ تعدوا ذَلِك إِلَى أَمر آخر وَهُوَ أَن يَقُولُوا للرجل الْمُسلم إِن جدك كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم فترجع أَنْت نَصْرَانِيّا وَلما تفاحش هَذَا الْأَمر قَالَ أهل البيازين على الْحُكَّام فَقَتَلُوهُمْ وَهَذَا كَانَ السَّبَب الْأَعْظَم فِي التنصر قَالُوا لِأَن الحكم خرج من عِنْد السُّلْطَان أَن من قَامَ على الْحَاكِم فَلَيْسَ إِلَّا الْمَوْت إِلَّا أَن يتنصر فينجو من الْمَوْت وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُم تنصرُوا عَن آخِرهم بادية وحاضرة وَامْتنع قوم من التنصر واعتزلوا النَّصَارَى فَلم يَنْفَعهُمْ ذَلِك وامتنعت قرى وأماكن كَذَلِك مِنْهَا بلفيق وأندرش وَغَيرهمَا فَجمع لَهُم الْعَدو الجموع واستأصلهم عَن آخِرهم قتلا وسبيا إِلَّا مَا كَانَ من جبل بللنقة فَإِن الله تَعَالَى أعانهم على عدوهم وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة مَاتَ فِيهَا صَاحب قرطبة وأخرجوا على الْأمان إِلَى فاس بعيالهم وَمَا خف من أَمْوَالهم دون الذَّخَائِر ثمَّ بعد هَذَا كُله كَانَ من أظهر التنصر من الْمُسلمين يعبد الله فِي خُفْيَة وَيُصلي فَشدد النَّصَارَى فِي الْبَحْث عَنْهُم حَتَّى إِنَّهُم أحرقوا كثيرا مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك ومنعوهم من حمل السكين الصَّغِيرَة فضلا عَن غَيرهَا من الْحَدِيد وَقَامُوا فِي بعض الْجبَال على النَّصَارَى مرَارًا فَلم يقيض الله تَعَالَى لَهُم ناصرا إِلَى أَن كَانَ إِخْرَاج النَّصَارَى إيَّاهُم جملَة أَعْوَام سَبْعَة عشر وَألف بعد أَن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نَحوا من مائَة وَعشْرين سنة كَانُوا فِيهَا تَحت ذمَّة النَّصَارَى كَمَا رَأَيْت وَالْأَمر لله وَحده وَلما أجلاهم الْعَدو عَن جَزِيرَة الأندلس خرجت أُلُوف مِنْهُم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وَخرج جمهورهم بتونس فتسلط عَلَيْهِم فِي الطرقات الْأَعْرَاب وَمن لَا يخْشَى الله تَعَالَى من الأوباش ونهبوا أَمْوَالهم وَهَذَا بِبِلَاد تلمسان وفاس وَنَجَا الْقَلِيل من هَذِه الْمضرَّة وَأما الَّذين خَرجُوا بنواحي تونس فَسلم أَكْثَرهم وَكَذَلِكَ بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر وَلما استخدم سُلْطَان الْمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ مِنْهُم عسكرا جرارا وَسَكنُوا سلا كَانَ مِنْهُم من الْجِهَاد فِي الْبَحْر مَا هُوَ مَشْهُور وحصنوا قلعة سلا وَهِي رِبَاط الْفَتْح وبنوا بهَا الْقُصُور والحمامات والدور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب وهم الْآن يَعْنِي فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَألف بِهَذَا الْحَال وَوصل جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى مصر وَالشَّام وَغَيرهَا من بِلَاد الْإِسْلَام وانقضى أَمر الأندلس وعادت نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت أول مرّة وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين وَفِي السّنة الَّتِي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لَهُم أَرض ماركان الَّتِي كَانَت مَجْهُولَة قبل هَذَا التَّارِيخ لسَائِر الْأُمَم وَذَلِكَ أَن الْحُكَمَاء الأقدمين من اليونان وَغَيرهم أَجمعُوا على أَن شكل الأَرْض كرة وَأَن المَاء قد غمر أحد جانبيها كُله بِحَيْثُ صَارَت الأَرْض فِيهِ كَأَنَّهَا بَيْضَة مغرقة فِي طست مَاء قد رسب فِيهِ أَكْثَرهَا وبرز أقلهَا وَأَجْمعُوا على أَن هَذَا البارز مِنْهَا هُوَ المسكون ببني آدم وَغَيرهم من الْحَيَوَانَات وَهُوَ الْمقسم إِلَى سَبْعَة أَقسَام تسمى الأقاليم وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْجَانِب الآخر منكشف عَنهُ المَاء وَلَا أَنه مسكون كَهَذا الْجَانِب بل جزموا بِأَنَّهُ مَاء صرف يُسمى الْبَحْر الْمُحِيط وَاسْتمرّ هَذَا الِاعْتِقَاد عِنْدهم وَنَقله الْخلف عَن السّلف وَوَضَعُوا فِيهِ التآليف العديدة إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي استولى فِيهَا الإصبنيول على غرناطة وَسَائِر الأندلس فاتفق أَن ظهر فِي تِلْكَ الْمدَّة رجل من فرنج جنوة اسْمه كلنب بِضَم الْكَاف وَاللَّام كَانَت حرفته الملاحة وَالسّفر فِي الْبَحْر وَكَانَ بعيد الهمة مُولَعا بالشهرة مغرى بِالذكر وَحسن الصيت فخطر بِبَالِهِ أَن جَانب الأَرْض الَّذِي أغفل الْحُكَمَاء الْأَولونَ ذكره وَزَعَمُوا أَنه بَحر صرف رُبمَا يكون مسكونا كَهَذا الْجَانِب وَكَانَ جنس البرتغال فِي هَذِه الْمدَّة قد كثرت أسفارهم فِي الْبَحْر وملكوا عدَّة محَال من جزائره الخالدات فَحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرَة ونفاسة مِنْهُم وَأَرَادَ أَن يَأْتِي بأعظم مِمَّا فعلوا فعزم على التلجيج فِي الْبَحْر الْمُحِيط والإبعاد فِيهِ عَسى أَن يظفر بمراده فتطارح على ملك البرتغال واسْمه يَوْمئِذٍ يوحنا الثَّانِي فِي أَن يُعينهُ على مَا هُوَ بصدده ويمده بِمَا يكون سَببا فِي نيل مقْصده فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله وَلَا عرج على رَأْيه وَمن قبل مَا كَانَ أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 جنوة يحمقونه وينسبونه إِلَى التهور بِمثل هَذِه الآراء فَلَمَّا لم يجد عِنْد ملك البرتغال مُرَاده تطارح على ملكة الإصبنيول وَهِي يَوْمئِذٍ إيسابيلا الشهيرة الذّكر عِنْدهم فأسعفته وَهَيَّأْت لَهُ ثَلَاث سفائن وشحنتها بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح والزاد وَالْمَال وَدفعت ذَلِك إِلَيْهِ فسافر بهَا كلنب فِي الْبَحْر الْمُحِيط على سمت الْمغرب حَتَّى أرسى بِبَعْض الجزائر الخالدات فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَافر على السمت الْمَذْكُور ملججا مُدَّة من شَهْرَيْن وَلما طَال السّفر على أَصْحَابه الَّذين مَعَه أَرَادوا قَتله وبينما هم فِي ذَلِك ظَهرت لَهُ أَرض ماركان فَسَار حَتَّى أرسى بأجفانه على ساحلها فِي الْيَوْم الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة الْمَذْكُورَة فعثر مِنْهَا على أَرض وَاسِعَة ذَات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الْحصْر حَتَّى قيل إِنَّهَا تَسَاوِي نصف هَذَا المسكون من الأَرْض أَو تزيد وَإِذا فِيهَا خلق كثير من بني آدم كهذه إِلَّا أَنهم لم يفقهوا قَوْله وَلَا فقه قَوْلهم فَعَاد كلنب إِلَى ملكة الإصبنيول بعد أَن بنى هُنَالك حصنا وَترك بِهِ بعض الْجند وسَاق من تِلْكَ الأَرْض بعض الغرائب من حَيَوَان وَغَيره إِثْبَاتًا لمدعاه فَلَمَّا قدم على الملكة بعد مغيبه سَبْعَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بِمَا أَتَى بِهِ من ذَلِك كُله وعدت ذَلِك من سعادتها إِلَى مَا تسنى لَهَا من الظفر بِجَزِيرَة الأندلس والاستيلاء عَلَيْهَا وَتبين للفرنج حِينَئِذٍ أَن الأَرْض معمورة من كلا الْجَانِبَيْنِ لَا من جَانب وَاحِد كَمَا اعتقده الأقدمون فَحِينَئِذٍ تسارعت أجناسهم إِلَى أَرض ماركان واقتسموها واعتنوا بعمرانها وسموها الدُّنْيَا الجديدة فَكَانَت من أعظم الْأَسْبَاب فِي انتعاشهم وتقويتهم وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلهَا بيد الله وَمن جملَة مَا كَانَ مفقودا بِأَرْض ماركان نوع الْخَيل وَكَذَا غَيرهَا من الْحَيَوَانَات الْأَهْلِيَّة وَلما رَأَوْا الأدمِيّ رَاكِبًا على الْفرس مسرجا ظنوه قِطْعَة وَاحِدَة وَأَن الْفَارِس وفرسه حَيَوَان وَاحِد خلق على تِلْكَ الْكَيْفِيَّة إِلَى غير ذَلِك وأخبار أَرض ماركان وَكَيْفِيَّة العثور عَلَيْهَا ثمَّ التَّرَدُّد إِلَيْهَا واعتمارها بعد ذَلِك طَوِيلَة وملخصها مَا ذَكرْنَاهُ وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وَهَذَا آخر النّصْف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى قد شرعنا فِي إمْلَائِهِ منتصف رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وفرغنا مِنْهُ فِي منتصف ذِي الْحجَّة الْحَرَام فِي السّنة الْمَذْكُورَة ونشرع بعون الله تَعَالَى فِي الْجُزْء الثَّانِي مِنْهُ مفتتحا بِمَا يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أَخْبَار البرتغال على الْجُمْلَة وعَلى الله تَعَالَى الْكَمَال بمنه وفضله أَخْبَار البرتغال بالمغرب الْأَقْصَى على الْجُمْلَة اعْلَم أَن هَذَا الْمغرب الْأَقْصَى حرسه الله وكلأه بِعَين حفظه لم يزل بِجَمِيعِ ثغوره وسواحله وأقطاره مُنْذُ الْفَتْح الإسلامي إِلَى الْمِائَة التَّاسِعَة مَحْفُوظًا الجوانب من طروق أُمَم الفرنج وَغَيرهم من أَعدَاء الدّين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود الْمُسلمين مرهوبة شَوْكَة ملوكه عِنْد أُمَم النَّصْرَانِيَّة جيلا بعد جيل وَأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث نَفسهَا بغزو شَيْء من بِلَاده أَو طرق ثغر من ثغوره أَو الِاسْتِيلَاء على شَيْء من سواحله وَلم يكن أَهله أَيْضا يتوقعون ذَلِك مِنْهُم وَلَا يخشونه بل هم الَّذين كَانُوا يغزون الفرنج فِي عقر دِيَارهمْ وأعز بِلَادهمْ ويحامون عَن بِلَاد الأندلس وسواحل إفريقية وَغَيرهَا مَتى هاج أَهلهَا هيج من ذَلِك حَسْبَمَا تقدّمت الْأَخْبَار المفصحة عَن ذَلِك وَلم يبلغنَا أَن جِنْسا من أَجنَاس الفرنج فِيمَا قبل الْمِائَة التَّاسِعَة غزا شَيْئا من أَطْرَاف الْمغرب الْأَقْصَى أَو ثغرا من ثغوره بِقصد الِاسْتِيلَاء والتملك إِلَّا مَا كَانَ من مَدِينَة سلا الَّتِي دَخلهَا الإصبنيول غدرا أَيَّام الْفِتْنَة بَين اليعقوبين ثمَّ خَرجُوا عَنْهَا لمُدَّة يسيرَة حَسْبَمَا مر وَإِلَّا مَا كَانَ من محاصرة أهل جنوة لسبتة ثمَّ الإقلاع عَنْهَا كَذَلِك وَنَحْو هَذَا مِمَّا لَا يعْتَبر فَلَمَّا دخلت الْمِائَة التَّاسِعَة وَمضى صدرها وتداعت دوَل الْمغرب من بني أبي حَفْص بإفريقية وَبني زيان بالمغرب الْأَوْسَط وَبني مرين بالمغرب الْأَقْصَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وَبني الْأَحْمَر بالأندلس وأشرفت على الْهَرم وَحدثت الْفِتَن بَين الْمُسلمين ودامت فيهم وَاشْتَغلُوا بِأَنْفسِهِم دون الِالْتِفَات إِلَى جِهَاد الْعَدو ومطالبته فِي أرضه وبلاده على مَا كَانَ لَهُم من الْعَادة قبل ذَلِك وَافق ذَلِك ابْتِدَاء ظُهُور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بِجَزِيرَة الأندلس واستفحال أَمرهم فكثرت أسفار البرتغال فِي الْبَحْر الْمُحِيط ودام تقلبهم فِيهِ ومرنوا عَلَيْهِ حَتَّى حصلوا على عدَّة جزائر مِنْهُ واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أَرض السودَان وَغَيرهَا ثمَّ شرهوا لتملك سواحل الْمغرب الْأَقْصَى فَهَجَمُوا عَلَيْهَا وجالدوا أَهلهَا دونهَا حَتَّى تمكنوا مِنْهَا ونشبوا فِيهَا فَقَوِيت شوكتهم وَعظم ضررهم على الْإِسْلَام وطمحت نُفُوسهم للاستيلاء على مَا وَرَاء ذَلِك حَسْبَمَا تقف عَلَيْهِ مُبينًا فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله فاستولوا فِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة على مَدِينَة سبتة بعد محاصرتهم لَهَا سِتّ سِنِين على مَا فِي بعض تواريخ الإفرنج ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة استولوا على قصر الْمجَاز ثمَّ استولوا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة على طنجة ثمَّ فِي حُدُود سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة ملكوا آصيلا وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه أَو قبله بِيَسِير استولوا على مَدِينَة آنِفا وَبَعض سواحل السوس ثمَّ فِي حُدُود سنة سبع وَتِسْعمِائَة نزلُوا بِأَرْض الجديدة فِيمَا بَين آزمور وتيط وبنوا بهَا حصن البريجة وَطَالَ مقامهم بهَا ثمَّ فِي سنة عشر وَتِسْعمِائَة استولوا على مَدِينَة العرائش ثمَّ بعد ذَلِك بِيَسِير فِي حُدُود الْعشْر وَتِسْعمِائَة على مَا تَقْتَضِيه تواريخ الفرنج ملكوا حصن آكادير وَمَا اتَّصل بِهِ من سواحل السوس الْأَقْصَى ثمَّ ملكوا فِي حُدُود اثْنَتَيْ عشرَة وَتِسْعمِائَة رِبَاط آسفي ثمَّ عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عَلَيْهِ فِي سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة ثمَّ المعمورة وَهِي المهدية ملكوها أَيْضا فِي حُدُود سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه رجعُوا إِلَى مَدِينَة آنِفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يبْق من ثغور الْمغرب الْأَقْصَى بيد الْمُسلمين إِلَّا الْقَلِيل مثل سلا ورباط الْفَتْح وفجئ الْمُسلمُونَ من هَذَا البرتغال بِالْأَمر الْعَظِيم ودهوا مِنْهُ بالخطب الجسيم واستحوذ عَدو الله على بِلَاد الهبط وضايقهم بهَا حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 انحازوا إِلَى الْأَمْصَار المنزوية عَن الْأَطْرَاف والقرى النائية عَن السواحل وَكَانَ ذَلِك كُله فِيمَا بَين انْقِرَاض دولة بني وطاس وَظُهُور دولة الشرفاء السعديين وَلَقَد ذكر فِي مرْآة المحاسن أَن قصر كتامة كَانَ فِي صدر الْمِائَة الْعَاشِرَة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إِلَيْهِ بضائع العدوتين وسلعها قَالَ إِذْ كَانَ الْقصر الْمَذْكُور ثغرا بَين بِلَاد الْمُسلمين وَبَين بِلَاد النَّصَارَى تحط بِهِ رحال تجار الْمُسلمين من آفَاق الْمغرب وتجار الْحَرْبِيين من أصيلا وطنجة وَقصر الْمجَاز وسبتة وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحل عناية سُلْطَان الْمغرب إِذْ ذَاك مُحَمَّد الشَّيْخ بن أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي فَإِن الْقصر قَاعِدَة بِلَاد الهبط الَّتِي كَانَت موقد شرارة السُّلْطَان الْمَذْكُور ومشب ناره وموشج عصبيته مَعَ مجاورته لبلاد الْحَرْب فَكَانَ نظره مصروفا إِلَيْهِ واختصاصه مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَتقبل بنوه من بعده مذْهبه فِيهِ اه كَلَامه فَهَذَا يدلك على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَدو خذله الله من المضايقة للْمُسلمين فِي ثغورهم وبلادهم وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد وَلما نزل بِأَهْل الْمغرب الْأَقْصَى مَا نزل من غَلَبَة عَدو الدّين واستيلائه على ثغور الْمُسلمين تباروا فِي جهاده وقتاله وأعملوا الْخَيل وَالرجل فِي مقارعته ونزاله وتوفرت دواعي الْخَاصَّة مِنْهُم والعامة على ذَلِك وصرفوا وُجُوه الْعَزْم لتَحْصِيل الثَّوَاب فِيمَا هُنَالك فكم من رَئِيس قوم قَامَ لنصرة الدّين غيرَة واحتسابا وَكم من ولي عصر أَو عَالم مصر بَاعَ نَفسه من الله وَرَأى ذَلِك صَوَابا حَتَّى لقد اسْتشْهد مِنْهُم أَقوام وَأسر آخَرُونَ وَبلغ الله تَعَالَى جَمِيعهم من الثَّوَاب مَا يرجون فَمن اسْتشْهد مِنْهُم فِي سَبِيل الله سَيِّدي عِيسَى ابْن الْحسن المصباحي دَفِين الدعداعة بِأَرْض البروزي من بِلَاد طليق وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الشاوي من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَأَبُو الْفضل فرج الأندلسي ثمَّ المكناسي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد القصري الْمَعْرُوف بسقين قَتله النَّصَارَى عِنْد ضريح الشَّيْخ أبي سلهام وَكَانَ قد قَصده للزيارة ففتكوا بِهِ هُنَالك وكل هَؤُلَاءِ مَعْدُود فِي أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَمِمَّنْ أسر مِنْهُم ثمَّ خلصه الله الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي دَفِين تانسيفت من أحواز مراكش وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الكوش دَفِين جبل الْعرض من أحواز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 فاس ووالد صَاحب دوحة الناشر وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مِصْبَاح الحسني عرف بِابْن عَسْكَر وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن القَاضِي المكناسي أحد قُضَاة سلا وَهُوَ صَاحب جذوة الاقتباس والمنتقى الْمَقْصُور وَغَيرهمَا من التآليف الحسان أسر وَهُوَ ذَاهِب إِلَى الْحَج وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل التّونسِيّ الْمَعْرُوف بخروف نزيل فاس وَشَيخ الْجَمَاعَة بهَا هَؤُلَاءِ كلهم أَصَابَهُ الْأسر ثمَّ خلصه الله بعد حِين وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم وَيسر بمنه حسابهم وَلَقَد ألف النَّاس فِي ذَلِك الْعَصْر التآليف فِي الحض على الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وَقَالَ الخطباء والوعاظ فِي ذَلِك فَأَكْثرُوا ونظم الشُّعَرَاء والأدباء فِيهِ ونثروا فَمِمَّنْ ألف فِي ذَلِك الْبَاب فَأفَاد الشَّيْخ المتفنن البارع الصُّوفِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم ابْن يَجِيش التازي قَالَ فِي الدوحة وقفت لَهُ على تأليف أَلفه فِي الحض على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَكَانَ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يتَنَاوَل باليدين وَيكْتب دون المداد باللجين أودعهُ نظما ونثرا وَمِمَّنْ نظم فِي ذَلِك فأجاد الشَّيْخ الصَّالح المتصوف الْمُجَاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى البهلولي قَالَ فِي الدوحة كَانَ هَذَا الشَّيْخ مِمَّن لَازم بَاب الْجِهَاد وَفتح لَهُ فِيهِ وَله فِي ذَلِك أشعار وقصائد زجليات وَغَيرهَا وَكَانَ معاصرا للسُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي فَكَانَ إِذا جَاءَهُ زَائِرًا حضه على الْغَزْو فيساعده على مَا أَرَادَ من ذَلِك وَلما توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور ودالت الدولة لوَلَده السُّلْطَان أَحْمد وغص بالشرفاء القائمين عَلَيْهِ بِبِلَاد السوس عقد الْهُدْنَة مَعَ النَّصَارَى المجاورين لَهُ بِبِلَاد الهبط وصاحبهم سُلْطَان البرتغال فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عبد الله الْمَذْكُور فآلى على نَفسه أَن لَا يلقى السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلَا يمشي إِلَيْهِ وَلَا يقبل مِنْهُ مَا كَانَ عينه لَهُ وَالِده من جِزْيَة أهل الذِّمَّة بفاس لقُوته وضرورياته فَمَكثَ على ذَلِك إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة وَكَانَ فِي النزع وَأَصْحَابه دائرون بِهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي أخْبرك أَن السُّلْطَان أَمر بالغزو ونادى بِهِ وحض النَّاس عَلَيْهِ والمسلمون فِي شرح لذَلِك وَفَرح فَفتح الشَّيْخ عَيْنَيْهِ وتهلل وَجهه فَرحا وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 فَفَاضَتْ نَفسه وَهُوَ مسرور بذلك وَلِهَذَا الشَّيْخ زجليات ومقطعات حسان فِي الحض على الْجِهَاد مِنْهَا اللامية الْمَشْهُورَة الَّتِي خَاطب بهَا السُّلْطَان أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ومطلعها (قل للأمير مُحَمَّد ... يَا طلعة الْهلَال) (لويلة فِي السواحل ... من أفضل الليال) وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي مطْلعهَا (ظهر الرمل مرادي ... والعسكر يَا كرام) (نَفسِي على الْجِهَاد ... سبلت وَالسَّلَام) وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي أَولهَا (قُم للْجِهَاد رعاك الله منتهجا ... نهج الرشاد إِلَى الأقوام لَو فَهموا) (من بعد أندلس مَا زلت محتدما ... لَو كَانَ يمكنني فِي اللَّيْل أحتزم) إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره قَالَ صَاحب الدوحة حَدثنِي الْفَقِيه الْعدْل أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الدغموري القصري قَالَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله يَقُول مَا غزونا غَزْوَة قطّ إِلَّا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا ويخبرني بِجَمِيعِ مَا يتَّفق لي ولأصحابي فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَله رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الْجِهَاد والرجولية حِكَايَة ظريفة وَهِي أَنه غز مرّة غَزْوَة إِلَى الثغور الهبطية ثمَّ قدم مِنْهَا مَعَ أَصْحَابه فَوجدَ زَوجته فُلَانَة بنت الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار قد توفيت وَصلى النَّاس عَلَيْهَا بِجَامِع الْقرَوِيين وإمامهم الشَّيْخ غَازِي ابْن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور فوصل الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَوجد جنازتها على شَفير الْقَبْر وَالنَّاس يحاولون دَفنهَا فَقَالَ لَهُم مهلا ثمَّ تقدم وَأعَاد الصَّلَاة عَلَيْهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه فبادر النَّاس إِلَيْهِ بالإنكار فِي تَكْرِير الصَّلَاة فِي الْجِنَازَة بِالْجَمَاعَة مرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُم على البديهة صَلَاتكُمْ الَّتِي صليتم عَلَيْهَا فَاسِدَة لكَونهَا بِغَيْر إِمَام فَقَالُوا لَهُ كَيفَ ذَلِك يَا سَيِّدي قَالَ لِأَن شَرط الإِمَام الذكورية وَهِي مفقودة فِي صَاحبكُم لِأَن الَّذِي لم يتقلد سَيْفا فِي سَبِيل الله قطّ وَلم يضْرب بِهِ وَلَا عرف الْحَرْب كَمَا كَانَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يتعبد بالسيرة النَّبَوِيَّة فَكيف يعد إِمَامًا ذكرا بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 إمامكم وَالله من جملَة النِّسَاء اه وَحكى أَيْضا فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله الورياكلي الَّذِي قَالَ لَهُ الْعَلامَة ابْن مَرْزُوق وَقد عزم على الرحلة إِلَى بِلَاد الْمشرق فِي طلب الْعلم لَيْسَ أمامك أحد أعلم مِنْك قَالَ فَرجع من هُنَالك فَوجدَ النَّصَارَى قد تغلبُوا على طنجة وآصيلا فلازم الثغور الهبطية لأجل الرِّبَاط وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله وَبث الْعلم ونشره قَالَ وَكَانَ من عَادَته أَن يشْتَغل بالتدريس فِي فَصلي الشتَاء وَالربيع وَيخرج فِي الصَّيف والخريف فيربط فِي ثغور الْقَبَائِل الهبطية إِلَى آخر كَلَامه وأمثال هَذَا كثير ذكرنَا مِنْهُ هَذِه النبذة الْيَسِيرَة لتقف بهَا على أَحْوَال الْقَوْم وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من الرَّغْبَة فِي الْجِهَاد والمثابرة عَلَيْهِ قدس الله أَرْوَاحهم وَجعل فِي دَار النَّعيم غدوهم ورواحهم وَقد آن أَن نشرع فِي الْأَخْبَار عَن دولة بني وطاس بعد أَن نذْكر دولة الشريف العمراني الَّذِي بَايعه أهل فاس يَوْم مقتل السُّلْطَان عبد الْحق بن أبي سعد رَحمَه الله الْخَبَر عَن دولة الشريف أبي عبد الله الْحَفِيد وأوليته هَذَا الشريف هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الإدريسي الجوطي العمراني من بَيت بني عمرَان فرقة من أدارسة فاس وهم وَاسِطَة عقد الْبَيْت الإدريسي وأوضحهم نسبا وَأَعْلَاهُمْ حسبا قَالَ ابْن خلدون لَيْسَ فِي الْمغرب فِيمَا نعلمهُ من أهل الْبَيْت الْكَرِيم من يبلغ فِي صَرَاحَة نسبه ووضوحه مبلغ أعقاب إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ قَالَ وكبراؤهم لهَذَا الْعَهْد بَنو عمرَان بفاس من ولد يحيى الجوطي بن مُحَمَّد بن يحيى العدام بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس بن إِدْرِيس وهم نقباء أهل الْبَيْت هُنَاكَ والساكنون بِبَيْت جدهم إِدْرِيس وَلَهُم السِّيَادَة على أهل الْمغرب كَافَّة اه والجوطي قَالَ فِي الْمرْآة نِسْبَة إِلَى جوطة بجيم مضموم وواو مد وطاء مَفْتُوحَة وهاء تَأْنِيث وَهِي قَرْيَة عَظِيمَة على نهر سبو فِي العدوة الجنوبية خربَتْ وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا أثار وَلها مسيل شتوي يعرف بمخروط جوطة نزلها السَّيِّد يحيى فنسب إِلَيْهَا وقبره هُنَالك مَعْرُوف اه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 بيعَة السُّلْطَان أبي عبد الله الْحَفِيد وَالسَّبَب فِيهَا كَانَ بَنو مرين أَيَّام ولايتهم على الْمغرب يعظمون هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف الأدارسة ويوجبون حَقهم ويتقربون إِلَى الله تَعَالَى بِرَفْع مَنْزِلَتهمْ وجبر خواطرهم لما فاتهم من رُتْبَة الْخلَافَة الَّتِي كَانَت تكون لَهُم بطرِيق الِاسْتِحْقَاق الشَّرْعِيّ فَكَانَ بَنو مرين لما جبلوا عَلَيْهِ من الجنوح إِلَى مراسم الدّين وانتحالها يرَوْنَ فِي أنفسهم كَأَنَّهُمْ متغلبون مَعَ وجود هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف فَلِذَا كَانُوا يخضعون لَهُم ويتأدبون مَعَهم مَا أمكن وَلَقَد حكى أَبُو عبد الله بن الْأَزْرَق أَن الشَّيْخ الْكَبِير أَبَا عبد الله الْمقري كَانَ يحضر مجْلِس السُّلْطَان أَبَا عنان لَيْث الْعلم وَكَانَ نقيب الشرفاء بفاس إِذا دخل مجْلِس السُّلْطَان يقوم لَهُ السُّلْطَان وَجَمِيع من فِي الْمجْلس إجلالا لَهُ إِلَّا الشَّيْخ الْمقري فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقوم لَهُ فجرت بَين الشريف والفقيه الْمَذْكُور معاتبة ومراجعة فِي حِكَايَة مَشْهُورَة تركناها لعدم تعلق الْغَرَض بهَا إِذْ الْغَرَض هُوَ الْوُقُوف على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْم من التجلة والتعظيم لأهل هَذَا الْبَيْت الْكَرِيم فَلَمَّا اضْطَرَبَتْ أَحْوَال الدولة المرينية بفاس وَاجْتمعَ رُؤَسَاء فاس إِلَى الْفَقِيه أبي فَارس الورياكلي فِي شَأْن الْيَهُودِيين اللَّذين كَانَا يحتكمان فِي الْمَدِينَة ويعتسفان أَهلهَا أجمع رَأْيهمْ على مبايعة هَذَا الشريف الْحَفِيد وَكَانَ يَوْمئِذٍ على نقابة الْأَشْرَاف بفاس فاستدعوه فَحَضَرَ وَبَايَعُوهُ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَتمّ أمره وَكَانَ من قَتله للسُّلْطَان عبد الْحق مَا تقدم ذكره وَالله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 فتْنَة الشاوية ووصولهم إِلَى بِلَاد الغرب قد قدمنَا مَا كَانَ من أَمر الشاوية وفتنتهم فِي أَيَّام السُّلْطَان عبد الْحق وَلما كَانَت أَيَّام الْحَفِيد هَذَا تزايد ضررهم واستطال شرهم فزحفوا إِلَى بِلَاد الغرب من أحواز مكناسة وفاس وعاثوا وأفسدوا وَلما تكلم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن على الشَّيْخ عبد الْوَارِث اليالصوتي وَأَنه أَخذ من جمَاعَة مِنْهُم أَبُو النَّجَاء سَالم الروداني الشاوي وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله الصَّغِير السهلي وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الغزواني قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو النَّجَاء أَولا يقْرَأ بِالْمَدْرَسَةِ العنانية فَلَمَّا نزل الشاوية الغرب خرج من فاس خَائفًا يترقب وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْحَفِيد اه وبلاد الغرب تطلق فِي عرف أَهله على خُصُوص بسيط أزغار وَمَا اتَّصل بِهِ إِلَى سَاحل الْبَحْر وَالله أعلم اسْتِيلَاء البرتغال على مَدِينَة آنفي وآصيلا رَأَيْت فِي بعض تواريخ الفرنج أَن اسْتِيلَاء البرتغال على آنفي كَانَ فِي حُدُود أَربع وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَأَنَّهُمْ هدموها وَبقيت كَذَلِك مُدَّة تزيد على أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ شرعوا فِي تحصينها وَالْبناء بهَا وَلم يزَالُوا مقيمين بهَا إِلَى حُدُود أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف فِي سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة استولوا على آصيلا وظفروا فِيهَا بِبَيْت مَال الوطاسي وأسروا وَلَده مُحَمَّدًا الْمَدْعُو بالبرتغالي وَابْنَته وزوجتيه وَجَمَاعَة من الْأَعْيَان وَكَانَ الْخطب عَظِيما وَبَقِي ولد الوطاسي عِنْد البرتغال سبع سِنِين ثمَّ افتكه وَالِده بعد وَكَانَ يَوْم أسر صَبيا صَغِيرا وَأما مَدِينَة فضَالة فَلم يَقع عَلَيْهَا اسْتِيلَاء وَإِنَّمَا كَانَت بهَا كمبانية خَمْسَة نفر من تجار مادريد قَاعِدَة قشتالة نزلوها بِقصد التِّجَارَة بِإِذن سُلْطَان الْوَقْت وَكَانَت سلعهم توسق وتوضع من مرْسَاها وبنوا بهَا الْبناء الْمَوْجُود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 الْيَوْم وَالله تَعَالَى أعلم خلع السُّلْطَان أبي عبد الله الْحَفِيد وانقراض أمره قَالَ فِي الجذوة لما قَامَت عَامَّة فاس على السُّلْطَان عبد الْحق وَأَقَامُوا هَذَا النَّقِيب من أهل مَدِينَة فاس إِمَامًا اسْتمرّ بهَا وَابْنه وَزِير لَهُ إِلَى سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة فعزل عَن الْإِمَامَة وَكَانَ الَّذِي خلعه أَبَا الْحجَّاج يُوسُف بن مَنْصُور بن زيان الوطاسي وَكَانَ ذَلِك سَبَب ذهَاب الشريف الْمَذْكُور إِلَى تونس لمُدَّة يسيرَة من خلعه وَبقيت حَضْرَة فاس الْجَدِيد فِي يَد أُخْت أبي الْحجَّاج الْمَذْكُور وَهِي الزهراء المدعوة بزهور مَعَ قائده السجيري إِلَى أَن تولى الْأَمر أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي وَالله غَالب على أمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الْخَبَر عَن دولة بني وطاس وَذكر نسبهم وأوليتهم اعْلَم أَن بني وطاس فرقة من بني مرين غير أَنهم لَيْسُوا من بني عبد الْحق وَلما دخل بَنو مرين الْمغرب واقتسموا أَعماله حَسْبَمَا تقدم كَانَ لبني وطاس هَؤُلَاءِ بِلَاد الرِّيف فَكَانَت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وَكَانَ بَنو الْوَزير مِنْهُم يسمون إِلَى الرياسة ويروسون الْخُرُوج على بني عبد الْحق وَقد تكَرر ذَلِك مِنْهُم حَسْبَمَا مر ثمَّ أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وراضوا أنفسهم على الْخدمَة فاستعملهم بَنو عبد الْحق فِي وُجُوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أُمُور دولتهم فَحسن أَثَرهم لَدَيْهَا وتعدد الوزراء مِنْهُم فِيهَا وَذكر ابْن خلدون أَن بني الْوَزير هَؤُلَاءِ يرَوْنَ أَن نسبهم دخيل فِي بني مرين وَأَنَّهُمْ من أعقاب يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لَحِقُوا بالبدو ونزلوا على بني وطاس ووشجت فيهم عروقهم حَتَّى لبسوا جلدتهم وَلم يزل السرو متربعا بَين أَعينهم لذَلِك والرياسة شامخة بأنوفهم اه وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان أبي عنان وَاسْتولى على بجابة عقد عَلَيْهَا لعمر بن عَليّ الوطاسي من بني الْوَزير هَؤُلَاءِ فثار عَلَيْهِ أَهلهَا واستلحموه فِي خبر مر التَّنْبِيه عَلَيْهِ ثمَّ لما كَانَت الدولة الأولى للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بن أبي سَالم وخلص ملك مراكش وأعمالها إِلَى ابْن عَمه الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن أبي يفلوسن كَانَ من جملَة من تحيز إِلَيْهِ وَصَارَ فِي جملَته زيان بن عمر بن عَليّ الْمَذْكُور فَكَانَت لَهُ فِي دولته الوجاهة الْكَبِيرَة والمنزلة الرفيعة ثمَّ لما فسد مَا بَين السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس والأمير عبد الرَّحْمَن كَانَ زيان بن عمر فِي جملَة النازعين إِلَى السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس فاتصل بِهِ وَصَارَ فِي جملَته إِلَى أَن حاصر السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس قَصَبَة مراكش وَبهَا يَوْمئِذٍ الْأَمِير عبد الرَّحْمَن فأبلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 زيان بن عمر فِي ذَلِك الْحصار وَكَانَ أحد الَّذين باشروا قتل وَلَدي الْأَمِير عبد الرَّحْمَن قَالَ ابْن خلدون وطالما كَانَ زيان هَذَا يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خُيَلَاء فِي جاههم فَذهب مثلا فِي كفران النِّعْمَة وَسُوء الْجَزَاء وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة ثمَّ جَاءَ بعده ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان فولي الوزارة للسُّلْطَان عبد الْحق كَمَا مر ثمَّ بعده ابْنه يحيى أَيْضا وَهُوَ الَّذِي قَتله السُّلْطَان عبد الْحق فِي جمَاعَة من عشيرته وفر أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ إِلَى الصَّحرَاء وَبَقِي متنقلا فِي الْبِلَاد إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ بن أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي رَحمَه الله قد تقدم لنا مَا كَانَ من إِيقَاع السُّلْطَان عبد الْحق ببني وطاس وإفلات مُحَمَّد الشَّيْخ وَمُحَمّد الحلو من النكبة وَأَن الشَّيْخ كَانَ قد خرج للصَّيْد فاتصل بِهِ الْخَبَر فَذهب على وَجهه لَا يلوي على شَيْء وَأَن الحلو اختفى حَتَّى إِذا سكنت الهيعة تسلل وَلحق بالشيخ فسارا إِلَى جِهَة الصَّحرَاء وَجعلا يترددان فِيمَا بَينهَا وَبَين الْبِلَاد الهبطية حَتَّى ملكا آصيلا وَذَلِكَ قبل اسْتِيلَاء البرتغال عَلَيْهَا وَلما ملك الشَّيْخ آصيلا واستفحل أمره بهَا تشوفت إِلَيْهِ الْأَعْيَان من أهل فاس والرؤساء من أهل دولة السُّلْطَان عبد الْحق وصاروا يكاتبونه ويقدمون إِلَيْهِ الْوَسَائِل سرا وَرُبمَا دَعوه إِلَى الْقدوم على أَن يبذلوا لَهُ من الطَّاعَة والنصرة مَا شَاءَ فاستمر الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن قتل عبد الْحق وبويع الْحَفِيد فَحِينَئِذٍ أرهف الشَّيْخ حَده واستفرغ فِي الْمُطَالبَة جهده إِلَى أَن استولى على الحضرة وَصفا لَهُ ملك الْمغرب قَالَ فِي الْمرْآة لما بَايع أهل فاس أَبَا عبد الله الْحَفِيد قَامَ مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي فِي آصيلا واستتبع الْقَبَائِل واستفحل أمره وحاصر فاسا وقتا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 بعد وَقت إِلَى أَن دخلت فِي طَاعَته فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة وَخرج عَنْهَا الْحَفِيد ودخلها مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور فِي أَوَائِل شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ مورث الْملك لِبَنِيهِ بهَا اه وَقد تقدم لنا أَن الَّذِي خلع الشريف من الْملك هُوَ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن مَنْصُور الوطاسي وَأَن حَضْرَة فاس الْجَدِيد قد بقيت بعد ذهَاب الشريف إِلَى تونس فِي يَد زهور الوطاسية والقائد السجيري إِلَى أَن قدم السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَالله تَعَالَى أعلم وَقَالَ منويل فِي أَخْبَار مُحَمَّد الشَّيْخ هَذَا مَا صورته كَانَت مملكة الْمغرب الْأَقْصَى فِي غَايَة الِاضْطِرَاب والانتكاس حَتَّى طمع فِي ملكهَا كل من كَانَت توسوس لَهُ نَفسه بذلك وَاسْتولى ابْن الْأَحْمَر على جَمِيع الثغور الَّتِي كَانَت لبني مرين بِأَرْض الأندلس وَلم يتْرك لَهُم قيد شبر واشرأبت أَجنَاس الفرنج للتغلب على الْمغرب وَفِي تِلْكَ الْمدَّة كَانَ بآصيلا مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي وَكَانَ شجاعا مقداما وأحس من نَفسه بِالْقُدْرَةِ على الِاسْتِيلَاء على كرْسِي فاس وتنحية الشريف عَنهُ لَا سِيمَا مَعَ مَا كَانَ النَّاس فِيهِ من افْتِرَاق الْكَلِمَة فَجمع جندا صالحها وزحف إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ الشريف والتقوا بأحواز مكناسة فَوَقَعت بَينهمَا حَرْب عَظِيمَة كَانَت الكرة فِيهَا على الوطاسي ثمَّ جمع عسكرا آخر وزحف بِهِ إِلَى فاس وحاصرها نَحْو سنتَيْن والشريف فِيهَا مَعَ أَرْبَاب دولته وَفِي أثْنَاء الْحصار ورد عَلَيْهِ الْخَبَر باستيلاء البرتغال على آصيلا وعَلى بَيت مَاله الَّذِي كَانَ بهَا وعَلى حظاياه وَأَوْلَاده فأفرج عَن فاس وَرجع مبادرا إِلَى آصيلا فحاصرها وَلما امْتنعت عَلَيْهِ عقد مَعَ البرتغال هدنة وَعَاد سَرِيعا إِلَى فاس فحاصرها وضيق على الشريف بهَا حَتَّى خرج فَارًّا بِنَفسِهِ وأسلمها إِلَيْهِ فَدَخلَهَا مُحَمَّد الشَّيْخ وتمت بيعَته وتفرغ لتدويخ الْقَبَائِل الَّتِي بأحواز فاس وَغَيرهَا فَدَخَلُوا فِي طَاعَته واغتبطوا بِهِ اه كَلَامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 رياسة بني رَاشد من شرفاء الْعَالم بغمارة وبناؤهم مَدِينَة شفشاون وَمَا يتبع ذَلِك قَالَ فِي نشر المثاني اختط بعض شرفاء الْعلم مَدِينَة شفشاون بِقصد تحصين الْمُسلمين من نَصَارَى سبتة إِذْ كَانُوا بعد استيلائهم عَلَيْهَا يتطاولون على أهل تِلْكَ المداشر فِي أَوَاخِر دولة بني وطاس وَقَالَ فِي الْمرْآة كَانَ ابْتِدَاء اختطاط مَدِينَة شفشاون فِي الْجِهَة الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بالعدوة وَهِي عدوة وَادي شفشاون فِي حُدُود سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة على يَد الشريف الْفَقِيه الصَّالح الناصح الْمُجَاهِد أبي الْحسن بن أبي مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي جُمُعَة العلمي واسْمه الْحسن بن مُحَمَّد ابْن الْحسن بن عُثْمَان بن سعيد بن عبد الْوَهَّاب بن علال بن القطب أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش وَمَات شَهِيدا قبل إتْمَام مَا شرع فِيهِ بتدبير النَّصَارَى دمرهم الله مَعَ أهل النِّفَاق إِذْ ذَاك من أهل الخروب وَقد جَاءَهُم فِي سَبِيل الْجِهَاد وبينما هُوَ يتهجد من اللَّيْل فِي مَسْجِد هُنَالك إِذْ أضرموا عَلَيْهِ نَارا فَمَاتَ رضوَان الله عَلَيْهِ وَقَامَ مقَامه فِيمَا كَانَ بسبيله من الْجِهَاد والاستنفار لَهُ وتجييش الجيوش ابْن عَمه الْأَمِير الْجَلِيل الْفَاضِل الْأَصِيل أَبُو الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد بن عَليّ بن سعيد بن عبد الْوَهَّاب إِلَى آخر النّسَب الْمُتَقَدّم فشرع فِي اختطاط مَدِينَة شفشاون فِي العدوة الْأُخْرَى فَبنى قصبتها وشيدها وأوطنها بأَهْله وعشيرته وَزَل النَّاس بهَا فبنوا وَصَارَت فِي عداد المدن إِلَى أَن توفّي سنة سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة وورثها بنوه من بعده وَلم يزَالُوا فِيهَا بَين سلم وَحرب إِلَى أَن أخرجهم مِنْهَا الشرفاء السعديون عِنْد استيلائهم على بِلَاد الْمغرب وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ثورة عَمْرو بن سُلَيْمَان السياف بِبِلَاد السوس وَشَيْء من أخباره هَذَا الرجل هُوَ عَمْرو بن سُلَيْمَان الشيظمي المغيطي الْمَعْرُوف بالسياف وَيُقَال لَهُ المريدي بِضَم الْمِيم وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه كَانَ من تلامذة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ صَاحب دَلَائِل الْخيرَات نقل الثِّقَات أَنه كَانَ يتَرَدَّد إِلَى الشَّيْخ الْمَذْكُور أَيَّام حَيَاته ويأتيه بألواح فِيهَا كَلَام كثير مَنْسُوب إِلَى الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يَقُول لَهُ فِي ذَلِك شَيْئا غير انه أثنى عَلَيْهِ مَرَّات كَثِيرَة ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ الْمَذْكُور رَحمَه الله سنة سبعين وَثَمَانمِائَة ثار عَمْرو الْمَذْكُور مظْهرا الطّلب بثأر الشَّيْخ والانتقام من الَّذين سموهُ إِذْ كَانَ سمه بعض فُقَهَاء عصره فتتبعهم حَتَّى قَتلهمْ ثمَّ صَار يَدْعُو النَّاس إِلَى إِقَامَة الصَّلَاة ويقاتلهم عَلَيْهَا فانتصر عَلَيْهِم وشاع ذكره وَتمكن ناموسه ثمَّ تجَاوز ذَلِك إِلَى أَن صَار يَدْعُو النَّاس إِلَى نَفسه وَيقتل المنكرين عَلَيْهِ وعَلى شَيْخه وَأَصْحَابه وسمى أَصْحَابه المريدين بِضَم الْمِيم قَالَ زَرُّوق وَمَا أحقها بِالْفَتْح وسمى الْمُخَالفين لَهُ الجاحدين ثمَّ جعل يتفوه بالمغيبات وَيَزْعُم أَنه مَأْذُون وَرُبمَا ادّعى النُّبُوَّة وَكَانَ قد أخرج شلو الشَّيْخ الْجُزُولِيّ من قَبره وَجعله فِي تَابُوت وَصَارَ يقدمهُ بَين يَدَيْهِ فِي حروبه كتابوت بني إِسْرَائِيل فينتصر على من خَالفه وَقيل إِنَّه لم يدفنه وَإِنَّمَا أَخذه بعد مَوته فَكَفنهُ وَجعله فِي التابوت وَجمع الجموع وقاد الجيوش وَسَفك الدِّمَاء واستمرت فتْنَة فِي النَّاس عشْرين سنة قَالَ الشَّيْخ زَرُّوق رَحمَه الله بَلغنِي أَن شَيخنَا الْفَقِيه أَبَا عبد الله القوري ورد عَلَيْهِ سُؤال فِي شَأْن عَمْرو بن سُلَيْمَان السياف فبادرت إِلَيْهِ كي أرَاهُ فَقَالَ لي قد خرج من يَدي فَقلت لَهُ فَمَا مُقْتَضَاهُ قَالَ مُقْتَضَاهُ أَنه يَقُول إِن أَحْكَام الْكتاب وَالسّنة ارْتَفَعت وَلم يبْق إِلَّا مَا يَقُول لَهُ قلبه قَالَ زَرُّوق وشاع من أمره أَنه يَقُول إِنَّه وَارِث النُّبُوَّة وَأَن لَهُ أحكاما تخصه كَمَا فِي قصَّة الْخضر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَأَن الْخضر حَيّ وَنَبِي مُرْسل وَأَنه يلقاه وَيَأْخُذ عَنهُ بل يَدعِي ذَلِك من هُوَ دونه من تلامذته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وَحكى بَعضهم أَن عمرا الْمَذْكُور لما جعل شلو الشَّيْخ فِي التابوت كَانَ إِذا رَجَعَ بِهِ من حربه وَضعه فِي رَوْضَة عِنْده يسميها الرِّبَاط فَإِذا جنه اللَّيْل أطاف الحرس بالروضة يَحْرُسُونَ التابوت من السراق ويوقد عَلَيْهِ كل لَيْلَة فَتِيلَة عَظِيمَة فِي مِقْدَار الثَّوْب مغموسة فِي نَحْو مَدين من الزَّيْت ليقوى الضَّوْء وينتشر ويبلغ من كل الْجِهَات إِلَى مَسَافَة بعيدَة فتنكشف الطّرق عَمَّن يَأْتِي عَلَيْهَا كل ذَلِك مَخَافَة أَن يُؤْخَذ مِنْهُ شلو الشَّيْخ فينتصر بِهِ عَلَيْهِ وَيُقَال إِن ثورة عَمْرو الْمَذْكُورَة وفتنته كَانَت أثرا من آثَار دعوات الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَحمَه الله فقد ذكر تلامذته كالشيخ التباع وَغَيره أَن الشَّيْخ الْجُزُولِيّ خرج عَلَيْهِم من آخر اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِي صبيحتها فَقَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي النَّاس يَزْعمُونَ أَنَّك الفاطمي المنتظر فَقَالَ مَا يبحثون إِلَّا عَمَّن يقطع رقابهم الله يُسَلط عَلَيْهِم من يقطع رقابهم وَكرر ذَلِك مرَارًا فَكَانُوا يرَوْنَ أَن أثر دَعوته ظهر فِي عَمْرو السياف وَالله أعلم وَقتل عَمْرو الْمَذْكُور سنة تسعين وَثَمَانمِائَة وَاخْتلف فِيمَن قَتله فَقيل كَانَ عَمْرو قد تزوج زَوْجَة الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وبنته فَلَمَّا رأتا مَا هُوَ عَلَيْهِ من الزندقة وَالْفساد فِي الأَرْض قتلتاه امتعاضا للدّين ترصدتاه حَتَّى إِذا نَام عدتا عَلَيْهِ فقتلتاه ثمَّ رمت إِحْدَاهمَا وَهِي بنت الشَّيْخ بِنَفسِهَا من كوَّة هُنَالك فِي الْبَيْت الَّذِي كَانُوا بِهِ فوصلت إِلَى الأَرْض سَالِمَة ونجت وَبقيت الْأُخْرَى وَهِي الزَّوْجَة بِالْبَيْتِ فَدَخَلُوا عَلَيْهَا فَقَتَلُوهَا وَقيل إِنَّمَا قتلته زَوجته وربيبته وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم وَلما هلك عَمْرو السياف دفن النَّاس الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وَقيل هُوَ دَفنه بِموضع يعرف بتاصروت ثمَّ نقل بعد إِلَى مراكش على مَا نذْكر إنْشَاء الله وَلما ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الصومعي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى قصَّة نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ إِلَى مراكش وَأَنه وجد طريا لم يتَغَيَّر بعد وَفَاته بِنَحْوِ سبعين سنة قَالَ وأعجب من هَذَا أَن عمرا المغيطي السياف زَعَمُوا أَنه وجد كَذَلِك وَلَعَلَّه أَدْرَكته بركَة هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَالْفضل بيد الله اه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استدعى السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الإِمَام أَبَا عبد الله بن غَازِي من مكناسة إِلَى فاس فولي الخطابة أَولا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع من فاس الْجَدِيد ثمَّ ولي الْإِمَامَة والخطابة ثَانِيًا بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس وَصَارَ شيخ الْجَمَاعَة بهَا واستوطنها إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة تحرّك السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ إِلَى دبدو ثمَّ عَاد إِلَى حَضرته وفيهَا أَيْضا فِي يَوْم الْخَمِيس السَّابِع من ذِي الْقعدَة توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الحلو الوطاسي وَدفن بالقلة خَارج بَاب الحبيسة وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استولت الرينة إيسابيلا صَاحِبَة مادريد قَاعِدَة بِلَاد قشتالة على حَمْرَاء غرناطة ومحت دولة بني الْأَحْمَر من جَزِيرَة الأندلس وَلم يبْق للْمُسلمين بهَا سُلْطَان وتفرق أَهلهَا فِي بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا أيادي سبا وَقد تقدم الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى بِنَاء مَدِينَة تطاوين قَالَ منويل لما استولى الإصبنيول على غرناطة خرج جمَاعَة كَبِيرَة من أَهلهَا إِلَى الْمغرب فنزلوا فِي مرتيل قرب تطاوين وَلما نزلُوا بِهِ لم يقدموا شَيْئا على الْوِفَادَة على سُلْطَان فاس مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي فأجل مقدمهم ورحب بهم فَقَالُوا إِن ضيافتنا عنْدك أَن تعين لنا موضعا نَبْنِي فِيهِ بَلَدا يكننا ونحفظ فِيهِ عيالنا من أهل الرِّيف فأجابهم إِلَى مُرَادهم وَعين لَهُم مَدِينَة تطاوين الخربة مُنْذُ تسعين سنة وَولى عَلَيْهِم كَبِيرهمْ أَبَا الْحسن عليا المنظري وَكَانَ رجلا شجاعا من كبار جند ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ قد أبلى مَعَه فِي حَرْب غرناطة الْبلَاء الْحسن ثمَّ انْتقل إِلَى الْمغرب كَمَا قُلْنَا وَلما عقد لَهُ الشَّيْخ الوطاسي على أَصْحَابه رَجَعَ بهم إِلَى تطاوين وَشرع فِي بِنَاء أسوار الْبَلَد الْقَدِيم فجدده وَبنى الْمَسْجِد الْجَامِع بِهِ واستوطنه هُوَ وجماعته ثمَّ أَخذ فِي جِهَاد البرتغال بسبتة وبلاد الهبط إِلَى أَن أسر مِنْهُم ثَلَاثَة آلَاف فاستخدمهم فِي إتْمَام مَا بَقِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 عَلَيْهِ من بِنَاء تطاوين واتصلت الْحَرْب بَينهم وَبَين برتقال سبتة كاتصالها بَين أهل آزمور وبرتقال الجديدة اه وَقَوله إِن بِنَاء تطاوين كَانَ عقب أَخذ غرناطة مُخَالف لما يَقُول أهل تطاوين من أَن تَارِيخ بنائها رمز تفاحة وَأَن ذَلِك كَانَ بإعانة الشريف أبي الْحسن عَليّ بن رَاشد فَيظْهر وَالله أعلم أَن أَبَا الْحسن المنظري كَانَ قد قدم من الأندلس قبل أَخذ غرناطة بسنين يسيرَة مُوَافق الرَّمْز الْمَذْكُور وَالله أعلم قدوم أبي عبد الله بن الْأَحْمَر مخلوعا على السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي رحمهمَا الله لما استولى طاغية الإصبنيول على حَضْرَة غرناطة وَسَائِر الأندلس انْتقل سلطانها أَبُو عبد الله بن الْأَحْمَر إِلَى حَضْرَة فاس فاستوطنها تَحت كنف السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بعد أَن خاطبه من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الْعقيلِيّ بقصيدة بارعة يَقُول فِي صدرها (مولى الْمُلُوك مُلُوك الْعَرَب والعجم ... رعيا لما مثله يرْعَى من الذمم) (بك استجرنا وَنعم الْجَار أَنْت لمن ... جَار الزَّمَان عَلَيْهِ جور منتقم) (حَتَّى غَدا ملكه بالرغم مستلبا ... وأفظع الْخطب مَا يَأْتِي على الرغم) (حكم من الله حتم لَا مرد لَهُ ... وَهل مردا لحكم مِنْهُ منحتم) وَهِي طَوِيلَة ثمَّ وَصلهَا برسالة يَقُول فِيهَا بعد الْحَمد لله وَالصَّلَاة على نبيه مَا نَصه أما بعد فيا مَوْلَانَا الَّذِي أولانا من النعم مَا أولانا لَا حط الله لكم من الْعِزَّة أرواقا وَلَا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا وَلَا أوراقا وَلَا زَالَت مخضرة الْعود مبتسمة عَن زهرات البشائر متحفة بثمرات السُّعُود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق وَلَا رعود هَذَا مقَام العائذ بمقامكم الْمُتَعَلّق بِأَسْبَاب ذمامكم المرتجي لعواطف قُلُوبكُمْ وعوارف أنعامكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الْمقبل الأَرْض تَحت أقدامكم المتلجلج اللِّسَان عِنْد محاولة مفاتحة كلامكم وماذا الَّذِي يَقُول من وَجهه خجل وفؤاد وَجل وَقَضيته المقضية عَن التنصل والاعتذار تجل بيد أَنِّي أَقُول لكم مَا أَقُول لرَبي واجترائي عَلَيْهِ أَكثر واحترامي إِلَيْهِ أكبر اللَّهُمَّ لَا بَرِيء فَاعْتَذر وَلَا قوي فأنتصر لكني مستقيل مستعتب مُسْتَغْفِر وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء هَذَا على طَرِيق التنازل والاتصاف بِمَا تَقْتَضِيه الْحَال مِمَّن يتحيز إِلَى حيّز الْإِنْصَاف وَأما على جِهَة التَّحْقِيق فَأَقُول مَا قالته الْأُم ابْنة الصّديق وَالله إِنِّي لأعْلم أَنِّي إِن أَقرَرت بِمَا يَقُوله النَّاس وَالله يعلم أَنِّي مِنْهُ بريئة لَا قَول مَا لم يكن وَلَئِن أنْكرت مَا تَقولُونَ لَا تصدقوني فَأَقُول مَا قَالَه أَبُو يُوسُف فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون على أَنِّي لَا أنكر عيوبي فَأَنا مَعْدن الْعُيُوب وَلَا أجحد ذُنُوبِي فَأَنا جبل الذُّنُوب إِلَى الله أَشْكُو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي نعم كل شَيْء وَلَا مَا يَقُوله المتقول المشنع المهول النَّاطِق بِفَم الشَّيْطَان المسول وَمن أمثالهم سبني واصدق وَلَا تفتر وَلَا تخلق أفمثلي كَانَ يفعل أَمْثَالهَا وَيحْتَمل من الأوزار المضاعفة أحمالها وَيهْلك نَفسه ويحبط أَعمالهَا عياذا بِاللَّه من خسران الدّين وإيثار الجاحدين والمعتدين {قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} وَايْم الله لَو علمت شَعْرَة فِي فودي تميل إِلَى تِلْكَ الْجِهَة لقطعتها بل لقطفت مَا تَحت عمامتي من هامتي وقطفتها غير أَن الرعاع فِي كل أَوَان أَعدَاء للْملك وَعَلِيهِ أحزاب وَأَعْوَان كَانَ أَحمَق أَو أَجْهَل من أبي ثروان أَو أَعقل أَو أعلم من أشج بني مَرْوَان رب مُتَّهم بَرِيء ومسربل بسربال وَهُوَ مِنْهُ عري وَفِي الْأَحَادِيث صَحِيح وَسَقِيم وَمن التراكيب المنطقية منتج وعقيم وَلَكِن ثمَّ ميزَان عقل تعْتَبر بِهِ أوزان النَّقْل وعَلى الرَّاجِح الِاعْتِمَاد ثمَّ إساغة الأحماد الْمُتَّصِل المتماد وللمرجوح الإطراح ثمَّ الْتِزَام الصراح بعد النفض من الراح وَأكْثر مَا تسمعه الْكَذِب وطبع جُمْهُور الْخلق إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى إِلَيْهِ منجذب وَلَقَد قذفنا من الأباطيل بأحجار ورمينا بِمَا لَا يرْمى بِهِ الْكفَّار فضلا عَن الْفجار وَجرى من الْأَمر الْمَنْقُول على لِسَان زيد وَعَمْرو مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 لديكم مِنْهُ حفظ الْجَار وَإِذا عظم الإلكاء فعلى تكأة التجلد والاتكاء أَكثر المكثرون وَجهد فِي تعثيرنا المتعثرون ورمونا عَن قَوس وَاحِدَة ونظمونا فِي سلك الْمَلَاحِدَة أكفرا أَيْضا كفرا غفرا اللَّهُمَّ غفرا أعد نظرا يَا عبد قيس فَلَيْسَ الْأَمر على مَا خيل لَك لَيْسَ وَهل زِدْنَا على أَن طلبنا حَقنا مِمَّن رام محقه ومحقنا فطاردنا فِي سَبيله عداة كَانُوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا لَهُ رتق {وَمَا كُنَّا للغيب حافظين} وَبعد فاسأل أهل الْحل وَالْعقد والتمييز والنقد فَعِنْدَ جهينتهم تلقى الْخَبَر يَقِينا وَقد رَضِينَا بحكمهم يوثمنا فيوبقنا أَو يبرئنا فيقينا إيه يَا من اشرأب إِلَى ملامنا وقدح حَتَّى فِي إسْلَامنَا رويدا رويدا فقد وجدت قُوَّة وأيدا وَيحك إِنَّمَا طَال لسَانك علينا وامتد بالسوء إِلَيْنَا لِأَن الزَّمَان لنا مصغر وَلَك مكبر وَالْأَمر عَلَيْك مقبل وعنا مُدبر كَمَا قَالَه كَاتب الْحجَّاج المتبر وعَلى الْجُمْلَة فَهُنَا صرنا إِلَى تَسْلِيم مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالْخَطَأ فِي كل ورد وَصدر فَللَّه در الْقَائِل إِن كنت أَخْطَأت فَمَا أَخطَأ الْقدر وكأنا بمعتسف إِذا وصل إِلَى هُنَا وَعدم إنصافا يُعلمهُ الهنا قد أَزور متجانفا ثمَّ أفتر متهانفا وَجعل يتَمَثَّل بقَوْلهمْ إِذا عيروا قَالُوا مقادير قدرت وبقولهم الْمَرْء يعجزه الْمحَال فيعارض الْحق بِالْبَاطِلِ والحالي بالعاطل وَينْزع بقول الْقَائِل رب مسمع هائل وَلَيْسَ تَحْتَهُ طائل وَقد فَرغْنَا أول أمس من جَوَابه وَتَركنَا الضغن يلصق حرارة الجوى بِهِ وسنلم الْآن بِمَا يوسعه تبكيتا ويقطعه تسكيتا فَنَقُول لَهُ ناشدناك الله تَعَالَى هَل اتّفق لَك قطّ وَعرض خُرُوج أَمر مَا عَن الْقَصْد مِنْك فِيهِ وَالْغَرَض مَعَ اجتهادك أثناءه فِي إصدارك وإيرادك فِي وُقُوعه على وفْق اقتراحك ومرادك أَو جَمِيع مَا تزاوله بإدارتك لَا يَقع إِلَّا مطابقا لإرادتك أَو كل مَا تقصده وتنويه تحرزه كَمَا تشَاء وتحويه فَلَا بُد أَن يقر اضطرارا بِأَن مَطْلُوبه يشذ عَنهُ مرَارًا بل كثيرا مَا يفلت صَيْده من أشراكه ويطلبه فيعجز عَن إِدْرَاكه فَنَقُول ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل أَيهَا النبيه النَّبِيل ثمَّ نسرد لَهُ من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مَا شِئْنَا مِمَّا يسايرنا فِي غرضنا مِنْهُ ويماشينا كَقَوْلِه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل شَيْء بِقَضَاء وَقدر حَتَّى الْعَجز والكيس) وَقَوله أَيْضا (لَو اجْتمع أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يقضه الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يقضه الله عَلَيْك لم يقدروا عَلَيْهِ) أَو كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخلق بِهِ أَن يلوذ بِأَكْنَافِ الأحجام ويزم على نفث فِيهِ كَأَنَّمَا الجم بلجام حِينَئِذٍ نقُول لَهُ وَالْحق قد أبان وَجهه وجلاه وقهره بحجته وعلاه (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْئا) (قل إِن الْأَمر كُله لله) وَفِي مُحَاجَّة آدم ومُوسَى مَا يقطع لِسَان الْخصم ويرخص عَن أَثوَاب أعراضنا مَا عَسى أَن يعلق بهَا من دون الوصم وكيفما كَانَت الْحَال وَإِن سَاءَ الرَّأْي والانتحال ووقعنا فِي أوجال وأوحال فثل عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا ومللت مثوانا فَنحْن أمثل من سوانا وَمَا فِي الشَّرّ خِيَار وَيَد الألطاف تكسر من صولة الأغيار فحتى الْآن لم نفقد من اللَّطِيف تَعَالَى لطفا وَلَا عدمنا أدوات أدعية تعطف بِلَا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا وَإِلَّا فَتلك بَغْدَاد دَار السَّلَام ومتبوأ الْإِسْلَام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة الْخلَافَة العباسية ومقر الْعلمَاء والفضلاء أولي السّير الأويسية والعقول الأياسية قد نوزلت بالجيوش وَنزلت وزوزلت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار التتار عنْوَة بِالسَّيْفِ وَلَا تسل إِذْ ذَاك عَن كَيفَ أَيَّام تجلت عروس الْمنية كاشفة عَن سَاقهَا مبدية وَجَرت الدِّمَاء فِي الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وَقيد الْأَئِمَّة والقضاة تَحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم فِي رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الْخُيُول فتخضبها إِلَى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عَن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها ومستعصمها وَرَاح وَلم يغد ظالمها ومتظلمها وَخَربَتْ مساجدها وديارها وَاصْطلمَ بالحسام أشرارها وخيارها فَلم يبْق من جُمْهُور أَهلهَا عين تطرف حَسْبَمَا عرفت أَو حَسْبَمَا تعرف فلاتك متشككا متوقفا فَحَدِيث تِلْكَ الْوَاقِعَة الشنعاء أشهر عِنْد المؤرخين من قفا فَأَيْنَ تِلْكَ الجحافل والآراء المدارة فِي المحافل حِين أَرَادَ الله تَعَالَى بإدالة الْكفْر لم تَجِد وَلَا قلامة ظفر إِذن من سلمت لَهُ نَفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 الَّتِي هِيَ رَأس مَاله وَعِيَاله وأطفاله اللَّذَان هما من أعظم آماله وكل أوجل أَو قل رياشه وَأَسْبَاب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ثمَّ وجد مَعَ ذَلِك سَبِيلا إِلَى الْخَلَاص فِي حَال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص بعد مَا ظن كل الظَّن أَن لَا محيد وَلَا مناص فَمَا أحقه حِينَئِذٍ وأولاه أَن يحمد خالقه ورازقه ومولاه على مَا أسداه إِلَيْهِ من رفده وخيره ومعافاته مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ كثير من غَيره ويرضى بِكُل إِيرَاد وإصدار تتصرف فيهمَا الْأَحْكَام الإلهية والأقدار فالدهر غدار وَالدُّنْيَا دَار مشحونة بالأكدار وَالْقَضَاء لَا يرد وَلَا يصد وَلَا يغالب وَلَا يُطَالب والدائرات تَدور وَلَا بُد من نقص وَكَمَال للبدور وَالْعَبْد مُطِيع لَا مُطَاع وَلَيْسَ يطاع إِلَّا المستطاع وللخالق الْقَدِير جلت قدرته فِي خليقته علم غيب للأذهان عَن مداه انْقِطَاع وَمَالِي والتكلف لما لَا أحتاج إِلَيْهِ من هَذَا القَوْل بَين يَدي ذِي الْجَلالَة والمجادة وَالْفضل والطول فَلهُ من الْعقل الْأَرْجَح وَمن الْخلق الأسجح مَا لَا تلتاط مَعَه تهمتي بصفره وَلَا تنْفق عِنْده وشاية الواشي لَا عد من نفره وَلَا فَازَ قدحه بظفره وَالْمولى يعلم أَن الدُّنْيَا تلعب باللاعب وتجر براحتها إِلَى المتاعب وقديما للأكياس من النَّاس خدعت وانحرفت عَن وصالهم أَعقل مَا كَانُوا وَقطعت وَفعلت بهم مَا فعلت بيسار الكواعب الَّذِي جبت وجدعت وَلَئِن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت وَلَئِن قرعت ومعضت وَلَقَد أرشدت ووعظت وَيَا ويلنا من تنكرهَا لنا بِمرَّة ورميها لنا فِي غمرة أَي غمرة أَيَّام قلبت لنا ظهر الْمِجَن وغيم أفقها المصمي وأدجن فسرعان مَا عاينا حبالها منبته ورأينا مِنْهَا مَا لم نحتسب كَمَا تقوم السَّاعَة بغته فَمن استعاذ من شَيْء فليستعذ مِمَّا صرنا إِلَيْهِ من الْحور بعد الكور والانحطاط من النجد إِلَى الْغَوْر (فَبينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصف) (فتبا لدينا لَا يَدُوم نعيمها ... تقلب تارات بِنَا وَتصرف) وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا وَلم نفزع إِلَى غير بَابَكُمْ المنيع الجناب المنفتح حِين سدت الْأَبْوَاب وَلم نلبس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 غير لِبَاس نعمائكم وَحين خلعنا مَا ألبسنا الْملك من الأثواب وَإِلَى أمه يلجأ الطِّفْل لَجأ اللهفان وَعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان وَوجه الله تَعَالَى يبْقى وكل من عَلَيْهَا فان وَإِلَى هُنَا يَنْتَهِي الْقَائِل ثمَّ يَقُول حسبي هَذَا وكفان وَلَا ريب فِي اشْتِمَال الْعلم الْكَرِيم على مَا تعارفته الْمُلُوك بَينهَا فِي الحَدِيث وَالْقَدِيم من الْأَخْذ بِالْيَدِ عِنْد زلَّة الْقدَم وقرع الْإِنْسَان وعض البنان من النَّدَم دينا تدينته مَعَ اخْتِلَاف الْأَدْيَان وَعَادَة أطردت على تعاقب الْأَزْمَان والأحيان وَلَقَد عرض علينا صَاحب قشتالة مَوَاضِع مُعْتَبرَة خير فِيهَا وَأعْطى من أَمَانَة الْمُؤَكّد فِيهِ خطه بأيمانه مَا يقنع النُّفُوس ويكفيها فَلم نر وَنحن من سلالة الْأَحْمَر مجاورة الصفر وَلَا سوغ لنا الْإِيمَان الْإِقَامَة بَين ظهراني الْكفْر مَا وجدنَا عَن ذَلِك مندوحة وَلَو شاسعة وَأمنا المطالب المشاغب حمة شَرّ لنا لَا سَعَة وادكرنا أَي ادكار قَول الله تَعَالَى الْمُنكر لذَلِك غَايَة الْإِنْكَار {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبالغ فِي ذَلِك بأبلغ الْكَلَام (أَنا بَرِيء من مُؤمن مَعَ كَافِر تتراءى ناراهما) وَقَول الشَّاعِر الحاث على حث المطية المتثاقلة عَن السّير فِي طَرِيق منجاتها البطية (وَمَا أَنا والتلذذ نَحْو نجد ... وَقد غصت تهَامَة بِالرِّجَالِ) ووصلت أَيْضا من الشرق إِلَيْنَا كتب كَرِيمَة الْمَقَاصِد لدينا تستدعي الانحياز إِلَى تِلْكَ الجنبات وتتضمن مَالا مزِيد عَلَيْهِ من الرغبات فَلم نختر إِلَّا دَارنَا الَّتِي كَانَت دَار آبَائِنَا من قبلنَا وَلم نرتض الانضواء إِلَّا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا إدلالا على مَحل إخاء متوارث لَا عَن كَلَالَة وامتثالا لوصاة أجداد لَا نظارهم وأقدارهم أَصَالَة وجلالة إِذْ قد روينَا عَن سلف من أسلافنا فِي الْإِيصَاء لمن يخلف بعدهمْ من أخلافنا أَن لَا يَبْتَغُوا إِذا دهمهم أَمر بالحضرة المرينية بَدَلا وَلَا يَجدوا عَن طريقها فِي التَّوَجُّه إِلَى فريقها معدلا فاخترقنا إِلَى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إِلَى الْبَحْر الْفُرَات ظهر الْبَحْر الأجاج فَلَا غرو أَن نرد مِنْهُ على مَا يقر الْعين ويشفي النَّفس الشاكية من ألم الْبَين وَمن توصل هَذَا التَّوَصُّل وتوسل بِمثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 ذَلِك التوسل تطارحا على سدة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُحَارب للمحاربين وَالْمُؤمن للمستأمنين فَهُوَ الخليق الْحقيق بِأَن يسوغ أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الْأَيَّام والشهور والسنين ويخلص من الثبور إِلَى الحبور وَيخرج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور خُرُوج الْجَنِين وَلَعَلَّ شُعَاع سعادته يفِيض علينا ونفحة قبُول إقباله تسري إِلَيْنَا فتخامرنا أريحية تحملنا على أَن نبادر لإنشاد قَول الشريف الرضي فِي الْخَلِيفَة الْقَادِر (عطفا أَمِير الْمُؤمنِينَ فإننا ... فِي دوحة العلياء لَا نتفرق) (مَا بَيْننَا يَوْم الفخار تفَاوت ... أبدا كِلَانَا فِي الْمَعَالِي معرق) (إِلَّا الْخلَافَة ميزتك فإنني ... أَنا عاطل مِنْهَا وَأَنت مطوق) لَا بل الأحرى بِنَا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى أَن نعدل عَن هَذَا الْمِنْهَاج وَيقوم وافدنا بَين يَدي علاهُ مقَام الخاضع المتواضع الضَّعِيف الْمُحْتَاج وينشد مَا قَالَ فِي الشِّيرَازِيّ ابْن حجاج (النَّاس يفدونك اضطرارا ... مِنْهُم وأفديك باختياري) (وَبَعْضهمْ فِي جوَار بعض ... وَأَنت حَتَّى أَمُوت جاري) (فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وَأهل دَاري) ونستوهب من الْوَهَّاب تَعَالَى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رَحْمَة تجْعَل فِي يَد الْهِدَايَة أعنتنا وعصمة تكون فِي مَوَاقِف المخاوف جنتنا وقبولا يعْطف علينا نوافر الْقُلُوب وصنعا يسني لنا كل مَرْغُوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السَّائِل سؤلا ومأمولا متابا صَادِقا على مَوْضُوع النَّدَم مَحْمُولا ثمَّ عزاء حسنا وصبرا جميلا عَن أَرض أورثها من شَاءَ من عباده معقبا لَهُم ومديلا وسادلا عَلَيْهِم من ستور الْإِمْلَاء الطَّوِيلَة سدولا {سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} فليطر طَائِر الوسواس المرفرف مطيرا {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا} لم نستطع عَن مورده صدورا {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} إِلَّا وَإِن لله سُبْحَانَهُ فِي مقامكم العالي الَّذِي أيده وأعانه سرا من النَّصْر يترجم عَنهُ لِسَان من النصل وَترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قَاعِدَته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 المتأصلة إِلَى أصل فبمثله يجب اللياد وَالْعِيَاذ ولشبهه يحِق الالتجاء والارتجاء ولأمر مَا آثرناه واخترناه بعد أَن استرشدنا الله سُبْحَانَهُ واستخرناه وَمِنْه جلّ جَلَاله نرغب أَن يُخَيّر لنا وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين ويأوب بِنَا من حمايته ووقايته إِلَى معقل منيع وجناب رفيع آمين آمين آمين وَنَرْجُو أَن يكون رَبنَا الَّذِي هُوَ فِي جَمِيع الْأُمُور حَسبنَا قد خار لنا حَيْثُ أرشدنا وهدانا وساقنا توفيقه وحدانا إِلَى الاستجارة بِملك حفي كريم وَفِي أعز جارا من أبي دَاوُد وأحمى أنفًا من الْحَارِث بن عباد وَيشْهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إِن أغاث ملهوفا فَمَا الْأسود بن قنان يذكر وَإِن أنعش حشاشة هَالك فَمَا كَعْب بن مامة على فعله وَحده يشْكر جليسه كجليس الْقَعْقَاع بن شور ومذاكره كمذاكر سُفْيَان المنتسب من الربَاب إِلَى ثَوْر إِلَى التحلي بأمهات الْفَضَائِل الَّتِي أضدادها أُمَّهَات الرذائل وَهِي الثَّلَاث الْحِكْمَة وَالْعدْل والعفة الَّتِي تشملها الثَّلَاثَة الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَالشَّمَائِل وينشأ عَنْهَا مَا شِئْت من عزم وحزم وَعلم وحلم وتيقظ وَتحفظ واتقاء وارتقاء وُصُول وَطول وسماح نائل فبنور حلاه الْمشرق يفتخر الْمغرب على الْمشرق وبمجده السَّامِي خطره فِي الأخطار وبيته الَّذِي ذكره فِي النباهة والنجابة قد طَار يباهي جَمِيع مُلُوك الْجِهَات والأقطار وَكَيف لَا وَهُوَ الرفيع المنتمي والنجار الراضع من الطَّهَارَة صفو البان النَّاشِئ من السراوة وسط أَحْجَار فِي ضئضئ الْمجد وبحبوح الْكَرم وسرواة أسرة المملكة الَّتِي أكنافها حرم وذؤابة الشّرف الَّتِي مجادتها لم ترم من معشر أَي معشر بخلوا أَن وهبوا مَا دون أعمارهم وجبنوا إِن لم يحموا سوى دمارهم بَنو مرين وَمَا أَدْرَاك مَا بَنو مرين سم العداة وَآفَة الجزر النازلون بِكُل معترك والطيبون معاقد الأزر لَهُم عَن الهفوات انْتِفَاء وَعِنْدهم من السّير النَّبَوِيَّة اكْتِفَاء انتسبوا إِلَى بر بن قيس فَخَرجُوا فِي الْبر عَن الْقَيْس مَا لَهُم الْقَدِيم الْمَعْرُوف قد نفد فِي سَبِيل الْمَعْرُوف وحديثهم الَّذِي نقلته رجال الزحوف من طَرِيق القنا وَالسُّيُوف على الْحسن من الْمَقَاصِد مَوْقُوف تحمد من صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ ذابلهم ولدنهم فَللَّه آبَاء أنجبوهم وَأُمَّهَات ولدنهم شم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 الأنوف من الطّراز الأول إِلَيْهِم فِي الشدائد والاستناد وَعَلَيْهِم فِي الأزمات الْمعول وَلَهُم فِي الْوَفَاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية وَالرِّعَايَة الخطو الْوَاسِع والباع الأطول كَأَنَّمَا عناهم بقوله جَرْوَل (أُولَئِكَ قوم إِن بَنو أَحْسنُوا الْبَنَّا ... وَإِن عَاهَدُوا وفوا وَإِن عقدوا شدوا) (وَإِن كَانَت النعماء فيهم جزوا بهَا ... وَإِن أنعموا لَا كدروها وَلَا كدوا) (وتعذلني أَبنَاء سعد عَلَيْهِم ... وَمَا قلت إِلَّا بِالَّذِي علمت سعد) وَبقول الوثيق مبناه البليغ مَعْنَاهُ (قوم إِذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فَوْقه الكربا) يزيحون عَن النزيل كل نازح قاصم وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُم عائب وَلَا واصم فَهُوَ أَحَق بِمَا قَالَه فِي منقر قيس بن عَاصِم (لَا يَفْطنُون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن) حلاهم هَذِه الغريزة الَّتِي لَيست باستكراه وَلَا جعل وأمير الْمُؤمنِينَ دَامَ نَصره قسيمهم فِيهَا حَذْو النَّعْل بالنعل ثمَّ هُوَ عَلَيْهِم وعَلى من سواهُم بالأوصاف الملوكية مستعل ارْفض مزنهم مِنْهُ عَن غيث ملث يمحو آثَار اللزبة وَانْشَقَّ عيلهم مِنْهُ عَن لَيْث ضار منقبض على براثنه للوثبة فَقل لسكان الفلا لَا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فَلَا يُبَالِي السرحان الْمَوَاشِي سَوَاء مشي إِلَيْهَا النقرا أَو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم مِنْهُم كل عرنين ثمَّ يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فَهُوَ هُوَ كَمَا عرفوه وعهدوه وألفوه وأخو المنايا وَابْن جلا وطلاع الثنايا مُجْتَمع أشده قد احتنكت سنه وَبَان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عَن ساعد الْجد (لَا يشرب المَاء إِلَّا من قليب دم ... وَلَا يبيت لَهُ جَار على وَجل) (أسدى الْقلب آدَمِيّ الروا لابس ... جلد النمر يَزْنِي العناد والنوى) (وَلَيْسَ بشاري عَلَيْهِ دمامة ... إِذا مَا سعى يسْعَى بقوس وأسهم) (وَلكنه يسْعَى عَلَيْهِ مفاضة ... دلاص كأعيان الْجَرَاد المنظم) فالنجاء النَّجَاء سَامِعين لَهُ طائعين والوجل الوجل لاحقين بِهِ خاضعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 قبل أَن تساقوا إِلَيْهِ مُقرنين فِي الأصفاد ويعيي الْفِدَاء بنفائس النُّفُوس وَالْأَمْوَال على الفاد حِينَئِذٍ يعَض ذُو الْجَهْل والفدامة على يَدَيْهِ حسرة وندامة إِذا رأى أبطال الْجنُود تَحت خوافق الرَّايَات والبنود قد لفحتهم نَار لَيست بِذَات خمود وأخذتهم صَاعِقَة مثل صَاعِقَة الَّذين من قبلهم عَاد وَثَمُود زعقات تؤز الْكَتَائِب أزا وهمزا محققا للخيل بعد الْمَدّ المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حَتَّى يَقُول النسْر للذئب هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا ثق خَليفَة الله بِذَاكَ فِي كل من رام أَذَى رعيتك أَو أذاك فَتلك عَادَة الله سُبْحَانَهُ فِي ذَوي الشقاق والنفاق الَّذين يشقون عَصا الْمُسلمين ويقطعون طَرِيق الرفاق وينصبون حبائل الْبَغي وَالْفساد فِي جَمِيع النواحي والآفاق فَلَنْ يجعلهم الله عز وَجل من الْآمنينَ أَنى وَكَيف وَقد أفسدوا وخانوا وَهُوَ سُبْحَانَهُ {لَا يصلح عمل المفسدين} و {لَا يهدي كيد الخائنين} وَهَا نَحن قد وجهنا إِلَى كعبة مجدكم وُجُوه صلوَات التَّقْدِيس والتعظيم بعد مَا زينا معاظفها باستعطافكم بدر ثَنَاء أبهى من در العقد النظيم منتظمين فِي سلك أوليائكم متشرفين بِخِدْمَة عليائكم وَلَا فقد عزة وَلَا عدمهَا من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وَأَن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عَاشَ بَقِيَّة عمره محروسا من الضيم مصونا وَقد قيل فِي بعض الْكَلَام من قعدت بِهِ نكاية الْأَيَّام أقامته إغاثة الْكِرَام ومولانا أيده الله تَعَالَى ولي مَا يزفه إِلَيْنَا من مكرمَة بكر ويصنعه لنا من صَنِيع حافل يخلد فِي صَحَائِف حسن الذّكر ويروي مُعَنْعَن حَدِيث حَمده وشكره طرس عَن قلم عَن بنان عَن لِسَان عَن فكر وَغَيره من ينَام عَن ذَلِك فيوقظ ويسترسل مَعَ الْغَفْلَة حَتَّى يذكر ويوعظ وَمَا عهد مُنْذُ وجد إِلَّا سَرِيعا إِلَى دَاعِي الندى والتكرم بَرِيئًا من الضجر بالمطالبة والتبرم حَافِظًا للْجَار الَّذِي أوصى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحفظه مستفرغا وَسعه فِي رعيه المستمر ولحظه آخِذا من حسن الثَّنَاء فِي جَمِيع الْأَوْقَات والآناء بحظه (فَهُوَ من دوحة السنا فرع عز ... لَيْسَ يحْتَاج مجتنيه لهز) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 (كَفه فِي الأمحال أغزر ويل ... وذراه فِي الْجوف أمنع حرز) (حلمه يسفر اسْمه لَك عَنهُ ... فتفهم يَا مدعي الْفَهم لغزي) (لَا تسله شَيْئا وَلَا تستلنه ... نظرة مِنْهُ فِيك تغني وتجزي) (فنداه هُوَ الْفُرَات الَّذِي قد ... عَام فِيهِ الْأَنَام عوم الأوز) (وحماه هُوَ المنيع الَّذِي ترجع ... عَنهُ الخطوب مرجع عجز) (فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فَهُوَ أدرى بِمَا تضمن رمزي) (دَامَ يحيى بِكُل صنع وَمن ... وَيُعَافى من كل بوس ورجز) وكأنا بِهِ قد عمل على شاكلة جَلَاله من مد ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بتهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبُوله وإقباله وإيرادنا على حَوْض كوثره المترع بزلاله وَالله سُبْحَانَهُ يسْعد مقَامه الْعلي ويسعدنا بِهِ فِي حلّه وارتحاله ومآله وحاله وَيُؤَيّد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المسؤول أَن يرِيه قُرَّة الْعين فِي نَفسه وَأَهله وخدامه وأمواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه وأحواله وأحق مَا نصل بِالسَّلَامِ وَأولى على الْمقَام الْجَلِيل مقَام الْخَلِيفَة الْمولى وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة وَسلَامًا دائمين أبدا موصولين بدوام الْأَبَد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صَلَاح فَسَاد أَعماله وبلوغ غَايَة آماله وَذَلِكَ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وإذنه وفضله وأفضاله انْتَهَت الرسَالَة وَمَا كَادَت وَوصل السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر المخلوع بعد نُزُوله بمليلية إِلَى مَدِينَة فاس بأَهْله وَأَوْلَاده معتذرا عَمَّا أسلفه متلهفا على مَا خَلفه وَبنى بفاس بعض قُصُور على طَرِيق بُنيان الأندلس وَتُوفِّي بهَا سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة وَدفن بِإِزَاءِ الْمصلى خَارج بَاب الشَّرِيعَة وَخلف ذُرِّيَّة من بعده قَالَ فِي نشر المثاني انقرضوا وَلم يبْق مِنْهُم أحد وَزعم منويل أَنه هلك فِي وقْعَة أبي عقبَة فِي حَرْب الوطاسيين مَعَ السعديين قَالَ وَلم يحسن هَذَا الرجل أَن يدْفع عَن ملكه فَدفع عَن ملك غَيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 اسْتِيلَاء البرتغال على سَاحل البريجه وبناؤهم مَدِينَة الجديدة صانها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمنه قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ قد وقفت لبَعض البرتغاليين واسْمه لويز مَارِيَة على تأليف فِي أَخْبَار الجديدة من لدن بنوها إِلَى أَن انتزعها الْمُسلمُونَ مِنْهُم فاقتطفت مِنْهُ مَا أثْبته فِي هَذِه التَّرْجَمَة قَالَ هَذَا الْمُؤلف لما كَانَت سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين مسيحية قلت ويوافقها من تَارِيخ الْهِجْرَة سنة سبع وَتِسْعمِائَة تَقْرِيبًا بعث سُلْطَان البرتغال واسْمه منويل من دَار ملكه أشبونة عمَارَة فِي الْبَحْر للاستيلاء على بعض ثغور الْمغرب فألجأهم هيجان الْبَحْر وموجه إِلَى سَاحل البريجة فِيمَا بَين آزمور وتيط وَكَانَت البريجة على مَا يفهم من كَلَامه بِنَاء متخذا هُنَالك للحراسة وَنَحْوهَا كَانَ يُسمى برج الشَّيْخ وَلَا زَالَ مُسَمّى بِهَذَا الِاسْم إِلَى الْآن فأرسى البرتغاليون على السَّاحِل الْمَذْكُور وَنزلت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى الْبر فتطوفوا بالبريجة وَمَا حولهَا وأعجبهم الْمَكَان فعزموا على الْمقَام بِهِ وَاتفقَ رَأْيهمْ أَن يتْركُوا جمَاعَة هُنَالك يحفظون الْمحل وَيرجع باقيهم إِلَى ملكهم يستأذنوه فِيمَا عزموا عَلَيْهِ فتركوا اثْنَي عشر رجلا بالبريجة بعد أَن حصنوها وشحنوها بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من عدَّة وقوت وَنَحْوهمَا وَرجع الْبَاقُونَ إِلَى الْملك فأخبروه بشأنهم فَأذن لَهُم وَبعث مَعَهم جمَاعَة من البنائين والعملة ليبنوا لَهُم مَا يتحصنون بِهِ فقدموا على إخْوَانهمْ وشرعوا فِي إدارة السُّور على قِطْعَة من الأَرْض فَنَذر بهم أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْمُسلمين وتسابقوا إِلَيْهِم على الصعب والذلول ففر النَّصَارَى إِلَى البريجة وتحصنوا بهَا وأفسد الْمُسلمُونَ كل مَا كَانُوا عملوه فِي تِلْكَ الْأَيَّام وأحجروهم بحصنهم وَوَضَعُوا عَلَيْهِم الرصد إِلَى أَن فتر عزمهم وَأَيِسُوا من نجاح سَعْيهمْ فَعَاد جلهم أَو كلهم إِلَى أشبونة وأعادوا الْكَلَام على ملكهم منويل فِي شَأْن البريجة ووصفوا لَهُ حسن الْبقْعَة وَصِحَّة هوائها ومنزلتها من الْبَحْر وَمن قبائل أهل الْمغرب من أهل تامسنا ودكالة وَغَيرهم وَأَنَّهَا عَسى أَن تكون سلما للاستيلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 على غَيرهَا من بِلَاد الْمغرب لَا سِيمَا ودولة الْمُسلمين بِهِ يَوْمئِذٍ قد تلاشت وملكهم قد ضعف فوقر ذَلِك فِي نفس الْملك واستأنف الْعَزْم وَبعث مَعَهم حِصَّة من الْعَسْكَر تحصل بهَا الْكِفَايَة وتتأتى بهَا المدافعة والممانعة مَعَ جمَاعَة وافرة من البنائين والمهندسين وَحَملهمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من آلَة وَغَيرهَا فَانْتَهوا إِلَى الْموضع الْمَذْكُور بعد سبع سِنِين من مقدمهم الأول وتحينوا غَفلَة أهل الْبِلَاد وشرعوا فِي بِنَاء حصن مربع على كل ربع مِنْهُ برج وثيق ودأبوا فِي الْعَمَل لَيْلًا وَنَهَارًا فَلم تمض مُدَّة يسيرَة حَتَّى فرغوا مِنْهُ وامتنعوا على الْمُسلمين بِهِ وَكَانَ إنشاؤهم لهَذَا الْحصن على البريجة الْقَدِيمَة بِأَن جعلوها أحد أَرْبَاعه وأضافوا إِلَيْهَا ثَلَاثَة أَربَاع أخر وأداروا السُّور على الْجَمِيع وَاتَّخذُوا فِي دَاخل هَذَا الْحصن ماجلا عَظِيما لخزن المَاء وَهُوَ النطفية فِي لِسَان الجيل بنوه مربعًا بتربيع الْحصن مساحة كل ربع مِنْهُ مائَة وَثَلَاثُونَ شبْرًا وجوانبه وقبوه من حجر النّصْف العجيب النحت الْمُحكم الْوَضع والالتئام مَحْمُولا ذَلِك القبو على سِتَّة أقواس فِي كل ربع قَالَ هَذَا الْمُؤلف وامتلاء نَحْو بلكاظة من هَذَا الماجن يسع عشْرين بوطة من المَاء ثمَّ شيدوا على أحد أَربَاع هَذَا الْحصن طريا عَظِيما مرتفعا جدا لَيْسَ صَادِق التربيع وَلَا الاستدارة غير مهندس الشكل ثمَّ بنوا فِي أَعْلَاهُ على أحد جوانبه بِنَاء آخر لطيفا مستديرا صاعدا فِي الجويرقي إِلَيْهِ على مدارج لَطِيفَة وَجعلُوا فِي أَعْلَاهُ صاريا خَارِجا من جَوْفه وناقوسا للحراسة يشرف الحارس مِنْهُ على نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ميلًا من سَائِر جهاته وَجَمِيع هَذِه البناءات الَّتِي ذكرهَا الْمُؤلف من الْحصن وَمَا مَعَه لَا زَالَت قَائِمَة الْعين والأثر إِلَى الْآن إِلَّا الطري فَإِنَّهُ قد اتخذ فِي هَذِه الْأَيَّام الَّتِي هِيَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف منارا لِلْمَسْجِدِ الْجَامِع وَذَلِكَ أَن عَامل الجديدة فِي هَذَا الْعَصْر وَهُوَ الرئيس الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري حفظه الله اسْتَأْذن الْخَلِيفَة وَهُوَ السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى الشريف أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الْعلوِي نَصره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الله فِي جعله منارا لكَون الْمنَار الْقَدِيم قَصِيرا لَا يسمع النَّاس الْأَذَان فَأذن أعزه الله فِي ذَلِك وَهَذَا الْعَامِل الْيَوْم جاد فِي إِصْلَاحه وَالزِّيَادَة فِيهِ وَقد أشرف على التَّمام وَكَذَلِكَ اسْتَأْذن هَذَا الْعَامِل حَضْرَة السُّلْطَان الْمَذْكُور فِي إدارة جِدَار من دَاخل سور الْمَدِينَة يكون ستْرَة على منَازِل أَهلهَا وَبُيُوتهمْ لِأَن السُّور الْمَذْكُور كَانَ مرتفعا على الْبَلَد بِحَيْثُ يكون الصاعد عَلَيْهِ متكشفا على الْبيُوت واستأذنه فِي إصْلَاح الْقبَّة المشرفة على الْبَحْر الْمَعْرُوفَة بقبة الخياطين وَكَانَت قد تلاشت وباتخاذ سجن متسع مُحكم عَن يَمِين الدَّاخِل من بَاب الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة لِأَنَّهُ لم يكن بهَا سجن مُعْتَبر فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَة الْمَذْكُور إِلَى ذَلِك كُله أدام الله علاهُ وَقد تمّ جلّ ذَلِك وعادت الْقبَّة إِلَى أحسن حالاتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا أَيَّام البرتغال وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا ولنرجع إِلَى موضوعنا الَّذِي كُنَّا فِيهِ فَنَقُول ثمَّ شرع نَصَارَى البرتغال بعد الْفَرَاغ من الْحصن الْمَذْكُور فِي إدارة سور الْمَدِينَة على أوثق وَجه وأحكمه وَذَلِكَ أَنهم عَمدُوا إِلَى بقْعَة مربعة من الأَرْض مساحة كل ربع مِنْهَا ثَلَاثمِائَة وَخمْس وَسَبْعُونَ خطْوَة وَجعلُوا مركزها الْحصن الْمَذْكُور ثمَّ أداروا بهَا سورين عاديين ثخن الْخَارِج مِنْهُمَا نَحْو خَمْسَة عشر شبْرًا والداخل على نَحْو الثُّلثَيْنِ مِنْهُ وَبَينهمَا فضاء مردوم بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَة الصَّغِيرَة فَصَارَ السوران بذلك سورا وَاحِد سعته خَمْسُونَ شبْرًا وَهَذَا فِي غير الرّبع الموَالِي للبحر أما هُوَ فَلَيْسَ فِيهِ ردم وَإِنَّمَا هُوَ سور وَاحِد مصمت أضيق مِمَّا عداهُ يَسِيرا وارتفاع هَذِه الأسوار من دَاخل الْبَلَد نَحْو سِتِّينَ شبْرًا وَمن خَارجه نَحْو السّبْعين ثمَّ أداروا خَارج السُّور خَنْدَقًا فسيحا وَجعلُوا عمقه أَرْبَعَة عشر شبْرًا بِحَيْثُ بلغُوا بِهِ المَاء وَإِذا فاض الْبَحْر مَلأ مَا بَين جوانبه وَاتَّخذُوا للمدينة ثَلَاثَة أَبْوَاب أَحدهَا للبحر وَهُوَ بَاب المرسى وَقد سد بِالْبِنَاءِ فِي هَذِه السنين وَاثْنَانِ للبر وَجعلُوا أمامهما قنطرتين بِالْعَمَلِ الهندسي بِحَيْثُ ترفعان وتوضعان وَقت الْحَاجة إِلَى ذَلِك فَصَارَت الْمَدِينَة بِهَذَا كُله فِي غَايَة المناعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَكَانَ بَنو وطاس فِي هَذِه الْمدَّة أشغل من ذَات النحيين مَعَ برتقال سبتة وطنجة وَسَائِر بِلَاد الهبط فَلِذَا تَأتي لهَؤُلَاء النَّصَارَى أَن يَفْعَلُوا مَا فَعَلُوهُ فِي هَذِه الْمدَّة الْيَسِيرَة وَجعلُوا دَاخل الْمَدِينَة خمس حارات وَسموا كل حارة باسم كَبِير من قدمائهم على عَادَتهم فِي ذَلِك وَاتَّخذُوا بهَا أَربع كنائس وَاتَّخذُوا المخازن والأهراء للاختزان وَسَائِر الْمرَافِق وَمن جُمْلَتهَا هرى كَانَ يسع سِتّمائَة فنيكة من الْحبّ وأوطنوها بأهلهم وعيالهم وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من أَشْرَافهم وَذَوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وَغَيرهَا وَكَانُوا يعدون فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف نفس مَا بَين الْمُقَاتلَة والعيال والذرية وَكَانُوا يأملون الِاسْتِيلَاء مِنْهَا على مراكش فخيب الله رجاءهم ثمَّ ذكر هَذَا الْمُؤلف مَا كَانَ يَقع بَين الْمُسلمين ونصارى الجديدة من الحروب والغارات مِمَّا لَعَلَّنَا نشِير إِلَى بعضه فِي مَحَله إِن شَاءَ الله اسْتِيلَاء البرتغال على سواحل السوس وبناؤهم حصن فونتي قرب أكادير وَمَا قيل فِي ذَلِك ذكر بعض المؤرخين من الفرنج أَن اسْتِيلَاء البرتغال على آكادير كَانَ فِي مُدَّة ملكهم منويل الْمَذْكُور آنِفا وَإِن ذَلِك كَانَ على حِين غَفلَة من أهل تِلْكَ الْبِلَاد قَالَ منويل لما علم طاغية البرتغال منويل أَن مرسى آكادير جَيِّدَة لمناعتها وَكَثْرَة تجارتها بِسَبَب مجاورتها لقبائل السوس أَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَكَانَ يظنّ أَن ذَلِك لَا يَتَأَتَّى لَهُ لحصانتها وَكَثْرَة الْقَبَائِل المجاورين لَهَا ثمَّ خاطر وَبعث إِلَيْهَا جَيْشًا فاستولوا عَلَيْهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا وَحَصَّنُوهَا وبنوا بهَا دورا وبرجا جيدا وَأخذُوا فِي التِّجَارَة بهَا مَعَ أهل السوس وَكَثُرت أرباحهم ثمَّ لما ضعفت شوكتهم خَرجُوا عَنْهَا وَعَن آسفي وآزمور قلت مُرَاده بآكادير حصن فونتي الْقَرِيب مِنْهُ وَإِلَّا فآكادير إِنَّمَا بني بعد هَذَا التَّارِيخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 بِكَثِير كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ مُقْتَضى مَا ذكره أَن يكون زمَان استيلائهم عَلَيْهِ مُوَافقا أَو قَرِيبا لزمان استيلائهم على البريجة وَمُقْتَضى مَا نَقله فِي النزهة عَن ابْن القَاضِي أَن يكون استيلاؤهم عَلَيْهِ فِي حُدُود سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة فَإِنَّهُ لما وصف حَال السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله قَالَ وَكَانَ لَهُ بخت عَظِيم فِي الْجِهَاد فتح حصن النَّصَارَى بسوس بعد أَن أَقَامُوا بِهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة اه وَكَانَ فَتحه إِيَّاه فِي حُدُود سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَالظَّاهِر أَنهم استولوا على بعض حصون السوس فِي التَّارِيخ الأول وعَلى بَعْضهَا فِي الثَّانِي وَالله أعلم وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي رَحمَه الله ذكر ابْن القَاضِي فِي الجذوة أَن وَفَاة السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَت سنة عشر وَتِسْعمِائَة قَالَ وَمن حَملَة وزرائه أَخُوهُ النَّاصِر بن أبي زَكَرِيَّاء وَالله أعلم وَولي الْأَمر من بعده ابْنه مُحَمَّد البرتغالي على مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي رَحمَه الله لما توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بُويِعَ ابْنه مُحَمَّد البرتغالي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ نَصَارَى سبتة وطنجة وآصيلا قد استحوذوا على بِلَاد الهبط وضايقوا الْمُسلمين بهَا حَتَّى ألجأوهم إِلَى قصر كتامة فَكَانَ هُوَ الثغر يَوْمئِذٍ بَين بِلَاد الْمُسلمين وبلاد النَّصَارَى كَمَا مر وَكَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد هَذَا قد عني بجهادهم وترديد الْغَزْو إِلَيْهِم والإجلاب عَلَيْهِم حَتَّى شغل بذلك عَن الْبِلَاد المراكشية وسواحلها فَكَانَ ذَلِك سَببا لظُهُور الدولة السعدية بهَا سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر آسفي حرسه الله قَالَ منويل كَانَ البرتغال قد تشوفوا للاستيلاء على آسفي وَكَانَ أَهلهَا فيهم شجاعة أَكثر من غَيرهم من أهل الثغور فزحفوا إِلَيْهَا وَجرى بَينهم وَبَين أَهلهَا قتال شَدِيد هلك فِيهِ عدد كَبِير من البرتغال وَعظم عَلَيْهِم أَن تمْتَنع مِنْهُم بَلْدَة صَغِيرَة لَيْسَ لَهَا حامية سوى أَهلهَا ثمَّ طاولوها بالحصار حَتَّى قل الْقُوت عِنْد أهل آسفي وأشرفوا على الْهَلَاك فَحِينَئِذٍ شارطوا البرتغال وأسلموها إِلَيْهِم على الْأمان فاستولوا عَلَيْهَا وَحَصَّنُوهَا غَايَة لتوقعهم كرة الْمُسلمين عَلَيْهِم فَكَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُم زحفوا إِلَيْهِم بعد ثَلَاث سِنِين من أَخذهَا وَوَقع بَينهم وَبَين البرتغال حَرْب شَدِيدَة كَانَت صُفُوف الْمُسلمين تترادف فِيهَا كأمواج الْبَحْر وَقتل قواد عَسْكَر البرتغال وكبارهم ثمَّ قدمت عَلَيْهِم شكوادره من مادرة بالعسكر والزاد فَقَوِيت نفوس البرتغال وارتحل الْمُسلمُونَ عَنْهَا بعد أَن أشرفوا على الْفَتْح وتبعهم البرتغال لينتهزوا فيهم الفرصة فكر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم واستلبوهم وَهَذَا أول حِصَار كَانَ على آسفي ثمَّ بعد سِنِين قَلَائِل زحف الْمُسلمُونَ إِلَيْهَا أَيْضا وَمَعَهُمْ عدد من المدافع وقاتلوا قتالا صعبا وزحفوا إِلَى السُّور فهدموا مِنْهُ ثلمة كَبِير وَاشْتَدَّ الْقِتَال عَلَيْهَا بِمَا خرج عَن الْعَادة ثمَّ رَحل الْمُسلمُونَ من غير فتح وأعرضوا عَنْهَا مُدَّة لم يحدثوا أنفسهم بِالْقِتَالِ وعمرت آسفي بالنصارى وانتقل إِلَيْهَا التُّجَّار وبنوا بهَا الدّور وَكَانُوا يسقون مِنْهَا الْحبّ ويحملونه فِي السفن إِلَى بِلَادهمْ وَلَعَلَّ ذَلِك لهدنة كَانَت لَهُم مَعَ الْمُسلمين ثمَّ عَادَتْ للْمُسلمين بعد نَحْو ثَلَاث وَعشْرين سنة وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن مَا نَصه قَرَأت بِخَط شَيخنَا أبي عبد الله الْقصار أَن صَاحب آسفي أخرج الشَّيْخ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ مِنْهَا فَدَعَا عَلَيْهِم فَسئلَ مِنْهُ الْعَفو فَقَالَ أَرْبَعِينَ سنة فَأَخذهَا النَّصَارَى بعْدهَا اه وَهَذَا يَقْتَضِي أَن استيلاءهم عَلَيْهَا كَانَ فِي حُدُود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 عشر وَتِسْعمِائَة لِأَن وَفَاة الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَحمَه الله كَانَت فِي سنة سبعين وَثَمَانمِائَة كَمَا مر وَعند الفرنج مَا يَقْتَضِي أَن استيلاءهم عَلَيْهَا كَانَ بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ أَو ثَلَاث وَالله أعلم زحف السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي إِلَى آصيلا قَالَ منويل لما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي أَرَادَ أَن يَأْخُذ بثأره من البرتغال الَّذين أسروه لسبع سِنِين فزحف إِلَى آصيلا فِي حُدُود أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة وحاصرها وَطَالَ قِتَاله عَلَيْهَا ثمَّ اقتحمها الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم اقتحاما واقتتلوا فِي وسط الْأَزِقَّة والأسواق يَوْمَيْنِ ثمَّ جَاءَ المدد إِلَى البرتغال من طنجة وجبل طَارق فَقَوِيت نُفُوسهم وَخرج الْمُسلمُونَ عَنْهُم لَكِن مَا خَرجُوا حَتَّى هدموها وأحرقوها وَلم يتْركُوا لَهُم بهَا إِلَّا الخربات ثمَّ جد البرتغال فِي إصلاحها وَأَقَامُوا بهَا بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن رجعت للْمُسلمين اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر آزمور حرسه الله قَالَ منويل بعث طاغية البرتغال أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة إِلَى ثغر آزمور شكوادره فِيهَا أَلفَانِ من الْعَسْكَر وَأَرْبَعمِائَة خيالة فدافعهم زيار الوطاسي ابْن عَم السُّلْطَان ونشبت مراكب البرتغال فِي السَّاحِل وتكسر جلها وعاث فِيهَا الْمُسلمُونَ وَرجع الْبَاقِي مفلولا ثمَّ بعد أَربع سِنِين بعث إِلَيْهَا الطاغية منويل شكوادره فِيهَا عشرُون ألفا من الْعَسْكَر وَأَلْفَانِ وَسَبْعمائة خيالة فَانْتَهوا إِلَى آزمور وحاصروها بحرا وزحفوا إِلَيْهَا من الجديدة برا وَوَقع حَرْب شَدِيدَة بَينهم وَبَين أهل آزمور وَأهل الْبَادِيَة ثمَّ انهزم الْمُسلمُونَ وَخَرجُوا من بَاب تَركه لَهُم البرتغال قصدا قَالَ لِأَنَّهُ يُقَال فِي الْمثل الفار مِنْك فِي الْحَرْب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 اجْعَل لَهُ قنطرة من فضَّة يعبر عَلَيْهَا وَقَالَ فِي النزهة كَانَ نزُول النَّصَارَى بآزمور سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة قَالَ وَفِي هَذِه السّنة بنى النَّصَارَى حجر باديس وَفِي أَوَاخِر الْمحرم مِنْهَا أَخذ النَّصَارَى يَعْنِي الإصبنيول مَدِينَة وهران ونكبوا أَهلهَا فَمَا مِنْهُم إِلَّا أَسِير أَو قَتِيل إِلَى أَن أَعَادَهَا الله لِلْإِسْلَامِ على يَد الأتراك فِي حُدُود الْعشْرين وَمِائَة وَألف اه قلت أهل آزمور يَزْعمُونَ أَن اسْتِيلَاء البرتغال على مدينتهم كَانَ متكررا وَسَيَأْتِي مَا يفهم مِنْهُ ذَلِك وَالله أعلم وَمن أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله مَا وقفت عَلَيْهِ فِي تَارِيخ البرتغاليين من أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كتب لطاغيتهم منويل يطْلب مِنْهُ أَن يتَقَدَّم بالوصاة لأَصْحَاب قراصينه البحرية أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمركبين لَهُ كَانَ قد عزم على بعثهما إِلَى الجزائر ثمَّ مِنْهَا إِلَى تونس وَكَانَ الطاغية لم يجبهُ أَو أَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فكرر إِلَيْهِ الْكتاب ثَانِيًا فِي الْقَضِيَّة الْمَذْكُورَة وسرد هَذَا المؤرخ نَص الْكِتَابَيْنِ مَعًا مترجمين بلغته وَذكر أَن تَارِيخ الأول مِنْهُمَا الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وتاريخ الثَّانِي الثَّامِن وَالْعشْرُونَ من ذِي الْقعدَة من السّنة اه اسْتِيلَاء البرتغال على ثغر المعمورة حرسه الله قَالَ فِي نشر المثاني إِن الَّذِي اختط حصن المعمورة هُوَ الْمهْدي الشيعي على يَد بعض عماله وَزعم بعض الفرنج أَن المعمورة من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي قَالَ وَلما كَانَ زمن منويل البرتغالي بلغه أَن مينا المعمورة جَيِّدَة وبلادها نفاعة فَبعث إِلَيْهَا طَائِفَة من جنده فوصلوا إِلَى ساحلها ونزلوا فِي الْبر الْمُقَابل لَهَا وبنوا هُنَالك برجا لحصارها ثمَّ أردفهم ملكهم الْمَذْكُور بعمارة تشْتَمل على مِائَتي مركب مشحونة بِثمَانِيَة آلَاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 من الْمُقَاتلَة قَالَ وَكَانَ خُرُوج هَذِه الْعِمَارَة من مَدِينَة أشبونة فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من يونيه العجمي سنة ألف وَخَمْسمِائة وَخمْس عشرَة مسيحية قلت يُوَافِقهَا من تَارِيخ الْهِجْرَة تَقْرِيبًا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فوافت مينا المعمورة فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من يوينه الْمَذْكُور وحاصروها وألحوا عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ أَيَّامًا وَبلغ الْخَبَر بذلك إِلَى السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي فَبعث أَخَاهُ النَّاصِر صريخا فِي جَيش كثيف فوصل سادس أغشت من السّنة الْمَذْكُورَة وَقَاتل البرتغال قتالا شَدِيدا وَهَزَمَهُمْ هزيمَة قبيحة ثمَّ كَانَت لَهُم الكرة على الْمُسلمين فهزموهم واستولوا على المعمورة وَثَبت قدمهم بهَا وَحَصَّنُوهَا بالسور الْمَوْجُود بهَا الْآن واستمروا بهَا نَحْو خمس سِنِين ثمَّ استرجعها الْمُسلمُونَ مِنْهُم فِي دولة السُّلْطَان الْمَذْكُور وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي السّنة الَّتِي استولوا على المعمورة رجعُوا إِلَى مَوضِع مَدِينَة آنفي فشرعوا فِي بنائها وَمن يَوْمئِذٍ سميت الدَّار الْبَيْضَاء وبقوا بهَا مُدَّة طَوِيلَة إِلَى زمن السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل على مَا زعم منويل أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني رَضِي الله عَنهُ أصل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله الغزواني دَفِين حومة الْقُصُور من مراكش من غَزوَان قَبيلَة من عرب تامسنا وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره يقْرَأ الْعلم بمدرسة الْوَادي من عدوة الأندلس بفاس فحصلت لَهُ إِرَادَة فسافر إِلَى مراكش ولازم الشَّيْخ التباع وَتخرج بِهِ ثمَّ انْتقل إِلَى بِلَاد الهبط فَنزل بهَا على قَبيلَة يُقَال لَهُم بَنو فزنكار وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس واشتهر أمره وَعظم صيته فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان أَبَا عبد الله وَكَانَ يَوْمئِذٍ بِبِلَاد الهبط قد خرج إِلَيْهَا بِقصد الْغَارة على نَصَارَى آصيلا وَكَانَ مَعَه فِي هَذِه الْحَرَكَة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور فَتوهم السُّلْطَان الْمَذْكُور من أَمر الشَّيْخ الغزواني وخشي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 على الدولة عَاقِبَة أمره وأغراه بِهِ مَعَ ذَلِك الْفَقِيه ابْن عبد الْكَبِير البادسي السفياني الأَصْل وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه يصحب الْوُلَاة والعمال وَيخرج فِي بعوثهم قَاضِيا فكثرت سعايته بالشيخ حَتَّى وقر ذَلِك فِي نفس السُّلْطَان فَبعث إِ ليه فَحَضَرَ وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ بالموضع الْمَعْرُوف بتاجناوت وَجعله فِي سلسلة وَبعث بِهِ إِلَى فاس وَتقدم فِي شَأْنه إِلَى ابْن شقرون صَاحب شرطته بقصبة فاس الْقَدِيم وَكَانَ الشَّيْخ ابْن غَازِي قد مرض فِي هَذِه الْغَزْوَة وَأمر السُّلْطَان بِحمْلِهِ إِلَى منزله من فاس فَلَمَّا وصل إِلَى قرب عقبَة المساجين اشْتَدَّ بِهِ الْحَال وَأمر أَصْحَابه أَن يريحوا بِهِ هُنَالك فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ مر بِهِ الشَّيْخ الغزواني فِي سلسلته فَسَأَلَ الموكلين بِهِ أَن يعوجوا بِهِ على الشَّيْخ ابْن غَازِي كي يعودهُ وَيُؤَدِّي حَقه فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ طلب ابْن غَازِي مِنْهُ الدُّعَاء فَدَعَا لَهُ بِخَير وَانْصَرف فَلَمَّا غَابَ عَنهُ قَالَ ابْن غَازِي لأَصْحَابه احْفَظُوا وصيتي فَإِنِّي راحل عَنْكُم إِلَى الله تَعَالَى بِلَا شكّ قَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي مَا عنْدك باس فَقَالَ إِن الله وَعَدَني أَن لَا يقبض روحي حَتَّى يريني وليا من أوليائه وَقد أرانيه السَّاعَة فدلني ذَلِك على انْقِضَاء الْأَجَل فَحَمَلُوهُ من حِينه إِلَى منزله فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ هَكَذَا سَاق هَذَا الْخَبَر صَاحب الدوحة فِي ترجمتي الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين وَكَانَت وَفَاة ابْن غَازِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَقَالَ صَاحب الْمرْآة عَن بعض شُيُوخه بعد أَن ذكر سِعَايَة ابْن عبد الْكَبِير بالشيخ الغزواني مَا نَصه فَتحَرك الشَّيْخ الغزواني لزيارة ضريح الشَّيْخ أبي سلهام فَعرض لَهُ العروسي قَائِد الْقصر الْكَبِير وناوله كتاب السُّلْطَان يَأْمُرهُ فِيهِ بقدوم الشَّيْخ إِلَى فاس دَار الْملك إِذْ ذَاك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ طَاعَة السُّلْطَان وَاجِبَة وَقَالَ للزائرين مَعَه بلغت النِّيَّة فَتوجه الشَّيْخ إِلَى فاس من ذَلِك الْمَكَان وَكلما بَات فِي منزل ذهبت جمَاعَة من الَّذين مَعَه فَلم يصل مَعَه إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْبَقَاء عبد الْوَارِث اليالصوتي إِذْ ذَاك سَاكِنا بفاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وَلم يكن صحب الشَّيْخ قبل ذَلِك فَلَمَّا دخل الشَّيْخ حَضْرَة فاس لقِيه أَبُو الْبَقَاء الْمَذْكُور فَسلم عَلَيْهِ فَشد الشَّيْخ يَده على يَده فَلم يرسلها حَتَّى عاهده على الرُّجُوع فَلَمَّا انْفَصل عَنهُ اشْترى خبْزًا وَعِنَبًا وَحمل ذَلِك إِلَى الشَّيْخ وَأَصْحَابه فَوَجَدَهُمْ عِنْد القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله اليفرني المكناسي وَهُوَ مؤلف الْمجَالِس المكناسية فَوَجَدَهُمْ فِي الْمَسْجِد الْقَرِيب من دَار القَاضِي الْمَذْكُور بدرب السُّعُود فناولهم مَا مَعَه وَوجد الشَّيْخ موكلا بِهِ وَأَصْحَابه يدْخلُونَ وَيخرجُونَ ثمَّ دخل القَاضِي على الشَّيْخ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك قَالَ أَبُو الْبَقَاء فتكلمت أَنا وَقلت إِن هَذَا الرجل قد نزل بَلَدا عَظِيمَة المناكر وَأخذت أعدد مناكرها وَصَارَ هَذَا السَّيِّد ينهاهم عَن ذَلِك فهدى الله على يَده من هدى وشنئه من أَبى فَقَامَ القَاضِي وَركب إِلَى دَار السُّلْطَان ثمَّ رَجَعَ إِلَى منزله فَبَاتَ وَمن الْغدر ركب إِلَى دَار السُّلْطَان أَيْضا وَمَعَهُ الشَّيْخ الغزواني فَلَمَّا اطْمَأَن بهم مجْلِس السُّلْطَان وَكَانَ فِيهِ صَاحب تازا وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الشَّيْخ أَخُو السُّلْطَان الْمَذْكُور سكت الْجَمِيع وَتكلم كَاتب السُّلْطَان وَإِمَام صلَاته قَالَ صَاحب الْمرْآة وَلم يسم لنا فَقَالَ للشَّيْخ مَا هَذَا الَّذِي يذكر عَنْك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَنْت لَا تَتَكَلَّم حَتَّى تَغْتَسِل من جنابتك فاستشاط الْكَاتِب غَضبا فَقَالَ لَهُ أَخُو السُّلْطَان هَؤُلَاءِ الْقَوْم يعنون الْجَنَابَة غير مَا تعنيه الْعَامَّة يُشِير إِلَى مَا فِي الحكم فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان وَمن أَيْن تعرف هَذَا فَقَالَ لَهُ من سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن يَجِيش ففرح السُّلْطَان بِمَعْرِِفَة أَخِيه ذَلِك وَقَالَ للشَّيْخ نَحن نُرِيد قربك وَأَن تكون مَعنا فِي هَذِه الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ على بركَة الله فانتقل إِلَى فاس الْقَدِيم وَبنى خَارج بَاب القليعة دَاخل بَاب الْفتُوح وَأقَام هُنَالك مَا شَاءَ الله قيل سبع سِنِين إِلَى أَن كَانَت سنة تعذر فِيهَا الْمَطَر وَأخذ النَّاس فِي اسْتِخْرَاج السواقي للحرث فَأخْرج الشَّيْخ من وَادي اللَّبن ساقية لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 فِي سواقي السُّلْطَان وَغَيره مثلهَا فَبعث إِلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان وَهُوَ النَّاصِر الملقب بالكديد بِالْكَاف المعقودة وَالدَّال الْمُشَدّدَة على لُغَة الْعَامَّة وَقَالَ لَهُ نَحن أَحَق بِتِلْكَ الساقية فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ خُذْهَا وَأخذ فِي الرحيل إِلَى مراكش وَلما توجه تلقاءها أَخذ خنيفه فِي يَده وَجعل يُشِير بِهِ من جِهَة فاس إِلَى جِهَة مراكش وَيَقُول أيا يَا سلطنة إِلَى مراكش قَالَ صَاحب الْمرْآة هَذَا حَدِيث شَيخنَا أبي عبد الله النيجي قَالَ وآخنيف مَعْرُوف وَهُوَ نوع من البرانس السود وَمعنى أيا بلغَة عَامَّة الْمغرب سيري معي وَمَوْضِع بني فزنكار أَظُنهُ تاصروت فَإِن بهَا رسما مَنْسُوبا إِلَيْهِ إِلَى الْآن وَأَنه منزله الَّذِي كَانَ يأوي إِلَيْهِ وَمَا زَالَت آثاره هُنَالك وَالدَّار الَّتِي بنى بِبَاب القليعة هِيَ المتصيرة إِلَى تِلْمِيذه الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْهَرَوِيّ الْمَعْرُوف بالطالب وَلَعَلَّ سنة إِخْرَاج السواقي هِيَ سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فَإِنَّهُ قد تعذر فِيهَا الْمَطَر وَحدث الغلاء الْكَبِير المؤرخ بِسنة سبع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى انْتِقَال السلطنة عَن بني وطاس مُلُوك فاس إِلَى الشرفاء السعديين مُلُوك مراكش يَوْمئِذٍ وَالله أعلم نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي إِلَى مراكش ومحاصرته أَبَا الْعَبَّاس الْأَعْرَج السَّعْدِيّ بهَا قد تقدم لنا أَن ظُهُور الدولة السعدية بِبِلَاد السوس كَانَ فِي سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة وَمَا زَالَ أَمرهم فِي الزِّيَادَة إِلَى أَن كَانَت دولة أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج مِنْهُم فاستفحل أمره وَبعد صيته وفتك بنصارى السوس فكاتبه أُمَرَاء هنتاتة أَصْحَاب مراكش ودخلوا فِي طَاعَته فانتقل إِلَيْهَا وملكها فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان أبي عبد الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس قَامَت قِيَامَته وَأَقْبل فِي جموع عديدة وَمَعَهُ وزيره ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر كَذَا فِي النزهة وَالَّذِي عِنْد غَيره أَن الْوَزير الَّذِي جَاءَ مَعَه هُوَ النَّاصِر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 أَخُو السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلما رأى أَبُو الْعَبَّاس السَّعْدِيّ مَا لَا قبل لَهُ بِهِ تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة فَتقدم السُّلْطَان أَبُو عبد الله وَنصب الأنفاض على مراكش ودام الْحصار عَلَيْهَا أَيَّامًا فيحكى أَنه قيل للشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَكَانَ قد استوطن مراكش يَوْمئِذٍ أَن أهل مراكش سئموا الْحصار فَركب الشَّيْخ فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وَخرج من بَاب فاس الْمَعْرُوف الْيَوْم بِبَاب الْخَمِيس فَوجدَ رُمَاة السُّلْطَان أبي عبد الله يرْمونَ من علا الأسوار من أهل الْبَلَد فَوقف الشَّيْخ ينظر فَجَاءَت رصاصة ضربت صَدره وخرقت الْجُبَّة الَّتِي عَلَيْهِ والتصقت بِلَحْمِهِ كَأَنَّهَا وَقعت فِي صَخْرَة صماء فَقبض عَلَيْهَا بِيَدِهِ وَقَالَ هَذِه خَاتِمَة حربهم ثمَّ رَجَعَ إِلَى منزله فوردت الأنباء على السُّلْطَان أبي عبد الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بِأَن بني عَمه قد قَامُوا عَلَيْهِ بفاس ونبذوا دَعوته فَأصْبح من الْغَد راحلا إِلَى فاس وَظهر مصداق مَا قَالَ الشَّيْخ الغزواني وَلم يعد لبني وطاس وُصُول بعْدهَا إِلَى مراكش وَلَا إِلَى أَعمالهَا وَالله تَعَالَى أعلم ذكر وزراء السُّلْطَان أبي عبد الله وَمَا قيل فيهم كَانَ من جملَة وزرائه ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر وَهُوَ الَّذِي زحف مَعَه إِلَى مراكش على مَا فِي النزهة وَكَانَ من جملَة وزرائه القائمين بأَمْره أَخُوهُ النَّاصِر بن مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَعْرُوف عِنْد عَامَّة فاس بِأبي علاقَة وبالكديد على مَا مر قَالَ فِي الجذوة لقب بذلك لِكَثْرَة سفكه الدِّمَاء وإقدامه عَلَيْهِ فَكَانَ يقتل النَّاس ويجزرهم كثيرا وَكَذَا بمكناسة أَيَّام وزارته بهَا كَذَا حدث غير وَاحِد مِمَّن أدْركهُ وَرَآهُ وَتُوفِّي الْوَزير الْمَذْكُور سنة ثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَفَاة السُّلْطَان أبي عبد الله رَحمَه الله كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي عبد الله البرتغالي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة على مَا فِي الجذوة وَيُؤْخَذ من النزهة أَنَّهَا كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بعْدهَا وَالله أعلم وَولي الْأَمر من بعده أَخُوهُ أَبُو حسون بِولَايَة عَهده إِلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 الْخَبَر عَن الدولة الأولى للسُّلْطَان أبي حسون بن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن زيار الوطاسي وَيعرف بِأبي حسون البادسي قَالَ فِي النزهة بُويِعَ بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة ثمَّ قبض عَلَيْهِ ولد أَخِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد البرتغال وخلعه وَأشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ آخر ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة انْتهى الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الوطاسي رَحمَه الله تَعَالَى هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي عبد الله مُحَمَّد البرتغالي ابْن أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن زيان الوطاسي بُويِعَ يَوْم خلع عَمه أبي حسون آخر ذِي الْحجَّة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ ابْن القَاضِي وَقد رَأَيْت الْبيعَة الَّتِي كتبت لَهُ بِخَط الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد ابْن أَحْمد الوانشريسي من إنشائه وَعَلَيْهَا خطوط جمَاعَة من فُقَهَاء فاس كَأبي الْعَبَّاس الحباك والفقيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد الماواسي وَغَيرهمَا اه قَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي النزهة وَانْظُر مَا وَجه كتب الْبيعَة لِأَحْمَد مَعَ أَن خلع أبي حسون لم يكن لموجب والوانشريسي من أهل الْوَرع وَقَالَ وَلَعَلَّه لأمر لم يظْهر لنا وَالله أعلم اه وَقَالَ ابْن عَسْكَر فِي الدوحة لما توفّي السُّلْطَان أَبُو عبد الله البرتغالي ودالت الدولة لوَلَده السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد وغص بالشرفاء القائمين عَلَيْهِ بِبِلَاد السوس وزوحم بهم عقد الْهُدْنَة مَعَ النَّصَارَى المحاورين لَهُ بِبِلَاد الهبط وصاحبهم سُلْطَان البرتغال فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن يحيى البهلولي وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد وَمِمَّنْ لَهُ وصلَة بالسلطان أبي عبد الله فَكَانَ إِذا جَاءَهُ زَائِرًا حضه على الْغَزْو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فيساعده على مَا أَرَادَ من ذَلِك فَلَمَّا بلغ الشَّيْخ الْمَذْكُور مَا عقده السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس من الصُّلْح آلى على نَفسه أَن لَا يلقى السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلَا يمشي إِلَيْهِ وَلَا يقبل مِنْهُ مَا كَانَ عينه لَهُ وَالِده من جِزْيَة أهل الذِّمَّة بفاس لقُوته وقوت عِيَاله فَمَكثَ على ذَلِك إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة وَكَانَ فِي النزع وَأَصْحَابه دائرون بِهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي أخْبرك أَن السُّلْطَان أَمر بالغزو وَأمر بالنداء بِهِ وحض النَّاس عَلَيْهِ والمسلمون فِي شَره لذَلِك وَفَرح فَفتح الشَّيْخ عَيْنَيْهِ وتهلل وَجهه فَرحا وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ فَفَاضَتْ نَفسه وَهُوَ مسرور بذلك اه وقْعَة آنماي بَين الوطاسيين والسعديين قد تقدم لنا فِي خبر السُّلْطَان أبي عبد الله أَنه لما حاصر مراكش وأصابت الرصاصة الشَّيْخ الغزواني قَالَ هَذِه خَاتِمَة حربهم وَلم يعد لبني وطاس وُصُول إِلَى مراكش وَلَا إِلَى أحوازها قَالَ فِي النزهة فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج يتلاقى مَعَ أبي الْعَبَّاس الوطاسي بتادلا وأحوازها قَالَ وَكَانَت بَينهمَا معركة بِموضع يُقَال لَهُ آنماي وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة فَافْتَرقَا على اصْطِلَاح اه وآنماي مَوضِع قرب مراكش بِهِ زَاوِيَة الشَّيْخ أبي الْعَزْم رحال الكوش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 عقد الصُّلْح بَين السلطانين أبي الْعَبَّاس الوطاسي وَأبي الْعَبَّاس السَّعْدِيّ رحمهمَا الله تَعَالَى لما رأى أهل الْمغرب مَا وَقع بَين السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي صَاحب فاس وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالأعرج صَاحب مراكش من التقاتل على الْملك والتهالك عَلَيْهِ وفناء الْخلق بَينهم دخلُوا فِي الصُّلْح بَينهم والتراضي على قسْمَة الْبِلَاد وَحضر لذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء والصلحاء مِنْهُم أَبُو حَفْص عمر الْخطاب دَفِين جبل زرهون وَأَبُو الرواين المحجوب دَفِين مكناسة الزَّيْتُون وَكَانَ صَاحب حَال وجذب فَجعل النَّاس يوصونه بِالسُّكُوتِ مَخَافَة أَن يفْسد عَلَيْهِم أَمرهم فَلَمَّا دخلُوا على أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وأخيه وزيره مُحَمَّد الشَّيْخ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ جَاءُوا لأَجله وجدوا فيهمَا شدَّة وغلظة وامتناعا من مساعدتهم على مَا أَرَادوا فَحلف أَبُو حَفْص الْخطاب لَا دخلوها يَعْنِي فاسا مَا دمت على وَجه الأَرْض فَمَا دخلوها حَتَّى مَاتَ بعد مُدَّة فَكَانَ بَعضهم يَقُول لَو كَانَ بَنو وطاس يعْرفُونَ شَيْئا مَا دفنُوا أَبَا حَفْص الْخطاب يَعْنِي لتركوه فِي تَابُوت على وَجه الأَرْض لِأَنَّهُ حلف لَا دخلوها مَا دَامَ على وَجه الأَرْض حَكَاهُ صَاحب ممتع الأسماع وَذكر فِي شرح زهرَة الشماريخ أَن الصُّلْح انبرم بَين الطَّائِفَتَيْنِ على أَن للأشراف من تادلا إِلَى السوس ولبني وطاس من تادلا إِلَى الْمغرب الْأَوْسَط وَإِن مِمَّن حضر الصُّلْح الْمَذْكُور قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أَبَا الْحسن عَليّ بن هَارُون المطغري بِالطَّاءِ الْمُهْملَة مطغرة تلمسان وَالْإِمَام الشهير أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي وَغَيرهمَا من مَشَايِخ فاس وَيذكر أَنه لما تواطأت كلمة الْحَاضِرين على الصُّلْح وعقدوا شُرُوطه وهدأت الْأَصْوَات وَسكن اللجاج أَتَى بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس ليكتب الصُّلْح فَمَا وضعت الدواة بَين يَدي أحد الْفُقَهَاء الْحَاضِرين إِلَّا وجم وانقبض وَدفعهَا عَن نَفسه استحياء فِي ذَلِك المحفل أَن يكْتب مَا لَا يُنَاسب الْجِهَتَيْنِ فَقَامَ قَاضِي الْجَمَاعَة الْمَذْكُور وَأخذ الدواة وأساودها ووضعها بَين يَدي أبي مَالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الْمَذْكُور فَأَنْشَأَ أَبُو مَالك فِي الْحِين خطْبَة بليغة ونسج الصُّلْح على منوال عَجِيب واخترع أسلوبا غَرِيبا تحير فِيهِ الْحَاضِرُونَ وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته فِي مثل ذَلِك المشهد الْعَظِيم الَّذِي تخرس فِيهِ ألسن الفصحاء هَيْبَة وإكبارا فَقَامَ قَاضِي الْجَمَاعَة وَقَبله بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ جَزَاك الله عَن الْمُسلمين خيرا وَمَا هِيَ بِأول بركتكم يَا آل أبي بكر وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة اه غَزْوَة الْحمر قرب آصيلا حرسها الله ذكر صَاحب الدوحة فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الشاوي رَحمَه الله أَنه اسْتشْهد فِي وقْعَة الْحمر الَّتِي كَانَت فِي حُدُود أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة بَين النَّصَارَى والقائد عبد الْوَاحِد بن طَلْحَة العروسي على مقربة من آصيلا قَالَ حَدثنِي غير وَاحِد مِمَّن يوثق بِهِ مِمَّن حضر الْوَقْعَة وَبَعْضهمْ يصدق بَعْضًا قَالُوا لما انهزم النَّاس اسْتقْبل الشَّيْخ أَبُو الْحسن النَّصَارَى وسيفه فِي يَده وَهُوَ يَتْلُو بردة البوصيري فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ وَلما رَجَعَ النَّاس من الْغَد ليحملوا قتلاهم لم يُوقف لَهُ على عين وَلَا أثر وَإِنَّمَا وجد غنباز من لِبَاسه عِنْد النَّصَارَى وَفِيه أثر طعنة فِي صَدره اه كَلَام الدوحة وَفِي الْمرْآة أَن الشَّيْخ الْمَذْكُور مَاتَ فِي حَيَاة شَيْخه الغزواني شَهِيدا فِي الْجِهَاد سنة خمس وَعشْرين وَتِسْعمِائَة اه وَلَعَلَّه الصَّوَاب والعروسي الْمَذْكُور هُوَ من أُمَرَاء بني عبد الحميد العروسيين أَصْحَاب قصر كتامة وَكَانَت لَهُم رياسة وسياسة وَجِهَاد فِي الْعَدو إِلَى أَن انقرض أَمرهم أَعْوَام الْخمسين وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي الدوحة أخبر غير وَاحِد من فُقَهَاء قصر كتامة أَن الشَّيْخ أَبَا الرواين جَاءَ إِلَى الْقصر وَصَاحبه يَوْمئِذٍ الْقَائِد عبد الْوَاحِد العروسي فِي عصبَة من أَقَاربه أَوْلَاد عبد الحميد فَصَعدَ أَبُو الرواين صومعة الْمَسْجِد ثمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوته يَا بني عبد الحميد اشْتَروا مني الْقصر وَإِلَّا خَرجْتُمْ مِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 فِي هَذِه السّنة فَسمع الْقَائِد عبد الْوَاحِد ذَلِك فَقَالَ إِن كَانَ الْقصر لَهُ أَو بِيَدِهِ فلينزعه منا مَا بَقِي لنا إِلَّا كَلَام الحمقى نلتفت إِلَيْهِ وَمن الْغَد خرج الشَّيْخ أَبُو الرواين من الْبَلَد وَهُوَ يَقُول الْقَائِد عبد الْوَاحِد وَأَهله يخرجُون من الْقصر وَلَا يعودون إِلَيْهِ أبدا فَكَانَ كَذَلِك بقدرة الله تَعَالَى وقْعَة أبي عقبَة بوادي العبيد وَمَا كَانَ فِيهَا بَين الوطاسيين والسعديين من الْقِتَال الشَّديد هَذِه الْوَقْعَة من أعظم الوقعات الَّتِي كَانَت تكون بَين الوطاسيين والسعديين وَمَا زَالَت الْعَامَّة تَتَحَدَّث بهَا فِي أنديتها إِلَى الْآن ويبالغون فِي وصفهَا وَالْأَخْبَار عَنْهَا وَقد ذكرهَا شعراؤهم فِي أزجالهم الملحونة وَهِي مَحْفُوظَة فِيمَا بَينهم وَذَلِكَ أَنه لما طمى عباب السعديين على بِلَاد الْحَوْز وكادوا يلجون على الوطاسيين دَار ملكهم من فاس نَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة يجر الشوك والمدر فِي جمع كثيف من الْجند وقبائل الْعَرَب فِي حللها وظعنها وَجَاء أَبُو الْعَبَّاس السَّعْدِيّ فِي قبائل الْحَوْز بحللها وظعنها كَذَلِك فَكَانَ اللِّقَاء بمشروع أبي عقبَة أحد مشارع وَادي العبيد من تادلا فنشبت الْحَرْب وتقاتل النَّاس وبرز أهل الحفائظ مِنْهُم والتراث وَقَاتل النَّاس على حرمهم وأحسابهم وعزهم فأفنى بَعضهم بَعْضًا إِلَّا قَلِيلا ودامت الْحَرْب أَيَّامًا على مَا قيل إِلَى أَن كَانَت الْهَزِيمَة على الوطاسيين عَشِيَّة يَوْم الْجُمُعَة ثامن صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي الجذوة فَرجع السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي إِلَى فاس وَبقيت محلته وقصبة تادلا بَين الشريف السعيد قَالَ وَتسَمى هَذِه السّنة سنة أبي عقبَة وَقَالَ فِي الْمرْآة وَمِمَّا اشْتهر من كرامات الشَّيْخ أبي طَلْحَة مُحَمَّد المصباحي الشاوي الزناتي أَنه لما التقى مقاتلة فاس وسلطانهم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي ومقاتلة مراكش وسلطانهم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج وَمَعَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 أَخُوهُ الْمُتَوَلِي بعده أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة على مشرع أبي عقبَة من وَادي العبيد انهزم السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي وَتَفَرَّقَتْ جموعه وتبعته الْخَيل فكادوا يقبضون عَلَيْهِ فَحَضَرَ هُنَالك رجل على فرس أُنْثَى فَجعل يحول بَينه وَبينهمْ وَيَقُول لَهُ سر يَا أَحْمد وَلَا تخف وَلم يزل مَعَه إِلَى أَن رجعُوا عَنهُ وَأمن الطّلب وَقد عرف السُّلْطَان صفته وتحققها وَلم يزل يسْأَل عَن صَاحب تِلْكَ الصّفة حَتَّى قيل لَهُ هَذِه صفة أبي طَلْحَة المصباحي وَتحقّق ذَلِك وَلما كَانَ خُرُوج السُّلْطَان الْمَذْكُور الَّذِي وصل فِيهِ تطاوين وَتزَوج بهَا الْحرَّة بنت الْأَمِير السَّيِّد أبي الْحسن عَليّ بن مُوسَى ابْن رَاشد الشريف وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وبتطاوين بنى بهَا وَقصد أَبَا طَلْحَة الْمَذْكُور وَنزل عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ عرفه وأيقن أَنه الرجل الَّذِي أغاثه فأكب عَلَيْهِ السُّلْطَان وَذكر مَا وَقع لَهُ مَعَه فَقَالَ الشَّيْخ يَا رب كَيفَ الْعَيْش مَعَ هَذِه الشُّهْرَة فاقبضني إِلَيْك فَمَاتَ عقب ذَلِك من سنته قَالَ فِي الْمرْآة سَمِعت هَذِه الْحِكَايَة من غير وَاحِد وَسَأَلت شَيخنَا أَبَا الْقَاسِم بن أبي طَلْحَة الْمَذْكُور فَقَالَ لي أَعقل مَجِيء السُّلْطَان وَأَنا صَغِير جدا أقعد فِي حجر أبي وَعند ركبته اه قلت والأمير أَبُو الْحسن بن رَاشد الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي اختط مَدِينَة شفشاون كَمَا مر وَذكر فِي الْمرْآة أَن وَفَاته كَانَت سنة سبع عشرَة وَتِسْعمِائَة فَيكون السُّلْطَان الْمَذْكُور إِنَّمَا تزوج ابْنَته بعد وَفَاته وَلَعَلَّه خطبهَا من أَخِيهَا الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن وَالله أعلم وَاعْلَم أَن مَا سلكناه هُنَا من تَقْدِيم قَضِيَّة الصُّلْح على وقْعَة أبي عقبَة هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ التَّارِيخ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ وَسَيَأْتِي بعد هَذَا مَا رُبمَا يفهم مِنْهُ أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ وَالْجَوَاب أَن قَضِيَّة الصُّلْح تَكَرَّرت حَسْبَمَا يُؤْخَذ مِمَّا مر وَالله أعلم وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا عقد السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي مَعَ برتقال آسفي صلحا على ثَلَاث سِنِين وَدخل فِي هَذَا العقد آسفي والجديدة وآزمور وَكتب البرتغال بذلك إِلَى ملكهم وَوَقعت المحادة فِي الْبِلَاد وتفرغ الوطاسي لقِتَال السعديين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 بِنَاء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي قنطرة الرصيف بفاس حرسها الله كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي قد جدد بِنَاء قنطرة الرصيف بِحَضْرَة فاس وَذَلِكَ منتصف سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَفِي ذَلِك يَقُول الْفَقِيه أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي مُشِيرا إِلَى التَّارِيخ الْمَذْكُور (جسر الرصيف أَبُو الْعَبَّاس جدده ... فَخر السلاطين من أَبنَاء وطاس) (فجَاء فِي غَايَة الإتقان مرتفقا ... لمن يمر بِهِ من عدوتي فاس) (وَكَانَ تجديده فِي نصف عَام غنا ... من هِجْرَة الْمُصْطَفى الْمَبْعُوث للنَّاس) وَقَالَ الْفَقِيه أَبُو مَالك أَيْضا (أيا أهل فاس سدد الله سدكم ... بِرَأْي أبي الْعَبَّاس حامي حمى فاس) (وأحيى بِهِ أشجاركم وثماركم ... على رغم قوم منكرين من النَّاس) (فدام ودام السعد يخْدم مجده ... وفاز من الشُّكْر الْجَمِيل بأجناس) وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى السراج (أَلا سدد الله رَأْي الَّذِي ... بتسديده سديدا حصينا) (وخلد فِي عزه ملكه ... وأولاه فتحا ونصرا مُبينًا) (إِمَام الْهدى أَحْمد المرتضى ... مبيد العدا عدَّة المسلمينا) وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن هَارُون (لقد سدد الله رَأْي الْعِمَاد ... وأبطل فِي السد رَأْي الجهول) (وَقرب مَا رامه من بعاد ... بمولاي أَحْمد مدحي يطول) (فطردا وعكسا لساني يناد ... عقول الْمُلُوك مُلُوك الْعُقُول) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وقْعَة وَادي درنة بتادلا وَأسر الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي ومهلكه رَحمَه الله ذكر فِي الْمرْآة عِنْد الْكَلَام على أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف الفاسي وَهُوَ وَالِد الشَّيْخ أبي المحاسن رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا عبد الله الْمَذْكُور كَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة عِنْد أَمِير الْقصر أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي عبد الله البرتغالي وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَخُو السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي قَالَ فَانْتَفع بوجاهة أبي عبد الله الفاسي خلق كثير وَلم يسامح هُوَ نَفسه فِي نيل شَيْء من الدُّنْيَا بِسَبَب ذَلِك الجاه إِلَى أَن أسر الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّاء الْمَذْكُور فِي وقْعَة وَادي درنة من تادلا للشرفاء على بني وطاس فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَمَات فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْقَرِيبَة غما وأسفا رَحمَه الله قلت وَكَانَ سُلْطَان السعديين يَوْمئِذٍ مُحَمَّد الشَّيْخ الملقب بالمهدي فَإِنَّهُ تغلب على أَخِيه الْأَعْرَج وانتزع مِنْهُ الْملك وسجنه كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى اسْتِيلَاء السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ على فاس وَقَبضه على بني وطاس ومهلك سلطانهم أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله تَعَالَى بفضله لما غلب السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ على أَخِيه أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَاسْتولى على مراكش طمحت نَفسه للتوغل فِي بِلَاد الغرب وقراه فتفرغ لِحَرْب بني وطاس ونكث مَا كَانَ بَينه وَبينهمْ من الصُّلْح ورموا مِنْهُ بِحجر الأَرْض وردد إِلَيْهِم الْبعُوث والسرايا وَأكْثر فيهم من شن الغارات وَصَارَ يستلبهم الْبِلَاد شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا وَكَانَ أول مَا ملك من أَمْصَار الغرب مكناسة الزَّيْتُون افتتحها عقب سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة بعد حِصَار ومقاتلة ثمَّ تقدم إِلَى فاس فألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وضايقها بالحصار مُدَّة قريبَة من السّنة ثمَّ استولى عَلَيْهَا بعد أَن أسر سلطانها أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي وَصَارَ فِي قَبضته وَكَانَ دُخُوله إِيَّاهَا أَوَائِل سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 4 - دَخلهَا تقبض على الوطاسيين أجمع وَبعث بهم مصفدين إِلَى مراكش عدا أَبَا حسون المخلوع فَإِنَّهُ فر إِلَى الجزائر إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ ثمَّ إِن الشَّيْخ السَّعْدِيّ غدر ببني وطاس فِيمَا قيل بعد أَن أظهر الْعَفو عَنْهُم وسرح سلطانهم أَبَا الْعَبَّاس من ثقافة وَالله أعلم وَفِي الجذوة كَانَت وَفَاة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي بمراكش قرب سنة السِّتين وَتِسْعمِائَة اه وَزعم منويل أَنه قتل مذبوحا بدرعة قَالَ زحف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس فبرز إِلَيْهِ أَبُو حسون الوطاسي وَكَانَ قَائِد جَيش ابْن أَخِيه وَوَقع بَينهمَا قتال عَظِيم انهزم فِيهِ أَبُو حسون إِلَى فاس وحاصره السَّعْدِيّ بهَا سنتَيْن وَلما قلت الأقوات وَعجز الوطاسيون عَن الدفاع نزلُوا على حكم السَّعْدِيّ فَقبض على أبي الْعَبَّاس الوطاسي وفر أَبُو حسون إِلَى الجزائر واستقل مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ بِأَمْر الْمغرب وَغرب الوطاسيين إِلَى درعة فَقتل أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي الَّذِي كَانَ تلميذا لَهُ ذبحا اه كَلَامه بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الوطاسي وَسيرَته كَانَ من جملَة وزراء السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور ابْنه مُحَمَّد وَمن أخباره مَا ذكره فِي الدوحة فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر المشترائي دَفِين مكناسة الزَّيْتُون قَالَ من كراماته الشائعة مَا اتّفق لَهُ مَعَ الْوَزير أبي عبد الله مُحَمَّد بن السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي لما استوزره أَبوهُ وولاه على مكناسة فَكَانَ بهَا فَغَضب ذَات يَوْم على أحد المشاورية فهرب المشاوري إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان فَبعث الْوَزير إِلَى الشَّيْخ بِأَن عَلَيْهِ الْأمان ويبعثه إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ إِن شِئْت أَن تذْهب إِلَى سيدك فافعل فَقَالَ المشاوري يَا سَيِّدي أَخَاف أَن يقتلني فَقَالَ الشَّيْخ إِن قَتلك فَالله يقْتله فَذهب المشاوري إِلَى الْوَزير وَبَقِي عِنْده لَيْلَتَيْنِ وَفِي الثَّالِثَة قَتله وَلم يظْهر لَهُ فَجَاءَت أمه إِلَى الشَّيْخ وَقَالَت يَا سَيِّدي إِن وَلَدي قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 قَتله الْوَزير فَقَالَ لَهَا سبق ذَلِك فِي علم الله وَإِن الآخر سيلحقه الْآن يَعْنِي الْوَزير فوعك الْوَزير تِلْكَ اللَّيْلَة وسلط عَلَيْهِ آكال فِي جِسْمه فتمزق لَحْمه وتقطع شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن هلك لليال قَلَائِل من مَرضه فَاعْتبر النَّاس وَالسُّلْطَان بذلك وَمن ذَلِك الْوَقْت زَاد الْأُمَرَاء وَغَيرهم فِي احترام حرم زَاوِيَة الشَّيْخ الْمَذْكُور اه وَكَانَ للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس اعْتِقَاد فِي المتصلحين وأرباب الْأَحْوَال فَمن فَوْقهم من أهل الْعلم وَالدّين من ذَلِك مَا حَكَاهُ فِي الدوحة أَيْضا فِي تَرْجَمَة أبي الْحسن عَليّ الصنهاجي الْمَعْرُوف بالدوار قَالَ كَانَ أَبُو الْحسن الْمَذْكُور من الملامتية وَكَانَ يدْخل دور الْمُلُوك من بني وطاس فيتلقاه النِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ يَدَيْهِ وقدميه فَلَا يلْتَفت إِلَى أحد ويعطونه الثِّيَاب الرفيعة والذخائر النفيسة ويلبسه السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس من أشرف لِبَاسه فَإِذا خرج تصدق بِجَمِيعِ ذَلِك ويمر على حوانيت الزياتين فيغمس أكمام الْحلَّة الَّتِي تكون عَلَيْهِ ويبرقعها بالزيت أَو بالسمن وَلَا يزَال يَدُور فِي الْأَمَاكِن ويصرخ باسم الْجَلالَة اه قَالُوا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وَاقِفًا عِنْد إِشَارَة الْفَقِيه أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي وَهُوَ ابْن صَاحب المعيار لَا يتَعَدَّى أمره وَلَا يُخَالف رَأْيه كَمَا وَقع لَهُ فِي مَسْأَلَة رجل إسلامي يعرف بِعَبْد الرَّحْمَن المنجور وَكَانَ تَاجِرًا جَامعا لِلْمَالِ فَشهد عَلَيْهِ فِي حِكَايَة طَوِيلَة أَرْبَعُونَ رجلا من الْعُدُول باستغراق ذمَّته فَأَخذه السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي وَقَتله وصير أملاكه لبيت مَال الْمُسلمين فَرغب أَوْلَاد المنجور من السُّلْطَان أَن يؤدوا لَهُ عشْرين ألف دِينَار وَيرد إِلَيْهِم أملاكهم وَيسْقط عَنْهُم بَيِّنَة الِاسْتِغْرَاق فَقَالَ السُّلْطَان لحاجبه اذْهَبْ إِلَى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الوانشريسي وشاوره فِي ذَلِك وعرفه بِأَنِّي فِي الْحَاجة إِلَى هَذَا المَال لأجل هَذِه الْحَرَكَة الَّتِي عرضت لي فَذهب الْحَاجِب إِلَيْهِ وَأخْبرهُ بمقالة السُّلْطَان ورغبته فِي قبُول ذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وَالله لَا ألْقى الله بِشَهَادَة أَرْبَعِينَ رجلا من عدُول الْمُسلمين لأجل سلطانك اذْهَبْ وَقل لَهُ إِنِّي لَا أوافق على ذَلِك وَلَا أرضاه فَرجع الْحَاجِب إِلَى السُّلْطَان وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ الشَّيْخ فَرجع السُّلْطَان عَمَّا عزم إِلَيْهِ وَنَظِير هَذَا مَا اتّفق لَهُ مَعَه أَيْضا وَهُوَ أَن النَّاس خَرجُوا يَوْم الْعِيد للصَّلَاة فانتظروا السُّلْطَان فَأَبْطَأَ عَلَيْهِم وَلم يَأْتِ إِلَى خُرُوج وَقت الصَّلَاة وَحِينَئِذٍ أقبل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس فِي أبهته فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْمصلى نظر الشَّيْخ أَبُو مَالك فَرَأى أَن الْوَقْت قد فَاتَ فرقي الْمِنْبَر وَقَالَ معشر الْمُسلمين أعظم الله أجركُم فِي صَلَاة الْعِيد فقد عَادَتْ ظهرا ثمَّ أَمر الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام الصَّلَاة فَتقدم الشَّيْخ أَبُو مَالك وَصلى النَّاس الظّهْر فَخَجِلَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس واعترف بخطيئته رحم الله الْجَمِيع الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للسُّلْطَان أبي حسون الوطاسي رَحمَه الله لما دخل السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَقبض على بني وطاس بهَا حَسْبَمَا تقدم فر أَبُو حسون هَذَا إِلَى ثغر الجزائر حَقنا لدمه ومستجيشا لتركها ومستجيشا على السَّعْدِيّ وَكَانَ التّرْك قد استولوا على الْمغرب الْأَوْسَط وانتزعوه من يَد بني زيان كَمَا سَيَأْتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 فَلم يزل أَبُو حسون عِنْدهم يفتل لَهُم فِي الغارات والسنام وَيحسن لَهُم بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى ويعظمها فِي أَعينهم وَيَقُول إِن المتغلب عَلَيْهَا قد سلبني ملكي وَملك آبَائِي وغلبني على تراث أجدادي فَلَو ذهبتم معي لقتاله لَكنا نرجو الله تَعَالَى أَن يتيح لنا النَّصْر عَلَيْهِ ويرزقنا الظفر بِهِ وَلَا تعدمون أَنْتُم مَعَ ذَلِك مَنْفَعَة من ملْء أَيْدِيكُم غَنَائِم وذخائر وَوَعدهمْ بِمَال جزيل فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا طلب وَأَقْبلُوا مَعَه فِي جَيش كثيف تَحت راية باشاهم صَالح التركماني الْمَعْرُوف بِصَالح رَئِيس إِلَى أَن اقتحموا حَضْرَة فاس بعد حروب عَظِيمَة ومعارك شَدِيدَة وفر عَنْهَا مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى منجاته وَكَانَ دُخُول السُّلْطَان أبي حسون إِلَى فاس ثَالِث صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَلما دَخلهَا فَرح بِهِ أَهلهَا فَرحا شَدِيدا وترجل هُوَ عَن فرسه وَصَارَ يعانق النَّاس كَبِيرا وصغيرا شريفا ووضيعا ويبكي على مَا دهمه وَأهل بَيته من أَمر السعديين واستبشر النَّاس بمقدمه وتيمنوا بطلعته وَقبض على كَبِير فاس يَوْمئِذٍ الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن رَاشد الشريف الإدريسي واطمأنت بِهِ الدَّار ثمَّ لم يلبث السُّلْطَان أَبُو حسون إِلَّا يَسِيرا حَتَّى كثرت شكاية النَّاس إِلَيْهِ بِالتّرْكِ وَأَنَّهُمْ مدوا أَيْديهم إِلَى الْحَرِيم وعاثوا فِي الْبِلَاد فبادر بِدفع مَا اتّفق مَعَهم عَلَيْهِ من المَال وأخرجهم عَن فاس وتخلف بهَا مِنْهُم نفر يسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 مَجِيء السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ومقتل السُّلْطَان أبي حسون رَحمَه الله لما فر السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ من وقْعَة الأتراك بفاس وصل إِلَى مراكش فاستقر بهَا وَصرف عزمه لقِتَال أبي حسون فَأخذ فِي استنفار الْقَبَائِل وانتخاب الْأَبْطَال وتعبية العساكر والأجناد فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَا اشْتَدَّ بِهِ أزره وَقَوي بِهِ عضده ثمَّ نَهَضَ بهم إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو حسون فِي رُمَاة فاس وَمَا انضاف إِلَيْهِم من جَيش الْعَرَب فَكَانَت الْهَزِيمَة على أبي حسون فَرجع إِلَى فاس وتحصن بهَا فَتقدم الشَّيْخ السَّعْدِيّ وحاصره إِلَى أَن ظفر بِهِ فِي وقْعَة كَانَت بَينهمَا بالموضع الْمَعْرُوف بِمسلمَة فَقتله وَاسْتولى على حَضْرَة فاس وَصفا لَهُ أمرهَا وَكَانَ استيلاؤه عَلَيْهَا يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة على الصَّوَاب خلاف مَا وَقع فِي الدوحة وَالله أعلم وبمقتل السُّلْطَان أبي حسون رَحمَه الله انقرضت الدولة المرينية بالمغرب وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين وَبَقِي علينا الإلماع بأواخر دولة بني زيان مُلُوك تلمسان وَكَيف كَانَ انْقِرَاض أَمرهم فلنشر إِلَى ذَلِك فَنَقُول كَانَت دولة بني زيان على مَا علمت من الِاضْطِرَاب سَائِر أَيَّام بني مرين وَكَانَ مِنْهُم فِي صدر الْمِائَة التَّاسِعَة السُّلْطَان الواثق بِاللَّه من أمثل مُلُوكهمْ وغلبهم على تلمسان فِي تِلْكَ الْمدَّة السُّلْطَان أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الحفصي فَأخذُوا بِطَاعَتِهِ ثمَّ بعد مَوته سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة اعتزوا بعض الشَّيْء إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان بن مُحَمَّد الحفصي فغزا تلمسان أَعْوَام السّبْعين وَثَمَانمِائَة مرَّتَيْنِ وَفِي الثَّانِيَة هدم أسوارها وعزم على استئصال أَهلهَا إِلَى أَن تشفع إِلَيْهِ علماؤها وصلحاؤها فَعَفَا عَنْهُم وَكَانَ الْبَاعِث لَهُ على غزوها أَولا مَا بلغه من أَن الْأَمِير مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي ثَابت استولى عَلَيْهَا فَفعل مَا فعل وصاهرهم بِبَعْض حفدته وَقَالَ صَاحب بَدَائِع السلك شاهدت بتلمسان وَبَعض أَعمالهَا تَصْرِيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الْخَطِيب باسم السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان صَاحب تونس مقدما فِي الذّكر على اسْم صَاحب تلمسان أبي عبد الله من أعقاب بني زيان لما بَينهمَا من الشَّرْط فِي ذَلِك وَبقيت حَال بني زيان متماسكة إِلَى أَن ظهر جنس الإصبنيول فِي صدر الْمِائَة الْعَاشِرَة بعد مَا تمّ لَهُ ملك الأندلس وعظمت شوكته فطمح للتغلب على ثغور المغربين الْأَدْنَى والأوسط فاستولى على بجاية سنة عشر وَتِسْعمِائَة ثمَّ على وهران سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة وَفعل بِأَهْلِهَا الأفاعيل ثمَّ سما لتملك الجزائر وشره لالتهامها وضايق الْمُسلمين فِي ثغورهم وَضعف بَنو زيان عَن مقاومته وَكَانَ الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن القَاضِي الزواوي مِمَّن لَهُ الشُّهْرَة والوجاهة الْكَبِيرَة فِي بسائط الْمغرب الْأَوْسَط وجباله وَكَانَت دولة العثامنة من التّرْك فِي هَذِه الْمدَّة قد زخر عبابهم وملكت أَكثر المسكونة وَظهر من قواد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير الدّين باشا وَأَخُوهُ عروج باشا وَكَانَا قد تَابعا الْغَزْو على بِلَاد الْكفْر برا وبحرا وأوقعا بِأَهْل دوَل الأوروبا وقائع شهيرة وَصَارَ لَهُم ذكر فِي أقطار الْبِلَاد وَتمكن ناموسهم من قُلُوب الْعباد فكاتبهم الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور وعرفهم بِمَا الْمُسلمُونَ فِيهِ من مضايقة الْعَدو الْكَافِر وَقَالَ إِن بِلَادنَا بقيت لَك أَو لأخيك أَو للذئب فَأقبل التّرْك نَحوه مُسْرِعين وَاسْتولى عروج على ثغر الجزائر بعد مَا كَاد الْعَدو يملكهُ فتخلصه مِنْهُ ثمَّ استولى على تلمسان وَغلب بني زيان على أَمرهم وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة على مَا فِي النزهة ثمَّ إِن أهل تلمسان أَنْكَرُوا سيرة التّرْك وسئموا ملكتهم وَيُقَال إِن التّرْك عسفوهم وصادروهم على أَمْوَالهم وَكَانَ عروج قد أغرى بالفقيه أبي الْعَبَّاس المستدعي لَهُ فَقتل شَهِيدا بعد الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَرَأى عروج أَن أَمر الْمغرب الْأَوْسَط لَا يصفو لَهُ مَعَ وجود الْفَقِيه الْمَذْكُور فَدس عَلَيْهِ من قَتله ثمَّ نَهَضَ عروج إِلَى بني يزناسن فَكَانَ الكرة عَلَيْهِ وَقتل هُنَالك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه عسكره وَتَفَرَّقَتْ جموعه وعادت تلمسان إِلَى بني زيان فجددوا بهَا رياستهم وأحيوا رَمق دولتهم إِلَى أَن عاود التّرْك غزوها بعد حِين وانتزعوها من يَد صَاحبهَا أبي الْعَبَّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 أَحْمد بن عبد الله من أعقاب يغمراسن بن زيان قَالَ فِي الْمرْآة مَا نَصه قَالَ الشَّيْخ الإِمَام قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي رَحمَه الله وَمن خطه نقلت قدم حسن ابْن خير الدّين التركي فاستولى على تلمسان فِي أواسط شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَأخرج مِنْهَا الْأَمِير أَحْمد ابْن الْأَمِير عبد الله ووزيره مَنْصُور بن أبي غَانِم ولحقا بدبدو مَعَ من انضاف إِلَيْهِمَا من أُمَرَاء تلمسان وكبرائها فغدر بهم عمر بن يحيى الوطاسي صَاحب دبدو وَأخذ أَمْوَالهم واعتقلهم وسرح منصورا فِي محرم من سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة اه واستمرت تلمسان فِي يَد التّرْك إِلَى أواسط صدر الْمِائَة الثَّالِثَة عشرَة فاستولى عَلَيْهَا الفرنسيس على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَاعْلَم أَنه كَانَ فِي صدر هَذِه الْمِائَة الْعَاشِرَة أُمُور عِظَام مِنْهَا ظُهُور الفرنج بالديار المغربية واستيلاؤهم على ثغورها بِمَا لم يعْهَد مثله قبل ذَلِك لَا سِيمَا البرتغال والإصبنيول حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَمِنْهَا ظُهُور دولة آل عُثْمَان مُلُوك التركمان بالديار المشرقية وَمَا أضيف لَهَا الظُّهُور الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَابْتِدَاء هَذِه الدولة وَإِن كَانَ قبل هَذَا التَّارِيخ بِنَحْوِ مِائَتي سنة لَكِن إِنَّمَا كَانَ عنفوان شبابها وفيضان عبابها فِي هَذِه الْمدَّة لَا سِيمَا فِي دولة سلطانهم الْأَعْظَم وخاقانهم الأفخم سُلَيْمَان بن سُلَيْمَان خَان فَإِنَّهُ ملك أَكثر الْمَعْمُور وَقَامَ بدعوته من الْأُمَم الْجُمْهُور وهجمت عساكره على ديار الأرنا فقاتلوهم فِي أعز بِلَادهمْ واستلبوهم من طارفهم وتلادهم وخضعت مُلُوكهمْ لعزته واستكانوا لصولته وَأَعْطوهُ يَد المقادة وآتوه من الطَّاعَة والخضوع مَا خَالف الْعَادة ثمَّ أوطأ عساكره المغربيين الْأَدْنَى والأوسط فاستولى عَلَيْهِمَا وَكَاد يتَنَاوَل الْأَقْصَى ويضيفه إِلَيْهِمَا على مَا تقف عَلَيْهِ فِي أَخْبَار السعديين إِن شَاءَ الله وَمِنْهَا ظُهُور الْأَوْلِيَاء وَأهل الصّلاح من الملامتية وأرباب الْأَحْوَال والجذب فِي بِلَاد الشرق والغرب لكنه انْفَتح بِهِ للمستورين على النِّسْبَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَأهل الدَّعْوَى بَاب متسع الْخرق متعسر الرتق فاختلط المرعى بالهبل وَادّعى الخصوصية من لَا نَاقَة لَهُ فِيهَا وَلَا جمل وصعب على جلّ النَّاس التَّمْيِيز حَتَّى بَين البهرج والإبريز لَا سِيمَا الْعَاميّ الْغمر الَّذِي لَا يفرق بَين الْحَصْبَاء والدر وَيرْحَم الله الشَّيْخ اليوسي إِذْ قَالَ فِي محاضرته مَا نَصه وَقد طرق أسماع الْقَوْم من قبل الْيَوْم كَلَام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية رَضِي الله عَنْهُم وَكَلَام أَرْبَاب الْأَحْوَال فِي كل زمَان فتعشقت النُّفُوس ذَلِك وأذعن لَهُ الْجُمْهُور وخاضوا فِي التَّشْبِيه بهم فَمَا شِئْت أَن تلقى جَاهِلا مُسْرِفًا على نَفسه لم يعرف بعد ظَاهر الشَّرِيعَة فضلا عَن أَن يعْمل فضلا عَن أَن يخلص إِلَى الْبَاطِن فضلا عَن أَن يكون صَاحب مقَام إِلَّا وجدته يصول وَيَقُول وينابذ الْمَنْقُول والمعقول وَأكْثر ذَلِك فِي أَبنَاء الْفُقَرَاء يُرِيد الْوَاحِد مِنْهُم أَن يتحلى بحلية أَبِيه ويستتبع أَتْبَاعه بِغَيْر حق وَلَا حَقِيقَة بل لمُجَرّد حطام الدُّنْيَا فَيَقُول خدام أبي وزريبة أبي وَيضْرب عَلَيْهِم المغرم كمغرم السُّلْطَان وَلَا يقبل أَن يُحِبُّوا أحدا فِي الله أَو يعرفوه أَو يقتدوا بِهِ غَيره وَإِذا رأى من خرج يطْلب دينه أَو من يدله على الله تَعَالَى يغْضب عَلَيْهِ ويتوعده بِالْهَلَاكِ فِي نَفسه وَمَاله وَقد يَقع شَيْء من المصائب بِحكم الْقَضَاء والابتلاء فيضيفه إِلَى نَفسه فَيَزْدَاد بذلك هُوَ وَأَتْبَاعه ضلالا ثمَّ يخترق لَهُم من الخرافات والأمور الْمُعْتَادَة مَا يَدعِيهِ سيرة ودينا يستهويهم بِهِ ثمَّ يضمن لَهُم الْجنَّة على مساوئ أَعْمَالهم والشفاعة يَوْم الْمَحْشَر وَيقبض على لحْمَة من ذراعه فَيَقُول للجاهل مثله أَنْت من هَذِه اللحمة فيكتفي جهال الْعَوام بذلك ويبقون فِي خدمته ولدا عَن وَالِد قائلين نَحن خدام الدَّار الْفُلَانِيَّة وَفِي زريبة فلَان فَلَا نخرج عَنْهَا وَكَذَا وجدنَا آبَاءَنَا وَهَذَا هُوَ الضلال الْمُبين وَهَؤُلَاء قطاع الْعباد عَن الله إِلَى آخر كَلَامه فقف عَلَيْهِ فِي الْفَصْل الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهَا فَإِنَّهُ نَفِيس وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَتِسْعمِائَة توفّي الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عِيسَى الماواسي البطوي الموقت الْمَشْهُور وَفِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعْدهَا توفّي الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن قَاسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 التجِيبِي الْمَعْرُوف بالزقاق فَقِيه فاس وَهُوَ صَاحب الْمَنْظُومَة اللامية فِي علم الْقَضَاء وَغَيرهَا وَفِي سنة أَربع وَتِسْعمِائَة فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الْعشْرين من صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الوانشريسي مؤلف المعيار وَغَيره من التآليف الحسان أَصله من تلمسان واستوطن مَدِينَة فاس إِلَى أَن توفّي بهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وفيهَا أَيْضا توفّي الشَّيْخ الْكَبِير أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن عبد الْحق الْحرار الْمَعْرُوف بالتباع دَفِين حومة الفحول من مراكش من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَصفه شَيْخه الْمَذْكُور بالكيمياء وَكَانَ يُقَال النظرة فِيهِ تغني أَفَاضَ الله علينا من مدده وَفِي سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة النظار أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن غَازِي العثماني المكناسي ثمَّ الفاسي وَقد تقدم خَبره مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني رحمهمَا الله وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة انحبس الْمَطَر بفاس وَالْمغْرب واضطر النَّاس إِلَى اسْتِخْرَاج السواقي من الأودية والأنهار لسقي زرعهم وثمارهم وَفِي سنة سبع وَعشْرين بعْدهَا كَانَ الغلاء والجوع الْكَبِير الَّذِي صَار تَارِيخا فِي النَّاس مُدَّة وَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين بعْدهَا كَانَ الوباء بالمغرب سنة الله فِي خلقه وَفِي هَذِه الْمدَّة أَعنِي أَعْوَام الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة على مَا فِي الدوحة توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَنْصُور السفياني دَفِين جَزِيرَة البسابس من بِلَاد أَوْلَاد جلون على مسيرَة نصف يَوْم من مصب نهر سبو فِي الْبَحْر من جِهَة الْمشرق وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّيْخ التباع وَالرَّوْضَة الَّتِي عَلَيْهَا بناها الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المجذوب يُقَال إِنَّه لما أكملها رَآهُ فِي الْمَنَام وَألبسهُ حلَّة خضراء وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة فِي ثَانِي يَوْم من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن عمر الحاجي الْمَعْرُوف بالفلاح ضجيع القَاضِي عِيَاض فِي روضته بحومة بَاب إيلان من مراكش وَهُوَ من أَصْحَاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 الشَّيْخ التباع أَيْضا وَفِي هَذِه الْمدَّة على مَا فِي الدوحة توفّي الشَّيْخ أَبُو يشو مَالك بن خدة الصبيحي من عرب صبيح كَانَ من أهل الْعلم وَالْفضل وَالدّين وَدفن على ضفة نهر سبو على نَحْو مرحلة من فاس وقبره مزارة إِلَى الْآن وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الغزواني رَضِي الله عَنهُ دَفِين حومة الْقُصُور من مراكش وَقد تقدم شَيْء من خَبره وَفِي أَعْوَام أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْكَامِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِيسَى السفياني الْمُخْتَار ثمَّ الفهدي دَفِين مكناسة الزَّيْتُون وَهُوَ شيخ جليل الْقدر شهير الذّكر رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ آمين تمّ الْجُزْء الرَّابِع ويليه الْجُزْء الْخَامِس أَوله الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السعديين من آل زَيْدَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 5 - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة السعدية الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السعديين من آل زَيْدَانَ وَذكر أوليتهم وَتَحْقِيق نسبهم اعْلَم أَن هَؤُلَاءِ السعديين كَانُوا يَقُولُونَ إِن أصل سلفهم من يَنْبع النّخل من أَرض الْحجاز وَأَنَّهُمْ أَشْرَاف من ولد مُحَمَّد النَّفس الزكية رَضِي الله عَنهُ وَإِلَيْهِ كَانُوا يرفعون نسبهم وَيَقُولُونَ فِي أول مُلُوكهمْ الْقَائِم بِأَمْر الله مثلا هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مخلوف بن زَيْدَانَ بن أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أبي مُحَمَّد بن عَرَفَة بن الْحسن بن أبي بكر بن عَليّ بن حسن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن قَاسم ابْن مُحَمَّد النَّفس الزكية ابْن عبد الله الْكَامِل بن حسن الْمثنى بن الْحسن السبط ابْن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم فهم بَنو عَم السَّادة العلويين أَشْرَاف سجلماسة يَجْتَمعُونَ مَعَهم فِي مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الْمَذْكُور فِي النّسَب قَالُوا وَالسَّبَب فِي قدوم سلفهم من الْحجاز إِلَى الْمغرب أَن أهل درعة كَانَت لَا تصلح ثمارهم وتعتريها العاهات كثيرا فَقيل لَهُم لَو أتيتم بشريف إِلَى بِلَادكُمْ كَمَا أَتَى أهل سجلماسة لصلحت ثماركم كَمَا صلحت ثمارهم وَقد كَانَ أهل سجلماسة جاؤوا بالمولى الْحسن بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم من أَرض يَنْبع فِي قصَّة ظريفة تَأتي فِي محلهَا إِن شَاءَ الله قَالُوا فَأتى أهل درعة بالمولى زَيْدَانَ بن أَحْمد مضاهاة لأهل سجلماسة فَعَادَت عَلَيْهِم بركته وَاعْلَم أَن هَذَا النّسَب الشريف المسرود آنِفا فِيهِ كَمَا قَالَ اليفرني بتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 بَين قَاسم وَمُحَمّد النَّفس الزكية فَإِنَّهُ لَا يعرف فِي أَوْلَاد النَّفس الزكية من اسْمه قَاسم وَإِنَّمَا هُوَ قَاسم بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية وَلَعَلَّه سقط عَن ذُهُول من النَّاسِخ وَقيل الصَّوَاب إِنَّه قَاسم بن حسن بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية وَاعْلَم أَيْضا أَن مَا زَعمه هَؤُلَاءِ السعديون من انتسابهم لهَذَا الْبَيْت الْكَرِيم هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الكافة وتلقاه فضلاء عصرهم بِالْقبُولِ وأثبتوه فِي تقريضاتهم ومؤلفاتهم الْمَوْضُوعَة فِي أخبارهم وَمن النَّاس من يطعن فِي ذَلِك وَنَقله بَعضهم عَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمقري صَاحب نفح الطّيب وَأَنه صحّح أَنهم من بني سعد بن بكر بن هوَازن الَّذين مِنْهُم حليمة السعدية ظئر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا النَّقْل ضَعِيف لِأَن الشَّيْخ الْمقري صرح فِي نفح الطّيب بشرف هَؤُلَاءِ السَّادة فِي غير مَوضِع وَهُوَ من آخر مَا ألف وَمِمَّنْ طعن فِي نسبهم الْمولى مُحَمَّد فتحا بن الشريف السجلماسي أول مُلُوك السَّادة العلويين صرح بذلك فِي بعض الرسائل الَّتِي كَانَت تَدور بَينه وَبَين الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ مِنْهُم قَالَ فِيهَا وَقد اعتمدنا فِي ذَلِك يَعْنِي فِي عدم شرفهم على مَا نَقله الثِّقَات المؤرخون لأخبار النَّاس من عُلَمَاء مراكش وتلمسان وفاس وَلَقَد أمعن الْكل التَّأَمُّل بِالذكر والفكر فَمَا وجدوكم إِلَّا من بني سعد بن بكر اه ويحكى شَائِعا عَن الْفَقِيه الْوَرع الْمولى أبي مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر السجلماسي وَكَانَ من أهل الصّلاح وَالدّين أَنه كَانَ ذَات يَوْم جَالِسا مَعَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فِي بعض قصوره من حَضْرَة مراكش وهما مجتمعان على خوان طَعَام فَقَالَ الْمَنْصُور للشَّيْخ أبي مُحَمَّد أَيْن اجْتَمَعنَا يَا فَقِيه يَعْنِي فِي النّسَب فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد على هَذَا الخوان ويروى فِي هَذَا المشور فأسرها الْمَنْصُور فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُ إِلَى أَن احتال عَلَيْهِ بِمَا كَانَ السَّبَب فِي إِتْلَاف مهجته فَكَانَ الْمَنْصُور بعد ذَلِك يَدْعُو الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد فيجلسه على الرخام فِي زمَان كلب الْبرد وهيجانه من غير حَائِل وَقد اتخذ الْمَنْصُور فِيمَا زَعَمُوا لبدة صوف دَاخل سراويله لَا يحس مَعهَا بالبرد فَإِذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 رَآهُ أَبُو مُحَمَّد جَالِسا مَعَه تجلد واستحيى أَن يقوم عَن السُّلْطَان ويتركه ويستمران على المذاكرة فِي مسَائِل الْعلم فعل ذَلِك بِهِ أَيَّامًا حَتَّى سكنته عِلّة الْبرد فَلم يزل أَبُو مُحَمَّد يشتكي من ذَلِك إِلَى أَن قَضَت عَلَيْهِ وَأنكر هَذَا صَاحب نشر المثاني ورده بتأخر وَفَاة ابْن طَاهِر عَن وَفَاة الْمَنْصُور بِأَكْثَرَ من ثَلَاثِينَ سنة وَجَوَاب أبي مُحَمَّد هَذَا من النَّوْع الْبَيَانِي الْمُسَمّى بتلقي المخاطر بِغَيْر مَا يترقب على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب الْفَنّ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ الْمَنْصُور لما مر من أَن السعديين يَزْعمُونَ أَن جدهم قدم من يَنْبع أَيْضا كَمَا قدم جد العلويين والعلويون يُنكرُونَ ذَلِك كل الْإِنْكَار وَيَقُولُونَ إِنَّهُم لم يجتمعوا مَعَهم فِي قبيل وَلَا دبير قَالَ اليفرني لَكِن صحّح لنا غير وَاحِد من أشياخنا أَن الشَّيْخ ابْن طَاهِر رَجَعَ عَن ذَلِك الْإِنْكَار وَأَن الْمَنْصُور أطلعه بعد ذَلِك على ظهير فِيهِ خطّ الإِمَام ابْن عرفه وَشَيْخه ابْن عبد السَّلَام بِثُبُوت نسبهم فاطمأنت نفس ابْن طَاهِر لذَلِك فَكَانَ يُصَرح بِصِحَّة نسبهم بعد ذَلِك ويزجر من يطعن فِيهِ اه قلت وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب إِذْ مُسْتَند من يطعن فِي نسبهم عدم وضوحه وَلَا يلْزم من عدم وضوحه عدم ثُبُوته فِي نفس الْأَمر وَإِلَّا فيبعد أَن يكون هَؤُلَاءِ المنكرون قد اطلعوا على أَحْوَال عَمُود نسبهم وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْآبَاء والأجداد من لدن مبدئه إِلَى منتهاه مَعَ طول الْمدَّة وتناسخ الأجيال فالتنقير عَن ذَلِك عسير جدا وَلذَا وكل الشَّارِع أَمر الْأَنْسَاب إِلَى أَهلهَا وجعلهم مُصدقين فِيهَا إِذْ لَا تعرف غَالِبا إِلَّا من قبلهم فَهَؤُلَاءِ السَّادة الزيدانيون لَو فَرضنَا أَنهم مَا كَانُوا ملوكا وَلَا بلغُوا من الشُّهْرَة إِلَى حَيْثُ بلغُوا ثمَّ ادعوا هَذَا النّسَب الْكَرِيم فَلَا سَبِيل لأحد أَن يدفعهم عَنهُ إِلَّا بقاطع وَلَا قَاطع كَمَا علمت نعم الْحِكَايَة المسوقة فِي سَبَب دُخُولهمْ إِلَى الْمغرب يظْهر عَلَيْهَا أثر الصَّنْعَة وَالله أعلم بحقائق الْأُمُور وَأما تسميتهم بالسعديين فقد قَالَ اليفرني إِن هَذِه النِّسْبَة لم تكن لَهُم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 فِي الْقَدِيم وَلَا وَقعت بهَا تحليتهم فِي ظهائرهم وَلَا فِي سجلاتهم وصدور رسائلهم بل كَانُوا لَا يقبلُونَ ذَلِك وَلَا يجترئ أحد على مواجهتهم بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يصفهم بذلك من يقْدَح فِي نسبهم ويطعن فِي شرفهم وَيَزْعُم أَنهم من بني سعد بن بكر كَمَا قُلْنَا وَكثير من الْعَامَّة وإخوانهم من الطّلبَة يَعْتَقِدُونَ أَنهم إِنَّمَا سموا بذلك لِأَن النَّاس سعدوا بهم وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا معنى لَهُ اه قلت وَإِنَّمَا نصفهم نَحن بذلك لأَنهم اشتهروا عِنْد الْخَاصَّة والعامة بِهِ فَصَارَ كَالْعلمِ الصّرْف المرتجل مَعَ أَنه لَا مَحْذُور بعد تَحْقِيق النّسَب وَثُبُوت الشّرف وَالله تَعَالَى يلهمنا الصَّوَاب بمنه وفضله الْخَبَر عَن دولة الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد الْقَائِم بِأَمْر الله وبيعته وَالسَّبَب فِيهَا قَالَ ابْن القَاضِي درة السلوك لم يزل أسلاف السعديين مقيمين بدرعة إِلَى أَن نَشأ مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْقَائِم بِأَمْر الله فَنَشَأَ على عفاف وَصَلَاح وَحج الْبَيْت الْحَرَام وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَلَقي جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام والصلحاء الْعِظَام فِي وفادته على الْحَرَمَيْنِ الشريفين أَخْبرنِي بعض الْفُضَلَاء أَنه لَقِي رجلا صَالحا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَشَارَ لَهُ بِمَا يكون مِنْهُ وَمن ولديه وَكَانَ قد رأى رُؤْيا وَهِي أَن أسدين خرجا من إحليله فتبعهما النَّاس إِلَى أَن دخلا صومعة ووقف هُوَ ببابها فعبرت لَهُ رُؤْيَاهُ بِأَنَّهُ سَيكون لِوَلَدَيْهِ شَأْن وإنهما يملكَانِ النَّاس ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمغرب وَهُوَ معلن بالدعوة فَيَقُول فِي كل محفل إِن ولديه سيملكان الْمغرب وسيكون لَهما شَأْن من غير تردد مِنْهُ ثِقَة بِخَبَر الرجل الصَّالح وبرؤياه الْمَذْكُورَة فَمَا زَالَ إِلَى أَن قَامَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة اه وَقَالَ صَاحب زهرَة الشماريخ مَا صورته إِن سَبَب قيام أبي عبد الله الْقَائِم أَن أهل السوس أحَاط بهم الْعَدو الْكَافِر وَنزل بجوانبهم من كل جِهَة حَتَّى أظلم الجو واستحكمت شَوْكَة البرتغال وَبَقِي الْمُسلمُونَ فِي أَمر مريج لعدم أَمِير تَجْتَمِع عَلَيْهِ كلمة الْإِسْلَام لِأَن بني وطاس فشلت ريحهم يَوْمئِذٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 فِي بِلَاد السوس وَإِنَّمَا كَانَ لَهُم الْملك فِي حواضر الْمغرب وَلم يكن لَهُم مِنْهُ بالسوس إِلَّا الِاسْم مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ من قتال الْعَدو بطنجة وآصيلا وَحجر بادس وَغَيرهَا من ثغور بِلَاد الهبط فَلَمَّا رأى قبائل السوس مَا دهمهم من تفاقم الْأَحْوَال وَكَثْرَة الْأَهْوَال وطمع الْعَدو فِي بِلَادهمْ ذَهَبُوا إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الأقاوي نِسْبَة إِلَى آقة من بِلَاد السوس فَذكرُوا لَهُ مَا هم فِيهِ من افْتِرَاق الْكَلِمَة وانتشار الْجَمَاعَة وكلب الْعَدو على مباكرتهم بِالْقِتَالِ ومراوحتهم وطلبوا مِنْهُ أَن يعقدوا لَهُ الْبيعَة وتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ إِن رجلا من الْأَشْرَاف بتاجمدارت من درعة يَقُول إِنَّه سَيكون لَهُ ولولديه شَأْن فَلَو بعثتم إِلَيْهِ وبايعتموه كَانَ أنسب بكم وأليق بمقصودكم فبعثوا إِلَيْهِ وَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَقَالَ اليفرني رَأَيْت بِخَط الْفَقِيه الْعَلامَة أبي زيد عبد الرَّحْمَن ابْن شيخ الْجَمَاعَة أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي مَا صورته ذكر لنا الْوَالِد عَن سَيِّدي أَحْمد بن عَليّ السُّوسِي البوسعيدي أَن ابْتِدَاء دولة الشرفاء بالسوس أَن بعض السَّادة وَهُوَ سَيِّدي بَرَكَات توَسط فِي فدَاء بعض الْأُسَارَى وَأَرَادَ أَن يكون مَعَ النَّصَارَى اتِّفَاق على أَن لَا يحبسوا أَسِيرًا فَكَلَّمَهُمْ فِي ذَلِك فَقَالُوا لَهُ حَتَّى يكون لكم أَمِير فَإِن ملككم قد ذهب واضمحل قَالَ ثمَّ إِن بعض أهل السوس سَارُوا إِلَى قَبيلَة جسيمة يكتالون الطَّعَام فَأَخَذتهم جسيمة وأكلوا مَتَاعهمْ وبضاعتهم فَذَهَبُوا إِلَى شيخهم وَكَانَ ذَا حزم وتدبير فَرد عَلَيْهِم كل مَا ضَاعَ لَهُم حَتَّى لم يبْق لَهُم شَيْء فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ قَالُوا إِن هَذَا الشَّيْخ الرئيس هُوَ الَّذِي يَلِيق أَن نُبَايِعهُ فَاجْتمعُوا وأتوه وطلبوا مِنْهُ أَن يرأسهم فَامْتنعَ واحتاط لدينِهِ وَاعْتذر بتشويش هَذَا الْأَمر للدّين ودلهم على رجل شرِيف كَانَ مُؤذنًا بدرعة فَقَالَ لَهُم إِن كَانَ وَلَا بُد فاقصدوا الشريف الْفُلَانِيّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 فَإِنَّهُ يذكر أَن ولديه يملكَانِ الْمغرب فقصدوه وَحَمَلُوهُ إِلَى بِلَادهمْ وَبَايَعُوهُ وفرضوا لَهُ من الْمُؤْنَة مَا يَكْفِيهِ وَأَوْلَاده وَبَقِي هُنَالك فِي نحر الْعَدو ويروى أَنه لما بَايعه أهل السوس وَرَأى قلَّة مَا بِيَدِهِ مَعَ أَن الْملك لَا يقوم إِلَّا بِالْمَالِ احتال بِأَن أَمر أهل السوس أَن يأتوه ببيضة لكل كانون فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك آلَاف من الْبيض لَا تحصى لِأَن النَّاس استهونوا أَمر الْبَيْضَة فَلَمَّا اجْتمع عِنْده الْبيض أَمر أَن كل من أَتَى ببيضة يَأْتِي بدلهَا بدرهم فَفَعَلُوا فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك مَال وافر فَأصْلح بِهِ شَأْنه وقوى بِهِ جَيْشه وَكَانَت تِلْكَ أول نائبة فرضت فِي دولة السعديين وَالله أعلم وَقَالَ ابْن القَاضِي إِن الْأَمِير أَبَا عبد الله الْقَائِم لما اجْتمع بالشيخ ابْن مبارك بِبَلَدِهِ آفَة وَذَلِكَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة على مَا مر فاوضه فِي شَأْنه ثمَّ عَاد إِلَى مقره من درعة ثمَّ فِي سنة سِتّ عشرَة بعْدهَا بعث إِلَيْهِ فُقَهَاء الصامدة وشيوخ الْقَبَائِل وَدعوهُ إِلَى تَوليته عَلَيْهِم وَتَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ فلبى دعوتهم وَجَاء إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا تيدسي قرب تارودانت فَبَايعهُ النَّاس بهَا وَأَصْبحُوا مَعَه بقلوب متفقة وَأَهْوَاء على الْجِهَاد مجتمعة اه وَقد سَاق منويل أولية هَذِه الدولة مساقا غَرِيبا وَلَا يَخْلُو عَن فَائِدَة فلنذكر مِنْهُ مَا يقرب إِلَى الصِّحَّة وَيكون كالشرح لما مضى أَو يَأْتِي من أَخْبَار هَذِه الدولة قَالَ لما كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الوطاسي يَعْنِي البرتغالي أَمِيرا بفاس ظهر فِي درعة رجل شرِيف يَعْنِي أَبَا عبد الله مُحَمَّدًا الْقَائِم بِأَمْر الله قَالَ وَكَانَ هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الشريف من قراء الْقُرْآن وَمن أهل الْعلم وَالدّين والفقر والخمول وَلم يكن من بَيت الرياسة وَكَانَ لَهُ اطلَاع على تواريخ قطره وعوائد جيله وأخلاقهم وطبائعهم وَرَأى مَا وصل إِلَيْهِ ملك الْمغرب من الانحطاط والضعف وتيقن أَنه لَا يصعب عَلَيْهِ تنَاوله فأعمل فِي ذَلِك فكره ومكره وَصَارَ يحض النَّاس على الْقيام بِأُمُور دينهم والامتعاض لَهَا وَكَانَ قد بعث ثَلَاثَة من أَوْلَاده وهم عبد الْكَبِير وَأحمد وَمُحَمّد إِلَى الْحجاز بِقصد الْحَج وَكَانَت لَهُم فصاحة ورجاحة وَمَعْرِفَة بإدارة الْكَلَام فَظهر لَهُم ناموس فِي تِلْكَ الْبِلَاد وأحبهم النَّاس لَا سِيمَا أَحْمد وَمُحَمّد وَلما رجعا من مَكَّة أَقَامَا بفاس وَهِي يَوْمئِذٍ دَار الْملك وترتب أَحْمد فِي مجْلِس بالقرويين لتدريس الْعلم فاكتسب بذلك جاها وتقرب مُحَمَّد إِلَى السُّلْطَان حَتَّى صَار مؤدبا لأولاده وبقيا على ذَلِك مُدَّة وهما فِي ذَلِك كُله يتحببان إِلَى النَّاس ويسعيان فِي مَذَاهِب الشُّهْرَة والبرتغال فِي أثْنَاء ذَلِك ملح على الثغور واستلابها من أَهلهَا وَلم تكن تقوم للْمُسلمين مَعَه راية فَدَعَا ذَلِك الْأَخَوَيْنِ أَحْمد ومحمدا إِلَى أَن ندبا السُّلْطَان وَهُوَ أَبُو عبد الله البرتغالي إِلَى المناداة فِي النَّاس بِالْجِهَادِ إِظْهَارًا للنصح وهما يسران حسوا فِي ارتغاء وقصدهما تَفْرِقَة الْكَلِمَة على السُّلْطَان لَا غير فاغتر السُّلْطَان بنصحهما وَقَالَ لَهما لَا أحد أولى مِنْكُمَا بِالْقيامِ بِهَذِهِ الْوَظِيفَة فأجاباه إِلَى ذَلِك عَن توفر دَاعِيَة وَكَمَال رَغْبَة فأرسلهما يناديان ويستنفران النَّاس فِي نواحي الْمغرب إِلَى الْجِهَاد ويحضان النَّاس عَلَيْهِ ويخطبان بذلك فِي المحافل ويعظان وتتبعا الحواضر والبوادي وتقريا الْأَحْيَاء والمداشر والقرى إِلَى أَن وصلا إِلَى درعة حَيْثُ أَبوهُمَا وأخوهما عبد الْكَبِير فاجتمعا بهما وذاكراهما فِي أَمرهمَا وأنهما قد أشرفا على المُرَاد وكادا يلجان الْملك من بَابه لِأَن أهل تِلْكَ الْبِلَاد كَانُوا سَامِعين لَهُم من قبل الْيَوْم فَكيف بهم الْيَوْم فَحِينَئِذٍ أَخذ الْأَب وَأَوْلَاده فِي نشر معايب الدولة للعامة ويقررون ذَلِك بفصاحتهم ووجاهتهم وَمَا أوتوه من الْقبُول وعضدهم على ذَلِك شُيُوخ الْبَلَد وتبعهم النَّاس واجتمعوا عَلَيْهِم من كل جِهَة وَصَارَ حَالهم ينموا شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن استبدوا على السُّلْطَان وَلم يرجِعوا إِلَيْهِ بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ السَّبَب فِي قيام الشرفاء الزيدانيين واستبدادهم بِملك الْمغرب أَن الْحَرْب نشبت بَين النَّصَارَى وَأهل السوس ودامت وَكَانَ بَنو وطاس يمدون أهل السوس بِالْمَالِ وَالْعدَد فاتفق أَن خرج الشريفان مُحَمَّد الشَّيْخ وَأَخُوهُ أَحْمد الْأَعْرَج للْجِهَاد مَعَ أهل السوس فَظهر مكانهما فِي الْجِهَاد فَلَمَّا وَفْدًا على الوطاسي تلقاهما بالرحب وَأَقْبل عَلَيْهِمَا لأجل قيامهما بِالْجِهَادِ وأعطاهما عدَّة وخيولا كَثِيرَة فَرَجَعَا إِلَى جهادهما ثمَّ عادا إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى فَأَعْطَاهُمَا مثل ذَلِك وَكَانَت لَهما وقائع فِي النَّصَارَى ونكاية وَظُهُور وصارا يكتبان إِلَى الْقَبَائِل فيساعدونهما على ذَلِك حَتَّى اجْتمعت عَلَيْهِم جموع عديدة فَحِينَئِذٍ خلعا طَاعَة الوطاسي ودعوا لأنفسهما اه قَالَ منويل وَكَانَ أَكثر شهرة أَمرهم بالسوس الْأَقْصَى ودرعة وأعمالهما وصاروا يرفعون إِلَيْهِم زكواتهم وأعشارهم ثمَّ بايعوهم ونهض هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف إِلَى تارودانت فاستولوا عَلَيْهَا وَحَصَّنُوهَا ثمَّ زحفوا إِلَى آكادير لِحَرْب البرتغال فقاتلوه مُدَّة وَلم يفتح لَهُم وَكَانُوا يشيعون أَنهم لَا قصد لَهُم إِلَّا فِي الْجِهَاد ومحاربة عَدو الدّين وَمن هُوَ سلم لَهُ من الْمُسلمين إِذْ لم يتأت لَهُم إِذْ ذَاك التَّصْرِيح بخلع السُّلْطَان وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة تجاوزوا جبل درن إِلَى بِلَاد حاحة والشياظمة ثمَّ دخلُوا بسيطة عَبدة وَكَانَ بآسفي رجل تنصر اسْمه يحيى بن تافوت احتمى بالبرتغال من السُّلْطَان وَكَانَ مَعْرُوفا بالشجاعة واتصل خَبره بطاغية البرتغال منويل فولاه على النَّصَارَى وعَلى أَتْبَاعه من الْمُسلمين تأليفا لَهُ وَلما زحف الْأَشْرَاف إِلَى بِلَاد عَبدة كَانَ بَينهم وَبَين يحيى الْمَذْكُور ونصاراه معركتان شديدتان كَانَ الظُّهُور فيهمَا ليحيى لَكِن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج تدارك أمره فَوْرًا وَجمع عسكرا آخر وخطبهم ووعظهم وزحف إِلَى يحيى الْمَذْكُور ففضه وفض نصاراه إِلَى أَن انجحروا بآسفي وأغلقوه عَلَيْهِم وأتيح لِأَحْمَد عَلَيْهِم مَا لم يتَقَدَّم لغيره فيهم فبذلك تأتى لَهُ أَن يتَنَاوَل ملك الْمغرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وَلما اتَّصل خبر هَذَا الظُّهُور لَهُ بالسلطان الوطاسي لم يُعجبهُ ذَلِك وَظهر لَهُ أَن مَا كَانَ أَحْمد وَأَخُوهُ يحاولانه من أَمر الْجِهَاد لم يكن ظَاهره كباطنه وحقق لَهُ ذَلِك مَا فَعَلُوهُ من تحصين تارودانت مَعَ مَا كَانَ لأبيهم من نُفُوذ الْكَلِمَة بالسوس وَكَانَ فِي هَذَا التَّارِيخ بمراكش وأعمالها عَامل اسْمه نَاصِر بوشتنوف وَكَانَ مستبدا على الوطاسي ويبذل لَهُ شَيْئا تافها يتقيه بِهِ وَلما مر بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَاف فِي أول أَمرهم داعين إِلَى الْجِهَاد أحسن إِلَيْهِم غَايَة وَلما أوقعوا وقْعَة آسفي أبرموا أَمرهم مَعَ نَاصِر أبي شتنوف وأظهروا لَهُ الْمحبَّة والموالاة وطلبوا مِنْهُ أَن يظاهرهم على جِهَاد الْعَدو وَأَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة وجندا وَاحِدًا عَلَيْهِ فأسعفهم وَقدمُوا مراكش فَدَخَلُوهَا مرّة ثَانِيَة وَأحسن إِلَيْهِم وَبعد أَيَّام خَرجُوا بِهِ للصَّيْد فَسَموهُ فِي خبز صَغِير يُسمى القريشلات فَهَلَك للحين وَصفا للأشراف مراكش وأعمالها إِذا كَانَ أَهلهَا قد أحبوهم وشرهوا إِلَيْهِم وَلما تمّ لَهُم أَمر درعة والسوس ومراكش تسمى أَحْمد باسم الْأَمِير واستخلف أَخَاهُ مُحَمَّدًا الشَّيْخ وَلما اتَّصل الْخَبَر بالوطاسي وَأَنَّهُمْ استولوا على مراكش أقلقه ذَلِك وَمن مكر أَحْمد أَنه بعث إِلَيْهِ يَقُول مَا أَنا إِلَّا وَاحِد من أعمالك وَمَا كَانَ يُعْطِيهِ أهل هَذِه الْبِلَاد أبذله لَك مضاعفا وَمَعَ ذَلِك لم يطمئن إِلَيْهِ ثمَّ هلك الوطاسي وَولي مَكَانَهُ ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد وانقسمت مملكة الْمغرب فَصَارَت فاس للوطاسي ومراكش وأعمالها لأبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وتارودانت والسوس ودرعة لمُحَمد الشَّيْخ وَأما عبد الْكَبِير فَإِنَّهُ كَانَ اسْتشْهد قبل هَذَا فِي حَرْب البرتغال قرب آسفي وَلما رأى أَبُو الْعَبَّاس الوطاسي استفحال أَمر الْأَشْرَاف وَأَنَّهُمْ أَمْسكُوا عَنهُ مَا وعدوا بِأَدَائِهِ لِأَبِيهِ عزم على حربهم فَجمع عسكرا عَظِيما وزحف إِلَى مراكش فتحصن أَحْمد الْأَعْرَج بهَا وَقدم عَلَيْهِ أَخُوهُ فَظَاهره على عدوه وَفِي أثْنَاء حصاره الوطاسي لمراكش اتَّصل بِهِ الْخَبَر بِأَن أهل فاس قد قَامُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوا بعض إخْوَته فَرجع إِلَى فاس وَقبض على أَخِيه الثائر عَلَيْهِ ثمَّ كرّ إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 مراكش بعسكر أعظم من الأول وَفِي هَذِه الْمرة برز إِلَيْهِ الْأَشْرَاف خَارج الْبَلَد ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ فَكَانَ اللِّقَاء على أبي عقبَة من تادلا وَوَقعت بَينهم حَرْب هائلة لِأَن الوطاسيين كَانُوا يرَوْنَ أَن هَذِه الْحَرْب هِيَ الفيصل بَينهم وَبَين عدوهم والأشراف كَذَلِك وَحضر هَذَا الْحَرْب أَبُو عبد الله ابْن الْأَحْمَر سُلْطَان الأندلس المخلوع وأبلى بلَاء حسنا حَتَّى قتل وَكَانَ الظُّهُور للأشراف وَرجع الوطاسي مفلولا إِلَى فاس وَترك محلته بِمَا فِيهَا من مدافع وَغَيرهَا بيد عدوه وَبعد هَذِه الْوَقْعَة استولى الْأَشْرَاف على تافيلالت وملكوا آكادير وآسفي وآزمور لِأَن البرتغال كَانُوا قد تخلوا عَنْهَا ثمَّ عَن قريب حدث بَين الْأَخَوَيْنِ النفرة وحاول رجال دولتهما الْوِفَاق بَينهمَا فَلم يتَّفقَا وَكَانَت الكرة على أَحْمد وفر ابْنه زَيْدَانَ الَّذِي كَانَ عضد أَبِيه فِي الحروب إِلَى تافيلالت فاستولى عَلَيْهَا واقتطعها عَن عَمه مُحَمَّد الشَّيْخ ثمَّ زحف الشَّيْخ إِلَى فاس فحاصرها إِلَى أَن قبض على الوطاسيين وغربهم إِلَى درعة اه كَلَام منويل ثمَّ نرْجِع إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن هَذِه الدولة حَسْبَمَا عِنْد اليفرني وَغَيره أَخْبَار الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم فِي الْجِهَاد وَمَا هيأ الله لَهُ من النَّصْر فِيهِ لما استتب أَمر الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم وَاجْتمعت كلمة الْقَبَائِل السوسية عَلَيْهِ ندب النَّاس إِلَى مقارعة البرتغال وجهاده ونفيه عَن ثغور الْمغرب وبلاده وَكَانَت مَعَه يَوْمئِذٍ جموع حافلة من الْمُسلمين فصمدوا مَعَه إِلَى النَّصَارَى وناوشوهم الْحَرْب فأتاح الله للأمير أبي عبد الله الْفَتْح والنصر ونثر أثلاء الْكفَّار بمخالب الظفر وَأخرج حَيَّة الغي من جحرها وَأعَاد كلمة الْإِسْلَام إِلَى مقرها فَلَمَّا رأى الْمُسلمُونَ ذَلِك تيمنوا بطلعته وتفاءلوا بطائره الميمون ونقيبته وَزَادَهُمْ ذَلِك محبَّة فِي جَانِبه وتعظيما فِي مكانته وَلما فصل من جهاده عَاد إِلَى مَحَله الْمَذْكُور من تيدسي فَوَقع بَينه وَبَين بعض الرؤساء هُنَالك منافرة أدَّت إِلَى ارتحاله عَنْهَا وَعوده إِلَى درعة فَلم يزل مُقيما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 بهَا إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة فَرجع إِلَى مَكَانَهُ من تيدسي واطمأنت بِهِ دارها وأزال الله عَنهُ مَا كَانَ أزعجه عَنْهَا وَالله غَالب على أمره عقد الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج رَحِمهم الله تَعَالَى قد تقدم لنا مَا كَانَ من أَمر الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْأَمِير أَبُو عبد الله الْقَائِم فِي شَأْن ولديه وأنهما يملكَانِ الْمغرب وَفِي معنى ذَلِك أَيْضا مَا يحْكى شَائِعا أَن وَلَدي أبي عبد الله الْمَذْكُور وهما أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَأَبُو عبد الله الشَّيْخ كَانَا يقرآن فِي مكتب وهما صبيان فَدخل ديك فَوَثَبَ على رَأس كل مِنْهُمَا وصرخ فَأول ذَلِك مؤدبهما بِأَنَّهُمَا سَيكون لَهما شَأْن فَمن أجل هَذَا وَنَحْوه كَانَ والدهما يعلن بِأَن أَمر الْمغرب صائر إِلَيْهِمَا فَلَمَّا قضى الله ببيعته واجتماع النَّاس عَلَيْهِ واطمأنت بِهِ فِي الْبِلَاد السوسية الدَّار وطاب لَهُ بهَا الْمقَام والقرار ندب النَّاس إِلَى بيعَة أكبر ولديه وَهُوَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَعْرُوف بالأعرج فَبَايعُوهُ وَكَانَ ذَلِك مبدأ ظُهُور أمره على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى انْتِقَال الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم إِلَى أفغال من بِلَاد حاحة ووفاته بهَا رَحمَه الله ثمَّ إِن أَبَا عبد الله الْقَائِم وَفد عَلَيْهِ أَشْيَاخ حاحة والشياظمة لما بَلغهُمْ من حسن سيرته ونصرة لوائه فشكوا إِلَيْهِ أَمر البرتغال ببلادهم وَشدَّة شوكته واستطالته عَلَيْهِم وطلبوا مِنْهُ أَن ينْتَقل إِلَيْهِم هُوَ وَولده ولي الْعَهْد الْمَذْكُور فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض مَعَهم هُوَ وَابْنه أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بآفغال من بِلَاد حاحة وَترك وَلَده الْأَصْغَر أَبَا عبد الله الشَّيْخ بالسوس يرتب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 الْأُمُور ويمهد المملكة ويباكر الْعَدو بِالْقِتَالِ ويراوحه وَاسْتمرّ الْأَمِير أَبُو عبد الله الْقَائِم بمكانه من آفغال مسموع الْكَلِمَة متبوع الْعقب إِلَى أَن توفّي بِهِ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَدفن هُنَالك بِإِزَاءِ ضريح الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن نقل إِلَى مراكش بِنَقْل الشَّيْخ الْمَذْكُور على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْأَعْرَج ابْن الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم رَحمَه الله كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج فِيمَا حَقَّقَهُ ابْن القَاضِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وبويع بِولَايَة الْعَهْد من أَبِيه سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة كَمَا مر وَلما توفّي أَبوهُ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع النَّاس على بيعَته من سَائِر الْآفَاق وآتوه طاعتهم عَن رضَا مِنْهُم وإصفاق فاستقام أمره وَصرف عزمه إِلَى تمهيد الْبِلَاد واقتناء الأجناد وتعبية الجيوش إِلَى الثغور وَشن الغارات على الْعَدو فِي الآصال والبكور فِي أحواز تيلمست وآسفي وَغَيرهمَا وَكَانَ النَّصَارَى قد خيموا بشاطئ الْبَحْر وعاثوا فِي تِلْكَ السواحل فأجلاهم عَنْهَا وطهر تِلْكَ الْبِقَاع من رجسهم وأراح أَهلهَا من شؤمهم ونحسهم وَفِي ذَلِك يَقُول الْبِقَاع مخلوف بن صَالح يمدحه (فَللَّه هَذَا الْهَاشِمِي وفضله ... فلولاه صال الْكفْر أعظم صولة) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 دُخُول السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا لما كَانَ من إِيقَاع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بنصارى السوس وانتصاره عَلَيْهِم مَا ذَكرْنَاهُ بعد صيته وانتشر فِي الْبِلَاد ذكره وأهرع النَّاس إِلَيْهِ من كل جَانب وَدخلت فِي طَاعَته سَائِر الْبِلَاد السوسية فَعِنْدَ ذَلِك كَاتبه أُمَرَاء هنتاتة مُلُوك مراكش يخطبون أمره ويرومون الدُّخُول فِي طَاعَته فَأجَاب داعيهم وانتقل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ من مدفنه بآفغال إِلَى مراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا فِي أَخْبَار عَمْرو السياف أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ هَذَا وَأَنه لما توفّي الشَّيْخ الْمَذْكُور جعل جثته فِي تَابُوت وَصَارَ يستنصر بِهِ فِي حروبه مُدَّة من عشْرين سنة أَو نَحْوهَا ثمَّ دفن بعد ذَلِك بآفغال وَتقدم لنا أَن الْأَمِير أَبَا عبد الله الْقَائِم لما توفّي دَفنه ابْنه أَبُو الْعَبَّاس بِإِزَاءِ هَذَا الشَّيْخ ثمَّ لما ملك أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور مراكش نقل الشَّيْخ الْجُزُولِيّ إِلَيْهَا وَنقل أَبَاهُ مَعَه فدفنه بِقُرْبِهِ أَيْضا وَاخْتلف فِي سَبَب ذَلِك فَقيل إِن السُّلْطَان الْمَذْكُور خَافَ أَن يثور عَلَيْهِ أحد بِتِلْكَ الْبِلَاد فيستخرج الشَّيْخ من ملحده وينتصر عَلَيْهِ بِهِ فنقله إِلَى مراكش ليأمن من ذَلِك وَقيل إِن الْحَامِل لَهُ على نَقله أَنه ذكر لَهُ أَن تَحْتَهُ كنز فتعلل للنبش عَنهُ بِأَنَّهُ قصد نَقله إِلَى الحضرة تبركا بِهِ وَالله أعلم وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 مَجِيء السُّلْطَان أبي عبد الله الوطاسي إِلَى مراكش وحصاره للسُّلْطَان الْأَعْرَج بهَا ثمَّ إقلاعه عَنْهَا لما استولى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْأَعْرَج على مراكش وَصفا لَهُ أمرهَا اتَّصل خَبره بِصَاحِب فاس أبي عبد الله الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي فَأقبل فِي جموع عديدة مَعَ وزيره ابْن عَمه المسعود بن النَّاصِر وَيُقَال مَعَ أَخِيه النَّاصِر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس مَا لَا قبل لَهُ بِهِ تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة والمقاتلة وزحف الوطاسي إِلَى الحضرة فنصب الأنفاض عَلَيْهَا ووالى الرَّمْي عَلَيْهَا أَيَّامًا وَاشْتَدَّ الْأَمر على النَّاس فَكَانَ من ذهابهم إِلَى الشَّيْخ الغزواني وَخُرُوجه إِلَى بَاب الْخَمِيس وَقَوله عِنْد إِصَابَة الرصاصة لَهُ أَنَّهَا خَاتِمَة حربهم مَا قدمْنَاهُ فِي أَخْبَار الوطاسيين مُسْتَوفى ثمَّ كَانَ اللِّقَاء بعد ذَلِك بَين الْفَرِيقَيْنِ إِنَّمَا يكون فِي تادلا وأعمالها على مَا مر وَالله أعلم خبر آسفي والثغور رَأَيْت فِي تواريخ الفرنج أَن البرتغال خَرجُوا من آسفي سنة ألف وَخَمْسمِائة وَثَلَاثِينَ مسيحية وَهَذَا التَّارِيخ يُوَافقهُ من سني الْهِجْرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَهِي وسط دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَزعم هَذَا المؤرخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 أَنهم خَرجُوا مِنْهَا من قبل أنفسهم ونقلوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من عدَّة وأثاث إِلَى الجديدة بَعْدَمَا خربوها وأفسدوها وأوقدوا فِيهَا النَّار قَالَ وَبقيت اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهِي مخربة إِلَى أَن أصلحها السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ يَعْنِي السَّعْدِيّ الْآتِي ذكره وَفِي النزهة مَا يقرب من هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ بعد ذكر إِيقَاع السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس بنصارى السواحل مَا نَصه وَيُقَال إِن النَّصَارَى لما رَأَوْا مَا فعل بِمن كَانَ مِنْهُم بالسوس من الْقَتْل والسبي أخلوا ثغر آزمور ورباط آسفي وآصيلا من غير قتال ثمَّ نقل هَذَا الْخَبَر فِي مَحل آخر عَن ابْن القَاضِي مَنْسُوبا إِلَى أبي عبد الله الشَّيْخ وَسَيَأْتِي ذكره فِي مَحَله وأظن أَن الإخلاء كَانَ متكررا وَالله أعلم وعَلى كل حَال فَذكر آصيلا هُنَا غير مُنَاسِب إِذْ هِيَ يَوْمئِذٍ فِي جِهَة الوطاسيين وتخومهم فَمَا بَال نصاراها يخرجُون فِرَارًا مِنْهَا خوفًا من السعديين وَلَيْسوا مجاورين لَهُم وَلَا متوقعين هجومهم عَلَيْهِم ثمَّ كَانَ بعد هَذَا بَين أبي الْعَبَّاس السَّعْدِيّ وَأبي الْعَبَّاس الوطاسي من الْحَرْب وَالسّلم مَا تقدم بَيَانه كوقعة آنماي ووقعة أبي عقبَة وَغَيرهمَا مِمَّا لَا فَائِدَة فِي إِعَادَته حُدُوث النفرة بَين الْأَخَوَيْنِ السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج ووزيره أبي عبد الله الشَّيْخ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس رَحمَه الله من الشهامة والصرامة واستفحال الْأَمر بِالْمحل الَّذِي وصفناه قبل وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو عبد الله الشَّيْخ أَصْغَر سنا مِنْهُ وَكَانَ تَحت طَاعَته وَاقِفًا عِنْد إِشَارَته وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس يستشيره فِي أُمُوره ويفاوضه فِي مهماته ويستعين بنجدته فِي الزحوف والمعارك ويستضيء بِرَأْيهِ فِي الْحَوَادِث الحوالك وَكَانَ الشَّيْخ ثاقب الذِّهْن نَافِذ البصيرة مُصِيب الرَّأْي حازما شهما فَكَانَت كلمتهما وَاحِدَة وَأَمرهمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 جَمِيعًا إِلَى أَن دخل الوشاة بَينهمَا فأفسدوا قلوبهما وأفضى الْحَال إِلَى المصافة والمقاتلة وانقسم الْجند حزبين وانصرفت كل طَائِفَة إِلَى متبوعها وَصَاحب أمرهَا وتقاتلا مُدَّة وَكَانَت جلّ الْقَبَائِل السوسية صاغية إِلَى الشَّيْخ لما كَانَ نَشأ بَين أظهرهم وسبروه من نجابته وكفايته مُنْذُ تَركه أَبوهُ عِنْدهم عِنْد انْتِقَاله إِلَى آفغال حَسْبَمَا مر فاستفحل أمره وَغلب على أَخِيه أبي الْعَبَّاس فَقبض عَلَيْهِ وَاسْتولى على مَا بِيَدِهِ وَاجْتمعت كلمة أهل السوس عَلَيْهِ ثمَّ أودع أَخَاهُ وَأَوْلَاده السجْن ووسع عَلَيْهِم فِي الجرايات والنفقات وَأصْبح ملكا مُسْتقِلّا بعد أَن كَانَ وزيرا وَكَانَ ذَلِك سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَفِي نشر المثاني أَن قبض الشَّيْخ على أَخِيه أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج كَانَ سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَالْأول أصح وَلم يزل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس وَأَوْلَاده فِي حكم الثقاف إِلَى أَن قتل يَوْم مقتل أَخِيه الشَّيْخ بعد ثَمَان عشرَة سنة أَو نَحْوهَا حَسْبَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله وَكَانَت دولته من يَوْم بُويِعَ إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ أَخُوهُ ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَكَانَ من حجابه مُحَمَّد بن عَليّ الأنكراطي اليملالي وَمُحَمّد بن أبي زيد المنزاري وَمن كِتَابه سعيد بن عَليّ الحامدي رَحِمهم الله أَمر زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس وَمَا كَانَ مِنْهُ قَالَ صَاحب درة الحجال اخْتلف النَّاس هَل بُويِعَ لزيدان بن الْأَعْرَج بعد وَفَاة أَبِيه أم لَا وَقَالَ شَارِح زهرَة الشماريخ كَانَ زَيْدَانَ بن أبي الْعَبَّاس بسجلماسة وبويع لَهُ بهَا فَلم يتم أمره وَنفي إِلَى أَن توفّي سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الْمهْدي الْمَعْرُوف بالشيخ ابْن الْأَمِير أبي عبد الله الْقَائِم بِأَمْر الله كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ويلقب بالشيخ بآمغار وَهُوَ الشَّيْخ بالبربرية ويلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمهدي لقبه بِهِ غير وَاحِد من أَئِمَّة عصره وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وعني بِالْعلمِ فِي صغره وَتعلق بأهدابه فَأخذ عَن جمَاعَة من الشُّيُوخ وَبلغ فِيهِ إِلَى دَرَجَة الرسوخ فتح حصن فونتي وآسفي وآزمور وَمَا قيل فِي ذَلِك لما اسْتَقل السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بِأَمْر السوس وَاجْتمعت كَلمته عَلَيْهِ صرف عزمه إِلَى جِهَاد الْعَدو الَّذِي بثغوره وحصونه وأرهف حَده لتطهيرها من بقايا شغبه وزبونه فانتصر عَلَيْهِم واستأصل شأفتهم وَقطع من تِلْكَ النواحي دابرهم وحسم آفتهم قَالَ ابْن القَاضِي كَانَ الشَّيْخ رَحمَه الله ماضي الْعَزِيمَة قوي الشكيمة عَظِيم الهيبة كثير الْغَزَوَات ذَا همة عالية وشهامة عالية فعد قَوَاعِد الْملك وَأسسَ مبانيه وأحيى مراسم الْخلَافَة الدارسة ومعالمها الطامسة وَكَانَ لَهُ سعد وبخت عَظِيم فِي الْجِهَاد وَيَد بَيْضَاء فِي الْإِسْلَام فتح حصن النَّصَارَى بالسوس يَعْنِي حصن فونتي بعد أَن أَقَامُوا فِيهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة وَكَانَ منصورا بِالرُّعْبِ حَتَّى تركُوا لَهُ آسفي وآزمور وآصيلا من غير قتال وَلَا إيجَاف عَلَيْهِم اه وَنَحْوه فِي تَارِيخ البرتغاليين زَاد مؤرخهم أَن ذَلِك كَانَ بِإِذن طاغيتهم صَاحب أشبونة وَقد تقدم نَحْو هَذَا فِي أَخْبَار الْأَعْرَج وَالْجَوَاب عَنهُ وَكَانَ فتح فونتي سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة كَمَا فِي النزهة وَفتح آسفي سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 ثَمَان وَأَرْبَعين بعْدهَا كَمَا فِي الْمرْآة وَعند البرتغاليين أَن ذَلِك كَانَ سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين وَأَرْبَعين مسيحية وَهُوَ مُوَافق لهَذَا التَّارِيخ الهجري وَفِي الدوحة لما أخلى النَّصَارَى آزمور تسارع إِلَيْهَا جمَاعَة من الْفُقَرَاء مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الكوش دَفِين جبل الْعرض من فاس وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي دَفِين تانسيفت قرب مراكش فقعدوا بهَا يحرسونها حَتَّى يَأْتِي مدد الْمُسلمين وَمن يعمرها مِنْهُم مَخَافَة أَن يرجع إِلَيْهَا الْعَدو فَإِذا بِهِ قد رَجَعَ واقتحمها عَلَيْهِم وأسرهم إِلَى أَن افتكهم الْمُسلمُونَ قَالَ منويل كَانَ فداؤهما بألفي ريال ومائتي ريال بالتثنية فيهمَا وَلما افتدى الشَّيْخ الكوش وعزم على الْخُرُوج وَكَانَ أَسِيرًا عِنْد امْرَأَة نَصْرَانِيَّة ناولته كتبا للْمُسلمين وَقَالَت لَهُ هَذِه كتب كَانَت عِنْدِي وَلَا حَاجَة لي بهَا فَخذهَا إِلَيْك فَأَخذهَا وَخرج بهَا فِي قفة على رَأسه فَكَانَ من جُمْلَتهَا كتاب تَنْبِيه الْأَنَام الْمَوْضُوع فِي الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ذَلِك أول دُخُوله لهَذِهِ الْبِلَاد على يَد الشَّيْخ الْمَذْكُور اه بِنَاء حصن آكادير قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي فِي كِتَابه الْمُنْتَقى الْمَقْصُور كَانَت للأمير السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ مآثر حسنه مِنْهَا أَنه أول من اختط مرسى آكادير بالسوس الْأَقْصَى سنة سبع وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة لما أجلى النَّصَارَى من الْموضع الْمَعْرُوف بفونتي على مقربة من آكادير الْمَذْكُور وَكَانَ لَهُ فِي اختطاطه رَأْي مُصِيب وفراسة تَامَّة اه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ على مراكش وتجديد الْبيعَة لَهُ بهَا كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بعد الْقَبْض على أَخِيه واستقلاله بِالْأَمر قد أَقَامَ بالبلاد السوسية مثابرا على جِهَاد الْعَدو إِلَى أَن قلع عروق مفسدته مِنْهَا وَكَانَت مراكش فِي هَذِه الْمدَّة قد توقفت عَن بيعَته وتربصت عَن الدُّخُول فِي دَعوته اتقاء للوطاسيين وارتياء فِي أمره إِلَى مَاذَا يؤول وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة فانقادت لَهُ حِينَئِذٍ وَبَايَعَهُ أَهلهَا فَقَدمهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا وخلص لَهُ جَمِيع مَا كَانَ بيد أَخِيه المخلوع من تادلا إِلَى وَادي نول وَالله غَالب على أمره نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ لِحَرْب بني وطاس واستيلاؤه على مكناسة وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك لما استولى السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ على مراكش وصفت لَهُ أَعمالهَا طمحت نَفسه للاستيلاء على بَقِيَّة بِلَاد الْمغرب وأمصاره وَقطع جرثومة الوطاسيين من سَائِر أقطاره فَجمع الجموع وَتقدم بهَا إِلَى أَعمال فاس فَلم يزل يستفتحها بَلَدا بَلَدا ومصرا مصرا إِلَى أَن أَتَى عَلَيْهَا أجمع وَكَانَ أول مَا ملك مِنْهَا مكناسة الزَّيْتُون فَإِنَّهُ افتتحها عقب سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة بعد حِصَار وقتال كَبِير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 حِصَار السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ حَضْرَة فاس ومقتل الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الوانشريسي رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ قد ألح على فاس بِالْقِتَالِ وحاصرها حصارا طَويلا وَلما عسر عَلَيْهِ أمرهَا بحث عَن ذَلِك فَقيل لَهُ لَا سَبِيل لَك إِلَيْهَا وَلَا يُبَايِعك أَهلهَا إِلَّا إِذا بَايَعَك ابْن الوانشريسي يعنون الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الوانشريسي رَحمَه الله فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور سرا ووعده ومناه فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد بيعَة هَذَا السُّلْطَان يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس الوطاسي فِي رقبتي وَلَا يحل لي خلعها إِلَّا لموجب شَرْعِي وَهُوَ غير مَوْجُود وَزعم بَعضهم أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كتب إِلَى أهل فاس يَقُول لَهُم إِنِّي إِن دخلت فاسا صلحا ملأتها عدلا وَإِن دَخَلتهَا عنْوَة ملأتها قتلا فَأَجَابَهُ ابْن الوانشريسي بِأَبْيَات أغْلظ لَهُ فِيهَا مِنْهَا قَوْله (كذبت وَبَيت الله مَا تحسن العدلا ... وَلَا خصك الْمولى بِفضل وَلَا أولى) كَذَا فِي النزهة قلت وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات قديمَة والوانشريسي إِنَّمَا تمثل بِهِ لَا غير فقد ذكر الْعَلامَة ابْن خلدون فِي أَخْبَار بني صَالح بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي أَصْحَاب قلعة نكور لأوّل الْفَتْح أَن عبيد الله الْمهْدي العبيدي صَاحب إفريقية لما تغلب على الْمغرب خَاطب سعيد بن صَالح مِنْهُم يَدعُوهُ إِلَى أمره وَكتب لَهُ فِي أَسْفَل كِتَابه (فَإِن تستقيموا أستقم لصلاحكم ... وَإِن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا) (وأعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عنوا وأملأها قتلا) فَأَجَابَهُ سعيد بن صَالح بِأَبْيَات من نظم شاعره الطليطلي نَصهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 (كذبت وَبَيت الله مَا تحسن العدلا ... وَلَا علم الرَّحْمَن من قَوْلك الفصلا) (وَمَا أَنْت إِلَّا جَاهِل ومنافق ... تمثل للجهال فِي السّنة المثلى) (وهمتنا الْعليا بدين مُحَمَّد ... وَقد جعل الرَّحْمَن همتك السُّفْلى) فَلَعَلَّ الشَّيْخ كتب لأهل فاس بالبيتين الْأَوَّلين والوانشريسي كَانَ مطلعا على الْقَضِيَّة فَأَجَابَهُ بجوابهما وَلما بلغ ذَلِك السُّلْطَان الشَّيْخ حقد على الوانشريسي ودس إِلَى جمَاعَة من المتلصصة بِأَن يأخذوه ويأتوا بِهِ إِلَى محلته مَحْبُوسًا من غير قتل وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْوَاحِد يقْرَأ صَحِيح البُخَارِيّ بِجَامِع الْقرَوِيين بَين العشاءين وينقل عَلَيْهِ كَلَام ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي ويستوفيه لِأَنَّهُ شَرط الْمحبس فَقَالَ لَهُ ابْنه يَا أَبَت إِنِّي قد سَمِعت أَن اللُّصُوص أَرَادوا الفتك بك فِي هَذِه اللَّيْلَة فَلَو تَأَخَّرت عَن الْقِرَاءَة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن وقفنا البارحة قَالَ على كتاب الْقدر قَالَ فَكيف نفر من الْقدر إِذا اذْهَبْ بِنَا إِلَى الْمجْلس فَلَمَّا افترق الْمجْلس خرج الشَّيْخ عبد الْوَاحِد من بَاب الشماعين أحد أَبْوَاب الْمَسْجِد الْمَذْكُور فثار بِهِ اللُّصُوص وَأَرَادُوا حمله فَأخذ بِإِحْدَى عضادتي الْبَاب فَضرب أحدهم يَده فقطعها وأجهز عَلَيْهِ الْبَاقُونَ فَقَتَلُوهُ بِبَاب الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَتِسْعمِائَة قَالَ الشَّيْخ المنجور فِي فهرسته واشتهر عَن الْفَقِيه الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَدْعُو بِأبي شامة أَنه رأى الشَّيْخ عبد الْوَاحِد فِي الْمَنَام بعد مَقْتَله فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأَنْشَأَ يَقُول (لقد عمني رضوَان رَبِّي وفضله ... وَلم أر إِلَّا الْخَيْر فِي وَحْشَة الْقَبْر) (وَإِنِّي أسأَل الْإِلَه بفضله ... ليحفظني يَوْم الْخُرُوج إِلَى الْحَشْر) (وَمَا بعد ذَاك من أُمُور عسيرة ... كنشر الْكتاب والمرور على الجسر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ على فاس وَقَبضه على الوطاسيين وتغريبهم إِلَى مراكش ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا عبد الله الشَّيْخ جد فِي حِصَار فاس وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ إِلَى أَن ملكهَا واحتوى عَلَيْهَا قَالَ فِي الدوحة لما ألح السُّلْطَان الشَّيْخ بالحصار على فاس جَاءَهُ الشَّيْخ أَبُو الرواين المحجوب وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ مني فاسا بِخَمْسِمِائَة دِينَار فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان مَا أنزل الله بِهَذَا من سُلْطَان هَذَا شَيْء لم تأت بِهِ الشَّرِيعَة فَقَالَ وَالله لَا دَخَلتهَا هَذِه السّنة فَبَقيَ أشهرا وَالْأَمر لَا يزْدَاد إِلَّا شدَّة فَقَالَ ابْن السُّلْطَان وَهُوَ الْأَمِير أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر ابْن الشَّيْخ لِأَبِيهِ يَا أَبَت افْعَل مَا قَالَ لَك الشَّيْخ أَبُو الرواين فَإِنَّهُ رجل مبارك من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَلم يزل بِهِ حَتَّى أذن لَهُ فِي الْكَلَام مَعَه فكلمة الْأَمِير عبد الْقَادِر فَقَالَ لَهُ ادْفَعْ المَال فَدفعهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عِنْد تَمام السّنة يقْضِي الله الْحَاجة وأمري بأَمْره سُبْحَانَهُ ثمَّ إِن الشَّيْخ أَبَا الرواين فرق المَال من يَوْمه وَلم يمسك مِنْهُ لنَفسِهِ حَبَّة وَمن ذَلِك الْيَوْم وَالسُّلْطَان الْمَذْكُور فِي الظُّهُور إِلَى أَن انْقَضتْ السّنة فَدخل فاسا كَمَا قَالَ اه وَقَالَ صَاحب الممتع وَالشَّيْخ أَبُو الرواين هُوَ كَانَ أحد الْأَسْبَاب فِي تمكن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْملك وَإِخْرَاج بني وطاس عَنهُ فَإِنَّهُ لما رأى اضْطِرَاب أَمر النَّاس وهيجان النَّصَارَى على الْمُسلمين جعل يُنَادي يَا حران جئ فَإِنِّي قد أَعطيتك الغرب وَذَلِكَ قبل ظُهُور السعديين وَلم يكن النَّاس يَدْرُونَ مَا يَقُول حَتَّى ظهر الحران وَهُوَ أحد أَوْلَاد السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يتَقَدَّم للحرب وَلم يفتح وَالِده من الْبِلَاد إِلَّا مَا فتح لَهُ على يَده وَكَانَ دُخُول السُّلْطَان الشَّيْخ إِلَى فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَلما دَخلهَا تقبض على الوطاسيين أجمع وَبعث بهم مصفدين إِلَى مراكش عدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 أَبَا حسون مِنْهُم فَإِنَّهُ فر إِلَى الجزائر مستجيرا بِتَرْكِهَا حَسْبَمَا مر وَقَالَ اليفرني لما دخل الشَّيْخ حَضْرَة فاس دَخلهَا وَعَلِيهِ وعَلى أَصْحَابه الدراعات الصفر وسمة البداوة لائحة عَلَيْهِم فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الْحَاضِرَة والتخلق بأخلاقهم يَعْنِي حَتَّى رسخ فيهم ذَلِك وَالله أعلم نهوض السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ إِلَى تلمسان واستيلاؤه عَلَيْهَا قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء حسن بن خير الدّين التركي على تلمسان وانقراض دولة بني زيان مِنْهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة فَلَمَّا فتح أَبُو عبد الله الشَّيْخ حَضْرَة فاس فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم تاقت نَفسه إِلَى الِاسْتِيلَاء على الْمغرب الْأَوْسَط وَكَانَ يعز عَلَيْهِ اسْتِيلَاء التّرْك عَلَيْهِ مَعَ أَنهم أجانب من هَذَا الإقليم ودخلاء فِيهِ فيقبح بأَهْله وملوكه أَن يتركوهم يغلبُونَ على بِلَادهمْ لَا سِيمَا وَقد فر إِلَيْهِم عَدو من أعدائه وعيص من أعياص أقتاله وَهُوَ أَبُو حسون الوطاسي فَرَأى الشَّيْخ من الرَّأْي وَإِظْهَار الْقُوَّة فِي الْحَرْب أَن يبدأهم قبل أَن يبدؤوه فَنَهَضَ من فاس قَاصِدا تلمسان فِي جموعه إِلَى أَن نزل عَلَيْهَا وحاصرها تِسْعَة أشهر وَقتل فِي محاصرتها وَلَده الحران وَكَانَ نابا من أنيابه وسيفا من سيوفه ثمَّ استولى الشَّيْخ على تلمسان ودخلها يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سبع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَنفى التّرْك عَنْهَا وانتشر حكمه فِي أَعمالهَا إِلَى وَادي شلف واتسعت خطة مَمْلَكَته بالمغرب ودانت لَهُ الْبِلَاد ثمَّ كرت عَلَيْهِ الأتراك وأخرجوه من تلمسان فَعَاد إِلَى مقره من فاس ثمَّ عاود غَزْو تلمسان حِين بلغه قيام رعاياها على التّرْك وانحصار التّرْك بقصبتها فَأَقَامَ مرابطا عَلَيْهَا أَيَّامًا فامتنعت عَلَيْهِ وأقلع عَنْهَا وَلم يعاود غزوها بعد ذَلِك وخلص أمرهَا إِلَى التّرْك على مَا نذكرهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 امتحان السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَرْبَاب الزوايا والمنتسبين وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَت سنة ثَمَان وَخمسين وَتِسْعمِائَة أَمر السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ بامتحان أَرْبَاب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفًا على ملكه مِنْهُم لما كَانَ للعامة فيهم من الِاعْتِقَاد والمحبة وَالْوُقُوف عِنْد إشاراتهم والتعبد بِمَا يتأولونه من عباراتهم أَلا ترى أَن بيعَة وَالِده أبي عبد الله الْقَائِم لم تَنْعَقِد إِلَّا بهم وَلَا ولج بَيت الْملك إِلَّا من بابهم فامتحن جمَاعَة مِنْهُم كالشيخ أبي مُحَمَّد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وَأمر برحيله إِلَى فاس وَفِي الدوحة لما امتحن السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ زَوَايَا الْمغرب قيل لأبي عَليّ الْحسن بن عِيسَى المصباحي دَفِين الدعادع الَّتِي على وَادي مُضِيّ من عمل الْقصر أَلا تخشى من هَذَا السُّلْطَان فَقَالَ إِنَّمَا الخشية من الله وَمَعَ هَذَا فالماء والقبلة لَا يقدر أحد على نزعهما وَالْبَاقِي مَتْرُوك لمن طلبه وَكَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور يُطَالب أَرْبَاب الزوايا بودائع أُمَرَاء بني مرين ويتهمهم بهَا وَبعث خديمه يَوْمًا إِلَى الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر المشترائي دَفِين مكناسة يُطَالِبهُ بِشَيْء من ذَلِك فَوَجَدَهُ جَالِسا بِنَاحِيَة زاويته يضفر الدوم وَإِذا بطائر لَعَلَّه اللقلاق سلح أَمَامه فَمَا رفع أَبُو عُثْمَان بَصَره حَتَّى سقط الطَّائِر مَيتا متطاير الريش فَلَمَّا رأى الخديم ذَلِك فزع وَولى هَارِبا قَالَه فِي الممتع وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وفادة الإِمَام أبي عبد الله الخروبي من جَانب دولة التّرْك فِي شَأْن قسم الْبِلَاد وتحديدها لما كَانَ من السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ مَا كَانَ من غَزوه تلمسان مرَّتَيْنِ وَكَانَ يحدث نَفسه بمعاودة غَزْو تِلْكَ الْبِلَاد عينت دولة التّرْك من جَانبهَا الْفَقِيه الصَّالح أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر ودفينها للوفادة على السُّلْطَان الْمَذْكُور فِي شَأْن عقد المهادنة وتحديد الْبِلَاد فَقدم عَلَيْهِ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَهُوَ بمراكش سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي هَذَا الْغَرَض فَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عبد الله وفادته إِلَّا أَنه لم تظهر ثَمَرَة لمقدمه وَفِي الْمرْآة أَن أَبَا عبد الله الخروبي قدم الْمغرب الْأَقْصَى مرَّتَيْنِ فِي سَبِيل السفارة بَين مُلُوك الْمغرب الْأَوْسَط وَالْمغْرب الْأَقْصَى فَأخذ عَنهُ كثير من أهل الْمغرب الْأَقْصَى وَأخذ هُوَ عَن الشَّيْخ زَرُّوق رَحمَه الله وَفِي قدمة الخروبي هَذِه إِلَى مراكش أنكر على الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي دَفِين رياض الْعَرُوس من مراكش حلق شعر التائب الَّذِي يُرِيد الدُّخُول فِي طَرِيق الْقَوْم وَقَالَ إِنَّه بِدعَة فَقَالُوا لَهُ إِن الشَّيْخ الْجُزُولِيّ كَانَ يَفْعَله فَقَالَ لَهُم لَعَلَّه بِإِذن وَالْإِذْن لَهُ لَا يعمكم فَإِن الْإِذْن للنَّبِي يعم أَتْبَاعه وَالْإِذْن للْوَلِيّ لَا يعم أَتْبَاعه وَأنكر عَلَيْهِ مسَائِل كَثِيرَة وَبعث إِلَيْهِ رِسَالَة أقذع لَهُ فِيهَا وَقد وقفت عَلَيْهَا رحم الله الْجَمِيع بمنه وَتُوفِّي الخروبي هَذَا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَدفن خَارج الجزائر وَالله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 قدوم أبي حسون الوطاسي بِجَيْش التراك واستيلاؤه على فاس ونفيه الشَّيْخ عَنْهَا قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي عبد الله على فاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَقَبضه على بني وطاس وفرار أبي حسون إِلَى الجزائر فَلم يزل أَبُو حسون عِنْد تَركهَا إِلَى أَن قدم بهم مَعَ باشاهم صَالح التركماني فاستولى على فاس ثَالِث صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنفى أَبَا عبد الله الشَّيْخ عَنْهَا حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَنهُ مُسْتَوفى عود السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا لما فر السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ من وقْعَة التّرْك بفاس وَوصل إِلَى مراكش صرف عزمه لقِتَال أبي حسون فاستنفر قبائل السوس وَجمع الجموع وزحف إِلَى فاس فدارت بَينه وَبَين سلطانها أبي حسون حروب شَدِيدَة كَانَ فِي آخرهَا الظفر للشَّيْخ فَقتل أَبَا حسون وَاسْتولى على فاس وَصفا لَهُ أَمر الْمغرب وَقد تقدّمت هَذِه الْأَخْبَار مستوفاة فِي محلهَا وَكَانَ اسْتِيلَاء السُّلْطَان الشَّيْخ على فاس يَوْم السبت الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَفِي الدوحة أَن دُخُول أبي حسون لفاس كَانَ سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وعود السُّلْطَان الشَّيْخ إِلَيْهَا واستيلاؤه عَلَيْهَا كَانَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتِّينَ أَيْضا وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 مقتل الفقيهين أبي مُحَمَّد الزقاق وَأبي عَليّ حرزوز وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما استولى السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ على فاس فِي هَذِه الْمرة أَمر بقتل الْفَقِيه الصَّالح قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد ابْن عَليّ الزقاق لِأَنَّهُ اتهمه بالميل إِلَى أبي حسون ويحكى أَنه لما مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ اختر بِأَيّ شَيْء تَمُوت فَقَالَ لَهُ الْفَقِيه اختر أَنْت لنَفسك فَإِن الْمَرْء مقتول بِمَا قتل بِهِ فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان اقْطَعُوا رَأسه بشاقور فَكَانَ من حِكْمَة الله وعدله فِي خلقه أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور قتل بِهِ أَيْضا كَمَا سَيَأْتِي وَفِي كتاب خُلَاصَة الْأَثر أَن الشَّيْخ الزقاق كَانَ يَقُول من قتل سوسيا كَانَ كمن قتل مجوسيا فَلَمَّا قبض عَلَيْهِ الشَّيْخ قَالَ لَهُ أَنْت زق الضلال فَقَالَ لَهُ لَا وَالله بل أَنا زق الْعلم وَالْهِدَايَة ثمَّ قَتله وَأمر أَيْضا بقتل خطيب مكناسة الزَّيْتُون الشَّيْخ أبي عَليّ حرزور المكناسي لكَلَام بلغه عَنهُ وَأَنه كَانَ يذكرهُ فِي خطبه ويحذر النَّاس من اتِّبَاعه والانقياد إِلَيْهِ وَيَقُول فِي خطبَته جَاءَكُم أهل السوس الْأَقْصَى البعاد ثمَّ يذكر الشَّيْخ وَيَقُول {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم فحسبه جَهَنَّم ولبئس المهاد} فِي كَلَام غير هَذَا وَكَانَ مقتل الفقيهين الْمَذْكُورين فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 تَرْتِيب السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَمر دولته وَمَا قيل فِي ذَلِك قَالَ اليفرني كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ مُولَعا بتدبير أَمر الرّعية مستيقظا فِي أُمُوره حازما غير مُتَوَقف فِي سفك الدِّمَاء قَالَ ويحكى أَنه لما دخل فاسا دَخلهَا وَعَلِيهِ وعَلى أَصْحَابه سمة البداوة فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب أهل الْحَاضِرَة والتخلق بأخلاقهم وَذكر أَن ملك السعديين إِنَّمَا تأنق على يَد رجل وَامْرَأَة فَأَما الرجل فقاسم الزرهوني فَإِنَّهُ رتب للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ هَيْئَة السلاطين فِي ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب أَصْحَابهم وَكَيْفِيَّة مثولهم بَين أَيْديهم وَأما الْمَرْأَة فالعريفة بنت خجو فَإِنَّهَا عَلمته سيرة الْمُلُوك فِي مَنَازِلهمْ وحالاتهم فِي الطَّعَام واللباس وعاداتهم مَعَ النِّسَاء وَغير ذَلِك فاكتسى ملك الشَّيْخ بذلك طلاوة وازداد فِي عُيُون الْعَامَّة رونقا وحلاوة بِسَبَب جَرَيَانه على العوائد الحضرية لِأَن أهل الْبَادِيَة مسترذلون فِي عُيُون أهل الْحَاضِرَة قَالُوا وَلم يزل السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ يَدُور على مدن الْمغرب وأمصاره ويطيل الْإِقَامَة بفاس قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَمن مآثره أَنه بنى جسر وَادي سبو وجسر وَادي أم الرّبيع وَتقدم بِنَاؤُه حصن آكادير وَالله تَعَالَى أعلم وضع الوظيف الْمُسَمّى فِي لِسَان الْعَامَّة بالنائبة قد تقدم لنا فِي صدر هَذَا الْكتاب اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو غير ذَلِك وعَلى القَوْل بِأَنَّهَا فتحت عنْوَة فَهِيَ خَرَاجِيَّة كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتب الْفِقْه وَتقدم لنا أَيْضا أَن أول من وظف الْخراج على أَرض الْمغرب عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَتَبعهُ بنوه على ذَلِك وَقفا نهجهم بَنو مرين وَفِي الظهير الَّذِي كتبه السُّلْطَان أَبُو زيان المريني لِابْنِ الْخَطِيب أَيَّام مقَامه بسلا شَاهد بذلك وَلما جَاءَ السعديون من بعدهمْ سلكوا هَذَا السَّبِيل أَيْضا وَقَول اليفرني إِن أَبَا عبد الله الشَّيْخ أول من أحدث النائبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 بالمغرب يحمل على أَنه أول من أحدثها على الْوَجْه الْآتِي بَيَانه وَذَلِكَ أَنه لما صفا للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أَمر الْمغرب واستأصل جرثومة بني وطاس مِنْهُ الْتفت إِلَى تَرْتِيب ملكه وتهذيب أعطافه وتأسيس أُمُور دولته كَمَا قُلْنَا فَمن ذَلِك أَنه فرض على قبائل الْمغرب الضريبة الْمُسَمَّاة فِي لِسَان الْعَامَّة بالنائبة وَلم ينزه عَنْهَا شريفا وَلَا مشروفا حَتَّى أَرْبَاب الزوايا والمنتسبين وَمِنْهُم أَوْلَاد الشَّيْخ أبي الْبَقَاء خَالِد المصمودي مَعَ مَا كَانَ لأبيهم من الشُّهْرَة بِالْولَايَةِ والصيت فِي بِلَاده وَكَانَ قدر هَذِه النائبة صَحْفَة من الشّعير وَعشْرين مدا من الْقَمْح لكل نائبة وصاعا من السّمن وكبشا لكل أَربع نَوَائِب وَكَانَت تفرض فِي زمَان الشَّيْخ على الكوانين وتوظف على حسب السكان وتدفع بِأَعْيَانِهَا وَجرى على ذَلِك وَلَده الْغَالِب بِاللَّه وَأَخُوهُ المعتصم وَلما جَاءَ الْمَنْصُور من بعدهمْ قوم تِلْكَ الْأَعْيَان بِسعْر الْوَقْت وَصَارَت تدفع دَرَاهِم ثمَّ ازْدَادَ ذَلِك إِلَى أَن خرج الْأَمر عَن الْقيَاس واتسع الْخرق على الراقع وَالله لَا يظلم مِثْقَال ذرة مراسلة السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَمَا نَشأ عَن ذَلِك قد قدمنَا مَا كَانَ من غص السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ بمَكَان التّرْك من تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَأَنه غزاهم مرَّتَيْنِ وَقدم الإِمَام أَبُو عبد الله الخروبي ساعيا فِي الْهُدْنَة فَلم يرجع بطائل وَكَانَ السُّلْطَان الشَّيْخ يَقُول فِيمَا زَعَمُوا لَا بُد لي أَن أغزو مصر وَأخرج التّرْك من أحجارها وَكَانَ يُطلق لِسَانه فِي السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني ويسميه بسُلْطَان الحواتة يَعْنِي لِأَن التّرْك كَانُوا أَصْحَاب أساطيل وسفر فِي الْبَحْر فأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان فَبعث إِلَيْهِ رسله فَهَذَا سَبَب المراسلة على مَا فِي النزهة وأشبه مِنْهُ بِالصَّوَابِ مَا حَكَاهُ بَعضهم قَالَ لما بلغ خبر انْقِرَاض الدولة الوطاسية إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني واستيلاء السعديين على ملك الْمغرب الْأَقْصَى كتب إِلَى الشَّيْخ يهنئه بِالْملكِ ويلتمس مِنْهُ الدُّعَاء لَهُ على مَنَابِر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 الْمغرب وَبعث إِلَيْهِ بذلك رَسُولا فِي الْبَحْر فَانْتهى إِلَى الجزائر وَمِنْهَا قدم إِلَى مراكش فِي الْبر وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ أنزلهُ على كَبِير الأتراك فِي محلته صَالح باي الْمَعْرُوف بالكاهية وَكَانَ هَؤُلَاءِ الأتراك قد انحاشوا إِلَى الشَّيْخ من بقايا القادمين مَعَ أبي حسون فضمهم إِلَيْهِ وجعلهم جندا على حِدة وَسَمَّاهُمْ اليكشارية بِالْيَاءِ ثمَّ الْكَاف ثمَّ الشين وَهُوَ لفظ تركي مَعْنَاهُ الْعَسْكَر الْجَدِيد وَلما قَرَأَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ كتاب السُّلْطَان سُلَيْمَان وَوجد فِيهِ أَنه يَدْعُو لَهُ على مَنَابِر الْمغرب وَيكْتب اسْمه على سكته كَمَا كَانَ بَنو وطاس حمى أَنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرَّسُول وأزعجه فَطلب مِنْهُ الْجَواب فَقَالَ لَا جَوَاب لَك عِنْدِي حَتَّى أكون بِمصْر إِن شَاءَ الله وَحِينَئِذٍ أكتب لسلطان القوارب فَخرج الرَّسُول من عِنْده مذعورا يلْتَفت وَرَاءه إِلَى أَن وصل إِلَى سُلْطَانه وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ قدوم طَائِفَة التّرْك من عِنْد السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني واغتيالهم للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ رَحمَه الله لما خرج رَسُول السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني من عِنْد السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَوصل إِلَى الجزائر ركب الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَانْتهى إِلَيْهَا وَاجْتمعَ بالوزير الْمَعْرُوف عِنْدهم بالصدر الْأَعْظَم وَأخْبرهُ بِمَا لَقِي من سُلْطَان الْمغرب فأنهى الْوَزير ذَلِك إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان فَأمره أَن يُهَيِّئ الْعِمَارَة والعساكر لغزو الْمغرب فَاجْتمع أهل الدِّيوَان وكرهوا توجيهها وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن عينوا اثْنَي عشر رجلا من فتاك التّرْك وبذلوا لَهُم اثْنَي عشر ألف دِينَار وَكَتَبُوا لَهُم كتابا إِلَى صَالح الكاهية كَبِير عَسْكَر الشَّيْخ ووعدوه بِالْمَالِ والمنصب إِن هُوَ نصح فِي اغتيال الشَّيْخ وتوجيه رَأسه مَعَ القادمين عَلَيْهِ وَفِي النزهة أَن صَالحا هَذَا كَانَ من ترك الجزائر جَاءَ فِي جملَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 الطَّائِفَة الموجهين لاغتيال الشَّيْخ وَالله أعلم ثمَّ دخل الْوَزير على السُّلْطَان سُلَيْمَان وَاعْتذر إِلَيْهِ عَن تَوْجِيه الْعِمَارَة وَقَالَ هَذَا أَمر سهل لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى تَقْوِيم عمَارَة وَهَذَا المغربي الَّذِي أَسَاءَ الْأَدَب على السُّلْطَان يَأْتِي رَأسه إِلَى بَين يَديك فاستصوب رَأْيهمْ وشكر سَعْيهمْ وَأمر بتوجيه الْجَمَاعَة الْمعينَة فِي الْبَحْر إِلَى الجزائر وَمِنْهَا يتوجهون إِلَى مراكش فِي الْبر فَفَعَلُوا وَلما وصلوا إِلَى الجزائر هيؤوا أسبابا واشتروا بغالا وَسَارُوا إِلَى فاس فِي هَيْئَة التُّجَّار فباعوا بهَا أسبابهم وتوجهوا إِلَى مراكش وَلما اجْتَمعُوا بِصَالح الكاهية أنزلهم عِنْده ودبر الْحِيلَة فِي أَمرهم إِلَى أَن تَوَجَّهت لَهُ وَفِي النزهة أَن هَؤُلَاءِ الأتراك خَرجُوا من الجزائر إِلَى مراكش مظهرين أَنهم فروا من سلطانهم وَرَغبُوا فِي خدمَة الشَّيْخ والاستيجار بِهِ ثمَّ إِن صَالحا الكاهية دخل على السُّلْطَان أبي بعد الله الشَّيْخ وَقَالَ يَا مولَايَ إِن جمَاعَة من أَعْيَان جند الجزائر سمعُوا بمقامنا عنْدك ومنزلتنا مِنْك فرغبوا فِي جوارك والتشرف بخدمتك وَلَيْسَ فَوْقهم من جند الجزائر أحد وهم إِن شَاءَ الله السَّبَب فِي تَملكهَا فَأمره بإدخالهم عَلَيْهِ وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ رأى وُجُوهًا حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم ثمَّ ترجع لَهُ صَالح كَلَامهم فأفرغه فِي قالب الْمحبَّة والنصح وَالِاجْتِهَاد فِي الطَّاعَة والخدمة حَتَّى خيل إِلَى الشَّيْخ أَنه قد حصل على ملك الجزائر فَأمره بإكرامهم وَأَن يعطيهم الْخَيل وَالسِّلَاح ويكونوا يدْخلُونَ عَلَيْهِ مَعَ الكاهية كلما دخل فَكَانُوا يدْخلُونَ عَلَيْهِ كل صباح لتقبيل يَده على عَادَة التّرْك فِي ذَلِك وَصَارَ الشَّيْخ يبْعَث بهم إِلَى أَشْيَاخ السوس مناوبة فِي الْأُمُور المهمة ليتبصروا فِي الْبِلَاد ويعرفوا النَّاس وَكَانَ يُوصي الْأَشْيَاخ بإكرام من قدم عَلَيْهِم مِنْهُم وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن أمكنتهم فِيهِ الفرصة وَهُوَ فِي بعض حركاته بجبل درن بِموضع يُقَال لَهُ آكلكال بِظَاهِر تارودانت فولجوا عَلَيْهِ خباءه لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس فَضربُوا عُنُقه بشاقور ضَرْبَة أبانوا بهَا رَأسه وَاحْتَمَلُوهُ فِي مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا بِهِ أحشاء الظلماء وسلكوا طَرِيق درعة وسجلماسة كَأَنَّهُمْ أرسال تلمسان لِئَلَّا يفْطن بهم أحد من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 أهل تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ أدركوا بِبَعْض الطَّرِيق فقاتلت طَائِفَة مِنْهُم حَتَّى قتلوا وَنَجَا الْبَاقُونَ بِالرَّأْسِ وَقتل مَعَ الشَّيْخ تِلْكَ اللَّيْلَة الْفَقِيه مفتي مراكش أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر السكتاني وَالْكَاتِب أَبُو عمرَان الوجاني وَلما شاع الْخَبَر بِأَن التّرْك قتلوا السُّلْطَان واستراب النَّاس بِجَمِيعِ من بَقِي مِنْهُم بالمغرب أغلق إخْوَانهمْ الَّذين كَانُوا بتارودانت أَبْوَابهَا واقتسموا الْأَمْوَال واستعدوا للحصار وَلما بُويِعَ ابْنه الْغَالِب بِاللَّه وَقدم من فاس نَهَضَ فِي العساكر إِلَى تارودانت للأخذ بثأر أَبِيه من التّرْك الَّذين بهَا فَحَاصَرَهُمْ مُدَّة وَلما لم يقدر مِنْهُم على شَيْء أعمل الْحِيلَة بِأَن أظهر الرحلة عَنْهُم وأشاع أَنه رَاجع إِلَى فاس لثائر قَامَ بهَا وَلما أبعد عَنْهُم مسيرَة يَوْم خَرجُوا فِي اتِّبَاعه لَيْلًا والعيون مَوْضُوعَة عَلَيْهِم بِكُل جِهَة إِلَى أَن شارفوا محلّة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه فعطف عَلَيْهِم وَلما لم يُمكنهُم الرُّجُوع إِلَى تارودانت تحيزوا إِلَى الْجَبَل وبنوا بِهِ قياطنهم وَجعلُوا عَلَيْهَا المتارزات من الْأَحْجَار وتحصنوا بهَا وأحاطت بهم العساكر من كل جِهَة فَقَاتلُوا إِلَى أَن فنوا عَن آخِرهم وَلم يُؤْخَذ مِنْهُم أَسِير وَقتلُوا من محلّة الْغَالِب بِاللَّه ألفا وَمِائَتَيْنِ وَأما الَّذين نَجوا بِالرَّأْسِ فَانْتَهوا إِلَى الجزائر وركبوا الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فأوصلوا الرَّأْس إِلَى الصَّدْر الْأَعْظَم وَأدْخلهُ على السُّلْطَان سُلَيْمَان فَأمر بِهِ أَن يَجْعَل فِي شبكة نُحَاس ويعلق على بَاب القلعة فَبَقيَ هُنَالك إِلَى أَن شفع فِي إنزاله وَدَفنه ابناه عبد الْملك المعتصم وَأحمد الْمَنْصُور حِين قدما الْقُسْطَنْطِينِيَّة على السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان مستعديين لَهُ على ابْن أخيهما المسلوخ كَمَا يَأْتِي وَكَانَ مقتل الشَّيْخ رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَلما بلغ خبر مَقْتَله إِلَى خَلِيفَته بمراكش الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن أبي بكر آزناك بَادر بقتل أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج المخلوع وَأَوْلَاده ذُكُورا وإناثا كبارًا وصغارا خشيَة أَن يُخرجهُ أهل مراكش فيبايعوه وَلما قتلوا لم يتجرأ أحد على دفنهم فبقوا مصرعين حَتَّى دفنهم الشَّيْخ أَبُو عَمْرو القسطلي الْوَلِيّ الشهير بمقربة من ضريح الشَّيْخ الْجُزُولِيّ وَهِي الْقبَّة الَّتِي قرب الضريح الْمَذْكُور تسمى قُبُور الْأَشْرَاف وَأما السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 فَإِنَّهُم حملُوا جثته إِلَى مراكش فدفنت بهَا قبلي جَامع الْمَنْصُور بروضة السعديين وقبره شهير بهَا إِلَى الْآن وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات (حَيّ ضريحا تغمدته رحمات ... وظلت لحده مِنْهَا غمامات) (واستنشقن نفحة التَّقْدِيس مِنْهُ فقد ... هبت من الْخلد لي مِنْهَا نسيمات) (بَحر بِهِ كورت شمس الْهدى فكست ... من أجلهَا السَّبْعَة الْأَرْضين ظلمات) (يَا مهجة غالها غول الردى قنصا ... وأثبتت سهمها فِيهَا المنيات) (دكت لموتك أطواد الْعلَا صعقا ... وَارْتجَّ من بعْدك السَّبع السَّمَوَات) (وشيعت نَعشك المزجى إِلَى عدن ... من الملائك ألحان وأصوات) (يَا رَحْمَة الله عاطيه سلاف رضَا ... تَدور مِنْهَا عَلَيْهِ الدَّهْر كاسات) (قضى فَوَافَقَ فِي التَّارِيخ مِنْهُ حلى ... دَار إِمَام الْهدى الْمهْدي جنَّات) بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ يلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالمهدي وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وعني بِالْعلمِ فِي صغره وَتعلق بأهدابه فَأخذ عَن جمَاعَة من الشُّيُوخ وَبلغ فِيهِ دَرَجَة الرسوخ حَتَّى كَانَ يُخَالف الْقُضَاة فِي الْأَحْكَام وَيرد عَلَيْهِم فتاويهم فيجدون الصَّوَاب مَعَه وَقع ذَلِك مِنْهُ مرَارًا وَله حواش على التَّفْسِير وَذَلِكَ مِمَّا يدل على غزارة علمه وَقَالَ فِي الْمُنْتَقى كَانَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله الشَّيْخ رَحمَه الله أديبا متفننا حَافِظًا حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد أَنه كَانَ ممتع المجالسة والمذاكرة نقي الشيبة عَظِيم الهيبة مَا رَأَيْت بعد شَيْخي أبي الْحسن عَليّ بن هَارُون أحفظ مِنْهُ للمقطعات الشعرية وَكَثِيرًا مَا ينشد (النَّاس كالناس وَالْأَيَّام وَاحِدَة ... والدهر كالدهر وَالدُّنْيَا لمن غلب) وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فهما جدا حَافظ لصحيح البُخَارِيّ ويستحضر مَا للنَّاس عَلَيْهِ وَيَقُول فِي شرح ابْن حجر مَا صنف فِي الْإِسْلَام مثله عَارِفًا بالتفسير وَغَيره وَكَانَ يحفظ ديوَان المتنبي عَن ظهر قلب وَكَانَ يحض على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 الْمُشَاورَة وَيَقُول لَا سِيمَا فِي حق الْمُلُوك وينشد قَول المتنبي (وَمن جهلت نَفسه قدره ... رأى غَيره مِنْهُ مَا لَا يرى) وَكَانَ يَقُول يَنْبَغِي للْملك أَن يكون طَوِيل الأمل فَإِن طول الأمل وَإِن كَانَ لَا يحسن من غَيره فَهُوَ مِنْهُ صَالح لِأَن الرّعية تصلح بطول أمله وَكَانَ يَقُول من طول أمله أَخذ تلمسان وسبتة وَغَيرهمَا انْتهى وَقَوله إِنَّه كَانَ يحفظ ديوَان المتنبي سَببه مَا ذكره فِي الدوحة قَالَ أَخْبرنِي الْوَزير الْمُعظم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف قَالَ لما غدرت قَبيلَة المنابهة بجد السُّلْطَان الْمَذْكُور وأنجاه الله من غدرتهم عرف الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله ابْن عمر بذلك فَكتب إِلَيْهِ يَقُول أَيْن أَنْت من قَول أبي الطّيب المتنبي (غاض الْوَفَاء فَمَا تَلقاهُ فِي عدَّة ... وأعوز الصدْق فِي الْإِخْبَار وَالْقسم) قَالَ فعكف السُّلْطَان الْمَذْكُور على ديوَان المتنبي حَتَّى حفظه كُله وَلم يعزب عَنهُ بَيت وَاحِد اه وَابْن عمر الْمَذْكُور هُوَ أحد أَشْيَاخ السُّلْطَان الْمَذْكُور وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عمر المضغري الْفَقِيه الفرضي الحاسب فَقِيه درعة وعالمها وَكَانَ قد وَفد على السُّلْطَان الْمَذْكُور أَيَّام كَونه بالسوس وَلما عَاد إِلَى درعة سَأَلَهُ فقهاؤنا كَيفَ وجدت أهل السوس فَقَالَ وجدت فقهاءهم على ضَعِيف الفتاوي وفقراءهم على عَظِيم الدعاوي وعامتهم على كثير الْمسَاوِي وَمن أَشْيَاخ السُّلْطَان الْمَذْكُور الإِمَام الشهير شيخ الْجَمَاعَة بالصقع السُّوسِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الثاملي ذكره فِي الْمُنْتَقى وَأثْنى عَلَيْهِ وَمن أشياخه عَلامَة فاس ومحققها أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد اليستني أَخذ عَنهُ علوما مِنْهَا التَّفْسِير قَالَ المنجور وَكنت أَنا قارئه بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله الشَّيْخ الْمَذْكُور وَكَانَ شَدِيد الْمحبَّة لَهُ قَالَ وَلما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 توفّي الْفَقِيه الْمَذْكُور وَذَهَبت مَعَ وَلَده صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي توفّي بهَا لنخبر السُّلْطَان بوفاته وَجَدْنَاهُ يقْرَأ ورده بحمام المريني فَخرج السُّلْطَان إِلَيْنَا وَهُوَ يبكي بِصَوْت عَال يفزع من سَمعه حَتَّى رَأينَا مِنْهُ الْعجب وَمَا سكت إِلَّا بعد مُدَّة لما كَانَ يعلم مِنْهُ من صِحَة الدّين والنصح لخاصة الْمُسلمين وعامتهم وَحضر جنَازَته وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله سنة تسع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وللسلطان الْمَذْكُور عدَّة أَشْيَاخ غير هَؤُلَاءِ وَمن وزرائه الرئيس أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر آصناك الحاحي وَأَبُو عمرَان مُوسَى بن أبي جمدي الْعمريّ وَغَيرهم وَمن قُضَاته بفاس أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الخصاصي وبمراكش أبوالحسن عَليّ بن أبي بكر السكتاني رحم الله الْجَمِيع وَكَانَ للسُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ عدَّة أَوْلَاد نجباء وَمن أنجبهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالحران الْقَتِيل على تلمسان وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه وَأَبُو مَرْوَان عبد الْملك الْغَازِي وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة ولوا الْأَمر بعد أَبِيهِم وَمِنْهُم الْوَزير أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر وَتُوفِّي فِي حَيَاة أَبِيه سنة تسع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَفِي نشر المثاني أَنه قتل مخنوقا بِأَمْر أَخِيه عبد الله الْغَالِب بِاللَّه سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة فَالله أعلم وَمِنْهُم عُثْمَان وَعبد الْمُؤمن وَعمر وَغَيرهم قَالَ المنجور فِي فهرسته حضرت يَوْمًا مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عد الله الشَّيْخ وَقد حضر عِنْده أَوْلَاده الصناديد الْأُمَرَاء الْمولى مُحَمَّد الحران وَالْمولى عبد الْقَادِر وَالْمولى عبد الله فَدخل شَيخنَا الإِمَام أَبُو عبد الله اليستني فَلَمَّا نظر إِلَيْهِم حول أَبِيهِم أنْشد بَيت تَلْخِيص الْمِفْتَاح (فَقلت عَسى أَن تبصريني كَأَنَّمَا ... بنى حوالي الْأسود الحوارد) فأعجب ذَلِك السُّلْطَان وَأَوْلَاده رَحْمَة الله عَلَيْهِم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ رَحمَه الله كَانَت ولادَة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه كَمَا رَأَيْته مرقوما على الرخامة الَّتِي على قَبره فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَكَانَ رَحمَه الله أدعج الْعَينَيْنِ مستدير الْوَجْه عريضه أسيل الْخَدين مشرف الوجنتين ربعَة للقصر وَنَشَأ فِي عفاف وصيانة وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ بِطرف صَالح من الْعلم وَكَانَ ولي عهد أَبِيه وَكَانَ يلقب من الألقاب السُّلْطَانِيَّة بالغالب بِاللَّه لقبه بِهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة وَلما وافته الأنباء بمقتل أَبِيه وَهُوَ بفاس بَايعه أَهلهَا وَلم يتَخَلَّف عَن بيعَته مِنْهُم أحد وَذكر صَاحب زهرَة الشماريخ أَن الْفَقِيه الميقاتي الْمعدل بمنار الْقرَوِيين أَبَا عبد الله المزوار وَكَانَ بَصيرًا بِعلم الْأَحْكَام والحدثان بَيْنَمَا هُوَ ذَات لَيْلَة يرقب الطالع وَالْغَارِب وَقد ابهار اللَّيْل واسود ديجوره رأى طالع السُّلْطَان الشَّيْخ قد سقط وَكَانَت بَينه وَبَين ابْنه أبي مُحَمَّد عبد الله وصلَة فأسرع فِي الذّهاب إِلَيْهِ ليخبره بِمَا رأى فَلَمَّا بلغ بَاب فاس الْجَدِيد وجده مغلقا فَاسْتَأْذن الموكلين بِهِ فِي فَتحه فَأَبَوا فَقَالَ لَهُم إِنِّي جِئْت إِلَى الْخَلِيفَة يَعْنِي خَليفَة السُّلْطَان فِي أَمر مُهِمّ عِنْده وَإِن لم تعلموه بمكاني السَّاعَة لحقكم مِنْهُ غَدا مَا تَكْرَهُونَ فأنذروا الْخَلِيفَة الْمَذْكُور بِهِ فَحمل إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن قَضيته فَأخْبرهُ بِمَا رأى ونعى إِلَيْهِ أَبَاهُ فَلم يكذب فِي ذَلِك وتهيأ واستعد فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى وافته الأنباء بمقتل أَبِيه فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي قَالَ لَهُ الْمعدل الْمَذْكُور فصادفه الْحَال على أهبة واستعداد وَلما بلغ أهل مراكش مبايعة أهل فاس لَهُ وافقوا عَلَيْهَا فاستوسق لَهُ الْأَمر وتمهد لَهُ ملك أَبِيه وَكَانَ ذَلِك كُله فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 مَجِيء حسن بن خير الدّين التركي إِلَى فاس ورجوعه مُنْهَزِمًا عَنْهَا قَالَ ابْن القَاضِي لما ولي السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه الْخلَافَة اشْتغل بتأسيس مَا بِيَدِهِ وتحصينه بِالْعدَدِ وَالْعدة وَلم تطمح نَفسه إِلَى الزِّيَادَة على مَا ملك أَبوهُ من قبله وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا غزاه حسن بن خير الدّين باشا التركي صَاحب تلمسان فِي جَيش كثيف من الأتراك فَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه فَالْتَقَيَا بمقربة من وَادي اللَّبن من عمالة فاس فَكَانَت الدبرة على حسن فَرجع مُنْهَزِمًا يطْلب صياصي الْجبَال إِلَى أَن بلغ إِلَى باديس وَكَانَت يَوْمئِذٍ للترك وَرجع الْغَالِب بِاللَّه إِلَى فاس لكنه لم يدخلهَا لوباء كَانَ بهَا يَوْمئِذٍ وَلما رَجَعَ من حركته هَذِه أَمر بقتل أَخِيه عُثْمَان لأمر نقمه عَلَيْهِ فَقتل فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم بِنَاء جَامع المواسين بِحَضْرَة مراكش وَالْبركَة الْمُتَّصِلَة بِهِ والمارستان وَغير ذَلِك قَالَ اليفرني وَفِي عشرَة السّبْعين وَتِسْعمِائَة أنشأ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه جَامع الْأَشْرَاف بحومة المواسين من مراكش والسقاية الْمُتَّصِلَة بِهِ الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْمَدِينَة الْمَذْكُور والمارستان الَّذِي ظهر نَفعه ووقف عَلَيْهِ أوقافا عَظِيمَة قلت وَهَذَا المارستان هُوَ الَّذِي بحومة الطالعة قرب السجْن وَقد اتخذ الْيَوْم سجنا للنِّسَاء قَالَ وَهَذَا السُّلْطَان هُوَ الَّذِي جدد أَيْضا بِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بجوار جَامع ابْن يُوسُف اللمتوني وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهَا كَمَا يَعْتَقِدهُ كثير من النَّاس بل الَّذِي أَنْشَأَهَا أَولا هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني رَحمَه الله حَسْبَمَا ذكره ابْن بطوطة فِي رحلته وشاع على الْأَلْسِنَة أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه توصل إِلَى بنائها بصناعة الكيمياء وَأَن الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي علمه إِيَّاهَا حِين تلمذ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي قَالَ اليفرني وَهُوَ كذب فَإِن الْمَنْقُول عَن الشَّيْخ الْمَذْكُور إنكارها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وَمَا كَانَ ليفتح على مُسلم بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الْفِتْنَة وسببا بليغا من أَسبَاب المحنة لِأَن هَذِه الحرفة من أعظم أَبْوَاب الْفِتَن وَقد أجمع أَرْبَاب البصائر على التحذير من تعاطيها لوجوه ثَلَاثَة أَولهَا إِنَّهَا من المستحيلات كَمَا ذكره ابْن سيناء مستدلا عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {لَا تَبْدِيل لخلق الله} وكما أَنه لَيْسَ فِي قدرَة الْمَخْلُوق أَن يحول القرد إنْسَانا وَالذِّئْب غزالا كَذَلِك لَيْسَ فِي قدرته أَن يصير الرصاص فضَّة والنحاس ذَهَبا يَعْنِي لِأَن ذَلِك من بَاب قلب الْحَقَائِق وَهُوَ محَال وَلَقَد تناظر رجلَانِ فِيهَا فَقَالَ مجوزها أتنكر مَا تشاهده فِي الصَّبْغ وتصيير الْجَسَد الْأَحْمَر أصفر والأبيض أسود فَقَالَ مانعها لَا أنكر ذَلِك لِأَن الصَّبْغ لَيست تَغْيِير أصل وَإِنَّمَا أنكر أَن ثوب الصُّوف الْأَبْيَض ترده صناعَة الصَّبْغ قطنا أَو حَرِيرًا أَحْمَر أَو أَخْضَر وَأما الصَّبْغ فَلَا شكّ أَن النّحاس يصير أَبيض وَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن أَصله وَلَا يسلب عَنهُ اسْم النّحاس بل يُقَال فِيهِ نُحَاس أَبيض كَمَا لَا يسلب صبغ الصُّوف عَنهُ اسْم الصُّوف ثَانِيهَا سلمنَا أَنَّهَا جَائِزَة الْوُجُود لَكِنَّهَا مَعْدُومَة فِي الْخَارِج كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ رَحمَه الله إِذْ قَالَ ثَلَاث مُتَّفق على وجودهَا فِي الْغَالِب وَقد اتّفق على عدم رؤيتها أهل الْمَشَارِق والمغارب الكيمياء والعنقاء والغول وأخبارها كلهَا على وَجه السماع والإسنادات وحكايتها كالموضوعات عَن العجماوات والجمادات ثَالِثهَا سلمنَا أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْخَارِج لكنه يحرم تنَاولهَا وَالْبيع وَالشِّرَاء بهَا وَقد سُئِلَ عَنْهَا الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق التّونسِيّ رَحمَه الله فَقيل لَهُ أحلال هِيَ إِذا كَانَت خَالِصَة فَقَالَ لَو دبر النّحاس أَو غَيره من الأجساد حَتَّى صَار ذَهَبا خَالِصا لَا شكّ فِيهِ فَمَتَى لم يقل بَائِعه لمبتاعه هَذَا كَانَ نُحَاسا أَو جسدا من الأجساد فدبرته حَتَّى صَار ذَهَبا كَمَا ترى لَكَانَ غاشا مدلسا قَالَ وَمَتى ذكره لم يشتر أحد مِنْهُ ذَلِك بفلس وَيَقُول فَكَمَا دَبرته حَتَّى صَار ذَهَبا فَكَذَلِك يدبره غَيْرك حَتَّى يرجع إِلَى أَصله فَمن لم يبين فِيهَا فَهُوَ دَاخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَشنَا فَلَيْسَ منا فَتكون صناعتها حَرَامًا وَقيل لبَعض الْفُضَلَاء لم لم تتعلل بِهَذِهِ الصِّنَاعَة فَإِنَّهَا تسلي الخاطر فَقَالَ قيل للحمار لم لم تجتر فَقَالَ أكره مضغ الْبَاطِل وَأنْشد (فَقلت لِأَصْحَابِي هِيَ الشَّمْس ضوءها ... قريب وَلَكِن فِي تنَاولهَا بعد) اه مَا نَقله اليفرني مُلَخصا مهذبا وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا عوج فِيهِ وَلَا أمت ثمَّ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا شاع عَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه من ذَلِك لَا أصل لَهُ وَلَقَد كَانَ أهل الْوَرع يجتنبون الصَّلَاة فِي جَامع الْأَشْرَاف بعد مَا بنى مُدَّة وَيُقَال إِن مَوضِع ذَلِك الْجَامِع كَانَ مَقْبرَة للْيَهُود وَالله تَعَالَى أعلم فتح مَدِينَة شفشاون وانقراض أَمر بني رَاشد مِنْهَا تقدم أَن مَدِينَة شفشاون حرسها الله بناها بَنو رَاشد من شرفاء الْعلم وَكَانُوا أهل جِهَاد ومرابطة على الْعَدو بِبِلَاد غمارة والهبط وَلما توفّي مختطها الْأَمِير أَبُو الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد بقيت بيد أَوْلَاده يتولون رياستها قَالَ فِي الْمرْآة وَلم يزَالُوا فِيهَا بَين سلم وَحرب إِلَى أَن حَاصَرَهُمْ بهَا الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ بجيوش عَمه السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه وَصَاحب شفشاون يَوْمئِذٍ الْأَمِير الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْأَمِير أبي الْحسن عَليّ بن مُوسَى بن رَاشد فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحصار خرج فِيمَن إِلَيْهِ من أَهله وَولده وقرابته وصعدوا الْجَبَل المطل على شفشاون فِي مَسْلَك وعر صحبتهم فِيهِ السَّلامَة وَذَلِكَ لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي من صفر سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَسَارُوا إِلَى ترغة فَرَكبُوا مِنْهَا الْبَحْر يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع الشَّهْر الْمَذْكُور وَاسْتقر الْأَمِير أَبُو عبد الله بِالْمَدِينَةِ المنورة إِلَى أَن مَاتَ بهَا رَحمَه الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 حِصَار البريجة الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالجديدة قد قدمنَا مَا كَانَ من بِنَاء البرتغال لمدينة الجديدة وتحصينهم لَهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَة وَكَانَت غارات الْمُسلمين المجاورين لَهُم لَا تَنْقَطِع عَنْهُم وَكَذَلِكَ هم سَائِر مقامهم بهَا وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة جهز إِلَيْهَا السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه جَيْشًا كثيفا واستنفر لَهَا قبائل الْحَوْز وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِهِ مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسلوخ قَتِيل وَادي المخازن وَكَانَ يَوْمئِذٍ ابْن عشْرين سنة على مَا قيل واستوزر لَهُ الْقَائِد الْمُجَاهِد الشَّاعِر الْفَاضِل أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن تودة العمراني وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْحَرْب وَابْن السُّلْطَان صُورَة فزحف إِلَيْهَا وحاصرها أَرْبَعَة وَسِتِّينَ يَوْمًا وَملك بعض أسوارها وَلم يقْض الله بِفَتْحِهَا وَفِي النزهة ذكر أَن الْقَائِد ابْن تودة دخل البريجة الَّتِي قرب آزمور وَأخذ أسوارها وعزم على أَن يستأصل فِي الْغَد بقيتها وَلَا يبقي للكفر بهَا أثرا فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ينهاه عَنْهَا فتراجع النَّصَارَى إِلَيْهَا بعد أَن ركبُوا الْبَحْر عازمين على الْجلاء عَنْهَا اه وَقد وقفت فِي التَّارِيخ البرتغالي الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة وَاسم مُؤَلفه لويز مَارِيَة على أَخْبَار هَذَا الْحصار وَقد استوعبها وبسطها وتتبع الوقائع فصلا فصلا وَيَوْما يَوْمًا وأتى من ذَلِك بِمَا يزِيد على الكراسة فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ إِنَّه لما عزم السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه على غزوهم وَأخذ فِي تجهيز الجيوش إِلَيْهِم أَتَاهُم بعض المتنصرة قَالَ وَهُوَ عبد أسود فَأخْبرهُم بِأَن السُّلْطَان مستعد لحربهم وَكَانُوا عازمين على التَّوَثُّق من هَذَا الجاسوس فَأَفلَت مِنْهُم فَعَلمُوا أَن إِظْهَاره للتنصر كَانَ مكيدة ثمَّ أخذُوا فِي الاستعداد واشتروا من عِنْد قَائِد آزمور ألفي سيف هَكَذَا زعم قَالَ وَفِي الْيَوْم الرَّابِع من مارس سنة ألف وَخَمْسمِائة واثنتين وَسِتِّينَ مسيحية وصلت جموع الْمُسلمين إِلَى حوز الجديدة وَهَذَا التَّارِيخ مُوَافق للتاريخ الْعَرَبِيّ الَّذِي قدمْنَاهُ قَالَ فَكَانَت خيل الْمُسلمين نَحْو ثَلَاثِينَ ألف وَالرُّمَاة ضعف ذَلِك وَكَانَ فيهم عَسْكَر التّرْك الْمَعْرُوف بالبلدروش وَكَانُوا يَوْمئِذٍ جندا للسعديين وَكَانَ مَعَهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 عشرُون مدفعا عشرَة كَبِيرَة وَعشرَة صَغِيرَة وفيهَا وَاحِد أعظم من الْجَمِيع يُسمى ميمونا وَكَانَ مَعَهم الْعلم الْكَبِير الْأَبْيَض ورايات أخر ملونة وتقدموا إِلَى الجديدة فحاصروها حصارا شَدِيدا وحاربوها حَربًا هائلة وصف هَذَا المؤرخ ذَلِك كُله وَصفا كاشفا وَكَانَت الجديدة يَوْمئِذٍ فِي غَايَة الحصانة والمناعة فَلم يتَمَكَّن الْمُسلمُونَ من النَّصَارَى على مَا يَنْبَغِي وَأرْسل التّرْك عَلَيْهِم أَنْوَاع الحراقيات وملكوا المتارزات الَّتِي كَانَت حول السُّور بعد أَن هَلَكت عَلَيْهَا نفوس من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ صنع النَّصَارَى للْمُسلمين عِنْدهَا مينا البارود مرَّتَيْنِ فَفِي الأولى كَانَت المينا تِسْعَة براميل نفط مِنْهُنَّ سَبْعَة فأهلكت خلقا من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَفِي الثَّانِيَة كَانَت تِسْعَة عشر برميلا أَمَام السُّور فنفطت بِالْمُسْلِمين وأتلفت مِنْهُم عددا فبعضهم طَار فِي الْهَوَاء وَبَعْضهمْ تَحت التُّرَاب وَكَانَ رُمَاة الْمُسلمين ينالون مِنْهُم نيلا عَظِيما واعترف النَّصَارَى لَهُم بجودة الرَّمْي بِحَيْثُ كَانُوا كلما ظهر مِنْهُم عسكري على السُّور اختطفته رصاصة فِي أخير مَوضِع من بدنه من الرَّأْس أَو الصَّدْر قَالَ لويز المؤرخ وَلَقَد قدم فِي بعض الْأَيَّام من أشبونة كَبِير من كبراء جندهم فَقَالَ لَهُم أروني كَيفَ قتالكم لهَؤُلَاء الْمُسلمين وَكَيف مصافتكم لَهُم قَالَ فَمَا ظهر بِرَأْسِهِ على السُّور ليرى محلّة الْمُسلمين حَتَّى أَصَابَته رصاصة نثرت دماغه كَأَن صَاحبهَا كَانَ ينتظره وَكَانَ ذَلِك بِنَفس نُزُوله من الْبَحْر قبل أَن يذهب إِلَى منزله فَعوضهُ مِنْهُ الْمُسلمُونَ الْقَبْر قَالَ فَمَا كَانَ النَّصَارَى بعْدهَا يقدرُونَ أَن يظهروا على السُّور إِلَّا فِي النَّادِر وَلما طَال عَلَيْهِم الْحصار ندب كَبِيرهمْ جمَاعَة مِنْهُم لِلْخُرُوجِ إِلَى السواحل الْبَعِيدَة عَن محلّة الْمُسلمين لَعَلَّهُم يظفرون بأسير مِنْهُم يستكشفونه عَن خبر الْجَيْش المحاصر لَهُم هَل هُوَ مرتحل أَو مُقيم وَمَا مُدَّة الْإِقَامَة قَالَ فَخَرجُوا فِي فلك لَهُم لَيْلًا وَسَارُوا حَتَّى بلغُوا سَاحل طيط وَهِي يَوْمئِذٍ خَالِيَة وَكَانَ بقربها محلّة لقائد آسفي فَلَمَّا طلع الْفجْر تقدمُوا إِلَى الْبر وأرسوا فلكهم إِلَى جَانب بعض الْأَحْجَار هُنَالك بِحَيْثُ يخفى على المارين بالسَّاحل ثمَّ كمنوا هُنَالك فَلَمَّا كَانَ وَقت الْإِسْفَار إِذا بِرَجُل من محلّة آسفي أَتَى على فرسه إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 شاطئ الْبَحْر لبَعض حاجاته فَلم يرعه إِلَّا النَّصَارَى قد أَحدقُوا بِهِ وَأخذُوا بلجام فرسه وَجعل بَعضهم فَم مكحلته فِي صَدره فَلم يملك الْمُسلم من نَفسه شَيْئا ثمَّ أنزلوه عَن الْفرس وساقوه إِلَى الْفلك أَسِيرًا ولججوا بِهِ فِي الْبَحْر وَلما بعدوا عَن الْبر شَيْئا مَا رمى أحدهم الْفرس بِرَصَاصٍ فَقتله ثمَّ أَسْرعُوا إِلَى الجديدة فَدَخَلُوهَا وَاجْتمعَ النَّصَارَى على الْمُسلم وَهُوَ كالمبهوت بَينهم ثمَّ سَأَلُوهُ عَن خبر الْجَيْش المحاصر لَهُم فَأخْبرهُم بِأَنَّهُم يناجزونهم بعد هَذَا مرّة أُخْرَى أَو مرَّتَيْنِ فَإِن لم يظفروا بهم ارتحلوا عَنْهُم فَكَانَ كَذَلِك قَالَ وَكَانَ ارتحال الْمُسلمين من الجديدة فِي سَابِع مايه العجمي من السّنة الْمَذْكُورَة فَعمل النَّصَارَى لذَلِك عيدا وأحدثوا فِي كنائسهم صلوَات لم تكن قبل وَذَلِكَ بِإِشَارَة باباهم صَاحب رومة وَمِمَّا حَكَاهُ هَذَا البرتغالي فِيمَا كَانَ يجْرِي بَين أهل آزمور وَبينهمْ من الْحَرْب وَذَلِكَ بعد هَذَا الْحصار بِمدَّة يسيرَة أَنه كَانَ بآزمور امْرَأَة حسناء وخطبها رجل من أهل الْبَلَد سَمَّاهُ لويز إِلَّا أَنه لم يحسن النُّطْق بِهِ لعجمته وَأَظنهُ اسْمه الميلودي لِأَن الْحُرُوف الَّتِي ذكر تقرب مِنْهُ قَالَ فامتنعت عَلَيْهِ فَرَاوَدَهَا أَيَّامًا وَاشْتَدَّ كلفه بهَا فَلم تَزْدَدْ عَلَيْهِ إِلَّا تمنعا فَبعث إِلَيْهَا ذَات يَوْم يرغبها فِي نَفسه ويدلي عَلَيْهَا بمآثره الَّتِي من جُمْلَتهَا الشجَاعَة حَتَّى قَالَ لَهَا وَإِن شِئْت أَن آتِيك بِرَأْس أعظم نَصْرَانِيّ بالجديدة وأشجعه فعلت ولعلها كَانَت موتورة لَهُم فَقَالَت لَهُ إِن أتيتني بِهِ تَزَوَّجتك فَذهب الرجل الْمَذْكُور إِلَى قَائِد آزمور وَلم يسمه لويز وَعرض عَلَيْهِ أَن يكْتب إِلَى كَبِير نَصَارَى الجديدة وَصَاحب رَأْيهمْ بِأَن يعين من جَانِبه رجلا من شجعانهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 ليبارزه إِن شَاءَ فَأَجَابَهُ الْقَائِد إِلَى مُرَاده وَذهب الرَّسُول بِالْكتاب حَتَّى وقف على نَحْو غلوة من الْمَدِينَة وَهَذَا الْموضع هُوَ الَّذِي كَانَت تقف فِيهِ رسل آزمور إِذا قدمت لغَرَض فَخرج إِلَيْهِ الْبَرِيد من عِنْد صَاحب الجديدة وَحَازَ الْكتاب وَرجع بِهِ إِلَى صَاحبه فَلَمَّا قَرَأَهُ أحضر جمَاعَة من وُجُوه جنده وَعرض عَلَيْهِم مَا فِيهِ فَقَامَ رجل مِنْهُم وَقَالَ أَن صَاحبه وَهَذَا الرجل سَمَّاهُ لوزير وَقَالَ كَانَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة كَامِل الْقَامَة ممتلئ الْأَعْضَاء أسمر اللَّوْن كثير شعر الْبدن أسود اللِّحْيَة وَكَانَ بِرَأْسِهِ جرح لم يندمل من وقْعَة كَانَت بَينهم وَبَين أهل أزمور قبل ذَلِك فَكتب صَاحب الجديدة إِلَى قَائِد آزمور إِنَّا قد أجبناك إِلَى مَا دَعَوْت وَقد أعجبنا ذَلِك وَهَا نَحن قد عينا لصاحبك قرنه فلتعينوا لنا الْيَوْم والساعة الَّتِي تكون فِيهَا الملاقاة فاتفقا على يَوْم مَعْلُوم وَفِي ذَلِك الْيَوْم سَار قَائِد آزمور فِي أَصْحَابه ووجوه أهل بَلَده وَمَعَهُمْ الرجل الْمَذْكُور إِلَى الجديدة فَانْتَهوا إِلَى الْموضع الَّذِي جرت الْعَادة أَن يقف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَخرج قَائِد النَّصَارَى فِي جماعته وشرطوا للمبارزة وكيفتها شُرُوطًا مِنْهَا أَن تبعد كل جمَاعَة من صَاحبهَا بِخَمْسِينَ خطْوَة وَلَا يلتقي إِلَّا المتبارزان وَحدهمَا بمرأى من الْفَرِيقَيْنِ وَمِنْهَا أَن مساحة الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ مجالهما خَمْسُونَ شبْرًا وسطا من الْفَرِيقَيْنِ وَإِن من خرج عَن هَذَا الْمحل مِنْهُمَا وَلَو قيد شبر كَانَ رقا للْآخر وأعطوا خطوطهم بذلك وَلما حَان وَقت البرَاز خرج عَدْلَانِ من جَانب الْمُسلمين حَتَّى انتهيا إِلَى النَّصْرَانِي ففتشاه لينظرا مَا عَلَيْهِ من السِّلَاح وَمَا مَعَه لِأَن من جملَة الشُّرُوط أَن لَا يتبارزا إِلَّا بِالسَّيْفِ وَالرمْح فَقَط فَلم يجدا مَعَ النَّصْرَانِي سواهُمَا قَالَ لويز وَكَانَ صَاحبهمْ الْمَذْكُور يحسن الضَّرْب بكلتا يَدَيْهِ فَشرط عَلَيْهِ العدلان أَن لَا يُقَاتل إِلَّا بِالْيَمِينِ فَرضِي ثمَّ خرج شَاهِدَانِ من جَانب النَّصَارَى حَتَّى انتهيا إِلَى الْمُسلم ففتشاه فَلم يجدا عِنْده سوى السَّيْف وَالرمْح أَيْضا غير أَنه قد علق على ذراعه تمائم كَثِيرَة مخروزة فِي الْجلد فَقَالَ لَهُ الشَّاهِدَانِ لَا بُد أَن تنْزع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 هَذِه التمائم لِأَن صاحبنا لَيْسَ عِنْده شَيْء من هَذَا وَأَيْضًا فَيمكن أَن تقيك هَذِه التمائم بعض الْوِقَايَة فَقَالَ لَهُم لَا أَنْزعهَا لِأَن مثل هَذَا لَا يتقى بِهِ فِي الْحَرْب وَلَا يُغني فِي الظَّاهِر من السَّيْف وَالرمْح شَيْئا وَإِنَّمَا فِيهَا أَسمَاء الله وَلَا يحسن بِي أَن أطرحها فِي هَذِه الْحَالة الَّتِي أَنا مشرف فِيهَا على الْمَوْت فَيكون ذَلِك سوء أدب مني مَعَ اسْم الله تَعَالَى وَرُبمَا يكون سَببا فِي خذلاني فَرجع النصرانيان إِلَى قائدهما وأخبراه بالقضية فَقَالَ لَا بُد من نَزعهَا فعادا إِلَيْهِ وَزعم لويز أَن الْمُسلمين وافقوا على نَزعهَا وَقَالَ لَهُ العدلان إِن الْحق مَعَ النَّصَارَى لأَنا كشفنا صَاحبهمْ كشفا تَاما وراوده الْقَائِد أَيْضا فأصر على الِامْتِنَاع معتذرا بِمَا سلف وَلما لم يحصلوا على طائل رَجَعَ الْمُسلمُونَ إِلَى بلدهم وَلم يكن برَاز قَالَ لويز وعد النَّصَارَى ذَلِك غلبا وَجعلُوا يصيحون وَيخرجُونَ البارود قَالَ وَكَانَ سور الجديدة مكسوا بِالنسَاء وَالصبيان واغتاظ قَائِد آزمور فسجن الْمُسلم الْمَذْكُور لكَونه جر هَذِه المذلة على الْمُسلمين قلت من تَأمل وأنصف علم أَن الفشل إِنَّمَا هُوَ من جَانب النَّصَارَى لِأَن تِلْكَ التمائم من حَيْثُ الظَّاهِر لَا تغني شَيْئا وَكَون بركتها تقيه من ضربات السَّيْف وطعنات الرمْح فَهَذَا لَا يَعْتَقِدهُ النَّصَارَى بل وَلَا يسلمونه فَلم يبْق إِلَّا الفشل والتعلل بِمَا لَا اعْتِبَار بِهِ عِنْد الْعُقَلَاء ثمَّ قَالَ لويز وَقد كَانَت بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى بعد ذَلِك وقائع فأبلى فِيهَا ذَلِك الْمُسلم الْبلَاء الْحسن وَعرف مَحَله من الشجَاعَة اه وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وَإِنَّمَا أثبت هَذِه الْحِكَايَة بِطُولِهَا لغرابتها وَلما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من خلال الفتوة ومنازع النخوة الإيمانية فنسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يعلي منار الدّين ويكبت كيد الجاحدين والمعتدين آمين وَفِي سنة سبعين وَتِسْعمِائَة ولى السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه الْفَقِيه أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي قَضَاء فاس فطالت مدَّته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وفادة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه على الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي رَضِي الله عَنهُ حكى صَاحب الممتع أَن السُّلْطَان أَبَا مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه قَالَ للأستاذ أبي عبد الله الترغي إِنِّي أجد فِي نَفسِي إِرَادَة وطلبا للشَّيْخ فَامْضِ فاطلب لي شَيخا فَذهب يطوف على مَشَايِخ الْمغرب وَكَانُوا إِذْ ذَاك متوافرين حَتَّى أَتَى على الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الْجُزُولِيّ ثمَّ السملالي فَوَجَدَهُ شَيخا جَلِيلًا سنيا متواضعا زاهدا ظَاهر الْوَرع حسن الْأَخْلَاق باهر الكرامات وَاضح الطَّرِيقَة جَامعا لمحاسن الْخلال والأوصاف فَرجع إِلَيْهِ وَجعل يصف لَهُ كل من رأى من الْمَشَايِخ بِمَا ظهر لَهُ فِيهِ حَتَّى أَتَى على الشَّيْخ الْمَذْكُور فَقَالَ وَهُوَ ولي ثمَّ ولي ثمَّ ولي ثمَّ ولي سبعا فَقَالَ لَهُ كَأَنَّك تدلني عَلَيْهِ وَأَنه مطلوبي وَأَنه الْمُقدم على غَيره فَقَالَ لَهُ لَا أدلك عَلَيْهِ وَلَا عِنْدِي مَا أعرفهُ بِهِ تَقْدِيمه غير أَن هَذَا الَّذِي ظهر لي فأزمع السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه الرحلة إِلَيْهِ فَلَمَّا بلغ الشَّيْخ الْمَذْكُور مَجِيء السُّلْطَان إِلَيْهِ خرج يتلقاه وَقد هيأ لَهُ النزل وَمَا يصلحه وَأعد لَهُ مَا يُنَاسِبه من الْأَطْعِمَة الرفيعة النفيسة وَقدم إِلَيْهِ الثَّمر الْجيد وَاللَّبن الحليب وَلما خرج للقائه أَتَاهُ بَعضهم بفرس وَكَانَ من عَادَته أَن لَا يركب وَإِذا أَتَاهُ أحد بمركوب لَا يردهُ عَلَيْهِ بل يستصحبه مَعَه ويعلفه لَهُ حَتَّى يرجع فَفعل ذَلِك وَلَقي السُّلْطَان وَرجع بِهِ مَعَه وأنزله عِنْده فَمَكثَ فِي ضيافته ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ طلب مِنْهُ أَن يَتَّخِذهُ وَسِيلَة إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَهُ مَعَ ذَلِك تمهيد الْملك وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الْعَيْش بِدُونِهِ وَلَا يَأْمَن على نَفسه وَلَا تؤويه أَرض إِذا هُوَ تخلى عَنهُ فَقَالَ الشَّيْخ يَا عرب يَا بربر يَا سهل يَا جبل أطِيعُوا السُّلْطَان مولَايَ عبد الله وَلَا تختلفوا عَلَيْهِ ثمَّ بعد الثَّلَاث انْصَرف السُّلْطَان إِلَى مَحَله فَبَقيَ مُدَّة وَهُوَ مسكن ممهد الْملك فِي عَافِيَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 ثمَّ أَتَى التّرْك إِلَى بوغاز طنجة وسبتة فخافهم وتشوش مِنْهُم كثيرا وَلم يهنأ لَهُ عَيْش فَجعلت حَاشِيَته يهونون عَلَيْهِ أَمرهم فَقَالَ دَعونِي مِنْكُم حَتَّى أستقي من رَأس الْعين ثمَّ أبرد بريدا إِلَى الشَّيْخ فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ سَمعه يَقُول يَا ترك ارْجعُوا إِلَى بِلَادكُمْ وَيَا مولَايَ عبد الله هُنَاكَ الله فِي بلادك بالعافية فَتقدم الرَّسُول وَسلم على الشَّيْخ وبلغه سَلام السُّلْطَان ثمَّ انْقَلب من فوره بعد مَا ورخ وَقت سَماع مقَالَته فَلَمَّا بلغ إِلَى السُّلْطَان أخبرهُ بِمَا كَانَ من الشَّيْخ من تِلْكَ الْمقَالة وَمَا كَانَ مِنْهُ من التَّارِيخ وَأَقَامُوا ينتظرون مَا يكون فَإِذا الْخَبَر قد ورد على السُّلْطَان بِأَن التّرْك قد ارتحلوا وَانْصَرفُوا إِلَى بِلَادهمْ وَإِذا ارتحالهم كَانَ وَقت مقَالَة الشَّيْخ الْمَذْكُورَة ثمَّ إِن الشَّيْخ قدم مراكش فِي بعض الْأَيَّام زَائِرًا من كَانَ بهَا من أهل الله تَعَالَى فَرغب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أَن يدْخل دَاره هُوَ وَأَصْحَابه ويصنع لَهما طَعَاما وَشرط على نَفسه أَن لَا يُطعمهُمْ إِلَّا الْحَلَال وَلَا يُطعمهُمْ مَا فِيهِ شُبْهَة وَحلف للشَّيْخ على ذَلِك فأسعفه وَلما حضر الطَّعَام وضع الشَّيْخ يَده عَلَيْهِ وَلم يصب مِنْهُ فَلَمَّا خرج قيل لَهُ مَالك لَا تتَنَاوَل من طَعَام السُّلْطَان وَقد حلف أَن لَا يطعمكم إِلَّا الْحَلَال فَقَالَ لَهُ من أكل طَعَام السُّلْطَان وَهُوَ حَلَال أظلم قلبه أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمن أكله وَفِيه شُبْهَة مَاتَ قلبه أَرْبَعِينَ سنة اه وَمِمَّا ينخرط فِي هَذَا السلك أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَ لَهُ اعْتِقَاد فِي الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَكَانَ يعظمه غَايَة وَكَانَت عِنْده مظلة لَهُ من سعف النّخل يَتَّقِي بهَا الْحر تبركا بهَا وَلما توفّي الشَّيْخ أَبُو عَمْرو الْمَذْكُور وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة حضر السُّلْطَان الْمَذْكُور جنَازَته وحثا التُّرَاب على قَبره بِيَدِهِ وَمن أَخْبَار السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن المغاري كَانَ ظهر بمراكش وَكَثُرت الجموع عَلَيْهِ وقصده النَّاس من كل جِهَة فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور إِمَّا أَن تخرج عني أَو أخرج عَنْك فَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 الشَّيْخ ابْن حُسَيْن بل أَنا أخرج وَخرج من فوره إِلَى تامصلوحت فَكَانَ من أمره مَا كَانَ اسْتِيلَاء النَّصَارَى على حجر باديس وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا فِي أَخْبَار الوطاسيين أَن النَّصَارَى بنوا حجر باديس واستولوا على وهران سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة واستمروا بهما إِلَى أَن انتزعهما التّرْك من أَيْديهم وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وطمع التّرْك فِي الِاسْتِيلَاء على الْمغرب الْأَقْصَى أغرى السُّلْطَان الْمَذْكُور النَّصَارَى بِالِاسْتِيلَاءِ على الثغور الهبطية وسد أنقابها دونه قَالَ فِي النزهة ذكر بَعضهم أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه لما رأى عمَارَة ترك الجزائر وأساطيلهم لَا يَنْقَطِع ترددها عَن حجر باديس ومرسى طنجة يَعْنِي البوغاز وتخوف مِنْهُم اتّفق مَعَ الطاغية أَن يُعْطِيهِ حجر باديس ويخليها لَهُم من الْمُسلمين فتنقطع بذلك مَادَّة التّرْك عَن الْمغرب وَلَا يَجدوا سَبِيلا إِلَيْهِ فَنزل النَّصَارَى على حجر باديس وأخرجوا الْمُسلمين مِنْهَا ونبشوا قُبُور الْأَمْوَات وحرقوها وأهانوا الْمُسلمين كل الإهانة وَلما بلغ خبر نزولهم عَلَيْهَا لوَلَده مُحَمَّد وَكَانَ خَلِيفَته على فاس خرج بجيوشه لإغاثة الْمُسلمين فَلَمَّا كَانَ بوادي اللَّبن بلغه استيلاؤهم عَلَيْهَا فَرجع وَتركهَا لَهُم اه وَذكر اليفرني أَنه وجد هَذِه الْأَخْبَار فِي أوراق مَجْهُولَة وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 فتْنَة الْفَقِيه أَبُو عبد الله الأندلسي ومقتله كَانَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الأندلسي نزيل مراكش متظاهرا بالزهد وَالصَّلَاح حَتَّى استهوى كثيرا من الْعَامَّة فتبعوه وَكَانَت تصدر عَنهُ مقالات قبيحة من الطعْن على أَئِمَّة الْمذَاهب رَضِي الله عَنْهُم ينحو فِيهَا منحى ابْن حزم الظَّاهِرِيّ ويتفوه بمقالات شنيعة فِي الدّين فَأمر السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بقتْله فاستغاث بالعامة من أَتْبَاعه واعصوصبوا عَلَيْهِ وَوَقعت فتْنَة عَظِيمَة بمراكش بِسَبَبِهِ إِلَى أَن قتل وصلب على بَاب دَاره برياض الزَّيْتُون من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ ذَلِك أواسط ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ظُهُور بِدعَة الشراقة من الطَّائِفَة اليوسفية وَمَا قيل فيهم قَالَ فِي الدوحة كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي نزيل مليانة تظهر على يَده الكرامات وأنواع الانفعلات فَبعد صيته وَكَثُرت أَتْبَاعه فغلوا فِي محبته وأفرطوا فِيهَا حَتَّى نسبه بَعضهم إِلَى النُّبُوَّة قَالَ وَفَشَا ذَلِك الغلو على يَد رجل مِمَّن صحب أَصْحَابه يُقَال لَهُ ابْن عبد الله فَإِنَّهُ تزندق وَذهب مَذْهَب الإباضية على مَا حكى عَنهُ واعتقد هَذَا الْمَذْهَب الخسيس كثير من الغوغاء وأجلاف الْعَرَب وَأهل الْأَهْوَاء من الحواضر وتعرف هَذِه الطَّائِفَة باليوسفية قَالَ وَلم يكن الْيَوْم بالمغرب من طوائف المبتدعة سوى هَذِه الطَّائِفَة وَسمعت بعض الْفُضَلَاء يَقُول إِنَّه قد ظهر ذَلِك فِي حَيَاة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور فَلَمَّا بلغه ذَلِك قَالَ من قَالَ عَنَّا مَا لم نَقله يَبْتَلِيه الله بِالْعِلَّةِ والقلة وَالْمَوْت على غير مِلَّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 قَالَ صَاحب الدوحة وَلَقَد أَشَارَ الْفُقَهَاء على السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بالاعتناء بحسم مَادَّة فَسَاد هَذِه الطَّائِفَة فسجن جمَاعَة مِنْهُم وَقتل آخَرين وَهَؤُلَاء المبتدعة لَيْسُوا من أَحْوَال الشَّيْخ فِي شَيْء وَإِنَّمَا فعلوا كَفعل الروافض والشيعة فِي أئمتهم وَإِنَّمَا أَصْحَاب الشَّيْخ كَأبي مُحَمَّد الْخياط وَالشَّيْخ الشطيبي وَأبي الْحسن عَليّ بن عبد الله دَفِين تافلالت وأنظارهم من أهل الْفضل وَالدّين وَإِلَّا فالأئمة المقتدى بهم كلهم يعظم الشَّيْخ ويعترف لَهُ بِالْولَايَةِ وَالْعلم والمعرفة اه وَقَالَ فِي الْمرْآة مَا نَصه وَالشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي الملياني من كبار الْمَشَايِخ أهل الْعلم وَالْولَايَة وَعُمُوم البركات وَالْهِدَايَة وَكَانَ كثير التَّلْقِين فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الخروبي أهنت الْحِكْمَة فِي تلقينك الْأَسْمَاء للعامة حَتَّى النِّسَاء فَقَالَ لَهُ قد دَعونَا الْخلق إِلَى الله فَأَبَوا فقنعنا مِنْهُم بِأَن نشغل جارحة من جوارحهم بِالذكر قَالَ الشَّيْخ الخروبي فَوَجَدته أوسع مني دَائِرَة قَالَ صَاحب الْمرْآة وانتسبت إِلَيْهِ الطَّائِفَة الْمَعْرُوفَة بالشراقة بتَشْديد الرَّاء وَهُوَ بَرِيء من بدعتهم فَمَا كَانَ إِلَّا إِمَام سنة وَهدى مقتدى بِهِ فِي الْعلم وَالدّين قد نزهه الله وطهر جَانِبه وَقد أظهرُوا شَيْئا من ذَلِك فِي حَيَاته فتبرأ مِنْهُم وَقَاتلهمْ وَبلغ المجهود فِي تشريدهم قَالَ وحَدثني شَيخنَا أَبُو عبد الله النيجي أَن الشَّيْخ أَبَا الْبَقَاء عبد الْوَارِث اليالصوتي لما ظَهرت بِدعَة الشراقة وانتسابهم إِلَيْهِ وَقع فِي نَفسه من ذَلِك شَيْء فَقيل لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد الْخياط من أَصْحَابه فَقَالَ أَنا تائب إِلَى الله كفى فِي طَهَارَة جَانِبه أَن يكون الْخياط من أَصْحَابه وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ الملياني سنة سبع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة لَكِن مَا كَانَ عنفوان تِلْكَ الْبِدْعَة المدسوسة عَلَيْهِ إِلَّا فِي دولة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَمَا مر وَالله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 احتيال النَّصَارَى بمكيدة البارود بِجَامِع الْمَنْصُور من مراكش وَمَا وقى الله تَعَالَى من شَرها كَانَ بقصبة مراكش جمَاعَة من أُسَارَى النَّصَارَى من لدن أَيَّام أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وأخيه أبي عبد الله الشَّيْخ فَرَأَوْا الجم الْغَفِير من أَعْيَان الْمُسلمين وَأهل الدولة يحْضرُون كل جُمُعَة للصَّلَاة مَعَ السُّلْطَان بِجَامِع الْمَنْصُور من القصبة الْمَذْكُورَة فحدثتهم نفسهم الشيطانية بِأَن يصنعوا مكيدة يهْلكُونَ بهَا السُّلْطَان وَمن مَعَه فَحَفَرُوا فِي خُفْيَة تَحت الْجَامِع الْمَذْكُور حُفْرَة ملأؤها من البارود وَوَضَعُوا فِيهَا فتيلا تسري فِيهِ النَّار على مهل كي يَنْقَلِب الْجَامِع بأَهْله وَقت الصَّلَاة فنفطت المينا وانهدت بهَا الْقبَّة الواسعة من الْجَامِع الْمَذْكُور وَانْشَقَّ مناره شقا كَبِيرا وَلَا زَالَ ماثلا بِهِ إِلَى الْآن وَكَانَ ذَلِك مبلغ ضررهم وَكفى الله الْمُسلمين شَرّ تِلْكَ المكيدة وَلم يتَمَكَّن لَهُم الْحَال على وفْق مَا أَرَادوا وَكَانَ ذَلِك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَفَاة السُّلْطَان أبي مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه رَحمَه الله قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي فِي شرح درة السلوك توفّي السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِسَبَب غم كَانَ يَعْتَرِيه اه وَهَذَا الْغم هُوَ الدَّاء الْمُسَمّى عِنْد الْعَامَّة بالضيقة أعاذنا الله مِنْهُ وَذكر غَيره أَنه توفّي فِي شَوَّال بِسَبَب تكلفه للصيام فعدت عَلَيْهِ الْعلَّة الْمَذْكُورَة وشاع على أَلْسِنَة النَّاس أَنه بَات يُصَلِّي لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان فوافته ميتَته وَهُوَ ساجد وَذَلِكَ كذب وَدفن رَحمَه الله عِنْد ضريح أَبِيه بقبور الْأَشْرَاف وقبره مَعْرُوف وَمِمَّا كتب بالنقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات (أيا زائري هَب لي الدُّعَاء ترحما ... فَإِنِّي إِلَى فضل الدُّعَاء فَقير) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 (وَقد كَانَ أَمر الْمُؤمنِينَ وملكهم ... إِلَى وصيتي فِي الْبِلَاد شهير) (فها أَنا ذَا قد صرت ملقى بحفرة ... وَلم يغن عني قَائِد ووزير) (تزودت حسن الظَّن بِاللَّه راحمي ... وزادي بِحسن الظَّن فِيهِ كثير) (وَمن كَانَ مثلي عَالما بحنانه ... فَهُوَ بنيل الْعَفو مِنْهُ جدير) (وَقد جَاءَ إِن الله قَالَ ترحما ... إِلَى مَا يظنّ العَبْد بِي سيصير) وَحكى أَنا ابْنه أَبَا عبد الله الْمَعْرُوف بالمسلوخ لما قَرَأَ هَذِه الأبيات عاقب ناظمها وَقَالَ لَهُ إِن فِي قَوْلك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحا إِلَى الحَدِيث (الْقَبْر رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَو حُفْرَة من حفر النَّار) فَهَلا قلت ببلقع أَو نَحوه بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان أَبُو مُحَمَّد عبد الله الْغَالِب بِاللَّه ذَا سياسة وخبرة بأحوال الْملك وتأن فِي الْأُمُور وَلما ولي الْخلَافَة ألان الْجَانِب وخفض الْجنَاح وَسَار بسيرة حَسَنَة حَتَّى صلحت الرّعية وازدانت الدُّنْيَا وانتعش النَّاس حَتَّى كَانَ يُقَال ثَلَاث عينات هم عُيُون الزَّمَان السُّلْطَان الْمولي عبد الله وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن المغاري وَالشَّيْخ أَبُو السرُور عياد السُّوسِي قَالَ اليفرني وَرَأَيْت من جملَة سُؤال كتب بِهِ الْفَقِيه الصَّالح خطيب الْجَامِع الْأَعْظَم بتارودانت أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن التلمساني إِلَى قَاضِي الْجَمَاعَة أبي مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني يَقُول فِيهِ وَلَا شكّ أَن مولَايَ عبد الله مجمع على عَدَالَته وبيعته وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة من أَصْحَاب الشَّيْخ الْجَامِع أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي أَنه قَالَ مولَايَ عبد الله ياقوتة الْأَشْرَاف هُوَ صَالح لَا سُلْطَان وَقد اشْتهر بَين الْأَنَام وعَلى أَلْسِنَة الْخَاص وَالْعَام أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَانَ عدلا صَالحا وَوَقع فِي الرسَالَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 الَّتِي كتب بهَا ابْن أَخِيه السُّلْطَان أَبُو الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن مَنْصُور إِلَى الْفَقِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي مَا ظَاهره يُخَالف ذَلِك وَيُؤذن بِأَنَّهُ كَانَ كَغَيْرِهِ من الْمُلُوك وَنَصّ الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من تِلْكَ الرسَالَة مُخَاطبا للفقيه الْمَذْكُور يَقُول وَقد تحققت وَعلمت أَن ولَايَة أَحْمد بن مُوسَى السملالي كَادَت تكون قَطْعِيَّة واشتهر أمره عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى أطبق أهل الْمغرب على ولَايَته وَقد كَانَ على عهد مَوْلَانَا عبد الله برد الله ضريحه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر عَنهُ وَمَا برح الشَّيْخ الْمَذْكُور يَدْعُو لَهُ ولدولته بِالْبَقَاءِ وَيظْهر حبه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يعْزل ويولي وَيقتل وَكَانَ شرد مِنْهُ إِلَى زاويته المرابط الأندلسي وَولد آصناك وأمثالهم وَكَانَ الشَّيْخ يقدم للشفاعة فَيشفع وَلَا يتعقب وَلَا يبْحَث عَمَّا وَرَاء ذَلِك بَاقٍ على عَهده ومودته وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور بعث لِابْنِ حُسَيْن بسد دَاره فَمَا فتحهَا حَتَّى أمره وَلَا استعظم أحد ذَلِك وَلَا أَكثر فِيهِ وَلَا جعله سَببا لفتح الْفِتْنَة وَكَانَ قواد الْمَذْكُور مثل وزيره ابْن شقراء وَبعد الْكَرِيم بن الشَّيْخ وَعبد الْكَرِيم بن مُؤمن العلج والهبطي والزرهوني وَعبد الصَّادِق بن مُلُوك وَغَيرهم مِمَّن لَا يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا فِي شرب الْخُمُور واتخاذ القيان وَبسط الْحَرِير وَغير ذَلِك من آلَات الْفضة وَالذَّهَب وَكَانَ فِي عصره أَحْمد بن مُوسَى الْمَذْكُور وَابْن حُسَيْن والشرقي وَأَبُو عَمْرو القسطلي وَأَبُو مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التامنارتي والشيظمي وَغير هَؤُلَاءِ من الْمَشَايِخ وَأهل الدّين الَّذين لَا يسع من يَدعِي هَذِه الطَّرِيقَة التَّقَدُّم عَلَيْهِم وَلَا اكْتِسَاب الْفَضِيلَة دونهم فَأحْسنُوا السِّيرَة وَلَا تعرضوا للسلطنة وَلَا سمع مِنْهُم مَا يقْدَح فِي وُلَاة الْأَمر وقادة الأجناد مِمَّن ذكر الَّذين كَانَ الْملك يَدُور عَلَيْهِم وَيرجع إِلَيْهِم فِي تَدْبيره اه الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من الرسَالَة الْمَذْكُورَة قَالَ اليفرني وَمثل هَذَا مَا ذكر بَعضهم أَن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أعْطى حجر باديس للطاغية لتنقطع بذلك مَادَّة التّرْك عَنهُ وَمثله مَا ذكر عَنهُ أَيْضا أَن قائده ابْن تودة أَخذ بعض أسوار الجديدة وعزم على فتحهَا من الْغَد فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور ينهاه عَن ذَلِك وَنَظِيره أَيْضا قَضيته مَعَ أهل غرناطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وَأطَال فِيهَا هَذَا الْبَعْض الْمَنْقُول عَنهُ بِمَا استنكفت من ذكره هُنَا قَالَ وَهَذِه أُمُور شنيعة إِن صَحَّ أَنه فعلهَا وَلست أَدخل فِي عهدتها لِأَنِّي إِنَّمَا رَأَيْتهَا فِي أوراق مَجْهُولَة الْمُؤلف اشْتَمَلت على ذمّ هَذِه الدولة السعدية وظني أَنَّهَا من وضع بعض أعدائهم لحطة من قدرهم وإخراجه إيَّاهُم من النّسَب الشريف وَوَصفه دولتهم بالدولة الخبيثة فَلِذَا تجنبت مِنْهُم كثيرا من الْأَخْبَار الَّتِي لَا تظن بأولئك السَّادة رَحِمهم الله فقد قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين السُّبْكِيّ رَحمَه الله فِي طبقاته إِن المؤرخين على شفا جرف هار لأَنهم يتسلطون على أَعْرَاض النَّاس وَرُبمَا وضعُوا من النَّاس تعصبا أَو جهلا أَو اعْتِمَادًا على نقل من لَا يوثق بِهِ قَالَ فعلى المؤرخ أَن يَتَّقِي الله تَعَالَى اه إِلَّا أَن الْمُلُوك لَا يستغرب فِي حَقهم أَن يهدموا أساس الشَّرِيعَة ليبنوا منار رياستهم ويستهونوا عظائم الْأُمُور لتطيعهم الرّعية سَاعَة كَيفَ لَا وشراع أفئدتهم تلعب بِهِ ريَاح الشَّهَوَات فتلقي سفينة قُلُوبهم على سَاحل بَحر الْقنُوط من رَحْمَة الله تَعَالَى وَالله يسامح الْجَمِيع ويتجاوز عَن كَافَّة عصاة هَذِه الْأمة بمنه وفضله اه كَلَام اليفرني رَحمَه الله وَمن وزراء السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ابْن أَخِيه الْأَمِير الْأَجَل الأديب الأحفل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الشَّيْخ كَانَ من أنبل الوزراء وألطفهم مسلكا وأخفهم روحا وَله عارضة فِي النّظم والنثر ذكر الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الفاسي فِي كِتَابه الْأَعْلَام بِمن مضى وغبر من أهل الْقرن الْحَادِي عشر مَا صورته قدم الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر السَّعْدِيّ من مراكش إِلَى فاس وَمَعَهُ الْفَقِيه قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي والفقيه الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المنجوز فَلَمَّا تبدت لَهُم معالم فاس الْجَدِيد وتلظى للشوق فِي جوانحهم أوار (وأبرح مَا يكون الشوق يَوْمًا ... إِذا دنت الديار من الديار) وَأنْشد الْوَزير الْمَذْكُور لنَفسِهِ ارتجالا (أخلائي هَذَا المستقى وربوعه ... وهذي نواعير الْبِلَاد تنوح) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 (وَذَاكَ الْمصلى مطرح الشوق والأسى ... وَتلك منَازِل الديار تلوح) فَقَالَ القَاضِي الْحميدِي ارتجالا (وَتلك القباب الْخضر شبه زبرجد ... بِهن غوان طرفهن جموح) (يمسن كأملود من الرَّوْض يَانِع ... شذاهن من حول الديار يفوح) فَقَالَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس المنجور ارتجالا أَيْضا (ويرفلن فِي الحلات يختلن فِي الحلى ... وفيهن أَنْوَاع الْجمال وضوح) (يبادرن ترقيع الكوى بمحاجر ... لإقبال حب طَال مِنْهُ نزوح) وَلما بلغت الأبيات إِلَى الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الزموري قَالَ مذيلا (تَأمل سنا الْحَسْنَاء تَحت قبابها ... كشمس غَدَتْ تَحت السَّحَاب تلوح) (تحلت ربوع المستقي بجمالها ... وَأَنت إِلَى تِلْكَ القباب تروح) وَبَعْضهمْ جعل الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين للْمولى الأديب أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف السجلماسي وَكَانَ كَاتبا للوزير الْمَذْكُور وَيجْعَل مَوضِع أخلائي أمولاي والبيتين بعدهمَا للوزير وَالله تَعَالَى أعلم والمستقى بِصِيغَة اسْم الْمَفْعُول اسْم بُسْتَان مَعْرُوف وَنَظِير هَذَا مَا ذكره الأديب الْمَذْكُور فِي أَعْلَامه الْمَذْكُور قَالَ كَانَ الْوَزير الْمَذْكُور مَعَ كَاتبه الْمولى عبد الْوَاحِد الشريف فِي بعض الْأَسْفَار وَأرْسلت السَّمَاء بغيثها المدرار فَقَالَ الْوَزير الْمَذْكُور (لله أَشْكُو غَدَاة السفح إِذْ ركضت ... أَيدي المطايا وحادي الرّيح يحدونا) فَأَجَابَهُ الْكَاتِب الْمَذْكُور (والغيم فِي الْأُفق قد أرْخى ذوائبه ... بأسهم الودق لَا يَنْفَكّ يرمينا) فَقَالَ الْوَزير (حَتَّى اسْتَوَى المَاء والآكام واستترت ... معالم الرشد لَا خريت يهدينا) (فطلت الْخَيل فِي الأمواج سابحة ... سبح السلاحف نَحْو الدَّار يهوينا) فَقَالَ الْكَاتِب (وَالنَّفس فِي قلق لبين مألفها ... والشوق يَحْدُو بِنَا وَالْحَال يقصينا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 فَقَالَ الْوَزير (كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... حَتَّى غَدا الطير فَوق السَّرْح يفشينا) وأخبار هَذَا الْوَزير ونوادره كَثِيرَة وَهُوَ الَّذِي أخرج بني رَاشد من مَدِينَة شفشاون حَسْبَمَا مر وَكَانَت وَفَاته فِي الْعشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَمن وزراء السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه أَيْضا الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن مُؤمن بن يحيى العلج الجنوي وَعبد الرَّحْمَن بن تودة وقاسم الزرهوني وَأحمد الهبطي وَمن وُلَاة مظالمه أَبُو عمرَان مُوسَى بن مخلوف الكنسوسي وَهُوَ وَالِي الشرطة وَكَانَ فَقِيها مشاركا وَذكر بَعضهم أَن الشَّيْخ الصَّالح أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي كَانَ فِي بعض قدماته على السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه قد انحشر النَّاس لزيارته بزاويته فَوقف أَبُو عمرَان الْمَذْكُور يذود النَّاس عَنهُ وَيَقُول رحمكم الله من زار خرج فَسَمعهُ الشَّيْخ فَقَالَ لَهُ لَا تقل ذَلِك وَقل من جَار خرج وَمن كتاب السُّلْطَان الْمَذْكُور مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السجلماسي وَمُحَمّد بن أَحْمد بن عِيسَى وَغَيرهمَا وَمن قُضَاته بمراكش الْفَقِيه قَاضِي الْجَمَاعَة أَبُو الْقَاسِم بن عَليّ الشاطبي وبفاس أَبُو عبد الله الْعَوْفِيّ وَأَبُو مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي رَحِمهم الله الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد المتَوَكل على الله ابْن السُّلْطَان عبد الله الْغَالِب بِاللَّه رَحمَه الله لما توفّي السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِحَضْرَة مراكش كَانَ ابْنه مُحَمَّد هَذَا بفاس وَكَانَ ولي عهد أَبِيه فَاجْتمع أهل العقد والحل بمراكش واستأنفوا لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 الْبيعَة وَكَتَبُوا بهَا إِلَيْهِ فوصلت إِلَيْهِ وَهُوَ بفاس أَوَائِل شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَبَايعهُ أهل فاس وَتمّ أمره قَالَ ابْن القَاضِي أمه أم ولد وكنيته أَبُو عبد الله ولقبه المتَوَكل على الله وَيعرف عِنْد الْعَامَّة بالمسلوخ لِأَنَّهُ سلخ جلده وَحشِي تبنا كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ مِمَّا وَقع فِي أَيَّامه أَنه كَانَت بَين الْمُسلمين وَبَين نَصَارَى طنجة وقْعَة بالرملة الْمُسَمَّاة بِأبي غاص من فحص طنجة قرب قنطرة عصماء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء منتصف جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَفِي هَذِه الْوَقْعَة اسْتشْهد الشَّيْخ أَبُو مهْدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي دَفِين الدعادع على وَادي مُضِيّ من عمل الْقصر فَإِنَّهُ حمل بعد استشهاده إِلَى الْموضع الْمَذْكُور فَدفن بِإِزَاءِ قبر أَبِيه فِي الرَّوْضَة الَّتِي هُنَالك وَاسْتمرّ أَمر أبي عبد الله المتَوَكل منتظما إِلَى أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَقدم عَلَيْهِ عَمه عبد الْملك ابْن الشَّيْخ بِجَيْش التّرْك فنثر سلكه وبدد ملكه على مَا نذكرهُ وَيُقَال إِنَّه كَانَ أضمر الفتك بعميه أَحْمد وَعبد الْملك ففرا مِنْهُ إِلَى نَاحيَة التّرْك على مَا سَيَأْتِي قَالُوا وَكَانَ السُّلْطَان الْمَذْكُور فَقِيها أديبا مشاركا مجيدا قوي الْعَارِضَة فِي النّظم والنثر وَكَانَ مَعَ ذَلِك متكبرا تياها غير مبال بِأحد وَلَا متوقفا فِي الدِّمَاء عسوفا على الرّعية وَمن شعره قَوْله (فَقُمْ بِنَا نصطبح صهباء صَافِيَة ... فِي وَجههَا عسجد فِي وَجهه نقط) (وانهض إِلَيْهَا على رغم العدا قلقا ... فَإِن تَأْخِير أَوْقَات الصِّبَا غلط) وَمن شعره أَيْضا قَوْله (سَارُوا فَسَار فُؤَادِي إِثْر ظعنهم ... وخلفوني نحيل الْجِسْم حيرانا) (لَا افتر ثغر الثرى من بعد بَينهم ... وَلَا سقى هاطل وردا وريحانا) وَكَانَ خَلِيفَته بمراكش الْقَائِد ابْن شقراء وحاجبه أَحْمد بن حمو الدرعي وَكتابه يُونُس بن سُلَيْمَان الثاملي وَعلي بن أبي بكر وَغَيرهمَا رَحِمهم الله تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك المعتصم بِاللَّه ابْن مُحَمَّد الشَّيْخ وأولية أمره ومآله كَانَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أبي عبد الله الشَّيْخ السَّعْدِيّ وَأَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَدْعُو بعد بالمنصور مقيمين بسجلماسة سَائِر أَيَّام أَبِيهِمَا فَلَمَّا توفّي وَولي الْأَمر بعده ابْنه الْغَالِب بِاللَّه فر عبد الْملك وَأحمد إِلَى تلمسان خوفًا على أَنفسهمَا مِنْهُ فأقاما عِنْد صَاحبهَا حسن بن خير الدّين مُدَّة وَلحق بهما أخوهما عبد الْمُؤمن فَصَارَ ثَالِثَة الأثافي ثمَّ انتقلوا بعد ذَلِك إِلَى الجزائر وَمِنْهَا ركب عبد الْملك الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة متطارحا على صَاحبهَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان العثماني رَحمَه الله فأمده بالجند حَتَّى ملك الْمغرب كَمَا سَيَأْتِي ولنذكر هُنَا كَيْفيَّة اسْتِيلَاء العساكر العثمانية على تونس وانقراض أَمر الحفصيين مِنْهَا ثمَّ نرْجِع إِلَى بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي مَرْوَان المعتصم بِاللَّه لِأَنَّهَا تنبني على ذَلِك فَنَقُول اعْلَم أَن أَمر بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس كَانَ قد مرج فِي هَذِه الْمدَّة وتداعى إِلَى الاختلال وَكَانَ خير الدّين باشا التركي الْمُقدم ذكره فِي أَخْبَار تلمسان قد استولى على تونس فِي حُدُود الْأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَغلب عَلَيْهَا صَاحبهَا الْحسن بن مُحَمَّد الحفصي ففر الْحسن الْمَذْكُور إِلَى طاغية الإصبنيول صَاحب قشتالة فَأعْطَاهُ العساكر وَجَاء بهَا إِلَى تونس فَنزل عَسْكَر النَّصَارَى ببرج الْعُيُون قرب حلق الْوَادي وتقدموا إِلَى تونس فملكوها وَانْهَزَمَ خير الدّين إِلَى الجزائر وشارك النَّصَارَى الْحسن بن مُحَمَّد فِي إمرة تونس واستباحوا أَهلهَا قتلا وأسرا ونهبا يُقَال إِنَّهُم قتلوا من أهل تونس الثُّلُث وأسروا الثُّلُث وأبقوا الثُّلُث وكل ثلث سِتُّونَ ألفا هَكَذَا عِنْد صَاحب الْخُلَاصَة النقية ثمَّ ملكوا الْموضع الْمُسَمّى بحلق الْوَادي وَلَيْسَ هُنَاكَ وَاد عذب وَإِنَّمَا هُوَ جون دخل من الْبَحْر فِي الْبر وَعَلِيهِ مرسى تونس ثمَّ بنى النَّصَارَى فِي الْحلق الْمَذْكُور حصنا عاديا أَقَامُوا فِي بنائِهِ نَحْو ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة بِحَيْثُ عجز التّرْك عَن هَدمه لما ملكوه بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 ثمَّ ثار على الْحسن ابْنه أَحْمد الْمَدْعُو حميدة وَملك الحضرة مُدَّة وَقَاتل نَصَارَى حلق الْوَادي فامتنعوا عَلَيْهِ ثمَّ غزاه عَليّ باشا صَاحب الجزائر وَاسْتولى على تونس سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وطرد أَحْمد عَنْهَا فَذهب أَحْمد إِلَى طاغية قشتالة مستغيثا بِهِ شَأْن أَبِيه من قبله هَذَا كُله ونصارى الْحلق لَا زَالُوا متمكنين مِنْهُ أَي تَمْكِين فأمد الطاغية أَحْمد الْمَذْكُور بأسطول عَظِيم وَاشْترط عَلَيْهِ أَدَاء مَال فَالْتَزمهُ وَلما وصل الأسطول إِلَى ظَاهر تونس اطلع قائده السُّلْطَان أَحْمد على كتاب من الطاغية مضمنه الْمُشَاركَة فِي الحكم فَأنْكر أَحْمد ذَلِك وأنف مِنْهُ وَذهب إِلَى صقلية فَبَقيَ بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَحمل إِلَى تونس وَكَانَ هُنَالك أَخُوهُ مُحَمَّد بن الْحسن فَرضِي بالمقاسمة وَدخل بالنصارى إِلَى تونس فاستولى عَلَيْهَا وَملك قصبتها وجالسه شَرِيكه النَّصْرَانِي بهَا وانتهبت الْمَدِينَة وأهين الدّين وَعم الخراب وتكدر المشرب وتفرق الْجمع وارتبطت خيل العدا بالجامع الْأَعْظَم وألقيت مَا فِيهِ من نفائس الْكتب بالطرق ونبش قبر الشَّيْخ أبي مَحْفُوظ مُحرز بن خلف فَلم يُوجد فِيهِ إِلَّا الرمل حماية من الله لَهُ وحاشا أَن تعدو الأَرْض على جَسَد مثله وَأرْسل مُحَمَّد بن الْحسن إِلَى النَّاس بالأمان واستمالهم النَّصْرَانِي بعد بكاذب الرِّفْق فأقاموا بدار مذلة وهوان واتصل ذَلِك كُله بالسلطان سليم بن سُلَيْمَان العثماني فأعظمه وجهز الْعِمَارَة للحين مَعَ الْوَزير سِنَان باشا يُقَال كَانَت أَرْبَعمِائَة وَخمسين قِطْعَة فَخرج بهَا الْوَزير الْمَذْكُور من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَهِي إصطنبول غرَّة ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة ووصلوا إِلَى حلق الْوَادي فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَكَانَ حيدر باشا صَاحب القيروان ومصطفى باشا صَاحب طرابلس محاصرين لتونس قبل ذَلِك حَتَّى فتر عزمهم فَلَمَّا قدم عَلَيْهِم سِنَان باشا قويت نُفُوسهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وتقدموا إِلَى الْحصن الَّذِي بحلق الْوَادي فحاصروه حَتَّى اقتحموه عنْوَة سادس جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة واستلحموا من بِهِ وغنموا مَا فِيهِ والتجأ مُحَمَّد بن الْحسن الحفصي وأنصاره من النَّصَارَى إِلَى البستيون وَهُوَ حصن آخر كَانُوا قد بنوه خَارج بَاب تونس فَحَاصَرَهُمْ سِنَان باشا بِهِ حَتَّى اقتحمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 عنْوَة وَقتلُوا من بِهِ وامتلأت أَيْديهم من الْمَغَانِم وطهر الله بهم الْبِلَاد وَكَانَت إِحْدَى الوقائع الجليلة الْقدر الْبَاقِيَة الذّكر وظفر الْوَزير بِمُحَمد بن الْحسن فاحتمله مَعَه إِلَى السُّلْطَان سليم فاعتقله فِي يَد قلَّة أحد حصونه حَتَّى هلك وانقرضت بمهلكه دولة بني أبي حَفْص الَّتِي هِيَ بَقِيَّة الْمُوَحِّدين إِذا علمت هَذَا فَاعْلَم أَن اسْتِيلَاء العساكر العثمانية على تونس كَانَ قبل وَفَاة السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِنَحْوِ خَمْسَة أشهر لِأَن وَفَاته كَانَت فِي آخر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا مر وَفتح تونس كَانَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وَوَقع فِي النزهة أَن فتح تونس كَانَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَهُوَ غير صَوَاب وَالله تَعَالَى أعلم مَجِيء السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك بن الشَّيْخ السَّعْدِيّ بعسكر التّرْك واستيلاؤه على الْمغرب اعْلَم أَنه وَقع فِي النزهة وَغَيرهَا أَن عبد الْملك بن الشَّيْخ وأخاه أَحْمد كَانَا فِي ابْتِدَاء أَمرهمَا بسجلماسة فَلَمَّا توفّي أَبوهُمَا وَولي أخوهما الْغَالِب بِاللَّه لَحقا بتلمسان فأقاما بهَا مُدَّة ثمَّ انتقلا إِلَى الجزائر فَلَمَّا اتَّصل بهما خبر وَفَاة أخيهما الْغَالِب وَولَايَة ابْنه مُحَمَّد المتَوَكل من بعده ركب عبد الْملك الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وتطارح على ملكهَا العثماني فِي أَن يمده بِجَيْش ليملك الْمغرب فتثاقل عَنهُ العثماني إِلَى أَن بعث بالعمارة لفتح تونس فَشهد عبد الْملك الْفَتْح وَعَاد إِلَيْهِ بالبشارة فأسعفه وَهَذَا غير صَوَاب من جِهَة أَن فتح تونس كَانَ مُتَقَدما على وَفَاة الْغَالِب بِاللَّه كَمَا مر اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ عبد الْملك وَفد على العثماني مستعديا على أَخِيه الْغَالِب بِاللَّه وَفِي أثْنَاء ذَلِك توفّي وَولي ابْنه المتَوَكل فَيكون الْكَلَام صَحِيحا وَأما مَا فِي النزهة مِمَّا يَقْتَضِي تَأَخّر فتح تونس عَن وَفَاة الْغَالِب بِاللَّه فَغير صَوَاب كَمَا مر ولنذكر مَا حكوه من ذَلِك فَنَقُول لما بُويِعَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 المتَوَكل على الله كَانَ عبد الْملك بن الشَّيْخ وَأَخُوهُ أَحْمد الْمَدْعُو بعد بالمنصور بالجزائر فركبا الْبَحْر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى قَاصِدين السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان العثماني رَحمَه الله وَمَعَ عبد الْملك أمه سَحَابَة الرحمانية وَزعم بَعضهم أَن الَّتِي كَانَت مَعَهُمَا مسعودة الوزكيتية وَهِي أم أَحْمد مِنْهُمَا فَانْتَهَيَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وتعلقا بكرَاء الدولة حَتَّى أدخلوهما على السُّلْطَان سليم وَدخلت أمهما دَاره وطلبوا مِنْهُ أَن يبْعَث مَعَهم العساكر لتملك الْمغرب ويقوموا فِيهِ بدعوته فتثاقل عَنْهُم مُدَّة إِلَى أَن كَانَ الْغَزْو إِلَى تونس فَكتب السُّلْطَان سليم إِلَى أهل الجزائر وَأهل طرابلس أَن يوجهوا قراصينهم لحصار تونس مَعَ الْعِمَارَة الموجهة من قبله فَطلب عبد الْملك وَأَخُوهُ أَحْمد من الدولاتي وَهُوَ صَاحب الجزائر أَن يَجْعَل لَهما رياسة قرصان مِنْهُمَا يتوجهان فِيهِ للْجِهَاد مَعَه فَأَعْطَاهُمَا غليوطة فِيهَا سِتَّة وَثَلَاثُونَ رجلا فركباها ولحقا بعمارة السُّلْطَان سليم فِي جملَة مراكب الجزائر هَكَذَا وَقع فِي سِيَاقَة هَذَا الْخَبَر وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا كَانَا يَوْمئِذٍ بالجزائر لَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فلعلهما عادا إِلَيْهَا من عِنْد السُّلْطَان سليم إِلَى أَن سافرا فِي جملَة عَسْكَر الجزائر وَالله تَعَالَى أعلم وَلما فتحُوا تونس واستأصلوا من بهَا من الْكفَّار حَسْبَمَا مر عين رَئِيس الْعِمَارَة العثمانية مركبين يتوجهان بِكِتَاب الْفَتْح إِلَى السُّلْطَان سليم فَطلب مِنْهُ عبد الْملك وَأحمد أَن يَأْذَن لَهما فِي الذّهاب مَعَهُمَا بالغليوطة ليأتيا بأمهما الَّتِي تركاها هُنَالك فَلم يَزَالَا بالرئيس الْمَذْكُور حَتَّى أسعفهما فَكَانَ من قدر الله تَعَالَى أَن هاج الْبَحْر عَلَيْهِم ذَات لَيْلَة فَفرق مراكبهم وَلما أصبح عبد الْملك وَأحمد لم يجدا للمركبين أثرا فوافقهم السعد وساعدتهم الرّيح فوصلوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة قبل المركبين بِثَلَاث واتصل خبرهما بالصدر الْأَعْظَم فأحضرهما وسألهما عَن الْعِمَارَة وَمَا كَانَ مِنْهَا فَأَخْبَرَاهُ بِفَتْح تونس وقصا عَلَيْهِ الحَدِيث من البدء إِلَى التَّمام فَأعْلم السُّلْطَان سليما بهما فأدخلهما عَلَيْهِ وسألهما كَذَلِك فَأَخْبَرَاهُ وسألهما عَن كتاب الْفَتْح إِن أَمِير الْعِمَارَة قد بعث بِهِ مَعَ مركبين صحبناهما إِلَى أَن فرق بَيْننَا الْبَحْر وَلم ندر مَا كَانَ مِنْهُمَا بعد ذَلِك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وَلما رَأيا من السُّلْطَان سليم تنازلا واهتزازا لكلامهما طلبا مِنْهُ فِي بشارتهما أَن يبْعَث مَعَهم العساكر إِلَى الغرب وشفعا فِي إِنْزَال رَأس والدهما وَدَفنه فَقبل شفاعتهما ثمَّ أَمر بهما إِلَى بعض الْمنَازل فأنزلهما بِهِ وأكرمهما وَبعث إِلَيْهِمَا بِالْأُمِّ الَّتِي كَانَت هُنَالك وأرجأ أَمرهمَا إِلَى قدوم الْخَبَر الْيَقِين وَبعد ثَلَاث قدم المركبان ومعهما كتاب الْفَتْح وَظهر صدق عبد الْملك الْملك وَأحمد فَحِينَئِذٍ أقبل عَلَيْهِمَا السُّلْطَان سليم وأعطاهما مَالا وسلاحا وَزَادا وَكتب لَهما فرمانا للدولاتي صَاحب الجزائر ليَبْعَث مَعَهُمَا خَمْسَة آلَاف من عَسْكَر التّرْك تطَأ مَعَهُمَا أَرض الْمغرب الْأَقْصَى وَلما قدما على الدولاتي بالفرمان وقرأه على أهل الدِّيوَان قَالُوا علينا الرِّجَال وَعَلَيْهِمَا المَال وَهَذِه عادتنا مَعَ السُّلْطَان وَلما لم يكن عِنْدهمَا مَال يَوْمئِذٍ تطارحا على الخزندار وعَلى الآغا وَالْوَكِيل وأهديا إِلَيْهِم ورغبا مِنْهُم أَن يسلفوهما مَا ينفقانه فِي وجهتهما تِلْكَ إِلَى أَن يبعثا بِهِ إِلَيْهِم من الْمغرب فسهلوا لَهما وَقومُوا الْعَسْكَر بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ وفرضوا لَهُ الْمُؤْنَة كل يَوْم بيومه إِلَى أَن يرجع وَأشْهدُوا عَلَيْهِمَا بذلك فِي دفتر فَقبلا وأعطوا خطوطهما بِهِ ثمَّ نَهَضَ عبد الْملك وَأَخُوهُ إِلَى الْمغرب يجران عَسَاكِر التّرْك خلفهمَا وَكتب عبد الْملك إِلَى شيعته بالمغرب يعرفهُمْ قدومه ويعدهم ويمنيهم إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ وسَاق اليفرني هَذَا الْخَبَر وَفِيه بعض مُخَالفَة لما تقدم قَالَ لما فتحت تونس كَانَ عبد الْملك أول من أرسل الْبشَارَة مَعَ أَصْحَابه إِلَى السُّلْطَان العثماني فبلغت الرسَالَة أمه سَحَابَة الرحمانية فأعطتها السُّلْطَان الْمَذْكُور والتمست مِنْهُ أَن يُعْطِيهَا فِي بشارتها أَمر أهل الجزائر بالذهاب مَعهَا إِلَى الْمغرب فَأَعْطَاهَا ذَلِك فجَاء عبد الْملك مَعَ أمه بِكِتَاب السُّلْطَان إِلَى أهل الجزائر يَأْمُرهُم بِالْمَسِيرِ مَعَه لتملك مَا كَانَ بيد آبَائِهِ فطالبه أهل الجزائر بالراتب فَقَالَ لَهُم أسلفوني وَعلي الْقَضَاء فاتفق مَعَهم أَن يعطيهم عشرَة آلَاف لكل مرحلة وَكَانَ عدد جَيش التّرْك أَرْبَعَة آلَاف وَقَالَ فِي شرح الدرة إِن عبد الْملك طلب من رَئِيس التّرْك أَن يُعينهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 بِحِصَّة مِنْهُم توصله إِلَى تخم بِلَاده ليدخلها إِذْ الْجند كُله جند أَبِيه لَا يُمكن أَن يقاتلوه ويضربوا فِي وَجهه لتعظيمهم إِيَّاه فأسعفه على مُرَاده وَأرْسل مَعَه عِصَابَة وَحِصَّة قَليلَة فَأقبل بهم حَتَّى انْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالركن من أحواز فاس فَلَمَّا سمع بذلك ابْن أَخِيه مُحَمَّد المتَوَكل خرج للقائه بِنَفسِهِ وَلما التقى الْجَمْعَانِ نزع رَئِيس جند الأندلس سعيد الرغالي إِلَى عبد الْملك وَكَانَ عبد الْملك يُكَاتب حَاشِيَة المتَوَكل وبطانته ورؤوس أجناده ويعد طائعهم ويوعد عاصيهم فَلَمَّا سمع المتَوَكل بِمَا فعله جند الأندلس فت ذَلِك فِي عضده وفشلت رِيحه وأيقن بالنكبة ظنا مِنْهُ أَن جنده كُله سيفعل فعل الرغالي فَكَانَ ذَلِك سَبَب جزعه وفراره من المعركة وَسبب خراب ملكه وَإِقَامَة ملك عَمه وَيُقَال إِن بعض الْجند لما سمع بِأَن الْقَائِد جرمون وَأَوْلَاد عمرَان نزعوا إِلَى عبد الْملك أَيْضا جَاءَ إِلَى المتَوَكل وَقَالَ لَهُ إِن الْقَائِد ابْن شقراء قد غدر وفر إِلَى عبد الْملك وَكَانَ ابْن شقراء هَذَا من أكبر قواده وأصدقهم لَدَيْهِ فارتاع المتَوَكل لذَلِك وانقلب مُنْهَزِمًا وانتهبت خزائنه وأوقد فِيهَا النَّار ونفط مَا كَانَ بهَا من البارود حَتَّى رئي من رُؤُوس الْجبَال وَلما انهزم المتَوَكل بالركن عطف على فاس الْجَدِيد فَأخذ مِنْهَا مَا يعز عَلَيْهِ من الذَّخِيرَة ثمَّ خرج على وَجهه إِلَى مراكش لَا يلوي على شَيْء فلحق بِهِ الْقَائِد ابْن شقراء بوادي النجَاة على مقربة من فاس وَأَغْلظ لَهُ فِي القَوْل ولامه على عدم التأني والتثبت وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك المعتصم بِاللَّه على حَضْرَة فاس وَمَا يتبع ذَلِك لما انهزم المتَوَكل بالركن وأجفل إِلَى مراكش تقدم عَمه أَبُو مَرْوَان إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة من بَاب الْفتُوح وَبعد أَن دَخلهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ طمحت نَفسه إِلَى اتِّبَاع ابْن أَخِيه إِلَى مراكش وَلما عزم على النهوض إِلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 طَالبه التّرْك بِأَن يردهم إِلَى بِلَادهمْ وَأَن يعطيهم المَال الَّذِي اتّفق مَعَهم عَلَيْهِ وهم يسمونه بلغتهم البقشيش فبذل لكل وَاحِد مِنْهُم أَرْبَعمِائَة أُوقِيَّة واستسلف المَال من تجار أهل فاس حَتَّى يَتَّسِع حَاله فَكَانَ جملَة مَا أعْطى التّرْك خَمْسمِائَة ألف وَأَعْطَاهُمْ عشرَة من الأنفاض مِنْهَا النفض الْكَبِير الَّذِي لَهُ عشرَة أَفْوَاه وَزَادَهُمْ من تحف الْمغرب وطرفه مَا سلى بِهِ نُفُوسهم وَركب لوداعهم بِنَفسِهِ إِلَى نهر سبو ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس وَفِي هَذِه الْمدَّة قبض على قاضيها الْفَقِيه أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي لأمر نقمه عَلَيْهِ وأودعه السجْن فَبعث الْفَقِيه الْمَذْكُور أَوْلَاده إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي النَّعيم رضوَان بن عبد الله الجنوي يطْلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد السُّلْطَان المعتصم بِاللَّه فَكتب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو النَّعيم يحضه على الاستشفاع بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاستمساك بحبله لِأَنَّهُ بَاب الله الْأَعْظَم فَقبل القَاضِي إِشَارَته وَتوجه إِلَى ربه بكليته فَأَتَاهُ الْفرج من حِينه رحم الله الْجَمِيع بمنه نهوض السُّلْطَان أبي مَرْوَان إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا وفرار ابْن أَخِيه إِلَى السوس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان نَهَضَ من فاس فِي جنده الَّذِي أَقَامَهُ وَكَانَ غرس يَده وَفِيمَا انضاف إِلَيْهِ من جند ابْن أَخِيه وَتقدم إِلَى الْبِلَاد المراكشية قَاصِدا حربه وتشريده عَنْهَا وَلما سمع ابْن أَخِيه بِخُرُوجِهِ إِلَيْهِ وقصده إِيَّاه تهَيَّأ لملاقاته وَسَار إِلَى منازلته فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُسمى خَنْدَق الريحان على مقربة من وَادي شراط من أحواز سلا فَكَانَت الْهَزِيمَة أَيْضا على المتَوَكل وفر بِرَأْس طمرة ولجام وأجفل كعادته إجفال النعام وَتَبعهُ أَحْمد الْمَنْصُور خَليفَة أَخِيه أبي مَرْوَان يَوْمئِذٍ فَلَمَّا سمع المتَوَكل باتباعه بعد بُلُوغه إِلَى مراكش فر عَنْهَا إِلَى جبل درن وَأسلم لَهُ مراكش فَدَخلَهَا أَحْمد نَائِبا عَن أَخِيه وَأخذ لَهُ الْبيعَة على أَهلهَا ثمَّ لحق بِهِ السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان فَدَخلَهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 تَاسِع عشر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأقَام بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج فِي طلب ابْن أَخِيه فعميت عَلَيْهِ أنباؤه وَسقط بَين سمع الأَرْض وبصرها فَعَاد أَبُو مَرْوَان إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ اسْتِخْلَاف السُّلْطَان أبي مَرْوَان لِأَخِيهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد على فاس وأعمالها لما اسْتَقر السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان بمراكش وَانْقطع خبر المتَوَكل عَنهُ بالسوس تقدم إِلَيْهِ أَخُوهُ أَحْمد وَسَأَلَهُ أَن يستخلفه على فاس ليكفيه أمرهَا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وولاه عَلَيْهَا ظنا مِنْهُ أَن أَمر الْمغرب قد صفا لَهُ وَإِن المتَوَكل لَا يعود إِلَيْهِ وَكَانَ الْوَزير أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي حَاضرا للطلبة والعطية فَأنْكر ذَلِك وَلم يره صَوَابا وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَكمَا أَن تقعدا حَتَّى يحكم الله بَيْنكُمَا وَبَين ابْن أَخِيكُمَا فغاظ ذَلِك أَحْمد وَظن أَنه من سوء رَأْي عبد الْعَزِيز فِيهِ وبغضه لجانبه فَأَعْرض عَن مقَالَة الْوَزير الْمَذْكُور وَذهب إِلَى فاس خَليفَة عَلَيْهَا وَبَقِي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان بمراكش وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لِأَخِيهِ أَحْمد برسالة يَقُول فِيهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عبد الله المعتصم بِاللَّه الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي مَرْوَان عبد الْملك ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيده الله وأعز نَصره وأسعد زَمَانه الْمُبَارك وعصره وَأبقى بمنه فخره من إمْلَائِهِ أيده الله وَنَصره إِلَى أخينا الْأَعَز الأحظى بَابا أَحْمد حفظه الله السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فَاعْلَم أَنِّي لَا أحب أحدا بعد نَفسِي كمحبتي لَك ورغبتي فِي انْتِقَال هَذَا الْأَمر بعدِي إِلَيْك لَا لغيرك غير أَنِّي أعتاد مِنْك التَّرَاخِي فِي الْأُمُور حَتَّى أَنَّك لَا تبالي بعظيم الْأَمر وَلَا تعتبره إِلَى أَن يتَطَرَّق إِلَى مَا لَا يتلافى جبره من الْأُمُور الَّتِي تكَاد لَوْلَا لطف الله تذْهب بِهَذَا الْملك وتهد أَرْكَانه ويبلغ الْعَدو مَعهَا مناه وَمرَاده من ذَلِك التَّرَاخِي إهمالك أَمر الْجند الَّذِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 بالعرائش وإغفالك لَهُ مَعَ مَا يترادف عَلَيْك فِي كل سَاعَة من تلقائه من استدعاء مَا دعت الْحَاجة إِلَيْهِ من المؤونة والبارود والرصاص الَّذِي لَا يَسْتَقِيم لَهُم أَمر فِي مقاومة الْعَدو دون ذَلِك وَجعلت تقَابل خطابهم بالإهمال وَعدم المبالاة والآن سَاعَة يرد عَلَيْك كتَابنَا هَذَا قبل وَضعه من يدك ابْعَثْ إِلَيْهِم مُؤنَة عشرَة أَيَّام بَيْنَمَا نصل إِن شَاءَ الله فَيَقَع التَّدْبِير فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ زَائِدا على ذَلِك مَعَ مَا عنْدكُمْ هُنَالك من البارود والرصاص من غير عطلة وَلَا تراخ بِحَيْثُ لَا نقبل مِنْك عذرا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى الإهمال وَلَا بُد وَلَا بُد فقد بلغنَا أَن صَاحب النَّصَارَى بِقرب آصيلا فِي خمس عشرَة مائَة من النَّصَارَى وتمنيت أَن لَو حركتك الهمة للاقتحام عَلَيْهِ فِي مَكَانَهُ بِجَيْش يكسوه أردية الصغار وَيرجع سَاعَة رُؤْيَته إِلَى عَادَته من الذل والفرار فانتبه من الْغَفْلَة وَافْتَحْ عين الانتباه واليقظة فَإِن السَّاعَة لَا تَقْتَضِي إِلَّا الحزم والتشمير عَن ساعد الِاجْتِهَاد والعزم وَالسَّلَام اه ظُهُور أبي عبد الله المتَوَكل بالسوس ومجيئه إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا كَانَ أَبُو عبد الله المتَوَكل بعد فراره من مراكش يجول فِي جبال السوس ويتنقل فِي قبائلها وأحيائها إِلَى أَن اجْتمعت عَلَيْهِ طَائِفَة من الصعاليك وتأشب عَلَيْهِ مَا يشبه أَن يكون جَيْشًا فاستهوتهم مِنْهُ الأضاليل وقادهم قَود الْملك الضليل وَجَاء بهم إِلَى مراكش فَسمع بِهِ السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان فَخرج للقائه فخالفه المتَوَكل وسلك طَرِيقا غير طَرِيقه وفجا غير فجه وَقصد مراكش فَدَخلَهَا بِاتِّفَاق أَهلهَا ونصروه وَكَتَبُوا لَهُ الْبيعَة إِلَّا أَنه لم يتَمَكَّن من القصبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 لِأَن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان كَانَ قد ترك بهَا أُخْته السِّت مَرْيَم فِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف من الرُّمَاة فَتَحَصَّنُوا بهَا وَبلغ الْخَبَر أَبَا مَرْوَان باستيلاء المتَوَكل على مراكش فَرجع عوده على بدئه إِلَى أَن وافى الحضرة فحاصره بهَا وَكتب إِلَى أَخِيه أَحْمد الْخَلِيفَة على فاس أَن يَأْتِيهِ بِجَيْش مِنْهَا فَأَتَاهُ بِهِ أَحْمد مسرعا وَمَا انْتهى إِلَى مراكش اجْتمع بالوزير أبي فَارس الوزكيتي فَقَالَ لَهُ أوقفت على الرَّأْي أول الفكرة آخر الْعَمَل فَبَانَت لِأَحْمَد نصيحته وَزَالَ مَا كَانَ يختلج بصدره عَلَيْهِ وَلما جَاءَ أَحْمد بِجَيْش فاس أسلم المتَوَكل شيعته من أهل مراكش وفر إِلَى السوس فَبَقيَ أهل مراكش متمادين على الْحصار إِلَى أَن اتّفق السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان مَعَ أَعْيَان جراوة فأدخلوه من بعض الأسوار والأنقاب وَلما فر المتَوَكل إِلَى السوس تبعه أَحْمد الْمَنْصُور فَكَانَت بَينهمَا هُنَالك حروب عَظِيمَة أتاح الله فِيهَا النَّصْر للمنصور مِنْهَا وقْعَة تينزرت الَّتِي أنْشدهُ فِيهَا وزيره الْكَاتِب أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي الْبَيْتَيْنِ اللَّذين قالهما فِيهِ الْكَاتِب أَبُو عبد الله بن عِيسَى وهما (هُوَ الْغَيْث وَالْبَحْر الغطمطم فِي الندى ... وَلَيْث إِذا جد الطعان هصور) (يفوق السِّهَام عزمه وانبعاثه ... وَيقصر عَنهُ فِي الثَّبَات ثبير) فَأَجَابَهُ أَحْمد الْمَنْصُور ببيتي أبي فراس الحمداني وهما (وَنحن أنَاس لَا توَسط عندنَا ... لنا الصَّدْر دون الْعَالمين أَو الْقَبْر) (تهون علينا فِي الْمَعَالِي نفوسنا ... وَمن خطب الْحَسْنَاء لم يغله الْمهْر) وَمِنْهَا الْوَقْعَة الَّتِي بعْدهَا بأساطين الْمَنْصُور وَهُوَ فِي نَحْو ثَلَاثَة آلَاف والمتوكل فِي نَحْو سِتِّينَ ألفا وَمَعَ ذَلِك هَزَمه الْمَنْصُور قلت كَانَ أَحْمد الْمَنْصُور هَذَا مجدودا محظوظا مسعودا بِحَيْثُ أربت سعادته على شجاعته وَمَا كَانَ أَخُوهُ عبد الْملك يسري إِلَّا فِي ضوء طلعته ويمن نقيبته فَلِذَا كَانَ يقدمهُ فِي الحروب ويستكفي بِهِ فِي نَوَازِل الخطوب وَمن سعادته مَا اتّفق لَهُ فِي ذَهَابه إِلَى العثماني بِخَبَر الْفَتْح وتقدمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 قبل الْكتاب بِثَلَاث حَتَّى تسنى لَهُ من جَانب السُّلْطَان الْمَذْكُور مَا كَانَ سَببا فِي استيلائهما على الْمغرب وستسمع فِي أَخْبَار دولته من أنباء سعاداته مَا تقف بِهِ على حَقِيقَة الْحَال إِن شَاءَ الله وَأما أَمر المتَوَكل فَإِنَّهُ بعد توالي الهزائم عَلَيْهِ فر إِلَى جبل درن وتوغل فِي قننه ثمَّ فر مِنْهُ إِلَى باديس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ ذهب إِلَى سبتة ثمَّ دخل طنجة مستصرخا بعظيم البرتغال وَالله تَعَالَى لَا يهمل من حُقُوق عباده وزن المثقال الْغَزْوَة الْكُبْرَى بوادي المخازن من بِلَاد الهبط وَالسَّبَب فِيهَا كَانَ من خبر هَذِه الْغَزْوَة أَن السُّلْطَان المخلوع أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله السَّعْدِيّ لما دخل طنجة قصد طاغية البرتغال واسْمه سبستيان بِكَسْر السِّين وَفتح الْبَاء وَالسِّين وَسُكُون التَّاء الْقَرِيبَة من الطَّاء وَهُوَ طاغيتهم الْأَعْظَم وَلَيْسَ قَائِد الْجَيْش فَقَط على مَا هُوَ الْمُحَقق فِي تواريخهم وتطارح عَلَيْهِ وشكا إِلَيْهِ مَا ناله من عَمه أبي مَرْوَان المعتصم بِاللَّه وَطلب مِنْهُ الْإِعَانَة عَلَيْهِ كي يسترجع ملكه وينتزع مِنْهُ حَقه فأشكاه الطاغية ولبى دَعوته وصادف مِنْهُ شَرها إِلَى تملك سواحل الْمغرب وأمصاره فَشرط عَلَيْهِ أَن يكون لِلنَّصَارَى سَائِر السواحل وَله هُوَ مَا وَرَاء ذَلِك فَقبل أَبُو عبد الله ذَلِك وَالْتَزَمَهُ وللحين جمع الطاغية جموعه واستوعب كبراء جَيْشه ووجوه دولته وعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَمن الْمُتَوَاتر فِي تواريخ الإفرنج أَن كبار دولته حذروه عَاقِبَة هَذَا الْخُرُوج ونهوه عَن التَّغْرِير ببيضة البرتغال وتوريطها فِي بِلَاد الْمغرب وقبائله فَصم عَن سَماع قَوْلهم ولج فِي رَأْيه وَملك الطمع قلبه وأبى إِلَّا الْخُرُوج فأسعفوه وَخرج من طنجة فِي جَيش قَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور عدده مائَة ألف وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي مرْآة المحاسن يُقَال إِن مجموعهم كَانَ مائَة ألف وَعشْرين ألفا وَأَقل مَا قيل فِي عَددهمْ ثَمَانُون ألف مقَاتل وَكَانَ مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله نَحْو الثلاثمائة من أَصْحَابه قَالَ بَعضهم وَكَانَ عدد الأنفاض الَّتِي يجرونها مِائَتَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وقصدوا هَلَاك الْمغرب وحصد الْمُسلمين وإدارة رحى الهوان على الدّين فَعظم ذَلِك على النَّاس وامتلأت صُدُورهمْ رعْبًا وَقُلُوبهمْ كربا وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر واتقدت بهَا نيران الهواجر وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله الْمَذْكُور قد كتب عِنْد خُرُوجه بِجَيْش البرتغال إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام رِسَالَة بعث بهَا إِلَى أَعْيَان الْمغرب من علمائه وأشرافه وَذَوي رَأْيه يغمض عَلَيْهِم بهَا فِي نكث بيعَته ونقضها ومبايعة عَمه من غير مُوجب شَرْعِي وَقَالَ لَهُم مَا استصرخت بالنصارى حَتَّى عدمت النُّصْرَة من الْمُسلمين وَقد قَالَ الْعلمَاء أَنه يجوز للْإنْسَان أَن يَسْتَعِين على من غصبه حَقه بِكُل مَا أمكنه وتهددهم فِيهَا وأبرق وأرعد وَقَالَ فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله وسمى النَّصَارَى أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نَصَارَى فَأَجَابَهُ عُلَمَاء الْإِسْلَام رضوَان الله عَلَيْهِم عَن رسَالَته تِلْكَ برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تَأْوِيله وَهَذَا نَص جَوَاب تِلْكَ الرسَالَة حرفا حرفا الْحَمد الله كَمَا يجب لجلاله وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرضى عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين هجروا دين الْكفْر فَمَا نصروه وَلَا استنصروا بِهِ حَتَّى أسس الله دين الْإِسْلَام بِشُرُوط صِحَّته وكماله وَبعد فَهَذَا جَوَاب من كَافَّة الشرفاء وَالْعُلَمَاء والصلحاء والأجناد من أهل الْمغرب وفقهم الله لمولانا مُحَمَّد ابْن مَوْلَانَا عبد الله السَّعْدِيّ عَن كِتَابه الَّذِي استدعاهم فِيهِ لحكم الْكتاب وَالسّنة وَاسْتدلَّ بحججه الْوَاهِيَة المنكبة عَن الصَّوَاب قائلين لَهُ عَن أول حجَّة صدر بهَا الْخطاب لَو رجعت على نَفسك اللوم والعتاب لعَلِمت أَنَّك المحجوج والمصاب فقولك خلعنا بيعتك الَّتِي التزمناها وطوقناها أعناقنا وعقدناها فَلَا وَالله مَا كَانَ ذَلِك منا عَن هوى مُتبع وَلَا على سَبِيل خَارج عَن طَرِيق الشَّرْع مُبْتَدع وَإِنَّمَا ذَلِك منا على مَنْهَج الشَّرْع وَطَرِيقه وعَلى سَبِيل الْحق وتحقيقه وسنشرح لَك ذَلِك ونبينه ونسطره لَك بالأدلة الشَّرْعِيَّة الَّتِي ترقيه وتزينه نعم كنت سُلْطَانا بِمَا عقد لَك والدك من الْبيعَة وَترك لَك من الْأَمْوَال وَالْعدَد والحصون مِمَّا لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الْكِرَام رضوَان الله عَلَيْهِم فجاهدوا بِمَا حصل لَهُم من ذَلِك فِي الله حق جهاده حَتَّى استخلصوا من أَيدي الْكفَّار رِقَاب عباد الله وحصون بِلَاده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وأسسوا لدين الله قَوَاعِد وأركانا وملكوا من الْمغرب بلادا مُعْتَبرَة وأوطانا فَلَمَّا وصل ذَلِك إِلَيْك أَلْقَت إِلَيْك الْعباد أعنتها وملكتك أزمتها غير مبدلين وَلَا مغيرين وَلَا باغين وَلَا منكرين إِلَى أَن قَامَ عَلَيْك عمك بحجته الَّتِي لَا يمكنك جَحدهَا حَسْبَمَا ثَبت كَمَا يجب عقدهَا فَخرجت مبادرا لَهُ بدفعها ولقيته بهَا وَأَنت وَاسِطَة عقدهَا وحامل راية عهدها وعمك فِي فِئَة لَا يخْطر على بَال عَاقل أَن يُقَابل جندا من جنودك أَو يدافع مَا تَحت لِوَاء من ألويتك وبنودك فَمَا هُوَ إِلَّا أَن جرى الْقِتَال وَحضر النزال رجعت على عقبك هَارِبا هروب مطرود بقصاص وجنودك تناديك ولات حِين مناص فَتركت عددك ومحلتك بِكُل مَا فِيهَا وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها وهربت عَن مَدِينَة فاس المحروسة وسكانها يُنَادُونَك لمن تركتنا وَإِلَى من تكلنا فَلم تلْتَفت إِلَيْهِم وَأسْلمت بِلَادهمْ على مَا فِيهَا من خَزَائِن الْأَمْوَال وَالْعدَد الوافرة وَالرِّجَال والأسوار المرتفعة الْمَانِعَة وَالْمَدينَة الْمَشْهُورَة الجامعة فَأصْبح أَهلهَا وَالْيَد العادية من المفسدين تُرِيدُ أَن تمتد إِلَى الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد والطارف والتلاد وَلَا دَافع عَن الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين إِلَّا الله تَعَالَى الَّذِي قَالَ فِي مثلهم {وَمن أصدق من الله قيلا} {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} فَمَا أمكنهم بعد هروبك عَنْهُم وإسلامك لَهُم فوضى مهملين إِلَّا النّظر فِي أَمرهم وإعمال الْفِكر فِي التَّدْبِير على أنفسهم فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك إِذا بعمك بجُنُوده على بَاب مدينتهم قَائِما بحجته سالكا فِي ذَلِك سَبِيل أَبِيه رَحمَه الله ومحجته حَسْبَمَا تقرر ذَلِك عنْدكُمْ وَظهر وَلم يخف عَنْكُم مِنْهُ عين وَلَا أثر إِذْ كَانَ مَوْلَانَا مُحَمَّد الْجد الْأَكْبَر عهد لأولاده مَوْلَانَا أَحْمد ومولانا مُحَمَّد الشَّيْخ وإخوانهم لَا يتَوَلَّى الْخلَافَة مِنْهُم وَلَا من أَوْلَادهم إِلَّا الْأَكْبَر فالأكبر فالتزموا ذَلِك إِلَى أَن كبر أَوْلَادهم فَطلب جدك من عمك الْوَفَاء بذلك فَامْتنعَ فقاتله على ذَلِك حَتَّى تمّ لَهُ الْأَمر وانتظم فعهد لوالدك الَّذِي كَانَ أكبر أَوْلَاده فَلم ينازعه أحد فِي ذَلِك إِلَى أَن ألْقى والدك رَحمَه الله ذَلِك وعهد إِلَيْك فَلم ينازعكم أحد فَأبى الله إِلَّا الْحق فَأعْطى ملكه لعمك الَّذِي هُوَ أكبركم بعد أَبِيك فَإِن سلمت هَذَا فَأَي حجَّة تدلي بهَا وَأي طَرِيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 تعتمد عَلَيْهَا وَإِن أنْكرت هَذَا فَلَا أثر لخلافة أَبِيك من قبلك وَلَا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مَوْلَانَا أَحْمد إِذْ لَا حجَّة حِينَئِذٍ لجدك فِي الْقيام على عمك فخلافته صَحِيحَة لبيعة جدك لَهُ فَلم يبْق إِلَّا التغلب الَّذِي تدلي بِهِ فِي مَسْأَلَة عمك وَفِي قِيَامه عَلَيْك فَإِن كنت تُرِيدُ أَن تسْقط حجَّته بالتغلب عَلَيْك فحجتك أبين فِي السُّقُوط لعدم ثُبُوت الْخلَافَة لمن عقدهَا لَك إِذْ الْمَعْدُوم شرعا كَالْمَعْدُومِ حسا فَلم يبْق بَيْنكُم إِلَّا وَالْملك بعد أبي ليلى لمن غلبا فيلزمك على هَذَا أَن تثبت مَا عقده مَوْلَانَا الْجد رَحْمَة الله وَعَلِيهِ فالخلافة لعمك الْقَائِم عَلَيْك إِذْ هُوَ أكبركم فِي هَذَا التَّارِيخ فَإِن قلت إِن مَا عقده الْجد غير صَحِيح قُلْنَا فقد ذكر الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ فِي كتاب الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة لَهُ فِي بَاب عقد الْخلَافَة أَن عبد الْملك بن مَرْوَان رتبها فِي الْأَكْبَر فالأكبر من بنيه فَلم ينازعه أحد فِي ذَلِك فَإِن قلت فعل عبد الْملك لَيْسَ بِحجَّة قُلْنَا سكُوت الْعلمَاء على ذَلِك وهم مَا هم فِي زَمَانه هُوَ الْحجَّة إِذْ لَا يُمكن أَن يسكتوا على بَاطِل وَإِقْرَار أهل الْعَصْر الْوَاحِد على مَسْأَلَة من الْمسَائِل واتفاقهم عَلَيْهَا يقوم مقَام الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة الله فِي أرضه وَكَانَ أَيْضا من محفوظات عُلَمَاء فاس المحروسة مَا خرجه مُسلم رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيحه فِي كتاب الْإِمَارَة مَا نَصه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يرفع لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَأسه يُقَال هَذِه غدرة فلَان ابْن فلَان أَلا وَلَا غادر أعظم غدرا من أَمِير عَامَّة) قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض رَحمَه الله فِي كتاب إِكْمَال الْمعلم على شرح فَوَائِد مُسلم يَعْنِي لم يحطهم وَلم ينصح لَهُم وَلم يَفِ بِالْعقدِ الَّذِي تقلده من أَمرهم وَفِي الْبَاب نَفسه عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نَصه (مَا من أَمِير استرعاه الله رعية ثمَّ لم ينصح لَهُم إِلَّا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة وَإِن رِيحهَا ليوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) وَفِي الْإِكْمَال نَفسه قَالَ القَاضِي وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاس إِن الْقَوْم إِذا بقوا فوضى مهملين لَا إِمَام لَهُم فَلهم أَن يتفقوا على إِمَام يبايعونه ويستخلفونه عَلَيْهِم ينصف بَعضهم من بعض وَيُقِيم لَهُم الْحُدُود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 فَلَمَّا أسلمتهم وأضحوا بِغَيْر إِمَام وعمك يُدْلِي بحجته الَّتِي ذكرنَا لَك مَعَ مَا حفظوه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام السّلف الصَّالح وَأَيِسُوا من رجوعك إِلَيْهِم وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاس رضوَان الله عَلَيْهِم فاتفقوا على أَن يبايعوا عمك لما ذكرنَا لَك من الْحجَج الَّتِي لَا يسعك جَحدهَا إِلَّا على وَجه المكابرة فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وانفتحت السبل وأقيمت الْحُدُود وَارْتَفَعت الْيَد العادية فَإِن قلت كَانَ يجب على أهل فاس أَن يقاتلوا على الْبيعَة الَّتِي التزموها لَك قُلْنَا إِنَّمَا يلْزمهُم الْقِتَال أَن لَو أَقمت بَين أظهرهم فَيكون قِتَالهمْ على وَجه شَرْعِي لِأَن الْقِتَال على الْحُدُود الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا يكون بعد نصب إِمَام يصدر النَّاس عَن رَأْيه وَلَا يمكنك أَيْضا جَحدهَا إيه ثمَّ وصلت إِلَى مراكش الغراء الَّتِي تجبى إِلَيْهَا الْأَمْوَال من الْبَوَادِي والأمصار وتشد إِلَيْهَا الرّحال من سَائِر الأقطار فلقيك أَهلهَا بالترحاب وَالسُّرُور وأنواع الْفَرح والحبور فَوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شَيْء فَأَما أسوارها ورحابها فَهِيَ كَمَا قيل تربة الْوَلِيّ ومدرج الْحلِيّ وحضرة الْملك الأولي والبرج النير الْجَلِيّ فحللتها وتمكنت من أموالها وخزائنها ووافقك أَهلهَا فَمَا نكثوا وَلَا غدروا وَلَا خَرجُوا عَلَيْك فِي سلطانك وَلَا أَنْكَرُوا فطلبت أَيْضا قتال عمك وجندت جُنُودا لَا يجمعها ديوَان حَافظ وَلَا يعهدها لِسَان لافظ فَخرجت إِلَيْهِ تجر أَعِنَّة الْخَيل وَرَاءَك كالسيول وَالرُّمَاة قد مَلَأت الهضاب والتلول فَمَا كَانَ من حَدِيثك إِلَّا أَن وَقع الْقِتَال وَحضر النزال بادرت هَارِبا محكما للْعَادَة تَارِكًا للرؤساء من أجنادك والقادة فَحلت بهم الخطوب والرزايا واختطفتهم أَيدي المنايا فَتركت أَيْضا محلتك بِمَا فِيهَا من حريمك وأموالك وعدتك ثمَّ أسرعت هَارِبا إِلَى مراكش فَمَا صدك عَنْهَا أحد من أَهلهَا وَلَا قَالَ لَك أحد لست ببعلها فعملوا على الْقِتَال مَعَك والتمنع بأسوارها الحصينة والحصار دَاخل الْمَدِينَة فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونساءك وَخرجت عَنْهُم من القصبة وتركتهم لَا بواب عَلَيْهِم وَلَا حارس وَلَا راجل وَلَا فَارس فيالها من مُصِيبَة مَا أعظمها وَمن داهية مَا أعضلها وَلَوْلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 فضل الله ولطفه ووعده بتطهير أهل الْبَيْت لامتدت إِلَيْهِم أَيدي السفلة من الفسقة فَأَي حجَّة تبقى لَك بعد هَذَا وَأي كَلَام لَك بَين الرِّجَال يَا هَذَا ثمَّ جَاءَك عمك أَيْضا بِمَا سلف من الْحجَج فَوجدَ أَهلهَا فِي لطف الله سُبْحَانَهُ وهم يَحْرُسُونَ أَوْلَادهم وديارهم من الْيَد العادية فأنقذهم الله بِهِ أَيْضا فَبَايعُوا عمك بِمَا سلف من الْحجَج واطمأنوا وَسَكنُوا ثمَّ هربت للجبل عِنْد صَاحبه فصرتما فِي نهب أَمْوَال الرّعية وَسَفك دِمَائِهِمْ وَأكْثر مَا صفا لَك من ذَلِك أهل الذِّمَّة المصغرون بِحكم الْقُرْآن الداخلون تَحت عهد سيد الثقلَيْن فِي الْأَمْن والأمان فَأَنت وهم فِي استيلائك عَلَيْهِم وظلمك إيَّاهُمَا كَمَا قيل (إِن هُوَ مستوليا على أحد ... إِلَّا على أَضْعَف المجانين) وَلم تبال بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا خصيم من ظلم ذِمِّيا يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ خربَتْ العامر وأفسدت مَا شيدت الأسلاف لِلْإِسْلَامِ من المآثر فَلَمَّا رأى أهل السوس الْأَقْصَى ذَلِك أيقنوا أَنَّك إِنَّمَا قصدت خراب الْإِسْلَام وَأَهله فنكب عَنْك أهل الدّين وَالْعلم مِنْهُم وَبقيت كَمَا قيل فِي خلف كَجلْد الأجرب فَإِن قلت إِن أُولَئِكَ الْخلف لم يبايعوا عمك فتنقض بهم مَا قَرَّرْنَاهُ قُلْنَا لم يطعن فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْحسن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ من تخلف عَنْهَا من أهل الشَّام وَفِيهِمْ من قد علمت من النَّاس وَالْإِجْمَاع على صِحَة بيعَته وَسمي من تخلف عَنْهَا بَاغِيا لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار تقتلك الفئة الباغية فَقتله أَصْحَاب مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ والْحَدِيث من أَعْلَام نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقَاعِدَة أَن مَا اجْتمع عَلَيْهِ من يعْتَبر من أهل الْعَصْر الْوَاحِد هُوَ الْمعول عَلَيْهِ وَلَا يعد خلاف من خَالفه خلافًا وَهَذَا كُله بِالنّظرِ إِلَى مَا كَانَ من حَدِيثك قبل التحزب مَعَ عَدو الدّين وَالْأَخْذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 فِي التَّخْلِيط الْعَظِيم على الْمُسلمين فَإنَّك اتّفقت مَعَهم على دُخُول آصيلا وأعطيتهم بِلَاد الْإِسْلَام فيالله وَيَا لرَسُوله لهَذِهِ الْمُصِيبَة الَّتِي أحدثتها وعَلى الْمُسلمين فتقتها وَلَكِن الله تَعَالَى لَك وَلَهُم بالمرصاد ثمَّ لم تتمالك أَن ألقيت بِنَفْسِك إِلَيْهِم ورضيت بجوارهم وموالاتهم كَأَنَّك مَا طرق سَمعك قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} قَالَ أَبُو حَيَّان رَحمَه الله أَي لَا تنصروهم وَلَا تستنصروا بهم وَفِي كتاب الْقَضَاء من نَوَازِل الإِمَام الْبُرْزُليّ رَحمَه الله أَن أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين اللمتوني رَحمَه الله استفتى عُلَمَاء زَمَانه رَضِي الله عَنْهُم وهم مَا هم فِي استنصار ابْن عباد الأندلسي بِالْكِتَابَةِ إِلَى الإفرنج على أَن يعينوه على الْمُسلمين فَأَجَابَهُ جلهم رَضِي الله عَنْهُم بردته وكفره فَتَأمل هَذَا مَعَ قضيتك تجدها أحروية مُنَاسبَة لقضية ابْن عباد فِي عقدهَا ابْتِدَاء وَأَنه مَتى طَرَأَ الْكفْر وَجب الْعَزْل وناهيك بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَبِمَا أفتى الْعلمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم بردة من استنصر بالنصارى على الْمُسلمين فَهُوَ نَص جلي فِي وجوب خلعك وَسُقُوط بيعتك فَلم يبْق لَك إِلَّا مُنَازعَة الْحق سُبْحَانَهُ فِي حكمه {وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} وَأما قَوْلك فِي النَّصَارَى فَإنَّك رجعت إِلَى أهل العدوة واستعظمت أَن تسميهم بالنصارى فَفِيهِ المقت الَّذِي لَا يخفى وقولك رجعت إِلَيْهِم حِين عدمت النُّصْرَة من الْمُسلمين فَفِيهِ محظوران يحضر عِنْدهمَا غضب الرب جلّ جَلَاله أَحدهمَا كونك اعتقدت أَن الْمُسلمين كلهم على ضلال وَأَن الْحق لم يبْق من يقوم بِهِ إِلَّا النَّصَارَى وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَالثَّانِي أَنَّك استعنت بالكفار على الْمُسلمين وَفِي الحَدِيث أَن رجلا من الْمُشْركين مِمَّن عرف بالنجدة والشجاعة جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدَهُ بحرة الْوَبرَة مَوضِع على نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمَّد جِئْت لأنصرك فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كنت تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَقَالَ لَا أفعل فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لَا أستعين بمشرك وَمَا سمعته من قَول الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 الِاسْتِعَانَة بهم إِنَّمَا هُوَ على الْمُشْركين بِأَن نجعلهم خدمَة لأزبال الدَّوَابّ لَا مقاتلة فَأَما الِاسْتِعَانَة بهم على الْمُسلمين فَلَا يخْطر إِلَّا على بَال من قلبه وَرَاء لِسَانه وَقد قيل قَدِيما لِسَان الْعَاقِل من وَرَاء قلبه وَفِي قَوْلك يجوز للْإنْسَان أَن يَسْتَعِين على من غصبه حَقه بِكُل مَا أمكنه وَجعلت قَوْلك هَذَا قَضِيَّة أنتجت لَك دَلِيلا على جَوَاز الِاسْتِعَانَة بالكفار على الْمُسلمين وَفِي ذَلِك مصادمة لِلْقُرْآنِ والْحَدِيث وَهُوَ عين الْكفْر أَيْضا وَالْعِيَاذ بِاللَّه وقولك فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله إيه أَنْت مَعَ الله وَرَسُوله أَو مَعَ حزبه فَتَأمل مَا قلت فِي الحَدِيث يتَكَلَّم أحدكُم بِالْكَلِمَةِ تهوي بِهِ فِي النَّار سبعين خَرِيفًا وَلما سَمِعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من الْعَرَب والعجم قَوْلك هَذَا حملتهم الْغيرَة الإسلامية وَالْحمية الإيمانية وتجدد لَهُم نور الْإِيمَان وأشرق عَلَيْهِم شُعَاع الإيقان فَمن قَائِل يَقُول لَا دين إِلَّا دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن قَائِل يَقُول سَتَرَوْنَ مَا أصنع عِنْد اللِّقَاء وَمن قَائِل يَقُول {وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} وَمن قَائِل يَقُول إِنَّمَا قصد التشفي بِالْمُسْلِمين إِذْ لَو كَانَ يطْلب الصّلاح لما صدرت مِنْهُ هَذِه الْأَفْعَال القبيحة إِلَى غير ذَلِك فجزاهم الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَرَضي عَنْهُم وَبَارك فيهم فَللَّه دِرْهَم من رجال وفرسان وأبطال وشجعان فَلَو لم يكن مِنْهُم إِلَّا مَا غير قُلُوبهم على الدّين لَكَانَ كَافِيا فِي صِحَة إِيمَانهم وعظيم إيقانهم فقد بلغ نور غضبهم لله سُبْحَانَهُ سَاق الْعَرْش وَالْحب فِي الله والبغض فِي الله من قَوَاعِد الْإِيمَان وقولك أَيْضا متبرئا من حول الله وقوته فَإِن لم تَفعلُوا فالسيف فَهُوَ كَلَام هذيان يدل على حَمَاقَة قَائِله فَقَط أنبأ سَيْفك هَذَا وَأَنت مَعَ الْمُسلمين فِي أَربع وَعشْرين معركة لم تثبت لَك فِيهَا راية ثمَّ زَالَ نبوه الْآن بالكفار فَهَذِهِ أضحوكة فتأملها وَأما مَا نسبته لإِمَام دَار الْهِجْرَة فكفاك عَجزا إِن لم تعين لنا نصا جليا نعتمد عَلَيْهِ فِيمَا تحتج بِهِ إِلَّا أَنَّك كثرت بِهِ سَواد القرطاس مغربا بِذكرِهِ لَا معربا بنصه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وَمَا نسبته للحنفية من أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة وتسويغ الغصة بِخَمْر فَهُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّة فِي مختصراتهم الَّتِي ألفوها للصبيان فعدولك عَن ذَلِك إِلَى الْحَنَفِيَّة إِمَّا قُصُور وَإِمَّا إِلْغَاء لمَذْهَب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ النَّجْم الثاقب وَأما قَوْلك أَنْتُم أهل بغي وعناد فَلَا نسلم لَك ذَلِك إِلَّا لَو أَقمت بَين أظهرنَا وقاتلت مَعنا حَتَّى ترى أنسلمك أم لَا فَأَما إِذا هربت عَنَّا وَتَرَكتنَا فالحجة عَلَيْك لَا علينا على انك فِي كتابك تفسق الْكل بذلك وتكفره وَقد قَالَ الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم من يَقُول بتكفير الْعَامَّة فَهُوَ أولى بالتكفير وَذَلِكَ معزو لزعيم الْعلمَاء القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد وَالْقَاضِي أبي الْفضل عِيَاض وَكَيف لَا تنظر لقضايا تلمسان وتونس وَغَيرهمَا من سَائِر الْبلدَانِ وَكَيف وَقع لأمرائهم المستنصرين بالكفار على الْمُسلمين هَل حصلوا على شَيْء مِمَّا قصدوه أَو بلغُوا شَيْئا مِمَّا أَملوهُ على أَن أَكثر الْعلمَاء حكمُوا بردتهم ففاتتهم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَقد افتخرت فِي كتابك بجموع الرّوم وقيامهم مَعَك وعولت على بُلُوغ الْملك بحشودهم وأنى لَك هَذَا مَعَ قَول الله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} وَفِي الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لن تغلب هَذِه الْأمة وَلَو اجْتمع عَلَيْهَا من الْكفَّار مَا بَين لابات الدُّنْيَا) وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سيقاتل آخر هَذِه الْأمة الدَّجَّال وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (سَأَلت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَة سَأَلته أَلا يُهْلِكهُمْ بِسنة عَامَّة فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَلا يَغْلِبهُمْ عدوهم الْكَافِر فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَلا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمَنَعَنِيهَا) وَالْكل عَلَيْك وَإِيَّاك نعني وَمَا ذكرته عَن عمك فَاعْلَم أَنه لما بلغه خبرك واستنصارك بالكفار عقد ألويته المنصورة بِاللَّه فِي وسط جَامع الْمَنْصُور بعد أَن ختم عَلَيْهَا أهل الله من حَملَة الْقُرْآن مائَة ختمة وصحيح البُخَارِيّ وضجوا عِنْد ذَلِك بالتهليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَالتَّكْبِير وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدُّعَاء لَهُ وللأسلام بالنصر والتمكين وَالْفَتْح الشامخ الْمُبين فَلَو سَمِعت ذَلِك لعَلِمت وتحققت أَن أَبْوَاب السَّمَاء انفتحت لذَلِك وَقضى مَا هُنَالك وبلغه كتابك الَّذِي كَانَ هَذَا جوبا عَنهُ وَهُوَ بوسط تامسنا مَعَه من جنود الله وأنصاره وحماة دينه مَا يَجْعَل الله فِيهِ الْبركَة وَلَوْلَا أَن الشَّرْع الْعَزِيز أَمر بتعظيم جنود الْإِسْلَام والمباهاة بهَا والافتخار بكثرتها لما قَررنَا لكم أمرهَا إِذْ لَا اعْتِمَاد لَهُ أيده الله عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ هم لَا اعْتِمَاد لَهُم إِلَّا على حول الله وقوته وَنَصره وتأييده وَالنَّاس على دين الْملك وَقد قَاتَلت وَأَنت فِي وسط الْمُسلمين فِي بضع عشرَة معركة لم تنصر لَك فِيهَا راية فَأَي نحس وشؤم حلا بديار الرّوم فَإِن جلبتهم فَالله لَك وَلَهُم بالمرصاد ارْجع إِلَى الله أَيهَا الْمِسْكِين وَتب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يقبل التَّوْبَة عَن عباده فِي كل وَقت وَحين ودع عَنْك كَلَام من لَا ينهضك حَاله وَلَا يدلك على الله مقاله وَهَذِه نصيحة إِن قبلتها وموعظة إِن وفقت إِلَيْهَا وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَهُوَ نعم الْمولى وَنعم النصير وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام انْتَهَت الرسَالَة وَكَانَ خُرُوج مُحَمَّد بن عبد الله بِجَيْش البرتغال وفصوله بِهِ من طنجة فِي ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ فِي الْمرْآة إِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ضربوا محلاتهم بالفحص على أقل من مسيرَة يَوْم من مَدِينَة الْقصر وَكَانَت آصيلا قد تصيرت إِلَيْهِم قبل ذَلِك بأشهر يَعْنِي بعد فرارهم عَنْهَا أَيَّام السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ كَمَا تقدم فعاين أهل الْقصر الهلكة لقرب الْعَدو مِنْهُم وقوته الَّتِي لَا طَاقَة لَهُم بهَا وَفَشَا النِّفَاق لأجل السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله الَّذِي مَعَهم وَلأَجل بعد صريخ الْمُسلمين فَإِن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان المعتصم بِاللَّه كَانَ إِذْ ذَاك بمراكش فاستبطؤوا وُصُول الْخَبَر إِلَيْهِ ثمَّ مَجِيئه بعد ذَلِك فَلم يبْق لَهُم تَدْبِير إِلَّا الْفِرَار والتحصن بالجبال وَغَيرهَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو المحاسن يُوسُف الفاسي رَحمَه الله وَكَانَ إِذْ ذَاك بِالْقصرِ لرجل من أَصْحَابه نَاد فِي النَّاس أَن الزموا بِلَادكُمْ ودوركم فَإِن عَظِيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 النَّصَارَى مسجون حَيْثُ هُوَ حَتَّى يَجِيء السُّلْطَان من مراكش وَإِن النَّصَارَى غنيمَة للْمُسلمين وَمن شَاءَ فليعط خمسين أُوقِيَّة فِي النَّصْرَانِي يُشِير إِلَى مبلغ قيمَة النَّصْرَانِي فِي الْغَنِيمَة فَمَا انْتقل النَّصَارَى من مكانهم ذَلِك أَكثر من شهر حَتَّى قدم السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان وَكَانَ مَرِيضا اه وَقَالَ فِي النزهة إِن النَّصَارَى لما برزوا من طنجة شنوا الْغَارة على السواحل فَأعْلم أَهلهَا السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان وَكَانَ بمراكش وَشَكوا إِلَيْهِ كلب الْعَدو عَلَيْهِم فَكتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان من مراكش إِلَى الطاغية إِن سطوتك قد ظَهرت فِي خُرُوجك من أَرْضك وجوازك العدوة فَإِن ثَبت إِلَى أَن نقدم عَلَيْك فَأَنت نَصْرَانِيّ حَقِيقِيّ شُجَاع وَإِلَّا فَأَنت كلب ابْن كلب فَلَمَّا بلغه الْكتاب غضب وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه هَل نُقِيم حَتَّى يلْحق بِنَا من خلفنا من أَصْحَابنَا فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن عبد الله الرَّأْي أَن نتقدم ونملك تطاوين والعرايش وَالْقصر ونجمع مَا فِيهَا من الْعدة ونتقوى بِمَا فِيهَا من الذَّخَائِر فأعجب ذَلِك الرَّأْي أهل الدِّيوَان وَلم يعجب الطاغية وَكتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لِأَخِيهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ نَائِبه على فاس وأعمالها أَن يخرج بجيوش فاس وأحوازها ويتهيأ لِلْقِتَالِ ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَيْضا فِي شَأْن مُؤنَة الْجَيْش كتابا يَقُول فِيهِ من عبد الله المعتصم بِاللَّه الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي مَرْوَان عبد الْملك بن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نَصره إِلَى أخينا الْأَعَز الأنجب بَابا أَحْمد ابْن مَوْلَانَا الْوَالِد حرس الله كريم إخائه سَلام كريم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم من محلتنا السعيدة بتامسنا وَلَا زَائِد بِحَمْد الله إِلَّا الْخَيْر والعافية وَالنعَم الضافية هَذَا وَإنَّهُ سَاعَة وُصُوله إِلَيْكُم تخرجُونَ من الخدام لعمالة مكناسة وقبيلة آزمور وَأَوْلَاد جلول من يفْرض عَلَيْهِم علف محلتنا المنصورة ومؤنتها وَيَأْمُرهُمْ بِرَفْعِهِ وإبلاغه إِلَى مَدِينَة سلا وَقدر ذَلِك صَحْفَة شعير وَعِشْرُونَ مدا من الْقَمْح لكل نائبة وَصَاع من سمن وكبش لكل أَربع نَوَائِب ووكد عَلَيْهِم رعاك الله أَن يعتنوا بذلك وبإيصاله إِلَى الْمَكَان الْمَذْكُور من غير عطلة وَهَذَا مَا وَجب بِهِ الْإِعْلَام إِلَيْكُم وَالله يرعاكم بمنه وَالسَّلَام اه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 ثمَّ كتب السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان للطاغية ثَانِيَة وَذَلِكَ بعد مَا وصل إِلَى الْقصر إِنِّي رحلت إِلَيْك سِتّ عشرَة مرحلة أما ترحل إِلَى وَاحِدَة فَرَحل الطاغية من مَوضِع يُقَال لَهُ تاهدارت وَنزل على وَادي المخازن بمقربة من قصر كتامة وَكَانَ ذَلِك من السُّلْطَان أبي مَرْوَان مكيدة ثمَّ إِن الطاغية تقدم بجيوشه وَعبر جسر الْوَادي وَنزل من هَذِه العدوة فَأمر السُّلْطَان بالقنطرة أَن تهدم وَوجه إِلَيْهَا كَتِيبَة من الْخَيل فهدموها وَكَانَ الْوَادي لَا مشرع لَهُ سوى القنطرة ثمَّ زحف السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان إِلَى الْعَدو بجيوش الْمُسلمين وخيل الله المسومة وانضاف إِلَيْهِ من المتطوعة كل من رغب فِي الْأجر وطمع فِي الشَّهَادَة وَأَقْبل النَّاس سرَاعًا من الْآفَاق وابتدروا حُضُور هَذَا المشهد الْجَلِيل فَكَانَ مِمَّن حَضَره من الْأَعْيَان الشَّيْخ أَبُو المحاسن يُوسُف الفاسي وَغَيره قَالَ فِي الْمرْآة كَانَ الشَّيْخ أَبُو المحاسن فِي ذَلِك الْيَوْم فِي أحد الجناحين وَأَظنهُ الميسرة من عَسْكَر الْمُسلمين فِي مُقَابلَة النَّصَارَى دمرهم الله قَالَ فَوَقع فِي ذَلِك الْجنَاح انكسار تزحزح بِهِ الْمُسلمُونَ عَن مَصَافهمْ وحملت عَلَيْهِم النَّصَارَى دمرهم الله فَثَبت الشَّيْخ وَثَبت من كَانَ مَعَه إِلَى أَن منح الله الْمُسلمين النَّصْر وركبوا أكتاف الْعَدو يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وَالشَّيْخ لم يتزلزل وَلم يلْتَفت مُنْذُ توجه إِلَى قِتَالهمْ حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم اه وَلما الْتَقت الفئتان وزحف النَّاس بَعضهم إِلَى بعض وَحمى الْوَطِيس واسود الجو بنقع الْجِيَاد ودخان المدافع وَقَامَت الْحَرْب على سَاق توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان رَحمَه الله عِنْد الصدمة الأولى وَكَانَ مَرِيضا يُقَاد بِهِ فِي محفة فَكَانَ من قَضَاء الله السَّابِق ولطفه السابغ أَنه لم يطلع على وَفَاته أحد إِلَّا حَاجِبه مَوْلَاهُ رضوَان العلج فَإِنَّهُ كتم مَوته وَصَارَ يخْتَلف إِلَى الأجناد وَيَقُول السُّلْطَان يَأْمر فلَانا أَن يذهب إِلَى مَوضِع كَذَا وَفُلَانًا أَن يلْزم الرَّايَة وَفُلَانًا يتَقَدَّم وَفُلَانًا يتَأَخَّر وَقَالَ شَارِح الزهرة لما توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان لم يظْهر الَّذِي كَانَ سائس المحفة مَوته فَصَارَ يقدم دَوَاب المحفة نَحْو الْعَدو وَيَقُول للجند السُّلْطَان يَأْمُركُمْ بالتقدم إِلَيْهِم وَعلم أَيْضا بِمَوْتِهِ أَخُوهُ وخليفته أَبُو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 الْعَبَّاس أَحْمد بن الشَّيْخ فكتمها وَلم يزل الْحَال على ذَلِك وَالنَّاس فِي المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء بِنَار الطعان واحتساء كؤس الْحمام إِلَى أَن هبت على الْمُسلمين ريح النَّصْر وساعدهم الْقدر وأثمرت أَغْصَان رماحهم زهر الظفر فولى الْمُشْركُونَ الأدبار ودارت عَلَيْهِم دَائِرَة الْبَوَار وحكمت السيوف فِي رِقَاب الْكفَّار فَفرُّوا ولات حِين فرار وَقتل الطاغية سبستيان عَظِيم البرتغال غريقا فِي الْوَادي وَقصد النَّصَارَى القنطرة فَلم يَجدوا إِلَّا آثارها فخشعت نُفُوسهم وتهافتوا فِي النَّهر تهافت الْفراش على النَّار فَكَانَ ذَلِك من أكبر الْأَسْبَاب فِي استئصالهم وَأعظم الحبائل فِي اقتناصهم وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا عدد نزر وشرذمة قَليلَة وَقَالَ فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور كَانَت هَذِه الْغَزْوَة من الْغَزَوَات الْعَظِيمَة الوقائع الشهيرة حضرها جم غفير من أهل الله تَعَالَى حَتَّى إِنَّهَا أشبه شَيْء بغزوة بدر حَدثنَا شَيخنَا أَبُو رَاشد يَعْقُوب البدري عَمَّن يَثِق بِهِ أَن الرجل من حاضري ذَلِك المعترك كَانَ يستبق إِلَى النَّصْرَانِي لينتهز فِيهِ الفرصة فَمَا يصله حَتَّى يجده مَيتا اه وَبحث فِي الْقَتْلَى عَن مُحَمَّد بن عبد الله المستصرخ بهم والقائد لَهُم إِلَى مصَارِعهمْ فَوجدَ غريقا فِي وَادي المخازن وَذَلِكَ أَنه لما رأى الْهَزِيمَة فر ناجيا بِنَفسِهِ واضطر إِلَى عبور النَّهر فتورط فِي غَدِير مِنْهُ وغرق فَمَاتَ فاستخرجه الغواصون وسلخ وَحشِي جلده تبنا وطيف بِهِ فِي مراكش وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَمِمَّنْ وجد صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَسْكَر السريفي الشفشاوني صَاحب الدوحة فَإِنَّهُ كَانَ هرب مَعَ المسلوخ وَكَانَ من بطانته فَدخل مَعَه بِلَاد الْعَدو فَوجدَ بَين جيف النَّصَارَى قَتِيلا وَتكلم النَّاس فِي أمره حَتَّى قيل إِنَّه وجد على شِمَاله مستدبر الْقبْلَة وَفِيه يَقُول الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام الشهير أبي مُحَمَّد عبد الله الهبطي رَحمَه الله فِي منظومته الَّتِي نظم فِيهَا أَصْحَاب أَبِيه معتذرا عَن ابْن عَسْكَر الْمَذْكُور ومشيرا إِلَى توهين مَا قيل فِيهِ (وَمِنْهُم الشَّيْخ الَّذِي لَا يُنكر ... مُحَمَّد أَخُو الدهاء عَسْكَر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 (وَإِن يكن أَتَى بذنب ظَاهر ... فعرضه من الشكوك طَاهِر) (رَأَيْته فِي النّوم ذَا بشاره ... وهيئة حَسَنَة وشارة) وَكَانَ التقاء الجمعين يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَيُوَافِقهُ من التَّارِيخ المسيحي الْيَوْم الرَّابِع من أغشت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس عشرَة مائَة قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَكَانَ مِقْدَار زمَان الْمُقَاتلَة خمْسا وَأَرْبَعين دَرَجَة وَقيل اثْنَتَيْنِ وَخمسين على مَا حَدثنِي بِهِ بعض الميقاتيين وَقَالَ فِي الْمرْآة وَحصل الْمُسلمُونَ على غنيمَة لم يكن قطّ مثلهَا بالمغرب إِذْ لم يتَقَدَّم لِلنَّصَارَى خُرُوج بِهِ على هَذِه الصُّورَة إِلَّا أَن الْغَنِيمَة لم تقسم وَإِنَّمَا انتهبها النَّاس كَمَا اتّفق لَهُم بِحَسب الْقُوَّة وَالْبخْت الدنيوي وَكَانَ النَّاس يتوقعون مغبتها لاختلاط الْأَمْوَال بالحرام فَظهر ذَلِك من غلاء وَغَيره وَكُنَّا نسْمع أَن الْبركَة رفعت من الْأَمْوَال من يَوْمئِذٍ وَقد حضر الشَّيْخ أَبُو المحاسن هَذِه الْغَزْوَة وأبلى فِيهَا بلَاء حسنا وتورع عَن الْغَنِيمَة فَلم يتلبس مِنْهَا بِشَيْء وَبَلغت قيمَة النَّصْرَانِي مَا ذكره الشَّيْخ وَكَانَ سَبَب عدم ضبط الْغَنِيمَة وَقسمهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع موت السُّلْطَان أبي مَرْوَان قبل هزيمَة النَّصَارَى وَكَانَ مَرِيضا فاشتغل أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بِجمع الْكَلِمَة وَلم يهتبل بِأَمْر الْغَنِيمَة فتم لَهُ مَا قصد وَقد سَاق منويل فِي تَارِيخه خبر هَذِه الْوَقْعَة مساقا حسنا فَقَالَ لما استولى عبد الْملك السَّعْدِيّ الْمَدْعُو عِنْد أهل الْمغرب بمولاي مُلُوك على ملك الْمغرب وطرد ابْن أَخِيه مولَايَ مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالأكحل يَعْنِي المسلوخ ذهب أَولا إِلَى إصبانيا وتطارح على طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي فِي أَن يُعينهُ على استرجاع ملكه فَامْتنعَ ثمَّ دخل أشبونة وتطارح على طاغية البرتغال سبستيان فَأَجَابَهُ وَذهب إِلَى خَاله طاغية الإصبنيول فيليب الْمَذْكُور آنِفا وَطلب مِنْهُ الْإِعَانَة على مَا هُوَ بصدده فوعده بِأَن يُعْطِيهِ من المراكب والعساكر مَا يملك بِهِ العرائش لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَنَّهَا تعدل سَائِر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 مراسي الْمغرب ثمَّ أمده بِعشْرين ألفا من عَسْكَر الإصبنيول وَكَانَ سبستيان قد سَاق مَعَه اثْنَي عشر ألفا من البرتغال وَثَلَاثَة آلَاف من الطليان وَمثلهَا من الألمان وَمن متطوعة الإصبنيول وَغَيرهم عددا كثيرا وَبعث إِلَيْهِ البابا صَاحب رومة بأَرْبعَة آلَاف أُخْرَى وبألف وَخَمْسمِائة من الْخَيل واثني عشر مدفعا وَجمع سبستيان نَحْو ألف مركب وَجَاء إِلَى قادس وَلما عزم على اقتحام بِلَاد الْمغرب تشفعت إِلَيْهِ جدته وأرباب دولته وشيوخ دينه فِي الرُّجُوع فَصم عَنْهُم وَكَذَلِكَ خَاله فيليب حذره عَاقِبَة التوغل فِي أَرض الْمغرب فَصم على ذَلِك كُله وَجَاء إِلَى قادس وَمِنْهَا خرج إِلَى طنجة وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله المسلوخ ينتظره هُنَالك فَاجْتمع بِهِ وزحفوا إِلَى بِلَاد الْمغرب وزحف إِلَيْهِم السُّلْطَان عبد الْملك فِي عَسَاكِر الْمُسلمين وَكَانُوا أَرْبَعِينَ ألفا وَزِيَادَة ومدافعهم أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ مدفعا وقواد الْجَيْش أَبُو عَليّ القوري وَالْحُسَيْن العلج الجنوي وَمُحَمّد أَبُو طيبَة وَعلي بن مُوسَى وَأَخُوهُ أَحْمد بن مُوسَى الَّذِي كَانَ عَاملا على العرائش فجَاء فِي جمعه إِلَى السُّلْطَان عبد الْملك وانضم إِلَيْهِ وَلما تقَارب الجيشان جمع السُّلْطَان عبد الْملك النَّاس وخطبهم ثمَّ استدعى النَّصَارَى إِلَى الْقِتَال وَنصب لَهُم علامته فأحجموا وَكَانَ قصدهم المطاولة وَقصد السُّلْطَان عبد الْملك المناجزة وَذَلِكَ لِأَن مُحَمَّد المسلوخ قد دس إِلَيْهِ من سمه قَالَ منويل وَلما أحس عبد الْملك بذلك وَأَنه لَا محَالة هَالك بذل نَفسه لِلْقِتَالِ ليَمُوت فِي الْجِهَاد وَكَانَ المسلوخ يتربص كي يهْلك عَمه قبل اللِّقَاء فَتَقَع الْفِتْنَة فِي عَسْكَر الْمُسلمين لَكِن جَيش النَّصَارَى لم تكن لَهُم مُؤنَة يطاولون بهَا فألجأهم ذَلِك إِلَى المناجزة وَلما انتشبت الْحَرْب هلك عبد الْملك للحين قَالَ منويل وَكَانَ أَمر هَذَا الرجل عجبا فِي الحزم والشجاعة حَتَّى أَنه لما مَاتَ مَاتَ وَهُوَ وَاضع سبابته على فَمه كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى جَيْشه أَن يسكتوا عَن الْخَوْض فِي وَفَاته حَتَّى يتم أَمرهم وَلَا يضطربوا وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّهُم كتموا مَوته فانتصروا وظفروا بالنصارى ظفرا لَا كفاء لَهُ فَكَانُوا يذبحونهم مثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 الكباش ودهش النَّصَارَى وتكبكبت جموعهم وتراكمت أمتعتهم وصناديقهم وخيلهم وسلاحهم بِلَا تَرْتِيب وَزَادَهُمْ دهشا أَن بعض طوابيرهم كَانَ يُنَادي صَاحب صفارته وراءكم وراءكم قطعكم الْعَدو ووقدت النَّار فِي بارود النَّصَارَى فنفط وانهزموا إِلَى وَادي المخازن فتهافت جلهم فِيهِ فهلكوا وَالْبَاقِي أسره الْمُسلمُونَ وَزعم أَن سبستيان هلك تَحْتَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعَة أَفْرَاس وَكَانَ شَابًّا حَدثا وَقَالَ لأَصْحَابه إِن تروني تروني أمامكم وَإِن لم تروني فَأَنا فِي وسط الْعَدو أقَاتل عَنْكُم قَالَ وأبدأ وَأعَاد فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَى أَن خر قَتِيلا وَبَقِي مَذْكُورا عِنْد البرتغال يسمرون بأخباره وَذكره شعراء الأوربا فِي أشعارهم وَلَا زَالُوا يذكرُونَهُ إِلَى الْآن وَخَلفه فِي ملكه الطاغية الريكي البرتغالي فَهُوَ الَّذِي ولي بعده وافتدى جنَازَته من الْمُسلمين ونقلها إِلَى سبتة فَبَقيت هُنَالك إِلَى أَن هلك الطاغية الريكي وَتَوَلَّى على البرتغال طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي فَصَارَ ملك الدولتين مَعًا وَهُوَ خَال سبستيان أَخُو أمه فَنقل جنَازَته من سبتة إِلَى أشبونة ثمَّ أرخ منويل الْوَقْعَة بالتاريخ الْعَرَبِيّ والعجمي مُوَافقا لما مر فَهَذَا مَا ذكره فِي هَذِه الْوَقْعَة قَالَ فِي النزهة توفّي السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن الشَّيْخ فِي زَوَال الْيَوْم الْمَذْكُور وَبَايع النَّاس أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله قَالَ فِي درة الحجال فَانْظُر لحكمة الله الْوَاحِد القهار أهلك ثَلَاثَة مُلُوك يَوْم وَاحِد وهم أَبُو مَرْوَان الشَّيْخ وَولد أَخِيه مُحَمَّد بن عبد الله المسلوخ والطاغية سبستيان وَأقَام وَاحِدًا وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور اه قلت وَفِي إهلاك الثَّلَاثَة وَإِقَامَة الْوَاحِد إِشَارَة وَاضِحَة لإهلاك دين التَّثْلِيث وَنصر دين التَّوْحِيد فِي ذَلِك الْيَوْم وَالله تَعَالَى أعلم وَلما بلغت الْهَزِيمَة إِلَى الطاغية الْأَعْظَم أَعنِي الْقَائِم بِالْأَمر بعد سبستيان لِأَن التَّحْقِيق أَنه كَانَ الْأَعْظَم يَوْمئِذٍ لما مر بعث إِلَى الْمَنْصُور بعد استقلاله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 بِالْملكِ وَعوده إِلَى فاس كَمَا سَيَأْتِي يلْتَمس مِنْهُ الْفِدَاء فِيمَن بَقِي بِيَدِهِ من الْأُسَارَى فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَحصل لَهُ بِسَبَبِهِ أَمْوَال طائلة وَذكر بَعضهم أَن الْأُسَارَى لما ذَهَبُوا إِلَى بِلَادهمْ قَالَ الطاغية لم لم تَأْخُذُوا تطاوين والعرائش وَالْقصر قبل أَن يصل ملكهم فَقَالُوا لَهُ امْتنع من ذَلِك الْأَمِير الَّذِي كَانَ علينا فَأمر بهم فأحرقوا جَمِيعًا مضحكة قَالَ فِي النزهة ذكر بَعضهم أَن النَّصَارَى لما وَقعت عَلَيْهِم الكائنة الْمَذْكُورَة وفنى من فنى مِنْهُم وَرَأى أساقفتهم قلَّة عَددهمْ وخلاء بِلَادهمْ لِكَثْرَة من مَاتَ مِنْهُم أباحوا للعامة فَاحِشَة الزِّنَى ليكْثر التناسل ويخلف مَا هلك مِنْهُم وَرَأَوا ذَلِك من نصْرَة دينهم وتقويم أود ملتهم أخزاهم الله اه وَقد وقفت على تَارِيخ لبَعض مؤرخي الفرنج الإنجليزيين من أهل جَزِيرَة مالطة فرأيته قد ألم بِخَبَر هَذِه الْوَقْعَة وَصرح بِأَنَّهَا كَانَت سَبَب هَلَاك البرتغال وتلاشي دولتهم وَبطلَان كرْسِي سلطنتهم حَتَّى استضافهم إِلَيْهِ طاغية الإصبنيول بعد نَحْو سنتَيْن وصيرهم من جملَة رَعيته وَمن فُصُول كَلَامه بعد أَن ذكر أَن أَكثر البرتغال قتلوا فِي ذَلِك الْيَوْم مَا نَصه وَكَانَت يَعْنِي الْوَقْعَة الْمَذْكُورَة وقْعَة هائلة وَيَوْما مشؤوما وَبِالْجُمْلَةِ فقد قتل فِي ذَلِك الْيَوْم سَائِر أَشْرَاف البرتكيسيين وَلم يتَخَلَّف مِنْهُم أحد فَلَمَّا بَطل كرْسِي سلطنتهم قَامَ وقتئذ فيليبس الثَّانِي ملك إصبانيا وَتزَوج ملكتهم وَحكم على الْبِلَاد كلهَا اه كَلَامه إِلَّا أَنه ذكر أَن السَّبَب فِي استغاثة السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله بالبرتغال هُوَ تغلب الإصبنيوليين على مَمْلَكَته وانتزاعها من يَده وَهُوَ كذب أَو غلط وَلَعَلَّه تصحف عَلَيْهِ لفظ الإصطنبوليين بالإصبنيوليين إِذْ قد تقدم أَن السُّلْطَان أَبَا مَرْوَان إِنَّمَا استولى على الْمغرب بِجَيْش التّرْك المنفذ من قبل السُّلْطَان سليم العثماني وَالله أعلم وَقد ألم بِهَذِهِ الْوَقْعَة أَيْضا لويز مَارِيَة فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة لكنه لم يبسطها على عَادَته فِي السُّكُوت عَن مَا يكون من الظُّهُور فِي جَانب الْمُسلمين وإشاعة مَا يكون من ذَلِك فِي جَانب النَّصَارَى بل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمَعَ ذَلِك فقد قَالَ فِي وصفهَا كلَاما هَذِه تَرْجَمته وَقد كَانَ مخبوءا لنا فِي مُسْتَقْبل الْأَعْصَار الْعَصْر الَّذِي لَو وَصفته كَمَا وَصفه غَيْرِي من المؤرخين لَقلت هُوَ الْعَصْر النحس الْبَالِغ فِي النحوسة الَّذِي انْتَهَت فِيهِ مُدَّة الصولة وَالظفر والنجاح وَانْقَضَت فِيهِ أَيَّام الْعِنَايَة من البرتغال وانطفأ مصباحهم بَين الْأَجْنَاس وَزَالَ رونقهم وَذَهَبت النخوة وَالْقُوَّة مِنْهُم وَخَلفهَا الفشل وَانْقطع الرَّجَاء واضمحل إبان الْغنى وَالرِّبْح وَذَلِكَ هُوَ الْعَصْر الَّذِي هلك فِيهِ سبستيان فِي الْقصر الْكَبِير من بِلَاد الْمغرب اه فَهَذَا كَلَام هَذَا البرتغالي قد تحفظت عَلَيْهِ وَأديت تَرْجَمته كَمَا هِيَ ليعتبر بِهِ من يقف عَلَيْهِ وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وَلما تمت للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور الْبيعَة بوادي المخازن طَالبه الْجَيْش بأرزاقهم واستنجزوا أعطياتهم حَسْبَمَا جرت بِهِ عَادَة من قبله مَعَهم فطالبهم هُوَ بِخمْس الْغَنِيمَة لأَنهم جعلوها نهبى وَلم يقتسموها على الْوَجْه الشَّرْعِيّ كَمَا سبق فصعب استخراجها مِنْهُم لعدم التَّعْيِين وجرأة النَّاس على الْغلُول فسامحهم فِيهَا وسامحوه فِي عطائهم ثمَّ أَمر الْمَنْصُور بتوجيه كتب البشارات إِلَى الْآفَاق بِهَذَا الْفَتْح الْمُبين فَكتب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى سَائِر ممالك الْإِسْلَام المجاورين للمغرب يعرفهُمْ بِمَا أنعم الله بِهِ من إِظْهَار الدّين وهلاك عَبدة الصَّلِيب واستئصال شوكتهم ورد كيدهم فِي نحرهم فوردت عَلَيْهِ الأرسال من سَائِر الأقطار مهنئين لَهُ بِمَا فتح الله على يَده حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي مَرْوَان وَسيرَته قَالَ ابْن القَاضِي كَانَ سَبَب وَفَاة السُّلْطَان أبي مَرْوَان رَحمَه الله أَنه سقِِي سما وَذَلِكَ أَن قَائِد التّرْك الَّذين كَانُوا مَعَه واسْمه رَمَضَان العلج بعث إِلَى بعض قواده أَن يتلقاه بكعك مَسْمُوم هَدِيَّة للسُّلْطَان الْمَذْكُور وَقت مرورهم عَلَيْهِ وَقصد بذلك قَتله وَذَلِكَ بعد أَخذه بِهِ مَدِينَة فاس ليثبت لَهُم الْملك بهَا فَلم يكمل الله مُرَادهم لما شهدوه من عَظِيم جَيش الْمغرب فَهَذَا كَانَ سَبَب فِي مَوته رَحمَه الله اه وَلما توفّي حمل إِلَى مراكش فقبر بهَا وَكَانَت مُدَّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 خِلَافَته أَربع سِنِين وَمن حجابه الْقَائِد رضوَان العلج وَكتابه مُحَمَّد بن عِيسَى وَمُحَمّد بن عمر الشاوي وقضاته قُضَاة ولد أَخِيه وَكَانَ يتزيا بزِي التّرْك وَيجْرِي مجراهم فِي كثير من شؤونه وَكَانَ يتهم بالميل إِلَى الْأَحْدَاث وَرُبمَا كَانَ يظْهر ذَلِك وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور خَلِيفَته على فاس كَمَا مر وَكَانَت لَهُ فِيهِ محبَّة تَامَّة وَكَانَ يظْهر أَنه ولي عَهده ويرشحه لذَلِك كثيرا حَسْبَمَا أفصحت عَنهُ رسائله الَّتِي كَانَ يبْعَث بهَا إِلَيْهِ ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة كَانَ الوباء بالمغرب كَمَا قدمنَا وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة نزل مطر غزير بمراكش حَتَّى امْتَلَأت مِنْهُ الْآبَار وتهدمت الدّور وَصَارَ النَّاس يؤرخون بعام الْآبَار وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي من أَوْلَاد أبي السبَاع وَدفن بزاويته على ضفة وَادي تانسيفت من أَعمال مراكش وقبره مزارة مَشْهُورَة وَعَلِيهِ بِنَاء حفيل وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن مُحَمَّد الصنهاجي الطنجي الْمَعْرُوف بالهبطي وَكَانَت وَفَاته فِي ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَحمَه الله من أهل الْوَرع وَالدّين والاتباع للسّنة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمن فَوَائده مَا حَكَاهُ عَنهُ فِي الدوحة قَالَ سَأَلت شَيخنَا الإِمَام أَبَا مُحَمَّد عبد الله الهبطي عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَكَانَ من أَصْحَابه فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَا لسَائِر الْمَشَايِخ من أَصْحَاب الشَّيْخ الغزواني كَأبي الْحجَّاج التليدي وَأبي الْبَقَاء اليالصوتي وَأبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان وَغَيرهم يصرحون بقبطانية الشَّيْخ وينسبونك أَنْت إِلَى التَّقْصِير فِي حَقه حَيْثُ لم تقل بِمَا يَقُولُونَهُ فَقَالَ لي رَضِي الله عَنهُ قد علمت معنى الشَّهَادَة فِي الشَّرْع مَا هِيَ فَقلت نعم فَقَالَ لي كَيفَ لي أَن أشهد لأحد بمقام معِين وَأَنا لم أسلكه وَلم أتحققه وَلم يكْشف لي عَنهُ فَإِن فعلت فقد شهِدت شَهَادَة الزُّور فَقلت لَهُ وَأي شَهَادَة تشهد فِي الشَّيْخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فَقَالَ لي أشهد أَنه من العارفين بِاللَّه تَعَالَى وَأَنه كَانَ يُجيب بِالْحَال أَكثر مِمَّا يُجيب بالمقال انْتهى قلت وَهَذَا شَأْن أهل الدّين والورع المحتاطين لدينهم لَا يقدمُونَ على أَمر وَلَا يتفوهون بِهِ حَتَّى يَكُونُوا مِنْهُ على بَصِيرَة وتجد كثيرا مِمَّن عقله وَرَاء لِسَانه يتقولون على الله فِي غيبه ويخبطون خبط العشواء وينسبون المقامات وَالْأَحْوَال لمن لَيْسَ مِنْهَا فِي قبيل وَلَا دبير نسْأَل الله تَعَالَى أَن يلهمنا رشدنا بمنه وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا كسفت الشَّمْس الْكُسُوف الْكُلِّي الْعَظِيم وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة كَانَ بالمغرب وباء عَظِيم كسا سهله وجباله وأفنى كماته وأبطاله واتصل أمره إِلَى سنة سِتّ وَسِتِّينَ بعْدهَا وَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الْجُزُولِيّ ثمَّ السملالي الشهير بِبِلَاد السوس أَخذ عَن الشَّيْخ أبي فَارس عبد الْعَزِيز التباع وَالشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الرَّاشِدِي ثمَّ الملياني وَفِي سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة لَيْلَة عبد الْأَضْحَى مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عياد الصنهاجي ثمَّ الْفَرَجِيِّ الدكالي الْمَعْرُوف بالمجذوب الْوَلِيّ الْمَشْهُور دَفِين مكناسة الزَّيْتُون كَانَ مأوى سلفه بِمَدِينَة تيط قرب آزمور ثمَّ رَحل هُوَ ووالده إِلَى مكناسة فَمَاتَ بهَا وَفِي سنة سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة بعد صَلَاة الْجُمُعَة من أول يَوْم من الْمحرم مِنْهَا زلزلت الأَرْض زلزالا شَدِيدا وفزع النَّاس لذَلِك وَفِي هَذِه السّنة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن من شرفاء بني آمغار دَفِين تامصلوحت وَقد تقدم مَا جرى بَينه وَبَين السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وَفِي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَذَلِكَ أَوَاخِر شَوَّال مِنْهَا الْمُوَافق لأواسط مارس العجمي حدث بالمغرب جَراد كثير وَفِي أَيَّام السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه ظهر نجم لم يكن معهودا ثمَّ ظَهرت فِي أَيَّام ابْنه مُحَمَّد بن عبد الله أَعْلَام حمر فِي الجو من النَّاحِيَة الشرقية تبعتها فِي الأَرْض أجناد التّرْك الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 جَاءَ بهَا السُّلْطَان أَبُو مَرْوَان من الجزائر كَمَا مر وَفِي أَيَّام السُّلْطَان أبي مَرْوَان الْمَذْكُور ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب الْكَبِير فِي برج الْعَقْرَب وطلع أَيَّامًا ثمَّ غَابَ وَظهر بعده كَوْكَب آخر ذُو ذَنْب أَصْغَر مِنْهُ وعَلى أَثَره كَانَ خُرُوج البرتغال من طنجة ووقعة وَادي المخازن كَمَا مر وَالله تَعَالَى أعلم بغيبه الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه السَّعْدِيّ الْمَعْرُوف بالذهبي وأوليته ونشأته كَانَت ولادَة السُّلْطَان أَبى الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه ابْن السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ بفاس سنة سِتّ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَأمه الْحرَّة مسعودة بنت الشَّيْخ الْأَجَل أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الوزكيتي الوارززاتي وَكَانَت من الصَّالِحَات الْخيرَات وَسَتَأْتِي بَقِيَّة أَخْبَارهَا وَذكر فِي الْمُنْتَقى قَالَ مرض الْمَنْصُور فِي صغره مَرضا شَدِيدا حَتَّى أيس مِنْهُ فرأت أمه فِي النّوم شخصا يَقُول لَهَا أزيريه الشَّيْخ أَبَا مَيْمُونَة فَإِنَّمَا أَصَابَته عين فأزارته إِيَّاه فَعُوفِيَ وَكَانَ أَبوهُ الْمهْدي يُنَبه على أَنه وَاسِطَة عقد أَوْلَاده قَالَ فِي مناهل الصَّفَا حَدثنِي الشَّيْخ المسن الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد مُؤمن ابْن الْغَازِي الْعمريّ أَن الْمَنْصُور أقبل يَوْمًا فِي حَيَاة أَبِيه وَهُوَ صبي والمجلس غاص بالأكابر فَانْدفع يخترق الصُّفُوف قَالَ فصاح بِي الْمهْدي إِذْ ذَاك وَأَنا أَصْغَر الْقَوْم فَقَالَ يَا مُؤمن ارفعه فيسنفعك أَو ينفع عقبك فابتدرت حمله وَكَانَ كَذَلِك فَإِن الْمَنْصُور لما أفضت إِلَيْهِ الْخلَافَة كَانَ الْقَائِد مُؤمن ابْن الْغَازِي عِنْده بالحظوة الرفيعة والمنزلة الْعَالِيَة وَنَشَأ الْمَنْصُور رَحمَه الله فِي عفاف وصيانة وتعاط للْعلم ومثافنة لأَهله عَلَيْهِ وَكَانَت مخايل الْخلَافَة لائحة عَلَيْهِ من لدن عقدت عَلَيْهِ التمائم إِلَى أَن تمّ أمره حَدثنَا الْفَقِيه الْعَالم سفير الْخُلَفَاء أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 مُحَمَّد بن عَليّ الْجُزُولِيّ الدرعي أَنه اجْتمع بِبَعْض أهل المكاشفة بِمصْر فَسَأَلَهُ عَن السُّلْطَان أبي عبد الله الشَّيْخ وَأَوْلَاده قَالَ فسميتهم لَهُ واقتصرت على الْكِبَار مِنْهُم فَلم أذكر الْمَنْصُور لِأَنَّهُ كَانَ أَصْغَرهم سنا يَوْمئِذٍ فَقَالَ لي بَقِي مِنْهُم من لم تذكره فَقلت لَهُ احْمَد فَقَالَ ذَاك وَاسِطَة عقدهم وَوجه صفقتهم فَكَانَ كَذَلِك وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي لما أَخذ الْمهْدي الْبيعَة لوَلَده السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه كَمَا تقدم استقدمه من فاس وأوصاه بالمنصور جدا وَقَالَ لَهُ إِن الْفَائِدَة فِيهِ أَو كَمَا قَالَ وَهَكَذَا كَانَ يُنَبه على أَنه وَاسِطَة عقد أَوْلَاده وَكَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله يحدث أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وأنواره تشرق قَالَ فَوَقع فِي نَفسِي أَن أسأله عَن نَصِيبي من الْخلَافَة فكاشفني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِي خاطري وأجابني بِمَا حقق لي نيلها ثمَّ أَشَارَ لي بأصابعه الثَّلَاثَة الشَّرِيفَة ضاما الْإِبْهَام مِنْهَا إِلَى السبابَة وَالْوُسْطَى وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ اه وَقَالَ الإِمَام أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد التامنارتي فِي كِتَابه الْفَوَائِد الجمة بِإِسْنَاد عُلُوم الْأمة أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الدغوغي صَاحب الْحِسْبَة بتارودانت أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَنَّهُ فِي حَلقَة يسْرد فِيهَا صَحِيح البُخَارِيّ بِموضع من دَار الْخلَافَة بهَا وَأَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور يَوْمئِذٍ بهَا وَذَلِكَ قبل ولَايَته قَالَ فَرَأَيْت فِي طرة الْكتاب هَذَا اللَّفْظ ورى الزند فَكنت أتأمل مَعْنَاهُ فَالْتَفت فَإِذا بِرَجُل انْعَزل نَاحيَة على طنفسة فَوَقع فِي نَفسِي أَن أسأله فَأَتَيْته بِالْكتاب وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَا معنى هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي فِي طرة هَذَا الْكتاب فَقَالَ لي قل لمولاك أَحْمد أَنا الَّذِي أوريت زندك مَا دمت على الْحق فَإِن عدلت عَنهُ فَأَنا بَرِيء مِنْك فَقلت لَهُ وَمن أَنْت يَا سَيِّدي فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمض إِلَّا قَلِيل حَتَّى ولي الْخلَافَة وحمدت سيرته قَالَ أَبُو زيد وناهيك بزند أوراه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا يدل على أَن ولَايَة الْإِسْلَام لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد اشتهرت الْمرَائِي بذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 وَيقرب من هَذَا مَا ذكره صَاحب ابتهاج الْقُلُوب فِي مَنَاقِب الشَّيْخ المجذوب أَن الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عبد الله الملقب بكدار ابْن الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن علال الْمَالِكِي البوخصيبي رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فَشَكا إِلَيْهِ أَوْلَاد مُطَاع لما رَآهُمْ عَلَيْهِ من الْفساد فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِيهم أَحْمد فَكَانَ كَذَلِك أَتَاهُم عقب ذَلِك السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور فَأَخذهُم وفل جمعهم اه وأخبار الْمَنْصُور من هَذَا النمط كَثِيرَة وَكَانَ رَحمَه الله طَوِيل الْقَامَة ممتلئ الْخَدين وَاسع الْمَنْكِبَيْنِ تعلوه صفرَة رقيقَة أسود الشّعْر أدعج أكحل ضيق البلج براق الثنايا حسن الشكل جميل الْوَجْه ظريف المنزع لطيف الشَّمَائِل وَكَانَت بيعَته بعد الْفَرَاغ من قتال النَّصَارَى بوادي المخازن يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَاجْتمعَ عَلَيْهَا من حضر هُنَاكَ من أهل الْحل وَالْعقد ثمَّ لما قفل الْمَنْصُور من غزوته تِلْكَ وَدخل حَضْرَة فاس يَوْم الْخَمِيس عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة جددت لَهُ الْبيعَة بهَا وَوَافَقَ عَلَيْهَا من لم يحضرها يَوْم وَادي المخازن ثمَّ بعث إِلَى مراكش وَغَيرهَا من حواضر الْمغرب وبواديه فأذعن الْكل للطاعة وسارعوا إِلَى الدُّخُول فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة قَالَ الفشتالي لما كَانَت وقْعَة وَادي المخازن وَنصر الله دينه وكبت الْكفْر وَأَهله واستوسق الْأَمر للمنصور كتب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَهُوَ يَوْمئِذٍ السُّلْطَان مُرَاد بن سليم العثماني وَإِلَى سَائِر ممالك الْإِسْلَام المجاورين للمغرب يعرفهُمْ بِمَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من إِظْهَار الدّين وهلاك عَبدة الصَّلِيب واستئصال شأفتهم فوردت عَلَيْهِ الأرسال من سَائِر الأقطار مهنئين لَهُ بِمَا فتح الله على يَده وَكَانَ أول من وَفد عَلَيْهِ رَسُول صَاحب الجزائر ثمَّ تلته أرسال طاغية البرتغال وَهُوَ الريكي الْقَائِم بأمرهم بعد هَلَاك سبستيان وَلَيْسَ خَاله وَإِنَّمَا خَاله طاغية الإصبنيول فيليب الثَّانِي الَّذِي جمع المملكتين مَعًا بعد هَلَاك الريكي الْمَذْكُور وَبعد وقْعَة وَادي المخازن بِثَلَاث سِنِين فقدموا بهدية عَظِيمَة وضعوها يَوْم دُخُولهمْ إِلَى فاس على الكراريص والعجل فَعجب النَّاس مِنْهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 عجبا بليغا وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمًا مشهودا وَكَانَ من جملَة مَا فِيهَا ثَلَاثمِائَة ألف دكات من ريال الْفضة وَأما الطّرف النفيسة والأثاث الرفيع فشيء لَا يُحْصى ثمَّ وَردت أرسال طاغية الإصبنيول صَاحِبَة قشتالة بهدية عَظِيمَة مِنْهَا اليواقيت الْكِبَار الَّتِي انتزعها الطاغية من تَاج آبَائِهِ وصنيديق مَمْلُوء من الدّرّ الفاخر وقضب الزمرد وَغير ذَلِك وَتكلم النَّاس فِيمَا بَين الهديتين أَعنِي هَدِيَّة البرتغالي وهدية الإصبنيولي أَيهمَا أعظم وَلم يهتد أهل الْعقل والمعرفة إِلَى مِقْدَار التَّفَاوُت بَينهمَا ثمَّ قدمت أرسال السُّلْطَان مُرَاد العثماني وَمَعَهُمْ هَدِيَّة وَهِي سيف محلى لم ير مثله مضاء وصفاء متن ثمَّ قدمت أرسال طاغية أفرانسة وَمَعَهُمْ هَدِيَّة عَظِيمَة وَلم تزل الْوُفُود مترادفة بِبَاب الْمَنْصُور والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تِلْكَ الْقُصُور إِلَى أَن لم يبْق أحد مِمَّن تتشوف النُّفُوس إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ اطمأنت بالمنصور الدَّار وطاب الْمقَام وَتمّ الْقَرار وَفِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة مرض الْمَنْصُور مَرضا مخوفا وَطَالَ بِهِ حَتَّى كَادَت الْأُمُور تختل ثمَّ تَدَارُكه الله على يَد الْحَكِيم الماهر أبي عبد الله مُحَمَّد الطَّبِيب وَلما أبل من مَرضه أحسن إِلَى الطَّبِيب الْمَذْكُور ونثر عَلَيْهِ خُرُوجه من الْخلْع مَا لَا يُحْصى وَكَانَ يَوْم خُرُوجه يَوْمًا مشهودا وَفِي ذَلِك يَقُول الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الهوزالي الْمَعْرُوف بالنابغة (تردى أَذَى من سقمك الْبر وَالْبَحْر ... وضجت لشكوى جسمك الشَّمْس والبدر) (وَبَات الْهدى خوفًا عَلَيْك مسهدا ... وَأصْبح مذعور الْفُؤَاد الندى الْغمر) (فَلَمَّا أعَاد الله صحتك الَّتِي ... أَفَاق بهَا من غمه البدو والحضر) (تراءت لنا الدُّنْيَا بزينة حسنها ... وَعَاد إِلَى إبانه ذَلِك الْبشر) (وَصَارَ بك الْإِسْلَام فِي كل بَلْدَة ... يهني وَيَدعِي أَن يطول لَك الْعُمر) (وَصحت لنا الآمال بعد اعتلالها ... وعادت إِلَى الإيناع أَغْصَانهَا الْخضر) (وَلَا غرو إِن صَامت على سمط الندى ... إِذا اغبر وَجه الأَرْض وَاحْتبسَ الْقطر) (لبيت أبي الْعَبَّاس أنضت عجافها ... قَدِيما فخافت أَن يعاودها الضّر) (لَئِن صدئت بيض الْمَعَالِي لقد غَدَتْ ... تسيء الكماة الْبيض واللدن السمر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 (بقيت لهَذَا الدّين تَحْمِي ذماره ... ويحميك رب الْعَرْش مَا بَقِي الدَّهْر) عقد الْمَنْصُور ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَدْعُو الْمَأْمُون قَالَ الفشتالي لما أبل الْمَنْصُور من مَرضه الْمَذْكُور وَعَاد إِلَى حَاله من الصِّحَّة أجمع رَأْي أَعْيَان الدولة واتفقت كلمة كبرائها على أَن يطلبوا مِنْهُ تعْيين من يَلِي الْأَمر بعده وَيكون ولي عَهده وَكَانَ الْمَنْصُور مهيبا لَا يقدر أحد على مواجهته بِمثل هَذَا فاتفقوا على أَن يكون البادئ لذَلِك الْقَائِد الْمُؤمن بن الْغَازِي الْعمريّ لما لَهُ من الإدلال على الْمَنْصُور بطول الْخدمَة وسالف التربية فَقَالَ لَهُ الْقَائِد الْمَذْكُور يَا مَوْلَانَا الله تَعَالَى حفظ الْإِسْلَام بإبلالك من هَذَا الْمَرَض وعصم الدّين بإبقائه عَلَيْك وَقد بَقِي النَّاس فِي أَيَّام سقمك فِي حيرة عَظِيمَة ودخلهم من الدهش مَا لَا يخفى عَلَيْك فَلَو عينت لنا من أبنائك القساورة من تَجْتَمِع كلمة الْإِسْلَام عَلَيْهِ ويشار بالخلافة إِ ليه لَكَانَ أولى وأليق بسياسة الْملك وَإِن ابْنك الأبر أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَأْمُون حقيق بذلك وجدير بسلوك تِلْكَ المسالك لما فِيهِ من خلال الْخَيْر وخصال السِّيَادَة زِيَادَة على مَا هُوَ عَلَيْهِ من التيقظ فِي أُمُوره والحزم فِي شؤونه وَقد ظَهرت للنَّاس محَاسِن سيرته واطلعوا على جميل سَرِيرَته فَاسْتحْسن الْمَنْصُور ذَلِك وَأَعْجَبهُ مَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ فَقَالَ لَهُ سَوف أستخير الله فِي ذَلِك فَإِن يكن من عِنْد الله يمضه قلت هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الفشتالي على لِسَان الْقَائِد مُؤمن فِي حق الْمَأْمُون الْمَذْكُور هُوَ بِخِلَاف الْوَاقِع كَمَا ستقف عَلَيْهِ من أَحْوَال الْمَأْمُون بعد هَذَا إِن شَاءَ الله وَلَكِن المؤرخين وَالشعرَاء يمدحون ويقدحون بِحَسب أغراضهم لَا بِحَسب الْوَاقِع غَالِبا لَا سِيمَا إِذا كَانَ من يعنونه بذلك مخدوما لَهُم ومنعما عَلَيْهِم فَلَا يَنْبَغِي لمن وقف على كَلَام هَؤُلَاءِ الصِّنْف مِنْهُم أَن يعْتَمد عَلَيْهِ إِلَّا بعد التثبت والتبصر وَالله تَعَالَى الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب بمنه ثمَّ لبث الْمَنْصُور بعد هَذِه الْإِشَارَة أَيَّام يستخير ربه فِي ذَلِك ويستشير من يعلم أَهْلِيَّته للمشورة من أهل الْعلم وَالصَّلَاح فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام الاستخارة وتواطأت الآراء على حسن تِلْكَ الْإِشَارَة جمع الْمَنْصُور أَعْيَان حَاضِرَة مراكش وأعيان مَدِينَة فاس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وَغَيرهم من أَشْيَاخ الْقَبَائِل بِوُجُوه النَّاس من أهل الحواضر والبوادي وَأوصى بالعهد لوَلَده الْمَذْكُور أبي عبد الله مُحَمَّد الْمَأْمُون وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ منسلخ شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَكَانَ الْمَأْمُون إِذْ ذَاك خَليفَة أَبِيه على فاس فَلم يحضر هَذِه الْبيعَة فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بعد ذَلِك ليقدم من فاس ويبايع بِحَضْرَتِهِ وَلم يقنعه مَا كَانَ عقد لَهُ من الْبيعَة وَهُوَ غَائِب وَلما بعث إِلَيْهِ خرج الْمَنْصُور بعسكره إِلَى تانسيفت خَارج مراكش ثَانِي عشر صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَلم يزل بعسكره هُنَاكَ متلوما ومنتظرا لقدوم الْمَأْمُون إِلَى أَن قدم غرَّة جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة فَكَانَت ملاقاتهما من عجائب الزَّمَان وَلما اصطف جَيش الْمَنْصُور وجيش الْمَأْمُون ترجل الْمَأْمُون عَن فرسه وَتقدم حافي الْقدَم فعفر وَجهه بَين يَدي وَالِده ثمَّ قبل رجله والمنصور على فرسه وَاقِفًا بَين الصفين فَدَعَا لَهُ بِخَير وَأظْهر الْفَرح بمقدمه وَكَانَ الْمَأْمُون قد عبأ جَيْشه تعبية لم ير مثلهَا ورتبهم ترتيبا حسنا فِي لباسهم وَسَائِر أُمُورهم فسر الْمَنْصُور بذلك وَبعد أَيَّام من بُلُوغه أَمر بِهِ فأجلس فِي سرادقه الْأَعْظَم الَّذِي لم يكن للملوك قبله مثله كَمَا سَيَأْتِي وَأمر أهل الْحل وَالْعقد فازدحموا على تَقْبِيل يَده واقتضيت مِنْهُم الْأَيْمَان بِحَضْرَتِهِ وَقَامَ الشُّعَرَاء فأفصحوا عَن وصف الْحَال وغمر الْمَنْصُور النَّاس بالنوال وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمًا مشهودا وَبعد أَيَّام مِنْهُ أَمر الْمَنْصُور الْمَأْمُون أَن يرجع إِلَى حَضْرَة فاس فَرجع وَدخل الْمَنْصُور حَضرته وَتمّ غَرَضه الَّذِي قَصده ثورة دَاوُد بن عبد الْمُؤمن بن مُحَمَّد الشَّيْخ وَالسَّبَب فِي ذَلِك قَالَ الفشتالي لما وَقعت الْبيعَة لِلْمَأْمُونِ وتكامل أمرهَا ثار الرئيس الْأَجَل أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَهُوَ ابْن أخي الْمَنْصُور وفر إِلَى جبل سكسيوة وشق الْعَصَا ودعا إِلَى نَفسه فانثالت عَلَيْهِ أوشاب من البربر وَغَيرهم وَنجم أمره وأثرت فِي إِذن الرّعية جعجعته فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور قائده الزعيم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن بجة فناوشه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 الْقِتَال بجبل سكسيوة فَهَزَمَهُ وفر إِلَى جبل هوزالة فتحزبوا عَلَيْهِ وقويت بهم شوكته وَأخذ يَشن لَهُم الغارات على أهل درعة إِلَى أَن ضاقوا بِهِ ذرعا فشكوا أمره إِلَى الْمَنْصُور فَبعث إِلَيْهِ قائده الَّذِي ذكر فَلم يزل فِي مُقَابلَته ومقاتلته إِلَى أَن شرده عَن جبل هوزالة ففر دَاوُد مِنْهُ إِلَى الصَّحرَاء وَاسْتقر بِهِ الرحيل بهَا عِنْد عرب الودايا من بني معقل فَلم يزل عِنْدهم إِلَى أَن هلك سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَكفى الْمَنْصُور أمره حُدُوث النفرة بَين الْمَنْصُور وَالسُّلْطَان مُرَاد العثماني وتلافي الْمَنْصُور لذَلِك قد علمت مَا كَانَ من التجاء عبد الْملك المعتصم وَأحمد الْمَنْصُور إِلَى السُّلْطَان سُلَيْمَان العثماني وتطارحهما عَلَيْهِ حَتَّى أمدهما بالجيش الَّذِي كَانَ سَببا فِي تملكهما الْمغرب وَلما صفا الْأَمر لعبد الْملك أهمل جَانب العثماني وَلم يكاتبه بِشَيْء وَلَا عرج عَن ساحته ثمَّ لما ملك الْمَنْصُور وَكتب إِلَى النواحي بِخَبَر وقْعَة وَادي المخازن كتب إِلَى السُّلْطَان مُرَاد فِي جُمْلَتهمْ فَبعث السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى الْمَنْصُور بالهدية الَّتِي تقدم ذكرهَا وَكَانَ الْمَنْصُور استقلها وأنف مِنْهَا فتشاغل عَن الْوَفْد وتركهم مهملين بِحَضْرَتِهِ وَتَأَخر عَن جَوَاب السُّلْطَان مُرَاد فَكَانَ ذَلِك سَببا للنفرة وَكَانَ وَزِير الْبَحْر للعثماني واسْمه الرئيس عَليّ علوج يبغض الْمَنْصُور فَلم يزل يسْعَى بِهِ عِنْد سُلْطَانه ويذكره مَا كَانَ من أَبِيه الشَّيْخ من الْقدح فِي ولَايَة التّرْك والطعن عَلَيْهِم وَقَالَ لَهُ فِي ذَلِك قد ضَاعَ صنيعك فِي هَذَا الغادر وصنيع والدك من قبلك وَلم يزل يفتل لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب ويهون عَلَيْهِ أَمر الْمغرب حَتَّى أذن لَهُ فِي تَوْجِيه الْعِمَارَة إِلَيْهِ ومنازلته وَالْأَخْذ بآفاقه إِلَى أَن يستأصل أَمر الْمَنْصُور ويخمد جمرته وَيُقَال إِن السُّلْطَان مرَادا أَمر وزيره الْمَذْكُور أَن يذهب بالعمارة إِلَى الجزائر فَتكون هُنَالك ثمَّ يتَقَدَّم بالعساكر فِي الْبر إِلَى الْمغرب فَأخذ الْوَزير فِي التأهب لذَلِك واتصل الْخَبَر بالمنصور على يَد بعض قناصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 النجليز فارتحل إِلَى فاس من حِينه وشحن الثغور وملأ المراسي وَكَانَ على أهبة وَكَمَال استعداد وَبعث أرساله إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور بهدية عَظِيمَة تلافيا لما فرط واعتذارا عَمَّا سلف وَكَانَ من جملَة أرساله الْقَائِد الأنجد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ودة العمراني وَالْكَاتِب الشهير أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الهوزالي فَرَكبُوا الْبَحْر من مرسى تطاوين قَاصِدين الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وبينما هم فِي أثْنَاء الطَّرِيق على ثبج الْبَحْر لَقِيَهُمْ الْوَزير علوج فِي أسطوله قَاصِدا ديار الْمغرب عَازِمًا على منازلة الْمَنْصُور بِهِ فَلَمَّا رَآهُمْ سقط فِي يَده وأيقن بخيبة مسعاه فرام صدهما عَمَّا قصدا إِلَيْهِ وأيأسهما من تدارك الْأَمر وَقَالَ لَهما إِن الْخرق قد اتَّسع على الراقع وَلَو كَانَ لصاحبكم غَرَض فِي الْمَسْأَلَة مَا بَقِي أَصْحَابنَا بأبوابه كالكلاب والبادي أظلم فَلم يزل الْوَزير علوج بالقائد ابْن ودة إِلَى أَن صرفه عَن رَأْيه ورده مَعَه وَترك الهوزالي يبلغ الرسَالَة والهدية ظنا مِنْهُ أَن صَغِير السن لَا يحسن مُخَاطبَة الْمُلُوك الْعِظَام وَابْن ودة الَّذِي كَانَ عِنْده مَظَنَّة لكَمَال التَّدْبِير ومثافنة الْمُلُوك رده مَعَه فَلَمَّا انْتهى الهوزالي إِلَى السُّلْطَان مُرَاد وَدخل عَلَيْهِ أظهر من نبله ولطف مخاطبته مَا خلب بِهِ قلب السُّلْطَان الْمَذْكُور واستل السخيمة من صَدره وَاعْتذر لَهُ عَن تَأَخّر الْمَنْصُور عَن الْجَواب بِمَا لَا يعود بوهن على مخدومه وَلَا يُفِيد غَلَبَة خَصمه فَقبل السُّلْطَان مُرَاد الِاعْتِذَار وَتقبل الْهَدِيَّة بِقبُول حسن وَكتب مَعَ الهوزالي إِلَى الْوَزير علوج بِالرُّجُوعِ عَن منازلة الْمَنْصُور فَرجع بهَا الهوزالي يطير سُرُورًا وَلم يغب عَن علوج إِلَّا نَحْو الشَّهْر حَتَّى قدم عَلَيْهِ بِأَمْر الْملك فقرع لَهَا علوج سنّ النَّدَم وأسف على تفريطه فِي الهوزالي وَتَركه وَبعث السُّلْطَان مُرَاد رسله مَعَ الهوزالي إِلَى الْمَنْصُور يلومه على التَّرَاخِي فِي أُمُور الْمُلُوك فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أكْرم وفادتهم وَأحسن نزلهم وردهم مكرمين إِلَى مرسلهم وَبعث مَعَهم الْفَقِيه الإِمَام قَاضِي الْجَمَاعَة بِحَضْرَة مراكش أَبَا الْقَاسِم ابْن عَليّ الشاطبي والقائد الأنجد أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن مَنْصُور الشيظمي المريدي فَلَمَّا وردوا على خاقَان التّرْك فَرح بهم كل الْفَرح ورتب الشاطبي كلَاما بليغا أعرب فِيهِ عَن فضل الدولتين وَقرر فِيهِ حق أهل الْبَيْت وأطرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 الْمَنْصُور وحض فِيهِ على اتِّحَاد كلمة الْإِسْلَام وَقَرَأَ ذَلِك على السُّلْطَان مُرَاد فاهتز لسماعه ثمَّ بعد أَيَّام أحسن إِلَيْهِم وأجزل صلتهم وردهم مكرمين إِلَى مرسلهم وَقَالَ صَاحب خُلَاصَة الْأَثر كَانَ الْمَنْصُور موادعا لسلاطين آل عُثْمَان فَيُرْسل إِلَيْهِم بالهدايا فِي كل سنة وَكَانُوا هم يرسلون إِلَيْهِ بالمكاتيب وَالْخلْع السّنيَّة حَتَّى إِن السُّلْطَان مُرَاد بن سليم كتب إِلَيْهِ أثْنَاء مكاتيبه ملك عَليّ الْعَهْد أَن لَا أمد يَدي إِلَيْك إِلَّا للمصافحة وَإِن خاطري لَا يَنْوِي لَك إِلَّا الْخَيْر والمسامحة وَكَانَت رسله دَائِما تَأتي إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة من جَانب الْبَحْر ويمكثون زَمَانا طَويلا ويتعهدون الوزراء وَمن لَهُ قرب من الدولة من جُمْلَتهمْ الرئيس الأديب مُحَمَّد الْأمين الدفتري فقد ذكر صَاحب خُلَاصَة الْأَثر أَن هَذَا الرئيس كَانَ يجمع نفائس الْكتب وَيبْعَث بهَا إِلَى الْمَنْصُور فبسبب ذَلِك كَانَت المراسلات بَينهمَا غير مُنْقَطِعَة وَقد ذكر صَاحب خُلَاصَة الْأَثر فِي تَرْجَمَة الرئيس الْمَذْكُور بعض تِلْكَ المراسلات فَانْظُرْهُ وَلما تَكَامل هَذَا الْغَرَض وَصَحَّ جسم الدولة من الْمَرَض وَرجعت الأرسال فِي أحسن الْأَحْوَال عَاد الْمَنْصُور إِلَى مراكش وَفِي يَوْم خُرُوجه من فاس خرج أَعْيَان أَهلهَا ومشيخة الْعلم بهَا وَقُرِئَ البُخَارِيّ بَين يَدَيْهِ سردا على عَادَة الْخُلَفَاء فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك كُله سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة إِيقَاع الْمَنْصُور بعرب الْخَلْط وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا فِي أَخْبَار الدولة المرينية مَا كَانَ لهَؤُلَاء الْخَلْط من الاعتزاز والدالة عَلَيْهَا بِسَبَب مَا كَانَ لَهُم من الشَّوْكَة والمصاهرة مَعَ مُلُوكهَا وَلما أَدْبَرت دولة بني مرين وَاسْتولى على ملكهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمهْدي انحاشوا إِلَيْهِ وأظهروا الْخدمَة والنصيحة فَلَمَّا جَاءَ أَبُو حسون الوطاسي بِجَيْش التّرْك حَسْبَمَا شرحناه قبل أوقعوا الْهَزِيمَة على الْمهْدي لأبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 حسون كَمَا مر فَلَمَّا غلب الْمهْدي على الْمغرب وَصفا لَهُ أمره خلعهم من الجندية ووظف عَلَيْهِم الْخراج ومحا اسمهم من ديوَان الْخدمَة وَنقل أعيانهم إِلَى مراكش واتخذهم رهائن عِنْده وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَيَّام الْمَنْصُور فَرَأى جلادهم يَوْم وَادي المخازن وَحسن بلائهم فَاخْتَارَ النّصْف مِنْهُم ورده إِلَى الجندية وَأبقى نصفهم الآخر فِي غمار الرّعية ونقلهم إِلَى آزغار فاستوطنوه حينا من الدَّهْر ثمَّ عاثوا فِي الْبِلَاد وَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد ومدوا أَيْديهم إِلَى أَوْلَاد مُطَاع فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إِلَى الْمَنْصُور فَضرب عَلَيْهِم سبعين ألفا غَرَامَة فَلم يزدادوا إِلَّا عتوا وَشدَّة فَأرْسل إِلَيْهِم ليبعثوا طَائِفَة مِنْهُم إِلَى تيكورارين فامتنعوا من ذَلِك فَحِينَئِذٍ بعث إِلَيْهِم الْقَائِد مُوسَى بن أبي جمدي الْعمريّ فَانْتزع مِنْهُم الْخَيل وأبقاهم رجالة ثمَّ حكم السَّيْف فِي رقابهم واستأصل جمهورهم فَمن ثمَّ خضدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم اسْتِيلَاء الْمَنْصُور على بِلَاد الصَّحرَاء تيكورارين وتوات وَغَيرهمَا لما اسْتَقر الْمَنْصُور بمراكش مرجعه من فاس وَأمن من هجوم التّرْك على الْمغرب طمحت نَفسه إِلَى التغلب على بِلَاد تيكورارين وتوات من أَرض الصَّحرَاء وَمَا انضاف إِلَى ذَلِك من الْقرى والمداشر إِذْ كَانَ أهل تِلْكَ الْبِلَاد قد انكفت عَنْهُم أَيدي الْمُلُوك وَلم تسسهم الدول مُنْذُ أزمان وَلَا قادهم سُلْطَان قاهر إِلَى مَا يُرَاد مِنْهُم فسنح للمنصور أَن يجمع بهم الْكَلِمَة ويردهم إِلَى أَمر الله فَبعث إِلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن بركَة والقائد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الْحداد الْعمريّ المعقلي فِي جَيش كثيف فَقطعُوا إِلَيْهِم القفر من مراكش وانتهوا إِلَيْهِم على سبعين مرحلة مِنْهَا فتقدموا إِلَيْهِم أَولا بِالدُّعَاءِ للطاعة والأعذار والأنذار فامتنعوا فنازلوهم وقاتلوهم وطالت الْحَرْب بَينهم ياما ثمَّ كَانَ الظُّهُور لجيش الْمَنْصُور فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم إِلَى أَن أذعنوا للطاعة وصاروا فِي حزب الْجَمَاعَة وأنهى خبر الْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 فسر بذلك سُرُورًا عَظِيما وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي ذَلِك وَعم الْفَرح بِلَاد الْمغرب وَكَانَ ذَلِك سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَبعد هَذَا تشوفت نفس الْمَنْصُور إِلَى الِاسْتِيلَاء على بِلَاد السودَان فَكَانَ من أمرهَا مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله اعْلَم أَن هَؤُلَاءِ السودَان هم من نسل حام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِاتِّفَاق النسابين والمؤرخين ويجاور البربر بِأَرْض الْمغرب مِنْهُم أُمَم كَثِيرَة من أعظمها أهل مملكة غانة وهم المتصلون بالبحر الْمُحِيط من جِهَة الغرب على مصب النّيل السوداني فِيهِ وتتصل بهم من جِهَة الشرق أمة أُخْرَى تعرف بصوصو بصادين أَو سينين مهملتين مضمومتين ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى يُقَال لَهَا مَالِي ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تسمى كوكو وَيُقَال كاغو ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تعرف بتكرور وَيُقَال لَهُم أَيْضا سغاي ثمَّ بعْدهَا أمة أُخْرَى تدعى كانم وهم أهل مملكة برنو الْمُجَاورَة لإفريقية من جِهَة قبلتها ثمَّ بعْدهَا أَرض النّوبَة الْمُجَاورَة لبلاد مصر وَهَكَذَا إِلَى آخر الشرق أُمَم لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم فَأَما أهل مملكة غانة فقد كَانُوا فِي صدر الْإِسْلَام من أعظم أُمَم السودَان أَسْلمُوا قَدِيما وَكَانَ لَهُم ملك ضخم وَكَانَت حَاضِرَة ملكهم هِيَ غانة وَهِي مدينتان على ضفتي النّيل السوداني من أعظم مدن الْعَالم وأكثرها عمرانا ذكرهَا صَاحب نزهة المشتاق وَصَاحب المسالك والممالك وَغَيرهمَا وَقَالَ الْفَقِيه الأديب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْمُؤمن الْقَيْسِي الشريشي فِي شرح المقامات الحريرية مَا نَصه غانة بلد من بِلَاد السودَان وإليها يَنْتَهِي التُّجَّار يَعْنِي من الْمغرب والمدخل إِلَيْهَا من سجلماسة وَمن سجلماسة إِلَيْهَا ذَهَابًا مسيرَة ثَلَاثَة أشهر وَمن غانة إِلَى سجلماسة إيابا مسيرَة شهر وَنصف وَدون ذَلِك وَسبب ذَلِك أَن الرفاق تتجهز إِلَيْهَا من سجلماسة بالأمتعة والأثقال فتباع فِي غانة بالتبر فَمن سَافر إِلَيْهَا بِثَلَاثِينَ حملا يرجع مِنْهَا بِثَلَاثَة أحمال أَو بحملين وَاحِد لركوبه وثان للْمَاء بِسَبَب الْمَفَازَة الَّتِي فِي طريقها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 حَدثنِي غير وَاحِد من تجارها أَنهم يقطعون الْمَفَازَة فِي سِتَّة عشر يَوْمًا لَا يرَوْنَ فِيهَا مَاء إِلَّا على ظُهُور الْإِبِل فأثمان أحمال الثَّلَاثِينَ جملا يجْتَمع فِيهَا من التبر مَا يَجْعَل فِي مزود وَاحِد فيطوون المراحل للخفة قَالَ وغانة بلد مملكة السودَان وانتشر الْإِسْلَام فِي أَهلهَا وَبهَا مدارس للْعلم وَبهَا من تجار الْمغرب كثير يدْخلُونَ للتِّجَارَة فيصيبون الخصب والأمن وَكَثْرَة المتاجر فيشترون بهَا خدما للتسري ويقيمون بهَا عِنْد أميرها فِي غَايَة الْكَرَامَة وَالْإِمَاء فِيهَا قد جعل الله فِيهِنَّ من الْخِصَال الْكَرِيمَة فِي خَلقهنَّ وخلقهن فَوق المُرَاد من ملاسة الْأَبدَان وتفتق السوَاد وَحسن الْعَينَيْنِ واعتدال الأنوف وَبَيَاض الْأَسْنَان وَطيب الروائح اه وَقَالَ ابْن خلدون كَانَ فِي غانة فِيمَا يُقَال ملك ودولة لقوم من العلويين يعْرفُونَ ببني صَالح وَقَالَ صَاحب نزهة المشتاق أَنه صَالح بن عبد الله بن حسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم قَالَ وَلَا يعرف صَالح هَذَا فِي ولد عبد الله بن حسن وَقد ذهبت هَذِه الدولة لهَذَا الْعَهْد اه ثمَّ أَن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أَمرهم فِي الْمِائَة الْخَامِسَة واستفحل أَمر الملثمين المجاورين لَهُم من جِهَة الشمَال مِمَّا يَلِي البربر وزحف إِلَيْهِم الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر اللمتوني فاتح الْمغرب ومستخلف يُوسُف بن تاشفين عَلَيْهِ حَسْبَمَا مر ذَلِك فِي أخبارهم فَلَمَّا رَجَعَ الْأَمِير أَبُو بكر إِلَى الصَّحرَاء غزا بِلَاد السودَان وَفتح مِنْهَا مسيرَة ثَلَاثَة أشهر وَاقْتضى مِنْهُم الأتاوات وَحمل الْكثير مِنْهُم مِمَّن لم يكن أسلم قبل ذَلِك على الْإِسْلَام فدا نوابه ثمَّ اضمحل ملك أهل غانة بِالْكُلِّيَّةِ وتغلب عَلَيْهِم أهل مملكة صوصو المجاورون لَهُم واستعبدوهم وصيروهم فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ إِن أهل مَالِي كَثُرُوا أُمَم السودَان فِي نواحيهم تِلْكَ واستطالوا على الْأُمَم المجاورين لَهُم فغلبوا على صوصو وملكوا مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم وبأيدي أهل غانة ثمَّ افتتحوا بِلَاد كوكو وأضافوها إِلَى ملكهم وَصَارَت دولة مَالِي مُتَّصِلَة فِيمَا بَين غانة فِي الغرب وَأَرْض التكرور فِي الشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أُمَم السودَان وَمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 هَذِه الدولة كَانَ السُّلْطَان منسا مُوسَى بن أبي بكر وَأَخُوهُ منسا سُلَيْمَان اللَّذَان كَانَ بَينهمَا وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن المريني من المهاداة والمواصلة مَا تقدم ذكره وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان منسا مُوسَى الْمَذْكُور الأديب الشَّاعِر أَبُو إِسْحَاق الطوبجن الأندلسي الَّذِي بنى لَهُ الْقبَّة المربعة العجيبة الصَّنْعَة البديعة النقش والتخريم الَّتِي أجَازه عَلَيْهَا بِاثْنَيْ عشر ألف مِثْقَال من التبر وَغير ذَلِك مِمَّا مر ذكره فِي أَخْبَار الدولة المرينية وَكَانَ مِنْهَا أَيْضا السُّلْطَان ماري زاطة الَّذِي هادى السُّلْطَان أَبَا سَالم المريني وَأغْرب عَلَيْهِ بالزرافة حَسْبَمَا تقدم قَالُوا وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان مُسْرِفًا مبذرا بِحَيْثُ أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وَكَاد أَمر سلطانهم يخْتل حَتَّى لقد انْتهى الْحَال بِهِ فِي سرفه وتبذيره أَن بَاعَ حجر الذَّهَب الَّذِي كَانَ من الذَّخَائِر الموروثة عِنْدهم وَهُوَ حجر يزن عشْرين قِنْطَارًا من الذَّهَب الْعين مَنْقُولًا من الْمَعْدن كَذَلِك من غير علاج وَلَا تصفية بالنَّار فَكَانُوا يرونه من أنفس الذَّخَائِر وأكبر الغرائب لندور مثله فِي الْمَعْدن فعرضه منسا زاطة على تجار مصر المترددين إِلَى بَلَده فاشتروه مِنْهُ بأبخس ثمن ثمَّ أَصَابَته عِلّة النّوم وَهُوَ مرض يطْرق أهل ذَلِك الإقليم كثيرا وخصوصا الرؤساء مِنْهُم بِحَيْثُ يعتاده غشي النّوم عَامَّة زَمَانه حَتَّى لَا يكَاد يفِيق وَلَا يَسْتَيْقِظ إِلَّا فِي الْقَلِيل من الْأَوْقَات ويضر بِصَاحِبِهِ غَايَة ويتصل سقمه إِلَى أَن يهْلك ودامت هَذِه الْعلَّة بِهَذَا السُّلْطَان سنتَيْن ثمَّ هلك مِنْهَا سنة خمس وَسبعين وَسَبْعمائة ثمَّ توارث بنوه الْملك من بعده فَكَانُوا فِي تراجع وانتقاص إِلَى أَن انقرض أَمرهم شَأْن غَيرهم من الدول وَظَهَرت دولة آل سكية من أهل مملكة كوكو وَيُقَال كاغو قَالَ الإِمَام التكروري فِي كِتَابه نصيحة أهل السودَان إِن آل سكية أصلهم من صنهاجة وملكوا كثيرا من بِلَاد السودَان وَأول مُلُوكهمْ الْحَاج مُحَمَّد سكية بِضَم السِّين وَسُكُون الْكَاف بعْدهَا يَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء تَأْنِيث وَكَانَ الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور رَحل فِي أَوَاخِر الْمِائَة التَّاسِعَة إِلَى مصر والحجاز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 بِقصد حج بَيت الله الْحَرَام وزيارة قبر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلقي بِمصْر الْخَلِيفَة العباسي إِذْ كَانَ رسم الْخلَافَة العباسة لَا زَالَ قَائِما بهَا يَوْمئِذٍ حَتَّى محاه السُّلْطَان سليم العثماني أَيَّام تغلبه على مصر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَتِسْعمِائَة فَلَمَّا اجْتمع الْحَاج مُحَمَّد سكية بالخليفة الْمَذْكُور طلب مِنْهُ أَن يَأْذَن لَهُ فِي إِمَارَة بِلَاد السودَان وَأَن يكون خَلِيفَته هُنَاكَ ففوض إِلَيْهِ الْخَلِيفَة العباسي النّظر فِي أَمر ذَلِك الإقليم وَجعله نَائِبه على من وَرَاءه من الْمُسلمين فَرجع الْحَاج مُحَمَّد سكية إِلَى بِلَاده وَقد بنى أَمر رياسته على قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَجرى على منهاج أهل السّنة وَلَقي بِمصْر أَيْضا الإِمَام شيخ الْإِسْلَام حَافظ الْحفاظ جلال الدّين السُّيُوطِيّ فَأخذ عَنهُ عقائده وَتعلم مِنْهُ الْحَلَال وَالْحرَام وَسمع عَلَيْهِ جملا من آدَاب الشَّرِيعَة وأحكامها وانتفع بوصاياه ومواعظه فَرجع إِلَى السودَان وَنصر السّنة وأحيى طَرِيق الْعدْل وَجرى على منهاج الْخَلِيفَة العباسي فِي مَقْعَده وملبسه وَسَائِر أُمُوره وَمَال إِلَى السِّيرَة الْعَرَبيَّة وَعدل عَن سيرة الْعَجم فصلحت الْأَحْوَال وَبرئ جَسَد الرشاد من الدَّاء العضال وَكَانَ الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور سهل الْحجاب رَقِيق الْقلب خافض الْجنَاح شَدِيد التَّعْظِيم لأئمة الدّين محبا للْعُلَمَاء مكرما لَهُم يفسح لَهُم فِي الْمجْلس ويوسع عَلَيْهِم فِي الْعَطاء وَلم يكن فِي أَيَّامه كلهَا بؤس وَلَا بَأْس بل كَانَت رَعيته فِي خفض عَيْش وَأمن سرب وَفرض عَلَيْهِم شَيْئا خَفِيفا من المغارم وظفه عَلَيْهِم وَزعم أَنه مَا فعل ذَلِك حَتَّى اسْتَشَارَ الإِمَام السُّيُوطِيّ شَيْخه وَلم يزل على سيرته الْمَذْكُورَة إِلَى أَن اخترمته الْمنية فَقَامَ بِالْأَمر بعده وَلَده دَاوُد بن مُحَمَّد فَأحْسن مَا شَاءَ وَتبع طَريقَة أَبِيه إِلَى أَن لحق بربه وَمضى لسبيله فَقَامَ بِالْأَمر بعده وَلَده إِسْحَاق بن دَاوُد فَعدل عَن بعض سيرة أَبِيه وَلم يكن فِي أمره بالذميم وَاسْتمرّ حَاله على الانتظام إِلَى أَن غزته جيوش الْمَنْصُور فنقضت ملكه وَنَثَرت سلكه وانقرض عَلَيْهِ أَمر آل سكية بعد أَن كَانَ تَحت طاعتهم مسيرَة سِتَّة أشهر من بِلَاد السودَان وَسَنذكر كَيْفيَّة ذَلِك وَأما مملكة التكرور وكانم فَقَالَ ابْن خلكان مَا نَصه كانم بِكَسْر النُّون جنس من السودَان وهم بَنو عَم تكرور وكل وَاحِدَة من هَاتين القبيلتين لَا تنْسب إِلَى أَب وَلَا أم وَإِنَّمَا كانم اسْم بَلْدَة بنواحي غانة فَسُمي هَذَا الْجِنْس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 باسم هَذِه الْبَلدة وتكرور اسْم للْأَرْض الَّتِي هم فِيهَا وَسمي جنسهم باسم أَرضهم اه قلت وَكَانَ من كانم الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الكانمي الْأسود الشَّاعِر وَهُوَ الَّذِي دخل على يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي فأنشده (أَزَال حجابه عني وعيني ... ترَاهُ من المهابة فِي حجاب) (وقربني تفضله وَلَكِن ... بَعدت مهابة عِنْد اقترابي) وَأهل كانم هم أهل مملكة برنو الْمُجَاورَة لإفريقية من جِهَة قبلتها كَمَا قُلْنَا وَكَانَت لَهُم مَعَ الدولة الحفصية فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَمَا بعْدهَا مهاداة ومواصلة كَمَا كَانَ لأهل مَالِي مَعَ بني مرين قلت وَمن أهل برنو الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو مُحَمَّد عبد الله البرنوي شيخ الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي فَارس عبد الْعَزِيز الدّباغ الْمَوْضُوع فِي مناقبه كتاب الذَّهَب الإبريز واتصل أَمر أهل برنو على الانتظام إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَعَ الْمَنْصُور مَا نذكرهُ وكل هَؤُلَاءِ الْأُمَم كَانُوا على دين الْإِسْلَام قَدِيما كَمَا رَأَيْت وَكَانَ فيهم الْعلمَاء والصلحاء والأدباء وَالشعرَاء كَمَا عَلمته آنِفا وتعلمه فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بَابا السوداني فِي تَقْيِيده الْمُسَمّى بمعراج الصعُود أَن أهل السودَان أَسْلمُوا طَوْعًا بِلَا اسْتِيلَاء أحد عَلَيْهِم كَأَهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي مَا سمعنَا قطّ أَن أحدا استولى عَلَيْهِم قبل إسْلَامهمْ وَمِنْهُم من هم قدماء الْإِسْلَام كَأَهل مَالِي أَسْلمُوا فِي الْقرن الْخَامِس أَو قربه وكأهل برنو وسغاي اه وَقد علمت أَن أهل غانة تقدم إسْلَامهمْ على هَذَا التَّارِيخ وَالله تَعَالَى أعلم ولنرجع إِلَى مَا كُنَّا بصدده من أَخْبَار الْمَنْصُور فَنَقُول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 وُصُول هَدِيَّة صَاحب برنو إِلَى الْمَنْصُور بِحَضْرَة فاس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من بيعَته لَهُ والتزام طَاعَته كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله مسعودا محظوظا كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ سَابِقًا وَكَانَ من سعادته مَا هيأ الله لَهُ من مهاداة صَاحب مملكة برنو ومخاطبته لَهُ حَتَّى كَانَ ذَلِك سَببا فِي مبايعته لَهُ وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَكَانَ من خبر ذَلِك مَا حَكَاهُ فِي مناهل الصَّفَا قَالَ وَفِي سنة تسعين وَتِسْعمِائَة ورد على الْمَنْصُور الْخَبَر وَهُوَ بِمَدِينَة فاس بقدوم رَسُول صَاحب مملكة برنو من مُلُوك السودَان وجلب فِي هديته مَا جرت عَادَتهم أَن يجلبوه من فتيَان العبيد وَالْإِمَاء وَكسَاء السودَان وطرفه وَكَانَ من ذَلِك عدد كثير يناهز المئين فَوَافى الْمَنْصُور بعسكره على رَأس المَاء من ساحة فاس وَكَانَ يَوْم ملاقاته يَوْمًا مشهودا حسنا وأبهة وجلالة جلس نَصره الله تَعَالَى بالقبتين التوأمين المضروبتين أَمَام السياج الْمُحِيط بقبابه وَهُوَ آفراك واستوقف الموَالِي والمماليك سماطين من التوأمين إِلَى الْقبَّة الْعَرَبيَّة ثمَّ مِنْهَا إِلَى فسطاط الْجُلُوس الْمَعْلُوم بالديوان ثمَّ مِنْهُ إِلَى بَاب المعسكر القبلي وأتى بالرسول يخترق السماطين حَتَّى نزل بالديوان وَكَانَ الْمَلأ من أكَابِر الدولة وصدور المملكة جُلُوسًا وكرسي المملكة وسرير الْخلَافَة مَنْصُوبًا بِهِ والمهابة قد أخرست الألسن وأخشعت الْقُلُوب والأبصار فَجَلَسَ الرَّسُول هُنَالك مَلِيًّا ثمَّ توجه بِهِ على سَبِيل الترقي إِلَى الْقبَّة الْعَرَبيَّة فَجَلَسَ بهَا ثمَّ جَاءَ الْإِذْن الْكَرِيم بإيصاله إِلَى مقرّ أَمِير الْمُؤمنِينَ بالتوأمتين فَوقف بَين يَدَيْهِ وتشرف بِالنّظرِ إِلَى طلعته السعيدة فَأدى الرسَالَة وَقضى فرض التهنئة وَسنة الْهَدِيَّة وأعرب عَن مَقَاصِد مرسله واعترف للمملكة الْعَظِيمَة بِحَقِّهَا وَأظْهر من الخضوع والتملق والاستكانة والخدمة والطواعية مَا أوصاه بِهِ مرسله ثمَّ توجه بِهِ إِلَى معسكر ولي الْعَهْد وتاج الْإِسْلَام وكافل الْأمة بعد وَالِده الْمولى الْأَمِير أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون بِاللَّه وَكَانَ لصق معسكر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِرَأْس المَاء فَأَشْرَف الرَّسُول على دنيا أُخْرَى وأبهة مدهشة ومحلة هائلة فَوقف موقف الْحيرَة واستدرج إِلَى أَن وصل لقباب ولي الْعَهْد ومضاربه وَكَانَ قد قعد لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 بفسطاط جُلُوسه أفخم قعُود وَلما استؤذن عَلَيْهِ ووقف بَين يَدَيْهِ هَنأ وحيى وفدى وَانْصَرف عَنهُ إِلَى مَحل نُزُوله بالقصبة من فاس وأدر عَلَيْهِ من الإنعام وَالْإِكْرَام مَا لم يكن لَهُ فِي حِسَاب وَكَانَ من أغراض الرسَالَة الَّتِي أنفذه بهَا سُلْطَانه طلب المدد من أَمِير الْمُؤمنِينَ بالعساكر والأجناد وعدة البنادق ومدافع النَّار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودَان من الْكفَّار وَكَانَ هَذَا الرَّسُول قد وَفد قبل على سُلْطَان التّرْك بالإصطنبول السُّلْطَان مُرَاد العثماني يطْلب مِنْهُ المدد لجهاز كفار السودَان فأخفق سَعْيه وَلم يحصل على طائل فوجهه فِي هَذِه النّوبَة إِلَى ملك الْمغرب يطْلب مِنْهُ المدد وَلما قرئَ كِتَابه على أَمِير الْمُؤمنِينَ اتّفق أَن وَقع بَينه وَبَين كَلَام الرَّسُول اخْتِلَاف بَين وتباين وَاضح فَكَانَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب خلاف مَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام الرَّسُول جر إِلَيْهِم ذَلِك توغلهم فِي الْجَهْل والغباوة وَعدم من يحسن الْإِعْرَاب عَن مقاصدهم من فرسَان الْإِنْشَاء وَالْكِتَابَة لطموس معالم الْعُلُوم عِنْدهم على الْجُمْلَة وقارن ذَلِك مَا كَانَ من تَوْجِيه أَمِير الْمُؤمنِينَ عساكره لتدويخ قطري توات وتيكورارين وأمل أَن يجعلهما ركابا لبلاد السودَان والاستيلاء على ممالكها الَّتِي وَجه إِلَيْهَا عساكره بعد ذَلِك فبلغت مملكة مَالِي عَظِيم السودَان إِلَى أَن وَردت من نيلها على مَائه مرحلة من ثغور الْمغرب فاغتنم الْمَنْصُور لذَلِك اخْتِلَاف الرَّسُول والرسالة وَبنى عَلَيْهِ مَا اعْتد بِهِ على صَاحب برنو وَرجع الرَّسُول إِلَى مرسله بعد مكافأته وتوجيه هَدِيَّة من عتاق الْخَيل وأشرافها بكسي من ملابس الْخلَافَة وَأَسْبَاب أخر وَلما بلغ الرَّسُول وَألقى المعذرة إِلَى سُلْطَانه اسْتَأْنف الْهَدِيَّة وأعرب إِذْ ذَاك عَن مُرَاده ورد الرَّسُول ثَانِيَة إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فوافاه بِحَضْرَتِهِ وَدَار خِلَافَته من مراكش فأزال اللّبْس وَبَين الْغَرَض وَصرح بِالْمَقْصُودِ فَلَمَّا تحقق الْمَنْصُور بِقَصْدِهِ صدع لَهُ بِالْحَقِّ وَالدُّعَاء إِلَى الَّتِي هِيَ أقوم وطالبهم بالبيعة لَهُ وَالدُّخُول فِي دَعوته النَّبَوِيَّة الَّتِي أوجب الله عَلَيْهِم وعَلى جَمِيع الْعباد فِي أقطار الْبِلَاد الانقياد إِلَيْهَا وَقرر لَهُم بِلِسَان السّنة النَّاطِق وَالْكتاب الْمنزل على جده الصَّادِق أَن الْجِهَاد الَّذِي ينتحلونه ويظهرون الْميل إِلَيْهِ وَالرَّغْبَة فِيهِ لَا يتم لَهُم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 فَرْضه وَلَا يكْتب لَهُم علمه مَا لم يستندوا فِي أَمرهم إِلَى إِذن من إِمَام الْجَمَاعَة الَّذِي اخْتصَّ الله أَمِير الْمُؤمنِينَ بوصفه إِذْ هُوَ الكافل لهَذِهِ الْأمة ووارث تراث النُّبُوَّة وقيضه الله لحماية بَيْضَة الْإِسْلَام وَخَصه بالشرف الْقرشِي الَّذِي هُوَ شَرط فِي الْخلَافَة بِإِجْمَاع من عُلَمَاء الْإِسْلَام وأئمة السّنة الْأَعْلَام وألزمهم الْقيام فِي أقطارهم بدعوته ومجاهدة أعدائهم الْكفَّار بكلمته وعلق لَهُم أيده الله الْإِمْدَاد على الْبيعَة وَالْوَفَاء بِهَذَا الشَّرْط فَالْتَزمهُ بالرسول وَزعم أَيْضا عَن سُلْطَانه بِالْقبُولِ والإجابة وَطلب من السُّلْطَان نُسْخَة يتَوَجَّه بهَا من صُورَة الْبيعَة إِذْ لَيْسَ ببلدهم من يحسن الْإِنْشَاء ويوفي الْغَرَض لِئَلَّا يَخْلُو بِشَيْء من الشُّرُوط الَّتِي شارطتهم عَلَيْهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأنشأها كَاتب الدولة أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي وَنَصهَا الْحَمد الله الَّذِي أَعلَى لكلمة الْحق منارا يسامي فِي مطالعها النُّجُوم وأزاح بهَا عَن شمس الْهِدَايَة المنيرة غياهب الغباوة المدلهمة وسحائب الغواية المركوم وَحي على الْفَلاح بهَا دَاعِي التَّوْفِيق الَّذِي نشر للنجاح كِتَابه الموقوت واستنجز للسعادة أجلهَا الْمَعْلُوم وَشرف هَذَا الْمَوْجُود والعالم الْمَوْجُود بالخلافة النَّبَوِيَّة والإمامة الحسنية العلوية الَّتِي صرفت الْوُجُوه إِلَى قبلتها الْمَشْرُوعَة واستبان الْحق بتبلج الصَّباح فِي مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة وَنسخ بدولتها الغراء دوَل الحيف الَّتِي هِيَ بِسيف النُّبُوَّة المصلت مقطوعه وبلسان السّنة مدفوعه وقوض بهَا مباني الادعاء الَّتِي هِيَ على غير أساس الشَّرْع الصَّحِيح مدفوعه وَفرق بكلمتها الْمَجْمُوعَة على التَّوْحِيد فرق التَّثْلِيث الَّتِي هِيَ على مشاقة الله وَرَسُوله تَابِعَة ومتبوعة وخلع بظهورها على أعطاف الحنيفية السمحة رِدَاء الْعِزّ الفضفاض واستل بتأييدها للدّين المحمدي سيف الأنفة والامتعاض وَأَشَارَ للأعادي من بأسها المروع بِلِسَان الْحَيَّة النضناض وفجر للْمُؤْمِنين ينبوع رحمتها الْجَارِي على حصا عدلها الرضراض ومهد بسيوفها المنتضاة الْآفَاق والأقطار تمهيدا أَزَال عَن حكمه الِاعْتِرَاض وجلا بأنوارها المتألقة سدف الْجَهَالَة الَّتِي ادلهم جوها وغيم وأسعد الْوُجُود بيمنها الَّذِي لبث فِي أكناف مجدها وخيم وَقضى لهاب بتراحم الأَرْض وَمن عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله إِلَى عِيسَى ابْن مَرْيَم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 الَّذِي تعاضدت الْبَرَاهِين القاطعة على صدق رسَالَته البارعة ونهج الدّين القويم طَريقَة الْحق المثلى ومادته الشارعة وسوغ لمن آمن بِهِ مناهل الْهدى النميرة الزلَال وموارده العذبة ومشارعه نَبِي الرَّحْمَة وشفيع الْأمة وعَلى آله وَأَصْحَابه الْكِرَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام وَالدُّعَاء لمولانا الإِمَام الْعلوِي الْهمام أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ نجل سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين وسليل الْوَصِيّ والسبطين وَبعد فَإِنَّهُ لما أذن الله فِي ليل الْجَهَالَة أَن ينجاب وَفِي شمس الْحق الوهاجة أَن يرْتَفع عَنْهَا الْحجاب وَفِي الْعِزّ الْخلق الجلباب أَن يعود إِلَى الشَّبَاب وَفِي النجاح والاستقامة أَن يفتح لَهما الْبَاب وَفِي الْإِمَارَة أَن تستند إِلَى السّنة وَالْكتاب وتتعلق من الشَّرْع بِأَسْبَاب تدارك الله سُبْحَانَهُ الْوُجُود وأعز الْعَالم الْمَوْجُود واستطارت الْأَنْوَار المضيئة للأغوار والنجود بِطُلُوع شمس الْخلَافَة النَّبَوِيَّة والإمامة الهاشمية العلوية فَفَاضَتْ على أَدِيم البسيطة أنوارها وارتفع إِلَى حَيْثُ السها والفرقدين منارها وتبلج بالأصباح نَهَارهَا ولاحت فِي سَمَاء الْمجد بدورها وأقمارها وكادت تنهب نُجُوم السَّمَاء أتباعها وأنصارها وانتشرت فِي الْآفَاق والأقطار على الْبعد والقرب آثارها وهزت عطف الزَّمَان انتشاء مناقبها وأخبارها وفاض ببركتها على أكناف الْمَعْمُور يمها الزاخر وتيارها خلَافَة ينتمي إِلَى النُّبُوَّة عنصرها وتستنبط من رِسَالَة الْوَحْي أسطرها ويناط بعروتها الوثقى خنصرها وإمامة عَليّ وَليهَا وَالله نصيرها والسبط بدرها الَّذِي حَيَّاهُ منبرها وسريرها وَالْحَمْد لله الَّذِي اصْطفى من هَذِه الدوحة النَّبَوِيَّة الشماء والشجرة الطّيبَة الهاشمية الَّتِي أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء إِمَامًا ألْقى الله لَهُ فِي الْقُلُوب حبا جميلا وَمولى جعله الله على مرضاته سُبْحَانَهُ عَلامَة ودليلا وَخَلِيفَة استرعاه فَكَانَ بِحسن الرَّعْي لخلقه وعباده كَفِيلا وانتضى من بأسه وبسالته لحماية حمى الشَّرِيعَة حساما صقيلا مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَخَلِيفَة الله فِي الْأَرْضين وسليل خَاتم النَّبِيين ووارث الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ المفترضة طَاعَته على الْخلق أَجْمَعِينَ والممنون بإمامته المقدسة على الْعَالمين بَحر الندى والباس وعصمة الله للنَّاس أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه مَوْلَانَا أَبَا الْعَبَّاس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 الطيبين الطاهرين وَطيب بِأَنْفَاسِ الْمَغْفِرَة لحودهم أَجْمَعِينَ إِمَام تهتز لذكره أعطاف المنابر وتتقلد من شرِيف دَعوته أبهى من نَفِيس الْجَوَاهِر وتستضيء الْبِلَاد بإكليل شرفه الزَّاهِر وتسكن الْعباد تَحت ظلّ رَحمته الوارف الوافر أبقى الله أَيَّامه الغر بَقَاء يصحب النَّصْر دَوَامه وخلد لَهُ ولأعقابه هَذَا الْأَمر الْكَرِيم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلما طلعت أيده الله على هَذِه الأصقاع الزنجية طلائع إِمَامَته النَّبَوِيَّة وخلافته ولاحت فِي سمائها شهب مناقبه المنيفة الدَّالَّة على فخامة شرفه وأنافته وتليت لمجده الْآيَات الْبَينَات الَّتِي تشهد لَهُ بتراث الرسَالَة وتقضي لَهُ على الْإِسْلَام وعَلى الْأَنَام بِحكم الْوَلَاء وَالْكَفَالَة وأوضح الله سُبْحَانَهُ للنَّاس من اعْتِقَاد وجوب طَاعَته والاقتداء بإمامته والانقياد لدعوته وتقليد بيعَته مَا جَاءَ بِهِ كِتَابه الْحَكِيم ووردت بِهِ سنة نبيه الْكَرِيم كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تزَال الْخلَافَة فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان) وكما ورد فِي صَحِيح الْخَبَر (إِن الْخلَافَة فِي قُرَيْش وَالْقَضَاء فِي الْأَنْصَار وَفِي الْحَبَشَة الْأَذَان) وَيدل على هَذَا تعاضد الْخَبَر والعيان فَلَا ناكر أَن لَيْسَ فِي الْمَعْمُور على هَذَا الشَّرْط غَيره أيده الله من ثَان فَنَهَضَ بِدَلِيل الشَّرْع أَنه إِمَام الْجَمَاعَة حَقًا المستوفي شُرُوطهَا وَالْوَارِث للخلافة النَّبَوِيَّة والحريص على بَيْضَة الْإِسْلَام أَن يحوطها وَأَن الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر على الْإِطْلَاق غَيره دعِي ومحاوله دون إِذْنه الْمَشْرُوع بدعي فَتعين لذَلِك أَن الرُّجُوع إِلَى الْحق فَرِيضَة واستبان بِمَا تقرر وَعلم أَن إِمَارَة لَا تلاقي فِي الشُّرُوع محلهَا الْمَشْرُوع منبوذة مرفوضة وعروتها لذَلِك مفصومة ومنقوضة فَانْتدبَ لهَذِهِ الْآثَار صَحِيح الْأَخْبَار وَصرف إِلَى رضى الله الْعِنَايَة ووقف من الشَّرَائِع الْمَشْرُوعَة حَيْثُ مَرْكَز الرَّايَة ومنتهى الغية الرئيس أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس أكْرمه الله انتداب من وقفت بِهِ مَطِيَّة التَّوْفِيق على حَضْرَة الْإِخْلَاص والتصديق وَأخذت بزمامه السَّعَادَة إِلَى حَيْثُ الْفَوْز بِرِضا الله ورضا رَسُوله حقيق والتأييد صَاحب ورفيق وَروض الآمال أنيق وَرَاح الرَّاحَة والاطمئنان عَتيق إِلَى تقلد إِمَام بيعَة الْجَمَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بِاللَّه زَاده الله تقديسا وتشريفا الَّتِي تؤسس إِن شَاءَ الله على تقوى من الله ورضوان وَتشهد عقدهَا الْكَرِيم مَلَائِكَة الرَّحْمَن وآثر أسعده الله أَن يُؤَدِّي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 فَرضهَا الْمَعْدُود من فروض الْأَعْيَان وَحكمهَا الَّذِي توجه بِهِ خطاب الشَّرْع الْعَام إِلَى القاصي والدان وينشر سنتها الْمَشْرُوعَة فِي صقعه وَمَا يَلِيهِ من الأصقاع وَالْبِقَاع بالسودان تقلدا يستضيء إِن شَاءَ الله بأنواره ويستشرف بِهِ للعز المكين على مناره ويخمد بِهِ للْجَهْل جذوة ناره وتنتظم بِهِ فِي اتِّبَاع الْحق زمر أنصاره ويجتلي بِهِ صُورَة إنسانه ويستوجب من الله عوارف صنعه وإحسانه ويرهف بِهِ لِلْعَدو على العزمات حد سَيْفه وسنانه ويقرع بِهِ لرضا الله بَاب الْقبُول ويتضاعف لَهُ ببركته الْعَمَل المقبول ويستنشق بمشهد عقده الْكَرِيم نواسم النُّبُوَّة وَيعود لَهُ بِهِ الزَّمَان للشباب والفتوة وَيرْفَع بِهِ منار الْإِمَارَة على قَوَاعِد الشَّرْع الْوَثِيقَة ويعدل بِهِ فِي كل الْأَحْوَال عَن الْمجَاز إِلَى الْحَقِيقَة وتتسنى لَهُ بِهِ وَهِي الْمَقْصد الْأَسْنَى والخاتمة الْحسنى الأسوة الْحَسَنَة بإمامي بني الْعَبَّاس السفاح والمنصور وَيحيى سنتهما الَّتِي نقلهَا ثِقَات الْأَعْلَام والصدور فِي مبايعتهما الإِمَام الْخَلِيفَة الْمهْدي الْأَكْبَر سليل سيد الْمُرْسلين وجد مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي رأى إِمَام دَار الْهِجْرَة أَنه بتراث الْخلَافَة النَّبَوِيَّة أولى وأحق وَفِي منصب الْإِمَامَة على شَرطهَا أعرق وبسريرها ومنبرها أليق فتأكد للمنتدب أكْرمه الله بِهَذِهِ الْآثَار الشَّرِيفَة والمناقب المنيفة الْعَزْم وَالْقَصْد وأنجز لَهُ فِيمَا أَرَادَهُ صَادِق الْوَعْد وساعد نِيَّته الصَّالِحَة فِيهِ السعد فَبَايعهُ أَعلَى الله يَده على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وَالْعدْل الَّذِي يشيد للمجد أَرْكَانه مبايعة شايعه على عقدهَا الْكَرِيم أكْرمه الله أَتْبَاعه وجموعه وأشياعه بِحكم الْوِفَاق والاتفاق والمواثيق الشَّدِيدَة الوثاق وبجميع الْأَيْمَان الصادقة الْأَيْمَان أعْطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وَرفع بهَا العقيرة مناديهم عارفين أَن يَد الله فِيهَا فَوق أَيْديهم وأمضوها على السّمع وَالطَّاعَة والانتظام فِي سلك الْجَمَاعَة إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر واليسر والعسر والرخاء والشدة والأزمان المشتدة والتزموا شُرُوطهَا طَوْعًا واستوعبوها جِنْسا ونوعا بنيات مِنْهُم خَالِصَة صَادِقَة وعدة من الله لَهُم بِالْخَيرِ سَابِقَة وسعادة بِالْحُسْنَى لاحقة أبرموا عقدهَا وأحكموا وعدها وعهدها على حكم الْكتاب وَالسّنة وَالْجَمَاعَة وَالْأَخْذ بسنتها أعقابا من أعقاب وأحقابا أثر أحقاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 واقتراب السَّاعَة لَا يلْحق عقدهَا الْكَرِيم فسخ وَلَا يعقبه بحول الله نسخ وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ نقض وَلَا نكث وَلَا يشوبه بشوائب الشُّبُهَات بحث وَأجْمع على هَذَا أسعده الله بالمواثيق المستفيضة والأيمان اللَّازِمَة الْمُغَلَّظَة هُوَ وَأَتْبَاعه إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا وحتموه على أنفسهم حتما مقضيا واعتقده اعتقادا أبديا وعرضوا على الْتِزَامه بمشهد عقده الْمُبَارك أفرادا وأزواجا وحدانا وأفواجا وَأشْهدُوا على الْوَفَاء بِهِ بأيمانهم الصادقة البرور ومواثيقهم المثلجة للصدور قائلين بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس الْعَلِيم بالخفيات والخبير بالآجال والوفيات وبجميع الرُّسُل الْكِرَام والأنبياء وملائكة الرَّحْمَن فِي الأَرْض وَالسَّمَاء وعَلى أَنهم إِن حادوا عَن هَذَا السَّبِيل وانقادوا لدعاء دَاعِي التَّغْيِير والتبديل أَو انحرفوا عَن هَذَا الْمِنْهَاج وسنته فهم برَاء من حول الله وقوته وَمن دينه وعصمته ومستوجبون لعذابه وغضبه وَسخطه ونقمته وبعداء من رَحمته وَمن شَفَاعَة نبيه الْكَرِيم يَوْم الْقِيَامَة لأمته وَأَنَّهُمْ خالعون لربقة الْإِسْلَام وخارجون عَن سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْلنُوا بِهَذَا إعلانا تعضده النَّجْوَى وأدوه بِشُرُوطِهِ الْجَارِيَة على مَذَاهِب الْفَتْوَى وَأَحْكَامه اللَّازِمَة لكلمة التَّقْوَى استرضاء لله وللخلافة النَّبَوِيَّة والإمامة العلوية ورياضة للنفوس على بيعتها الْمُبَارَكَة الميمونة النقيبة وَاسْتِيفَاء لشروطها وأقسامها الْوَاجِبَة والمستحبة والمندوبة مستسلمين إِلَى الله بالقلوب الخاشعة ومتضرعين إِلَى بَابه الْكَرِيم بالأدعية النافعة فِي أَن يعرفهُمْ خير هَذَا العقد الْكَرِيم والعهد الصميم بَدَأَ وختاما وَأَن يمنحهم بركته الَّتِي تصحبهم حَالا ودواما لَا رب غَيره وَلَا خير إِلَّا خَيره أشهد على نَفسه بِمَا فِيهِ وعَلى رَعيته الرئيس أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس أسعده الله وأكرمه وبتاريخ الْمحرم الْحَرَام من عَام تسعين وَتِسْعمِائَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة انْتهى وَلما كتبت هَذِه الْبيعَة دفعت للرسول وَأكْرم وكافأه أَمِير الْمُؤمنِينَ على هَدِيَّة سُلْطَانه وَتوجه إِلَى بِلَاده بِجَوَاب مرسله وَلم يلبث أَن رجعه سُلْطَانه ثَالِثَة وَوجه مَعَه هَدِيَّة ورسالة وخاض القفر إِلَى دَار الْخلَافَة فوصل إِلَى بِلَاد تيكورارين وَهُنَاكَ اعترضته منيته فاعتل وَهلك فأشخص أولو الْأَمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 الَّذين بتيكورارين الْهَدِيَّة مَعَ رفقائه القادمين مَعَه من عِنْد سُلْطَانه فوصلوا بهَا إِلَى حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ بمراكش وَقدمُوا إِلَيْهِ رسالتهم وهديتهم فتقبلها بِقبُول حسن وَتمّ السرُور وَعظم الحبور واستقامت للمنصور الْأُمُور بعث الْمَنْصُور وَرَسُوله بالدعوة إِلَى آل سكية وَكَيْفِيَّة ذَلِك لما أدّى الْوَفْد الواردون على الْمَنْصُور من السُّلْطَان أبي الْعَلَاء صَاحب مملكة برنو مَا قدمُوا لأَجله ردهم الْمَنْصُور إِلَى صَاحبهمْ مكرمين وانتخب رَسُولا عَارِفًا مجربا مِمَّن لَهُم بَصِيرَة بأحوال السودَان فَبَعثه مَعَهم عينا يَأْتِيهِ بأخبار الْبِلَاد حَتَّى كَأَنَّهُ يشاهدها وَبعث مَعَه رِسَالَة إِلَى السُّلْطَان إِسْحَاق بن دَاوُد من آل سكية صَاحب مملكة كاغو من أَرض السودَان يَأْمُرهُ فِيهَا أَن يرتب على مَعْدن الْملح الَّذِي بتغازي بَين الْمغرب والسودان وَمِنْه يحمل الْملح إِلَى أقطار السودَان وظيفا بِأَن يَجْعَل كل من يحمل مِنْهُ شَيْئا من الواردين عَلَيْهِ مِثْقَالا من الذَّهَب الْعين لكل حمل تستعين بذلك الْخراج عَسَاكِر الْمُسلمين على جِهَاد الْكفَّار لِأَن ذَلِك بَحر لَا سَاحل لَهُ وَكَانَ الْمَنْصُور لم يكاتبه فِي ذَلِك حَتَّى أستفتى عُلَمَاء إيالته وأشياخ الْفتيا بهَا فأفتوه بِمَا هُوَ الْمَنْصُوص للْعُلَمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم من أَن النّظر فِي الْمَعَادِن مُطلقًا إِنَّمَا هُوَ للْإِمَام لَا لغيره وَأَنه لَيْسَ لأحد أَن يتَصَرَّف فِي ذَلِك إِلَّا عَن إِذن السُّلْطَان أَو نَائِبه وَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بِتِلْكَ الْفَتَاوَى مَعَ الرسَالَة الموجه بهَا مَعَ الرَّسُول وَكَانَت من إنْشَاء الْعَلامَة الأديب مفتي الحضرة المراكشية الْمولى أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف السجلماسي لِأَن كَاتب الْإِنْشَاء أَبَا فَارس عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الفشتالي كَانَ مَرِيضا يَوْمئِذٍ وَلما فرغ الشريف الْمَذْكُور من إنشائها بَقِي عَلَيْهِ الصَّدْر فَلم يدر كَيفَ يَقُول فِي مُخَاطبَة إِسْحَاق سكية وَلَا كَيفَ يمدحه وَهل يتوغل فِي الْمَدْح أَو يتوسط فَكتب أَبُو مَالك حِين تحير فِي ذَلِك إِلَى الْمَنْصُور بِمَا نَصه أيدكم الله وَنصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أعلامكم إِن مُخَاطبَة هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ فِي مرتبَة مماليك الحضرة المولوية أَمر تلعثم فِيهِ لساني ووقف عَن خوض لجته بناني لِأَن النأي عَن هَذِه المحجة قد مد بيني وَبَينهَا حِجَابا وأغلق فِي وَجْهي بَابا فَلَا آمن من أَن أقتحم الْوُقُوع فِي تَفْرِيط أَو إفراط وَخير الْأُمُور لَو عَلمته الأوساط لَكِن لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته إِلَّا بعد علم الطَّرفَيْنِ وَالْعَبْد مَحْجُوب عَن ذَلِك دون مين فَتركت أيدكم الله الصَّدْر لمن هُوَ بِهِ مني أقعد وتحاميت عقده لمن هُوَ لَهُ أعقد أبي فَارس عبد الْعَزِيز الَّذِي فاضت عَلَيْهِ أنواركم وأضاءت لَهُ سبل هَذَا الْمخبر أقماركم وَإِلَّا قرعت هواتف لِسَان الْحَال سَمْعِي بقول الْقَائِل (يَا باري الْقوس بريا لَيْسَ يُحسنهُ ... لَا تظلم الْقوس أعْط الْقوس باريها) وَلما بلغت رِسَالَة الْمَنْصُور إِلَى السُّلْطَان إِسْحَاق سكية واطلع عَلَيْهَا شقّ عَلَيْهِ ذَلِك وماطل فِي الْجَواب وَحَيْثُ أَبْطَأَ الرَّسُول فطن الْمَنْصُور لما انطوى عَلَيْهِ سكية من عدم إجَابَته لما طلب من الوظيف على الملاحة فَاشْتَدَّ غَضَبه وعزم على تَوْجِيه العساكر إِلَى السودَان فَهَذَا هُوَ الْحَامِل لَهُ على قصد تِلْكَ الْبِلَاد وتدويخها وَلما فتح تيكورارين وتوات قوي عزمه على ذَلِك وطمحت نَفسه للاستيلاء على مَا هُنَالك على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله مفاوضات الْمَنْصُور الْمَلأ من أَصْحَابه فِي غَزْو آل سكية وَمَا دَار بَينهم فِي ذَلِك قَالَ الفشتالي رَحمَه الله لما رجعت أرسال الْمَنْصُور إِلَيْهِ من عِنْد إِسْحَاق سكية وأعلموه بمقالته وامتناعه واحتجاجه بِأَنَّهُ أَمِير نَاحيَة والمنصور أَمِير نَاحيَة وَأَنه لَا تجب طَاعَته عَلَيْهِ شاور الْمَنْصُور أَصْحَابه وَجمع أَعْيَان دولته والتقى أهل الرَّأْي والمشورة فَاجْتمعُوا وَكَانَ يَوْم اجْتِمَاعهم يَوْمًا مشهودا فَقَالَ لَهُم الْمَنْصُور إِنِّي عزمت على منازلة أَمِير السودَان صَاحب كاغو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وَبعث الجيوش إِلَيْهِم لتجتمع كلمة الْمُسلمين وتتحد الرّعية وَلِأَن بِلَاد السودَان وافرة الْخراج كَثِيرَة المَال يتقوى بهَا جَيش الْإِسْلَام ويشتد ساعد كتيبته مَعَ أَن صَاحب أَمرهم وَالْمُتوَلِّيّ لسلطنتهم الْيَوْم مَعْزُول عَن الْإِمَارَة شرعا إِذْ لَيْسَ بقرشي وَلَا اجْتمعت شُرُوط السلطنة فِيهِ الْعُظْمَى فَلم نثل الْمَنْصُور مَا فِي كِنَانَته وَأبْدى مَا فِي خبيئته وَعرض مَا فِي عيبته سكت الْحَاضِرُونَ وَلم يراجعوا بِشَيْء فَقَالَ لَهُم أسكتم استصوابا لرأيي أَو ظهر لكم خلاف مَا ظهر لي فَأجَاب كلهم بِلِسَان وَاحِد ورأي مُتَّفق إِن ذَلِك رَأْي عَن الصَّوَاب منحرف وَأَنه بمهامه عَن الآراء السديدة وَلَا يخْطر ببال السوقة فَكيف بالملوك وَذَلِكَ لِأَن بَيْننَا وَبَين السودَان مهامه فيحا تقصر فِيهَا الخطا وتحار فِيهَا لقطا وَلَيْسَ فِيهَا مَاء وَلَا كلأ فَلَا يَتَأَتَّى السّفر فِيهَا وَلَا اعتساف شَيْء من طريقها مَعَ كَونهَا مخوفة مَمْلُوءَة الجوانب ذعرا وَأَيْضًا فَإِن دولة المرابطين على ضخامتها ودولة الْمُوَحِّدين على عظمها ودولة المرينيين على قوتها لم تطمح همة وَاحِد مِنْهُم لشَيْء من ذَلِك وَلَا تعرضوا لما هُنَالك وَمَا ذَاك إِلَّا لما رَأَوْا من صعوبة مسالكها وَتعذر مداركها وحسبنا أَن نقتفي أثر تِلْكَ الدول فَإِن الْمُتَأَخر لَا يكون أَعقل من الأول فَلَمَّا قضى أُولَئِكَ الأقوام كَلَامهم وأبدوا لَهُ رَأْيهمْ وملامهم قَالَ لَهُم الْمَنْصُور إِن كَانَ هَذَا غَايَة مَا استضعفتم بِهِ أَمْرِي وفيلتم بِهِ رَأْيِي فَلَيْسَ فِيهِ حجَّة وَلَا مَا يخدش فِيمَا عِنْدِي أما قَوْلكُم بَيْننَا وَبَينهَا صحار مخوفة ومفاوز مهلكة لجدوبتها وعطشها فَنحْن نرى التُّجَّار على ضعفهم وَقلة استعدادهم يشقون تِلْكَ الطّرق فِي كل وَقت ويخوضون فِي أحشائها مشَاة وركبانا وَجَمَاعَة ووحدانا وَلم تَنْقَطِع قطّ ركاب التُّجَّار عَنْهَا وَأَنا أقوى أهبة مِنْهُم وللجيش همة لَيست للقوافل وَأما قَوْلكُم إِن من كَانَ قبلنَا من الدول الطنانة لم تطمح أَبْصَارهم لذَلِك فاعلموا أَن المرابطين صرفُوا عنايتهم لغزو الأندلس ومقابلة الإفرنج وَمن بذلك السَّاحِل من الأروام والموحدون اقتفوا سبيلهم فِي ذَلِك وَزَادُوا بِحَرب ابْن غانية والمرينيون كَانَت غَالب وقائعهم مَعَ بني عبد الواد بتلمسان وَنحن الْيَوْم قد انسد عَنَّا بَاب الأندلس باستيلاء الْعَدو الْكَافِر عَلَيْهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 جملَة وانقطعت عَنَّا حروب تلمسان باستيلاء التّرْك عَلَيْهَا ثمَّ إِن أهل تِلْكَ الدول لَو أَرَادوا مَا أردنَا لصعب عَلَيْهِم لِأَن جيوشهم كَانَت فُرْسَانًا رامحة ورماة ناشبة وَلم يكن عِنْدهم هَذَا البارود وعساكر النَّار المرهبة الصَّوَاعِق وَأهل السودَان لَيْسَ عِنْدهم الْآن إِلَّا الرماح وَالسُّيُوف وَهِي لَا تقاوم هَذِه المدافع المستحدثة فمقاتلتهم سهلة وحربهم أيسر من كل شَيْء وَأَيْضًا فَإِن بِلَاد السودَان أَنْفَع من إفريقية فالاشتغال بهَا أولى من منازلة التّرْك لِأَنَّهُ تَعب كثير فِي نفع قَلِيل فَهَذَا جَوَاب مَا عرض لكم وَلَا يحملنكم ترك الْمُلُوك الأول ذَلِك على استبعاد الْقَرِيب واستصعاب السهل فَإِنَّهُ كم ترك الأول للْآخر وَقد يفتح على الْمُتَأَخر بِمَا لم يفتح بِهِ على الْمُتَقَدّم فَلَمَّا فرغ الْمَنْصُور من خطابه وَأبْدى مَا فِي وطابه اسْتحْسنَ الْحَاضِرُونَ جَوَابه واستملحوا إِشَارَته واستجادوا رَأْيه وَقَالُوا لَهُ قد طبقت الْمفضل وألهمت الصَّوَاب وَلم تبْق لأحد مَا يَقُول وَصدق من قَالَ عقول الْمُلُوك مُلُوك الْعُقُول فانفصل الْجمع على الْبَعْث إِلَى السودَان ومناهضة أَهله ومتابعة الْمَنْصُور فِي رَأْيه عَلَيْهِ قلت وَفِي كَلَام الْمَنْصُور أَمْرَانِ يحتاجان إِلَى مزِيد بَيَان الأول مَا قَالَه من أَن الملثمين لم تكن لَهُم سلطنة على السودَان يَعْنِي بهم الَّذين أَقَامُوا بِأَرْض الْمغرب ودبروا أمره مثل يُوسُف بن تاشفين وبنيه فَلَا يرد عَلَيْهِ أَن الْأَمِير أَبَا بكر بن عمر غزا السودَان وَفتح مِنْهُ مسيرَة ثَلَاثَة أشهر لِأَن ذَلِك كَانَ بعد رُجُوعه إِلَى الصَّحرَاء واستقراره بهَا وإعراضه عَن ملك الْمغرب بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مر الثَّانِي مَا قَالَه من أَن البارود لم يكن فِي تِلْكَ الدول الفارطة يَعْنِي بِهِ لم يكن مَوْجُودا فِيهَا بِكَثْرَة بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ الْجَيْش عَن غَيره سَاعَة الْقِتَال فَلَا يرد عَلَيْهِ أَن ظُهُوره كَانَ فِي أَوَائِل الْمِائَة السَّابِعَة لأوّل دولة بني مرين كَمَا مر إِذْ ظُهُوره فِي تِلْكَ الْمدَّة كلا ظُهُور وَالله تَعَالَى أعلم بحقائق الْأُمُور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 استجازة الْمَنْصُور لعلماء مصر رَضِي الله عَنْهُم وتلمذه لَهُم قَالُوا وَمن اعتناء الْمَنْصُور رَحمَه الله أَنه بعث إِلَى عُلَمَاء مصر يستجيزهم رَغْبَة فِي اتِّصَال حَبل السَّنَد واقتفاء لاحب ذَلِك الطَّرِيق الْأسد وَمِمَّنْ أجَازه الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ رَضِي الله عَنهُ وَمن بعض فُصُول إِجَازَته لَهُ قَوْله يمدح كتاب الْمَنْصُور إِلَيْهِ ويثني عَلَيْهِ بالفصاحة والبلاغة مَا نَصه وَلَقَد وصل إِلَى الْمثل العديم الْمِثَال المزري نظامه بعقود اللآل فَإِذا بِهِ السحر إِلَّا أَنه الْحَلَال وَلَو ادّعى أحد أَن من معجزات أَحْمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمد الله كراما كاتبين فِي زمَان نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بِكِتَاب كريم على أسلوب قويم يُرْسِلهُ إِلَى محب قديم من النبعة والصميم لم تكذب دَعْوَاهُ فَمَا من خارق فِي الْأمة إِلَّا وَهُوَ من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَال على علاهُ وَأما مَا شرفني بِهِ من طلب الْإِجَازَة فالبيت والْحَدِيث لَهُ وَلَكِن رب أَب أرسل إِلَى ابْنه على يَد عَبده عَطاء فَقبله وَإِلَيْهِ بأَمْره حمله وَحَيْثُ وَقع الْأَمر فَأمر مَوْلَانَا حتم وطاعته غنم فمولانا مجَاز من هَذَا الْعَهْد من جَمِيع مَا يجوز لهَذَا العَبْد بِجَمِيعِ مَا يجوز لَهُ وَعند رِوَايَته بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبر عِنْد أهل الْأَمر وَكَذَلِكَ مجَاز أهل الْعَصْر إجَازَة عَام بعام ليَكُون أَبنَاء الْوَقْت جَمِيعًا على مائدة فضل مَوْلَانَا وَتَحْت ظلال ذَلِك الإنعام فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَب فِي تَحْصِيل ذَلِك المرام وَكتب تحريرا فِي رَابِع عشْرين ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مُحَمَّد بن أبي الْحسن الصديقي سبط آل الْحسن اه وَمِمَّنْ استجازه الْمَنْصُور أَيْضا من عُلَمَاء مصر الإِمَام الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى الْمصْرِيّ الشهير ببدر الدّين الْقَرَافِيّ صَاحب ذيل الديباج فَأَجَازَهُ إجَازَة عَامَّة بسط فِيهَا القَوْل ثمَّ خَتمهَا بقوله (أجزت لمن تفضل واستجازا ... وبادر لاقتنا خير وحازا) (وأبرز فِي سلوك الْعلم حَالا ... بِهِ من فضل مَوْلَانَا يجازى) (إِمَام كَامِل غوث البرايا ... أَمِير الْمُؤمنِينَ حوى مجَازًا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 (وَذَلِكَ بعد تشريفي بِأَمْر ... وَقصد للإجازة فاستجازا) (فبادرت امتثالا قدر وسعي ... ومقتفيا مناهج من أجازا) (وَقد أبديت حَقًا لَا محالا ... بِمَا صَار الإِمَام بِهِ مجَازًا) (بِفَاتِحَة وَسنة خير هدى ... وسلسلة لمن حَاز امتيازا) (بدار الْهِجْرَة الْعليا إِمَام ... بِمَا أبداه من فضل مجَازًا) (وَأَرْجُو مِنْهُ يهدي لي دُعَاء ... لما أرجوه من خير مجَازًا) (بخاتمة تبلغني مراما ... بجنات أَرَاهَا لي مفازا) (وأشياخي يبلغهم رِضَاء ... ويواصلهم إِلَى خير يجازا) تَجْدِيد الْمَنْصُور ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ الْمَأْمُون وَمَا وَقع فِي ذَلِك قَالُوا وَفِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة جدد الْمَنْصُور الْبيعَة لوَلَده مُحَمَّد الشَّيْخ الملقب بالمأمون وَأَخذهَا لَهُ على إخْوَته خُصُوصا لأَنهم كَانُوا فِي الْبيعَة الأولى قبل الْبلُوغ فَأَرَادَ أَن يستوثق لَهُ مِنْهُم بعد الْبلُوغ حسما لمادة النزاع بَينهم فارتحل الْمَنْصُور من مراكش إِلَى تامسنا وَبعث الباشا عزوز بن سعيد الوزكيتي ليَأْتِيه بولِي عَهده الْمَذْكُور من فاس فتوافى القصدان بتامسنا وباشر الْمَنْصُور أَخذ الْبيعَة لَهُ بِنَفسِهِ وَحضر الْأَعْيَان وَأهل الْحل وَالْعقد وأحضر الْمُصحف الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ من ذخائر الْخُلَفَاء وأحضر الصحيحان لِلشَّيْخَيْنِ وَقُرِئَ ظهير الْبيعَة فَتَوَلّى قِرَاءَته الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي وبجنبه القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الشاطبي يُفَسر مَا أشكل من لفظ الظهير وَلما أَخذ الْبيعَة أخر أَوْلَاده إِلَى غَد يَوْمهَا فَكَتَبُوا خطوطهم عَقبهَا بالموافقة على ذَلِك والالتزام لَهُ وَوَقع فِي رِسَالَة السُّلْطَان زَيْدَانَ لأبي زَكَرِيَّاء ابْن عبد الْمُنعم الإِمَام بِذكر هَذِه الْبيعَة فَقَالَ إِنِّي حضرت بيعَة مُحَمَّد الشَّيْخ صَاحب الْمغرب سامحه الله وَحضر أَوْلَاد السُّلْطَان فاستحلفهم لَهُ إِلَّا أَنا فَإِنَّهُ رَضِي الله عَنهُ قَالَ فلَان لَا يحلف لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيمَا نأمره بِهِ ونفعله وَعظم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 ذَلِك على إخوتي وَظَهَرت فِي وُجُوههم لأَجله الْكَرَاهِيَة اه وَلما فرغ الْمَنْصُور من تَجْدِيد الْبيعَة رأى أَن يرشح كلا من أَوْلَاده للإمارة وَيقسم بَينهم الْبِلَاد حَتَّى لَا تبقى فِي نُفُوسهم إحن وَلَا تنطوي قُلُوبهم على ضغائن فعقد لأبي فَارس شَقِيق الْمَأْمُون على السوس وَسَائِر عمائره وَعقد لأبي الْحسن على مكناسة وَمَا والاها وَعقد لزيدان على تادلا ثمَّ عكس ذَلِك لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال فَنقل زَيْدَانَ إِلَى مكناسة وَنقل أَبَا الْحسن إِلَى تادلا وَلم يزَالُوا على ذَلِك إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ فِي مَحَله إِن شَاءَ الله ثورة الْحَاج قرقوش بِبِلَاد غمارة ومقتله قَالُوا وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ثار رجل يُقَال لَهُ الْحَاج قرقوش بجبال غمارة وبلاد الهبط وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره حائكا فتلبس بالزهد وَالصَّلَاح واعتقدته الْعَامَّة ثمَّ اسْتَحَالَ أمره إِلَى مَا ذكرنَا فَأخذ وَقتل وَحمل رَأسه إِلَى مراكش وانقطعت مَادَّة فَسَاده فَلم تبكه أَرض وَلَا سَمَاء بِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِبَاب دكالة من حَضْرَة مراكش حرسها الله كَانَت الْحرَّة مسعودة أم الْمَنْصُور وَهِي بنت الشَّيْخ الْأَجَل أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله الوزكيتي الورززاتي من الصَّالِحَات حريصة على اقتناء المفاخر راغبة فِي فعل الْخَيْر قَالَ فِي الْمُنْتَقى وَهِي الَّتِي أنشأت الْمَسْجِد الْجَامِع بحومة بَاب دكالة دَاخل مَدِينَة مراكش ووقفت عَلَيْهِ أوقافا عَظِيمَة وَكَانَ ذَلِك سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة قَالَ وَهِي الَّتِي بنت جسر وَادي أم الرّبيع وَغير ذَلِك اه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 قلت المرقوم على رخامة قبرها أَنَّهَا بنت جسرين بِلَفْظ التَّثْنِيَة وتزعم الْعَامَّة أَنَّهَا بنت الْمَسْجِد الْمَذْكُور كَفَّارَة لما انتهكته من حُرْمَة رَمَضَان وَذَلِكَ أَنَّهَا دخلت بستانا من بساتين قُصُورهَا وَهِي فِي حَال الوحم فرأت بِهِ خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت مِنْهُمَا فِي نَهَار رَمَضَان ثمَّ نَدِمت على مَا صدر مِنْهَا وَفعلت أفعالا كَثِيرَة من بَاب الْبر رَجَاء أَن يتَجَاوَز الله عَنْهَا وَمِنْهَا الْجَامِع الْمَذْكُور وَلَا زَالَ النِّسَاء وَالصبيان يسجعون بقضيتها إِلَى الْآن فَيَقُولُونَ عودة أكلت رَمَضَان بالخوخ وَالرُّمَّان فِي أسجاع غير هَذِه وَلَفظ عودة مخفف من مسعودة على طَريقَة البربر فِي مثل هَذَا وَالله تَعَالَى أعلم بعث الْمَنْصُور ببيلة الرخام إِلَى جَامع الْقرَوِيين من فاس حرسها الله قَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور إِن الْمَنْصُور رَحمَه الله بعث الخصة الْعَظِيمَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة إِلَى جَامع الْقرَوِيين من فاس مَعَ كرْسِي من المرمر تُوضَع عَلَيْهِ وزنهما مَعًا مائَة قِنْطَار قَالَ وَهِي الخصة الَّتِي تَحت منار الْجَامِع الْمَذْكُور وَقَالَ ابْن القَاضِي الْمَذْكُور فِيهَا نقش برقبتها (إِمَام دَار الْهدى الْمَنْصُور شيدني ... بَحر المكارم من أَبنَاء عدنان) (حزت المفاخر بالمنصور أجمعها ... وَمن علاهُ سَنَام الْمجد أرساني) (من جَاءَ يشكو الظما يَوْمًا وقبلني ... أغناه مَا قد همى من صوب أجفاني) (لَا تنكرن وجود الدمع من فَرح ... فالعين تَدْمَع من أفراط سلوان) (واشرب هَنِيئًا من السلسال لَا حرج ... معِين دمع جرى من فيض خلجاني) (فَخر السلاطين من أَبنَاء فَاطِمَة ... أشاع صيتي إِلَى أَطْرَاف عمان) (وَقد جرت مقلتي تحكي سحائبها ... كف الْخَلِيفَة من أَبنَاء زَيْدَانَ) (لَا زَالَ للدّين وَالدُّنْيَا يسوسهما ... مَا هيجت عَاشِقًا ورق بأفنان) (إنشائي فِي زمن التَّارِيخ وَافقه ... للدّين وَالْأَجْر بَحر الْجُود سواني) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا سَافر الْمَنْصُور إِلَى فاس وبينما هُوَ فِي الطَّرِيق وافته الْبُشْرَى بِالْفَتْكِ بنصارى سبتة وَأَن زعيم الفئة الجهادية وَهُوَ الْمُقدم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس التطواني كمن لَهُم مَعَ جمَاعَة من الفرسان فِي مَوضِع فَخرج النَّصَارَى بأولادهم وحشمهم فحال النقسيس بَينهم وَبَين سبتة وأوقع بهم وَكَاد يفتحها وسر الْمَنْصُور بِهَذَا الْخَبَر وأنشده فِي ذَلِك الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي بَيْتَيْنِ زجر لَهُ مِنْهُمَا الفال باستيلائه عَلَيْهَا وهما (هَذِه سبتة تزف عروسا ... نَحْو ناديك فِي شباب قشيب) (وَهِي بشرى وَأَنت كفؤ اللواتي ... كافأت بَعْلهَا بِفَتْح قريب) وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فِي الْيَوْم الثَّانِي من ذِي الْقعدَة مِنْهَا أخلى النَّصَارَى مَدِينَة آصيلا حملهمْ الْخَوْف من كَتِيبَة الْمُسلمين المرابطة هُنَالك على الْفِرَار بِأَنْفسِهِم فتركوها يبابا وذهبوا وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْعَبَّاس ابْن القَاضِي (يَا أَيهَا الْمَنْصُور أبشر بالعلا ... فَالله أبلغ فِي العدا المأمولا) (أنضاكم سَيْفا لحتف عداته ... وبكم غَدا سيف الردى مفلولا) (وهزمتم الشّرك المتين بعزمكم ... من غير سيف لم يرى مسلولا) (وأذيتم كيد الْخَبيث بهمة ... وفتحتم دَار العدا آصيلا) (أكْرم بِهِ من مَالك بل صَالح ... أضحى لبارود العداة خَلِيلًا) (لَا زَالَ فِي أنف الْهدى شمما وَفِي ... عين الْعَلَاء يشاكل التكحيلا) وَأَشَارَ بقوله لبارود العداة خَلِيلًا إِلَى مَا صنعه النَّصَارَى دمرهم الله حِين أَرَادوا الْخُرُوج من آصيلا فَإِنَّهُم حفروا تَحت قصبتها وملؤوا الحفرة بالبارود وأوقدوا فتيلا تبلغه ناره عِنْد دُخُول الْمُسلمين فيهلكون ففر نَصْرَانِيّ مِنْهُم وَأخْبر الْمُسلمين بذلك فنجاهم الله تَعَالَى من مكيدة الوبال وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَقَالَ فِي ذَلِك أَيْضا الْكَاتِب البارع أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي شعرًا ذكره صَاحب نشر المثاني فَانْظُرْهُ وَكَانَ فِي زمن الْمَنْصُور رجال من بيوتات الْمغرب معروفون بالشجاعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 والنجدة فِي قتال الْعَدو وَمِنْهُم أَوْلَاد النقسيس التطوانيون وَمِنْهُم أَوْلَاد أبي الليف من أهل بِلَاد الهبط قَالَ فِي الْمرْآة لما كَانَ الْمُقدم الْمُجَاهِد الشَّهِيد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن أَبُو الليف من الشهامة والصرامة على مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمن شدَّة نكايته فِي الْعَدو الْكَافِر الطنجي وَبعد أَثَره فيهم جرت أُمُور بَينه وَبَين صَاحب عمل الْقصر فسعى بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فَأمر برحيله إِلَى فاس هُوَ وعشيرته مغربين عَن وطنهم كَأَنَّهُمْ فِي سجن فأقاموا بفاس مُدَّة لَا أَدْرِي هَل هِيَ سنة أم أَكثر إِلَّا أَنِّي كنت أرَاهُ عِنْد الشَّيْخ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأَنا إِذْ ذَاك صَغِير وَيَعْنِي بالشيخ وَالِده أَبَا المحاسن رَحمَه الله قَالَ فضاقت عَلَيْهِم أنفسهم من الاغتراب فَقَالَ يَوْمًا الْمُقدم عمر لِأَخِيهِ كبيره الْمُقدم مُحَمَّد لَو زرنا الشَّيْخ الْيَوْم وتبركنا بِهِ لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا فَإِن النَّاس كثيرا مَا يقصدونه فِي الْمُهِمَّات فَقَالَ لَهُ لَا أتحرك فقد غلب الْيَأْس فَسَار الْمُقدم عمر وَحده فَلَمَّا وصل إِلَى الشَّيْخ قَالَ لَهُ قنطتم قَالَ نعم يَا سَيِّدي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ غَدا يخلي سبيلكم إِن شَاءَ الله فَرجع إِلَى أَخِيه وَأخْبرهُ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث إِلَيْهِم القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد الْحميدِي فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ لَهُم أَبْشِرُوا بالسراح وَالرُّجُوع إِلَى الوطن إِن شَاءَ الله فَإِنَّهُ قد قرئَ الْآن بَين يَدي السُّلْطَان بعض الْغَزَوَات الَّتِي ذكرهَا ابْن النّحاس وغناء أبطال الْمُسلمين فِيهَا فَقَالَ السُّلْطَان أَو غَيره ترى هَل بَقِي فِي هَذَا الزَّمَان من يماثلهم فَقَالُوا قد بَقِي من يفعل فعلهم وَهَا هم أَوْلَاد أبي الليف المغربون هُنَا يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك فَقَالَ السُّلْطَان سرحوهم إِلَى بِلَادهمْ ليحموا ثغورهم ويجاهدوا فِي سَبِيل الله فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ وفعلوا الأفاعيل فِي عَدو الدّين إِلَى أَن اسْتشْهد الْمُقدم مُحَمَّد فِي ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَألف اه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 غَزْو السودَان وَفتح مَدِينَة كاغو ومقتل سلطانها إِسْحَاق سكية رَحمَه الله قد تقدم لنا مَا كَانَ من مُفَاوَضَة الْمَنْصُور لحاشيته فِي غَزْو السودَان واستقرار رَأْيهمْ على ذَلِك فَبَقيَ الْمَنْصُور يقدم رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فقوي عزمه واشتغل بتجهيز آلَة الْحَرْب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجَيْش من آلَة السّفر ومهماته وَأمر القواد أَن يقومُوا حصص الْقَبَائِل وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من إبل وخيل وبغال وَإِن من أَتَى بجمل ضَعِيف يُعَاقب واشتغل هُوَ بتقويم آلَة الْحَرْب من المدافع والعجلات الَّتِي تحملهَا والبارود والرصاص والكور وتقويم الْخشب واللوح وَالْحَدِيد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف والقلوع والبراميل والروايا لحمل المَاء وَألف النجارون ذَلِك فِي الْبر إِلَى أَن تألف ثمَّ خلعوه وشدوه أحمالا وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن استوفى الْمَنْصُور أَمر الْغَزْو فِي ثَلَاث سِنِين ثمَّ أَمر بِإِخْرَاج الْمضَارب والمباني لوادي تانسيفت فَخرجت الْأَحْمَال والأثقال من مراكش فِي الْيَوْم السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَنزلت العساكر وَضربت أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرُون ألفا وَمَعَهُمْ من المعلمين البحرية والطبجية أَلفَانِ فالمجموع اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا وَعقد الْمَنْصُور على ذَلِك الْجَيْش لمَوْلَاهُ الباشا جؤذر وَشد أزره بِجَمَاعَة من أَعْيَان الدولة فَاخْتَارَ مِنْهُم من يعلم نجدته وَيعرف كِفَايَته وتخير من الْإِبِل كل بازل وكوماء وَمن الْخَيل كل عَتيق وجرداء ثمَّ نهضوا فِي زِيّ عَظِيم وهيئة لم ير مثلهَا وَذَلِكَ فِي محرم فاتح سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَكتب الْمَنْصُور إِلَى قَاضِي تنبكتو الْفَقِيه الْعَلامَة أبي حَفْص عمر ابْن الشَّيْخ مَحْمُود ابْن عمراء قيت الصنهاجي يَأْمُرهُ بحض النَّاس على الطَّاعَة وَلُزُوم الْجَمَاعَة وَلما نهضوا من تانسيفت جعلُوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثمَّ على درعة ودخلوا القفر والفيافي فقطعوها فِي مائَة مرحلة وَلم يضع لَهُم عقال بعير وَلَا نقص مِنْهُم أحد فنزلوا على مَدِينَة تنبكتو ثغر السودَان فأراحوا بهَا أَيَّامًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 ثمَّ صَارُوا قَاصِدين دَار إِسْحَاق سكية وَلما سمع بقدومهم احتشد أُمَم السودَان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لَهُم وَخرج من مَدِينَة كاغو يجر الشوك والمدر يُقَال إِنَّه جمع مائَة ألف مقَاتل وَأَرْبَعَة آلَاف مقَاتل وَقَالَ الفشتالي وَلم يقنع بالجيوش الَّتِي جمع حَتَّى أضَاف إِلَيْهَا أَشْيَاخ السَّحَرَة وَأهل النفث فِي العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا مِنْهُ أَن ذَلِك يُغْنِيه شَيْئا وهيهات وَيرْحَم الله أَبَا تَمام إِذْ قَالَ فِيمَا يقرب من هَذَا الْحَال (السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب ... فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب) (بيض الصفائح لَا سود الصحائف فِي ... متونهن جلاء الشَّك والريب) (وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة ... بَين الخميسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب) (أَيْن الرِّوَايَة بل أَيْن النُّجُوم وَمَا ... صاغوه من زخرف فِيهَا وَمن كذب) (تخرصا وأحاديثا ملفقة ... لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب) وَلما تقَارب الْجَمْعَانِ عبأ الباشا جؤذر عساكره وَتقدم للحرب فدارت بهم عَسَاكِر السودَان من كل جِهَة وعقلوا أَرجُلهم مَعَ الْإِبِل وصبروا مَعَ الضُّحَى إِلَى الْعَصْر وَكَانَت سِلَاحهمْ إِنَّمَا هِيَ الحرشان الصغار والرماح وَالسُّيُوف وَلم تكن عِنْدهم هَذِه المدافع فَلم تغن حرشانهم ورماحهم مَعَ البارود شَيْئا وَلما كَانَ آخر النَّهَار هبت ريح النَّصْر وَانْهَزَمَ السودَان فَوَلوا الأدبار وَحقّ عَلَيْهِم الْبَوَار وحكمت فِي رقابهم سيوف جؤذر وجنده حَتَّى كَانَ السودَان ينادون نَحن مُسلمُونَ نَحن إخْوَانكُمْ فِي الدّين وَالسُّيُوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلُون ويسلبون فِي كل وَجه وفر إِسْحَاق فِي شرذمة من قومه وَلم يدْخل قلعة ملكه وَتقدم جؤذر فَدَخلَهَا واحتوى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالْمَتَاع وَكَانَ ذَلِك منتصف جُمَادَى الأولى من سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَيُقَال إِن جؤذرا لم يدْخل مَدِينَة كاغو وَإِنَّمَا تحصن بهَا إِسْحَاق فحاصره جؤذر فِيهَا وَكتب إِلَى الْمَنْصُور بِخَبَر الْفَتْح وَبعث إِلَيْهِ بهدية فِيهَا عشرَة آلَاف مِثْقَال ذَهَبا ومائتان من خِيَار الرَّقِيق وَغير ذَلِك وامتدت العساكر المنصورة فِي بِلَاد آل سكية تعيث وتفسد وَتَسْبِي وتغنم إِلَى أَن راسل إِسْحَاق الباشا جؤذرا فِي تَقْرِير الصُّلْح على مَال معِين يَدْفَعهُ الْآن وضريبة يُؤَدِّيهَا كل سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك على مشورة الْمَنْصُور وإمضائه إِيَّاه ثمَّ كتب إِلَى الْمَنْصُور بذلك وَكَانَت العساكر قد أصابتها الْحمى ووخامة تِلْكَ الأَرْض فاتفق رَأْي الْأُمَرَاء على الرُّجُوع وَالْإِقَامَة بتنبكتو إِلَى أَن يَأْتِي جَوَاب الْمَنْصُور فَرَجَعُوا وَأخذ جؤذر فِي إنْشَاء الغلائط والسفن وتركيبها وَلما أكملها دَفعهَا فِي النّيل وَلما بلغ الْمَنْصُور خبر الصُّلْح قَامَ وَقعد وَقوم عسكرا خَفِيفا وَبعث بِهِ مَعَ مَمْلُوكه الآخر مَحْمُود باشا وَهُوَ أَخُو جؤذر وقلده أَمر العساكر كلهَا وعزل جؤذرا عَنْهَا وَأمر مَحْمُودًا أَن يبقيه مَعَه وَكتب إِلَى أُمَرَاء الْعَسْكَر يعاتبهم يوبخهم على مَا فَعَلُوهُ مَعَ إِسْحَاق من الصُّلْح ويؤكد عَلَيْهِم فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَاده واتباعه حَيْثُمَا توجه وَلَو عبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَخرج مَحْمُود باشا فِيمَن عين لَهُ من الْعَسْكَر فِي زمَان الْحر فِي وَقت لَا يقدر على الْحَرَكَة فِيهِ إِلَّا القطا الكدري وَقطع القفر فِي خمسين مرحلة أَمر لم يسمع بِمثلِهِ وَنزل بالعساكر على ظَاهر تنبكتو على رَأس سنة الْألف فأراح بهَا ثَلَاثًا ثمَّ شحن الغلائط والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الْجند فَسَارُوا فِي النّيل وَسَار السوَاد الْأَعْظَم فِي الْبر إِلَى أَن نزلُوا على مَدِينَة كاغو قَاعِدَة ملك إِسْحَاق سكية وَكَانَ إِسْحَاق لما رجعت عَنهُ العساكر إِلَى تنبكتو احتشد أُمَم السودَان المجاورين لَهُ وتذامروا وأصفقوا مَعَه على الْمَوْت فَلَمَّا بلغه رُجُوع العساكر إِلَى كاغو قصدهم فِي جموعه وَلما التقى الْجَمْعَانِ لم يكن إِلَّا مِقْدَار فوَاق نَاقَة حَتَّى انهزم السودَان من سَماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع القنابل فِي الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلُون وَيَأْسِرُونَ إِلَى أَن غشيهم ظلم اللَّيْل وَرَجَعُوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثَلَاثًا ثمَّ أَمر مَحْمُود أَخَاهُ جؤذرا أَن يُقيم بِمَدِينَة كاغو عَامِرًا لَهَا وَيتْرك مَعَه عددا من الْعَسْكَر يكون ردْءًا لَهُم وَسَار هُوَ فِي اتِّبَاع إِسْحَاق إِلَى أَن لحقه بِبَعْض الْجِهَات فأوقع بِهِ وقْعَة شنعاء وفر فِي فل من قومه فَعبر النّيل إِلَى العدوة الْأُخْرَى وَتَبعهُ مَحْمُود فَعبر النّيل بعساكره فِي السفن وَسَار خَلفه إِلَى أَن لحقه فأوقع بِهِ وقْعَة ثَالِثَة احتوى فِيهَا على مَا مَعَه من المَال والحريم وَدخل إِسْحَاق القفر فَهَلَك فِيهِ ثمَّ كَانَت لمحمود وقْعَة أُخْرَى مَعَ أَخِيه الَّذِي كَانَ ينازعه فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 الْملك فَإِنَّهُ قَامَ بعد مهلك أَخِيه وَجمع الجموع وزحف إِلَى مَحْمُود باشا فَنَهَضَ إِلَيْهِ مَحْمُود فَهَزَمَهُ وَقَتله فِيمَن مَعَه من جنده وَأَتْبَاعه وتمهدت لَهُ الْبِلَاد وَاسْتولى عَلَيْهَا اسْتِيلَاء كليا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح إِلَى الْمَنْصُور وَلما بلغه هَذَا الْفَتْح وَصورته كَانَ عِنْده ذَلِك الْيَوْم عيدا من الأعياد أخرج فِيهِ الصَّدقَات وَأعْتق الرّقاب وَأقَام مهرجانا عَظِيما بِظَاهِر الحضرة خرج لَهُ عَامَّة النَّاس للفرجة والنزهة وزينت الْأَسْوَاق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الْخُيُول وَأطْعم الْمَنْصُور النَّاس عدَّة أَيَّام ونظم الشُّعَرَاء قصائدهم وَرفعُوا أمداحهم وَأَجَازَهُمْ بِمَا تحدث النَّاس بِهِ دهرا وَكتب بِخَبَر الْفَتْح وَصورته نسخ وجهت إِلَى جَمِيع الْآفَاق وَكَانَ مِمَّا قيل فِي ذَلِك من الشّعْر مَا أنْشدهُ الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي فَقَالَ (جَيش الصَّباح على الدجا متدفق ... فبياض ذَا السوَاد ذَلِك يمحق) (وَكَأَنَّهُ رايات عسكرك الَّتِي ... طلعت على السودَان بيضًا تخفق) (لاحت وأفقهم لَيَال كُله ... كعمود صبح فِي الدجا يتألق) (نشرت لتطوي مِنْهُ لَيْلًا دامسا ... أضحى بسيفك ذِي الفقار يمزق) (أرسلتهن جوائحا وجوارحا ... فِي كل مخلبها غراب ينعق) (وسرت فَكَانَ دليلهن إِلَيْهِم ... مشحوذ عزمك والسنان الْأَزْرَق) (لهي اللَّيَالِي قد جلى أحلاكها ... نور النُّبُوَّة من جبينك يشرق) (صعِقَتْ بِهن رعود نارك صعقة ... رجت لصيحتها الْعرَاق وجلق) (سحقا لإسحاق الشقي وَحزبه ... فَلَقَد غَدا بِالسَّيْفِ وَهُوَ مطوق) (رام النجَاة وَكَيف ذَاك وَخَلفه ... من جَيش جؤذرك الغضنفر فيلق) (جَيش أواخره ببابك سيله ... عرم وأوله بكاغو محدق) (لم يشعروا إِلَّا وأسوار الردى ... ضربت عَلَيْهِم من قناك وَخَنْدَق) (كتب الْإِلَه على عداتك أَنهم ... قنص لسهمك غربوا أَو شرقوا) (ضلت مُلُوك ساجلوك على الْعلَا ... سفها وشأوك فِي الْعلَا لَا يلْحق) (أَن يشبهوك وَلَا شَبيه يرى لكم ... فِي الْخلق أَيْن من اللجين الزئبق) (بشر مُلُوك الأَرْض أَنَّك فاتح ... بالمشرفي على الولا مَا غلقوا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 (وبقاصل لَك ذِي الفقار مفرق ... مَا جَمَعُوهُ وجامع مَا فرقوا) (دَامَت طيور السعد وَهِي غوارد ... بالمشتهى لَك والمسرة تنطق) (مَا دَامَ أصل علاك فِي صحف الثنا ... أصل الفخار وكل غَيْرك مُلْحق) والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هَذَا الشَّاعِر وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا وَكَانَ مَحْمُود باشا لما استوسق لَهُ الْأَمر هُنَالك بعث بِنصْف جَيْشه إِلَى الْمَنْصُور مَعَ هَدِيَّة عَظِيم فِيهَا من الذَّخَائِر مَا لَا يُحْصى من ذَلِك ألف ومائتان من متخير الرَّقِيق الْجَوَارِي والغلمان وَأَرْبَعُونَ حملا من التبر وَأَرْبَعَة سروج ذَهَبا خَالِصا وأحمال كَثِيرَة من اليانبور وقطوط الغالية وَغير ذَلِك وَلما وافت الْمَنْصُور سر بذلك سُرُورًا عَظِيما وَأمر بِعَمَل المفرحات فِي بِلَاد الْمغرب وبتزيين الْأَسْوَاق غدْوَة وَعَشِيَّة ثَلَاثَة أَيَّام ووفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة مهنئين لَهُ بِمَا منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية فِي سلك طَاعَته مَا بَين الْبَحْر الْمُحِيط من أقْصَى الْمغرب إِلَى بِلَاد برنو المتاخمة لبلاد النّوبَة المتاخمة لصعيد مصر قَالَ الفشتالي فكلمة الْمَنْصُور نافدة فِيمَا بَين بِلَاد النّوبَة إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط من نَاحيَة الْمغرب وَهَذَا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَلما فتح الله عَلَيْهِ ممالك الْبِلَاد السودانية حمل إِلَيْهِ من التبر مَا يعيى الحاسبين ويحير الناظرين حَتَّى كَانَ الْمَنْصُور لَا يُعْطي فِي الرَّوَاتِب إِلَّا النضار الصافي وَالدِّينَار الوافي وَكَانَ بِبَابِهِ كل يَوْم أَربع عشرَة مائَة مطرقة لضرب الدِّينَار الوافي دون مَا هُوَ معد لغير ذَلِك من صوغ الأقراط والحلى وَشبه ذَلِك وَلأَجل هَذَا لقب بالذهبي لفيضان الذَّهَب فِي أَيَّامه والأمور كلهَا بيد الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وَفَاة أم الْمَنْصُور الْحرَّة مسعودة الوزكيتية رَحمهَا الله كَانَت الْحرَّة مسعودة هَذِه من الْخيرَات الصَّالِحَات وَتقدم بعض مآثرها من بِنَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِبَاب دكالة وَغَيره وَكَانَت وفاتها سحر يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة ألف وَمن المستفيض أَنَّهَا ريئت بعد مَوتهَا فَسُئِلت مَا فعل الله بهَا فَقَالَت غفر لي بِسَبَب أَنِّي كنت ذَات يَوْم جالسة لقَضَاء الْحَاجة فَسمِعت الْمُؤَذّن شرع فِي الآذان فَرددت على ثِيَابِي إعظاما لذكر الله تَعَالَى حَتَّى فرغ الْمُؤَذّن من آذانه فَشكر الله لي ذَلِك فغفر لي وَفِي سنة إِحْدَى وَألف أُتِي بالفيلة من بِلَاد السودَان إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا لمراكش يَوْمًا مشهودا برز لرؤيتها كل من بِالْمَدِينَةِ من رجال وَنسَاء وشيوخ وصبيان ثمَّ حملت إِلَى فاس فِي رَمَضَان سنة سبع وَألف قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ دُخُول الْفِيل إِلَى فاس يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشر رَمَضَان سنة سبع وَألف وَبعث الْمَنْصُور مَعَ الْفِيل إِلَى وَلَده الْمَأْمُون بهدية سنية فِيهَا تحف وأموال عريضة وَخرج أهل فاس فِي ذَلِك الْيَوْم للقاء الْفِيل بِنَحْوِ مائَة ألف نفس قَالَ بَعضهم وبسبب دُخُول هَذِه الفيلة إِلَى الْمغرب ظَهرت هَذِه العشبة الخبيثة الْمُسَمَّاة بتابغ لِأَن أهل السودَان الَّذين قدمُوا بالفيلة يسوسونها قدمُوا بهَا مَعَهم يشربونها ويزعمون أَن فِيهَا مَنَافِع فشاعت مِنْهُم فِي بِلَاد درعة ومراكش وَغَيرهمَا من بقاع الْمغرب وتعارضت فِيهَا فَتَاوَى الْعلمَاء رضوَان الله عَلَيْهِم فَمن قَائِل بِالتَّحْرِيمِ وَمن قَائِل بالتحليل ومتوقف وَالْعلم فِيهَا عِنْد الله سُبْحَانَهُ قَالَ اليفرني قلت من تَأمل أدنى تَأمل فِي قَوَاعِد الشَّرِيعَة وآدابها علم يَقِينا أَن تنَاول هَذِه العشبة حرَام لِأَنَّهَا من الْخَبَائِث الَّتِي حرمهَا الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة المطهرة وَبِذَلِك وصفهَا فِي الْكتب السالفة إِذْ قَالَ تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وَبسط هَذَا الْمقَام إِن تعلم أَن الله تَعَالَى اخْتَار هَذِه الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم قَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَاخْتَارَ لَهَا من الطَّاعَات وأنواع الْعِبَادَات مَا هُوَ أفضلهَا قَالَ تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَأفضل تِلْكَ الْعِبَادَات كلهَا الصَّلَاة الَّتِي هِيَ من الدّين بِمَنْزِلَة الرَّأْس من سَائِر الْجَسَد ثمَّ إِذا أمعنت النّظر رَأَيْت الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَالغ فِي الِاحْتِيَاط لهَذِهِ الْعِبَادَة الشَّرِيفَة والاستعداد لَهَا بِاسْتِعْمَال كل طيب أمكن وَاجْتنَاب كل خَبِيث أمكن فشرع أَولا الطَّهَارَة الْكُبْرَى الشاملة لسَائِر الْبدن وحظر من مقاربة الصَّلَاة وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَال الْخُلُو عَنْهَا ثمَّ شرع ثَانِيًا الطَّهَارَة الصُّغْرَى الْمُتَعَلّقَة بأطراف الْبدن زِيَادَة فِي الاعتناء بهَا لِأَنَّهَا تبرز فِي غَالب الْأَحْوَال فيعلق بهَا من الأقذار مَا لَا يعلق بغَيْرهَا وألزم الْمُكَلف اسْتِعْمَال هَذِه الطَّهَارَة عِنْد عرُوض كل حدث مستقذر حَتَّى الرّيح وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى خُرُوجه ثمَّ نَدبه إِلَى اسْتِعْمَالهَا عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس ثمَّ إِنَّا إِذا تأملنا أَفعَال هَذِه الطَّهَارَة وجدناها تشْتَمل على مبالغات كَثِيرَة تستدعي غَايَة النَّظَافَة وتنفي كل قذر وَإِن قل فشرع الْغسْل فِي أَعْضَاء الْوضُوء مكررا وَشرع مسح شعر الرَّأْس بِالْمَاءِ دفعا لما يعلق بِهِ من الْغُبَار وَشرع تتبع مسام الْوَجْه بِالْغسْلِ والتنظيم كالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق ثَلَاثًا تطييبا للنكهة وَشرع مسح الْأُذُنَيْنِ من ظاهرهما وباطنهما حَتَّى الصماخين إِزَالَة لما بداخلهما من تِلْكَ الفضلة مَعَ أَن الْحَيّ ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه كلهَا طَاهِرَة أَو لَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل وَاضح على أَن الْحِكْمَة فِي هَذَا كُله إِنَّمَا هُوَ الْمُبَالغَة فِي النَّظَافَة وتطييب الرَّائِحَة والنكهة إِذْ بذلك يسْتَحق العَبْد أَن يتلبس بِالْعبَادَة وَيدخل حَضْرَة الرب وَشرط للدخول فِيهَا طَهَارَة الْبدن وَالثَّوْب وَالْمَكَان من سَائِر المستقذرات حَتَّى يكون على أكمل الْحَالَات بَعيدا عَن القذر بِكُل وَجه ثمَّ لم يكتف الشَّارِع بِهَذَا حَتَّى شرع السِّوَاك عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة وَقَالَ (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) كل ذَلِك الْمَقْصُود مِنْهُ طيب النكهة فَانْظُر وَتَأمل اعتناء الشَّارِع بتطييب رَائِحَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 فَم الْمُؤمن ونكهته حَتَّى فِي حق الصَّائِم الَّذِي (خلوف فَمه أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) هَذَا كُله فِي حَال الصَّلَاة وَأما خَارِجهَا فقد علم من الشَّرْع علما ضَرُورِيًّا أَن العَبْد مَطْلُوب بالمحافظة على هَذِه الْحَال والبقاء عَلَيْهَا سَائِر أوقاته مَتى قدر على ذَلِك وتيسر لَهُ وَمن هَذَا الْمَعْنى مَا حرم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة من تنَاول المستقذرات كالميتة وَالدَّم وَسَائِر النَّجَاسَات إِذْ عِلّة حُرْمَة الْأَشْيَاء وتناولها إِمَّا كَونهَا مستقذرة كالنجاسات إِجْمَاعًا وكالحشرات وَمَا تعافه النُّفُوس على مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَو مضرَّة كالسم والطين وَنَحْوهمَا مِمَّا يضر بِالْبدنِ أَو بِبَعْض الْأَعْضَاء مِنْهُ أَو مُحْتَرمَة إِمَّا لذاتها كالأدمي أَو لكَونهَا ملكا للْغَيْر وَهُوَ ظَاهر فالشارع لَهُ غَرَض أكيد فِي اجتلاب الطَّيِّبَات وَاجْتنَاب مَا يضادها من المستخبثات وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يعْملُونَ فِي حوائطهم فَإِذا حضرت الْجُمُعَة أَتَوا إِلَى الْمَسْجِد وأبدانهم سهكة فَأَمرهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالاغتسال عِنْد كل جُمُعَة ثمَّ منع كل من تلبس برائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث من حُضُورهَا وحبب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دُنْيَانَا النِّسَاء وَالطّيب وَندب أمته إِلَى اسْتِعْمَاله فِي الْمشَاهد الْعَامَّة مثل الْجمع والأعياد وَنَحْوهَا وخصال الْفطْرَة إِنَّمَا شرعت لهَذَا الْمَعْنى فَفِيهَا كِفَايَة لمن تأملها قَوَّال صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إزرة الْمُؤمن إِلَى أَنْصَاف سَاقيه) دفعا للسرف وَالْخُيَلَاء وَلِئَلَّا يعلق بِهِ شَيْء من النَّجَاسَات والأقذار إِلَى غير هَذَا مِمَّا لَو استقصي لطال وَدلّ دلَالَة قَطْعِيَّة على أَن الْمَطْلُوب من العَبْد أَن يكون نظيفا طيب الرَّائِحَة حسن البزة طَاهِر الْبدن وَالثَّوْب مجانبا لكل خَبِيث مستقذر وَهَذِه حَالَة أهل الْجنَّة وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ وَأَنت لَا تَجِد أَخبث وَلَا أقذر من رَائِحَة أَفْوَاه شربة الدُّخان وَلَا أنتن وَلَا أعفن من نكهات المستفين لغبار تابغ وَهَذَا النتن من أقبح الْعُيُوب فِي نظر الشَّرْع حَتَّى أَنه جعل الْخِيَار لأحد الزَّوْجَيْنِ إِذا كَانَ صَاحبه أبخر فَإِذا لَا نشك أَن اسْتِعْمَال هَذِه العشبة الخبيثة فِي الْفَم أَو الْأنف من أعظم الْمَحْظُورَات لِأَنَّهَا تصدم غَرضا كَبِيرا من أغراض الشَّارِع وتضاده وتنفيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وَأَقُول لَو كَانَ نتنها يعلق بعضو من الْأَعْضَاء غير الْوَجْه لَكَانَ هَين لكنه يعلق بالفم وَالْأنف اللَّذين وضعهما الْحَكِيم الْعلي فِي وسط الْوَجْه الَّذِي هُوَ أشرف الْأَعْضَاء فَأَي مضمضة وَأي استنشاق وَأي سواك يزِيل ذَلِك النتن الَّذِي يرسخ فِي أنفاس أَهلهَا وأفواههم وخياشيمهم رسوخا لَا يماثله شَيْء وَلَقَد أفْصح الْعَامَّة عَن شدَّة نَتن هَذِه العشبة وصادفوا الصَّوَاب حَيْثُ قَالُوا إِن فضلَة الدُّخان الْمُسَمَّاة بالقير تنجس النَّجَاسَة هَذَا إِلَى مَا يتبع ذَلِك من الْمَفَاسِد المتعددة من تَغْيِير عقل متعاطيها حَتَّى أَنه إِذا انْقَطَعت عَنهُ صَار كَالْمَجْنُونِ لَا يُبَالِي بِمَا يصدر مِنْهُ وَمن دُخُول الشَّك فِي صِيَامه لِأَن بقايا ذَلِك الدُّخان أَو ذَلِك الْغُبَار قد يمْكث فِي حلقه إِلَى طُلُوع الْفجْر وَمَا بعده لِأَن جلهم إِذا قرب الْفجْر والوا اسْتِعْمَاله حَتَّى يكون هُوَ خَاتِمَة سحورهم وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يسْتَعْمل ذَلِك إِلَّا من لَا خلاق لَهُ وَلَا يكترث بمروءه وَلَا دين وَهُوَ قَادِح فِي الشَّهَادَة والإمامة وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه نكبة الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بَابا السوداني وعشيرته من آل آقيت وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ بَنو آقيت التكروريون من أهل مَدِينَة تنبكتو وَمِمَّنْ لَهُم الوجاهة الْكَبِيرَة والرياسة الشهيرة بِبِلَاد السودَان دينا وَدُنْيا بِحَيْثُ تعدّدت فيهم الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة والقضاة وتوارثوا رياسة الْعلم مُدَّة طَوِيلَة تقرب من مِائَتي سنة وَكَانُوا من أهل الْيَسَار والسؤدد وَالدّين لَا يبالون بالسلطان فَمن دونه وَلما فتح جَيش الْمَنْصُور بِلَاد السودَان أبقاهم الباشا مَحْمُود على حَالهم إِلَى أَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَألف فَكَانَ أهل السودَان قد سئموا ملكة المغاربة وآنسوا مِنْهُم خلاف مَا كَانُوا يعهدونه من سلطانهم الأول وَكَانَت أذنهم مَعَ ذَلِك صاغية لآل آقيت فتخوف الْمَنْصُور مِنْهُم وَرُبمَا وشي إِلَيْهِ بهم فَكتب إِلَى عَامله مَحْمُود بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم وتغريبهم إِلَى مراكش فَقبض على جمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم كَانَ فِيهَا الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد ثَلَاثَة أحامد ابْن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 عمر بن مُحَمَّد آقيت الْمَدْعُو بَابا صَاحب تَكْمِيل الديباج وَغَيره من التآليف وَكَانَ فِيهَا أَيْضا الْفَقِيه القَاضِي أَبُو حَفْص عمر بن مَحْمُود بن عمر ابْن مُحَمَّد آقيت وَغَيرهمَا وحملوا مصفدين فِي الْحَدِيد إِلَى مراكش وَمَعَهُمْ حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم قَالَ فِي بذل المناصحة سَمِعت الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بَابا يَقُول أَنا أقل عشيرتي كتبا وَقد نهب لي سِتّ عشرَة مائَة مُجَلد وَكَانَ الْقَبْض عَلَيْهِم فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَألف ووصلوا إِلَى مراكش فِي أول رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة واستقروا مَعَ عِيَالهمْ فِي حكم الثقاف إِلَى أَن انصرم أمد المحنة فسرحوا يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة أَربع وَألف فَفَرِحت قُلُوب الْمُؤمنِينَ بذلك وَلما دخل الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس على الْمَنْصُور بعد تسريحه من السجْن وجده يكلم النَّاس من وَرَاء حجاب وَبَينه وَبينهمْ كلة مسدولة على طَريقَة خلفاء بني الْعَبَّاس وَمن يتشبه بهم فَقَالَ الشَّيْخ إِن الله تَعَالَى يَقُول {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} وَأَنت قد تشبهت بِرَبّ الأرباب فَإِن كَانَت لَك حَاجَة فِي الْكَلَام فَانْزِل إِلَيْنَا وارفع عَنَّا الْحجاب فَنزل الْمَنْصُور وَرفعت الأستار فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَي حَاجَة لَك فِي نهب متاعي وتضييع كتبي وتصفيدي من تنبكتو إِلَى هُنَا حَتَّى سَقَطت عَن ظهر الْجمل واندقت ساقي فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور أردنَا أَن تَجْتَمِع الْكَلِمَة وَأَنْتُم فِي بِلَادكُمْ من أعيانها فَإِن أذعنتم أذعن غَيْركُمْ فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس فَهَلا جمعت الْكَلِمَة بترك تلمسان فَإِنَّهُم أقرب إِلَيْك منا فَقَالَ الْمَنْصُور قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتْرُكُوا التّرْك مَا تركوكم فامتثلنا الحَدِيث فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ذَاك زمَان وَبعده قَالَ ابْن عَبَّاس لَا تتركوا التّرْك وَإِن تركوكم فَسكت الْمَنْصُور وانفض الْمجْلس وَلما سرح الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس تصدر لنشر الْعلم وأهرع النَّاس إِلَيْهِ للأخذ عَنهُ وَلم يزل بمراكش إِلَى أَن مَاتَ الْمَنْصُور لِأَنَّهُ مَا سرحهم حَتَّى شَرط عَلَيْهِم السُّكْنَى بمراكش وَلما توفّي أذن ابْنه زَيْدَانَ لآل آقيت فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ بعد أَن مَاتَ جمَاعَة مِنْهُم بمراكش وَقد كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس يتشوق إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 رُؤْيَة بلدته ويسكب العبرات عِنْد ذكرهَا وَلم ييأس من روح الله فِي الْعود إِلَيْهَا وَله فِي ذَلِك شعر على طَريقَة الْفُقَهَاء وَلما خرج من مراكش قَاصِدا بَلَده شيعه أَعْيَان طلبتها فَأخذ بَعضهم بِيَدِهِ عِنْد الْوَدَاع وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} على مَا جرت بِهِ الْعَادة من قرَاءَتهَا عِنْد وداع الْمُسَافِر فَيرجع سالما فَانْتزع الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس يَده بِسُرْعَة وَقَالَ لَا ردني الله إِلَى هَذَا الْمعَاد وَلَا رجعني إِلَى هَذِه الْبِلَاد ثمَّ لحق بتنبكتو فاستقر بهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَتِمَّة قد تبين لَك بِمَا قصصناه عَلَيْك من أَخْبَار السودَان مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْأَخْذ بدين الْإِسْلَام من لدن قديم وَأَنَّهُمْ من أحسن الْأُمَم إسلاما وأقومهم دينا وَأَكْثَرهم للْعلم وَأَهله تحصيلا ومحبة وَهَذَا الْأَمر شَائِع فِي جلّ ممالكهم الموالية للمغرب كَمَا علمت وَبِهَذَا يظْهر لَك شناعة مَا عَمت بِهِ الْبلوى بِبِلَاد الْمغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودَان مُطلقًا وجلب القطائع الْكَثِيرَة مِنْهُم فِي كل سنة وبيعهم فِي أسواق الْمغرب حَاضِرَة وبادية يسمسرون بهَا كَمَا تسمسر الدَّوَابّ بل أفحش قد تمالأ النَّاس على ذَلِك وتوالت عَلَيْهِ أجيالهم حَتَّى صَار كثير من الْعَامَّة يفهمون أَن مُوجب الاسترقاق شرعا هُوَ اسوداد اللَّوْن وَكَونه مجلوبا من تِلْكَ النَّاحِيَة وَهَذَا لعمر الله من أفحش المناكر وَأَعْظَمهَا فِي الدّين إِذْ أهل السودَان قوم مُسلمُونَ فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا وَلَو فَرضنَا أَن فيهم من هُوَ مُشْرك أَو متدين بدين آخر غير الْإِسْلَام فالغالب عَلَيْهِم الْيَوْم وَقبل الْيَوْم بِكَثِير إِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَام وَالْحكم للْغَالِب وَلَو فَرضنَا أَن لَا غَالب وَإِنَّمَا الْكفْر وَالْإِسْلَام هُنَالك متساويان فَمن لنا بِأَن المجلوب مِنْهُم هُوَ من صنف الْكفَّار لَا الْمُسلمين وَالْأَصْل فِي نوع الْإِنْسَان هُوَ الْحُرِّيَّة والخلو عَن مُوجب الاسترقاق ومدعي خلاف الْحُرِّيَّة مُدع لخلاف الأَصْل وَلَا ثِقَة بِخَبَر الجالبين لَهُم والبائعين لَهُم لما تقرر وَعلم فِي الباعة مُطلقًا من الْكَذِب عِنْد بيع سلعهم وإطرائها بِمَا لَيْسَ فِيهَا وَفِي باعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 الرَّقِيق خُصُوصا مِمَّا هُوَ أَكثر من ذَلِك كَيفَ وَنحن نرى أَن الَّذين يجلبونهم أَو يتجرون فيهم إِنَّمَا هم من لَا خلاق لَهُم وَلَا مُرُوءَة وَلَا دين وَالزَّمَان كَمَا علمت وَأَهله كَمَا ترى وَلَا يعْتَمد أَيْضا على قَول ذَلِك العَبْد نَفسه أَو الْأمة نَفسهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ الْفُقَهَاء لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض وَالْأَحْوَال فِي ذَلِك فَإِن البَائِع لَهُم قد يَضْرِبهُمْ حَتَّى لَا يقرونَ إِلَّا بِمَا لَا يقْدَح فِي صِحَة بيعهم وَقد يكون للْعَبد أَو الْأمة غَرَض فِي الْخُرُوج من ملك من هُوَ بِيَدِهِ بِأَيّ وَجه كَانَ فيهون عَلَيْهِ أَن يقر على نَفسه بالرقية كي ينفذ بَيْعه عَاجلا إِلَى غير ذَلِك من الْأَغْرَاض وَقد استفاض عَن أهل الْعدْل وَغَيرهم أَن أهل السودَان الْيَوْم وَقبل الْيَوْم يُغير بَعضهم على بعض ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض ويسرقونهم من الْأَمَاكِن النائية عَن مداشرهم وعمرانهم وَإِن فعلهم ذَلِك كَفعل أَعْرَاب الْمغرب فِي إغارة بَعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أَو سرقتها وَالْكل مُسلمُونَ وَإِنَّمَا الْحَامِل لَهُم على ذَلِك قلَّة الدّيانَة وَعدم الْوَازِع فَكيف يسوغ للمحتاط لدينِهِ أَن يقدم على شِرَاء مَا هُوَ من هَذَا الْقَبِيل وَكَيف يجوز لَهُ التَّسَرِّي بإناثهم وَفِي ذَلِك مَا فِيهِ من الْإِقْدَام على فرج مَشْكُوك وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب الْحَلَال وَالْحرَام من إحْيَاء عُلُوم الدّين مَا نَصه اعْلَم أَن كل من قدم إِلَيْك طَعَاما أَو هَدِيَّة أَو أردْت أَن تشتري مِنْهُ أَو تتهب فَلَيْسَ لَك أَن تفتش عَنهُ وتسأل وَتقول هَذَا مِمَّا لَا أتحقق حلّه فَلَا آخذه بل أفتش عَنهُ وَلَيْسَ لَك أَيْضا أَن تتْرك الْبَحْث فتأخذ كل مَا لَا تتيقن تَحْرِيمه بالسؤال وَاجِب مرّة وَحرَام مرّة ومندوب مرّة ومكروه مرّة فَلَا بُد من تَفْصِيله وَالْقَوْل الشافي فِيهِ هُوَ أَن مَظَنَّة السُّؤَال مواقع الرِّيبَة ثمَّ أَطَالَ رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْرِير ذَلِك وَصرح بِأَن البَائِع إِذا كَانَ مُتَّهمًا على ترويج سلْعَته لَا يعْتَمد على قَوْله فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَمْوَال فَكيف باسترقاق الرّقاب وَملك الأبضاع الَّذين للشارع بهما مزِيد اعتناء كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الشَّرْع وأصوله وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بَابا فِي تَقْيِيده الْمَوْضُوع فِي هَذِه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 الْمَسْأَلَة الْمُسَمّى بمعراج الصعُود تَفْصِيلًا ختم بِهِ كَلَامه وَذكر قبائل من كفار السودَان مثل موشى وَبَعض فلَان وَغَيرهم وَقَالَ إِن كل من كَانَ من هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل فَيجوز استرقاقه وَكَذَلِكَ ذكر ولي الدّين ابْن خلدون إِن وَرَاء النّيل قوما من السودَان يُقَال لَهُم لملم قَالَ وهم كفار ويكتوون فِي وُجُوههم وأصداغهم قَالَ وَأهل غانة والتكرور يغيرون عَلَيْهِم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إِلَى الْمغرب وهم عَامَّة رقيقهم وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ فِي الْجنُوب عمرَان يعْتَبر إِلَى آخر كَلَامه لَكِن هَذَا التَّفْصِيل الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس إِنَّمَا ينفع أهل تِلْكَ الْبِلَاد المجاورين لَهُم والمطلعين على المجلوب مِنْهُم وَمن غَيرهم فَأَما أهل الْمغرب الَّذين هم من وَرَاء وَرَاء وَبينهمْ وَبَين أَرض السودَان مهامه فيح وقفار لَا يعمرها إِلَّا الرّيح فَمن الَّذِي يُحَقّق لَهُم ذَلِك وَقد قُلْنَا إِنَّه لَا يجوز الِاعْتِمَاد على قَول الجالبين لَهُم وَأَيْضًا فَمن لنا بِأَن أُولَئِكَ الْقَبَائِل لَا زَالُوا على كفرهم إِلَى الْآن على أَن النَّاس الْيَوْم لَا يلتفتون إِلَى ذَلِك أصلا وَمهما رأى أحدهم العَبْد أَو الْأمة يسمسر فِي السُّوق إِلَّا وَيقدم على شِرَائِهِ غافلا عَن هَذَا كُله لَا يسْأَل إِلَّا عَن عُيُوب بدنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين أسود أَو أَبيض وَغَيرهمَا بل صَار الفسقة الْيَوْم وَأهل الجراءة على الله يختطفون أَوْلَاد الْأَحْرَار من قبائل الْمغرب وقراه وأمصاره ويبيعونهم فِي الْأَسْوَاق جهارا من غير نَكِير وَلَا امتعاض للدّين وَصَارَ النَّصَارَى وَالْيَهُود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وَذَلِكَ عُقُوبَة من الله لنا لَو اعْتبرنَا فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على مَا دهينا بِهِ فِي ديننَا فَالْحَاصِل أَنه لما كَانَ الأَصْل فِي النَّاس هُوَ الْحُرِّيَّة كَمَا قُلْنَا وَعلم تواترا أَن أهل بِلَاد السودَان الموالية لنا جلهم أَو كلهم مُسلمُونَ واستفاض عَن أهل الْعدْل وَغَيرهم أَنهم يُغير بَعضهم على بعض ويختطف بَعضهم أَبنَاء بعض ويبيعونهم ظلما وعدوانا ورأينا بِالْمُشَاهَدَةِ أَن الجالبين لَهُم والمتجرين فيهم إِنَّمَا هم من لَا خلاق لَهُم وَلَا دين لَهُم لم يبْق لنا توقف فِي أَن الْإِقْدَام على شِرَاء هَذَا الصِّنْف مَحْظُور فِي الشَّرْع والمقدم عَلَيْهِ مخاطر فِي دينه وَأما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وضع يَد الجالبين لَهُم عَلَيْهِم فَلَا تَكْفِي شرعا فِي جَوَاز الْإِقْدَام على شرائهم مِنْهُم لضعف هَذِه الْعَلامَة بِمَا أحتف بهَا من الْقَرَائِن المكذبة لَهَا وليستفت الْمَرْء قلبه فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استفت قَلْبك وَإِن أفتوك فَإِنَّهُ مَتى رَجَعَ إِلَى قلبه فِي هَذِه المعضلة إِلَّا وَلَا يقدر أَن يحوم حول هَذَا الْحمى بِحَال ثمَّ تنزل عَن هَذَا كُله ونقول لَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا الشُّبْهَة القوية وَفَسَاد الزَّمَان ورقة ديانَة أَهله لَكَانَ فِي هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة مَعَ مُلَاحظَة سد الذريعة الَّذِي هُوَ أحد أصُول الشَّرِيعَة لَا سِيمَا عِنْد الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ مَا يَقْتَضِي وجوب التخلي عَن مُلَابسَة هَذِه الْمفْسدَة المزرية بِالْعرضِ وَالدّين فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يوفق من ولاه أَمر الْعباد لحسم مَادَّة هَذِه الْفساد فَإِن سَبَب الاسترقاق الشَّرْعِيّ الَّذِي كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف الصَّالح مَفْقُود الْيَوْم وَهُوَ السَّبي النَّاشِئ عَن الْجِهَاد الْمَقْصُود بِهِ إعلاء كلمة الله تَعَالَى وسوق النَّاس إِلَى دينه الَّذِي اصطفاه لِعِبَادِهِ هَذَا هُوَ ديننَا الَّذِي شَرعه لنا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلافه خلاف الدّين وَغَيره غير الْمَشْرُوع والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} بِنَاء قصر البديع بِحَضْرَة مراكش مرسها الله قَالَ فِي مناهل الصَّفَا كَانَ السَّبَب الْحَامِل للمنصور على بِنَاء البديع وإنفاقه فِيهِ جلائل الْأَمْوَال ونفائس الذَّخَائِر هُوَ أَنه أَرَادَ أَن تكون لأهل الْبَيْت بِهِ مأثرة وشفوف على دولة البرابر من المرابطين والموحدين وَمن بعدهمْ فَإِن كلا من أهل تِلْكَ الدول أبقى بِنَاء يحيا بِهِ ذكره وَلم يكن لأهل الْبَيْت فِي ذَلِك الْمَعْنى شَيْء تزداد بِهِ حظوتهم مَعَ أَنهم أَحَق النَّاس بالمجد والسؤدد الأثيل فتصدى لبنائه بِقصد تشريف أهل الْبَيْت لِأَن الْبناء كَمَا قيل (همم الْمُلُوك إِذا أَرَادوا ذكرهَا ... من بعدهمْ فبألسن الْبُنيان) (إِن الْبناء إِذا تعاظم شَأْنه ... أضحى يدل على عَظِيم الشَّأْن) قلت هَذَا اعتذار بَارِد كَمَا لَا يخفى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وَلما أَرَادَ الْمَنْصُور أَن يشرع فِيهِ أحضر أهل الْعلم وَمن يتسم بالصلاح فتحينوا أَوَان الِابْتِدَاء وَوقت الشُّرُوع فِيهِ فَكَانَ ابْتِدَاء الشُّرُوع فِي تأسيسه فِي شَوَّال خَامِس الْأَشْهر من خِلَافَته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة واتصل الْعَمَل فِيهِ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَلم يَتَخَلَّل ذَلِك فَتْرَة وحشد لَهُ الصناع حَتَّى من بِلَاد الإفرنجية فَكَانَ يجْتَمع كل يَوْم فِيهِ من أَرْبَاب الصَّنَائِع ومهرة الْحُكَمَاء خلق عَظِيم حَتَّى كَانَ بِبَابِهِ سوق عَظِيم يَقْصِدهُ التُّجَّار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب لَهُ الرخام من بِلَاد الرّوم فَكَانَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُم بالسكر وزنا بِوَزْن على مَا قيل وَكَانَ الْمَنْصُور قد اتخذ معاصر السكر بِبِلَاد حاحة وشوشاوة وَغَيرهمَا حَسْبَمَا ذكره الفشتالي رَحمَه الله فِي المناهل وَأما جبصه وجيره وَبَاقِي أنقاضه فَإِنَّهَا جمعت من كل جِهَة وحملت من كل نَاحيَة حَتَّى أَنه وجدت بطاقة فِيهَا أَن فلَانا دفع صَاعا من جير حمله من تنبكتو وظف عَلَيْهِ فِي غمار النَّاس وَكَانَ الْمَنْصُور مَعَ ذَلِك يحسن إِلَى الأجراء غَايَة الْإِحْسَان ويجزل صلَة العارفين بِالْبِنَاءِ ويوسع عَلَيْهِم فِي الْعَطاء وَيقوم بمؤن أَوْلَادهم كي لَا تتشوف نُفُوسهم وتتشعب أفكارهم وَهَذَا البديع دَار مربعة الشكل وَفِي كل جِهَة مِنْهَا قبَّة رائقة الْهَيْئَة وأحتف بهَا مصانع أخر من قباب وقصور ودور فَعظم بذلك بِنَاؤُه وطالت مسافته وَلَا شكّ أَن هَذَا البديع من أحسن المباني وأعجب المصانع يقصر عَنهُ شعب بوان وينسى ذكر غمدان ويبخس الزهراء والزاهره ويزري بقباب الشَّام وأهرام الْقَاهِرَة وَفِيه من الرخام المجزع والمرمر الْأَبْيَض وَالْأسود مَا يحير الْفِكر ويدهش النّظر وكل رخامة طلي رَأسهَا بِالذَّهَب الذائب وموه بالنضار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي الْبشرَة وَجعل فِي أَضْعَاف ذَلِك الزليج المتنوع التلوين حَتَّى كَأَنَّهُ خمائل الزهر أَو برد موشى من عمل صنعاء وتستر وَأما سقوفه فتجسم فِيهَا الذَّهَب وطليت الجدرات بِهِ مَعَ بديع النقش ورائق الرقم بخالص الجبص فتكاملت فِيهِ المحاسن وأجرى بَين قبابه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 مَاء غير آسن وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن هَذَا البديع كَانَ من المباني المتناهية الْبَهَاء وَالْإِشْرَاق المباهية لزوراء الْعرَاق وَمن المصانع الَّتِي هِيَ جنَّة الدُّنْيَا وفتنة الْمحيا ومنتهى الْوَصْف وموقف السرُور والقصف (كل قصر بعد البديع يذم ... فِيهِ طَابَ المجنى وطاب المشم) (منظر رائق وَمَاء نمير ... وثرى عاطر وقصم أَشمّ) (إِن مراكشا بِهِ قد تباهت ... مفخرا فَهِيَ للعلا الدَّهْر تسمو) وَبِه من الْأَشْعَار المرقومة فِي الأستار والأبيات المنقوشة فِي الْجِهَات على الْخشب والزليج والجبص مَا يسر النَّاظر ويروق المتأمل ويبهر الْعُقُول وعَلى كل قبَّة مَا يُنَاسِبهَا وَفِي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها وتتبع ذَلِك يطول لَكِن لَا بَأْس أَن نلم هُنَا بثمالة من ذَلِك الْحَوْض ونخوض فِي بحار تِلْكَ الْبَدَائِع بعض الْخَوْض إِذْ فِي ذَلِك عِبْرَة لمن اعْتبر وترويح للقلوب بكيفية فعل الدَّهْر بِمن غبر فَمن ذَلِك مَا نقش خَارج الْقبَّة الخمسينية لِأَن فِيهَا خمسين ذِرَاعا بِالْعَمَلِ من إنْشَاء الْكَاتِب البليغ أبي فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي على لِسَان الْقبَّة الْمَذْكُورَة (سموت فَخر الْبَدْر دوني وانحطا ... وَأصْبح قرص الشَّمْس فِي أُذُنِي قرطا) (وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي ... ونيطت بِي الجوزاء فِي عنقِي سمطا) (ولاحت بأطواقي الثريا كَأَنَّهَا ... نثير جمان قد تتبعته لقطا) (وعديت عَن زهر النُّجُوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا) (وأجريت من فيض السماحة والندى ... خليجا على نهر المجرة قد غطا) (عقدت عَلَيْهِ الجسر للفخر فارتمت ... إِلَيْهِ وُفُود الْبَحْر تغرف مَا أنطا) (ينضنض مَا بَين الغروس كَأَنَّهُ ... وَقد رقرقت حصباؤه حَيَّة رقطا) (حواليه من دوح الرياض خرائد ... وغيد تجر من خمائلها مِرْطًا) (إِذا أرْسلت لدن الْفُرُوع وَفتحت ... جنى الزهر لَاحَ فِي ذوائبها وخطا) (يرنحها مر النسيم إِذا سرى ... كَمَا مَال نشوان تشرب اسفنطا) (يشق رياضا جادها الْجُود والندى ... سَوَاء لَدَيْهَا الْغَيْث أسكب أم أَبْطَا) (وسالت بسلسال اللجين حياضه ... بحارا غَدا عرض الْبَسِيط لَهَا شطا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 (تطلع مِنْهَا وسط وسطاه دمية ... هِيَ الشَّمْس لَا تخشى كسوفا وَلَا غمطا) (حكت وحباب المَاء فِي جنباتها ... سنا الْبَدْر حل من نُجُوم السما وسطا) (إِذا غازلتها الشَّمْس ألْقى شعاعها ... على جسمها الفضي نَهرا بهَا لطا) (توسمت فِيهَا من صفاء أديمها ... نقوشا كَأَن الْمسك ينقطها نقطا) (إِذا اتسقت بيض القباب قلادة ... فَأنى لَهَا فِي الْحسن درتها الوسطا) (تكنفني بيض الدمى فَكَأَنَّهَا ... عذارى نضت عَنْهَا القلائد والريطا) (قدود وَلَكِن زَادهَا الْحسن عريها ... وأجمل فِي تنعيمها النحت والخرطا) (سمت صعدا تيجانها فَكسرت ... فوارير أفلاك السَّمَاء بهَا ضغطا) (فيالك شأوا بالسعادة آهلا ... بأكنافه رَحل الْعلَا وَالْهدى حطا) (وكعة مجد شادها الْعِزّ فانبرت ... تَطوف بمعناها أماني الورى شوطا) (ومسرح غزلان الصريم كناسها ... حنايا قباب لَا الْكتب وَلَا السقطا) (فلكن بِهِ مَا طَابَ لَا الإثل والخمطا ... ووسدن فِيهِ الوشي لَا السدر والأرطا) (ثراه من الْمسك الفتيت مُدبر ... إِذا مازجته السحب عَاد بهَا خلطا) (وَإِن باكرته نسمَة ينسري بهَا ... إِلَى كل أنف عرف عنبره قسطا) (أقرَّت لَهُ الزهراء والخلد وانثنت ... أواوين كسْرَى الْفرس تغبطه غبطا) (جناب رواق الْمجد فِيهِ مطنب ... على خير من يعزى لخير الورى سبطا) (إِمَام يسير الدَّهْر تَحت لوائه ... وترسي سفائن الْعلَا حَيْثُمَا حطا) (وفتاح أقطار الْبِلَاد بفيلق ... يفلق هامات العدا بالظبي خبطا) (تطلع من خرصاته الشهب فانثنت ... ذوائب أَرض الزنج من ضوءها شُمْطًا) (كتائب نصران جرت لملمة ... جرت قبلهَا الأقدار تسبقها فرطا) (إِذا مَا عقدن راية علوِيَّة ... جعلن ضَمَان الْفَتْح فِي عقدهَا شرطا) (فَمَا للسما تِلْكَ الْأَهِلّة إِنَّمَا ... سنابكها أبقت مِثَالا بهَا خطا) (يطاوع أَيدي المعلوات عنانها ... فيعتاض من قبض الزَّمَان بهَا بسطا) (يَد لأمير الْمُؤمنِينَ بكفها ... زِمَام يَقُود الرّوم وَالْفرس والقبطا) (أدَار جدارا للعلا وسرادقا ... يحوط جِهَات الأَرْض من رعيه حوطا) وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب بداخل الْقبَّة الْمَذْكُورَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 (جمال بدائعي سحر العيونا ... ورونق منظري بهر الجفونا) (وَقد حسنت بقوسي واستطارت ... سنا يغشى عُيُون الناظرينا) (وأطلع سمكي الْأَعْلَى نجوما ... ثواقب لَا تغور الدَّهْر حينا) (وجوى من دُخان الند ألْقى ... على أرضي الغياهب والدجونا) (عَلَوْت دوائر الأفلاك سبعا ... لذاك الدَّهْر مَا ألفت سكونا) (فصغت من الْأَهِلّة والحنايا ... أساور والخلاخل والبرينا) (تكنفني حِيَاض مائحات ... أَمَامِي وَالشَّمَائِل واليمينا) (يُقيد حسنها الطّرف انفساحا ... وَيجْرِي الْفلك فِيهَا والسفينا) (تدافع نهرها نحوي فَلَمَّا ... علاهُ الْبَحْر فِي غَدا دَفِينا) (وَقد نشر الْحباب على سَمَّاهَا ... لآلي تزدري العقد الثمينا) (فخرت وَحقّ لي لما اجتباني ... لمجلسه أَمِير المؤمنينا) (هُوَ الْمَنْصُور حائز فصل سبق ... وباني الْمجد بنيانا مكينا) (وَلَيْث وغى إِذا زأر امتعاضا ... يروع زئيره هندا وصينا) (إِذا أمت كتائبه الأعادي ... بعثن برعبه جَيْشًا كمينا) (يُدِير عَلَيْهِم من كل حَرْب ... تدقهم رحى أَو منجنونا) (إِمَام بالمغارب لَاحَ شمسا ... بهَا الشرق اكتسى نورا مُبينًا) (بقيت بِذِي الْقُصُور الغر بَدْرًا ... تلوح بأفقهن مدى السنينا) (تحف بكم عواكف عِنْد بَابي ... مَلَائِكَة كرام كاتبينا) (لَك الْبُشْرَى أَمِير الْمُؤمنِينَ ادخلوها ... مَعَ سَلام آمنينا) وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب فِي بهوها بمرمر أسود فِي أَبيض (لله بهو عز مِنْهُ نَظِير ... لما غَدا كالروض وَهُوَ نضير) (رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ... قد نضدتها فِي النحور الْحور) (فَكَأَنَّهَا والتبر سَالَ خلالها ... وشي وَفِضة تربها كافور) (وَكَأن أَرض قراره ديباجة ... قد زَان حسن طرازها تشجير) (وَإِذا تصاعد نده نوأ فَفِي ... أنماطه نور بِهِ مَمْطُور) (شأو الْقُصُور قُصُورهَا عَن وَصفه ... سيان فِيهِ خورنق وسدير) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 (فَإِذا أجلت اللحظ فِي جنباته ... يرْتَد وَهُوَ بحسنه محسور) (وَكَأن موج البركتين أَمَامه ... حركات سحب صافحته دبور) (صفت بضفتها تماثل فضَّة ... ملك النُّفُوس بحسنها تَصْوِير) (فتدير من صفو الزلَال مُعَللا ... يسري إِلَى الْأَرْوَاح مِنْهُ سرُور) (مَا بَين آساد يهيج زئيرها ... وأساود يَعْلُو لَهُنَّ صفير) (ودحت من الْأَنْهَار أَرض زجاجة ... وأضلها فلك يضيء مُنِير) (راقت فَمن حصبائها وفواقع ... يطفو عَلَيْهَا اللُّؤْلُؤ المنثور) (يَا حسنه من مصنع فبهاؤه ... باهى نُجُوم الْأُفق وَهِي تنور) (وكأنما زهر الرياض بجنبه ... حَيْثُ الْتفت كواكب وبدور) (ولدسته الأسمى تخير رصفه ... فَخر الورى وإمامها الْمَنْصُور) (ملك أناف على الفراقد رُتْبَة ... وَأقله فَوق السماك سَرِير) (قطب الْخلَافَة تَاج مفرق دولة ... رميت بجحفلها اللهام الكور) (وَجرى إِلَى أقْصَى الْعرَاق لرعبها ... جَيش على جسر الْفُرَات عبور) (نجل النَّبِي ابْن الْوَصِيّ سليل من ... حقن الدِّمَاء وعف وَهُوَ قدير) (بَحر الندى لكنه متموج ... سيف الْعلَا لكنه مطرور) (طود يخف لحلمه ووقاره ... ولجيشه يَوْم النزال ثبير) (دَامَت معاليه ودام ومجده ... طوق على جيد الْعلَا مزرور) (وتعاهدته من الْفتُوح بشائر ... يَغْدُو عَلَيْهِ بهَا مسا وبكور) (مَا زَالَ منزل سعده يرتاده ... نصر يرف لِوَاؤُهُ المنشور) (وَجَرت بِهِ مرحا جِيَاد مَسَرَّة ... وأدار كأس الْأنس فِيهِ سمير) وَقَالَ بعض الْكتاب مِمَّا نقش فِي عضادتي بَاب الْقبَّة الخمسينية الْمَذْكُورَة (يَا نَاظرا بِاللَّه قف وَتَأمل ... وَانْظُر إِلَى الْحسن البديع الْأَكْمَل) (وَإِذا نظرت إِلَى الْحَقِيقَة فَلْتَقُلْ ... السِّرّ فِي السكان لَا فِي الْمنزل) وَقَالَ بعض الْكتاب أَيْضا مَا طرزت بِهِ الأستار المذهبة المحكمة الصَّنْعَة لتستر بهَا النواحي الْأَرْبَعَة من الْقبَّة الخمسينية وَتسَمى هَذِه الأستار عِنْد أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 الْمغرب بالحائطي فَفِي الْجِهَة الأولى (متع جفونك فِي بديع لباسي ... وأدر على حسني حميا الكاس) (هذي الرِّبَا وَالرَّوْض من جرعائها ... لم تغتذي بالعارض البجاس) (أَنى لروض أَن يروق بهاؤه ... مثلي وَأَن يجْرِي على مقياسي) (فالروض تغشاه السوام وَإِنَّمَا ... تأوي إِلَى كنفي ظباء كناس) وَفِي الْجِهَة الثَّانِيَة (من كل حسنا كالقضيب إِذا انثنى ... تزري بِغُصْن البانة المياس) (وَلَقَد نشرت على السماك ذوائبي ... وَنظرت من شرز إِلَى الكناس) (وجررت ذيلي بالمجرة عابثا ... فخرا بمخترعي أبي الْعَبَّاس) (مَا نيط مثلي فِي القباب وَلَا ازدهت ... بفتى سواهُ مَرَاتِب وكراس) وَفِي الْجِهَة الثَّالِثَة (ملك تقاصرت الْمُلُوك لعزه ... وَرَمَاهُمْ بالذل والإتعاس) (غيث الْمَوَاهِب بَحر كل فَضِيلَة ... لَيْث الحروب مسعر الأوطاس) (فَرد المحاسن والمفاخر كلهَا ... قطب الْجمال أَخُو الندى والباس) (ملك إِذا وافى الْبِلَاد تأرجت ... مِنْهُ الوهاد بعاطر الأنفاس) وَفِي الْجِهَة الرَّابِعَة (وَإِذا تطلع بدره من هَالة ... يعشى سناه نواظر الْجلاس) (أَيَّامه غرر تجلت كلهَا ... أبهى من الأعياد والأعراس) (لَا زَالَ للمجد السّني يشده ... وَيُقِيم مبناه على الأساس) (مَا مَال بالغصن النسيم وكللت ... دُرَر الندى فِي جيده المياس) وَقَالَ أَبُو فَارس الفشتالي مِمَّا كتب على المصرية المطلة على الرياض المرتفعة على الْقبَّة الخضراء من بديع الْمَنْصُور وَكَانَ أَنْشَأَهَا فِي جُمَادَى الأولى من سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة (باكر لدي من السرُور كؤوسا ... وَأَرْض النديم أَهله وشموسا) (وأعرج على غرفي المنيف سماؤها ... تلق الفراقد فِي حماي جُلُوسًا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 (وَإِذا طلعت بأوجها قمر الْعلَا ... لَا تَرْتَضِي غير النُّجُوم جَلِيسا) (شَرق الْقُصُور بريقها لما اجتلت ... مني على بسط الرياض عروسا) (واعتضت بالمنصور أَحْمد ضيغما ... وردا تخير من بديعي خيسا) (ملك أرى كل الْمُلُوك ممالكا ... لعلاه وَالدُّنْيَا عَلَيْهِ حَبِيسًا) (وَهُنَاكَ يَا شرف الْخلَافَة دولة ... تلقى برايتها طلائع عيسا) وَقَالَ أَيْضا مِمَّا كتب فِي بعض المباني البديعية (مَعَاني الْحسن تظهر فِي المغاني ... ظُهُور السحر فِي حدق الحسان) (مشابه فِي صِفَات الْحسن أضحت ... تمت بهَا المغاني للغواني) (بِكُل عَمُود صبح من لجين ... تكون فِي استقامة خوط بَان) (مفصلة القدود مثلثات ... مُوَاصلَة العناق من التدان) (تردت سابري الْحسن يزري ... بِحسن السابري الخسرواني) (وتعطو الخيزرانة من حماها ... بسالفة القطيع البرهماني) (لمجدك تنتمي لَكِن نماها ... إِلَى صنعاء مَا صنع اليدان) (يدين لَك ابْن ذِي يزن ويعنو ... لَهما غمدان فِي أَرض الْيَمَانِيّ) (غَدَتْ حرما وَلَكِن حل فِيهَا ... لوفدكم الْأمان مَعَ الْأَمَانِي) (مبان بالخلافة آهلات ... بهَا يَتْلُو الْهدى السَّبع المثاني) (هِيَ الدُّنْيَا وساكنها إِمَام ... لأهل الأَرْض من قاص وداني) (قُصُور مَا لَهَا فِي الأَرْض شبه ... وَمَا فِي الْمجد للمنصور ثَانِي) وَقَالَ مِمَّا نقش فِي بعض الْأَبْوَاب (هذي وُفُود السعد نحوي ترتمي ... وطلائع الْبُشْرَى لبابي تنتمي) (وسمت إِلَيّ عفاة عرفك مثل مَا ... يسمو الحجيج إِلَى سِقَايَة زَمْزَم) (حطت بمصراعي السُّعُود بشائرا ... لاحت على الشرفات مثل الأنجم) (وَأَوَان صنعي أَن تَقول وَلَا تبل ... ببديع أَحْمد جنَّة المتنعم) وَقَالَ الفشتالي لما عرضت عَلَيْهِ هَذِه الأبيات استحسنها إِلَّا أَنه كره لَفْظَة جنَّة وَتغَير مِنْهَا كثيرا وَقَالَ الْوَزير الأديب أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي مِمَّا كتب على مُبَاح قبَّة الزّجاج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 (إِن شِئْت تَارِيخ إِكْمَال البديع فَقل ... إيوَان أَحْمد إيوَان السعادات) وَقَالَ الْوَزير الْمَذْكُور مِمَّا نقش على أحد أَبْوَاب البديع (بَاب أَتَى كبراعة استهلال ... وكأنما الْقصر القصيد التَّالِي) (ولذاك سمي بالبديع وَجَاء بَال ... إغراق والتجنيس والإيفال) (وأتى التَّمام فَقلت فِي تَارِيخه ... بَيْتا بِلَا عقد وَلَا إِشْكَال) (صرح على تقوى من الله انبنى ... فِي طالع للسعد والإقبال) وَقَالَ أَيْضا فِي تَمام البديع مهنئا (يَا مليكا ملكه فِيمَن ملك ... كطلوع الْفجْر من بعد الحلك) (تمّ هَذَا الْقصر فاسكنه على ... حسن حَال بدوام الْملك لَك) وَكَانَ الْفَرَاغ من تَمام البديع سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَفِي تَارِيخه يَقُول الْوَزير الْمَذْكُور وَهُوَ مِمَّا نقش بِبَاب الرخام أحد أَبْوَاب البديع (الْحسن لفظ وَهَذَا الْقصر مَعْنَاهُ ... ياما أميلح مرآه وَأَبْهَاهُ) (فَهُوَ البديع الَّذِي راقت بدائعه ... وطابق اسْم لَهُ فِيهِ مُسَمَّاهُ) (صرح أُقِيمَت على التَّقْوَى قَوَاعِده ... وَدلّ مِنْهُ على التَّارِيخ مَعْنَاهُ) (ولاح أَيْضا وَعين الْحِفْظ تكلاه ... تَارِيخه من تَمام قل هُوَ الله) قَالَ فِي نفح الطّيب اخترع الْمَنْصُور من المصانع ثَلَاثَة أَشْيَاء فَجَاءَت غَرِيبَة الشكل بديعة الْحسن وَهِي البديع والسمرة والمشتهى وَفِيهِمَا يَقُول الْمَنْصُور موريا (بُسْتَان حسنك أبدعت زهراته ... وَلكم نهيت الْقلب عَنهُ فَمَا انْتهى) (وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يَا حسن رمان بِهِ للمشتهى) اه قَالَ اليفرني وَالَّذِي ذكره صَاحب كتاب الْبَيَان الْمغرب عَن أَخْبَار الْمغرب وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِذَارَيْ الأندلسي حَسْبَمَا رَأَيْته فِي السّفر الثَّانِي مِنْهُ أَن أول من أنشأ المسرة الَّتِي بِظَاهِر جنان الصَّالِحَة عبد الْمُؤمن بن عَليّ كَبِير الْمُوَحِّدين قَالَ وَهُوَ بُسْتَان طوله ثَلَاثَة أَمْيَال وَعرضه قريب مِنْهَا فِيهِ كل فَاكِهَة تشْتَهى وجلب إِلَيْهِ المَاء من أغمات واستنبط لَهُ عيُونا كَثِيرَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 قَالَ ابْن اليسع وَمَا خرجت أَنا من مراكش فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة إِلَّا وَهَذَا الْبُسْتَان الَّذِي غرسه عبد الْمُؤمن يبلغ مَبِيع زيتونه وفواكهه ثَلَاثِينَ ألف دِينَار مؤمنية على رخص الْفَاكِهَة بمراكش اه وَلَعَلَّ الْمَنْصُور جدد معالم المسرة بعد اندراسها وأفاض سِجَال الْحَيَاة على ميت غراسها وَكَانَ الْمَنْصُور يفتخر بالبديع كثيرا وينوه بِقَدرِهِ وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو فَارس الفشتالي (هَذَا البديع يعز شبه بَدَائِع ... أبدعتهن بِهِ فجَاء غَرِيبا) (أضنى الغزالة حسنه حسدا لَهُ ... أبدى عَلَيْهَا للأصيل شحوبا) (وَانْقَضَت الزهر المنيرة إِذْ رَأَتْ ... زهر الرياض بِهِ ينور عجيبا) (شيدتهن مصانعا وصنائعا ... أنجزن وَعدك للعلا المرقوبا) (وجريت فِي كل الفخار لغاية ... أدركتهن وَمَا مسست لغوبا) (فانعم بملكك دَامَ فِيهِ مُؤَبَّدًا ... تجني بِهِ فنن النَّعيم رطيبا) وَلما أكمل الْمَنْصُور البديع وَفرغ من تنميق بردته وتطريز حلته صنع مهرجانا عَظِيما ودعا الْأَعْيَان والأكابر فَقدم لَهُم من ضروب الْأَطْعِمَة وصنوف الموائد وأفرغ عَلَيْهِم من العطايا ومنحهم من الجوائز مَا لم يعْهَد مِنْهُ قبل ذَلِك وَكَانَ مِمَّن دخل فِي غمار النَّاس رجل من البهاليل مِمَّن كَانَت لَهُ شهرة بالصلاح فِي الْوَقْت فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور مباسطا كَيفَ رَأَيْت دَارنَا هَذِه يَا فلَان فَقَالَ لَهُ إِذا هدمت كَانَت كدية كَبِيرَة من التُّرَاب فَوَجَمَ لَهَا الْمَنْصُور وَتَطير مِنْهَا وتحكى هَذِه الْحِكَايَة عَن غير الْمَنْصُور فَالله أعلم قَالَ اليفرني وَقد ظهر مصداق ذَلِك على يَد السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف فَإِنَّهُ أَمر بهدمه سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف لموجب يطول شَرحه فهدمت معالمه ومحيت مراسمه وَفرق مَا كَانَ بِهِ من جموع الْإِنْس وَعَاد حصيدا كَأَن لم يغن بالْأَمْس حَتَّى صَار مرعى للكلاب والمواشي ووكرا للصدى والبوم وَحقّ على الله أَن لَا يرفع شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه وَمن الْعَجَائِب أَنه لم يبْق بلد من بِلَاد الْمغرب إِلَّا ودخله شَيْء من أنقاض البديع وَلَقَد تذكرت بِهَذَا مَا حَكَاهُ بعض مؤرخي الأندلس أَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الزاهرة الَّتِي بناها الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَهِي من عجائب الدُّنْيَا مر عَلَيْهَا فِي أَيَّام الْمَنْصُور بعض أهل البصائر وَهِي فِي نِهَايَة الْعمرَان والازدهاء بسكانها فَقَالَ يَا دَار فِيك من كل دَار فَجعل الله مِنْك فِي كل دَار قَالَ فَضرب الدَّهْر ضرباته وسلط عَلَيْهَا أَيدي الْعدوان فهدمت وَخَربَتْ وَتَفَرَّقَتْ محاسنها حَتَّى نقل بعض أنقاضها إِلَى الْعرَاق قَالَ اليفرني وَلما دخلت البديع مقفلي من الرحلة وَرَأَيْت مَا هالني أنشدت أبياتا أنشدها الشَّيْخ محيى الدّين بن عَرَبِيّ فِي كتاب المسامرة لما دخل الزاهرة فَوَجَدَهَا متهدمة وَهِي (ديار بِأَكْنَافِ الملاعب تلمع ... وَمَا أَن بهَا من سَاكن فَهِيَ بلقع) (ينوح عَلَيْهَا الطير من كل جَانب ... فتصمت أَحْيَانًا وحينا ترجع) (فخاطبت مِنْهَا طائرا متفردا ... لَهُ شجن فِي الْقلب وَهُوَ مروع) (فَقلت على مَاذَا تنوح وتشتكي ... فَقَالَ على دهر مضى لَيْسَ يرجع) وأنشدت مَا أنْشدهُ ابْن الْآبَار فِي تحفة القادم (قلت يَوْمًا لدار قوم تفانوا ... أَيْن سكانك الْكِرَام علينا) (فأجابت هُنَا أَقَامُوا قَلِيلا ... ثمَّ سَارُوا وَلست أعلم أَيّنَا) ثمَّ قَالَ اليفرني رَحمَه الله لَطِيفَة تَأَمَّلت لفظ البديع فَوجدت عدد نقط حُرُوفه بِحِسَاب الْجمل مائَة وَسَبْعَة عشر وَهَذَا الْقدر هُوَ الَّذِي بَقِي فِيهِ البديع قَائِما فَإِنَّهُ فرغ مِنْهُ سنة اثْنَتَيْنِ وَألف وَشرع فِي هَدمه سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف فمدة عمره مائَة وَسبع عشرَة سنة على عدد اسْمه وَذَلِكَ من غَرِيب الِاتِّفَاق فسبحان من دقَّتْ حكمته وجلت قدرته وعمت رَحمته لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 ثورة النَّاصِر ابْن السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه بِبِلَاد الرِّيف ومقتله كَانَ النَّاصِر هَذَا فِي حَيَاة أَبِيه عبد الله الْغَالِب بِاللَّه خَلِيفَته على تادلا ونواحيها وَلما توفّي أَبوهُ الْمَذْكُور وَقَامَ بِالْأَمر أَخُوهُ المتَوَكل كَمَا اسْتَوْفَيْنَا خَبره قبض على النَّاصِر فاعتقله فَلم يزل معتقلا عِنْده سَائِر أَيَّامه إِلَى أَن قدم المعتصم بِجَيْش التّرْك وانتزع الْملك من يَد المتَوَكل كَمَا مر فسرح النَّاصِر من اعتقاله وَأحسن إِلَيْهِ فَلم يزل عِنْده فِي أرغد عَيْش إِلَى أَن توفّي المعتصم يَوْم وَادي المخازن وأفضى الْأَمر إِلَى الْمَنْصُور ففر النَّاصِر إِلَى آصيلا وَكَانَت لِلنَّصَارَى يَوْمئِذٍ ثمَّ عبر الْبَحْر مِنْهَا إِلَى الأندلس فَكَانَ عِنْد طاغية قشتالة مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن سرحه الطاغية إِلَى الْمغرب بِقصد تَفْرِيق كلمة الْمُسلمين وإحداث الشقاق بَينهم فَخرج النَّاصِر بمليلية وَنزل بهَا لثلاث مَضَت من شعْبَان سنة ثَلَاث وَألف وتسامعت بِهِ الغوغاء والطغام من أهل تِلْكَ الْبِلَاد فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون فكثرت جموعه وتوفرت جيوشه واهتز الْمغرب بأسره لذَلِك وَذكر اليفرني فِي الصفوة أَن الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار كتب كتابا إِلَى الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن ريسون من أهل بِلَاد غمارة وَكَانَ مسموع الْكَلِمَة بهَا يحضه على الاستمساك بدعوة الْمَنْصُور وَأَن يلْزم الطاغية لَهُ فَوَقع الْكتاب فِي يَد الْمَنْصُور فَعرف للشَّيْخ الْقصار حَقه وَلما وَفد عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَصله وولاه الْفَتْوَى وَالْخطْبَة بِجَامِع الْقرَوِيين وتفرقة صَدَقَة الْمَسَاكِين ثمَّ إِن النَّاصِر خرج من مليلية قَاصِدا تازا فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا ونزعت إِلَيْهِ الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهَا كالبرانس وَغَيرهم فتألبوا عَلَيْهِ وتمالؤوا على إعزازه وَنَصره وَلما دخل تازا طَالب أَهلهَا بالمكس وَقَالَ لَهُم إِن النَّصَارَى يغرمون حَتَّى على الْبيض وَلما سمع الْمَنْصُور بِخَبَرِهِ أقلقه ذَلِك وتخوف مِنْهُ غَايَة لِأَن النَّاصِر اهتز الْمغرب لقِيَامه وتشوفت النُّفُوس إِلَيْهِ لميل الْقُلُوب عَن الْمَنْصُور لشدَّة وطأته واعتسافه للرعية قَالَ فِي ابتهاج الْقُلُوب فِي تَرْجَمَة الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْحسن عَليّ بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 مَنْصُور البوزيدي الْمَعْرُوف بِأبي الشكاوي دَفِين شالة إِنَّه كَانَ سائرا يَوْمًا على بغلة وَمَعَهُ أَصْحَابه فَقَالَ لَهُم يَا فُقَرَاء أتسمعون مَا تَقول بغلتي إِنَّهَا تصيح بالنصر لمولاي النَّاصِر وَكَذَلِكَ الشّجر وَالْحجر وَإِنِّي أرى غير ذَلِك فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ اهتز لقِيَام النَّاصِر كل شَيْء ثمَّ قتل عَن قريب وَلم يتم لَهُ أَمر اه ثمَّ إِن الْمَنْصُور بعث إِلَيْهِ جَيْشًا وافرا فَهَزَمَهُمْ النَّاصِر واستفحل أمره وَتمكن ناموسه من الْقُلُوب فَأمر الْمَنْصُور ولي عَهده الْمَأْمُون بمنازلته فَخرج إِلَيْهِ من فاس فِي تعبية حَسَنَة وهيئة تَامَّة فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على النَّاصِر بالموضع الْمَعْرُوف بالحاجب وَمر على وَجهه فاحتل بالجاية بَلْدَة من عمل بِلَاد الزَّبِيب فلحق بِهِ ولي الْعَهْد فَلم يزل فِي مقاتلته إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ فأزال رَأسه وَبعث بِهِ إِلَى مراكش وَكَانَ ذَلِك سنة خمس وَألف وَقيل سنة أَربع وَألف قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ مقتل النَّاصِر وإدخاله مَقْطُوع الرَّأْس إِلَى فاس يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة أَربع وَألف وَهُوَ الْأَصَح وَذكر الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي فِي المحاضرات مَا نَصه حدثوا عَن صلحاء تادلا أَنه لما قَامَ على السُّلْطَان أَحْمد الْمَنْصُور ابْن أَخِيه النَّاصِر قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصومعي إِن النَّاصِر يدْخل تادلا يَعْنِي دُخُول الْملك فَلَمَّا بلغ الْخَبَر إِلَى الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي التادلي قَالَ مِسْكين بَابا أَحْمد رأى رَأس النَّاصِر قد دخل تادلا فَظَنهُ النَّاصِر يدخلهَا فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ هزم فِي نواحي تازا ثمَّ قطع رَأسه وَحمل إِلَى مراكش فَدخل تادلا فِي طَرِيقه اه وَلما قتل النَّاصِر سر الْمَنْصُور بذلك وأتته الْوُفُود للتهنئة وَقَالَ الشُّعَرَاء فِي ذَلِك مِنْهُم الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الشاوي قَالَ (تهنأ أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد جرت ... بسطوتك الأقدار جري السوابق) (أَضَاءَت لَك الْأَيَّام واحلولكت على ... عَدوك وارتجت رُؤُوس الشواهق) (وَذَاكَ الَّذِي قد خيب الله سعده ... تردى فَلم تَنْفَعهُ نصْرَة مارق) (فَكَانَ كَمَا قد قيل لَكِن رَأسه ... أَتَى سَابِقًا وَالرجل لَيست بسابق) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 ضمن قَول بَعضهم فِي الْوَزير ابْن الْفرس وَقد رَآهُ مصلوبا منكوس الرَّأْس (لقد طمح الْمهْر الجموح لغاية ... تقطع أَعْنَاق الْجِيَاد السوابق) (جرى فجرت رِجْلَاهُ لَكِن رَأسه ... أَتَى سَابِقًا وَالرجل لَيست بسابق) وَكتب الْمَنْصُور بِخَبَر هَذَا الْفَتْح إِلَى الْآفَاق فمما كتبه لِلشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أبي عبد الله مُحَمَّد زين العابدين الْبكْرِيّ وَأبي عبد الله مُحَمَّد بدر الدّين الْقَرَافِيّ رِسَالَة يَقُول فِيهَا مَا نَصه من عبد ربه الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَحْمد الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ الحسني إِلَى الْفَاضِل الَّذِي اعتجر بالتقوى وَهُوَ زين العابدين وتحلى بحلى المعارف الربانية وَتلك حلى العارفين والسالك الَّذِي برز فِي الطَّرِيقَة وسلك على الْمجَاز الْوَاضِح إِلَى الْحَقِيقَة ففات شأو السَّابِقين والعارف الَّذِي تجرد عَن رعونة الْأَهْوَاء النفسانية فَكَانَ سلوكه على التَّجْرِيد إِلَى حَضْرَة الواصلين الشَّيْخ الْعَالم الْحجَّة الوافي السَّيِّد بدر الدّين الْقَرَافِيّ وَالشَّيْخ الْعَارِف الْوَاصِل السِّرّ الْكَامِل سلالة الْعلمَاء سبط الْفُضَلَاء أبي عبد الله زين العابدين ابْن الشَّيْخ السَّامِي الْمقَام قطب الْمَشَايِخ الْأَعْلَام فَخر عُلَمَاء الْإِسْلَام الشهير الْبركَة فِي الْأَنَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن الصديقي أبقاكما الله وأرواحكما تتعطر برياحين الْإِنْس فِي حَضْرَة الْقُدس وتتنسم النفحات الهابة من رياض الْمُشَاهدَة إِلَى مدارج الْإِنْس ومعارج النَّفس وَسَلام عَلَيْكُمَا وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد حمد الله مفيض أنوار عناية أَحْمد على صَاحبه الصّديق مظهر كنوز المعارف الربانية جيلا بعد جيل من بَيت عَتيق وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي اخْتَار لمرافقته صَاحبه فِي الْغَار والعريش وَالطَّرِيق وَالرِّضَا عَن آله أَئِمَّة الْخلق وسيوف الْحق وَأَصْحَابه الَّذين فاضت أنوار هدايتهم على الغرب والشرق وببركتهم انتسق لنا الْفَتْح انتساق الأسلاك وبفضلهم يَعْلُو سعدنا على الْكفْر علو القطب على دَائِرَة الأفلاك فكتبنا هَذَا إِلَيْكُم من حضرتنا مراكش حاطها الله وصنع الله لَهَا مفعم السجال وواسع المجال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وعزمتها الْمَاضِيَة تبْعَث إِلَى العدا رسل الأوجال وَالْأَيَّام بعز صولتها ويمن دولتها بِهَذِهِ المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرهَا الْعَزِيز بحول الله إِلَى أَن تطوى ملاءة الدَّهْر هَذَا وَأَنه اتَّصل بعلي مقامنا كتابكما الَّذِي صدحت على أفنان البلاغة سواجعه وعذبت فِي موارد الْمحبَّة الصديقية مناهله ومشارعه ولطفت فِي كل معنى من الْمعَانِي أفانينه ومنازعه وتألفت على الإجادة فِي كل مقصد من الْمَقَاصِد مواصله العذبة ومقاطعه وأينعت بأزهار الْعِنَايَة الربانية أباطحه الفيح وأجارعه وَمَعَهُ المنظومات الَّتِي سحت بالحكم ديمها ورسا فِي البلاغة قدمهَا وَربا فِي منبت الْمَوَاهِب الربانية يراعها الفصيح وقلمها وَحل من نفوسنا موقعها العجيب محلا من دونه الثريا فِي مطْلعهَا والبدر لَيْلَة تَمَامه إعجابا بهَا وتنويها بمهديها وابتهاجا بالخوارق الَّتِي أطلق الله على لِسَان مبديها وَإِلَى هَذَا فليحط علمكما بِأَن مقامنا تنْفق فِيهِ على الدَّوَام إِن شَاءَ الله نفائس بضائعكم وتنمو فِيهِ مَعَ الْأَيَّام سعود مطالعكم وتسمو فِيهِ على كل مقَام مقاماتكم وتستوضح فِيهِ على الْمحبَّة الصميمة أماراتكم الْوَاضِحَة وعلاماتكم فعلى هَذَا تَنْعَقِد مِنْكُم الخناصر وتشتد الأواخي والأواصر بعز الله وَمِنْه ثمَّ مِمَّا نستطرد لكم ذكره على جِهَة الْبُشْرَى وإهداء المسرة الْكُبْرَى إعلامكم أَن عَدو الدّين طاغية قشتالة الَّذِي هُوَ الْيَوْم الْعَدو الْكَبِير لِلْإِسْلَامِ وعميد ملل التَّثْلِيث وَعَبدَة الْأَصْنَام لما انس من تِلْقَاء جنابنا نَار الْعَزْم تلتهب منا التهابا وبحر الاحتفال تضطرب أمواجه الزاخرة بِكُل عدد وعدة اضطرابا وهممنا قد هَمت بتجديد الأسطول والاستكثار من المراكب المتكفلة للْجِهَاد إِن شَاءَ الله بِقَضَاء كل دين ممطول وَعلم أَن الحَدِيث إِلَيْهِ يساق وَإِلَى أرضه بالخسف والتدمير بحول الله يهفو كل لِوَاء خفاق رام خذله الله مكافاتنا على ذَلِك بِمَا أمل أَن يفت بِهِ فِي عضدنا الْأَقْوَى وعزمنا الَّذِي بعناية الله يزْدَاد ويقوى فَرمى بمخذول من أَبنَاء أخينا عبد الله كَانَ ربى لَدَيْهِ وطوحت بِهِ الطوائح مُنْذُ ثَمَانِيَة عشر عَاما إِلَيْهِ إِلَى مليلية إِحْدَى الثغور المصاقبة لغرب ممالكنا الشَّرِيفَة الَّتِي إِلَى كَفَالَة ولدنَا وَولي عهدنا كافل الْأمة من بَعدنَا الْأَمِير الْأَجَل الأرضى صارم الْعَزْم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 المنتضى وحسام الدّين الأمضى أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون بِاللَّه وصل الله لرايته التأييد والظهور والعز الَّذِي يستخدم الْأَيَّام والدهور فالتف عَلَيْهِ من اغْترَّ بأباطيله الْوَاهِيَة الْبناء من أوباش الْعَامَّة والغوغاء وَمن قضى لَهُ من أجناد تِلْكَ النَّاحِيَة بالشقاء جموع تكاثر الرمل وتفوت الْحَصَا والنمل لَاحَ بهَا للشقي خلب بارق أكذبته أمْنِيته إِذْ صدقته منيته فصمم نَحوه ولدنَا أعزه الله بِجُنُود الله الَّتِي إِلَيْهِ وبعساكر تِلْكَ الممالك الَّتِي ألقينا زِمَام تدبيرها فِي يَدَيْهِ فَمَا رَاع الشقي إِلَّا انقضاضه عَلَيْهِ من الجو انقضاض الأجدل وتصميمه إِلَيْهِ بعزائم تدك الطود وتفلق الصخر والجندل فاستولى عَلَيْهِ بِحَمْد الله للحين وعَلى جموعه الأشقياء فِي يَوْم أغر محجل وَسَاعَة أنزل الله فِيهَا على الْخَوَارِج المارقين الْعَذَاب الْمُعَجل فاستأصلتهم الشفار وحصدت هشيمهم المصوح أَلْسِنَة النَّار وَقبض على الشقي فِي يَوْم كَانَ شِفَاء للصدور ومنتزها لحملة السيوف وربات الْخُدُور وأحرز الله تَعَالَى فَخر هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والمن الجسيم لولدنا أعزه الله عز وَجل فِي خَاصَّة أجناده ونهض وَحده بأعبائه وَنحن على سَرِير ملكنا وادعون مطمئنون وأجنادنا فِي أوطارنا لاهون ومفتنون فَلم يحْتَج إِلَى أنجاده من قبلنَا وَلَا إمداده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَالْحَمْد لله حمد الشَّاكِرِينَ وعرفناكم لِتَأْخُذُوا بحظكم من السرُور بِهَذِهِ الْبُشْرَى الَّتِي سرت الْإِسْلَام وَسَاءَتْ بِحَمْد الله عَبدة الْأَوْثَان والأصنام وتعلموا مَعَ ذَلِك مَا عَلَيْهِ الْأَحْوَال الْيَوْم بحول الله لدينا من خَفق رايات الْعَزْم وشحذ آراء الْجَزْم وأعمال عوامل الْجَزْم إِلَى مجازاة عَدو الدّين إِن شَاءَ الله على فعلته الَّتِي عَادَتْ عَلَيْهِ أسفا ولهفا وإعادة مَا كَانَ أسلف من ذَلِك إِن شَاءَ الله بالمكيال الأوفى وَقدمنَا إِلَيْكُم التَّعْرِيف لتمدونا إِن شَاءَ الله بأدعيتكم الصَّالِحَة فِي أَوْقَات الْإِجَابَة وتحرصوا على التماسها هُنَالك وبالحرمين الشريفين من كل ذِي خضوع وإنابة أَن يؤيدنا الله على عَدو الدّين بفضله وينجز لنا وعده الصَّادِق فِي إِظْهَار دين الْحق على الدّين كُله ويسهل علينا بفضله ومعونته أَسبَاب فتح الأندلس وتجديد رسوم الْإِيمَان بهَا وإحياء أطلاله الدَّرْس حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِي أرْضهَا بِكَلِمَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 الله الَّتِي طالما سكت عَنْهَا نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فبيده الْحول وَالْقُوَّة وعنايته الْعِنَايَة المرجوة ثمَّ نوصيكم بِحسن الْوُقُوف مَعَ أَصْحَابنَا فِيمَا يشترى من الْكتب العلمية برسم خزانتنا الْكَرِيمَة الإمامية الْعلية ثمَّ الإتحاف بديوان الشَّيْخ والدكم التماسا لجميل بركاته وتمسكا بِمَا سبق من الْإِجَازَة الْعَامَّة فِي سَائِر منظوماته وموضوعاته ومروياته وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالسَّلَام الأتم معاد عَلَيْكُم ورحمه الله وَبَرَكَاته فِي ربيع النَّبَوِيّ سنة خمس وَألف اه وَهَذِه الرسَالَة من إملاء الْمَنْصُور على مَا قيل وَمِمَّا كتب بِهِ أَيْضا بِخَط يَده إِلَى سُلْطَان مَكَّة وَالْمَدينَة والحجاز الشريف أبي المحاسن حسن بن أبي نمي بن بَرَكَات مَا نَصه من عبد الله الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الشريف الحسني إِلَى الْأَصَالَة الَّتِي تبحبحت من ذؤابة هَاشم فِي صميمها وتوغلت من غرفات حُرْمَة الله بَين زمزمها وحطيمها وتمتعت من عرارة نجد بانتشاق نفحاتها الأريجة وشميمها أَصَالَة السُّلْطَان الأثيل الْأَثِير الْأَسْنَى الأسمى الأزكى السُّلْطَان حسن بن أبي نمي أبقاكم الله وَالْبَيْت ذُو الأستار تتفيؤون ظلاله وتلثمون من الْحجر الْأسود الأسعد خَاله وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي أعز هَذِه المثابة العلوية الإمامية النَّبَوِيَّة العزيزة الْأَنْصَار السامية المحتد والنجار الساحبة أذيال عزها الوريف الظلال على أهل الْبَيْت السَّامِي الْمِقْدَار سكان الْحمى وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أطلع شموس الْهِدَايَة الساطعة الْأَنْوَار وَالرِّضَا عَن آله الَّذين تتضاءل لمجدهم السَّامِي الْمنَار الشموس والأقمار وَعَن أَصْحَابه الَّذين استأصلوا شأفة الْكفْر بمواضي الشفار وصلَة الدُّعَاء لهَذَا الْمقَام الْعلي الإمامي المنصوري الحسني بنصر تجني الْفتُوح من قضب رماحه وتجري الأقدار على وفْق اقتراحه فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حَضْرَة مراكش حاطها الله ووسع لَهَا المجال فِي ميادين السجال وَالْأَيَّام بعز صولتها ويمن دولتها بِهَذِهِ المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرهَا الْعَزِيز بحول الله إِلَى أَن تطوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 ملاءة الدهور بعز الله وعنايته هَذَا وَإِن شيخ الركب المغربي وَهُوَ المرابط الْخَيْر الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر لما أزمع إِلَى الْمعَاهد الشَّرِيفَة الرحيل لتجديد رسم الطَّاعَة الَّذِي لَيْسَ بعاف وَلَا محيل وهب لَهُ من محارم الله نسيم يمِيل وآن للمطايا أَن تعْمل الوخد والذميل مد إِلَى عَليّ مقامنا أكف الرَّغْبَة فِي كتاب كريم يتشرف بِحمْلِهِ ويتعرف مِنْهُ السَّعَادَة بحول الله فِي مرتحله وحله يتَضَمَّن الْإِيصَاء بِهِ إِلَيْكُم فِي المورد والمصدر وَمُدَّة مقَامه من جواركم بحرم الله تجاه الْبَيْت والمشعر فحملناه هَذِه العجالة لترعوا لَهُ إِن شَاءَ الله عَنْهَا الْحق الْمُعْتَبر وتولوه من جانبكم بِمَا يصدق بِهِ الْخَبَر وتدنوا لَهُ من آماله قطوف كل فنن مهتصر وَمِمَّا نكلفكم النهوض لأجل حُقُوق الْأُخوة بأعبائه ونطالبكم لوشائج الرَّحِم بالاعتناء بِأَدَائِهِ التمَاس الدُّعَاء مَعَ الأحيان تجاه الْبَيْت الْحَرَام وَعند الْمُلْتَزم وَالْمقَام أَن يؤيدنا الله على عَدو الدّين بفضله وينجز لنا وعده الصَّادِق فِي إِظْهَار دينه على الدّين كُله ويسهل علينا بفضله ومعونته أَسبَاب فتح الأندلس وتجديد رسوم الْإِيمَان بهَا وإحياء أطلاله الدَّرْس حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِيهَا بِكَلِمَات الله الَّتِي طالما سكت عَنْهَا نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فَذَلِك دُعَاء لَا يرد لِأَنَّهُ جرى من أَهله فِي مَحَله ومعاد السَّلَام الأثم عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته انْتهى وَقَوله حَتَّى ينْطق لِسَان الدّين فِيهِ تورية بِابْن الْخَطِيب رَحمَه الله قَالَ الفشتالي كَانَ تَرْتِيب الْمَنْصُور فِي الاحتفال بالمولد النَّبَوِيّ الْكَرِيم أَنه إِذا طلعت طلائع شهر ربيع الأول صرف الرّقاع إِلَى الْفُقَرَاء أَرْبَاب الذّكر على رسم الصُّوفِيَّة والمؤذنين النعارين فِي الأسحار فَيَأْتُونَ من كل جِهَة ويحشرون من سَائِر حواضر الْمغرب ثمَّ يَأْمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى فِي ذَلِك مهرَة الشماعين من كل مَا يباري النَّحْل فِي نسج أشكالها لطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع الَّتِي تحير النواظر وَلَا تذبل زهورها النواضر فَإِذا كَانَ لَيْلَة المولد تهَيَّأ لحملها وزفاف كواعبها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 الصحافون المحترفون بِحمْل خدور العرائس عِنْد الزفاف فيتزينون لذَلِك وَيَكُونُونَ فِي أجمل شارة وَأحسن منظر ويجتمع النَّاس من أَطْرَاف الْمَدِينَة كلهَا لرؤيتها فيمكثون إِلَى حِين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشَّمْس للغروب فَيخْرجُونَ بهَا على رؤوسهم كالعذارى يرفلن فِي حلل الْحسن وَهِي عدد كثير كالنحل فيتسابق النَّاس لرؤيتها وتمتد لَهَا الْأَعْنَاق وتبرز ذَوَات الْخُدُور ويتبعها الأطبال والأبواق وَأَصْحَاب المعازف والملاهي حَتَّى تستوي على منصات معدة لَهَا بالإيوان الشريف فتصطف هُنَالك فَإِذا طلع الْفجْر خرج السُّلْطَان فصلى بِالنَّاسِ وَقعد على أريكته وَعَلِيهِ حلَّة الْبيَاض شعار الدولة وأمامه تِلْكَ الشموع الْمُخْتَلفَة الألوان من بيض كالدمى وحمر جليت فِي ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أَنْوَاع الحسك والمباخر مَا يلهي المحزون ويدهش النَّاظر ثمَّ دخل النَّاس أَفْوَاجًا على طبقاتهم فَإِذا اسْتَقر بهم الْمجْلس تقدم الْوَاعِظ فسرد جملَة من فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعجزاته وَذكر مولده ورضاعه وَمَا وَقع فِي ذَلِك بِاخْتِصَار فَإِذا فرغ انْدفع الْقَوْم فِي الْأَشْعَار المولديات فَإِذا فرغوا تقدم أهل الذّكر المزمزمون بِكَلَام الششتري وأشعار الصُّوفِيَّة ويتخلل ذَلِك نوبَة المنشدين للبيتين فَإِذا فرغوا من ذَلِك كُله قَامَ شعراء الدولة فيتقدم قَاضِي الْجَمَاعَة الشاطبي بلبل مَنَابِر الْجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب فَإِذا تمّ تخلص لمدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يخْتم بمدح الْمَنْصُور وَالدُّعَاء لَهُ ولولي عَهده فَإِذا قضى نشيده تقدم الإِمَام الْمُفْتِي الْمولى أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد الشريف فينشد قصيدته على ذَلِك المنوال فَإِذا فرغ تلاه الْوَزير أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي ثمَّ تلاه الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الفشتالي ويليه الْكَاتِب مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي ويليه الأديب مُحَمَّد بن عَليّ الهوزالي النَّابِغَة ويليه الأديب الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد المسفيوي فَإِذا طوى بِسَاط القصائد نشر خوان الْأَطْعِمَة والموائد فَيبْدَأ بالأعيان على مَرَاتِبهمْ ثمَّ يُؤذن للْمَسَاكِين فَيدْخلُونَ جملَة فَإِذا انْقَضتْ أَيَّام المولد الشريف برزت صلات الشُّعَرَاء على أقدارهم هَكَذَا كَانَ دأبه فِي جَمِيع الموالد وَلَا يُحْصى مَا يفرغ فِيهِ من أَنْوَاع الْإِحْسَان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 على النَّاس اه من كتاب مناهل الصفاء وَقَالَ صَاحب النفحة المسكية فِي السفارة التركية وَهُوَ الْعَلامَة المشارك أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد التامجروتي حضرت المولد الشريف بعد القفول من بِلَاد التّرْك فاستدعى الْمَنْصُور النَّاس لإيوانه السعيد واستدخلهم لقصره البديع المشيد المحتوي على قباب متقابلة عالية وَقد مد فِيهَا من فرش الْحَرِير وصفت النمارق وتدلت الأستار والكلل والحجال المخوصة بِالذَّهَب على كل بَاب قبَّة وحنية سَرِير وَدَار على الْحِيطَان حائطيات الْحَرِير الَّتِي هِيَ كأزهار الخمائل مَا رئيت قطّ فِي عهد الْأَوَائِل وَتلك القباب مَرْفُوعَة الجوانب على قَوَاعِد وأساطين من رُخَام مجزع مطلية الرؤوس بِالذَّهَب الذائب مفروش جلها بالمرمر الْأَبْيَض مخططا بِالسَّوَادِ يَتَخَلَّل ذَلِك مَاء عذب فَيدْخل النَّاس على طبقاتهم وَيَأْخُذ كل مرتبته من قُضَاة وعلماء وصلحاء ووزراء وقواد وَكتاب وأصناف الأجناد فيخيل لكل مِنْهُم أَنه فِي جنَّة النَّعيم وَالسُّلْطَان جَالس فِي فاخر ملابسه تعلوه الهيبة وَالْوَقار وترمقه الْأَبْصَار بالتعظيم والإكبار وَيجْلس من عَادَته الْجُلُوس وَيقف على رَأس السُّلْطَان الوصفان والعلوج وَعَلَيْهِم الأقبية المخوصة والمناطق المرصعة والحزم المذهبة مِمَّا يدهش النَّاظر وركز أمامهم الشمع الملون وَأذن لعامة النَّاس فَدَخَلُوا من أَصْنَاف الْقَبَائِل على أجناسها من الأجناد والطلبة وسكنت بعد حِين الجلبة وأوتي بأنواع الطَّعَام فِي القصاع المالقية والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية وأوتي بالطسوس والأباريق وصب المَاء على أَيدي النَّاس ونصبت مباخر العنبر وَالْعود وأبرزت صَحَائِف الْفضة وَالذَّهَب وأغصان الريحان الغض فرش بهَا الْبسَاط ورش من مَاء الْورْد والزهر وأنشدوا قصائد وَتكلم المنشدون وَأحسن إِلَيْهِم السُّلْطَان ثمَّ ختموا الْمجْلس بِالدُّعَاءِ للأمير وَإِذا كَانَ يَوْم السَّابِع يكون تَرْتِيب أبدع من الأول وَهَذِه سيرته دَائِما اه وَهَكَذَا كَانَت سيرته فِي شهر رَمَضَان عِنْد ختم صَحِيح البُخَارِيّ وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِذا دخل رَمَضَان سرد القَاضِي وأعيان الْفُقَهَاء كل يَوْم سفرا من نُسْخَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 البُخَارِيّ وَهِي عِنْدهم مجزأَة على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ سفرا فِي كل يَوْم سفرا إِلَّا يَوْم الْعِيد وتاليه فَإِذا كَانَ يَوْم سَابِع الْعِيد ختم فِيهِ صَحِيح البُخَارِيّ وتهيأ لَهُ السُّلْطَان أحسن تهيؤ إِلَّا أَن الْعَادة الْجَارِيَة عِنْدهم فِي ذَلِك أَن القَاضِي يتَوَلَّى السرد بِنَفسِهِ فيسرد نَحْو الورقتين من أول السّفر ويتفاوض مَعَ الْحَاضِرين فِي الْمسَائِل ويلقى من ظهر لَهُ بحث أَو تَوْجِيه مَا ظهر لَهُ وَلَا يزالون فِي المذاكرة فَإِذا تَعَالَى النَّهَار ختم الْمجْلس وَذهب القَاضِي بِالسَّفرِ فيكمله سردا فِي بَيته وَمن الْغَد يَبْتَدِئ سفرا آخر وَهَكَذَا وَالسُّلْطَان فِي جَمِيع ذَلِك جَالس قريب من حَاشِيَة الْحلقَة قد عين لجلوسه مَوضِع قَالَ الفشتالي وَكَانَ الْمَنْصُور يُعْطي أَمْوَال لِذَوي الْحَاجَات عِنْد انْقِضَاء رَمَضَان وَيُقِيم مهرجانا يَوْم عَاشُورَاء لختان أَوْلَاد الضُّعَفَاء وكل من ختن مِنْهُم أعطي أذرعا من كتَّان وَحِصَّة من الدِّرْهَم وَسَهْما من اللَّحْم اه وَأما تَرْتِيب جَيش الْمَنْصُور وعادته فِي أَسْفَاره فسنذكرها فِي الْفَصْل بعد هَذَا إِن شَاءَ الله ولنذكر بعض القصائد الميلادية الَّتِي أنشدت بمجالس الْمَنْصُور حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَمن ذَلِك قَول القَاضِي أبي الْقَاسِم بن على الشاطبي رَحمَه الله (مَا بَال طيفك لَا يزور لماما ... وبمنحنى الأحشا ضربت خياما) (أيعيش فِيك عواذلي لسلوهم ... وأموت فِيك صبَابَة وغراما) (وتبيح نهرك سَائِلًا من أدمعي ... أَو لَيْسَ نهر السَّائِلين حَرَامًا) (مَا ذقت مَاء لماك فِي سنة الْكرَى ... إِلَّا انْتَبَهت فَكَانَ لي أحلاما) (عرض إِذا حدثت عَن بَان الْحمى ... فَحَدِيث قلبِي بالأوجاع هاما) (أروى حَدِيث الرقمتين مسلسلا ... عَن دمع باكية الْغَمَام سجاما) (وتلق من جيب النسيم تَحِيَّة ... أضحى الْهوى بردا لَهَا وَسلَامًا) (يَا جيرة العلمين دَعْوَة شيق ... للذيذ عَيْش بالغضا لَو داما) (فَخُذُوا بجرعاء الْحمى قلبِي فقد ... ألف الْإِقَامَة بالحمى فأقاما) (وخذوا بثار أهل نجدانهم ... سلبوا الْفُؤَاد وأدنفوا الأجساما) (فِي كل غرب دموع عَيْني مشرق ... لكواكب فِيهَا أثرن ظلاما) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 (صليت بِنَار الشوق ثمَّ رثت إِلَى ... إنسانها فِي لجة قد عَاما) (وتسلسلت عبراتها شوقا لمن ... وقفت عَلَيْهِ صلَاتهَا وَسلَامًا) (خير الْأَنَام مُحَمَّد الْهَادِي الَّذِي ... أردى الضلال وَجب مِنْهُ سناما) (كنز العوالم سر طِينَة آدم ... ولحفظ ذَاك السِّرّ جَاءَ ختاما) (وَأجل أرسال الْإِلَه وَمن بِهِ ... قد لَاذَ يُونُس حِين خَاضَ ظلاما) (وتقاصرت عَن فَرده أعدادهم ... فَلِذَا تقدم فِي الْحساب إِمَامًا) (أسرى إِلَى السَّبع الطباق فَأَقْبَلت ... زمر الملائك وفده إعظاما) (فِي لَيْلَة غصت بأملاك السما ... فتسير خلف ركابه وإماما) (يَا خير من بهر المعاند شَأْنه ... عَجزا فغص بريقه إفحاما) (أعيى جلالك أَن يُحِيط بوصفه ... وصف البليغ وأخرس الأقلاما) (صلى عَلَيْك الله مَا زار الحيا ... روضا فَفتح زهره الأكماما) (مَا لذتي فِي مدح غير مخلصا ... إِلَّا بمدحي من بَيْنك إِمَامًا) (خير الورى وإمامها الْمَنْصُور من ... فِي ظلّ دولته الْأَنَام أناما) (أضفى على الْأَرْضين ظلّ مهابة ... فحمى بهَا حام الْعباد وساما) (وسما على الدُّنْيَا عِقَاب تنوفة ... فانقض يفترس الْأسود بهاما) (قل للملوك هبوا لمالككم فدى ... وخذوا لأنفسكم لَدَيْهِ ذماما) (هَذَا الَّذِي يحيى الْبِلَاد بعدله ... وَيُعِيدهَا نشرا وَكن رماما) (هَذَا الَّذِي وعد الْإِلَه بِأَنَّهُ ... يطوي الْبِلَاد وَيفتح الأهراما) (يَا مشبه الْمهْدي فِي آرائه ... حزما وَفِي عزماته إقداما) (أَنْت الَّذِي ببنيه أَبنَاء الْعلَا ... أرسى الْبِلَاد ووطد الإسلاما) (فَكَأَنَّهَا من حولك الأشبال فِي ... غَابَ الوشيج تبوأت آجاما) (وأمينها الْمَأْمُون عضب سمامها ... علم أناف على الهضاب سناما) (وَأجل مضطلع تخيره الورى ... بعد الإِمَام فقدموه إِمَامًا) (وحباه أَحْمد عهد أمة أَحْمد ... فوفى فَكَانَ لرعيه المعتاما) (لَا يعدون النَّصْر سَيْفك أَنه ... سيف يحوط الدّين والإسلاما) (خُذْهَا ينم على العبير مديحها ... ويفض عَن مسك الختام ختاما) وَقَالَ الْعَلامَة مفتي الحضرة أَبُو مَالك الْمولى عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 الشريف الفيلالي (أرقت وشاقتني البروق اللوامع ... وذكرى خليط هيجتها المرابع) (مرابع عفتها الروامس والسما ... تراق من الأشواق فِيهَا المدامع) (كَأَن لم تكن من قبل قدما أَو أَهلا ... إِذْ السلك منظوم وشملي جَامع) (تذكرني عهد الأجازع واللوى ... وَأَيْنَ اللوى مني وَأَيْنَ الأجازع) (سحبنا بهَا ذيل الصبابة بُرْهَة ... وجفن الردى عَنَّا وحاشاك هاجع) (وقفت بهَا بالبزل وَاللَّيْل دامس ... أنازعها الشكوى بهَا وتنازع) (أسائلها عَن جيرة بَان حيهم ... وضمت هواهم بعد ذَاك الأضالع) (فَهَل قدمُوا نَحْو العقيق صُدُورهمْ ... ولاح لَهُم برق من الْغَوْر لامع) (يخبر عَن دَار الرَّسُول وقربها ... عراص بهَا للوحي فاضت ينابع) (ديار بهَا حل الْحمى سيد الورى ... وهبت على الأشراك مِنْهَا زعازع) (عَلَيْك صَلَاة الله يَا خير مُرْسل ... وَيَا خير من تثني عَلَيْهِ الْأَصَابِع) (فلولاك هَذَا الْكَوْن مَا زَالَ معدما ... وَأَنت الَّذِي يرجوه عَاص وطائع) (لَك الْفَخر فِي الدَّاريْنِ والموقف الَّذِي ... لأهواله كل النَّبِيين جازع) (فآدمهم وَالْكل تَحت لوائكم ... وَلَيْسَ لنا وَالله غَيْرك شَافِع) (فجازاك رب الْعَرْش مَا أَنْت أَهله ... جَزَاء بِهِ يشجي الْمَنَاوِيّ المخادع) (وجازى إِمَامًا قد نمته إِلَيْكُم ... أصُول وآباء كرام فوارع) (سميك وَابْن السبط حَقًا وَمن لَهُ ... عوارف فِي أعناقنا وصنائع) (فدم للعلا يَا ابْن الخلائف مُفردا ... إِلَيْك اشتراؤها وَغَيْرك بَائِع) (ودام ولي الْعَهْد بعْدك صَارِمًا ... يخب إِلَى نيل الْعلَا ويسارع) (هُوَ الآمن الْمَأْمُون من كل فتْنَة ... لفيض الندى من راحتيه يدافع) (ففيك أَقُول والنصوص شَوَاهِد ... أَحَادِيث صحت لَيْسَ فِيهَا مُنَازع) (بكم رَأس هَذَا الْقرن جدد ديننَا ... وفاضت بحور للعلوم هوامع) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن الله يبْعَث على رَأس كل قرن من يجدد لهَذِهِ الْأمة أَمر دينهَا) وَحمله بعض الْأَئِمَّة على أَن المجدد من الْمُلُوك وَقيل من الْعلمَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 وَقيل من الْأَوْلِيَاء وَالصَّوَاب الْإِطْلَاق وَقَالَ الْوَزير الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور الشيظمي رَحمَه الله تَعَالَى (من بعد أهل قبا وَأهل كداء ... شوقي يزِيد وَعز ذَاك عزائي) (ولي الشِّفَاء بقربهم وهم جلا ... مَا فِي الخواطر من صدى وصداء) (لكنه بعد المزار فَأَيْنَ من ... تِلْكَ الْمعَاهد سَاكن الْحَمْرَاء) (بانوا وهاج الشوق ذكر ربوعهم ... ذَات السنا والرند والأضواء) (وشدا بهم حادي الركاب فكاد أَن ... تدع الْقُلُوب جسومها بفضاء) (يَا سعد لَو أَن الزَّمَان مساعدي ... ومجيب دَاعِي الْبعد بعد ندائي) (لركبت حرفا كالهلال منافرا ... للهمز إِلَّا فِي الْمُنَادِي النائي) (ولجبت أَحيَاء الفلا وطوبتها ... طي الملا بنجيبة فوداء) (تختاض فِي جَوف الظلام كَأَنَّهَا ... سري تولج فِي ضمير حجاء) (وتخال فِي لجج السراب سفينة ... تجْرِي القلوع بهَا برِيح رخاء) (هَل أنزلن بهَا المخصب من منى ... وأزور بعد معاهد الزَّوْرَاء) (فأحط عَنْهَا الرحل ثمَّ مخيما ... فِي ظلّ احْمَد بغيتي ومنائي) (وامرغ الْخَدين ملتثما ترى ... وطئته رجلا خَاتم النبئاء) (محيى الْهدى ماحي الضَّلَالَة والردا ... بالبيض والخطية السمراء) (صلى عَلَيْهِ الله مَا نسخ السخا ... لؤما وَمَا أجلى الدجا ابْن ذكاء) (وعَلى صحابته الْكِرَام وَآله ... أكْرم بهم من سادة فضلاء) (أكْرم بوارث مجده وعلائه ... سبط الرسَالَة غرَّة الْأَبْنَاء) (خير الخلائف أَحْمد الْمَنْصُور من ... حَاز الْكَمَال وَشرط كل عَلَاء) (الصارم الْهِنْدِيّ فِي يمنى الْهدى ... والكوكب الْوَقَّاد فِي الظلماء) (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي بسيوفه ... حاط الْهدى وبرأيه الوضاء) (ذخر الْإِلَه لَك الْفتُوح وصانها ... كالزهر فِي الأكمام والأوعاء) (لَا بُد من فتح يروقك وَاضح ... كالصبح يدْرَأ فِي نحور عداء) (وستملك الْحرم الشريف وينتمي ... للوائك الْمَنْصُور دون مراء) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 (وَترى الْجِهَات وَقد أَتَت منقادة ... بِظَبْيٍ بنيك السَّادة النجباء) (وتقر عينا بالخليفة مِنْهُم ... وزر الْبَريَّة عدَّة الْأُمَرَاء) (بِمُحَمد الْمَأْمُون خير من ارْتقى ... درج الْكَمَال ودب للعلياء) (فرع سيحكي أَصله وَلَقَد حكى ... بمقاصد قد سددت ودهاء) وَقَالَ الْكَاتِب أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الفشتالي رَحمَه الله تَعَالَى (هم سلبوني الصَّبْر وَالصَّبْر من شأني ... وهم حرمُوا من لَذَّة الغمض أجفاني) (وهم أخفروا فِي مهجتي ذمم الْهوى ... فَلم يثنهم عَن سفكها حبي الْجَانِي) (لَئِن أترعوا من قهوة الْبَين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني) (وَإِن غادرتني بالعراء حمولهم ... كفى أَن قلبِي جَاهد أثر أظعاني) (قف العيس واسأل ربعهم أَيَّة مضوا ... أللجزع سَارُوا مدلجين أم البان) (وَهل باكروا بالسفح من جَانب اللوا ... ملاعب آرام هُنَاكَ وغزلان) (وَأَيْنَ استقلوا هَل بهضب تهَامَة ... أناخوا المطايا أم على كثب نعْمَان) (وَهل سَالَ فِي بطن المسيل تشوقا ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان) (وَإِذا زجروها بالْعَشي فَهَل ثنى ... أزمتها الْحَادِي إِلَى شعب بوان) (وَهل عرسوا فِي دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نَجْرَان) (سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شَتَّى صِفَات وألوان) (وأدلج فِي الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوما فِي معارج كُثْبَان) (لَك الله من ركب يرى الأَرْض خطْوَة ... إِذا زمها بدنا نواعم أبدان) (أرحها مطايا قد تمشي بهَا الْهوى ... تمشي الحميا فِي مفاصل نشوان) (ويمم بهَا الْوَادي الْمُقَدّس بالحمى ... بِهِ المَاء صدا والكلا نبت سَعْدَان) (واهد حُلُول الْحجر مِنْهُ تَحِيَّة ... تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان) (لقد نفحت من شيخ يثرب نفحة ... فهاجت مَعَ الأسحار شوقي وأشجاني) (وفتت مِنْهَا الشرق فِي الغرب مسكة ... سحبت بهَا فِي أَرض دارين أرداني) (وأذكرني نجدا وَطيب عراره ... نسيم الصِّبَا من نَحْو طيبَة حياني) (أحن إِلَى تِلْكَ الْمعَاهد إِنَّهَا ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 (وأهفو مَعَ الأشواق للوطن الَّذِي ... بِهِ صَحَّ لي أنسي الهني وسلواني) (وأصبوا إِلَى أَعْلَام مَكَّة شائقا ... إِذا لَاحَ برق من شمام وشهلان) (أهيل الْحمى ديني على الدَّهْر زورة ... أحث بهَا شوقا لكم عزمي الواني) (مَتى يشتفي جفني القريح بنظرة ... يَزُجّ بهَا فِي نوركم عين إنساني) (وَمن لي بِأَن يدنوا لقاكم تعطفا ... ودهري عني دَائِما عطفه ثَانِي) (سقى عَهدهم بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان) (وأنعم فِي شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظلّ المنى والهوى داني) (وَحيا ربوعا بَين مروة والصفا ... تَحِيَّة مشتاق لَهَا الدَّهْر حيران) (ربوعا بهَا تتلو الْمَلَائِكَة الْعلَا ... أفانين وَحي بَين ذكر وَقُرْآن) (وَأول أَرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إِيمَان) (وعرس فِيهَا للنبوة موكب ... هُوَ الْبَحْر طام فَوق هضب وغيطان) (وَأدّى بهَا الرّوح الْأمين رِسَالَة ... أفادت بهَا الْبُشْرَى مدائح عنوان) (هُنَالك فض خَتمهَا أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان) (مُحَمَّد خير الْعَالمين بأسرها ... وَسيد أهل الأَرْض الْإِنْس والجان) (وَمن بشرت بِالْبَعْثِ من قبل كَونه ... نوامس كهان وأخبار رُهْبَان) (وَحِكْمَة هَذَا الْكَوْن لولاه مَا سمت ... سَمَاء وَلَا غاضت طوافح طوفان) (وَلَا زخرفت من جنَّة الْخلد أَربع ... تسبح فِيهَا أَدَم حور وولدان) (وَلَا طلعت شمس الْهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران) (وَلَا لحقت بالمذنبين شَفَاعَة ... يذود بهَا عَنْهُم زباني نيران) (لَهُ معجزات أخرست كل جَاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهَان) (لَهُ انْشَقَّ قرص الْبَدْر شقين وارتوى ... بِمَاء همي من كَفه كل ظمآن) (وأنطقت الْأَوْثَان نطقا تبرأت ... إِلَى الله فِيهِ من زخارف ميان) (دَعَا سرحة عجما فلبت وَأَقْبَلت ... تجر ذيول الزهر مَا بَين أفنان) (وضاءت قُصُور الشَّام من نوره الَّذِي ... على كل أفق نازح الْقطر أوداني) (وَقد بهج الْأَنْوَار بدعوته الَّتِي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان) (وَأَن كتاب الله أعظم آيَة ... بهَا افتضح المرتاب وابتأس الشاني) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 (وعدى على شأو البليغ بَيَانه ... فهيهات مِنْهُ سجع قس وسحبان) (نَبِي الْهدى من أطلع الْحق أنجما ... محا نورها أسداف إفْك وبهتان) (بعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان) (وأحرز للدّين الحنيفي بالظبا ... تراث الْمُلُوك الصَّيْد من عهد يونان) (ونقع من سمر القنا السم قيصرا ... فجرعه مِنْهُ مجاجة ثعبان) (وأضحت ربوع الْكفْر والشرك بلقعا ... يناغي الصدا فِيهِنَّ هَاتِف شَيْطَان) (وأصبحت السمحا تروق نضارة ... وَوجه الْهدى بَادِي الصباحة للراني) (أيا خير أهل الأَرْض بَيْتا ومحتدا ... وَأكْرم كل الْخلق عجم وعربان) (فَمن للقوافي أَن تحيط بوصفكم ... وَلَو سجلت سبقا مدائح حسان) (إِلَيْك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان) (أجرني إِذا أبدى الْحساب جرائمي ... وأنقلت الأوزار كفة ميزاني) (فَأَنت الَّذِي لَوْلَا وَسَائِل عزه ... لما فتحت أَبْوَاب عَفْو وغفران) (عَلَيْك سَلام الله مَا هبت الصِّبَا ... وماست على كثبانها ملد قضبان) (وَحمل فِي جيب الْجنُوب تَحِيَّة ... يفوح بمسراها شذا كل تربان) (إِلَى العمرين صاحبيك كليهمَا ... وتلوهما فِي الْفضل صهرك عُثْمَان) (وحيي عليا عرفهَا وأريجها ... ووالي على سبطيك أوفر رضوَان) (إِلَيْك رَسُول الله صممت عَزمَة ... إِذا أزمعت فالشحط والقرب سيان) (وخاطبت مني الْقلب وَهُوَ مُقَلِّب ... على جَمْرَة الأشواق فِيك فلباني) (فيا لَيْت شعري هَل أزم قلائصي ... إِلَيْك بدارا أَو أقلقل كيراني) (وأطوي أَدِيم الأَرْض نَحْوك راحلا ... نواجي المهاري فِي صحاصح فيعان) (يرنحها فرط الحنين إِلَى الْحمى ... إِذا غرد الْحَادِي بِهن وغناني) (وَهل تمحون عني خَطَايَا اقترفتها ... خطى لي فِي تِلْكَ الْبِقَاع وأوطان) (وماذا عَسى يثني عناني وَإِن لي ... بآلك جاها صهوة الْعِزّ أمطاني) (إِذا صد عَن زوارك الباس والعنا ... فجود ابْنك الْمَنْصُور أَحْمد أغناني) (عمادي الَّذِي أوطا السماكين أخمصي ... وأوفى على السَّبع الطباق فأدناني) (متوج أَمْلَاك الزَّمَان وَإِن سَطَا ... أحل سيوفا فِي معاقد تيجاني) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 (وقاري أسود الغاب بالصيد مثلهَا ... إِذا أضْرب الخطى من فَوق جدران) (هز بر إِذا زرا الْبِلَاد زئيره ... تضاءل فِي أخياسها أَسد خفان) (وَإِن اطَّلَعت غيم القتام جيوشه ... وارزم فِي مركومه رعد نيران) (صببن على أَرض العداة صواعقا ... أسلن عَلَيْهِم بَحر خسف ورجفان) (كتائب لَو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الْجِيَاد الجرد تعدو بعقبان) (عديد الْحَصَا من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان) (إِذا جن ليل الْحَرْب عَنْهُم طلى العدا ... هدتهم إِلَى أوداجها شهب خرصان) (من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن فِي وَجه الثرى وَجه بُسْتَان) (وفتحن أقطار الْبِلَاد فَأَصْبَحت ... تُؤدِّي الْخراج الجزل أَمْلَاك سودان) (إِمَام البرايا من على نجاره ... وَمن عترة سادوا الورى آل زَيْدَانَ) (دعائم إِيمَان وأركان سؤدد ... ذووهم قد عرست فَوق كيوان) (هم العلويون الَّذين وُجُوههم ... بدور إِذا مَا احلولكت شهب أزمان) (وهم آل بَيت شيد الله ملكه ... على هضبة العلياء ثَابت أَرْكَان) (وَفِيهِمْ أَتَى الذّكر الْحَكِيم وصرحت ... بفضلهم آيَات ذكر وَقُرْآن) (فروع ابْن عَم الْمُصْطَفى ووصيه ... فناهيك من فخرين قربى وقربان) (ودوحة مجد معشب الرَّوْض بالعلا ... يجاد بأمواه الرسَالَة رَيَّان) (بمجدهم الْأَعْلَى الصَّرِيح تشرفت ... معد على العرباء عَاد وقحطان) (أُولَئِكَ فخري إِن فخرت على الورى ... ونافس بَيْتِي فِي الولا بَيت سلمَان) (إِذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظَاهر رُجْحَان) (إِمَام لَهُ فِي جبهة الدَّهْر ميسم ... وَمن عزه فِي مفرق الْملك تاجان) (سما فَوق هامات النُّجُوم بهمة ... يحوم بهَا فَوق السَّمَوَات نسران) (وأطلع فِي أفق الْمَعَالِي خلَافَة ... عَلَيْهَا وشاح من علاهُ وسمطان) (إِذا مَا احتبى فَوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الْملك نخوة سُلْطَان) (توسمت لُقْمَان الحجا وَهُوَ نَاطِق ... وشاهدت كسْرَى الْعدْل فِي صدر إيوَان) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 (وَإِن هزه حر الثَّنَاء تدفقت ... أنامله عرفا تدفق خلجان) (أيا نَاظر الْإِسْلَام شم بارق المنا ... وباكر لروض فِي ذرا الْمجد فينان) (قضى الله فِي علياك أَن تملك الدنا ... وتفتحها مَا بَين سوس وسودان) (وَإنَّك تطوي الأَرْض غير مدافع ... فَمن أَرض سودان إِلَى أَرض بغدان) (وتملأها عدلا يرف لِوَاؤُهُ ... على الْحَرَمَيْنِ أَو على رَأس غمدان) (فكم هنأت أَرض الْعرَاق بك الْعلَا ... ووافت بك الْبُشْرَى لأطراف عمان) (فَلَو شارفت شَرق الْبِلَاد سُيُوفكُمْ ... أَتَاك استلابا تَاج كسْرَى وخاقان) (وَلَو نشر الْأَمْلَاك دهرك أَصبَحت ... عيالا على علياك أَبنَاء مَرْوَان) (وشايعك السفاح يقتاد طَائِعا ... برايته السَّوْدَاء أهل خرسان) (فَمَا الْمجد إِلَّا مَا رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوَال ومران) (وهاتيك أبكار القوافي جلوتها ... تغازلهن الْحور فِي دَار رضوَان) (أتتك أَمِير الْمُؤمنِينَ كَأَنَّهَا ... لطائم مسك أَو خمائل بُسْتَان) (تعاظمن حسنا أَن يُقَال شبيهها ... فرائد در أَو قلائد عقيان) (فَلَا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بِملك سُلَيْمَان) (وَلَا زلت بالنصر الْعَزِيز مؤزرا ... تقاد لَك الْأَمْلَاك فِي زِيّ عَبْدَانِ) انْتَهَت القصيدة الفريدة قَالَ فِي نفح الطّيب أَخْبرنِي ناظمها أَنه أَرَادَ بقوله ونافس بَيْتِي فِي الولا بَيت سلمَان قَبيلَة سلمَان الَّتِي مِنْهَا لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب إِشَارَة إِلَى وَلَاء الْكِتَابَة للخلافة كَمَا كَانَ لِسَان الدّين رَحمَه الله وَفِيه مَعَ ذَلِك تورية بسلمان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ انْتهى وَهَذِه القصيدة على طولهَا من غرر القصائد وَلذَا لم يذكر فِي الْمُنْتَقى من الأمداح المنصورية غَيرهَا وَقد أثنى عَلَيْهَا فِي نفح الطّيب جدا وتتبع مَا قيل فِي هَذَا الاحتفال وَإِقَامَة المولد العديم الْمِثَال من الأمداح يُفْضِي إِلَى الطول وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 ذكر سيرة الْمَنْصُور فِي تَرْتِيب جيوشه وحالات أَسْفَاره قَالَ الفشتالي كَانَت السِّيرَة على عهد أبي عبد الله الْمهْدي وَولده الْغَالِب بِاللَّه وَابْنه المتَوَكل سيرة الْعَرَب فِي الْجَيْش والمأكل والملبس وَغير ذَلِك وَلما ولي المعتصم حمل النَّاس على السِّيرَة العجمية وجنح إِلَيْهَا فِي سَائِر شؤونه لما رأى مِنْهَا فِي بِلَاد التّرْك حَيْثُ كَانَ بهَا فكره النَّاس ذَلِك وأنفوا مِنْهُ وقوفا مَعَ العوائد فَلَمَّا جَاءَ الله بالمنصور ألف بَين سيرتي الْعَرَب والعجم وَاصْطفى من الْعَجم موَالِي رباهم بنعمته وأشملهم درور إحسانه مِنْهُم مصطفى باي وَمَعْنَاهُ بلغَة التّرْك قَائِد القواد وَيخْتَص بِهِ قَائِد الإصباحية وَكَانَ برسم حراسة الْبَاب العالي وَمِنْهُم الباشا مَحْمُود وَهُوَ صَاحب خَزَائِن الدَّار بِيَدِهِ مَفَاتِيح بيُوت الْأَمْوَال وَمِنْهُم الْقَائِد علوج قَائِد جَيش العلوج والباشا جؤذر فاتح السودَان وَهُوَ قَائِد جَيش الأندلس وَكَانَ لأهل الأندلس جَيش عَظِيم رُمَاة وعمار قَائِد جَيش السوس فَهَؤُلَاءِ أكَابِر العلوج وتليهم طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا بختيار وبغا ثمَّ إِن جَيش الْعَجم من الأتراك والعلوج قسمه إِلَى أَقسَام مِنْهَا البياك وهم أهل القلانس الصفرية المذهبة ذَوَات الْأَعْرَاف من ريش النعام الملون يقفون سماطين أَمَام قُبَّته أَو فسطاطه والسلاق أهل القلانس الطَّوِيلَة الْبيض الْمُرْسلَة على المناكب ويناط بهَا من أَعلَى الجباه جعاب صفر مذهبَة ويضيفون إِلَيْهَا وَقت الحزام أَجْنِحَة طوَالًا يؤلفونها أَيْضا من ريش النعام الْبَاقِي على أصل خلقته ويركزونها فِي الجعاب المنوطة بالقلانس من أَعلَى الجباه ويرسلونها إِلَى وَرَاء وَيقف هَؤُلَاءِ خلف البياك وبلبدروش وهم أهل اللقاقيف وَهِي رماح قَصِيرَة غَلِيظَة العصى مغشاة بالحديد ومرصعة بالمسامير الْبيض ركبت عَلَيْهَا أسنة عِظَام وزجاج هائلة ينْبت من ريشتي كل سِنَان مِنْهَا أضلاع مُسْتَقِيمَة وَيقف هَؤُلَاءِ خلف السلاق والشنشرية وهم أهل الطَّعَام وضعا ورفعا لَا غير وَقَائِدهمْ بختيار من سبي وَادي المخازن والقبجية وهم أهل حفظ الْأَبْوَاب وغلقها وَفتحهَا وَقَائِدهمْ مَوْلُود المشاوري وَطَائِفَة من هَؤُلَاءِ تحرس لَيْلًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وَتَطوف على مسايف السُّور الْمُحِيط بِالدَّار وَمن وَظِيفَة هَؤُلَاءِ خدمَة الْكُرْسِيّ والسرير اللَّذين يجلس عَلَيْهِمَا السُّلْطَان بالإيوان وتعاهد أنماط الْجُلُوس وكنسها والشواش وهم الَّذين يتولون ضبط الجيوش فِي المصاف فِي حَرْب أَو سلم وإنهاء الْكتب والرسائل للجهات بِخَير أَو شَرّ قَالَ الفشتالي وَهَذَا مِمَّا زَادَت بِهِ دولته على سَائِر الدول فَإِذا خرج فِي يَوْم عيد أَو ملاقاة أَو تهنئة خَرجُوا متزينين وكل قَائِد يقف عِنْد مبدأ انبعاث حَبل جَيْشه تَحت ألوية محفوفا بِجَيْش من رُؤَسَاء جنده أهل الْخَيل وهم الَّذين يدعونَ عِنْدهم بالبكباشات فاصلا بذلك بَين جَيْشه وجيش من يردفه خَلفه وَهَكَذَا يَمْتَد إِلَى انبعاث الْجَيْش من تِلْقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ وكل يعرف مركزه ورتبته لَا يتعداه إِلَى غَيره بتقدم أَو تَأَخّر وَلَا يجد السَّبِيل إِلَى ذَلِك لَو أَرَادَهُ قَالَ الفشتالي وَالتَّرْتِيب الَّذِي جرى بِهِ الْعَمَل فِي عَسَاكِر النَّار أَن يتَقَدَّم أَولا جَيش السوس ثمَّ يردفه جَيش شراكة وكل مِنْهُمَا يَنْقَسِم حبلين ثمَّ يردفهما العسكران العظيمان عَسْكَر الموَالِي من المعلوجي وَمن انضاف إِلَيْهِم وعسكرك الأندلس وَمن لبس جلدتهم وَدخل فِي زمرتهم وَهَذَانِ يسيران صفّين متساويين لِاسْتِوَاء مرتبتهما وَعند الْعَطاء تَارَة يتَقَدَّم هَؤُلَاءِ وَتارَة هَؤُلَاءِ غير أَن الموَالِي يكونُونَ فِي الميمنة لمزية الْوَلَاء وَكِلَاهُمَا يحظى بموالاة ركاب السُّلْطَان ويتقدم قائدهما مَحْمُود قَائِد الموالى وجؤذر قَائِد الأندلس وترفع على رَأس كل مِنْهُمَا الرَّايَات ويحفه عَسْكَر من بكباشات ثمَّ يتَّصل بِهَذَيْنِ العسكرين الدخلة الْعَظِيمَة الْمُؤَلّفَة من البياك والسلاق وبلبدروش فتسير الْفرق الثَّلَاث أَمَام الْمَنْصُور صُفُوفا مُتَسَاوِيَة فَأَما البياك فيلون ركابه يحفونَ بِهِ يَمِينا وَشمَالًا وَيرْفَع بِالْبَعْضِ رماحه اليزنية المنصوبة أَمَامه وَمِنْهُم صَاحب المظل الْمَرْفُوع على رَأسه كالغمامة يحملهُ حَالَة ركُوبه أقربهم دَرَجَة لقائدهم أبرويز وَإِذا مَشى الْمَنْصُور إِلَى جَامع الْمَنْصُور من جِهَة قُبُور الْأَشْرَاف أَو للمشتهى وَهُوَ الرَّوْض الْمُتَّصِل بقصر البديع على رجلَيْهِ حمله أبرويز بِنَفسِهِ ثمَّ يسير عَن يمينهم وشمالهم السلاق ويسير عَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 يَمِين هَؤُلَاءِ وشمالهم بلبدروش أهل اللقاقيف وتتكيف من الْجَمِيع صُورَة تزرع الرعب فِي الْقُلُوب وتسير الجنائب فِيمَا بَين سماطي هَذِه الدخلة مجنوبة صفا صفا إِلَى ألوية عَسَاكِر النَّار ومنبعث حبالها الممدودة يَقُودهَا صنف يدعونَ السراجة ركبانا وَكَانَت جنائب الْخُلَفَاء يَقُودهَا الرجل من الوزعة وَهَذَا أكمل مزية وجيش الإصباحية الَّذِي إِلَى نظر بيلارباي يَنْقَسِم كتيبتين عظيمتين تسير إِحْدَاهمَا ذَات الْيَمين وَالْأُخْرَى ذَات الشمَال أَمَام الموكب الَّذِي يرفع اللِّوَاء الْعَظِيم الْأَبْيَض الْمَدْعُو باللواء الْمَنْصُور عَلامَة على شعار الدولة على رَأس الْمَنْصُور يسامته من خَلفه وَهُنَاكَ ألوية كَثِيرَة ذَات ألوان مُخْتَلفَة وأمامه الطبل الْعَظِيم الَّذِي يسمع دويه من مَسَافَة بعيدَة وَمن خَلفه الطبول الْأُخَر مَعهَا الغيطات واحدتها غيطة يتَوَلَّى النفخ فِيهَا قوم من الْعَجم أساتيذ يتعلمونها فينفخون فِيهَا فتنبعث مِنْهَا أصوات وتلاحين لَا تحرّك الطباع وَلَا تبعثها على شَيْء دون الْحَرْب فَإِنَّهَا تشجع الجبان وتقوي جأش الْخَائِف حِكْمَة فيلسوفية وَهُنَاكَ مَزَامِير أخر وجعاب طوال صفرية على مِقْدَار النفير تسمى الطرنباط مِمَّا أحدثه أَيْضا فِي دولته وزادت بِهِ دولته فخامة وضخامة ثمَّ يردف هَذِه الألوية والآلات من خلف أَمِير الْمُؤمنِينَ موكبه الْعَظِيم فَهَذَا تَرْتِيب جَيش الْمَنْصُور انْتهى بِاخْتِصَار من كتاب مناهل الصَّفَا وَلَيْسَ اتِّخَاذ المظل مِمَّا أحدثته الدولة السعدية كَمَا زعم بَعضهم بل كَانَ ذَلِك مَوْجُودا فِي الدول الْقَدِيمَة شرقا وغربا قَالَ اليفرني وَمَا ذكره الإِمَام الفشتالي من توافر أجناد الْمَنْصُور وتكاثر جيوشه هُوَ كَذَلِك وَقد أولعت الْعَامَّة فِي ذَلِك بأخبار واهية وَزَعَمُوا أَن الْمَنْصُور خرج مرّة إِلَى الرميلة بِظَاهِر مراكش وَلم تعلم أَصْحَابه بِخُرُوجِهِ فحين علمُوا بِخُرُوجِهِ تبعوه خفافا وثقالا فَأمر بعد مَا مَعَه هُنَالك من الْجَيْش فَوجدَ ثَمَانِينَ ألفا فَقَالَ يَا سُبْحَانَ الله قد خاطرنا بِأَنْفُسِنَا حَيْثُ ركبنَا فِي هَذَا الْعدَد يستقله وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الإفراط وَالَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد أفقاي الأندلسي فِي كِتَابه الْمُسَمّى ب رحْلَة الشَّبَاب إِلَى لِقَاء الأحباب مَا مَعْنَاهُ قَالَ إِن جَزِيرَة الأندلس الَّتِي استردادها من أَيدي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 الْكفَّار سهل واسترجاعها مِنْهُم قريب لما دخلت مراكش فِي أَيَّام الْمَنْصُور وجدت عِنْده من الْخَيل نَحوا من سِتَّة وَعشْرين ألفا فَلَو تحركت همته لفتحها لاستولى عَلَيْهَا فِي الْحِين اه بِالْمَعْنَى اه كَلَام اليفرني وَأما بَيَان حَالَة الْمَنْصُور فِي السّفر فقد قَالَ شَارِح زهرَة الشماريخ إِن الْمَنْصُور كَانَ قَلِيل الْأَسْفَار وَإِنَّمَا سَافر إِلَى فاس مرَّتَيْنِ لَا غير وَإِنَّمَا كَانَ متفرغا للذاته وَاسْتِيفَاء شهواته مُدَّة خِلَافَته قَالَ اليفرني وَبِه يعلم أَن مَا شاع على الْأَلْسِنَة من أَنه كَانَ يمْكث بفاس سِتَّة أشهر وبمراكش مثلهَا لَيْسَ بِصَحِيح وَالله أعلم وَكَانَ الْمَنْصُور إِذا سَافر استعد غَايَة الاستعداد وَأحسن فِي التهيئة مَا شَاءَ قَالَ صَاحب النفحة المسكية كَانَ لَهُ قصر من عود مسمر بمسامير ومخاطيف وَحلق وصفائح مفضضة على هَيْئَة عَظِيمَة وَقد أحدق بذلك كُله سرادق كالسور من نَسِيج الْكَتَّان كَأَنَّهُ حديقة بُسْتَان وزخرفة بُنيان وَفِي دَاخل الْقصر الْمَذْكُور القباب الملونة بيضًا وسودا وحمرا وخضرا كَأَنَّهَا أزاهير الرياض قد نقش ذَلِك أحسن النقش ومليء بأبهى الْفرش وللسرادق الَّذِي هُوَ كالسور أَبْوَاب كَأَنَّهَا أَبْوَاب الْقُصُور المشيدة يدْخل مِنْهَا إِلَى دهاليز وتعاريج ثمَّ يَنْتَهِي مِنْهَا إِلَى الْقصر الَّذِي فِيهِ القباب وَهَذَا الْقصر كَأَنَّهُ مَدِينَة تنْتَقل بانتقاله وَهُوَ من الأبهات الملوكية الَّتِي لم يُوجد مثلهَا عِنْد الْمُلُوك الماضين اه وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهِ مَا حَكَاهُ أَبُو فَارس الفشتالي فِي المناهل قَالَ خرج الْمَنْصُور يَوْم الِاثْنَيْنِ عَاشر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة لزيارة أضرحة الصَّالِحين بأغمات قَالَ فتأخرت وَرَاءه فلحقني الْمولى عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الشريف وَأَنا فِي أخريات النَّاس فأنشده (أَبَا فَارس بَان الخليط وودعوا ... ) فَقلت (وولوا وَحسن الصَّبْر مني شيعوا ... ) فَقَالَ (وغرد حادي الْبَين وانشقت الْعَصَا ... وَكَاد فُؤَادِي للنوى يتقطع) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 فَقلت (إِلَى الله أَشْكُو فرقة مِنْهُم وَقد ... تجرعت من كأس النَّوَى مَا تجرعوا) ثمَّ زِدْت (لَئِن شرد السلوان عني بعدهمْ ... فَفِي صُحْبَة الْمَنْصُور أنسي أجمع) ثمَّ قَالَ (تَدور عَلَيْهِ هَالة لقبابه ... ومركزها قصر الْخلَافَة يلمع) فَقلت (سياج بِهِ بَحر الندى متموج ... وَمن أفقه شمس الْإِمَامَة تطلع) وَكَانَ الْمَنْصُور خرج لزيارة أغمات فِي شارة حَسَنَة فَلَمَّا بلغ أغمات مكث فِيهِ يَوْمَيْنِ وَفِي الثَّالِث نَهَضَ إِلَى زِيَارَة الإِمَام أبي عبد الله الهزميري وعاج على ضريح الشَّيْخ سَيِّدي عبد الْجَلِيل ووقف عِنْد الْجَبانَة الْكُبْرَى فَدَعَا مَا تيَسّر وَفرق أمولا على ذَوي الْحَاجَات على يَد القَاضِي الشابطي والفقيه الْأمين أبي الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان الثاملي وَكَانَ مَعَه الْفَقِيه القَاضِي أَبُو مَالك عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي كَانَ قد استقدمه من فاس برسم الْقِرَاءَة مَعَه وَكَانَ الْحميدِي لوذعيا خَفِيف الرّوح وَفِي هَذِه السفرة صدرت مِنْهُ الأبيات الَّتِي تبارى فِي معارضتها شعراء الدولة وَقد ذكرهَا فِي النزهة فَلْتنْظرْ هُنَالك وَمِمَّا يتَعَلَّق بأخبار الْحميدِي الْمَذْكُور أَن الْمَنْصُور سَافر مرّة إِلَى تارودانت وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأَعْيَان كَالْقَاضِي الْحميدِي وَأبي الْعَبَّاس المنجور وَغَيرهمَا فخيم الْمَنْصُور بِبَاب تارودانت وَضرب النَّاس أخبيتهم فَمر رجل عَلَيْهِ أطمار بالية وهيئة رثَّة وَيُقَال إِن هَذَا الرجل هُوَ أَبُو عُثْمَان الْهِلَالِي الروداني فوطئ على طُنب من أطناب خباء القَاضِي الْحميدِي فصاح القَاضِي من هَذِه الْبَقَرَة الَّتِي قوضت على خَيْمَتي متهكما بِالرجلِ فَألْقى إِلَيْهِ الرجل قرطاسا فِيهِ أَبْيَات وَقَالَ الْبَقَرَة من لَا يُجيب عَن هَذِه وَنَصّ الأبيات (إِلَى بابك العالي مسَائِل ترتقي ... تفطن لَهُنَّ يَا حميدي واصدق) (فَمَا الحكم فِي الأوزاغ هَل سَاغَ أكلهَا ... وَمَا الحكم فِي موتى المجانين فانطق) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 (وَهل جَازَ للمسبوق بعد تشهد ... دُعَاء إِذا مَا رام إِكْمَال مَا بَقِي) (وَمَا وزن لَيْسَ يَا أديب وَأَصله ... وَمَا جمع قلَّة لصاع فحقق) (وَمَا وَزنه شمر ولاتن وائتنا ... بِجمع سَوَاء والمقيد أطلق) (وَبَين لنا من فِي أعوذ بربنا ... من إِبْلِيس والتخمين فِي الْكل فَاتق) فَبَدَا للحميدي مَا لم يكن يحْتَسب وَتوقف عَن الْجَواب فَرفعت الْقَضِيَّة إِلَى الْمَنْصُور فاستغربها وَقَالَ هَذَا رجل من أهل الْبَادِيَة فَضَح قَاضِي قُضَاة الحواضر وَأمر المنجور فَأجَاب عَنْهَا يُقَال بعد أَربع سِنِين وَبعد موت السَّائِل وَنَصّ الْجَواب (جوابك فِي الأولى إِبَاحَة أكلهَا ... بمذهبنا فأجزم بِذَاكَ وَصدق) (كَذَا ابْن حبيب فِي الخشاش أَبَاحَهُ ... لمحتاجه مثل العقارب فاسبق) (وَقد قيل فِي الأوزاغ يحرم أكلهَا ... وَذَلِكَ فِي الْكَافِي ليوسف فَاتق) (ومستقذر يَحْكِي الْمُخَالف مَنعه ... وَأنْكرهُ التَّنْبِيه فَافْهَم ودقق) (وَرجح مَا يَحْكِي الْمُخَالف بعض من ... لَهُ الْعزو للتحقيق لَا للتشدق) (وميت مَجْنُون جرى خلف حكمه ... بِعلم كَلَام لَا تكن غير متق) (وتحقيقها إِن الْجُنُون الَّذِي طرا ... يصير كموت فصل الْحق يعبق) (فآونة بعد الْبلُوغ طروه ... وحينا يرى قبل الْبلُوغ فطبق) (وآونة إِثْر الصّلاح وُقُوعه ... وحينا بعصيان الْكَبِيرَة يلتقي) (وحينا يَدُوم للممات وَتارَة ... يفِيق فَخذ حكم الْجَمِيع ووثق) (وَينْدب للمسبوق دَعْوَى تشهد ... وفَاق إِمَام فِي الْمُنَاجَاة فارتق) (وَلَيْسَ لَهُ فعل كقال وَأَصله ... بِكَسْر لياء فاكسر الْعين ترتق) (وجمعك صَاعا فِي الْقَلِيل بأصوع ... وأصؤع بهمز الْوَاو فانهج ونمق) (وَإِن شِئْت فاقلبه فَيرجع آصعا ... لضابط تصريف فللعلم شوق) (وَصَاع كعام عينه فرع ضمة ... وتحريكه فتح فزنه وحقق) (وَجمع سَوَاء فَالَّذِي مِنْهُ جامد ... يأسوية علم يُقَاس فَفرق) (ومشتقه وزن الْخَطَايَا قِيَاسه ... سواسية ثقل فبالحق فانطق) (ومقصد من فِي العوذ بَدْء لغاية ... فإبليس مبدأ العوذ عِنْد الْمُوفق) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 انْتِقَاض ولي الْعَهْد مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَأْمُون على أَبِيه الْمَنْصُور وَمَا آل إِلَيْهِ أمره فِي ذَلِك كَانَ الْمَأْمُون كَمَا تقدم ولي عهد أَبِيه الْمَنْصُور وَكَانَ خَلِيفَته على فاس وأعمالها سَائِر مُدَّة أَبِيه وَكَانَ للمنصور اعتناء تَامّ بِهِ واهتمام بِشَأْنِهِ حَتَّى قيل إِن الْمَنْصُور كَانَ لَا يخْتم على صندوق من صناديق المَال إِلَّا قَالَ جعل الله فَتحه على يَد الشَّيْخ رَجَاء أَن يقوم بِالْأَمر بعده فَلم يساعد الْقدر وَخرج الْأَمر كَمَا قَالَ الْقَائِل (مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ ... تجْرِي الرِّيَاح بِمَا لَا تشْتَهي السفن) فأساء الْمَأْمُون السِّيرَة وأضر بالرعية قَالَ اليفرني وَكَانَ فسيقا خَبِيث الطوية مُولَعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا للدماء غير مكترث بِأُمُور الدّين من الصَّلَاة وشرائطها وَلما ظهر فَسَاده وَبَان للنَّاس عواره نَهَاهُ وَزِير أَبِيه الْقَائِد أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم السفياني عَن سوء فعله فَلم ينْتَه وَاسْتمرّ على قبح سيرته فَأَعَادَ عَلَيْهِ اللوم فلح فِي مذْهبه وَلما أَكثر عَلَيْهِ من التقريع سقَاهُ السم فَكَانَ فِيهِ حتف الْقَائِد الْمَذْكُور وَمِمَّا أنكر عَلَيْهِ أَنه قبض على كَاتب أَبِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى وَهُوَ مؤلف كتاب الْمَمْدُود وَالْمَقْصُود من سناء السُّلْطَان الْمَنْصُور ووظف عَلَيْهِ أَمْوَالًا وابتزه ذخائره حَتَّى كَانَ مِمَّا أَخذ مِنْهُ ثَمَانُون حسكة مذهبَة وَمِائَة تخت من الملف الْمُخْتَلف الألوان فَلَمَّا كثرت قبائحه وترددت الشكايات لِأَبِيهِ كتب إِلَيْهِ لينكف عَن غيه وينزجر عَن خبثه فَمَا زَاده التحذير إِلَّا إغراء فَلَمَّا رأى الْمَنْصُور أَنه لم يكترث بأَمْره وَلم ينزجر عَن قبائحه عزم على التَّوَجُّه إِلَى فاس بِقصد أَن يمكر بِهِ ويؤدبه بِمَا يكون رادعا لَهُ فَسمع الشَّيْخ بذلك فَجمع عساكره وهيأ جنده وَدفع الْمُرَتّب لأَصْحَابه وَكَانَ عدد جَيْشه فِيمَا قيل اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا كلهم بكساوى الملف وَالْحَرِير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 على أحسن شارة وأكمل زِيّ وعزم أَنه إِن بلغه خُرُوج أَبِيه من مراكش أَن يتَوَجَّه فِي أَصْحَابه إِلَى تلمسان ويستجير بِالتّرْكِ فَلَمَّا بلغ الْمَنْصُور مَا عزم عَلَيْهِ الشَّيْخ من الذّهاب إِلَى تلمسان تخلف عَن الْخُرُوج من مراكش وَكتب إِلَى الشَّيْخ يلاطفه ويأمره أَن لَا يفعل وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى لَهُ عَن خراجهما وَقَالَ لَهُ قد سوغتكه وَلَا أطالبك فِيهِ وَمرَاده بذلك أَن تسكن نفرته وَيرجع إِلَيْهِ عقله فأظهر الشَّيْخ امْتِثَال الْأَمر وَخرج يؤم سجلماسة فَمَا انْفَصل عَن فاس بِشَيْء يسير حَتَّى نَدم وَرجع إِلَيْهَا وَعَاد لما كَانَ عاكفا عَلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور أَعْيَان مراكش وعلمائها فنصحوه ووعظوه وخوفوه سخط وَالِده وَحَذرُوهُ عَاقِبَة العقوق وَلم يألوا جهدا فِي نصحه فوجوده مَشْغُول الْقلب عَن نصيحتهم مغمور الذِّهْن بِخِلَاف قَوْلهم إِلَّا أَنه أظهر الرُّجُوع عَمَّا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ من الْفِرَار عَن أَبِيه وأقصر فِي الظَّاهِر عَن بعض تِلْكَ الْمسَاوِي فَرجع الْوَفْد إِلَى الْمَنْصُور وَقَالُوا لَهُ إِنَّه قد تَابَ وَحسنت حَاله واطمأنت نَفسه وَأَنه وَاقِف عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي فَلم يطمئن الْمَنْصُور لقَولهم وَقَالَ لَهُم لَعَلَّ هَذَا إطفاء لنار الشحناء وَكذب لإِصْلَاح الْبَاطِن وصمم على الْمَكْر بالشيخ فَكتب إِلَيْهِ كتابا طَويلا يلومه فِيهِ على بعض الْأَشْيَاء وَفِي ضمن ذَلِك تسكين خاطره حَتَّى يبغته على حِين غَفلَة وَنَصّ الْكتاب من عبد الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ الشريف الحسني أيد الله أوامره وظفر عساكره إِلَى ولدنَا وَولي عهدنا الْأَمِير الْأَجَل الْأَفْضَل الْأَكْمَل الْأَعَز بَابا الشَّيْخ وصل الله كمالكم وسنى من خير الدَّاريْنِ آمالكم وَسَلام عَلَيْكُم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حَضْرَة مراكش حاطها الله وَلَا جَدِيد إِلَّا مَا عوده مَوْلَانَا من الْخَيْر لله الْحَمد وَله الْمِنَّة هَذَا وَالَّذِي أوجبه أسعدكم الله وكلاكم أَنه بلغنَا أَنكُمْ قد استخدمتم هُنَاكُم جمَاعَة من أَوْلَاد طَلْحَة كأولاد أخي عَليّ بن مُحَمَّد وَأخي عَليّ بن مُلُوك وَغير هَؤُلَاءِ وَأَنَّك قد فرضت لَهُم فِي أعطياتهم نَحْو خَمْسَة آلَاف وَإِلَى هَذَا أَي مصلحَة ظَهرت لَك فِي اسْتِخْدَام هَؤُلَاءِ الْقَوْم حَتَّى تتحمل كلفة فرض هَذِه الْفُرُوض بل مَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فِي ذَلِك إِلَّا الْفساد الْبَين لِأَن هَذَا الَّذِي تعرضتم لَهُ لَا يَفِي بِهِ الْمغرب وَلَا يقوم مَعَه بكم شَيْء وَمَسْأَلَة هَؤُلَاءِ أَوْلَاد طَلْحَة إِن كنت رَأَيْت استخدامنا وَأَرَدْت تقليدنا فِي ذَلِك واقتفاء سيرتنا فِيهِ فَاعْلَم أَن بَيْننَا وَبَيْنكُم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فرقا من وُجُوه مِنْهَا إِن مراكش لَيست كفاس وَإِن خدمتهم هُنَا لبعدهم عَن بِلَادهمْ لَيست كخدمتهم هُنَاكَ وَأَيْضًا هَؤُلَاءِ النَّاس أَنا أعرفهم وَكنت فِي بِلَادهمْ وَهَذِه الْخدمَة كَانُوا قد طلبوها مني وَأَنا هُنَاكَ فوعدتهم إِذْ لَا يمكنني وَأَنا ببلادهم إِلَّا مساعفتهم فَلَمَّا جاؤوا الْيَوْم وطالبونا بالوعد لم يُمكن إِلَّا الْوَفَاء لَهُم بِهِ فَعَلَيهِ شرطنا عَلَيْهِم مراكش وسكناها وعَلى هَذَا الشَّرْط استخدمناهم وَمَعَ هَذِه الْوُجُوه كلهَا والاعتبارات فقد نَدِمت وَالله على استخدامهم غَايَة الندامة وَكنت فِي ذَلِك على خطأ إِذا كَانَ الأولى إِن كُنَّا حاسناهم وتركناهم فِي الْخدمَة وَأما أَنْت فَفِي مندوحة عَن هَذَا كُله لِأَنَّهُ لَا وعد لَك سَابق حَتَّى يلزمك الْوَفَاء بِهِ ويمكنك أَن تحيلهم على إذننا ومشورتنا فنكفهم عَنْك بِالشّرطِ الَّذِي شرطنا عَلَيْهِم من الْخدمَة هُنَا بمراكش وسكناها وعَلى هَذَا الشَّرْط استخدمنا مِنْهُم من استخدمنا وَإِلَى هَذَا فَالَّذِي نؤكد بِهِ عَلَيْك أَن تنقصهم من الْخدمَة وَلَا تستخدم مِنْهُم حَتَّى فَارِسًا وَاحِدًا أصلا من الَّذين ذكرنَا لَك وَمن غَيرهم من كَافَّة أَوْلَاد طَلْحَة وأمرناك أَن تتنصل لَهُم فِينَا وَتقول لَهُم إِن السُّلْطَان مَنَعَنِي من استخدامكم هُنَا وتقرأ عَلَيْهِم كتَابنَا الْوَاصِل إِلَيْكُم صُحْبَة هَذَا لتتفادى مِنْهُم وَلَكِن الْجفَاء مَعَ هَذَا كُله لَا تظهره بل تحسن اللِّقَاء بهم وتواليهم بِإِظْهَار الْبشر وَالْقَبُول وَبَاب الطمع تسده دونهم وَالَّذِي شقّ علينا أعظم من هَذَا كُله واستنكرناه وَلم نجد صبرا عَلَيْهِ هُوَ مَا وجدناهم قد اطلعوا عَلَيْهِ أَعنِي أَوْلَاد طَلْحَة عَليّ بن مُحَمَّد وَغَيره من أحوالكم وأخباركم وألفيناهم قد توصلوا من ذَلِك إِلَى مَا لم يتَوَصَّل إِلَيْهِ أحد من كبار خدامكم أهل بِلَادنَا وخواص أهل بساطنا لِأَن أهل بِلَادنَا أحباء مَا لَهُم بحث إِلَّا فِي مصَالح أنفسهم هَؤُلَاءِ إِنَّمَا ينتقدون ويبحثون عَن الْغرَّة وعورات المملكة فَإِذا بكم تتخذونهم بطانة وأصدقاء وتطالعونهم بأحوالكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 وأموركم مَعَ أَن الْقَوْم لَا زَالُوا بِبِلَاد الْعَدو وَبَين أظهرهم وَمَا يطلعون عَلَيْهِ تحْتَاج تقطع وتجزم بِأَن التّرْك قد اطلعوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ شاهدوه ووقفوا بِأَنْفسِهِم عَلَيْهِ وَأَيْضًا لَو كَانُوا أصدقاء وَلَا يُرِيدُونَ بِنَا إِلَّا خيرا فالقوم عرب لَا يتحفظون على مَا يطلعون عَلَيْهِ وَلَا يفهمون مَا يحسن إخفاؤه وَلَا إبداؤه وَلَا يتمالكون قولا وَلَا نطقا وَبِالْجُمْلَةِ فقد أَحْرَقَتْنَا هَذِه الْمَسْأَلَة وتفطرت لَهَا أكبادنا وَصَارَت قُلُوبنَا مِنْهَا مطعونة وَمَا عنْدكُمْ علم بِأَن النَّاس كَانُوا يتحفظون فِي أقل الْأُمُور أَن يطلع عَلَيْهَا الْأَجَانِب وَإِن كَانُوا أحب من كل محب وَأقرب من كل قريب وَهل مَا عنْدكُمْ علم بِأَنا أخانا بَابا مَنْصُور كَانَ عرض لَهُ غَرَض ضَعِيف جدا أَرَادَ أَن يَطْلُبهُ من أخينا بَابا عبد الله وَحضر فِي الْمجْلس مَنْصُور بن المزوار فَلم يرد بَابا مَنْصُور لفطنته أَن يذكر ذَلِك حَتَّى يشاور من بإزائه لِئَلَّا يكون عيب فِي ذكر ذَلِك بمحضره فَعَلَيهِ شاور الْقَائِد دحو بن فرج كَانَ بإزائه فَقَالَ لَهُ هَذَا رجل براني فَلَا تطلب شَيْئا قدامه على أَن مَنْصُور بن المزوار هَذَا كَانَ مَعَ أسلافنا من أقرب مَا إِلَيْهِم من خَواص الخدام أهل بساطنا محبَّة وقربا لِأَنَّهُ أسلف مَعَهم خدمَة عَظِيمَة فقد كَانَ عدوا للترك وَبَينه وَبينهمْ أَرْوَاح وَحضر مَعَ أخينا بَاب حمو الحران جَمِيع مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْبِلَاد أَيَّام استيلائه على الْمغرب الْأَوْسَط ثمَّ مَعَ بَابا عبد الْقَادِر كَذَلِك وَشرب مَعَهم الحلوة والمرة وَلما جَاءَ من تلمسان جَاءَ بأولاده مِنْهَا راحلا كَمَا جَاءَ مِنْهَا بَابا عبد الله بأولاده وكما جَاءَ مَعَهم خدامنا أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَمَا زَالَ على الْخدمَة وَالْوَفَاء حَتَّى حصلت لَهُ يَد عَظِيمَة مَعَ أسلافنا وناهيك بِمن بلغ إِلَى أَن قلدوه حَاضِرَة تازا ثمَّ بِلَاد الفحص الَّتِي لَا تُعْطى كلتاهما إِلَّا لأَقْرَب الخدام الموثوق بمحبتهم وَخدمَتهمْ وقربهم وَمَعَ بُلُوغه إِلَى هَذَا الْمبلغ كُله محبَّة وصداقة وهجرة وانقطاعا حَتَّى انه فِي دُخُول صَالح رَئِيس مَدِينَة فاس رَحل بأولاده مَعَ السُّلْطَان إِلَى هُنَا كَمَا فعل أهل هَذِه الْبِلَاد وَحين دَخَلنَا نَحن من جِهَة الشرق لفاس رحلوا أَيْضا مَعَ صَاحب الْجَبَل إِلَى مراكش وَلَا يعدوا أنفسهم من هَذَا الْجَانِب أبدا فِي الحَدِيث الْقَدِيم ثمَّ إِن النَّاس استبعدوا أَن يطلبوا أقل الْمسَائِل بمحضره وَقَالُوا إِنَّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 براني فضلا عَن هَؤُلَاءِ الَّذين مَا زَالُوا إِلَى الْيَوْم فِي بِلَاد الْعَدو يباكرونه ويراوحونه فَإِذا بكم تَنْزِلُونَ مَعَهم إِلَى أَن تطالعوهم على أُمُوركُم ويتوصلوا إِلَى الْمعرفَة بأحوالكم فَمَا تمالكنا لهَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَا وجدنَا عَلَيْهَا صبرا وَمن جملَة الْأُمُور الَّتِي غاظتنا وَقُلْنَا كَيفَ يتَوَصَّل الرجل البراني إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأُمُور أَن عَليّ بن مُحَمَّد كَانَ يتَكَلَّم يَوْمًا مَعنا وَأخذ يثني عَلَيْكُم فِي نجدتكم وصبركم عِنْد الشدَّة وسخائكم عِنْد الْحَاجة ثمَّ قَالَ إِلَّا أَن الْخَيل لَيست عِنْده لَا فِي الْحَرَكَة الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة لِأَن الْقَبَائِل أهل الْخَيل امْتَنعُوا من الْحَرَكَة مَعَه وَهِي الَّتِي غاظتني وَقلت كَيفَ يتَوَصَّل الرجل البراني إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأُمُور حَتَّى أننا مَا وجدنَا إِلَّا الرَّد عَلَيْهِ وَعكس مَا عرفنَا أَنهم اعتقدوه وَقُلْنَا اللَّهُمَّ نِسْبَة التَّقْصِير إِلَيْكُم وَلَا اعْتِقَادهم خلو الْبِلَاد من الْخَيل لأننا فهمنا مِنْهُم ذَلِك وَلِهَذَا أَجَبْته وَقلت لَهُ إِن ولدنَا لم يعطهم شَيْئا وَأعْطى من لَا يسْتَحق من ضعفاء القواد المعروفين بِأَكْل المَال وَعدم المخزنية وَلَو أعْطى تِلْكَ الْقَبَائِل لحشرها عَلَيْهِ لِأَن أَوْلَاد مُطَاع عِنْدهم من الْخَيل نَحْو الثَّلَاثَة آلَاف وَعند أَوْلَاد أبي عَزِيز نَحْو ألف وَنصف وَعند الغربية وَعند أَوْلَاد عمرَان وَعند عَبدة وَعند الشياظمة وَعند أَوْلَاد أبي رَأس وَعند أَحْمَر وَعند المنابهة أهل سايس وَعند المنابهة أَصْحَاب عمر بن مُحَمَّد عبو وَجعلت أعدد لَهُ قبائل السوس وقبائل مراكش وأحصي لَهُ خيلهم بِمَا بَهته وَقلت لَهُ لَو أنصفهم لحرك مِنْهُم مَعَه سِتَّة عشر ألفا أَو أَكثر وَيكون قد مَلأ بهم تِلْكَ الْبِلَاد وسال عَلَيْهَا من سيل العرم لَا فِي الْحَرَكَة لأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة وَلَو وَجه إِلَيْهِم المحركين وَالرُّمَاة لأتوه أَيْضا بِلَا خلاص وَإِلَى هَذَا نوصيكم على الْمُحَافظَة من أُولَئِكَ النَّاس وَمن رفع الْحجاب لَهُم عَن أُمُوركُم والاطلاع على أحوالكم وَعدم الْغَفْلَة عَن أَمْثَال هَذَا وَاعْلَم أَن من جملَة مَا بلغنَا أَيْضا أَن الْخَلْط رجعُوا كلهم رُمَاة على يَد مصطفى باشا مَعَ حَدِيث عَهدهم بِالْفَسَادِ وَالْخلاف وَكُنَّا انتشبنا مَعَهم بالعودات فَإِذا بهم الْيَوْم بالمدافع وعدة النَّار وَهل هَذَا يجوز عَلَيْكُم حَتَّى تسمحوا فِيهِ مَعَ أَن هَذِه الْمسَائِل لَيست بغائبة عَنْكُم سمعتموها بِالسَّمَاعِ فَقَط وَلَا طَوِيلَة عهد حَتَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 تنساها بالْأَمْس شاهدت وباشرت وَرَأَيْت فَمَا الَّذِي أنساك فعلهم وَمَا زَالَ جرحهم الْآن لم يبرأ لِأَن خُرُوج الْقَائِد مُؤمن الْخَارِج الْآن مَا كَانَ إِلَّا إِلَيْهِم والآن نؤكد عَلَيْك أَن تنقصهم من الْخدمَة وَلَا تسمع لمصطفى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقد سمعنَا أَيْضا أَن قواد الْفساد الَّذين عنْدكُمْ من أَوْلَاد حُسَيْن قد صَارَت جُمْلَتهمْ من بَاب الْخَمِيس إِلَى دَار الدبيبغ وكأنكم نسيتم أَيْضا مَا عمل أَوْلَاد حُسَيْن بالْأَمْس دون بعد من النهب وأضرموا من الْفساد فِي الْبِلَاد حَتَّى ينزلُوا تِلْكَ الْمنَازل وَإِلَى هَذَا فساعة وَصله إِلَيْكُم تقبض على قواد الْفساد هَؤُلَاءِ خُصُوصا أَحْمد بن عبد الْحق من أَوْلَاد يحيى بن غَانِم الَّذِي كَانَ أَبوهُ حاجبا عِنْد المريني فَهُوَ أصل الْفساد ثمَّ لَا تتْرك لقبائلهم جنَاحا وَاحِدًا وزد للقائد مُؤمن بن مُلُوك ألف رام ليستوفي لكم الْغَرَض فِي هَؤُلَاءِ وأمثالهم من كل مَا تَأمره بِهِ لِأَن بَقَاء الرُّمَاة هُنَالك مَا فِيهِ إِلَّا الِاشْتِغَال بِالْفَسَادِ فِي الْمَدِينَة فتحتاج أَن تتولاهم بِالْقَتْلِ كل يَوْم بَاطِلا فَكَانَ خُرُوجهمْ إِذْ ذَاك دفعا لمضرتهم وجلبا للْمصَالح بهم وَحَتَّى الْكَاتِب اللَّائِق بأمثالكم ورسائلكم لم يكن عنْدكُمْ لِأَن كتبكم تَأتي بِخَط سَالم وَهُوَ غير عَارِف بالإنشاء وَتارَة بِخَط الكريني وَهُوَ جَاهِل مَعَ أَنَّك لما كنت خليفتنا وَولي عهدنا كنت بصدد أَن يكْتب لَك كل أحد لَا صَاحب الجزائر وَلَا صَاحب تونس وَحَتَّى صَاحب التّرْك وَصَاحب النَّصَارَى وكل من يكْتب لنا من مُلُوك الأَرْض بصدد أَن يكْتب لَك فتحتاج حِينَئِذٍ إِلَى من يحسن الْجَواب عَنْك لكل من يكْتب إِلَيْك وَيكون أَيْضا مِمَّن يوثق بِهِ فِي الْمُحَافظَة على أسراركم وَإِلَى هَذَا فَلَا بُد من تعْيين قَائِد الْمحلة وحاجب وَكَاتب سرك وَصَاحب مشورك وَصَاحب الْمَظَالِم كَمَا هُنَا هُوَ عندنَا السَّيِّد عَليّ بن سُلَيْمَان وَاعْلَم أَن مِمَّا تحْتَاج أَن ننبهك عَلَيْهِ مَسْأَلَة القواد الَّذين يُرِيدُونَ أَن يحملوك أثقال أَوْلَادهم مثل مَا فعلت فِي أَوْلَاد الْقَائِد بركَة وإخوتهم الَّذين استخدمتهم وَجعلت لَهُم خَمْسمِائَة أُوقِيَّة فنؤكد عَلَيْك أَن لَا تستخدم مِنْهُم أحدا فَمَا أعطيناه سلا إِلَّا ليرْفَع فِيهَا أَوْلَاده وَإِخْوَته وَكَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 الحكم فِي أَمْثَاله مِمَّن أعطيناه عملا وقلدناه قيادة وَمن جملَة من نحذرك من استخدامهم فِي الرماية أهل الْجبَال من أهل الصحفة وَالدِّينَار فَلَا تستخدموا مِنْهُم أحدا وَإِلَّا فاعلموا أَنكُمْ مَا أردتم حِينَئِذٍ أَن يغرموا لكم وَلَا يعطوكم شَيْئا وَإِن أردتم الْخدمَة فهاهم أهل هَذِه الْبِلَاد مثل أهل السوس وَأهل درعة وَأهل مراكش فَكل مَا تستخدمون من هَؤُلَاءِ فَلَا عَلَيْكُم وَإِذا لم يكن من هَؤُلَاءِ وَكَانَ ولابد من غَيرهم فَمن أهل فاس سكان الْحَاضِرَة وَأما من عداهم فَلَا على أَن الرُّمَاة أهل السوس هَا هِيَ عندنَا كَثِيرَة فَكل مَا تُرِيدُ مِنْهُم عرفنَا نبعثهم إِلَيْك ونضيفهم إِلَى خدمتك ونؤكد عَلَيْك أَن تكْتب بِجَوَاب هَذِه الْأُمُور كلهَا فصلا فصلا مَعَ الْمَمْلُوك الْحَامِل لهَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله ولابد ولابد وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالله يحرس بمنه علاكم وَالسَّلَام وَفِي مهل جُمَادَى الأولى من عَام أحد عشر وَألف اه ثمَّ لم يلبث الْمَنْصُور أَن بعث إِلَى وَلَده زَيْدَانَ وَكَانَ خَلِيفَته على تادلا يَأْمُرهُ أَن يُرْسل مائَة من الفرسان على طَرِيق تاقبلات وكل من وجوده قَاصِدا للغرب من نَاحيَة مراكش يردونه وَأرْسل مَوْلَاهُ مَسْعُود الدوري على طَرِيق سلا يفعل مثل ذَلِك وَخرج الْمَنْصُور من مراكش فِي اثْنَي عشر ألفا أَوَائِل جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وجد السّير فَلم يمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى نزل بالدوح مَوضِع قريب من فاس وَالشَّيْخ فِي جَمِيع ذَلِك لَا شُعُور لَهُ بِخُرُوج أَبِيه وَلَا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَبعث يَوْمًا عيونه يرصدون لَهُ من قدم من مراكش ويكشفون عَن الْخَبَر فَمَا راعهم إِلَّا الأباطح تسيل بأعناق الْجِيَاد وأفواه الشعاب تقذف بالجيوش من بطُون الأودية والوهاد لأَنهم كَانُوا قد عميت عَلَيْهِم الأنباء بِقطع الْمَنْصُور للسابلة فَرَجَعُوا إِلَى الشَّيْخ مُسْرِعين والرعب يفت فِي أعضادهم ويطفئ جذوة عزائمهم فقصوا عَلَيْهِ مَا دهمهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا رَأَوْا فَعلم أَنه محاط بِهِ فَلم يُمكنهُ إِلَّا الْفِرَار فَركب من حِينه وفر إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ الصَّالح أبي الشتَاء من بِلَاد فشتالة قرب نهر ورغة وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الشتَاء قد توفّي قبل ذَلِك سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة كَمَا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 الْمرْآة فَنزل بالزاوية وَمَعَهُ بطانته وَأَصْحَاب دَخلته من الْأَحْدَاث وقرناء السوء فَبلغ خَبره الْمَنْصُور فَبعث إِلَيْهِ الباشا جؤذرا مَعَ الْقَائِد مَنْصُور النبيلي وَحلف لَهما بأغلظ الْأَيْمَان إِن لم يأتياه بِهِ ليمكرن بهما ويجعلهما عِبْرَة فذهبا إِلَيْهِ فَامْتنعَ من الدُّخُول فِي يدهما وانعزل فِي أَصْحَابه حَتَّى ناوشوه الْقِتَال وتراموا بالنبال ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وَأتوا بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فِي خبر طَوِيل فَأمر بِهِ إِلَى مكناسة فسجن بهَا وَدخل الْمَنْصُور دَار الْملك من حَضْرَة فاس الْجَدِيد وشكر الله على مَا أولاه من الظفر والنصر من غير إِرَاقَة دم وَتصدق فِي ذَلِك بأموال عَظِيمَة وَكتب بذلك إِلَى وَلَده أبي فَارس خَلِيفَته على مراكش يُعلمهُ بِمَا كَيفَ الله لَهُ من الظفر والنصر وَنَصّ الْكتاب إِلَى ولدنَا الْأَجَل الأرضى الْأَكْمَل الأسعد الأصعد الأمجد الأسمى الْأَسْنَى بَابا أبي فَارس وصل الله كمالكم وسنى بمنه آمالكم وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم أسعدكم الله من محلتنا السعيدة بالمستقى وَلَا شَيْء إِلَّا مَا جرت بِهِ الأقدار وَحكم بِهِ الْفَاعِل الْمُخْتَار وَمَا جَاءَ بِهِ من عجائب الدَّهْر اللَّيْل وَالنَّهَار وَهِي قَضِيَّة أخيكم الَّتِي ثارت إِلَيّ بهَا صروف الدَّهْر من مكمني وطلعت عَليّ من مأمني إِلَّا أَن الله تَعَالَى بصنعه الْجَمِيل كفانا أَولا ثمَّ شفانا آخرا لله الْحَمد دَائِما وَالشُّكْر واظبا وَشرح ذَلِك أسعدكم الله ووقاكم السوء إِن الْحَال كَانَ انْتهى فِي معالجة أمره الَّذِي تجاوزنا فِي وُجُوه الْخَيْر إِلَيْهِ حد الاستقصا وأتينا فِي محاولة استصلاحه من أَحْوَال السياسة المرجوة النجح بِمَا لَا يُحْصى إِلَى مَا كُنَّا سوغناه من ولَايَة سجلماسة بخراجها وخراج درعة وأبحنا لَهُ التَّوَجُّه إِلَيْهَا بجملته وَجمعه رَجَاء أَن تسكن بالانتباذ إِلَيْهِمَا نفرته وتطمئن نَفسه ويثوب إِلَيْهِ قلبه الطَّائِر ويراجعه أنسه الحائر فأظهر أَولا التَّوَجُّه إِلَيْهِمَا ونهض مرتحلا عَن فاس موريا بالقدوم عَلَيْهِمَا ثمَّ بدا لَهُ على الْحِين فكر رَاجعا إِلَى فاس ورجونا أَن يكون قد ذهب عَنهُ النفار والشماس وثاب لنَفسِهِ السّكُون والاستئناس فَإِذا بِهِ قد انطوى بِرُجُوعِهِ على خلاف مَا أظهر فأبدى مَا أضمر فَمَا كَانَ إِلَّا أَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 طَرَأَ عَلَيْهِ خبر نزولنا بالدوح فَلم يَتَمَالَك أَن أقلع لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس عشر شهر تَارِيخه إقلاعا أزعجه من الدَّار فريدا وطارت بِهِ النفرة إِلَى أَن حل بزاوية الشَّيْخ أبي الشتَاء وحيدا فتلاحق بِهِ من جَيش رماته اليكشارية ومتفرقة سماسرة الْفِتَن وطلائع الشؤم والمحن جمع عَظِيم وَعدد من كثرته لَا يريم فبادرت حِينَئِذٍ بتجهيز جؤذر باشا من غير إغفال فِي خَمْسمِائَة صبائحية وَمَعَهُ الْقَائِد مُؤمن بن مُلُوك فِي خَمْسمِائَة فَارس ثمَّ أردفناه ببعوث أخر تألبت إِلَيْهِ وتناثلت عَلَيْهِ تناهز الْأَلفَيْنِ ورماة بَابا زَيْدَانَ حفظه الله فأحدقت بِهِ من كل الْجِهَات وملكوا عَلَيْهِ الفجاج والثنيات وَنحن مَعَ ذَلِك خلال هَذِه الْأَحْوَال لم نهمل مُقَابلَة نفرته بالتسكين وَمَا يخشن من أَحْوَاله بالتليين بإرسال المرابطين تجاهه بمواثيق تهنيه وعهود تؤنسه وتقرب أمانيه رَجَاء أَن يثوب إِلَيْهِ ثائب استبصار أَو يخْطر لَهُ خاطر إقلاع عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وإقصار وقرناء السوء المتلاحقون بِهِ من جَيْشه يقدحون للشر نَارا ويزينون لَهُ عقوقا ونفارا فدهمتهم حِينَئِذٍ عساكرنا المظفرة بِاللَّه فِي مَصَافهمْ دونه ودارت بَين الْفَرِيقَيْنِ حَرْب عَظِيمَة فخمدت النَّار من وَقت الظّهْر إِلَى الْعَصْر فأظهر الله تَعَالَى فِئَة الْحق على فِئَة الْبَاطِل وَقضى بِمَا جرى بِهِ الْقَضَاء المحتوم الحكم الْعَادِل وكتبناه إِلَيْكُم وَقد حصل فِي القبضة كَمَا سبق بِهِ الْقَضَاء وَالْقدر وَجعل بمَكَان الِاحْتِيَاط عَلَيْهِ من مكناسة فَكَانَت مَشِيئَة الله فِي ذَلِك من إِحْدَى الْعَجَائِب العبر وعرفناكم أسعدكم الله لتستشعروا صنع الله فِي هَذِه الداهية الَّتِي فَجئْت بهَا الْأَيَّام ودهمت والغاشية الَّتِي اعتكرت وادلهمت وتقدروا مَا صنع الله فِي ذَلِك من حسن الْعَاقِبَة حق قدره وتشكروه فَهُوَ الجدير بجميل حمد كل لِسَان وشكره ونسأله تَعَالَى أَن يجعلكم فِي حيّز الْكِفَايَة وجانب الْوِقَايَة حَتَّى لَا تساؤوا بقريب مَأْمُون وَلَا بِبَعِيد مظنون وَفِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء الموفي عشْرين من جُمَادَى الأولى عَام أحد عشر وَألف اه ثمَّ إِن أم الشَّيْخ وَاسْمهَا الخيزران بعثت إِلَى أَعْيَان مراكش الَّذين قدمُوا مَعَ الْمَنْصُور ترغب إِلَيْهِم فِي أَن يشفعوا لولدها عِنْد أَبِيه ويعتذروا عَنهُ بِمَا يزِيل مَا فِي بَاطِنه عَلَيْهِ فتقدموا إِلَى الْمَنْصُور وَقَالُوا لَهُ إِن الشَّيْخ قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 صلحت حَالَته وَتَابَ مِمَّا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَأَنه نَدم على مَا فرط مِنْهُ فَقَالَ لَهُم اذْهَبُوا إِلَى مكناسة واختبروا أمره كَافِيا وانظروا هَل رَجَعَ عَن أباطيله وتنصل من أضاليله فَلَمَّا أَتَوْهُ وجدوه أَخبث مِمَّا تَرَكُوهُ وعاينوا مِنْهُ من القبائح مَا يقصر عَن وَصفه اللِّسَان فَلَمَّا جَلَسُوا إِلَيْهِ فِي محبسه لم يسألهم إِلَّا عَن أَصْحَاب بطانته وقرناء السوء من أهل غيه وَلم يظْهر الأسف إِلَّا على تِلْكَ الْعِصَابَة ورآهم أهل الْإِصَابَة وَكَانَ من الْأَعْيَان الَّذين وجههم الْمَنْصُور أَولا وآخرا أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَأَوْلَاد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن ساسي وَأَوْلَاد الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار وَغَيرهم فَلَمَّا رجعُوا إِلَى الْمَنْصُور من مكناسة سَأَلَهُمْ عَن الْخَبَر فَنَافَقَ بَعضهم وَقَالَ وَجَدْنَاهُ تَائِبًا نَادِما على مَا صدر مِنْهُ وَتكلم بعض أَولا د الشَّيْخ ابْن ساسي فَقَالَ لَا وَالله لَا داهنت فِي حق الله وَلَا واجهت الْأَمِير بالخديعة إِن ولدك لَا نَأْذَن لَك أَن تؤمره على اثْنَيْنِ وَلَا تحكمه على عِيَال الله فَإنَّا وَجَدْنَاهُ خَبِيث الطوية قَبِيح السريرة لم ينْدَم على مَا فرط مِنْهُ فَسكت الْحَاضِرُونَ وَلم يتَكَلَّم أحد فَقَالَ لَهُم الْمَنْصُور افتوني فِي أَمر هَذَا الْوَلَد فَلم يجبهُ أحد إِلَّا باشاه عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ الرَّأْي أَن تقتله فَإِنَّهُ لَا ينجبر أمره وَلَا يُرْجَى صَلَاحه وَقد رَأَيْت مَا صنع فَلم يعجب الْمَنْصُور ذَلِك وَقَالَ كَيفَ أقتل وَلَدي ثمَّ بعث إِلَى مكناسة يَأْمر بالتضييق على الشَّيْخ وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ فِي ذَلِك ثمَّ خرج الْمَنْصُور فَنزل بمحلته فِي ظهر الزاوية قَاصِدا مراكش بعد أَن اسْتخْلف ابْنه زَيْدَانَ على فاس وأعمالها وَقد كَانَ كتب إِلَى وَلَده أبي فَارس خَلِيفَته على مراكش برسالة أَجَابَهُ فِيهَا عَمَّا كتب بِهِ إِلَيْهِ فِي شَأْن الوباء الَّذِي ظهر بالسوس ومراكش هَل يفر مِنْهُ أم لَا وَنَصهَا من عبد الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله الإِمَام الْخَلِيفَة الْمَنْصُور بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ الشريف الحسني أيد الله بعزيز نَصره أوامره وظفر عساكره وأسعد بمنه موارده ومصادره إِلَى ولدنَا الْأَجَل الْأَفْضَل الْأَكْمَل الْأَعَز الأبر الأسعد الأمجد الأرضى بَابا أبي فَارس وصل الله تَعَالَى عنايتكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 ووالى بمنه رعايتكم وَسَلام عَلَيْكُم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هَذَا إِلَيْكُم من حضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه الْمَدِينَة الْبَيْضَاء حاطها الله عَن الْخَيْر والعافية وَنعم الله المتوافية لله الْحَمد وَله الْمِنَّة وَأَنه اتَّصل بعلي مقامنا كتابكُمْ الْأَعَز عَشِيَّة يَوْم الثُّلَاثَاء فكتبنا إِلَيْكُم صَبِيحَة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَلَوْلَا أَنه وصل يَوْم الدِّيوَان مَا كُنَّا نؤخر كتب الْجَواب لكم عَن سَاعَة وُصُوله فِي الْيَوْم بِنَفسِهِ حرصا منا بذلك على الْمُبَادرَة بوصوله إِلَيْكُم فِي الْحِين وَإِلَى هَذَا أسعدكم الله أَن أول مَا تبادرون بِهِ قبل كل شَيْء هُوَ خروجكم إِذا لَاحَ لكم شَيْء من عَلَامَات الوباء وَلَو أقل الْقَلِيل حَتَّى بشخص وَاحِد وَيبقى فِي القصبة وصيفنا مَسْعُود مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد بن مُوسَى بن أبي بكر وتتركوا مائَة رام تثقون بهَا من رماتكم مَعَ أَصْحَاب السقيف وتتكلون على الله وتخرجون بالسلامة ثمَّ لَا تعملوا كعملنا فِي الِاقْتِصَار على الرميلة والتقلب بهَا بل لَا تَزِيدُوا إِذا خَرجْتُمْ على الْمقَام أَكثر من يَوْمَيْنِ ثمَّ اطووا المراحل إِلَى أَن تنزلوا بسلا وتدخلوها دُخُول هناء وعافية إِن شَاءَ الله وَهُنَاكَ يكون لقاؤنا بكم لِقَاء يمن وسعادة إِن شَاءَ الله ثمَّ لَا تغفلوا عَن اسْتِعْمَال الترياق أسعدكم الله فلازموه وَإِذا استشعرتم مِنْهُ حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الْوَزْن الْوَصْف الْمَعْرُوف مِنْهُ وَلَا تهملوه وَأما ولدك حفظه الله فَلَمَّا كَانَ من سنّ الشبيبة بِحَيْثُ مَنعه الْحَال من المداومة على الترياق فها هِيَ الشربة الْمَعْرُوفَة النافعة لذَلِك قد تركناها كَثِيرَة هُنَاكُم عِنْد التّونسِيّ فَيكون يستعملها هُوَ وَالْأَبْنَاء الصغار المحفوظون بِاللَّه حَتَّى إِذا أحس بِبرد الْمعدة من أجلهَا تعطوه الترياق الْمرة والمرتين على قدر الْحَاجة فَيَعُود إِلَيْهَا وَالله تَعَالَى بمنه وبحرمة صفوة خلقه خير الْبشر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَلَّى حمايتكم جَمِيعًا ويحلكم من جميل كلاءته ورعايته حصنا منيعا وَأَن يعافي الْبِلَاد والعباد بمنه وفضله والسلعة أسعدكم الله تبادرون بإرسالها إِلَيْنَا وَكَذَلِكَ الْقَائِد مَسْعُود النبيلي تعزمون بإرساله إِلَى حَيْثُ أمرناه بالْمقَام من خنق الْوَادي بالسوس وَطَرِيق تاحظيشت وَاعْلَم أسعدكم الله مَا قطّ أرضانا أَن أمرهَا يتم وَقبل عقلنا الْكَرِيم إِن أهل درن يتجرون بِسَبَبِهَا وَلَكِن هَذَا سَبَب يكون حجَّة عَلَيْهِم إِن شَاءَ الله وَأَنْتُم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 تحاولون أسعدكم الله سلوك النَّاس على بويباون على الْعَادة وتجهدوا فِي أَن تكون إِن شَاءَ الله سابلة وأولائكم أَعنِي أهل طَرِيق تاحظيشت يسكت عَنْهُم حَتَّى نصل بِخَير وعافية لتلكم الْبِلَاد إِن شَاءَ الله وَمَسْأَلَة أيسي الَّتِي كتبت لكم من خنق الْوَادي على الزَّرْع وَأَنه مَا عِنْدهم مَا يكفيهم مِنْهُ سوى شهر فَلَقَد كُنَّا كتبنَا لكم أسعدكم الله على حمل الزَّرْع إِلَيْهِم على الْبَحْر فَإِن كَانَ قد تيَسّر ذَلِك فَيكون قد بلغ إِلَيْهِم وَإِن لم يكن ذَلِك قد تيَسّر فلتأمر أيسي هَذَا بِالتَّدْبِيرِ على الزَّرْع وَلَو بِالشِّرَاءِ وألزموه عهدته وشددوا عَلَيْهِ فِي أمره وخالنا الْقَائِد حمو بن مُحَمَّد الَّذِي استأذنكم فِي الْخُرُوج عَن ذَلِكُم الْمَرَض من المحمدية فَإِذا تفاحش فَلَا عَلَيْهِ فِي الْخُرُوج ويلتحق بِأَهْل تِلْكَ الْمحلة بخنق الْوَادي وَيتْرك فِي القصبة أهل الأندلس مَعَ قائدهم وَمَسْأَلَة مُؤمن بن مَنْصُور مَعَ هكسيمة الَّتِي ذكرْتُمْ أسعدكم الله إِن مُؤمنا قد تثاقل بدمنات بِسَبَب مرض ألم بِهِ حَتَّى جَاءَ بِهِ شاوش وَإِن أَخَاهُ ذَلِكُم المفسود بعث إِلَيْهِ يلتقي مَعَه بتامصلوحت فعلى بركَة الله والحاضر بَصِيرَة وَهَذَا مُوجبه إِلَيْكُم وَالله يصل بمنه رعايتكم وَالسَّلَام وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر رَمَضَان الْمُعظم عَام أحد عشر وَألف عرفنَا الله خَيره وبركته وَبعد أَن كتبنَا لكم هَذَا بلغنَا كتابكُمْ وَنحن نجيبكم عَمَّا تحتاجون إِلَى الْجَواب عَنهُ والبطاقة الَّتِي ترد عَلَيْكُم من السوس من عِنْد الْحَاكِم أَو ولد خالكم أَو غَيرهمَا لَا تقْرَأ وَلَا تدخل دَارا بل تُعْطى لكاتبكم هُوَ يتَوَلَّى قرَاءَتهَا ويعرفكم مضمنها وَلأَجل إِن كاتبكم يدْخل مجلسكم ويلابس مقامكم حَتَّى هُوَ لَا يفتحها إِلَّا بعد أَن تغمس فِي خل ثَقِيف وتنشر حَتَّى تيبس وَحِينَئِذٍ يقْرؤهَا ويعرفكم بمضمنها إِذْ لَيْسَ يأتيكم من السوس وَالله سُبْحَانَهُ أعلم مَا يُوجب الكتمان عَن مثل كتابكُمْ وَقد طالعنا كتاب ولد خالكم أَحْمد بن مُحَمَّد بن الصَّغِير وَصَحَّ عندنَا من فحوى كَلَامه مَا ذكرْتُمْ عَنهُ من أَنه أَكثر من خبر الوباء ليجده ذَرِيعَة لِلْخُرُوجِ من السوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وَالَّذِي تأمرونه بِهِ أَنكُمْ تحذرونه من الْقدوم عَلَيْكُم بمراكش وَإِن ذَلِك لَا يرضينا مِنْهُ وَكَيف يروم الْخُرُوج من مَوضِع عَيناهُ لَهُ من غير أمرنَا لَا سِيمَا مَعَ غيبتنا عَن الْبِلَاد وَأَنه إِن فعل ذَلِك لَا محَالة تسْقط مَنْزِلَته عندنَا ثمَّ لَا يعود أبدا إِلَيْهَا إِلَّا أَن تفاحش الْمَرَض بتلكم النَّاحِيَة فَلَا عَلَيْهِ فِي الْخُرُوج والتنقل قرب الْبِلَاد أَو يلْتَحق بمحلة أَصْحَابه الَّذين بخنق الْوَادي وَأما مَا ذكرْتُمْ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الوردي فقد طالعنا الجريدة الَّتِي جرد لكم وتصفحناها ورأينا أَن جلّ مَا يَطْلُبهُ بهَا لَا يُمكن مَعَ غيبتنا وَالَّذِي نأمركم بِهِ فِي مَسْأَلته أَنكُمْ تحاولون فِي رده لموضعه فَإِنَّهُ بذلك الْموضع أليق من أَخِيه بِكَثِير وكل مَا يمكنكم من أغراضه المسطرة فاقضوه لَهُ وَمَا لَا يُمكن عدوه بِهِ عِنْد قدومنا إِن شَاءَ الله وَأما أَمر أخي أَحْمد بن الْحسن الَّذِي عَيناهُ لجباية درعة وذكرتم أَنه غير لَائِق بهَا وأنكم استصغرتموه عَن تِلْكَ العمالة فَلَا شكّ أَنه كَمَا ذكرْتُمْ وَلَكِن إِنَّمَا وَقع الِاخْتِيَار عَلَيْهِ لأمرين الأول الذِّمَّة لِأَنَّهُ بِمَالِه وَلَا نخشى إِن شَاءَ الله على مالنا الثَّانِي إِن خراج درعة سهل مَعْلُوم وَلَعَلَّه يكره هَذِه الْولَايَة وَيُحب الْجُلُوس بداره ويغري من يتَكَلَّم فِيهِ عنْدكُمْ فَإِن كَانَ من ذكره لكم مثل مَسْعُود أوتاودي فاتهمه وَقد طالعنا فِي جريدتكم أَنكُمْ وجهتم مَعَ زرع المعاصر مائَة رام وَهَذَا الَّذِي ذكرْتُمْ مَا نعلم أَنا كتبنَا لكم عَلَيْهِ قطّ وَإِنَّمَا كتبنَا لكم على الزَّرْع تحملونه فِي الْبَحْر برسم الْمحلة الَّتِي هُنَاكُم بخنق الْوَادي فَإِن كَانَ هُوَ هَذَا فَنحْن أردناه للمحلة وَإِن كَانَ غَيره فَعرفنَا بقضيته فَإِن زرع المعاصر إِنَّمَا يلْزم الْيَهُود وَالنَّصَارَى المكثرين للمعاصر وفيهَا أَيْضا مَا أخْبركُم بِهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى بِخَبَر مَا سقط من القنطرة وَإِنَّكُمْ عنفتموه على عدم الْمُبَادرَة وَقد أشكل علينا الْأَمر لأنكم لم تعرفوا مقامنا بالساقط هَل هُوَ من الْقَدِيم أَو من هَذَا الْإِصْلَاح الَّذِي أمرنَا بِهِ فَعرفنَا لنكون على بَصِيرَة من ذَلِك وفيهَا أَيْضا مَسْأَلَة أَوْلَاد طَلْحَة فدبروا عَلَيْهِم إِمَّا من عِنْد أيسي أَو غَيره حَتَّى لَا يرجعُونَ إِلَيْنَا شاكين وَولد إِبْرَاهِيم بن الْحداد إِلَى الْآن لم يصل وزمام الأسرى وصل وَأما الدراقة الَّتِي ذكرْتُمْ فها السلتة الْمعدة لَهَا عِنْد صَاحب بَيت ثيابنا فَوجه ليوسف العَبْد حَتَّى تكَلمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 ومره يُخرجهَا من عِنْده وركبها فِي موضعهَا وَلَا تركب الَّتِي عنْدكُمْ بل تمسكونها لأنفسكم وَاعْلَم أَنِّي تركت عِنْد أُولَئِكَ المعلمين أَعنِي معلمي بركاضو سلاتي برسم ابنتنا العزيزة طَاهِرَة صانها الله وكلاها وَحَيْثُ يفرغون من الدراقة اجمعهم عَلَيْهَا كي نجد ذَلِك طالعا إِن شَاءَ الله فَإنَّا قد أمرنَا بنسج درارق تلكم السلاتي هَذَا وَالْمرَاد أَن تَجِد السلاتي قد فرغ مِنْهَا إِن شَاءَ الله وَقصر الْخَيل مَعَ الْحمام حرض المعلمين على الْمُبَادرَة باشتغالهما بهما وحاول أَن تسقفوا ذَلِك البلاط الَّذِي يوالي سور القصبة من قصر الْخَيل والقبة الَّتِي فِيهِ لنجده كَامِلا إِن شَاءَ الله عِنْد قدومنا عَلَيْكُم وَحَتَّى سواري الرخام رَكبُوهَا فِي تِلْكَ الْجِهَة إِذا سقفتم وَلَا تزالوا تعرفونا بِمَا تزايد من الأشغال فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورين وأوصيكم أعزكم الله أَن تتفقدوا فرسنا الْأَحْمَر الصَّغِير وَلَا تتركوهم يعطونه القصيل لِئَلَّا يكثر لَحْمه ويزداد ألمه بل انْظُر لَهُ من يركبه كل يَوْم بل لَا تنْزع السرج بِالْكُلِّيَّةِ عَن ظَهره بَيَاض النَّهَار كُله أَو أَعْطوهُ لصَاحب المسرة يركبه فِي ذَهَابه وإيابه لداره والمسرة وأوصوه أَن لَا يركبه غَيره وَلَا ينزل عَن ظَهره النَّهَار كُله وأوصيكم أَيْضا إِذا ظهر الْمَرَض بتلكم النَّاحِيَة وخرجتم خُرُوج يمن وسلامة بحول الله وقوته أَن لَا تتركوا وراءكم بنت عمكم وَالِدَة ولدنَا الْعَزِيز بَابا عبد الْملك حفظه الله وامر يُوسُف العَبْد أَن يخرج لكم من عِنْد صَاحب بَيت الثِّيَاب الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من الترياق الْجَدِيد الَّذِي كَانَ بقبة المشور وَيدخل على أَيْدِيكُم لدارنا واستدعوا أم المَال قهرمانة الدَّار وأعطها إِيَّاه برسم أهل دَارنَا وأمرها أَن تعطيهم إِيَّاه فِي كل رَابِع من الْيَوْم الَّذِي يَأْكُلُونَهُ فِيهِ وَهِي أَيْضا تَأْكُل مِنْهُ وَالْعَبْد يُوسُف أَيْضا يَأْكُل مِنْهُ وَحَتَّى صَاحب السقيف أَعْطوهُ مِنْهُ أَعنِي مَسْعُود بن مبارك وَالله سُبْحَانَهُ يرعاكم ويتولى حفظكم أَنْتُم وَأَوْلَادكُمْ وَقد استودعناكم الله الَّذِي لَا تضيع لَدَيْهِ الودائع وَأَنْتُم فِي أَمَان الله وَحفظه وَالله سُبْحَانَهُ خليفتي عَلَيْكُم أَنْتُم فِي يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين وَالسَّلَام الأتم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 عَائِد عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته ونسلم على ولدنَا الْأَعَز الأرضى بَابا عبد الْملك وعَلى ابنتنا الرضية سيدة الْملك وَنحن فِي غَايَة الاشتياق والتوحش لَهَا جمع الله بكم الشمل جَمِيعًا آمين بِحرْمَة سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله خير آل وَالسَّلَام اه قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ قد وَقع فِي كَلَام الْمَنْصُور رَحمَه الله أَمْرَانِ يحتاجان إِلَى التَّنْبِيه عَلَيْهِمَا الأول إِذْنه لوَلَده أبي فَارس فِي الْخُرُوج من مراكش إِذا ظهر بهَا أثر الوباء وَلَو شَيْئا يَسِيرا وَهَذَا الْأَمر مَحْظُور فِي الشَّرْع كَمَا هُوَ مَعْلُوم ومصرح بِهِ فِي الْأَحَادِيث وَالثَّانِي أمره إِيَّاه أَن لَا يقْرَأ البطائق الْوَارِدَة عَلَيْهِ من السوس وَإِنَّمَا يتَوَلَّى قرَاءَتهَا كَاتبه بعد أَن تغمس فِي الْحل وَهَذَا عمل من أَعمال الفرنج وَمن يسْلك طريقهم فِي تحفظهم من الوباء الْمُسَمّى عِنْدهم بالكرنتينة وَقد اتّفق لي فِيهَا كَلَام أذكرهُ هُنَا تتميما للفائدة وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف عرض لنا سفر إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان الْمولى أبي عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الشريف أيده الله عز وَجل بمراكش المحروسة بِاللَّه فخرجنا من سلا أَوَاخِر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ومررنا فِي طريقنا على الْمُحب الْقَائِد الأنبل أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري بثغر الجديدة وَهُوَ يَوْمئِذٍ متول لعملها فأجل قدومنا على عَادَته حفظه الله فِي محبَّة الْعلم وَمن ينتمي إِلَيْهِ وَحضر مَعنا عِنْده بعض فُقَهَاء الْوَقْت وَكَانَت السّنة سنة وباء فجرت المذاكرة فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ النَّصَارَى فِي أَمر الكرنتينة من حبس الْمُسَافِرين وشذاذ الْآفَاق عَن الْمُرُور بالسبل وَالدُّخُول إِلَى الْأَمْصَار والقرى وَمنع النَّاس من مرافقهم وَأَسْبَاب معاشهم وَحصل التَّوَقُّف تِلْكَ السَّاعَة فِي حكمهَا الشَّرْعِيّ مَاذَا يكون لَو أجريت على قَوَاعِد الْفِقْه ثمَّ بعد ذَلِك بِنَحْوِ ثَلَاثَة أشهر وقفت على رحْلَة الْعَلامَة الشَّيْخ رِفَاعَة الطهطاوي الْمصْرِيّ فِي أَخْبَار باريز فرأيته ذكر فِي صدرها أَنه وَقعت المحاورة بَين الْعَلامَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد المناعي التّونسِيّ الْمَالِكِي الْمدرس بِجَامِع الزيتونة ومفتي الْحَنَفِيَّة بهَا الْعَلامَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد البيرم فِي إِبَاحَة الكرنتينة وحظرها فَقَالَ الْمَالِكِي بحرمتها وَألف فِي ذَلِك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 رِسَالَة واعتماده فِي الِاسْتِدْلَال فِيهَا على أَن الكرنتينة من جملَة الْفِرَار من الْقَضَاء وَقَالَ الْحَنَفِيّ بإباحتها وَاسْتدلَّ على ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة أَيْضا فَلَمَّا وقفت على هَذَا الْكَلَام تجدّد لي النّظر فِي حكم هَذِه الكرنتينة وَظهر لي أَن القَوْل بإباحتها أَو حرمتهَا مَنْظُور فِيهِ إِلَى مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من مصلحَة ومفسدة وَلَو مُرْسلَة على مَا هُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب مَالك رَحمَه الله ثمَّ يوازن بَينهمَا وأيتهما رجحت على الْأُخْرَى عمل عَلَيْهَا فَإِن استوتا كَانَ دَرْء الْمفْسدَة مقدما على جلب الْمصلحَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي أصُول الْفِقْه وَنحن إِذا أمعنا النّظر فِي هَذِه الكرنتينة وجدناها تشْتَمل على مصلحَة وعَلى مفْسدَة أما الْمصلحَة فَهِيَ سَلامَة أهل الْبَلَد المستعملين لَهَا من ضَرَر الوباء وَهَذِه الْمصلحَة كَمَا ترى غير مُحَققَة بل وَلَا مظنونة لِأَنَّهُ لَيست السَّلامَة مقرونة بهَا كَمَا يَزْعمُونَ وَأَنه مهما استعملها أهل قطر أَو بلد إِلَّا ويسلمون لَا دَائِما وَلَا غَالِبا بل الْكثير أَو الْأَكْثَر أَنهم يستعملونها ويبالغون فِي إِقَامَة قوانينها ثمَّ يصيبهم مَا فروا مِنْهُ كَمَا هُوَ مشَاهد وَمن زعم أَن السَّلامَة مقرونة بِهَذَا دَائِما أَو غَالِبا فَعَلَيهِ الْبَيَان إِذْ الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي فنتج من هَذَا أَن مصلحَة الكرنتينة مشكوكة أَو مَعْدُومَة وَإِذا كَانَت كَذَلِك فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا شرعا بل وَلَا طبعا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ من قبيل الْعَبَث وَأما الْمفْسدَة فَهِيَ دنيوية ودينية أما الدُّنْيَوِيَّة فَهِيَ الْإِضْرَار بالتجار وَسَائِر الْمُسَافِرين إِلَى الأقطار بحبسهم وتسويقهم عَن أغراضهم وتعطيل مرافقهم على أبلغ الْوُجُوه وأقبحها كَمَا هُوَ مَعْلُوم وَأما الدِّينِيَّة فَهِيَ تشويش عقائد عوام الْمُؤمنِينَ والقدح فِي توكلهم وإيهام أَن ذَلِك دَافع لقَضَاء الله تَعَالَى وَعَاصِم مِنْهُ وناهيك بهما مفسدتين محققتين ترتكبان لشَيْء يكون أَو لَا يكون فَإِن الْعَامَّة لقُصُور أفهامهم قد تذْهب أوهامهم مَعَ هَذِه الظَّوَاهِر فيقفون مَعهَا ويقعون فِي ورطة ضعف الْإِيمَان عياذا بِاللَّه فَإِن قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ ميل إِلَى سوء الظَّن بالعامة وهم جُمْهُور الْأمة قلت لَيْسَ فِيهِ ميل إِلَى سوء الظَّن بهم وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِير الْخَوْف عَلَيْهِم وَالِاحْتِيَاط لَهُم حَتَّى لَا نتركهم هملا يَفْعَلُونَ مَا شاؤوا أَو يفعل بهم مَا يضرهم فِي دينهم ودنياهم مَعَ أَن سد الذريعة قَاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع لَا سِيمَا فِي الْمَذْهَب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الْمَالِكِي ولأمر مَا جَاءَت الشَّرِيعَة المطهرة ممتلئة من التحذيرات من مكامن هَذِه الْمَفَاسِد وَنَحْوهَا ورد الْأَسْبَاب والمسببات كلهَا إِلَى الله تَعَالَى مَعَ مَا فِي اسْتِعْمَال هَذِه الكرنتينة مَعَ الِاقْتِدَاء بالأعاجم والتزيي بزِي الْكَفَرَة الضلال ورمقهم بِعَين التَّعْظِيم ونسبتهم إِلَى الْإِصَابَة وَالْحكمَة كَمَا قد يُصَرح بِهِ الحمقى من الْعَوام فَأَما إِذا وَافق قدر بالسلامة عِنْد اسْتِعْمَالهَا فَهِيَ الْفِتْنَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَأَي مفْسدَة أقبح من هَذِه فَالْحَاصِل أَن الكرنتينة اشْتَمَلت على مفاسد كل مِنْهَا مُحَقّق فَتعين القَوْل بحرمتها وجلب النُّصُوص الشاهدة لذَلِك من الشَّرِيعَة لَا تعوز الْبَصِير وَقد ذكر الْعَلامَة الْحَافِظ الْقُسْطَلَانِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء من الْجَامِع الصَّحِيح عِنْد قَوْله تَعَالَى {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركُمْ} مَا نَصه دلّ على وجوب الحذر من جَمِيع المضار المظنونة وَمن ثمَّ علم أَن العلاج بالدواء والاحتراز عَن الوباء والتحرز عَن الْجُلُوس تَحت الْجِدَار المائل وَاجِب اه وَهُوَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَن الِاحْتِرَاز عَن الوباء وَاجِب بِأَيّ وَجه كَانَ وَلَا يخفى أَنه يتَعَيَّن تَقْيِيده بِالْوَجْهِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مفْسدَة شَرْعِيَّة كَعَدم الْقدوم على الأَرْض الَّتِي بهَا الوباء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا وَردت بِهِ السّنة وَلَا تأباه قَوَاعِده الشَّرِيعَة كبعض العلاجات المستعملة فِي إبانة المنقولة عَن أَئِمَّة الطِّبّ أما بِالْوَجْهِ الَّذِي يشْتَمل على مفْسدَة أَو مفاسد كهذه الكرنتينة فَلَا هَذَا مَا تحرر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَالله أعلم وَلما وقف على هَذَا الْكَلَام أخونا فِي الله الْعَلامَة الْأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي ابْن خضراء السلاوي وَهُوَ الْيَوْم قَاضِي حَضْرَة مراكش كتب إِلَيّ مَا نَصه وَأما حكم الكرنتينه فَهُوَ مَا ذكرْتُمْ من الْحَظْر وَبِه أَقُول لما فِيهِ من الْفِرَار من الْقَضَاء مَعَ الْمَفَاسِد الْعَظِيمَة الَّتِي لَا تفي بهَا مصلحتها على فرض تحققها أَو غَلَبَة ظن حُصُولهَا سِيمَا وَقد انتفيا بعد التجربة المتكررة فِي الْجِهَات المتعددة وَلَا يُخَالف فِي هَذَا الحكم إِلَّا مكابر مُتبع للهوى فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال ثمَّ جلب حفظه الله من النُّصُوص مَا يشْهد لذَلِك تركناها اختصارا وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وَفَاة الْمَنْصُور رَحمَه الله كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله بعد فَرَاغه من قَضِيَّة ابْنه الْمَأْمُون قد عزم على الرُّجُوع إِلَى مراكش فَلَمَّا بلغه ظُهُور الوباء بِتِلْكَ النَّاحِيَة تربص إِلَى أَن دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف فانتشر الوباء فِي بِلَاد الغرب أَيْضا فَكَانَ مصاب الْمَنْصُور بِهِ على مَا نذكرهُ قَالَ صَاحب الأصليت وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله السجلماسي الْمَعْرُوف بِأبي محلي كُنَّا نسْمع أَن السُّلْطَان الْمَنْصُور إِذا خرج من مراكش قَاصِدا مَدِينَة فاس لَا يرجع إِلَى مراكش وذاع هَذَا الْخَبَر فِي النَّاس قبل نُزُوله فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك ثمَّ لَا أَدْرِي من أَيْن للنَّاس بذلك هَل أنطقهم الله بِهِ أَو عَن علم تلقوهُ عَن أربابه وَكَأَنَّهُ الْأَشْبَه وَالله أعلم قَالَ وَمن هَذَا مَا ذكره بَعضهم أَيْضا لَكِن بعد الْوُقُوع وَالنُّزُول أَن دُخُول رايات أبي الْعَبَّاس الْمَنْصُور فِي حَيَاته للسودان واستيلاءه على سلطانها سكية فِي دَار إمارته كاغو مَعَ تنبكتو وأعمالها كل ذَلِك من أَمَارَات خُرُوج الإِمَام الْمهْدي الفاطمي وَكَذَلِكَ الوباء الْمُنْتَشِر فِي هَذِه الأعوام وَكَثْرَة الْهَرج والغلاء فِي سَائِر الْبِلَاد حَتَّى الْآن وَبَقِي من إمارات خُرُوجه فِيمَا نسْمع فتح وهران إِمَّا على يَده أَو بِإِذْنِهِ فِيمَا يَقُوله من لَا علم عِنْده بِحَقِيقَة الْأَمر اه وَكَانَ ابْتِدَاء مرض الْمَنْصُور بمحلته خَارج فاس الْجَدِيد قرب سَيِّدي عميرَة يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر ربيع النَّبَوِيّ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَدخل إِلَى دَاره بِالْمَدِينَةِ الْبَيْضَاء عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم واحتل بهَا بعد الْغُرُوب وَتُوفِّي هُنَالك لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الموَالِي لتاريخه وَدفن بِإِزَاءِ مَقْصُورَة الْجَامِع الْأَعْظَم هُنَالك ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُور وَحضر جنَازَته وَلَده زَيْدَانَ وَقدم للصَّلَاة مفتي فاس وخطيب جَامع الْقرَوِيين بهَا الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار قَالَ اليفرني كَانَت وَفَاة الْمَنْصُور بالوباء وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 الله بن يَعْقُوب السملالي فِي شَرحه لجامع شَامِل بهْرَام كَانَ بالمغرب وباء استطال بِهِ من سنة سبع إِلَى سنة سِتّ عشرَة وَألف وَعم سهل الْمغرب وجبله حَتَّى أفنى أَكثر الْخلق وَمَات بِهِ جمع من الْأَعْيَان وَبِه مَاتَ السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله وَنَحْوه ذكره صَاحب الْفَوَائِد وَغَيره قَالَ اليفرني وَبِه تعلم مَا شاع على الْأَلْسِنَة من أَن الْمَنْصُور سمه وَلَده زَيْدَانَ بِإِشَارَة من أمه الشبانية فِي باكور أَوَائِل ظُهُوره وَقطع عَنهُ الْأَطِبَّاء إِلَى أَن هلك وَأَن الْمَنْصُور لما أحس بذلك قَالَ استعجلتها يَا زَيْدَانَ لَا هُنَاكَ الله بهَا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ قَالُوا وبسبب ذَلِك لم تنصر لزيدان راية فَإِنَّهُ انهزم فِي زهاء سبع وَعشْرين معركة كُله كذب لَا أصل لَهُ لِأَن الْمَنْصُور طعن بالوباء وَلم يذكر أحد مِمَّن يوثق بِهِ مَا شاع على أَلْسِنَة الْعَامَّة وأضرابهم من الطّلبَة اه ثمَّ نقل الْمَنْصُور رَحمَه الله بعد دَفنه إِلَى مراكش فَدفن بهَا فِي قُبُور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة وقبره هُنَالك شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره هَذِه الأبيات (هَذَا ضريح من غَدَتْ ... بِهِ الْمَعَالِي تفتخر) (أَحْمد مَنْصُور اللوا ... لكل مجد مبتكر) (يَا رَحْمَة الله اسرعي ... بِكُل نعمى تستمر) (وباكري الرمس بِمَاء ... من رِضَاهُ منهمر) (وطيبي ثراه من ... ندى كذكره الْعطر) (وَافق تَارِيخ الْوَفَاة ... دون تفنيد ذكر) (مقْعد صدق دَاره ... عِنْد مليك مقتدر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 بَقِيَّة أَخْبَار الْمَنْصُور وَبَعض سيرته كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله حسن السياسة حازما يقظا مشاورا فِي مهمات الْأُمُور وَكَانَ قد اتخذ يَوْم الْأَرْبَعَاء للمشورة وَسَماهُ يَوْم الدِّيوَان تَجْتَمِع فِيهِ وُجُوه الدولة ويتطارحون فِيهِ وُجُوه الرَّأْي فِيمَا يَنُوب من جلائل الْأُمُور وعظيم النَّوَازِل وهنالك يظْهر شكايته من لم يجد سَبِيلا للوصول إِلَى السُّلْطَان قَالُوا وَمن حزمه انه كَانَ متطلعا لأخبار النواحي بحاثا عَنْهَا غير متراخ فِي قِرَاءَة مَا يرد عَلَيْهِ من رسائل عماله وَلَا يبطئ بِالْجَوَابِ وَيَقُول كل شَيْء يقبل التَّأْخِير إِلَّا مجاوبة الْعمَّال عَن رسائلهم وَكَانَ الْكتاب لَا يفارقون مراكزهم إِلَّا فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة قَالَ الفشتالي وَلَقَد كُنَّا بِالْبَابِ يَوْمًا يَعْنِي معشر الْكتاب قبل أَن يخرج الْمَنْصُور فورد النذير على الْكَاتِب أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفشتالي بِأَن ولدا لَهُ فِي النزع فَلم يملك نَفسه أَن ذهب إِلَى دَاره فَخرج الْمَنْصُور على أَثَره فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه ذهب إِلَى دَاره فاستشاط غَضبا وَبعث إِلَيْهِ فجيء بِهِ مزعجا وَمَا شككنا فِي عُقُوبَته فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ مَا الَّذِي ذهب بك فَذكر لَهُ أَمر وَلَده وَأَنه اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَلم ينجع فِيهِ دَوَاء طَبِيب فرق لَهُ وَقَالَ إِن أمراض الصّبيان قَلما ينجع فِيهَا إِلَّا طب الْعَجَائِز وَلَا كعجائز دَارنَا فَابْعَثْ من يسألهن وَمن حزمه أَنه اخترع أشكالا من الْخط على عدد حُرُوف المعجم وَكَانَ يكْتب بهَا فِيمَا يُرِيد أَن لَا يطلع عَلَيْهِ أحد يمزج فِيهَا الْخط الْمُتَعَارف فَيصير الْكتاب مغلقا فَإِذا سقط وَوَقع فِي يَد عَدو أَو غَيره لَا يدْرِي مَا فِيهِ وَلَا يعرف معنى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فَكَانَ إِذا جهز أحد أَوْلَاده نَاوَلَهُ خطا من تِلْكَ الخطوط يفك بهَا رسائله إِلَيْهِ وَيكْتب عنوانه كَذَلِك وَمن ضَبطه أَنه تعلم الْخط المشرقي فَكَانَ يُكَاتب بِهِ عُلَمَاء الْمشرق كِتَابَة كأحسن مَا يُوجد فِي خطّ المشارقة وَمِمَّا وَقع لَهُ فِي ذَلِك أَنه بعث بطاقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 بِخَط يَده على طَريقَة أهل الْمشرق لكَاتبه أبي عبد الله بن عِيسَى يَسْتَدْعِي مِنْهُ كتابا فَبَعثه ابْن عِيسَى إِلَيْهِ وَبعث مَعَه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ (سقتني كؤس السرُور دهاقا ... خطوط أَتَتْنِي فِي مهرق) (رَأَتْ كف أَحْمد فِي الغرب بحرا ... فَجَاءَت إِلَيْهِ من الْمشرق) وَكَانَ الْمَنْصُور على مَا هُوَ عَلَيْهِ من ضخامة الْملك وسعة الْخراج يوظف على الرّعية أَمْوَالًا طائلة يلْزمهُم بأدائها وَزَاد الْأَمر على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد أَبِيه حَسْبَمَا مر وَكَانَت الرّعية تَشْتَكِي ذَلِك مِنْهُ ونالها إجحاف مِنْهُ وَمن عماله وَكَانَ غير مُتَوَقف فِي الدِّمَاء وَلَا هياب للوقيعة فِيهَا قَالَ اليفرني وتتبع مَا وَقع فِي ذَلِك يُنَاقض الْمَقْصُود من الإغضاء عَن العورات والستر على الفضائح وَقد ألمعنا لَك بِمَا يكون دَالا على مَا وَرَاءه وَذكر أَن بعض عُمَّال الْمَنْصُور عدا على امْرَأَة من دكالة فَأخذ مِنْهَا أَمْوَالًا فَقدمت الْمَرْأَة على الْمَنْصُور بمراكش تَشْكُو لَهُ مَا نالها من عَامله فَلم يشكها وَلَا كشف ظلامتها فَخرجت إِلَى أَوْلَادهَا بِالْبَابِ وَقَالَت لَهُم انصرفوا فَإِنِّي كنت أَظن أَن رَأس الْعين صَافِيَة فَإِذا بهَا مكدرة فَلِذَا تكدرت مصارفها ويحكى أَن الْفَقِيه القَاضِي أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي قد سَافر فِي جمع من فُقَهَاء فاس وأعيانها إِلَى مراكش بِقصد الْعِيد مَعَ الْمَنْصُور كَمَا هِيَ الْعَادة فَمروا فِي طريقهم على جمَاعَة رجال وَنسَاء قد سلكوا فِي سلسلة وَاحِدَة وَفِيهِمْ امْرَأَة أَخذهَا الطلق وَهِي فِي كرب الْمَخَاض فَرَأَوْا من ذَلِك مَا أَهَمَّهُمْ وأحزنهم فَبَقيَ ذَلِك فِي نفس القَاضِي فَلَمَّا جلس إِلَى الْمَنْصُور ذكره لَهُ وَأظْهر الشكاية مِنْهُ فَسكت الْمَنْصُور عَن جَوَابه وهجره على ذَلِك أَيَّامًا ثمَّ إِن القَاضِي تلطف فِي القَوْل وَأظْهر التَّوْبَة مِمَّا صدر مِنْهُ وعدها بادرة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور لَوْلَا مَا رَأَيْت مَا أمكنك أَن تَجِيء مَعَ أَصْحَابك مسيرَة عشرَة أَيَّام فِي أَمن ودعة فَإِن أهل الْمغرب مجانين مارستانهم هِيَ السلَاسِل والأغلال وَلَقَد وَفد القَاضِي الْمَذْكُور على الْمَنْصُور فِي بعض المواسم مَعَ الْفُقَهَاء فَلَمَّا انصرفوا من الحضرة جمعتهم الطَّرِيق بأرباب الموسيقى وَأَصْحَاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الأغاني من أهل فاس وَقد كَانُوا وفدوا أَيْضا على الْمَنْصُور على سَبِيل الْعَادة فَأخْرج بَعضهم شَبابَة من الإبريز مرصعة أعطَاهُ إِيَّاهَا الْمَنْصُور وَبَعْضهمْ قَالَ أَعْطَانِي كَذَا وَقَالَ الآخر أجازني بِكَذَا مِمَّا لم يُعْط مثله للْقَاضِي وشيعته من الْفُقَهَاء فَقَالَ القَاضِي لَئِن بلغت فاسا لأردن أَوْلَادِي إِلَى صَنْعَة الموسيقى فَإِن صَنْعَة الْعلم كاسدة وَلَوْلَا أَن الموسيقى هِيَ الْعلم الْعَزِيز مَا رَجعْنَا مخفقين وَرجع الْمُغنِي بشبابة الإبريز فَنقل إِلَى الْمَنْصُور هَذَا الْكَلَام فلذعه عَلَيْهِ بِيَسِير من الملام وَذكر أَبُو زيد فِي الْفَوَائِد مَا صورته عدا مُحَمَّد الْكَبِير خَال الْمَنْصُور على رجل بدرعة فِي ضَيْعَة لَهُ فَشَكَاهُ إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ كم تَسَاوِي ضيعتك قَالَ سَبْعمِائة أُوقِيَّة قَالَ خُذْهَا وَقل لخالي الْموعد بيني وَبَيْنك الْموقف الَّذِي لَا أكون أَنا فِيهِ سُلْطَان وَلَا أَنْت خَال السُّلْطَان فَرجع صَاحب الضَّيْعَة وأبلغ إِلَى الْعَامِل كَلَام الْمَنْصُور فَأمْسك بِرَأْسِهِ سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ الْحق بضيعتك وَغرم لَهُ كل مَا أكل مِنْهَا اه وَقَالَ فِي المناهل كَانَ للمنصور مصانع اخترعها ومآثر خلفهَا مِنْهَا المعقلان الكبيران اللَّذَان أنشأهما بفاس أَحدهمَا خَارج بَاب عجيسة والأخر قبالته بِبَاب الْفتُوح وَهَذَانِ المعقلان يعرفان عِنْد الْعَامَّة بالبستيون وهما من الإتقان بِحَيْثُ لَا يعرف قدرهما إِلَّا من وقف عَلَيْهِمَا وَكَانَ الشُّرُوع فِي بنائهما يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة تسعين وَتِسْعمِائَة وَمن ذَلِك الحصنان اللَّذَان بناهما بثغر العرائش أَحدهمَا يعرف بحصن الْفَتْح وهما أَيْضا فِي نِهَايَة الوتاقة وَالْحسن وَمن ذَلِك معاصر السكر فَإِنَّهُ أحدثها بمراكش وبلاد حاحة وشوشاوة قَالَ الفشتالي وَكَانَ ابْتَدَأَ ذَلِك وَالِده أَبُو عبد الله الشَّيْخ فَكثر السكر فِي أَيَّامه بالبلاد المغربية حَتَّى لم تكن لَهُ قيمَة وَقد تقدم أَنه كَانَ يَشْتَرِي الرخام من النَّصَارَى بالسكر وَمن مآثره النبيلة العظمي مَعَ كرسيها من المرمر بِجَامِع الْقرَوِيين تَحت منار الْجَامِع الْمَذْكُور وَقد تقدم الْخَبَر عَنْهَا وَقَالَ ابْن القَاضِي فِي الْمُنْتَقى الْمَقْصُور إِن اللبَاس الْمُسَمّى بالمنصورية وَهُوَ لِبَاس من الملف لم يكن مُسْتَعْملا قبله وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 أول من اخترعه وأضيف إِلَيْهِ فَقيل المنصورية وَكَانَ فِي مُدَّة الْمَنْصُور من الْأَحْدَاث أَنه فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَقع غلاء عَظِيم بالمغرب حَتَّى عرف ذَلِك الْعَام بعام الْبُقُول قَالَ فِي الْمرْآة لما انتهب النَّاس غنيمَة وَادي المخازن كَانَ النَّاس يتوقعون مغبتها لاختلاط الْأَمْوَال بالحرام فَظهر أثر ذَلِك من غلاء وَغَيره وَكُنَّا نسْمع أَن الْبركَة رفعت من الْأَمْوَال من يَوْمئِذٍ وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا أصَاب النَّاس فِي بعض فصولها سعال كثير قل من سلم مِنْهُ وَكَانَ الرجل لَا يزَال يسعل إِلَى أَن تفيض نَفسه فَسمى الْعَامَّة تِلْكَ السّنة سنة كحيكحة وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الْكَبِير الشَّأْن أَبُو النَّعيم رضوَان بن عبد الله الجنوي نِسْبَة إِلَى جنوة من بِلَاد الفرنج كَانَ أَبوهُ نَصْرَانِيّا وَأمه يَهُودِيَّة وَسبب إِسْلَام وَالِده مَا حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاس الأندلسي فِي رحلته أَنه كَانَ لَهُ فرس بِبَلَدِهِ جنوة فَانْطَلق لَيْلًا وَدخل الْكَنِيسَة الْعُظْمَى وراث فِيهَا من غير أَن يشْعر بذلك أحد من السَّدَنَة وَلَا غَيرهم ثمَّ بَادر بِإِخْرَاج الْفرس وَلما أصبح أهل الْكَنِيسَة وَرَأَوا الروث قَالُوا إِن الْمَسِيح جَاءَ البارحة على فرسه إِلَى الْكَنِيسَة وراث فِيهَا فاهتز الْبَلَد لذَلِك وتنافس النَّصَارَى فِي شِرَاء ذَلِك الروث حَتَّى بيع قدر الذّرة مِنْهُ بِمَال جزيل فَعلم أَن النَّصَارَى على ضلال وَهَاجَر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام فَنزل برباط الْفَتْح من أَرض سلا فَوجدَ هُنَالك امْرَأَة يَهُودِيَّة فَتزَوج بهَا وَولدت لَهُ الشَّيْخ أَبَا النَّعيم فَنَشَأَ مثلا فِي الْعلم وَالْولَايَة ومحبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ يَقُول خرجت من بَين فرث وَدم أَخذ الطَّرِيقَة عَن أبي مُحَمَّد الغزواني وَقدم عَلَيْهِ مراكش ثمَّ عَاد إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن خَارج بَاب الْفتُوح وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور كَانَ متبحرا فِي الْعُلُوم خُصُوصا أصُول الْفِقْه أَخذ عَن اليسيتني وَأبي زيد سقين العاصمي وَأبي الْحسن بن هَارُون وَأبي مَالك الوانشريسي وَغَيرهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة توفّي الشَّيْخ أَبُو الشتَاء الشباوي دَفِين جبل آمركو من بِلَاد فشتالة وَيُقَال اسْمه مُحَمَّد بن مُوسَى وكني بِأبي الشتَاء لِأَن النَّاس قحطوا ولجؤوا إِلَيْهِ فسقوا فِي الْحِين وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّيْخ الغزواني وَيُقَال مَا لقِيه إِلَّا مرّة بقبيلتهما الشاوية فعينه ومكنه فهام على وَجهه وَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَفِي ثامن عشر ربيع الثَّانِي سنة ثَلَاث وَألف توفّي القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَدفن بروضة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري خَارج بَاب مصمودة من عدوة فاس الأندلس وَقد تقدّمت بعض أخباره وَفِي سنة أَربع وَألف توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مَنْصُور البوزيدي الْمَعْرُوف بِأبي الشكاوي دَفِين شالة وَبهَا كَانَ سكناهُ أَخذ عَن الشَّيْخ المجذوب وَأبي الرواين المحجوب وَغَيرهمَا وَأَوْلَاده ينتسبون إِلَى عِيسَى بن إِدْرِيس الحسني دَفِين آيت عتاب وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي سنة سِتّ وَألف توفّي الشَّيْخ الرباني أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الزعري دَفِين تاستاوت من مشاهير الْأَوْلِيَاء كَانَ أول نشأته بمكناسة الزَّيْتُون ثمَّ خرج إِلَى الْبَادِيَة بعد أَن صعبت عَلَيْهِ الْقِرَاءَة وَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ إِنَّك لن تقْرَأ وَلَكِنَّك شيخ فَخرج إِلَى الْبَادِيَة وَكَانَ يظنّ أَنه يكون من أَشْيَاخ الْقَبَائِل حَتَّى هبت عَلَيْهِ نفحة رحمانية فَقدم مراكش وَأخذ عَن الشَّيْخ أبي عَمْرو القسطلي وَرجع إِلَى باديته فَبنى مَسْجِدا فِي الْموضع الَّذِي عين لَهُ شَيْخه لسكناه فَيُقَال إِنَّه لما قيل لَهُ جعلت محرابه منحرفا عَن الْقبْلَة أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى جِهَة مَكَّة فتزحزحت الْجبَال حَتَّى شَاهد الْحَاضِرُونَ مَكَّة وَالله على كل شَيْء قدير وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي معاصرا لَهُ فَقيل لَهُ إِن الشَّيْخ ابْن مبارك قَالَ أهل زَمَاننَا محسوبون علينا فَقَالَ اشْهَدُوا أَنا من أهل زمَان ابْن مبارك وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ الطَّاعُون الْعَظِيم بمراكش وَغَيرهَا بِحَيْثُ عَم تلول الْمغرب واستطال فِيهَا وَمَات بِهِ جمع من الْأَعْيَان مِنْهُم الشَّيْخ ابْن مبارك الْمَذْكُور وَفِي سنة تسع وَألف فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا كَانَ سيل عَظِيم بفاس ثمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ سيل أعظم من الأول تهدمت مِنْهُ الدّور والحوانيت وتهدم سد الْوَادي بفاس على وثاقته وإحكامه وَهَذَا السد هُوَ الَّذِي كَانَ جدده السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الوطاسي ثمَّ جدده الْمَنْصُور فِي هَذِه الْمرة من أحباس الْقرَوِيين وَفِي سنة عشر وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه الرباني أَبُو عبد الله وَيُقَال أَبُو عبد الله مُحَمَّد فتحا الشَّرْقِي ابْن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْقَاسِم الزعري الجابري ثمَّ الرثمي هَكَذَا نسبه صَاحب الْمرْآة وَغَيره وَرفع أَبُو عَليّ المعداني فِي كِتَابه الرَّوْض الفائح نسبه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ثمَّ نقل عَن حفيده الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي عبد الله مُحَمَّد الصَّالح بن الْمُعْطِي مَا نَصه إِن الشَّيْخ سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي لم تُوجد هَذِه النِّسْبَة العمرية بِخَطِّهِ فِيمَا عثرنا عَلَيْهِ أما بَنو أَخِيه وَبَنوهُ وحفدته فقد وجدت بِخَط الثِّقَة مِنْهُم وتواتر نقلهَا عَنْهُم وكتبت فِي إجازاتهم وَكَذَا فِي تمليكاتهم اه وَهَذَا الشَّيْخ أَعنِي أَبَا عبد الله الشَّرْقِي كَانَ من أكَابِر أهل وقته يُقَال إِنَّه بلغ دَرَجَة القطبانية وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الْأَوْلِيَاء وَبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور جمَاعَة يختبرونه فظهرت لَهُم كراماته واتفقت لَهُ مَعَ الشَّيْخ المنجور كَرَامَة حَملته على أَن وَفد عَلَيْهِ زَائِرًا ومدحه بقصيدة ذكر بَعْضهَا اليفرني فِي الصفوة وَله مَعَ أبي المحاسن الفاسي مراسلات ومواصلات وَوَقع بَينهمَا كَلَام طَوِيل انْظُر ابتهاج الْقُلُوب أَخذ رَضِي الله عَنهُ عَن وَالِده عَن الشَّيْخ التباع وَاعْتمد على الشَّيْخ الْكَبِير أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَمْرو المختاري من أحواز مكناسة وَأخذ أَيْضا عَن ابْن مبارك الزعري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 وَأبي مُحَمَّد بن ساسي وَتُوفِّي أَوَائِل الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن بجعيدان وقبره شهير نفعنا الله بِهِ وبسائر أهل الله تمّ الْجُزْء الْخَامِس ويليه الْجُزْء السَّادِس وأوله الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 6 - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة السعدية الْقسم الثَّانِي الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن أَحْمد الْمَنْصُور رَحمَه الله تَعَالَى لما توفّي الْمَنْصُور رَحمَه الله وَفرغ النَّاس من دَفنه اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من أَعْيَان فاس وكبرائها وَالْجُمْهُور من جَيش الْمَنْصُور على بيعَة وَلَده زَيْدَانَ وَقَالُوا إِن الْمَنْصُور اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَمَات فِي حجره وَكَانَ مِمَّن تصدى لذَلِك القاضيان قَاضِي الْجَمَاعَة بفاس أَبُو الْقَاسِم بن أبي النَّعيم وَالْقَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي والأستاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الشاوي وَالشَّيْخ النظار أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار وَغَيرهم ويحكى أَن القَاضِي ابْن أبي النَّعيم قَامَ فِي النَّاس خَطِيبًا وَقَالَ أما بعد السَّلَام عَلَيْكُم فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما مَاتَ اجْتمع النَّاس على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَنحن قد مَاتَ مَوْلَانَا أَحْمد وَهَذَا وَلَده مَوْلَانَا زَيْدَانَ أولى بِالْملكِ من إخْوَته فَبَايعهُ الْحَاضِرُونَ يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّادِس عشر من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف قَالُوا وَكَانَ زَيْدَانَ لما توفّي وَالِده كتم مَوته وَبعث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 جمَاعَة للقبض على أَخِيه الشَّيْخ المسجون بمكناسة فَمَنعهُمْ من ذَلِك الباشا جؤذر كَبِير جَيش الأندلس وَحمل الشَّيْخ موثقًا إِلَى مراكش حَتَّى دَفعه إِلَى أَخِيه أبي فَارس وَكَانَ شقيقا لَهُ فَلم يزل مسجونا عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا يَأْتِي كَذَا قَالَ بَعضهم وَقَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ إِن زَيْدَانَ لما اشْتغل بدفن وَالِده احتال الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مَنْصُور العلج فَذهب بِنصْف الْمحلة إِلَى مراكش نازعا عَن زَيْدَانَ إِلَى أبي فَارس وَمر فِي طَرِيقه بمكناسة فَأخْرج الشَّيْخ من اعتقاله واحتمله مَعَه إِلَى أبي فَارس فسجنه فَلم يزل مسجونا عِنْده إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وَالله تَعَالَى أعلم انحراف أهل مراكش عَن طَاعَة زَيْدَانَ وبيعتهم لأبي فَارس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من الْفِتْنَة كَانَ الْمَنْصُور رَحمَه الله قد فرق عمالات الْمغرب على أَوْلَاده كَمَا مر فَاسْتعْمل الشَّيْخ على فاس والغرب وولاه عَهده وَاسْتعْمل زَيْدَانَ على تادلا وأعمالها واستخلف عِنْد نهوضه إِلَى فاس ابْنه أَبَا فَارس على مراكش وأعمالها وَكَانَ يكاتبه بِمَا مر بعضه من الرسائل فَلَمَّا اتَّصل بِأَهْل مراكش وَفَاة الْمَنْصُور وَكتب إِلَيْهِم أهل فاس بمبايعتهم لزيدان امْتَنعُوا وَبَايَعُوا أَبَا فَارس لكَونه خَليفَة أَبِيه بدار ملكه الَّتِي هِيَ مراكش وَلِأَن جلّ الْخَاصَّة من حَاشِيَة أَبِيه كَانَ يمِيل إِلَى أبي فَارس لِأَن زَيْدَانَ كَانَ منتبذا عَنْهُم بتادلا سَائِر أَيَّام أَبِيه فَلم يكن لَهُم بِهِ كثير إِلْمَام وَلَا مزِيد استئناس مَعَ أَنه كَانَ جَدِيرًا بِالْأَمر لعلمه وأدبه وَكَمَال مروءته رَحمَه الله إِلَّا أَن السعد لم يساعده وَقد قيل فِي الْمثل قَدِيما قَاتل بِسَعْد وَإِلَّا فدع وَلما شقّ أهل مراكش الْعَصَا على زَيْدَانَ كثر فِي ذَلِك القيل والقال حَتَّى صدرت فَتْوَى من قَاضِي فاس ابْن أبي النَّعيم ومفتيها أبي عبد الله الْقصار تَتَضَمَّن التَّصْرِيح بِحَدِيث (إِذا بُويِعَ خليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا) وَكَانَت بيعَة أبي فَارس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 بمراكش يَوْم الْجُمُعَة أَوَاخِر ربيع الأول من سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَهُوَ شَقِيق الشَّيْخ الْمَأْمُون أمهما أم ولد اسْمهَا الْجَوْهَر وَيُقَال الخيزران وَاسم أبي فَارس هَذَا عبد الله وتلقب بالواثق بِاللَّه وَكَانَ أكولا عَظِيم الْبَطن مصابا بِمَسّ الْجِنّ وَيُقَال إِنَّه لذَلِك ابتنى الْمَسْجِد الْجَامِع بجوار ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي وشيد مَنَارَة وشحن الخزانة الَّتِي بقبلي الْجَامِع الْمَذْكُور بمنتخب الْكتب ونفيس الدفاتر كل ذَلِك رَجَاء أَن تعود عَلَيْهِ بركَة ذَلِك الشَّيْخ بالبرء من تِلْكَ الْعلَّة وَكَانَ مَعَ ذَلِك يمِيل إِلَى الْمُرُوءَة والرفق وَحسن السِّيرَة رَحمَه الله نهوض السُّلْطَان زَيْدَانَ لِحَرْب أبي فَارس وانهزامه بِأم الرّبيع ثمَّ فراره إِلَى تلمسان لما بَايع أهل مراكش أَبَا فَارس بن الْمَنْصُور عزم زَيْدَانَ على النهوض إِلَيْهِ فَخرج من فاس يؤم بِلَاد الْحَوْز واتصل الْخَبَر بِأبي فَارس فَجهز لقتاله جَيْشًا كثيفا وَأمر عَلَيْهِم وَلَده عبد الْملك إِلَى نظر الباشا جؤذر فَقيل لَهُ إِن زَيْدَانَ رجل شُجَاع عَارِف بمكايد الْحَرْب وخدعه وولدك عبد الْملك لَا يقدر على مقاومته فَلَو سرحت أَخَاك الشَّيْخ لقتاله كَانَ أقرب للرأي لِأَن أهل الغرب لَا يقاتلونه لِأَنَّهُ كَانَ خَليفَة عَلَيْهِم مُدَّة فهم آنس بِهِ من زَيْدَانَ فَأطلق أَبُو فَارس أَخَاهُ الْمَأْمُون من ثقاف السجْن وَأخذ عَلَيْهِ العهود والمواثيق على النصح وَالطَّاعَة وَعدم شقّ الْعَصَا ثمَّ سرحه فِي سِتّمائَة من جَيش المتفرقة الَّذين كَانَ الْمَنْصُور جمعهم ليَبْعَث بهم إِلَى كاغو من أَعمال السودَان وَقَالَ لَهُ ولأصحابه جدوا السّير اللَّيْلَة كي تصبحوا بمحلة جؤذر على وَادي أم الرّبيع فَلَمَّا انْتهى الشَّيْخ إِلَى الْمحلة الْمَذْكُورَة وَعلم النَّاس بِهِ أهرعوا إِلَيْهِ وَاسْتَبْشَرُوا بمقدمه ثمَّ كَانَت الملاقاة بَينه وَبَين السُّلْطَان زَيْدَانَ بِموضع يُقَال لَهُ حواتة عِنْد أم الرّبيع ففر عَن زَيْدَانَ أَكثر جَيْشه إِلَى الْمَأْمُون وحنوا إِلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 سالف عَهده وقديم صحبته فَانْهَزَمَ زَيْدَانَ لذَلِك وَرجع أدراجه إِلَى فاس فتحصن بهَا وَكَانَ أَبُو فَارس قد تقدم إِلَى أَصْحَابه فِي الْقَبْض على الشَّيْخ مَتى وَقعت الْهَزِيمَة على زَيْدَانَ فَلَمَّا فر زَيْدَانَ انْعَزل الشَّيْخ فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِ من جَيش أهل الغرب وَامْتنع على أَصْحَاب أبي فَارس فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وانتعش أمره واشتدت شوكته ثمَّ سَار إِلَى فاس يقفو أثر السُّلْطَان زَيْدَانَ وَلما اتَّصل بزيدان خبر مَجِيئه إِلَيْهِ راود أهل فاس على الْقيام مَعَه فِي الْحصار والذب عَنهُ وَالْوَفَاء بِطَاعَتِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضى بيعتهم الَّتِي أعْطوا بهَا صفقتهم عَن رضى مِنْهُم فامتنعوا عَلَيْهِ وقلبوا لَهُ ظهر الْمِجَن وأعلنوا بنصر الشَّيْخ وبيعته لقديم صحبتهم لَهُ وَلما آيس زَيْدَانَ من نَصرهم وَقد أرهقه الشَّيْخ فِي جموعه خرج من فاس بحشمه وَثقله ناجيا بِنَفسِهِ وَتَبعهُ جمع عَظِيم من أَصْحَاب الشَّيْخ فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وَذهب إِلَى تلمسان فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ وَأما الشَّيْخ فَإِنَّهُ لما وصل إِلَى فاس تَلقاهُ أَهلهَا ذُكُورا وإناثا وأظهروا الْفَرح بمقدمه فَدَخلَهَا ودعا لنَفسِهِ فَأُجِيب واستبد بملكها ثمَّ أَمر جَيش أهل مراكش أَن يرجِعوا إِلَى بِلَادهمْ فانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ مخفقين وَكَانَ الشَّيْخ لما تمّ غَرَضه من الاستبداد بِالْأَمر والانفراد بالسلطنة دَعَا بالشيخين الفقيهين قَاضِي الْجَمَاعَة أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم ومفتيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقصار فلامهما على مبايعة زَيْدَانَ وقولهما فِيهِ وَفِي أَخِيه أبي فَارس إِن أَوْلَاد الْإِمَاء لَا يتقدمون فِي الْأَمر على أَوْلَاد الْحَرَائِر وَكَانَ أَبُو فَارس وَالشَّيْخ وَلَدي أمه اسْمهَا الخيزران كَمَا مر وزيدان أمه حرَّة من الشبانات وعزم أَن ينكل بهما ثمَّ بعث بهما مَعَ جَيش مراكش إِلَى أَخِيه أبي فَارس ليرى فيهمَا رَأْيه فَأَما الشَّيْخ الْقصار فَتوفي رَحمَه الله على مقربة من مراكش بزاوية الشَّيْخ ابْن ساسي وَحمل إِلَى مراكش فَدفن بقبة القَاضِي عِيَاض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وَذَلِكَ فِي أواسط سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَأما القَاضِي أَبُو الْقَاسِم فَاجْتمع بِأبي فَارس فَقبل عذره وصفح عَنهُ ورده مكرما إِلَى فاس هَكَذَا ذكره بَعضهم وَقيل إِن الَّذِي بعث بالشيخ الْقصار إِلَى مراكش هُوَ السُّلْطَان زَيْدَانَ على وَجه يُخَالف هَذَا وَالله أعلم نهوض عبد الله بن الشَّيْخ لِحَرْب عَمه أبي فَارس واستيلاؤه على مراكش ثمَّ إِن الشَّيْخ المتغلب على فاس دَعَا بتجار أَهلهَا فاستسلف مِنْهُم مَالا كثيرا وَأظْهر من الظُّلم وَسُوء السِّيرَة وخبث السريرة مَا هُوَ شهير بِهِ ثمَّ تتبع قواد أَبِيه فنهب ذخائرهم واستصفى أَمْوَالهم وعذب من أخْفى من ذَلِك شَيْئا مِنْهُم ثمَّ جهز جَيْشًا لقِتَال أَخِيه أبي فَارس بمراكش وَكَانَ عدد الْجَيْش نَحْو الثَّمَانِية آلَاف وَأمر عَلَيْهِ وَلَده عبد الله فَسَار بجيوشه فَوجدَ أَبَا فَارس بمحلته فِي مَوضِع يُقَال لَهُ إكلميم وَيُقَال فِي مرس الرماد فَوَقَعت الْهَزِيمَة على أبي فَارس وَقتل نَحْو الْمِائَة من أَصْحَابه ونهبت محلته وفر هُوَ بِنَفسِهِ إِلَى مسفيوة وَدخل عبد الله بن الشَّيْخ مراكش فأباحها لجيشه فنهبت دورها واستبيحت محارمها وَا شتغل هُوَ بِالْفَسَادِ وَمن يشابه أَبَاهُ فَمَا ظلم حَتَّى حُكيَ أَنه زنى بِجوَارِي جده الْمَنْصُور واستمتع بحظاياه وَأكل رَمَضَان وَشرب الْخمر فِيهِ جهارا وَعَكَفَ على اللَّذَّات وَألقى جِلْبَاب الْحيَاء عَن وَجهه وَكَانَ دُخُوله مراكش فِي الْعشْرين من شعْبَان سنة خمس عشرَة وَألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 مَجِيء السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى الْمغرب واستيلاؤه على مراكش وطرده عبد الله بن الشَّيْخ عَنْهَا كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ لما فر من فاس إِلَى تلمسان كَمَا مر أَقَامَ بهَا مُدَّة وَكَانَ قد بعث إِلَى ترك الجزائر يستمدهم ويستعديهم على أَخَوَيْهِ فأبطؤوا عَلَيْهِ وَطَالَ عَلَيْهِ انتظارهم فَلَمَّا يئس مِنْهُم توجه إِلَى سجلماسة فَدَخلَهَا من غير قتال وَلَا محاربة ثمَّ انْتقل عَنْهَا إِلَى درعة وَمِنْهَا إِلَى السوس فَكتب إِلَيْهِ أهل مراكش وَقد ندموا على مَا فرطوا فِيهِ من أمره وَالدُّخُول فِي طَاعَته أَن يَأْتِيهم وَلَو وَحده فَتوجه إِلَيْهِم وَدخل عَلَيْهِم لَيْلًا فَلم يفجأ عبد الله بن الشَّيْخ إِلَّا نِدَاء أهل مراكش بنصر السُّلْطَان زَيْدَانَ وتحزبوا مَعَه وتقدموا إِلَى قائدهم عبد الله آعراس الَّذِي ولاه عَلَيْهِم الشَّيْخ فَقَتَلُوهُ وَخرج عبد الله فَارًّا بجموعه من أهل فاس والغرب فَحَاصَرَهُمْ أهل مراكش بَين الأسوار والجنات وَقتلُوا من أَصْحَاب عبد الله بِموضع يعرف بجنان بكار نَحْو الْخَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَأمر زَيْدَانَ بقتل كل من تخلف عَن عبد الله من جَيْشه فَأتى الْقَتْل على جَمِيع من وجد بمراكش من جَيش أهل فاس وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة خمس عشرَة وَألف وفر عبد الله بن الشَّيْخ ناجيا بِنَفسِهِ حَتَّى قدم على أَبِيه بفاس فِي أَسْوَأ الْحَالَات مفلول العساكر مهزوم الجموع معتاضا عَن جَيش النَّصْر بِجَيْش الدُّمُوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 عودة عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا وطرده زَيْدَانَ عَنْهَا لما قدم عبد الله بن الشَّيْخ على أَبِيه بفاس سليبا مهزوما قَامَت قِيَامَته وَرَأى أَن يُهَيِّئ عسكرا آخر ويجدد جمعا ثَانِيًا فَلم يجد لذَلِك طَاقَة لفراغ يَده من المَال وَقلة جبايته واستحيى أَن يستسلف من التُّجَّار لِأَنَّهُ كَانَ استسلف مِنْهُم فَلم يرد لَهُم شَيْئا وَلما أعيته الْحِيلَة رَجَعَ على قواده فَقلب لَهُم ظهر الْمِجَن وَنهب أَمْوَالهم واستلب ذخائرهم وَصَارَ يفرقها على التُّجَّار فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك أَمْوَال عريضة فرقها فِي جَيْشه وتهيأ عبد الله للمسير إِلَى مراكش وَكَانَ أهل فاس قد غضبوا لمن قتل من إخْوَانهمْ بهَا وَنَادَوْا بِأخذ ثأرهم حَتَّى إِن بَعضهم خرج مَعَ عبد الله من غير أَخذ مُرَتّب وَلَا جامكية فَخرج عبد الله بجموع عديدة وجيوش حفيلة وَلما بلغ خَبره للسُّلْطَان زَيْدَانَ بعث إِلَيْهِ العلج مصطفى باشا فِي جيوش كَثِيرَة قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ كَانَ بعث مصطفى باشا وَخُرُوجه من مراكش فِي شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ تافلفلت على طَرِيق سلا فَهزمَ مصطفى باشا وَقتل من جَيش مراكش نَحْو التِّسْعَة آلَاف وَبعث الشَّيْخ جمَاعَة من عدُول فاس إِلَى مَوضِع المعركة حَتَّى أحصوا الْقَتْلَى ثمَّ توجه عبد الله إِلَى مراكش فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مقَاتل والتقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ رَأس الْعين فَانْهَزَمَ أهل مراكش وَتقدم عبد الله بن الشَّيْخ فاقتحمها بجيشه وفر زَيْدَانَ إِلَى المعاقل المنيعة وَالْجِبَال الشامخة فَبَقيَ منتقلا هُنَالك إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 ثورة مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وانقراض أمره وعود زَيْدَانَ إِلَى مراكش لما دخل عبد الله بن الشَّيْخ مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا فعل فِيهَا أعظم من فعلته الأولى وهربت شرذمة من أهل مراكش إِلَى جبل جيليز وَاجْتمعَ هُنَالك مِنْهُم عِصَابَة من أهل النجدة وَالْحمية وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن يقدموا للخلافة مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ وَكَانَ رجلا خيرا دينا صينا وقورا فَبَايعهُ أهل مراكش هُنَالك والتفوا عَلَيْهِ فَخرج عبد الله بن الشَّيْخ لقِتَال من بجبل جيليز وَالْقَبْض على أَمِيرهمْ الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ انهزم عبد الله وَولى أَصْحَابه الأدبار فَخرج من مراكش مهزوما سادس شَوَّال سنة سِتّ عشرَة وَألف وَترك محلته وأنفاضه وعدته وَجل الْجَيْش وَأخذ على طَرِيق تامسنا وامتحن أَصْحَابه فِي ذهابهم حَتَّى كَانَ مد الْقَمْح عِنْدهم بِثَلَاثِينَ أُوقِيَّة والخبزة من نصف رَطْل بِربع مِثْقَال وَلم يزل أَصْحَابه ينتهبون مَا مروا عَلَيْهِ من الْخيام والعمود ويسبون الْبَنَات إِلَى أَن وصلوا إِلَى فاس فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَأما مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن فَإِنَّهُ لما دخل مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا صفح عَن الَّذين تخلفوا بهَا من أهل الغرب من جَيش عبد الله بن الشَّيْخ وَأَعْطَاهُمْ الرَّاتِب فَلم يعجب ذَلِك أهل مراكش ونقموا عَلَيْهِ إبقاءه عَلَيْهِم وَكَانُوا نَحْو الْألف وَنصف فَكَتَبُوا سرا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ بِالْجَبَلِ فَأَتَاهُم وخيم نازلا بِظَاهِر الْبَلَد فَخرج مُحَمَّد بن عبد الْمُؤمن إِلَى لِقَائِه فَانْهَزَمَ ابْن عبد الْمُؤمن وَدخل السُّلْطَان زَيْدَانَ مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وصفح هُوَ أَيْضا عَن الفئة المتخلفة عَن عبد الله بن الشَّيْخ وَذكر فِي شرح زهرَة الشماريخ إِن هَذَا الثائر بجبل جيليز اسْمه أَبُو حسون من أَوْلَاد السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس الْأَعْرَج وَالله أعلم وَلَعَلَّ هَذَا الصَّوَاب بِدَلِيل مَا يَأْتِي فِي رِسَالَة زَيْدَانَ إِن شَاءَ الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 خُرُوج جالية الأندلس من غرناطة وأعمالها إِلَى بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا قد قدمنَا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء الطاغية صَاحب قشتالة على غرناطة وأعمالها سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَإِن أهل غرناطة التزموا طَاعَته والبقاء تَحت حكمه على شُرُوط اشترطوها عَلَيْهِ قد ذكرنَا بَعْضهَا فِيمَا سلف وَأَن عَدو الدّين قد نقض تِلْكَ الشُّرُوط عُرْوَة عُرْوَة وَكَانَ أهل الأندلس من أجل ذَلِك كثيرا مَا يهاجرون من بِلَاد الْكفْر إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام أثْنَاء هَذِه الْمدَّة السالفة غير أَن عامتهم كَانُوا قد تخلقوا بأخلاق الْعَجم وَأثر فيهم ذَلِك أثرا ظَاهرا لطول صحبتهم لَهُم ونشأة أَعْقَابهم بَين أظهرهم فَكَانَت تصدر مِنْهُم فِي بعض الأحيان مقالات قبيحة فِي حق وُلَاة الْمُسلمين من أهل الْمغرب وعامتهم لَا سِيمَا إِذا نالهم مِنْهُم بعض الظُّلم وَلَقَد رَأَيْت فِي كتاب المعيار وَغَيره سُؤَالَات وفتاوى صدرت عَن عُلَمَاء الْمغرب فِي حق هَؤُلَاءِ الصِّنْف مِنْهُم وَكَانَ الْمُلُوك السعديون قد جمعُوا مِنْهُم جندا كَبِيرا وبهم فتح الْمَنْصُور إقليم السودَان وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَت سنة سِتّ عشرَة وَألف فَهَاجَرَ جَمِيع من لم يتنصر مِنْهُم إِلَى بِلَاد الْمغرب وَغَيرهَا قَالَ فِي نفح الطّيب كَانَ النَّصَارَى بالأندلس قد شَدَّدُوا على الْمُسلمين بهَا فِي التنصر حَتَّى أَنهم أحرقوا مِنْهُم كثيرا بِسَبَب ذَلِك ومنعوهم من حمل السكين الصَّغِير فضلا عَن غَيرهَا من الْحَدِيد وَقَامُوا فِي بعض الْجبَال على النَّصَارَى مرَارًا وَلم يقيض الله لَهُم ناصرا إِلَى أَن كَانَ إِخْرَاج النَّصَارَى إيَّاهُم أَعْوَام سَبْعَة عشرَة وَألف فَخرجت أُلُوف بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وَخرج جمهورهم بتونس فتسلط عَلَيْهِم الْأَعْرَاب وَمن لَا يخْشَى الله تَعَالَى فِي الطرقات ونهبوا أَمْوَالهم وَهَكَذَا كَانَ بِبِلَاد تلمسان وفاس وَنَجَا الْقَلِيل مِنْهُم من هَذِه الْمضرَّة وَأما الَّذين خَرجُوا بنواحي تونس فَسلم أَكْثَرهم وهم لهَذَا الْعَهْد قد عمروا قراها الخالية وبلادها اه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وَقَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية فِي أُمَرَاء إفريقية مَا نَصه وَفِي سنة سِتّ عشرَة وَألف قدمت الْأُمَم الجالية من جَزِيرَة الأندلس فأوسع لَهُم صَاحب تونس عُثْمَان داي كنفه وأباح لَهُم بِنَاء الْقرى فِي مَمْلَكَته فبنوا نَحْو الْعشْرين قَرْيَة واغتبط بهم أهل الحضرة وتعلموا حرفهم وقلدوا ترفهم اه ثمَّ قَالَ فِي نفح الطّيب وَكَذَلِكَ خرج طوائف مِنْهُم بتطاوين وسلا والجزائر وَلما استخدم سُلْطَان الْمغرب الْأَقْصَى مِنْهُم عسكرا جرارا وَسَكنُوا سلا كَانَ مِنْهُم من الْجِهَاد فِي الْبَحْر مَا هُوَ مَشْهُور الْآن وحصنوا قلعة سلا وبنوا بهَا الْقُصُور والحمامات والدور وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَوصل جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى مصر وَالشَّام وَغَيرهَا من بِلَاد الْإِسْلَام اه كَلَام نفح الطّيب وَقَوله وحصنوا قلعة سلا يَعْنِي بهَا رِبَاط الْفَتْح إِذْ هِيَ يَوْمئِذٍ مُضَافَة إِلَى سلا ومعدودة مِنْهَا وَالله تَعَالَى أعلم اسْتِيلَاء السُّلْطَان زَيْدَانَ على فاس وفرار الشَّيْخ بن الْمَنْصُور عَنْهَا إِلَى العرائش ثمَّ إِلَى طاغية الإصبنيول كَانَ الشَّيْخ بن الْمَنْصُور عَفا الله عَنهُ على مَا تقدم من قبح السِّيرَة والإساءة إِلَى الْخَاصَّة والعامة حَتَّى مِلَّته النُّفُوس ورفضته الْقُلُوب وضاق أهل فاس بشؤمه ذرعا وَكَانَ قد بعث ابْنه عبد الله مرّة ثَالِثَة إِلَى حَرْب السُّلْطَان زَيْدَانَ بمراكش وأعمالها فَخرج عبد الله من فاس آخر ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي بوركراك فَكَانَت الْهَزِيمَة على عبد الله وفر فِي رَهْط من أَصْحَابه وَترك محلته بِمَا فِيهَا بيد السُّلْطَان زَيْدَانَ فاستولى عَلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ جَيش عبد الله من أهل فاس وَغَيرهم ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي صحبته فَعَفَا عَنْهُم وتألفهم واستفحل أَمر السُّلْطَان زَيْدَانَ وَتكلم بِهِ أهل فاس وَسَائِر بِلَاد الغرب واتصل الْخَبَر بالشيخ وَعرف أَن قُلُوب النَّاس عَلَيْهِ فخاف الفضيحة وَأصْبح غاديا فِي أَهله وحشمه إِلَى نَاحيَة العرائش فاحتل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 بِالْقصرِ الْكَبِير وَهُنَاكَ لحق بِهِ ابْنه عبد الله مهزوما من وقْعَة بوركراك وانضم إِلَيْهِمَا أَبُو فَارس بن الْمَنْصُور فَإِنَّهُ بعد فراره من مرس الرماد إِلَى مسفيوة أَقَامَ بهَا مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان زَيْدَانَ على مراكش كَمَا مر شدد فِي طلبه ففر إِلَى السوس وَلما أعيت عَلَيْهِ الْمذَاهب وزيدان فِي طلبه لحق بشقيقه الشَّيْخ فَكَانَ مَعَه إِلَى هَذَا التَّارِيخ ثمَّ إِن السُّلْطَان زَيْدَانَ بعث كَبِير جَيْشه مصطفى باشا إِلَى فاس فَانْتهى إِلَيْهَا وَنزل مخيما بِظهْر الزاوية وَوجد لأَصْحَاب الشَّيْخ زروعا كَثِيرَة فَأرْسل مصطفى باشا عَلَيْهَا جَيْشه فانتسفوها وَدخلت فاس فِي طَاعَته ثمَّ نَهَضَ إِلَى نَاحيَة الْقصر الْكَبِير نَاوِيا الْقَبْض على الشَّيْخ وَحزبه واتصل بالشيخ خَبره ففر إِلَى العرائش وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى طاغية الإصبنيول مستصرخا بِهِ على السُّلْطَان زَيْدَانَ وَحمل مَعَه أمه الخيزران وَبَعض عِيَاله وَجَمَاعَة من قواده وبطانته وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع عشرَة وَألف وانْتهى مصطفى باشا إِلَى الْقصر الْكَبِير فَقبض على من وجد بِهِ من أَصْحَاب الشَّيْخ وفر عبد الله وَأَبُو فَارس فَنزلَا بِموضع يُقَال لَهُ سطح بني وارتين فَبلغ خبرهما إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ فجَاء حَتَّى نزل قبالتهما بِموضع يُقَال لَهُ آرورات ففر من كَانَ مَعَهُمَا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ وَلما بقيا أوحش من وتد بقاع فرا إِلَى دَار الْيَهُودِيّ ابْن مشعل من بِلَاد بني يزناسن فأقاما بهَا وَاخْتصرَ صَاحب الْمرْآة هَذَا الْخَبَر فَقَالَ كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْمَعَالِي زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور التقى مَعَ ابْن أَخِيه عبد الله بن الشَّيْخ صَاحب فاس برؤوس الشعاب يَوْم الْخَمِيس السَّابِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة سبع عشرَة وَألف فَانْهَزَمَ عبد الله بن الشَّيْخ وفر إِلَى محلّة أَبِيه بالعرائش ثمَّ رَجَعَ إِلَى جِهَة فاس وانْتهى إِلَى دَار ابْن مشعل وَاسْتولى عَمه السُّلْطَان زَيْدَانَ على محلته وَسَار إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا اه وَفِي دخلة السُّلْطَان زَيْدَانَ هَذِه إِلَى فاس قبض على الْفَقِيه القَاضِي أبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي رَحمَه الله قَالَ اليفرني فِي الصفوة كَانَ القَاضِي الْمَذْكُور مِمَّن أَخذ عَن الشَّيْخ الْقصار وَكَانَ مَعَ ذَلِك لما ولي الْقصار الْفَتْوَى والخطابة بِجَامِع الْقرَوِيين يسْعَى عِنْد السُّلْطَان فِي تَأْخِيره حَتَّى أخر وَولي هُوَ مَكَانَهُ مُدَّة يسيرَة ثمَّ أُعِيد الْقصار وَكَانَت بَينهمَا شَحْنَاء عَظِيمَة بِسَبَب فَتْوَى تنَازعا فِيهَا ثمَّ أفضت الْحَال بِالْقَاضِي أبي الْحسن إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ السُّلْطَان زَيْدَانَ بِسَبَب أَنه عثر لَهُ على كتاب كتبه إِلَى بعض إخْوَته ينتقصه فِيهِ ويوهن أمره فأوغر ذَلِك قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ فسطا بِهِ وسجنه وَنهب دَاره وأثاثه ثمَّ سقَاهُ سما على مَا قيل فَكَانَ فِيهِ حتفه وَقد حُكيَ هَذَا الْخَبَر فِي مَوضِع آخر من الصفوة مطولا فَقَالَ كَانَ القَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عمرَان السلاسي شَدِيد الانحراف عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الفاسي سيئ الِاعْتِقَاد فِيهِ وَلم يزل يسْعَى بِهِ ويكيده فاتفق أَن اجْتمع بالشيخ فِي بعض اللَّيَالِي بعض من يتعاطى الْعلم فتكلموا فِي مسَائِل من صِفَات الله فَنقل كَلَام الشَّيْخ إِلَى القَاضِي على غير وَجهه فَأنْكر ذَلِك وَركب من حِينه إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس منتهزا للفرصة فَقَالَ إِن هَهُنَا رجلا يعلم النَّاس الْبدع ويلقنهم آراء الْفرق الضَّالة فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان من هُوَ قَالَ فلَان قَالَ أَخُو سَيِّدي يُوسُف قَالَ نعم قَالَ سمعنَا أَنه أعلم من أَخِيه ثمَّ بعث السُّلْطَان إِلَيْهِ وَهُوَ مستشيط غَضبا لخَبر بلغه من ثورة بعض أَقَاربه عَلَيْهِ فجَاء الشَّيْخ أَبُو زيد وَلم يخلع نَعله حَتَّى بلغ بِسَاط السُّلْطَان فَسلم عَلَيْهِ وَمد يَده فصافحه ثمَّ تكلمُوا فِي الْمَسْأَلَة فَانْقَطع القَاضِي وَلم يجد مَا يَقُول إِلَّا أَن النَّاقِل لم يحسن نقلهَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ فَهَلا تثبت وَكَانَ بعض عُلَمَاء مراكش حَاضرا فَبَالغ فِي عتاب القَاضِي وَقيل للشَّيْخ مَا سَبَب الوحشة بَيْنك وَبَين هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَا شَيْء إِلَّا الِاسْتِغْنَاء عَنْهُم فَقَالُوا يَا سَيِّدي هَذَا وصف يُوجب الْحبّ فَمَا انْفَصل الشَّيْخ عَن السُّلْطَان حَتَّى اطلع على مَا يُوجب الْقَبْض على القَاضِي فَقبض عَلَيْهِ وَنهب دَاره فِي الْحِين فَنزل الشَّيْخ من فاس الْجَدِيد فلقي أثاث القَاضِي فِي الطَّرِيق جِيءَ بِهِ منهوبا وَبَقِي فِي السجْن إِلَى أَن مَاتَ مسموما رَحمَه الله وَكَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 الأديب الْكَاتِب أَبُو عبد الله المكلاثي قد كتب إِلَيْهِ بِأَبْيَات يَقُول فِيهَا مَا نَصه (أما لهِلَال غَابَ عَنَّا سفور ... فيجلى بِهِ خطب دجاه تثور) (فصبرا لدهر رام يمنحك الأسى ... فَأَنت عَظِيم والعظيم صبور) (سَيظْهر مَا عهدته من جمالكم ... فللبدر من بعد الْكُسُوف ظُهُور) (وتحيى رسوم للمعالي تَغَيَّرت ... فللميت من بعد الْمَمَات نشور) (أَبَا حسن إِنِّي على الْحبّ لم أزل ... مُقيما عَلَيْهِ مَا أَقَامَ ثبير) (فَفِي الْفَم مَاء من بقايا ودادكم ... وَذَلِكَ عِنْدِي سَائِغ ونمير) (عَلَيْكُم سَلام الله مَا هطل الحيا ... وغنت بأغصان الرياض طيور) قَالَ منشئها وَقد أنشدتها بَين يَدَيْهِ بمحبسه فَبكى حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيهلك ثمَّ أَفَاق وَقَالَ {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} الرّوم 4 فراجعني رَضِي الله عَنهُ بِأَبْيَات يَقُول فِيهَا (تفتق عَن زهر الرّبيع سطور ... فَمَا هِيَ إِلَّا رَوْضَة وغدير) (هزمت من الصَّدْر الجريح همومه ... فَأَنت على جند الْكَلَام أَمِير) (مُحَمَّد هَل فِي الْعَصْر غَيْرك شَاعِر ... لَهُ مَعكُمْ فِي الْخَافِقين ظُهُور) (فَإِنِّي على صفو الوداد وإنني ... سأشدوا وقلبي بالهموم كسير) (مَتى وَعَسَى يثني الزَّمَان عنانه ... بنهضة جد وَالزَّمَان عثور) (فتدرك آمال وتقضي مآرب ... وتحدث من بعد الْأُمُور أُمُور) (عَلَيْك سَلام الله مني فإنني ... غَرِيب بأقصى المغربين أَسِير) وَكَانَت وَفَاة القَاضِي الْمَذْكُور رَحمَه الله فِي جَامع المشور فِي مهل ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 عود عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ومقتل مصطفى باشا رَحمَه الله لما دخل السُّلْطَان زَيْدَانَ حَضْرَة فاس وَاسْتولى عَلَيْهَا أَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَألف فاتصل بِهِ خبر قيام بعض الثوار عَلَيْهِ بِنَاحِيَة مراكش فَنَهَضَ إِلَيْهَا مزعجا واستخلف على فاس مَوْلَاهُ مصطفى باشا وَلما اتَّصل خبر نهوضه بِعَبْد الله بن الشَّيْخ وَهُوَ بدار ابْن مشعل زحف إِلَى فاس فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِ فبرز إِلَيْهِ مصطفى باشا وَضرب محلته بِظَاهِر فاس من نَاحيَة بَاب الْفتُوح قَالَ فِي الْمرْآة وَعرض لأبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف الأندلسي الْمَعْرُوف بالبيطار غَرَض من أُمُور الْعَامَّة كَانَ يتَرَدَّد فِيهِ إِلَى الْمحلة فَركب إِلَيْهَا يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف فَالتقى الْجَمْعَانِ يَوْمئِذٍ بَين الظهرين فأجلت الْحَرْب عَن مقتل مصطفى باشا وفقد أَبُو الْحسن ابْن البيطار وَقَالَ فِي النزهة لما رَحل زَيْدَانَ إِلَى مراكش بِسَبَب مَا بلغه من قيام بعض الثوار عَلَيْهِ هُنَالك قدم عبد الله بن الشَّيْخ وَعَمه أَبُو فَارس إِلَى فاس فَخرج مصطفى باشا لمقاتلتهما فعثر بِهِ فرسه وَقتل وَأخذت محلته بأسرها وَهلك مَا لَا يُحْصى من النَّاس وَوَقع النهب حَتَّى انتهب من الْبَقر الَّتِي تحلب نَحْو سِتَّة آلَاف وَدخل عبد الله بن الشَّيْخ فاسا مَعَ عَمه أبي فَارس وَذَلِكَ سَابِع عشر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 تَلْخِيص خبر أبي فَارس ومقتله رَحمَه الله تَعَالَى تقدم لنا أَن أَبَا فَارس بن الْمَنْصُور بُويِعَ بمراكش وَبعث أَخَاهُ الشَّيْخ لقِتَال السُّلْطَان زَيْدَانَ فنكث الشَّيْخ عَهده واستبد عَلَيْهِ ثمَّ بعث إِلَيْهِ ابْنه عبد الله فَهَزَمَهُ إِلَى مسفيوة ثمَّ فر مِنْهَا إِلَى السوس فَأَقَامَ عِنْد حَاجِب أَبِيه عبد الْعَزِيز بن سعيد الوزكيتي ثمَّ لما بَالغ زَيْدَانَ فِي طلبه فر إِلَى أَخِيه الشَّيْخ فَلم يزل مَعَ ابْنه عبد الله بن الشَّيْخ إِلَى أَن قتل مصطفى باشا وَدخل عبد الله فاسا فاستولى عَلَيْهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا فاتفق رَأْي قواد شراكة على قتل عبد الله وتولية عَمه أبي فَارس فَبلغ ذَلِك عبد الله فَدخل على عَمه أبي فَارس لَيْلًا مَعَ حَاجِبه حمو بن عمر فَوَجَدَهُ على سجادته وجواريه حوله فأخرجهن وَأمر بِعَمِّهِ فخنق وَهُوَ يضْرب برجليه إِلَى أَن مَاتَ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان عشرَة وَألف هَذَا هُوَ الصَّوَاب لَا مَا فِي نشر المثاني على اضطرابه فأسف النَّاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يردهُ عَن المناكر ويزجره عَن كثير من القبائح وَذكر فِي الْمُنْتَقى أبياتا من إنْشَاء الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن الْقَاسِم الفشتالي مِمَّا كتب تطريزا على نجاد الواثق بِاللَّه أبي فَارس الْمَذْكُور وَهِي (أتيه وأزرى بِكُل نجاد ... يروق على حلَّة اللابس) (إِذا كنت يَوْم الوغى محملًا ... لعضب حكى شعلة القابس) (على عاتق الْملك المرتضى ... سليل الْوَصِيّ أبي فَارس) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 عودة السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى فاس واستيلاؤه عَلَيْهَا ثمَّ إعراضه عَنْهَا سَائِر أَيَّامه لما سمع السُّلْطَان زَيْدَانَ وَهُوَ بمراكش بمقتل مصطفى باشا نَهَضَ إِلَى فاس وَجَاء على طَرِيق الْجَبَل وَكَانَ نَصَارَى الإصبنيول يَوْمئِذٍ قد نزلُوا على العرائش وحاولوا الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِإِذن الشَّيْخ كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ بفاس فَسمع بنزول النَّصَارَى على العرائش فاستنفر النَّاس وحضهم على الْجِهَاد فتهيؤوا لذَلِك وعزموا على النهوض إِلَيْهَا فَمَا راعهم إِلَّا السُّلْطَان زَيْدَانَ قد أقبل من نَاحيَة أدخسان وَقد أنزل بِهِ محتله وَتقدم إِلَى جِهَة فاس وَضرب بأنفاضه فأنهزم النَّاس عَن عبد الله وَدخل شراكة فاسا فَبعث زَيْدَانَ قائده عبد الصَّمد لتسكين روعة أهل الْبَلَد وَأمر الْمُنَادِي أَن يُنَادي بنصره فَنزل الْمُنَادِي إِلَى أَن بلغ بَاب السلسلة فَقَامَ فِي وَجهه بعض السياب من أهل العدوة وضربه فجرحه وَرجع الْمُنَادِي وَبَطل الْأَمر فَبلغ الْخَبَر السُّلْطَان زَيْدَانَ فَأمر بِإِطْلَاق السَّبِيل فِي أهل فاس وتحكيم السَّيْف فيهم ثمَّ نَدم فَأَمنَهُمْ وَسكن روعتهم وَنزل زَيْدَانَ بوادي فاس فَخرج النَّاس للقائه وَهُوَ غَضْبَان عَلَيْهِم وَقد استولى على فاس وَتمكن مِنْهَا فَأخذ يسب أعيانهم وهم بِقَتْلِهِم وَلَكِن الله سلم ثمَّ إِن الْعَرَب اجْتَمعُوا عِنْد قنطرة المهدومة فِي نَحْو ثَمَانِيَة آلَاف فَخرج إِلَيْهِم زَيْدَانَ وَمَعَهُ عرب الشرق فَانْهَزَمُوا عَنهُ وَلم يبْق مَعَه إِلَّا رَهْط يسير فَرَأى زَيْدَانَ أَمَامه خيلا قَليلَة فقصدها فَإِذا فِيهَا عبد الله بن الشَّيْخ وَقد رأى زَيْدَانَ مُقبلا إِلَيْهِ ففر مَعَ أَن زَيْدَانَ إِنَّمَا قصد الْفِرَار إِلَيْهِ من غير علم لَهُ بِهِ فاستتب أَمر زَيْدَانَ وتراجع إِلَيْهِ أَصْحَابه وَمن الْغَد رَجَعَ إِلَى فاس فَخرج إِلَيْهِ أهل فاس يهنئونه كبارًا وصغارا فَاتَّهمهُمْ بِأَنَّهُم يستهزئون بِهِ فَأمر بهم فسلبوا رجَالًا وَنسَاء فَكَانَ بَعضهم ينظر إِلَى عَورَة بعض وَكَانَ عدد السَّلب نَحْو عشرَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 آلَاف كسْوَة وَدخل أَصْحَاب زَيْدَانَ فاسا فنهبوها وفعلوا فِيهَا الأفاعيل ثمَّ أَمر زَيْدَانَ بتسكين الروعة والأمان وَكَانَ ذَلِك كُله سادس رَجَب سنة تسع عشرَة وَألف فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الْحَادِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور نزل عبد الله بن الشَّيْخ بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ زَيْدَانَ واقتتلوا فَانْهَزَمَ زَيْدَانَ وَقتل من أَصْحَابه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وفر إِلَى محلته الَّتِي ترك بأدخسان وَكَانَ ذَلِك آخر رُجُوع زَيْدَانَ إِلَى فاس فَإِنَّهُ لما أعياه أَمر الغرب أعرض عَنهُ وَصرف عنايته إِلَى ضبط مَا خلف وَادي أم الرّبيع إِلَى مراكش وأعمالها وتوارث بنوه سلطنته على ذَلِك النَّحْو من بعده وَبَقِي عبد الله بن الشَّيْخ يقطع الْأَيَّام بفاس إِلَى أَن هلك وَقَامَ بِأَمْر فاس من بعده ثوارها وسيابها على مَا نذْكر وَفِي كتاب ابتهاج الْقُلُوب فِي أَخْبَار الشَّيْخ المجذوب مَا صورته تكلم الشَّيْخ سَيِّدي كدار يَوْمًا فِي مُلُوك وقته فَقَالَ أما الشَّيْخ معطي العرائش فَإِن أهل الله قد دقوا أوتاده هُنَالك حَتَّى يَمُوت فَلم يتَجَاوَز مَحَله إِلَى أَن قتل بِهِ حوز تطاوين كَمَا سَيَأْتِي وَأما زَيْدَانَ فَإِنَّهُ لما أطلق السَّبِيل فِي أهل فاس ضربه مولَايَ إِدْرِيس بركلة صيرته وَرَاء أم الرّبيع فَلم يتجاوزه بعد ذَلِك اه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على العرائش وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا مَا كَانَ من خبر الشَّيْخ الْمَأْمُون من أَنه فر إِلَى العرائش وَمِنْهَا ركب الْبَحْر إِلَى طاغية الإصبنيول مستصرخا بِهِ على أَخِيه السُّلْطَان زَيْدَانَ فَأبى الطاغية أَن يمده فراوده الشَّيْخ على أَن يتْرك عِنْده أَوْلَاده وحشمه رهنا ويعينه بِالْمَالِ وَالرِّجَال حَتَّى إِذا ملك أمره بذل لَهُ مَا شارطه عَلَيْهِ وَلم يزل بِهِ إِلَى أَن شَرط عَلَيْهِ الطاغية أَن يخلي لَهُ العرائش من الْمُسلمين ويملكه إِيَّاهَا فَقبل الشَّيْخ ذَلِك وَالْتَزَمَهُ وَخرج حَتَّى نزل حجر باديس فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان عشرَة وَألف ثمَّ تقدم فَنزل بِبِلَاد الرِّيف وَلما سمع ذَلِك أهل فاس خَافُوا من شوكته وَذهب جمع من عُلَمَائهمْ وأعيانهم كَالْقَاضِي أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم والشريف أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الصّقليّ الْحُسَيْنِي وَغَيرهمَا لملاقاته وتهنئته بالقدوم فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ فَرح بهم وَأمر قبطان النَّصَارَى أَن يخرج مدافعه وأنفاضه إرهابا وإظهارا لقُوَّة النَّصَارَى الَّذين استنصر بهم فَفعل حَتَّى اصطكت الآذان وارتجت الْجبَال وَنزل القبطان من السَّفِينَة للسلام على الْأَعْيَان فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقبلا أَمرهم الشَّيْخ بِالْقيامِ لَهُ فَقَامُوا إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ وجازوه خيرا على مَا فعل مَعَ الشَّيْخ من الْإِحْسَان والنصرة وَسلم هُوَ عَلَيْهِم بِنَزْع قلنسوته على عَادَة النَّصَارَى وَأنكر النَّاس على أُولَئِكَ الْأَعْيَان قيامهم للْكَافِرِ وضربوا بعصى الذل حَتَّى أَنهم فِي رجوعهم إِلَى فاس تعرض لَهُم عرب الحياينة فسلبوهم وَأخذُوا مَا مَعَهم وجردوهم من ملابسهم جَمِيعًا مَا عدا القَاضِي ابْن أبي النَّعيم فَإِنَّهُ عرف بزِي الْقَضَاء فاحترموه ثمَّ إِن الشَّيْخ انْتقل إِلَى الْقصر الْكَبِير وَهُوَ قصر كتامة وَقصر عبد الْكَرِيم فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة وراود قواده ورؤساء جَيْشه أَن يقفوا مَعَه فِي تَمْكِين النَّصَارَى من العرائش ليفي لَهُ الطاغية بِمَا وعده من النُّصْرَة فَامْتنعَ النَّاس من إسعافه فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 ذَلِك وَلم يُوَافقهُ على غَرَضه إِلَّا قائده الكرني فَإِنَّهُ ساعده على ذَلِك فَبَعثه الشَّيْخ إِلَيْهَا وَأمره أَن يخليها وَلَا يدع بهَا أحدا من الْمُسلمين فَذهب الكرني الْمَذْكُور وكلم أَهلهَا فِي ذَلِك فامتنعوا من الْجلاء عَنْهَا فَقتل مِنْهُم جمَاعَة وَخرج الْبَاقُونَ وهم يَبْكُونَ تخفق على رؤوسهم ألوية الصغار وَلما خرج مِنْهَا الْمُسلمُونَ أَقَامَ بهَا الْقَائِد الكرني إِلَى أَن دَخلهَا النَّصَارَى واستولوا عَلَيْهَا فِي رَابِع رَمَضَان سنة تسع عشرَة وَألف وَوَقع فِي قُلُوب الْمُسلمين من الامتعاض لأخذ العرائش أَمر عَظِيم وأنكروا ذَلِك أَشد الْإِنْكَار وَقَامَ الشريف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِدْرِيس العمراني وَدَار على مجَالِس الْعلم بفاس ونادى بِالْجِهَادِ وَالْخُرُوج لإغاثة الْمُسلمين بالعرائش فانضاف إِلَيْهِ أَقوام وعزموا على التَّوَجُّه لذَلِك ففت فِي عضدهم قائدهم حمو الْمَعْرُوف بِأبي دبيرة وَصرف وجوهم عَمَّا قصدوه فِي حِكَايَة طَوِيلَة وَكَانَ الشَّيْخ لما خَافَ الفضيحة وأنكار الْخَاصَّة والعامة عَلَيْهِ إعطاءه بَلَدا من بِلَاد الْإِسْلَام للْكفَّار احتال فِي ذَلِك وَكتب سؤالا إِلَى عُلَمَاء فاس وَغَيرهَا يذكر لَهُم فِيهِ أَنه لما وغل فِي بِلَاد الْعَدو الْكَافِر واقتحمها كرها بأولاده وحشمه مَنعه النَّصَارَى من الْخُرُوج من بِلَادهمْ حَتَّى يعطيهم ثغر العرائش وَأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوهُ خرج بِنَفسِهِ حَتَّى ترك لَهُم أَوْلَاده رهنا على ذَلِك فَهَل يجوز لَهُ أَن يفْدي أَوْلَاده من أَيدي الْكفَّار بِهَذَا الثغر أم لَا فَأَجَابُوهُ بِأَن فدَاء الْمُسلمين سِيمَا أَوْلَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ سِيمَا أَوْلَاد سيد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 من يَد الْعَدو الْكَافِر بِإِعْطَاء بلد من بِلَاد الْإِسْلَام لَهُ جَائِز وَإِنَّا موافقون على ذَلِك وَوَقع هَذَا الاستفتاء بعد أَن وَقع مَا وَقع وَمَا أجَاب من أجَاب من الْعلمَاء عَن ذَلِك إِلَّا خوفًا على نَفسه وَقد فر جمَاعَة من تِلْكَ الْفَتْوَى كَالْإِمَامِ أبي عبد الله مُحَمَّد الْجنان صَاحب الطرر على الْمُخْتَصر وكالإمام أبي الْعَبَّاس أَحْمد الْمقري مؤلف نفح الطّيب فاختفيا مُدَّة اسْتِبْرَاء لدينهما حَتَّى صدرت الْفَتْوَى من غَيرهمَا وبسبب هَذِه الْفَتْوَى أَيْضا فر جمَاعَة من عُلَمَاء فاس إِلَى الْبَادِيَة كالشيخ أبي عَليّ الْحسن الزياتي شَارِح جمل ابْن المجراد والحافظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف الفاسي وَغَيرهمَا بَقِيَّة أَخْبَار الشَّيْخ ومقتله رَحمَه الله وَتجَاوز عَنهُ ثمَّ إِن الشَّيْخ ابْن الْمَنْصُور نزل بالفحص وَاجْتمعت عَلَيْهِ لمة من أهل الذعارة وَالْفساد على شاكلته فَنَهَضَ بهم إِلَى تطاوين فاستولى عَلَيْهَا وَأخرج مِنْهَا كبيرها الْمُقدم الْمُجَاهِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس وَلم يزل الشَّيْخ يجول فِي بِلَاد الفحص ويعسف أَهلهَا إِلَى أَن مِلَّته الْقُلُوب وتمالأ أَشْيَاخ الفحص على قَتله لما رَأَوْا من انحلال عقيدته ورقة ديانته وتمليكه ثغر الْإِسْلَام للْكفَّار ففتك بِهِ الْمُقدم أَبُو الليف فِي وسط محلته بِموضع يعرف بفج الْفرس وَبَقِي صَرِيعًا مَكْشُوف الْعَوْرَة أَيَّامًا حَتَّى خرج جمَاعَة من أهل تطاوين فَحَمَلُوهُ مَعَ من قتل مَعَه من أَصْحَابه كالدبيريين وَبَعض أَوْلَاده ودفنوهم خَارج تطاوين إِلَى حمل الشَّيْخ إِلَى فاس الْجَدِيد مَعَ أمه الخيزران فدفنا بِهِ وَكَانَ مَقْتَله خَامِس رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 وَقَالَ منويل إِنَّه وصل إِلَى قرب تطاوين وَبنى هُنَالك أفراكا وَأقَام ينْتَظر اجْتِمَاع الجيوش عَلَيْهِ ثمَّ سكر ذَات يَوْم على عَادَته وَخرج إِلَى عين مَاء هُنَالك فاستلقى قربهَا فِي نَبَات أَخْضَر أَعْجَبته خضرته فَجَاءَهُ أنَاس من أهل تِلْكَ الْبَلدة فعرفوه وشدخوا رَأسه بصخرة فَقَتَلُوهُ وَيُقَال إِن قَتله كَانَ بِإِشَارَة الثائر أبي محلي الْآتِي ذكره وَإنَّهُ كتب إِلَى المقدمين النقسيس وَأبي الليف يحضهما على قَتله فَقَتَلُوهُ وانتهبوا مَاله وَكَانَ شَيْئا كثيرا وَمن جملَة مَا نهب مِنْهُ نَحْو الْمَدّ من الْيَاقُوت وَبَقِي من أثاثه نَحْو وسق سفينة كَانَ قد تَركه بطنجة فاستولى عَلَيْهِ نصاراها من البرتغال لما قتل وَكَانَ للشَّيْخ عَفا الله عَنهُ مُشَاركَة فِي الْعلم وَيَد فِي مبادئ الطِّبّ أَخذ عَن أَشْيَاخ الحضرتين وَله شعر مُتَقَارب وَمن كِتَابه الأديب المتفنن أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الغرديس التغلبي وَكَانَ من أهل الإجادة والتبريز فِي صناعَة الْإِنْشَاء قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي فِي شَرحه لدلائل الْخيرَات عِنْد قَوْله وَكَانَ لي جَار نساخ مَا نَصه وَقد كَانَ الشَّيْخ الْكَاتِب الرئيس أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الغرديس شيخ كتاب الْإِنْشَاء بِحَضْرَة فاس رَحمَه الله اسْتعَار مني كتاب الأنباء فِي شرح الْأَسْمَاء للإقليشي ثمَّ مرض مرض مَوته فعدته فَوجدت الْكتاب عِنْد رَأسه وَمَعَهُ كراريس مَنْسُوخَة وَأُخْرَى معدة للنسخ فَقَالَ لي إِنِّي إِذا وجدت رَاحَة كتبت مِنْهُ مَا قدرت عَلَيْهِ فَإِذا غلبني مَا بِي أَمْسَكت فَقَالَ لَهُ وَلم تتكلف هَذَا فَقَالَ إِنِّي عصيت الله بِهَذِهِ الْأَصَابِع مَا لَا أحصيه فرجوت أَن يكون مَا أعانيه على هَذِه الْحَال من نسخ هَذَا الْكتاب خَاتِمَة عَمَلي وَكَفَّارَة لذَلِك فكمل الله قَصده وَأتم الْكتاب وَتُوفِّي من مَرضه ذَلِك وَقد طَال بِهِ سنة عشْرين والف اه وَلِهَذَا الْكَاتِب يَقُول الشَّاعِر (تمتعت يَا غرديس والدهر رَاقِد ... وَأَنت بفاس وَابْن حيون وَاجِد) (بسعدك راحت خيزران لقبرها ... مصائب قوم عِنْد قوم فَوَائِد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 رياسة ولي الله تَعَالَى أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد العياشي على الْجِهَاد ومبدأ أمره فِي ذَلِك هَذَا الرجل هُوَ ولي الله تَعَالَى الْمُجَاهِد فِي سَبيله أَبُو عبد الله مُحَمَّد فتحا ابْن أَحْمد الْمَالِكِي الزياني الْمَعْرُوف بالعياشي ونسبته إِلَى بني مَالك ابْن زغبة الهلاليين وهم الْيَوْم قَبيلَة من عرب الغرب كَانَ رَحمَه الله مستوطنا مَدِينَة سلا وَكَانَ من تلامذة الْوَلِيّ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي مُحَمَّد عبد الله بن حسون السلاسي دَفِين سلا وَكَانَ ابْتِدَاء أَمر أبي عبد الله أَنه كَانَ ملازما لشيخه الْمَذْكُور من أقرب التلامذة إِلَيْهِ وأسرعهم إِلَى خدمته وأولهم دُخُولا عَلَيْهِ وَآخرهمْ خُرُوجًا عَنهُ وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الْوَرع قَلِيل الْكَلَام مديما للصيام وَقِرَاءَة الْقُرْآن فَكَانَ الشَّيْخ ابْن حسون ملتفتا إِلَيْهِ وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن شاعت مَنَاقِب الشَّيْخ وَكثر غاشيه فأهدى لَهُ يَوْمًا بعض أَشْيَاخ الْقَبَائِل فرسا فَأمر الشَّيْخ بإسراجه وَقَالَ أَيْن مُحَمَّد العياشي فَقَالَ هَا أَنا ذَا يَا سَيِّدي فَقَالَ الشَّيْخ اركب بحول الله فرسك ودنياك وآخرتك فتفهقر تأدبا فَحلف عَلَيْهِ ليركبن وَحبس لَهُ الركاب بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ ارتحل عني إِلَى آزمور وَانْزِلْ على أَوْلَاد أبي عَزِيز وَلَا بُد لَك من الرُّجُوع إِلَى هَذِه الْبِلَاد وسيكون لَك شَأْن عَظِيم فودعه أَبُو عبد الله وَوضع الشَّيْخ يَده على رَأسه وَبكى ودعا لَهُ بِخَير فقصد نَاحيَة آزمور وَنزل حَيْثُ عين لَهُ شَيْخه الْمَذْكُور وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان زَيْدَانَ سنة ثَلَاث عشرَة وَألف فَلم يزل أَبُو عبد الله العياشي مثابرا على الْجِهَاد شَدِيد الشكيمة على الْعَدو عَارِفًا بِوُجُوه المكايد الحربية بطلا شهما مقداما فِي مَوَاطِن الإحجام وقورا صموتا عَن الْكَلَام فطار بذلك فِي الْبِلَاد صيته وشاع بَين النَّاس ذكره لما هُوَ عَلَيْهِ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 التَّضْيِيق على نَصَارَى الجديدة وَكَانُوا يَوْمئِذٍ قد أَمر أَمرهم ففرح بذلك قَائِد آزمور وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن توفّي قَائِد الفحص والبلاد الآزمورية فَسَأَلَ السُّلْطَان زَيْدَانَ عَمَّن يَلِيق بتولية ذَلِك الثغر فَقيل لَهُ سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَكتب إِلَيْهِ بالتولية فَقبل ونهض بأعباء مَا حمل من ولَايَة الفحص وجهاده وَكَانَت لَهُ مَعَ نَصَارَى الجديدة وقائع وضيق عَلَيْهِم حَتَّى مَنعهم من الْحَرْث والرعي فَبعث النَّصَارَى إِلَى حَاشِيَة السُّلْطَان زَيْدَانَ بالتحف ونفائس الْهَدَايَا ليعزلوا عَنْهُم أَبَا عبد الله الْمَذْكُور لمضايقته لَهُم فخوفوا السُّلْطَان زَيْدَانَ عاقبته وحضوه على عَزله وأظهروا لَهُ أَنه مسموع الْكَلِمَة فِي تِلْكَ النواحي وَأَنه يخْشَى على الدولة مِنْهُ وَكَانَ أَبُو عبد الله العياشي كلما بعث بالغنائم وَمَا يفتح الله بِهِ عَلَيْهِ من الْأُسَارَى إِلَى مراكش ازدادت شهرته وتناقل النَّاس حَدِيثه فوغر بذلك قلب زَيْدَانَ وحنق عَلَيْهِ فَبعث إِلَيْهِ قائده مُحَمَّد السنوسي فِي أَرْبَعمِائَة فَارس وَأمره بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَقَتله وَألقى الله فِي قلب الْقَائِد الْمَذْكُور الشَّفَقَة عَلَيْهِ لما يعلم من بَرَاءَته مِمَّا قذف بِهِ فَبعث إِلَيْهِ خُفْيَة أَن أَنْج بِنَفْسِك فَإنَّك مغدور فَخرج أَبُو عبد الله العياشي فِي أَرْبَعِينَ رجلا فُرْسَانًا وَمُشَاة قَاصِدين سلا فاستقر بهَا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَلما انْتهى السنوسي إِلَى آزمور وَلم يجد لَهُ أثرا أظهر الْعِنَايَة بالبحث عَنهُ وعاقب شرذمة من أهل الفحص على إفلاته تعمية على السُّلْطَان وَإِقَامَة لعذره عِنْده فَقبل السُّلْطَان زَيْدَانَ ذَلِك وَالله غَالب على أمره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 ثورة الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله السجلماسي الْمَعْرُوف بِأبي محلي قَالَ فِي كِتَابه أصليت الخريت مَا ملخصه كَانَت ولادتي سنة سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة بسجلماسة وَالَّذِي تلقيته من أبي وكافة عمومتي أَن أَوْلَاد أبي محلي من ذُرِّيَّة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ وَأما جدنا الْأَشْهر المكنى بِأبي محلي فتح الْمِيم والحاء وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة بعْدهَا يَاء تحتية سَاكِنة مَعَ كَبِير شهرته لَا علم لي الْآن بِسَبَب تكنيته بذلك وَلَا بتفاصيل أَحْوَاله بعد الْبَحْث عَنهُ قَالَ وبخطة الْقَضَاء اشْتهر نسبنا فنعرف بأولاد القَاضِي وزاويتنا بزاوية القَاضِي وَلم تزل بَقِيَّة الْعلم فِي دُورنَا وخصوصا دَار أبي اه وَقَالَ صَاحب الْبُسْتَان أَبُو محلي هَذَا اسْمه أَحْمد بن عبد الله وينتسب إِلَى بني الْعَبَّاس ويعرفون فِي سجلماسة بأولاد ابْن اليسع أهل زَاوِيَة القَاضِي انْتهى قلت أما الانتساب إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ فقد أنكر ابْن خلدون وجود النِّسْبَة العباسية فِي الْمغرب قَالَ فِي فصل اخْتِلَاط الْأَنْسَاب وَمَا بعده مَا نَصه وَلم يعلم دُخُول أحد من العباسيين إِلَى الْمغرب لِأَنَّهُ كَانَ مُنْذُ أول دولتهم على دَعْوَة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فَكيف يسْقط العباسي إِلَى أحد من شيعَة العلويين اه ثمَّ قَالَ أَبُو محلي فِي الْكتاب الْمَذْكُور فَلَمَّا نشأت فِي حجر وَالِدي بذل مجهوده فِي تعليمي وَقد كَانَت أُمِّي رَأَتْ وَهِي حَامِل بِي وليا من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى أحد شُيُوخ التربية ببلدنا وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله السجلماسي قد سَقَاهَا قدحا من لبن وَأَرْجُو الله صدق تَأْوِيلهَا بِالْعلمِ وَالدّين وَحقّ الْيَقِين قَالَ وَكَانَ خروجي لطلب الْعلم بفاس فِي حُدُود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 الثَّمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق أَو بَالغ الْحلم لَا همة لي إِلَّا فِي الْعلم فأقمت بفاس نَحْو خمس سِنِين إِلَى أَن جَاءَ النَّصَارَى إِلَى وَادي المخازن فدهش النَّاس واستشرت أَخا من الطّلبَة فدلني على الْخُرُوج إِلَى الْبَادِيَة حَتَّى ينجلي نَهَار الْأَمْن فَخرجت إِلَى كريكرة فَحفِظت فِيهَا الرسَالَة وَقد كنت مَا حصلت بفاس إِلَى النَّحْو ثمَّ رجعت إِلَى فاس بعد أَن زَالَ الدهش بهزيمة النَّصَارَى وَولَايَة الْمَنْصُور والنحو صنعتي وَفِي الْفِقْه رغبتي وَقد كنت فِي الخرجة الأولى إِلَى الْبَادِيَة زرت قبر الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ فطلبت الله عِنْده أَن أكون من الراسخين فِي الْعُلُوم بأسرها وتوبة يتقبلها فَمَا دَار عَليّ الْحول إِلَّا وَأَنا بزاوية الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن مبارك الزعري لَا عَن قصد لكوني إِذْ ذَاك مُولَعا بِالْعلمِ أما طَرِيق الْفقر فَلَا تخطر لي ببال لِأَن الْمُعْتَمد يَوْمئِذٍ فِي فُقَرَاء الْوَقْت أَخْلَاق الضلال فَكنت أَشد النَّاس حذرا مِنْهُم إِلَى أَن انْكَشَفَ السّتْر فَرَأَيْت مَا رَأَيْت ووعيت فصاحبت شَيْخي الَّذِي لولاه مَعَ فضل الله لهلكت وَلَوْلَا هدايته بِإِذن الله لضللت أَعنِي أَبَا عبد الله مولَايَ مُحَمَّد بن مبارك الزعري الْقَبِيل الجراري السَّبِيل وَهُوَ رَضِي الله عَنهُ من قَبيلَة عرب بالمغرب يُقَال لَهُم زعير بِصِيغَة التصغير وَالنّسب إِلَيْهَا زعرى على التَّكْبِير وَهِي قَبيلَة من عرب السوس بالمغرب الْأَقْصَى قَالَ فَبَقيت فِي صُحْبَة شَيْخي الْمَذْكُور نَحوا من ثَمَان عشرَة سنة وَمَا فارقته إِلَّا عَن أمره إِذْ هُوَ الَّذِي وجهني إِلَى بلدي سجلماسة من غير اخْتِيَار قَائِلا لي صَلَاحهمْ فِيك ثمَّ ناولني عَصَاهُ وبرنسه وَنَعله من غير طلب مني لشَيْء من ذَلِك وَجعل فِي رَأْسِي قلنسوة كالخرقة بِيَدِهِ الْيُمْنَى عِنْد الْوَدَاع فَلَمَّا استوطنت بلدي عَن إِذْنه زرته مِنْهُ إِحْدَى عشرَة مرّة وَفِي الْأَخِيرَة مِنْهَا وَذَلِكَ بعد مقفلي من الْحجَّة الأولى الَّتِي كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف دَعَا لي بقوله بلاك الله أَكثر مِمَّا بلاني فتأولتها بإقبال الْخلق كَمَا ترى وَقد صَاح عِنْدهَا صَيْحَة عَظِيمَة لم أر مثلهَا مِنْهُ مُنْذُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 صحبته إِذْ عَادَته كَانَت الطُّمَأْنِينَة وَلما توفّي رَحمَه الله بقيت نَحوا من ثَلَاث سِنِين عاطلا ثمَّ تحلى النَّحْر بدرر لطائفه الْمَوْعُود بهَا فَلهُ الْحَمد على مَا أسدى وَله الشُّكْر فِيمَا أولى ثمَّ ذكر بَقِيَّة أشياخه كالشيخ أبي الْعَبَّاس المنجور وَالشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السوداني وَالشَّيْخ سَالم السنهوري وَغَيرهم مِمَّن يطول ذكرهم قَالَ ثمَّ كملت الْفَائِدَة بعد المقفل من الْحَج فَرَجَعت إِلَى الديار المغربية وَنزلت بوادي الساورة ثمَّ تحولت بِجَمِيعِ عيالي إِلَى الْوَادي الْمَذْكُور هَذَا ملخص أوليته مَنْقُولًا من كِتَابه الْمَذْكُور وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التواتي رَحمَه الله تَعَالَى فِي رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا مقامة التحلي والتخلي من صُحْبَة الشَّيْخ أبي محلي وَهِي رِسَالَة طَوِيلَة مسجعة قَالَ كَانَ الْفَقِيه أَبُو محلي فِي أول أمره فَقِيها صرفا ثمَّ انتحل طَريقَة التصوف مُدَّة حَتَّى وَقع على بعض الْأَحْوَال الربانية ولاحت لَهُ مخايل الْولَايَة فانحشر النَّاس لزيارته أَفْوَاجًا وقصدوه فُرَادَى وأزواجا وَبعد صيته وَكَثُرت أَتْبَاعه قَالَ فَلَمَّا سَمِعت بذلك ذهبت إِلَيْهِ وَجَلَست عِنْده إِلَى أَن وجدته يُشِير إِلَى نَفسه بِأَنَّهُ الْمهْدي الْمَعْلُوم المبشر بِهِ فِي صَحِيح الْأَحَادِيث فتركته وَرَاء ونبذته بالعراء اه وَقَالَ الشَّيْخ اليوسي فِي محاضراته وَقد تكلم على الدَّعْوَى الفاطمية مَا نَصه وَمِمَّنْ ابْتُلِيَ بهَا قَرِيبا أَحْمد بن عبد الله بن أبي محلي التستاوتي خَاضَ فِي الطَّرِيق حَتَّى حصل لَهُ نصيب من الذَّوْق وَألف فِيهَا كتابا يدل على ذَلِك ثمَّ نزغت بِهِ هَذِه النزغة فحدثونا أَنه كَانَ فِي أول أمره معاشرا لمُحَمد بن أبي بكر الدلائي وَكَانَ الْبَلَد إِذْ ذَاك قد كثرت فِيهِ المناكر وشاعت فَقَالَ ابْن أبي محلي لِابْنِ أبي بكر ذَات لَيْلَة هَل لَك فِي أَن نخرج غَدا إِلَى النَّاس فنأمر بِالْمَعْرُوفِ وننهى عَن الْمُنكر فَلم يساعفه لما رأى من تعذر ذَلِك لفساد الْوَقْت وتفاقم الشَّرّ فَلَمَّا أصبحا خرجا فَأَما ابْن أبي بكر فَانْطَلق إِلَى نَاحيَة النَّهر فَغسل ثِيَابه وازال شعثه بِالْحلقِ وَأقَام صلَاته وأوراده فِي أَوْقَاتهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 وَأما ابْن أبي محلي فَتقدم لما هم بِهِ من الْحِسْبَة فَوَقع فِي شَرّ وخصام أَدَّاهُ إِلَى فَوَات الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَلم يحصل على طائل فَلَمَّا اجْتمعَا بِاللَّيْلِ قَالَ لَهُ ابْن أبي بكر أما أَنا فقد قضيت مآربي وحفظت ديني وانقلبت فِي سَلامَة وصفاء وَمن أَتَى مُنْكرا فَالله حسيبه أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام وَأما أَنْت فَانْظُر مَا الَّذِي وَقعت فِيهِ ثمَّ لم ينْتَه إِلَى أَن ذهب إِلَى بِلَاد الْقبْلَة ودعا لنَفسِهِ وَادّعى أَنه الْمهْدي المنتظر وَأَنه بصدد الْجِهَاد فاستخف قُلُوب الْعَوام واتبعوه اه وَصَارَ ابْن أبي محلي يُكَاتب رُؤَسَاء الْقَبَائِل وَعُظَمَاء الْبلدَانِ يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ ويحضهم على الاستمساك بِالسنةِ ويشيع أَنه الفاطمي المنتظر وَأَن من تبعه فَهُوَ الفائز وَمن تخلف عَنهُ فموبق وَرُبمَا كَانَ يَقُول لأَصْحَابه محرضا لَهُم على نصرته أَنْتُم أفضل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنكم قُمْتُم بنصر الْحق فِي زمن الْبَاطِل وهم قَامُوا بِهِ فِي زمن الْحق وَنَحْو هَذَا من زخارف كَلَامه وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي فِي بعض قصائده معرضًا بِأبي محلي الْمَذْكُور فَقَالَ (يَا أمة الْمُصْطَفى الْهَادِي أَلَيْسَ لكم ... فِيمَن مضى أُسْوَة من سَائِر العلما) (نسيتم دين خير الْخلق وافترقت ... آراؤكم فغدا الْإِسْلَام منقسما) (أتحسبون بِأَن الله تارككم ... سدى وخلقكم قد تعلمُونَ لما) (ناشدتكم بِالَّذِي فِي الْعرض يجمعنا ... أما فطنتم ومالاه كمن فهما) (بِأَن مغربكم قد عَمه سخط ... من الْمُهَيْمِن يَا لله معتصما) (إِن قيل للنَّاس إِن الْهَرج يوبقكم ... قَالُوا الْفَقِيه فلَان قبلنَا اعتزما) (لَو لم يكن جَازَ مَا أفتى الإِمَام بِهِ ... وَلَا أَتَاهُ أَلا تبنوا الَّذِي انهدما) (وَمن يقل قَالَ خير الْخلق قيل لَهُ ... هَا صَاحب الْوَقْت يكفينا الَّذِي علما) (وَنحن أفضل من صحب الرَّسُول لنا ... أجر يُضَاعف فِي أجفارنا نظما) (وزخرفوا ترهات القَوْل فانفعلت ... لَهُم نفوس عوام رشدها عدما) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 نهوض ابْن أبي محلي إِلَى سجلماسة ودرعة واستيلاؤه عَلَيْهَا ثمَّ على مراكش بعدهمَا كَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن أبي محلي عَفا الله عَنهُ لما كثرت جموعه وانثال النَّاس عَلَيْهِ يُصَرح بِوُجُوب الْقيام بتغيير الْمُنكر الَّذِي شاع فِي النَّاس وَيَقُول إِن أَوْلَاد الْمَنْصُور قد تهالكوا فِي طلب الْملك حَتَّى فنى النَّاس فِيمَا بَينهم وانتهبت الْأَمْوَال وانتهكت الْمَحَارِم فَيجب الضَّرْب على أَيْديهم وَكسر شوكتهم وَلما بلغه مَا فعل الشَّيْخ من إجلاء الْمُسلمين عَن العرائش وَبَيْعهَا لِلْعَدو الْكَافِر استشاط غَضبا وَأظْهر انه غضب لله لَا لشَيْء سواهُ فَخرج يؤم سجلماسة وَكَانَ خَليفَة زَيْدَانَ عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ يُسمى الْحَاج المير فَخرج عَامل زَيْدَانَ لمصادمته وَهُوَ فِي نَحْو أَرْبَعَة آلَاف وَابْن أبي محلي فِي نَحْو أَرْبَعمِائَة فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على جَيش زَيْدَانَ وأشاع النَّاس أَن الرصاص يَقع على أَصْحَاب أبي محلي بَارِدًا لَا يضرهم وَنفخ الشَّيْطَان فِي هَذِه الْفِرْيَة فسكنت هيبته فِي الْقُلُوب وَتمكن ناموسه مِنْهُ وَلما دخل سجلماسة أظهر الْعدْل وَغير المناكر فأحبته الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ وُفُود أهل تلمسان والراشدية يهنئونه وَفِيهِمْ الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عُثْمَان سعيد الجزائري الْمَعْرُوف بقدورة شَارِح السّلم وَهُوَ من تلامذة ابْن أبي محلي كَمَا ذكره فِي الأصليت وَلما بلغ خبر الْهَزِيمَة إِلَى زَيْدَانَ وانْتهى إِلَيْهِ فلهَا جهز إِلَيْهِ من مراكش جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِ أَخَاهُ عبد الله بن الْمَنْصُور الْمَعْرُوف بالزبدة فَسمع بِهِ أَبُو محلي فَسَار إِلَيْهِ فَكَانَ اللِّقَاء بَينهمَا بدرعة فَوَقَعت الْهَزِيمَة على عبد الله بن الْمَنْصُور وَمَات من أَصْحَابه نَحْو الثَّلَاثَة آلَاف فقوي أَمر ابْن أبي محلي واشتدت شوكته وَجمع بَين سجلماسة ودرعة وَكَانَ الْقَائِد يُونُس الأيسي قد هرب من زَيْدَانَ لأمر نقمه عَلَيْهِ وَقصد إِلَى أبي محلي فجَاء مَعَه يَقُودهُ ويطلعه على عورات زَيْدَانَ ويهون عَلَيْهِ أمره وَمَا زَالَ بِهِ إِلَى أَن أَتَى بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 إِلَى مراكش فَبعث إِلَيْهِ زَيْدَانَ جَيْشًا كثيفا فَهَزَمَهُ أَبُو محلي وَتقدم فَدخل مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وفر زَيْدَانَ إِلَى ثغر آسفي وهم بركوب الْبَحْر إِلَى بر العدوة هَكَذَا فِي النزهة وَذكر الْوَزير البرتغالي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة إِن نَصَارَى الجديدة بعثوا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ بمائتين من مُقَاتلَتهمْ إِعَانَة لَهُ على عدوه من غير أَن يطْلب مِنْهُم ذَلِك فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أنف من الِاسْتِعَانَة بهم على الْمُسلمين لكنه أحسن إِلَيْهِم وَأطلق لَهُم بعض أَسْرَاهُم وردهم مكرمين هَذَا كَلَامه وَالْحق مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وَذَلِكَ هُوَ الظَّن بزيدان رَحمَه الله وَلما دخل أَبُو محلي قصر الْخلَافَة بمراكش فعل فِيهِ مَا شَاءَ وَولد لَهُ هُنَالك مَوْلُود سَمَّاهُ زَيْدَانَ وَيُقَال إِنَّه تزوج أم زَيْدَانَ وَبنى بهَا ودبت فِي رَأسه نشوة الْملك وَنسي مَا بنى عَلَيْهِ أمره من الْحِسْبَة والنسك وَفِي المحاضرات للشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله مَا صورته وَزَعَمُوا أَن إخوانه من الْفُقَرَاء ذَهَبُوا إِلَيْهِ حِين استولى على مراكش برسم زيارته وتهنئته فَلَمَّا كَانُوا بَين يَدَيْهِ أخذُوا يهنئونه ويفرحون لَهُ بِمَا حَاز من الْملك وَفِيهِمْ رجل سَاكِت لَا يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنك لَا تَتَكَلَّم وألح عَلَيْهِ فِي الْكَلَام فَقَالَ الرجل أَنْت الْيَوْم سُلْطَان فَإِن أمنتني على أَن أَقُول الْحق قلته قَالَ لَهُ أَنْت آمن فَقل فَقَالَ إِن الكرة الَّتِي يلْعَب بهَا الصّبيان يتبعهَا المائتان وَأكْثر من خلفهَا وينكسر النَّاس وينجرحون وَقد يموتون وَيكثر الصياح والهول فَإِذا فتشت لم يُوجد فِيهَا إِلَّا شراويط أَي خرق باليه ملفوفة فَلَمَّا سمع ابْن أبي محلي هَذَا الْمثل وفهمه بَكَى وَقَالَ رمنا أَن نجبر الدّين فأتلفناه انْتهى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 استصراخ السُّلْطَان زَيْدَانَ بِأبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي ومقتل أبي محلي رَحمَه الله لما التف الرعاع من الْعَامَّة على أبي محلي وَكَثُرت جموعه وَعلم زَيْدَانَ ضعفه عَن مقاومته كتب إِلَى الْفَقِيه أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي ثمَّ الدَّاودِيّ مستغيثا بِهِ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَكَانَ يحيى بزاوية أَبِيه من جبل درن وَله شهرة عَظِيمَة بالصقع السُّوسِي وَله أَتبَاع فَأَتَاهُ السُّلْطَان زَيْدَانَ وَقَالَ لَهُ إِن بيعتي فِي أَعْنَاقكُم وَأَنا بَين أظْهركُم فَيجب عَلَيْكُم الذب عني ومقاتلة من ناوأني فلبي أَبُو زَكَرِيَّاء دَعوته وَحشر الجيوش من كل جِهَة وَخرج يؤم مراكش فِي ثامن رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَلما انْتهى إِلَى فَم تانوت مَوضِع على مرحلَتَيْنِ من مراكش كتب إِلَيْهِ أَبُو محلي بِمَا نَصه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أَحْمد بن عبد الله إِلَى يحيى بن عبد الله أما بعد فقد بَلغنِي أَنَّك جندت وبندت وَفِي فَم تانوت نزلت اهبط إِلَى الوطاء ينْكَشف بَيْننَا الغطاء فالذئب ختال والأسد صوال وَالْأَيَّام لَا تستقيم إِلَّا بطعن القنا وَضرب الحسام وَالسَّلَام فَأَجَابَهُ يحيي بِمَا نَصه من يحيى بن عبد الله إِلَى أَحْمد بن عبد الله أما بعد فَلَيْسَتْ الْأَيَّام لي وَلَا لَك إِنَّمَا هِيَ للْملك العلام وَقد أَتَيْتُك بِأَهْل البنادق الْأَحْرَار من الشبانة وَمن انْتَمَى إِلَيْهِم من بني جرار وَمن أهل الشرور والبؤس من هشتوكة إِلَى بني كنسوس فالموعد بيني وَبَيْنك جيليز هُنَالك ينْتَقم الله من الظَّالِم ويعز الْعَزِيز ثمَّ زحف يحيى إِلَى مراكش فِي جموعه فَنزل بِقرب جيليز جبل مطل على مراكش وبرز إِلَيْهِ أَبُو محلي والتحم الْقِتَال بَينهمَا فَكَانَت أول رصاصة فِي نحر أبي محلي فَهَلَك مَكَانَهُ وانذعرت جموعه ونهبت محلته واحتز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 رَأسه وعلق على سور مراكس فَبَقيَ مُعَلّقا هُنَالك مَعَ رُؤُوس جمَاعَة من أَصْحَابه نَحوا من اثْنَتَيْ عشرَة سنة وحملت جثته فدفنت بروضة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي تَحت الْمكتب الْمُعَلق هُنَالك عِنْد الْمَسْجِد الْجَامِع وَزعم أَصْحَابه أَنه لم يمت وَلكنه تغيب قَالَ اليفرني وحَدثني من أَثِق بِهِ من أهل وَادي الساورة أَن فيهم إِلَى الْآن من هُوَ على هَذَا الِاعْتِقَاد وَذكر الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات أَن أَبَا محلي كَانَ ذَات يَوْم عِنْد أستاذه ابْن مبارك فورد عَلَيْهِ وَارِد حَال فَتحَرك وَجعل يَقُول أَنا سُلْطَان أَنا سُلْطَان فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذ يَا أَحْمد هَب أَنَّك تكون سُلْطَانا إِنَّك لن تخرق الأَرْض وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا وَوَقع فِي يَوْم آخر للْفُقَرَاء سَماع فَتحَرك أَبُو محلي وَجعل يَقُول أَنا سُلْطَان أَنا سُلْطَان فَتحَرك فَقِيرا آخر وَجعل يَقُول ثَلَاث سِنِين غير ربع ثَلَاث سِنِين غير ربع قَالَ وَهَذِه هِيَ مُدَّة ملكه اه وَيذكر انه لما طَاف بِالْبَيْتِ فِي وجهته الحجازية سمع وَهُوَ يَقُول يَا رب إِنَّك قلت وقولك الْحق {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} آل عمرَان 140 فَاجْعَلْ لي يَا رب دولة بَينهم قَالُوا وَلم يسْأَل حسن الْعَاقِبَة فرزق الدولة وَآل بِهِ الْأَمر إِلَى مَا أبرمته يَد الْقُدْرَة وَكَانَ أَبُو محلي رَحمَه الله فَقِيها محصلا لَهُ قلم بليغ وَنَفس عَال وَله تآليف مِنْهَا الوضاح والقسطاس والأصليت والهودج ومنجنيق الصخور فِي الرَّد على أهل الْفُجُور وَجَوَاب الخروبي عَن رسَالَته الشهيرة لأبي عَمْرو القسطلي وَغير ذَلِك وَقد وَقعت بَينه وَبَين يحيى بن عبد الله مراسلات ومهاجيات نظما ونثرا كَقَوْلِه (أيحيى الخسيس النذل مَالك تَدعِي ... بزور شعارا للفحول الْأَوَائِل) (كدعواك فِي بَيت النُّبُوَّة نِسْبَة ... وَأَنت دنيء من أخس الْقَبَائِل) (ووجهك وَجه القرد قبح صُورَة ... ورأسك رَأس الديك بَين الْمَزَابِل) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 ويزعمون أَن يحيى كَانَ معاشرا لأبي محلي أَيَّام الطّلب بِالْمَدْرَسَةِ بفاس قَالَ اليفرني وحَدثني صاحبنا القَاضِي أَبُو زيد السكتاني أَنه وقف على تأليف كَبِير مُشْتَمل على مَا وَقع بَين يحيى وَأبي محلي من الشّعْر فِي غَرَض الهجاء وَغَيره وَقد رمز تَارِيخ ثورة أبي محلي ووفاته الشَّيْخ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد المريدي المراكشي فَقَالَ قَامَ طيشا وَمَات كَبْشًا وَلَا يخفى مَا فِيهِ بعد إِفَادَة التَّارِيخ من حسن التلميح وبديع التورية وَلما قتل ابْن أبي محلي دخل يحيى مراكش وَاسْتقر بدار الْخلَافَة مِنْهَا وَألقى بهَا عَصا تسياره ورام أَن يتخذها دَار قراره فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان زَيْدَانَ يَقُول أما بعد فَإنَّا كنت إِنَّمَا جِئْت لنصرتي وكف يَد ذَلِك الثائر عني فقد أبلغت المُرَاد وشفيت الْفُؤَاد وَإِن كنت إِنَّمَا رمت أَن تجر النَّار لقرصك وَتجْعَل الْملك من قنصك فَأقر الله عَيْنك بِهِ وَالسَّلَام فتجهز يحيى للعود إِلَى وَطنه وَأظْهر الْعِفَّة عَن الْملك وَأَنه إِنَّمَا جَاءَ ليدافع عَن السُّلْطَان الَّذِي بيعَته فِي عُنُقه وانقلب إِلَى بِلَاده وَرجع زَيْدَانَ إِلَى مراكش فاستقر بدار ملكه وَقد قيل إِن يحيى رام الْملك وَأَن أجناده من البربر لم يساعدوه فِي قصَّة طَوِيلَة وَالله أعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 بَقِيَّة أَخْبَار أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي وَمَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله هُوَ يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي الدَّاودِيّ المناني وَكَانَ جده سعيد وَاحِد وقته علما ودينا وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الله بِهِ السّنة بالسوس وانتعش بِهِ الْإِسْلَام فِيهِ وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة فخلفه وَلَده أَبُو مُحَمَّد عبد الله وَجرى على نهجه وسبيله بل كَانَ بعض النَّاس يفضله على أَبِيه وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَدفن بزداغة من جبل درن حَيْثُ كَانَت زاويته وَلما مَاتَ جلس وَلَده أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى مَوْضِعه وانتهج سَبيله وَكَانَ فَقِيها مشاركا رَحل إِلَى فاس وَأخذ عَن شيوخها كالمنجور وَغَيره وَعَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد الحسني على مَا وجد بِخَطِّهِ السوساني الشهير بأدفال دَفِين درعة وَهُوَ معتمده أَخذ عَنهُ كثيرا من الْفُنُون وَأَجَازَهُ فِي عُلُوم الحَدِيث إجَازَة عَامَّة وَكَانَ يحيى شَاعِرًا محسنا وَكَانَت لَهُ شهرة عَظِيمَة بالصلاح وَله أَتبَاع كوالده وجده وتوجهت إِلَى زيارته الهمم وَركبت إِلَيْهِ النجائب إِلَّا أَنه وَقع لَهُ قريب مِمَّا وَقع لأبي محلي فتصدى للْملك وخاض فِي أُمُور السلطنة فتكدر مشربه وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء إِن الرياسة إِذا دخلت قلب رجل لَا تقصر عَن إذهاب رَأسه وَلذَلِك قَالَ صَاحب الْفَوَائِد فِي حَقه إِنَّه قَامَ لجمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 الْكَلِمَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْأمة فاستمر بِهِ علاج ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَلم يتم لَهُ أَمر وَكَانَ يراسل السُّلْطَان زَيْدَانَ وَيكثر عَلَيْهِ وَيُجِير عَلَيْهِ من استجار بِهِ ويروم إِلَى مناصحته ابْتِغَاء ويحسو من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَكَانَ زَيْدَانَ يتَحَمَّل مِنْهُ أمرا عَظِيما فمما كتب بِهِ يحيى إِلَيْهِ مَا نَصه من يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم كَانَ الله لَهُ بجميل لطفه آمين اللَّهُمَّ إِنَّا نحمدك على كل حَال ونشكرك يَا ولي الْمُؤمنِينَ على دفع اللاواء والمحال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونستوهبك يَا مَوْلَانَا جميل لطفك وجزيل فضلك فِي الْمقَام والترحال عائذين بِوَجْهِك الْكَرِيم من مؤاخذتنا بِسوء أَعمالنَا يَا شَدِيد الْمحَال هَذَا وَسَلام الله الأتم ورضوانه الْأَعَمّ وَرَحمته وَبَرَكَاته على الْمولى الإِمَام الْعلم الْمِقْدَام الْعلوِي الْهمام كَيفَ أَنْتُم وَكَيف أحوالكم مَعَ هَذَا الزَّمَان الَّذِي شمر عَن سَاقه لسلب الْأَدْيَان وألح فِي اقْتِضَاء هَوَاهُ على كل مديان فَإنَّا لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَبعد فالباعث بِهِ إِلَيْكُم فِي هَذِه البطاقة أُمُور ثَلَاثَة مدارها على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولخاصة الْمُسلمين وعامتهم) فَالْأول بَيَان سَبَب الركون إِلَى جانبكم وَالثَّانِي الْحَامِل على دفع مناويكم وَالثَّالِث مُلَازمَة نصحكم وتذكيركم والضجر مِمَّا يصدر مِنْكُم وَمن أعوانكم للرعية أما الأول فَلهُ أَسبَاب كَثِيرَة مِنْهَا مُرَاعَاة الجناب النَّبَوِيّ الْكَرِيم فِي أهل بَيته وَرَضي الله عَن أبي بكر الصّديق الْقَائِل ارقبوا مُحَمَّدًا فِي أهل بَيته وَالْقَائِل لقرابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيّ أَن أصل من قَرَابَتي (يَا أهل بَيت رَسُول الله حبكم ... فرض من الله فِي الْقُرْآن أنزلهُ) (يكفيكم من عَظِيم الْمجد أَنكُمْ ... من لم يصل عَلَيْكُم لَا صَلَاة لَهُ) وَمِنْهَا نصح خَاصَّة الْمُسلمين الَّذِي هُوَ الدُّعَاء بالهداية لَهُم ورد الْقُلُوب النافرة إِلَيْهِم ونصحهم بِقدر الْإِمْكَان مشافهة ومراسلة ومكاتبة وَقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 بذلنا الْجهد فِي الْجَمِيع أخْلص الله الْقَصْد فِي الْجَمِيع وَأما الثَّانِي فَلَمَّا جرى الْقدر بتغلب ذَلِك الْإِنْسَان المتسلط على النَّفس والحريم وَالْأَمْوَال وَأدْخل بتأويلاته الْبَعِيدَة عَن الصَّوَاب مَا لَيْسَ فِي الْمَذْهَب وتعدى خُصُوص الْوُلَاة إِلَى سَائِر الرّعية فاضلها ومفضولها وَمد مَعَ ذَلِك يَد الْوَعيد الْمُؤَكّد بِالْإِيمَان إِلَيْنَا فِي الْأَنْفس وَالْأَمْوَال فناشدناه كَمَا تقرر فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم حَيْثُ توفرت فِيهِ فُصُول الصَّائِل كلهَا بِشَاهِد العيان فَكَانَ الْأَمر كَمَا قدر الله تَعَالَى {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} الرّوم 4 وَأما الثَّالِث فالكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أما الْكتاب فسورة وَالْعصر قَائِمَة الْبُرْهَان فِي كل أَوَان وعصر وَقَالَ تَعَالَى فِي قَضِيَّة كليمه {رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} الْقَصَص 17 وَقد اسْتشْهد بِهِ بعض الْعلمَاء فِي بري قلم لكاتب بعض الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَوله جلّ من قَائِل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} الْمَائِدَة 2 وَأما السّنة فَالْحَدِيث الأول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمعِين شريك) وَقَوله (من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يقدر فبلسانه فَإِن لم يقدر فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان) وَقد كُنَّا مقتصرين على التَّغْيِير بِاللِّسَانِ والقلم لكَون التَّغْيِير العملي إِلَيْكُم حَتَّى جذبتمونا إِلَيْهِ ودللتمونا بارتكاب أصعب مرام عَلَيْهِ وَقَوله (من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله) وَقد قَالَ الْمواق فِي شَرحه على الْمُخْتَصر من أعَان على عزل إِنْسَان وتولية غَيره وَلم يَأْمَن سفك دم مُسلم فَهُوَ شريك فِي دَمه إِن سفك ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدّم استعظاما لذَلِك الْأَمر الفظيع فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على أَنا اِنْخَدَعْنَا بِاللَّه حَتَّى كُنَّا نَأْمَن بِالْقطعِ سفك الدِّمَاء إِذْ ذَاك حَيْثُ كتبت إِلَيْنَا مرَارًا وَأمنت وَأرْسلت وَكنت أَتَخَوَّف من هَذَا الْوَاقِع الْيَوْم بآزمور وآسفي ومراكش والغرب وَلذَلِك كنت ألححت عَلَيْكُم فِي تَقْرِير الْعَهْد حَتَّى أَتَانِي الْقَائِد عبد الصَّادِق بمصحف ذكر انه لسلطان تلمسان فِي جرم صَغِير وَقَالَ لي أَمرنِي السُّلْطَان أَن أَحْلف لَك فِيهِ نِيَابَة عَنهُ على بَقَائِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 على الْعَهْد فِيمَا بَيْنك وَبَينه من تَأْمِين كل من أمنته وإمضاء كل مَا رَأَيْته صلاحا للْأمة ثمَّ لم أكتف حَتَّى أَتَى القَاضِي فَكتبت إِلَيّ مَعَه إِن كل مَا رَأَيْت فِيهِ الصّلاح للْأمة أمضيته وَأَنَّك آمَنت كل من أمنته ثمَّ بعد استقرارك فِي دَارك كتبت إِلَيّ كتابا إِنَّك بَاقٍ على مَا تعاهدنا مَعَك عَلَيْهِ من الْأُمُور كلهَا على معيار الشَّرِيعَة فَمَا راعني إِلَّا وَقد أخفرت فِي ذمَّة الله وأماني الَّذِي عقدته للنَّاس فَمن مأسور ومقيد ومطلوب بِمَال ومطرود عَن بلد وأخبار آخر ترد علينا من جِهَة السواحل وَأَن النَّاس تبَاع فِيهَا لِلْعَدو دمره الله وَلم نر من اهتبل بذلك مِمَّن قلدتموه أُمُور الثغور فَلم ندر هَل بلغك ذَلِك فَتسقط عَنَّا ملامة الشَّرْع أَو لم يبلغك فأعلمنا الله لتطمئن قُلُوبنَا فَإِنِّي أكاتبك فِي ذَلِك فَلَا أرى جَوَابا فَقضيت وَالله من الْأَمر عجبا فَإِن عددت مَا من الله بِهِ عَلَيْك من رجوعك إِلَى سَرِير ملكك واجتماعك بسربك آمنا من قبيل النعم فقيده بِمَا تقيد بِهِ كَمَا فِي كريم علمك وَإِن رَأَيْته بِنَظَر آخر فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَأما الْإِجْمَاع فَلم نر من الْعلمَاء من نهى عَن نصح خَاصَّة الْمُسلمين وتنبيههم على مَا يصلح بهم وبالرعية بل عدوه من الدّين للْحَدِيث الأول وَغَيره وَأما استشعرناه من امتعاضكم من عدم الأنة القَوْل فِي مكاتبتنا لكم فَمَا خاطبناكم قطّ رعيا لذَلِك وَلَو بِنصْف مَا خَاطب بِهِ الْأَئِمَّة الأول أهل زمانهم اتكالا على مطالعتكم لكتبهم وعلمكم بِمَا لم نعلمهُ من ذَلِك وَلم نروه ويكفيكم نصح الفضيل وسُفْيَان وإمامنا مَالك رَضِي الله عَنْهُم لمعاصريهم من الْوُلَاة وَمِنْهُم من بَكَى وانتفع وَمِنْهُم من غشي عَلَيْهِ وتوجع وَمِنْهُم من نَدم واسترجع إِلَى غير مَا ذكرنَا على اخْتِلَاف الْأَعْصَار وتنوع الدول والأقطار فبذلك اقتدينا وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أشياخنا وأسلافنا لكم ولأسلافكم عَملنَا كالفقيه شيخ والدنا رَحمَه الله سَيِّدي عبد الله الهبطي لجدكم المرحوم بكرم الله فطمعت بنجح النصح ونفعه دنيا وَأُخْرَى فَهَذَا أصل قَضِيَّتنَا مَعكُمْ وهلم جرا والذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ على كل الْأَحْوَال وَالْحَمْد لله على كل حَال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبتاريخ أَوَاخِر ربيع النَّبَوِيّ الأنور كتبه عَن إِذْنه رَضِي الله عَنهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 عبد ربه مُحَمَّد بن الْحسن بن أبي الْقَاسِم لطف الله بِهِ بمنه اه فَأَجَابَهُ السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله بِمَا نَصه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عبد ربه تَعَالَى المقترف الْمُعْتَرف زَيْدَانَ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد إِلَى السَّيِّد أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن السَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الله ابْن سعيد أعاننا الله وَإِيَّاكُم على اتِّبَاع الْحق ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فقد ورد علينا كتابكُمْ ففضضنا ختامه ووقفنا على سَائِر فصوله ثمَّ إننا إِن جاوبناكم على مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام الْخطابِيّ رُبمَا غَيْركُمْ ذَلِك وَأدّى إِلَى المباغضة والمشاحنة فيحكى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه بعث إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وأحضره عِنْده وَألقى إِلَيْهِ مَا كَانَ يجده من أَوْلَاد الصَّحَابَة الَّذين اعصوصبوا بِأَهْل الرِّدَّة الَّذين كَانَ رجوعهم إِلَى الْإِسْلَام على يَد الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي كل ذَلِك لَا يجِيبه فَقَالَ لَهُ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَا أسكتك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن تَكَلَّمت فَلَا أَقُول إِلَّا مَا تكره وَإِن سكت فَلَيْسَ لَك عِنْدِي إِلَّا مَا تحب وَلَكِن لما لم أجد بدا من الْجَواب أرى أَن أقدم لَك مُقَدّمَة قبل الْجَواب فلتعلم أَن الْحجَّاج لما ولاه عبد الْملك الْعرَاق وَكَانَ من سيرته مَا يُغني اشتهاره عَن تسطيره هُنَا فتأول ابْن الْأَشْعَث الْخُرُوج عَلَيْهِ وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة من التَّابِعين كسعيد بن جُبَير وَأَمْثَاله من أَوْلَاد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلما قوي عزمهم على ذَلِك استدعوا الْحسن الْبَصْرِيّ لذَلِك فَقَالَ لَا أفعل فإنني أرى الْحجَّاج عُقُوبَة من الله فنفزع إِلَى الدُّعَاء أولى قَالَ بعض فضلاء الْعَجم يُؤْخَذ من هَذَا أَن الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْكَبَائِر وَجَوَاز الْمقَام تَحت ولَايَة الظُّلم والجور وَقد علمت مَا كَانَ من أَمر عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث وَسَعِيد وَأَمْثَاله وَعلمت قَضِيَّة أهل الْحرَّة لما أوقع بهم جند يزِيد بن مُعَاوِيَة بِالْحرم الشريف وَلما بلغه الْخَبَر أنْشد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 (لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا ... جزع الْخَزْرَج من وَقع الأسل) وشاع ذَلِك عَنهُ وذاع وَكَانَ على عهد أكَابِر الصَّحَابَة وَأَوْلَادهمْ وَلَا تعرض أحد مِنْهُم لنكير عَلَيْهِ وَلَا تصدى لقِيَام وَلَا خاطبه بملام وَأما مَا يرجع إِلَى جَوَاب الْكتاب فَأَما مَا حكيت عَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي أهل الْبَيْت وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فيهم وَأَنه يجب تعظيمهم واحترامهم وتبجيلهم لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ يجب عَلَيْكُم تعظيمهم فَإِن تعظيمهم يجب على أولى وَأولى عملا بقوله تَعَالَى {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وأجرى الله تَعَالَى عَادَته أَنه مَا تصدى أحد لعداوة هَذَا الْبَيْت النَّبَوِيّ إِلَّا كَبه الله لوجهه وَأما مَا أوردتم من الْأَحَادِيث فِي النصح فَإِنِّي وَالله أحب أَن تنصحني سرا وَعَلَانِيَة مَعَ زِيَادَة شكري عَلَيْهِ وأراها مِنْك مَوَدَّة وأعدها محبَّة وَلَكِنِّي أفعل مَا أقدر عَلَيْهِ لِأَن الله سُبْحَانَهُ يَقُول {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} الْبَقَرَة 286 وَلِهَذَا قَالَ أَكثر الْعلمَاء فِي صُدُور تصانيفهم وَلم آل جهدا فِي كَذَا لِأَن النُّفُوس الشَّرِيفَة الْعَالِيَة لَا تتْرك من فعل الْخَيْر وَالْجد فِي اكتسابه إِلَّا مَا عز تنَاوله عَلَيْهَا وصعب اكتسابه وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَمر أبي محلي وَسيرَته وَمَا كَانَ تسلط عَلَيْهِ أما مَا كَانَ من استنهاضكم إِلَيْهِ الْمرة بعد الْمرة وتكررت فِي ذَلِك إِلَيْكُم الرُّسُل حَتَّى أجبْت إِلَيْهِ فَلَا نحتاج فِيهِ إِلَى إِقَامَة حجَّة غير كَونه خرج عَن الْجَمَاعَة وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أَرَادَ أَن يشق عصاكم فَاقْتُلُوهُ كَائِنا من كَانَ) وَإِلَّا فَلَو دخل الْملك من بَابه وَبَايَعَهُ أهل الْحل وَالْعقد وَأخذ ذَلِك بوسائط مثل بيعَة جدنا المرحوم الَّتِي تضافرت عَلَيْهَا عُلَمَاء الْمغرب وَأهل الدّين الْمَشَاهِير فَلَو كَانَ وصل إِلَى ذَلِك بِمثل هَذِه الوسائط لم يجب حربه وَلَا الْقيام عَلَيْهِ بِمَا ذكرْتُمْ لِأَن السُّلْطَان لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ والجور وَإِلَّا فَإِن الصَّحَابَة فِي زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة لَا يُحْصى عَددهمْ وَمَا تصدى أحد للْقِيَام عَلَيْهِ وَلَا قَالَ بعزله وَإِلَّا فَإِنَّهُم لَا يُقِيمُونَ على الضَّلَالَة وَلَو نشرُوا بالمناشير وَأما أَبُو محلي فبمجرد قِيَامه يجب عَلَيْك وعَلى غَيْرك إعانتنا عَلَيْهِ لِأَنَّك فِي بيعتنا وَهِي لَازِمَة لَك فالطاعة وَاجِبَة عَلَيْك وَاعْلَم أَيْضا أَن والدك أفضل مِنْك بِدَلِيل {آباؤكم وأبناؤكم} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 من أَبْنَائِكُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَكَانَ عمنَا مولَايَ عبد الْملك رَحمَه الله وسامحه على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر بِهِ إعلانا وَكَانَ والدك فِي دولته وبيعته ووفد عَلَيْهِ وَلم يستنكف من ذَلِك وَلَا ظهر مِنْهُ مَا يُخَالف السلطنة وَلَا أنكر وَلَا عرض بِمَا يسوء سُلْطَان الْوَقْت وَلَا سمع ذَلِك مِنْهُ فَإِن كَانَ رَاضِيا بِفِعْلِهِ فَهُوَ مثله وَإِن لم يرض فَمَا وَجه سُكُوته والوفادة عَلَيْهِ وَقد تحققت وَعلمت أَن ولَايَة أَحْمد ابْن مُوسَى الْجُزُولِيّ كَادَت تكون قَطْعِيَّة واشتهر أمره عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى أطبق أهل الْمغرب على ولَايَته وَقد كَانَ على عهد مولَايَ عبد الله برد الله صَرِيحه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر عَنهُ وَمَا برح الشَّيْخ الْمَذْكُور يَدْعُو لَهُ ولدولته بِالْبَقَاءِ وَيظْهر حبه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يعْزل ويولي وَيقتل وَكَانَ قد شرد مِنْهُ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ الْمَذْكُور المرابط الأندلسي وَولد آضاك وأمثالهم وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور يقدم للشفاعة فَيشفع وَلَا يتعقب وَلَا يبْحَث عَمَّا وَرَاء ذَلِك بَاقٍ على عَهده ومودته وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور بعث لِابْنِ حُسَيْن بسد دَاره فَمَا فتحهَا حَتَّى أمره وَلَا استعظم أحد ذَلِك وَلَا أَكثر فِيهِ وَلَا جعله سَببا لفتح الْفِتْنَة وَكَانَ قواد الْمَذْكُور مثل وزيره ابْن شقراء وَعبد الْكَرِيم بن الشَّيْخ وَعبد الْكَرِيم بن مُؤمن العلج والهبطي والزرهوني وَعبد الصَّادِق بن مُلُوك وَغَيرهم مِمَّن لم يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا فِي شرب الْخُمُور واتخاذ القيان وَبسط الْحَرِير وَغير ذَلِك من آلَات الْفضة وَالذَّهَب وَكَانَ فِي عصره أَحْمد بن مُوسَى الْمَذْكُور وَابْن حُسَيْن وَمُحَمّد الشَّرْقِي وَأَبُو عَمْرو القسطلي وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التامنارتي والشيظمي وَغير هَؤُلَاءِ من الْمَشَايِخ وَأهل الدّين الَّذين لَا يسع من يَدعِي هَذِه الطَّرِيقَة التَّقَدُّم عَلَيْهِم وَلَا اكْتِسَاب الْفَضِيلَة دونهم فَأحْسنُوا السِّيرَة وَلَا تعرضوا للسلطنة وَلَا سمع مِنْهُم مَا يقْدَح فِي ولادَة الْأَمر وقادة الأجناد مِمَّن ذكر الَّذين كَانَ الْملك يَدُور عَلَيْهِم وَيرجع فِي تَدْبيره إِلَيْهِم وَمثل من ذكر من الْأَوْلِيَاء كَانَ عَلامَة الزَّمَان وَوَاحِد وقته شيخ مَشَايِخ إفريقية وَبَعض أهل الْمغرب عبد الْعَزِيز القسنطيني الشَّيْخ الْمُتَكَلّم الصُّوفِي صَاحب الْآيَات الْبَينَات قد كَانَ من سكان تونس وَكَانَ مُلُوك تونس وَمن انضاف إِلَيْهِم على الْفساد الَّذِي لَا ينْحَصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 واشتهر أَمرهم حَتَّى عرفُوا بِهِ فِي الْمَشَارِق والمغارب وَلم يبرح الشَّيْخ الْمَذْكُور من بَينهم وَلَا تصدى لتغيير الْمُنكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى قَبضه الله إِلَيْهِ وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَن من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله هَذِه حجَّة عَلَيْك لَا علينا لِأَنِّي مَا سعيت فِي قتل أحد يعلم الله وَلَا قتل من قتل إِلَّا بِأَمْر الْقُضَاة وَأهل الْعلم إِن كَانَ وَاعْلَم أَنه إِذا كَانَ هَذَا يكون وعيدا فِي قتل الْوَاحِد فَمَا بالك بِمن يُرِيد فتح بَاب الْفِتْنَة حَتَّى لَا يقف الْقَتْل على المئين والآلاف وَنهب الْأَمْوَال وكشف الْحَرِيم إِلَى غير ذَلِك أما تعلم أَن فتْنَة أبي محلي قد هلك بِسَبَبِهَا من النُّفُوس وَالْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى عدده وَلَا يسْتَوْفى نهايته كَاتب وَكَانَ كل ذَلِك على رقبته لِأَنَّهُ هُوَ المتسبب الأول الفاتح أَبْوَاب الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ يقتل كل من انْتَمَى إِلَيْنَا حَتَّى قتل بِسَبَبِهِ فِي يَوْم وَاحِد بمَكَان وَاحِد خَمْسمِائَة قَتِيل وَلَوْلَا أَبُو محلي مَا قتلوا وَأعظم فِي حُرْمَة النُّفُوس من هَذَا الَّذِي قلت قَوْله تَعَالَى {كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا} الْمَائِدَة 32 وَلَيْسَ فِي قَول الْمواق مَا يحْتَج بِهِ على السُّلْطَان وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَصْحَاب الخطط على التَّرْتِيب الَّذِي كَانَ على عَهده مثل أَصْحَاب الشَّرْط كصاحب الشرطة الَّذِي ينفذ أَحْكَام القَاضِي وَصَاحب شرطة السُّوق الَّذِي ينفذ الْأَحْكَام عَن قَاضِي الحضرة وَغير ذَلِك من الولايات وَولَايَة أبي محلي لَا تعد ولَايَة حَتَّى يعْتَبر عَزله وَمَا عِنْد الْمواق وَغَيره وقفنا عَلَيْهِ وعرفناه وتلقيناه عَن الْأَشْيَاخ الجلة وعرفنا مَا عِنْد الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة ودرسناه الْمرة بعد الْمرة وَلست مِمَّن ينطبق عَلَيْهِ قَوْله (أَشْقَى النَّاس عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ) وَلَكِن لماذا تحتج بقول الْمواق لغرضك وتجعله حجَّة وَلم تجبنا نَحن فِيمَا كتبنَا إِلَيْك بِهِ فِي يُونُس اليوسي وَقُلْنَا لَك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحرم لَا يجير عَاصِيا) قَالَ الأبي وَهَذَا يحْتَج بِهِ على أهل الزوايا وأضربت عَن الْجَواب وَلَيْسَ ذَلِك من أدب الجدل وَلَكِن أخبرنَا عَن الْوَجْه الَّذِي منعت بِهِ يُونُس اليوسي من الشَّرْع فَإِن متاعنا عِنْده وإماء أهلنا فِي دَاره إِلَى يَوْم الْوَقْعَة وترتب فِي ذمَّته للْمُسلمين من الْأَمْوَال والدماء مَا علمت فَإِن كنت مِمَّن يُرِيد الْعدْل فَهَلا عدلت فِيهِ فَحِينَئِذٍ نعلم أَنَّك لَا تريح جِهَته وَلَا تذْهب بك النَّفس مذهبها لَا جرم حِينَئِذٍ نَكُون عِنْد مَا تُرِيدُ وَمَعَ هَذَا لما أمسكنا زَوجته وكتبت لنا فِيهَا سرحناها سَاعَة وُصُول خطابك من غير توقف فَلَو كنت عناديا لعبثت بهَا عبثه هُوَ بإماء أَهلِي وَأهل دَاري على أَنِّي مَا رددت شفاعتك مُنْذُ عرفتك بعثت لي إِبْرَاهِيم بن يعزى فسرحناه لغرضك على أَنه ترَتّب فِي ذمَّته مَا ينيف على خمسين ألف أُوقِيَّة وَذَلِكَ المَال إِنَّمَا يُقَال لَهُ بَيت مَال الْمُسلمين وَإِنَّمَا كَانَ يجب تخليده فِي السجْن وَأهل الْحصن أخرجناهم مِنْهُ عَن آخِرهم وأنفذتم كتابكُمْ بردهمْ فَأمرنَا بردهمْ عَن آخِرهم وَابْن يَعْقُوب أوزال حَاكم الْبَلَد وَشبه الْخَلِيفَة تَرَكْنَاهُ على دَارنَا وحرك من غير إذننا وَلَا مشورتنا وبعثنا مَكَانَهُ فأنفذت الْكتاب فِيهِ فَرد لمكانه مَا هُوَ الْأَمر الَّذِي سَافَرت كتبك فِيهِ وَلَا أَسْرَعنَا فِيهِ خفافا وَأما مَسْأَلَة أهل آزمور فَلَمَّا جَاءَ كتابكُمْ عزلنا صَاحبه وسرحنا من كَانَ عِنْده ورددنا الْخَيل وَقَضِيَّة الحناشة النَّاس فِي شَأْنهمْ بِالِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّة الْعَرَب اعْلَم أَن الْعَرَب قد أفسدوا الأَرْض واستطالوا سَوَاء هَذِه الْبِلَاد والغرب وَالَّذِي يَلِيق بهم مَا أفتى بِهِ سَحْنُون فِي عرب إفريقية وَالْمغْرب وَلَو طالبناهم بِمُجَرَّد الْعشْر مُدَّة هَذِه الْفِتْنَة فِي الْمغرب لأتى ذَلِك على أَمْوَالهم وَالنَّاس قد خَرجُوا عَن أطوارهم وأحبوا الْفِتَن طلبا للراحة وَانْظُر كتاب الإفادة كَذَا للْقَاضِي واستطالتهم فِيهِ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة شَرْعِيَّة مشروحة فِي رسمها الْقَدِيم على أَنهم أَضْعَف النَّاس قلوبا انْظُر مَا صدر مِنْهُم فَمَا بالك بالعرب الَّذين خَرجُوا عَن الطَّاعَة وتساوى الشَّيْخ وَالصَّغِير فِي ذَلِك فَإِن كنت تصغي لمقالاتهم وإسعاف شهواتهم والتعرض للسُّلْطَان دونهم فَهَذَا نفس خراب الْعَالم وطالع كتاب صاحبنا من عِنْد الرحامنة وَمَا صدر مِنْهُم لخديمكم وَرَأَيْت أَن أقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 لَك مُقَدّمَة أَمَام هَذَا وَإِن كَانَت أدبية قيل لِابْنِ الرُّومِي وَهُوَ عَليّ بن الْعَبَّاس لم لم تقل كَقَوْل ابْن المعتز (كَانَ آذريوننا وَالشَّمْس فِيهِ عاليه ... مداهن من ذهب فِيهَا بقايا غاليه) فَأجَاب بِأَن قَالَ لَا يقدر أَن يَقُول هُوَ فِي مثل قولي فِي وصف الرقاقة (مَا أنس لَا أنس خبازا مَرَرْت بِهِ ... يدحو الرقاقة وَشك اللمح بالبصر) (مَا بَين رؤيتها فِي كَفه كرة ... وَبَين رؤيتها فوراء كَالْقَمَرِ) (إِلَّا بِمِقْدَار مَا تنداح دَائِرَة ... فِي صفحة المَاء يرْمى فِيهِ بِالْحجرِ) وَقَالَ كل منا وصف أواني بَيته وَرب الْبَيْت أعلم بِمَا فِيهِ وَأهل مَكَّة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بِنَقْد الدِّينَار وقصة الْخضر والكليم صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم فِيهَا كِفَايَة لمن يعْتَبر فِي خرقه السَّفِينَة وَقَتله الْغُلَام وإقامته الْجِدَار والكليم يرد عَلَيْهِ فِي كل ذَلِك حَتَّى أنبأه الله بسر مَا لم يعلم على أَن علم الْخضر فِي علم مُوسَى كحلقة ملقاة فِي فلاة هَكَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء وَقَالَ بَعضهم كل مِنْهُم على علم خصّه الله تَعَالَى بِهِ وَمن هُنَا جوز ابْن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي فِي بعض كتبه وأحسب أَن ذَلِك فِي الفصوص أَن الْوَلِيّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الله ويصطفيه بمحبته يطلعه على علم لم يطلع عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم فَقَالَ مُشِيرا إِلَى نَفسه أطلعني الله على علم لم يطلع عَلَيْهِ آدم فَمن دونه وَاعْلَم أَن السلطنة لَهَا أسرار لَا بُد مِنْهَا وسياسة يُنكر ظَاهرهَا وَلَكِن نرْجِع إِلَى غرضك ومرادك أخبرنَا كَيفَ تحب أَن يسْلك النَّاس فِي الْعَرَب فَإِن كنت تحب أَن يسْلك النَّاس فيهم مَسْلَك مولَايَ عبد الله فالزمان غير الزَّمَان والأسعار قد طلعت وَبَلغت النِّهَايَة وَالله تَعَالَى قد بعث أنبياءه وَأنزل كتبه بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الزَّمَان وَهَذَا يعرفهُ من خالط الشَّرَائِع والكتب الْمنزلَة وَأخذ الْعلم من أَفْوَاه الرِّجَال وأدبته مجَالِس الْعلم وَنحن نلخص لكم الْكَلَام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 على بعض مَا أورد النَّاس فِي الْخَارِج أما مَا بنوا عَلَيْهِ فَرْضه فِي صدر الْإِسْلَام والدول الْعِظَام فَلَا نطيل بِذكرِهِ لشهرته وَأما فِي الْمغرب خُصُوصا فَأول من فَرْضه عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَجعله على أقطاع الأَرْض بِنَاء على أَن الْمغرب فتح عنْوَة وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْعلمَاء وَمِنْهُم من يَقُول إِن السهل فتح عنْوَة والجبل فتح صلحا فَإِذا تقرر هَذَا وَعلمت أَن أهل ذَلِك الْعَصْر قد بادوا واندثروا وَبَقِي السهل كُله إِرْثا لبيت المَال تعين أَن يكون الْخراج فِيهِ على مَا يُرْضِي صَاحب الأَرْض وَهُوَ السُّلْطَان والجبل تتعذر معرفَة مَا كَانَ الصُّلْح عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيرجع فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد وَقد اجْتهد سلفنا الْكِرَام رضوَان الله عَلَيْهِم فِي فَرْضه لأوّل الدولة الشَّرِيفَة على حسب وفْق أَئِمَّة السّنة ومشايخ أهل الْعلم وَالدّين فِي ذَلِك الْعَهْد فَجرى الْأَمر على السّنَن القويم إِلَى أَن هبت عواصف الْفِتْنَة لأيام ابْن عمنَا صَاحب الْجَبَل وإدالة مَوْلَانَا الإِمَام وصنوه المرحوم على حواضر الْمغرب وسهله عِنْد الزَّحْف بالأتراك وامتدت بِهِ الْفِتْنَة فِي الْجَبَل إِلَى أَن هلك مَعَ النَّصَارَى فِي الْغَزْوَة الشهيرة وَجَاء الله من مَوْلَانَا الْمُقَدّس بِالْجَبَلِ العاصم لِلْإِسْلَامِ من طوفان الْأَهْوَال فَقدر رَضِي الله عَنهُ الْأَشْيَاء حق قدرهَا وَرَأى أَن الْمغرب غب تِلْكَ الْفِتَن قد فغر فَمه لالتهامه عدوان عظيمان التّرْك وعدو الدّين الطاغية فاضطر رَحمَه الله إِلَى الاستكثار من الأجناد لمقاومة الْعَدو والذب عَن الدّين وحماية ثغور الْإِسْلَام فَدَعَا تضَاعف الأجناد إِلَى تضَاعف الْعَطاء وتضاعف الْعَطاء إِلَى تضَاعف الْخراج وتضاعف الْخراج إِلَى الإجحاف بالرعية والإجحاف بالرعية أَمر يستنكف رَضِي الله عَنهُ من ارتكابه وَلَا يرضاه فِي سيرة عدله طول أَيَّامه فَلم يُمكن لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا أَن أمعن النّظر رَحمَه الله فِي أصل الْخراج فَوجدَ بَين السّعر الَّذِي بنى عَلَيْهِ فِي قيمَة الزَّرْع وَالسمن والكبش الَّذِي تعطيه الرّعية مُنْذُ زمن الْفَرْض وَبَين سعر الْوَقْت أضعافا فَحِينَئِذٍ تحرى رَحمَه الله الْعدْل فَخير الرّعية بَين دفع كل شَيْء بِوَجْهِهِ وَدفع مَا يُسَاوِيه بِسعْر الْوَقْت فَاخْتَارُوا السّعر مَخَافَة أَن يطلع إِلَى مَا هُوَ أَكثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 فأجابهم إِلَيْهِ رَضِي الله عَنهُ وَعرف النَّاس الْحق فَلم يُنكره أحد من أهل الدّين وَلَا من أهل السياسة لَيْت شعري لَو طلبنا نَحن الرّعية بِسعْر الْوَقْت الَّذِي طلع الْيَوْم إِلَى أَضْعَاف مضاعفة مَاذَا تَقولُونَ وَقد انتقدتم علينا مَا هُوَ أخف من ذَلِك وَالْحَاصِل راجعوا رَضِي الله عَنْكُم مَا عِنْد الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِي ضرب الْخراج فقد استوفى الْكَلَام فِي ذَلِك وَأما مَا تقضيه من الْعجب لتعطل أجوبتنا عَنْك فَنحْن نراجع أقل مِنْك وَلَكِن كتابك آكِد مبناه على قصَّة أهل آزمور فأنفذنا من أخرج الَّذِي كَانَ بِهِ وأقصاه عَنهُ وشرد من كَانَ عِنْده فتوقف الْجَواب حَتَّى رَجَعَ الخديم فَحِينَئِذٍ أجبناكم بِمَا وصلكم وتعجيل الْأَجْوِبَة وبطؤها فَاعْلَم أَن الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِك أُمُور مِنْهَا أَن يكون الْأَمر الَّذِي ورد الْخطاب فِيهِ مِنْكُم مَا سَمِعت بِهِ وَلَا بَلغنِي فنتوجه للبحث عَنهُ والفحص عَن أَسبَابه فَرُبمَا أوجب ذَلِك البطء بِحَسب الْأَمَاكِن والبلدان فَيكون جَوَابنَا على أساس وَبَيَان وَإِن كَانَ عندنَا خبر مَا ورد فِيهِ خطابكم فَالْجَوَاب لَا يتَأَخَّر وَقد وَقع هَذَا منا غير مرّة وَكَون تعطيله منشأه مَا من الله بِهِ علينا من رجوعنا إِلَى سَرِير ملكنا واجتماعنا بسربنا آمِنين اعْلَم أَن أهل هَذَا الْمغرب لما تمالؤوا عَليّ وَخرجت إِلَى الْمشرق والتقيت بِالتّرْكِ والأروام وجالسوني وجالستهم وخاطبوني وخاطبتهم فَمنهمْ مشافهة وَمِنْهُم مراسلة وَكنت أَيَّام مقَامي فِي أَرضهم كمقامي على سَرِير ملكي لِأَن كَبِيرهمْ وصغيرهم وَرَئِيسهمْ ومرؤوسهم كَانَ ينتجع فضلي ويمد كَفه رَغْبَة فِي نعمتي وواسيت الْجَمِيع عَطاء مترفا مَعَ قلَّة الزَّاد والذخيرة وترفعت عَن مواساة الأماثل والأكابر من الْعَجم وَالْعرب وَلَا ركنت لأحد بل تجودت بِمَا قدرت عَلَيْهِ من الأخبية حَتَّى جعلت محلّة برماتها وخيلها فترامت عَليّ الْعَجم بالرغبة وبسطوا أكف الضراعة فِي الْمقَام عِنْدهم وَالدُّخُول فِي جُمْلَتهمْ وعرضوا عَليّ الإقطاعات السّنيَّة والبلادات الملوكية بلطف مقَال وأدب خطاب حَتَّى قَالَ لي القبطان مُرَاد رَئِيس الْمُجَاهدين وَمَا مثلك يكون مَعَ الْعَرَب هَا نَحن نخدمك بِأَمْوَالِنَا وأنفسنا وبمالنا من السفن حَيْثُ أردْت وأحببت وَمَا انفصلت عَنْهُم حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 كتبت لَهُم بخطي إِنِّي احْمِلْ أَهلِي وحاشيتي وأرجع إِلَيْهِم إِلَّا إِن تمكن لي الدُّخُول فِي الْملك وَالْغَلَبَة على الْبِلَاد أَو بَعْضهَا وقفلت من عِنْدهم وَلم يتَعَلَّق بِثَوْب عفافي مَا يشينه مَعَهم وَلَا مَعَ الْعَرَب وَلَا كَانَ لأحد عَليّ منَّة وَلَا نعْمَة إِلَّا فضل الله سُبْحَانَهُ وَكَانَ فضل الله علينا عَظِيما ثمَّ إِنِّي دخلت سجلماسة على رغم أنف أَهلهَا وواليها وَمِنْهَا دخلت السوس وَجعلت ولي الله الْعَارِف بِهِ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْمُبَارك وَاسِطَة بيني وَبَين أخي حَتَّى اجْتمعت بأهلي وَمَالِي ثمَّ بعث إِلَيّ التّرْك بِأحد بلكباشات اسْمه مصطفى صولجي إِلَى السوس راغبين فِي إنجاز الْوَعْد وجنحت للمسير إِلَيْهِم فَرَأَيْت الْأَهْل والأتباع قد عظم الْأَمر عَلَيْهِم واستعظموا الْخُرُوج فأسعفت رغبتهم فِي الْمقَام بالمغرب وشيعت الرَّسُول قَافِلًا إِلَى قومه من سجلماسة عِنْد الدُّخُول الثَّانِي لَهَا ومغالبة أَهلهَا عَلَيْهَا وعززته برَسُول من عِنْدِي إِلَيْهِم بتحف وأموال ورد بهَا عَلَيْهِم مَعَ رسولهم ثمَّ إِنِّي اقتحمت مراكش على أهل فاس على كَثْرَة عَددهمْ وعددهم وقلتي فَفتح الله ثمَّ خرجت إِلَى السوس مرّة أُخْرَى وأوقعت بِولد مولَايَ أَحْمد الشريف وجموع مراكش وَقد تعصبوا عَلَيْهِ لأَنهم شيعَة جده ففضضته على رغمهم ونازلته بالسهل والحزن حَتَّى أمكن الله مِنْهُ وَحكم بيني وَبَينه ثمَّ نجم الغوى أَبُو محلي وغلبت على الرَّأْي وَقد قَالَ من هُوَ أفضل مني مَوْلَانَا عَليّ كرم الله وَجهه لَا رَأْي لمن لَا يطاع وَدخل هَذِه الْبِلَاد وَخرجت أَنا إِلَى السوس ريثما تَجْتَمِع قبائلنا فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ اجْتِمَاعهم فِيهِ إِلَى أَن بلغتهم وَقصد إِلَيْهِم أَبُو محلي فقاتلوه ورحل عَنْهُم بعد أَن أثخنوا فِيهِ بِالْقَتْلِ ثمَّ وافيتهم فَكَانَ الْحَرْب بَيْننَا سجالا فَهَل سَمِعْتُمْ خلال هَذِه الْأَحْوَال أَنِّي احتجت إِلَى أحد فِيمَا قل أَو جلّ وَهَذَا كُله بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْك اللَّهُمَّ أَن تعدوا الْوِفَادَة الَّتِي وفدنا عَلَيْك من قبيل الِاضْطِرَار والاحتياج فَلَا أَدْرِي على أَنِّي مَا قصدتك لطلب دنيا لِأَنِّي كنت أسمع مَا أَنْت عَلَيْهِ من متانة الدّين وَالصَّلَاح والإقبال على طَاعَة الله والتمسك بِسنة رَسُول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غرو أَن من كَانَ هَذَا وَصفه كَانَ جَدِيرًا بِأَن يقْصد للدُّعَاء ولإصلاح الْقلب وَلَا شكّ أننا نزلنَا دَارك وحللنا بمكانك وَلما وَقع الِاجْتِمَاع بك جرت المذاكرة فِي أبي محلي وَغَيره حَتَّى كتبت الْكتاب الَّذِي علمنَا عَلَيْهِ وَهَا هُوَ بِخَط يدك فَإِن نَسِينَا بعض مَا فِيهِ وَلَا فعلنَا فَأخْبرنَا بِهِ نستدركه وَهَذِه مراكش الَّتِي ذكرْتُمْ قد كنت فِيهَا مَا ذكرْتُمْ ووقفت على عبد الْمُؤمن بن ساسي وعدته مرّة أُخْرَى فِي مَرضه وَهل قصدته لطلب دنيا أَو عَرفته لأَجلهَا وَمُحَمّد بن أبي عَمْرو لما وقفت على الْمدرسَة الَّتِي من بِنَاء مولَايَ عبد الله وقفت عَلَيْهِ فِي دَاره وكل ذَلِك إِنَّمَا نفعله تَأْكِيدًا للمحبة وَزِيَادَة فِي الْمعرفَة بِاللَّه وَلَو علمت أَن ذَلِك يعد عَيْبا ويظن أَنه نوع من الِاحْتِيَاج مَا كنت وَالله لأقف على أحد وَلَو أَنه يملكني الدُّنْيَا بحذافيرها لِأَن الْخَيْر وَالشَّر بيد الْفَاعِل الْمُخْتَار فَهُوَ أولى بالاضطرار إِلَيْهِ وَأما سربي فَمَا تروع قطّ حَتَّى يَأْمَن وَأما من كَانَ بِالدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فَإِنَّمَا هم أَهلِي ومتروك أعمامي وَهَذِه الدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فها نَحن ننتقل عَنْهَا إِلَى بعض الْبِلَاد الغربية البحرية كَمَا قلت لَك ذَلِك مشافهة سَاعَة قلت لي يَنْبَغِي للأشراف بِنَاء بِالْجَبَلِ لوقت مَا وحكيت ذَلِك عَن والدك وَأما مَا أخْبركُم بِهِ القَاضِي أَيَّام ورودي إِلَى السوس وَقت بَلغنِي كتابكُمْ الَّذِي نَصه قد اجْتمعت أنَاس وفسدت النيات وتعينت المطامع وأردنا تدبيركم لِأَن الْمُلُوك أهل التَّدْبِير وَالْمرَاد رجوعنا لأوكارنا من غير وصمة تلْحق الْجَانِبَيْنِ فَكلما حمل فَهُوَ عني والتزمته إِلَى الْآن إِلَّا مَا طَرَأَ علينا فِيهِ النسْيَان فذكرونا بِهِ فَإنَّا لَا نخرج عَنهُ وَأما يَمِين الْمُصحف وَأَنِّي حَلَفت فِيهِ للقائد عبد الصَّادِق فَلَا وَالله مَا حَلَفت فِيهِ وَلَا أَحْلف لأحد إِلَى لِقَاء الله أما علمت أَنِّي حضرت بيعَة الشَّيْخ الْمَأْمُون صَاحب الغرب سامحه الله وَحضر أَوْلَاد السُّلْطَان واستحلفهم لَهُ إِلَّا أَنا رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ فلَان لَا يحلف لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيمَا نأمره بِهِ ونفعله وَعظم ذَلِك على إخوتي وَظَهَرت فِي وُجُوههم لأَجله الْكَرَاهِيَة وَلَكِن الَّذِي قلت لعبد الصَّادِق أَحْلف للمرابط فَإِنِّي أوفى لَك بِهِ وَلَا زلت على ذَلِك لِأَن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 الَّذِي كنت تَقول فِي ذَلِك الْوَقْت أَخَاف أَن تقع فِي أهل مراكش والأكابر وَنَحْوهم مثل حُكُومَة عبد الْقَادِر وَنَحْوهَا أما أهل مراكش فَمَا تعرضنا لأحد مِنْهُم حَتَّى تركنَا متاعنا لأجلكم كَوَلَد المولوع وَغَيره وَهَذَا الميدان والشقراء فَابْعَثْ من رضيت يُنَادي فيهم من لَهُ حق علينا ننصفه مِنْهُ وَمن خدامي أَيْضا وَإِن كنت سَمِعت قَضِيَّة مَنْصُور العكاري فالعكاري نزل أهلنا فِي خيمته عِنْد وقْعَة رَأس الْعين فَلَمَّا أَرَادوا الطُّلُوع إِلَى الْجَبَل تركُوا أَكثر مَالهم فِي خيمته مَعَ بعض الخدم خوفًا من غائلة البربر لما كَانَ وَقع مِنْهُم لأهل بَابا أبي فَارس فَأخذ سماطا من ذهب يزِيد على سِتِّينَ ألف أُوقِيَّة وَكَانَ أَيَّام أبي حسون مَعَه وَفِي جملَته حَتَّى مَاتَ الْقَائِم فبذل حجَّته بإنجازه عشْرين ألفا وَالْبَاقِي حَتَّى يُؤَدِّيه على سَعَة وَطلب منا أَن يتعمل ويتولى بعض الخطط لينْتَفع وَيجمع بعض ذَلِك فصرفناه حَتَّى إِذا جَاءَ أَبُو محلي وَوَقع مَا وَقع طالبناه بمتاعنا وَهُوَ لَا يَسعهُ إِنْكَاره وَهَكَذَا عبد الْكَرِيم الَّذِي فِي زاويتك بِنَفسِهِ يعلم أَن إخْوَته أخذُوا لي سلْعَة فِي وسط حلتهم وَأَنا بَين بُيُوتهم تزيد على خمسين ألفا وَأخذُوا الْإِبِل وَهَا نَحن سكتنا عَنْهُم وَلَا طالبناهم بهَا وَأَيْضًا قَالَ لَك انْظُر مَا فعل بإخوتي وصرت تكاتبنا وَأَنت لَا علم عنْدك بِأَصْل الْمَسْأَلَة وَأما الْأَمْوَال فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد وسع علينا من فَضله وَعِنْدنَا مَا يَكْفِي الْخَامِس وَالسَّادِس من الْوَلَد وعرفنا النَّاس وعرفونا وعاملناهم وعاملونا وَلَو أردْت خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال من أَصْحَاب أَفلا مِنْك أَو من أَصْحَاب الإنجليز وكتبت إِلَيْهِم فِي ذَلِك مَا تأنوا فِي بَعثه وَلَا لاذوا فِيهِ بمعذرة وَقد كفانا الله بِهِ وَالْحَمْد لله على ذَلِك وَاعْلَم أَن الظَّن فِيك جميل وَلَوْلَا ذَلِك مَا أَعطيتك خَمْسَة آلَاف مِثْقَال وسمحت بِالْمَالِ الَّذِي حمل إِلَيْكُم ابْن عبد الْوَاسِع أَولا وسلعة السفن أخيرا وَبِهَذَا كُله تستدل على صفاء السريرة وَصَالح النِّيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يعلم ذَلِك وَأما الامتعاض من عدم الأنة القَوْل وَحسن الْخطاب فَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} الْبَقَرَة 83 وَإنَّك لم تبلغ وَلَو نصف مَا خَاطب بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 الْأَئِمَّة رضوَان الله عَلَيْهِم أهل زمانهم اتكالا على علمنَا بِهِ وحسبي نصح الفضيل ابْن عِيَاض وسُفْيَان وَمَالك رضوَان الله عَلَيْهِم فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة حسبي فِي الْجَواب مِنْك انْتهى مَا وقفنا عَلَيْهِ من هَذِه الرسَالَة وَهِي دَالَّة على براعة الرجل فقها وأدبا وَكَمَال مُرُوءَة وعلو همة رَحمَه الله وَغفر ذنُوبه اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على المعمورة ونهوض أبي عبد الله العياشي لجهادهم وانتفاض أندلس سلا على السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله قد قدمنَا فِي أَخْبَار الوطاسيين مَا كَانَ من اسْتِيلَاء البرتغال على المعمورة الْمُسَمَّاة الْيَوْم بالمهدية ومقامهم بهَا سِنِين قَلَائِل ثمَّ جلائهم عَنْهَا ثمَّ لما استولى الإصبنيول خذله الله فِي هَذِه الْمدَّة على العرائش كَمَا مر طمحت نَفسه إِلَى الِاسْتِيلَاء على غَيرهَا وتعزيزها بأختها فَرَأى أَن المهدية أقرب إِلَيْهَا فَبعث إِلَيْهَا الطاغية فيليبس الثَّالِث من جَزِيرَة قادس تسعين مركبا حربية فَانْتَهوا إِلَيْهَا واستولوا عَلَيْهَا من غير قتال لفرار الْمُسلمين الَّذين كَانُوا بهَا عَنْهَا هَكَذَا فِي تواريخ الفرنج وَقَالَ شَارِح الزهرة كَانَ نزُول النَّصَارَى بمرسى الْحلق سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَقيل سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ عَدو الله الإصبنيول أَرَادَ أَن يضمها إِلَى العرائش لينضبط لَهُ مَا بَينهمَا من السواحل وتتقوى عساكره بهما فخيب الله ظَنّه وَلَقي من أهل الْإِسْلَام عرق الْقرْبَة وَكَانَ أَبُو عبد الله العياشي بعد رُجُوعه من آزمور وسلامته من اغتيال قَائِد زَيْدَانَ دخل سلا فِي نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا وزار ضريح شَيْخه أبي مُحَمَّد بن حسون وَبَات عِنْده فَجَاءَهُ أهل سلا وَذكروا لَهُ مَا هم فِيهِ من الْخَوْف من نَصَارَى المعمورة وَأَن مسارحهم قد امتدت إِلَى الغابة وَأَن النَّصَارَى أَلفَانِ من الرُّمَاة سوى الفرسان فَأَمرهمْ بالتهيؤ إِلَيْهِم وَفِي نشر المثاني مَا نَصه وَفِي أَوَاخِر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَلَاث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 وَعشْرين وَألف أَخذ النَّصَارَى المهدية فَكتب أهل سلا إِلَى السُّلْطَان زَيْدَانَ فَبعث إِلَيْهِم أَبَا عبد الله العياشي الَّذِي كَانَ مقدما بوكالته على الْجِهَاد بدكالة وَهُوَ يَقْتَضِي أَن مَجِيء العياشي إِلَى سلا كَانَ بِإِذن السُّلْطَان لَا فِرَارًا مِنْهُ وَالْأول أصح اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مَجِيئه فَارًّا كَانَ بعد هَذَا التَّارِيخ وَالله أعلم وَأمر أَبُو عبد الله العياشي أهل سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ الْعدة فَلم يجد عِنْدهم إِلَّا نَحْو الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا وَكَانَت السنون والفتن قد أضعفتها فحضهم على الزِّيَادَة والاستكثار مِنْهَا فَكَانَ مبلغ عدتهمْ بِمَا زادوه زهاء أَرْبَعمِائَة ثمَّ نَهَضَ بهم إِلَى المعمورة فصادف بهَا من النَّصَارَى غرَّة فَكَانَت بَينه وَبينهمْ حَرْب قربهَا إِلَى أَن غربت الشَّمْس فَقتل من النَّصَارَى زهاء أَرْبَعمِائَة وَمن الْمُسلمين مِائَتَان وَسَبْعُونَ وَهَذِه أول غَزْوَة أوقعهَا فِي أَرض الغرب بعد صدوره من ثغر آزمور وَمِنْهَا أقصرت النَّصَارَى عَن الْخُرُوج إِلَى الغابة وضاق بهم الْحَال ثمَّ إِن السُّلْطَان زَيْدَانَ لما بلغه اجْتِمَاع النَّاس على سَيِّدي مُحَمَّد العياشي بسلا وسلامته من غدرة قائده السنوسي بعث إِلَى قائده على عَسْكَر الأندلس بقصبة سلا الْمَعْرُوف بالزعروري وَأمره باغتياله وَالْقَبْض عَلَيْهِ ففاوض الزعروري أَشْيَاخ الأندلس فِي ذَلِك فاتفق رَأْيهمْ على أَن يكون مَعَ العياشي جمَاعَة مِنْهُم عينا عَلَيْهِ وطليعة على نِيَّته واستخبارا لما هُوَ عازم عَلَيْهِ وَمَا هُوَ طَالب لَهُ فلازمه بَعضهم وَشعر العياشي بذلك فانقبض عَن الْجِهَاد وَلزِمَ بَيته ثمَّ إِن الله أوقع النفرة بَين السُّلْطَان زَيْدَانَ وَبَين أهل الأندلس وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور كَانَ قد بعث قبل ذَلِك إِلَى الْقَائِد الزعروري أَن يُجهز إِلَى درعة أَرْبَعمِائَة من أندلس سلا فجهزهم إِلَيْهَا وطالت غيبتهم بهَا ففر أَكْثَرهم ونفرت قُلُوبهم عَن الزعروري وسلطانه فَكَانَ زَيْدَانَ يبْعَث إِلَى أهل الأندلس بسلا بتجديد الْبَعْث إِلَى درعة فيأبون الانقياد إِلَيْهِ فِي ذَلِك وكرهوه وأزمعوا على خلع طَاعَته ثمَّ وشوا إِلَيْهِ بقائده الزعروري فَبعث زَيْدَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَنهب أهل الأندلس دَاره وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان بذلك مظهرين طَاعَته مكيدة ونفاقا فَبعث إِلَيْهِم مَوْلَاهُ وقائده الْمَمْلُوك عجيبا فَمَكثَ بَين أظهرهم مُدَّة فَلم يعبؤوا بِهِ وصاروا يهزؤون بِهِ ثمَّ عدوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ فَظهر مِنْهُم شقّ الْعَصَا على السُّلْطَان زَيْدَانَ وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ وَبَقِي أهل سلا فوضى لَا وَالِي عَلَيْهِم وَكثر النهب وامتدت أَيدي اللُّصُوص إِلَى المَال والحريم وسيدي مُحَمَّد العياشي سَاكِت لَا يتَكَلَّم وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ بعد هَذَا إِن شَاءَ الله انعطاف إِلَى خبر عبد الله بن الشَّيْخ بفاس والثوار القائمين بهَا وَمَا تخَلّل ذَلِك قد قدمنَا مَا كَانَ من قدوم السُّلْطَان زَيْدَانَ إِلَى فاس أواسط سنة تسع عشرَة وَألف واستيلائه عَلَيْهَا ثمَّ خُرُوجه عَنْهَا وإعراضه عَنْهَا وَعَن أَعمالهَا إِلَى آخر دولته وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ حَيَاة أَبِيه الشَّيْخ تَحت أمره يصغي إِلَيْهِ وَلَا يقطع أمرا دونه وَقيل إِنَّه خرج عَن طَاعَته سنة عشْرين وَألف وَلما قتل أَبوهُ بِبِلَاد الهبط كَمَا مر استبد عبد الله هَذَا بفاس وَمَا انضاف إِلَيْهَا على وَهن وفشل ريح وَكَانَ غَالب جنده من شراقة وشراقة هَؤُلَاءِ هم عرب بادية تلمسان وَمَا انضاف إِلَيْهَا وَسموا بذلك لأَنهم فِي نَاحيَة الشرق من الْمغرب الْأَقْصَى فَأهل تلمسان وأعمالها يسمون أهل الْمغرب الْأَقْصَى مغاربة وَأهل الْمغرب الْأَقْصَى يسمون أهل تلمسان وأعمالها مشارقة لَكِن الْعَامَّة يلحنون فِي هَذِه النِّسْبَة فَيَقُولُونَ شراقة فَكَانَ غَالب جند عبد الله من هَؤُلَاءِ الْعَرَب وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم فهم حماته وأنصاره وبهم كَانَ يعتصم حَتَّى أَعْطَاهُم أجنة النَّاس ودورهم فَكَانَ الرجل من أهل فاس يَأْتِي بستانه فيجد الْأَعرَابِي بخيمته فِي وَسطه فَيَقُول لَهُ أعطانيه السُّلْطَان ومدوا أَيْديهم إِلَى حَرِيم النَّاس ونهبوا الْأَسْوَاق وجاهروا بِالْفَسَادِ وأظهروا السكر فِي الطرقات واقتحموا على النَّاس دُورهمْ حَتَّى أَن امْرَأَة كَانَت تطبخ خليعا وَوَلدهَا رَضِيع عِنْدهَا فاقتحم عَلَيْهَا الدَّار أحد شراقة فهربت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 الْمَرْأَة وأغلقت عَلَيْهَا مشربَة لَهَا فَلم يقدر لَهَا على شَيْء فَرَاوَدَهَا على النُّزُول فَأَبت فَقَالَ لَهَا إِن لم تنزلي رميت الْوَلَد فِي الطنجير فتمادت على الِامْتِنَاع فَرمى بِهِ فِيهِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَتْ وَلَدهَا فِي وسط الطنجير صاحت وَأَلْقَتْ بِنَفسِهَا عَلَيْهِ فاندقت رقبَتهَا وَمَاتَتْ فغاظ النَّاس ذَلِك وأعظموه وَقَامَ رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الشريف الزرهوني محتسبا على شراقة واعصوصب عَلَيْهِ كثير من الْعَامَّة وَقَامُوا بنصرته فَقتل شراقة والتلمسانيين بفاس حَيْثُ وجدوا وَحكم السَّيْف فِي رقابهم ونفاهم عَن فاس وحماها من إذايتهم وطهرها من رجسهم فَاسْتحْسن النَّاس أمره وأذعنوا إِلَيْهِ قَالَ فِي الْمرْآة وَفِي يَوْم الْجُمُعَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول يَعْنِي سنة عشْرين وَألف ثار بفاس الشريف أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الزرهوني وعضده الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد اللمطي الْمَعْرُوف بالمربوع وتبعهما أهل فاس بأجمعهم وأخرجوا من كَانَ بهَا من جَيش السُّلْطَان وَقتلُوا كثيرا مِنْهُم وَجَرت فِي ذَلِك خطوب آلت بعد سِنِين إِلَى انْقِطَاع الْملك بفاس وَبَقِي النَّاس فوضى إِلَى الْآن اه كَلَام الْمرْآة وَكَانَ ابْتِدَاء أَمر شراقة واشتداد شوكتهم سنة سِتّ عشرَة وَألف كَانُوا إدالة على أهل فاس نازلين بقصبة الطالعة وبقصبة أُخْرَى وببعض الفنادق وَقرب بَاب الْمُسَافِرين إِلَى أَن قَامَ عَلَيْهِم الشريف أَبُو الرّبيع فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ عبد الله بن الشَّيْخ يَوْم ثورة أبي الرّبيع وفتكه بشراقة غَائِبا فِي سلا فَلَمَّا بلغه الْخَبَر قدم ورام أَن يصلح بَين أهل فاس وَبَين شراقة وراودهم على ذَلِك فَقَالُوا لَا لَا فسميت تِلْكَ السّنة سنة لَا لَا ثمَّ أَمر أَبُو الرّبيع أهل فاس بشرَاء الْعدة والتهيؤ لقِتَال شراقة وَخرج إِلَيْهِم فَاقْتَتلُوا خَارج بَاب الجيسة فانهزمت شراقة واستتب أَمر أبي الرّبيع وسكنت أَحْوَال الْمَدِينَة وَأمن النَّاس أَمَانًا لم يعْهَد من زمَان السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة عشْرين وَألف كَانَت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وقْعَة المترب مَوضِع خَارج بَاب الْفتُوح وسببها أَن أهل فاس اسْتَغَاثَ بهم الملالقة واستصرخوهم على شراقة مكيدة وحيلة فَخَرجُوا فِي يَوْم شَدِيد الرّيح وَكَمن لَهُم شراقة بخولان وأغاروا عَلَيْهِم بَغْتَة فَانْهَزَمَ النَّاس وَقتل من أهل فاس نَحْو الْأَلفَيْنِ وَفِي نشر المثاني سَبْعمِائة فَقَط قَالَ وجلهم هلك بالعطش وغلقت الْأَبْوَاب واضطربت الْمَدِينَة وهاج الشَّرّ بِسَبَب ذَلِك مُدَّة ثمَّ خرج أهل فاس مرّة أُخْرَى لقِتَال عبد الله بن الشَّيْخ فهزموه وأسروه وَبَقِي فِي أَيْديهم فعفوا عَن قَتله وأطلقوه وذهبوا خَلفه حَتَّى دخل دَاره من فاس الْجَدِيد وَلما قتل أَبوهُ الشَّيْخ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين كَمَا مر واتصل خبر مَقْتَله بِابْنِهِ عبد الله عزم على الْأَخْذ بثأره من قاتليه أَوْلَاد أبي الليف وأزمع الْمسير إِلَيْهِم وَوَافَقَهُ على ذَلِك الشريف أَبُو الرّبيع والفقيه المربوع وأصحابهما وامتنعت الْعَامَّة من الذّهاب مَعَهم لِأَن الشَّيْخ لم تبْق لَهُ فِي نفوس الْمُسلمين مَوَدَّة حَيْثُ بَاعَ العرائش لِلنَّصَارَى فاجتمعت الْعَامَّة بِجَامِع الْقرَوِيين وَقَالُوا لَا نقبل سُلَيْمَان وَلَا المربوع وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَاتَّخذُوا رُؤَسَاء آخَرين فَوَقع بِسَبَب ذَلِك شَرّ عَظِيم أدّى إِلَى قتل الشريف مولَايَ إِدْرِيس بن أَحْمد الجوطي العمراني التّونسِيّ وَسبب ذَلِك أَن مُنَادِي أبي الرّبيع مر يُنَادي فِي السُّوق باستنفار النَّاس مَعَ عبد الله بن الشَّيْخ فَقَامَ إِلَيْهِ الشريف مولَايَ إِدْرِيس وضربه بعصا وسبه فَأقبل أَبُو الرّبيع وَمن مَعَه واقتحموا على مولَايَ إِدْرِيس دَار القيطون وقتلوه على خصتها وَلما كَانَ صباح الْقَبْر من الْغَد قَامَ ولد مولَايَ إِدْرِيس وشكا هضيمته لعلماء فاس فأمروه بِالصبرِ ثمَّ التف عَلَيْهِ أهل العدوة وقصدوا دَار أبي الرّبيع وناوشوه الْحَرْب فَرَجَعُوا مفلولين وَقتل بَعضهم وَالْأَمر لله وَحده وَوَقع الغلاء حَتَّى بيع الْقَمْح بأوقيتين وَربع للمد وَكَثُرت الْأَمْوَات حَتَّى أَن صَاحب المارستان أحصى من الْأَمْوَات من عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف إِلَى ربيع النَّبَوِيّ من السّنة بعْدهَا أَرْبَعَة آلَاف وسِتمِائَة وَخَربَتْ أَطْرَاف الْمَدِينَة وخلت المداسر وَلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 يبْق بلمطة إِلَّا الوحوش وَكثر النهب فِي القوافل وَلما كَانَ الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَعشْرين وَألف قبض الشريف أَبُو الرّبيع على أَرْبَعَة من كبار شراقة ثمَّ قَتلهمْ فَوَجَمَ لَهَا اللمطيون وَخَافَ النَّاس على الْمَدِينَة وتوقعوا الشَّرّ وَعظم الرعب فِي الْقُلُوب حَتَّى وَقعت بِسَبَب ذَلِك الْهَزِيمَة فِي كل مَسْجِد من مَسَاجِد الْخطْبَة بفاس وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِمَام جَامع الْقرَوِيين ذَات يَوْم يخْطب وَالنَّاس فِي صحن الْمَسْجِد فَوَقع شؤبوب من الْمَطَر غزير فابتدر من فِي الصحن الدُّخُول إِلَى تَحت السّقف فَظن النَّاس أَن أَبَا الرّبيع قد قَصده شراقة فَانْهَزَمُوا وَخَرجُوا من الْمَسْجِد لَا يلوي أحد على أحد فَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل جَامع الأندلس فاقتدوا بهم وَبلغ الْخَبَر إِلَى أهل الطالعة فَكَانَ كَذَلِك وَتَتَابَعَتْ الهزائم بالمساجد وَفِي يَوْم السبت الْخَامِس من صفر سنة سِتّ وَعشْرين وَألف قتل الشريف أَبُو الرّبيع غدرا فِي جَنَازَة رجل لمطي خرج إِلَيْهَا فَقتله الْفَقِيه المربوع وَقتل أَبَاهُ وَأَبْنَاء عَمه وَسِتَّة من أَصْحَابه وَدفن مَعَ وَالِده بِمَسْجِد الجرف وَلما قتل أَبُو الرّبيع بقيت فاس فِي يَد المربوع واعصوصب عَلَيْهِ اللمطيون واشتدت شوكته ثمَّ قدم جمع من عشيرة أبي الرّبيع من زرهون وحاولوا الفتك بالمربوع فَفطن بهم وَوَقع بَينه وَبينهمْ قتال هلك فِيهِ نَحْو مائَة وَثَلَاثِينَ رجلا وَسلم المربوع مِنْهَا وَقَالَ صَاحب مُعْتَمد الرَّاوِي لما قتل أَبُو الرّبيع الزرهوني قَامَ أَخُوهُ مولَايَ أَحْمد يطْلب بثأره وسَاق مَعَه نَحْو أَرْبَعمِائَة من الزراهنة واقتحم بهم فاس وقاتلوا الْفَقِيه المربوع وشيعته من اللمطيين فالتف أهل فاس على المربوع وقاتلوا مَعَه الشريف يدا وَاحِدَة فَانْهَزَمَ الشريف وَقتل جلّ من مَعَه وَكَاد يقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ ففر إِلَى رَوْضَة سَيِّدي أَحْمد الشاوي وَمَعَهُ نَحْو الثَّمَانِينَ من أَصْحَابه فَتَبِعهُمْ الْفَقِيه المربوع فِي جمع عَظِيم من اللمطيين واقتحم عَلَيْهِم الرَّوْضَة ففر الزراهنة إِلَى بيُوت دَار الشَّيْخ فهجم عَلَيْهِم المربوع بجنده وقتلهم أَجْمَعِينَ ثمَّ إِن المربوع واللمطيين جاؤوا بِرَجُل يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن الخنادقي كَانَ يتعبد بزرهون فاستقدموه فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 وَعشْرين وَألف وراموا أَن يملكوه ويجتمعوا عَلَيْهِ فأنزلوه مَعَ أَصْحَابه فِي رَوْضَة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم واتصل الْخَبَر بالقائد أَحْمد بن عميرَة وَزِير عبد الله بن الشَّيْخ فَأتى وفتك بأصحاب الرجل الْمَذْكُور ولجأ هُوَ إِلَى ضريح الشَّيْخ ابْن حرزهم فَرَمَوْهُ من طاق هُنَالك فَقَتَلُوهُ وَسقط مَيتا على الْقَبْر وَبَطل أمره وَلما سئم أهل فاس من الْفِتَن وَكَثْرَة الْحصار وضاق بهم الْحَال من غارات الْأَعْرَاب ذَهَبُوا إِلَى عبد الله بن الشَّيْخ بفاس الْجَدِيد ونصروه وأظهروا الْمحبَّة لَهُ ففرح بهم غَايَة وتحالفت الْعَامَّة والخاصة على نَصره والإذعان إِلَيْهِ فصفح عَنْهُم وَعَفا لَهُم عَمَّا سلف وَبعث وزيره إِلَى المربوع بالأمان فَلم يَأْمَن وَخَافَ على نَفسه وصمم مَعَ اللمطيين على قتال عبد الله وتهيؤوا لَهُ حَتَّى لم تصل الصَّلَوَات الْخمس بالقرويين ثمَّ إِن الْقَائِد حمو بن عَمْرو وَزِير عبد الله أَمر بِأَن يُنَادى بِأَمَان اللمطيين ففر اللمطيون عَن المربوع حِينَئِذٍ حَتَّى لم يبْق مَعَه إِلَّا قَلِيل ثمَّ بعث إِلَيْهِ عبد الله بسبحته وخاتمه أَمَانًا فَلم يَأْمَن وفر لَيْلًا إِلَى بني حسن فَأَخذه شيخهم سرحان وأتى بِهِ إِلَى عبد الله فَعَفَا عَنهُ وعادت دولة عبد الله إِلَى شبابها واستتب أمره وتمهدت لَهُ الْبِلَاد وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَعشْرين وَألف فَجمع الجيوش وَبعث بعض جنده لحصار تطاوين وَبَعْضهمْ لقبض الأعشار وَبعث وزيره حمو بن عَمْرو مَعَ المربوع لأرجين مَوضِع من جبال الزَّبِيب فغدر المربوع بالوزير وَقَتله اعْتِمَادًا على كَلَام سَمعه من عبد الله فَغَضب عبد الله وأسرها فِي نَفسه ثمَّ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث ربيع النَّبَوِيّ سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف قتل المربوع اللمطي ونهبت دَاره وَقَالَ فِي نشر المثاني قَتله عبد الله بن الشَّيْخ وعلقه على البرج الْجَدِيد خَارج بَاب السَّبع ثمَّ أنزلهُ ولعبت عَلَيْهِ خيله ثمَّ بعد أَيَّام وظف عبد الله على اللطميين ثَمَانِينَ ألفا فثقل عَلَيْهِم أمرهَا فَهَرَبُوا فِي كل وَجه فأسقط عَنْهُم نصفهَا وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 ثورة مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة على أَخِيه عبد الله بن الشَّيْخ وَمَا وَقع فِي ذَلِك قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ لما رأى أهل بِلَاد الهبط مَا وَقع من افْتِرَاق الْكَلِمَة وتوقد الْفِتَن بَايعُوا مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة على ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ الَّذِي قَامَ بدعوته الشريف أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن الإدريسي المحمدي اليونسي الْمَعْرُوف بِابْن ريسون وَهِي أم جده عَليّ نزيل تاصروت وَبَايَعُوهُ على الْكتاب وَالسّنة وعَلى إحْيَاء الْحق وإماتة الْبَاطِل فَلَمَّا بلغ خَبره أَخَاهُ عبد الله خرج لقتاله فَالتقى الْجَمْعَانِ بوادي الطين واقتتلوا فَانْهَزَمَ عبد الله وَتقدم مُحَمَّد إِلَى فاس فَدَخلَهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف وَقبض على بعض عُمَّال عبد الله فَقَتلهُمْ واستصفى أَمْوَالهم وَفِي آخر شعْبَان الْمَذْكُور وَقعت الْحَرْب بَينهمَا بمكناسة فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وَدخل عبد الله فاسا فِي مهل رَمَضَان من السّنة وَأظْهر الْعَفو عَن الْخَاص وَالْعَام ثمَّ قتل أهل فاس قائده ابْن شُعَيْب وَأخذُوا حذرهم من عبد الله ثمَّ وَقع قتال بَين أهل الطالعة وَأهل فاس الْجَدِيد ودام أَيَّامًا عديدة حَتَّى اصْطَلحُوا لتاسع رَجَب من سنة تسع وَعشْرين وَألف ثمَّ إِن عبد الله خرج لقِتَال أَخِيه مُحَمَّد فَوَقَعت المعركة بَينهمَا بوادي بهت فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وفر شَرِيدًا إِلَى أَن قَتله ابْن عَمه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف قتل الْفَقِيه الْعَالم القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن أبي النَّعيم بعد أَن نزل من صَلَاة الْجُمُعَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 بفاس الْجَدِيد فَقتلته اللُّصُوص بِبَاب الْمدرسَة العنانية وَفِي نشر المثاني قَتله اللمطيون بالزربطانة لأَنهم اتَّهَمُوهُ بالميل إِلَى عبد الله بن الشَّيْخ فَوَقع بِسَبَب قَتله شَرّ عَظِيم بَين أهل العدوتين من فاس وَلم يزل عبد الله فِي معالجة أهل فاس فَتَارَة يميلون إِلَيْهِ وَتارَة ينحرفون عَنهُ لفساد سيرته وقبح طويته حَتَّى كَانَ قائده مامي العلج ينهب الدّور جهارا وَيُعْطِي عبد الله كل يَوْم على ذَلِك عشرَة آلَاف مِمَّا ينهب من النَّاس من غير جريمة وَلَا ذَنْب وَقَامَ عَلَيْهِ بمكناسة أَيْضا رجل يُقَال لَهُ الشريف آمغار وَقَامَ عَلَيْهِ بتطاوين الْمُقدم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد النقسيس وَلم يبْق فِي يَده إِلَّا فاس الْجَدِيد وَأما فاس الْقَدِيم فَتَارَة وَتارَة كَمَا ذكرنَا آنِفا لِأَنَّهُ استولى عَلَيْهَا الشريف أَبُو الرّبيع والفقيه المربوع وَلما قتلا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا قَامَ بفاس مُحَمَّد بن سُلَيْمَان اللمطي الْمَدْعُو الْأَقْرَع وَعلي بن عبد الرَّحْمَن فَقتل ابْن سُلَيْمَان وَقَامَ أَحْمد بن الْأَشْهب مَعَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فَوَقَعت فتن وحروب ثمَّ قَامَ الْحَاج على سوسان وَابْن يعلى وَتَوَلَّى أَيْضا يزرور ومسعود ابْن عبد الله وَغَيرهم من الثوار وَكَانَت فاس أَيَّام هَؤُلَاءِ على فرق وشيع لَا يَأْمَن التَّاجِر على نَفسه إِلَّا إِن استجار بِأحد من هَؤُلَاءِ وَوَقع من الْفِتَن مَا أظلم بِهِ جو فاس ونتن أفقها العاطر الأنفاس وخلا أَكثر الْمَدِينَة وَاسْتولى عَلَيْهَا الخراب ودام الشَّرّ بَين أهل العدوتين حَتَّى كَادَت فاس تضمحل وَيَعْفُو رسمها وَحدث غير وَاحِد من الثِّقَات أَنه لما دَامَت الْحَرْب بَين أهل العدوتين وَلم يكن لأهل الأندلس غَلَبَة على اللمطيين قَالَ الشَّيْخ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد الفاسي لَا يغلب أحد اللمطيين مَا داموا مواظبين على قِرَاءَة الحزب الْكَبِير للْإِمَام الشاذلي رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت طَائِفَة من اللمطيين يقرؤونه كل صباح بزاوية سَيِّدي رضوَان الجنوي من عدوة اللمطيين فَسمع ذَلِك أهل عدوة الأندلس فاحتالوا على إبِْطَال قِرَاءَة ذَلِك الحزب بِأَن بعثوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 أحدا فاحتال على أُولَئِكَ الَّذين يقرؤونه فاستضافهم فَبَاتُوا عِنْده جَمِيعًا فِي منزله فَلَمَّا طلع الْفجْر أَو كَاد زعم أَن مِفْتَاح الدَّار قد سقط مِنْهُ وَتلف وَلم يزل يعاني فتحهَا إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَخَرجُوا وَلم يقرأوا الحزب ذَلِك الْيَوْم وَأخْبر أهل الأندلس بذلك فحملوا على أهل عدوة اللمطيين فهزموهم وتحكموا فيهم مَعَ أَنهم كَانُوا لم يَجدوا إِلَيْهِم سَبِيلا قبل ذَلِك ببركة حزب الشاذلي رَضِي الله عَنهُ وَذكر بَعضهم أَن سَبَب هَذِه الفترة مَا حُكيَ أَن عبد الله بن الشَّيْخ عزم على التنكيل بِأَهْل فاس فِي بعض غلباته عَلَيْهِم أَيَّام خُرُوجهمْ عَلَيْهِ فاستشفعوا إِلَيْهِ بالصالحين المجذوبين سَيِّدي جلول بن الْحَاج وسيدي مَسْعُود الشراط وَكَانَ من الملامتية فَلَمَّا وَقفا بَين يَدَيْهِ قَالَ أما وجد أهل فاس شَفِيعًا غير هَؤُلَاءِ الخراءين فِي ثيابهما فَغَضب سَيِّدي جلول وَقَالَ وَالله لَا تصرف فِيهَا يَعْنِي فاسا أحد أَرْبَعِينَ سنة وانصرفا فَيُقَال إِن عبد الله بن الشَّيْخ انقلبت معدته فَخرج غائطه من فَمه أَيَّامًا إِلَى أَن أَتَى بالشيخين فاسترضاهما فَكَانَ أَمر فاس كَمَا قَالَ سَيِّدي جلول لم يُطَأْطِئ رُؤُوس أعيانها سُلْطَان إِلَى أَن جَاءَ الله بالمولى الرشيد بن الشريف السجلماسي رَحمَه الله كَمَا سَيَأْتِي وَإِنَّمَا كَانَ يتَصَرَّف فِيهَا رُؤَسَاء أهل فاس الَّذين يسمونهم السياب قَالَ اليفرني وَهَذِه حِكَايَة صَحِيحَة سَمعتهَا من غير وَاحِد بفاس ملخصها مَا ذكرنَا وَلم يزل عبد الله فِي محاربة أهل فاس الْقَدِيم من سنة عشْرين وَألف إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بِسَبَب مرض اعتراه من إسرافه فِي الْخمر وإدمانه عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا ويتعاطاه سرا وجهارا قَالَ فِي شرح زهرَة الشماريخ وَلما توفّي عبد الله ولي بعده أَخُوهُ عبد الْملك فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَلم يزل مُقْتَصرا على مَا كَانَ قد صفا لِأَخِيهِ إِلَى أَن توفّي فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 وَمن آثَار عبد الله بن الشَّيْخ الْقبَّة الَّتِي على الخصة الكائنة أَسْفَل المنارة الَّتِي بوسط صحن جَامع الْقرَوِيين فَإِنَّهُ لم يكن فِي الْقَدِيم إِلَّا الخصة الْمُقَابلَة لَهَا شَرْقي الْجَامِع الْمَذْكُور غَرِيبَة قَالَ اليفرني حَدثنِي شَيخنَا الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد قَالَ كَانَ شيخ شُيُوخنَا الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ميارة يَقُول إِن أَحْمد ابْن الْأَشْهب الَّذِي تقدم ذكره قبل فِي الثوار أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والْحَدِيث بذلك مَذْكُور فِي كتاب الْجَامِع الْكَبِير لِلْحَافِظِ جلال الدّين السُّيُوطِيّ رَحمَه الله اه وَقتل ولد ابْن الْأَشْهب رَابِع جُمَادَى الأولى سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف فتك بِهِ عَليّ بن سعد فِي جَامع الْقرَوِيين وَهُوَ فِي صَلَاة الْعَصْر وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك حَرْب بَين أهل الأندلس واللمطيين وانتهبت السّلع الَّتِي بسوق القيسارية وسوق العطارين وَبنى اللمطيون الدَّرْب الَّذِي بِبَاب العطارين واستمرت الْحَرْب نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ اصْطَلحُوا ثورة أبي زَكَرِيَّاء بن عبد الْمُنعم بالسوس ومغالبته لأبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة على تارودانت كَانَ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي لما رَجَعَ من مراكش إِلَى السوس حَسْبَمَا مر بدا لَهُ فِي طلب الْملك وَجمع الْكَلِمَة لما رأى من افتراقها فِي حواضر الْمغرب وبواديه وَكَانَ المرابط أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي وَيُقَال لَهُ أَيْضا أَبُو حسون قد ظهر بالصقع السُّوسِي عِنْد فشل ريح السُّلْطَان زَيْدَانَ بِهِ وَاسْتولى على تارودانت وأعمالها فَلَمَّا ثار الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء سَار إِلَى تارودانت فتغلب عَلَيْهَا وملكها من يَد أبي حسون الْمَذْكُور وَبعد أَن وَقع بَينه وَبَينه معارك ومقاتلات كَبِيرَة وَكَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 القَاضِي بتارودانت يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الْعَالم أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّا قد استشاره فِيمَا عزم عَلَيْهِ فَلم يُوَافقهُ على ذَلِك وَلم يساعده على مُرَاده لما فِيهِ من الْخُرُوج على السُّلْطَان بِلَا مُوجب فَغَضب عَلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء حَتَّى أَمر بقتْله غيله فِيمَا قيل فَخرج القَاضِي من الْمَدِينَة خَائفًا يترقب وَذهب إِلَى مراكش فاستقر بهَا وَعَصَمَهُ الله مِنْهُ وَكتب إِلَى أبي زَكَرِيَّاء برسالة يعظه فِيهَا وينهاه عَن الْخُرُوج على السُّلْطَان وَنَصهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الْفَقِير الشَّديد الْحَاجة إِلَى رَحْمَة مَوْلَاهُ الْغَنِيّ بِهِ عَمَّن سواهُ السَّائِل مِنْهُ التَّوْفِيق واللطف فِي ظعنه ومأواه كَاتبه عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني عَفا الله عَنهُ وسمح لَهُ الْحَمد لله الَّذِي جعل الصدع بِالْحَقِّ وَظِيفَة الْأَنْبِيَاء وأورثه بعدهمْ من خلقه فريق الْعلمَاء وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم على من أكد أَمر الصُّلْح وَقَالَ (الدّين النَّصِيحَة) فَقيل لمن يَا رَسُول الله فَقَالَ (لله وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم) وَالرِّضَا على آله وَصَحبه الَّذين سلكوا سَبيله وانتهجوا من المناهج طَرِيقه وَعَن التَّابِعين وتابع التَّابِعين لَهُم إِلَى وُقُوع الْقصاص بَين الخليقة وَبعد فَإِنِّي لما قفلت بِحَمْد الله بسلامة وعافية إِلَى جبلي وجدت أَهلِي وأولادي مستوحشين من الْبَادِيَة وَإِن كَانَت مَحل سلفي ومقر تلادي بعد أَن ألفوا الحواضر وطبعوا على طباعها فَكَانُوا أَحَق بهَا وَكنت فِي غَايَة الضّيق والتأسف لما حل بالأولاد فتذكرت قَول بعض فُقَهَاء الأندلس مِمَّن نابه مثل مَا نابني وأصابه مثل مَا أصابني (أَلَيْسَ من الْقَبِيح مقَام مثلي ... بدار الْخَسْف منكسف الْجمال) (أخالط أهل سَائِمَة وسرح ... وأرتع بَين راعية الْجمال) فأجلت فكري وَإِن كَانَ الْكل بِقدر الله وإرادته فَرَأَيْت أَن ذَلِك وَفِي الْقَضَاء لطف أَمر أنتجه كَمَا لَا يخفى على ذِي بَصِيرَة مَا حل بالمغرب من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 افْتِرَاق الْكَلِمَة وتلاعب شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ بذوي الْعُقُول مِنْهُم فصاروا أحزابا وفرقا فاتبعت كل طَائِفَة من هَواهَا مَا كَانَت تعبد حَتَّى إِذا عرض لعاقل أَو عرض عَلَيْهِ مِنْهُم الإقلاع بادره الشَّيَاطِين فسدوا عَلَيْهِ بَابه وأروه بإغوائهم وزينوا لَهُ أَن ذَلِك يشينه لَدَى الْعَامَّة وَيُوجب لَهُ السُّقُوط من أعين النَّاس مَعَ أَنه لَا يعده من السُّقُوط إِلَّا {الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} النَّاس 6 - 4 وَأَيْنَ يغيب عَن الْمُوفق أَن السُّقُوط من عين الله هُوَ الطامة الْكُبْرَى وَأَيْنَ غَابَ عَنهُ أَن الْعبْرَة بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بِكَلَام الهمج الرعاع مِمَّن لَا يزَال الشَّيْطَان يلْعَب بِهِ آخِذا بزمامه سَاكِنا على قلبه وَلسَانه وَأَيْنَ يغيب عَنهُ من كتاب الله {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} النازعات 37 - 41 فَقلت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون هَذِه مُصِيبَة عَظِيمَة نزلت بمغربنا فافترق ملأهم وَقتلت سرواتهم وانتهبت أَمْوَالهم وهتكت حرمهم ومزقت أعراضهم وفسدت أديانهم واختلت وبدت عَن التَّوْفِيق آراؤهم وكادت تطمع بل طمعت فيهم أعداؤهم اللَّهُمَّ يَا ذَا الطول والامتنان يَا حنان يَا منان يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام تداركنا بألطافك الْخفية فِي ديننَا ودنيانا يَا خَالق الأَرْض وَالسَّمَاء فَإِن قلت مَا ذكرته من أَن خُرُوجك من الحواضر إِلَى الْبَوَادِي هُوَ نتيجة افْتِرَاق الْكَلِمَة كَمَا فعله من يَقْتَدِي بِهِ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فتبدى صَحِيح وَمَا دليلك على التلاعب قلت مَا خرجه أَئِمَّة الصِّحَاح من منع الْخُرُوج على الْأَئِمَّة وَأَن الْوَاجِب فِي حق من رأى مِنْهُم مَا يكره الصَّبْر والاحتساب إِذْ غائلة الْجور وَإِن تفاحش أقل بِكَثِير من غائلة الْخُرُوج الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَسَاد المهج وَالْأَمْوَال والأعراض والأديان وهتك الْحرم وَلِهَذَا صَبر على الْحجَّاج من عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من صَبر حَتَّى لقوا الله تَعَالَى سالمي الْأَدْيَان وبعبادته مغتنمي الزَّمَان وتذكر فَمَا بالعهد من قدم بالمرابط أبي محلي كَانَ فِي قطره عالي الصيت يقْصد ويتبرك بِهِ ويعتقد فِيهِ أَنه من قطب زَمَانه وَبلغ بِهِ الْحَال إِلَى أَن سَوَّلت لَهُ نَفسه أَو سَوَّلَ لَهَا أَنه يصلح بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 مَا لم يصلح بِغَيْرِهِ من أهل الزَّمَان فَقَامَ وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ حَتَّى مَلأ الدُّنْيَا صياحا ودعاوى وعياطا وأكاذيب لَا يشْهد لَهَا عقل وَلَا نقل فتمرد على الْمُسلمين حَتَّى لم يسلمُوا من لِسَانه وَيَده فَقتل وَنهب وَسَب واغتاب وَحمل نَفسه مَا لَا تُطِيقهُ فاستهوته شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ وَالنَّفس والهوى ثمَّ بعد ذَلِك كُله لم يحصل من سَعْيه على طائل وآفته الْغَفْلَة عَن الْكتاب وَالسّنة وَالرِّضَا عَن النَّفس حَتَّى أَنه حكمهَا فَصَارَت تلعب بِهِ إِلَى أَن فَاه وَادّعى بدعاوى استبيح بهَا مَا كَانَ مَعْصُوما من دَمه وَهَلَكت بِسَبَبِهِ بعده نفوس وأموال وَغير ذَلِك أيشك من ارتاض بِالْكتاب وَالسّنة وَنظر بِعَين الشَّرِيعَة إِن فعله ذَلِك مِمَّا حمله عَلَيْهِ من تجب مُخَالفَته من الشَّيْطَان وَالنَّفس والهوى وَرُبمَا اسحسن فعله ذَلِك من شيعته من ابْتُلِيَ بِهِ أَو قَلّدهُ تقليدا رديا فِي فعله فَإِن توليت فَإِنَّمَا عَلَيْك إِثْم الأريسيين وَإِلَى الْآن كَانُوا يستصوبون فعله ويستحسنون قَوْله مَعَ أَنه بمعزل عَن الْكتاب وَالسّنة فَإِن قلت وَهَذِه طَائِفَة الْفُقَرَاء مَا بَين متعصب متحزب ومتحيل متصيد ومتسور على مَا اسْتَأْثر بِهِ الْبَارِي من الغيوب مرتكب للآثام مصر على الْعُيُوب قلت وَهَذِه طَائِفَة الْفُقَرَاء فِيهَا جلّ مَا تقدم وزيادات تضيق عَن الْإِحَاطَة بهَا السطور والطروس قد بددتها وَالْعِيَاذ بِاللَّه الْفِتَن وشردها مَا تخوفته من المحن بَانَتْ الْعُلُوم واضمحلت الفهوم وتعطلت الرسوم فَلَا مَنْطُوق يذكر وَلَا مَفْهُوم (هَذَا الزَّمَان الَّذِي كُنَّا نحاذره ... فِي قَول كَعْب وَفِي قَول ابْن مَسْعُود) وَقلت وَهَذَا الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء وَهُوَ الَّذِي يساق إِلَى نصحه الحَدِيث كُنَّا نستسقي بِهِ ونستشفي وَكَانَت تشد إِلَيْهِ الرّحال وَلَا يأنف من إِتْيَانه النِّسَاء وَالرِّجَال قد أَتَتْهُ من أقطار مغربنا الْوُفُود ودانت لَهُ الذئاب وَالْأسود وَكَانَ يعلم الْجُهَّال وَيهْدِي الضلال وَيطْعم الجائع ويكسو الْعُرْيَان ويعين ذَا الْحَاجة ويغيث اللهفان وَهِي سَبِيل يَا لَهَا من سَبِيل وَطَرِيقَة مَا أحْسنهَا من طَريقَة ثمَّ صَارَت تِلْكَ الجموع وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا أَيدي سبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وتلاشت شذر مدر مَا لَهَا من نبا أَيهَا الشَّيْخ أكرمك الله بتسديده أَو تَجِد فِي الْوُجُود ملكا أعظم من ذَلِك الْملك فتطلبه أَو سُلْطَانا يوازيه أَو يُقَارِبه فتحاوله أَيْن خَفِي عَلَيْك الشَّيْء وَهُوَ ضَرُورِيّ أم أَيْن ضلت عَنْك النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة وَأَنت منقولي معقولي {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق} الْحَدِيد 16 {لمقت الله أكبر من مقتكم أَنفسكُم} غَافِر 10 و (إِن أبْغض الْكَلَام إِلَى الله أَن يَقُول الرجل للرجل اتَّقِ الله فَيَقُول عَلَيْك نَفسك) وَهُوَ طرف من حَدِيث خرجه النَّسَائِيّ وَقد وعظتك وذكرتك إِن نَفَعت الذكرى قَالَ جلّ من قَائِل {وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ} الذرايات 55 (فَقلت من التَّعَجُّب لَيْت شعري ... أأيقاظ أُميَّة أم نيام) فَإِن قَالَ شَيْطَان من شياطين الْإِنْس أَو الْجِنّ هَذَا مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله قلت الله الْموعد إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وستلقون ربكُم فيسألكم عَن أَعمالكُم وَإِن خطر هَذَا وهجس بقلب الشَّيْخ أكْرمه الله والشيطان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم قلت أدل دَلِيل على أَنِّي قصدت مَحْض النَّصِيحَة هُوَ أَنه استنصحني على دفاع أبي محلي فنصحته وَقلت لَهُ إِن هَذَا لَا تستقيم مَعَه الدّيانَة فَكَأَنَّهُ مَا قبل فانفصلت عَنهُ وَهُوَ يَقُول استخر لي الله فكاتبته بِأَن لَا يفعل ثمَّ لما نزل وَكَانَ على بَاب الْغَزْو من تارودانت خلوت بِهِ فَقلت لَهُ إِذْ ذَاك إِن النَّاس يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا وعرفته إِذْ ذَاك بِمَا عَرفته من أَبنَاء الزَّمَان فجمعنا فِي رَملَة إِلَى الْآن أتخيل حرهَا وتبرأ من كل مَا يُقَال وَمَا زلت على الْمَنْع إِلَى أَن جَاءَت كراريس من قبل أبي محلي فتأملتها فَوَجَدتهَا مُشْتَمِلَة على كفريات فِي جزئيات فيحنئذ شرح الله صَدْرِي لإباحة دفاعه ثمَّ وَإِن قلت ذَلِك فنفسي آمرة وَلَا أَقُول فِي نَفسِي مَا كَانَ يَقُوله سَحْنُون فِي قَضِيَّة ابْن أبي الْجواد مَالِي وَله الشَّرْع قَتله وَلَو قلت أَو غششت لغششت فِي قَضِيَّة ذَلِك الرجل وزينت لَك قِتَاله أَولا لِأَن ذَلِك هُوَ مُقْتَضى التعصب للأمير وَإِذا لم أتعصب إِذْ ذَاك فَكيف أستسهله الْآن فَتعين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 أَنِّي نصحت لكم أَن قبلتم وَإِلَّا فَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَن نَبِي من أنبيائه {وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} الْأَعْرَاف 79 أنْشدك الله الَّذِي بِإِذْنِهِ تقوم السَّمَاوَات وَالْأَرْض أما قلت لَك بعد رجوعي الْعَام الأول من مراكش بل الَّذِي قبله إِن الْعذر لَا يحسن وصرحت ولوحت بِأَن شقّ الْعَصَا لَا يحل غيرَة مرّة وَمَا كفاني القَوْل الدَّال على ذَلِك إِلَى أَن زِدْت الْفِعْل بِالْخرُوجِ من مَدِينَة لَا أبغضها كَمَا قَالَ (فوَاللَّه مَا فارقتها عَن قلي لَهَا ... وَإِنِّي بشطي جانبيها لعارف) ورضيت بالبادية مَعَ جفائها فِرَارًا من الْفِتَن وَعَملا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يُوشك أَن يكون خير مَال الرجل غنما يتبع بِهِ سعف الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن) ثمَّ بعد فعلى هَذَا كُله نصحت فَلم أَفْلح وخانوا فأفلحوا وعدوا عَليّ من القبائح طَاعَتي للأئمة مَعَ أَنَّك يَوْم جَاءَ إِلَى دَارك قلت لَهُم هَذَا أميركم وَنحن لَا نشك أَنَّك من المعتبرين فِي مغربنا وَأَن بيعتك لأحد لَازِمَة لنا وَكَذَلِكَ حِين ذهبت إِلَى مراكش فِي وقْعَة أبي محلي قد أَرَادَ أهل مراكش فأبيت وأبحت الْبِلَاد لخدم الْأَمِير وَقلت لَهُم إِنَّه الْأَمِير وفهمه النَّاس عَنْك بِلِسَان الْحَال وبلسان الْمقَال ونصروه بمرأى مِنْك ومسمع أفتشك بعد أَن كَانَ مِنْك هَذَا أَنَّك مبايع وَأَنت قدوة وَإِذا كَانَ هَذَا فَأَي حجَّة لَك على الْأَمِير وَلَا على المأمورين فَمن زين لَك قِتَاله فقد غشك إِذْ هُوَ مُسلم وَابْن مُسلمين فَإِن قلت موافقتي مَشْرُوطَة بِشُرُوط لم يوف لي بهَا قلت هَب أَنه لم يوف لَك أفتستبيح قِتَاله لأجل ذَلِك وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار) الحَدِيث فبالله أَيهَا الشَّيْخ مَا تَقول فِي هَذَا الحَدِيث وأنظاره وَمَا تَقول فِيمَا انتهب أَو عَسى أَن ينتهب من أَمْوَال النَّاس وَأخذ بِغَيْر حق وَأنْفق فِي سَبِيل الطاغوت وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس) أَو مَا تَسْتَحي من رَبك يَوْم تسْأَل عَن النقير والقطمير وَلست مِمَّن خَفِي عَلَيْهِ ذَلِك كُله فَتعذر عِنْد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 المخلوقين أَو مَا علمت أَن كثيرا من الْعَوام يعْتَقد جَوَاز ذَلِك إِذْ رآك ارتكبته فَتكون قد سننت هَذِه السّنة وضل بِسَبَب ذَلِك كثير من النَّاس أَو مَا خشيت دَعْوَة الْمَظْلُوم الَّتِي مَا بَينهَا وَبَين الله حجاب أَو مَا كنت تعير من يرتكب مثل ذَلِك من الْوُلَاة وتتأسف عَلَيْهِ (لَا تعير أَخَاك الْمُؤمن) الحَدِيث (لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم) أما انْتَبَهت لما وَقع لأهل درعة من النهب وَالسَّلب واسترقاق الْأَحْرَار وهتك الْحرم (إِن دماءكم وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام) الحَدِيث وَقد أَتَانَا السُّؤَال من قبل الشَّيْخ عَن صَنِيع سكتانة ذَلِك وَلم يسْتَطع إِذْ ذَاك من نظر بِنور الْعلم أَن يَقُول لَهُم فِي وزر نظرا إِلَى مَا آل إِلَيْهِ الْحَال فِي أهل درعة مَعَ أَن جلهم حَملَة الْقُرْآن وعامتهم بله (وَأكْثر أهل الْجنَّة البله) أفيليق بِحَق الصلحاء أَن يُسَلط عَلَيْهِم من لَا يرحمهم (وَلَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من قلب شقي) (إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء) (من لَا يرحم لَا يرحم) (ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء) أَو نسيت أَنه يقْتَصّ للجماء من القرناء وَأَن الظُّلم الَّذِي لَا يتْركهُ الله ظلم النَّاس بَعضهم لبَعض أَفِي علمك أَن حَسَنَاتك تفي بِمَا عَلَيْك من التَّبعَات أَو أَنه لَا تباعة لأحد عَلَيْك وَلَو كنت بَدْرِيًّا لاحتمل أَن يُقَال فِي شَأْنك مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر (وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر) فَقَالَ (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم) أَو كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَالظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة) أَو تَسْتَطِيع أَن تقتحم ظلمات الصِّرَاط وَأَنت مسؤول عَن القيراط وَحَتَّى أهل تارودانت بلغنَا أَنه لم يغن فِي شَأْنهمْ الترويع بل بلغ بهم الْحَال والجور إِلَى التقريع فَاتق الله أَيهَا الشَّيْخ وَلَا تكن كمن إِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم هَذَا مَا يتَعَلَّق بِبَعْض حُقُوق النَّاس على الْعُمُوم وَيتَعَلَّق بِحَق كَاتبه على الْخُصُوص إِنَّك أخذت عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي الطَّاعَة للأمير ويرعى مَا هُوَ من شيم الْمُؤمنِينَ من حسن الْعَهْد والتبري من الْغدر وشق الْعَصَا بعد أَن بذل وَسعه فِي نصحك ونصح الْأَمِير وحاول بكليته على جمع الْكَلِمَة وتعب فِي ذَلِك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 واقتحم فِيهِ عقبات لَا يقطعهَا إِلَّا بازل وَلَا سَبِيل إِلَيْهَا لمن يكون فِي دينه وَعَمله مثلي مِمَّن هُوَ نَازل (لعمر أَبِيك مَا نسب الْمُعَلَّى ... إِلَى كرم وَفِي الدُّنْيَا كريم) (وَلَكِن الْبِلَاد إِذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعى الهشيم) (إِذا غَابَ ملاح السَّفِينَة فارتمت ... بهَا الرّيح هوجا دبرتها الضفادع) وَلَكِن لَيْسَ من شَرط النَّصِيحَة كَمَال الناصح كَمَا أَنه لَيْسَ من شَرط تَغْيِير الْمُنكر عدم ارْتِكَاب المغير مَا غير لِأَن هَذِه طَاعَة وَتلك أُخْرَى والتوفيق بيد الله سُبْحَانَهُ نعم بَلغنِي مَعَ ذَلِك وَجزم لي بِهِ أَنَّك مَعَ بذل النصح لَك وللأمير أصلح الله الْجَمِيع وَأصْلح ذَات بَينهم أخذت عَليّ بالرصد فِي قفولي لصبيتي وَالرُّجُوع إِلَيْهِم رِعَايَة لما يجب وَينْدب من حُقُوقهم وَهل هَذَا إِلَّا حكم الْهوى والشيطان أعندك مَا تستبيح بِهِ ذَلِك مَعَ أَنِّي وَالْحَمْد لله أَيْنَمَا كنت لَا أسعى إِلَّا فِي مصلحَة جهد الِاسْتِطَاعَة أَو بَث نصيحة حِين لَا أرى من يبثها أَو إغاثة ملهوف حِين تجب إغاثته {لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني} المائده 28 الْآيَة وَلَكِن الله عز وَجل يَقُول {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله} فاطر 43 وَفِي التَّوْرَاة من حفر حُفْرَة فليوسعها وَلَا تحفرن بِئْرا تُرِيدُ بهَا أَخا فَأَيْنَ وجدت مَا يسوغ لَك ارْتِكَاب مثل هَذَا قولا أَو فعل أَو إِشَارَة أَو تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا وَأي جريمة توازي هَذِه الجريمة أَو كَبِيرَة من الآثام أكبر مِنْهَا وَالله الْموعد {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} الشُّعَرَاء 227 هَذَا والسعاية المصحوبة بسؤالي عَن دفاع سكتانه أَيْن تَجِدُونَ مَا يُوجب إباحتها أَيْن غَابَ عَنْكُم إِنَّهَا من الْكَبَائِر وَأَيْنَ غَابَ عَنْكُم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الرجل ليَتَكَلَّم بِكَلِمَة يهوي بهَا فِي النَّار سبعين خَرِيفًا) أَهَذا من أَخْلَاق الْمُؤمنِينَ وَالصَّالِحِينَ وَأَنت من بَيت الصّلاح مَا كَانَ جدك يرضى مثل هَذَا {مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء} مَرْيَم 28 وَهَذَا وَالله أعلم نتيجة قرناء السوء وَلَا تصْحَب من لَا ينهضك حَاله وَلَا يدلك على الله مقاله وَإِلَى هَذَا يَنْتَهِي حق الصُّحْبَة أَعنِي بذل النصح إِن الله يسْأَل عَن صُحْبَة سَاعَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 وَنحن صحبناك واعتقدناك ونصحناك ووعظناك (انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما) فَنَصَرْنَاك بِالرَّدِّ إِلَى الجادة أَيْن أَنْت من مَوْلَانَا الْحسن بن عَليّ إِذْ تخلى عَن الْأَمر لِابْنِ عَمه مُعَاوِيَة مَعَ أَنه هاشمي علوي فاطمي إِحْدَى ريحانتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُعَاوِيَة أموي يجمعهما عبد منَاف فتخلى عَن الْإِمَارَة مَعَ أَنه إِمَام وَابْن إِمَام وَأصْلح الله بِهِ وَهُوَ سيد بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين بعد أَن كَانَ يلقب بأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه إِذْ سلم عَلَيْهِ يَا عَار الْمُؤمنِينَ فَلم يكترث بذلك وَقَالَ النَّار أَشد من الْعَار ألهمنا الله وَإِيَّاكُم رشد أَنْفُسنَا وَجَعَلنَا وَإِيَّاكُم من الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه انْتهى وَلم يزل الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء مصمما على طلب جمع الْكَلِمَة إِلَى أَن اخترمته الْمنية قَالَ صَاحب الْفَوَائِد مَا صورته قَامَ الشَّيْخ أَبُو زَكَرِيَّاء بِجمع الْكَلِمَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْأمة وَاسْتمرّ بِهِ علاج ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَلم يتم لَهُ أَمر انْتهى وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس سادس جُمَادَى الثَّانِيَة من سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف بقصبة تارودانت وَحمل من الْغَد إِلَى رِبَاط وَالِده فَدفن بجنبه رَحمَه الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان زَيْدَانَ وَذكر وَفَاته رَحمَه الله قد ذكر المؤرخ لويز البرتغالي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الجديدة شَيْئا من أَخْبَار السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله فَقَالَ كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ صَاحب مراكش مسالما لنا كافا عَن حربنا وَكَانَت الْقَبَائِل تفتات عَلَيْهِ فِي غزونا فَكَانَت غاراتهم لَا تَنْقَطِع عَنَّا وَكَانَ هُوَ أَيْضا مَعَهم فِي شدَّة ومكابدة من أجل اعوجاجهم عَلَيْهِ ثمَّ ذكر أَن من جملَة من غزاهم فِي دولته السَّيِّد سعيد الدكالي قلت وَأَظنهُ وَالِد السَّيِّد إِسْمَاعِيل صَاحب الزاوية الْمَشْهُورَة بِبِلَاد دكالة قَالَ فَنَهَضَ سعيد بِحَال وغيرة وامتعاض لِلْإِسْلَامِ وَسَار إِلَى الْجَبَل الْأَخْضَر وَغَيره فَجمع الجموع نَحْو اثْنَي عشر ألفا وزحف بهم إِلَى الجديدة وَوَافَقَهُ على ذَلِك قَائِد آزمور وَبَعض أَشْيَاخ الشاوية وَكَانُوا فِي نَحْو مِائَتَيْنِ وَخمسين من الْخَيل وارتاع النَّصَارَى مِنْهُم وخافوا خوفًا شَدِيدا وَأمرهمْ قائدهم بالجد فِي حراسة الأسوار والأنقاب وَأَن يسدوا بَاب الجديدة وَلَا يفتحوا مِنْهُ إِلَّا خوخته وحاصرهم الْمُسلمُونَ ثَلَاثًا ثمَّ قضى الله بوفاة السَّيِّد سعيد فافترق ذَلِك الْجمع قَالَ لويز مَاتَ أسفا على مَا فَاتَهُ من الفتك بالنصارى كَمَا يحب وَفِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف خرج السُّلْطَان زَيْدَانَ من مراكش وَقصد نَاحيَة آزمور وَلما انْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِأم كرس من بِلَاد دكالة حمل إِلَيْهِ نَصَارَى الجديدة هَدِيَّة نفيسة ثمَّ قدم ثغر آزمور فِي نَحْو أَرْبَعِينَ ألفا من الْخَيل على مَا زعم لويز وَدخل الْبَلَد وَأخرج أهل آزمور عدَّة مدافع من البارود فَرحا بِهِ وَلما سمع نَصَارَى الجديدة بذلك أخرجُوا مدافعهم أَيْضا فَرحا بالسلطان وأدبا مَعَه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف ثار على السُّلْطَان زَيْدَانَ الْفَقِير إِبْرَاهِيم كانوت هَكَذَا سَمَّاهُ لويز وَلم أدر من هُوَ قَالَ وَفِي خَامِس عشر من دجنبر من السّنة تواقف جَيش الثائر الْمَذْكُور مَعَ جَيش السُّلْطَان للحرب بِبِلَاد دكالة وَكَانَ جَيش السُّلْطَان يَوْمئِذٍ ألفا وَخَمْسمِائة فَقَط وَجعل على مقدمته ابْنه عبد الْملك فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم وَقتل وَقتل جمَاعَة كَثِيرَة من أَصْحَابه وَقبض على وَلَده فَبَعثه السُّلْطَان مَعَ عدد وافر من رُؤُوس أَصْحَابه إِلَى مراكش وَأخرج نَصَارَى الجديدة المدافع أَيْضا فَرحا بِهَذَا الْخَبَر فَبعث إِلَيْهِم السُّلْطَان زَيْدَانَ بفرس أَحْمَر لقائدهم إِكْرَاما لَهُ وَكتب إِلَيْهِم بِكِتَاب تَارِيخه سادس رَمَضَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف مُكَافَأَة لَهُم على أدبهم مَعَه انْتهى كَلَام لويز وَقَالَ اليفرني رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان زَيْدَانَ من لدن مَاتَ أَبوهُ الْمَنْصُور وبويع هُوَ بفاس فِي محاربة مَعَ إخْوَته وَأَبْنَائِهِمْ ومقاتلة مَعَ القائمين عَلَيْهِ من الثوار الَّذين تقدم ذكر بَعضهم وَلم يخل قطّ فِي سنة من سني دولته من هزيمَة عَلَيْهِ أَو وقيعة بِأَصْحَابِهِ وَوَقعت بَينه وَبَين إخْوَته معارك يشيب لَهَا الْوَلِيد وَكَانَ ذَلِك سَبَب خلاء الْمغرب وخصوصا مَدِينَة مراكش وَمِمَّا عد عَن نحس زَيْدَانَ وَاسْتدلَّ بِهِ على فشل رِيحه أَنه فِي بعض الوقائع بعث كَاتبه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد التغلبي بِعشْرَة قناطير من الذَّهَب إِلَى صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَطلب مِنْهُ أَن يمده بِبَعْض أجناده كَمَا فعل مَعَ عَمه عبد الْملك الْغَازِي فَجهز لَهُ السُّلْطَان العثماني اثْنَي عشر ألفا من جَيش التّرْك وركبوا الْبَحْر فَلَمَّا توسطوه غرقوا جَمِيعًا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا غراب وَاحِد فِيهِ شرذمة قَليلَة وَقَالَ منويل إِن قراصين الإصبنيول غنمت فِي بعض الْأَيَّام مركبا للسُّلْطَان زَيْدَانَ فِيهِ أثاث نفيسة من جُمْلَتهَا ثَلَاثَة آلَاف سفر من كتب الدّين وَالْأَدب والفلسفة وَغير ذَلِك قَالَ اليفرني وَكَانَ زَيْدَانَ غير مُتَوَقف فِي الدِّمَاء وَلَا مبال بالعظائم قلت وَهُوَ مُخَالف لما ذكره زَيْدَانَ فِي رسَالَته الَّتِي خَاطب بهَا أَبَا زَكَرِيَّاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 الْمُتَقَدّمَة من أَنه مَا سعى فِي قتل أحد إِلَّا بفتوى أهل الْعلم وَالظَّن بزيدان أَنه مَا قَالَ ذَلِك إِلَّا عَن صدق وَإِلَّا فَمن الْبعيد أَن يفخر على خَصمه ويدلي بِشَيْء هُوَ متصف بضده وَكَانَ زَيْدَانَ فَقِيها مشاركا متضلعا فِي الْعُلُوم وَله تَفْسِير على الْقُرْآن الْعَظِيم اعْتمد فِيهِ على ابْن عَطِيَّة والزمخشري قَالَ اليفرني وَكَانَ كثير المراء والجدال كَمَا وَقع لَهُ مَعَ الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الصومعي قلت الَّذِي وَقع لَهُ مَعَ الصومعي هُوَ أَنه لما ألف كِتَابه الْمَوْضُوع فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ وَسَماهُ المعزى بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي بِصِيغَة اسْم الْمَفْعُول من الرباعي عَارضه زَيْدَانَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتادلا واليا عَلَيْهَا من قبل أَبِيه بِأَنَّهُ لم يسمع الرباعي من هَذِه الْمَادَّة وَإِنَّمَا قَالَت الْعَرَب عزاهُ يعزوه ثلاثيا فأصر أَبُو الْعَبَّاس رَحمَه الله على رَأْيه إِلَى أَن لطمه زَيْدَانَ على وَجهه بالنعل فَشَكَاهُ إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ لَو لطمك وَهُوَ الْمُخطئ لعاقبته أما إِذا كَانَ الصَّوَاب مَعَه فَلَا قلت كَانَ زَيْدَانَ يَوْمئِذٍ فِي عنفوان الشبيبة فصدر مِنْهُ مَا صدر (فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا ... فَإِن منظمة الْجَهْل الشَّبَاب) وَمَعَ ذَلِك فَمَا كَانَ من حَقه أَن يفعل وأظن أَن انتكاس رايته سَائِر أَيَّامه إِنَّمَا هُوَ أثر من آثَار تِلْكَ اللَّطْمَة فَإِن لله تَعَالَى غيرَة على المنتسبين إِلَى جنابه الْعَظِيم وَإِن كَانُوا مقصرين فنسأله سُبْحَانَهُ أَن يجنبنا موارد الشَّقَاء ويسلك بِنَا مسالك الرِّفْق فِي الْقَضَاء وللسلطان زَيْدَانَ شعر لَا بَأْس بِهِ مِنْهُ قَوْله (فتنتنا سوالف وخدود ... وعيون مدعجات رقود) (ووجوه تبَارك الله فِيهَا ... وشعور على المناكب سود) (أهلكتنا الملاح وَهِي ظباء ... وخضعنا لَهَا وَنحن أسود) وَقَوله (مَرَرْت بِقَبْر هامد وسط رَوْضَة ... عَلَيْهِ من النوار مثل النمارق) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 (فَقلت لمن هَذَا فَقَالُوا بذلة ... ترحم عَلَيْهِ إِنَّه قبر عاشق) وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي الْمحرم فاتح سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بِجَانِب قبر أَبِيه من قُبُور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره قَول الْقَائِل (هَذَا ضريح من بِهِ ... تفتخر المفاخر) (حامي حمى الدّين ... بِكُل ذابل وباتر) (لَا زَالَ صوب رَحْمَة ... الله عَلَيْهِ ماطر) (أرخ وَفَاة من غَدا ... جارا لرب غَافِر) (زَيْدَانَ سبط أَحْمد ... مبتكر المآثر) (أجل من خَاضَ الوغا ... وللأعادي قاهر) (وَمن شذا رضوانه ... نفحة كل عاطر) (بمقعد الصدْق علا ... أَبُو الْمَعَالِي النَّاصِر) ووزراؤه الباشا مَحْمُود وَيحيى آجانا الوريكي وَغَيرهمَا وَكتابه عبد الْعَزِيز الفشتالي كَاتب أَبِيه وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد التغلبي وَغَيرهمَا وقضاته أَبُو عبد الله الرجراجي وَغَيره وَترك عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم عبد الْملك والوليد وَمُحَمّد الشَّيْخ وَهَؤُلَاء ولوا الْأَمر بعده وَأحمد وَغَيرهم رحم الله الْجَمِيع الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي مَرْوَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ رَحمَه الله لما توفّي السُّلْطَان زَيْدَانَ رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ بعده ابْنه عبد الْملك وَلما تمت لَهُ الْبيعَة ثار عَلَيْهِ أَخَوَاهُ الْوَلِيد وَأحمد فَوَقَعت بَينه وَبَينهمَا معارك وحروب إِلَى أَن هزمهما وَاسْتولى على مَا كَانَ بيدهما من الْعدة والذخيرة وفر أَحْمد إِلَى بِلَاد الغرب فَدخل حَضْرَة فاس يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من صفر بعد وَفَاة أَبِيه بِسِتَّة وَأَرْبَعين يَوْمًا فاتسم بسمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 السُّلْطَان وَضرب سكته وَفِي ثَالِث عشر شَوَّال من السّنة عدا على ابْن عَمه مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بزغودة فَقتله غدرا بالقصبة وَلما كَانَ الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف أَخذ أَحْمد الْمَذْكُور وسجن بفاس الْجَدِيد على يَد قائدهم عبو وباها وَبَقِي مسجونا سبع سِنِين ثمَّ خرج من السجْن مستخفيا بَين نسَاء فِي سَابِع رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وأعلن الْعَامَّة بنصره وَلم يتم لَهُ أَمر ثمَّ توفّي قَتِيلا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف رمي برصاصة من بعض الْعَامَّة فَكَانَ مِنْهَا حتفه وَذَلِكَ بفاس الْجَدِيد وَلم يتم لَهُ أَمر ظُهُور أبي عبد الله العياشي بسلا ومبايعة أكَابِر عصره لَهُ على الْجِهَاد وَالْقِيَام بِالْحَقِّ قد تقدم لنا انْتِقَاض أندلس سلا على السُّلْطَان زَيْدَانَ وقتلهم مَوْلَاهُ عجيبا فَبَقيت سلا فوضى لَا وَالِي بهَا فَكثر النهب وامتدت أَيدي اللُّصُوص إِلَى المَال والحريم وسيدي مُحَمَّد العياشي سَاكِت لَا يتَكَلَّم وَكَثُرت الشكايات من التُّجَّار والمسافرين بمخافة السبل وَقطع الطرقات فأهرع النَّاس إِلَى أبي عبد الله الْمَذْكُور من كل جَانب وَكَثُرت وفوده وأشرقت فِي الجو السلاوي أنواره فشمر عَن ساعد الْجد وَأظْهر الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَلما طَالبه النَّاس بالتقدم عَلَيْهِم وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين وَأُمُور جهادهم مَعَ عدوهم أَمر أَشْيَاخ الْقَبَائِل وأعيانها من عرب وبربر ورؤساء الْأَمْصَار أَن يضعوا خطوطهم فِي ظهير بِأَنَّهُم رضوه وقدموه على أنفسهم والتزموا طَاعَته وَأَن أَي قَبيلَة خرجت عَن أمره كَانُوا مَعَه يدا وَاحِدَة على مقاتلتها حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فأعطوا بذلك خطوطهم فِي ظهير وَأَنَّهُمْ رضوه وقدموه على أنفسهم وَوَافَقَ على ذَلِك قُضَاة الْوَقْت وفقهاؤه من تامسنا إِلَى تازا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 وَكَانَ الْحَامِل لَهُ على طلب ذَلِك مِنْهُم أَنه بلغه عَن بعض طلبة الْوَقْت أَنه قَالَ لَا يحل الْجِهَاد إِلَّا مَعَ الْأَمِير فَفعل ذَلِك خُرُوجًا من تِلْكَ الدَّعْوَى الْوَاهِيَة وَإِلَّا فقد كتب لَهُ عُلَمَاء الْوَقْت كَالْإِمَامِ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر وَالْإِمَام أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الكلالي بِضَم الْكَاف المعقودة وَالْإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي وَغَيرهم بِأَن مقاتلة الْعَدو الْكَافِر لَا تتَوَقَّف على وجود السُّلْطَان وَإِنَّمَا جمَاعَة الْمُسلمين تقوم مقَامه وَلما كمل أمره وَبَايَعَهُ النَّاس على إعلاء كلمة الله ورد الظُّلم عَن ضعفاء الْأمة ضَاقَ الْأَمر على عرب الْمغرب لاعتيادهم الْفساد وَعدم الْوَازِع ومحبتهم الْخلاف والفتنة فنكث بيعَته جمَاعَة مِنْهُم وَكَانَ من نكث النَّاصِر بن الزبير فِي لمة من شراقة فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله حَتَّى ظفر بهم ثمَّ عَفا عَنْهُم ونكث أَيْضا الطاغي بِالتَّاءِ بدل الطَّاء فِي لسانهم مَعَ جموعه أَوْلَاد سجير فَغَلَبَهُمْ وَعَفا عَنْهُم وَكَذَلِكَ عرب الحياينة طغوا على أهل فاس وعاثوا خلال تِلْكَ الْبِلَاد بإغراء ولد السُّلْطَان زَيْدَانَ فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِم وَتَابَ على يَده جمَاعَة من رُؤَسَاء شراقة الَّذين كَانُوا مَعَ الحياينة وَكَانَت عَاقِبَة كل من بغى عَلَيْهِ خسرا وَكَانَ أهل سلا قد لقوا من نَصَارَى المعمورة مضرَّة وَشدَّة فَلَمَّا اجْتمعت الْكَلِمَة على أبي عبد الله العياشي ورد الله كيد من نكث فِي نَحره كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَنه تهَيَّأ لِلْخُرُوجِ إِلَى حلق المعمورة واستعد لقتاله ومنازلة من فِيهِ من النَّصَارَى طَمَعا فِي فَتحه فيتقوى الْمُسلمُونَ بذخائره وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد حاصروه قبل ذَلِك فَلم يقدروا مِنْهُ على شَيْء وصعب عَلَيْهِم أمره وَكَانَ أَبُو عبد الله إِذا أَرَادَ الله أَن يظفره بغنيمة رأى فِي مَنَامه أَنه يَسُوق خنازير أَو نَحْوهَا وَلما سَار بجموعه إِلَى الْحلق وَنزل عَلَيْهِ رأى قطعتين من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 الْخَنَازِير مَعهَا عنوز فَكَانَ من قَضَاء الله وصنعه أَنه فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة قدمت أغربة من سفن النَّصَارَى بِقصد الدُّخُول إِلَى الْحلق فضيق عَلَيْهِم رُمَاة الْمُسلمين الَّذين بالخندق فأرادوا أَن ينحرفوا إِلَى الْبَحْر فردهم الْبَحْر إِلَى سَاحل الرمل هُنَالك فَتمكن الْمُسلمُونَ مِنْهُم وَقتلُوا وَسبوا ووجدوا فِي الأغربة زهاء ثَلَاثمِائَة أَسِير من الْمُسلمين فَأعْتقهُمْ الله وَأسر يَوْمئِذٍ من النَّصَارَى أَكثر من ثَلَاثمِائَة وَقتل مِنْهُم أَكثر من مِائَتَيْنِ وظفر الْمُسلمُونَ بقبطان من عظمائهم ففدى بِهِ الرئيس طابق رَئِيس أهل الجزائر وَكَانَ عِنْدهم مَحْبُوسًا فِي قفص من حَدِيد واستقامت الْأُمُور لأبي عبد الله العياشي بسلا وَبنى دَاره دَاخل بَاب الْمُعَلقَة مِنْهَا وَبنى برجين على سَاحل مرسي العدوتين من نَاحيَة سلا وهما المعروفان الْيَوْم بالبساتين ثمَّ كَانَت غَزْوَة الْحلق الْكُبْرَى وَكَانَ من خَبَرهَا أَن جَيش أهل فاس خَرجُوا بِقصد الْجِهَاد فنزلوا بِموضع يعرف بِعَين السَّبع وكمنوا فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع خرج النَّصَارَى إِلَى تِلْكَ الْجِهَات على غرَّة فظفر بهم الْمُسلمُونَ وَكَانَ النَّصَارَى لما خرج جَيش أهل فاس أعلمهم بذلك مُسلم عِنْدهم مُرْتَد فَأَعْطوهُ سلعا وَجَاء بهَا إِلَى سلا بِقصد بيعهَا والتجسس لَهُم على الْخَبَر فَأخذ وَقتل وعميت عَلَيْهِم الأنباء إِذْ كَانُوا ينتظرون من يرد عَلَيْهِم فيخبرهم وَلما أَبْطَأَ عَلَيْهِم خَرجُوا فَلم يشعروا إِلَّا بِالْخَيْلِ قد أحاطت بهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الستمائة وَلم ينج إِلَّا الْقَلِيل حَتَّى لم يبت فِي الْحلق تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا مِنْهُم وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم أَرْبَعمِائَة من الْعدة وَلم يحضر أَبُو عبد الله العياشي فِي هَذِه الْوَقْعَة لِأَنَّهُ كَانَ قد ذهب إِلَى طنجة حنقا على يَوْم المسامير لِأَن النَّصَارَى خذلهم الله كَانُوا قد صَنَعُوا نوعا من المسمار بِثَلَاثَة رُؤُوس تنزل على الأَرْض وَالرَّابِع يبْقى مَرْفُوعا وَثبُوا ذَلِك فِي مجالات الْقِتَال مكيدة عَظِيمَة تتضرر مِنْهَا الفرسان والرجالة فَلَمَّا رَجَعَ وَأعلم بِضعْف من بَقِي بِالْحلقِ بعث إِلَى أهل الأندلس بسلا يصنعون لَهُ السلالم كي يصعد بهَا إِلَى من بَقِي فِي الْحلق فيستأصلهم فتثاقلوا عَن صنعها غشا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 لِلْإِسْلَامِ ومناواة لأبي عبد الله حَتَّى جَاءَ المدد لأهل الْحلق وَكَانَت تِلْكَ الرابطة بَين أهل الأندلس وَالنَّصَارَى متوارثة من لدن كَانُوا بأرضهم فَكَانُوا آنس بهم من أهل الْمغرب فَلَمَّا أَتَى أَبُو عبد الله بالسلالم لم تغن بعد شَيْئا وَمن هُنَالك استحكمت الْبغضَاء بَينه وَبَين أهل الأندلس وَكَانَ أهل الأندلس قد أعلمُوا النَّصَارَى بِأَن محلّة أبي عبد الله النَّازِلَة لمحاصرة الْحلق لَيست لَهَا إِقَامَة فَبلغ ذَلِك أَبَا عبد الله فَأَقَامَ عَلَيْهِم الْحجَّة وشاور الْعلمَاء فِي قِتَالهمْ فَأفْتى أَبُو عبد الله الْعَرَبِيّ الفاسي وَغَيره بِجَوَاز مُقَاتلَتهمْ لأَنهم حادوا الله وَرَسُوله ووالوا الْكفَّار ونصحوهم وَلِأَنَّهُم تصرفوا فِي مَال الْمُسلمين ومنعوهم من الرَّاتِب وَقَطعُوا البيع وَالشِّرَاء عَن النَّاس وخصوا بِهِ أنفسهم وصادقوا النَّصَارَى وأمدوهم بِالطَّعَامِ وَالسِّلَاح وَكَانَ سَيِّدي عبد الْوَاحِد بن عَاشر لم يجب عَن هَذِه الْقَضِيَّة حَتَّى رأى بِعَيْنِه حِين قدم إِلَى سلا بِقصد المرابطة فَرَأى أهل الأندلس يحملون الطَّعَام إِلَى النَّصَارَى ويعلمونهم بِعَوْرَة الْمُسلمين فَأفْتى حِينَئِذٍ بِجَوَاز مُقَاتلَتهمْ فَقَاتلهُمْ أَبُو عبد الله وَحكم السَّيْف فِي رِقَاب هم أَيَّامًا إِلَى أَن أخمد بدعتهم وَجمع الْكَلِمَة بهم وَلما وَقعت غَزْوَة الْحلق الْكُبْرَى قدمت الْوُفُود على أبي عبد الله بِقصد التهنئة بِمَا منحه الله من الظفر فحض النَّاس على استئصال شافة من بَقِي بِالْحلقِ من النَّصَارَى وعير الْعَرَب بترك الْكفَّار فِي بِلَادهمْ وَكَانَ مِمَّن حضر من الْعَرَب جمَاعَة من الْخَلْط وَبني مَالك والتاغي والدخيسي وَغَيرهم فَقَالَ لَهُم أَبُو عبد الله وَالله وَالله وَالله إِن لم تأخذكم النَّصَارَى لتأخذنكم البربر فَقَالُوا يَا سَيِّدي كَيفَ يكون هَذَا وَأَنت فِينَا فَقَالَ لَهُم اسْكُتُوا أَنْتُم الَّذين تقطعون رَأْسِي فَكَانَ كَذَلِك وَهَذَا من كراماته رَضِي الله عَنهُ ثمَّ صرف عزمه إِلَى التَّضْيِيق على نَصَارَى العرائش وَشن الغارات عَلَيْهِم فَتقدم فِي جمع من الْمُسلمين وَكَمن بِالْغَابَةِ نَحوا من سَبْعَة أَيَّام فَخَرجُوا على حِين غَفلَة فمكن الله من رقابهم وَكَانَ فِي مُدَّة كمونه بِالْغَابَةِ أَخذ حناشا من عرب طليق يُقَال لَهُ ابْن عبود والحناش فِي لِسَان عَامَّة أهل الْمغرب هُوَ الجاسوس فَأَرَادَ عبد الله قَتله فَقَالَ لَهُ اسبقني وَأَنا تائب إِلَى الله وَأَنا أَنْفَع الْمُسلمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 إِن شَاءَ الله فَتَركه فَذهب إِلَى النَّصَارَى وَكَانَ موثوقا بِهِ عِنْدهم حَتَّى كَانُوا يؤدون إِلَيْهِ الرَّاتِب فَقَالَ لَهُم إِن أَحيَاء الْعَرَب وحللها قد نزلُوا بوادي العرائش فَلَو أَغَرْتُم عَلَيْهِم لغنمتموهم فَخَرجُوا فمكن الله مِنْهُم وطحنهم الْمُسلمُونَ فِي سَاعَة وَاحِدَة طحت الحصيد وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الشريد وَكَانَ ابْن عبود قد بَقِي بِأَيْدِيهِم فَأَخَذُوهُ ومثلوا بِهِ ونزعوا أَسْنَانه وَأَرَادُوا قَتله لَوْلَا أَنه رفعهم إِلَى شرعهم وَكَانَ عدد من قتل من النَّصَارَى نَحْو ألف وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة سنة أَرْبَعِينَ وَألف بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ ووفاته قَالَ اليفرني كَانَ عبد الْملك بن زَيْدَانَ فَاسد السِّيرَة مطموس البصيرة وَبلغ من قلَّة ديانته أَنه تزايد لَهُ مَوْلُود فأظهر أَنه أَرَادَ أَن يحتفل لسابعه فَبعث إِلَى نسَاء أَعْيَان مراكش وَنسَاء خُدَّامه أَن يحضرن وَصعد هُوَ إِلَى مَنَارَة فِي دَاره فَنظر إِلَى النِّسَاء وَهن منتشرات قد وضعن ثيابهن فأيتهن أَعْجَبته بعث إِلَيْهَا وَكَانَ مدمنا على شرب الْخمر إِلَى أَن قَتله العلوج بمراكش وَهُوَ سَكرَان يَوْم الْأَحَد سادس عشر شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَدفن إِلَى جَانب قبر أَبِيه وَبسط منويل خبر مَقْتَله فَقَالَ لما ثار الْوَلِيد على أَخِيه عبد الْملك وعادت الكرة عَلَيْهِ بَقِي متنقلا فِي الْبِلَاد ثمَّ رغب إِلَى أَخِيه حَتَّى رده إِلَى مراكش فَأخذ الْوَلِيد يستميل رُؤَسَاء الدولة ووجوهها وتجارها ويعدهم بِالْإِحْسَانِ حَتَّى وافقوه على الفتك بأَخيه فترصدوه حَتَّى غفل البوابون ودخلوا عَلَيْهِ قُبَّته وَهُوَ متكئ على طنفسة فَرَمَوْهُ برصاصة وتناولوه بالخناجر الْمُسَمَّاة عِنْد المغاربة بالكميات وَقَامَت الهيعة بالمشور والقصبة فخاف الْوَلِيد على نَفسه من بعض قواد الْجند فَأخْرج جَنَازَة أَخِيه إِلَى المشور حَتَّى شَاهده النَّاس مَيتا فسكنوا وَانْقطع أملهم وَبَايَعُوهُ انْتهى قَالَ اليفرني وَمِمَّا رَأَيْته مَنْقُوشًا على رخامة قَبره هَذَانِ البيتان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 (لَا تقنطن فَإِن الله منان ... وَعِنْده للورى عَفْو وغفران) (إِن كَانَ عنْدك إهمال ومعصية ... فَعِنْدَ رَبك أفضال وإحسان) وَمن وزرائه مُحَمَّد باشا العلج وَيحيى آجانا الوريكي وجؤذر وَغَيرهم وقاضيه الْفَقِيه أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني قَاضِي مراكش ومفتيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السملالي رحم الله الْجَمِيع الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي يزِيد الْوَلِيد بن زَيْدَانَ رَحمَه الله لما قتل السُّلْطَان عبد الْملك بن زَيْدَانَ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ أَخُوهُ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ فَلم يزل مُقْتَصرا على مَا كَانَ لِأَخِيهِ وَأَبِيهِ من قبله لم يُجَاوز سُلْطَانه مراكش وأعمالها وعظمت الْفِتَن بفاس حَتَّى عطلت الْجُمُعَة والتراويح من جَامع الْقرَوِيين مُدَّة وَلم يصل بِهِ لَيْلَة الْقدر إِلَّا رجل وَاحِد من شدَّة الهول والحروب الَّتِي كَانَت بَين أهل الْمَدِينَة واقتسم الْمغرب فِي أَيَّام أَوْلَاد زَيْدَانَ طوائف فَكَانَ حَاله كَحال الأندلس أَيَّام طوائفها كَمَا ذكرنَا وَنَذْكُر بعد إِن شَاءَ الله ظُهُور أبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة بالسوس ثمَّ استيلاؤه على درعة وسجلماسة وأعمالها هَذَا الرجل هُوَ أَبُو الْحسن وَيُقَال أَبُو حسون عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيّ الصَّالح أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى السملالي وَكَانَ بَدْء أمره أَنه لما ضعف أَمر السُّلْطَان زَيْدَانَ بالصقع السُّوسِي وفشل رِيحه فِيهِ نبغ هُوَ فَدَعَا لنَفسِهِ وجر نَار الرياسة إِلَى قرصه وتألبت عَلَيْهِ البرابرة من بسائط جزولة وجبالها والتفت عَلَيْهِ غَالب الْقَبَائِل السوسية فاستولى على تارودانت وأعمالها إِلَى أَن أخرجه عَنْهَا الْفَقِيه أَبُو زَكَرِيَّاء بن عبد الْمُنعم بعد حروب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وَفتن عَظِيمَة حَسْبَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَلما توفّي أَبُو زَكَرِيَّاء فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم صفا لأبي حسون قطر السوس وَنفذ فِيهِ أمره وَسمعت كَلمته ثمَّ بعد مهلك زَيْدَانَ مد يَده إِلَى درعة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ استولى سجلماسة ونواحيها فاستحكم أمره وتقوى عضده وَلم يزل أمره نَافِذا فِي سجلماسة إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ الْأسد الهصور الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فَأخْرجهُ من سجلماسة بعد حروب يشيب لَهَا الْوَلِيد ثمَّ أخرجه من درعة أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد وَقد وقفت على سُؤال رفع من جَانب أبي حسون إِلَى القَاضِي أبي مهْدي السكتاني فِي شَأْن مَدِينَة إيليغ دَار رياسته ومقر عزه يستفتيه فِي إِحْدَاث كَنِيسَة الْيَهُود بهَا هَل يجوز أم لَا وَفِيه مَعَ ذَلِك بعض الْكَشْف عَن حَال هَذِه الْمَدِينَة فلنذكره وَنَصه الْحَمد لله الَّذِي ارتضى لِلْإِسْلَامِ دينا وَأنزل بِهِ على خيرة خلقه كتابا مُبينًا الْفَقِيه الْأَجَل الْعَلامَة الأحفل القَاضِي الأعدل خَاتِمَة الْمُحَقِّقين ومعتمد الموثقين أَبَا مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَفقه الله لما يرضيه وأعانه على مَا هُوَ متوليه السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فقد تقرر عِنْد سيدنَا أَمر هَذِه الحضرة الْعلية العلوية إيليغ أَدَم بهجتها كَمَا رفع كَغَيْرِهَا من الحواضر درجتها وَأَنَّهَا محدثة فتوفرت ببركة بانيها عمارتها ومبانيها فاتخذها مسكنا أهل السهول والحزون وجمعت لطيب تربَتهَا بَين الضَّب وَالنُّون فنزلها برسم الاستيطان أَو شَاب من أهل الذِّمَّة بِإِذن مختطها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 الإِمَام العالي الهمة فاختطوا بهَا عَن إِذْنه مَنَازِلهمْ وبنوا بفنائها كنيستهم وصيروها متعبدهم فاتفق والْحَدِيث شجون أَن جرى بِبَعْض أندية علمائها ومحضر جمع من نبهاء الْبَلدة وفقهائها كَلَام أفْضى بهم إِلَى ذكر الْكَنِيسَة الْمَذْكُورَة والمجادلة فِي مُحَصل الحكم الشَّرْعِيّ فِيهَا فِي الدَّوَاوِين المسطورة فَأفْتى بَعضهم بِوُجُوب هدمها لِأَنَّهَا محدثة بِبِلَاد الْإِسْلَام وَلما فِي تَركهَا من الْمَفَاسِد الْعِظَام وَأَنَّهَا لَا تتْرك لَهُم متعبدا وَجزم الْكَلَام وَقَالَ هَذَا مُحَصل مَا ذكره فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة الْأَعْلَام وَأفْتى فريق بِجَوَاز إبقائها وَأَنه لَا يَنْبَغِي تقويض بنائها وَلَا التَّعَرُّض لَهُم فِي إحداثها إِذْ على مثل هَذَا من دينهم الْفَاسِد أقرُّوا وأعطوا الذِّمَّة فأعطوا الْجِزْيَة صاغرين وَلم يرد منع اجْتِمَاع دينين إِلَّا فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَكم من بلد إسلامي مُحدث مشحون بالعلماء أحدثت فِيهِ وَلم يَقُولُوا بِمَنْعه وتواطؤهم على تَركهَا كالنص وَالدَّلِيل على جَوَاز إحداثها وإبقائها بعده وَاسْتمرّ الْحجَّاج وَكثر اللجاج وَلم يقنع كل فريق بِمَا أبداه الآخر من الِاحْتِجَاج فعطلت لذَلِك إِلَى أَن تفَرقُوا فِيهَا بعلمكم النافع بَين العذب والأجاج بفتوى تبين صَحِيح الْأَقْوَال من سقيمها وتفصل بَين ليلى وغريمها وَلَوْلَا مَحل النَّازِلَة من الدّين مَا رفعت إِلَيْكُم فَلذَلِك وَجب الْجَواب عَنْهَا عَلَيْكُم مَعَ مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أَنهم طلبُوا أَن تتْرك لَهُم بقْعَة يوارون فِيهَا جيف موتاهم لِأَن مَسَافَة مَا بَينهم وَبَين أفران الَّتِي هِيَ مَقْبرَة قديمَة لَهُم بعيدَة هَل يساعفون أم لَا وَالله يبقيكم ومجدكم محروس وظل من استزلكم مكنوس وَالسَّلَام عَلَيْكُم الْجَواب الْحَمد لله وعَلى فُقَهَاء بِلَادنَا السوسية حرسها الله وَأكْرمهمْ بِاتِّبَاع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فقد وقف كَاتبه عَفا الله عَنهُ على نازلة أهل الذِّمَّة النازلين بإيليغ مختط أَوْلَاد السَّيِّد الْبركَة قطب بِلَادنَا سَيِّدي أَحْمد بن مُوسَى نفعنا الله ببركاته وَبَارك فِي ذُريَّته وسددهم لما فِيهِ رِضَاهُ آمين وَلما وقفت عَلَيْهَا وتأملتها فَرَأَيْت أَن الصَّوَاب فِيهَا الْفَتْوَى بِمَنْع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 إِحْدَاث أهل الذِّمَّة الْكَنَائِس فِيهَا وبهدم مَا بنى فِيهَا بعد إحداثه لِأَن إيليغ من بِلَاد الْإِسْلَام وَلَا فِيهِ شُبْهَة لأهل الذِّمَّة الطارين عَلَيْهِ لَا بِاعْتِبَار الْفَتْح العنوي وَلَا بِاعْتِبَار الصلحي على الْخلاف فِي الْمغرب بِاعْتِبَار فَتحه وَحَاصِل أمرهَا خَفَاء الْحَال فِيهَا وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا فَالْحكم أَنَّهَا ملك لمدعيها الْحَائِز لَهَا والأراضي أَقسَام أَرض إِسْلَام لَا يجوز إِحْدَاث الْكَنَائِس بهَا بِاتِّفَاق ثمَّ إِن وَقع شَيْء من ذَلِك هدم وَأَرْض إيليغ من هَذَا الْقسم فَإِن ملكوا الأَرْض الَّتِي بنوا فِيهَا الْكَنِيسَة بِوَجْه من وُجُوه التَّمَلُّك كالعطية وَجب هدمها ونقضها وَيكون لَهُم مَا يسوغ من الْمَنَافِع وَإِن كَانَ بِنَاء الْكَنِيسَة شرطا ردَّتْ الْعَطِيَّة وَفسخ البيع إِن كَانَ بِهِ لِأَنَّهُ فِي معنى التحبيس على الْكَنِيسَة وَالْحَاصِل أَن وَجه دُخُول الْيَهُود إيليغ مَعْلُوم وَأَن بَلَده ملك لِلْإِسْلَامِ فبناء الْيَهُود فِيهَا الْكَنَائِس مَعْصِيّة وتمكينهم مِنْهُ إِعَانَة عَلَيْهَا وَهَذَا لَا يخفى وَأما الْجَوَاز والإفتاء بِهِ فِي النَّازِلَة فبمعزل عَن الصَّوَاب وَالِاسْتِدْلَال على الْجَوَاز بحواضر الْمغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لَا يتم لِأَن أصل تمكينهم من الْكَنَائِس مَجْهُول إِذْ يحْتَمل أمورا مِنْهَا أَنه يحْتَمل أَن يكون بِعَهْد كَانَ لَهُم فِي غير تِلْكَ الْبِلَاد من إقرارهم على بلد يسكنونه مَعَ بقائهم على متعبداتهم ثمَّ نقلوا لمصْلحَة اقْتَضَت ذَلِك أَو أرجح وَلِأَن الْبِلَاد تقدم فِيهَا الْيَهُود وَغَيرهم من أهل الصُّلْح وَالْحَاصِل أَن وَجه دُخُولهمْ مَجْهُول فِي هَذِه الْبِلَاد بِخِلَاف إيليغ ونازلة إيليغ مَعْلُومَة الدُّخُول فبينهما بون فَقِيَاس إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى لَا يَصح وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَكتب عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن وَفقه الله آمين وَلما علم المرابط بالحكم أَمر بهدمها وَمنع الْيَهُود مِمَّا أرادوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْوَلِيد ابْن زَيْدَانَ ووفاته رَحمَه الله قَالَ فِي شرح الزهرة كَانَ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ متظاهرا بالديانة لين الْجَانِب حَتَّى رضيته الْخَاصَّة والعامة وَكَانَ مُولَعا بِالسَّمَاعِ لَا يَنْفَكّ عَنهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا إِلَّا أَنه كَانَ يقتل الْأَشْرَاف من إخْوَته وَبني عَمه حَتَّى أفنى أَكْثَرهم وَكَانَ مَعَ ذَلِك محبا فِي الْعلمَاء مائلا إِلَيْهِم بكليته متواضعا لَهُم وَله ألف الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن الطّيب منظومته الْمَشْهُورَة فِي الْفَوَاكِه الصيفية والخريفية وَألف القَاضِي أَبُو مهْدي السكتاني شرح صغرى الصُّغْرَى للسنوسي برسمه والقصبة الْمَعْرُوفَة بالوليدية على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط فِيمَا بَين آسفي وتيط هِيَ منسوبة إِلَيْهِ وأظنها من بنائِهِ وَالله أعلم وَأما وَفَاته فسببها أَن جنده من العلوج طالبوه بمرتبهم وأعطياتهم على الْعَادة وَقَالُوا لَهُ أعطنا مَا نَأْكُل فَقَالَ لَهُم على طَرِيق التهكم كلوا قشر النارنج بالمسرة فغضبوا لذَلِك وَكَمن لَهُ أَرْبَعَة مِنْهُم فَقَتَلُوهُ غدرا يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من رَمَضَان الْمُعظم سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَقَالَ منويل لما ولي الْوَلِيد قتل أَخَاهُ إِسْمَاعِيل واثنين من أَوْلَاد أَخِيه عبد الْملك وَسَبْعَة من بني عَمه وَلم يتْرك إِلَّا أَخَاهُ الشَّيْخ بن زَيْدَانَ استصغارا لَهُ إِذْ كَانَ سنه يَوْمئِذٍ إِحْدَى عشرَة سنة وَكَانَت أمه تخَاف عَلَيْهِ من الْوَلِيد فَكَانَت تحرسه مِنْهُ حراسة شَدِيدَة وَألقى الله محبته فِي قلب سَائِر نسَاء الْقصر لما رأين من هَلَاك الأعياص وَعرضه الْملك للزوال وَكن حازمات يقمن مقَام الرِّجَال حَتَّى إِن بَعضهنَّ كَانَت لَهَا طبنجات فِي حزامها دَائِما تحرس الشَّيْخ من أَخِيه الْوَلِيد ثمَّ إِن رُؤَسَاء الدولة سئموا ملكته فاتفقوا مَعَ نسَاء الْقصر على قَتله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 وَكَانَ الْوَلِيد عَازِمًا على قتل أَخِيه الشَّيْخ أَيْضا فاحتال بِأَن صنع ذَات لَيْلَة صنيعا عَظِيما وَطَعَامًا كثيرا دَعَا إِلَيْهِ وُجُوه الدولة وأعيان مراكش وَكَانَ أَخُوهُ الشَّيْخ عِنْده فِي الدَّار لَا يتْركهُ يخرج بِحَال وعزم أَنه إِذا اشْتغل نسَاء الْقصر بِأَمْر الطَّعَام وَنَحْوه خَالف إِلَيْهِ وَقَتله فَكَانَ من قدر الله أَن العلوج قد عزموا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة على اغتيال الْوَلِيد فكمنوا لَهُ فِي الْحُجْرَة الَّتِي كَانَ الشَّيْخ مَحْبُوسًا فِيهَا ثمَّ لما جَاءَ الْوَقْت وَاجْتمعَ النَّاس فِي الْقبَّة الَّتِي أعدهَا لَهُم الْوَلِيد قَامَ وَدخل إِلَى الْحُجْرَة الَّتِي فِيهَا الشَّيْخ للفتك بِهِ فَوجدَ الأعلاج كامنين لَهُ هُنَاكَ فَلَمَّا رَآهُمْ فزع وَقَالَ مَا لكم فَرَمَوْهُ بالرصاص ثمَّ تناولوه بالخناجر حَتَّى فاظ انْتهى الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله لما قتل السُّلْطَان الْوَلِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اخْتلف النَّاس فِيمَن يقدمونه للولاية عَلَيْهِم ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على مبايعة أَخِيه مُحَمَّد الشَّيْخ وإلقاء القيادة إِلَيْهِ فأخرجوه من السجْن وَكَانَ أَخُوهُ الْوَلِيد قد سجنه إِذْ كَانَ يتخوف مِنْهُ الْخُرُوج عَلَيْهِ فبويع بمراكش يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس عشر من رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَلما بُويِعَ سَار فِي النَّاس سيرة حميدة وألان الْجَانِب للكافة وَكَانَ متواضع فِي نَفسه صفوحا عَن الهفوات متوقفا عَن سفك الدِّمَاء مائلا إِلَى الرَّاحَة وَالدُّعَاء متظاهرا بِالْخَيرِ ومحبة الصَّالِحين وَهُوَ الَّذِي بِنَا على قبر الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي بزاويته قبَّة حافلة الْبناء رائقة الصَّنْعَة إِلَّا أَنه كَانَ مكنوس الرَّايَة مهزوم الْجَيْش وبسبب ذَلِك لم يصف لَهُ مِمَّا كَانَ بيد أَبِيه وَإِخْوَته إِلَّا مراكش وَبَعض أَعمالهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 وَقد ثار عَلَيْهِ رجل من هشتوكة خَارج بَاب الْخَمِيس من مراكش وقاسى فِي محاربته تعبا شَدِيدا وَلم يزل يناوشه الْقِتَال إِلَى أَن كَانَت لَهُ عَلَيْهِ الكرة فَفرق جمعه ثمَّ خرجت عَلَيْهِ أَيْضا قَبيلَة الشياظمة فقصدهم وَكَانَت الملاقاة بَينه وَبينهمْ عِنْد جبل الْحَدِيد فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء ثمَّ حدث بَينه وَبَين أهل زَاوِيَة الدلائي مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله وَمِمَّا ذكره منويل من أخباره أَنه كَانَ محسنا لسَائِر رَعيته وَكَانَ حَاله على الضِّدّ من جور أَخِيه الْوَلِيد وعسفه قَالَ وسرح الفرايلية الَّذين كَانُوا فِي سجن مراكش وَأَعْطَاهُمْ الْكَنِيسَة الَّتِي بالسجينة مِنْهَا وخالفت عَلَيْهِ سلا وأعمالها انْتهى بَقِيَّة أَخْبَار أبي عبد الله العياشي بسلا والثغور وَمَا يتبع ذَلِك كَانَ أَمر أبي عبد الله العياشي بسلا وَسَائِر بِلَاد الْمغرب على مَا وصفناه قبل من جِهَاد الْعَدو والتضييق عَلَيْهِ والمصابرة لَهُ والإبلاغ فِي نكايته فانتعش بِهِ الْإِسْلَام وازدهرت الْأَيَّام وَدخلت فِي طَاعَته الْقَبَائِل والأمصار من تامسنا إِلَى تازا كَمَا قُلْنَا لَا سِيمَا فاس وأعلامها فَإِنَّهُم قد شايعوه وتابعوه على مَا كَانَ بصدده من الْجِهَاد والرباط وَحصل لَهُم بِصُحْبَتِهِ وولايته أتم اغتباط وَلم يزل فِي نحر الْعَدو إِلَى أَن أَمن سرب الْمُسلمين وَحقّ القَوْل على الْكَافرين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 وفادة أَعْلَام فاس وأشرافها على أبي عبد الله العياشي بسلا هَذِه الْوِفَادَة قد ذكرهَا الإِمَام الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ميارة الفاسي فِي فَاتِحَة شَرحه الصَّغِير على المرشد الْمعِين قَالَ فِي نشر المثاني وسببها مَا وَقع من الْحَرْب بَين أهل فاس وَبَين الحياينة وشراقة على قنطرة وَادي سبو وَقتل فِيهَا من أهل فاس خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ رجلا فَخرج شرفاء فاس وفقهاؤها إِلَى سلا مستغيثين بِأبي عبد الله العياشي قَالَ وَكَانَ الَّذِي أغرى الحياينة بفاس هُوَ أَحْمد بن زَيْدَانَ التفوا عَلَيْهِ وَقَامُوا بدعوته ووصلوا أَيْديهم بشراقة وفعلوا بفاس وَأَهْلهَا الأفاعيل حَتَّى اختطفوا فِي بعض الْأَيَّام نِسَاءَهُمْ من الجنات وباعوهن فِي الْقَبَائِل وفعلوا بِهن مَا لَا يجوز قَالَ الشَّيْخ ميارة قد من عَليّ ذُو العظمة والجلال الْكَرِيم المتفضل المتعال بزيارة الْوَلِيّ الصَّالح الْعَالم الْعَامِل السائح قطب الزَّمَان وكهف الْأمان الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين المرابط فِي الثغور مُدَّة عمره لحياطة الْمُسلمين ذِي الكرامات الشهيرة العديدة والفتوحات الْعَظِيمَة الحميدة من لَا شَبيه لَهُ فِي عصره وَمَا قرب مِنْهُ وَلَا نَظِير وَلَا معِين لَهُ على نصْرَة الْإِسْلَام وَلَا نصير إِلَّا الله الَّذِي تفضل بِهِ علينا وَأقرهُ بمنه وجوده بَين أظهرنَا فَهُوَ كَمَا قيل (حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر) الْبركَة الْقدْوَة المجاب الدعْوَة أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي أبقى الله بركته وَعظم حرمته وبلغه من خير الدَّاريْنِ أمْنِيته وَأطَال للْمُسلمين عمره وَقواهُ وَجعل الْجنَّة نزله ومأواه مَعَ جمَاعَة من أَعْيَان السَّادة من الشرفاء وَالْفُقَهَاء القادة وَذَلِكَ أواسط ذِي الْحجَّة الْحَرَام متم سَبْعَة وَأَرْبَعين وَألف عَام وَهُوَ رزقنا الله رِضَاهُ بثغر سلا أمنها الله من كل مَكْرُوه وَبلا فاجتمعت إِذْ ذَاك بنجله السعيد الْمُوفق الرشيد الْعَالم الْهمام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 حجَّة الله فِي الْإِسْلَام ذِي الْعقل الرَّاجِح وَالْهَدْي الْوَاضِح عهود من الْآبَاء توارثتها الْأَبْنَاء المتواضع الخاشع صَاحب الْقَلَم البارع سَيِّدي وسندي أبي مُحَمَّد عبد الله سلمه الله من كل مَكْرُوه ووقاه فحضني حفظه الله على اخْتِصَار الشَّرْح الْمَذْكُور يَعْنِي شَرحه الْكَبِير على المرشد الْمعِين بعد أَن طالع جله وسر بِهِ كل السرُور وحث عَليّ فِي تَقْدِيم ذَلِك على جَمِيع الْأُمُور فَلَمَّا قفلت من وجهتي شرعت فِي ذَلِك تَارِكًا للتسويف طَالبا من الْمولى سُبْحَانَهُ السَّلامَة من الْخَطَأ والتحريف انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ قَالَ فِي نشر المثاني إِن أَبَا عبد الله العياشي قدم فاسا وَنظر فِي أمرهَا وغزا عرب الحياينة مرَارًا وأثخن فيهم حَتَّى خضعوا للطاعة إِيقَاع أبي عبد الله العياشي بنصارى الجديدة سَبَب هَذِه الْغَزْوَة كَمَا ذكره الْفَقِيه الْعَلامَة قَاضِي تامسنا أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الغنامي الشاوي الْمَعْرُوف بسيدي رحو الغنامي أَن نَصَارَى الجديدة عقدوا المهادنة مَعَ أهل آزمور مُدَّة فَكَانَ من عزة النَّصَارَى وذلة الْمُسلمين فِي تِلْكَ الْمدَّة مَا تنفطر مِنْهُ الأكباد وتخر لَهُ الأطواد فَمن ذَلِك أَن زَوْجَة قبطانهم خرجت ذَات يَوْم فِي محفتها وَمَعَهَا صواحباتها إِلَى أَن وصلت حلَّة الْعَرَب فتلقاها أهل الْحلَّة بالزغاريت والفرح وصنعوا لَهَا من الْأَطْعِمَة وحملوا لَهَا من هَدَايَا الدَّجَاج والحليب وَالْبيض شَيْئا كثيرا فظلت عِنْدهم فِي فَرح عَظِيم وَلما كَانَ اللَّيْل رجعت وَوَقع لَهَا أَيْضا أَنَّهَا أمرت القبطان زَوجهَا أَن يخرج بجيشه وَيبْعَث إِلَى قَائِد آزمور أَن يخرج بِجَيْش الْمُسلمين فيلعبوا فِيمَا بَينهم وَهِي تنظر إِلَيْهِم بِقصد الفرجة والنزهة فَكَانَ كَذَلِك فَجعلُوا يَلْعَبُونَ وَهِي تتفرج فيهم فَمَا كَانَ بأسرع من أَن حمل نَصْرَانِيّ على مُسلم فَقتله فَكلم قَائِد الْمُسلمين القبطان وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فَقَالَ لَهُ القبطان فَمَا يضركم إِن مَاتَ شَهِيدا يهزأ بِالْمُسْلِمين ويسخر مِنْهُم قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وَكَانَ الْوَلِيّ الصَّالح العابد الناسك الزَّاهِد الْمُجَاهِد رَافع لِوَاء الْإِسْلَام ومحيي منهاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي كلما سمع شَيْئا من ذَلِك تغير وَبَات لَا يلتذ بِطَعَام وَلَا مَنَام وَهُوَ يفكر كَيفَ تكون الْحِيلَة فِي زَوَال المعرة عَن الْمُسلمين بِتِلْكَ الْجِهَة وَغسل أعراضهم من وسخ الإهانة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخَاف من الْعُيُون الَّذين يَرْصُدُونَهُ من صَاحب مراكش وقائد آزمور وَمن قبطان الجديدة إِذْ كَانَ مَا خلف وَادي أم الرّبيع إِلَى مراكش بَاقِيا فِي دَعْوَة السُّلْطَان لم يدْخل فِي دَعْوَة أبي عبد الله الْمَذْكُور فَمَكثَ كَذَلِك ثَلَاث سِنِين وَلما رأى أَن الْأَمر لَا يزِيد إِلَّا شدَّة أوعز إِلَى بعض أَوْلَاد ذُؤَيْب من أَوْلَاد أبي عَزِيز أَن يجلبوا إِلَى النَّصَارَى شَيْئا من الْقَمْح خُفْيَة وَأَن يكون ذَلِك شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى تطمئِن نُفُوسهم ويذوقوا حلاوته ويوهمهم النصح والمحبة فَلَمَّا حصل ذَلِك جَاءَهُ جمَاعَة مِنْهُم وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر وأطلعوه على غرَّة النَّصَارَى خذلهم الله فعزم على قصد الجديدة ثمَّ بدا لَهُ فِي تَقْدِيم غَزْو العرائش ثمَّ يَأْتِي الجديدة بَغْتَة فَفعل رَحمَه الله وَكَانَ ذَلِك أَوَائِل صفر سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف ثمَّ عزم على قصد الجديدة فَذكرُوا لَهُ أَن وَادي أم الرّبيع فِي نِهَايَة الْمَدّ والامتلاء فَلم ينْتَه عَن ذَلِك وَسَار حَتَّى بلغ الْوَادي الْمَذْكُور على مشرع أبي الأعوان فَوَجَدَهُ ممتلئا جدا لَا يكَاد يدْخلهُ أحد إِلَّا غرق فَقَالَ لأَصْحَابه وَسَائِر من مَعَه توكلوا على الله واجتهدوا فِي الدُّعَاء ثمَّ اقتحم الْوَادي بفرسه وَتَبعهُ النَّاس فعبروا جَمِيعًا وَلم يتأذ مِنْهُم أحد وَكَانَ المَاء يصل إِلَى قريب من ركب خيلهم مَعَ أَن مد ذَلِك الْوَادي حِين امتلائه لَا يدْرك لَهُ قَعْر عِنْد النَّاس كَمَا هُوَ شهير وَهَذِه كَرَامَة عَظِيمَة وَقعت لَهُ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ القَاضِي أَبُو زيد الغنامي حَاضرا لَهَا وشاهدها وَلم يَقع مثل هَذَا فِيمَا علمناه إِلَّا للصحابة رَضِي الله عَنْهُم مثل مَا وَقع لسعد بن أبي وَقاص فِي عبوره دجلة لفتح الْمَدَائِن وَمثل مَا وَقع للعلاء بن الْحَضْرَمِيّ فِي فتح بعض بِلَاد فَارس وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 وَلما وصل أَبُو عبد الله إِلَى الجديدة وجد طَائِفَة من أَوْلَاد أبي عَزِيز قد نذروا بِهِ ولجؤوا إِلَى القبطان خوفًا مِنْهُ أَن يُوقع بهم لأجل مهادنتهم للْكفَّار واتصالهم بهم فَخرج القبطان فِي خيله وَكَانَ سَيِّدي مُحَمَّد كامنا بِإِزَاءِ الجديدة بِالْغَابَةِ الَّتِي كَانَت هُنَاكَ وَقد زَالَت الْيَوْم فَلَمَّا انْفَصل القبطان بجيشه عَن الجديدة حمل عَلَيْهِم أَبُو عبد الله فقطعهم عَنْهَا فَفرُّوا إِلَى جِهَة الْبَحْر فأوقع بهم فهلكوا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا سَبْعَة وَعِشْرُونَ رجلا فَتغير صَاحب مراكش من ذَلِك وَأنكر مَا صنع أَبُو عبد الله وَكَذَا أنكرهُ قاضيه الْفَقِيه أَبُو مهْدي السكتاني وَقد ذكر لويز مَارِيَة خبر هَذِه الْوَقْعَة فَقَالَ إِن طَائِفَة من الْمُسلمين قدمُوا على قَائِد البرتغال بالجديدة وَقَالُوا لَهُ إِنَّا قد جئْنَاك من عِنْد الْمولى مُحَمَّد بن الشريف يطْلب مِنْك تعينه بِجَمَاعَة من عسكرك على بعض عدوه فأسعفهم بذلك وَكَانَ شَابًّا غرا لم يجرب الْأُمُور فَنَهَاهُ بعض كبار عسكره وحذره عَاقِبَة الْغدر فَأبى وعزم على الْخُرُوج مَعَ أُولَئِكَ الْمُسلمين وتقاعد عَنهُ عسكره فَقَالَ لَهُم إِنِّي أخرج وحدي وَذهب ليخرج وَحده فتبعوه حِينَئِذٍ وَكَانُوا مائَة وَأَرْبَعين فَارِسًا فَلَمَّا انفصلوا عَن الجديدة بمسافة وجدوا خيلا كَثِيرَة كامنة لَهُم فَلم يشعروا حَتَّى أحاطت بهم نصف دَائِرَة مِنْهُم فَمَا كلموهم حَتَّى كملت الدائرة عَلَيْهِم وصاروا مركزها فَحِينَئِذٍ الْتفت قَائِد الْعَسْكَر إِلَى ذَلِك الرجل الَّذِي نَهَاهُ عَن الْخُرُوج وَقَالَ لَهُ مَا الْحِيلَة فَأَجَابَهُ بِأَن الْحِيلَة الْقِتَال حَتَّى نموت ثمَّ أنْشد لَهُ شعرًا مضمنه إِنِّي أَشرت عَلَيْك وَأَنت أعظم جاها مني فَلم تسمع والآن نقْتل مَعًا وتختلط دماؤنا حَتَّى لَا يتميزان وَلَا يعرف دم الشريف من الوضيع وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين أوقعوا بهم حَتَّى لم يرجع مِنْهُم إِلَى الجديدة إِلَّا ثَلَاثَة وَأسر مِنْهُم خَمْسَة عشر أَحيَاء وَالْبَاقِي أَتَى عَلَيْهِ الْقَتْل وَقَامَت بالجديدة مناحة عَظِيمَة لم يتَقَدَّم مثلهَا وسجن الْأُسَارَى بسلا سِنِين فِي بعض دهاليزها حَتَّى افتداهم سلطانهم خوان الَّذِي جمع مملكتهم من يَد الإصبنيول انْتهى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وَلما قدم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي من هَذِه الْغَزْوَة سَار إِلَى فاس للنَّظَر فِي أمرهَا لما هاج من الْحَرْب بَين أَهلهَا وَذَلِكَ أَن رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ ابْن الزين عدا على رجل آخر يُقَال لَهُ أَحْمد عميرَة فَرَمَاهُ برصاصة من علية مَسْجِد فَوق سويقة ابْن صافي فَقتله وهاجت الْحَرْب بفاس بَين أهل عدوة الأندلس وَكَانَ الْمَقْتُول رئيسهم وَبَين اللمطيين فَقدم سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فاسا فِي آخر جُمَادَى سنة خمسين وَألف فَأصْلح بَينهم وأقاد من قَاتل عميرَة كَبِير الأندلسيين وَبِالْجُمْلَةِ فغزوات سَيِّدي مُحَمَّد العياشي رَحمَه الله كَثِيرَة وذبه عَن الْإِسْلَام وحمايته للدّين مِمَّا هُوَ شهير عِنْد الْخَاص وَالْعَام وَفِي هَذِه الْغَزْوَة يَقُول الْكَاتِب الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الكلاني مادحا لسيدي مُحَمَّد العياشي ومشيرا إِلَى الْكَرَامَة الَّتِي وَقعت لَهُ فِي عبور النَّهر (حَدِيث الْعلَا عَنْكُم يسير بِهِ الركب ... وينقله فِي صحفه الشرق والغرب) (وحبكم فرض على كل مُسلم ... تنَال بِهِ الزلفى من الله والقرب) (فَأَنت رفيع من أصُول رفيعة ... نُجُوم الدياجي فِي الْأَنَام لَهَا سرب) (سمي رَسُول الله نَاصِر دينه ... تجلى بكم عَن أفقه الشَّك والريب) (وَلم أر بحرا جَاوز الْبَحْر قبلكُمْ ... تجود لمستجد أنامله السحب) (وَمَا يَسْتَوِي البحران عِنْدِي فَإِن ذَا ... أجاج لعمري فِي المذاق وَذَا عذب) وَكَانَ رَحمَه الله عَازِمًا على أَخذ العرائش فحال بَينه وَبَينهَا انصرام الْأَجَل وَكَذَلِكَ كَانَ ملحا على أَخذ طنجة فَلم تساعده الأقدار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 مقتل أبي عبد الله العياشي رَحمَه الله وَالسَّبَب فِيهِ قدمنَا أَن أهل الأندلس بسلا تحزبوا على أبي عبد الله العياشي ورموه عَن قَوس وَاحِدَة وَأَنه كَانَ قد اطلع على خبثهمْ ونصحهم للكفر وَأَهله وَأَنه استفتى الْعلمَاء فيهم فأفتوه بِإِبَاحَة قتال من هَذِه صفته فَأطلق فيهم السَّبِيل أَيَّامًا فَقتل من وجد مِنْهُم وهرب أَكْثَرهم فهربت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى مراكش وهربت طَائِفَة إِلَى الجزائر وَأُخْرَى إِلَى النَّصَارَى وَفرْقَة إِلَى زَاوِيَة الدلاء فجَاء أهل الدلاء يشفعون فِي أهل الأندلس فَأبى أَبُو عبد الله أَن يقبل فيهم الشَّفَاعَة وَقَالَ إِن الرَّأْي فِي استئصال شأفتهم فَلَمَّا رأى أهل الدلاء امْتِنَاعه ورد شفاعتهم غضبوا لذَلِك وَأَجْمعُوا على حربه وَمن قبل مَا كَانَت القوارص تسري مِنْهُم إِلَيْهِ يدل على ذَلِك الرسَالَة الَّتِي كتب بهَا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي إِلَى أبي عبد الله العياشي وَنَصهَا الْحَمد لله الْحَلِيم الْعَفو الرؤوف المنزه عَن صِفَات من وصف بهَا مؤف وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَدِينَة الْعلم المسورة بسور السماحة والحلم وعَلى سَادَاتنَا آله وَصَحبه وكل من انتظم فِي سلك أتباعهم من أهل حزبه هَذَا وَإِن المجلى بِنور طلعته ظلم الظُّلم وَالْفساد الْمحلي خَزَائِن الْمَعَالِي بموجبات النِّفَاق على حِين الكساد المستوطن حبه بسويداء الْفُؤَاد من أَلْقَت إِلَيْهِ المكارم أزمة الانقياد وصلحت بِهِ بِحَمْد الله الْعباد والبلاد حوطة الْإِسْلَام وحمايته وخديم الدّين المحمدي وكفايته سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي الْمَحْمُود الْأَوْصَاف بِشَهَادَة من يعد من أهل الْإِنْصَاف زَاده الله من المكارم أَعْلَاهَا وَمن نفائس دُرَر الْمجد أغلاها وَتوجه بتاج الْكَرَامَة والرضى وأمده بدائم مدده السرمدي حَتَّى يرضى وَسلم جنابه الْقُدسِي العلمي العملي المرابطي المجاهدي من جَمِيع البلايا وأتحفه من تحفه الفاضلة الوهبية بِأَعْلَى المزايا وَأهْدى إِلَيْهِ من طيب بركاته ورحماته مَا يرضاه دينه العلمي لحماته قد شَهِدنَا على أَنْفُسنَا بِالْإِقْرَارِ بفضله علينا وَأَن مَا يسره يسرنَا وَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يضرّهُ يضرنا علم ذَلِك منا يَقِينا من لَهُ مَعنا أدنى مُخَالطَة بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ أَن يدْفع ذَلِك بِنَوْع من المغالطة وَإِن الضار بِالْعينِ ضار بإنسانها لَكِن النُّفُوس الإنسانية مَحل لخطاها ونسيانها وَمن أقمناه لديكم مقَام الْخَادِم وَالْولد قد ساءنا مِنْهُ مَا ساءكم مِمَّا عَنهُ ورد وطلبنا من جميل أوصافكم مُعَامَلَته بالصفح والجميل فَلَنْ يزَال الْإِنْسَان إِلَّا من عصمه الله يستمال أَو يمِيل وَلَوْلَا الْحَرَارَة مَا عرف الظل وَلَوْلَا الوابل لقيل النِّهَايَة فِي الطل وَمَا عرف الْعَفو لَوْلَا الْإِسَاءَة وَلَا يُقَال صَبر الْمَرْء إِلَّا فِيمَا سَاءَهُ وَمَا عرفنَا صَاحبه إِلَّا محبا لجَانب كل من للدّين ينتسب فَإِن خرج عَن نظركم فقد أَتَاهُ الْغَلَط من لَا يحْتَسب انْتهى وَكَانَ الشَّيْخ ابْن أبي بكر رَحمَه الله يُطِيل الثَّنَاء على أبي عبد الله العياشي ويذيع محاسنه وَكَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أجز عَنَّا سَيِّدي مُحَمَّد العياشي أفضل المجازاة وكافه أحسن الْمُكَافَأَة وَاجعَل مكافأتك لَهُ كشف الْحجب عَن قلبه حَتَّى تكون أقرب إِلَيْهِ مِنْهُ اللَّهُمَّ لَا تحرمه توجهه إِلَيْك وانقطاعه لخدمتك اللَّهُمَّ نفس كربته وكمل رغبته وأجب دَعوته وسدد رميته واردد لَهُ الكرة على من عداهُ فِي الْحق إِنَّك على كل شَيْء قدير انْتهى فَهَذَا حَال الشَّيْخ ابْن أبي بكر رَحمَه الله مَعَ أبي عبد الله العياشي ثمَّ قدر الله أَن حدث بَين أَوْلَاده وَبَين العياشي من النفرة مَا أفْضى إِلَى الْمُقَاتلَة وَذَلِكَ بِسَبَب رده شفاعتهم فِي أهل الأندلس وَأُمُور أخر فَأَجْمعُوا على حربه كَمَا قُلْنَا فَخرج إِلَيْهِم أَبُو عبد الله العياشي فأوقع بهم وَهزمَ جموعهم وفتك بالعرب الَّذين كَانُوا مَعَ التاغي فتفرقت الجموع وتبرأ التَّابِع من الْمَتْبُوع ثمَّ ذهب أَبُو عبد الله العياشي إِلَى طنجة بِقصد الْجِهَاد فَلَمَّا قفل من غَزوه وجد البربر من أهل الدلاء قد وصلوا إِلَى أَطْرَاف أزغار وَمَعَهُمْ التاغي والدخيسي وَأهل حزبهم من الكدادرة وَغَيرهم وعزموا على مصادمة أبي عبد الله فَأَرَادَ أَن يغض الطّرف عَنْهُم وَيصرف عنانه عَن جهتهم فَلم يزل أَصْحَابه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 بِهِ إِلَى أَن برز لمقاتلتهم فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ كَانَت الدبرة على أبي عبد الله العياشي وَقتل فرسه تَحْتَهُ فَرجع إِلَى بِلَاد الْخَلْط وَكَانَ رُؤَسَاء الْخَلْط أَكْثَرهم فِي حزب التاغي وعَلى رَأْي الكدادرة فَرَجَعت البربر إِلَى أوطانهم وَبَقِي أَبُو عبد الله العياشي عِنْد الْخَلْط أَيَّامًا ثمَّ غدروا بِهِ فَقَتَلُوهُ بِموضع يُسمى عين الْقصب واحتزوا رَأسه وَحمله بَعضهم إِلَى سلا وَكَأَنَّهُ حمله إِلَى أهل الأندلس إِذْ هم أعداؤه بهَا قَالَ فِي شرح المثاني ودفنت جثته بِإِزَاءِ رَوْضَة أبي الشتَاء رَضِي الله عَنهُ وَمن كراماته المتواترة أَنهم لما حملُوا الرَّأْس سَمِعُوهُ لَيْلًا وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن جهارا حَتَّى علمه جَمِيع من حضر فَردُّوهُ إِلَى مَكَانَهُ وَتَابَ بِسَبَبِهِ جمَاعَة من النَّاس وَأما الْقبَّة المنسوبة إِلَيْهِ بقبيلة أَوْلَاد أبي عَزِيز من بِلَاد دكالة فَالظَّاهِر أَنَّهَا متخذة على بعض معاهده الَّتِي كَانَ يأوي إِلَيْهَا أَيَّام كَونه بالقبيلة الْمَذْكُورَة فِي ابْتِدَاء أمره كَمَا مر وَلَيْسَ هُنَاكَ قبر لَهُ على الصَّحِيح وَلما قتل أَبُو عبد الله العياشي فَرح النَّصَارَى بمقتله غَايَة الْفَرح وأعطوا الْبشَارَة على ذَلِك وَعمِلُوا المفرحات ثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ مَقْتَله رَحمَه الله تَاسِع عشر الْمحرم سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَقد رمزوا لتاريخ وَفَاته بقَوْلهمْ مَاتَ زرب الْإِسْلَام بِإِسْقَاط ألف الْوَصْل وَحدث رجل أَنه كَانَ بالإسكندرية فَرَأى النَّصَارَى يَوْمئِذٍ يفرحون وَيخرجُونَ أنفاضهم فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَهُ قتل سانطو بالمغرب وَفِي الرحلة لأبي سَالم العياشي قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ مُحَمَّد الْفَزارِيّ بِمَكَّة قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ المشرفة رجل مغربي من أهل الْقصر فِي السّنة الَّتِي قتل فِيهَا الْوَلِيّ الصَّالح الْمُجَاهِد سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد العياشي قَالَ فَجَاءَنِي ذَات يَوْم وَقَالَ لي إِنِّي رَأَيْت فِي النّوم أُخْتِي وَرَأَيْت رجلا جَالِسا مَقْطُوع الْيَد تسيل دَمًا فَقلت لَهُ من أَنْت قَالَ الْإِسْلَام قطعت يَدي بسلا قَالَ فَلَمَّا أَخْبرنِي قلت لَهُ الَّذِي يظْهر لي من رُؤْيَاك أَن الرجل الصَّالح الْمُجَاهِد الَّذِي كَانَ بسلا قد قتل قَالَ وَبعد ذَلِك فِي آخر السّنة قدم حجاج الْمغرب فأخبرونا بِمَوْتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 وَقد رثي رَحمَه الله بقصائد كَثِيرَة مِنْهَا قصيدة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الدغوغي الَّتِي ذكرهَا فِي النزهة ويحكى أَنه وجد مُقَيّدا بِخَط أبي عبد الله العياشي الْمَذْكُور أَن جملَة مَا قَتله من الْكفَّار فِي غَزَوَاته سَبْعَة آلَاف وسِتمِائَة وَسَبْعُونَ ونيف وَمِمَّا مدحه بِهِ الْعَلامَة الإِمَام الشهير أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن عَاشر قَوْله (يَا حادي الأظعان فِي الرياشي ... أبلغ سلامي فخرنا العياشي) (من نوره بدا وفضله غَدا ... تحدو بِهِ الركْبَان والمواشي) (طود الْهدى عين الندى فَرد الورى ... فريد وقته الإِمَام الخاشي) (لله سيف صارم وقاصم ... ظهر العدا كَبِيرهمْ والناشي) (يتركهم عِنْد اللقا رهن الشقا ... صرعى على الأَرْض كَمَا الكباشي) (يَا مُسلمين تهنيكم حَيَاتكُم ... مَا عَاشَ فِيكُم سَيِّدي العياشي) (أَنَام لَا شكّ الْأَنَام الْكل فِي ... ظلّ الْأمان لين الْفراش) (يَا عاذلي فِي حبه عذلك دع ... وَلَا تُحَدِّثنِي حَدِيث الواشي) (إِنِّي امرء بالْحسنِ مفتون وَعَن ... جَمِيع لوم لائمي عاشي) (هديتي إِلَى الْكِرَام أبرزت ... سلامها للسامعين فاشي) وثناء النَّاس عَلَيْهِ كثير فقد أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ ميارة كَمَا مر وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي وَابْن أبي بكر الدلائي وَغَيرهم وَكَانَ رَحمَه الله مجاب الدعْوَة مَا دَعَا الله فِي شَيْء إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ شوهد ذَلِك مِنْهُ مرَارًا وَمن أدعيته المحفوظة عَنهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِاسْمِك السَّرِيع الْمُجيب الَّذِي خزنت فِيهِ فواتح رحمتك وخواتم إرادتك وَسُرْعَة إجابتك يَا سريع لمن قَصده يَا قريب مِمَّن سَأَلَهُ يَا مُجيب من دَعَاهُ أسْرع لي بِقَضَاء حَاجَتي وبلوغ إرادتي يَا سميع يَا مُجيب يَا سريع يَا قريب آمين آمين آمين يَا رب الْعَالمين وَكَانَ فَقِيها مشاركا فِي الْفُنُون وَله أَتبَاع ظَهرت عَلَيْهِم بركاته ولاح عَلَيْهِم سره وَمن أَتْبَاعه الشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء إِسْمَاعِيل بن سعيد الدكالي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 القاسمي صَاحب الزاوية الْمَشْهُورَة بِبِلَاد دكالة وَمن أَتْبَاعه أَيْضا الْمُقدم الْمُجَاهِد أَبُو الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي وَقد ذكر ذَلِك الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي فِي رِسَالَة كتب بهَا إِلَى الْمُجَاهِد الْمَذْكُور يَقُول فِيهَا مَا نَصه من عبيد الله تَعَالَى مُحَمَّد بن نَاصِر كَانَ الله لَهُ إِلَى الْفَارِس الْقَائِم بنصر دين الله البَائِع نَفسه فِي إعلاء كلمة الله الْخضر غيلَان سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أما بعد فَإِنِّي احبك فِي الله وَإِن لساني لهج بالتضرع إِلَى الله تَعَالَى فِي نصرك على الْكَافرين مُنْذُ خرج النجليز والباعث على إعلامك بِهَذَا أَمْرَانِ أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أحب أحدكُم أَخَاهُ فليعلمه) وَالثَّانِي استنهاض همتك للْجدّ فِيمَا أَنْت بصدده من الْجِهَاد وَعدم الِالْتِفَات إِلَى مَا تورط فِيهِ غَيْرك من الاغترار بالفاني فَأَنت مَا دمت فِي هَذَا على طَرِيق صَالِحَة وَعباد الله الصالحون كلهم مَعَك ورحم الله صَاحبك الَّذِي أسس لَك هَذِه الطَّرِيق الصَّالِحَة ورباك عَلَيْهَا أَعنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ نور الْبِلَاد المغربية سَيِّدي مُحَمَّد العياشي جزاه الله عَنَّا وَإِيَّاك عَن الْمُسلمين خيرا فَهُوَ سيدنَا وَسيد غَيرنَا الَّذِي ندين الله بمحبته وَيجب علينا وعَلى الْمُسلمين تَعْظِيمه وتعظيم من هُوَ مِنْهُ بسبيل ثمَّ قَالَ الشَّيْخ ابْن نَاصِر رَحمَه الله بعد كَلَام مَا نَصه وتستوصي بآل سيدنَا وَسيد الْمُسلمين فِي زَمَانه كَافَّة خيرا سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَهُوَ عزك وبتعظيمهم قوام أَمرك وَهَذَا من نصيحتي إِلَيْك الَّتِي هِيَ من نتيجة محبتنا لَك فعاملهم بِالْوَفَاءِ وَلَا تؤاخذهم بالجفاء انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ ولولد سَيِّدي مُحَمَّد العياشي وَهُوَ الْفَقِيه الْعَلامَة سَيِّدي عبد الله أرجوزة نظم فِيهَا أهل بدر وتوسل بهم إِلَى الله تَعَالَى فِي هَلَاك الَّذين تمالؤوا على قتل أَبِيه فَلم تمض إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى دارت عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَلم ينج مِنْهُم أحد وَفِي الْبُسْتَان إِن أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي دخل بِلَاد الغرب وَذَلِكَ بعد مقتل أبي عبد الله العياشي فَلَقِيَهُ وَلَده سَيِّدي عبد الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الْمَذْكُور بجموع الغرب بوادي الطين فَوَقَعت الْحَرْب فِي قبائل وانتهبت حللهم ومواشيهم انْتهى وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف ولسيدي عبد الله ابْن سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فِي بعض زياراته لِأَبِيهِ قَوْله (أَتَيْنَا إِلَيْك وأنفسنا ... تكَاد من الْخَوْف مِنْك تذوب) (وَلم ندر أَيْن هَوَاك الَّذِي ... تحب فتنحو إِلَيْهِ الْقُلُوب) (أَقَمْنَا فخفنا وَجِئْنَا فخفنا ... فَمن خوفنا قد دهتنا خطوب) (فها نَحن من خوفنا مِنْك حيرى ... وَهَا نَحن من خوفنا مِنْك شيب) قَالَ اليرفني فِي الصفوة وَأَخْبرنِي حافده الْعَلامَة قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد العياشي أَن جده سَيِّدي عبد الله الْمَذْكُور كَانَ قد أَصَابَهُ مرض أعيى الْأَطِبَّاء علاجه فَلَمَّا طَال عَلَيْهِ أمره رغب مِنْهُم أَن يحملوه إِلَى ضريح الشَّيْخ سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر بسلا فَلَمَّا وقف على الضريح أنْشد ارتجالا (أَقُول لدائي إِذْ تفاقم أمره ... وَعز الدوا من كل من هُوَ ناصري) (إِلَّا فَانْصَرف بِاللَّه عني إِنَّنِي ... أَنا الْيَوْم جَار للْوَلِيّ ابْن عَاشر) قَالَ فَكَأَنَّمَا نشط من عقال وانقشع عَنهُ سَحَاب ذَلِك الضَّرَر فِي الْحَال وَكَانَت وَفَاة سَيِّدي عبد الله الْمَذْكُور لَيْلَة عَرَفَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بجوار الْوَلِيّ الْأَشْهر الشَّيْخ أبي سلهام من بِلَاد الغرب وبنيت عَلَيْهِ قبَّة صَغِيرَة وأخبار العياشيين ومحاسنهم كَثِيرَة وبيتهم بَيت خير وَصَلَاح رَحِمهم الله ونفعنا بهم آمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 ظُهُور أهل زَاوِيَة الدلاء وأوليتهم بجبال تادلا وَمَا يتبع ذَلِك أما نسبتهم فهم من برابرة مجاط بطن من صنهاجة حَسْبَمَا ذكره ابْن خلدون وَغَيره وَكَانَ مبدأ أَمر أهل زَاوِيَة الدلاء أَن جدهم الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي أَبَا بكر بن مُحَمَّد وهوا لمعروف بحمي بن سعيد بن أَحْمد بن عمر بن يسري المجاطي كَانَ مِمَّن أَخذ عَن الشَّيْخ الصَّالح أبي عَمْرو القسطلي دَفِين مراكش وَسكن الدلاء وَاتخذ هُنَالك زَاوِيَة فجَاء وَلَده الْوَلِيّ الْأَظْهر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر فكمل من الْفَضَائِل مَا بَقِي وَأبْدى من الْأَسْرَار مَا خَفِي فتناقل الركْبَان حَدِيث هَذِه الزاوية وقصدها النَّاس من كل نَاحيَة إِلَى أَن كَانَ من أَوْلَاد الرجلَيْن مَا نذكرهُ وَأخذ الشَّيْخ مُحَمَّد فتحا بن أبي بكر عَن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الشَّرْقِي فَحصل لَهُ من الحظوة والوجاهة فَوق مَا كَانَ لسَائِر من عاصره وَكَانَ أَعْلَام الْوَقْت كالحافظ أبي الْعَبَّاس الْمقري والحافظ أبي الْعَبَّاس بن يُوسُف الفاسي وَالْإِمَام أبي مُحَمَّد بن عَاشر والفقيه الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد ميارة وَغَيرهم يقصدون زيارته والتبرك بِهِ ويراجعونه فِي عويص الْمسَائِل العلمية وَكَانَ رَحمَه الله عَالما حَافِظًا دراكا متوسعا فِي علمي التَّفْسِير والْحَدِيث وَعلم الْكَلَام حسن الْمُشَاركَة فِيهَا وَفِي غَيرهَا وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف قَالَ اليفرني وحَدثني غير وَاحِد من أشياخنا أَنه لما دنت وَفَاته جمع أَوْلَاده وعشيرته وَقَالَ لَهُم {إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} الْبَقَرَة 249 وَأَنا أَقُول لكم وَلَا وَمن اغترف غرفَة بِيَدِهِ يُشِير بذلك إِلَى مَا تجاذبوه من أَمر الرياسة بعده وَذَلِكَ من مكاشفاته رَضِي الله عَنهُ وَقد اعْترض عَلَيْهِ بعض الطّلبَة فِي قَوْله وَأَنا أَقُول بِأَنَّهُ سوء أدب لمقابلة كَلَام الله بِكَلَامِهِ وَأجَاب عَنهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 حافده وَهُوَ الْفَقِيه الْعَلامَة الشهير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن المسناوي بن مُحَمَّد بن أبي بكر برسالة مُسْتَقلَّة وَلما توفّي خلف من الْأَوْلَاد عدَّة فَكَانَ أكبرهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد الملقب بالحاج لِأَنَّهُ حج مَعَ أَبِيه وَوَحدهُ مرَارًا وَيُقَال إِنَّه خطب النَّاس يَوْم عَرَفَة على ظهر الْجَبَل لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال وَلم يكن ذَلِك لأحد من أهل الْمغرب قبله وَفِي أَيَّامه تَكَامل أَمر أهل الدلاء وشاع ذكرهم وَكَانَ للزاوية فِي أَيَّامه وَأَيَّام أَبِيه صيت عَظِيم وَكَانَ بهَا من معاطاة الْعُلُوم والدؤوب على درسها وإقرائها وقراءتها لَيْلًا وَنَهَارًا مَا تخرج بِهِ جمَاعَة من صُدُور الْعلمَاء وأعيانهم كالشيخ اليوسي وَأَضْرَابه حَتَّى كَانَت إِلَيْهَا الرحلة فِي الْمغرب لَا يعدوها الطَّالِب وَلَا يأمل سواهَا الرَّاغِب وتمهد الْأَمر بهَا لأبي عبد الله مُحَمَّد الْحَاج وَأَوْلَاده وإخوانه وَبني عَمه إِلَى أَن تملك مَدِينَة فاس ومدينة مكناسة وأحوازهما وكافة الْقطر التادلي قَالَ فِي نشر المثاني وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَألف كَانَ قيام مُحَمَّد الْحَاج الدلائي على الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ قلت وَلَعَلَّ الْمُكَاتبَة الْآتِي بَيَانهَا بعد إِنَّمَا كَانَت فِي هَذَا التَّارِيخ وَقَالَ فِي الْبُسْتَان وَفِي سنة خمسين وَألف زحف مُحَمَّد الْحَاج الدلائي بعساكر البربر إِلَى مكناسة فاستولى عَلَيْهَا ثمَّ زَاد إِلَى فاس فاعترضه أَبُو عبد الله العياشي بجموع أهل الغرب وَوَقعت الْحَرْب بَينهمَا فَانْهَزَمَ العياشي وَسَار مُحَمَّد الْحَاج لحصار فاس فَرجع العياشي وَأعَاد حَربًا ثَانِيَة فَانْهَزَمَ مُحَمَّد الْحَاج وَعَاد إِلَى بِلَاده وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف بعد موت العياشي نزل مُحَمَّد الْحَاج على فاس وحاصرها سِتَّة أشهر وَقطع عَنْهَا الْموَاد وَجَمِيع الْمرَافِق إِلَى أَن لحقهم الْجهد وَارْتَفَعت الأسعار فَدَخَلُوا تَحت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 حكمه وَلما قَامَ اجْتمعت عَلَيْهِ برابرة ملوية وأذعنوا لَهُ واعصوصبوا عَلَيْهِ وَقد كَانَت بَينه وَبَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ وقْعَة أبي عقبَة فَانْهَزَمَ فِيهَا السُّلْطَان الْمَذْكُور وانتشر جمعه وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَمن ثمَّ قطع النّظر عَمَّا وَرَاء وَادي العبيد ذكر مَا وَقع بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ وَبَين أهل زَاوِيَة الدلاء من المراسلات والمعاتبات قَالَ فِي النزهة وَفِي أَيَّام السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ قويت شَوْكَة أهل الدلاء وانتشرت كلمتهم فِي بِلَاد الغرب وَضعف الشَّيْخ عَن مقاومتهم وَعجز عَن مقارعتهم وَبعث إِلَيْهِم قاضيه الْعَلامَة الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد المزوار المراكشي يطْلب مِنْهُم ترك الشنآن وَالرُّجُوع إِلَى اجْتِمَاع الْكَلِمَة ويحتج عَلَيْهِم بِأَن أباهم الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي مُحَمَّد بن أبي بكر كَانَ قد بَايع أَخَاهُ الْوَلِيد بن زَيْدَانَ وَالْتزم طَاعَته وَأَنَّهُمْ أولى النَّاس باقتفاء طَرِيقَته وَاتِّبَاع منهاجه فَلَمَّا بَلغهُمْ القَاضِي الْمَذْكُور وَأدّى الرسَالَة ونثل مَا فِي العيبة وَبَين قَصده اعتذروا إِلَيْهِ بمسائل وتعللوا بِوُجُوه قَالَ اليفرني وَقد وقفت على رِسَالَة كتب بهَا السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَيْهِم بعد رُجُوع القَاضِي من السفارة وَهَذَا نَص الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا بعد الْخطْبَة ولنصرف عنان الْغَرَض لمن عَيناهُ لمسنون العتاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 والمفترض من هم لدقائق الْمجَاز ضابطون وَفِي حقائق الْجَوَاز خابطون أهل وَطن الدلاء لمن هُوَ لوُرُود الشَّرَاب مُحْتَاج السَّيِّد أَبُو الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم وَالسَّيِّد أَبُو عَمْرو وَالسَّيِّد مُحَمَّد الْحَاج وَمن لنشر صحف الْإِنْصَاف مِنْهُم مُطَابق كالسيد المسناوي وَالسَّيِّد عبد الْخَالِق وَلَا زَائِد إِلَّا قصد إيقاظكم من الغفوة الَّتِي طَال كطلوع الشَّمْس من الْمغرب لَيْلهَا وامتد كأرض الْمَحْشَر فرسخها وميلها هَل هَذَا مِنْكُم استخفاف بِحَضْرَة الخلائف أَو تعام وتصام عَمَّا يجب على الرعايا من لَازم الْوَظَائِف هَذَا من الْعَار الماحي لصحف المناقب وَلَا يلوي بِمن توخاه إِلَّا للمهيع الَّذِي لَا تحمد لمنتجعه العواقب وخصوصا مثلكُمْ الَّذِي شقّ عَصا الشقاق وَشرع يمد أَيدي الأطماع فِي استخلاص قبائل الْآفَاق وكنتم لَا تَدْرُونَ لِبَاس القمصان وَلَا الشواشي إِلَى أَن جسركم على وَطْء الغرب فأخذكم مَعَه المعتر مُحَمَّد العياشي فنبذتم مَوَائِد الضيوف وتقلدتم بِلَا حَيَاء السيوف وأعانكم اضْطِرَاب الْقَبَائِل مَعَ وُقُوع الْجُوع وَمن مضى إِلَى أَي قطر تعذر عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى أَن أمكنتم من أزمتها الرعايا وكل عنيد من رِبَاط تازا إِلَى وَادي العبيد فاستحليتم سكر الجبايات من الأبريز وَالْفِضَّة إِلَى أَن جمعتم مِنْهُ مَا لَا ينْحَصر فِي عد بِوَاسِطَة الْقَرَافِيّ والمنتصر من غير أَن تنفقوه على إِقَامَة جند وَلَا انْتفع بِهِ إِلَّا أشياع المومسات وشياطين الْفساد وَالشَّر وَلم ترقبوا مكر من رفعكم من غمار عُمُوم البرابر وأقعدكم فِي القباب على الأسرة وَفِي بيُوت الله على الكراسي والمنابر عويتم علينا معشر الثوار كالذئاب من كل عراء وَشعْبَة لتَكون عَزِيمَة نهوضنا إِلَيْكُم معطلة صعبة وَأَن لَا نَدْرِي أَيْن تميل النُّفُوس ألتلك الصحارى أم إِلَى إيليغ السوس وَهَذَا الْمغرب لَا يَخْلُو ملآن من نواميس كل كَاهِن ومدع قرقار تمسي فِيهِ البومة خاملة وتصبح بالمخلب والمنقار ومعادين الْهَمْز واللمز والمجون هم أهل الزوايا والديارات والفنادق والأسواق والسجون لَكِن من صفعته يَمِينه لَا يبكي وَمن ألْقى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَة لَا يشكي أهملناكم وأمهلناكم لعوائدكم من الْعِبَادَة وَالطَّعَام فطلعتم لنا فِي الحلوق عظاما ورعام لم تعلم الْفُقَرَاء إِلَّا بِحرْمَة جاه الدخيل على صلح أَو زواج أَو لسماح الْبَخِيل وَحَتَّى الْآن دعوناكم لعقد الْبيعَة الْوَاجِبَة لنا على كل من أطَاع أَو عصى من وَجدّة إِلَى حُدُود السوس الْأَقْصَى فنزهد لكم فِيمَا يقوم بِحَق تِلْكَ الزاوية وَأَهْلهَا بِشَرْط أَن تفيقوا من سنة الْغَفْلَة وجهلها وَإِن أَمْسَكْتُم أَقْدَام الانقياد عَن سلوك سَبِيل السداد وَقبُول سوله فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله فقد شيعنا لكم فقيهنا وقاضينا أَبَا عبد الله مُحَمَّد المزوار فصددتموه أرهب صد وانقلب من المحاورة مردودا أقبح رد لَو لم نبال بكم بالفكر وَالذكر مَا صرفنَا فِيمَا سلف وصيفنا الْأمين مُبَارَكًا السُّوسِي فشيد ضريح السَّيِّد مُحَمَّد بن أبي بكر فدنستم خَالص عرضه فَإِنَّهُ كَانَ لكم علينا بريدا وبصيرة بِمَا انطوت عَلَيْهِ مِنْكُم غرَّة السريرة فَقص علينا دون أَن نفحصه إِن عين الجحش فراره وَلَا يسعنا أَن تدعكم مَعَ أَشْرَاف سجلماسة وَبني مُوسَى تلعبون بِنَا كهر الغالية فِي القفص لَا يُعْطي غناء غَلَّته إِلَّا بوخز المسال الَّتِي تكلفه الرقص وَحَاصِل الْغَرَض تأدية الْبيعَة كَمَا عقدهَا أبوكم الأبر الْجواد المرحوم الْفَاضِل الْمجِيد لأخينا الأرضى مولَايَ الْوَلِيد لتنتظم كلمة الْإِسْلَام فِي الأقطار إِذْ لَو فَعلْتُمْ لاقتفى أثركم جموع المنتجعين والأمصار وَإِن عظمت عَلَيْكُم مُفَارقَة تَقْبِيل الرَّأْس وَالْيَد وَالركبَة فانتظروا صَبِيحَة طلوعي عَلَيْكُم طُلُوع الْفجْر على غسق اللَّيْل بخضرم خضرم من الرُّمَاة وَالْخَيْل ونؤم بعدكم دولة الْأَشْرَاف الصحراوية ونلوي على زَاوِيَة السَّاحِل إِلَى أَن تعود الإيالة الشيخية علوِيَّة عالية بالصيت وَالذكر أَو تهوي إِلَى حضيض بني سعد بن بكر انْتهى وَكَانَ جَوَاب أهل زَاوِيَة الدلاء عَن هَذِه الرسَالَة مَا حَاصله بِاخْتِصَار وَلَا زَائِد بعد حمد الله إِلَّا أَن مسطوركم الأحرش لما ورد ساحتنا سلب الأذهان والعقول فَلَا جارحة إِلَّا وَلها حِصَّة من الطين فَكَادَتْ الحبالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 تسْقط المشايم فضلا عَن الْجَنِين فياله من صَوت زجر لَا ينسى علينا طول السنين أسمعتنا غرائب لم تمر مرارتها على أهل الدَّهْر الْآتِي والغابر لَو صدح بهَا على جبانة لنهض أهل الْمَقَابِر حَتَّى سمتنا بالخسف فِي أسواق المذلة والهوان وَمَا نَحن الْأَعَز وركن لكل من طرقته وصمة أَو عَمه وَأَنت تعْمل بتدبير وَإِشَارَة الأعلاج المجبولين على طبائع الخداع والغش وتبني على قَوَاعِد مَا لكم بهَا من عرين وَلَا عش وَمن الدَّلِيل الشَّاهِد والبرهان فتكهم بأخيك مَعَ مُشَاورَة النسوان على غيب من الْجند والديوان فَلَا تَدعهُمْ يخدعونك وهم سلبوا روح جدك السمي من غمد الْجَسَد وحملوا هامته فِي مخلاة من مسد وَايْم الله لَئِن داموا لَك فِي الغرب بطانة لطلقوا عَلَيْك ثَلَاثًا أوطانه وَأما نَحن فبيعة والدنا رَحمَه الله لم تزل لنا فِي الْأَعْنَاق وَلَا يَنْبَغِي أَن تُعَاد فتكرر كالظهير لمن تحرر وَأَيْضًا منعنَا من تجديدها انسلال البربر عَن ساحتنا فَتكون أقوى سَبَب لفضيحتنا وأجلها هَذَا الأجدل الَّذِي لَا تؤده سموم اللَّيَالِي وَلَا حرارة قيظ المصيف مَوْلَانَا مُحَمَّد بن مَوْلَانَا الشريف عِقَاب أَشهب على قنة كل عقبَة لم يقنعه عد المَال دون حسم الرَّقَبَة وَرُبمَا غرتنا غَفلَة فيشن الْغَارة على شعوب شعاب ملوية أَو ينشر جيوشه على رِبَاط تازا بالرايات والألوية سِيمَا وجناحاه ذَوُو النُّفُوس النفيسة وبربر صنهاجة وعرب دخيسة بزاة النزوات بالحلة والمحال والغزوات والعياشي كَمَا تعلمُونَ كَانَت همه هجرته أَولا لملة أهل الشّرك ثمَّ مد خطا الْعَزْم إِلَى دَرَجَة الْملك وَأما وصيفكم الْأمين مبارك السُّوسِي فَحَيْثُ أَنَاخَ علينا ككل الْإِقَامَة لاختطاط ضريح الْوَالِدين رحمهمَا الله قمنا بوظيف حَقه الظَّاهِر وَالْبَاطِن حَيْثُ اختبر بِعَين الْحَقِيقَة أرجاء أغوار المواطن وَلَا شكّ أَن حَال مطالعته هِيَ الَّتِي أرخصت لنا فِي سوق خواطركم الأسعار إِلَى أَن نصبتم لنا بعد الرِّضَا حبائل الأذعار الجالية للعار وجد قبائلنا متبددة على ضم حبوب الصَّيف وأعيانهم مغتدين على الْخُيُول بِدُونِ رمح وَلَا مدفع وَلَا سيف فخالهم على غرَّة غنيمَة بَارِدَة وَمَا علم أَنهم أغوال الغيل صادرة وواردة فَإِن كَانَت معاينته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 هِيَ الَّتِي أطمعتك أَن يعودوا بعد الْعِزّ نَوَائِب فَمَا درى أَن مِنْهُ كَانَ الخاوي الخائب من ركب الْخَيل لنَفسِهِ دون راتب المخزن لَا ترْضى همته أَن يهان فيحزن وقاضيك السَّيِّد مُحَمَّد المزوار حَيْثُ عاين وُفُود الأقاليم منتشرة كالجراد على الْأَزِقَّة والأدراب دون من لَازم خدمَة الْأَبْوَاب تحقق عيَانًا أَن انتظام شَمل الْمَالِك والمملوك لَا يكون إِلَّا على عُظَمَاء الْمُلُوك فَقص عَلَيْكُم وعَلى من حضر مَا اعْتقد وَسمع وَنظر وَحَتَّى الْآن إِن قصدتم الغرب أَو حصن فاس لَا تنالكم من جانبنا مساءة وَلَا بَأْس فَبعد أَن يكون لكم فِي الْمَدِينَة الْبَيْضَاء الجديدة والقديمة قَرَار يكون لنا بعد ذَلِك حكم الِاخْتِيَار بَين أَن نؤمن لَك أَو نَتْرُك لَك الديار أَو نستصرخ بِمن هُوَ مثلك شرِيف حَقِيقِيّ وسلطان لَهُ شغف أَكثر مِنْك فِي ضبط الأوطان فنقابل إِذْ ذَاك القصورة بالساط ونلقي بطانة من شاط لأسنان الأمشاط أَيهمَا للغرب غلب نُؤَدِّي لَهُ على الرغم مَا طلب وَإِن قنعت بحوز الْحَمْرَاء من مراش ورفضت عَنْك معاناة الهراش والتناوش فَدَعْنَا ومراعاة من تِجَارَته الرِّئَاسَة وهمته اشْتِرَاء نَفِيس السياسة ضرغام غَابَ سجلماسة وَأما صَاحب إيليغ السوس فَمَا مُرَاده وَمُرَاد ذويه إِلَّا غنيمَة سَلامَة الْأَعْرَاض وتجارة سلب النُّفُوس وَفِيمَا تلوناه عَلَيْك من الْقَصَص كِفَايَة فلئن غادرتنا مستترين فِي حُرْمَة الاحترام وَالْوَقار فَنعم وَإِن زاحمتنا بمنكب الهوان يدافعك عَنَّا من ادّعى أَنه زعم وَإِن طرقنا مناخ عزمك على عبور وَادي العبيد أَو أم الرّبيع فهناك يجمع الله بَين من يَشْتَرِي وَيبِيع وَالسَّلَام وَكتب عَن إِذن جُمْهُور إخْوَته عبد الله المسناوي بن مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي فِي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب انْتهى وَلما رأى السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ تعاصي أهل زَاوِيَة الدلاء عَلَيْهِ واستحكام أَمر الغرب لَهُم وتقويهم بِالْعدَدِ وَالْعدَد صرف عنانه عَن مقارعتهم وَمَال إِلَى مسالمتهم وَقطع النّظر عَمَّا فِي أَيْديهم وَالْأَمر كُله لله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 ذكر مَا دَار بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ ابْن زَيْدَانَ وَبَين الْأَمِير الْمولى مُحَمَّد بن الشريف رحمهمَا الله تَعَالَى كَانَت المكاتبات والمرسلات تقع بَين السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ السَّعْدِيّ وَبَين الْأَمِير الْمولى مُحَمَّد بن الشريف السلجماسي فَمن ذَلِك رِسَالَة بعث بهَا السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى الْأَمِير الْمَذْكُور فَكَانَ من فصولها أَن قَالَ لَهُ وَبَلغنِي أَنَّك تعلن فِي النوادي من الحواضر والبوادي إِن جرثومة انتمائنا لبني سعد بن بكر بن هوَازن مَعَ أَنَّهَا فِي بني نزار بن معد وافية المكاييل ثَقيلَة الموازن وأننا من تيدسي أحد الْقُصُور بوادي درعة وَمِنْهَا أنبت الله أصلنَا فأزهر غصنه وأثمر فَرعه فلئن كَانَ غرضك حط منْطقَة قَدرنَا من اللبب فَهَذَا من العلى عَلَيْك عَار وَأَن تحاول محونا من صحيفَة النّسَب فَتلك دَعْوَى لَا تغلي أَو ترخص أسواق الأسعار وَقد صرفنَا إِلَيْك نُسْخَة من مناهج الصفاء فِي أَخْبَار الشرفاء ليطلع عَلَيْهَا أنظارك من الْمُلُوك فيزول مَا بالخاطر من إشراك الشكوك فَأَجَابَهُ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف عَن هَذَا الْفَصْل بِأَن قَالَ لَهُ وعتابكم أننا عزوناكم لبني سعد بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور وناشرون لذَلِك فِي الْحلَل والمدن والقصور تالله مَا فَهُنَا بذلك عَن معايرة لكم وَلَا جهل وَلَا بِأَن نضيفكم لمن لَا عشيرة لَهُ وَلَا أهل بل اعتمدنا فِي ذَلِك بِحَمْد الله على مَا نَقله الثِّقَات المؤرخون لأخبار النَّاس من عُلَمَاء مراكش وتلمسان وفاس وَلَقَد أمعن الْكل التَّأَمُّل بِالذكر والفكر فَمَا وجدكم إِلَّا من بني سعد بن بكر وَلَا معول على كتاب الْمَنْصُور من الفشاتلة وَلَا ابْن القَاضِي المكناسي وَلَا ابْن عَسْكَر الشريف الشفشاوني وسواهم إِذْ الْكل أهل بساطكم وَمحل مزاحكم وانبساطكم وَلَقَد بلغتنا نُسْخَة مناهل الصَّفَا فَلم نجد فِيهَا موردا عذب وَصفا وَكفى دَلِيلا بالباطن وَالظَّاهِر قَول الثِّقَة مَوْلَانَا عبد الله بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 طَاهِر وَمَعَ هَذَا فَلم نعتمد دفعكم عَن شرف النّسَب وَلَا رفعكم على مَا وسمكم الله بِهِ من زِينَة الْحسب انْتهى الْغَرَض من هَذِه الرسَالَة وَأَشَارَ بقوله قَول الثِّقَة مَوْلَانَا عبد الله بن طَاهِر إِلَى مَا اتّفق لَهُ مَعَ الْمَنْصُور حِين جالسه على الْمَائِدَة وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور أَيْن اجْتَمَعنَا فَقَالَ لَهُ ابْن طَاهِر على هَذَا الخوان والحكاية قد مرت فِي صدر هَذِه الدولة السعدية وَمِمَّا كتب بِهِ السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ للأمير الْمَذْكُور أَيْضا وَذَلِكَ حِين غلب الْمولى مُحَمَّد على فاس وملكها فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور يحذرهُ من عائلة أهل الغرب وغدرهم برسالة من إنْشَاء وزيره الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى آجانا وَفِي آخرهَا قصيدة من إنْشَاء الْقَائِد الْمَذْكُور وَهِي (يَا شبْل مَوْلَانَا الشريف مُحَمَّدًا ... شمس السَّعَادَة والهلال الْأَكْمَل) (مَلَأت مهابتك الْكَبِيرَة مغربا ... فزهت بمشرقة أَصْبَهَان وموصل) (صقر الصَّيَاصِي على الأعادي صائل ... طورا يُغير وَفِي الْمَلَاحِم سيتل) (أنيابه الْبيض الْحداد صوارم ... وَبِكُل ظفر مِنْهُ أَبتر مقصل) (فجناحك الجرد الْعتاق وَإِن نظرت ... إِلَى تلمسان يطيش الشمَال) (هابتك ثوار الأقالم عنْوَة ... والوحش فَهِيَ يغص مِنْهَا المنهل) (قد طبت إِن عرقت عروقك فِي الوغا ... خلت العنابر ديف فِيهَا المندل) (يَا مَالِكًا سعدت بِهِ أوطانه ... فِيمَا مضى وزها بِهِ الْمُسْتَقْبل) (نَادَى بك النَّصْر الْعَزِيز لمغرب ... وَلكم على فاس الْجَدِيد الكلكل) (فاحذر كَمَا حذر الْغُرَاب وَلَا تكن ... كالبط يطفو عَن مطاه القوقل) (واعدل تفوز وَلَا تواخي طامعا ... ترد العداة وتعم عَنْك العذل) (لَا تصد من جبل البرابر واصطبر ... حَتَّى يهون على الجواسيس مدْخل) (لَا تأمن الْأَعْرَاب فِي أقوالها ... واقمع فضاضة من يجور ويختل) (وَعَلَيْك بالغارات فِي أوطانها ... بكتائب تسبي الأناث وَتقتل) (واغضض وَلَا تردي تجار مَدَائِن ... يبْقى عَلَيْك السّتْر دأبا يسبل) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 (لَا تتَّخذ من حصن فاس صاحبا ... أَو حَاكما يصل الْأُمُور ويفصل) (كالبغل عَادَته الْفِرَار وَإِن غَدا ... فِي مربط فَمَتَى استغرك يركل) (لَا تنقلن إِلَى الصحارى ذخائرا ... فَيَقُول أهل الغرب حتما يرحل) (وَاضْرِبْ لبيت الْملك أوتاد الدها ... تزداد صيتًا فِي الْقُلُوب وَتقبل) (ألف وُفُود الغرب واعرف قدرهَا ... وقروم كل قَبيلَة لَا تجْهَل) (وابسط يَديك على الْعِيَال هنيئة ... وَإِذا غرست عروق عدل تنقل) (هذي وَصَايَا قد أضعنا حُقُوقهَا ... فِي آخر مِمَّا نحاه الأول) (فَمَتَى نَشد إِلَى الْمَعَالِي رحالنا ... يأباه نصر والمقادير تخذل) (فرضينا متبعين أَحْكَام القضا ... وَالله يحكم مَا يُرِيد ويعدل) فَأَجَابَهُ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فِي سنة تسع وَخمسين وَألف بقصيدة ختم بهَا جَوَابه من إنْشَاء الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَوْدَة الفاسي وَنَصهَا (أمحمد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ الرِّضَا ... فَخر الخلائف والهمام الْأَكْمَل) (فَلَقَد أَجَبْتُك عَمَّا قد كاتبتني ... نظما ونثرا كي ترى مَا يمثل) (إِنِّي أبث لكم وَصَايَا جمة ... إِن أَنْت للنصح الْمُصَرّح تقبل) (فَإلَى مَتى طول الرقاد أما ترى ... أضعان ملكك كل يَوْم ترحل) (والدهر ينتف فِي رياش جناحكم ... ويدنسن من الصَّفَا مَا تغسل) (مَا من مليك ذاق لَذَّة رَاحَة ... إِلَّا تجلى لَهُ الهوان فيسفل) (أَحْرَى الَّذِي كثرت شقا ثواره ... يعوي عَلَيْهِ لكل عَاد معقل) (تحتال تخدعه بِكُل حباله ... حَتَّى يصاد كَمَا يصاد النعثل) (فاستيقظن من الْخمار وَمن رعى ... فِي أَرض آساد الشرى لَا يغْفل) (وانفض غُبَار الذل واخلع ثَوْبه ... يزْدَاد وَجهك بهجة ويهلل) (ضيعت ملكك فِي الرخا وَتركته ... للخزي فِي دَار الهوان يذلل) (وركنت للظل الوريف وغادة ... يزهو البديع بهَا إِذا مَا ترفل) (وَإِذا أردْت دوَام هَيْبَة همة ... وتدوم فِي ستر عَلَيْكُم يسبل) (دع عَنْك فِي الحمرا مروق سفرجل ... ومدربلا بالزعفران يفلفل) (واركب مطايا الصافنات إِلَى الوغا ... أما تحوز مزية أَو تقتل) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 (واقرع طبولا للرعاة وَفِي الوغا ... يجبي إِلَى الْحَرْب الْعوَان الجحفل) (وخض القفار وهز رمحا وادرع ... واثن الْعَنَان وَفِي يَمِينك منصل) (خاطر بِنَفْسِك فِي الفيافي جائلا ... تردي الْعَدو وكل ليل منزل) (واصطد نهارك بالسلاق وَبعدهَا ... عقبانها وكذاك صقر اجدل) (وَقد الجيوش كَمَا الوحوش وَلَا تدع ... من يعْص أَمرك وازجرنه فيفعل) (جنب آجانا الْجُبْن فِي تَدْبيره ... واصحب شجاعا للذخائر يبْذل) (لَا تجمعن من العلوج بطانة ... فطباعها الْغدر البليغ الأعجل) (أما الشبانة فاحذرن من غيها ... لَا بُد تغدر بالأخير وتخذل) (ترجو عواقب دولة لنفوسها ... وتود من وافى جنابك يجفل) (يعْطف عَلَيْك الدَّهْر بعد نفوره ... فتعود أَيَّام السُّعُود وَتقبل) (مَا ذاق زَيْدَانَ أَبوك حلاوة ... من ملكه حَتَّى غذاه الحنظل) (فَإِذا امتثلت صَوَاب صدق وصيتي ... يصغي الزَّمَان لكم ويصفو المنهل) وَاعْلَم أَن هَذِه الرسائل والأشعار الَّتِي أثبتناها هُنَا نازلة كَمَا ترى عَن دَرَجَة البلاغة وعادمة لما تستحقه من فن الْوَزْن وَنقد الصِّنَاعَة وَلَكِن لما كَانَ الْكتاب كتاب تَارِيخ وأخبار لَا كتاب أدب وأشعار لم نبال بذلك إِذْ كَانَ الْمَقْصُود مِنْهَا مَا تضمنته من بَيَان الْأَحْوَال والإفصاح عَنْهَا على أصح منوال فَإِن هَذِه الرسائل هِيَ عماد التَّارِيخ وملاكه ونازلة مِنْهُ بِالْمحل الَّذِي نزلت من الدَّار أسلاكه فَلِذَا أكثرنا مِنْهَا فِي هَذَا الْكتاب وَالله تَعَالَى الملهم للصَّوَاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله كَانَت وَفَاة السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَفِي نشر المثاني أَنه توفّي قَتِيلا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بقبور الْأَشْرَاف من قَصَبَة مراكش فِي رَوْضَة أَبِيه وعشيرته وَمِمَّا نقش على رخامة قَبره قَول الْقَائِل (لبدر سموات الْمَعَالِي أفول ... وَفِي ذَا الضريح كَانَ مِنْهُ نزُول) (مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ غاله ... حمام فَحزن الْعَالمين طَوِيل) (إِمَام الْأَنَام ذُو المآثر فعله ... لَهُ غرَّة فِي الصَّالِحَات جميل) (حباه إِلَه الْعَرْش رحمى تخصه ... بِمَا هُوَ فِي الفردوس مِنْهُ كَفِيل) وزراؤه يحيى آجانا وَولده مُحَمَّد وَغَيرهمَا وقضاته أَبُو مهْدي عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن السكتاني وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد المزوار رحم الله الْجَمِيع الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ رَحمَه الله لما توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم بُويِعَ ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد والعامة يَقُولُونَ مولَايَ الْعَبَّاس بِدُونِ لفظ الكنية وَقَامَ مقَام أَبِيه فِي جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ إِلَّا أَن حَيّ الشبانات وهم أَخْوَاله قويت شوكتهم فِي أَيَّامه وَغلظ أَمرهم عَلَيْهِ ووثبوا على الْملك وراموا الاستبداد بِهِ فضايقوه وحاصروه بمراكش أشهرا وَلما رَأَتْ أمه أَن الْأَمر لَا يزِيد إِلَّا شدَّة كَلمته فِي أَن يذهب إِلَى أَخْوَاله وَيَأْخُذ بقلوبهم ويزيل مَا فِي نُفُوسهم عَلَيْهِ فَذهب إِلَيْهِم فَلَمَّا تمكنوا مِنْهُ قَتَلُوهُ غيلَة وَأَقْبلُوا إِلَى مراكش مُسْرِعين وَبَايَعُوا فِيهَا لأميرهم عبد الْكَرِيم بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 أبي بكر الشباني ثمَّ الحريزي كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ مقتل السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف كَذَا فِي النزهة وَالَّذِي فِي نشر المثاني أَنه قتل سنة خمس وَسِتِّينَ وَألف وَالله أعلم بغيبه قَالَ اليفرني رَحمَه الله وَقد أذكرتني هَذِه الفعلة قَول الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فِي قصيدته السَّابِقَة (أما الشبانة فاحذرن من غيها ... لَا بُد تغدر بالأخير وتخذل) فَإِن الْأَمر وَقع كَمَا قَالَ مَعَ أَن الْمولى مُحَمَّد بن الشريف كتب بالقصيدة الْمَذْكُورَة للسُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ فِي سنة تسع وَخمسين وَألف وغدر الشبانات للسُّلْطَان أبي الْعَبَّاس كَانَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَلَعَلَّ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف تلقى ذَلِك من بعض أهل الْكَشْف أَو نحوهم فَإِن كَلَامه كثيرا مَا يَقع فِيهِ مثل هَذَا وبمهلك السُّلْطَان أبي الْعَبَّاس رَحمَه الله انقرضت دولة السعديين من آل زَيْدَانَ وانهار جرفها وانطوى بساطها وَسُبْحَان من لَا يبيد ملكه وَلَا يَزُول سُلْطَانه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم الْخَبَر عَن دولة الشبانات بمراكش وأعمالها وَمَا آل إِلَيْهِ أمرهَا من دثورها واضمحلالها لما قتل السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ بن زَيْدَانَ فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ثار كَبِير حَيّ الشبانات بمراكش من عرب معقل وَهُوَ الرئيس عبد الْكَرِيم بن الْقَائِد أبي بكر الشباني ثمَّ الحريزي وحريز فَخذ مِنْهَا هِيَ النبعة والصميم فِيهَا وَعبد الْكَرِيم هَذَا يعرف عِنْد الْعَامَّة بكروم الْحَاج فَدخل مراكش ودعا النَّاس إِلَى بيعَته فَبَايعُوهُ بهَا سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وانتظمت لَهُ مملكة مراكش ونواحيها وَسَار فِي النَّاس سيرة حميدة وَكَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 فِي أَيَّامه الغلاء المؤرخ بعام سبعين وَألف وَهُوَ غلاء مفرط بلغ النَّاس فِيهِ غَايَة الضَّرَر حَتَّى أكلُوا الْجِيَف وَلم يزل مُسْتَقِيم الرَّأْي بمراكش إِلَى أَن توفّي بهَا سنة تسع وَسبعين وَألف قبل أَن يدخلهَا الْمولى الرشيد بن الشريف بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالَ منويل لما بَايع أهل مراكش عبد الْكَرِيم الشباني خَالَفت عَلَيْهِ آسفي وأعمالها فغزاهم ثمَّ رَجَعَ مفلولا إِلَى مراكش وَكَانَت المجاعة الْمَشْهُورَة عقب ذَلِك ثمَّ قَتله بعض أجناده دخل عَلَيْهِ فطعنه بِرُمْح فأتلفه ثمَّ قبض على الْقَاتِل وَقتل أَيْضا فِي الْحِين وَلما توفّي بَايع النَّاس وَلَده أَبَا بكر ابْن عبد الْكَرِيم فَبَقيَ إِلَى أَن قدم الْمولى الرشيد وتقبض عَلَيْهِ وعَلى عشيرته فَقَتلهُمْ ثمَّ تتبع الشبانات فأفناهم قتلا وَأخرج عبد الْكَرِيم من قَبره فأحرقه بالنَّار وانقرضت دولة الشبانات والبقاء لله وَحده ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَنَقُول فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَألف فِي ثَانِي عشر محرم مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الْكَبِير أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن الْحسن الخالدي السلاسي الْمَعْرُوف بِابْن حسون نِسْبَة إِلَى جده الْحسن الْمَذْكُور وَهَذَا الشَّيْخ هُوَ دَفِين سلا الشهير بهَا أَصله من سلاس مدشر على مرحلة من فاس ثمَّ انْتقل إِلَى سلا وَسبب انْتِقَاله إِلَيْهَا أَنه كَانَ بَين أهل سلاس حروب ومقاتلات فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله إِذا غلب أهل مدشره فَرح وَإِذا انْهَزمُوا حزن ففكر فِي نَفسه وَقَالَ محبَّة الْغَلَبَة تستدعي محبَّة الشَّرّ للْمُسلمين وَعلي عهد الله لَا جَلَست فِي مَوضِع أفرق فِيهِ بَين الْمُسلمين وأبغي الشَّرّ لَهُم فارتحل إِلَى سلا وَلما اسْتَقر بهَا أَتَاهُ جمَاعَة من عشيرته يراودونه على الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ وحثوا عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَأخذ قدحا وملأه من مَاء الْبَحْر وَوَضعه ثمَّ قَالَ لَهُم مَا بَال مَاء الْبَحْر يضْرب بعضه بَعْضًا وتتلاطم أمواجه وَمَا لهَذَا المَاء الَّذِي مِنْهُ فِي الْقدح سَاكن فَقَالُوا لَهُ لِأَنَّهُ لم يبْق فِي الْبَحْر فَقَالَ لَهُم الغربة تصفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 وتسكن فَعَلمُوا مُرَاده وَانْصَرفُوا آيسين قلت وَفِي انْتِقَاله من سلاس إِلَى سلا إِشَارَة لَطِيفَة وَهِي أَن لفظ سلاس بِاعْتِبَار تفكيكه سلو مَوْصُول بِحرف السِّين وَهُوَ حرف ذُو قُرُون ثَلَاثَة متشعبة فَيُؤْخَذ مِنْهُ بطرِيق الْإِشَارَة أَنه سلو مَوْصُول بكدر بِخِلَاف لفظ سلا فَإِنَّهُ سلو مَحْض وَقد قدمنَا فِي أَخْبَار ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله أَن مَدِينَة سلا كَانَت مقصدا لِلْعِبَادَةِ وَأهل الْخلْوَة والانفراد من لدن قديم أَخذ الشَّيْخ ابْن حسون عَن أبي مُحَمَّد الهبطي عَن أبي مُحَمَّد الغزواني عَن التباع عَن الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ صَاحب أَحْوَال تهدى إِلَيْهِ الثِّيَاب الرفيعة فيأمر بهَا فَتلقى فِي بَيت مسدود فَتبقى فبه حَتَّى يأكلها السوس وتضيع وَكَانَ كل يَوْم يصبح على بَابه أَرْبَاب الْآلَات بالطبول والأبواق يضْربُونَ عَلَيْهِ النّوبَة وَغير ذَلِك وَقد تكلم عَلَيْهِ الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات وَحمله محملًا جميلا وكرامات ابْن حسون كَثِيرَة شهيرة نفعنا الله بِهِ وبأمثاله وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فِي ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى العلام الرباني أَبُو المحاسن يُوسُف بن مُحَمَّد الفاسي جد السَّادة الفاسيين وأخباره ومناقبه شهيرة قد تكفل ببسطها كتاب مرْآة المحاسن لِابْنِهِ الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفاسي الْمَوْضُوع لهَذَا الْقَصْد بالخصوص وَفِي سنة أَربع عشرَة وَألف كَانَ الغلاء الْعَظِيم بفاس قَالَ صَاحب الممتع فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن حَكِيم بالأندلسي أَنه اعتراه ذَات يَوْم حَال فجَاء إِلَى بعض أفران فاس وَجعل يَقُول لصَاحب الفرن أغلق فرنك أغلق فرنك ويصيح بِهِ فَإِذا بالغلاء الْعَظِيم حدث عقب ذَلِك وَهُوَ غلاء سنة أَربع عشرَة وَألف فتعطل ذَلِك الفرن وَغَيره من أفران الْمَدِينَة وَكَانَ يمر بالطرقات فَيَقُول النَّاس يَأْكُلُون عَن أَوْلَادهم ويكرر ذَلِك على جِهَة الْإِنْكَار فجَاء الغلاء الْمَذْكُور فَكَانَ النَّاس يَأْكُلُون فِي الْأَسْوَاق عَن أَوْلَادهم وَلم يكن يعْهَد الْأكل بالأسواق قبل ذَلِك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 وَفِي سنة خمس عشرَة وَألف فِي ثَانِي جُمَادَى مِنْهَا جَاءَ بفاس سيل عَظِيم حَتَّى غمر دور عمل الفخارين وَذهب بِبَعْض أنادر الزَّرْع وَحمل أمة من بَاب الْفتُوح فَمَاتَتْ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف حدث الشَّرّ بفاس وَوَقع الغلاء حَتَّى بيع الْقَمْح بأوقيتين وَربع للمد وَكَثُرت الْمَوْتَى حَتَّى أَن صَاحب المارستان أحصى من الْمَوْتَى من عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف إِلَى ربيع النَّبَوِيّ من السّنة بعْدهَا أَرْبَعَة آلَاف وسِتمِائَة وَخَربَتْ أَطْرَاف فاس وخلت المداشر وَلم يبْق بلمطة سوى الوحوش وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَذَلِكَ عِنْد فجر يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا حدثت زَلْزَلَة عَظِيمَة بفاس ذكر صَاحب الممتع فِي تَرْجَمَة أبي عبد الله بن حَكِيم الْمَذْكُور آنِفا أَنه كَانَ قبل الزلزلة الْمَذْكُورَة يَصِيح المردومات المردومات فَإِذا بالزلزلة حدثت قَالَ فَمَا بقيت دَار من دور فاس غَالِبا إِلَّا دَخَلتهَا الفؤس وَفِي خَامِس شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة نزل برد عَظِيم قدر بيض الدَّجَاج وأكبر وأصغر ورئي حجر عَظِيم مِنْهَا نزل على خيمة فخرقها وفر أَهلهَا عَنْهَا وَبَقِي لم يذب نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف توفّي الإِمَام الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الفاسي الْمَعْرُوف بالعارف بِاللَّه وَهُوَ أَخُو أبي المحاسن الْمَذْكُور آنِفا ومناقبه شهيرة أَيْضا وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة كَانَ الغلاء بفاس وَالْمغْرب وَفِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْحجَّة مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْهمام أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عَليّ بن عَاشر الْأنْصَارِيّ نسبا الأندلسي أصلا الفاسي منشأ ودارا الْفَقِيه الْمَشْهُور كَانَ رَحمَه الله لَهُ الباع الطَّوِيل فِي الْمُشَاركَة فِي الْعُلُوم مَعَ غَايَة التَّحْرِير وَالتَّحْقِيق وَله التَّأْلِيف الحسان الَّتِي أغْنى فِيهَا عَن الْخَبَر والعيان وَكَانَ ورعا سنيا وَكَانَ لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 يتَّخذ الْقُرَّاء على جنائز أَقَاربه وَيَقُول يَمْنعنِي من ذَلِك أَنهم يفسدون قِرَاءَة الْقُرْآن وقراءتهم تِلْكَ عذر فِي التَّخَلُّف عَن الْجَنَائِز وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أبي المحاسن يُوسُف الفاسي وَكَانَ رَحمَه الله متفننا عَالما لَهُ عناية كَبِيرَة بتحصيل الْمسَائِل وتفييدها والاطلاع على غريبها وشريدها وَهُوَ صَاحب مرْآة المحاسن وَكَانَ جوالا فِي بوادي الْمغرب وحواضره حَتَّى أدته خَاتِمَة المطاف إِلَى مَدِينَة تطاوين فَألْقى بهَا عَصا التسيار إِلَى أَن توفّي فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ نقل إِلَى فاس بعد سنتَيْن فَوجدَ طريا رَحمَه الله وَفِي سنة سِتِّينَ وَألف كَانَ بالمغرب رخاء مفرط وَبلغ صَاع الْبر بِمَدِينَة سلا مِثْقَالا وَكَاد يَنْعَدِم بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غلاء لم يعْهَد مثله وانتشر الْفساد فِي الْبِلَاد وَحل بالمغرب وباء كَبِير حَتَّى كَانَ النَّاس يموتون فِي كل طَرِيق رجَالًا وَنسَاء نسْأَل الله الْعَافِيَة وَفِي سنة سبعين وَألف كَانَ الغلاء المفرط بالمغرب لَا سِيمَا بمراكش وَهَذِه السّنة هِيَ الْمَعْرُوفَة عِنْد الْعَامَّة بِسنة كروم الْحَاج لَا زَالُوا يضْربُونَ الْمثل بغلائها إِلَى الْيَوْم وَالله تَعَالَى يحفظ الْمُسلمين ويحلهم من كنفه فِي حصن حُصَيْن آمين تمّ الْجُزْء السَّادِس ويليه الْجُزْء السَّابِع وأوله الْخَبَر عَن دولة الإشراف السجلماسيين من آل عَليّ الشريف وَذكر نسبهم وأوليتهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 كتاب الاستقصا ج 3 // إِدْخَال مكتبة الزهراء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 3 - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة العلوية الْخَبَر عَن دولة الْأَشْرَاف السجلماسيين من ال عَليّ الشريف وَذكر نسبهم وأوليتهم اعْلَم أَن نسب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة العلوية من أصرح الْأَنْسَاب وسببها الْمُتَّصِل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أمتن الْأَسْبَاب وَأول مُلُوكهَا كَمَا سَيَأْتِي هُوَ الْمولى مُحَمَّد بن الشريف بن عَليّ الشريف المراكشي بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف بن عَليّ الشريف السجلماسي ابْن الْحسن بن مُحَمَّد بن حسن الدَّاخِل ابْن قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أبي مُحَمَّد بن عَرَفَة بن الْحسن بن أبي بكر بن عَليّ بن الْحسن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن قَاسم بن مُحَمَّد النَّفس الزكية ابْن عبد الله الْكَامِل ابْن الْحسن الْمثنى ابْن الْحسن السبط ابْن عَليّ وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا ذكر هَذَا النّسَب الَّذِي هُوَ حقيق بِأَن يُسمى سلسلة الذَّهَب جمَاعَة من الْعلمَاء كالشيخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصومعي وَالشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن يُوسُف الفاسي والعلامة الشريف أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام القادري فِي كِتَابه الدّرّ السّني فِيمَا بفاس من النّسَب الحسني وَغَيرهم وَقد تقدم فِي أَخْبَار السعديين أَن الصَّوَاب أَن يُزَاد فِي عَمُود هَذَا النّسَب الشريف بعد قَاسم الآخر مَا نَصه ابْن الْحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد النَّفس الزكية إِلَى اخر مَا مر قَالَ أَبُو عبد الله الفاسي فِي المراة إِن الشرفاء الَّذين لَا يشك فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 شرفهم بالمغرب كَثِيرُونَ كالجوطيين من الحسينيين الإدريسيين وكشرفاء تافيلالت من الحسينيين أَيْضا المحمديين وكالصقليين والعراقيين وَكِلَاهُمَا من الحسينيين بِالْيَاءِ الساكنة بَين السِّين وَالنُّون فَإِن شرف جَمِيعهم لَا يخْتَلف فِيهِ اثْنَان من أهل بِلَادهمْ وَمن يعرفهُمْ من غَيرهم اهـ وَعَن شيخ الْجَمَاعَة الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي رَحمَه الله أَنه قسم شرفاء الْمغرب بِحَسب الْقُوَّة والضعف إِلَى خَمْسَة أَقسَام وَمثل للقسم الأول الْمُتَّفق على صِحَّته بأصناف مِنْهُم هَؤُلَاءِ السَّادة السجلماسيون وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي رَحمَه الله شرف السَّادة السجلماسيين مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ كَالشَّمْسِ الضاحية فِي رَابِعَة النَّهَار وَعَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن معن الأندلسي أَنه كَانَ يَقُول مَا ولي الْمغرب بعد الأدارسة أصح نسبا من شرفاء تافيلالت وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن شرف هَؤُلَاءِ السَّادة السجلماسيين مِمَّا لَا نزاع فِي صراحته وَلَا خلاف فِي صِحَّته عِنْد أهل الْمغرب قاطبة بِحَيْثُ جَاوز حد التَّوَاتُر بمرات رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم وبأسلافهم امين دُخُول الْمولى حسن بن قَاسم إِلَى الْمغرب واستيطانه بسجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك قَالُوا إِن أصل سلف هَؤُلَاءِ السَّادة رَضِي الله عَنْهُم من يَنْبع النّخل من أَرض الْحجاز قَالُوا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أقطع جدهم عَليّ بن أبي طَالب أَرض يَنْبع فاستقرت ذُريَّته بِهِ وتناسلت إِلَى هَذَا الْعَهْد وَكَانَ أول من دخل مِنْهُم الْمغرب الْمولى حسن بن قَاسم فحكي عَن الْفَقِيه الْعَالم أبي عبد الله مُحَمَّد بن سعيد المرغيثي صَاحب الرجز الْمُسَمّى بالمقنع قَالَ أَخْبرنِي الشَّيْخ الإِمَام الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني أَن جده الدَّاخِل إِلَى الْمغرب هُوَ الْمولى حسن بن قَاسم قَالَ وَكَانَ دُخُوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 إِلَيْهِ فِي أَوَاخِر الْمِائَة السَّابِعَة وَكَانَ يَوْمئِذٍ من أَبنَاء السِّتين وَنَحْو ذَلِك وَتُوفِّي رَحمَه الله قبل انْقِضَاء الْمِائَة الْمَذْكُورَة اهـ وَخبر ابْن طَاهِر هَذَا هُوَ أصح مَا ينْقل فِي كَيْفيَّة الدُّخُول وَوَقته وَذكر بَعضهم عَنهُ أَن دُخُوله كَانَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن هِلَال أَن دُخُوله كَانَ فِي أَوَائِل الدولة المرينية ذكر ذَلِك فِي منسكه فعلى هَذَا يكون دُخُوله فِي دولة السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني وَقد أَشَرنَا إِلَى ذَلِك فِي مَحَله فِيمَا سلف وَقَالَ الْعَلامَة أَبُو سَالم العياشي فِي رحلته إِن الْمولى حسن بن قَاسم دخل الْمغرب فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَكَانَ سكناهُ من يَنْبع النّخل بمدشر يعرف بمدشر بني إِبْرَاهِيم فَهَؤُلَاءِ كلهم اتَّفقُوا على أَن الدُّخُول كَانَ فِي الْمِائَة السَّابِعَة وَهُوَ الصَّحِيح الصَّوَاب إِن شَاءَ الله وَزعم بَعضهم أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمِائَة السَّادِسَة وَهُوَ بعيد وَاخْتلفُوا فِي السَّبَب الدَّاعِي إِلَى دُخُول هَذَا السَّيِّد إِلَى الْمغرب فَذكر صَاحب كتاب الْأَنْوَار السّنيَّة فِيمَا بسجلماسة من النِّسْبَة الحسنية أَن سَبَب دُخُوله أَن ركب الْحَاج المغربي كَانَ يتوارد على الْأَشْرَاف هُنَالك وَكَانَ شيخ الركب فِي بعض القدمات رجلا من أهل سجلماسة يظنّ أَنه السَّيِّد أَبُو إِبْرَاهِيم فَلَمَّا حج اجْتمع بِالْمَوْسِمِ بالسيد حسن الْمَذْكُور وَكَانَت سجلماسة وأعمالها يَوْمئِذٍ شاغرة من سُكْنى الْأَشْرَاف فَلم يزل أَبُو إِبْرَاهِيم يحسن للْمولى حسن موطن الْمغرب وَالسُّكْنَى بسجلماسة حَتَّى استماله فأجمع السّير مَعَ الركب وَقدم بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيم فاستوطن ببلدهم سجلماسة وَقَالَ حافده الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر فِيمَا قيد عَنهُ وَكَانَ الَّذين أَتَوا بِهِ من أهل سجلماسة أَوْلَاد البشير وَأَوْلَاد المنزاري وَأَوْلَاد المعتصم وَأَوْلَاد ابْن عَاقِلَة وصاهره مِنْهُم أَوْلَاد المنزاري اهـ وَذكر صَاحب الأرجوزة أَن الشَّيْخ أَبَا إِبْرَاهِيم الَّذِي جَاءَ بِهِ من ذُرِّيَّة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بَعضهم إِن أهل سجلماسة لم تكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 تصلح الثِّمَار ببلدهم فَذَهَبُوا إِلَى الْحجاز بِقصد أَن يَأْتُوا بِرَجُل من أهل الْبَيْت تبركا بِهِ فَأتوا بالمولى حسن الْمَذْكُور فحقق الله رجاءهم وَأصْلح ثمارهم حَتَّى عَادَتْ بِلَادهمْ هِيَ هجر الْمغرب وَقَالَ غَيره إِن سَبَب إتيانهم بِهِ أَن الْأَشْرَاف من آل إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ كَانُوا قد تفَرقُوا بِبِلَاد الْمغرب وانتشر نظامهم وَاسْتولى عَلَيْهِم الْقَتْل وَالصغَار من أُمَرَاء مكناسة وَغَيرهم فَقل الشّرف بالمغرب وَأنْكرهُ كثير من أَهله حَقنا لدمائهم فَلَمَّا طلع نجم الدولة المرينية بالمغرب أكبروا الْأَشْرَاف وَرفعُوا أقدارهم واحترموهم وَلم يكن بِبَلَد سجلماسة أحد من آل الْبَيْت الْكَرِيم فأجمع رَأْي كبرائهم وأعيانهم أَن يَأْتُوا بِمن يتبركون بِهِ من أهل ذَلِك النّسَب الشريف فَقيل إِن الذَّهَب يطْلب من معدنه والياقوت يجلب من موطنه إِن بِلَاد الْحجاز هِيَ مقرّ الْأَشْرَاف وَلذَلِك الْجَوْهَر النفيس من أجل الأصداف فَذَهَبُوا إِلَى الْحجاز وجاؤوا بالمولى حسن على مَا ذكرنَا فأشرقت شمس الْبَيْت النَّبَوِيّ على سجلماسة وأضاءت أرجاؤها وظللتها من الشَّجَرَة الطّيبَة ظلالها وأفياؤها حَتَّى قيل إِن مَقْبرَة أهل سجلماسة هِيَ بَقِيع الْمغرب وكفاها هَذَا شرفا وفخرا ومزية وذخرا وَذكر بَعضهم أَن أهل سجلماسة لما طلبُوا من الْمولى قَاسم بن مُحَمَّد أَن يبْعَث مَعَهم أحد أَوْلَاده وَكَانَ يَوْمئِذٍ أكبر شرفاء الْحجاز ديانَة ووجاهة اختبر من أَوْلَاده من يصلح لذَلِك وَكَانَ لَهُ على مَا قيل ثَمَانِيَة من الْوَلَد فَكَانَ يسْأَل الْوَاحِد مِنْهُم بعد الْوَاحِد وَيَقُول لَهُ من فعل مَعَك الْخَيْر فَمَا تفعل مَعَه أَنْت فَيَقُول الْخَيْر وَمن فعل مَعَك الشَّرّ فَيَقُول الشَّرّ فَيَقُول اجْلِسْ إِلَى أَن انْتهى إِلَى الْمولى حسن الدَّاخِل فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لإخوته فَقَالَ من فعل معي الشَّرّ أفعل مَعَه الْخَيْر قَالَ فَيَعُود ذَلِك بِالشَّرِّ قَالَ فأعود لَهُ بِالْخَيرِ إِلَى أَن يغلب خيري على شَره فَاسْتَنَارَ وَجه الْمولى قَاسم وداخلته أريحية هاشمية ودعا لَهُ بِالْبركَةِ فِيهِ وَفِي عقبه فَأجَاب الله دَعوته وَكَانَ الْمولى حسن الدَّاخِل رجلا صَالحا ناسكا لَهُ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم خُصُوصا علم الْبَيَان فَإِنَّهُ كَانَت لَهُ فِيهِ الْيَد الطُّولى وَلما اسْتَقر بسجلماسة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 واطمأنت بِهِ الدَّار زوجه الشَّيْخ أَبُو إِبْرَاهِيم ابْنَته وَسكن على مَا قيل بِموضع يُقَال لَهُ المصلح وَلما توفّي تنَازع أهل سجلماسة فِي مَوضِع دَفنه حَتَّى كَادَت نَار الْحَرْب تشب بَينهم فأجمع رَأْيهمْ أَن يدفنوه بِمحل وسط هم فِيهِ سَوَاء فمسحوا أَرض سجلماسة بالحبال وقسموها أَربَاعًا ودفنوه بمَكَان سوي يتوسط جَمِيع النواحي وَلم يحفظ تَارِيخ وَفَاته وَمَا استنبطه اليفرني فِي ذَلِك فمبني على غير أساس وَالله تَعَالَى أعلم ذكر ذُرِّيَّة الْمولى حسن بن قَاسم وتناسلها بالمغرب والإلمام بِشَيْء من مَنَاقِب الْمولى عَليّ الشريف لما توفّي الْمولى حسن بن قَاسم رَحمَه الله لم يخلف إِلَّا ولدا وَاحِدًا وَهُوَ الْمولى مُحَمَّد ثمَّ خلف الْمولى مُحَمَّد هَذَا ولدا وَاحِدًا ايضا وَهُوَ الْمولى الْحسن يُسمى باسم جده وَهُوَ المدفون حول الْمَدِينَة الْكُبْرَى بِإِزَاءِ الشَّيْخ أبي عبد الله الخراز من أَرض سجلماسة وَخلف الْمولى الْحسن الْمَذْكُور وَلدين أَحدهمَا الْمولى عبد الرَّحْمَن المكنى بِأبي البركات وَهُوَ أكبرهما وَمن ذُريَّته أَوْلَاد أبي حميد بِالتَّصْغِيرِ القاطنون بوادي الرتب بِالْقصرِ الْجَدِيد على مرحلة من سجلماسة وَمِنْهُم أَيْضا الشرفاء النازلون ببني زروال وَثَانِيهمَا الْمولى عَليّ الْمَعْرُوف بالشريف وَمِنْه تفرعت فروع المحمديين وتكاثرت وَكَانَ رَحمَه الله رجلا صَالحا مجاب الدعْوَة كثير الْأَوْقَاف وَالصَّدقَات حَاجا مُجَاهدًا ذَا همة سنية وأحوال مرضية رَحل فِي بعض الْأَوْقَات إِلَى فاس واستوطنها مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ سكناهُ مِنْهَا بالحومة الْمَعْرُوفَة بجزاء ابْن عَامر من عدوة الْقرَوِيين وَترك هُنَالك دَارا ثمَّ أَقَامَ مُدَّة بقرية صفر وَخلف بهَا عقارا وآثارا هِيَ بهَا إِلَى الْآن وَأقَام مُدَّة أُخْرَى بِبَلَد جرس الَّتِي على مرحلَتَيْنِ وَنصف من سجلماسة وَترك بهَا مثل ذَلِك وَدخل عدوة الأندلس برسم الْجِهَاد مرَارًا وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ عَاد إِلَى سجلماسة فكاتبه أهل الأندلس يطْلبُونَ مِنْهُ الْعود إِلَيْهِم ويحضونه على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الاعتناء بِأُمُور الْجِهَاد ويشكون إِلَيْهِ ضعف أهل الأندلس عَن مقاومة الْعَدو وَأَنَّهَا شاغرة مِمَّن تَجْتَمِع عَلَيْهِ الْقُلُوب وَقد كَانُوا راودوه وَهُوَ مُقيم عِنْدهم على أَن يبايعوه ويملكوه عَلَيْهِم والتزموا لَهُ الطَّاعَة والنصرة فَرغب عَن ذَلِك ورعا وزهدا وعزوفا عَن الدُّنْيَا وزهراتها قَالَ اليفرني رَحمَه الله وَقد وقفت على رسائل عديدة بعث بهَا إِلَيْهِ عُلَمَاء غرناطة يحضونه على الْجَوَاز إِلَيْهِم واستنفار الْمُجَاهدين إِلَى حماية بيضتهم ويذكرون لَهُ أَن كَافَّة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خَالص أَمْوَالهم دون توظيف سُلْطَان عَلَيْهِم أَمْوَالًا كَثِيرَة برسم الْغُزَاة الَّذين يردون مَعَه من الْمغرب وحلوه فِي بعض تِلْكَ الرسائل بِمَا نَصه إِلَى الْهمام الضرغام قطب دَائِرَة فرسَان الْإِسْلَام الشجاع الْمِقْدَام الهصور الفاتك الوقور الناسك طَلِيعَة جَيش الْجِهَاد وَعين أَعْيَان الأنجاد الْمُؤَيد بِالْفَتْح فِي هَذِه الْبِلَاد المسارع إِلَى مرضاة رب الْعباد مَوْلَانَا أبي الْحسن عَليّ الشريف اه نَص التحلية وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى عُلَمَاء فاس يَلْتَمِسُونَ مِنْهُم أَن يحضوا الْمولى عليا على العبور إِلَى العدوة فَكتب إِلَيْهِ أَعْلَام فاس بِمثل ذَلِك وحثوه على المسارعة إِلَى إغاثتهم وَذكروا لَهُ فضل الْجِهَاد وَأَنه من أفضل أَعمال الْبر وَكَانَ من مُوجبَات تخلفه عَن إغاثة أهل غرناطة أَنه كَانَ قد عزم على الذّهاب إِلَى الْحَج فَقَالُوا لَهُ فِي بعض تِلْكَ الرسائل وعوضوا هَذِه الوجهة الحجية الَّتِي أجمع رَأْيكُمْ عَلَيْهَا وتوفر عزمكم لَدَيْهَا بالعبور إِلَى الْجِهَاد فَإِن الْجِهَاد أصلحكم الله فِي حق أهل الْمغرب أفضل من الْحَج كَمَا أفتى بِهِ الإِمَام ابْن رشد رَحمَه الله حِين سُئِلَ عَن ذَلِك وَقد بسط الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أجوبته وَوجه مَا ذهب إِلَيْهِ من ذَلِك اه وَكَانَ مِمَّن كتب إِلَيْهِ من عُلَمَاء غرناطة جمَاعَة مِنْهُم الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سراج شيخ الْمواق وقاضي الْجَمَاعَة بهَا وَمن شُيُوخ فاس الَّذين كتبُوا إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو عبد الله العكرمي شيخ شُيُوخ الإِمَام ابْن غَازِي وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن ماواس وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الرقعي صَاحب الرجز الْمَشْهُور وَغَيرهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وَمِمَّا ضمنه أهل الأندلس فِي رسائلهم القصيدة الْآتِيَة فِي مدح الْمولى عَليّ وَصَاحبه الْفَاضِل أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعمريّ وحثهما على إجابتهم وَهِي من إنْشَاء الْفَقِيه أبي فَارس بن الرّبيع الغرناطي يَقُول فِيهَا (أيا رَاكِبًا يطوي المفاوز والقفرا ... رشدت وَلَقِيت السَّلامَة والخيرا) (ترحل وجد السّير يَوْمًا وَلَيْلَة ... وسافر تجدها فِي مطالعها زهرا) (تحمل رعاك الله مني إِلَى الحما ... تَحِيَّة مشتاق تهيجه الذكرا) (وَأم ديار الْحَيّ من سجلماسة ... فَتلك ديار تجمع الْعِزّ والفخرا) (وَسلم على تِلْكَ الديار وَأَهْلهَا ... سَلام محب لم يطق عَنْهُم صبرا) (فعندي لَهُم حب جرى فِي مفاصلي ... ومازج مني الْعظم وَالدَّم والشعرا) (فَتلك بقاع الدّين وَالْخَيْر وَالْهدى ... فكم من تَقِيّ فِي سَمَّاهَا سما بَدْرًا) (هم الْقَوْم لَا يشقى بهم جلساؤهم ... يضوع عبير الزهر من بَينهم نشرا) (وَقل يَا أهيل الْقبْلَة السَّادة الأولى ... إِذا مَا دعوا فِي حَادث أَسْرعُوا النفرا) (وَخص سليل الْهَاشِمِي ابْن صهره ... عَليّ الَّذِي يَعْلُو على زحل قدرا) (أَبَا الْحسن الْمولى الشريف الَّذِي بِهِ ... على الغرب شمس النَّصْر طبقت الصحرا) (ولاحت بآفاق الْقُلُوب عجائب ... بهَا سلب الْأَلْبَاب تحسبها سحرًا) (هُوَ الصَّقْر مهما اهتز كل مجلجل ... هزبر إِذا مَا انشب الناب والظفرا) (هُوَ الْغَوْث إِن دارت رحى الْحَرْب للقا ... وغيث إِذْ مَا المزن مَا أرْسلت قطرا) (أغار على الأعلاج فاجتاح جمعهم ... وجد لَهُم قتلا وشددهم أسرا) (بطنجة قد طَابَ الْمَمَات لزمرة ... بنصرتها ترجو من الْملك الأجرا) (دَعَاهَا بأقصى السوس قوم فأسرجوا ... من الصافنات الجرد لم يَأْخُذُوا الحذرا) (فَهبت ركاب الْقَوْم وَالشَّمْس أشرقت ... وأرهق جَيش الله أعداءه خسرا) (وَلَا عجب أَن الألى هُوَ مِنْهُم ... لُيُوث الشرى قد أوسعوا مرْحَبًا شرا) (أجر جَارك اللهفان من غمراته ... أَبَا حسن وانصر جزيرتك الخضرا) (وناد أَبَا عبد الْإِلَه خليلكم ... بِهِ تجلب السَّرَّاء فِي حَادث الضرا) (سليل أبي إِسْحَاق أكْرم بِهِ أَبَا ... لقد خلف الْفَرْع الزكي الرضي البرا) (أَلَيْسَ الَّذِي لبّى نِدَاء أهل طنجة ... وَجمع أهل الغرب من حِينه طرا) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 (وأوقع بالكفار أَي وقيعة ... فَمن لم يمت بِالسَّيْفِ مَا لَهُ ذعرا) (وَأصْبح ثغر الدّين أشنب باسما ... وأرهق وَجه الْكفْر من حزن قترا) (ونال من الله السَّعَادَة والرضى ... وجنات عدن فِي الْمعَاد لَهُ ذخْرا) (وَقل أَيهَا الْعدْل الَّذِي اتخذ التقى ... شعارا وسامى فِي منازلها الشعرا) (أرى كل مَا فِي الغرب أصبح قانطا ... لأندلس يَرْجُو بطلعتكم نصرا) (وغرناطة الغراء نادتكما أَقبلَا ... وبالراية الْبَيْضَاء كي تنصر الحمرا) (فساكنها وقف عَلَيْكُم رجاؤه ... كَبِيرهمْ والطفل والكاعب العذرا) (فَجِئْنَا بِمن فِي أَرْضكُم حاميا لَهُم ... رجَالًا وفرسانا غطارفة غرا) (حماة أباة الضيم من كل ماجد ... كريم يباري الْغَيْث والسيل والبحرا) (فدونكما الْكفَّار تَعْنِي طغاتها ... وتشبع من قتلاهم الْوَحْش والطيرا) (لقد طمع الْكفَّار ملك رقابنا ... وإهلاكهم فِي أَرْضنَا الْحَرْث والثمرا) (مَنَازلنَا من كل حصن وقرية ... تناديكما غوثا لخطب أَتَى أمرا) (فكم من ضَعِيف لَا حراك بجسمه ... وَشَيخ بهَا أربى على مائَة عشرا) (وبيض وَسمر من أوانس كالدمى ... وصبية مهد لَا تع النَّفْع والضرا) (ومنبر جمع للخطابة والدعا ... وَمَسْجِد دين للصَّلَاة وللإقرا) (وكرسي علم مقْعد لمهذب ... تصدر يملي مَا يضيء لنا الصدرا) (وأجداث أَبنَاء الصَّحَابَة فَوْقهَا ... وكل ولي أَشْعَث لابس طمرا) (تناديكما غوثا من الله سرعَة ... فقد كَاد أَن يستأصل الْكفْر ذَا البرا) (فحثوا لنا بالسير بعدا وقربة ... أجيراننا من كيد من أضمر الجؤرا) (وعزما بِأُخْرَى مثل تِلْكَ الَّتِي مَضَت ... ليبصر هَذَا الفنش مثلكُمْ كبرا) (وَأَنْتُم بِحَمْد الله تَدْرُونَ مَا أَتَى ... عَن الْمُصْطَفى فِي الْغَزْو من خبر خَبرا) (فَللَّه مَا أَسْنَى وددت لَو أننى ... قتلت فأحيى ثمَّ أقتل مذ مرا) (وَمَا فِي كتاب الله من آيَة أَتَت ... كشمس الضُّحَى فِي الصحو سافرة غرا) (خذاها بِحَمْد الله عذرا جبينها ... يضوع شذى تهدي لمغناكما عطرا) (وتبلغ عني للكرام تَحِيَّة ... من أندلس للغرب قد عبروا البحرا) (فعونا رجال الله عونا لعدوة ... أحاطت بهَا البأساء واشتدت الضرا) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 (فَأنْتم لنا الْجند الْقوي ونحوكم ... تشوفنا فاستجلوا نحونا السيرا) (ونثني على خير الْبَريَّة ذِي الْهدى ... مُحَمَّد الْمَبْعُوث بالملة اليسرا) (وَآل وَصَحب ثمَّ تال لنهجهم ... وَمن لِذَوي الْإِسْلَام قد قصد النصرا) وبهذه الرسائل العذبة الْأَلْفَاظ المستوقفة الألحاظ يعلم أَن الْمولى عليا الشريف رَحمَه الله كَانَ مَشْهُورا فِي عصره مُتَقَدما على كَافَّة أهل مصره وَأَنه كَانَ ملحوظا بالإجلال عِنْدهم والإكبار وَأَن هَذِه الدَّار الْعَالِيَة الْبناء والأسوار معظمة من لدن قديم مشهود لَهَا بِالْخَيرِ والتقديم وأظن أَن وقْعَة طنجة الْمشَار إِلَيْهَا فِي هَذِه القصيدة هِيَ وقْعَة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهَا فِي محلهَا وَقد كَانَ للْمولى عَليّ الْمَذْكُور جِهَاد فِي نَاحيَة أكدج من بِلَاد السودَان ورزق الظفر وَالْفَتْح كَمَا ذكره مَبْسُوطا فِي النزهة فَلْينْظر هُنَاكَ وَذكر صَاحب كتاب الْأَنْوَار السّنيَّة أَن الْمولى عليا مكث أَربع عشرَة سنة لَا يُولد لَهُ ثمَّ ولد لَهُ بعد ذَلِك ولدان أَحدهمَا الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم وَالثَّانِي أَبُو المحاسن يُوسُف وَهُوَ أصغرهما أما الْمولى مُحَمَّد فخلف أَرْبَعَة أَوْلَاد وهم السَّيِّد الْحسن وَالسَّيِّد عبد الله وَالسَّيِّد عَليّ وَالسَّيِّد قَاسم وهم على هَذَا التَّرْتِيب فِي السن وَيُقَال لسائرهم أَوْلَاد مُحَمَّد نِسْبَة إِلَى هَذَا الْجد وفروعهم كَثِيرَة يطول تتبعها وَأما الْمولى يُوسُف فَإِنَّهُ ولي زَاوِيَة أَبِيه واجمع النَّاس على أَنه المتأهل لَهَا دون غَيره لرزانته ووفور عقله فتولاها بعد نزاع ورسم تَوليته لَهَا لم يزل مَوْجُودا عِنْد بعض حفدته وَكَانَ ذَلِك كُله فِي دولة بني مرين وَقَالَ صَاحب كتاب الْأَنْوَار وَقد قيل إِنَّه لم يكن لَهُ ولد حَتَّى بلغ ثَمَانِينَ سنة فولد لَهُ تِسْعَة من الْوَلَد خَمْسَة مِنْهُم أشقاء وأمهم حليمة من ذُرِّيَّة بعض المرابطين بسجلماسة وهم السَّيِّد عَليّ وَهُوَ جد الْمُلُوك أبقى الله فَضلهمْ وَالسَّيِّد أَحْمد وَالسَّيِّد عبد الْوَاحِد وَالسَّيِّد الطّيب وَالسَّيِّد عبد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 الْوَاحِد المكنى بِأبي الْغَيْث جد الْأَشْرَاف البلغيثيين وَإِنَّمَا كني بذلك لِكَثْرَة مَا نزل من الْغَيْث عِنْد وِلَادَته وَكَانَ النَّاس قبله فِي جَدب شَدِيد وهم على هَذَا التَّرْتِيب فِي السن وَأَرْبَعَة أشقاء أمّهم طَاهِرَة من ذُرِّيَّة بعض المرابطين أَيْضا وهم السَّيِّد الْحسن بِالتَّكْبِيرِ وَالسَّيِّد الْحُسَيْن بِالتَّصْغِيرِ وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن وَالسَّيِّد مُحَمَّد وَمن منَازِل هَؤُلَاءِ الأشقاء الْيَوْم الْموضع الْمَعْرُوف بأخنوس وتفصيل أَنْسَاب هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد الثَّمَانِية يطول فلنقتصر على ذكر الْمولى عَليّ الْمثنى لِأَنَّهُ الْغَرَض الْمَقْصُود فَنَقُول ولد للْمولى عَليّ الْمَذْكُور ثَلَاثَة من الْوَلَد وهم السَّيِّد مُحَمَّد وَالسَّيِّد مُحرز وَالسَّيِّد هَاشم جد الْأَشْرَاف المرانيين أهل زَاوِيَة اللمراني وَكلهمْ قد عقبوا فَأَما الْمولى مُحَمَّد فولد لَهُ الْمولى عَليّ الشريف المراكشي وَهُوَ المثلث مَعَ عدَّة أَوْلَاد سواهُ وَالْمولى عَليّ هُوَ جد الْمُلُوك أَيْضا وَتُوفِّي بمراكش وَبنى عَلَيْهِ حافده أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد قبَّة بديعة تِلْقَاء ضريح القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله وَولد للْمولى عَليّ الشريف الْمَذْكُور تِسْعَة من الْوَلَد الْمولى الشريف اسْما وَكَانَت وِلَادَته سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ جد الْمُلُوك وَالْمولى الْحَفِيد وَالْمولى حجاج وَالْمولى مُحرز وَالْمولى حرون وَالْمولى فُضَيْل وَالْمولى أَبُو زَكَرِيَّاء وَالْمولى مبارك وَالْمولى سعيد فَهَؤُلَاءِ هُوَ أَوْلَاد الْمولى عَليّ الشريف وَكَانَ الْمولى الشريف أفضلهم وأشرفهم وَله رَحمَه الله عدَّة أَوْلَاد كلهم نُجُوم زاهرة ذَوُو همم باهرة مِنْهُم الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ أكبرهم وَالْمولى الرشيد وَالْمولى إِسْمَاعِيل وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة ولوا الْأَمر بالمغرب على هَذَا التَّرْتِيب وَمِنْهُم الْمولى الحران وَسَيَأْتِي وَالْمولى مُحرز وَالْمولى يُوسُف وَالْمولى أَحْمد وَالْمولى الْكَبِير وَالْمولى حمادة وَالْمولى عَبَّاس وَالْمولى سعيد وَالْمولى هَاشم وَالْمولى عَليّ وَالْمولى مهْدي وَهُوَ شَقِيق إِسْمَاعِيل من بَينهم هَذَا مَا تيَسّر ذكره من نسب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة ذَات الظلال الوريفة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 الْخَبَر عَن رياسة الْمولى الشريف بن عَليّ وَمَا دَار بَينه وَبَين أبي حسون السملالي الْمَعْرُوف بِأبي دميعة قد قدمنَا أَن ظُهُور أبي حسون السملالي كَانَ فِي أَيَّام السُّلْطَان زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وَأَنه استولى على الْقطر السُّوسِي أَولا ثمَّ تنَاول درعة وسجلماسة ثَانِيًا قَالُوا وَكَانَ استيلاؤه على سجلماسة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف باستدعاء الْمولى الشريف بن عَليّ لَهُ واستصراخه إِيَّاه على بني الزبير أهل حصن تابوعصامت أعدائه كَذَا فِي الْبُسْتَان فَقَدمهَا أَبُو حسون وَاسْتولى عَلَيْهَا وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله وَرجع إِلَى مقره من أَرض السوس وَقَالَ اليفرني فِي النزهة كَانَ أَبُو الْأَمْلَاك الْمولى الشريف بن عَليّ وجيها عِنْد أهل سجلماسة وَسَائِر الْمغرب يقصدونه فِي الْمُهِمَّات ويستشفعون بِهِ فِي الأزمات ويهرعون إِلَيْهِ فِيمَا جلّ وَقل قَالَ وَكَانَ قد مر ذَات يَوْم وَهُوَ صبي على الإِمَام الْمولى أبي مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني فَسَأَلَ عَنهُ إِذْ لم يكن يعرفهُ قبل ذَلِك فَقيل لَهُ هُوَ ابْن الْمولى عَليّ الشريف ففرح بِهِ أَبُو مُحَمَّد وَمسح على ظَهره وَقَالَ مَاذَا يخرج من هَذَا الظّهْر من الْمُلُوك والسلاطين فَعلم النَّاس أَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لما يعلمُونَ من صِحَة كشف أبي مُحَمَّد وَصدق فراسته فَكَانَ الْمولى الشريف بعد أَن كبر وَولد لَهُ الْأَوْلَاد يشيع أَن هَذَا الْأَمر لَا بُد أَن يصير إِلَى بَيته وَيكون لَهُم شَأْن عَظِيم اعْتِمَادًا على فراسة أبي مُحَمَّد بن طَاهِر رَحمَه الله ثمَّ كَانَ بَين الْمولى الشريف الْمَذْكُور وَبَين أهل تابوعصامت وَهِي حصن منيع من حصون سجلماسة عَدَاوَة تَامَّة فاستصرخ عَلَيْهِم أَبَا حسون السملالي صَاحب السوس لصداقة كَانَت بَينهمَا واستصرخ أهل تابوعصامت أهل زَاوِيَة الدلاء فأغاث كل مِنْهُمَا من استصرخه والتقى العسكران مَعًا بسجلماسة لكنهما انفصلا على غير قتال حَقنا لدماء الْمُسلمين وَكَانَ ذَلِك سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وَلما رأى أهل تابوعصامت مَا بَين الْمولى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 الشريف وَأبي حسون من الصداقة والوصلة مالوا بكليتهم إِلَى أبي حسون وخدموه بِأَنْفسِهِم وَأَوْلَادهمْ وأظهروا لَهُ النصح وَصدق الْمحبَّة طَمَعا فِي استفساده على الْمولى الشريف إِذْ كَانَ ظَاهرا عَلَيْهِم بِهِ فَلم يزَالُوا يسعون فِي ذَلِك إِلَى أَن أظلم الجو بَينهمَا واستحكمت الْعَدَاوَة وتوفرت دواعيها وَلما رأى ابْنه الْمولى مُحَمَّد بن الشريف ذَلِك اهتبل الْغرَّة فِي أهل تابوعصامت وَخرج لَيْلًا فِي نَحْو مِائَتَيْنِ من الْخَيل مظْهرا أَنه قَاصد لبَعض النواحي ثمَّ كبسهم على حِين غَفلَة وتسور عَلَيْهِم حصنهمْ فَمَا رَاع أهل تابوعصامت إِلَّا الْمولى مُحَمَّد فِي جمَاعَة قد وضعُوا السَّيْف فيهم وحكموه فِي رقابهم فَلم يكن عِنْدهم دفاع واستمكن مِنْهُم وَاسْتولى على ذخائرهم وشفى صدر أَبِيه مِمَّا كَانَ يجده عَلَيْهِم وَلما انْتهى الْخَبَر بذلك إِلَى أبي حسون حمى أَنفه وَاشْتَدَّ غَضَبه وَكتب إِلَى عَامله بسجلماسة واسْمه أَبُو بكر يَأْمُرهُ أَن يحتال على الْمولى الشريف حَتَّى يقبض عَلَيْهِ وَيبْعَث إِلَيْهِ بِهِ حَبِيسًا فامتثل أمره وتقبض على الْمولى الشريف غدرا بِأَن تمارض ثمَّ استدعاه لعيادته والتبرك بِهِ ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى السوس فاعتقله أَبُو حسون فِي قلعة هُنَالك مُدَّة إِلَى أَن افتكه وَلَده الْمولى مُحَمَّد بِمَال جزيل وَعَاد الْمولى الشريف إِلَى سجلماسة فِي خبر طَوِيل وَكَانَ ذَلِك كُله فِي حُدُود سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف قَالَ فِي الْبُسْتَان وَأعْطى أَبُو حسون الْمولى الشريف وَهُوَ معتقل عِنْده جَارِيَة مولدة من سبي المغافرة كَانَت تخدمه قَالَ وَهِي أم الْمولى إِسْمَاعِيل وأخيه الْمولى مهْدي اه وَلست أَدْرِي مَا مُرَاده بِهَذَا فَإِن كَانَت الْجَارِيَة نسيبة فِي المغافرة فَهِيَ حرَّة فَيكون الْمولى الشريف قد وَطئهَا بِعقد النِّكَاح وَهَذَا هُوَ الَّذِي يغلب على الظَّن بِدَلِيل أَن السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما عزم على جمع جَيش الودايا قَالَ لَهُم أَنْتُم أخوالي إِشَارَة إِلَى هَذَا الصهر كَمَا سَيَأْتِي وَإِن كَانَت مَمْلُوكَة لَهُم ثمَّ صَارَت إِلَى أبي حسون فالوطء حِينَئِذٍ كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 بِملك الْيَمين وَالله تَعَالَى أعلم وَصَاحب الْبُسْتَان كثيرا مَا يجازف فِي النَّقْل ويتساهل فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد على مَا ينْفَرد بِهِ من ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْخَبَر عَن إِمَارَة الْمولى مُحَمَّد بن الشريف وبيعته بسجلماسة وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما قبض أَبُو حسون على الْمولى الشريف وسجنه عِنْده كَانَ وَلَده الْمولى مُحَمَّد بِفَتْح الْمِيم مجمعا على إهلاك من بَقِي من أهل تابوعصامت واستئصال شأفتهم وَكَانَ قد تقوى عضده بعض الشَّيْء بِمَا أَخذ من أَمْوَالهم فِي الْوَقْعَة السالفة فَاتخذ بعد تغريب أَبِيه إِلَى السوس جَيْشًا لَا بَأْس بِهِ وانضم إِلَيْهِ جمع من أهل سجلماسة وأعمالها وَذَلِكَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَألف وَكَانَ أَصْحَاب أبي حسون قد أساؤوا السِّيرَة بسجلماسة ونصبوا حبالة الطمع فِي النَّاس حَتَّى ملتهم الْقُلُوب وزرعوا بغض الملكة السوسية فِي قُلُوب الْخَاصَّة والعامة وَمن عسفهم أَنهم كَانُوا قد ضربوا الْخراج بسجلماسة وأعمالها على كل شَيْء حَتَّى على من يجدونه فِي الشَّمْس زمن الشتَاء وَفِي الظل زمن الصَّيف وضيقوا على النَّاس حَتَّى ازدرتهم الْعُيُون وملتهم النُّفُوس فَلَمَّا قَامَ الْمولى مُحَمَّد وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من ذَكرْنَاهُ آنِفا دعاهم إِلَى الْإِيقَاع بِأَهْل السوس فَأَجَابُوهُ وَوجد فيهم دَاعِيَة لذَلِك فاعصوصبوا عَلَيْهِ وصرفوا عزمهم إِلَى محو دَعْوَة أبي حسون من بِلَادهمْ فثاروا بعماله للحين وأخرجوهم عَنْهَا صاغرين بعد قتال شَدِيد ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على بيعَة الْمولى مُحَمَّد فَبَايعُوهُ سنة خمسين وَألف فِي حَيَاة أَبِيه وَوَافَقَ على بيعَته أهل الْحل وَالْعقد بسجلماسة فاستتب أمره واستحكمت بيعَته وَوَافَقَهُ الْمُقدر وساعده السعد وافتتح من ملك الْمغرب بَابه وَإِذا أَرَادَ الله أمرا هيأ أَسبَابه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على درعه وطرده أَبَا حسون السملالي عَنْهَا لما تمت الْبيعَة للْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَجمع الله سُبْحَانَهُ شَمله بِأَبِيهِ كَمَا مر شمر لمضايقة أبي حسون السملالي وَأهل السوس بِبِلَاد درعه إِذْ كَانَت تَحت ولَايَته كَمَا قُلْنَا فَنَهَضَ إِلَيْهِ فِي جمع كثيف وَوَقعت بَينهمَا حروب فظيعة يشيب لَهَا الْوَلِيد ثمَّ انقشع سَحَاب تِلْكَ الْفِتْنَة عَن انتصار الْمولى مُحَمَّد وانهزام أبي حسون وفراره إِلَى مسْقط رَأسه من أَرض السوس فاستولى الْمولى مُحَمَّد على درعه وأعمالها واتسعت إيالته وتوفرت جموعه وعظمت جبايته وطار فِي بِلَاد الْمغرب صيته وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ وقْعَة القاعة بَين الْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَأهل زَاوِيَة الدلاء وَمَا نَشأ عَنْهَا لما صفا للْمولى مُحَمَّد بن الشريف قطر سجلماسة وَدِرْعه حدثته نَفسه بِالِاسْتِيلَاءِ على الغرب إِذْ هُوَ يَوْمئِذٍ مقرّ الرياسة ومتبوأ الْخلَافَة فَمَا دَامَ لم يحصل عَلَيْهِ اسْتِيلَاء فالملك عرضة للزوال وَصَاحبه ناسج على غير منوال وَكَانَ الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي يَوْمئِذٍ مستوليا على فاس ومكناسة وأعمالهما وامتدت ولَايَته بعد مهلك أبي عبد الله العياشي إِلَى سلا وأعمالها فَلَمَّا ظهر الْمولى مُحَمَّد بالصحراء واستفحل أمره وقويت شوكته خَافَ مُحَمَّد الْحَاج مِنْهُ الْوُثُوب على فاس فعاجله بِالْحَرْبِ وَعبر إلية نهر ملوية وَكَانَ الدلائي أَشد قُوَّة من الشريف وَأكْثر جمعا فضايقه بإقليم الصَّحرَاء وَقصد سجلماسة مرَارًا وَكَانَت بَينهمَا أثْنَاء ذَلِك وقْعَة القاعة ضحى يَوْم السبت الثَّانِي عشر من ربيع النَّبَوِيّ سنة سِتّ وَخمسين وَألف فَكَانَت الْهَزِيمَة فِيهَا على الشريف وَتقدم الدلائي إِلَى سجلماسة فافتتحها وَاسْتولى عَلَيْهَا وَفعلت البربر فِيهَا الأفاعيل الْعَظِيمَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 ثمَّ انبرم الصُّلْح بَينهمَا على أَن مَا حازت الصَّحرَاء إِلَى جبل بني عَيَّاش فَهُوَ للْمولى مُحَمَّد وَمَا دون ذَلِك إِلَى نَاحيَة الغرب فَهُوَ لأهل الدلاء ثمَّ اسْتثْنى أهل الدلاء خَمْسَة مَوَاضِع أخر كَانَت فِي إيالة الْمولى مُحَمَّد فجعلوها لَهُم وَهِي الشَّيْخ مغفر فِي أَوْلَاد عِيسَى وَالسَّيِّد الطّيب فِي قصر السُّوق وَأحمد بن عَليّ فِي قصر بني عُثْمَان وَقصر حليمة فِي وَطن غريس وآسرير فِي فركلة فَهَذِهِ الْأَمَاكِن الْخَمْسَة شرطُوا على الْمولى مُحَمَّد أَن لَا يُحَرك لَهُم مِنْهَا سَاكِنا وانبرم الصُّلْح على ذَلِك وَرجع أهل الدلاء فِي جموعهم فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أطلع الْمولى مُحَمَّد على مَا أوجب الفتك بالشيخ مغفر وَبَعض من شرطُوا عَلَيْهِ بَقَاءَهُ ففتك بهم وَاصْطلمَ نعمتهم فَبلغ ذَلِك أهل الدلاء فَجمعُوا جموعهم ونهضوا إِلَى سجلماسة عازمين على استئصال الْمولى مُحَمَّد وشيعته وَأَن لَا يدعوا لَهُ قَلِيلا وَلَا كثيرا وَكَتَبُوا إِلَيْهِ كتابا يتهددونه فِيهِ ورموه بالغدر وَأَنه ناكث ومقسم حانث وأغلظوا لَهُ فِي الْكَلَام وأفحشوا عَلَيْهِ فِي الملام فأجابهم الْمولى مُحَمَّد برسالة يَقُول فِيهَا إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد الملقب بالحاج ابْن السَّيِّد مُحَمَّد بن أبي بكر بن سيري الوجاري الزموري وَمن شَمله رِدَاء الدِّيوَان من الْأَبْنَاء والإخوان سَلام على جلهم سَلام اسْتِحْبَاب وَسنة فقد كتبناه إِلَيْكُم من سجلماسة كتب الله لَهَا من شركم أَنْفَع التمائم وألبسها من الظفر بكم أرفع العمائم وَبعد السَّلَام فَإِن نيران هَذِه الْفِتَن الَّتِي أضرمتموها بعد خمودها لَسْتُم لَهَا بِأَهْل إِذْ لم يعرفكم أهل الْمغرب إِلَّا بإطعام قصاع العصائد وهجو بَعْضكُم لبَعض بِمَا لَا يسمع من بشيع القصائد أما الْعُلُوم فقد أقررنا لكم فِيهَا إنصافا بِالتَّسْلِيمِ لَو قصدتم بهَا الْعَمَل وَأجر التَّعْلِيم وَايْم الله لَئِن نظم فِينَا الديَّان يَوْمًا من الدَّهْر شَمل الدِّيوَان لتعاينن أَنْت أَو بنوك مَا يُحِبهُ لنا البنون والإخوان وَلَقَد حدث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 السَّادة أهل البصيرة أَن ستدور عَلَيْكُم منا الدائرة المبيرة أتطمعون فِي النجَاة بعد ترويعكم الشرفاء والشريفات والعابدين والعابدات فشمروا إِن شِئْتُم عَن ساعد الْجد للصلح واغتنموا السّلم مَا دَامَ يساعدكم وَقت النجح فَإِن الْحَرْب نَار والتخلف عَنْهَا بعد إيقادها شنار وَالله يعلم أَن هَذِه المراودة لَيست بجزع وَلَا وَجل مِنْكُم وَمَا نشبهكم عِنْد الهراش إِلَّا بِمَا يطيش حول المصابيح من الْفراش بل المُرَاد الأكيد نشر رِدَاء التبري لَيْلًا تجأرون مَتى أنشبنا فِيكُم مخالب التجري وَمَا قذفتم بِهِ أعراضنا من خسة الْقدر وأننا قساة لَا نصغي لقبُول الْعذر فَأنْتم تنهون عَن الْفَحْشَاء وَقد ملأتم مِنْهَا الأجشاء وَإِن زجرتم عَنْهَا قُلْتُمْ كلا وحاشا لَكِن من نتج نَسْلًا نسب إِلَيْهِ وَمن خَافَ من شَيْء يُسَلط عَلَيْهِ وَأما مَا احتوى عَلَيْهِ بِسَاط الغرب مَا بَين بربر وعرب فقد طمعنا من الله كَونه فِي القبضة عِنْدَمَا تمكن إِلَيْهِ النهضة إِن لم أكنه بِالذَّاتِ والديوان فبالأبناء والإخوان كعوائد الدول يشيد الْأَخير مِنْهَا مَا أسسه الأول وَانْظُر مَا يكون لخاطركم بِهِ اطمئنان فنساعدكم عَلَيْهِ الْآن فَللَّه دره من دغوغي أشاع عارك بِأَبْيَات أنشدناها مولَايَ مُحَمَّد بن مبارك (وَاعْلَم بأنك من دجاجل مغرب ... فبعيسى صولة نَصره سَتَمُوتُ) (أَنْتُم عكاكز خلفتكم عاهر ... وَأَبُو يسير جدكم جالوت) (شبانكم مرد وكل كهولكم ... قرنان صَنْعَة شيخكم ديوث) (ضجرت لدولتكم سموات العلى ... واستثقلتها الأَرْض والبهموت) وَمَا أَنْت فِي الْحَقِيقَة إِلَّا قرد من القرود والقراد اللاصق فِي كل كلب مجرود وَمَا حرصتم بِهِ من الصُّلْح بَين الْمُلُوك مكيدة فقد سبقكم بهَا السُّلْطَان أَبُو حمو رَحمَه الله وَحَتَّى الْآن رغبتم فِي الْخَيْر فَهُوَ مطلبي ومغناطيس طبي وَإِن عشقتم الْغَيْر فجوابي لكم قَول المتنبي (وَلَا كتب إِلَّا المشرفية والقنا ... وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على فاس ثمَّ رُجُوعه عَنْهَا كَانَ مُحَمَّد الْحَاج الدلائي مستوليا على فاس بعد سَيِّدي مُحَمَّد العياشي كَمَا قُلْنَا وَكَانَ أهل فاس يمرضون فِي طَاعَته تَارَة ويستقيمون أُخْرَى فولى عَلَيْهِم قائده أَبَا بكر الثاملي وأنزله بدار الْإِمَارَة من فاس الْجَدِيد فاتفق أَن وَقعت بَينه وَبَين أهل فاس الْقَدِيم حَرْب فَحَاصَرَهُمْ وَقطع عَنْهُم المَاء فَكتب أهل فاس إِلَى الْمولى مُحَمَّد بن الشريف يستصرخونه ويضمنون لَهُ الطَّاعَة والنصرة بِمَا شَاءَ من عدد وعدة مَتى قدم عَلَيْهِم واحتل بَين أظهرهم وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك عرب الغرب من الْخَلْط وَغَيرهم فاغتنمها الْمولى مُحَمَّد مِنْهُم وَأَقْبل مسرعا حَتَّى اقتحم دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد منسلخ جمادي الثَّانِيَة سنة سِتِّينَ وَألف وَقبض على أبي بكر الثاملي فسجنه وَبَايَعَهُ أهل البلدين فاس الْقَدِيم وفاس الْجَدِيد مَعًا وَاتَّفَقُوا على نصرته وَالْقِيَام بأَمْره وكتبت لَهُ الْبيعَة بفاس سَابِع رَجَب فَأَقَامَ عِنْدهم نَحْو أَرْبَعِينَ يَوْمًا واتصل الْخَبَر بِمُحَمد الْحَاج فَجهز إِلَيْهِ جَيْشًا كثيفا فبرز إِلَيْهِم الْمولى مُحَمَّد ودافعهم يَوْمًا أَو بعض يَوْم فضعف عَنْهُم وَانْهَزَمَ بظهرالرمكة خَارج فاس يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر شعْبَان سنة تسع وَخمسين وَألف فَأسلم فاسا وانكفأ رَاجعا إِلَى سجلماسة وَدخل أهل فاس الَّذين كَانُوا مَعَه مدينتهم فأغلقوها عَلَيْهِم وحاصرهم الثاملي وَأَصْحَابه وَقطع عَنْهُم المَاء وَجَرت خطوب هلك فِيهَا جمَاعَة من أَعْيَان فاس مِنْهُم عبد الْكَرِيم اللايريني الأندلسي وَمُحَمّد بن سُلَيْمَان وَغَيرهمَا وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف ثمَّ راجعوا طَاعَة أهل الدلاء فولى عَلَيْهِم الْحَاج وَلَده أَحْمد وَلما اسْتَقر بفاس طَالب أَهلهَا بِإِخْرَاج الجناة ورؤوس الْفِتْنَة من ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فتعصب لَهُم الشريف أَبُو الْحسن عَليّ بن إِدْرِيس الجوطي وَقَامَ دونهم ثمَّ عجز واختفى حَتَّى أخرج بالأمان إِلَى زَاوِيَة أهل المخفية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 وَمِنْهَا خرج عَن فاس بِالْكُلِّيَّةِ وسكنت الْفِتْنَة وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف وَاسْتمرّ أَحْمد الدلائي أَمِيرا على فاس إِلَى أَن توفّي فِي عشْرين من ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَألف وَخَلفه أَخُوهُ مُحَمَّد وَمَات سنة سبعين وَألف رحم الله الْجَمِيع ثمَّ وثب على فاس الْجَدِيد أَبُو عبد الله الدريدي فاستولى عَلَيْهِ اسْتِيلَاء الْمولى مُحَمَّد الشريف على وَجدّة وشنه الغارات على تلمسان وأعمالها وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما أيس الْمولى مُحَمَّد بن الشريف من فاس وَالْمغْرب صرف عزمه لتمهيد عمائر الصَّحرَاء وبلاد الشرق فَسَار يتقرى الْحلَل والمداشر والقرى إِلَى أَن بلغ بسيط آنكاد فَبَايَعته الأحلاف وَهُوَ العمارنة والمنبات من عرب معقل وبايعته سقونة مِنْهُم أَيْضا فَسَار بهم إِلَى بني يزناسن وَكَانُوا يَوْمئِذٍ فِي ولَايَة التّرْك فَأَغَارَ عَلَيْهِم وانتهب أَمْوَالهم وامتلأت أيد الْعَرَب من مَوَاشِيهمْ ثمَّ انثنى إِلَى وَجدّة وَكَانَ أَهلهَا يَوْمئِذٍ حزبين بَعضهم قَائِم بدعوة التّرْك وَبَعْضهمْ خَارج عَنْهَا فانحاز الخارجون إِلَى الْمولى مُحَمَّد فأغزاهم بشيعة التّرْك فانتهبوهم وشردوهم عَن الْبَلَد وصفت وَجدّة لَهُ فاستولى عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك أَعْوَام السِّتين وَألف ثمَّ دلته الْعَرَب على أَوْلَاد زكرى وَأَوْلَاد عَليّ وَبني سنوس المجاورين لَهُم فشن عَلَيْهِم الغارات وانتهبهم فَدَخَلُوا فِي طَاعَته ثمَّ سَار إِلَى نَاحيَة ندرومة فشن الْغَارة على مضغرة وقديمة وطرارة وولهاصة وَرجع إِلَى وَجدّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى تلمسان فَأَغَارَ على سرحها وسرح الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا واكتسح بسائطها فبرز إِلَيْهِ أَهلهَا وَمَعَهُمْ عَسْكَر التّرْك الَّذِي كَانَ بالقصبة فأوقع بهم وَقتل مِنْهُم عددا كثيرا وَرجع عوده على بدئه إِلَى وَجدّة فشتى بهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وَلما انصرم فصل الشتَاء خرج على طَرِيق الصَّحرَاء فَأَغَارَ على الجعافرة وانتهب أَمْوَالهم وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك مَحْمُود شيخ حميان من بني يزِيد بن زغبة وهم الْيَوْم فِي عداد بني عَامر بن زغبة فَقدم عَلَيْهِ مَحْمُود الْمَذْكُور فِي قبيلته مبايعا لَهُ ومتمسكا بِطَاعَتِهِ وقدمت عَلَيْهِ أَيْضا دخيسة ففرح بهم وَأكْرمهمْ ودلوه على الأغواط وَعين ماضي والغاسول فنهب تِلْكَ الْقرى وأستولى على أموالها وفرت أَمَامه عرب الْحَارِث وسُويد وحصين من بني مَالك بن زغبة فنزلوا بجبل رَاشد متحصنين بِهِ فَرجع عَنْهُم واضطربت أَحْوَال الْمغرب الْأَوْسَط واشرأبت رعاياه إِلَى الانتفاض على التّرْك وَأخذ باي معسكر يخندق على نَفسه وَبعث إِلَى صَاحب الجزائر الْمُسَمّى عِنْدهم بالدولة يُخبرهُ بِمَا لحق الرعايا من عيث صَاحب سجلماسة فَأخْرج صَاحب الجزائر عساكره وهيأ مدافعه واستعد لِحَرْب الْمولى مُحَمَّد وَقدم نَائِبه بالعساكر إِلَى تلمسان فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى مُحَمَّد اسْتمرّ رَاجعا إِلَى وَجدّة وَفرق الْعَرَب الَّذين كَانُوا مُجْتَمعين عَلَيْهِ وَوَعدهمْ لفصل الرّبيع الْقَابِل ثمَّ قفل إِلَى سجلماسة بعد مَا شب نيران الْحَرْب فِي الإيالة التركية ونسفها نسفا وَضرب أَولهَا بأخرها وَلما وصل عَسْكَر التّرْك إِلَى تلمسان وأخبروا بِرُجُوع الْمولى مُحَمَّد إِلَى تافيلالت سقط فِي أَيْديهم ووجدوا الْبِلَاد خَالِيَة وكل الرعايا قد أجفلت عَن أوطانها وتحصنوا بالجبال وَلم يَأْتهمْ أحد بمؤنة وَلَا خراج وانحرف عَنْهُم أهل تلمسان أَيْضا وَكَانُوا قد ركنوا إِلَى الْمولى مُحَمَّد وخاطبوه فَرَأى التّرْك أَنهم قد شوركوا فِي بِلَادهمْ وزوحموا فِي سلطانهم فَرَجَعُوا إِلَى الجزائر وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ الْآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 مراسلة عُثْمَان باشا صَاحب الجزائر للْمولى مُحَمَّد بن الشريف وَمَا دَار بَينهمَا فِي ذَلِك لما رَجَعَ عَسْكَر التّرْك إِلَى الجزائر وأخبروا صَاحبهَا عُثْمَان باشا الدولة بِحَال الرعايا وَمَا نالها من صَاحب سجلماسة جمع أهل ديوانه وأرباب مشورته وتفاوضوا فِي أَمر الْمولى مُحَمَّد وَكَيف التَّخَلُّص من سطوته فَلم يرَوا أجدى لَهُم من أَن يبعثوا إِلَيْهِ برسالة مَعَ اثْنَيْنِ من أَعْيَان الجزائر وعلمائها واثنين من كبار التّرْك ورؤسائها لأَنهم كَانُوا لَا يتمكنون من حربه لَو أَرَادوا ذَلِك لِأَنَّهُ يُغير ويظفر وينتهب ثمَّ يصحر فَلَا يُمكنهُم التَّعَلُّق بأذياله وَلَا قطع فراسخه وأمياله فبعثوا إِلَيْهِ برسالة من إملاء الْكَاتِب أبي الصون المحجوب الحضري مَعَ الْوَفْد الْمشَار إِلَيْهِ يَقُول فِيهَا الْحَمد لله الَّذِي وصّى وَلَا رخص فِي مدافعه اللص والصائل شريفا أَو مشروفا وَنَصّ وَهُوَ الصَّادِق سُبْحَانَهُ على فَصم عرى أَصله المتأصل مَجْهُولا أَو مَعْرُوفا وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم وعَلى آله تيجان الْعِزّ وبراقع الجباه والخياشم وصحابته صوارم الصولة الحاسمة من الْكفْر الطلي والغلاصم بِالرِّمَاحِ العاملة وَالسُّيُوف القواصم وَلَا زَائِد بعد حمد الله إِلَّا مقصد خطاب الشريف الْجَلِيل الْقدر الصَّادِق اللهجة والصدر من رتق الله بِهِ فتوق وَطنه وَحمى بِهِ من أحزاب الأباطيل أنجاد أرضه وأغوار عطنه حافد مَوْلَانَا عَليّ وسيدتنا البتول وَولد مَوْلَانَا الشريف بن مَوْلَانَا عَليّ السيتل الصؤل سَلام عَلَيْكُم مَا رصعت الجفان سموت البحور ولمعت الْجَوَاهِر الحسان على بَيَاض النحور وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته مَا أساغت مَحْض الْحَلَال ذَكَاته وَبعد فقد كاتبناكم من مُغنِي غنيمَة الْمُقِيم والظاعن والزائر رِبَاط الجريد مَدِينَة ثغر الجزائر صان الله من الْبر وَالْبَحْر عرضهَا وَأمن من زعازع العواصف والقواصف أرْضهَا إلماعا لكم معادن الرياسة وفرسان القيافة والعيافة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 والفراسة فضلا عَن سَمَاء صَحا من الْغَيْم والقتام جوه وضحى نشرت عَلَيْهِ الوديقة وشيا فَفَشَا ضوءه بِأَن شؤون المملكة لم يتوان عَن مَكْنُون علمكُم أمرهَا وَلَا أعوز عزائمكم زيدها وعمرها وَذَلِكَ أَن الْوَهَّاب سُبْحَانَهُ منحكم هَيْبَة وهمة فِي الْجُود والحلم والحماسة وَاخْتَارَ لكم عنوان عنايتها فِي غَابَ الصون سجلماسة لَكِن فاتكم سر رَأْي التَّدْبِير وأركبتم حزمكم جموع الْجَهْل والتبذير مَعَ أَن ذَلِك فِي الْحَقِيقَة دأب كل مؤسس لدولة لَا يجمعها إِلَّا بجنايات الجولة والصولة فخرقت على الإيالة العثمانية جِلْبَاب صونها الْجَدِيد من وَجدّة الأبلق إِلَى حُدُود الجريد فشوشت علينا أَخْلَاق أخلاط الْأَعْرَاب إِلَى أَن تعوقوا علينا فِي أرْفق الْآرَاب وشننت الْغَارة الشعواء على بني يَعْقُوب فحسمت رسمهم على العقيب والعرقوب وغادرت جماهرهم تسْعَى على عِيَالهمْ الزياني والموزونة فِي أسواق مستغانم وديار مازونه وجررت ذيل المذلة على أَطْرَاف الغاسول والأغواط فالتقطتهم بطانتك الْتِقَاط سِبَاع الطير الوطواط وقادك الْجَاهِل الجهم مَحْمُود حيمان لعين ماضي والصوانع وَبني يطفيان فراحت ريَاح وسُويد ينفض كل بَطل مِنْهُم غباره وطينه على طود رَاشد وبليد قسطينة وَلَا كادنا إِلَّا مَا هتكتم من ستر السِّرّ على مرسى أبي الرّبيع السَّيِّد سُلَيْمَان مَعَ أَنكُمْ أولى من يُرَاعِي حرمته وتوقيره ويدافع عَنهُ وَعَمن سواهُ ويرفد فقيره وتنسبون الْعَجم للْجَهْل وَأَنَّهُمْ جُفَاة وأجلاف ثمَّ صرتم بَدَلا وأخلاف خرج جَيش قصبتنا بتلمسان بِمَا لديهم من الرُّمَاة والفرسان فهزمتموهم بقرار وَقَتَلْتُمُوهُمْ قتل مذلة واحتقار فَقُلْنَا هَذَا أقل جَزَاء كل كلب حقير عقور يعرض عرضه لصولة الْأسد الهصور وَلَا وافت الآفته فِي الْغَالِب إِلَّا الْحَضَر مَعَ شيع فِي الأجنة تجني الجنى وَالْخضر كَانَ أَوْلَاد طَلْحَة وهداج وخراج يؤدون لهَذِهِ المثابة مَا ثقل وخف من الْخراج وَلَا يفوتنا من ملازمها وبر وَلَا شعر وَلَا صوف وَلَا سقب وَلَا جدي وَلَا خروف إِلَى أَن طلعت علينا غرَّة شمسك السعيدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 فَعَادَت كل شيعَة قريبَة عَنَّا بعيدَة وأعانك افْتِرَاق الجفاة من أهل وَجدّة وَأَن نصيبك الأوفر مِنْهُم أهل جدة ونجدة ولولاك مَا ثار علينا أهل تلمسان وأنكروا مَا لنا عَلَيْهِم من قديم الحنانة وَالْإِحْسَان وردوا عَلَيْك الساحة والبساط ومرغوبهم أَن تزفر علينا بسطوة الثعبان والساط مَعَ علمنَا اليقيني أَن شجرتنا لَا تضعضع بزعازع حَيَّان وَلَا تندرس وَلَو انهارت عَلَيْهَا جبال جيان وَأَن الْحجر لَا يدق بالطوب والخاطف لَا يطَأ أوطية الخطوب كَذَلِك فِي الْمثل جندك خلال الصَّدْر والورود لَا يصبرون لصواعق البارود وَلَا تنجح حجَّة الدروع والذوابل إِلَّا فِي سوق شن الغارات على حلل الْقَبَائِل وَأما أسوار الجحافل وأدوار الْكَتَائِب فَلَا يصدمها فيهدمها إِلَّا سيول الْخُيُول وَالرُّمَاة الرَّوَاتِب وزنت صولتك لبني عَامر لذاذة النفار لكنف الْكَافِر وداخل الوسواس والسوس جبال طرارة ومضغرة وَبني سنوس والرعايا تود أَن يحتفل لَبنهَا فِي ضروعها لتختزن فِي تبن الخداع سنبل زروعها وَإِن قبلت مِنْهُم الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال تعل طباعها على الدولة فَتَصِير كالأغوال وَإِيَّاك إياك وَالْغرر لما عثرت عَلَيْهِ فِي كتاب الْبونِي وأوراق السُّيُوطِيّ وعَلى بَادِي وَابْن الْحَاج ورسالة أهل سبتة لعبد الْحق بن أبي سعيد المريني بأنك الْمَخْصُوص بصعود تِلْكَ الأدراج ذَلِك مِنْك بعيد الْوُصُول لَا تُدْرِكهُ بالمسرة وَلَا بقبائع النصول وَإِن أوتاد الرّوم وَالتّرْك تتقوض من أَرض الغرب وَلَا يبْقى من ينازعكم فِيهَا بِحَرب وَلَا ضرب لَيْسَ لَك فِي غنيمَة إِدْرَاكه طمع وَلَا سَبِيل لتبديد مَا نظمه حازمنا وَجمع وَقد غرتك أضغاث الأحلام وأغواك ضباب الْغَيْب فَأصْبح ظَنك مِنْهُ فِي غياهب الأظلام فَإِن حرمت بِهِ فَأَنت لَا شكّ حانث وَإِن كَانَ مِنْكُم يَقِينا فرابع أَو ثَالِث أولكم ثَائِر وَالثَّانِي مقتف لَهُ سَائِر وَالثَّالِث لَكمَا أَمِير نائر إِمَّا عَادل أَو جَائِر وَلَا تَمُدَّن بَاعَ المخاطرة إِلَى أوطاننا فتخشى مخالب سطوة سلطاننا أما الشجَاعَة الغريزة فقد علمنَا أَن لَك مِنْهَا بالمهيمن أوفر نصيب وَمِمَّنْ ضرب فِيهَا فَأصَاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 الْغَرَض بِسَهْم مُصِيب لَكِن غَايَة كِفَايَة الشجاع إِذا حمي الْوَطِيس الدفاع سِيمَا فِي هَذَا الْحِين الَّتِي أبخستها عِنْد الْخَلَاص صناعَة البارود والرصاص وجسرك علينا كونك عقَابا على فرع شجر أَو يعسوب نحل احتل صدع حجر لَو رَأَيْت مُلُوك آحَاد أَمْصَار الْبر وَالْبَحْر لعَلِمت أَنَّك مَحْجُوب ومحجور فِي حق ذَلِك الْحجر وتحققت أَن بَين الْأُمَرَاء مداراة ومراعاة وَأَن أَحْوَال الدول أَيَّام وساعات كل أحد يخَاف على صدع فخاره وَيُطلق بخوره تَحت نَتن بخاره وَمَا مرادنا إِلَّا أَمَان الْعَرَب فِي الْمَوَاضِع ليطيب لَهَا جولان الِانْتِقَال فِي المشتاة والمرابع ويجلب إِلَيْهِم الْغَنِيّ والعديم مَا يحصل لَهُ فِيهِ ربح من الكساء والحناء والأديم فَإِن تعلّقت همتك بالإمارة فَعَلَيْك بالمدن الَّتِي حجرها عَلَيْك همج البرابر فَصَارَ يدعى لَهَا بهَا على المنابر فَشد لَهَا حيازيمك لتذوق حلاوة الْملك المعجونة بمرهم النجَاة أَو الهلك دع عَنْك وَطن الرمال والعجاج ومخاطرة النَّفس فِي الفدافد والفجاج فناشدناك جدك من الْأَب وَالأُم وَمَا لَك فِيهِ من أَخ وخال وَعم إِلَّا مَا تجنبت ساحات تلمسان وَلَا زاحمتها بجموع رُمَاة وَلَا فرسَان وَإِن اشتهت الْأَعْرَاب غارات بَعْضهَا على بعض فموعدها مَا نأى عَنَّا من مُطلق الأَرْض وخمسنا أبدا على الْغَالِب لِتَعْلَمُوا أَن رَأْيهمْ عَن مَعَاني الصَّوَاب غَائِب إِذْ كلهم ذَوُو جفَاء ونفار ويعمهم عِنْد الدول مَا يعم الْكفَّار ليبقى بَيْننَا وَبَيْنكُم السّتْر المديد على الدَّوَام ونلغي كَلَام الوشاة من الأقوام وَقد شيعنا نحوكم أَرْبَعَة صِحَاب تسر بمجالستهم الخواطر والرحاب الْفَقِيه الْوَجِيه السَّيِّد عبد الله النفزي والفقيه الأبر السَّيِّد الْحَاج مُحَمَّد بن عَليّ الحضري المزغنائي واثنين من أَرْكَان ديواننا وقواعد إيواننا أتراك سيوط وَغَايَة غرضنا جميل الْجَواب بِمَا هُوَ أصفى وأصدق خطاب وَالله تَعَالَى يوفقنا لِأَحْمَد طَرِيق ويحشرنا مَعَ جدك فِي خير فريق آمين وَالسَّلَام وَكتب فِي منتصف رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام أَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَألف اه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 وَلما وصلت الرُّسُل إِلَى الْمولى مُحَمَّد وَقَرَأَ الْكتاب اغتاظ مِمَّا تضمنه من العتاب فأحضر الرُّسُل وعاتبهم على قَول مرسلهم وتحامله عَلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ نَحن أَتَيْنَاك سفراء برسالة باشا الجزائر فَاكْتُبْ لنا الْجَواب وَلَا تقابلنا بعتاب فَقَالَ صَدقْتُمْ فَكتب إِلَيْهِم بِكِتَاب يَقُول فِي أَوله وَبعد فقد كتبناه إِلَيْكُم من غرَّة جبين الصحارى وصرة أَمْصَار المغارب والبراري مُغنِي سجلماسة الَّتِي هِيَ قَاعِدَة الْعَرَب والبربر الْمُسَمَّاة فِي الْقَدِيم كنز الْبركَة حالتي السّكُون وَالْحَرَكَة وَمضى فِي كِتَابه إِلَى أَن خَتمه وَلم يجبهم إِلَى مَا أَرَادوا وَلما رجعُوا برسالته إِلَى صَاحب الجزائر قَرَأَهَا بِمحضر أَرْبَاب الدِّيوَان ثمَّ ردهم فِي الْحِين دون كتاب وَلما قدمُوا على الْمولى مُحَمَّد ثَانِيَة قَالُوا لَهُ إِنَّه لم يكن لنا علم بِمَا فِي الْكتاب وَلَو اكتفينا بِهِ مَا رَجعْنَا إِلَيْك نَحن جئْنَاك لتعمل مَعنا شَرِيعَة جدك وتقف عِنْد حدك فَمَا كَانَ جدك يحارب الْمُسلمين وَلَا يَأْمر بِنَهْب الْمُسْتَضْعَفِينَ فَإِن كَانَ غرضك فِي الْجِهَاد فرابط على الْكفَّار الَّذين هم مَعَك فِي وسط الْبِلَاد وَإِن كَانَ غرضك فِي الِاسْتِيلَاء على دولة آل عُثْمَان فابرز إِلَيْهَا واستعن بالرحيم الرَّحْمَن فَلَا يكن عَلَيْك فِي ذَلِك ملام فَهَذَا مَا جِئْنَا لَهُ وَالسَّلَام وَأما إيقاد نَار الْفِتْنَة بَين الْعباد فَلَيْسَ من شيم أهل الْبَيْت الأمجاد وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مَا تَفْعَلهُ حرَام لَا يجوز فِي مَذْهَب من مَذَاهِب الْمُسلمين وَلَا قانون من قوانين الأعجام وَهَذَانِ فقيهان من عُلَمَاء الجزائر قد جَاءَا إِلَيْك حَتَّى يسمعا مِنْك مَا تَقوله وَيحكم الله بَيْننَا وَبَيْنك وَرَسُوله فقد تعطلت تِجَارَتِنَا وأجفلت عَن وطننا رعيتنا فَمَا جوابك عِنْد الله فِي هَذَا الَّذِي تَفْعَلهُ فِي بِلَادنَا وَأَنت ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَنه لم يعجزنا أَن نفعله نَحن فِي بِلَادكُمْ ورعيتكم على أننا محمولون على الظُّلم والجور عنْدكُمْ لَكِن تأبى ذَلِك همة سلطاننا فَلَمَّا سمع الْمولى مُحَمَّد كَلَامهم أثر فِيهِ وعظهم وداخلته القشعريرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 وعلاه سُلْطَان الْحق فأذعن لَهُ وَقَالَ وَالله مَا أوقعنا فِي هَذَا الْمَحْذُور إِلَّا شياطين الْعَرَب انتصروا بِنَا على أعدائهم وأوقعونا فِي مَعْصِيّة الله وأبلغناهم غرضهم فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَإِنِّي أعَاهد الله تَعَالَى لَا أعرض بعد هَذَا الْيَوْم لبلادكم وَلَا لرعيتكم بِسوء وَإِنِّي أُعْطِيكُم ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله لَا قطعت وَادي تافنا إِلَى ناحيتكم إِلَّا فِيمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَكتب لَهُم بذلك عهدا إِلَى صَاحب الجزائر وقنع بِمَا فتح الله عَلَيْهِ من سجلماسة ودرعة وأعمالهما وَلم يعد يَغْزُو الشرق وَلَا توجه إِلَيْهِ بعد ذَلِك إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى الرشيد فَكَانَ من أمره مَعَه مَا نذْكر بعد إِن شَاءَ الله ثورة الْمُقدم أبي الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي بِبِلَاد الهبط كَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْخضر غيلَان الجرفطي من أَصْحَاب أبي عبد الله العياشي وَكَانَ مقدما على الْغُزَاة بِبِلَاد الهبط وَلما قتل العياشي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اسْتَقل هُوَ برياسة تِلْكَ الْجِهَة واستمرت حَاله إِلَى ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف فثار بالفحص وزحف إِلَى قصر كتامة فبرز إِلَيْهِ أَهله فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزمُوا واتبعهم الْخضر فاقتحم الْقصر عنْوَة وَقتل جمَاعَة وافرة من أعيانه وفر الْكثير مِنْهُم إِلَى فاس مِنْهُم أَوْلَاد الْفَقِيه عبد الله الْقَنْطَرِي من أَعْيَان الْقصر وَبَقِي الْخضر متغلبا على تِلْكَ النَّاحِيَة وَفِي ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف خرج من فاس المرابط الرئيس أَبُو سلهام بن كدار واتصل بالخضر غيلَان وَصَارَ فِي جملَته وَكَانَ أَبُو سلهام الْمَذْكُور مِمَّن ظَاهر الدلائيين على سَيِّدي مُحَمَّد العياشي فَبَقيَ ذَلِك فِي قلب الْخضر غيلَان حَتَّى قبض على أبي سلهام الْمَذْكُور واعتقله بآصيلا ثمَّ سرحه بعد حِين قَالَه فِي نشر المثاني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 وَفَاة الْمولى الشريف بن عَليّ رَحمَه الله كَانَ الْمولى الشريف بن عَليّ بسجلماسة وأعمالها على مَا وصفناه قبل من الوجاهة والرئاسة والسيادة ممتثل الْأَمر متبوع الْعقب مُنْذُ نَشأ ثمَّ بَايعه أهل سجلماسة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف ونازعه بَنو الزبير أَصْحَاب تابوعصامت وَبِذَلِك استصرخ عَلَيْهِم أَبَا حسون السملالي حَتَّى ملك سجلماسة كَمَا مر وَلما تخلص من نكبة السوس وَعَاد إِلَى سجلماسة وجد ابْنه الْمولى مُحَمَّدًا قد قَامَ بِالْأَمر بعده فتخلى لَهُ عَنهُ وَقطع بَقِيَّة عمره فِيمَا يُرْضِي الله تَعَالَى إِلَى أَن أَتَاهُ الْيَقِين ثَالِث عشر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف بسجلماسة مسْقط رَأسه ومقر عزه ومنبت أشباله ومدرج ملوكه وأقياله وجددت الْبيعَة للْمولى مُحَمَّد ففارقه أَخُوهُ الْمولى الرشيد فَخرج إِلَى الْجبَال فَبَقيَ متنقلا فِي أحيائها إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ إغارة الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على عرب الحياينة من أَعمال فاس وَمَا يتبع ذَلِك لما كَانَ آخر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف أغار الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على زرع الحياينة بأحواز فاس فانتسفه وأفسده وَوَقعت عقب ذَلِك مجاعَة عَظِيمَة أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد وَخرج أهل فاس يستغيثون بِأَهْل الدلاء وَكَانَ الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن عَليّ بن طَاهِر الحسني قد قدم فاسا بِقصد أَن يبايعه أَهلهَا فَلم يُجِيبُوهُ وَقيل بل نَصره بَعضهم وَخرج إِلَى عرب الحياينة فَذهب بهم إِلَى قتال الْمولى مُحَمَّد بن الشريف فَلم يلقه وَفِي أَوَائِل سنة أَربع وَسبعين وَألف حَاز طاغية النجليز طنجة من يَد البرتغال قَالَ فِي الْبُسْتَان لضعفهم عَن مقاومة الْمُسلمين يَوْمئِذٍ بِسَبَب أَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 الْمُسلمين غزوهم فِي هَذِه الْأَيَّام فَقتلُوا مِنْهُم سِتّمائَة مقَاتل ثمَّ غزوهم فَقتلُوا مِنْهُم أَرْبَعمِائَة أُخْرَى وَقَالَ منويل القشتيلي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب الْأَقْصَى سَبَب ذَلِك أَن طاغية البرتغال وَهُوَ إخْوَان السَّادِس يُقَال بِالْخَاءِ وَالْجِيم أَرَادَ تَأْكِيد الْمحبَّة بَينه وَبَين طاغية النجليز وَهُوَ كارلوس الثَّانِي فَزَوجهُ أُخْته وجهزها إِلَيْهِ بمفاتيح طنجة فَبَقيت بِيَدِهِ اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنْهَا للْمُسلمين اهـ قيام الْمولى الرشيد بن الشريف على أَخِيه الْمولى مُحَمَّد ومقتل الْأَخ الْمَذْكُور رَحمَه الله قد قدمنَا مَا كَانَ من فرار الْمولى الرشيد عَن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد يَوْم وَفَاة أَبِيهِمَا رَحمَه الله فَذهب الْمولى الرشيد يَوْمئِذٍ إِلَى تدغة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ سَار إِلَى دمنات فَأَقَامَ بهَا مُدَّة أَيْضا ثمَّ أَتَى زَاوِيَة أهل الدلاء فَأَقَامَ عِنْدهم مَا شَاءَ الله فَيُقَال إِن بعض أهل الزاوية أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخرُوجِ مِنْهَا خوفًا عَلَيْهِ من الفتك بِهِ لِأَن الدلائيين كَانُوا يَزْعمُونَ فِيمَا عِنْدهم من الْعلم أَن خلاء زاويتهم يكون على يَده فَقبل الْمولى الرشيد إِشَارَته ثمَّ خرج إِلَى جبل آصرو فَأَقَامَ بِهِ بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ توجه إِلَى فاس وَمَعَهُ نفر قَلِيل فَبَاتَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد فَأكْرم رئيسها أَبُو عبد الله الدريدي ضيافته وَمن الْغَد ارتحل عَنْهَا إِلَى تازا ثمَّ إِلَى عرب الأحلاف قَالَ فِي النزهة إِلَى أَن أدته خَاتِمَة المطاف إِلَى قَصَبَة الْيَهُودِيّ ابْن مشعل وَكَانَ لهَذَا الْيَهُودِيّ أَمْوَال طائلة وذخائر نفسية ولع على الْمُسلمين صولة وَكَانَ لهَذَا الْيَهُودِيّ أَمْوَال طائلة وذخائر نفيسة وَله على الْمُسلمين صولة واستهانة بِالدّينِ وَأَهله فَلم يزل الْمولى الرشيد يفكر فِي كَيْفيَّة اغتيال الْيَهُودِيّ الْمَذْكُور إِلَى أَن أمكنه الله مِنْهُ فِي خبر طَوِيل فَقتله وَاسْتولى على أَمْوَاله وذخائره وفرقها فِيمَن تبعه وانضاف إِلَيْهِ من عرب آنكاد وَغَيرهم فقوي عضده وَكثر جمعه اهـ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 وَقَالَ صَاحب نشر المثاني إِن الْمولى الرشيد لما رَحل عَن فاس قدم على الشَّيْخ أبي عبد الله اللواتي بأحواز تازا وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور ينتحل طَريقَة الْفقر ويعظم أهل الْبَيْت فَبَالغ فِي إكرامه فَبَيْنَمَا هُوَ مُقيم عِنْده إِذْ رأى ذَات يَوْم رجلا ذَا هَيْئَة من مماليك وَأَتْبَاع وخيل وَهُوَ يصطاد كَهَيئَةِ الْمُلُوك فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل لَهُ هَذَا ابْن مشعل من يهود تازا فَانْصَرف الْمولى الرشيد وَجعل مدية فِي فَمه وَجَاء إِلَى الشَّيْخ اللواتي فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ على تِلْكَ الْحَال أعظم ذَلِك وَقَالَ لَهُ المَال والرقبة لَك يَا سَيِّدي فَمَا الَّذِي دهاك قَالَ تَأمر جمَاعَة من عشيرتك يَسِيرُونَ معي حَتَّى أفتك بِهَذَا الْيَهُودِيّ غيرَة على الدّين فَقَالَ قد فعلت لَا يتَخَلَّف عَنْك مِنْهُم أحد فَاخْتَارَ الْمولى الرشيد مِنْهُم جمَاعَة وواعدهم على تبييت الْيَهُودِيّ واقتحام دَاره عَلَيْهِ وَكَانَ الْيَهُودِيّ قد اتخذ دَارا بِالْبَيْدَاءِ على نَحْو مرحلة من تازا فِي جِهَة الشرق فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْموعد تقدم الْمولى الرشيد إِلَى دَار ابْن مشعل فِي صُورَة ضيف فأضافه ابْن مشعل وَلما انتصف اللَّيْل أحَاط أَصْحَابه بِالدَّار وكبس الْمولى الرشيد الْيَهُودِيّ فِي بعض خلواته فَقتله وَأدْخل الرِّجَال فاستولى على دَار ابْن مشعل بعد الفتك بِأَصْحَابِهِ وحراسه وعثر فِيهَا على أَمْوَال كَثِيرَة وذخائر نفيسة وَقيل وَهُوَ الشَّائِع عِنْد بني يزناسن أَن ابْن مشعل الْمَذْكُور كَانَ مُقيما بَين أظهرهم قد اتخذ حصنا بِبَعْض جبالهم وهم محدقون بِهِ فَجَاءَهُمْ الْمولى الرشيد وَلم يزل يلاطفهم فِي شَأْن الْيَهُودِيّ حَتَّى أثر كَلَامه فيهم ونما إِلَى الْيَهُودِيّ بعض ذَلِك وَأَنَّهُمْ مسلموه فَنزل إِلَى الْمولى الرشيد بهدية نفيسة يسترضيه بهَا فَلم يكن بأسرع من أَن قبض عَلَيْهِ وَقَتله وَتقدم إِلَى الدَّار فاستولى عَلَيْهَا واستخرج مَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ ثمَّ إِن الْمولى الرشيد دَعَا لنَفسِهِ أَعْرَاب الشرق وَجمع كلمتهم وَنزل وَجدّة واتصل ذَلِك كُله بأَخيه الْمولى مُحَمَّد صَاحب سجلماسة فتخوف مِنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 لما يعلم من صرامته وشهامته فَنَهَضَ لقتاله وَالْقَبْض عَلَيْهِ فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ ببسيط آنكاد كَانَت أول رصاصة فِي نحر الْمولى مُحَمَّد فَكَانَ فِيهَا حتفه وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع من الْمحرم سنة خمس وَسبعين وَألف وَدفن بدار ابْن مشعل فأسف الْمولى الرشيد لقَتله وَأظْهر الْحزن عَلَيْهِ وَتَوَلَّى تَجْهِيزه بِنَفسِهِ فَحَمله إِلَى بني يزناسن ووراه هُنَالك فِي رمسه رَحمَه الله وَغفر لَهُ وَكَانَ الْمولى مُحَمَّد شجاعا مقداما لَا يُبَالِي بالعظائم وَلَا يخْطر بِبَالِهِ خوف الرِّجَال وَلَا يدْرِي مَا هِيَ النكبات والأوجال وَتقدم وصف أهل الدلاء لَهُ بقَوْلهمْ الأجدل الَّذِي لَا تؤده هموم اللَّيَالِي وَلَا حرارة قيظ المصيف عِقَاب أَشهب على قنة كل عقبَة لَا يقنعه المَال دون حسم الرَّقَبَة وشجاعته شهيرة وَكَانَ مَعَ ذَلِك قَوِيا فِي بدنه أيدا فِي أَعْضَائِهِ وجسمه لَا يُقَاوم فِي الصراع وَلَا يزاول فِي الدفاع حُكيَ أَنه فِي بعض أَيَّام حصاره لتابوعصامت جعل يَده فِي بعض ثقب الْحصن وَصعد عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصى من النَّاس حَتَّى كَأَنَّهَا خَشَبَة مَنْصُوبَة ولبنة مَضْرُوبَة وَكَانَ سخيا جدا حَتَّى أَنه أعْطى الأديب الشهير الْمُتَقَدّم فِي صناعَة الشّعْر المعرب والملحون أَبَا عُثْمَان سعيدا التلمساني صَاحب القصيدة العقيقية وَغَيرهَا نَحوا من خَمْسَة وَعشْرين رطلا من خَالص الذَّهَب جَائِزَة لَهُ على بعض أمداحه فِيهِ وحكاياته فِي هَذَا الْمَعْنى شهيرة وَلما قتل رَحمَه الله قَامَ بسجلماسة وَلَده الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير مقَامه لَكِن لم يتم لَهُ أَمر وَسَيَأْتِي بعض خَبره إِن شَاءَ الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد بن الشريف رَحمَه الله لما قتل الْمولى مُحَمَّد بن الشريف رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وانحشرت جموعه كلهَا إِلَى أَخِيه الْمولى الرشيد فَبَايعُوهُ الْبيعَة الْعَامَّة وَدخل فِي طَاعَته الأحلاف وَبَنُو يزناسن وَغَيرهم وَبعث إِلَى أهل تِلْكَ النواحي كلهَا من الْعَرَب والبربر يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة واجتماع الْكَلِمَة فَقدمت عَلَيْهِ وفودهم بالهدايا وَكتب من كَانَ مَعَ اخيه فِي ديوَان جَيْشه وكساهم وَأَعْطَاهُمْ الْخَيل وَالسِّلَاح وَعظم أمره وَعلا كَعبه ثمَّ احْتَاجَ إِلَى المَال وَكَانَ قد أَخذ ولد الْيَهُودِيّ ابْن مشعل يَوْم قتل أَبَاهُ فَجَاءَت أمه تطلب فداءه فتفرس فِيهَا وماطلها بِهِ ثمَّ قَالَ لَا أسرحه حَتَّى تدليني على مَال زَوجك أَو أَقتلهُ فأنعمت لَهُ بذلك وَركب مَعهَا إِلَى القصبة فدلته على خزانَة فِي بَيت فَنقبَ عَنْهَا فلقي فِيهَا خوابي مَمْلُوءَة ذَهَبا وَفِضة فاستخرجها وارتاش بِتِلْكَ الْأَمْوَال وَفرق مِنْهَا على من مَعَه من الْعَرَب والبربر وَسَائِر الأجناد فحسنت حَاله وحالهم وعد ذَلِك من سعادته وَلما قضى إربه ورتب جنده بعث رسله إِلَى الْآفَاق بالأعذار والإنذار والوعود والوعيد لأهل الطَّاعَة والعصيان ثمَّ سَار على أَثَرهم قَاصِدا فتح الْمغرب الَّذِي كَانَ قد تعذر على أَخِيه من قبله فَنزل على وَادي ملوية وَأقَام بِهِ أَيَّامًا للاستراحة وانتظار من يَأْتِيهِ من أهل تِلْكَ النواحي مثل جاوت والريف وَغَيرهمَا فَلم يَأْته أحد وَالله غَالب على أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 فتح مَدِينَة تازا ثمَّ سجلماسة وَمَا تخَلّل ذَلِك لما أَقَامَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله على ملوية وَلم يَأْته من أهل الْمغرب أحد تقدم إِلَى تازا فاقتحمها بعد محاربة طَوِيلَة وَبَايَعَهُ أَهلهَا والقبائل الَّتِي حولهَا وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بِأَهْل فاس اجْتَمعُوا مَعَ جيرانهم من عرب الحياينة والبهاليل وَأهل صفر وَغَيرهم وتحالفوا على حَرْب الْمولى الرشيد وَعدم بيعَته بِحَال ظنا مِنْهُم أَنه يفعل بهم مَا فعله أَخُوهُ الْمولى مُحَمَّد بالحياينة من النهب وَالْقَتْل وَأمر رُؤَسَاء فاس عامتها بشرَاء الْخَيل وَالْعدة والإكثار مِنْهَا ووظفوا على كل دَار مكحلة وَمن لم تُوجد عِنْده مكحلة مِنْهُم يُعَاقب فاشتروا من ذَلِك فَوق الْكِفَايَة وَخَرجُوا إِلَى بَاب الْفتُوح لعرض الْخَيل وَالسِّلَاح وَعمِلُوا اللّعب الْمُسَمّى بالميز واجتمعوا أَيْضا مَعَ الحياينة وأكدوا الْحلف على حَرْب الْمولى الرشيد وَلما بلغه خبرهم وَمَا هم عَلَيْهِ أعرض عَنْهُم وَعدل إِلَى سجلماسة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ صَوَابا فِي الرَّأْي إِذْ قدم الأسهل فالأسهل وَتَنَاول الأخف فالأخف وَلما أَنَاخَ على سجلماسة حاصرها نَحْو تِسْعَة أشهر إِلَى أَن فر عَنْهَا ابْن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير المنتزى بعد أَبِيه كَمَا مر فَخرج مِنْهَا لَيْلًا ودخلها الْمولى الرشيد وَاسْتولى عَلَيْهَا وسد فرجهَا ورتب حاميتها ومهد أطرافها وَرجع إِلَى تازا فاحتل بهَا وَلكُل أجل كتاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 حِصَار مَدِينَة فاس ثمَّ فتحهَا والإيقاع بثوارها لما قفل الْمولى الرشيد رَحمَه الله من سجلماسة إِلَى تازا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا فاتفق أهل فاس مَعَ أحلافهم من الحياينة أَن يُغيرُوا عَلَيْهِ بمستقره مِنْهَا ويبدأوه بِالْحَرْبِ قبل أَن يبدأهم ليَكُون ذَلِك كاسرا من شوكته وفاتا فِي عضده فتأهبوا للحرب وَخَرجُوا فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين وَألف وَلما قابلوا محلته افْتَرَقت كلمتهم وَرَجَعُوا منهزمين من غير قتال فَتَبِعهُمْ الْمولى الرشيد إِلَى قنطرة نهر سبو خَارج فاس ثمَّ رَجَعَ عَنْهُم فبعثوا إِلَيْهِ فِي الصُّلْح فَلم يتم بَينه وَبينهمْ صلح إِلَى أَن ملك أَطْرَاف الْمغرب كُله وَكَانَ ذَلِك من حسن تَدْبيره وترتيبه الْأُمُور ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَألف فَفِي صفر مِنْهَا زحف إِلَى فاس وحاصرها وقاتلها ثَلَاثَة أَيَّام فأصابته رصاصة فِي طرف أُذُنه وَرجع سالما ثمَّ عَاد إِلَى حصارها مرّة أُخْرَى فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَقتل وَنهب وَرجع إِلَى تازا لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِقصد فتحهَا ثمَّ توجه إِلَى الرِّيف بِقصد الرئيس أبي مُحَمَّد عبد الله آعراس الثائر بِهِ فَكَانَت بَينهمَا وقعات وحاصره فِي بعض حصونه إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ فِي رَمَضَان من السّنة فَعَفَا عَنهُ واستبقاه وكر رَاجعا إِلَى فاس فَنزل عَلَيْهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة وقاتلها قتالا شَدِيدا إِلَى ثَالِث ذِي الْحجَّة فاقتحم فاسا الْجَدِيد من أَعلَى السُّور من نَاحيَة الملاح وفر أميرها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله الدريدي وَهَذَا الدريدي كَانَ فِي جملَة من إخوانه بني دُرَيْد بن أثبج الهلاليين وَكَانُوا فِي ديوَان السعديين وَلما بَايع أهل فاس الرئيس أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي كَانَ الدريدي هَذَا فِي عسكره فَلَمَّا فشلت ريح أهل الدلاء بالمغرب نزع عَنْهُم واستبد بفاس الْجَدِيد وحالف أهل فاس الْقَدِيم على حَرْب الدلائيين ثَالِث جُمَادَى الثَّانِيَة سنة أَربع وَسبعين وَألف وَقد كَانَ أَحْمد بن صَالح الليريني رَئِيس أهل عدوة الأندلس قد خطب ابْنة الدريدي لوَلَده صَالح بن أَحْمد فَزَوجهُ إِيَّاهَا والتحم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 مَا بَينهمَا فَكَانَ الدريدي يَشن الغارات على قبائل البربر الَّذين بأحواز مكناسة وَغَيرهَا وَيَأْتِي بالنهب والطبل يقرع عَلَيْهِ إِلَى أَن يدْخل دَار الْإِمَارَة وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن اقتحم عَلَيْهِ الْمولى الرشيد فاسا كَمَا قُلْنَا ففر إِلَى منجاته وَقَالَ فِي النزهة بل قَتله الْمولى الرشيد وَسكن هيعة فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد زحف إِلَى فاس الْقَدِيمَة فحاصرها وقاتلها فضعفوا عَن مقاومته وفر رَئِيس اللمطيين ابْن الصَّغِير وَولده لَيْلًا إِلَى بستيون بَاب الجيسة وَلما طلع الْفجْر فر أَيْضا رَئِيس عدوة الأندلس أَحْمد بن صَالح فَرَأى أهل فاس أَن أَمرهم قد ضعف وكلمتهم قد افْتَرَقت فَخَرجُوا إِلَى الْمولى الرشيد وَبَايَعُوهُ وَاجْتمعت كلمتهم عَلَيْهِ فَبعث فِي طلب ابْن صَالح فَوجدَ بحوز الْمَدِينَة فجيء بِهِ وسجن بِبَاب دَار ابْن شقراء لفاس الْجَدِيد ثمَّ قتل وَقتل مَعَه عدَّة من أَصْحَابه ثمَّ قبض على ابْن الصَّغِير وَولده وَبعد سَبْعَة أَيَّام أَمر السُّلْطَان بِقَتْلِهِمَا فقتلا واستقام أَمر فاس وصلحت أحوالها قَالَ فِي النزهة افْتتح أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد فاسا الْقَدِيمَة فَحكم السَّيْف فِي رؤسائها وأفناهم قتلا فتمهدت الْبِلَاد وَاجْتمعت الْكَلِمَة وَكَانَ دُخُوله حَضْرَة فاس الْقَدِيمَة صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وَألف وبويع بهَا يَوْمه ذَلِك وَلما تمت لَهُ الْبيعَة أَفَاضَ المَال على علمائها وغمرهم بجزيل الْعَطاء وَبسط على أَهلهَا جنَاح الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة وَأظْهر إحْيَاء السّنة وَنصر الشَّرِيعَة فَحل من قُلُوبهم بِالْمَكَانِ الأرفع وتمكنت محبته من قُلُوب الْخَاصَّة والعامة اهـ وَولي قَضَاء فاس السَّيِّد حمدون المزوار ثمَّ خرج إِلَى بِلَاد الغرب فقصد الْخضر غيلَان الثائر بِبِلَاد الهبط وَكَانَ بقصر كتامة فزحف إِلَيْهِ الْمولى الرشيد فَانْهَزَمَ الْخضر إِلَى آصيلا وَرجع الْمولى الرشيد عَنهُ إِلَى فاس أَوَائِل ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَألف فَكتبت لَهُ الْبيعَة بفاس وقرئت بَين يَدَيْهِ قبل زَوَال يَوْم السبت الثَّامِن عشر من ربيع الأول الْمَذْكُور ثمَّ فِي شهر ربيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 الثَّانِي من السّنة غزا الْمولى الرشيد أحواز مكناسة وَقصد آيت واللال من البربر شيعَة مُحَمَّد الْحَاج الدلائي فأوقع بهم وَرجع عوده على بدئه وَبعد رُجُوعه نزل مُحَمَّد الْحَاج بجموع البربر قرب وَادي فاس بِأبي مزورة من أحواز فاس فقاتله الْمولى الرشيد ثَلَاثًا وَرجع كل إِلَى وَطنه ثمَّ خرج الْمولى الرشيد إِلَى تازا وأعمالها حادي عشر رَجَب ففقدها وَرجع إِلَى فاس فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ عزل العقيد قَائِد مكناسة ثمَّ خرج ثَانِي يَوْم النَّحْر من السّنة إِلَى بني زروال فأوقع بالشريف النابغ فيهم وَبعث بِهِ مَحْبُوسًا إِلَى فاس فَدَخلَهَا ثَانِي محرم سنة ثَمَان وَسبعين وَألف ثمَّ مَال الْمولى الرشيد إِلَى تطاوين فَقبض على رئيسها أبي الْعَبَّاس النقسيس فِي جمَاعَة من حزبه وَقدم بهم إِلَى فاس فسحبهم بهَا أَوَائِل ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَألف إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ فتح زَاوِيَة الدلائي وتغريب أَهلهَا إِلَى فاس وتلمسان وَمَا يتبع ذَلِك لما كَانَت ضحوة يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي عشر من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَألف خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله غازيا زَاوِيَة أهل الدلاء وَكَانَ قد أسْند الْفَتْوَى إِلَى الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الفاسي فلقي جموع الدلائيين وَعَلَيْهِمَا ولد مُحَمَّد الْحَاج بِبَطن الرُّمَّان من فازاز فانتشبت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ مَلِيًّا ثمَّ انهزم الدلائيون وَرَجَعُوا يقفون أَثَرهم إِلَى الزاوية قَالَ الشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله فِي محاضراته كَانَ الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْحَاج الدلائي قد ملك الغرب بسنين عديدة واتسع هُوَ وَأَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَنُو عَمه فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا قَامَ السُّلْطَان الْمولى الرشيد بن الشريف وَلَقي جموعهم بِبَطن الرُّمَّان ففضها دَخَلنَا على الرئيس أبي عبد الله الْمَذْكُور وَكَانَ لم يحضر المعركة لعَجزه وَكبر سنه يَوْمئِذٍ فَدخل عَلَيْهِ أَوْلَاده وَإِخْوَته وأظهروا لَهُ عَجزا شَدِيدا وضيقا عَظِيما فَلَمَّا رأى مِنْهُم ذَلِك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 قَالَ لَهُم مَا هَذَا إِن قَالَ لكم حسبكم فحسبكم يُرِيد الله تَعَالَى قَالَ اليوسي وَهَذَا كَلَام عَجِيب وَإِلَيْهِ يساق الحَدِيث وَالْمعْنَى إِن قَالَ الله تَعَالَى لكم حسبكم من الدُّنْيَا فكفوا راضين مُسلمين اه وَكَانَ اسْتِيلَاء الْمولى الرشيد على الزاوية فِي ثامن الْمحرم سنة تسع وَسبعين وَألف وَلما خرج إِلَيْهِ أَهلهَا عَفا عَنْهُم وَلم يرق مِنْهُم دَمًا وَلَا كشف لَهُم سترا حلما وكرما مِنْهُ رَحمَه الله قَالَ فِي النزهة لما وَقعت الْهَزِيمَة على أهل الدلاء دخل الْمولى الرشيد الزاوية وَأمر بِمُحَمد الْحَاج وَأَوْلَاده وأقاربه أَن يحملوا إِلَى فاس ويسكنوا بهَا فحملوا إِلَيْهَا واستوطنوها مُدَّة ثمَّ أَمر أَن يذهب بهم إِلَى تلمسان فغربوا إِلَيْهَا وسكنوها مُدَّة وَحَدثُوا أَن مُحَمَّدًا الْحَاج رَحمَه الله لما دخل تلمسان قَالَ كنت وجدت فِي بعض كتب الْحدثَان أَنِّي أَدخل تلمسان فَظَنَنْت أَنِّي أدخلها دُخُول الْمُلُوك فدخلتها كَمَا ترَوْنَ وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن عِنْد ضريح الإِمَام السنوسي رَضِي الله عَنهُ وَلما توفّي الْمولى الرشيد رَجَعَ أَوْلَاده وأقاربه إِلَى فاس فاستوطنوها بِإِذن من السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل وَلما دخل الْمولى الرشيد الزاوية غير محاسنها وَفرق جموعها وطمس معالمها وَصَارَت حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس بعد أَن كَانَت مشرقة إشراق الشَّمْس فمحت الْحَوَادِث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بِأبي بكر وبنيه وابتهجت وفاحت من شذاهم وتأرجت ارتحل عَنْهَا فرسَان الأقلام الَّذين ينجاب بِوُجُوهِهِمْ الظلام وَبَانَتْ عَنْهَا ربات الْخُدُور وأقامت بهَا أتافي الْقُدُور وَلَقَد كَانَ أَهلهَا يعفون آثَار الرِّيَاح فعفت آثَارهم وَذَهَبت اللَّيَالِي بأشخاصهم وأبقت أخبارهم فثل ذَلِك الْعَرْش وَعدا الدَّهْر حِين أَمن من الْأَرْش وَلم يدْفع الرمْح وَلَا الحسام وَلم تَنْفَع تِلْكَ المنن الجسام فسحقا لدُنْيَا مَا رعت لَهُم حقوقا وَلَا أبقت لَهُم شروقا وَهِي الْأَيَّام لَا تَقِيّ من تجنيها وَلَا تبقي على مواليها ومدانيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 أذهبت آثَار جلق وأخمدت نَار المحلق وذللت عزة ابْن شَدَّاد وهدت الْقصر ذِي الشرفات من سنداد وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الْكتاب يَوْمًا أَجله وَلَقَد أحسن رَبِّي نعمتهم الْمقر بإحسانهم ومنتهم شيخ مَشَايِخ الْمغرب على الْإِطْلَاق الإِمَام الَّذِي وَقع على علمه وَعَمله الِاتِّفَاق أَبُو عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي رَحمَه الله فِي رائيته الَّتِي رثى بهَا الزاوية الْمَذْكُورَة وَبكى أَيَّامهَا يَقُول فِي مطْلعهَا (أكلف جفن الْعين أَن ينثر الدرا ... فيأبى ويعتاض العقيق بهَا خمرًا) وَهِي طَوِيلَة شهيرة قلت وَلم يُصَرح فِيهَا بِأَسْمَائِهِمْ مُرَاعَاة لجَانب السُّلْطَان وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِب وَالْمُنَاسِب فرحم الله الشَّيْخ اليوسي مَا كَانَ أعرفهُ بمقتضيات الْأَحْوَال فتح مراكش ومقتل الْأَمِير أبي بكر الشباني وشيعته لما فرغ الْمولى الرشيد رَحمَه الله من أَمر الزاوية توجه إِلَى مراكش فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر من السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَألف فاستولى عَلَيْهَا وَقتل رئيسها أَبَا بكر بن عبد الْكَرِيم الشباني وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَقَالَ فِي النزهة لما بلغ أَبَا بكر الشباني وَقَومه مسير الْمولى الرشيد إِلَيْهِم خَرجُوا فارين بِأَنْفسِهِم من مراكش إِلَى شَوَاهِق الْجبَال لما خامر قُلُوبهم من رعبه فَدخل الْمولى الرشيد مراكش وأفنى من وجد بهَا من الشبانات وَقبض على أبي بكر وَبني عَمه فعرضهم على السَّيْف واستنزل تِلْكَ الفئة الشريدة من الصَّيَاصِي وَأخذ مِنْهُم بالأقدام والنواصي وَأخرج عبد الْكَرِيم من قَبره فأحرقه بالنَّار وَلما فتح مراكش قَامَ بهَا نَحْو شهر ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي هَذِه السّنة خرج الْمولى مُحَمَّد الصَّغِير من تافيلالت فِي شيعته وخلى سَبِيل الْبَلَد وفيهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 أَيْضا ركب الْخضر غيلَان الْبَحْر إِلَى الجزائر وخلى سَبِيل آصيلا وَلما رَجَعَ الْمولى الرشيد إِلَى فاس عزل أَبَا عبد الله الفاسي عَن الْفَتْوَى وعزل الْفَقِيه المزوار عَن قَضَائهَا منسلخ جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وَولى الْقَضَاء الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن المجاصي والخطابة بِجَامِع الْقرَوِيين الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّدًا البوعناني وَفِي منتصف رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة غزا الْمولى الرشيد بِلَاد الشاوية وَرجع إِلَى فاس فِي سَابِع رَمَضَان الْعَام فَعَفَا عَن بعض أهل الدلاء وَبَقِي الْآخرُونَ بضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم إِلَى تَمام السّنة فَعَفَا عَن الْجَمِيع وردهم إِلَى بِلَادهمْ إِلَّا مَا كَانَ من مُحَمَّد الْحَاج وبنيه فَإِنَّهُم غربوا إِلَى تلمسان وَمَات هُوَ هُنَالك وَلما ولي الْأَمر الْمولى إِسْمَاعِيل وَقعت الشَّفَاعَة فِي الْأَوْلَاد فَرَجَعُوا إِلَى فاس كَمَا مر وَفِي يَوْم السبت سَابِع عشر ذِي الْحجَّة من السّنة غزا الْمولى الرشيد آيت عَيَّاش من برابر صنهاجة وفيهَا أَمر بِضَرْب السِّكَّة الرشيدية وأقرض تجار فاس وَغَيرهَا اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مِثْقَال بِقصد التِّجَارَة إِلَى أَن ردوهَا بعد سنة وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا حَاز طاغية الإصبنيول مَدِينَة سبته من يَد البرتغال فِي سَبِيل مشارطة وَقعت بَينهم فِي مَدِينَة أشبونة واستمرت فِي يَد الإصبنيول إِلَى الْآن بِنَاء قنطرة وَادي سبو خَارج فاس وَفِي يَوْم السبت الرَّابِع عشر من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَسبعين وَألف أَمر الْمولى الرشيد بِبِنَاء قنطرة نهر سبو الأقواس الْأَرْبَعَة خَارج فاس فَأخذُوا فِي تهيئة الْأَسْبَاب وحفر الأساس وَفِي منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَمَانِينَ وَألف شرعوا فِي الْبناء بالآجر والجير فكملت على أحسن حَال وَلما تكلم الشَّيْخ اليوسي فِي المحاضرات على الحَدِيث الصَّحِيح إِن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 أخنع الْأَسْمَاء عِنْد الله رجل تسمى بِملك الْأَمْلَاك قَالَ مَا نَصه وَمن البشيع الْوَاقِع فِي زَمَاننَا فِي الْأَوْصَاف أَنه لما بنى السُّلْطَان الْمولى الرشيد بن الشريف جسر نهر سبو صنع بَعضهم يَعْنِي القَاضِي أَبَا عبد الله المجاصي أبياتا كتبت فِيهِ برسم الْأَعْلَام أَولهَا (صاغ الْخَلِيفَة ذَا الْمجَاز ... ملك الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز) قَالَ فَحَمله اقتناص هَذِه السجعة والتغالي فِي الْمَدْح والاهتبال بالاسترضاء على أَن جعل ممدوحه ملكا حَقِيقِيًّا لَا مجازيا وَإِنَّمَا ذَلِك هُوَ الله وَحده وكل ملك دونه مجَاز الممدوح وَغَيره اه وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب خرج الْمولى الرشيد غازيا الْأَبْيَض فَقبض على أَوْلَاد أخي الْأَبْيَض وَلما وصل إِلَى تازا أَمر بِقَتْلِهِم فَقتلُوا ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت فَأمر بتسريح المساجين وَإِخْرَاج الصَّدقَات فعافاه الله وَفِي منتصف ذِي الْقعدَة من السّنة أَمر بإعمال وَلِيمَة الْعرس لِأَخِيهِ الْمولى إِسْمَاعِيل بدار ابْن شقراء من حَضْرَة فاس الْجَدِيد قَالَ اليفرني احتفل الْمولى الرشيد فِي ذَلِك الْعرس بِمَا لم يعْهَد مثله اه وَكَانَت الْعَرُوس من بَنَات الْمُلُوك السعديين وَفِي شَوَّال من السّنة جدد قنطرة الرصيف بفاس وَالله أعلم فتح تارودانت وإيليغ وَسَائِر السوس قد قدمنَا أَن أَبَا حسون السملالي كَانَ مستوليا على بِلَاد السوس فاستمر حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي سنة سبعين وَألف وَكَانَ رَحمَه الله لين الْجَانِب مَحْمُود السِّيرَة مَوْصُوفا بالعفة متوقفا فِي الدِّمَاء وَلما هلك خَلفه وَلَده أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي حسون فَلَمَّا كَانَت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف غزا الْمولى الرشيد رَحمَه الله بِلَاد السوس فاستولى على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 تارودانت رَابِع صفر من السّنة وأوقع بهستوكة فَقتل مِنْهُم أَكثر من ألف وَخَمْسمِائة وأوقع بِأَهْل السَّاحِل فَقتل مِنْهُم أَكثر من أَرْبَعَة آلَاف وأوقع بِأَهْل قلعة إيليغ دَار ملك أبي حسون فاستولى عَلَيْهَا فِي مهل ربيع الأول من السّنة وَقتل مِنْهُم بسفح الْجَبَل أَكثر من أَلفَيْنِ وَصفا أَمر السوس للْمولى الرشيد وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا فِي سَابِع ربيع الأول مِنْهَا قتل الْمولى إِسْمَاعِيل وَكَانَ نَائِبا عَن أَخِيه بفاس سِتِّينَ رجلا من أَوْلَاد جَامع وَكَانُوا يقطعون الطَّرِيق فَقَتلهُمْ وصلبهم على سور البرج الْجَدِيد وفيهَا فِي جُمَادَى الْأَخِيرَة مِنْهَا أَمر الْمولى الرشيد بِضَرْب فلوس النّحاس المستديرة وَكَانَت قبل مربعة وَهِي الأشقوبية وَجعل أَرْبَعَة وَعشْرين فِي الموزونة وَكَانَت قبل ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَرجع إِلَى فاس فِي ثَالِث رَجَب من السّنة وَفِي أول شعْبَان مِنْهَا شرع فِي بِنَاء مدرسة الشراطين بدار الباشا عزوز من فاس وَكَانَ قد أَمر بِبِنَاء مدرسة عَظِيمَة بِإِزَاءِ مَسْجِد أبي عبد الله مُحَمَّد بن صَالح من حَضْرَة مراكش وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا تأليف جَيش شراقة وأوليتهم وَشرح لقبهم قد قدمنَا فِي أَخْبَار السعديين أَن لفظ شراقة فِي الأَصْل لقب لعرب بادية تلمسان وَمن انضاف إِلَيْهِم وَسموا بذلك لأَنهم فِي جِهَة الشرق عَن الْمغرب الْأَقْصَى فَأهل تلمسان مثلا يسمون أهل الْمغرب الْأَقْصَى مغاربة وَأهل الْمغرب الْأَقْصَى يسمون أهل تلمسان مشارقة إِلَّا أَن الْعَامَّة يلحنون فِي هَذِه النِّسْبَة فَيَقُولُونَ شراقة بتَخْفِيف الرَّاء وإيقاف المعقودة وَقد كَانَ للسعديين جند من هَؤُلَاءِ الْعَرَب كَمَا مر وَلما جَاءَ الله بدولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله وَاجْتمعَ عَلَيْهِ من عرب آنكاد وَغَيرهم مَا قدمنَا ذكره نزع إِلَيْهِ من أهل تِلْكَ الْبِلَاد عدَّة قبائل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 بَعْضهَا من الْعَرَب وَبَعضهَا من البربر أنفًا من ولَايَة التّرْك فقبلهم فَمن الْعَرَب أَشْجَع وَبَنُو عَامر وَمن البربر مديونة وهوارة وَبَنُو سنوس فَأمر رَحمَه الله بِبِنَاء القصبة الجديدة بفاس بديار لمتون وعرصة ابْن صَالح وبذل لأَصْحَابه وقواده ألف مِثْقَال لبِنَاء سورها وَأمرهمْ بِبِنَاء الدّور فِيهَا وَأعْطى شراقة هَؤُلَاءِ ألف دِينَار لبِنَاء قَصَبَة الْخَمِيس بعد أَن كَانَ أنزلهم أَولا بأحواز فاس فَحصل مِنْهُم الضَّرَر لأهل الْمَدِينَة وشكوهم فَأَمرهمْ بالانتقال بحلتهم إِلَى بِلَاد صدينة وفشتالة بَين النهرين سبو وورغه وأقطعهم تِلْكَ الأَرْض وعزل عزابهم وَأمرهمْ بِبِنَاء بُيُوتهم على حِدة ثمَّ أَعْطَاهُم ألف دِينَار لبِنَاء سور القصبة كَمَا قُلْنَا وجعلهم قَبيلَة وَاحِدَة فَلم تتَمَيَّز الْآن عربهم من بربرهم ثمَّ خرج الْمولى الرشيد رَابِع رَمَضَان من السّنة لزيارة الشَّيْخ أبي يعزى رَضِي الله عَنهُ وَمِنْه ذهب إِلَى سلا فزار صلحاءها وَعَاد إِلَى فاس فَدَخلَهَا منسلخ رَمَضَان الْمَذْكُور ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فِي صفر مِنْهَا بعث خيلا للْجِهَاد على طنجة وَفِي منتصف جُمَادَى الأولى بعث خيلا أُخْرَى إِلَى السوس وَعَلَيْهِم أَبُو مُحَمَّد عبد الله آعراس ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد بتافرطاست فَبَلغهُ هُنَالك خبر ثورة ابْن أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بمراكش فَرجع إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم السبت حادي عشر رَمَضَان ثمَّ خرج مِنْهَا عصر يَوْمه ذَلِك فَلَقِيَهُ ابْن أَخِيه بفزارة مَقْبُوضا عَلَيْهِ بيد أَصْحَابه فَبعث بِهِ إِلَى تافيلالت وَسَار هُوَ إِلَى مراكش وَبعث قائده زَيْدَانَ العامري إِلَى فاس فِي ذِي الْقعدَة ليَأْتِيه بالجيش لغزو السوس فَأَتَاهُ أهل السوس طائعين وَلم يبْق للحركة مَحل بعد أَن كَانَت الأخبية قد أخرجت إِلَى وَادي فاس وَضربت بِهِ فاستقرت قَوَاعِد الْملك للْمولى الرشيد وتمهدت أُمُور الدولة وَالله غَالب على أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش كَمَا قُلْنَا إِلَى أَن كَانَ عيد الْأَضْحَى من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فَلَمَّا كَانَ ثَانِي يَوْم النَّحْر وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس ركب فرسا لَهُ وأجراه فجمح بِهِ فِي بُسْتَان المسرة وَلم يملك عنانه فَأَصَابَهُ فرع شَجَرَة نارنج فهشم رَأسه وَقيل دخل فِي أُذُنه وَكَانَت فِيهِ منيته رَحمَه الله وَدفن بمراكش بالقصبة مِنْهَا ثمَّ نقل إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم بفاس لوَصِيَّة مِنْهُ بذلك وَمَات رَحمَه الله وسنه اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة لِأَنَّهُ ولد سنة أَرْبَعِينَ وَألف ورثاه بَعضهم بقوله (وَمَا شج ذَات الْغُصْن رَأس إمامنا ... لسوء لَهُ خدن الْمحبَّة جَاحد) (وَلكنه قد غَار من لين قده ... وَإِن من الْأَشْجَار مَا هُوَ حَاسِد) قلت لَا يخفى أَن مثل هَذَا الشّعْر لَا يحسن أَن تمدح بِهِ الْمُلُوك فَإِنَّهُ بالغزل أشبه مِنْهُ بالرثاء وَكَانَ قد وَقع بَين الْمولى الرشيد رَحمَه الله وَبَين شيخ الْوَقْت الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي رَضِي الله عَنهُ مكاتبات توعده أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي بَعْضهَا فَمَاتَ عقب ذَلِك وَكفى الشَّيْخ الْمَذْكُور أمره وَمن مآثره رَحمَه الله أَنه لما مر فِي بعض حركاته بالموضع الْمَعْرُوف بالشط من بِلَاد الظهراء أَمر بِحَفر آبار شَتَّى فَهِيَ الْآن تدعى بآبار السُّلْطَان إِضَافَة لَهُ يَسْتَقِي مِنْهَا ركب الحجيج فِي ذَهَابه وإيابه فَهِيَ إِن شَاءَ الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَكَانَ رَحمَه الله محبا فِي جَانب الْعلمَاء مؤثرا لأغراضهم مُولَعا بمجالستهم محسنا إِلَيْهِم حَيْثُ مَا كَانُوا وَمن نوادره مَعَهم مَا حُكيَ أَن الْعَلامَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد المرابط بن مُحَمَّد بن أبي بكر الدلائي حضر يَوْمًا بِمَجْلِس السُّلْطَان الْمَذْكُور وَذَلِكَ بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 الْإِيقَاع بزاويتهم وتغريبهم إِلَى فاس فَأَنْشد السُّلْطَان معرضًا بالفقيه الْمَذْكُور قَول أبي الطّيب المتنبي (وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى ... عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد) ففهم أَبُو عبد الله المرابط إِشَارَته فَقَالَ أيد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن من سَعَادَة الْمَرْء أَن يكون خَصمه عَاقِلا فَاسْتحْسن الْحَاضِرُونَ حسن بديهته ولطف منزعه وَمن تواضع الْمولى الرشيد رَحمَه الله مَعَ أهل الْعلم مَا حَكَاهُ صَاحب الْجَيْش من أَنه بعث إِلَى بعض عُلَمَاء عصره ليقْرَأ مَعَه بعض الْكتب فَامْتنعَ ذَلِك الْعَالم وَقَالَ كَمَا قَالَ الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ الْعلم يُؤْتى وَلَا يَأْتِي قَالَ فَكَانَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله يتَرَدَّد لمنزل ذَلِك الْعَالم للْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَنه كَانَ يحضر مجْلِس الشَّيْخ اليوسي بالقرويين اهـ وَهَذِه لعمري منقبة فخيمة ومأثره جسيمة فرحم الله تِلْكَ الهمم الَّتِي كَانَت تعرف للْعلم حَقه وتقدر قدره قَالُوا وَكَانَ رَحمَه الله جوادا سخيا رَحل النَّاس إِلَيْهِ من الْمشرق فَمَا دونه وقصده بعض طلبة ثغر الجزائر فامتدحه ببيتين وهما (فاض بَحر الْفُرَات فِي كل قطر ... من ندى راحتيك عذبا فراتا) (غرق النَّاس فِيهِ وَالْتمس الْفقر ... خلاصا فَلم يجده فماتا) فوصله بِأَلفَيْنِ وَخمسين دِينَارا قَالَ اليفرني وشأوه رَحمَه الله فِي السخاء لَا يلْحق والحكايات عَنهُ بذلك شهيرة وَفِي أَيَّامه كثر الْعلم واعتز أَهله وَظَهَرت عَلَيْهِم أبهته وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام سُكُون ودعة ورخاء عَظِيم حَتَّى قيل إِنَّه فِي الْيَوْم الَّذِي بُويِعَ فِيهِ بفاس كَانَ الْقَمْح فِي أول النَّهَار بِخمْس أَوَاقٍ للمد وَصَارَ فِي آخِره بِنصْف أُوقِيَّة فتيمن النَّاس بولايته وأغتبطوا بهَا وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ المظفر بِاللَّه أبي النَّصْر الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُقدم وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى إِسْمَاعِيل بمكناسة الزَّيْتُون خَليفَة على بِلَاد الغرب فَبَلغهُ خبر مَوته فَاجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ واتفقت كلمتهم عَلَيْهِ ثمَّ قدم عَلَيْهِ أَعْيَان فاس وأعلامها وأشرافها ببيعتهم وَقدم عَلَيْهِ أهل بِلَاد الغرب من الحواضر والبوادي كَذَلِك بهداياهم وبيعاتهم إِلَّا مراكش وأعمالها فَإِنَّهُ لم يَأْتِ مِنْهَا أحد فَجَلَسَ رَحمَه الله للوفود إِلَى أَن فرغ من شَأْنهمْ ورتب أُمُوره بمكناسة وعزم على السُّكْنَى بهَا إِذْ كَانَ لَا يَبْغِي بهَا بَدَلا حَيْثُ أعجبه مَاؤُهَا وهواؤها هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَقَالَ أَبُو عبد الله اليفرني فِي النزهة وَنَحْوه فِي نشر المثاني لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله اتَّصل خبر وَفَاته بالمولى إِسْمَاعِيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَلِيفَته بفاس الْجَدِيد لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف فبويع رَحمَه الله وَحضر بيعَته أَعْيَان الْمغرب وصلحاؤه بِحَيْثُ لم يُنَازع فِي أَنه أَحَق بهَا وَأَهْلهَا أحد مِمَّن يشار إِلَيْهِ زَاد فِي الظل الظليل وَوَافَقَ على بيعَته أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء والأشراف كالشيخ أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عَليّ الفاسي وَالشَّيْخ أبي عَليّ اليوسي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الفيلالي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن سعيد المكيلدي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الفاسي وأخيه أبي زيد صَاحب نظم الْعَمَل وَالْقَاضِي أبي مَدين وَغَيرهم من بَقِيَّة الْأَعْيَان وَكَانَت بيعَته فِي السّنة الثَّانِيَة من يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس عشر من ذِي الْحجَّة الْمَذْكُور آنِفا وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم الثَّالِث من شهر إبريل العجمي وَكَانَ سنه يَوْم بُويِعَ سِتا وَعشْرين سنة لِأَن وِلَادَته كَانَت عَام وقْعَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 القاعة وَهِي مؤرخة بِخَط من يوثق بِهِ سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَلما تمت بيعَته نَهَضَ بأعباء الْخلَافَة وَضبط الْأُمُور وَأحسن السِّيرَة ثورة الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحرز بن الشريف وَمَا كَانَ من أمره لما توفّي الْمولى الرشيد رَحمَه الله واتصل خبر وَفَاته بِأَهْل سجلماسة وَغَيرهَا أقبل ابْن أَخِيه الْمولى أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بِمن مُحرز مبادرا إِلَى مراكش طَالبا لِلْأَمْرِ وداعيا إِلَى نَفسه والتفت عَلَيْهِ طوائف من عرب السوس وَغَيرهم وَغلب على تِلْكَ النواحي ونشبت أهل مراكش بلامع برقه وَبِذَلِك تقاعدوا عَن الْوِفَادَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَلما صَحَّ عِنْده خبر ابْن مُحرز وَذَلِكَ فِي آخر ذِي الْحجَّة من السّنة نَهَضَ إِلَى مراكش فوصل إِلَيْهَا وبرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِيمَن انْضَمَّ إِلَيْهِم من قبائل أحوازها وقاتلوه فانتصر عَلَيْهِم وَهَزَمَهُمْ وَدخل مراكش عنْوَة يَوْم الْجُمُعَة سَابِع صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف فَعَفَا عَن أَهلهَا وأجفل ابْن مُحرز وشيعته الى حَيْثُ نَجوا وَلما احتل الْمولى إِسْمَاعِيل بمراكش أَمر بِنَقْل شلو أَخِيه الْمولى الرشيد فِي تابوته إِلَى فاس ليدفن بضريح الشَّيْخ ابْن حرزهم كَمَا مر ثمَّ قفل السُّلْطَان إِلَى مكناسة منسلخ ربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 انْتِقَاض أهل فاس وقتلهم الْقَائِد زَيْدَانَ وإعلانهم بدعوة ابْن مُحرز وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من محاصرة السُّلْطَان لَهُم لما قفل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل إِلَى مكناسة أَخذ فِي تَرْتِيب أُمُور دولته وَفرق الرَّاتِب على الْجند وَكَانَ عَازِمًا على غَزْو بِلَاد الصَّحرَاء فَلم يرعه إِلَّا الْخَبَر بِأَن أهل فاس قد انتقضوا وَقتلُوا قَائِد الْجَيْش زَيْدَانَ بن عبيد العامري وَكَانَ مَقْتَله لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي جُمَادَى الأولى من السّنة فزحف السُّلْطَان إِلَيْهِم وحاصرهم وَاسْتمرّ الْقِتَال بَينه وَبينهمْ أَيَّامًا ثمَّ بعثوا إِلَى الْمولى أَحْمد بن مُحرز ليأتيهم فيجتمعوا عَلَيْهِ فَقدم دبدو وَأنزل على ملوية وَبعث إِلَيْهِم رَسُوله يعلمهُمْ بمجيئه فأعلنوا بنصره وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس الْعشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وَفِي منسلخ الشَّهْر الْمَذْكُور بعثوا عشرَة من الْخَيل للقائه بتازا ثمَّ أصبح عَلَيْهِم رَسُول الْخضر غيلَان يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد قدم من ثغر الجزائر فِي الْبَحْر وَأَنه نزل بتطاوين مَعَ رؤسائها أَوْلَاد النقسيس فتشعبت الآراء وتعددت أَسبَاب الهراش وتكاثرت الظباء على خِدَاش وهاجت فتْنَة بفاس قتل فِيهَا نفر من أَوْلَاد الثائر الْمُتَقَدّم أبي الرّبيع سُلَيْمَان الزرهوني على يَد مولَايَ أَحْمد بن إِدْرِيس من شرفاء دَار القيطون ثمَّ قتل بعض شيعَة الزرهوني مولَايَ حفيد بن إِدْرِيس أَخا الشريف الْمَذْكُور وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ وَلما اتَّصل خبر ابْن مُحرز بالمولى إِسْمَاعِيل نَهَضَ إِلَيْهِ فِي جُنُوده قَاصِدا تازا فَحَاصَرَهُمْ بهَا أشهرا ففر عَنْهَا ابْن مُحرز وَدخل الصَّحرَاء وَلما علم السُّلْطَان بفراره عدل إِلَى نَاحيَة الهبط بِقصد الْخضر غيلَان فحاربه إِلَى أَن ظفر بِهِ وَقَتله يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف وَعَاد إِلَى فاس الْجَدِيد أواسط جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة وحاصر أهل فاس وطاولهم وَلم يحدث مَعَهم حَربًا إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وراجعوا بصائرهم ففتحوا الْبَلَد وَخَرجُوا إِلَى السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَألف فَكَانَت مُدَّة انتقاضهم أَرْبَعَة عشر شهرا وَثَمَانِية عشر يَوْمًا ذاقوا فِيهَا وبال أَمرهم ثمَّ ولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد التلمساني وعَلى فاس الْجَدِيد الْوَزير أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن المنزاري وَسَار إِلَى مكناسة ثمَّ عَاد بِالْقربِ إِلَّا أَن هذَيْن الواليين قد جارا فِي الْحُكُومَة وعاثا فِي البلدين بِضَرْب الأبشار وَنهب الْأَمْوَال وَغير ذَلِك وَالله لايظلم مِثْقَال ذرة وعزل أَيْضا عَن خطابة الْقرَوِيين الْفَقِيه أَبَا عبد الله البوعناني وولاها القَاضِي أَبَا عبد الله المجاصي وَذَلِكَ فِي أخر رَجَب من السّنة وَالله أعلم تَجْدِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل بِنَاء مكناسة الزَّيْتُون واتخاذه إِيَّاهَا دَار ملكه كَانَت مَدِينَة مكناسة الزَّيْتُون من الْأَمْصَار الْقَدِيمَة بِأَرْض الْمغرب بناها البربر قبل الْإِسْلَام وَلما جَاءَت دولة الْمُوَحِّدين حاصروا مكناسة سبع سِنِين ثمَّ افتتحوها عنْوَة أواسط المائه السَّادِسَة وخربوها ثمَّ بنوا مكناسة الجديدة الْمُسَمَّاة بتاكرارت وَمَعْنَاهَا الْمحلة واعتنى بهَا بَنو مرين من بعدهمْ فبنوا قصبتها وشيدوا بهَا الْمَسَاجِد والمدارس والزوايا والربط وَكَانَت يَوْمئِذٍ هِيَ كرْسِي الوزارة كَمَا أَن حَضْرَة فاس الْجَدِيد هِيَ كرْسِي الْإِمَارَة واختصت مكناسة بِطيب التربة وعذوبة المَاء وَصِحَّة الْهَوَاء وسلامة المختزن من التعفين وَغير ذَلِك وَقد وصفهَا ابْن الْخَطِيب فِي مَوَاضِع من كتبه مثل النفاضة والمقامات وَغَيرهمَا واثنى عَلَيْهَا نظما ونثرا وَأنْشد قَول ابْن عبدون من أَهلهَا فِيهَا (إِن تفتخر فاس بِمَا فِي طيها ... وبأنها فِي زيها حسناء) (يَكْفِيك من مكناسة أرجاؤها ... والأطيبان هواؤها وَالْمَاء) فَلَمَّا كَانَت بِهَذِهِ المثابة كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 يَبْغِي بهَا بَدَلا فَلَمَّا فرغ من أَمر فاس رَجَعَ إِلَيْهَا وَشرع فِي بِنَاء قُصُور بهَا بعد أَن هدم مَا يَلِي القصبة من الدّور وَأمر أَرْبَابهَا بِحمْل أنقاضها وَبنى لَهُم سورا على الْجَانِب الغربي وَأمر بِبِنَاء دُورهمْ بِهِ وَهدم الْجَانِب الشَّرْقِي كُله من الْمَدِينَة وزاده فِي القصبة الْقَدِيمَة وَلم يبْق أَمَامه إِلَّا الفضاء فَجعل ذَلِك كُله قَصَبَة وَبنى سور الْمَدِينَة وأفردها عَن القصبة وَأطلق أَيدي الصناع فِي الْبناء ومداومة الْعَمَل وجلبهم من جَمِيع حواضر الْمغرب وَلما لم يقنعه ذَلِك فرض العملة على الْقَبَائِل مناوبة فَصَارَت كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب تبْعَث عددا مَعْلُوما من الرِّجَال والبهائم فِي كل شهر وَفرض الصناع وَأهل الْحَرْف على الحواضر فَصَارَ أهل كل مصر يبعثون من البنائين والنجارين وَغَيرهم عددا مَعْلُوما كَذَلِك وَأسسَ الْمَسْجِد الْأَعْظَم بداخل القصبة مجاورا لقصر النَّصْر الَّذِي كَانَ أسسه فِي دولة أَخِيه الْمولى الرشيد رَحمَه الله ثمَّ أسس الدَّار الْكُبْرَى الَّتِي بجوار الشَّيْخ المجذوب وَاسْتمرّ الْبناء وَالْغَرْس بمكناسة سِنِين كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيه على ذَلِك فِي مَجْلِسه إِن شَاءَ الله مَجِيء الْمولى أَحْمد بن مُحرز إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا ونهوض السُّلْطَان إِلَى محاصرته بهَا ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا ورد الْخَبَر على السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَهُوَ بمكناسة بِدُخُول ابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز مراكش واستيلائه عَلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مُتَوَجها إِلَى آنكاد لما بلغه من عيث الْعَرَب الَّذين بِهِ وقطعهم الطَّرِيق فَلم يثنه ذَلِك عَنْهُم بل سَار إِلَيْهِم وأوقع بسقونة مِنْهُم وَقتل خلقا كثيرا وَنهب وَرجع مؤيدا منصورا ثمَّ استعد لِحَرْب ابْن مُحرز وَخرج فِي العساكر على طَرِيق تادلا فَكَانَ اللِّقَاء بَينهمَا على أبي عقبَة من وَادي العبيد فَاقْتَتلُوا وَانْهَزَمَ ابْن مُحرز وَقتل كَبِير جَيْشه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 حيدة الطويري وَرجع أدراجه إِلَى مراكش فَتَبِعَهُ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَألقى بكلكله على مراكش أَوَائِل سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف ونما إِلَيْهِ أَن بعض أهل محلته قد أضمروا الْغدر مِنْهُم الشَّيْخ عمر البطوئي وَولده وَعبد الله آعراس وَإِخْوَته هَؤُلَاءِ كَانُوا أُمَرَاء عسكره فحنقهم وأتلف نُفُوسهم وَبعث إِلَى من بَقِي مِنْهُم بفاس فَقبض عَلَيْهِم وَقتلُوا وحيزت دُورهمْ وَأَمْوَالهمْ وَاسْتمرّ السُّلْطَان محاصرا لمراكش إِلَى ربيع الثَّانِي من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف فَشدد فِي الْحصار وازدلف إِلَيْهَا فِي جُنُوده فَوَقع قتال عَظِيم مَاتَ فِيهِ من الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصى وانحجر ابْن مُحرز دَاخل الْبَلَد وَبَقِي يُقَاتل من أَعلَى الأسوار ثمَّ تَمَادى الْحصار إِلَى ثَانِي ربيع الثَّانِي من سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف فَاشْتَدَّ الْأَمر على ابْن مُحرز وضاق ذرعا فَخرج فَارًّا عَن مراكش ناجيا فِيمَا أبقته الْحَرْب من جموعه وَدخل السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل الْمَدِينَة عنْوَة فاستباحها وَقتل سَبْعَة من رؤسائها وكحل ثَلَاثِينَ مِنْهُم وهدأت الْفِتْنَة وَذَهَبت أَيَّام المحنة وَالله غَالب على أمره تأليف جَيش الودايا وَبَيَان فرقهم وأوليتهم هَذَا الْجَيْش من أمثل جيوش هَذِه الدولة الشَّرِيفَة أبقى الله فَضلهَا وَبسط على الْبِلَاد والعباد يمنها وعدلها وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أرحاء رحى أهل السنوس ورحى المغافرة ورحى الودايا وَيُطلق على الْجَمِيع ودايا تَغْلِيبًا فَأَما أهل السوس فَمنهمْ أَوْلَاد جرار وَأَوْلَاد مُطَاع وزرارة والشبانات وَكلهمْ من عرب معقل وَكَانُوا فِي الْقَدِيم جندا للدولة السعدية وَكَانَ مُلُوكهَا يستنفرونهم للغزو بحللهم لاعتيادهم ذَلِك أَيَّام كَونهم بالصحراء ثمَّ أنزلوهم ببسيط ازغار مراغمة لعرب جشم من الْخَلْط وسُفْيَان وَغَيرهم إِذْ كَانَت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 الْخَلْط شيعَة بني مرين وأصهارهم كَمَا مر فَلَمَّا جَاءَت الدولة السعدية بقوا منحرفين عَنْهَا وَكلما طرقها خلل ثَارُوا عَلَيْهَا وَخَرجُوا عَن طاعتها فقيض لَهُم السُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ السَّعْدِيّ هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل من معقل وزاحمهم بهم فِي بِلَادهمْ وشغلهم بهم فَكَانَت تكون بَينهم الحروب فَتَارَة تنتصف معقل من جشم وَتارَة الْعَكْس حَتَّى أوقع الْمَنْصُور السَّعْدِيّ بالخلط وقيعته الشهيرة وأسقطهم من الجندية فَنقل أَوْلَاد مُطَاع إِلَى زبيدة قرب تادلا وَلما أشرفت الدولة السعدية على الْهَرم استطالت الشبانات عَلَيْهَا بِمَا كَانَ لَهُم من الخؤلة على أَوْلَاد السُّلْطَان زَيْدَانَ فاستبدت فرقة مِنْهُم بمراكش كَمَا مر وثارت أُخْرَى بفاس الْجَدِيد مَعَ أبي عبد الله الدريدي المتغلب بهَا حَسْبَمَا سلف إِلَى أَن نقل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله جَمِيعهم إِلَى وَجدّة كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ خلطهم بعد بإخوانهم من المغافرة والودايا وصير الْجَمِيع جَيْشًا وَاحِدًا فَهَذِهِ أولية أهل السوس وَأما المغافرة فَسَيَأْتِي بَيَان كَيْفيَّة اتصالهم بالمولى إِسْمَاعِيل ومصاهرتهم لَهُ وَأما الودايا فَكَانَ السَّبَب فِي جمعهم واستعمالهم فِي الجندية أَنه لما فتح الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مَدِينَة مراكش الْفَتْح الثَّانِي وأجفل ابْن مُحرز عَنْهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد بالبسيط الْمَعْرُوف بالبحيرة من أحواز مراكش فَرَأى أَعْرَابِيًا يرْعَى غنما لَهُ وَبِيَدِهِ شفرة يقطع بهَا السدر ويضعه لغنمه لتأكل ورقة فَقَالَ للوزعة عَليّ بِأبي الشَّفْرَة فَأَسْرعُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى أَن أوقفوه بَين يَدَيْهِ فَسَأَلَهُ فانتسب لَهُ إِلَى ودي كغني قَبيلَة من عرب معقل بالصحراء وَأخْبرهُ بِأَنَّهُم دخلُوا من بِلَاد الْقبْلَة بِسَبَب جَدب أَصَابَهُم قَالَ دَخَلنَا السوس بنجع كَبِير فافترقنا وَذَهَبت كل طَائِفَة منا إِلَى قَبيلَة فَنزلت عَلَيْهَا وَنحن نزُول مَعَ الشبانات فَقَالَ لَهُ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَنْتُم أخوالي وسمعتم بخبري وَلم تَأْتُونِي والآن أَنْت صَاحِبي وَإِذا رجعت بغنمك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 إِلَى خيمتك فاقدم عَليّ إِلَى مراكش وَأوصى بِهِ من يوصله إِلَيْهِ ثمَّ بعد أَيَّام قدم أَبُو الشَّفْرَة على السُّلْطَان فَكَسَاهُ وَحمله وَبعث مَعَه خيلا يجمع بهَا إخوانه من قبائل الْحَوْز فَجمع من وجد مِنْهُم وَجَاء بهم إِلَى السُّلْطَان فأثبتهم فِي الدِّيوَان وكساهم وَحَملهمْ ثمَّ نقلهم بحلتهم إِلَى مكناسة الزَّيْتُون دَار الْملك ومقر الْخلَافَة ثمَّ دخل نجع آخر بعدهمْ فأثبتهم فِي الدِّيوَان أَيْضا وَبَالغ فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَعين لسكناهم من مكناسة الْمحل الْمَعْرُوف بالرياض بجوار قصبتها وَأمرهمْ بِبِنَاء الدّور وَأعْطى أعيانهم ورؤساءهم النوائب وَهِي الزوايا الَّتِي لَا تغرم مَعَ الْقَبَائِل ثمَّ قدم نجع ثَالِث جاؤوا من جِهَة الْقبْلَة فأثبتهم كإخوانهم الَّذين قدمُوا قبلهم وسلك بهم مسلكهم وَلما نقل رَحمَه الله زُرَارَة والشبانات الَّذين كَانُوا بفاس الْجَدِيد مَعَ الدريدي بعث بهم إِلَيْهَا أَيْضا ليجتمعوا مَعَ إخْوَانهمْ ثمَّ قسم الودايا الَّذين بالرياض قسمَيْنِ فَبعث نصفهم إِلَى فاس الْجَدِيد وعمره بهم وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَطِيَّة مِنْهُم وَأبقى النّصْف الآخر بالرياض من مكناسة وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْحسن عليا الْمَدْعُو بِأبي الشَّفْرَة فَكَانَا يتداولان الْقسمَيْنِ مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا ثمَّ اسْتَقر الْأَمر على أَن صَار أَبُو الشَّفْرَة بفاس وَابْن عَطِيَّة بالرياض وَأما خبر الْخَلْط فَإِنَّهُ لما أوقع بهم الْمَنْصُور السَّعْدِيّ تفَرقُوا فِي الْقَبَائِل شذر مذر وصاروا عيالا على غَيرهم وَلما أشرفت الدولة السعدية على الْهَرم اجْتَمعُوا وَرَجَعُوا إِلَى أزغاز فغلبوا عَلَيْهِ وعفوا وكثروا وتمولوا وَأَكْثرُوا من الْخَيل وَالسِّلَاح إِلَى أَن جَاءَ الله بالمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فَانْتزع مِنْهُم خيلهم وسلاحهم كغيرهم من قبائل الْمغرب وَضرب عَلَيْهِم المغارم واستمروا على ذَلِك إِلَى أَيَّام السُّلْطَان المرحوم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله فظهروا فِي دولته وَكَانُوا يعكسون مَعَه فِي حروب ويغرمون مَا وَجب عَلَيْهِم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 من الزكوات والأعشار وَكَذَلِكَ مَعَ ابْنه الْمولى سُلَيْمَان وَابْن ابْنه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رحم الله الْجَمِيع بمنه وهم الْيَوْم فِي عداد الْقَبَائِل الغارمة وَكَذَا قبائل الْحَوْز الَّذين هم من عرب معقل كلهم غارمة وَالله تَعَالَى الْمُتَوَلِي لأمور الْعباد لَا معقب لحكمه وَلَا راد لقضائه انْتِقَاض البربر شيعَة الدلائيين والتفافهم على أَحْمد بن عبد الله مِنْهُم وإيقاع السُّلْطَان بهم لما كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مُقيما بمراكش بعد فرار الْمولى أَحْمد بن مُحرز عَنْهَا بلغه اجْتِمَاع البربر الصنهاجيين على أَحْمد بن عبد الله الدلائي وعيثهم فِيمَن جاورهم من قبائل الْعَرَب من تادلا إِلَى سايس فَبعث رَحمَه الله عسكرا إِلَى تادلا إِعَانَة لأَهْلهَا على البربر فهزمتهم البربر وَقتلُوا يخلف وانتهبوا واستولوا على تادلا ثمَّ بعث إِلَيْهِم عسكرا آخر فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف من الْخَيل وَعقد عَلَيْهِ ليخلف فَهَزَمَهُمْ البربر وَقتلُوا يخلف وانتهبوا مُعَسْكَره ثمَّ أعقبهما بعسكر ثَالِث فَوَقع بِهِ مَا وَقع بالأولين هَذَا كُله وَالسُّلْطَان مُقيم بمراكش يرصد ابْن مُحرز الَّذِي بالسوس ثمَّ بلغه قيام أَخِيه الْمولى حمادة بالصحراء وحربه لِأَخِيهِ الْمولى مُحرز الثائر بهَا أَيْضا وَهُوَ وَالِد الْمولى أَحْمد صَاحب السوس فَقدم السُّلْطَان رَحمَه الله الأهم وَرجع إِلَى حَرْب البربر بتادلا خوفًا من اتساع خرقهم على الدولة وَهُنَاكَ لقِيه أَخُوهُ الْمولى الحران جَاءَ مستصرخا لَهُ على أَخِيه الْمولى حمادة ثمَّ تقدم السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى البربر فأوقع بهم وقْعَة شنعاء واستلحمهم وَقطع مِنْهُم سَبْعمِائة رَأس بعث بهَا إِلَى فاس مَعَ عبد الله بن حمدون الروسي وَفِي نشر المثاني أَنه قتل من البربر يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة آلَاف فزينت الْمَدِينَة وأخرجت المدافع وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَلما انْقَضتْ الْوَقْعَة فر الْمولى الحران من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 الْمحلة إِلَى الصَّحرَاء وَرجع السُّلْطَان إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي أواسط شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَفِي هَذِه الْأَيَّام ولي قَضَاء فاس الْفَقِيه الْوَرع أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة بعد عزل القَاضِي أبي عبد الله المجاصي وَولي مظالمها وجبايتها عبد الله الروسي وَولي مواريثها أَبَاهُ حمدون وَأمر بقتل أهل تطاوين الَّذين كَانُوا بسجن فاس وهم عشرُون فَضربت أَعْنَاقهم وَرفعت على الأسوار ثمَّ جِيءَ بالمولى الحران من الصَّحرَاء مُقَيّدا مغلولا فَلَمَّا قابله من عَلَيْهِ وَأطْلقهُ وَأَعْطَاهُ خيلا وأقطعه مداشر بالصحراء يتعيش بهَا وسرحه إِلَى حَال سَبيله عود الْكَلَام إِلَى بِنَاء حَضْرَة مكناسة الزَّيْتُون وَاسْتمرّ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بمكناسة قَائِما على بِنَاء حضرتها بِنَفسِهِ وَكلما أكمل قصرا أسس غَيره وَلما ضَاقَ مَسْجِد القصبة بِالنَّاسِ أسس الْجَامِع الْأَخْضَر أعظم مِنْهُ وَجعل لَهُ بَابَيْنِ بَابا إِلَى القصبة وبابا إِلَى الْمَدِينَة وَجعل رَحمَه الله لهَذِهِ القصبة عشْرين بَابا عَادِية فِي غَايَة السعَة والارتفاع مقبوة من أَعْلَاهَا وَفَوق كل بَاب مِنْهَا برج عَظِيم عَلَيْهِ من المدافع النحاسية الْعَظِيمَة الأجرام والمهاريس الحربية الهائلة الأشكال مَا يقْضِي مِنْهُ الْعجب وَجعل فِي هَذِه القصبة بركَة عَظِيمَة تسير فِيهَا الْفلك والزوارق المتخذة للنزهة والأنبساط وَجعل بهَا هريا عَظِيما لاختزان الطَّعَام من قَمح وَغَيره مقبو القنانيط يسع زرع أهل الْمغرب وَجعل بجواره سواقي للْمَاء فِي غَايَة المعمق مقبوا عَلَيْهَا وَجعل فِي أَعْلَاهَا برجا عَظِيما مستدير الشكل لوضع المدافع الموجهة إِلَى كل جِهَة وَجعل بهَا إصطبلا عَظِيما لربط خيله وبغاله مسيرَة فَرسَخ فِي مثله مسقف الجوانب بالبرشلة على أساطين وأقواس عَظِيمَة فِي كل قَوس مربط فرس وَبَين الْفرس وَالْفرس عشرُون شبْرًا يُقَال إِنَّه كَانَ مربوطا بِهَذَا الإصطبل اثْنَي عشر ألف فرس مَعَ كل فرس سائس من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 الْمُسلمين وخادم من أسرى النَّصَارَى يتَوَلَّى خدمته وَفِي هَذَا الإصطبل سانية من المَاء دَائِرَة عَلَيْهِ مقبوة الظّهْر وأمام كل فرس مِنْهَا ثقب كالمعدة لشربه وَفِي وسط هَذَا الإصطبل قباب معدة لوضع سروج الْخَيل على أشكال مُخْتَلفَة وَفِيه أَيْضا هري عَظِيم مربع الشكل مقبو الْأَعْلَى على أساطين عَظِيمَة وأقواس هائلة لوضع سلَاح الفرسان أَصْحَاب الْخَيل وَينفذ إِلَيْهِ الضَّوْء من شبابيك فِي جوانبه الْأَرْبَعَة كل شباك ينيف وَزنه على قِنْطَار من حَدِيد وَفَوق هَذَا الهري من أَعْلَاهُ قصر يُقَال لَهُ الْمَنْصُور وَلَا يقصر ارتفاعه من مائَة ذِرَاع خَمْسُونَ فِي الْأَسْفَل وَخَمْسُونَ فِي الْأَعْلَى وَفِيه عشرُون قبَّة فِي كل قبَّة طاق عَلَيْهِ شباك من حَدِيد يشرف مِنْهُ أهل الْقبَّة على بسيط مكناسة من الْجَبَل إِلَى الْجَبَل وكل قبَّة مسقفة بالبرشلة والقرمود وَغير ذَلِك ثمَّ أَربع قباب مِنْهَا متقابلة سَعَة كل وَاحِدَة مِنْهَا سَبْعُونَ شبْرًا فِي مثلهَا وَبَاقِي الْعشْرين أَرْبَعُونَ ويجاور هَذَا الإصطبل بُسْتَان على قدر طوله فِيهِ من شجر الزَّيْتُون وأنواع الْفَوَاكِه كل غَرِيب طوله فَرسَخ وَعرضه ميلان ويتخلل هَذِه الْقُصُور الَّتِي فِي دَاخل القلعة بشوارع مستطيلة متسعة وأبواب عَظِيمَة فاصلة بَين كل نَاحيَة وَبَين الْأُخْرَى ورحاب عَظِيمَة مربعة معدة لعمارة المشور فِي كل جَانب إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحِيط بِهِ الْوَصْف قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَقد شاهدنا آثَار الأقدمين بالمشرق وَالْمغْرب وبلاد التّرْك وَالروم فَمَا رَأينَا مثل ذَلِك فِي دولهم وَلَا شَاهَدْنَاهُ فِي آثَارهم بل لَو اجْتمعت آثَار دوَل مُلُوك الْإِسْلَام لرجح بهَا مَا بناه السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي قلعة مكناسة دَار ملكه وَلم تزل تِلْكَ البناءات على طول الدَّهْر قَائِمَة كالجبال لم تخلفها عواصف الرِّيَاح وَلَا كَثْرَة الأمطار والثلوج وَلَا آفَات الزلازل الَّتِي تخرب المباني الْعِظَام والهياكل الجسام قَالَ وَمن يَوْم مَاتَ الْمولى إِسْمَاعِيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون تِلْكَ الْقُصُور على قدر وسعهم وبحسب طاقتهم ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 ورخام وَلبن وقرمود ومعدن وَغير ذَلِك إِلَى وقتنا هَذَا وبنيت من أنقاضها مَسَاجِد ومدارس ورباطات بِكُل بلد من بلدان الْمغرب وَمَا أَتَوا على نصفهَا هَذِه مُدَّة من مائَة سنة وَأما الجدرات فَلَا زَالَت ماثلة كالجبال الشوامخ وكل من شَاهد تِلْكَ الْآثَار من سفراء التّرْك وَالروم يعجب من عَظمته وَيَقُول لَيْسَ هَذَا من عمل بني آدم وَلَا يقوم بِهِ مَال اهـ تأليف جَيش عبيد البُخَارِيّ وَذكر أوليتهم وَشرح تسميتهم هَذَا الْجَيْش من أعظم جيوش هَذِه الدولة السعيدة كَمَا تقف عَلَيْهِ وَكَانَ السَّبَب فِي جمعه مَا وجد مفصلا فِي كناش كَاتب الدولة الإسماعيلية ووزيرها الْأَعْظَم الْفَقِيه الأديب أبي الْعَبَّاس أَحْمد اليحمدي رَحمَه الله قَالَ لما استولى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف على مراكش ودخلها أول مرّة كَانَ يكْتب عسكره من الْقَبَائِل الْأَحْرَار حَسْبَمَا مر حَتَّى أَتَاهُ الْكَاتِب أَبُو حَفْص عمر بن قَاسم المراكشي الْمَدْعُو عليليش وبيتهم بَيت رياسة من قديم وَكَانَ وَالِده كَاتبا مَعَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وَمَعَ أَوْلَاده من بعده فَتعلق أَبُو حَفْص هَذَا بِخِدْمَة السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وأطلعه على دفتر فِيهِ أَسمَاء العبيد الَّذين كَانُوا فِي عَسْكَر الْمَنْصُور فَسَأَلَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله هَل بَقِي مِنْهُم أحد قَالَ نعم كثير مِنْهُم وَمن أَوْلَادهم وهم متفرقون بمراكش وأحوازها وبقبائل الدَّيْر وَلَو أَمرنِي مَوْلَانَا بِجَمْعِهِمْ لجمعتهم فولاه أَمرهم وَكتب لَهُ إِلَى قواد الْقَبَائِل يَأْمُرهُم بشد عضده وإعانته على مَا هُوَ بصدده فَأخذ عليليش يبْحَث عَنْهُم بمراكش وينقر عَن أنسابهم إِلَى أَن جمع من بهَا مِنْهُم ثمَّ خرج إِلَى الدَّيْر فَجمع من وجد بِهِ ثمَّ سَار إِلَى قبائل الْحَوْز فاستقصى من فِيهَا حَتَّى لم يتْرك بِتِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا أسود سَوَاء كَانَ مَمْلُوكا أَو حرطانيا أَو حرا أسود واتسع الْخرق وعسر الرتق فَجمع فِي سنة وَاحِدَة ثَلَاثَة آلَاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 رَأس مِنْهُم المتزوج والعزب ثمَّ كتبهمْ فِي دفتر وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان بمكناسة فتصفحه السُّلْطَان وَأَعْجَبهُ ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بشرَاء الْإِمَاء للأعزاب مِنْهُم وَيدْفَع أَثمَان المماليك مِنْهُم إِلَى ملاكهم ويكسوهم من أعشار مراكش ويأتيه بهم إِلَى مكناسة فاجتهد عليليش فِي ذَلِك وَاشْترى من الْإِمَاء ماقدر عَلَيْهِ وَجمع من الحرطانيات عددا إِلَى أَن استوفى الْغَرَض وكساهم وألزم الْقَبَائِل بحملهم إِلَى الحضرة فحملوا من قَبيلَة إِلَى أُخْرَى إِلَى أَن وصلوا مكناسة فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان السِّلَاح وَولى عَلَيْهِم قوادهم وَبعث إِلَيْهِم إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالمحلة من مشرع الرملة من أَعمال سلا ثمَّ بعث السُّلْطَان كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن العياشي المكناسي إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن وَأمره بِجمع العبيد الَّذين بهَا فَمن لَا ملك لأحد عَلَيْهِ يَأْخُذهُ مجَّانا وَمن كَانَ مَمْلُوكا لأحد فليعط صَاحبه ثمنه ويحوزه مِنْهُ فَخرج ابْن العياشي وَطَاف فِي تِلْكَ الْقَبَائِل واستقصى كل أسود بهَا وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب أَيْضا إِلَى عماله بالأمصار بِأَن يشتروا لَهُ العبيد وَالْإِمَاء من فاس ومكناسة وَغَيرهمَا من حواضر الْمغرب عشرَة مَثَاقِيل للْعَبد وَعشرَة مَثَاقِيل للْأمة فاستوعبوا مَا وجدوا حَتَّى لم يبْق عِنْد أحد عبد وَلَا أمة فَاجْتمع مِمَّا اشْتَرَاهُ الْعمَّال ثَلَاثَة آلَاف أُخْرَى فكساهم السُّلْطَان وسلحهم وَبعث بهم إِلَى الْمحلة بعد أَن عين لَهُم قوادهم ثمَّ أَن ابْن العياشي قدم بدفتر فِيهِ أَلفَانِ من العبيد فيهم المتزوج والعزب فَكتب السُّلْطَان إِلَى الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي صَاحب بِلَاد الهبط أَن يَشْتَرِي للأعزاب مِنْهُم الْإِمَاء ويكسوهم ويعطيهم السِّلَاح من تطاوين ويعين لَهُم قوادهم وَيبْعَث بهم إِلَى الْمحلة فَصَارَ الْمَجْمُوع ثَمَانِيَة آلَاف وَهَذَا الْعدَد هُوَ الَّذِي نزل أَولا بهَا ثمَّ ألزم السُّلْطَان قبائل تامسنا ودكالة أَن يَأْتُوا بعبيد المخزن الَّذين عِنْدهم فَلم يسعهم إِلَّا الِامْتِثَال فَجمعُوا كل عبد فِي بِلَادهمْ وَزَادُوا بِالشِّرَاءِ من عِنْدهم وأعطوهم الْخَيل وَالسِّلَاح وكسوهم وبعثوا بهم إِلَيْهِ فَمن تامسنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 أَلفَانِ وَمن دكالة أَلفَانِ فأنزلهم السُّلْطَان بِوَجْه عروس من أحواز مكناسة إِلَى أَن بنى قَصَبَة آدخسان فَأنْزل عبيد دكالة بهَا وَأنزل عبيد تامسنا بزاوية أهل الدلاء ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل صحراء السوس فَبلغ آقاوطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودَان فَقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْعَرَب هُنَالك من أهل السَّاحِل والقبلة وَمن دليم وبربوش والمغافرة وودي ومطاع وجرار وَغَيرهم من قبائل معقل وأدوا طاعتهم وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَفْد الشَّيْخ بكار المغفري وَالِد الْحرَّة خناثى أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل فأهدى الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَى السُّلْطَان ابْنَته خناثى الْمَذْكُورَة وَكَانَت ذَات جمال وَفقه وأدب فَتَزَوجهَا السُّلْطَان رَحمَه الله وَبنى بهَا وجلب فِي هَذِه الْغَزْوَة من تِلْكَ الأقاليم أَلفَيْنِ من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم وَولى عَلَيْهِم وَبعث بهم إِلَى الْمحلة وقفل هُوَ إِلَى حَضرته من مكناسة فَكَانَ عدد مَا جمع من الْعَسْكَر البُخَارِيّ أَرْبَعَة عشر ألفا عشرَة آلَاف مِنْهَا بمشرع الرملة وَأَرْبَعَة آلَاف بآدخسان وَمَا والاها من بِلَاد البربر ثمَّ عفوا وتناسلوا وكثروا حَتَّى مَا مَاتَ الْمولى إِسْمَاعِيل إِلَّا وَقد بلغ عَددهمْ مائَة وَخمسين ألفا كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَاعْلَم أَنه قد وَقع فِي هَذِه الْأَخْبَار لفظ الحرطاني وَمَعْنَاهُ فِي عرف أهل الْمغرب الْعَتِيق وَأَصله الْحر الثَّانِي كَأَن الْحر الْأَصْلِيّ حر أول وَهَذَا الْعَتِيق حر ثَان ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله على الْأَلْسِنَة فَقيل الحرطاني على ضرب من التَّخْفِيف وَأما سَبَب تَسْمِيَة هَذَا الْجَيْش بعبيد البُخَارِيّ فَإِن الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما جمعهم وظفر بمراده بعصبيتهم وَاسْتغْنى بهم عَن الِانْتِصَار بالقبائل بَعضهم على بعض حمد الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ وَجمع أعيانهم وأحضر نُسْخَة من صَحِيح البُخَارِيّ وَقَالَ لَهُم أَنا وانتم عبيد لسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرعه الْمَجْمُوع فِي هَذَا الْكتاب فَكل مَا أَمر بِهِ نفعله وكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 مَا نهى عَنهُ نتركه وَعَلِيهِ نُقَاتِل فعاهدوه على ذَلِك وَأمر بالاحتفاظ بِتِلْكَ النُّسْخَة وَأمرهمْ أَن يحملوها حَال ركوبهم ويقدموها أَمَام حروبهم كتابوت بني إِسْرَائِيل وَمَا زَالَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَهْد فَلهَذَا قيل لَهُم عبيد البُخَارِيّ قَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ مآل هَذَا الْعَسْكَر البُخَارِيّ مَعَ أَوْلَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مثل مآل التّرْك مَعَ أَوْلَاد المعتصم بن الرشيد العباسي فِي كَونهم استبدوا عَلَيْهِم وصاروا يولون ويعزلون وَيقْتلُونَ ويستحيون إِلَى ان تمّ أَمر الله فيهم وتلاشى جمعهم وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد شذر مذر وَمَا أحياهم إِلَّا السُّلْطَان المرحوم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله وَلما عفوا وكثروا خَرجُوا عَلَيْهِ بِابْنِهِ الْمولى يزِيد وفعلوا فعلتهم الَّتِي فَعَلُوهَا من قبل حَسْبَمَا تسمعه بعد إِن شَاءَ الله غَزْو أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل بِلَاد الشرق وانعقاد الصُّلْح بَينه وَبَين دولة التّرْك أهل الجزائر ثمَّ غزا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بِلَاد الشرق فَترك تلمسان عَن يسَاره وأصحر فِي نَاحيَة الْقبْلَة فَقدمت عَلَيْهِ هُنَالك وُفُود الْعَرَب من ذَوي منيع ودخيسه وحميان والمهاية والعمور وَأَوْلَاد جرير وسقونه وَبني عَامر والحشم فَسَار بهم إِلَى أَن نزل القويعة على رَأس وَادي شلف الْمُسَمّى الْيَوْم بوادي صا وَكَانَ رائده إِلَيْهَا وَالدَّال لَهُ عَلَيْهَا هم بَنو عَامر بن زغبة فَخرج جَيش التّرْك مَعَ ثغر الجزائر بقضهم وقضيضهم ومدافعهم ومهاريسهم ونزلوا على وَادي شلف قبالة السُّلْطَان رَحمَه الله وَلما كَانَ وَقت الْعشَاء أرعدوا مدافعهم ليدهشوا الْعَرَب الَّذين مَعَ السُّلْطَان فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ لما انتصف الَّيْلِ انْسَلَّ بَنو عَامر من محلّة السُّلْطَان وأصبحت الأَرْض مِنْهُم بَلَاقِع وَلما أصبح بَقِيَّة الْعَرَب وَعَلمُوا بفرار بني عَامر انْهَزمُوا دون قتال وَلم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا عسكره الَّذِي جَاءَ بِهِ من الْمغرب فَكَانَ ذَلِك سَبَب تَأَخره عَن حَرْب التّرْك وقفو لَهُ إِلَى حَضرته وكاتبه التّرْك فِي أَن يتخلى لَهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 عَن بِلَادهمْ وَيقف عِنْد حد أسلافه وَمن كَانَ قبلهم من مُلُوك الدولة السعدية فَإِنَّهُم مَا زاحموهم قطّ فِي بِلَادهمْ وبعثوا إِلَيْهِ بِكِتَاب أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن الشريف الَّذِي كَانَ بعث بِهِ إِلَيْهِم مَعَ رسلهم حَسْبَمَا تقدم وبكتاب أَخِيه الْمولى الرشيد الَّذِي فِيهِ الْحَد بَينه وَبينهمْ فَوَقع الصُّلْح على ذَلِك الْحَد الَّذِي هُوَ وَادي تافنا وَلما قفل السُّلْطَان رَحمَه الله وَمن فِي طَرِيقه بِمَدِينَة وَجدّة أَمر ببنائها وتجديد مَا تثلم مِنْهَا ثمَّ قفل إِلَى فاس ثمَّ مِنْهَا إِلَى الحضرة بمكناسة الزَّيْتُون وَكَانَ ذَلِك كُله سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف خُرُوج الْإِخْوَة الثَّلَاثَة من أَوْلَاد الْمولى الشريف ابْن عَليّ بالصحراء وَمَا كَانَ من أَمرهم وَفِي أَوَاخِر رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف بلغ السُّلْطَان رَحمَه الله وَهُوَ بمكناسة خُرُوج إخْوَته الثَّلَاثَة الْمولى الحران وَالْمولى هَاشم وَالْمولى أَحْمد بني الشريف بن عَليّ مَعَ ثَلَاثَة آخَرين من بني عمهم وَأَنَّهُمْ تدرجوا إِلَى آيت عَطاء من قبائل البربر فَنَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان رَحمَه الله بالعساكر وسلك طَرِيق سجلماسة فَكَانَ اللِّقَاء بجبل ساغرو فِي عشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة فَالتقى جَيش السُّلْطَان وجيش الخارجين وجلهم آيت عَطاء فَاقْتَتلُوا وَكَانَ الظفر للسُّلْطَان بعد أَن هلك من جَيْشه ثمَّ من رَمَاه فاس بالخصوص نَحْو أَرْبَعمِائَة دون من عداهم وَهلك قَائِد الْعَسْكَر مُوسَى بن يُوسُف وَانْهَزَمَ الْإِخْوَة وأبعدوا المفر إِلَى الصَّحرَاء وَكَانَ فِي تِلْكَ السّنة وباء عَظِيم قد انْتَشَر فِي بِلَاد الْمغرب فَرجع السُّلْطَان على طَرِيق الفايجة فَأَصَابَهُ ثلج عَظِيم بثنية الكلاوي من جبل درن أهلك النَّاس وأتلف مَتَاعهمْ وأخبيتهم وَمَا تخلصوا مِنْهُ إِلَّا بِمَشَقَّة فادحة وَلما نزلت العساكر بزاوية الشَّيْخ أبي الْعَزْم سَيِّدي رحال الكوش مدوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 أَيْديهم إِلَى أَمْوَال النَّاس وزروعهم بالنهب لما مسهم من ضَرَر الْجُوع فَشَكا النَّاس ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَأمر بقتل كل من وجد خَارج الْمحلة فَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم من الْجَيْش نَحْو الثلاثمائة ثمَّ أَمر بجر الْوَزير أبي زيد عبد الرَّحْمَن المنزري لأمر نقمه عَلَيْهِ وَقتل أَصْحَابه بالرصاص فجر الْوَزير الْمَذْكُور إِلَى فاس ومكناسة وَلم يصل إِلَيْهِمَا إِلَّا بعض شلوه فَطرح على المزبلة وَوصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة فاحتل بدار ملكه واقتعد أريكة عزه ثمَّ دخلت سنة تسعين وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا وَقع الوباء بفاس وأعمالها فَأمر السُّلْطَان العبيد أَن يردوا النَّاس عَن مكناسة فَكَانُوا يتعرضون لَهُم فِي الطرقات بِنَاحِيَة سبو وسايس يردونهم عَن مكناسة وكل من يَأْتِي من نَاحيَة الْقصر وفاس يقتلونه فَانْقَطَعت السبل وتعذرت الْمرَافِق وَفِي أَوَاخِر الْمحرم من هَذِه السّنة أوقع جَيش الْمُسلمين بنصارى طنجة فَقتلُوا مِنْهُم نَحْو ثَلَاثمِائَة وَخمسين وانتزعوا مِنْهُم قَصَبَة بأَرْبعَة أبراج وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو الْخمسين رَحِمهم الله نقل زُرَارَة والشبانات إِلَى وَجدّة وَبِنَاء القلاع بالتخوم وَمَا تخَلّل ذَلِك وَفِي هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة تسعين وَألف أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بِنَقْل عرب زُرَارَة والشبانات قوم كروم الْحَاج من الْحَوْز إِلَى وَجدّة لما كَانُوا عَلَيْهِ من الظُّلم وَالْفساد فِي تِلْكَ الْبِلَاد فأنزلهم بوجدة ثغر الْمغرب وكتبهم فِي الدِّيوَان وَولى عَلَيْهِم أَبَا الْبَقَاء العياشي بن الزويعر الزراري وَتقدم إِلَيْهِ فِي التَّضْيِيق على بني يزناسن إِذْ كَانُوا يَوْمئِذٍ منحرفين عَن الدولة ومتمسكين بدعوة التّرْك فَكَانَ زُرَارَة والشبانات يغيرون عَلَيْهِم ويمنعونهم من الْحَرْث ببسيط آنكاد وَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله أَن تبنى عَلَيْهِم قلعة من نَاحيَة السَّاحِل قرينَة وَجدّة بالموضع الْمَعْرُوف برفادة وَأمر الْقَائِد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 العياشي أَن ينزل بهَا خَمْسمِائَة فَارس من إخوانه يمنعونهم النُّزُول ببسيط تريفة والارتفاق بِهِ من حرث وَغَيره ثمَّ أَمر رَحمَه الله أَن تبنى قلعة أُخْرَى بِطرف بِلَادهمْ بالعيون وَينزل بهَا الْقَائِد الْمَذْكُور خَمْسمِائَة أُخْرَى من إخوانه أَيْضا وَأمر أَن تبنى قلعة ثَالِثَة بِطرف بِلَادهمْ على ملوية وَينزل بهَا خَمْسمِائَة فَارس كَذَلِك وَجعل للقائد العياشي الْمَذْكُور النّظر فِي القلاع الثَّلَاث وَهُوَ بوجدة فِي ألف فَارس فَكَانُوا فِي الدفتر أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف فَفِي جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا خرج السُّلْطَان من الحضرة فِي الْجنُود قَاصِدا بني يزناسن الَّذين تَمَادَوْا على الْعِصْيَان فاقتحم عَلَيْهِم جبلهم واعتسف بروعهم وانتسف زُرُوعهمْ وضروعهم وَحرق قراهم وَقتل رِجَالهمْ وسبى ذَرَارِيهمْ فطلبوا الْأمان فأمن بَقِيَّتهمْ على أَن يدفعوا الْخَيل وَالسِّلَاح الَّتِي عِنْدهم فدفعوها من غير توقف وَقَامُوا بدعوته جبرا عَلَيْهِم ثمَّ نزل بسيط آنكاد وَحضر عِنْده قبائل الأحلاف وسقونه فأرجلهم من خيولهم وجردهم من سِلَاحهمْ وانتزعها مِنْهُم وألزم أَشْيَاخهم أَن يجمعوا لَهُ مَا بَقِي بحلتهم مِنْهَا فَفَعَلُوا ثمَّ فعل بالمهاية وحميان كَذَلِك وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب وَلما نزل وَادي صا أَمر بِبِنَاء قلعة تاوريرت الَّتِي بناها السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فجددها وَأنزل فِيهَا مائَة فَارس من عبيده بعيالهم وَأَوْلَادهمْ وَلما نزل بوادي مسون أَمر أَن تبنى بِهِ قلعة أُخْرَى بجوار الْقَدِيمَة وَأنزل فِيهَا مائَة فَارس من العبيد كَذَلِك ثمَّ أنزل بتازا أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة من خيل العبيد بعيالهم وَولى عَلَيْهِم مَنْصُور بن الرَّامِي وَجعل نظر القلاع الَّتِي بتازا ووادي صا للقائد مَنْصُور الْمَذْكُور وَعين لكل قَبيلَة من قبائل تِلْكَ الْبِلَاد قلعتها الَّتِي تدفع بهَا زكواتها وأعشارها لمؤنة العبيد وعلف خيولهم وهم حراس الطَّرِيق فَمن وَقع فِي أرضه شَيْء عُوقِبَ عَلَيْهِ قَائِد تِلْكَ القلعة وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى الكور أَمر أَن تبنى بِهِ قلعة أَيْضا وَأنزل بهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 مائَة فَارس من عبيده بعيالهم وَلما انْتهى إِلَى فاس أنزل بقصبة الْخَمِيس الَّتِي بنى سورها الْمولى الرشيد خَمْسمِائَة من الْخَيل بعيالهم من شراقة الْعَرَب والبربر الَّذين قدمُوا مَعَ الْمولى الرشيد رَحمَه الله حَسْبَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِبِنَاء قلعة بالمهدومة وَأُخْرَى بالجديدة من أَعمال مكناسة وَأنزل بِكُل وَاحِدَة مائَة من خيل العبيد بعيالهم لحراسة الطرقات وَبِكُل قلعة فندق لمبيت القوافل وَأَبْنَاء السَّبِيل ثمَّ دخل السُّلْطَان رَحمَه الله حَضرته مؤيدا منصورا وَذَلِكَ فِي خَامِس شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف فتح المهدية ومحاربة ابْن مُحرز بالسوس وَمَا تخَلّل ذَلِك قد تقدم لنا مَا كَانَ من اسْتِيلَاء جنس الإصبنيول على المعمورة الْمُسَمَّاة بالمهدية فِي حُدُود الْعشْرين بعد الْألف وَمَا كَانَ بَينهم وَبَين أبي عبد الله العياشي وَأهل سلا من الحروب واستمروا بهَا إِلَى أَن كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف فافتتحها جَيش السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله قَالَ فِي النزهة وَمن محَاسِن الدولة الإسماعيلية تنقية الْمغرب من نَجَاسَة الْكفْر ورد كيد الْعَدو عَنهُ قَالَ وَقد فتح السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل عدَّة مدن من يَد النَّصَارَى كَانَت من مفاسد الْمغرب وَلم يهنأ للْمُسلمين مَعَهم قَرَار من ذَلِك المعمورة فَإِنَّهُ رَحمَه الله قد افتتحها عنْوَة بعد أَن حاصرها مُدَّة وَكَانَ فتحهَا يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف وَأسر بهَا نَحْو الثلاثمائة من الْكفَّار اهـ وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ فتح المهدية عنْوَة عِنْد صَلَاة الْجُمُعَة خَامِس عشر ربيع الثَّانِي من السّنة قيل بِقِتَال وَقيل بِدُونِ قتال وَإِنَّمَا أخذت بِقطع المَاء عَنْهَا وَجِيء بالنصارى الَّذين كَانُوا بهَا أُسَارَى وَلم يصب أحد من الْمُسلمين وَقَالَ فِي الْبُسْتَان وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَألف ورد الْخَبَر على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 السُّلْطَان إِسْمَاعِيل بِأَن ابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز الَّذِي بالسوس قد استولى على بِلَاد آيت زَيْنَب وقويت شوكته فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بتفريق الرَّاتِب وتجهيز العساكر إِلَيْهِ من فاس وتوجهت فِي ثامن ربيع الأول من السّنة ثمَّ بلغه أَن الْعَسْكَر المحاصر للمهدية قد أشرف على فتحهَا وتوقفوا على حُضُوره فَنَهَضَ رَحمَه الله إِلَيْهِم حَتَّى حضر الْفَتْح وَأخرج رَئِيس النَّصَارَى فَأَمنهُ وَأمن أَصْحَابه وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة أنفس وَأما الْغَنِيمَة فقد أحرزها المجاهدون من أهل الفحص والريف الَّذين كَانُوا مرابطين عَلَيْهَا مَعَ الْقَائِد عمر بن حدو البطوئي وَرجع السُّلْطَان إِلَى مكناسة بعد أَن أنزل بالمهدية طَائِفَة من عبيد السوس لعمارتها وسد فرجتها وَحضر هَذَا الْفَتْح جمَاعَة من متطوعة أهل سلا مِنْهُم الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد حجي من صلحائها الْمَشْهُورين بهَا وَاعْلَم أَن السُّور العادي الَّذِي الْيَوْم بالمهدية هُوَ من بِنَاء البرتغال أَيَّام استيلائهم عَلَيْهَا فِي دولة الوطاسيين كَمَا مر وَلما فرغ المجاهدون من أَمر المهدية ارتحلوا مَعَ أَمِيرهمْ عمر بن حدو فَأَصَابَهُ الوباء فَمَاتَ فِي الطَّرِيق وَتَوَلَّى رئاسة الْمُجَاهدين أَخُوهُ الْقَائِد أَحْمد بن حدو تقسمها هُوَ والقائد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي وَكَانَ أَوْلَاد الريفي هَؤُلَاءِ من الشُّهْرَة فِي الْجِهَاد والمكانة فِي الشجَاعَة ومكائد الْحَرْب بِمَنْزِلَة أَوْلَاد النقسيس وَأَوْلَاد أبي الليف وأضرابهم رحم الله الْجَمِيع ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الشرق فنهب بني عَامر وَرجع إِلَى مكناسة وَأمر بِإِخْرَاج أهل الذِّمَّة من الْمَدِينَة وَبنى لَهُم حارة خَارِجهَا بالموضع الْمَعْرُوف ببريمة وكلف أهل تافيلالت الَّذين بفاس بالرحيل إِلَى مكناسة وَالسُّكْنَى بحارة الْيَهُود الْقَدِيمَة الَّتِي أخليت فَلم يزل أهل تافيلالت يذهبون أَرْسَالًا ويسكنونها بالكراء حَتَّى ضَاقَتْ بهم ثمَّ بلغه أَن التّرْك قد خَرجُوا بعسكرهم واستولوا على بني يزناسن وعَلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 دَار ابْن مشعل وَأَنَّهُمْ قد مدوا يَد الْوِفَاق إِلَى ابْن مُحرز وراسلوه وراسلهم وانبرم كَلَامهم مَعَه على حَرْب السُّلْطَان وبلغه مثل ذَلِك من نَائِبه بمراكش فَكتب إِلَيْهِ أَن يحْتَاط فِي حراسة مراكش وَيَأْخُذ بالحزم فِي ذَلِك وَيُقِيم فِي نحر ابْن مُحرز إِلَى أَن يرجع السُّلْطَان من غَزْو تلمسان ثمَّ خرج رَحمَه الله بالعساكر لمصادمة التّرْك فَوَجَدَهُمْ قد رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ لما بَلغهُمْ من خُرُوج النَّصَارَى بشرشال فَسَارُوا إِلَيْهِم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وردوهم على أَعْقَابهم صاغرين وَرجع السُّلْطَان رَحمَه الله من وجهته وَقد دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَألف فَسَار على تفئته إِلَى مراكش فأراح بهَا ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا إِلَى السوس فَالتقى بِابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز فِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي من السّنة وَقَامَت الْحَرْب بَينهمَا على سَاق وَاسْتمرّ الْقِتَال نَحوا من خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا هلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحْصى وَدخل ابْن مُحرز تارودانت فتحصن بهَا وَكَانَ الْوَقْت وَقت غلاء فَضَاقَ الْأَمر على أهل الْحَرَكَة فَجعلُوا يهربون وَكثر فيهم السجْن وَالضَّرْب وَالرَّدّ إِلَيْهَا فِي الْحِين ثمَّ كَانَ بَينهمَا حَرْب أُخْرَى هلك فِيهَا خلق كثير نَحْو أَلفَيْنِ وجرح السُّلْطَان وجرح ابْن مُحرز أَيْضا وَذَلِكَ فِي أواسط جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى رَمَضَان من السّنة قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس حَدثنِي بعض الثِّقَات أَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما أعياه أَمر ابْن أَخِيه الْمَذْكُور أصبح ذَات يَوْم دهشا كئيبا فَقَالَ لوزيره الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس اليحمدي إِنِّي رَأَيْت فِي هَذِه اللَّيْلَة رُؤْيا أحزنتني إِلَى الْغَايَة فَقَالَ وَمَا هِيَ يَا مَوْلَانَا وَعَسَى أَن تكون خيرا قَالَ رَأَيْت كَأَن هَذِه الْجنُود الَّتِي مَعنا مَا بَقِي مِنْهَا أحد وَلم يبْق إِلَّا أَنا وَأَنت مختفيين فِي غَار مظلم فَسجدَ الْوَزير اليحمدي شكرا لله تَعَالَى وَأطَال السُّجُود ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أبشر يَا مَوْلَانَا فقد نصرنَا الله على هَذَا الرجل فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان وَمن أَيْن لَك ذَلِك فَقَالَ لَهُ من قَوْله تَعَالَى {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} التَّوْبَة 40 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما فسر السُّلْطَان بذلك غَايَة السرُور وانسرى عَنهُ مَا كَانَ يجده من الْغم وَعلم أَن رُؤْيَاهُ بِشَارَة من الله تَعَالَى لَهُ وعَلى أثر ذَلِك وَقع الصُّلْح بَينهمَا فِي رَمَضَان وَرجع السُّلْطَان إِلَى حَضرته فَدَخلَهَا فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة امتحان الْقُضَاة وَالسَّبَب فِيهِ قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَتِسْعين وَألف أَمر السُّلْطَان بِالْقَبْضِ على جَمِيع الْقُضَاة وامتحنوا ووصفوا بِالْجَهْلِ وسجنوا فِي مشور فاس الْجَدِيد حَتَّى يتعلموا مَا لابد مِنْهُ من أَحْكَام مَا هم مدفوعون إِلَيْهِ ثمَّ أخرجُوا أَيَّام المولد الْكَرِيم إِلَى مكناسة فهددوا بهَا أَيْضا حَتَّى أَمر بِحَبْس بَعضهم أَو قبله ثمَّ أطْلقُوا معزولين اه قَالَ أكنسوس وَلَعَلَّ المُرَاد بهم قُضَاة الْبَوَادِي وَمن فِي معناهم قلت وَلم أر فِي الأزهار شَيْئا من هَذَا وَلَعَلَّه فِي نُسْخَة الأَصْل لأَنهم ذكرُوا أَنَّهُمَا نسختان إِحْدَاهمَا مختصرة من الْأُخْرَى وَالله أعلم غَزْو البربر وَبِنَاء القلاع بِإِزَاءِ معاقلهم ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان فِي العساكر إِلَى جبال فزاز لِحَرْب صنهاجة من البربر الَّذين هُنَالك فَلَمَّا سمعُوا بِخُرُوج السُّلْطَان انْهَزمُوا إِلَى ملوية فَدخل السُّلْطَان بِلَادهمْ واختط قلعة بِعَين اللَّوْح بسفح جبلهم ثمَّ نزل بِعَين آصرو فَأمر بِبِنَاء قلعة هُنَالك بسفح الْجَبَل أَيْضا ثمَّ تبع آثَارهم إِلَى أَن دخلُوا جبل العياشي وتربص رَحمَه الله بملوية إِلَى أَن دخل فصل الشتَاء وَكَانَ قَصده بذلك التَّرَبُّص إتْمَام سور القلعتين وَلما عزم على الرُّجُوع أنزل بقلعة آصرو ألف فَارس وبقلعة عين اللَّوْح خَمْسمِائَة فَارس فَأخذُوا بمخنقهم واستراح النَّاس من عيثهم ببسيط سائس وَلما منعُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 من السهل وانقطعت عَنْهُم الْميرَة وَقلت الأقوات خشعوا وَنزل وفدهم فقدموا مكناسة على السُّلْطَان تَائِبين فَأَمنَهُمْ على شَرط دفع الْخَيل وَالسِّلَاح والاشتغال بالحرث والنتاج فدفعوها عَن يَد وهم صاغرون وَهَؤُلَاء هم آيت ادراسن فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله عشْرين ألفا من الْغنم ألزمهم برعايتها وحفظها وَأسْقط عَنْهُم الْوَظَائِف فصلحت أَحْوَالهم وصاروا فِي كل عَام يدْفَعُونَ صوفها وسمنها ويزيدهم الْغنم إِلَى أَن بلغ عَددهَا سِتِّينَ ألفا وَقلت شوكتهم وَذهب بأسهم فتح طنجة قد تقدم لنا أَن طنجة صَارَت إِلَى جنس النجليز من يَد البرتغال واستمرت بِيَدِهِ إِلَى سنة خمس وَتِسْعين وَألف فعقد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله للقائد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي على جَيش الْمُجَاهدين وَوَجهه لحصار طنجة فضيقوا على من بهَا من النَّصَارَى وطاولوهم إِلَى أَن ركبُوا سفنهم وهربوا فِي الْبَحْر وتركوها خاوية على عروشها وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَألف قَالَه فِي النزهة وَقَالَ فِي الْبُسْتَان لما ضَاقَ الْأَمر على النَّصَارَى الَّذين بطنجة وَطَالَ عَلَيْهِم الْحصار خربوها وهدموا أسوارها وأبراجها وركبوا سفنهم وتركوها فَدَخلَهَا الْمُسلمُونَ من غير طعن وَلَا ضرب وَشرع قَائِد الْمُجَاهدين عَليّ بن عبد الله الريفي فِي بِنَاء مَا تهدم من أسوارها ومساجدها فِي فاتح جُمَادَى الأولى من السّنة قلت وأعقاب هَذَا الْقَائِد لَا زَالُوا الْيَوْم بطنجة وَكَثِيرًا مَا تكون فيهم الرياسة هُنَالك ثمَّ اتّفق أَن نشب بِقرب ساحلها مركب قرصاني جَاءَ مدَدا لأهل سبتة فِيهِ أَمْوَال وبضائع فحارب الْمُسلمُونَ أَهله عَلَيْهِ واحتووا على مَا فِيهِ وألزم السُّلْطَان قَبيلَة غمارة بجر مدافعه النحاسية إِلَى مكناسة وَأرْسل الرُّمَاة من أهل فاس لجرها أَيْضا فَأتوا بهَا لأربعين يَوْمًا وَالله غَالب على أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 غَزْو البربر ثَانِيًا وَبِنَاء القلاع فِي نحورهم ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان غازيا بِلَاد ملوية وَجعل طَرِيقه على مَدِينَة صفرو ففرت قبائل البربر إِلَى رُؤُوس الْجبَال وهم آيت يوسي وشغروسن وَأَيوب وعلاهم وقادم وحيون ومديونة فَأمر السُّلْطَان بِبِنَاء قلعة بآعليل وَأُخْرَى على وَادي كيكو من أَسْفَله وَأُخْرَى على وَادي سكورة وَأُخْرَى على وَادي تاشواكت ثمَّ خرج السُّلْطَان بملوية ففرت الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة إِلَى جبل العياشي وَتَفَرَّقُوا فِي شعابه فَأمر بِبِنَاء قلعة بدار الطمع وقلعة بتاببوست وقلعة بقصر بني مطير وقلعة بوطواط وقلعة بالقصابي وَأقَام على نهر ملوية يبث السَّرَايَا ويشن الغارات على البربر قَرِيبا من سنة وَالْعَمَل مُسْتَمر فِي بِنَاء القلاع إِلَى أَن أكملت أسوارها وَأنزل رَحمَه الله بِكُل قلعة أَرْبَعمِائَة من خيل العبيد بعيالهم وجاءته وُفُود البربر تَائِبين طائعين فَأَمنَهُمْ على شَرط دفع الْخَيل وَالسِّلَاح فدفعوها وَصفا لَهُ رَحمَه الله هَذَا الرّبع الشَّرْقِي من جبل درن وَالله ولي التَّوْفِيق بمنه مقتل الْمولى أَحْمد بن مُحرز وَفتح تارودانت وَمَا يتَّصل بذلك وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَهُوَ بمكناسة أَن أَخَاهُ الْمولى الحران وَابْن أَخِيه الْمولى أَحْمد بن مُحرز قد دخلا قَصَبَة تارودانت واستحوذا على تِلْكَ الْجِهَات فَنَهَضَ إِلَيْهِمَا ووالى السيرحتى أَنَاخَ بكلكله على تارودانت وحاصرهما بهَا أَيَّامًا فاتفق أَن ابْن مُحرز خرج ذَات يَوْم فِي جمَاعَة من عبيده لزيارة بعض الْأَوْلِيَاء فَلَقِيَهُ جمَاعَة من زُرَارَة أَصْحَاب السُّلْطَان فَلم يعرفوه وظنوا أَنه بعض قواد ابْن مُحرز فشدوا عَلَيْهِ فماصعهم هنيئة ثمَّ قَتَلُوهُ فَإِذا هُوَ ابْن مُحرز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان خرج حَتَّى وقف عَلَيْهِ فَعرفهُ وَأمر بتجهيزه وَدَفنه فَدفن مَعَ الغرناطي أحد قواد الْجَيْش وَكَانَ قد قتل ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ مقتل الْمولى أَحْمد رَحمَه الله فِي أواسط ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف بعد تشغيبه على السُّلْطَان أَربع عشرَة سنة ثمَّ بعد أَيَّام خرج أهل تارودانت لَيْلًا إِلَى قبر الْمولى أَحْمد فنبشوه ونبشوا قبر الغرناطي لِأَنَّهُ كَانَ قد الْتبس عَلَيْهِم بِهِ فاستخرجوهما مَعًا حَتَّى عرفُوا الْمولى أَحْمد فَحَمَلُوهُ فِي تابوته وَتركُوا الغرناطي على شَفير قَبره وَاسْتمرّ الْمولى الحران محصورا بتارودانت وَالْحَرب قَائِمَة على سَاق إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَألف فَكَانَت حَرْب هلك فِيهَا نَحْو الستمائة نفس من الْجند مِنْهُم الْقَائِد زيتون والباشا حمدَان وَغَيرهمَا ثمَّ كَانَت حَرْب أُخْرَى أعظم من الأولى ثمَّ ثَالِثَة كَذَلِك هلك فِيهَا الْقَائِد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الروسي وَتَوَلَّى مَكَانَهُ ابْن الغرناطي وَاسْتمرّ الْحَال بهَا إِلَى جُمَادَى الأولى من سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف فاقتحم السُّلْطَان تارودانت عنْوَة بِالسَّيْفِ واستباحها وَاسْتولى عَلَيْهَا وفر الْمولى الحران إِلَى حَيْثُ أَمن على نَفسه وَلما اتَّصل خبر الْفَتْح بِأَهْل فاس عينوا وَفْدًا من كبرائهم وأشرافهم وغلمائهم فقدموا على السُّلْطَان بِقصد التهنئة يقدمهم وَلَده الْمولى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَأكْرم وفادتهم وَخرج أَوْلَاد النقسيس من سبتة وَكَانُوا قد لجؤوا إِلَيْهَا بعد مقتل الْخضر غيلَان فقدموا على السُّلْطَان بعسكره من تارودانت فَأمر بردهمْ إِلَى تطاوين وقتلهم بهَا وَأمر بقتل من كَانَ مِنْهُم مسجونا بفاس فَقتلُوا أَجْمَعُونَ رَحِمهم الله ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَألف فِيهَا قفل السُّلْطَان من السوس فَدخل دَار ملكه مكناسة وَاسْتقر بهَا وَبعث إِلَى عَامل فاس أَن يخرج من بهَا من أهل الرِّيف إِلَى تارودانت بِقصد عمارتها وَالسُّكْنَى بهَا وَفِي خَامِس جُمَادَى الأولى من السّنة استدعى السُّلْطَان فُقَهَاء فاس لحضور ختم التَّفْسِير عِنْد قاضيه أبي عبد الله المجاصي فَحَضَرُوا وَأكْرمهمْ ووصلهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 غَزْو برابرة فازاز وَبِنَاء قلعة آدخسان لما تهَيَّأ السُّلْطَان رَحمَه الله لغزو أهل جبل فازاز نَهَضَ إِلَيْهِم وَصعد الْجَبَل من النَّاحِيَة الغربية فَأول من قدم عَلَيْهِ من برابرته بِالطَّاعَةِ زمور وَبَنُو حكم فولى عَلَيْهِم رئيسهم بايشي القبلي فاستصفى مِنْهُم الْخَيل وَالسِّلَاح ثمَّ تجاوزهما إِلَى المَال فاستصفاه أَيْضا وَجمع ذَلِك كُله وَقدم بِهِ على السُّلْطَان وَهُوَ ببسيط آدخسان فقدمه إِلَيْهِ فَأنْكر السُّلْطَان عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ لَهُ مَا حملك على مَا فعلت وَلم آمُرك بِهِ فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن كَانَ غرضك فِي صَلَاحهمْ وفلاحهم فَهُوَ الَّذِي فعلت لَك وَلَهُم وَإِن سرت مَعَهم بِغَيْر هَذَا أتعبوك وأتعبوا أنفسهم وَإِنَّمَا طهرتهم من الْحَرَام ليشتغلوا باكتساب الْحَلَال فَإِنَّهُ يَنْمُو ويزكو فَاسْتحْسن السُّلْطَان قَوْله وأمضى فعله وَأقَام رَحمَه الله بآدخسان يحارب آيت ومالو سنة كَامِلَة حَتَّى بنى قلعة آدخسان الجديدة بِمحل الْقَدِيمَة الَّتِي كَانَ بناها أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله وَخَربَتْ وَلما دخل فصل الشتَاء أنزل بالقصبة ألفا وَخَمْسمِائة فَارس من عبيد أهل دكالة الَّذين كَانُوا بِوَجْه عروس نقلهم إِلَيْهَا بأولادهم وَأنزل بزاوية أهل الدلاء ألفا وَخَمْسمِائة فَارس من عبيد الشاوية الَّذين كَانُوا بِوَجْه عروس أَيْضا نقلهم بعيالهم وَأمرهمْ بحصار البربر ومنعهم من النُّزُول للمرعى والحرث وَنَحْوهمَا ثمَّ قفل إِلَى مكناسة قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الصياني وَفِي هَذِه الْمرة نقل مَعَه جدنا الْفَقِيه الْأُسْتَاذ ابا الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بأولاده إِلَى مكناسة وَسبب ذَلِك أَنه لما نزل بآدخسان وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْأَشْرَاف الَّذين باركوا قَالَ لَهُم دلوني على رجل صَاحب فقه وَدين يؤمني فِي الصَّلَوَات فَقَالُوا لَهُ لَيْسَ بِهَذَا الْجَبَل أتقى من سَيِّدي عَليّ بن إِبْرَاهِيم فَأتوا بِهِ فَكَانَ إِمَامه فِي الْمحلة وَلما قفل أَخذه مَعَه قَالَ فَهَذَا سَبَب انْتِقَال جدنا من آركو إِلَى الْحَضَر اه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 بَيَان تربية أَوْلَاد عبيد الدِّيوَان وَكَيْفِيَّة تأديبهم قد قدمنَا أَن جُمْهُور عبيد البُخَارِيّ كَانُوا بالمحلة من مشرع الرملة وَأَنَّهُمْ تَنَاسَلُوا بهَا وكثروا إِلَى الْغَايَة فَلَمَّا كَانَت سنة مائَة وَألف أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله أُولَئِكَ العبيد أَن يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سِنِين فَمَا فَوق فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ فرق الْبَنَات على عريفات دَاره كل طَائِفَة فِي قصر للتربية والتأديب وَفرق الْأَوْلَاد على البنائين والنجارين وَسَائِر أهل الْحَرْف للْعَمَل والخدمة وسوق الْحمير والتدرب على ركُوبهَا حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى سوق البغال الحاملة للآجر والزليج والقرمود والخشب وَنَحْو ذَلِك حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى خدمَة المركز وَضرب أَلْوَاح الطابية حَتَّى إِذا أكملوا سنة نقلهم إِلَى الْمرتبَة الأولى فِي الجندية فكساهم وَدفع إِلَيْهِم السِّلَاح يتدربون بِهِ على الجندية وطرقها حَتَّى إِذا أكملوا سنة دفع إِلَيْهِم الْخَيل يركبونها أعراء بِلَا سروج ويجرونها فِي الميدان للتمرس بهَا والتدرب على ركُوبهَا حَتَّى إِذا أكملوا سنة وملكوا رؤوسها دفع إِلَيْهِم السُّرُوج فيركبونها بهَا ويتعلمون الْكر والفر والثقافة فِي المطاعنة والمراماة على صهواتها حَتَّى إِذا أكملوا سنة بعد ذَلِك صَارُوا فِي عداد الْجند الْمُقَاتلَة فَيخرج لَهُم السُّلْطَان الْبَنَات اللَّاتِي قدمن مَعَهم ويزوج كل وَاحِد من الْأَوْلَاد وَاحِدَة من الْبَنَات وَيُعْطِي الرجل عشرَة مَثَاقِيل مهر زَوجته وَيُعْطِي الْمَرْأَة خَمْسَة مَثَاقِيل شورتها ويولي عَلَيْهِم وَاحِدًا من آبَائِهِم الْكِبَار وَيُعْطِي ذَلِك الْقَائِد مَا يَبْنِي بِهِ دَاره وَمَا يَبْنِي بِهِ أخصاص أَصْحَابه وَهِي الْمَعْرُوفَة عندنَا بالنواويل وَيبْعَث بهم إِلَى الْمحلة بعد أَن يكتبوا فِي ديوَان الْعَسْكَر وَاسْتمرّ الْحَال هَكَذَا فَفِي كل سنة يَأْتِي من الْمحلة عدد صَغِير وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهَا من عِنْد السُّلْطَان عدد كَبِير من سنة مائَة وَألف إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْآتِي فَبلغ عدد هَذَا الْعَسْكَر البُخَارِيّ مائَة ألف وَخمسين ألفا مِنْهَا ثَمَانُون ألفا مفرقة فِي قلاع الْمغرب لعمارتها وحراسة طرقها وَسَبْعُونَ ألفا بالمحلة وَعدد القلاع الَّتِي بناها الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بالمغرب سِتّ وَسَبْعُونَ قلعة لَا زَالَت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 قَائِمَة الْعين والأثر بآفاق الْمغرب يعرفهَا الْخَاص وَالْعَام إِلَى الْآن هَكَذَا وجد فِي كناش كَاتب الدولتين الرشيدية والإسماعيلية الْفَقِيه أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن عبد الْقَادِر الزرهوني الْمُتَوفَّى بتارودانت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف وَكَانَ عِنْده دفتر الْعَسْكَر كُله سَوَاء السوَاد الْأَعْظَم والمتفرق فِي قلاع الْمغرب قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَقله المؤرخون على وَجه الغرابة من أَن الْخَلِيفَة المعتصم بن رشيد رحمهمَا الله بلغ عدد مماليكه الَّذين اشتراهم وَالَّذين جلبهم من بِلَاد التّرْك ثَمَانِيَة عشر ألفا قَالَ وَهَذَا الْعدَد الَّذِي جمعه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله من العبيد لَو خَاضَ بِهِ الْبَحْر إِلَى الأندلس وَكَانَت تِلْكَ القلاع سفنا ومراكب جهادية لاستولى عَلَيْهَا والتوفيق من الله اه قلت وَهُوَ لعمري كَلَام مَقْبُول لَكِن الْإِنْسَان مجبور فِي قالب مُخْتَار وتصاريف الْأُمُور جَارِيَة بيد الله لَا بيد غَيره وَمَا ترك من الْجَهْل شَيْئا من أَرَادَ أَن يظْهر فِي الْوَقْت غير مَا أظهره الله فِيهِ وَقَالَ الشَّاعِر (لَا يعرف الشوق إِلَّا من يكابده ... وَلَا الصبابة إِلَّا من يعانيها) وَقَالَ الآخر (لَا تعذل المشتاق فِي أشواقه ... حَتَّى يكون حشاك فِي أحشائه) وَقَالَ (واذا مَا خلا الجبان بِأَرْض ... طلب الطعْن وَحده والنزالا) وَمن أَمْثَال الْعَامَّة الْقَاعِد على الجرف محسن للسباحة هَذَا كُله بِالنّظرِ إِلَى الْحَقِيقَة فَأَما الشَّرِيعَة فقد قَالَ تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْأَنْفَال 60 الْآيَة وعَلى كل حَال فَلَا يسوغ للْإنْسَان أَن يهمل الاستعداد الْمَأْمُور بِهِ شرعا ويكل الْأَمر إِلَى الْقدر وَإِلَّا فَيكون مخطئا مُخَالفا للشَّرْع والطبع قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي الَّذِي ترك نَاقَته مُرْسلَة أعقلها وتوكل وَقَالَ الشَّاعِر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 (على الْمَرْء أَن يسْعَى لما فِيهِ نَفعه ... وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يساعده الدَّهْر) اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك الْعَفو والعافية والتوفيق واللطف فِيمَا جرت بِهِ الْمَقَادِير يانعم الْمولى وَنعم النصير فتح العرائش وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة مائَة وَألف فِي آخر شَوَّال مِنْهَا سَار الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن حدو البطوئي فِي جمَاعَة من الْمُجَاهدين لحصار العرائش وَكَانَ الإصبنيول خذله الله قد استولى عَلَيْهَا على يَد الشَّيْخ بن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ كَمَا مر فَنزل الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور عَلَيْهَا وضيق على الْكفَّار الَّذين بهَا وحاصرهم نَحوا من ثَلَاثَة أشهر وَنصف كَذَا فِي النزهة وَقَالَ المؤرخ منويل إِن مُدَّة الْحصار كَانَت خَمْسَة أشهر قَالَ وَكَانَ طاغية الفرنسيس وَهُوَ لويز الرَّابِع عشر قد أعَان الْمولى إِسْمَاعِيل على فتح العرائش وحاصرها بحرا بِخمْس فراقط وَقطع عَنْهَا الْمَادَّة مُدَّة ثمَّ أقلع عَنْهَا ثمَّ بعد ذَلِك كَانَ الْفَتْح قَالَ فِي النزهة فتحهَا الْمُسلمُونَ بعد معاناة شَدِيدَة وَذَلِكَ أَنهم حفروا المينات تَحت خَنْدَق سورها الموَالِي للمرسى وملؤوها بارودا ثمَّ أوقدوها بالنَّار فنفطت وَسقط جَانب من السُّور فاقتحم الْمُسلمُونَ مِنْهُ وتسلقوا إِلَى مَا كَانَ من النَّصَارَى على الأسوار فَوَقَعت ملحمة عَظِيمَة وفر باقيهم إِلَى حصن القبيبات الَّذِي بناه الْمَنْصُور السَّعْدِيّ واعتصموا بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة فخامر قُلُوبهم الْجزع وطلبوا الْأمان فَأَمنَهُمْ الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس الْمَذْكُور على حكم السُّلْطَان فنزلوا عَلَيْهِ فَأخذُوا أُسَارَى بأجمعهم وَلم يعْتق مِنْهُم إِلَّا أَمِيرهمْ وَحده وَتمّ الْفَتْح وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن عشر من الْمحرم سنة إِحْدَى وَمِائَة وَألف وَمَا فِي الْبُسْتَان وقلده صَاحب الْجَيْش أَن نَصَارَى العرائش اعتصموا بحصن القبيبات سنة كَامِلَة خطأ لَا يعول عَلَيْهِ وَكَانَ عدد نَصَارَى العرائش قبل الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِم ثَلَاثَة آلَاف وَمِائَتَيْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 وَلما ظفر بهم الْمُسلمُونَ أَسرُّوا مِنْهُم نَحْو أَلفَيْنِ وَقتلُوا مِنْهُم اثْنَتَيْ عشرَة مائَة وَوجد بهَا من البارود وَالْعدة مَا لَا يُحْصى كَثْرَة فَمن المدافع نَحْو مائَة وَثَمَانِينَ مِنْهَا اثْنَان وَعِشْرُونَ من النّحاس وَالْبَاقِي من الْحَدِيد وَمِنْهَا مدفع يُسمى الغصاب طوله خَمْسَة وَثَلَاثُونَ قدما بِالْحِسَابِ وَوزن كرته خَمْسَة وَثَلَاثُونَ رطلا بِحَيْثُ حلق عَلَيْهِ بِقرب خزانته أَرْبَعَة رجال كَذَا سمع من المشاهدين لذَلِك بعد السُّؤَال كَذَا فِي النزهة قَالَ منويل فِي كِتَابه إِن النَّصَارَى مَا أَسْلمُوا أنفسهم حَتَّى شرطُوا شُرُوطًا مُعْتَبرَة لَكِن السُّلْطَان نكث اه قلت حكى أَبُو الْقَاسِم العميري فِي فهرسته مَا حَاصله أَن نَصَارَى العرائش ادعوا أَن الْفَتْح الْمَذْكُور إِنَّمَا كَانَ صلحا وتأمينا لَا عنْوَة ثمَّ لما طَال النزاع فِي ذَلِك أَمر السُّلْطَان قَاضِي حَضرته المكناسية أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي مَدين بِبَيَان الحكم فِي ذَلِك فَأجَاب جَوَابا طَويلا حرر فِيهِ حكم الشَّرِيعَة المحمدية بِمَا لاغاية فَوْقه وَحكم على أُولَئِكَ النَّصَارَى بالأسر وَقد ذكر ذَلِك بِتَمَامِهِ فِي الفهرسة الْمَذْكُورَة فَلْينْظر هُنَالك وَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بإشخاص أُولَئِكَ النَّصَارَى إِلَى مكناسة الزَّيْتُون وَكَانُوا ألفا وَثَمَانمِائَة على مَا فِي الْبُسْتَان فَكَانَ يستخدمهم مَعَ غَيرهم من المساجين والأسرى فِي بِنَاء قصوره بِالنَّهَارِ ويبيتون لَيْلًا فِي الدهليز وَهُوَ فِي عرف المغاربة هري تَحت الأَرْض وأسكن السُّلْطَان رَحمَه الله أهل الرِّيف العرائش وَأمر قائدهم أَن يَبْنِي بهَا مسجدين وحماما وَيَبْنِي دَاره بقلعتها وَفِي فتح العرائش أنْشد الْخَطِيب البليغ أديب فاس ومفتيها أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الشريف البوعناني فَقَالَ (أَلا أبشر فَهَذَا الْفَتْح نور ... قد انتظمت بعزكم الْأُمُور) (وطير السعد نَادَى حَيْثُ غنى ... قد انشرحت بفتحكم الصُّدُور) (وضوء النَّصْر ساعده التهاني ... وَنور الْفَخر نحوكم يَدُور) (وَقد وافتكم الْخيرَات طرا ... وطاب الْعَيْش واتصل السرُور) (حميتم بَيْضَة الْإِسْلَام لما ... بِعَين الْحق قد حرس الثغور) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 (وجاهدتم وقاتلتم فَأنْتم ... لدين الله أقمار تنير) (وأطلعتم صوارمكم نجوما ... لَدَى هيجاء صَاحبهَا كفور) (فَأَنت الْبَدْر يَوْم السّلم حسنا ... فِي يَوْم الوغا الْأسد الهصور) (وَفِي ثغر العرائش قد تبدى ... لقد ركم على الشعرى الظُّهُور) (لقد كَانَ الْمُلُوك فساوموها ... وراموها وَبَان لَهَا نفور) (فَلَمَّا جاءها انقادت وَقَالَت ... إِلَيْك بِحَق مَوْلَانَا الْمصير) (ملكت قياد عزتها بذل ... فَمَا أغْنى الْحصار وَلَا العبور) (قهرتم بأبطال ضخام ... على الهيجاء كلهم جسور) (فكم رَأس من الْكفَّار أَمْسَى ... قطيع الرَّأْس مجرورا يخور) (وَكم نحر قلادته رماح ... وَسن الرمْح مركزه النحور) (وَكم أسرى وَكم قَتْلَى بِأَرْض ... وَكم جرحى دِمَاؤُهُمْ تَفُور) (تمر بهَا الطُّيُور فتنتقيها ... وَبَات الذِّئْب وَهُوَ لَهَا شكور) (وأضحى النَّاس كلهم نشاوى ... على طرب وَمَا شربت خمور) (فبشراكم بِهَذَا الْفَتْح نور ... وبشراكم بِمَا من الغفور) (بِهِ زَادَت مآثركم علوا ... وَقد عظمت بِهِ لكم الأجور) (أَلا يَا معشر الْكفَّار هَذَا ... يبددكم وَلَيْسَ لَهُ فتور) (أَلا يَا أهل سبتة قد أَتَاكُم ... بِسيف الله سُلْطَان وقور) (إِذا مَا جَاءَ سبتة فِي عشي ... تناديه إِذا كَانَ البكور) (ووهران تنادي كل يَوْم ... مَتى يَأْتِي الإِمَام مَتى يزور) (مَتى يَأْتِي ويفتحها سَرِيعا ... وَيلْحق أَهلهَا مِنْهُ ثبور) (فيهزمهم ويقتلهم وَيَسْبِي ... وَسيف الْحق فِي يَده ينور) (أيا مولَايَ قُم وانهض وشمر ... لأندلس فَأَنت لَهَا الْأَمِير) (وجاهدهم وحاربهم وَفرق ... جموعهم فربكم النصير) (وَلَا يمْنَع بِفضل الله مِنْهَا ... كَمَا قد قيل بر أَو بحور) (لِسَان الْحَال ينشد كل يَوْم ... وَمعنى الْحَال تفهمه الصُّدُور) (بقرطبة تنَال الْمجد طرا ... وَيَأْتِي الْعِزّ وَالْملك الْكَبِير) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 (وذلكم بعون الله سهل ... وَمن بركاتكم أَمر يسير) (أيا مولَايَ إِسْمَاعِيل هَذَا ... عبيدكم الضَّعِيف المستجير) (يناديكم بناديكم وَيَدْعُو ... دُعَاء لَا تعييه الدهور) (فيارب الْبَريَّة ياإلهي ... وَيَا رَحْمَن يَا نعم المجير) (أثب هَذَا الْأَمِير بِكُل خير ... وَلَا تجْعَل تِجَارَته تبور) (وأبق الْملك فِيهِ وَفِي بنيه ... وَلَو كرهت زيود أَو عمور) (وَنحن رعية نرجو هناء ... وبالسلطان تنتظم الْأُمُور) (عَلَيْكُم من عبيدكم سَلام ... مدى الدُّنْيَا يضمخه العبير) (يعم جنابكم مَا قَالَ صب ... أَلا أبشر فَهَذَا الْفَتْح نور) وَقَالَ فِي ذَلِك الْفَقِيه الْعَالم الْوَرع الشيهر أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن حمدون جسوس رَحمَه الله (رفعت منَازِل سبتة أقوالها ... تَشْكُو إِلَيْكُم بِالَّذِي قد هالها) (مَعَ بادس وبريجة فتعطفوا ... وتنبهوا كي تسمعوا تساءلها) (يَابْنَ النَّبِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد ... قل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا لَهَا) (فَلَقَد قضيتم للعرائش حَاجَة ... مَعَ طنجة فاقضوا لذِي آمالها) (عَار عَلَيْكُم أَن تكون أسيرة ... بجواركم وجنودكم تغزى لَهَا) (إِن لم تَكُونُوا آخذين بثأرها ... من ذَا يفك من الوثاق حبالها) (لَا تسمعن من جَاهِل ومثبط ... وَمصْعَب من جَهله أحوالها) (إِن الَّذين تقدمُوا قد جاهدوا ... بنفوسهم وبمالهم أَمْثَالهَا) (فتملكوا أملاكها وديارها ... وتقسموا أموالها ورجالها) (فَابْعَثْ لَهَا أهل الشجَاعَة عَاجلا ... حَتَّى تراهم نازلين جبالها) (وأمدهم بمؤونة ومعونة ... كَيْفَمَا تقطع بالعدا أوصالها) (وارفع لهَذَا الغرب رَأْسا إِنَّه ... فِي الضعْف مَا دَامَ العدا أنزالها) (أبقاك رَبِّي للخلافة عدَّة ... تقفو الشَّرِيعَة مؤثرا أفعالها) (وَاقْبَلْ هَدِيَّة من أَتَى بنصيحة ... يَبْغِي الثَّوَاب وَلَا تقل من قَالَهَا) وَقَالَ فِي ذَلِك الشريف الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن الطّيب القادري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 (علا عرش دين الله من كل العرائش ... وهد بنصر الله قصر العرائش) وَهِي طَوِيلَة انظرها فِي نشر المثاني إِن شِئْت ثمَّ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول من هَذِه السّنة نهى السُّلْطَان عَن لبس النِّعَال السود ونادى فِي سَائِر أَمْصَار الْمغرب وَأمر بِلبْس النِّعَال الصفر مَكَانهَا لما قيل من أَن النَّاس اتَّخذُوا النِّعَال السود مُنْذُ استولى النَّصَارَى على العرائش على يَد الْمَأْمُون السَّعْدِيّ كَمَا تقدم وَفِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة قتل السُّلْطَان ثَلَاثَة وَسِتِّينَ رجلا من الطَّائِفَة المسمون بالعكاكزة فتح آصيلا وَلما فرغ المجاهدون من أَمر العرائش عَمدُوا إِلَى مَدِينَة آصيلا فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروا النَّصَارَى الَّذين بهَا سنة كَامِلَة وأظنهم الإصبنيول إِلَى أَن بلغ بهم الْحصار كل مبلغ فطلبوا الْأمان فأمنوهم على حكم السُّلْطَان وَلما لم يطمئنوا لذَلِك ركبُوا من اللَّيْل سفنهم ونجوا إِلَى بِلَادهمْ وَدخل الْمُسلمُونَ الْمَدِينَة فملكوها وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف وعمرها أهل الرِّيف أَيْضا وَبنى بهَا قائدهم مسجدين ومدرسة وحماما وَبنى دَاره بقلعتها وَالله أعلم حِصَار سبتة ثمَّ سَار المجاهدون بعد الْفَرَاغ من آصيلا إِلَى سبتة فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروها واستأنفوا الْجد فِي مقاتلتها وامدهم السُّلْطَان بعسكر من عبيده وَأمر قبائل الْجَبَل أَن تعين كل قَبيلَة حصَّتهَا للمرابطة على سبتة وَكَذَلِكَ أَمر أهل فاس أَن يبعثوا بحصتهم إِلَيْهَا فَكَانَ عدد المرابطين عَلَيْهَا خَمْسَة وَعشْرين ألفا وَتقدم السُّلْطَان إِلَيْهِم فِي الْجد وَالِاجْتِهَاد فَكَانَ الْقِتَال لَا يَنْقَطِع عَنْهَا صباحا وَمَسَاء وَطَالَ الأمد حَتَّى أَن السُّلْطَان رَحمَه الله اتهمَ القواد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 الَّذين كَانُوا على حصارها بِعَدَمِ النصح فِي افتتاحها لِئَلَّا يبْعَث بهم بعْدهَا إِلَى حِصَار البريجة فيبعدوا عَن بِلَادهمْ مَعَ أَنهم قد سئموا كَثْرَة الْأَسْفَار ومشقات الحروب وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن مَاتَ الْقَائِد أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي وَولى بعده ابْنه الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ والقتال لَا زَالَ وَالْحَال مَا حَال وَفِي كل سنة يتعاقب الْغُزَاة عَلَيْهَا وَالسُّلْطَان مشتغل بتمهيد الْمغرب ومقاتلة برابرة جبل فازاز وَغَيرهم وَلم يهيىء الله فتحهَا على يَدَيْهِ وَدَار الْقَائِد أَحْمد بن عَليّ ومسجده اللَّذَان بناهما بِإِزَاءِ سبتة أَيَّام الْحصار لَا زَالا قائمي الْعين والأثر إِلَى الْيَوْم وَحكى الغزال فِي رحلته أَنه رأى بِأحد أَبْوَاب سبتة خرقا قَدِيما لم يصلح فَسَأَلَ أَهلهَا عَنهُ فَقَالُوا إِنَّه من أثر الرَّمْي الَّذِي كَانَ يرميه الْجَيْش الْإِسْمَاعِيلِيّ وَهُوَ أثر كرة خرقت الْبَاب ونفذت إِلَى دَاخل الْبَلَد وَتَرَكْنَاهُ على حَاله ليعتبر بِهِ من يَأْتِي بَعدنَا ويزداد احْتِيَاطًا وحزما أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالله تَعَالَى أعلم غَزْو السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل برابرة فازاز وإيقاعه بهم كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مشتغلا بتمهيد الْمغرب واستنزال أممه من معاقلهم إِلَى أَن فتح أقطاره كلهَا وَبنى قلاعها ورتب حاميتها وَلم يبْق لَهُ بالمغرب كُله إِلَّا قنة جبل فازاز الَّذِي فِيهِ آيت ومالو وآيت يَفِ المَال وآيت يسرى فعزم على النهوض إِلَيْهِ وافتضاض عذرته وَلما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَيْهِم اسْتخْلف على فاس الْجَدِيد كَبِير أَوْلَاده الْمولى أَبَا الْعَلَاء محرزا وَبعث إِلَى مراكش ابْنه الْمولى أَبَا الْيمن الْمَأْمُون وَترك بمكناسة ابْنه الْمولى مُحَمَّد الْمَدْعُو زَيْدَانَ وَكَانَ فَارس أَوْلَاده الْمَوْجُودين يَوْمئِذٍ وَلما ولي الْمَأْمُون على مراكش أَمر برئيس الحضرة وَإِمَام الْكتاب الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليحمدي أَن يُعْطِيهِ التَّقْلِيد ويوصيه بِمَا تنبغي الْوِصَايَة بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 وَكَانَ الْمولى الْمَأْمُون منحرفا عَن الْوَزير الْمَذْكُور فَمشى إِلَيْهِ على كره مِنْهُ وَحَازَ مِنْهُ التَّقْلِيد واستمع لوصيته امتثالا لأمر وَالِده ثمَّ عَاد إِلَيْهِ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا إِن اليحمدي ينْقصك وَيَزْعُم أَنه الَّذِي علمك دينك فِي كَلَام آخر فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله وَالله إِن كَانَ قد قَالَ ذَلِك إِنَّه لصَادِق فَإِنَّهُ الَّذِي عَلمنِي ديني وعرفني بربي نقل هَذِه الْحِكَايَة صَاحب الْبُسْتَان وَصَاحب الْجَيْش وَكِلَاهُمَا قَالَ إِنَّه سَمعهَا من السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله وَهِي منقبة فخيمة للْمولى إِسْمَاعِيل فِي الخضوع للحق وَالِاعْتِرَاف بِهِ رحم الله الْجَمِيع ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف وَالسُّلْطَان عازم على النهوض إِلَى فازاز وَبعث مَعَ ذَلِك بالراتب وَالْعدة إِلَى أهل فاس وَأمرهمْ بالنهوض إِلَى التّرْك مَعَ وَلَده الْمولى زَيْدَانَ فَخَرجُوا فِي رَمَضَان من السّنة وَبعد الْعِيد أَخذ السُّلْطَان فِي الاستعداد للنهوض إِلَى فازاز ثمَّ بدا لَهُ فَخرج فِي أثر الْمولى زَيْدَانَ فلحق بأطراف الْمغرب الْأَوْسَط وأبرم الصُّلْح مَعَ التّرْك وَرجع إِلَى الحضرة هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَالَّذِي رَأَيْته فِي نشر المثاني هُوَ مَا نَصه قد اخْتَار السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الطّيب الفاسي لعقد المهادنة مَعَ التّرْك فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف بعد وقْعَة المشارع مَعَهم لعلمه وفصاحته وبيته فَذهب نَحْو الجزائر صُحْبَة ولد السُّلْطَان وَهُوَ مولَايَ عبد الْملك وَمَعَهُمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله الْمَدْعُو الْوَزير وَغَيرهم من وُجُوه الدولة الإسماعيلية فَلَمَّا قاربوا الجزائر خرج صَاحبهَا فِي جنده وَقتل وَنهب حَتَّى انْتهى الْخَبَر إِلَى فاس بِأَنَّهُم قتلوا أجمع وصادف ذَلِك يَوْم عَاشُورَاء فَحزن النَّاس لذَلِك وأمسكوا عَن الْإِنْفَاق حَتَّى بَقِي مَا عهد أَن يَشْتَرِي فِي ذَلِك الْيَوْم ملقى لما عرا النَّاس من الْغم ثمَّ جَاءَ الْخَبَر بِأَنَّهُم قادمون بعافية وَأَنَّهُمْ وصلوا إِلَى تازا ففرح النَّاس واستأنفوا الْإِنْفَاق كَيَوْم عَاشُورَاء وَمَات بايشي القبلي فولى السُّلْطَان عَليّ زمور وَبني حكم وَلَده أَبَا الْحسن عَليّ بن يشي ثمَّ دخلت سنة أَربع وَمِائَة وَألف وفيهَا تهَيَّأ السُّلْطَان للنهوض إِلَى البربر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 أهل فازاز فاستنفر الْقَبَائِل وحشد الجيوش واستعد الاستعداد التَّام بالمدافع والمهاريس والمجانيق وَسَائِر آلَات الْحصار فَنزل رَحمَه الله فِي جند العبيد ببسيط آدخسان ورتب على البرابر العساكر من كل جِهَة فَبعث الباشا مساهلا فِي خَمْسَة وَعشْرين ألفا من الرُّمَاة طلع بهَا من تادلا على وَادي العبيد حَتَّى نزل خلف آيت يسري وَبعث عَليّ بن بَرَكَات مَعَ آيت يمو وآيت أدراسن فنزلوا بتغالين وَبعث عَليّ بن يشي مَعَ زمور وَبني حكم وَأمره أَن ينزل بِعَين شوعة وَبعث إِلَى أهل تدغة وفركلة وغريس والصباح أَن يقدموا بجموعهم على عَليّ بن يشي وَبعث إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك بعسكر الطبجية بالمدافع والمهاريس وَسَائِر آلَات الْحَرْب وَبعث نَصَارَى العرائش يجرونها على طَرِيق آعليل ثمَّ على قصر بني مطير إِلَى أَن اجْتَمعُوا بعلي بن يشي على عين شوعة وَضرب السُّلْطَان لأمراء الْجنُود لإنشاب الْحَرْب موعدا مَعْلُوما وَقَالَ لَهُم إِذا كَانَ وَقت الْعشَاء من لَيْلَة كَذَا فليأخذ الطبجية فِي إِخْرَاج المدافع والمهاريس بالكور والبنب طول ليلتهم ليحصل للبربر الدهش فَإِذا أَصْبَحْتُم فليقدم كل قَائِد من ناحيته ولينشب الْحَرْب ليَكُون الْقِتَال فِي سَاعَة وَاحِدَة من جَمِيع الْجِهَات فَفَعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وَلما كَانَت اللَّيْلَة الْمعينَة لم يرع البربر إِلَّا رعود المدافع والمهاريس تصعق فِي الجو ونيرانها تنقدح فِي ظلمات اللَّيْل وأصداء الْجبَال تتجاوب من كل نَاحيَة فَقَامَتْ عَلَيْهِم الْقِيَامَة وظنوا أَن الأَرْض قد زَالَت بهم فقوضوا أبنيتهم وحملوا عيالاتهم للفرار وصاروا لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَلما أَصْبحُوا زحف إِلَيْهِم السُّلْطَان من ناحيته وزحفت إِلَيْهِم العساكر من بَاقِي الْجِهَات وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الشعاب والأودية شذر مدر وَصَارَ كل من قصد مِنْهُم ثنية أَو منفذا وجد العساكر مقبلة مِنْهَا والمدافع مصوبة نَحْوهَا فَحل بهم الْقَضَاء وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ فقتلت رِجَالهمْ وسبيت نِسَاؤُهُم وَأَوْلَادهمْ وَنهب أثاثهم وحيزت مَوَاشِيهمْ وأنعامهم واستلبت خيلهم وسلاحهم واستحر الْقَتْل والنهب فيهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 ثَلَاثَة أَيَّام والعساكر تلتقطهم من الأودية والشعاب وتستخرجهم من الكهوف والغيران وَأمر السُّلْطَان قواده مساهلا وَعلي بن يشي وَعلي بن بَرَكَات بِجمع رُؤُوس الْقَتْلَى وَجمع الْخَيل وَالسِّلَاح ويوافوه بِهِ لآدخسان فَجمعُوا مَا عثروا عَلَيْهِ من ذَلِك فَكَانَ عدد الرؤوس ينيف على اثْنَي عشر ألفا وَعدد الْخَيل الفحول ينيف على عشرَة آلَاف وَعدد المكاحل ينيف على ثَلَاثِينَ ألفا وبالاستيلاء على هَؤُلَاءِ البربر كمل للسُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فتح الْمغرب وَاسْتولى عَلَيْهِ كُله وَلم يبْق بِهِ عرق ينبض وَكتب فِي الدِّيوَان من آيت يمور ألف فَارس أنزلهم مَعَ عَليّ بن بَرَكَات بقلعة تغالين وَأنزل محلتهم على رَأس منزل آيت ومالو وَلم يتْرك لقبيلة من قبائل الْمغرب خيلا وَلَا سِلَاحا وَإِنَّمَا كَانَت الْخَيل وَالسِّلَاح عِنْد العبيد والودايا وآيت يمور وَأهل الرِّيف الْمُجَاهدين بسبتة قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس رَحمَه الله وَكَانَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله ارْتكب أخف الضررين وَأدنى المفسدتين فِي إضعاف قبائل الْمُسلمين بسلب الْخَيل وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْمَطْلُوب هُوَ تقويتهم بذلك لمقابلة الْعَدو الْكَافِر قَالَ تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الانفال 60 الْآيَة وَرَأى الْمولى إِسْمَاعِيل أَنه لما أعد ذَلِك الْعَسْكَر الْقوي الشَّديد قَامَ عَن الْمُسلمين بِوَاجِب وكفاهم كل مُؤنَة وأراحهم من كلفة الْقيام بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح مَعَ أَن الْفساد الَّذِي يظْهر مِنْهُم عِنْد ملك الْخَيل وَالسِّلَاح أعظم وَذَلِكَ بِقطع الطرقات وَنهب الْأَمْوَال وخلع الْيَد من الطَّاعَة قَالَ وَهَذَا الْقدر الَّذِي اعتذرنا بِهِ عَن السُّلْطَان ظَاهر غَايَة الظُّهُور وَلَعَلَّه خَفِي على الشَّيْخ اليوسي حَتَّى كتب إِلَيْهِ برسالته الْمَشْهُورَة اهـ قلت مَا فعله السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله من ذَلِك ظَاهر الْمصلحَة لَا يخفى على أحد وجد استحسانه وَلَا يتَوَهَّم عَاقل أَن أهل فازاز وَمن فِي معناهم يتخذون الْخَيل وَالسِّلَاح للْجِهَاد يَوْمًا مَا فَلَا يحْتَاج السُّلْطَان رَحمَه الله فِي مثل ذَلِك إِلَى الِاعْتِذَار وَقَوله أَن ذَلِك الِاعْتِذَار خَفِي على اليوسي لَيْسَ على مَا يَنْبَغِي لِأَن الشَّيْخ اليوسي رَحمَه الله مَا تكلم مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 السُّلْطَان فِي أَمر أُولَئِكَ الْقَبَائِل وَمن فِي معناهم وَإِنَّمَا كَلَامه مَعَه فِي أُمُور ثَلَاثَة الأول فِي جباية المَال من وَجهه وَصَرفه فِي وَجهه الثَّانِي فِي إِقَامَة رسم الْجِهَاد وشحن الثغور كلهَا بالمقاتلة وَالسِّلَاح الثَّالِث فِي الأنتصاف من الظَّالِم للمظلوم وكف الْيَد العادية عَن الرّعية وَنَصّ هَذِه الرسَالَة الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ قطب الْمجد ومركزه ومحاز الْفَخر ومأرزه وأساس الشّرف الباذخ ومنبعه ومناط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الْأَجَل الآفخم مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف لَا زَالَت أَعْلَامه منصورة وأيامه على الْعِزّ واليمن مَقْصُورَة سَلام على سيدنَا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته هَذَا وَلَا زَائِد عندنَا سوى الْمحبَّة لسيدنا وَغَايَة التَّعْظِيم والإجلال وَالدُّعَاء لسيدنا بِصَالح الْأَحْوَال وَذَلِكَ بعض مَا أوجبته يَده المبسوطة علينا بِالْبرِّ وَالْإِحْسَان وَالْفضل والامتنان والتوقير والاحترام والإنعام وَالْإِكْرَام مَعَ مَا لَهُ علينا وعَلى غَيرنَا من الْحُقُوق الَّتِي أوجبتها مَنْزِلَته السُّلْطَانِيَّة ومثابته الطوقية الفاطمية فكتبنا هَذِه البطاقة وَهِي فِي الْوَقْت مُنْتَهى الطَّاقَة وَكُنَّا كثيرا مَا نرى من سيدنَا التشوق إِلَى الموعظة والنصح وَالرَّغْبَة فِي استفتاح أَبْوَاب الرِّبْح والنجح فأردنا أَن نرسل إِلَى سيدنَا مَا أَن وفْق إِلَى النهوض إِلَيْهِ رجونا لَهُ ربح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والارتقاء إِلَى الدَّرَجَات الفاخرة ورجونا وَإِن لم نَكُنْ أَهلا لِأَن نعظ أَن يكون سيدنَا أَهلا لِأَن يتعظ وَأَن يحتمي من جَمِيع المذام ويحتفظ فَليعلم سيدنَا أَن الأَرْض وَمَا فِيهَا ملك لله تَعَالَى لَا شريك لَهُ وَالنَّاس عبيد الله سُبْحَانَهُ وإماء لَهُ وَسَيِّدنَا وَاحِد من العبيد وَقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ عَلَيْهِم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف والإصلاح فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة الْعَالِيَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد فَهُوَ متجاسر على مَوْلَاهُ فِي ملكته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة مَوْلَاهُ الشَّدِيدَة وَسخطه وَلَا يخفى على سيدنَا حَال من تسلط على رَعيته يروم تملكهم بِغَيْر إِذْنه كَيفَ يفعل بِهِ يَوْم يتَمَكَّن مِنْهُ ثمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 نقُول إِن على السُّلْطَان حقوقا كَثِيرَة لَا تفي بهَا البطاقة ولنقتصر مِنْهَا على ثَلَاثَة هِيَ أمهاتها الأول جمع المَال من حق وتفريقه فِي حق الثَّانِي إِقَامَة الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَفِي مَعْنَاهُ تعمير الثغور بِمَا تحْتَاج إِلَيْهِ من عدد وعدة الثَّالِث الانتصاف من الظَّالِم للمظلوم وَفِي مَعْنَاهُ كف الْيَد العادية عَلَيْهِم مِنْهُم وَمن غَيرهم وَهَذِه الثَّلَاثَة كلهَا قد اختلت فِي دولة سيدنَا فَوَجَبَ علينا تنبيهه لِئَلَّا يعْتَذر بِعَدَمِ الِاطِّلَاع والغفلة فَإِن تنبه وَفعل فقد فَازَ وَذَلِكَ صَلَاح الْوَقْت وَصَلَاح أَهله وسبوغ النِّعْمَة وشمول الرَّحْمَة وَإِلَّا فقد أدينا الَّذِي علينا أما الْأَمر الأول فَليعلم سيدنَا أَن المَال الَّذِي يجبى من الرّعية قد أعد للْمصَالح الَّتِي يَنْتَظِم بهَا الدّين وَتصْلح الدُّنْيَا من أهل الْبَيْت وَالْعُلَمَاء والقضاة وَالْأَئِمَّة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وَغير ذَلِك من الْمصَالح وَمِثَال هَؤُلَاءِ كأيتام لَهُم دُيُون قد عجزوا عَن قبضهَا إِلَّا بوكيل وَمِثَال الرّعية مثل الْمديَان وَالسُّلْطَان هُوَ الْوَكِيل فَإِن استوفى الْوَكِيل الدّين بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَأَدَّاهُ إِلَى الْيَتَامَى يحْسب مَا يجب لكل فقد برىء من اللوم وَلم تبْق عَلَيْهِ تباعة للمديان وَلَا للْيَتِيم وَحصل لَهُ أَجْرَانِ أجر الْقَبْض وَأجر الدّفع وَإِن هُوَ زَاد على الدّين الْوَاجِب بِغَيْر رضى الْمديَان فَهُوَ ظَالِم لَهُ أَو نقص الْيَتِيم من حَقه الْوَاجِب لَهُ فَهُوَ ظَالِم لَهُ وَكَذَا إِن استوفى الدُّيُون وأمسكها وَلم يَدْفَعهَا لأربابها فَهُوَ ظَالِم فَلْينْظر سيدنَا فَإِن جباة مَمْلَكَته قد جروا ذيول الظُّلم على الرّعية فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا أما الدُّنْيَا فقد أخذوها وَأما الدّين فقد فتنوهم عَنهُ وَهَذَا شَيْء شهدناه لاشيء ظنناه ثمَّ إِن أَرْبَاب الْحُقُوق قد ضَاعُوا وَلم تصل إِلَيْهِم حُقُوقهم فعلى السُّلْطَان أَن يتفقد الجباة ويكف أَيْديهم عَن الظُّلم وَلَا يغتر بِكُل من يزين لَهُ الْوَقْت فَإِن كثيرا من الدائرين بِهِ طلاب الدُّنْيَا لَا يَتَّقُونَ الله تَعَالَى وَلَا يتحفظون من المداهنة والنفاق وَالْكذب وَفِي أفضل مِنْهُم قَالَ جده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه الْمَغْرُور من غررتموه اه وَأَن يتفقد الْمصَالح ويبسط يَد الْفضل على خَواص النَّاس من أهل الْفضل وَالدّين وَالْخَيْر ليكتسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كَمَا قيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 (أفاتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا) وَقد جبلت الْقُلُوب على حب من أحسن إِلَيْهَا وَلَا يهملهم فيتمنوا غَيره ويتطلبوا دولة أُخْرَى كَمَا قيل (إِذا لم يكن للمرء فِي دولة امرىء ... نصيب وَلَا حَظّ تمنى زَوَالهَا) (وَمَا ذَاك من بغض لَهَا غير أَنه ... يُرِيد سواهَا فَهُوَ يهوى انتقالها) وليعلم سيدنَا أَن السُّلْطَان إِذا أَخذ أَمْوَال الْعَامَّة ونثرها فِي الْخَاصَّة وشيد بهَا الْمصَالح فالعامة يذعنون ويعلمون أَنه سُلْطَان وتطيب قُلُوبهم بِمَا يرَوْنَ من إِنْفَاق أَمْوَالهم فِي مصالحهم وَإِلَّا فالعكس وَأَيْضًا السُّلْطَان متعرض للسهام الراشقة من دَعْوَة المظلومين من الرّعية فَإِذا أحسن إِلَى الْخَاصَّة دعوا لَهُ بِالْخَيرِ والسلامة والبقاء فيقابل دُعَاء بِدُعَاء وَالله الْمُوفق وَأما الْأَمر الثَّانِي فقد ضَاعَ أَيْضا وَذَلِكَ أَنه لم يتأت فِي الْوَقْت إِلَّا عمَارَة الثغور وَسَيِّدنَا قد غفل عَنْهَا فقد ضعفت الْيَوْم غَايَة وَقد حضرت بِمَدِينَة تطاوين أَيَّام مَوْلَانَا الرشيد رَحمَه الله فَكَانُوا إِذا سمعُوا الصَّرِيخ تهتز الأَرْض خيلا ورماة وَقد بَلغنِي الْيَوْم أَنهم سمعُوا صريخا من جَانب الْبَحْر ذَات يَوْم فَخَرجُوا يسعون على أَرجُلهم بِأَيْدِيهِم العصي والمقاليع وَهَذَا وَهن فِي الدّين وغرر على الْمُسلمين وَإِنَّمَا جَاءَهُم الضعْف من المغارم الثَّقِيلَة وتكليفهم الحركات وَإِعْطَاء الْعدة كَسَائِر النَّاس فعلى سيدنَا أَن يتفقد السواحل كلهَا من قلعية إِلَى ماسة ويحرضهم على الْجِهَاد والحراسة بعد أَن يحسن إِلَيْهِم ويعفيهم مِمَّا يُكَلف بِهِ غَيرهم وَيتْرك لَهُم خيلهم وعدتهم ويزيدهم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فهم حماة بَيْضَة الْإِسْلَام ويتحرى فِيمَن يوليه تِلْكَ النواحي أَن يكون أَشد النَّاس رَغْبَة فِي الْجِهَاد ونجدة فِي المضايق وغيرة على الْإِسْلَام وَلَا يولي فِيهَا من همته ملْء بَطْنه والاتكاء على أريكته وَالله الْمُوفق وَأما الْأَمر الثَّالِث فقد اخْتَلَّ أَيْضا لِأَن المشعبين للانتصاف بَين النَّاس فِي الْبلدَانِ وهم الْعمَّال وخدامهم هم المشتغلون بظُلْم النَّاس فَكيف يزِيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 الظُّلم من يَفْعَله وَمن ذهب يشتكي سَبَقُوهُ إِلَى الْبَاب فزادوا عَلَيْهِ فَلَا يقدر أحد أَن يشتكي فليتق الله سيدنَا وليتق دَعْوَة الْمَظْلُوم فَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الله حجاب وليجهد فِي الْعدْل فَإِنَّهُ قوام الْملك وَصَلَاح الدّين وَالدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز} الْحَج 40 ثمَّ ذكر تَعَالَى المنصورين وشروط النَّصْر فَقَالَ {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} الْحَج 41 فضمن تَعَالَى للملوك النَّصْر وَشرط عَلَيْهِم هَذِه الْأُمُور الْأَرْبَعَة فَمَتَى اخْتَلَّ عَلَيْهِم أَمر الرّعية وتسلط عَلَيْهِم من يفْسد عَلَيْهِم الدولة فليعلموا أَن ذَلِك من إخلالهم بِهَذِهِ الْأُمُور فَكَانَ عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى وتفقد مَا أَمرهم بِهِ ورعاية مَا استرعاهم إِيَّاه وَقد اتّفقت حكماء الْعَرَب والعجم على أَن الْجور لَا يثبت مَعَه الْملك وَلَا يَسْتَقِيم وَأَن الْعدْل يَسْتَقِيم مَعَه الْملك وَلَو مَعَ الْكفْر وَقد عَاشَ الْمُلُوك من الْكَفَرَة المئين من السنين فِي الْملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص لما كَانُوا عَلَيْهِ من الْعدْل فِي الرّعية استصلاحا لدنياهم فَكيف بِمن يَرْجُو صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك بِنَاء والجند أساسه وَإِذا ضعف الأساس سقط الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بجند وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا بجباية وَلَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِالْعَدْلِ فالعدل أساس الْجَمِيع وَقد صنع أرسطوطاليس الْحَكِيم للْملك الْإِسْكَنْدَر الشكل الْمُسْتَند عَنهُ وَكتب عَلَيْهِ الْعَالم بُسْتَان سياجه الدولة الدولة سُلْطَان تعضده السّنة السّنة سياسة يسوسها الْملك رَاع يعضده الْجَيْش الْجَيْش أعوان يكفلهم المَال المَال رزق يجمعه الرّعية الرّعية عبيد يقودهم الْعدْل الْعدْل مألوف وَبِه صَلَاح الْعَالم الْعَالم بُسْتَان إِلَى آخِره وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن رجَالًا يَخُوضُونَ فِي مَال الله بِغَيْر حق لَهُم النَّار يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من وَال يَلِي ولَايَة إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ويداه مغلولتان فَأَما عدل يفكه وَأما جور يوبقه وَعَن مَوْلَانَا عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت عمر على قتب يعدو بِهِ بعيره بِالْأَبْطح فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَيْن تسير فَقَالَ بعيره من إبل الصَّدَقَة شرد أطلبه فَقلت أذللت الْخُلَفَاء من بعْدك فَقَالَ لَا تلمني فوالذي بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَقِّ لَو أَن عنَاقًا ضلت بشاطىء الْفُرَات لأخذ بهَا عمر يَوْم الْقِيَامَة إِنَّه لَا حُرْمَة لوال ضيع الْمُسلمين وَلَا لفَاسِق روع الْمُؤمنِينَ وَقد رأى رَضِي الله عَنهُ شَيخا يَهُودِيّا يسْأَل على الْأَبْوَاب فَقَالَ مَا أنصفناك أَخذنَا مِنْك الْجِزْيَة مَا دمت شَابًّا ثمَّ ضيعناك الْيَوْم وَأمر أَن يجْرِي عَلَيْهِ قوته من بَيت المَال وليعلم سيدنَا أَن أول الْعدْل أَن يعدل فِي نَفسه فَلَا يَأْخُذ لنَفسِهِ من المَال إِلَّا بِحَق وليسأل الْعلمَاء عَمَّا يَأْخُذ وَمَا يُعْطي وَمَا يَأْتِي وَمَا يذر وَقد كَانَ بَنو إِسْرَائِيل يكون فيهم الْأَمِير على يَد نَبِي فالنبي يَأْمر والأمير ينفذ لَا غير وَلما كَانَت هَذِه الْأمة المرحومة انْقَطَعت مِنْهَا النُّبُوَّة بنبيها خَاتم النَّبِيين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يبْق إِلَّا الْعلمَاء يقْتَدى بهم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُلَمَاء أمتِي كأنبياء بني إِسْرَائِيل فَكَانَ حَقًا على هَذِه الْأمة أَن يتبعوا الْعلمَاء ويتصرفوا على أَيْديهم أخذا وَعَطَاء وَقد توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلف أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ قبل ذَلِك يَبِيع وَيَشْتَرِي فِي السُّوق على عِيَاله فَلَمَّا بُويِعَ أَخذ مَاله الَّذِي للتِّجَارَة وَذهب للسوق على عَادَته حَتَّى رده عُلَمَاء الصَّحَابَة وَقَالُوا إِنَّك فِي شغل بِأَمْر الْخلَافَة عَن السُّوق وفرضوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ مَعَ عِيَاله وَجعلُوا المَال على يَد أَمِين فَكَانَ هُوَ وَغَيره فِيهِ سَوَاء يَأْخُذ مِنْهُ بِمَا اقتضته الشَّرِيعَة لنَفسِهِ وَلغيره وَهَكَذَا سيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعده فعلى سيدنَا أَن يَقْتَدِي بهؤلاء الْفُضَلَاء وَلَا يَقْتَدِي بِأَهْل الْأَهْوَاء وليسأل من مَعَه من الْفُقَهَاء الثِّقَات كسيدي مُحَمَّد بن الْحسن وسيدي أَحْمد ابْن سعيد وَغَيرهمَا من الْعلمَاء العاملين الَّذين يَتَّقُونَ الله وَلَا يخَافُونَ فِي الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 لومة لائم فَمَا أَمرُوهُ بِهِ مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَمِمَّا لم نذكرهُ فعله وَمَا نهوه عَنهُ انْتهى هَذِه طَريقَة النجَاة إِن شَاءَ الله تَعَالَى نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرْزق سيدنَا تَوْفِيقًا وتسديدا وإرشادا وتأييدا وَأَن يصلح بِوُجُودِهِ الْبِلَاد والعباد وَأَن يحسم بِسَيْفِهِ أهل الزيغ والعناد آمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَلما فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من وقْعَة فازاز وآيت ومالو دَعَا عَليّ بن يشي وَعقد لَهُ على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَقَالَ لَهُ لَا أرى وَجهك إِلَّا إِذا أغرت على كروان وأتيتني مِنْهُم بِعَدَد هَذِه الرؤوس الَّتِي هُنَا لأَنهم كَانُوا بوادي زيز يعيثون فِي طَرِيق سجلماسة وينهبون الرفاق فَسَار عَليّ بن يشي حَتَّى صبحهمْ وهم عارون فنهب حللهم ومواشيهم وَقتل مِنْهُم الْعدَد الْكثير ثمَّ نَادَى فِي تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا من أَتَى بِرَأْس كرواني فَلهُ عشرَة مَثَاقِيل فَصَارَ كل من انحاز إِلَيْهِ أحد مِنْهُم يقطع رَأسه وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ وَاسْتمرّ الْبَحْث عَنْهُم فِي الْمدر والوبر إِلَى أَن قضى من جماجمهم الوطر وَلما اجْتمعت عِنْده أعْطى كل من أَتَى بِرَأْس مِثْقَالا وَاحِدًا وَجَاء إِلَى السُّلْطَان بِاثْنَيْ عشر ألف رَأس كَمَا اقترح عَلَيْهِ وفْق مَا اجْتمع مِنْهَا بآدخسان فَشكر لَهُ فعله وولاه على قبائل الْعَرَب والبربر وَدخلت سنة خمس وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَة وَألف فَفِي ربيع مِنْهُ خرج الْمولى زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان بالعساكر قَاصِدا نَاحيَة تلمسان بعد أَن قتل النَّائِب بفاس أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد السلاوي فقاتل التّرْك وَنهب وَرجع ثمَّ دخل سنة سبع وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا شَيْء يذكر ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَمِائَة وَألف فَفِي يَوْم عَرَفَة مِنْهَا قدم عشرَة رجال من إصطنبول وَمَعَهُمْ كتاب من السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد العثماني صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل يندبه إِلَى الصُّلْح مَعَ أهل الجزائر فَانْتدبَ رَحمَه الله وامتثل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 أَمر السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل عُلَمَاء فاس بِالْكِتَابَةِ على ديوَان العبيد وامتناعهم مِنْهَا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك وَفِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَان وَمِائَة وَألف ورد كتاب من حَضْرَة السُّلْطَان على القَاضِي وَالْعُلَمَاء بفاس يعاتبهم ويوبخهم على عدم موافقتهم على تمْلِيك العبيد المثبتين فِي الدِّيوَان ثمَّ ورد كتاب آخر من السُّلْطَان يمدح الْعَامَّة ويذم الْعلمَاء وَيَأْمُر بعزل القَاضِي وَالشُّهُود كَذَا فِي الْبُسْتَان قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقله صَاحب الْبُسْتَان عَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِيهِ نظر فَإِنَّهُ كَلَام مُجمل وَقَضِيَّة جمع العبيد مَذْكُورَة مفصلة فِي الكناش الْكَبِير الْإِسْمَاعِيلِيّ وَفِيه تَمْيِيز المماليك الأرقاء الَّذين اشْتَروا بِالثّمن على الْوَجْه الشَّرْعِيّ بخطوط الْعُدُول وَهَؤُلَاء لَا كَلَام فيهم وَأما غَيرهم من أهل الدِّيوَان المجلوبون من الْقَبَائِل العديدة فَإِن السُّلْطَان لم يدع فيهم الملكية وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي جبرهم على الجندية وَوجه السُّلْطَان إِلَى عُلَمَاء الْمشرق وَالْمغْرب السؤالات عَن ذَلِك فَكَتَبُوا إِلَيْهِ الْأَجْوِبَة المتضمنة للْجُوَاز بخطوطهم وكل ذَلِك فِي الكناش الْمَذْكُور مَبْسُوطا وَهُوَ شَيْء كثير وحاشى الله مقَام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَن يدعى تملك الْأَحْرَار وَقد تقدم كَلَام الشَّيْخ اليوسي وَبَيَان مَا أنكر على السُّلْطَان وَلَو كَانَ مَا ذكر الصياني متصفا بِهِ السُّلْطَان الْمَذْكُور لَكَانَ ذَلِك أول مَا يُنكره اليوسي وَلَا يَسعهُ السُّكُوت عَلَيْهِ مَعَ أَنه أنكر مَا هُوَ أقل من ذَلِك وأخف بمراتب نعم فِي الكناش طوائف مَعْرُوفَة متميزة ثَبت عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور أَنهم كَانُوا أرقاء للمنصور السَّعْدِيّ فَلَمَّا انقرضت الدولة السعدية تفَرقُوا فِي الأقطار وهم الَّذين تقدم الْكَلَام عَلَيْهِم فِي دفتر عليليش وَقد وَقع الْبَحْث عَن رقيتهم وَسُئِلَ أهل الْأَسْنَان من كل قَبيلَة فعينوا الرَّقِيق من غَيره فَثَبت ذَلِك كُله عِنْد السُّلْطَان وَمَعَ ذَلِك لم يدخلهم فِي الأرقاء الخلص الَّذين اشْتَروا بِالثّمن بل ميزهم على حِدة فَكَانَ ذَلِك الْجند عِنْده على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 ثَلَاث مَرَاتِب الْمرتبَة الأولى خَالص الرّقية الْمرتبَة الثَّانِيَة خَالص الْحُرِّيَّة الْمرتبَة الثَّالِثَة وَاسِطَة بَينهمَا اه وَالله تَعَالَى أعلم تَفْرِيق الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَعمال الْمغرب على أَوْلَاده وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما كَانَت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَة وَألف فرق السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله أَعمال الْمغرب على أَوْلَاده فعقد لِابْنِهِ الْمولى أَحْمد على تادلا وأنزله بقصبتها ورتب مَعَه ثَلَاثَة آلَاف من العبيد حامية بهَا وَأمره أَن يزِيد فِي تِلْكَ القصبة فَبنى قَصَبَة جَدِيدَة وَبنى بهَا قصره وَبنى مَسْجِدا أعظم من مَسْجِد أَبِيه بالقصبة الأولى وَاسْتقر بهَا وَعقد لِابْنِهِ الْمولى عبد الْملك على درعة وأعمالها وانزله بقصبتها ورتب مَعَه ثَلَاثَة آلَاف من الْخَيل وَعقد لِابْنِهِ الْمولى مُحَمَّد الْمَدْعُو بالعالم على إقليم السوس ورتب مَعَه ألف فَارس وَعقد لِابْنِهِ الْمَأْمُون الْكَبِير الَّذِي كَانَ بمراكش على سجلماسة وأعمالها نَقله من مراكش إِلَيْهَا وأنزله بقصبته الَّتِي بناها لَهُ بتيزيمي ورتب مَعَه خَمْسمِائَة من الْخَيل وَبعد سنتَيْن توفّي الْملك الْمَأْمُون فولى السُّلْطَان مَكَانَهُ ابْنه الْمولى يُوسُف وَعقد لِابْنِهِ الْمولى زَيْدَانَ على بِلَاد الشرق فَكَانَ يُغير على رعايا التّرْك إِلَى أَن شردهم عَن نواحي تلمسان وانْتهى فِي بعض أَيَّام غاراته إِلَى مَدِينَة معسكر فاقتحمها وانتهب دَار أميرها عُثْمَان باي وَأخذ مَا فِيهَا من الْفرش والخرثى والأدام وَغير ذَلِك لمغيب عُثْمَان عَنْهَا فِي بعض غَزَوَاته فانتهز الْمولى زَيْدَانَ فِيهَا الفرصة فَكَانَ ذَلِك سَبَب عَزله عَن الشرى وتوليه أَخِيه الْمولى حفيد مَكَانَهُ لِأَن السُّلْطَان رَحمَه الله لم يرض فعله ونهبه لدار الباي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 للصلح الَّذِي كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين السُّلْطَان مصطفى العثماني كَمَا مر ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الشرق وَحَارب التّرْك بهَا لانتقاض الصُّلْح الَّذِي كَانَ بَينه وَبينهمْ بِسَبَب غارات الْمولى زَيْدَانَ الْمُتَقَدّمَة وَلما قفل السُّلْطَان من وَجهه هَذِه هلك من جنده أثْنَاء الطَّرِيق عدد كَبِير من الْعَطش فَمن أهل فاس بالخصوص أَرْبَعُونَ نفسا سوى من هلك من غَيرهم وَفِي هَذِه السّنة قتل الْقَائِد عبد الْخَالِق بن عبد الله الروسي صَاحب فاس عبدا من عبيد دَار السُّلْطَان دخل عَلَيْهِ بِغَيْر إِذْنه فَقتله فَبعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى حفيدا من مكناسة إِلَى فاس ليَأْتِيه بِهِ فاستشفع إِلَيْهِ عبد الْخَالِق بالعلماء والأشراف فَلم يُقَيِّدهُ الْمولى حفيد وَذهب بِهِ مسرحا فَلَمَّا دخل على السُّلْطَان بمكناسة عَفا عَنهُ وَرجع إِلَى فاس سالما ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة وَألف فِيهَا استدعى السُّلْطَان عبد الْخَالِق الروسي من فاس فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ قَتله وَبعث ابْنه الْمولى زَيْدَانَ إِلَى فاس وَبعث مَعَه حمدون بن عبد الله الروسي واليا عَلَيْهَا بَدَلا من أَخِيه الْمَقْتُول وَالله أعلم تنَازع أَوْلَاد السُّلْطَان وثورة الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مِنْهُم بالسوس ومقتله لما دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَة وَألف وصل الْمولى عبد الْملك بن السُّلْطَان صَاحب درعة إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر بزرهون مهزوما لاستيلاء أَخِيه الْمولى أبي النَّصْر على درعة وتغلبه على تِلْكَ النواحي فَبعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى الشريف إِلَى درعة واليا عَلَيْهَا فثار الْمولى مُحَمَّد الْعَالم بِبِلَاد السوس ودعا لنَفسِهِ وزحف إِلَى مراكش فحاصرها فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي الْعشْرين من شَوَّال اقتحمها عنْوَة بِالسَّيْفِ فَقتل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وَنهب وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان بعث وَلَده الْمولى زَيْدَانَ فِي العساكر لقتاله فَقدم مراكش فصادف الْمولى مُحَمَّدًا قد خرج عَنْهَا وَعَاد إِلَى تارودانت وَلما احتل الْمولى زَيْدَانَ بمراكش عاثت عساكره فِيهَا ثمَّ تبع أَخَاهُ الْمولى مُحَمَّدًا الْعَالم إِلَى السوس فَنزل على تارودانت واتصلت الْحَرْب بَينهمَا إِلَى أَن دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَة وَألف وفيهَا قدم الْمولى حفيد حَضْرَة فاس الْجَدِيد ووظف على أهل فاس مغرما ثقيلا وَجَاء الزعيم واليا عَلَيْهَا ثمَّ عزل وَولى مَكَانَهُ أَبُو عَليّ الروسي فَقتل أُنَاسًا وصلبهم وَفِي متم شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة مَاتَ الْمولى حفيد بفاس الْجَدِيد هَذَا كُله وَالْحَرب قَائِمَة بَين الْمولى زَيْدَانَ وَالْمولى مُحَمَّد الْعَالم ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة وَألف فَفِي ثَالِث صفر مِنْهَا ورد أَمر السُّلْطَان على فاس بِأَن تُعْطى كل عتبَة عظم سرج وَلَا يحرر من ذَلِك أحد كَائِنا من كَانَ وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر الْمَذْكُور ورد الْخَبَر باستيلاء الْمولى زَيْدَانَ على تارودانت وَقَبضه على أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم بعد محاربته لَهُ ثَلَاث سِنِين هلك فِيهَا أُمَم وقواد ورؤساء وأعيان يطول ذكرهم وَلما دَخلهَا الْمولى زَيْدَانَ عنْوَة قتل جَمِيع من بهَا حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَفِي رَابِع ربيع الأول من السّنة وصل الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مَقْبُوضا عَلَيْهِ إِلَى وَادي بهت فَبعث السُّلْطَان من قطع يَده وَرجله من خلاف بعقبة بهت وَلما وصل إِلَى مكناسة خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور هلك رَحمَه الله قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما توفّي الْمولى مُحَمَّد الْعَالم صلى عَلَيْهِ القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة فنقم عَلَيْهِ ذَلِك بعض الحسدة وأوغر قلب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِنَّه يبغضك وَلَوْلَا شدَّة بغضه لَك مَا نَازع إِلَى الصَّلَاة على عَدوك الَّذِي ثار عَلَيْك ورام نزع الْملك من يدك فَكتب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي بردلة يتهدده ويوبخه فَأَجَابَهُ القَاضِي بِأَن صلَاته نظيرة صَلَاة الْحسن الْبَصْرِيّ على الْحجَّاج بن يُوسُف فَلَمَّا ليم على ذَلِك قَالَ استحييت من الله تَعَالَى أَن أستعظم ذَنْب الْحجَّاج فِي جنب كرم الله الغفور الرَّحِيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 على أنني مَا صليت عَلَيْهِ بِغَيْر إِذن بل خرج الْإِذْن من الدَّار المولوية وَبلغ ذَلِك مبلغ الشُّهْرَة الَّتِي لم يبْق مَعهَا شكّ وَذَلِكَ على لِسَان مترجم ينْسب الْأَمر إِلَى الْجَانِب المولوي فَلَا افتيات بعد ذَلِك بل الْوَاجِب هُوَ الْقيام بذلك وَلَو بِغَيْر إِذن إجلالا وتعظيما لجَانب مَوْلَانَا نَصره الله وَلما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي قَضِيَّة الحديبيه امح لَفْظَة رَسُول الله قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَالله لَا أمحوه أبدا فتعارض وجوب امْتِثَال أَمر الرَّسُول بالمحو وَوُجُوب الإجلال لمقامه الأرفع فرجح رَضِي الله عَنهُ وجوب الإجلال ثمَّ الصَّحِيح أَن الْحُدُود كَفَّارَات فَفِي الصَّحِيح عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ اه بِاخْتِصَار قَالَ أكنسوس وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة من الْفِتَن الْعَظِيمَة بالمغرب عَمت أهل الْقطر السُّوسِي وخصت أَعْيَان غَيرهم من الْعلمَاء الَّذين كَانُوا يخالطون الْمولى مُحَمَّد الْعَالم لَوْلَا لطف الله تَعَالَى فَإِن الشَّيْخ أَبَا عبد الله المسناوي الدلائي كَانَ من أخص النَّاس بالمولى مُحَمَّد فوشى بِهِ إِلَى السُّلْطَان وَقيل لَهُ إِنَّه من شدَّة اتِّصَاله بِهِ لَا يغيب عَنهُ عزمه على الْقيام عَلَيْك فَهُوَ إِذا مُوَافق لَهُ على ذَلِك فبادر بعض أَصْحَاب السُّلْطَان مِمَّن كَانَ يجنح للمسناوي بالاعتذار عَنهُ بِأَنَّهُ كَانَ ينهاه عَن الْقيام وَأنْشد للمسناوي فِي ذَلِك (مهلا فَإِن لكل شَيْء غَايَة ... والدهر يعكس حِيلَة الْمُحْتَال) (فالبدر لَيْسَ يلوح سَاطِع نوره ... وَالشَّمْس فاهرة السنا فِي الْحَال) (فَإِذا تَوَارَتْ بالحجاب فَعِنْدَ ذَا ... يَبْدُو بَدو تعزز وجمال) فَوَقع ذَلِك من السُّلْطَان وَتحقّق بَرَاءَة الشَّيْخ رحم الله الْجَمِيع قَالَ أكنسوس وَقَوْلنَا عَمت أهل الْقطر السُّوسِي لِأَن ظُهُوره التَّام إِنَّمَا كَانَ هُنَالك وَلِأَن جلّ من ينتسب إِلَى الْعلم وَالصَّلَاح مِنْهُم كَانُوا مَعَه موافقين لَهُ ومؤيدين فعله اه قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ الْمولى مُحَمَّد الْعَالم ماهرا فِي فنون شَتَّى كالنحو وَالْبَيَان والمنطق وَالْكَلَام وَالْأُصُول وَكَانَ ينفعل للشعر وتأخذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 أريحية الْأَدَب وَكتب لَهُ أَخُوهُ مولَايَ الشريف فِي صدر كتاب بعث بِهِ إِلَيْهِ مَا خَاطب بِهِ سيف الدولة بن حمدَان أَخَاهُ نَاصِر الدولة (رضيت لَك الْعليا وَإِن كنت أَهلهَا ... وَقلت لَهُم بيني وَبَين أخي فرق) (أما كنت ترْضى أَن أكون مُصَليا ... إِذا كنت أرْضى أَن يكون لَك السَّبق) فاقترح الْمولى مُحَمَّد على الشَّيْخ أبي عبد الله المسناوي أَن يَنُوب عَنهُ فِي الْجَواب لِأَنَّهُ كَانَ فِي جملَة الوافدين عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَقَالَ رَحمَه الله (بلَى قد رضيت أَن تكون مجليا ... وَيَتْلُو نداكم فِي الْعلَا من لَهُ السَّبق) (وَمَالِي لَا أرْضى لَك الْمجد كُله ... وَأَنت شَقِيق النَّفس إِن عرف الْحق) (وَلَكِن ذَوُو الضغن انتحوا ذَات بَيْننَا ... فغادرنا إفسادهم وَبهَا رفق) وَفِي هَذَا التَّارِيخ أَعنِي سنة سبع عشرَة وَمِائَة وَألف انتزع النجليز جبل طَارق من يَد الإصبنيول حاصره ثَلَاثَة أَيَّام برا وبحرا فِي جند يسير فملكه لاشتغال الإصبنيول يَوْمئِذٍ عَنهُ بِأَمْر الْفِتْنَة الَّتِي حدثت فِي ملكه وَلما ملكه النجليز عظم ذَلِك على أَجنَاس الفرنج خُصُوصا الإصبنيول والفرنسيس وَرَأَوا أَن النجليز قد ملك عَلَيْهِم بَاب أوروبا وَلذَا حاصروه مرَارًا فَلم يحصلوا مِنْهُ على طائل وَاسْتمرّ فِي يَده إِلَى الْآن وَلما دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف ورد الْخَبَر بِمَوْت الْمولى زَيْدَانَ ابْن السُّلْطَان بتارودانت وَحمل فِي تَابُوت إِلَى مكناسة فَدفن لَيْلًا إِلَى جَانب أَخِيه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان بهدم قصر البديع الَّذِي بناه الْمَنْصُور السَّعْدِيّ بقصبة مراكش وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قَالَ اليفرني فِي النزهة وَمن الْعَجَائِب أَنه لم يبْق بلد من بِلَاد الْمغرب إِلَّا ودخله شَيْء من أنقاض البديع اه ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَة وَألف فِيهَا افْتتح التّرْك مَدِينَة وهران وَكَانَت بيد الإصبنيول مُدَّة فَردهَا الله على الْمُسلمين يَوْمئِذٍ وفيهَا أَمر السُّلْطَان بِقِرَاءَة حَدِيث الْإِنْصَات يَوْم الْجُمُعَة عِنْد خُرُوج الْخَطِيب وجلوسه على الْمِنْبَر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 محنة الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام ابْن حمدون بسوس رَحمَه الله قد تقدم لنا مَا كَانَ من أَمر السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لعلماء عصره بِالْكِتَابَةِ على ديوَان العبيد وامتناعهم من ذَلِك وَلما كَانَت سنة عشْرين وَمِائَة وَألف تَجَدَّدَتْ المحنة وألزم الرئيس أَبُو مُحَمَّد عبد الله الروسي فُقَهَاء فاس أَن يكتبوا على الدِّيوَان الْمَذْكُور فَمن كتب نجا وَمن أَبى قبض عَلَيْهِ ثمَّ قبض على أَوْلَاد جسوس واستلب أَمْوَالهم وأجلس فقيههم الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد السَّلَام بن حمدون جسوس بِالسوقِ مُقَيّدا يتطلب الْفِدَاء ثمَّ حمل مسجونا إِلَى مكناسة وَدخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَألف فَعَفَا السُّلْطَان عَن الْفَقِيه الْمَذْكُور وسرحه وَبعث بِهِ إِلَى فاس ليزعج الحراطين الَّذين بهَا إِلَى مكناسة فَقدم وأزعجهم فِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الْفَقِيه الْمَذْكُور أَن قَتله الْقَائِد أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الْخَالِق الروسي فَمن النَّاس من يَقُول إِن ذَلِك كَانَ بِأَمْر السُّلْطَان وَمِنْهُم من يَقُول بِغَيْر أمره اه وَقد وقفت على تَقْيِيد بِخَط شَيخنَا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز محبوبة السلاوي رَحمَه الله وَكَانَ وَاعِيَة يَقُول فِيهِ إِن امتحان الْفَقِيه أبي مُحَمَّد جسوس كَانَ من أجل امْتِنَاعه من الْمُوَافقَة على ديوَان الحراطين الَّذِي اخترعه عليليش المراكشي للسُّلْطَان الْجَلِيل الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله حَسْبَمَا هُوَ مَشْهُور فهجاه بعض السُّفَهَاء وهجا فاسا من أَجله وحقد عَلَيْهِ السُّلْطَان فاستصفى عَامَّة أَمْوَاله وأجرى عَلَيْهِ أَنْوَاع الْعَذَاب وبيعت دوره وأصوله وَكتبه وَجَمِيع مَا يملك هُوَ وَأَوْلَاده ونساؤه ثمَّ صَار يُطَاف بِهِ فِي الْأَسْوَاق وينادى عَلَيْهِ من يفْدي هَذَا الْأَسير وَالنَّاس ترمي عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ والحلى وَغير ذَلِك من النفائس أَيَّامًا كَثِيرَة فَيذْهب الموكلون بِهِ بِمَا يرْمى عَلَيْهِ حَيْثُ ذَهَبُوا بأمواله وَبَقِي على ذَلِك قَرِيبا من سنة فَكَانَ فِي ذَلِك محنة عَظِيمَة لَهُ ولعامة الْمُسلمين وخاصتهم وَلما دنا وَقت شَهَادَته رَحمَه الله وَقد أيس من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 نَفسه كتب بِخَطِّهِ رقْعَة وأذاعها فِي النَّاس يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله يشْهد الْوَاضِع اسْمه عقبه على نَفسه وَيشْهد الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته وَجَمِيع خلقه أَنِّي مَا امْتنعت من الْمُوَافقَة على تمْلِيك من ملك من العبيد إِلَّا لِأَنِّي لم أجد لَهُ وَجها وَلَا مسلكا وَلَا رخصَة فِي الشَّرْع وَأَنِّي إِن وَافَقت عَلَيْهِ طَوْعًا أَو كرها فقد خُنْت الله وَرَسُوله وَالشَّرْع وَخفت من الخلود فِي النَّار بِسَبَبِهِ وَأَيْضًا فَإِنِّي نظرت فِي أَخْبَار الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين حِين أكْرهُوا على مَا لم يظْهر لَهُم وَجهه فِي الشَّرْع فرأيتهم مَا آثروا أَمْوَالهم وَلَا أبدانهم على دينهم خوفًا مِنْهُم على تَغْيِير الشَّرْع واغترار الْخلق بهم وَمن ظن بِي غير ذَلِك وافترى على مَا لم أَقَله وَمَا لم أَفعلهُ فَالله الْموعد بيني وَبَينه وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام وَكتب عبد السَّلَام بن حمدون جسوس غفر الله ذَنبه وَستر فِي الدَّاريْنِ عَيبه صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَألف اه ثمَّ بعد ذَلِك بيومين أَمر أَبُو عَليّ الروسي بقتْله فَقتل رَحمَه الله خنقا بعد أَن تَوَضَّأ وَصلى مَا شَاءَ الله ودعا قرب السحر من لَيْلَة الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة وَدفن لَيْلًا على يَد الْقَائِد أبي عَليّ الروسي انْتهى مَا وَجَدْنَاهُ مُقَيّدا وَاعْلَم أَن قَضِيَّة الْفَقِيه أبي مُحَمَّد رَحمَه الله من القضايا الفظيعة فِي الْإِسْلَام والأسباب الَّتِي أثارتها أَولا وأكدتها ثَانِيًا حَتَّى نفذ أَمر الله فِيمَا قَضَاهُ وَقدره فِي أزله بَعْضهَا ظَاهر وَبَعضهَا خَفِي الله أعلم بحقيقته غير أَن الْمَعْرُوف من حَال الْفَقِيه الْمَذْكُور هُوَ الصلابة فِي الدّين والورع التَّام وناهيك بِشَهَادَتِهِ هَذِه دَلِيلا على ذَلِك وَقَضيته قد تَعَارَضَت فِيهَا الأنقال ودخلها التعصب فَلَا يُوقف مِنْهَا على تَحْقِيق وغفران الله وَرَاء الْجَمِيع فَإِنَّهُ تَعَالَى أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وَقد جرى ذكر قَضِيَّة الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام هَذَا بِمَجْلِس السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان ابْن مُحَمَّد فَقَالَ مَا قَتله مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل وَإِنَّمَا قَتله أهل فاس قَالَ وَلم يمكنا أَن نَسْأَلهُ عَن حَقِيقَة ذَلِك اه وَفِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة عزل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 السُّلْطَان أَبَا عَليّ الروسي عَن فاس وَولي مَكَانَهُ حمدون الروسي ثمَّ بعد مُدَّة يسيرَة أخر حمدون وأعيد أَبُو عَليّ وفيهَا قدم عبد الله الروسي وَمَعَهُ أَمر السُّلْطَان بِبيع أصُول المجاورين بالمشرق يَعْنِي بالحرمين الشريفين ثورة الْمولى أبي النَّصْر ابْن السُّلْطَان بالسوس ومقتله رَحمَه الله ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِيهَا ثار أَبُو النَّصْر ابْن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بِبِلَاد السوس وخب فِي الْفِتْنَة وَوضع وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة وَألف سرح السُّلْطَان كَاتبه الْخياط بن مَنْصُور من السجْن وولاه درعة وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا قتل السُّلْطَان الْخياط الْمَذْكُور وأخاه عبد الرَّحْمَن وفيهَا ورد الْخَبَر على السُّلْطَان بِأَن أَوْلَاد دليم من عرب السوس قد قتلوا وَلَده الْمولى أَبَا النَّصْر الثائر بهَا وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَألف قتل السُّلْطَان الْقَائِد أَبَا الدشيش وَثَلَاثَة من القواد مَعَه وَسَبْعَة عشر من العبيد بمشرع الرملة وَفِي جُمَادَى الأولى من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف توفيت الْحرَّة عَائِشَة مباركة زوج السُّلْطَان وَهِي أم وَلَده الْمولى أبي الْحسن عَليّ الْآتِي ذكره وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف سَافر ولد السُّلْطَان وَهُوَ الْمولى أَبُو مَرْوَان بن إِسْمَاعِيل إِلَى الْحجاز بِقصد الْحَج وَفِي رَمَضَان مِنْهَا بعث وَالِي وَجدّة إِلَى الحضرة مائَة رَأس من رُؤُوس بني يزناسن وَفِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف ورد كتاب من السُّلْطَان إِلَى فاس يتَضَمَّن تَحْرِير أهل فاس من الكلف كلهَا ثمَّ ورد عقبه كتاب آخر يوبخهم فِيهِ ويخيرهم بَين أَن يَكُونُوا جَيْشًا أَو نَائِبه فَقَالَ رجل مِنْهُم يدعى ولد الصحراوي إِنَّمَا يكون الْكَلَام أَمَام السُّلْطَان فَقتل وَأصْبح مصلوبا فَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَقبض على أبي عَليّ الروسي وَأَصْحَابه وَولي على فاس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 حمدون الروسي ثمَّ بعد ذَلِك عمد حمدون الروسي إِلَى عبد الْخَالِق بن يُوسُف فَقتله فَقبض السُّلْطَان عَلَيْهِ وعَلى أَخِيه مَسْعُود وَولي على فاس حمو قصارة ثمَّ بعد أَيَّام قدم أَبُو عَليّ الروسي واليا على فاس وَفِي هَذِه السّنة ورد الْخَبَر بِمَوْت الْمولى أبي مَرْوَان بالمشرق وفيهَا عزل السُّلْطَان أَوْلَاده عَن الْأَعْمَال كلهَا وَلم يتْرك إِلَّا ولي الْعَهْد الْمولى أَحْمد بتادلا ثمَّ بعث وَلَده الْمولى عبد الْملك إِلَى مراكش وولاه قطر السوس واستقامت الْأُمُور وسكنت الرّعية وهدأت الْبِلَاد واشتغل السُّلْطَان بِبِنَاء قصوره وغرس بساتينه والبلاد فِي أَمن وعافية تخرج الْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ من وَجدّة إِلَى وَادي نول فَلَا يجدان من يسألهما من أَيْن وَلَا إِلَى أَيْن مَعَ الرَّجَاء المفرط فَلَا قيمَة للقمح وَلَا للماشية والعمال تجبي الْأَمْوَال والرعايا تدفع بِلَا كلفة وَصَارَ أهل الْمغرب كفلاحي مصر يعْملُونَ ويدفعون فِي كل جُمُعَة أَو شهر أَو سنة وَمن نتج فرسا رباه حَتَّى إِذا بلغ أَن يركب دَفعه إِلَى الْعَامِل وَعشرَة مَثَاقِيل مَعَه ثمن سَرْجه هَذَا إِذا كَانَ المنتوج ذكرا فَإِذا كَانَ أُنْثَى ترك لَهُ وَيدْفَع لِلْعَامِلِ مِثْقَالا وَاحِدًا وَلم يبْق فِي هَذِه الْمدَّة بِأَرْض الْمغرب سَارِق وَلَا قَاطع طَرِيق وَمن ظهر عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك وفر فِي الْقَبَائِل قبض عَلَيْهِ بِكُل قَبيلَة مر عَلَيْهَا أَو قَرْيَة ظهر بهَا فَلَا تقله أَرض حَتَّى يُؤْتى بِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَكلما بَات مَجْهُول حَال بحلة أَو قَرْيَة ثقف بهَا إِلَى أَن يعرف حَاله وَمن تَركه وَلم يحتط فِي أمره أَخذ بِمَا اجترحه وَأدّى مَا سَرقه أَو اقترفه من قتل أَو غَيره وَكَانَت أَيَّامه رَحمَه الله غزيرة الأمطار كَثِيرَة الْبركَة فِي الحراثة وَالتِّجَارَة وَغَيرهمَا من أَنْوَاع المعاش مَعَ الْأَمْن وَالْخصب والرخاء المحتد بِحَيْثُ لم يَقع غلاء طول أَيَّامه إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَبلغ الْقَمْح فِي أَيَّامه سِتّ أَوَاقٍ للمد وَالشعِير ثَلَاث أَوَاقٍ للمد وَرَأس الضَّأْن ثَلَاث أَوَاقٍ وَرَأس الْبَقر من المثقال إِلَى المثقالين سَائِر أَيَّام الرخَاء وَالسمن وَالْعَسَل رطلان بالموزونة وَالزَّيْت أَرْبَعَة أَرْطَال بالموزونة هَكَذَا نَقله صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ مُخَالف لما سَيَأْتِي فِي الْحَوَادِث من أَن الجدب والغلاء قد بلغا مبلغهما أَعْوَام التسعين وَألف وَلَعَلَّ مَا ذكره صَاحب الْبُسْتَان كَانَ فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمَذْكُور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 حَسْبَمَا هِيَ عَادَة الله تَعَالَى فِي مثل ذَلِك غَالِبا وَالله تَعَالَى أعلم بِنَاء ضريحي الْإِمَامَيْنِ إِدْرِيس الْأَكْبَر والأصغر رَضِي الله عَنْهُمَا لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بهدم قبَّة ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ بزاوية زرهون وَشِرَاء الْأُصُول الْمُجَاورَة لَهُ من جهاته الْأَرْبَع وهدمها وزيادتها فِيهِ فهدمت الْقبَّة وَجَمِيع مَا حولهَا وأعيدت على هَيْئَة بديعة وَاسْتمرّ الْبناء وَالْعَمَل فِي المشهد الشريف إِلَى أَن تمّ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَغَيره وَقَالَ فِي نشر المثاني وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان المظفر الْمولى إِسْمَاعِيل بتجديد بِنَاء مقَام مَوْلَانَا إِدْرِيس الْأَصْغَر باني فاس حَيْثُ ضريحه بهَا وَأمر بِبِنَاء قُبَّته الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ الْآن بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من المحاسن الَّتِي يعز وجودهَا وَأمر بتوسعة صحن الْمَسْجِد على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم من الْهَيْئَة الَّتِي لَا نَظِير لَهَا بفاس وَتمّ تسقيف الْقبَّة فِي آخر ذِي الْحجَّة من الْعَام الْمَذْكُور ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِإِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ فَهِيَ تُقَام فِيهِ من يَوْمئِذٍ جعل الله ذَلِك فِي ميزَان الْآمِر بِهِ وَالْمُتوَلِّيّ لَهُ آمين وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف مَاتَ الْقَائِد عبد الله الروسي بمكناسة وفيهَا غضب السُّلْطَان على أهل فاس وَبعث إِلَيْهِم حمدون الروسي وأخاه أَبَا عَليّ وَأمرهمْ بمصادرتهم وَقبض المَال مِنْهُم فبعثوا علماءهم وأشرافهم للشفاعة فَلم يقبل وشرعوا فِي دفع المَال حَتَّى لم يعرف لَهُ عدد وَلم يسلم من الغرامة أحد وتغيب النَّاس فِي تِلْكَ الْمدَّة وخلت الْمَدِينَة من ذَوي الْيَسَار وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا فِي الْمحرم مِنْهَا خرج عَسْكَر الإصبنيول من سبتة على حِين غَفلَة من الْمُسلمين فَضربُوا فِي محلتهم واستولوا عَلَيْهَا وعَلى خباء الْقَائِد أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله الريفي ونهبوا وَقتلُوا وسلبوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 وحازوا شبارات الْمُسلمين وعساتهم وحازوا قَصَبَة آفراك وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو ألف وَرَجَعُوا عودهم على بدئهم إِلَى سبته وَمِنْهَا ركبُوا الْبَحْر إِلَى جزيرتهم وَلم يبْق بسبتة إِلَّا سكانها ثمَّ كَانَت الكرة للْمُسلمين عَلَيْهِم بعْدهَا فَبَقيَ بأيدي الْمُسلمين مِنْهُم نَحْو ثَلَاثَة آلَاف ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا مَاتَ الباشا غَازِي بن شقراء صَاحب مراكش بوجدة وَفِي صفر مِنْهَا مَاتَ باعزيز بن صدوف صَاحب تارودانت وفيهَا انْتقل الْمولى عبد الْملك بن السُّلْطَان إِلَى تارودانت فاستقر بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ عِنْد التَّعَرُّض لدولته إِن شَاءَ الله وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله كَانَت أَيَّام أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله على مَا ذكرنَا من الْأَمْن والعافية وَتَمام الضَّبْط حَتَّى لم يبْق لأهل الذعارة وَالْفساد مَحل يأوون إِلَيْهِ ويعتصمون بِهِ وَلم تقلهم أَرض وَلَا أظلتهم سَمَاء سَائِر أَيَّامه فقد كَانَ خَليفَة ونائبا عَن أَخِيه الْمولى الرشيد سبع سِنِين وسلطانا وملكا مُسْتقِلّا سبعا وَخمسين سنة حَتَّى كَانَ جهلة الْأَعْرَاب يَعْتَقِدُونَ أَنه لَا يَمُوت وَيُقَال إِن الْبَعْض من أَوْلَاده كَانُوا يستبطئون مَوته ويعبرون عَنهُ بالحي الدَّائِم وَهَذِه الْمدَّة الَّتِي استوفاها الْمولى إِسْمَاعِيل فِي الْملك وَالسُّلْطَان لم يستوفها أحد من خلفاء الْإِسْلَام وملوكه سوى الْمُسْتَنْصر العبيدي صَاحب مصر فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي الْخلَافَة سِتِّينَ سنة لَكِن لَا سَوَاء فَإِن الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله استوفى مُدَّة الْخلَافَة بثمرتها وتملاها بِكَمَال لذتها لِأَنَّهُ وَليهَا فِي إبان اقتداره عَلَيْهَا واضطلاعه بهَا بعد سنّ الْعشْرين كَمَا مر لَا فِي مُدَّة النِّيَابَة وَلَا فِي مُدَّة الِاسْتِقْلَال وَلم يكن عَلَيْهِ استبداد لأحد وَلَا نغص عَلَيْهِ دولته منغص سوى مَا كَانَ من ثورة ابْن مُحرز وَابْنه الْمولى مُحَمَّد الْعَالم وَمن سلك سُنَنهمْ من الْقَرَابَة وَكلهمْ كَانَ يشغب فِي الْأَطْرَاف لم يحصل مِنْهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 كَبِير ضَرَر للدولة بِخِلَاف الْمُسْتَنْصر العبيدي فَإِنَّهُ ولي وَهُوَ ابْن سبع سِنِين فَكَانَ فِي صدر دولته تَحت الاستبداد وَحدث فِي أَيَّامه الغلاء الْعَظِيم قَالَ ابْن خلكان وَهُوَ غلاء لم يعْهَد مثله بِمصْر مُنْذُ زمَان يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاسْتمرّ سبع سِنِين أكل النَّاس فِيهَا بَعضهم بَعْضًا وَبيع رغيف وَاحِد بِخَمْسِينَ دِينَارا وَكَانَ الْمُسْتَنْصر فِي هَذِه الشدَّة يركب وَحده وكل من مَعَه من الْخَواص مترجلون لَيْسَ لَهُم دَوَاب يركبونها وَكَانُوا إِذا مَشوا يتساقطون فِي الطرقات من الْجُوع إِلَى غير ذَلِك فَلِذَا قُلْنَا لَا يَسْتَوِي حَال ملك الْمولى إِسْمَاعِيل وَملك الْمُسْتَنْصر رحمهمَا الله وَلما كَانَت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف مرض أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل مرض مَوته قَالَ فِي نشر المثاني كَانَ ابْتِدَاء مَرضه فِي ثَانِي يَوْم من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة وَلما أحس بالضعف بعث إِلَى وَلَده الْمولى أَحْمد صَاحب تادلا يستقدمه فَقدم عَلَيْهِ وَأقَام ثَلَاثًا ثمَّ اخترمته الْمنية رَحمَه الله يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف وَتَوَلَّى غسله الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْقَاسِم العميري وَصلى عَلَيْهِ الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عَليّ الْحسن بن رحال المعداني وَدفن بضريح الشَّيْخ المجذوب رَضِي الله عَنهُ من حَضْرَة مكناسة قَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل قد عهد بِالْأَمر إِلَى وَلَده الْمولى أَحْمد الْمَذْكُور وَكَانَ يعبر عَنهُ بولِي الْعَهْد وَأنكر أكنسوس أَن يكون السُّلْطَان الْمَذْكُور قد عهد لأحد من أَوْلَاده قَالَ كَمَا أخبرنَا بذلك السُّلْطَان الْعَالم الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله مرَارًا وَكَانَ يحْكى فِي ذَلِك خَبرا وَهُوَ أَن الْمولى إِسْمَاعِيل لما أَيقَن بِالْمَوْتِ دَعَا وزيره وعالم حَضرته الْكَاتِب أَبَا الْعَبَّاس اليحمدي وَقَالَ لَهُ إِنِّي فِي آخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا فَأَحْبَبْت أَن تُشِير عَليّ بِمن أقلده هَذَا الْأَمر من وَلَدي لِأَنَّك أعرف بأحوالهم مني فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا لقد كلفتني أمرا عَظِيما وَأَنا أَقُول الْحق أَنه لَا ولد لَك تقلده أَمر الْمُسلمين كَانَ لَك ثَلَاثَة الْمولى مُحرز وَالْمولى الْمَأْمُون وَالْمولى مُحَمَّد فقبضهم الله إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان جَزَاك الله خيرا وودعه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 وَانْصَرف وَلم يعْهَد لأحد وَإِنَّمَا العبيد كَانُوا يقدمُونَ من شاؤوا ويؤخرون من شاؤوا وَكَانَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله يَحْكِي ذَلِك عِنْدَمَا يعرض لَهُ ذكر أَوْلَاده هُوَ وَالله أعلم بَقِيَّة أَخْبَار الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته قَالَ اليفرني فِي النزهة لم يزل أَمِير الْمُؤمنِينَ إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي مقارعة أعدائه إِلَى أَن دوخ بِلَاد الْمغرب كلهَا وَاسْتولى على سهلها ووعرها وَاسْتولى على تخوم السودَان وانْتهى مِنْهَا إِلَى مَا وَرَاء النّيل وانتشرت دولته فِي عمائرها وَبلغ من ذَلِك مَا لم يبلغهُ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ وامتدت مَمْلَكَته فِي جِهَة الشرق إِلَى بسكرة من بِلَاد الجريد ونواحي تلمسان وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته اه وَقَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ للْمولى إِسْمَاعِيل من الْوَلَد على مَا تَوَاتر بِهِ الْخَبَر خَمْسمِائَة ولد ذكر وَمن الْبَنَات مثل ذَلِك أَو قريب مِنْهُ قَالَ وَالَّذِي عقب من أَوْلَاده على مَا رَأَيْنَاهُ عيَانًا فِي دفتر السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله إِذْ كَانَ يصلهم فِي كل سنة وَكَانَ يَبْعَثنِي لتفرقة الصِّلَة عَلَيْهِم بسجلماسة مائَة دَار وَخمْس دور كلهَا لأولاده لصلبه وَأما الَّذين لم يعقبوا أَو عقبوا وأنقطع نسلهم فليسوا فِي الدفتر وَأما الحفدة والأسباط فَكَانَ عَددهمْ فِي أَيَّام السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله ألفا وَخَمْسمِائة وَسِتِّينَ وَقد زادوا الْيَوْم فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد وَلم يزل يصلهم إِلَى الْآن على مَا فِي دفتر وَالِده وَمن زَاد يُزَاد لَهُ قَالَ وَأما مَا أدركناه من أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل لصلبه فِي دولة السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد فثمانية وَعِشْرُونَ رجلا نعرفهم بِالِاسْمِ وَالْعين وَمن بَنَاته لصلبه مثل ذَلِك قد أنزلهن السُّلْطَان بقصر حمو بن بكة ورتب لَهُنَّ الْمُؤْنَة وَالْكِسْوَة والصلة فِي كل سنة وَأنزل مَعَهُنَّ الحوافد اللَّاتِي لَا أَزوَاج لَهُنَّ وكل وَاحِدَة من هَذِه الدّور الْمِائَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وَالْخمس الَّتِي بسجلماسة لوَاحِد من أَوْلَاد صلبه لِأَنَّهُ كَانَ رَحمَه الله إِذا رأى أحدا من أَوْلَاده الَّذين لم يرد إقامتهم مَعَه بالمغرب قد بلغ أرْسلهُ إِلَى سجلماسة وَبني لَهُ بهَا قصرا أَو دَارا وَأَعْطَاهُ نخلا وأرضا للحراسة والفلاحة ومماليك يقومُونَ لَهُ بِخِدْمَة أَصله وحراثة أرضه فِي الشتَاء والصيف وَيُعْطِي كل وَاحِد من ذَلِك على قدر مرتبته عِنْده ومنزلة أمه مِنْهُ فتناسلت أَوْلَادهم ونمت فروعهم ووفر الله جمعهم وَحفظ نظامهم وَكَانَ رَحمَه الله سديد النّظر فِي نقل أَوْلَاده بأمهاتهم من مكناسة إِلَى تافيلالت مَعَ بني عمهم من الْأَشْرَاف ليتدربوا على معيشتها الَّتِي تدوم لَهُم فَكَانَ ذَلِك صونا لَهُم من نكبات الدَّهْر وفضيحة الْخَصَاصَة بعد مَوته وَزَوَال النِّعْمَة وانزواء رِدَاء الْملك السَّاتِر لَهُم بَين الْعَامَّة فنجحوا وأفلحوا بِخِلَاف إخْوَانهمْ الَّذين ربوا بمكناسة واستمروا بهَا إِلَى أَن توفّي والدهم وألفوا عوائدهم ومرنوا على شهواتهم فَإِنَّهُم لم ينم لَهُم نسل كإخوانهم الَّذين بالصحراء هَذَا مَا يتَعَلَّق بِنَسْل السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَأما مبانيه بقلعة مكناسة وقصوره ومساجده ومدارسه وبساتينه فشيء فَوق الْمَعْهُود بِحَيْثُ تعجز عَنهُ الدول الْقَدِيمَة والحادثة من الْفرس واليونان وَالروم وَالْعرب وَالتّرْك فَلَا يلْحق ضخامة مصانعه مَا شيده الأكاسرة بِالْمَدَائِنِ وَلَا الفراعنة بِمصْر وَلَا مُلُوك الرّوم برومة والقسطنطينية وَلَا اليونان بأنطاكية والإسكندرية وَلَا مُلُوك الْإِسْلَام ودولة الْعِظَام كبني أُميَّة بِدِمَشْق وَبني الْعَبَّاس بِبَغْدَاد والعبيديين بإفريقيا ومصر والمرابطين والموحدين وَبني مرين والسعديين بالمغرب وَمَا بديع الْمَنْصُور بقصر من قصوره وَلَا بُسْتَان المسرة بِأحد بساتينه فقد كَانَ عِنْده بجنان حمرية مائَة ألف قعدة من شجر الزَّيْتُون وحبسه كُله على الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَمَرَّتْ عَلَيْهِ بعد وَفَاته العصور وَأَيَّام الفترة والفتن وَالنَّاس يحتطبونه فَلم يظْهر فِيهِ أثر من ذَلِك وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله أَحْيَاهُ وأجرى المَاء إِلَيْهِ وَأمر بإحصاء مَا بَقِي من شَجَرَة فوجدوه سِتِّينَ ألفا فَكَانَ رَحمَه الله يبْعَث بِثمن غَلَّته إِلَى الْحَرَمَيْنِ تنفيذا لمراد جده وَكَذَا ابْنه الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَقَد شاهدت الْكثير من آثَار الدول فَمَا رَأَيْت أثرا أعظم من آثاره وَلَا بِنَاء أضخم من بنائِهِ وَلَا أَكثر عددا من قصوره لِأَن هَؤُلَاءِ الدول كَانَ من اعتنى مِنْهُم بِأَمْر الْبناء غَايَة أمره أَن يَبْنِي قصرا ويتأنق فِي تشييده وتنجيده وَهَذَا السُّلْطَان لم يقْتَصر على قصر وَلَا على عشرَة وَلَا عشْرين بل جعل مباني الْعَالم كلهَا فِي بطن تِلْكَ القلعة المكناسية كَمَا قيل كل الصَّيْد فِي جَوف الفرأ هَذَا كَلَام صَاحب الْبُسْتَان رَحمَه الله ثمَّ قَالَ وَكَانَ فِي سجونه من الْأُسَارَى خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا ونيفا كَانُوا يعْملُونَ فِي بِنَاء قصوره مِنْهُم الرخامون والنقاشون والنجارون والحدادون والمنجمون والمهندسون والأطباء وَلم تسمح نَفسه قطّ بِفِدَاء أَسِير وَكَانَ فِي سجونه من أهل الجرائم كالقاتل والمحارب وَالسَّارِق نَحْو الثَّلَاثِينَ ألفا تظل فِي الْعَمَل مَعَ أسرى الْكفَّار ويبيتون فِي السجون والأهراء تَحت الأَرْض وَمن مَاتَ مِنْهُم دفن فِي الْبناء حَتَّى لم يبْق بالمغرب من أهل الْفساد عرق ينبض وَمِمَّا مدح بِهِ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله قَول الْفَقِيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْجُزُولِيّ من قصيدة لَهُ (مولَايَ إِسْمَاعِيل يَا شمس الورى ... يَا من جَمِيع الكائنات فدى لَهُ) (مَا أَنْت إِلَّا سيف حق منتضى ... الله من دون الْبَريَّة سَله) (من لَا يرى لَك طَاعَة فَالله قد ... أعماه عَن طرق الْهدى وأضله) ولنذكر مَا سلف فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْمفضل بن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد المرسي ابْن الشَّيْخ الْأَكْبَر أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي كَانَ رَحمَه الله صَالحا خيرا من فضلاء عصره حَافِظًا لِلْقُرْآنِ بالسبع قد اشْتهر قدره فِي النَّاس كثيرا وَكَانَ يفر من ذَلِك وَإِذا سَأَلَهُ أحد أَن يَتَّخِذهُ شَيخا يَقُول نَحن إخْوَة فِي الله وَالدِّرْهَم الْكَامِل ينْفق مِنْهُ أَخذ الْقرَاءَات عَن الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي عبد الرَّحْمَن بن القَاضِي وَكتب لَهُ الْإِجَازَة بذلك وَكَانَ لَهُ نصيب من الْعُلُوم سوى الْقرَاءَات وانتسب فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 الطَّرِيق للْوَلِيّ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد الحفيان الرتبي السجلماسي من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي عبيد الشَّرْقِي وَتخرج عَلَيْهِ نجباء من طلبة الْقرَاءَات وَكَانَ رَحمَه الله كثير الطَّعَام بزاوية جده أبي عبيد الشَّرْقِي ثمَّ انْتقل الى نَاحيَة سلا فسكن بأحوازها وَبَقِي هُنَالك إِلَى أَن مَاتَ فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَحمل إِلَى الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَدفن بطالعتها قرب الْمَسْجِد الْأَعْظَم وقبره الْيَوْم مزارة عَظِيمَة وَكَانَ لَهُ كَلَام كثير على طَرِيق العروبي الملحون خَاطب بِهِ الرئيس مُحَمَّد الْحَاج الدلائي حِين مشت الوشاة بَينهمَا فَوَقَعت من أجل ذَلِك بَينهمَا مكاتبات ومعاتبات رحمهمَا الله وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف توفّي الشَّيْخ الرباني أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن احْمَد بن عبد الله بن حُسَيْن المصلوحي دَفِين تامصلوحت من أَعمال مراكش وَقد تقدم التَّنْبِيه على وَفَاة جده أبي مُحَمَّد عبد الله بن حُسَيْن الْمَذْكُور وَكَانَت لَهُ شهرة عَظِيمَة وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه تلمذ لَهُ طَائِفَة من الْفُقَرَاء بمراكش وَاجْتمعَ عَلَيْهِ نَاس فَأنْكر ذَلِك السُّلْطَان زَيْدَانَ بن الْمَنْصُور وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَخرج إِلَى قَبيلَة سكتانة حَيْثُ ضريحه الْيَوْم فاستقر بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَ يَقُول لَا يأتينا إِلَّا من أَمنه الله لِأَن مقامنا هَذَا مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا وَكَانَ يَقُول دَارنَا دَار سر لَا دَار علم وَكَانَ إِذا دخل شهر الْمحرم ترك حلق الشّعْر والزينة فَإِذا ليم على ذَلِك قَالَ مَا فعلنَا هَذَا الا امتعاضا لقتل الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ وأسفا على مَا وَقع بِهِ وَكَانَ يعْمل السماع ويجتمع أَصْحَابه على الحضرة على الْكَيْفِيَّة الْمَعْهُودَة وَرُبمَا تواجد فَدخل مَعَهم وَكَانَت لَهُ مُشَاركَة فِي الْعُلُوم أَخذ عَن الشَّيْخ المنجور وَأبي مُحَمَّد بن طَاهِر الحسني وَأبي مهْدي السكتاني وَغَيرهم وَتُوفِّي فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم عَن سنّ عالية يُقَال أناف على الْمِائَة وبنيت عَلَيْهِ قبَّة حافلة وقبره الْيَوْم مزارة عَظِيمَة وَفِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف مَعَ السّنة الَّتِي بعْدهَا حدثت مجاعَة عَظِيمَة بالمغرب لَا سِيمَا فاس وأعمالها أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد ثمَّ تدارك الله عباده بِلُطْفِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وَفِي سنة خمس وَسبعين وَألف فِي عَاشر رَمَضَان مِنْهَا وَقعت زَلْزَلَة عَظِيمَة بفاس وَغَيرهَا من بِلَاد الْمغرب قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْهَادِي الشريف السجلماسي وَقعت الزلزلة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَنحن بِمَجْلِس البُخَارِيّ عِنْد شيخ الْجَمَاعَة الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر الفاسي رَحمَه الله فَقَامَ كل من بِالْمَجْلِسِ حَتَّى الشَّيْخ ظنا منا أَن السّقف يسْقط علينا لِأَن خشبه صوتت وَخرج سرعَان النَّاس يَلْتَمِسُونَ الْخَبَر فَأخْبر بهَا كل من كَانَ رَاقِدًا أَو جَالِسا حَتَّى النَّائِم انتبه وَمن كَانَ مَاشِيا لم يشْعر بهَا فَسئلَ الشَّيْخ عَن ذَلِك وَهل هُوَ كَمَا تزْعم الْعَامَّة من أَن الثور الَّذِي عَلَيْهِ الدُّنْيَا أَو الْحُوت يَتَحَرَّك فَأجَاب بِأَن ذَلِك بَاطِل لَا أصل لَهُ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} الاسراء 59 وَقَالَ أَيْضا ذكر بعض الْحُكَمَاء أَن ذَلِك يَقع فِي اختناق الرّيح فِي جَوف الأَرْض وَفِي يَوْم الأثنين الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب سنة سبع وَسبعين وَألف توفّي البهلول المتبرك بِهِ سَيِّدي قَاسم بن أَحْمد بوعسرية الْمَعْرُوف بِابْن اللوشة دَفِين ضفة وَادي أرضم من بِلَاد آزغار وَلم يتَزَوَّج قطّ فَلم يكن لَهُ عقب هَكَذَا فِي نشر المثاني وَلَعَلَّه تَصْحِيف وَالصَّوَاب مَا يَأْتِي من أَنه توفّي سنة سبع وَتِسْعين بمثناة بمهملتين وَالله أعلم وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف توفّي شيخ السّنة وَإِمَام الطَّرِيقَة أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن نَاصِر بن عَمْرو الدرعي ثمَّ الأغلاني الشهير بِابْن نَاصِر نِسْبَة إِلَى جده الْمَذْكُور فِي النّسَب قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو عَليّ اليوسي فِي فهرسته كَانَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ مشاركا فِي فنون من الْعلم كالفقه والعربية وَالْكَلَام وَالتَّفْسِير والْحَدِيث والتصوف عابدا ناسكا ورعا زاهدا عَارِفًا قَائِما بالطريقة شاربا من عين الْحَقِيقَة وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مَعَ إكبابه على عُلُوم الْقَوْم وانتهاجه مَنْهَج الطَّرِيقَة لَا يخل بِعلم الظَّاهِر تدريسا وتأليفا وتقييدا وضبطا فنفع الله بِهِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَحبه النَّاس شرقا وغربا فَانْتَفع بِهِ الْخلق قَائِما بالتعليم والتربية للمريدين بقوله وَفعله والترقية بهمته عَن همة عالية وَحَالَة مرضية وَعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 صَحِيح وبصيرة ونورانية مَعَ التَّمَكُّن والرسوخ فَكَانَ إِذا تكلم انتقش كَلَامه فِي الْقلب وَإِذا وعظ وضع الهناء مَوَاضِع النقب ثمَّ أَطَالَ الشَّيْخ اليوسي فِي تَرْجَمته وَذكر لَهُ كرامات عديدة وَقد أفْصح عَن حَاله وَوَصفه فِي قصيدته الدالية الْمَشْهُورَة الْمَوْضُوعَة فِي مدحه وأتى فِيهَا من الإجلال لهَذَا الشَّيْخ والتعظيم بِمَا كَانَ سَبَب ربحه وَلِهَذَا الشَّيْخ شُيُوخ وَأَتْبَاع معروفون فِي كتب الْأَئِمَّة الَّذين تعرضوا لبَيَان ذَلِك وطريقته الْمُتَّصِلَة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْرُوفَة أَيْضا وَكَانَ وَالِده سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد من أكَابِر الْأَوْلِيَاء كثير الأوراد لَا يفتر لِسَانه عَن الْأَذْكَار حَسْبَمَا نَقله غير وَاحِد وَالله تَعَالَى أعلم قَالَ مُؤَلفه عفى الله عَنهُ وَهَذَا الشَّيْخ هُوَ جدنا وَإِلَيْهِ ننتسب فَأَنا أَحْمد بن خَالِد بن حَمَّاد بن مُحَمَّد الْكَبِير بن أَحْمد بن مُحَمَّد الصَّغِير بِفَتْح الْمِيم ابْن مُحَمَّد بن نَاصِر الشَّيْخ الْمَذْكُور نفعنا الله بِهِ وأفاض علينا من مدده ومدد أَمْثَاله وأسلافنا ينتسبون بعد الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَى سيدنَا جَعْفَر ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَلست الْآن من ذَلِك على تَحْقِيق ولعلنا نحققه فِي مَوضِع آخر إِن شَاءَ الله وَفِي حُدُود التسعين وَألف كَانَ انحباس الْمَطَر والغلاء قَالَ الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب القادري فِي الأزهار الندية أَن الْقَمْح قد بلغ فِي هَذِه الْمدَّة إِلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة للمد بِسَبَب تَأَخّر الْمَطَر وَالْمدّ صَاع وَنصف وَصلى النَّاس صَلَاة الاسْتِسْقَاء فَأول إِمَام خطب فِيهَا القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بردلة وكررها ثَلَاث مَرَّات فَنزل مطر يسير لم يكف ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة رَابِعَة فَكَانَ الْخَطِيب فِيهَا الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد البوعناني ثمَّ أُعِيدَت خَامِسَة والخطيب القَاضِي بردلة ثمَّ أُعِيدَت سادسة والخطيب أَبُو عبد الله مُحَمَّد المرابط الدلائي وفيهَا بلغ الْقَمْح سِتِّينَ أُوقِيَّة وَهُوَ غلاء لم يسمع بِمثلِهِ ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة سابعة والخطيب أَبُو عبد الله البوعناني ثمَّ أُعِيدَت ثامنة والخطيب الشَّيْخ الْوَلِيّ الزَّاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الفشتالي وَفِي عَشِيَّة غده نزل الْمَطَر مَعَ رعد وبرق ففرح الْمُسلمُونَ وَأَكْثرُوا من حمد الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 تَعَالَى ثمَّ أُعِيدَت الصَّلَاة تاسعة والخطيب القَاضِي بردلة وَخرج يَوْمئِذٍ فِي جملَة النَّاس شيخ الْإِسْلَام وبركة الْأمة الإِمَام أَبُو مُحَمَّد سَيِّدي عبد الْقَادِر الفاسي رَاكِبًا على حمَار جاعلا الْأَشْرَاف من أهل الْبَيْت الطَّاهِر أَمَامه مستشفعا بهم إِلَى الله تَعَالَى فَنزل عِنْد الرُّجُوع مطر قَلِيل وَمن الْغَد نزل الْمَطَر الغزير الْكَافِي النافع فانحطت الأسعار وَنزل الْقَمْح إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ أُوقِيَّة بَعْدَمَا كررت الصَّلَاة تسع مَرَّات وَكَانَت الصَّلَاة التَّاسِعَة يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس الْمحرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف فِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّانِي عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْمولى أَبُو مُحَمَّد عبد الله الشريف الوزاني الشهير وَكَانَ عمره يَوْم توفّي خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَتُوفِّي وَلَده الشَّيْخ الْمولى أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَقت الْعشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة عشْرين وَمِائَة وَألف وعمره يَوْمئِذٍ ثَمَانُون سنة وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ القطب الْمولى التهامي ابْن مُحَمَّد طُلُوع شمس يَوْم الِاثْنَيْنِ فاتح الْمحرم من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف وعمره سِتّ وَسِتُّونَ سنة وَتُوفِّي الشَّيْخ مولَايَ الطّيب ابْن مُحَمَّد يَوْم الْأَحَد وَقت طُلُوع الْفجْر ثامن عشر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وعمره نَيف وَثَمَانُونَ سنة وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ مولَايَ أَحْمد ضحوة يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ مولَايَ عَليّ بن أَحْمد يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم من ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتُوفِّي ابْنه الشَّيْخ سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ يَوْم الْأَرْبَعَاء فاتح سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد أَتَيْنَا بوفاة هَؤُلَاءِ السَّادة الوازانيين مَجْمُوعَة هُنَا لما فِي ذَلِك من الْمُنَاسبَة والتقريب ويتصل نسبهم بالمولى يملح بن مشيش أخي الْمولى عبد السَّلَام بن مشيش ثمَّ بالمولى إِدْرِيس بن إِدْرِيس رَضِي الله عَنْهُم وأماتنا على محبتهم وحشرنا فِي زمرتهم وَفِي سنة تسعين وَألف وَقع الوباء الْعَظِيم بالمغرب فَكَانَ عبيد السُّلْطَان يردون الواردين من الْآفَاق على مكناسة الزَّيْتُون كَمَا مر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف بعد ظهر الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من رَمَضَان مِنْهَا توفّي شيخ الْجَمَاعَة بفاس وَالْمغْرب الإِمَام الْكَبِير الْعَالم الشهير الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عَليّ بن يُوسُف الفاسي وَلَا يحْتَاج مثله رَضِي الله عَنهُ إِلَى تَعْرِيف فَإِن مآثره أشهر من قفا نبك قَالُوا وَمَعَ غزارة علمه وانتفاع أهل المغارب الثَّلَاثَة بِهِ لم ينضد لجمع كتاب مَخْصُوص وَلَا شرح متن من الْمُتُون وَإِنَّمَا كَانَت تصدر عَنهُ أجوبة يسْأَل عَنْهَا فيجيب ويجيد وَجَمعهَا بعض أَصْحَابه فَجَاءَت فِي مُجَلد وَفِي سنة خمس وَتِسْعين وَألف توفّي الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو مُحَمَّد عبد الله العوني دَفِين سلا من أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي مُحَمَّد الْمفضل وَفِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة المشارك أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَادِر الفاسي صَاحب نظم عمل فاس والأفنوم فِي مبادىء الْعُلُوم وَغَيرهمَا من التآليف الحسان وَفِي سنة سبع وَتِسْعين وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ذُو الْأَحْوَال الربانية والمواهب العرفانية أَبُو الْقَاسِم بن أَحْمد الوشة السفياني الْمَعْرُوف بِأبي عسرية لِأَنَّهُ كَانَ يعْمل بِشمَالِهِ أَكثر من يَمِينه كَانَ من المولهين فِي ذَات الله تَعَالَى وَمن أهل الْأَحْوَال والشطحات يُقَال إِنَّه حمل وَهُوَ صبي إِلَى الشَّيْخ أبي عبيد الشَّرْقِي فبرك عَلَيْهِ ودعا بِقرب من مَاء فصبت عَلَيْهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنا بردنا هَذَا الصَّبِي لأحرقته الْأَنْوَار وَلذَا كَانَ يَهْتِف بِأبي عبيد كثيرا وينادي باسمه وينسب جَمِيع مَا يظْهر على يَده لَهُ وَفِي سنة إِحْدَى مائَة وَألف أَمر السُّلْطَان النَّاس بِأَن لَا يلبسوا النِّعَال السود وَلَا يلبسهَا إِلَّا الْيَهُود وَتقدم التَّنْبِيه على ذَلِك عقب فتح العرائش وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام على الْأَعْلَام أخر عُلَمَاء الْمغرب على الْإِطْلَاق الَّذِي وَقع على علمه وصلاحه الِاتِّفَاق أَبُو عَليّ الْحسن بن مَسْعُود اليوسي نِسْبَة إِلَى آيت يوسي قَبيلَة من برابر ملوية وَأَصله اليوسي كَانَ رَضِي الله عَنهُ غزالي وقته علما وتحقيقا وزهدا وورعا قَالَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 فهرسته كَانَت قراءتي كلهَا أَو جلها فتحا ربانيا وَرزقت وَللَّه الْحَمد قريحة وقادة فَكنت بِأَدْنَى سَماع يَنْفَعنِي الله فقد أسمع بعض الْكتاب فَيفتح الله عَليّ فِي جَمِيعه فتحا ظَاهرا وأبلغ فِيهِ مَا لم يبلغهُ من سمعته مِنْهُ وَرب كتاب لم أسمعهُ أصلا غير أَن سَماع الْبَعْض فِي كل فن صَار مبدأ لِلْفَتْحِ وتتميما لحكمة الله فِي سنة الْأَخْذ عَن الْمَشَايِخ وَلَا تستوحش مِمَّا ذَكرْنَاهُ ظنا مِنْك أَن الرِّبْح أبدا يكون على قدر رَأس المَال كلا فقد يبلغ الدِّرْهَم الْوَاحِد ألف مِثْقَال وَمَا ذَلِك على الله بعزيز وَكَانَ مُعظم قِرَاءَته بالزاوية الدلائية لم يزل مُقيما بهَا عاكفا على بَث الْعلم ونشره إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا الْمولى الرشيد بن الشريف فنقله إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ خرج إِلَى الْبَادِيَة فاستوطن بقبيلته إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ متضلعا من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية حَتَّى قَالَ فِي تأليفه الْمُسَمّى بالْقَوْل الْفَصْل فِي الْفرق بَين الْخَاصَّة والفصل أَنه بلغ دَرَجَة الشَّيْخ سعد الدّين التَّفْتَازَانِيّ وَالسَّيِّد الْجِرْجَانِيّ وأضرابهما وَسَأَلَهُ يَوْمًا سَائل بِمَجْلِس درسه فَقَالَ لَهُ اسْمَع مَا لَا تسمعه من إِنْسَان وَلَا تَجدهُ محررا فِي ديوَان وَلَا ترَاهُ مسطرا ببنان وَإِنَّمَا هُوَ من مواهب الرَّحْمَن وَلما دخل مراكش تصدر بهَا لإقراء علم التَّفْسِير بِجَامِع الْأَشْرَاف فَمَكثَ فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة قَرِيبا من ثَلَاثَة أشهر وَهُوَ يُبْدِي كل يَوْم أسلوبا غَرِيبا وتحقيقا عجيبا فَعجب النَّاس من غزارة مادته مَعَ أَنه رُبمَا بَات فِي ضريح بعض الْأَوْلِيَاء وَالنَّاس مَعَه فَلَا يطالع كتابا وَلَا يُرَاجع مؤلفا فَإِذا أصبح وَجلسَ على الْكُرْسِيّ أطلق لِسَانه بِمَا يبهر الْعُقُول وَكَانَ الشّعْر عِنْده أسهل من النَّفس وشعره كُله حكم وأمثال كشعر الْعَرَب القدماء وقصيدته الدالية فِي شَيْخه ابْن نَاصِر دَالَّة على امتداد بَاعه ورسوخ قدمه فِي المعارف الْفُنُون وَللَّه در الإِمَام أبي سَالم العياشي إِذْ قَالَ (من فَاتَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ يَصْحَبهُ ... فليصحب الْحسن اليوسي يَكْفِيهِ) وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ آخر الْعلمَاء الراسخين بل خَاتِمَة الفحول من الرِّجَال الْمُحَقِّقين حَتَّى كَانَ بعض الشُّيُوخ يَقُول هُوَ المجدد على رَأس هَذِه الْمِائَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 لما اجْتمع فِيهِ من الْعلم وَالْعَمَل بِحَيْثُ صَار إِمَام وقته وعابد زَمَانه رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَفِي سنة ثَلَاث وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع من شهر ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد حجي قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي فِي حَقه مَا نَصه رجل خير صَالح وَلَقَد اجْتمعت بِهِ بمكناسة سنة سِتّ وَتِسْعين وَألف فَمَا رَأَيْت مِنْهُ إِلَّا خيرا اه وَلما توفّي خَلفه وَلَده ووارث سره وضجيعه فِي قَبره الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي أَبُو مُحَمَّد عبد الله حجي الْمَعْرُوف بالجزار وضريحهما مزارة شهيرة بسلا وَفِي سنة تسع أَو عشر وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعدْل النوازلي الفارض الحاسب أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي شَعْرَة السلاوي وَدفن قريب ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة خمس عشرَة وَمِائَة وَألف توفّي الإِمَام الْفَقِيه الأديب النَّاظِم الناثر أَبُو الْقَاسِم بن الْحُسَيْن الغريسي ثمَّ السلاوي الْمَعْرُوف بِأبي زَائِدَة وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة وَدفن قرب ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة وَألف فِي ضحى يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم مِنْهَا كسفت الشَّمْس كسوفا كليا وَسمي ذَلِك الْعَام عَام الظليماء وَفِي سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْهمام ذُو التصانيف المفيدة فِي كل فن الْحجَّة المتبرك بِهِ حَيا وَمَيتًا أَبُو سرحان سَيِّدي مَسْعُود جموع الفاسي ثمَّ السلاوي وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع جُمَادَى الأولى من السّنة وَدفن بزاوية الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد حجي دَاخل مَدِينَة سلا وَفِي سنة عشْرين وَمِائَة وَألف توفّي الْوَلِيّ الصَّالح العابد الناصح أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله معن الأندلسي نزيل المخفية من فاس حرسها الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ إِحْدَاث قِرَاءَة المسمع الحَدِيث المتضمن لأمر النَّاس بالإنصاف وَقَوله أَنْصتُوا رحمكم الله ثَلَاثًا عِنْد خُرُوج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة من الْمَقْصُورَة وجلوسه على الْمِنْبَر وَفِي سنة أثنتين وَعشْرين وَمِائَة وَألف وَذَلِكَ وَقت عصر الثُّلَاثَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سَيِّدي أَحْمد حجي الْمَعْرُوف بالجزار وَدفن بِإِزَاءِ قبر أَبِيه كَمَا مر وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الصبيحي السلاوي ورثاه الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي بقوله (جزعنا وَإِن كُنَّا على الْعلم أَنه ... إِذا مَا أَرَادَ الله أمرا تعجلا) (لفقد الإِمَام الْمُجْتَبى الْعَالم الرضي ... الصبيح وَمن فِي وقته قد تنبلا) (وَإِلَّا فمختار الْإِلَه اختيارنا ... وَنَرْجُو لَهُ خيرا عميما مكملا) ورثاه أَيْضا صديقه الملاطف الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر الحافي السلاوي رحم الله الْجَمِيع وَفِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَألف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فاتح رَجَب مِنْهَا توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الْعَالم الْعَامِل الْعَارِف الشهير الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي من كبار أَصْحَاب الشَّيْخ ابْن نَاصِر وَمن حفدة الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن مبارك الزعري الْمُتَقَدّم الذّكر ومآثر هَذَا الشَّيْخ أشهر من أَن تذكر وزواياه عميمة النَّفْع وَالْبركَة بالمغرب وَكَانَت وَفَاته بمكناسة الزَّيْتُون وضريحه بهَا شهير عِنْد رَوْضَة الشَّيْخ سَيِّدي عبد الله بن حَامِد رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بهم وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِي الثَّامِن عشر من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة الإِمَام السّني أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن مُحَمَّد بن نَاصِر الدرعي وَهُوَ ولد الشَّيْخ ابْن نَاصِر الْمُتَقَدّم وخليفته ووارث سره وفضله رَضِي الله عَنهُ أشهر من أَن يُنَبه عَلَيْهِ وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ الْحسن بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 مُحَمَّد المعداني فِي كِتَابه الرَّوْض اليانع الفائح فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي عبد الله الصَّالح قَالَ حدث بعض الْعلمَاء الأجلة أَنه لما دخل الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن نَاصِر الدرعي الْمَدِينَة المشرفة فِي حجَّته الْأَخِيرَة جلس تجاه الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَالنَّاس يزدحمون عَلَيْهِ لأخذ الْعَهْد وتلقين الأوراد وَهُوَ منبسط لذَلِك فَقلت فِي نَفسِي إِن هَذَا الرجل مغرور رَاض عَن نَفسه كَيفَ يتَصَدَّى فِي هَذَا الْمَكَان الَّذِي تخضع فِيهِ الْمُلُوك وَجَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَإِذا طلعت الشَّمْس اختفى السراج قَالَ فكاشفني بِمَا فِي نَفسِي والتفت إِلَيّ وَقَالَ وَالله مَا جَلَست لما ترَوْنَ حَتَّى أَمرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أذعنت لَهُ حَتَّى هددت بالسلب قَالَ فَسَقَطت على يَدَيْهِ أقبلها وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَنا تائب إِلَى الله تَعَالَى فَدَعَا لي وانصرفت وَمِمَّا حَكَاهُ صَاحب الْكتاب الْمَذْكُور قَالَ حدث الرجل الصَّالح الْبركَة الْفَقِيه الناصح سَيِّدي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المجاصي قَالَ كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل بن الشريف رَحمَه الله قد استدعى الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر وَكَانَ بِهِ حنق عَظِيم عَلَيْهِ وعزم إِذا وصل إِلَيْهِ أَن يفعل بِهِ مَكْرُوها لَا تدرى حَقِيقَته غير أَن الْأَمر شَدِيد فجَاء إِلَى الشَّيْخ جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام واصحابه الملازمين لَهُ وَقد تخوفوا عَلَيْهِ وعَلى أنفسهم غَايَة فَكَلَّمُوا الشَّيْخ فِي ذَلِك واستفهموه ليعلموا مَا عِنْده من عَادَة الله تَعَالَى مَعَ أوليائه من النُّصْرَة لَهُم والذب عَنْهُم فَلم يسمعوا مِنْهُ كلمة ثمَّ راجعوه فِي ذَلِك حَتَّى هابوه وسكتوا عَنهُ وَقدم الشَّيْخ الْمَذْكُور على السُّلْطَان فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَصَبَة آكراي قرب مكناسة الزَّيْتُون إِذا بِرَجُل مجاطي يُقَال لَهُ الْحَاج عَمْرو لقِيه هُنَالك فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ نزل عَن فرسه ليسلم عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ مَا الْخَبَر يَا وَلَدي فَقَالَ الرجل مَا الْخَبَر يَا سَيِّدي وَالله لَوَدِدْت أَن سَيِّدي لم يصل إِلَى هُنَا وَلم يخرج من دَاره يَعْنِي أَن الْأَمر عَظِيم فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ بِلِسَان الْعِنَايَة الربانية وَلَا مَا يشوش إِذا كَانَ فِي رقبتك شبر وَأَشَارَ بِيَدِهِ فاعمل فِيهَا ذِرَاعا وَمد ذراعه ففرح الْعلمَاء الَّذين مَعَه وكل من حضر بِتِلْكَ الْمقَالة وتيقنوا الْأَمْن على الشَّيْخ وعَلى أنفسهم لما يعلمُونَ من عَادَة الله الْكَرِيمَة مَعَه فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ فَإِن السُّلْطَان جَاءَ إِلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 بِنَفسِهِ وَهُوَ فِي رَوْضَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد بن أبي بكر وتلقاه بِالْقبُولِ والتعظيم والتبجيل والتكريم وَصَافحهُ بِيَدِهِ وَجلسَ مَعَه فِي دَاخل الْقبَّة سَاعَة وَلما خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من عِنْده جعل يُنَادي بِلِسَانِهِ فِي أَصْحَابه وَيَقُول زوروا سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر يَا النَّاس زوروا سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر يَا النَّاس ويكررها من صميم قلبه قَالَ سَيِّدي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فَلَمَّا انْصَرف السُّلْطَان من عِنْد الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ جِئْت إِلَيْهِ وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي إِنَّا نَخَاف أَن ينزلنا السُّلْطَان بضريح الشَّيْخ سَيِّدي عبد الرَّحْمَن المجذوب وَيطول بِنَا الْمقَام فَقَالَ لي لَا نبقى إِلَّا هُنَا وَبعد غَد ننصرف إِلَى بِلَادنَا إِن شَاءَ الله فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ بعد أَن جَاءَ الْأُمُور من السُّلْطَان يَأْمُرهُ بالنزول بضريح الشَّيْخ المجذوب فَقَالَ لَا أنزل إِلَّا هُنَا فَبَقيَ فِي مَوْضِعه ثمَّ بعث إِلَيْهِ السُّلْطَان يَأْمُرهُ بالتوجه إِلَى بِلَاده مُعظما مكرما اه وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة عيد الْفطر مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَالم القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن الْعَلامَة أبي الْحسن عَليّ المراكشي وَصلي عَلَيْهِ من الْغَد وَدفن بالموضع الْمُسَمّى بالعلو من رِبَاط الْفَتْح وَفِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف فِي لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشر الْمحرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الله العايدي السجيري وَدفن بزاوية من حومة السويقة من سلا وَفرغ من بِنَاء قُبَّته فِي رَجَب من السّنة بعْدهَا وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر رَجَب مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة خَاتِمَة الْمُحَقِّقين وَآخر قُضَاة الْعدْل بفاس الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بردلة الفاسي وَفِي التَّارِيخ الْمَذْكُور توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة المتبرك بِهِ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن سُلَيْمَان ذُو التآليف العديدة فِي الْحساب وَغَيره بِحَضْرَة مراكش رَحمَه الله وَفِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَألف كَانَت جَائِحَة الْجَرَاد بالعدوتين سلا ورباط الْفَتْح وأعمالهما وَخَلفه قمله السمي فِي لِسَان المغاربة بآمرد فَكَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 كالسيل الْعَام لم يتْرك ورقة خضراء إِلَّا أكلهَا وَكَانَ ذَلِك فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة ألف يَوْم الاربعاء ثَانِي عشر صفر مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي مُحَمَّد الصَّالح ابْن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى سَيِّدي مُحَمَّد الْمُعْطِي ابْن سَيِّدي عبد الْخَالِق ابْن سَيِّدي عبد الْقَادِر ابْن الشَّيْخ الْأَكْبَر سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي ومناقبه قد تكفل بهَا كتاب الرَّوْض الفائح فِي مَنَاقِب الشَّيْخ أبي عبد الله الصَّالح لأبي عَليّ المعداني وَفِي هَذِه السّنة ضحى يَوْم السبت ثامن ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق سَيِّدي أَبُو بكر ابْن عَليّ الْفَرَجِيِّ المراكشي ثمَّ السلاوي واحتفل النَّاس لجنازته وازدحموا على نعشه حَتَّى كَادُوا يقتتلون عَلَيْهِ وَدفن قرب دَاره بزاوية سَيِّدي مغيث من طالعة سلا حرسها الله الْخَبَر عَن الدولة الأولى لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي رَحمَه الله لما توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم اجْتمع قواد الْعَسْكَر البُخَارِيّ وقواد الودايا وأعيان الدولة وكتابها وقضاتها وَبَايَعُوا الْمولى أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي لبسط يَده بالعطاء قَالَ أكنسوس بَايعُوهُ بِإِشَارَة العبيد الشبيهة بالجبر وَلم يكن ذَلِك عَن عهد من أَبِيه وَكَتَبُوا بيعَته إِلَى الْآفَاق وَلما اتَّصل بِأَهْل فاس خبر موت السُّلْطَان كَانَ أول من بدؤوا بِهِ أَن قتلوا قائدهم أَبَا عَليّ الروسي ثمَّ بَايعُوا السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وَكَتَبُوا بيعتهم وَتوجه بهَا أعيانهم إِلَى مكناسة فَدَخَلُوا على السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وأدوا الْبيعَة وَالطَّاعَة فقبلهم وَلم يظْهر لَهُم سوء بِمَا ارتكبوه من قتل قائدهم بل أعْطى الْعلمَاء والأشراف جَائِزَة الْبيعَة وَولى الْقَائِد المحجوب العلج وردهم مكرمين ثمَّ قدم عَلَيْهِ قواد الْقَبَائِل والأمصار وأعيانها من أهل الحواضر والبوادي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 مبايعين ومؤدين الطَّاعَة فَجَلَسَ للوفود وَأَجَازَ كلا على قدر مرتبته وردهم إِلَى بِلَادهمْ وتفرغ لشأنه فأفتح عمله بقتل عُمَّال أَبِيه وأركان دولته فَقتل عَليّ بن يشي القبلي أَمِير البربر وثنى بِأَحْمَد بن عَليّ أَمِير الْأَعْمَال الفاسية وَمَا أتصل بهَا من بِلَاد الهبط وَالصَّحِيح أَن أَحْمد بن عَليّ الْمَذْكُور كَانَ عِنْد بيعَة الْمولى أَحْمد فِي السجْن فَدس إِلَيْهِ عَليّ بن يشي من ذبحه فِيهِ فَسلط الله عَلَيْهِ السُّلْطَان فَقتله وَكَانَ جَزَاؤُهُ من جنس عمله وَقتل السُّلْطَان أَيْضا الباشا ابْن الْأَشْقَر ومرجان الْكَبِير قَائِد عبيد الدَّار وَصَاحب بيُوت الْأَمْوَال وَكَانَ لنظره أَلفَانِ ومائتان من المفاتي كلهَا موزعة على أَبْوَاب الْقُصُور وكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الخصيان لَهُ عَبْدَانِ وَثَلَاثَة وَأكْثر يخدمونه وَاعْلَم أَن الْمولى أَحْمد رَحمَه الله كَانَ مستبدا عَلَيْهِ فِي كثير من الْأَحْوَال يُشِير العبيد عَلَيْهِ فيفعل وَمَا قتل من قتل من رُؤَسَاء الدولة إِلَّا بإشارتهم وَقتل جمَاعَة من القواد وَالْكتاب سوى من تقدم وَطَاف على بيُوت الْأَمْوَال ومخازن السِّلَاح والكسى فَأمر بِإِخْرَاج ذَلِك وتفرقته على العبيد وقواد الْجَيْش وَأعْطى من ذَلِك فَوق الْكِفَايَة وَعم الْعلمَاء والأشراف والطلبة بالنوال وَخص أفرادا من الْعَسْكَر بألوف فاغتبط النَّاس بِهِ وحمدوه رَحمَه الله إغارة الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي على تطاوين وَمَا دَار بَينه وَبَين الْفَقِيه أبي حَفْص عمر الوقاش كَانَ الْقَائِد الْمُجَاهِد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي يَلِي رئاسة الْمُجَاهدين هم وَأَبوهُ من قبله بالثغور الهبطية أَيَّام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَكَانَت لَهُ ولأبيه الْيَد الْبَيْضَاء فِي فتح طنجة والعرائش وَغَيرهمَا حَسْبَمَا سلف بعضه فَكَانَت لَهُ بذلك وجاهة كَبِيرَة فِي الدولة خُصُوصا بِبِلَاد الهبط وَكَانَ بتطاوين يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الأديب أَبُو حَفْص عمر الوقاش من بيوتاتها وَأهل الرياسة بهَا كَانَ أَولا كَاتبا مَعَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَكَانَت لَهُ الْمنزلَة الْعَالِيَة عِنْده ثمَّ لما ضعف عَن الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بكبر سنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 ولاه على تطاوين وأعمالها فَحدثت بَينه وَبَين الْقَائِد أبي الْعَبَّاس الريفي مُنَافَسَة أوجبتها الْمُجَاورَة والمعاصرة فَكَانَ يبلغ كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه مَا يحفظه وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وأفضى الْأَمر إِلَى ابْنه الْمولى أَحْمد فضيع الحزم وأهمل أَمر الْجند حَتَّى سَقَطت هَيْبَة السُّلْطَان من قُلُوب الْوُلَاة فِي النواحي فانتهز أَبُو الْعَبَّاس الريفي الفرصة فِي أهل تطاوين وزحف إِلَيْهَا فِي جَيش كثيف ودخلها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وحاول الفتك فيهم فبرز إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو حَفْص الوقاش فِي أهل تطاوين وحاربه فانتصر عَلَيْهِ وأوقع بِهِ وقْعَة أعظم مِمَّا كَانَ أضمر لَهُ وَقتل من إخوانه عددا كثيرا وَنَجَا الْقَائِد أَبُو الْعَبَّاس بجريعة الذقن وَلما اتّفق للفقيه أبي حَفْص هَذَا الْفَتْح الَّذِي لم يكن لَهُ فِي حِسَاب استخفه النشاط وغلبت عَلَيْهِ حلاوة الظفر حَتَّى طمع فِي الْملك وفاه من ذَلِك بِمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ وَلكُل عَاقل كِتْمَانه فَقَالَ قصيدته الْمَشْهُورَة ينعي فِيهَا على أهل الرِّيف فعلتهم وينتقص دولتهم ويفتخر على أهل فاس فَمن دونهم ويخبر عَن نَفسه بِمَا يؤول إِلَيْهِ أمره فأزرى بأدبه على كبر سنه مَعَ أَنه كَانَ من أهل الْأَدَب البارع وَالْعلم والرياسة وَالْقَصِيدَة الْمشَار إِلَيْهَا هِيَ قَوْله (بلغت من الْعليا مَا كنت أرتجي ... وأيامنا طابت وغنى بهَا الطير) (ونادى البشير مفصحا ومصرحا ... هَلُمَّ أباحفص فَأَنت لَهَا الصَّدْر) (نهضت مجيبا للندا راقصا بِهِ ... وَمَا راعني إِذْ ذَاك زيد وَلَا عَمْرو) (شرعت بِحَمْد الله للْملك طَالبا ... وَقلت وللمولى المحامد وَالشُّكْر) (أَنا عمر الْمَعْرُوف إِن كنت جاهلي ... فسل تَجِد التَّقْدِيم عِنْدِي وَلَا فَخر) (أَنا عمر الْمَوْصُوف بالبأس والندى ... أَنا عمر الْمَذْكُور فِي ورد الجفر) (ظَهرت لأحيي الدّين بعد اندراسه ... فطوبى لمن أَمْسَى يساق لَهُ الْأَمر) (وَلم يبْق ملك يستتب بغربنا ... فعندي انْتهى الْعلم المبرح والسر) (أَنا عمر الْمَشْهُور فِي كل غَارة ... أَنا البطل الْمِقْدَام والعالم الحبر) (ضبطت بلادي وانتدبت لغَيْرهَا ... وَعَما قَلِيل يعظم الجاه وَالْقدر) (وَجئْت بِعدْل للإمامين تَابعا ... أَنا الثَّالِث الْمَذْكُور بعدهمَا وتر) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 يَعْنِي أَنه ثَالِث العمرين وَقد كَانَ يُصَرح بذلك ثمَّ قَالَ (ففرطوط والرحمون والكوط عصبتي ... وراغون كنزي وَالصَّغِير بِهِ الْقَهْر) (أُولَئِكَ أَنْصَارِي وأرباب دَوْلَتِي ... وَأَهلي وأصهاري هم الأنجم الزهر) (وَقد دَامَ بالديمان مجدي وسؤددي ... وفخري فِي الأقطار باد كَمَا الْفجْر) (هلالي بدا لما هلالي أجابني ... وغيلان إِذْ لبّى بِهِ عظم الوفر) (ودولة أهل الرِّيف حتما تمزقت ... فَلم يبْق بالتحقيق عِنْدِي لَهَا جبر) (أذقناهم لما أَتَوا شَرّ بأسنا ... فَأَبَوا سرَاعًا والصوارم والسمر) (تطير الأكف والسواعد مِنْهُم ... هَنِيئًا فَحق للأنام بِنَا الْبشر) (بخفي حنين آب عَنَّا كَبِيرهمْ ... وَمَا فَاتَهُ منا نكال وَلَا خسر) (فَمن ذَا يضاهيني وَمَالِي وافر ... وذكري مغمور بِهِ الْبر وَالْبَحْر) إِلَى غير هَذَا مِمَّا لَا غَرَض لنا فِي جلبه وَقد أَجَابَهُ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن بجة الريفي ثمَّ العرائشي بقصيدة يَقُول فِيهَا (فِي صفحة الدَّهْر قد خطت لنا عبر ... مِنْهَا ادِّعَاء الْحمار أَنه بشر) (من مر عَنهُ الصِّبَا وَمَا رأى عجبا ... خَبره بعجاب دهره الْكبر) وَهِي طَوِيلَة إِلَّا أَن قَائِلهَا لم يحكم صناعَة الشّعْر فَلِذَا تركناها وَلما اتَّصل خبر هَذِه الْوَقْعَة بأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أَحْمد رَحمَه الله أغضى عَن الْفَرِيقَيْنِ وَدخل دَاره وَعَكَفَ على ملذاته وَترك النَّاس وشأنهم وثار بِبِلَاد الغرب وَالْقصر وأعماله فَسَاد كَبِير بَين الْقَبَائِل وَأَصْحَاب المخزن وَهلك فِي ذَلِك بشر كثير وَسَقَطت هَيْبَة الْخلَافَة وانحل نظام الدولة بالمرة لَا سِيمَا مَعَ مَا دهاها من قتل رجالها القائمين بأمورها وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى مُرَاد العبيد فقد كَانَ عَليّ بن يشي أَمِير الْأُمَرَاء وَرَئِيس البربر وَغَيرهم وَكَانَ أَحْمد بن عَليّ أَمِير جبال مرموشة وَبني وراين وعرب الحياينة وبرابرة غياثة وَالْجِبَال فَكَانَ رَدِيف عَليّ بن يشي ومباريه فِي نصح الدولة وجباية الْأَمْوَال وَكَانَ ابْن الْأَشْقَر أَمِير الزراهنة وعَلى يَدَيْهِ أعشار الْقَبَائِل كلهَا من أهل الغرب وَبني حسن وَغَيرهم رديفا للأولين وَكَانَ الْقَائِد مرجان صَاحب بيُوت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 الْأَمْوَال وَبِيَدِهِ دفتر الدخل والخرج عَارِفًا بِقدر مِمَّا يَدْفَعهُ الْعمَّال كل سنة فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِم الْقَتْل رَحِمهم الله خف على الرّعية مَا كَانُوا يحملونه من ثقل وطأتهم واستراحوا مِمَّن كَانَ يحول بَينهم وَبَين الْفساد وبزجرهم عَن الْقَبِيح خُصُوصا البربر فَإِنَّهُم كَانُوا فِي أقماع النّحاس فَخَرجُوا مِنْهَا بمهلك عَليّ بن يشي وَأخذُوا فِي اشْتِرَاء الْخَيل واقتناء السِّلَاح وعادت هيف إِلَى أديانها وتبعهم على ذَلِك غَيرهم من قبائل الْعَرَب فَكَأَنَّمَا كَانُوا على ميعاد وامتدت أَيدي النهب فِي الطرقات وَكَثُرت الشكايات بِبَاب السُّلْطَان فَمَا وجدت النَّاس من يشكيهم هَذَا حَال مكناسة وأعمالها فَأَما فاس فقد كفى الودايا أمرهَا ونابوا عَن البربر فِي العيث بأطرافها وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الْأَمر ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا أغار الودايا على سوق الْخَمِيس من فاس فنهبوا وَقتلُوا وقبضوا على طَائِفَة من أهل فاس فأودعوهم السجْن بفاس الْجَدِيد فَبعث أهل فاس جمَاعَة من أَشْرَافهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة يَشكونَ إِلَيْهِ مَا نالهم من جور الودايا فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهَا وثب عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي قبل أَن يجتمعوا بالسلطان فسجنهم أَيْضا فَلَمَّا اتَّصل بِأَهْل فاس مَا جرى على إخْوَانهمْ بمكناسة أَخذهم مَا قدم وَمَا حدث فأغلقوا عَلَيْهِم أَبْوَاب مدينتهم وشمروا لِحَرْب الودايا فَكتب الودايا إِلَى السُّلْطَان يعلمونه بِأَن أهل فاس قد شَقوا الْعَصَا وَخَرجُوا عَن الطَّاعَة فسرب السُّلْطَان إِلَيْهِم العساكر بِكُل صارم وذابل وتفاقم الْأَمر وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَركبت المدافع والمهاريس والمجانيق لحصار فاس وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى أَن بعث السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى المستضيء فِي جمَاعَة من أَشْرَاف مكناسة وَمَعَهُمْ أَشْرَاف فاس الَّذين سجنهم مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي لتلافي الْأَمر وَعقد الصُّلْح بَين الودايا وَأهل فاس فانعقد الصُّلْح ونهض عَسْكَر السُّلْطَان إِلَى مكناسة فَمَا سَارُوا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ حَتَّى انْتقض ذَلِك الصُّلْح وَغدا الودايا على حِصَار فاس ورميها بالكور والبنب وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن قدم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 جَانب السُّلْطَان الْقَائِد أَبُو عمرَان مُوسَى الجراري ساعيا فِي الصُّلْح فَاجْتمع أهل فاس وفاوضهم فِي ذَلِك فأذعنوا وبعثوا مَعَه جمَاعَة من الْأَعْيَان وَالْعُلَمَاء والأشراف يفدون على السُّلْطَان ليتم لَهُم ذَلِك بعد أَن أخذُوا جمَاعَة من أَصْحَاب أبي عمرَان توثقا بإخوانهم وَلما قدم أُولَئِكَ الْوَفْد مكناسة منعُوا من الدُّخُول على السُّلْطَان وَرَجَعُوا إِلَى فاس مخفقين وَاسْتمرّ الْأَمر على حَاله إِلَى أَن كاتبهم عبيد الدِّيوَان يطْلبُونَ مِنْهُم موافقتهم على عزل السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وتولية أَخِيه الْمولى عبد الْملك صَاحب السوس فأجابوهم إِلَى ذَلِك وطاروا بِهِ كل مطير وأكرموا وفدهم وحالفوهم على الْوَفَاء وَرجع العبيد إِلَى مكناسة شاكرين ففاوضوا من بهَا من قواد الْجند وتذاكروا فِيمَا وَقع فِيهِ النَّاس من الْفساد وَانْقِطَاع السبل وَتعذر الْأَسْبَاب وتحققوا بِمَا أَتَوْهُ من سوء التَّدْبِير فِي تَقْدِيم الْمولى أَحْمد لكَونه كَانَ ضَعِيف الْمِنَّة غير مطلع بأعباء الْخلَافَة فَأَجْمعُوا على عَزله واستبدال غَيره بِهِ وَلما تمّ أَمرهم على ذَلِك بعثوا إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك جَرِيدَة من الْخَيل وَكَتَبُوا إِلَيْهِ كتابا يستحثونه للقدوم وأعلموه بِمَا أجمع عَلَيْهِ رَأْيهمْ فَأجَاب وَأَقْبل مسرعا نَحْو مكناسة وَلما انْتهى إِلَى وَادي بهت واتصل خَبره بالعبيد دخلُوا على السُّلْطَان الْمولى أَحْمد وقبضوا عَلَيْهِ وأخرجوه من دَار الْملك مخلوعا وسجنوه بداره الَّتِي كَانَ يسكن بهَا قبل الْبيعَة خَارج القصبة وَكَانَ ذَلِك فِي شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي مَرْوَان عبد الْملك بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما خلع السُّلْطَان الْمولى أَحْمد رَحمَه الله وسجن خَارج القصبة كَمَا مر اجْتمع من الْغَد الْجَيْش كُله وركبوا لملاقاة الْمولى أبي مَرْوَان عبد الْملك بن إِسْمَاعِيل فأجتمعوا بِهِ خَارج مكناسة وأدوا وَاجِب الطَّاعَة والتفوا عَلَيْهِ ودخلوا بِهِ الحصرة فِي زِيّ الْملك وأهبة السُّلْطَان ثمَّ حضر أَعْيَان الدولة وأمراؤها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 وقضاتها وعلماؤها وأشرافها فَبَايعُوهُ وَكتب بيعَته إِلَى الْآفَاق وَمن الْغَد قدم عَلَيْهِ أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم ببيعتهم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ ثمَّ قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود للتهنئة من حواضر الْمغرب وبواديه فَجَلَسَ لملاقاتهم وقابلهم بِمَا يجب من الْبشر إِلَى أَن قرع من شَأْنهمْ وتفقد أَخَاهُ الْمولى أَحْمد المخلوع فَأمر بِهِ إِلَى فاس كي يسجن بهَا ثمَّ بدا لَهُ فَأمر بتوجيهه إِلَى سجلماسة قَالَ فِي الأزهار الندية لما بعث السُّلْطَان الْمولى أَبُو مَرْوَان بأَخيه الْمولى أَحْمد المخلوع إِلَى تافيلالت كتب إِلَى عَامله بهَا أَن يسمل عَيْنَيْهِ بفور بُلُوغه فنما ذَلِك إِلَى الْمولى أَحْمد ففر إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ أبي عُثْمَان سَيِّدي سعيد آحنصال وَكَانَ مقدم الزاوية يَوْمئِذٍ السَّيِّد يُوسُف ابْن الشَّيْخ سعيد الْمَذْكُور وَكَانَ يتَكَلَّم فِي الْحدثَان فَقَالَ للْمولى أَحْمد إِنَّك سترجع إِلَى الْملك فَكَانَ كَمَا قَالَ وَرَجا النَّاس أَن يكون السُّلْطَان الْمولى أَبُو مَرْوَان كأبيه وَأَن يسير فيهم بسيرته ويسد مسده فخاب الظَّن وأخفق الْمَسْعَى (وَابْن اللَّبُون إِذا مَا لز فِي قرن ... لم يسْتَطع صولة البزل القناعيس) وَأمْسك الله يَده عَن الْعَطاء فَلم يسمح للعسكر وَلَا للوفود بدرهم فَكَانَ ذَلِك من أكبر الْأَسْبَاب فِي اخْتِلَاف أمره وتفسخ دولته فَطلب الْعَسْكَر البُخَارِيّ مِنْهُ جَائِزَة الْبيعَة على الْعَادة فَبعث اليهم بأَرْبعَة آلَاف مِثْقَال وَكَانَ راتبهم على عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله مائَة ألف مِثْقَال وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى أَحْمد زادهم فِي الرَّاتِب خمسين ألفا فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِم جَائِزَة الْمولى أبي مَرْوَان سقط فِي أَيْديهم وَعَلمُوا أَنهم لم يصنعوا شَيْئا فِي بيعَته وتناجوا بعزله وأضمروا ذَلِك وتحينوا وَقت الفرصة فِيهِ فنما إِلَيْهِ ذَلِك عَنْهُم فَأخذ حذره وَصَارَ يُكَاتب قبائل الْعَرَب ويعدهم ويمنيهم ويحضهم على اجْتِمَاع كلمتهم كي ينفعوه يَوْمًا مَا ظنا مِنْهُ أَنهم يقاومون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 العبيد ثمَّ كتب إِلَى البربر أَيْضا يغريهم بالعبيد وأغرى العبيد بالبربر وَقَالَ لَهُم فِي جملَة من ذَلِك إِنَّه لَا يَسْتَقِيم لنا أَمر إِلَّا بعد الْإِيقَاع بهؤلاء البربر وشغلهم بالاستعداد لغزوهم وَكتب إِلَى أهل فاس يَأْمُرهُم أَن يبعثوا رماتهم إِلَى حَضرته لغزو البربر وَأخذ فِي التضريب بَين الْعَسْكَر والبربر واطلع العبيد على خسئته فحاصوا عَنهُ حَيْصَة حمر الْوَحْش وأصفقوا على عَزله ورد أَخِيه الْمولى أَحْمد لملكه لسخائه وَبسط يَده وكذبوا فَإِن الْمولى أَبَا مَرْوَان رَحمَه الله كَانَ أنسب حَالا بالخلافة من أَخِيه الْمولى أَحْمد لنجدته وحزمه وَكَانَ قد عزم على تَطْهِير الحضرة وبساط الدولة من افتيات العبيد وتحكمهم على أعياصها إِلَّا أَنه لم يحكم التَّدْبِير فِي ذَلِك فعاجلوه قبل أَن يعاجلهم وَلما تحقق الْمولى أَبُو مَرْوَان بِمَا عزم عَلَيْهِ العبيد من خلعه بعث إِلَيْهِم الشَّيْخ الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني واعظا ومذكرا فَأَتَاهُم ووعظهم وَوَعدهمْ الْخَيْر إِن أقلعوا ونهاهم عَن الْخُرُوج على السُّلْطَان وَاتِّبَاع سَبِيل السُّلْطَان وخوفهم فِي ذَلِك من سخط الله فَمَا زادهم إِلَّا نفورا ثمَّ بعثوا بجريدة من الْخَيل إِلَى سجلماسة ليأتوا بالمولى أَحْمد وَفِي أثْنَاء ذَلِك ركب العبيد من الدِّيوَان وأغاروا على مكناسة فاكتسحوا سرحها ثمَّ اقتحموا الْمَدِينَة فنهبوها واستباحوا حرماتها وَقتلُوا من ظفروا بِهِ من أعيانها ثمَّ دخلُوا دَار الْملك للقبض على السُّلْطَان الْمولى أبي مَرْوَان فَلم يجدوه لِأَنَّهُ لما سمع بِمَا فعله العبيد بمكناسة ركب فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وفر إِلَى فاس فَدخل حرم الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ واستجار بِهِ وَبعث إِلَى أهل فاس فَاسْتَجَارَ بهم فوعدوه الدفاع عَنهُ وَالْقِيَام بأَمْره وَلما علم العبيد بِموضع الْمولى أبي مَرْوَان من فاس وَمَا وعده بِهِ أَهلهَا حبسوا رماتهم الَّذين كَانُوا قد قدمُوا مكناسة بِقصد غَزْو البربر كَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وثقفوهم حَتَّى يقدم السُّلْطَان الْمولى أَحْمد من سجلماسة وَيرى فيهم وَفِي أَخِيه رَأْيه وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَألف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي الْعَبَّاس أَحْمد الذَّهَبِيّ رَحمَه الله لما راسل العبيد الْمولى أَحْمد بِنَا إِسْمَاعِيل بسجلماسة وأعلموه بِمَا عزموا عَلَيْهِ من عزل أَخِيه ورد الْملك إِلَيْهِ بَادر بالقدوم إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَحضر أَعْيَان الدولة من القواد والقضاة وَالْكتاب وَبَايَعُوهُ الْبيعَة الثَّانِيَة وَكَتَبُوا بذلك إِلَى الْآفَاق ثمَّ دخل دَار الْملك وَفرق الْأَمْوَال والكسى فِي الْعَسْكَر وَالْعُلَمَاء الْأَشْرَاف وَبَالغ فِي ذَلِك تفصيا مِمَّا نقمه العبيد على أَخِيه وَكَانَ فعل أَخِيه أقرب إِلَى الصَّوَاب لَو سلك الْوسط وَأحكم أمره ورتبه تَرْتِيب ذُو الحزم وَلَكِن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن حِصَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أَحْمد لفاس وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما بُويِعَ الْمولى أَحْمد الْبيعَة الثَّانِيَة قدم عَلَيْهِ الْوُفُود من الْقَبَائِل والأمصار فَأكْرم وفادتهم وتخلف عَنهُ أهل فاس فَلم يقدم عَلَيْهِ أحد مِنْهُم لِأَنَّهُ لما قدم من سجلماسة وَأعلم بمَكَان أَخِيه مِنْهُم وبمكان رماتهم المثقفين بمكناسة أَمر بسجنهم والتضييق عَلَيْهِم فأوجسوا مِنْهُ شرا وَحَذرُوهُ وَلِأَنَّهُم كَانُوا قد ارتكبوا الْعَظِيمَة أَولا فِي قتل أبي عَليّ الروسي وَنهب دَاره وَمَاله وَمَال المخزن الَّذِي كَانَ تَحت يَده فَكَانُوا يتوقعون سطوة السُّلْطَان الْمولى أَحْمد بهم أول مَا بُويِعَ ثمَّ لم يلْتَفت إِلَيْهِم لشغله بِنَفسِهِ فَلَمَّا عَادَتْ الدولة إِلَيْهِ ارْتَابُوا بِهِ وحادوا عَن طَاعَته وتقدموا إِلَى الْمولى عبد الْملك وجددوا لَهُ الْبيعَة وأعلنوا بنصره وَالْقِيَام بأَمْره ثمَّ ورد عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان الْمولى أَحْمد يَأْمُرهُم أَن يسلمُوا إِلَيْهِ أَخَاهُ ويدخلوا فِيمَا دخل فِيهِ النَّاس أَو يأذنوا بحربه فجهروا بِالْخِلَافِ وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب ووطنوا أنفسهم على الْحصار ثمَّ بعث إِلَيْهِم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 السُّلْطَان الْقَائِد اليديني قَائِد الرُّمَاة المسجونين بمكناسة وَأمره أَن يعرض عَلَيْهِم الدُّخُول فِي الطَّاعَة ويسرح لَهُم إخْوَانهمْ المسجونين وَحمله كتابا إِلَيْهِم يتَضَمَّن ذَلِك وَغَيره فَلَمَّا فرغ الْقَائِد الْمَذْكُور من قِرَاءَة كتاب السُّلْطَان عَلَيْهِم وَثبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ جروه بِرجلِهِ وصلبوه على التوته الَّتِي بحومة الصفارين ثمَّ وَثبُوا على الْحَاج الْخياط عديل فَقَتَلُوهُ على بَاب دَاره وَخرج الشريف أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن إِدْرِيس الإدريسي فِي كَتِيبَة من الْخَيل وَالرُّمَاة إِلَى زواغة فَأَغَارَ على سرح الودايا وَاسْتَاقَ من الْبَقر وَالْغنم شَيْئا كثيرا فَدخل بِهِ فاسا وَبيع بأبخس ثمن وتوزعته الْأَيْدِي فبيعت الْبَقَرَة بست موزونات وَالشَّاة بموزونة على مَا قيل وهاجت الْحَرْب بَين أهل فاس والودايا ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان الْمولى أَحْمد فاتح محرم من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فِي عَسْكَر العبيد وودايا مكناسة فزحف إِلَى فاس وَنزل عَلَيْهَا ثَانِي يَوْمه وَنصب عَلَيْهَا المدافع والمهاريس وآلات الْحصار وانشلى الْعَسْكَر على بساتينها وبحائرها فانتسفوا ثمارها واجتاحوا غللها وَأمر الطبجية بموالاة الكور والبنب وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَفَعَلُوا ودام ذَلِك إِلَى أَن عَمها الخراب وتهدم الْكثير من دورها وَهلك عدد وافر من رجالها بَعضهم فِي الْقِتَال وَبَعْضهمْ بالهدم وَالْحِجَارَة وَاسْتمرّ الْحصار نَحْو خَمْسَة أشهر فَضَاقَ بهم الْحَال وضعفوا عَن الْقِتَال وَقلت الأقوات وَارْتَفَعت الأسعار فأذعنوا للطاعة وصالحوا الْمولى أَحْمد على إِسْلَام أَخِيه الْمولى عبد الْملك إِلَيْهِ وتمكينه مِنْهُ على الْأمان فَبعث السُّلْطَان الْمولى أَحْمد إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك يخيره بَين التَّغْرِيب إِلَى سجلماسة وَالْمقَام بِالْحرم الإدريسي فَاخْتَارَ الْمقَام بِالْحرم ثمَّ إِن السُّلْطَان تقدم إِلَى أهل فاس فِي أَن لَا يجْتَمع أحد مِنْهُم بأَخيه وَلَا يجالسه وَلَا يكلمهُ وَلَا يَبِيع من أحد من أَصْحَابه شَيْئا وَلَا يَشْتَرِي مِنْهُ وَمن فعل شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّهُ يُعَاقب فَلَمَّا رأى الْمولى عبد الْملك مَا عَامله بِهِ أَخُوهُ من التَّضْيِيق بعث وَلَده إِلَى العبيد يطْلب مِنْهُم أَن يؤمنوه وَيخرج مَعَهم إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 حَيْثُ شاؤوا فَقدم عَلَيْهِ الباشا سَالم الدكالي فِي خمسين من القواد وَعَاهَدُوهُ بِالْحرم الإدريسي أَن لَا يُصِيبهُ مَكْرُوه فَخَرجُوا بِهِ حَتَّى قدمُوا بِهِ على أَخِيه فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ أَمر بِهِ أَن يحمل إِلَى مكناسة مَقْبُوضا عَلَيْهِ فوصل إِلَى مكناسة وسجن بدار الباشا مساهل ثمَّ رَحل السُّلْطَان الْمولى أَحْمد عَن فاس قَافِلًا إِلَى مكناسة وَعند حُلُوله بهَا مرض مرض مَوته وَلما أحس من نَفسه بِالْمَوْتِ أَمر بخنق أَخِيه الْمولى عبد الْملك فخنق لَيْلَة الثُّلَاثَاء أول يَوْم من شعْبَان ثمَّ توفّي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد يَوْم السبت رَابِع شعْبَان الْمَذْكُور سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فَكَانَ بَين وفاتهما ثَلَاثَة أَيَّام رحمهمَا الله وَاعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ من هَذِه الْأَخْبَار هُوَ الَّذِي عِنْد صَاحب الْبُسْتَان وقلده أَبُو عبد الله أكنسوس حَذْو النَّعْل بالنعل وَرَأَيْت بِخَط جدنا من قبل الْأُم وَهُوَ الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الإدريسي اليحيوي الجباري عرف بِابْن زَرُّوق وَكَانَ حَيا فِي هَذِه الْمدَّة مَا نَصه بُويِعَ الْمولى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالذهبي يَوْم وَفَاة وَالِده رَحمَه الله بعد أَن ثار بالمغرب وَالْقصر وحوزه فَسَاد كَبِير بَين الْقَبَائِل وَأَصْحَاب المخزن وَهلك فِي ذَلِك بشر كثير وَبعد مكثه فِي الْملك سنة وَاحِدَة وَثَمَانِية أشهر خلع وبويع أَخُوهُ الْمولى عبد الْملك فِي الآخر من رَجَب سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وَهُوَ بالسوس الْأَقْصَى بِمَدِينَة تارودانت ثمَّ ورد على دَار المملكة بالحضرة المكناسية لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ثار عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى أَحْمد المخلوع فِي عَاشر الْمحرم فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف واقتحم عَلَيْهِ دَار الْملك من مكناسة عنْوَة وَوَقع فَسَاد كَبِير بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وَهلك بشر كثير فِي الْحَرْب وَمِنْهُم من قتل صبرا وفر الْمولى عبد الْملك ناجيا بِنَفسِهِ إِلَى فاس ثمَّ حاصره بهَا الْمولى أَحْمد نَحوا من أَرْبَعَة أشهر حَتَّى خرج إِلَيْهِ على الْأمان فَأمر بسجنه بمكناسة ثمَّ قتل الْمولى عبد الْملك صبرا مخنوقا فِي أَوَاخِر رَجَب الْمَذْكُور أَيْضا اه كَلَامه وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 قَالُوا وَكَانَ الْمولى أَحْمد رَحمَه الله أشبه النَّاس بالأمين بن الرشيد العباسي فِي زيه ولهوه وإكبابه على شهواته وتضييع الحزم وَالْجد حَتَّى فَسدتْ الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وَذكر معاصروه أَنه لم يكن شهد حَربًا قطّ قبل خِلَافَته وَكَانَ مَعَ ذَلِك جوادا متلافا فآلت بِهِ الْأُمُور إِلَى مَا ذكرنَا وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله كَانَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ وَلَده الْحرَّة خناثي بنت بكر المغفري أَيَّام خلَافَة أَخِيه الْمولى أَحْمد منحاشا إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الْملك وَمُقِيمًا مَعَه بِبِلَاد السوس فَلَمَّا خلع الْمولى أَحْمد وبويع الْمولى عبد الْملك وَقدم مكناسة قدم الْمولى عبد الله فِي ركابه وَاسْتمرّ مُقيما بهَا إِلَى أَن ثار العبيد بالمولى عبد الْملك وفر إِلَى الْحرم الإدريسي فَخرج الْمولى عبد الله من مكناسة إِلَى سجلماسة وَأقَام بداره بهَا إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَاجْتمع أَعْيَان الدولة من العبيد والودايا وَسَائِر القواد والرؤساء وَاتَّفَقُوا على بيعَة الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ بسجلماسة فَنَادوا باسمه وأعلنوا بنصره فِي الْمحلة ومكناسة وبعثوا جَرِيدَة من الْخَيل لتأتي بِهِ وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى أهل فاس يعزونهم عَمَّن هلك من إخْوَانهمْ أَيَّام الْحصار ويحضونهم على الْمُوَافقَة على بيعَة الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَلما وصل الْكتاب إِلَى فاس قرىء على مِنْبَر جَامع الْقرَوِيين فَأَجَابُوا بالموافقة إِن حضر وَلما وصلت الْخَيل إِلَى الْمولى عبد الله وأعلموه بِمَا اتّفق عَلَيْهِ النَّاس فِي شَأْنه أقبل مسرعا حَتَّى نزل بِظَاهِر فاس بالموضع الْمُسَمّى بالمهراس فَخرج أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم لملاقاته فَسَلمُوا عَلَيْهِ وَاسْتَبْشَرُوا بقدومه فسر بهم والآن لَهُم القَوْل وَوَعدهمْ بالجميل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وأعلمهم بِأَنَّهُ من الْغَد دخل لحضرتهم لزيارة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فَرَجَعُوا مسرورين مغتبطين وَمن الْغَد أخذُوا زينتهم ولبسوا أسلحتهم ونشروا أَلْوِيَتهم وَخَرجُوا لميعاده فَركب السُّلْطَان فرسه وَركب مَعَه خاصته وَأهل موكبه وَفِي جُمْلَتهمْ حمدون الروسي عَدو أهل فاس وَتقدم السُّلْطَان فَدخل على بَاب الْفتُوح وتوسط الْمَدِينَة فَرَأى بعض سماسرة الْفِتَن من أَوْلَاد ابْن يُوسُف حمدون الروسي وَكَانَ قد قتل أباهم حَسْبَمَا مر فصمدوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُمْ تنحى عَنْهُم قَلِيلا فتبعوه فَعلم أَنهم عزموا على اغتياله فركض فرسه إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ على قنطرة الرصيف وَأخْبرهُ خبر أَوْلَاد ابْن يُوسُف وَخص وَعم بالإرجاف فِي حق أهل فاس فَعدل السُّلْطَان عَن قَصده وَرجع على طَرِيق جَامع الْحُوت ثمَّ على جَزَاء ابْن عَامر وَخرج على بَاب الْحَدِيد إِلَى فاس الْجَدِيد وَلم يزر وَلم يعلم النَّاس مُوجب الرُّجُوع عَن الزِّيَارَة إِلَى أَن شاع الْخَبَر بذلك فَمشى عُلَمَاء فاس وأشرافها إِلَى السُّلْطَان وَرفعُوا إِلَيْهِ بيعتهم وَاعْتذر إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء بِأَن مَا وَقع فِي جَانب حمدون إِنَّمَا هُوَ من بعض السُّفَهَاء فَأَعْرض السُّلْطَان عَن ذَلِك وصم عَن سَمَاعه وَكَانَت الْبيعَة الَّتِي رَفعهَا أهل فاس من إنْشَاء الْفَقِيه الْعَالم الْوَجِيه أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن الْمهْدي المشاط الْمنَافِي نِسْبَة إِلَى عبد منَاف بن قصي وَهَذَا الْفَقِيه هُوَ الَّذِي كَانَ السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بَعثه قَاضِيا على تادلا مَعَ ابْنه الْمولى أَحْمد الذَّهَبِيّ حِين ولاه عَلَيْهَا كَمَا مر وَنَصهَا الْحَمد لله الَّذِي جعل الْعدْل صلاحا للْملك والرعية والعباد كَمَا جعل الْجور هَلَاكًا للحرث والماشية والبلاد وسدد الْعَادِل بعنايته وَأعد للجائر مَا هُوَ مَعْلُوم لَهُ يَوْم الْمعَاد وَجعل المقسطين على مَنَابِر من نور يَوْم الْقِيَامَة كَمَا جعل القاسطين فِي الْعَذَاب والحسرات والأنكاد فأسعد الْمُلُوك يَوْم الْقِيَامَة من سلك مَعَ الرّعية سَبِيل السداد وَأصْلح مَا أظهره الجائر فِي الأَرْض من الْفساد نحمده أَن تفضل علينا بِإِمَام عَادل ونشكره إِن حكم فِينَا من لَا يصغي فِي الْحق لقَوْل عاذل فولى علينا الْخَلِيفَة من نسل الشَّفِيع يَوْم التناد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل يُؤْتى الْملك من يَشَاء وَينْزع الْملك مِمَّن يَشَاء فِي أَي وَقت شَاءَ وَأَرَادَ ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الشَّفِيع فِي أمته يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم وَلَا يقبل من القاسطين فدَاء بطريف وَلَا تلاد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أظهرُوا الشَّرِيعَة ومحوا الظُّلم محمو المداد أما بعد حمد الله الَّذِي أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر ووعد من نصر دينه بالظفر والنصر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَمن مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أَرَادَ أَن يفرق أَمر هَذِه الْأمة وَهُوَ جَمِيع فاضربوا عُنُقه بِالسَّيْفِ كَائِنا من كَانَ وَفِي صَحِيح مُسلم أَيْضا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أَتَاكُم وأمركم جَمِيع على رجل وَاحِد وَأَرَادَ أَن يفرق جماعتكم فَاقْتُلُوهُ وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كره من أميره شَيْئا فليصبر فَإِن من خرج عَن السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَفِيه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي وَمن عصى أَمِيري فقد عَصَانِي وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لِابْنِ عقبَة لَعَلَّك لَا تَلقانِي بعد الْيَوْم فَعَلَيْك بتقوى الله تَعَالَى والسمع وَالطَّاعَة للأمير وَإِن عبدا حَبَشِيًّا وَاتفقَ أَئِمَّة الدّين على أَن نصب الإِمَام وَاجِب على الْمُسلمين وَإِن كَانَ من فروض الْكِفَايَة كَمَا أَن الْقيام بذلك من الْوَاجِبَات كَمَا دلّت عَلَيْهِ نُصُوص الْأَحَادِيث والآيات وَقَالَ الشَّاعِر (لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا) وَلما كَانَ من أَمر الله سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَهُ وَقدره فَقبض إِلَيْهِ خَلِيفَته وأقبره دهش الْمُسلمُونَ وخافوا من توالي الشرور والفتن فتوجهوا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي أَن يغمد عَنْهُم السيوف وطلبوا من فَضله الْمَعْهُود أَن يصرف عَنْهُم ضروب المحن والحتوف فَأجَاب الْكَرِيم الدَّعْوَات وَنَفس الهموم والكربات وَنشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 رَحمته وأزاح نقمته فَصَارَت الْقُلُوب ناعمة بعد بؤسها وَالْوُجُوه ضاحكة بعد عبوسها والشرور والفتن قد أَدْبَرت وأعلام الْأَمْن والعافية قد أَقبلت فوفق الله جيوش الْمُسلمين للأعمال المرضية والهمم لما فِيهِ صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين والراعي والرعية فَاقْتضى نظرهم السديد ورأيهم الْمُوفق الرشيد بيعَة من فِي أفق السَّعَادَة قد طلع وَظهر فِي سَمَاء الْمَعَالِي بدره وارتفع الإِمَام الْهمام الْعلوِي الْهَاشِمِي الْعدْل فِي الْأَحْكَام الْمَوْصُوف بِالْكَرمِ والشجاعة والشهامة والحزم والنجدة والزعامة المتواضع لله المتَوَكل فِي جَمِيع أُمُوره على الله أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الله بن الشريف الْجَلِيل الْمَاجِد الْأَصِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف فَبَايعُوهُ أعزه الله على كتاب الله وَسنة الرَّسُول وَإِقَامَة الْعدْل الَّذِي هُوَ غَايَة المأمول بيعَة التزمتها الْقُلُوب والألسنة وسعت إِلَيْهَا الْأَقْدَام والرؤوس خاضعة مذعنة لَا يخرجُون لَهُ من طَاعَة ولاينحرفون عَن مهيع الْجَمَاعَة أشهدوا على أنفسهم عَالم الطويات المطلع على جَمِيع الخفيات قائلين إننا بايعناك وقلدناك لتسير فِينَا بِالْعَدْلِ والرفق وَالْوَفَاء والصدق وتحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه فِي مُحكم وحيه {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} ص 26 وَقَالَ تَعَالَى وَقَوله الْحق {وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما} الْفَتْح 10 وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تكن للخائنين خصيما} النِّسَاء 105 وَهَذِه الرّعية تطلب من رَبهَا أَن يعين مَالِكهَا ويساعده ويقذف الرعب فِي قلب من يُرِيد أَن يعانده وَأَن يفتح عَلَيْهِ مَا عسر على غَيره ويمده بعزيز نَصره إِنَّه على مَا يَشَاء قدير وبالإجابة جدير وَبِيَدِهِ الْقُوَّة والحول نعم الْمولى وَنعم النصير شهد بذلك على نَفسه وَمن مَعَه العَبْد الْفَقِير المذنب الحقير ممليها وكاتبها إِدْرِيس بن الْمهْدي المشاط بِمحضر فلَان وَفُلَان وَجُمْهُور الْفُقَهَاء والأعيان فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع رَمَضَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف ثمَّ سَافر السُّلْطَان فِي الْحِين إِلَى مكناسة كَمَا نذكرهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 حُدُوث النفرة بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله وَأهل فاس وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا مَا كَانَ من وَسْوَسَة حمدون الروسي للسُّلْطَان الْمولى عبد الله فِي جَانب أهل فاس واعتذار بعض الْفُقَهَاء لَدَى السُّلْطَان عَن ذَلِك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَمر أهل فاس ببعث طَائِفَة مِنْهُم تكون مَعَه على الْعَادة فعينوا الْخَمْسمِائَةِ الَّتِي كَانَت تغزو مَعَ الْمُلُوك قبله فَذَهَبت مَعَه إِلَى مكناسة وَلما اسْتَقر بالحضرة قدم عَلَيْهِ أَعْيَان الدِّيوَان وعمال الْقَبَائِل ووفود الحواضر والبوادي فَفرق المَال وَلم يحرم أحدا سوى أهل فاس فَإِنَّهُ لم يعطهم شَيْئا ثمَّ حضر عيد الْفطر فَقدمت وُفُود الْأَمْصَار ليشهدوا الْعِيد مَعَ السُّلْطَان على الْعَادة وَقدم وَفد فاس لهَذَا الْغَرَض وحضروا صَلَاة الْعِيد مَعَ السُّلْطَان بالمصلى وَلما قدم النَّاس هداياهم بعد رُجُوع السُّلْطَان إِلَى منزله قدم أهل فاس هديتهم على الْعَادة فَأعْطى النَّاس وحرمهم ثَانِيًا قلت وَلست أَشك فِي أَن شَيْطَانا من شياطين الْإِنْس كَانَ موكلا بِهَذَا السُّلْطَان يغريه بِأَهْل فاس ويوغر صَدره عَلَيْهِم وَيفْسد مَا بَينه وَبينهمْ وَإِلَّا فَكيف تَقْتَضِي السياسة أَن يعمد ملك كَبِير إِلَى أخص رَعيته ولبها وصميمها فَيفْسد ضمائرها عَلَيْهِ ويزرع بغضه فِي قلوبها وهب أَنهم أساؤوا الْأَدَب أَلَيْسَ التغافل مَطْلُوبا فِي مثل هَذَا مَا أمكن لَا سِيمَا فِي حق السُّلْطَان وَقد كَانَ المُنَافِقُونَ يُؤْذونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فيحلم عَنْهُم وَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه أَلا نقتلهم فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه وَمن الحكم المأثورة قَوْلهم التعامي يدْفع شرا كثيرا وَقَالَ الشَّاعِر (لَيْسَ الْغَنِيّ بِسَيِّد فِي قومه ... لَكِن سيد قومه المتغابي) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وَمن الْغَد أَمر السُّلْطَان بإحضار أهل فاس بالمشور ثمَّ خرج عَلَيْهِم فَقَامُوا إِلَيْهِ وأدوا وَاجِب التَّحِيَّة فَقَالَ لَهُم يَا أهل فاس كاتبوا إخْوَانكُمْ يسلمُوا إِلَيْنَا الْبَسَاتِين والقصبات فَإِنَّهَا للمخزن وَمن وظائفه فَإِن أَبَوا فَإِنِّي آتيهم وأهدم عَلَيْهِم تِلْكَ الْقرْيَة فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وعادوا إِلَى رحالهم وَلما كَانَ الْمسَاء اتَّخذُوا اللَّيْل جملا وأسروا ليلتهم كلهَا وَلم يصبحوا إِلَّا بِبَاب فاس فَاجْتمعُوا بإخوانهم وقرروا لَهُم مقَالَة السُّلْطَان وَمَا عزم عَلَيْهِ فِي حَقهم فَاجْتمع أعيانهم وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ وشأن السُّلْطَان وأحضروا نُسْخَة الْبيعَة وتصفحوا شُرُوطهَا وَقَالُوا إِنَّا لم نُبَايِعهُ على هَذَا الَّذِي يعاملنا بِهِ ثمَّ أعْلنُوا بخلعه وَالْأَمر لله وَحده حِصَار الْمولى عبد الله مَدِينَة فاس لما أعلن أهل فاس بخلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله عزموا على الْحَرْب ووطنوا أنفسهم على الْحصار وَنَادَوْا فِي الْمَدِينَة من أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى بَلَده ومأمنه من غير أهل الْبَلَد فليتهيأ فِي ثَلَاث ثمَّ أغلقوا أَبْوَاب الْمَدِينَة واستعدوا لِلْقِتَالِ وَلما سمع السُّلْطَان بخبرهم تهَيَّأ لغزوهم فَأخذ أهبته وَخرج من مكناسة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فَنزل على فاس ووزع الْجنُود عَلَيْهَا من كل نَاحيَة وَأطلق يَد الْجَيْش بالعيث فِي أطرافها من تخريب المصانع وَقطع الْأَشْجَار وإفساد الْمزَارِع وَأمر بطم الْوَادي فانحبس عَنْهُم مَاؤُهُ وزحفت العساكر فَكَانَ الْقِتَال على كل بَاب سَائِر النَّهَار فَإِذا كَانَ الْمسَاء أَمر الطبجية والأعلاج بإرسال الكور والبنب وحجارة المنجنيق فَكَانَ النَّاس لَا يستريحون بِالنَّهَارِ وَلَا ينامون بِاللَّيْلِ وَاشْتَدَّ الكرب وريع السرب وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى أَن دخلت سنة اثْنَتَيْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 واربعين وَمِائَة وَألف فازداد الْأَمر شدَّة وَارْتَفَعت الأسعار وانعدمت الأقوات وَكثر الْهَرج فبعثوا إِلَى السُّلْطَان فِي الصُّلْح فَقَالَ على تَسْلِيم الْبَسَاتِين والقصاب فَأَبَوا وتجلدوا ثمَّ بعد ذَلِك وَقع الصُّلْح على يَد الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي بضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ واستصحب مَعَه جمَاعَة من أَشْرَاف فاس وعلمائها إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بفاس الْجَدِيد فَأكْرم مقدمهم ووصلهم بِأَلف دِينَار وكساهم وَولى عَلَيْهِم الْحَاج أَبَا الْحسن عليا السلاوي فَدخل الْوَالِي الْمَذْكُور القصبة ثَانِي ربيع النَّبَوِيّ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وشحن الْبَسَاتِين والقصاب بالمقاتلة من أَصْحَابه وافتتح عمله بقتل الشَّيْخ دحمان المنجاد من رُؤَسَاء فاس وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان عَزله وَولى على فاس أحد أَوْلَاد حمدون الروسي الْمَعْرُوف بالبادسي ثمَّ بعد مُدَّة يسيرَة عَزله وَولى عبد النَّبِي بن عبد الله الروسي ثمَّ لما عزم على النهوض إِلَى مكناسة عَزله أَيْضا وَولى عَلَيْهِم عدوهم حمدون الروسي وارتحل فِي الْعشْرين من ربيع الأول من السّنة وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى مُحَمَّدًا مَعَ أمه السيدة خناثى إِلَى الْحجاز بِقصد حج الْبَيْت وَالْمولى مُحَمَّد يَوْمئِذٍ دون بُلُوغ وَفِي نشر المثاني إِن هَذِه الْحجَّة كَانَت سنة ثَلَاث بعْدهَا قَالَ إِن أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهِي السيدة خناثى بنت بكار المغفرية التمست من وَلَدهَا الْمَذْكُور السّفر إِلَى الْمشرق بِقصد حج بَيت الله الْحَرَام فأجابها إِلَى ذَلِك وهيأ لَهَا جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَوجه مَعهَا وَلَده الَّذِي أيد الله بِهِ الدُّنْيَا وَالدّين بعده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فحج مَعهَا فِي هَذِه السّنة يَعْنِي سنة ثَلَاث واربعين وَمِائَة وَألف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى قتال البربر وإيقاعه بهم لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بمكناسة وتفقد حَال البربر وجدهَا قد عَادَتْ إِلَى حَالهَا الأول من ركُوب الْخَيل واقتناء السِّلَاح والعيث فِي الطرقات فَأمر العبيد بالاستعداد لغزوهم وتمهيد الْبِلَاد وَالتَّقْصِير من بأوهم فَخرج إِلَى تادلا وصمد إِلَى آيت يمور الَّذين كَانُوا قد نزلُوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا حِين نفتهم آيت ومالو عَن رَأس ملوية وغلبوهم عَلَيْهِ فنزلوا تادلا وأوقدوها نَارا فَكثر شاكيهم بِبَاب السُّلْطَان فَنَهَضَ إِلَيْهِم على مَا سبق وَلما أحسوا بدنوه مِنْهُم فروا أَمَامه ودخلوا بِلَاد آيت يسري فَتَبِعهُمْ إِلَى أَن أوقع بهم على وَادي العبيد وَقتل مِنْهُم آلافا وانتهبهم وَعَاد إِلَى تادلا ظافرا وَالله غَالب على أمره ذكر مَا صدر من السُّلْطَان الْمولى عبد الله من العسف المخل بالسياسة والتناقض المغير فِي وَجه الرياسة لما عَاد السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى تادلا قتل عشْرين رجلا من أَعْيَان رُمَاة أهل فاس وَكتب إِلَى إخْوَانهمْ يعْتَذر عَن قتل من قتل مِنْهُم وَيَأْمُرهُمْ بتجديد بعث آخر وتوجيهه إِلَيْهِ فعينو طَائِفَة من رماتهم وجهوها بعد أَن عرضهَا الْقَائِد حمدون الروسي بِرَأْس المَاء ثمَّ من الْغَد قتل الْقَائِد حمدون الْمَذْكُور عبد الْوَاحِد تيبر وَمُحَمّد بن الْأَشْهب من أهل فاس بِبَاب السجْن وَأمر بجرهما فِي سِكَك الْمَدِينَة ثمَّ أصبح غاديا على أَبْوَاب فاس فتتبعها بالهدم فهدم بَاب المحروق وَبَاب الْفتُوح وَبَاب الجيسة وَبَاب بني مُسَافر وَبَاب الْحَدِيد وَحمل مصاريعها كلهَا إِلَى فاس الْجَدِيد وَفِي أول يَوْم من الْمحرم من سنة ثَلَاث واربعين وَمِائَة وَألف شرع حمدون الروسي فِي هدم سور مَدِينَة فاس وجر الأنقاض الَّتِي بهَا إِلَى فاس الْجَدِيد وَفِي أثْنَاء ذَلِك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 ورد كتاب من السُّلْطَان يتَضَمَّن الْعَفو عَن أهل فاس وَالرِّضَا عَنْهُم فارتاب حمدون الروسي وفر إِلَى زرهون ثمَّ قفل السُّلْطَان من تادلا فَأَقَامَ بمكناسة مُدَّة يسيرَة وَخرج غازيا بِلَاد السوس فَقَدمهَا ومهدها وَعَاد مؤيدا منصورا وَفِي هَذِه السّنة أَمر بِبِنَاء بَاب مَنْصُور العلج بمكناسة فجَاء فِي غَايَة الضخامة والفراهة وأكمل سوق القصبة فجَاء على مَا يَنْبَغِي وَالله أعلم هدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَدِينَة الرياض من حَضْرَة مكناسة وَمَا اتَّصل بذلك كَانَت مَدِينَة الرياض زِينَة مكناسة وبهجتها إِذْ كَانَ بهَا آثَار أكَابِر دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَبهَا دور الْعمَّال والقواد وَالْكتاب وَسَائِر أَعْيَان الحضرة الإسماعيلية بل كل من كَانَ لَهُ وظيف فِي خدمتها السُّلْطَانِيَّة بنى دَاره بهَا وتنافس الأكابر والرؤساء فِي تشييد الدّور وتنجيد الْقُصُور وَتَنَاهوا فِي ذَلِك حَتَّى كَانَ بدار عَليّ بن يشي القبلي أَربع وَعِشْرُونَ حَلقَة يجمعها بَاب وَاحِد وَكَانَت دَار الْقَائِد عبد الله الروسي وَأَوْلَاده على ذَلِك المنوال بل أعظم ضخامة وأكمل حضارة حَتَّى كَأَنَّهَا حومة مُسْتَقلَّة وَكَانَ لأمثالهما من القواد مثل ذَلِك أَو قريب مِنْهُ فخلدوا بهَا الْآثَار الْعَظِيمَة والمعالم الفخيمة وَبنى كل عَامل مَسْجِدا فِي حومته وَكَانَ بوسطها الْمَسْجِد الْأَعْظَم الْإِسْمَاعِيلِيّ ومدرسته وحمامه وفنادقه وأسواقه الموقوفه عَلَيْهِ وَكَانَت تنْفق بهَا البضائع الَّتِي لَا تنْفق فِي غَيرهَا فَأتى عَلَيْهَا من أَيَّام النحوس يَوْم ركب السُّلْطَان الْمولى عبد الله عِنْد فجره ووقف على تل عَال يشرف مِنْهُ عَلَيْهَا وَأمر النَّصَارَى والشعابنية بهدمها فتسارعوا إِلَيْهَا وشرعوا فِي هدمها من كل نَاحيَة وَالنَّاس نيام فَلم يرعهم إِلَّا بُيُوتهم تتساقط عَلَيْهِم فَمن أسْرع وخف بِحمْل مَتَاعه وآثاثه نجا وَمن لَا معِين لَهُ أَو ترَاخى فِي حمل مَتَاعه ضَاعَ تَحت التُّرَاب وَكَانَ بهَا طَائِفَة كَبِيرَة من أَخْوَاله الودايا وَغَيرهم فارتحل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 الودايا إِلَى فاس الْجَدِيد وانضموا إِلَى إخْوَانهمْ الَّذين بهَا وتفرق غَيرهم بِمَدِينَة مكناسة وَلم تمض عشرَة أَيَّام حَتَّى صَارَت مَدِينَة الرياض كدية من التُّرَاب وَلم يبْق بهَا إِلَّا الأسوار قَائِمَة الإشخاص والجدران مائلة للعيان وَالْأَمر لله وَحده قَالُوا وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله بعثا مَعَ الْقَائِد أبي عمرَان مُوسَى الجراري إِلَى بعض الْجِهَات وَكَانُوا نَحْو ثَلَاثمِائَة فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ قَتله وَقتل أَصْحَابه مَعَه وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا وَفد من عِنْد الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي فِي مثل هَذَا الْعدَد من طنجة وَمَعَهُمْ هَدِيَّة الباشا الْمَذْكُور فَقَتلهُمْ فَكَانَ قَتلهمْ سَبَب نفرة أَحْمد بن عَليّ عَنهُ وسعيه فِي إِفْسَاد دولته وَقتل أَيْضا من قَبيلَة حجاوة مِائَتي رجل على دَعْوَى قطع الطَّرِيق ببلادهم وَلما أَمر بِقَتْلِهِم وأخرجوا إِلَى الْمحل الْمعد لذَلِك خرج النظارة والبطالون من أهل الْبَلَد للفرجة عَلَيْهِم بِبَاب البطيوي فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذا بالسلطان قد برز من الْبَاب وَلما رأى اجْتِمَاع النَّاس قصد نحوهم فَلَمَّا رَأَوْهُ فروا إِلَى كَهْف هُنَاكَ قريب فاختفوا فِيهِ فَأتى السُّلْطَان حَتَّى وقف على بَاب الْكَهْف وَكَانَ من قربه أكوام من حجر أعدت للْبِنَاء بهَا فَأمر الأعوان من المسخرين بِوَضْع أسلحتهم وردم بَاب الْكَهْف بذلك الْحجر مَعَ التُّرَاب فَفَعَلُوا وَهلك ذَلِك الْجمع الْكثير غما وَلم يُوقف لَهُم بعد على خبر وَلَا عرف لَهُم عدد وَلما صدرت مِنْهُ هَذِه الْأَفْعَال الشنيعة عَفا الله عَنهُ كتب إِلَيْهِ أهل الدِّيوَان من مَشْرُوع الرملة يُنكرُونَ عَلَيْهِ قَتله للْمُسلمين دون مُوجب فَبعث إِلَيْهِم بالراتب وَأمرهمْ بالتهيؤ لغزو أهل فازاز فشغلهم بذلك وَفِي هَذِه السّنة بعث مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي الزموري القبلي واليا على فاس وَقَالَ لَهُ خُذ مِنْهُم المَال واطرحه فِي وَادي أبي الخراريب وَلَا تتركه لَهُم فَمَا أطغاهم إِلَّا المَال حَتَّى استخفوا بِأَمْر الْملك فَقدم مُحَمَّد بن عَليّ الْمَذْكُور فاسا وَنزل بدار أبي عَليّ الروسي بالمعادي وَعين من كل حومة نَقِيبًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 عَارِفًا بِأَهْل الْيَسَار فجمعوه لَهُم حَتَّى كَانُوا بَين يَدَيْهِ فَأمر بسجنهم ثمَّ وظف عَلَيْهِم أَولا خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال وزعها على التُّجَّار وَأهل الْيَسَار دون غَيرهم من الْعشْرَة آلَاف إِلَى الْألف ثمَّ شرع فِي قبض المَال الموزع وَمن ترَاخى مِنْهُم فِي الدّفع ضرب وسجن وَمن تغيب من أهل الْيَسَار حبس وَلَده أَو أَخُوهُ أَو زَوجته إِلَى أَن استوفى الْعدَد الْمَذْكُور ثمَّ عطف على أهل الصَّنَائِع والحرف وأرباب الْأُصُول من الفلاحين وَغَيرهم فوزع عَلَيْهِم قدرا وافرا من الْألف إِلَى الْمِائَة وَمَا دون ذَلِك حَتَّى لم يبْق فِي الْمَدِينَة أحد إِلَّا وَقد غرم ففر النَّاس إِلَى الْبَوَادِي والقرى وَالْجِبَال وَمِنْهُم من وصل إِلَى السودَان وتونس ومصر وَالشَّام حَتَّى لم يبْق بفاس إِلَّا النِّسَاء والذرية وَمن لَا عِبْرَة بِهِ من الرِّجَال حَتَّى أَن الَّذين كَانُوا بالسجن فينفس خُرُوجهمْ مِنْهُ فروا بِأَنْفسِهِم وَلم يعرجوا على أهل وَلَا ولد وَأقَام مُحَمَّد بن عَليّ على هَذَا الْعَمَل بفاس ثَلَاثَة عشر شهرا وَكلما اجتنى مَالا بعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَكَانَت هَذِه الخطوب كلهَا فِيمَا بَين سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين إِلَى سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله جَيش العبيد إِلَى فازاز وإيقاع أَهله بهم وَفِي سنة سِتّ واربعين وَمِائَة وَألف جهز السُّلْطَان الْمولى عبد الله جَيْشًا من العبيد يشْتَمل على خَمْسَة عشر ألفا من الْخَيل وَعقد عَلَيْهِم للباشا قَاسم ابْن ويسون وأضاف إِلَيْهِم ثَلَاثَة آلَاف من جَيش الودايا وَعقد عَلَيْهِم للقائد عبد الْملك بن أبي شفرة ووجههم إِلَى جبال آيت ومالو فَلَمَّا عبر الْجَيْش وَادي أم الرّبيع على قنطرة البروج ونزلوا بسيط آدخسان كادهم البربر بِأَن أظهرُوا الْفِرَار أمامهم وتوغلوا فِي الْجبَال فَتَبِعهُمْ العبيد إِلَى أَن توغلوا فِي تِلْكَ الْجبَال ونشبوا فِي أوعارها والبربر تَفِر مِنْهُم فِي كل وَجه وهم يتبعونهم إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 أَن حَان وَقت الْمسَاء فَبعث البربر لَيْلًا طَائِفَة مِنْهُم لسد الثنايا والأنقاب الَّتِي دخل مِنْهَا جَيش السُّلْطَان فأحكموا سدها بشجر الْأرز وَالْحِجَارَة وَلما أَصْبحُوا هجموا على الْجَيْش من كل نَاحيَة وصدقوهم الْقِتَال إِلَى أَن ردوهم على أَعْقَابهم فَلَمَّا انْتهى العبيد إِلَى الثنايا الَّتِي دخلُوا مِنْهَا وألفوها مسدودة دهشوا وخشعت نُفُوسهم وازدحموا عَلَيْهَا بعد أَن ترجلوا وَتركُوا الْخَيل وَالسِّلَاح والأبنية فِيهَا من الأثاث فنهب البربر جَمِيع ذَلِك ثمَّ جردوا بَاقِي الْعَسْكَر من الثِّيَاب وَلم يقتلُوا أحدا وَرجع العبيد إِلَى مكناسة راجلين متجردين من الْمخيط وَالْمُحِيط فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب الَّتِي بغضت السُّلْطَان الْمولى عبد الله للعبيد لِأَن ذَلِك كَانَ بإشارته بزعمهم مَعَ إسرافه فِي قتل رُؤَسَائِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي وَمَعَ ذَلِك فقد أنعم عَلَيْهِم بِالْمَالِ والكسى وَوَعدهمْ بإخلاف جَمِيع مَا ضَاعَ لَهُم وَرَجَعُوا إِلَى مشرع الرملة ممتعضين لتِلْك الفعلة ثورة العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره إِلَى وَادي نول وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما كَانَت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فسد مَا بَين السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله وَبَين العبيد لإسرافه فِي قَتلهمْ حَتَّى كَاد يَأْتِي على عظمائهم وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ جَزَاء لَهُم على قَتلهمْ لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْملك حَسْبَمَا سبق إِذْ كَانَ مَا بَينه وَبَينه صَالحا كَمَا مر فَقتل مِنْهُم كل من سعى فِي قَتله أَو شَارك فِيهِ أَو وَافق عَلَيْهِ حَتَّى بلغ عدد من قتل مِنْهُم أَزِيد من عشرَة آلَاف فَأَجْمعُوا على خلعه وَقَتله ودس إِلَيْهِ بَعضهم بِمَا عزموا عَلَيْهِ فِي شَأْنه ففر لَيْلًا من مكناسة وَلم يصبح إِلَّا بحلة آيت أدراسن فأجلوا مقدمه وتباروا فِي إكرامه وَلما عزم على النهوض عَنْهُم ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى تادلا ثمَّ وَدعوهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَمضى هُوَ إِلَى مراكش وَمِنْهَا ذهب إِلَى السوس فَنزل بوادي نول على أَخْوَاله المغافرة وَكَانَ مَعَه يَوْمئِذٍ ولداه الْمولى أَحْمد فِي سنّ الْبلُوغ وَالْمولى مُحَمَّد السُّلْطَان بعده صَغِيرا وَأقَام عِنْد المغافرة نَحْو ثَلَاث سِنِين وَأما وَالِي فاس مُحَمَّد بن عَليّ بن يشي فَإِنَّهُ لما اتَّصل بِهِ فرار السُّلْطَان من مكناسة فر هُوَ أَيْضا عَن فاس لَيْلًا وَلم يصبح إِلَّا بزرهون فاطمأن بهَا جنبه وَكَانَ مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالأعرج رَحمَه الله لما فر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل من مكناسة إِلَى وَادي نول اجْتمع عبيد الدِّيوَان وَاتَّفَقُوا على بيعَة الْمولى أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالأعرج وَكَانَ يَوْمئِذٍ بسجلماسة فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بذلك وبعثوا بِالْكتاب مَعَ جَرِيدَة من الْخَيل لتأتي بِهِ فَأقبل مسرعا وَلما وصل إِلَى مَدِينَة صفرو لقِيه بهَا أَعْيَان فاس وأشرافها وعلماؤها فَبَايعُوهُ ففرح بهم وَأكْرمهمْ وعادوا فِي صحبته إِلَى فاس الْجَدِيد فولى عَلَيْهِم مسعودا الروسي وَذَلِكَ فِي ربيع الثَّانِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف وَأمره أَن لايقبض مِنْهُم إِلَّا الزكوات والأعشار الشَّرْعِيَّة وَمَا جرت بِهِ الْعَادة من الْهَدَايَا الْخَفِيفَة وَكَانَ رَحمَه الله مَوْصُوفا بالحلم وَالْعقل متوقفا فِي الدِّمَاء فستره الله فِي آخر أمره وأجمل خلاصه ثمَّ نَهَضَ إِلَى مكناسة وَلما قدمهَا بَايعه الْجَيْش بهَا الْبيعَة الْعَامَّة هَكَذَا فِي الْبُسْتَان وَرَأَيْت بِخَط جدنا الإِمَام الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم بن زَرُّوق الحسني الإدريسي مَا نَصه وَفِي الْيَوْم الأول من جُمَادَى الأولى من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف ثار عبيد الرملة على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل وَنَقَضُوا بيعَته وأعلنوا بنصر أَخِيه الْمولى عَليّ ولد عَائِشَة مباركة وَخرج لَهُم الْمولى عبد الله عَن دَار الْملك بمكناسة بعد أَن أَخذ مَا كَانَ بهَا مِمَّا أعجبه من خيل وعدة وَمَال من غير قتال وَلَا محاربة وَدخل أَخُوهُ الْمولى عَليّ دَار الْملك بمكناسة يَوْم الْجُمُعَة فاتح جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَكتبه فِي الثَّانِي عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور مُحَمَّد بن زَرُّوق كَانَ الله لَهُ بمنه اه كَلَامه بِحُرُوفِهِ وَلما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن بمكناسة قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود ببيعاتهم وهداياهم من جَمِيع الْبلدَانِ فأجازهم وَفرق المَال على الْجَيْش إِلَى أَن نفذ مَا عِنْده وَاحْتَاجَ فَقبض على الْحرَّة خناثى بنت بكار أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله فاستصفى مَا عِنْدهَا ثمَّ امتحنها لتقر بِمَا عَسى أَن تكون قد أخفته فَلم يحصل على طائل وَكَانَت هَذِه الفعلة مَعْدُودَة من هناته عَفا الله عَنهُ قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وخناثى هَذِه هِيَ أم السلاطين أعزهم الله وَكَانَت صَالِحَة عابدة عَالِمَة حصلت الْعُلُوم فِي كَفَالَة والدها الشَّيْخ بكار وَقَالَ رَأَيْت خطها على هَامِش نُسْخَة من الْإِصَابَة لِابْنِ حجر وَعرف بِهِ بَعضهم فَقَالَ هَذَا خطّ السيدة خناثى أم السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِلَا شكّ اه ثورة أهل فاس بعاملهم مَسْعُود الروسي وانتقاضهم على السُّلْطَان أبي الْحسن رَحمَه الله ثمَّ إِن مسعودا الروسي عَامل فاس عدا على الْحَاج أَحْمد بودي رَئِيس اللمطيين فَقتله وَأمر بجره إِلَى بَاب الْفتُوح إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي سعى فِي قتل أَخِيه أبي عَليّ الروسي عقب وَفَاة السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل كَمَا مر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 فَلَمَّا ارْتكب مَسْعُود هَذِه الفعلة اجْتمع أهل فاس وَأخذُوا أسلحتهم وتقدموا إِلَى الْقَائِد مَسْعُود ليقتلوه بِصَاحِبِهِمْ ففر مَسْعُود وَلم يدركوه فَعَطَفُوا على السجْن فكسروه وَقتلُوا الحرس والأعوان الَّذين بِهِ وسرحوا المساجين إِلَى حَال سبيلهم وَلما اتَّصل خبرهم بالسلطان الْمولى أبي الْحسن غض الطّرف عَنْهُم وَبعث إِلَيْهِم أَخَاهُ الْمولى الْمُهْتَدي وَمَعَهُ الْقَائِد غَانِم الحاجي وَكتب إِلَيْهِم يَقُول إِنِّي قد عزلت عَنْكُم مسعودا الروسي وَوليت عَلَيْكُم غانما الحاجي فَلم يقبلوه وَرجع من الْغَد إِلَى مكناسة ثمَّ رجعُوا بصائرهم بِإِشَارَة أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم وبعثوا جمَاعَة من الْعلمَاء والأشراف بهدية كَبِيرَة مَعَ الْمولى الْمُهْتَدي إِلَى السُّلْطَان تلافيا لما فرط مِنْهُم وَلما دخلُوا على السُّلْطَان قبض هديتهم وَعدد عَلَيْهِم ذنوبهم ثمَّ أَمر بهم إِلَى السجْن وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى أهل فاس قَامَت قيامتهم وَأَغْلقُوا أَبْوَاب الْمَدِينَة وأعلنوا بِالْخِلَافِ ثمَّ عطفوا على أَصْحَاب مَسْعُود الروسي وكل من كَانَ لَهُ بِهِ اتِّصَال فَقَتَلُوهُمْ فِي كل وَجه وأنشبوا الْحَرْب مَعَ الودايا فِي كل نَاحيَة وَفِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قدم من عِنْد السُّلْطَان الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد عبد الله الحمري من قواد العبيد فَاجْتمع بِأَهْل فاس وَاعْتذر إِلَيْهِم عَن السُّلْطَان وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا مَعَه جمَاعَة مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان لرتق هَذَا الفتق فأسعفوه وبعثوا طَائِفَة من عُلَمَائهمْ وأشرافهم وأصحبوهم هَدِيَّة نفيسة إِلَى السُّلْطَان وَكتب عبد الله الحمري إِلَى السُّلْطَان يعْتَذر إِلَيْهِ عَنْهُم ويشفع لَهُم عِنْده فَدَخَلُوا على السُّلْطَان وعاتبهم ثمَّ عَفا عَنْهُم وسرح لَهُم إخْوَانهمْ الَّذين كَانُوا فِي السجْن وَولى عَلَيْهِم عبد الله الحمري ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان واربعين وَمِائَة وَألف عَزله وَولى عَلَيْهِم عبد الله بن الْأَشْقَر وسكنت الهيعة واستقام الْأَمر بعض الشَّيْء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 غَزْو السُّلْطَان أبي الْحسن أهل جبل فازاز فِي جَيش العبيد وهزيمتهم إِيَّاه لما كَانَت أَوَاخِر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف أَخذ السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي الاستعداد وتجهيز العساكر لآيت ومالو وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ إسعافا للعبيد ليأخذوا بثأرهم من البربر فِي الْوَقْعَة السَّابِقَة أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَخرج إِلَيْهِم فِي الْمحرم فاتح سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف فِي جَيش كثيف من العبيد فَلَمَّا نذروا بإقباله إِلَيْهِم ودنوه مِنْهُم أظهرُوا الْفِرَار أمامهم مثل الفعلة الأولى فصاروا يتأخرون وَيتبع آثَارهم فَينزل مَنَازِلهمْ إِلَى أَن عبروا وَادي أم الرّبيع ودخلوا فِي الْجبَال فَعبر السُّلْطَان خَلفهم وَتقدم العبيد إِلَى الْجبَال والأوعار فاقتحموها عَلَيْهِم فَلَمَّا توسطوها كرت البربر عَلَيْهِم وانقضوا عَلَيْهِم من الثنايا انقضاض العقبان وَأَحَاطُوا بهم من كل وَجه فَوَلوا منهزمين وازدحموا على الثنايا وسلكوا سبيلهم فِي الْمرة الأولى من ترك الْخَيل وَالسِّلَاح والأبنية والأثاث والنجاة بِمُجَرَّد أَعْنَاقهم وسلبهم البربر حَتَّى من الثِّيَاب وَلم يتَعَرَّضُوا للسُّلْطَان فِي موكبه وخاصته إِلَى أَن عبر وَادي أم الرّبيع فَرَجَعُوا عَنهُ وَلما دخل مكناسة طَالبه العبيد بالكسوة وَالسِّلَاح والراتب فَلم يكن عِنْده مَا يعطيهم فشغبوا عَلَيْهِ ومرضوا فِي طَاعَته وَقد أجمل صَاحب نشر المثاني هَذِه الْأَخْبَار فَقَالَ وَفِي هَذِه السّنة يَعْنِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف أهلك الله كل من خرج على السُّلْطَان مولَايَ عبد الله وقويت الْفِتَن وَارْتَفَعت الأسعار وانحبست الأمطار وقاسى النَّاس الشدائد من الغلاء وَقل الإدام وَانْقطع اللَّحْم وَهَلَكت رِقَاب كَثِيرَة وَلم يزل الْأَمر فِي شدَّة وفر النَّاس كل فرار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 تحرّك السُّلْطَان الْمولى عبد الله من السوس وفرار السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى الأحلاف وَمَا كَانَ من أمره إِلَى وَفَاته لما كَانَ شهر ذِي الْحجَّة من سنة تسع واربعين وَمِائَة وَألف ورد الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله قد أقبل من وَادي نول وَوصل إِلَى تادلا فاهتز العبيد لَهُ وتحدثت فرقة مِنْهُم برده إِلَى الْملك وَخَالفهُم سَالم الدكالي فِي جمَاعَة من شيعته وَقَالُوا لَا نخلع طَاعَة مَوْلَانَا عَليّ إِذْ كَانَ سَالم هَذَا وَأَصْحَابه هم الَّذين تسببوا فِي خلع الْمولى عبد الله وتولية أَخِيه الْمولى عَليّ ثمَّ إِن شيعَة الْمولى عبد الله قويت وكثروا أَصْحَاب سَالم وأعلنوا بيعَته ففر سَالم فِيمَن مَعَه من القواد إِلَى زَاوِيَة زرهون مستجيرا بهَا وَلما سمع بذلك السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن فر من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد فصده الودايا عَن الدُّخُول إِلَيْهَا فَعدل إِلَى قنطرة وَادي سبو فَنزل هُنَالك يَوْمًا أَو بعض يَوْم إِلَى أَن قضى بعض إربه ثمَّ أصبح غاديا إِلَى تازا فاحتلها ثمَّ انْتقل عَنْهَا إِلَى عرب الأحلاف فَأَنَاخَ بديارهم فَفَرِحُوا بِهِ وأكرموه وصاهروه وَأقَام بَين أظهرهم عدَّة سِنِين معرضًا عَن الْملك وأسبابه إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى مكناسة فاستوطنها بِإِشَارَة أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله حِين وَفد عَلَيْهِ بدار الدبيبغ من فاس سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَأعْطَاهُ مَالا وجنات ومزارع مِمَّا كَانَ لجَانب المخزن بمكناسة وَبَعثه إِلَى دَاره بهَا فَأَقَامَ يَسِيرا ثمَّ وثب عَلَيْهِ العبيد فقبضوا عَلَيْهِ وبعثوا بِهِ إِلَى أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَقَالُوا إِن هَذَا قد أفسد علينا بِلَادنَا فَأَخذه وسرحه إِلَى تافيلالت فاستقر بهَا إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله كَمَا سَيَأْتِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما فر السُّلْطَان الْمولى أَبُو الْحسن من مكناسة إِلَى الأحلاف اجْتمعت كلمة العبيد والودايا على بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَبَايعُوهُ وَهُوَ بتادلا وتبعهم على ذَلِك أهل فاس وَسَائِر الْقَبَائِل ثمَّ إِن سالما الدكالي الَّذِي بزرهون كتب إِلَى أهل فاس يَقُول لَهُم إِن الدِّيوَان قد اتّفق على خلع الْمولى عبد الله وبيعة سَيِّدي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بِابْن عريبة والمشورة لعلمائكم فَأَجَابُوهُ بِأَن قَالُوا نَحن تبع لكم فَلَمَّا سمع أهل الدِّيوَان بِمَا فعله سَالم الدكالي وَمَا تَقوله عَلَيْهِم خَرجُوا من الْمحلة إِلَى زرهون وقبضوا على سَالم الدكالي وَمن مَعَه من القواد وبعثوا بهم إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بتادلا فاستفتى فيهم القَاضِي أَبَا عنان وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَعَه فأفتاه بِقَتْلِهِم فَقَتلهُمْ ثمَّ نميت مقَالَة سَالم الدكالي إِلَى الْمولى مُحَمَّد ابْن عريبة وَهُوَ بتافيلالت فَظن أَن الْأَمر صَحِيح فَأقبل مسرعا إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة صفرو فَوجدَ النَّاس قد بَايعُوا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وراجعوا طَاعَته فَسقط فِي يَده ثمَّ دخل فاسا مستخفيا وَأقَام بدار الشَّيْخ أبي زيد عبد الرَّحْمَن الشَّامي وَكَانَ صديقه مُعْتَقدًا لَهُ وَكَانَ أَبُو زيد يعده بِالْملكِ وَلما أقبل السُّلْطَان الْمولى عبد الله من تادلا خرج للقائه أهل فاس وَفِيهِمْ الْأَشْرَاف وَالْعُلَمَاء وَكَذَلِكَ أهل مكناسة فوافوه بقصبة أبي فكران وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ عَاتَبَهُمْ وَعدد مَا سلف مِنْهُم ثمَّ أَمر بأعيانهم فَقتلُوا وَفعل مثل ذَلِك بأعيان مكناسة واستباحهم وعزل قاضيهم أَبَا الْقَاسِم العميري وَرجع أَشْرَاف فاس وعلماؤها مذعورين مِمَّا نابهم بعد أَن ولى السُّلْطَان عَلَيْهِم مُحَمَّدًا بن عَليّ بن يشي وَاسْتمرّ هُوَ مُقيما بقصبة أبي فكران وَلم يتَقَدَّم إِلَى فاس لعدم ثقته بهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بِابْن عريبة وَالسَّبَب فِيهَا لما فعل الْمولى عبد الله بأعيان فاس ومكناسة مَا فعل من الْقَتْل والاستباحة وَأقَام منكمشا بقصبة أبي فكران نبغت رُؤُوس الْفِتْنَة من الودايا بفاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي نهب الطرقات ثمَّ أَغَارُوا فِي يَوْم خَمِيس على سرح فاس وأجلاب سوقها فاستاقوها حَتَّى لم يتْركُوا لَهُم بقرة وَلَا شَاة وَلَا بَهِيمَة غَيرهمَا وَلما رأى أهل فاس مَا نزل بهم اجْتَمعُوا وتحالفوا على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى مُحَمَّد بن عريبة فَمَشَوْا إِلَيْهِ وَهُوَ بدار الشَّيْخ أبي زيد الشَّامي فأخرجوه وَأخذُوا عَلَيْهِ العهود ثمَّ بَايعُوهُ فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة خمسين وَمِائَة وَألف وهيؤوا لَهُ كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من خيل وَسلَاح وَآلَة حَرْب وتباروا فِي طَاعَته وخدمته وكتبت بيعَته فِي خَامِس عشر الشَّهْر الْمَذْكُور وَكتب عَلَيْهَا الْفُقَهَاء خطوطهم وَامْتنع بَعضهم من ذَلِك وَقَالُوا بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فِي أعناقنا فَلَا نخلعها فعزلوا عَن الخطط وامتحنوا ثمَّ كتب أهل فاس إِلَى عبيد الدِّيوَان يعرفونهم مَا صَنَعُوا وَيطْلبُونَ مِنْهُم موافقتهم فأجابوهم إِلَى ذَلِك وَبَايَعُوا السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَتمّ أمره وَلما رأى السُّلْطَان الْمولى عبد الله أَن أَمر أَخِيه قد تمّ فر إِلَى جبال البربر وَأقَام هُنَالك ثمَّ فتحت أَبْوَاب فاس وانتقل السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد نَهَضَ إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَبَايَعَهُ العبيد الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من سَائِر الأقطار بهداياهم فأجازهم وَفرق مَا كَانَ عِنْده من المَال على العبيد وَكَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 بَدْء اختلال أَمر السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَمَا تسبب عَن ذَلِك لما فرق السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة على العبيد مَا عِنْده من المَال لم يقنعهم ذَلِك واستزادوه فَأطلق عَفا الله عَنهُ أَيدي النهب فِي أَمْوَال الْمُسلمين وَأخذ هُوَ فِي اسْتِخْرَاج الْحُبُوب والأقوات من دور أهل مكناسة غصبا وَبحث عَنْهَا فِي الأهراء والمطامير وكل من ذكر لَهُ أَن عِنْده قمحا أَو شَعِيرًا قبض عَلَيْهِ وصادره إِلَى أَن يظْهر مَا عِنْده وكل من جلب من أهل الْبَادِيَة حبا اخذ مِنْهُ كرها فَكثر الْهَرج وعمت الْفِتْنَة وفر النَّاس من مدينتهم وَعم النهب خَارِجهَا وانقطعت السبل وَوَقع النَّاس فِي حيص بيص وَالْأَمر لله وَحده إغارة السُّلْطَان الْمولى عبد الله على الإصطبل من مكناسة وَمَا نَشأ عَن ذَلِك ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله الَّذِي كَانَ مُقيما عِنْد البربر قدم ذَات لَيْلَة فِي جمَاعَة من أَصْحَابه حَتَّى دخل الإصطبل وَقتل من وجد بِهِ من العبيد وَحرق أخصاصهم وَرجع عوده على بدئه وَلما نذر بِهِ السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة نَادَى فِي النَّاس بالنفير وَركب فِي خيله وَرجله وَقصد السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهُوَ بالموضع الْمَعْرُوف بالحاجب وَلما رأى العساكر مقبلة إِلَيْهِ وَالْخَيْل تَتَعَادَى خَلفه فر بِنَفسِهِ وَترك ابنيته بِمَا فِيهَا فانتهبها العبيد وتبعوه إِلَى أَن بلغُوا وَادي ملوية فتوغل فِي الْجبَال وَلم يقفوا لَهُ على أثر وَلما قَفَلُوا رَاجِعين اعْتَرَضَهُمْ البربر وتسايلوا عَلَيْهِم من المخارم والشعاب فصدقوهم الْقِتَال وهزموهم واستلبوا مَا مَعَهم من الأثقال وَرَجَعُوا بخفي حنين قَالَ فِي الْبُسْتَان وَلما انْتَهوا إِلَى أحواز صفرو بعث الْمولى مُحَمَّد ابْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 عريبة جمَاعَة من جَيْشه إِلَى من هُنَالك من الْمُسْتَضْعَفِينَ من أهل المزادغ وَغَيرهَا من الْقرى وَأمر بِقطع رؤوسهم وبعثها إِلَى فاس موهما أَنَّهَا رُؤُوس البربر اه وَالله أعلم بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَمَا تخللها من الْهَرج والشدة لما قفل السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة من خرجته فِي أثر أَخِيه الْمولى عبد الله وَكَانَ حَيْثُ ذكرنَا بعث أَخَاهُ الْمولى الْوَلِيد بن إِسْمَاعِيل إِلَى فاس وَأمره بِضَرْب الْبَعْث عَلَيْهِم توصلا إِلَى مَا فِي أَيْديهم من المَال بِحَيْثُ أَن من أعْطى المَال مِنْهُم يُقيم بداره وَمن أَبى يخرج فِي الْبَعْث فتحير النَّاس وَقدم الْمولى الْوَلِيد حَضْرَة فاس وَقبض على الْحَاج أبي جَيِّدَة برادة وَكَانَ مثريا فَقتله وَأخذ أَمْوَاله وَبَاعَ أُصُوله وَقبض على الْحَاج عبد الْخَالِق عديل فَأخذ أَمْوَاله ثمَّ تسلط على أهل الزوايا وكل من ذكر لَهُ أَنه من أهل الْيَسَار إِلَى أَن استوفى غَرَضه ثمَّ سَار إِلَى مكناسة فَفعل بِأَهْلِهَا مثل ذَلِك حَتَّى لم يسلم مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل هَذَا وَالنَّاس فِي محنة عَظِيمَة من المجاعة والفتنة وَنهب الدّور بِاللَّيْلِ بِحَيْثُ كَانَ أهل الْيَسَار لَا ينامون وَصَارَ جلّ النَّاس لصوصا والودايا يعيشون فِي الجنات خَارج الْمَدِينَة ويغيرون على القصارين بوادي فاس وَبعد أَن صَار النَّاس يقصرون كتانهم بمصمودة انتهبوه مِنْهُم بهَا بل تناولوا القفل من الفنادق وَالسُّلْطَان معرض عَن جَمِيع ذَلِك لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَقَد هلك فِي هَذِه الْمدَّة من الْجُوع جم غفير أخبر صَاحب المارستان أَنه كفن فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ثَمَانِينَ ألفا وَزِيَادَة سوى الَّذين كفنهم أهلهم وعشيرتهم وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت أَيَّام الْمولى مُحَمَّد بن عريبة هَذَا أَيَّام نحس ووبال على الْمُسلمين وَكَذَا أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء الَّذِي إِلَيْهِ يساق الحَدِيث وكل ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم من اسْتِيلَاء العبيد على الدولة وشؤم افتياتهم عَلَيْهَا وتحكمهم فِي أعياصها طوع أهوائهم وَحسب أغراضهم إِذْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 مَعْلُوم أَنه لَا ينشأ عَن كَثْرَة الْخلْع وَالتَّوْلِيَة إِلَّا هَذَا وَشبهه نسْأَل الله تَعَالَى اللطف وَالْحِفْظ فِي الْأَهْل وَالدّين وَالْمَال فِي الْحَال والمآل وَقد تكلم صَاحب نشر المثاني على هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمسين وَمِائَة وَألف فَقَالَ وَفِي هَذِه السّنة هزم جَيش الثائرين على مولَايَ عبد الله يَعْنِي العبيد هزيمَة عَظِيمَة بعد أَن صدر مِنْهُم فَسَاد كَبِير وَذَلِكَ على يَد البربر وَارْتَفَعت الأسعار جدا وَجعل اللُّصُوص يهجمون على النَّاس فِي دُورهمْ لَيْلًا ويقتلونهم وهم يستغيثون فَلَا يغاثون وَبلغ الْخَوْف إِلَى أَبْوَاب الدّور المتطرفة بفاس نَهَارا فَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يخرج عَن بَاب مصمودة فِي العدوة وَلَا عَن بَاب القصبة الْقَدِيمَة فِي الطالعة وَلَا عَن حومة الحفارين بَاب عجيسة وَكثر الْهدم فِي الدّور لأخذ خشبها وَكثر الخراب وخلت الحارات فتجد الدَّرْب مُشْتَمِلًا على عشْرين دَارا وَأكْثر وَكلهَا خَالِيَة وَفِي هَذِه الْمدَّة قتل الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْبَقَاء يعِيش الشاوي بداره بالدوح وَقَتله كَانَ سَبَب خلاء الدوح وَافْتَضَحَ أهل الْمُرُوءَة من النَّاس وَمن يظنّ بِهِ الدّين وكل من قدر على الْفِرَار فر من فاس وَقل من سلم مِنْهُم بعد خُرُوجه عَن الْبَلَد وَخرج جمَاعَة وافرة من أهل فاس إِلَى تطاوين وَمَا والاها لجلب الْميرَة إِذْ كَانَ الله تَعَالَى قد سخر الْعَدو الْكَافِر بِحمْل الطَّعَام إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فَاشْترى أهل فاس مِنْهُ شَيْئا كثيرا لَكِن امْتنع الجمالون من حمله لَهُم وماطلوهم فشكوهم لوالي تِلْكَ الْبِلَاد ورئيسها حِينَئِذٍ أَحْمد بن عَليّ الريفي فأظهر لَهُم النصح وأبطن الْغِشّ لانحرافه عَن السُّلْطَان وَمن يتَعَلَّق بِهِ فثبط الجمالين وهم قَبيلَة بداوة فازدادوا امتناعا وتعاصيا حَتَّى بَقِي أهل فاس معطلين بميرتهم نَحْو سِتَّة أشهر فَهَلَك بِسَبَب ذَلِك خلائق لَا يُحصونَ جوعا وَكلهمْ فِي عُهْدَة أَحْمد بن عَليّ الريفي وَمَا أغْنى مَال وَلَا مَتَاع فِي طلب الْقُوت وَلَوْلَا أَن الله سخر الْعَدو الْكَافِر بجلب الْميرَة للمغرب لهلك أَهله جَمِيعًا فِيمَا أَظن وَذَلِكَ كُله من شُؤْم الْفِتَن وَالْخُرُوج على الْمُلُوك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 وَأما الْأُصُول والسلع فَلم يكن شَيْء مِنْهَا يبلغ عشر ثمنه الْمُعْتَاد وَلم يقيض الله لهَذَا الْمغرب رَاحَة حَتَّى من بِرُجُوع السُّلْطَان مولَايَ عبد الله هَذَا كَلَام صَاحب نشر المثاني وَهُوَ الْفَقِيه المؤرخ سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بن عبد السَّلَام القادري وَقد حكى هَذِه الْأَخْبَار عَن مُعَاينَة لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ حاضرها وشاهدها ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة وَألف وَالنَّاس فِي شدَّة وَفِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر مِنْهَا ثار العبيد على السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة فقبضوا عَلَيْهِ وعَلى قائده على فاس الشريف أبي مُحَمَّد عبد الْمجِيد المشامري وَوَضَعُوا فِي رجْلي كل وَاحِد مِنْهُمَا قيدا وأخرجوا ابْن عريبة وَعِيَاله من دَار الْملك إِلَى دَاره الَّتِي على وَادي ويسلن بجنان حمرية ووكلوا بِهِ جمَاعَة من العبيد يحرسونه وَكَتَبُوا إِلَى أَخِيه الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل بتافيلالت يستدعونه للقدوم عَلَيْهِم ليملكوه الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله لما قبض العبيد على السُّلْطَان الْمولى مُحَمَّد بن عريبة أعْلنُوا بيعَة أَخِيه الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل وَكَتَبُوا بذلك إِلَى الْآفَاق فساعدهم النَّاس عَلَيْهِ وبعثوا جَرِيدَة من الْخَيل على عَادَتهم لتأتي بِهِ فَأقبل مسرعا وَلما انْتهى إِلَى مَدِينَة صفرو لقِيه أهل فاس بهَا فِي أَشْرَافهم وعلمائهم وأدوا بيعتهم وَرَجَعُوا مَعَه إِلَى فاس الْجَدِيد فأراح بِهِ وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي فاستناب الكعيدي عَلَيْهِم من قبله شعشوع اليازغي وَالْحَال مَا حَال وَالظُّلم مَا زَالَ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان الْمولى المستضيء إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَبَايَعَهُ العبيد الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود والقبائل والأمصار بهداياهم فقابلهم بِمَا يجب واستتب أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 ذكر مَا صدر من السُّلْطَان الْمولى المستضيء من العسف وَالِاضْطِرَاب لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى المستضيء بمكناسة كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ أَن بعث بأَخيه الْمولى مُحَمَّد بن عريبة مُقَيّدا إِلَى فاس وَمِنْهَا إِلَى سجلماسة فسجن بهَا وَبعث بقائده السَّيِّد عبد الْمجِيد المشامري وَالشَّيْخ أبي زيد عبد الرَّحْمَن الشَّامي يسجنان بفاس الْجَدِيد ونهبت دَار المشامري وصودر إِلَى أَن مَاتَ تَحت الْعَذَاب وَمثل بِهِ ثمَّ بعث السُّلْطَان كِتَابه إِلَى أهل فاس وَلَكِن رسم أَن يقْرَأ بفاس الْجَدِيد ويحضر أَعْيَان أهل فاس لاستماعه فارتابوا وتغيبوا وَلم يحضر مِنْهُم الا نَحْو الْعشْرين فَقبض عَلَيْهِم وسجنوا هُنَالك ثمَّ وظف عَلَيْهِم مَال ثقيل لم يقومُوا بِهِ وافتقرت الدولة فِي أَيَّام هَذَا السُّلْطَان وَاحْتَاجَ إِلَى المَال ليقطع عَنهُ لِسَان العبيد فَأخذ فِي الْبَحْث عَمَّا فِي المخازن الإسماعيلية الَّتِي لم يلْتَفت إِلَيْهَا الْمُلُوك قبله فَوَقع على خزين من الْحَدِيد فاستخرجه وَبَاعه وَوَقع على الخزين الْكَبِير وَفِيه آلَاف من قناطير الكبريت فَبَاعَهَا أَيْضا وَوجد شَيْئا كثيرا من ملح البارود والشب والبقام وَغير ذَلِك مِمَّا كَانَ يجلب إِلَى الحضرة من غَنَائِم أَجنَاس الفرنج فَبَاعَ ذَلِك كُله ثمَّ اقتلع شراجب الْقبَّة الشطرنجية وَكَانَت من نُحَاس مَذْهَب واقتلع الدرابيز الَّتِي عَن يَمِينهَا وشمالها من الْحَدِيد الْمُنْتَخب من بَاب الرخام إِلَى قصر الْمولى يُوسُف وَدفعهَا لأهل الذِّمَّة وألزمهم أَدَاء ثمنهَا فأجحف بهم ثمَّ أنزل المدافع النحاسية الَّتِي كَانَت بأبراج الحضرة فَكَسرهَا وضربها فُلُوسًا فَمَا أغْنى ذَلِك شَيْئا وَقتل فِي هَذِه الْمدَّة نيفا وَثَمَانِينَ رجلا من عرب بني حسن وسلط الْعَذَاب على مساجين أهل فاس ليغرموا المَال فغرموا مَا قدرُوا عَلَيْهِ ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على تجار أهل فاس ليشتروا أصُول مساجينهم فعذبوا إِلَى أَن أَدّوا بعض المَال وعجزوا وَأفْتى الْعلمَاء أَن هَذَا البيع الْوَاقِع فِي هَذِه الْأُصُول صَحِيح تَقْدِيمًا لخلاص الْأَنْفس على الْأَمْوَال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 ثمَّ قبض هَذَا السُّلْطَان على شرِيف من الْأَشْرَاف الْعِرَاقِيّين من أهل حومة كرنيز اتهمه بِأَن الْحرَّة خناثى بنت بكار استودعته مَالا فَضرب وامتحن ثمَّ ولى على فاس الْمولى أَبَا حَفْص عمر الْمدنِي وَكَانَ رَفِيقه وجليسه فاستناب الْمولى أَبُو حَفْص على فاس رجلا يُقَال لَهُ ابْن زيان الْأَعْوَر وَتقدم إِلَيْهِ فِي مصادرة أَشْرَاف فاس واستصفاء أَمْوَالهم فامتثل ابْن زيان أمره وَمَا قصر وَكَانَ الْحَامِل لأبي حَفْص على هَذَا أَن دَاره بفاس كَانَت قد نهبت أَيَّام الْمولى مُحَمَّد بن عريبة وَلم يُنكر ذَلِك أحد من أهل فاس فحقدها أَبُو حَفْص عَلَيْهِم إِلَى أَن أدالته الْأَيَّام مِنْهُم فِي هَذِه الْمرة فَفعل ابْن زيان مَا فعل فَأمر السُّلْطَان الْمولى المستضيء بِالْقَبْضِ على ابْن زيان وَأَن يُطَاف بِهِ على حمَار والسياط فِي ظَهره وَهُوَ يَقُول هَذَا جَزَاء من يُؤْذِي الْأَشْرَاف فطيف بِهِ ثمَّ أزيل رَأسه وعلق على بَاب المحروق هَذَا والأشراف لَا زَالُوا فِي الْعَذَاب ثمَّ أَمر بمساجين أهل فاس فحملوا إِلَيْهِ فِي السلَاسِل والأغلال ثمَّ قتلوا بِبَاب القصبة عَن آخِرهم وَأمر بِإِخْرَاج ولد مامي من الْحرم الإدريسي فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَتله وأسرف الْمولى المستضيء فِي الْقَتْل والعسف وَأَرَادَ أَن يتشبه بأَخيه الْمولى عبد الله الَّذِي جرد السَّيْف وَبسط الْكَفّ فَغطّى سخاؤه عَيبه وهيهات فقد كَانَ الْمولى المستضيء مسيكا مهزوم الرَّايَة على مَا قيل تغمدنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين بِالرَّحْمَةِ وَالْعَفو والغفران ثمَّ قتل الْقَائِد غانما الحاجي ووالي مكناسة الْقَائِد سعدون وَسِتَّة من أَوْلَاد الزياتي أَصْحَاب السجْن ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله أغرى البربر الَّذين كَانَ مُقيما فيهم بشن الغارات على الودايا والعيث فِي طرقاتهم فَفَعَلُوا وانقطعت السبل وَتعذر المعاش وَكَانَ الْمولى زين العابدين بن إِسْمَاعِيل مَحْبُوسًا عِنْد أَخِيه السُّلْطَان الْمولى المستضيء فَأمر بِإِخْرَاجِهِ وإحضاره بَين يَدَيْهِ فأحضر وَضرب ضرب التّلف وَبعث بِهِ مُقَيّدا إِلَى تافيلالت ليسجن مَعَ بعض أَشْرَافهَا فَبعث العبيد جمَاعَة مِنْهُم فانتزعوه من يَد حامليه وبعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وتقدموا إِلَيْهِ فِي الاحتفاظ بِهِ والاعتناء بِشَأْنِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 إِيقَاع الباشا أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي بِأَهْل تطاوين قد قدمنَا مَا كَانَ من إغارة الباشا أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الريفي صَاحب طنجة على أهل تطاوين وهزيمة أبي حَفْص الوقاش لَهُ وفتكه بِأَصْحَابِهِ فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الريفي والوقاش من يَوْمئِذٍ وَبَقِي الريفي يتربص بِهِ الدَّوَائِر ويترصد لَهُ الغوائل إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى المستضيء فِي هَذِه الْمدَّة فَلم يقدم عَلَيْهِ أحد من أهل تطاوين وَلَا دخلُوا فِي بيعَته فَوجدَ أَبُو الْعَبَّاس الريفي السَّبِيل بذلك إِلَيْهِم وأغرى بهم السُّلْطَان الْمَذْكُور ودس إِلَيْهِم أَنهم شَقوا الْعَصَا وخالفوا الْأَمر مَعَ مَا كَانَ قد نقل عَن الْفَقِيه أبي حَفْص فِي تِلْكَ القصيدة من التَّصْرِيح بِطَلَب الْملك فنجع ذَلِك فِي الْمولى المستضيء وَكتب إِلَيْهِ يَأْمُرهُ يالإيقاع بِأَهْل تطاوين فاغتنمها أَبُو الْعَبَّاس الريفي واقتحم تطاوين فِي جموعه على حِين غَفلَة من أَهلهَا وانتهبها وَقتل من أعيانها نَحْو الثَّمَانمِائَة ووظف على من بَقِي مِنْهُم مَالا ثقيلا وَهدم أسوارها ونظمها فِي سلك مَا كَانَ مستوليا عَلَيْهِ وَبنى بهَا دَار الْإِمَارَة الْمَوْجُودَة الْآن شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى المستضيء وفراره إِلَى مراكش لما كَانَ منتصف ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد بمكناسة على السُّلْطَان الْمولى المستضيء وَتَآمَرُوا فِي عَزله ومراجعة طَاعَة أَخِيه الْمولى عبد الله وَلما أحس الْمولى المستضيء بِمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ خرج من مكناسة فِي شيعته وأنصاره قَاصِدا ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ فَتَبِعَهُ الْمولى عبد الله فِي جمع من العبيد فأدركوه بِبَعْض الطَّرِيق فكر عَلَيْهِم وَقَاتلهمْ حَتَّى رجعُوا عَنهُ وَمضى لوجهه إِلَى أَن وصل إِلَى طنجة فَأَقَامَ بهَا نَحْو الشَّهْرَيْنِ عِنْد أَحْمد بن عَليّ الريفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 وَمِنْهَا توجه إِلَى مراكش فَإِنَّهُم كَانُوا قد بَايعُوهُ وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر نَائِبا عَنهُ بهَا وَلما اسْتَقر بمراكش كَاتب قبائل الْحَوْز يستصرخهم على أَخِيه الْمولى عبد الله ويستنفرهم لِلْخُرُوجِ مَعَه إِلَيْهِ فتقاعدوا عَنهُ لِأَن عَبدة والرحامنة وَأهل السوس كَانُوا شيعَة للْمولى عبد الله وَلم يبْق فِي حزب الْمولى المستضيء إِلَّا أهل دكالة أَخْوَاله وَبَنُو حسن عرب الغرب وَلما رأى الْمولى المستضيء تقاعد قبائل الْحَوْز عَنهُ أَقَامَ بمراكش يزجي الْأَيَّام إِلَى سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف والباشا أَبُو الْعَبَّاس الريفي صَاحب طنجة يفتل للعبيد فِي الذرْوَة وَالْغَارِب إِلَى أَن بَايعُوهُ ثَانِيَة بعد أَخِيه الْمولى زين العابدين وَبعد خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله مُرَاجعَة العبيد طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله ودخولهم فِي دَعوته قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله كَانَ مُقيما فِي هَذِه الْمدَّة عِنْد البربر وَأَنه تبع الْمولى المستضيء عِنْد خُرُوجه من مكناسة ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَلما بلغه خبر مسيره إِلَى مراكش سَار فِي اعتراضه إِلَى أَن بلغ قَصَبَة وَادي آلزم فَلم يقف لَهُ على خبر فَأَقَامَ يتجسس أخباره إِلَى أَن اتّفق العبيد على بيعَته وَهُوَ بآلزم فَبَايعُوهُ أَوَائِل سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة وَألف وَكَتَبُوا بيعتهم وبعثوا بهَا إِلَيْهِ مَعَ بعض خاصتهم وَكَتَبُوا مَعَ ذَلِك إِلَى أهل فاس والودايا فِي الْمُوَافقَة فوافقوهم وَبَايَعُوا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وخطبوا بِهِ على منابرهم وزينت فاس وَلما انْتهى الْحَال إِلَى هَذَا الْحَد فر الْوَزير أَبُو الْحسن عَليّ العميري من مكناسة إِذْ كَانَ وَزِير الْمولى المستضيء واحترم أَخُوهُ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم العميري بضريح بعض صلحاء مكناسة وَبعث أهل فاس جمَاعَة من أَشْرَافهم وعلمائهم ببيعتهم إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَمَعَهُمْ جمَاعَة من التُّجَّار وحجاج الركب الْحِجَازِي بهداياهم هَذَا كُله وَالسُّلْطَان لَا زَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 مُقيما بقصبة آلزم وَتَوَلَّى العبيد بمكناسة النَّقْض والإبرام لتأخر مَجِيء السُّلْطَان وَظهر مِنْهُم الإدلال والاستبداد على الدولة وبعثوا من قبلهم الْقَائِد أَبَا مُحَمَّد عبد الله الحمري واليا على فاس وَقَالُوا عَن أَمر الدِّيوَان وَكثر القطاع بالطرقات واللصوص بِالْمَدِينَةِ وعادت هيف إِلَى أديانها مَجِيء السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى مكناسة وَمَا ارْتَكَبهُ من أَهلهَا وَفِي خَامِس عشر رَجَب سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة وَألف تحرّك السُّلْطَان الْمولى عبد الله من آلزم وَقدم مكناسة فَقبض على قاضيها الْفَقِيه أبي الْقَاسِم العميري وَالسَّيِّد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الشدادي وَالْعَبَّاس بن رحال والفقيه المليتي وأزال عمائمهم وَفَضَحَهُمْ وَقَالَ لَهُم كَيفَ تزوجون حرمي من أخي وَأَنا حَيّ وَنكل بهم النكال الشَّديد ثمَّ أَمر بسحبهم إِلَى السجْن وَأعْطى دَار القَاضِي العميري أحد العبيد وَقَالَ لَهُم من أَرَادَ مِنْكُم دَارا بمكناسة فليأخذها فامتدت أَيدي العبيد فِي النَّاس حَتَّى صَارُوا يقفون بالأبواب وَيَقُول العَبْد لصَاحب الدَّار إِن سَيِّدي قد أَعْطَانِي دَارك أَو أَعْطَانِي ابْنَتك فيفتدي مِنْهُ بِالْمَالِ ولحقهم من العبيد فَوق مَا يُوصف وَمن شكى مِنْهُم عُوقِبَ وسجن وَالسُّلْطَان مُقيم بِبَاب الرّيح لم يدْخل القصبة الَّتِي كَانَ بهَا الْمولى المستضيء وَولى فِي هَذِه الْمدَّة على فاس شيخ الركب الْحَاج عبد الْخَالِق عديل وَولى على قَضَائهَا الْفَقِيه أَبَا يَعْقُوب يُوسُف بن أبي عنان وَتقدم إِلَيْهِ فِي أَن يعْزل الْقُضَاة والخطباء الَّذين خطبوا بالمولى المستضيء فِي سَائِر الْبلدَانِ وَأما الودايا فَإِنَّهُ لم يقدم على الْمولى عبد الله مِنْهُم أحد وَلَا بَايعُوهُ وَكَذَا الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي وَأهل الرِّيف والفحص وقبائل الْجَبَل فَاغْتَمَّ الْمولى عبد الله لذَلِك ثمَّ شفعت الْحرَّة خناثى أم السُّلْطَان فِي قَومهَا الودايا وَبعثت إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم فقبلهم وَعَفا عَنْهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 مَجِيء السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مراكش إِلَى الْقصر ثمَّ مسيره إِلَى فاس وحصاره إِيَّاهَا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش وَكَانَ العبيد قد ندموا على مَا فرط مِنْهُم برباط الْفَتْح من التَّخَلُّف عَن السُّلْطَان وَنهب أثاثه حَسْبَمَا مر فَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ من مكناسة مثنى وفرادى حَتَّى اجْتمع عِنْده جلهم لَا سِيمَا من كَانَ مِنْهُم مَعْرُوفا بِعَيْنِه مثل القواد وأرباب الْوَظَائِف وَلما بلغه مَا كَانَ من بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد تربص قَلِيلا حَتَّى إِذا بلغه خُرُوجه إِلَى المراسي قلق وَخرج من مراكش فِي جَيش العبيد وَبَعض قبائل الْحَوْز يبادره إِلَيْهَا وَلما وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح عبر إِلَى سلا وَنزل بِرَأْس المَاء وَلما حضرت الْجُمُعَة دخل الْمَدِينَة فصلى بالجامع الْأَعْظَم مِنْهَا وَدخل دَار الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الله معنينو من أَعْيَان أهل سلا واستصحب مَعَه الْفَقِيه الْمُؤَقت أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي من أهل سلا أَيْضا بِقصد الْقيام بوظيفة التَّوْقِيت وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى قصر كتامة أَتَاهُ الْخَبَر بِدُخُول الْمولى إِبْرَاهِيم إِلَى تطاوين فَأَقَامَ هُنَالك وَكتب إِلَى الودايا وَإِلَى من بَقِي بمكناسة يحضهم على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَكتب إِلَى وَلَده الْمولى الطّيب بفاس الْجَدِيد يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالفقيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد أكنسوس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش قَالَ أكنسوس فقدمنا على السُّلْطَان بريصانة على مرحلَتَيْنِ من الْقصر قَاصِدا تطاوين ومحاصرة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد بهَا قَالَ فورد عَلَيْهِ كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي عبد الله الْعَرَبِيّ السعيدي صَاحب طنجة بوفاة الْمولى إِبْرَاهِيم وبيعة أَخِيه الْمولى السعيد وَأَنَّهُمْ قد عَادوا بِهِ إِلَى فاس وَلما تحقق بذلك رَجَعَ على طَرِيق الْقصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إِلَيْهَا فوافياها فِي يَوْم وَاحِد فَنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو وَدخل السُّلْطَان دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد مَعَ الودايا وَلما كَانَ فجر الْغَد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أغارت خيل الودايا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره ثَانِيَة إِلَى البربر لما كَانَ شهر ربيع الأول من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع بِهِ فنذرت بذلك أمه الْحرَّة خناثى بنت بكار ففرت من مكناسة إِلَى فاس الْجَدِيد وَمن الْغَد تبعها ابْنهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَنزل بِرَأْس المَاء فَخرج إِلَيْهِ الودايا وَأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا لَهُ فاستعطفهم السُّلْطَان وَقَالَ لَهُم أَنْتُم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وَأُرِيد مِنْكُم أَن تَكُونُوا معي على كلمة وَاحِدَة وعاهدهم وَعَاهَدُوهُ وَرَجَعُوا وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه أَن أَحْمد بن عَليّ الريفي قد كَاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه وَاتفقَ مَعَهم على خلع السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعة أَخِيه الْمولى زين العابدين وَكَانَ يَوْمئِذٍ عِنْده بطنجة وَأَنَّهُمْ وافقوه فَوَجَمَ لَهَا السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ استعجل أَمر الْمولى زين العابدين ففر الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد البربر كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ زين العابدين بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله كَانَ ابْتِدَاء أَمر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين أَنه قدم مكناسة فِي أَيَّام أَخِيه الْمولى المستضيء فَلَمَّا سمع بِهِ أَمر بسجنه قبل أَن يجْتَمع بِهِ فسجن مُدَّة ثمَّ أَمر يَوْمًا بِإِخْرَاجِهِ وضربه فَضرب وَهُوَ فِي قَيده ضربا وجيعا أشرف مِنْهُ على الْمَوْت كَمَا مر وَمَعَ ذَلِك فَلم ينْطق بِكَلِمَة ثمَّ رده إِلَى السجْن ثمَّ أَمر ببعثه مُقَيّدا إِلَى سجلماسة كي يسجن بهَا مَعَ بعض الْأَشْرَاف المسجونين هُنَالك فَلَمَّا سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من صفرو إِلَى فاس وَمن هُنَالك بعثوا بِهِ إِلَى الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الكعيدي ببني يازغة وأمروه أَن يحْتَفظ بِهِ مكرما مبجلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 ثمَّ لما فر الْمولى المستضيء عَن مكناسة وراجع العبيد طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله دخل الْمولى زين العابدين مَدِينَة فاس فاطمأن بهَا وسر بِولَايَة الْمولى عبد الله وخلع الْمولى المستضيء ثمَّ ذهب إِلَى مكناسة وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَقدم على صَاحبهَا الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي فَأكْرم وفادته وَأحسن مثواه وَاسْتمرّ مُقيما عِنْده إِلَى أَن كَاتب عبيد الدِّيوَان فِي شَأْنه ووافقوه فِي بيعَته فَبَايعهُ الباشا أَحْمد وَبَايَعَهُ أهل طنجة وتطاوين والفحص وَالْجِبَال وخطبوا بِهِ على منابرهم ثمَّ هيأ لَهُ الباشا أَحْمد كَتِيبَة من الْخَيل من عبيد الدِّيوَان وَغَيرهم وبعثهم مَعَه إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا فِي ربيع سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف وبويع بهَا الْبيعَة الْعَامَّة وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل والأمصار فقابلهم بِمَا يجب وَتمّ أمره وفر السُّلْطَان الْمولى عبد الله من رَأس المَاء وَدخل بِلَاد البربر وَلم يقدم على الْمولى زين العابدين أحد من الودايا وَلَا من أهل فاس وَكَانَ فِيهِ أَنَاة وحلم لم يظْهر مِنْهُ عسف وَلَا امتدت يَده إِلَى مَال أحد إِلَّا أَنه لقلَّة ذَات يَده نقص العبيد من راتبهم فَكَانَ ذَلِك سَبَب انحرافهم عَنهُ كَمَا سَيَأْتِي بَقِيَّة أَخْبَار الْمولى زين العابدين وانقراض أمره لما اسْتَقر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين بِحَضْرَة مكناسة وَتمّ أمره أَقَامَ بهَا نَحْو الشَّهْرَيْنِ ثمَّ تهَيَّأ لغزو الودايا وَأهل فاس الَّذين تخلفوا عَن بيعَته فَنَهَضَ إِلَيْهِم فِي جَيش العبيد منتصف جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما بَات جيشهم بسيدي عميرَة بِقصد حِصَار فاس اخْتلفت كلمة العبيد وَمن الْغَد قوضوا أبنيتهم وَارْتَحَلُوا إِلَى مكناسة وَكفى الله الودايا وَأهل فاس شرهم إِلَّا أَنهم حرقوا بيادر الزَّرْع الَّتِي كَانَت للودايا بالخميس وَلما وصلوا إِلَى مكناسة نهبوا ثمار جناتها وأفسدوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ مِنْهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 وَانْصَرف جمهورهم إِلَى مشرع الرملة وَالَّذين دخلُوا مكناسة مَعَ السُّلْطَان طالبوه فِي الرَّاتِب وشددوا فِي اقتضائه فَلم يكن عِنْده مَا يرضيهم بِهِ فشغبوا عَلَيْهِ ومرضوا فِي طَاعَته هَذَا وَالسُّلْطَان الْمولى عبد الله مُقيم بجبال البربر مطل على الحضرة ومتحفز للوثبة فَلَمَّا علم بِمَا الْمولى زين العابدين فِيهِ من الِاضْطِرَاب نزل من الْجَبَل وَتقدم حَتَّى دخل فاسا الْجَدِيد وَذَلِكَ فِي سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة فَلَقِيَهُ الودايا وَأهل فاس واهتزوا لمقدمه وطاروا بِهِ سُرُورًا ثمَّ خرج من يَوْمه إِلَى دَار الدبيبغ فاحتل بهَا وَلما اتَّصل خَبره بأَخيه الْمولى زين العابدين ضَاقَ ذرعه وخشعت نَفسه وَأصْبح غاديا من مكناسة إِلَى حَيْثُ يَأْمَن على نَفسه معرضًا عَن الْملك وأسبابه فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة لأمير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله رَحمَه الله لما فر السُّلْطَان الْمولى زين العابدين عَن مكناسة اجْتمع العبيد وَاتَّفَقُوا على أَن يراجعوا طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فبعثوا طَائِفَة من قوادهم ووجهوها إِلَيْهِ فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ بدار الدبيبغ فحيوه وَأَخْبرُوهُ بِأَن إخْوَانهمْ قد خلعوا الْمولى زين العابدين وَبَايَعُوهُ فسر الْمولى عبد الله بقدومهم وَخرج الودايا إِلَى العبيد فاختلطوا بهم وسروا بمقدمهم وأجروا الْخَيل فِي ميدان الْمُسَابقَة واللعب بالبارود وزينت مَدِينَة فاس وجددت الْبيعَة الْعَامَّة من الودايا وَأهل فاس وقبائل الْعَرَب والبربر وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من السّنة فَكَانَ مَا نذكرهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 مَجِيء الْمولى المستضيء من مراكش ومحاربته لِأَخِيهِ الْمولى عبد الله وَمَا يتبع ذَلِك لما اجْتمعت كلمة العبيد والودايا وَسَائِر أهل بِلَاد الغرب على طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله أَقَامَ رَحمَه الله بدار الدبيبغ وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَألف فارتاب العبيد بمقامه هُنَالك ورفضه الْمقَام بَين أظهرهم بمكناسة الَّتِي هِيَ دَار الْملك يَوْمئِذٍ فقلبوا لَهُ ظهر الْمِجَن على عَادَتهم واستدعوا الْمولى المستضيء من مراكش ليبايعوه واتصل خبرهم بالمولى عبد الله وَأَنَّهُمْ قد بعثوا الْخَيل إِلَى الْمولى المستضيء لتأتي بِهِ فَأخذ السُّلْطَان من ذَلِك المقعد الْمُقِيم وشمر عَن ساعد الْجد وَأخذ فِي تأليف قبائل الْعَرَب والبربر وَوصل يَد بَعضهم بِبَعْض ثمَّ ألف بَينهم وَبَين الودايا وَأهل فاس وآخى بَين الْجَمِيع فَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم بِأَنَّهُم يموتون دونه فتم لَهُ مِنْهُم مَا أَرَادَهُ وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم الْحَاج أَحْمد السُّوسِي من مراكش وَدخل فاسا فَتحدث عَنهُ بِأَنَّهُ قد دس إِلَى أهل فاس فِي مُرَاجعَة طَاعَة الْمولى المستضيء والتمسك بدعوته ونمى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَأمر بقتْله فَقتل ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف فَفِي الْمحرم مِنْهَا زحف الْمولى المستضيء من مراكش إِلَى بِلَاد الغرب وَدخل مكناسة فِي جَيش العبيد وَبني حسن وَغَيرهم وَقدم فِي ركابه الْوَزير أَبُو الْحسن العميري وَأَخُوهُ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم وَفِي آخر الْمحرم الْمَذْكُور ورد كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي الْعَبَّاس أَحْمد الريفي إِلَى أهل فاس يَدعُوهُم إِلَى بيعَة مخدومه الْمولى المستضيء وَالدُّخُول فِي طَاعَته فصموا عَن ذَلِك ونبذوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 وَفِي ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة زحف الْمولى المستضيء فِي جَيش العبيد إِلَى فاس وعسكر بِظهْر الزاوية خَارِجهَا ففر السُّلْطَان الْمولى عبد الله من دَار الدبيبغ إِلَى آيت دارسن وَمن الْغَد هَاجَتْ الْحَرْب بَين العبيد وَبَين الودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَهلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ عدد كثير وَفِي رَابِع ربيع الثَّانِي قدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله يجر أُمَم البربر خَلفه من زمور وَبني حكم وجروان وآيت آدراسن وآيت ومالو فِي عدد لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم وَفِي شارة من اللبَاس وشكة من السِّلَاح تسر الصّديق وتسوء الْعَدو وَلما عاين الْمولى المستضيء وعبيده تِلْكَ الجموع وَعَلمُوا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم بِحَرْبِهِمْ اتَّخذُوا اللَّيْل جملا وأسروا إِلَى مأمنهم ونجوا بِأَنْفسِهِم واصبحت الديار مِنْهُم بَلَاقِع فسر النَّاس بذلك وشكروا الله على انفضاض تِلْكَ الجموع بِلَا قتال وَفِي سادس جُمَادَى الأولى من السّنة توفيت أم السُّلْطَان الْحرَّة خناثى بنت بكار المغفرية رَحمهَا الله وَكَانَت فقيهة أديبة ودفنت بقبور الْأَشْرَاف من فاس الْجَدِيد وَفِي جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا حدثت فتْنَة بفاس بَين الْحَاج عبد الْخَالِق عديل والشريف الْمولى أبي عبد الله مُحَمَّد الغالي الإدريسي فَشَكَاهُ عديل إِلَى السُّلْطَان فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فعاذ الشريف بضريح جده رَضِي الله عَنهُ فألزم السُّلْطَان أهل فاس إِخْرَاجه فضيقوا عَلَيْهِ إِلَى أَن طلب الْأمان فأمنوه وساقوه إِلَى السُّلْطَان فوبخه ثمَّ ضربه وسجنه ثمَّ أَمر أهل فاس بقتل أَصْحَابه فَقَتَلُوهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 هَدِيَّة السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله إِلَى الْحرم النَّبَوِيّ على مشرفه أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَة وَألف سَافر الركب المغربي إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين فَبعث مَعَه أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله رَحمَه الله هَدِيَّة نفيسة فِيهَا ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ مُصحفا بَين كَبِير وصغير محلاة بِالذَّهَب مرصعة بالدر والياقوت وَمن جُمْلَتهَا الْمُصحف الْكَبِير العقباني الَّذِي كَانَ الْمُلُوك يتوارثونه بعد الْمُصحف العثماني الَّذِي كَانَ عِنْد بني أُميَّة بالأندلس وانتقل إِلَى هَذِه العدوة المغربية على يَد عبد الْمُؤمن بن عَليّ حَسْبَمَا مر الْكَلَام عَلَيْهِ مُسْتَوفى وَأما هَذَا الْمُصحف العقباني فَهُوَ مصحف عقبَة بن نَافِع الفِهري الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور فاتح الْمغرب كَانَ نسخه بالقيروان من الْمُصحف العثماني على مَا قيل وَبَقِي متداولا بَين أهل الْمغرب إِلَى أَن وَقع بيد الْأَشْرَاف السعديين وَأخذ فِيهِ الْمَنْصُور مِنْهُم الْعَهْد لوَلَده الشَّيْخ على إخْوَته كَمَا مر وَلما وصل إِلَى هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله غربه من الْمغرب إِلَى الْحرم الشريف فَعَاد بِهِ الدّرّ إِلَى وَطنه والإبريز إِلَى معدنه قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله المسناوي رَحمَه الله قد وقفت على هَذَا الْمُصحف حِين أَمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله بِإِخْرَاجِهِ وَبَعثه إِلَى الْحُجْرَة الشَّرِيفَة فَظهر لي أَن تَارِيخ كتبه بالقيروان فِيهِ نظر لبعد مَا بَينهمَا اه وَبعث السُّلْطَان رَحمَه الله مَعَه أَلفَيْنِ وَسَبْعمائة حَصَاة من الْيَاقُوت الْمُخْتَلف الألوان للحجرة النَّبَوِيَّة على الْحَال بهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى التَّحِيَّة وَتقبل الله من السُّلْطَان عمله وأجزل ثَوَابه آمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 مشايعة الباشا أبي الْعَبَّاس الريفي للْمولى المستضيء على الْمولى عبد الله وزحفه إِلَى فاس وَمَا يتَّصل بذلك لما دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف أقبل الباشا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن عَليّ الريفي فِي جموع الفحص والجبل والريف قَاصِدا فاسا وأعمالها حَتَّى نزل بالعسال من مزارع فاس وَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْمحرم مِنْهَا وراود أهل فاس على الانحراف عَن طَاعَة مولَايَ عبد الله فَأَبَوا وَأَقْبل الْمولى المستضيء فِي جموع العبيد وَعَلَيْهِم الْقَائِد فاتح بن النويني حَتَّى نزل قَرِيبا مِنْهُ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر وَلما زحف هَذَانِ الجيشان إِلَى فاس اضْطَرَبَتْ نَوَاحِيهَا ودهش النَّاس من هول هَذَا الريفي لِأَنَّهُ جَاءَ فِي استعداد لم يعْهَد مثله وأرز الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع إِلَى أسوار فاس وَنزلت حللهم داخلها وخارجها وبعثروا مزارعها وجناتها وانتهبوا مواشيها وَهلك الْكثير مِنْهَا جوعا وهزالا وَمَاجَتْ الْفِتْنَة موج الْبَحْر وَارْتَفَعت الأسعار وَلَقي النَّاس كل شدَّة وَفِي كل صباح وَمَسَاء ترْعد المدافع وتقرع الطبول بمحلتي الْمولى المستضيء والريفي فاستعد النَّاس للحرب وَركب السُّلْطَان الْمولى عبد الله من دَار الدبيبغ فِي نَحْو عشرَة من الْخَيل وأسرع إِلَى آيت أدراسن وهم بسهب عشار فَدخل حلَّة عبد الله بن يشي مِنْهُم وقلب سَرْجه وسط جموعهم فالتف عَلَيْهِ من حضر مِنْهُم وَقَالُوا مَا الَّذِي نَاب مَوْلَانَا فَقَالَ جِئتُكُمْ لتنصروني على هَذَا الْجبلي الَّذِي كَانَ خديمنا وعبدنا وأطغاه مَا جمع من المَال فِي خدمتنا ثمَّ أَرَادَ أَن يفضحنا وجرأه علينا أخوانا المستضيء وَأَرَادَ الِاسْتِيلَاء على بِلَادنَا وَهِي فِي الْحَقِيقَة بِلَادكُمْ وَمَا قصد إِلَّا إهانتكم وَأَنْتُم أَحَق من ينصر أهل الْبَيْت وَلَا يتَحَمَّل الْعَار وَعَلَيْكُم السَّلَام ثمَّ ركب فرسه وَرجع عوده على بدئه فَلم يبت إِلَّا بدار الدبيبغ وَمن الْغَد زحف أَحْمد الريفي إِلَّا بِلَاد الحياينة ظنا مِنْهُ أَنهم لَا زَالُوا مقيمين بهَا فَلَمَّا لم يجد بهَا أحدا رَجَعَ إِلَى مَحَله الَّذِي كَانَ بِهِ وَمن الْغَد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 كَانَت حَرْب خَفِيفَة بَينه وَبَين الودايا وَمن لافهم من الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع ثمَّ من الْغَد ركب أَحْمد الريفي فِي رماته وَتقدم حَتَّى وقف على كُدَيْنَة تامزيزت فَوق القنطرة وعبرت جموعه لارورات ثمَّ عبر الْمولى المستضيء فِي جموع العبيد وخلفوا رماتهم ومدافعهم وأثقالهم بالمحلة وَكتب الْمولى المستضيء كتائبه وصف جُنُوده بذلك الْبَسِيط وزحف الودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَجَاءَت البربر بجموعها فأشرفوا عَلَيْهِم بِالْعينِ المقبوة إِلَى دَار ابْن عَمْرو وَلما وَقعت عينهم على جموع الْمولى المستضيء ووزيره الريفي بذلك الْبَسِيط صاحوا بهم وشدوا عَلَيْهِم شدَّة رجل وَاحِد فَكَانَت الْهَزِيمَة واستحر فيهم الْقَتْل وَالسَّلب وازدحموا فِي القنطرة وتساقطوا فِي الْوَادي فَهَلَك الْكثير مِنْهُم والبربر فِي أَثَرهم يقتلُون ويسلبون وَأما الريفي فَإِنَّهُ لما رأى الْهَزِيمَة عَلَيْهِ لم يزدْ على أَن ركب فرسه وَنَجَا بِرَأْس طمرة ولجام على الْحَالة الَّتِي وصفهَا أَبُو الطّيب إِذْ قَالَ (لَا يَأْمَن النَّفس الْأَقْصَى فيدركه ... فيسرق النَّفس الْأَدْنَى ويغتنم) وَلم يعرج هَؤُلَاءِ وَلَا أحد من المنهزمة على الْمحلة حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا البربر فتركوا اتِّبَاع المنهزمة وَاشْتَغلُوا بنهبها فَأتوا على مَا فِيهَا من الأخبية والكراع والأثاث الفاخر وَلم يتْركُوا بهَا إِلَّا المدافع والمهاريس وآلتها من كور وبنب وبارود فَإِن الْقَائِد أَبَا عزة صَاحب الشربيل وقف على ذَلِك حَتَّى حازه وَعَاد النَّاس وَقد امْتَلَأت أَيْديهم من الْغَنَائِم فَلَقِيَهُمْ طوائف من البربر لم يَكُونُوا قد شهدُوا الْوَقْعَة فاستلبوا مَا بِأَيْدِيهِم قَالَ صَاحب الْبُسْتَان حَدثنِي السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله عَن هَذِه الْوَقْعَة وَكَانَ قد شَهِدَهَا وَهُوَ فِي سنّ الْبلُوغ قَالَ بَعَثَنِي وَالِدي مَعَ أخوالنا الودايا فَلَمَّا هبت ريَاح النَّصْر وَانْهَزَمَ الْعَدو فِي سَاعَة وَاحِدَة وَكنت يَوْمئِذٍ فِي خمسين فَارِسًا بَين ودايا وَأَصْحَاب تقدمنا إِلَى الْمحلة فوقفنا على قبَّة الباشا أَحْمد وأحرزناها ثمَّ أمرت الحمارة فحملوا لنا من صناديق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 الريال على عشْرين بغلة وَمن الملف والكتان على ثَلَاثِينَ جملا لعرب بداوة أَصْحَاب الْإِبِل وحملوا لنا قبتين إِحْدَاهمَا لِأَحْمَد الريفي وَالْأُخْرَى أظنها للْمولى المستضيء وَأما الْعَرَب والبربر والودايا وَأهل فاس فقد أخذت كل طَائِفَة بِنَاحِيَة تحمل مَا قدرت عَلَيْهِ ثمَّ لما انفصلنا عَن الْمحلة قافلين لقيتنا كتائب من البربر الَّذين لم يحضروا الْوَقْعَة وبنفس مَا خالطونا طاروا بِمَا فِي أَيْدِينَا حَتَّى لم ندر أَيْن البغال وَلَا الْإِبِل وَانْفَرَدَ بِكُل بغلة وجمل جمَاعَة من الْخَيل خَمْسُونَ أوستون أَو أَكثر وَلم يجْتَمع منا اثْنَان وعدنا كَمَا جِئْنَا وَهَكَذَا وَقع لكل من انتهب شَيْئا من حزبنا إِلَّا من دخل مَعَ البربر فِي حصتهم وَلما فرغ النَّاس من النهب اشْتغل عبيد السُّلْطَان بِجمع الرؤوس فَكَانَ عَددهَا مَا بَين أَبيض وأسود نَحْو التسْعمائَة فِيهَا رَأس الباشا فاتح بن النويني ثمَّ بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله البغال لجر تِلْكَ المدافع والمهاريس وَحمل الكور والبنب فسيق ذَلِك كُله إِلَى دَار الدبيبغ ثمَّ بعث بغالا أُخْرَى لحمل البارود وَكَانَ ثَلَاثمِائَة برميل فِي كل وَاحِد قِنْطَار من البارود الْجيد فَأدْخل ذَلِك كُله لخزين فاس قَالَ السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حَدِيثه وَكَانَ هَذَا أول بعث بَعَثَنِي فِيهِ وَالِدي وَأول حَرْب شهدتها وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي سنّ الْبلُوغ وَكَانَ لي ولوع باللعب بِالرُّمْحِ والمطاعنة بِهِ إِلَى أَن مهرت فِيهِ اه كَلَامه وَلما اجتاز المنهزمة بجبل الزَّبِيب اعْتَرَضَهُمْ أَهله وقاتلوهم فَقتلُوا فِي جُمْلَتهمْ سَيِّدي مُحَمَّد بن المستضيء يَظُنُّونَهُ من أهل الرِّيف ثمَّ خلص الريفي وَأَصْحَابه إِلَى طنجة بعد غصب الرِّيق وَكَانَ أَمر هَذِه الْوَقْعَة فتحا عَظِيما على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله وشيعته قَالَ فِي نشر المثاني فراجع طَائِفَة من العبيد طَاعَة مولَايَ عبد الله وجاءته قبائل الْمغرب بالهدايا من كل نَاحيَة فتألفهم وألان لَهُم القَوْل وَأمر العبيد بِالْمَسِيرِ إِلَى طنجة لِحَرْب الريفي فَسَارُوا ثمَّ رجعُوا وَلم يلْقوا كيدا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 معاودة أَحْمد الريفي غَزْو فاس وَمَا كَانَ من أمره مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى حِين مَقْتَله لما وصل أَحْمد الريفي إِلَى طنجة أَخذ فِي إخلاف مَا ضَاعَ لَهُ ولقومه من خيل وَسلَاح وأخبية وَنَحْوهَا وجدد لجيش العبيد من ذَلِك مَا جدده لأهل الرِّيف وَأخذ فِي الاستعداد لمعاودة غَزْو فاس وَأقسم أَن لَا يَأْكُل لَحْمًا وَلَا يشرب لَبَنًا حَتَّى يدْخل فاسا وينهبها كَمَا انتهبوا محلته وَبعث إِلَى سُلْطَانه الْمولى المستضيء بِمِائَتي فرس ومائتي خباء وَألف مكحلة وَخمسين ألف مِثْقَال يفرقها على العبيد يتقوون بهَا وَضرب لَهُ موعدا يَجْتَمعُونَ فِيهِ على حَرْب السُّلْطَان الْمولى عبد الله وشيعته من الودايا وَأهل فاس فَكَانَ أَمر الريفي فِيمَا أنفقهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ} الْأَنْفَال 36 وَلما كَانَ شهر جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف خرج أَحْمد الريفي من طنجة قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي أكمل شكة وَأحسن استعداد وَلما انْتهى خَبره إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله لم يَسعهُ التَّخَلُّف عَن لِقَائِه فَكتب إِلَى عرب الحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وَكتب إِلَى عرب الغرب من سُفْيَان وَبني مَالك وَسَائِر شيعته يستنفرهم ويحضهم على نصرته وَفرق الرَّاتِب على العبيد والودايا وزرارة وَأخرج أهل فاس بَعثهمْ الَّذِي عينوه على الْعَادة وَكتب السُّلْطَان إِلَى آيت أدراسن وجروان يُخْبِرهُمْ بعزمه على مصادمة الريفي وَجمعه وَيَقُول لَهُم إِن أردتم المَال وَالْغنيمَة فتأهبوا للنهوض إِلَى طنجة فخف نَاس مِنْهُم وَقدم عَلَيْهِم مِنْهُم أَلفَانِ من الْخَيل وَأكْثر مِنْهَا رُمَاة ثمَّ خرج السُّلْطَان من فاس أَوَاخِر جُمَادَى الأولى وَنزل على وَادي سبو وَأقَام بِهِ إِلَى أَن عرض عساكره ورتبها فَجعل رُمَاة عبيده ورماة أهل فاس رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم للقائد أبي عزة صَاحب الشربيل وَجعل الودايا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وزرارة وَأهل السوس خيلهم ورماتهم رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم لحاجبه الْقَائِد عبد الْوَهَّاب اليموري وَسَار على هَذِه التعبية فَلَقِيَهُ شراقة وَأَوْلَاد جَامع وَأَوْلَاد عِيسَى فجعلهم رحى وَاحِدَة وَعقد عَلَيْهِم للشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى الشَّرْقِي وَلما عبر وَادي ورغة لقِيه أهل الغرب فِي جموعهم ينتظرونه هُنَالك فَبَاتُوا مَعَه تِلْكَ اللَّيْلَة بِعَين قرواش وَمن الْغَد جعل بني مَالك فِي رحى وعقدهم عَلَيْهِم لقائدهم أبي سلهام الجمادي وَجعل سُفْيَان فِي رحى وَعقد عَلَيْهِم لقائدهم عبد الله السفياني وَسَار على هَذِه التعبية فِي ظلّ النَّصْر والسعادة وَأما الْمولى المستضيء فِي العبيد وَبني حسن فَإِنَّهُ لما بلغه نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله من فاس خَالفه إِلَى مكناسة دَار الْملك فَدَخلَهَا على حِين غَفلَة من أَهلهَا وعاث وانتهب وَفعل فِيهَا بَنو حسن الأفاعيل من سبي النِّسَاء والذرية وَغير ذَلِك ثمَّ تدارك أهل مكناسة أَمرهم وتجمعوا لِحَرْب عدوهم فَقَاتلُوا بني حسن فِي وسط الْمَدِينَة وردوهم على أَعْقَابهم وَقتلُوا مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وَرَجَعُوا منهزمين وَأما أَحْمد الريفي فَإِنَّهُ زحف إِلَى الْقصر فِي جموع لَا تحصى من أهل الرِّيف والفحص والجبل وَأهل العرائش وَالْقصر والخلط وطليق وبداوة وَغَيرهم وَأقَام ينْتَظر سُلْطَانه الْمولى المستضيء وَجمعه وَلما أَبْطَأَ عَلَيْهِ واتصل بِهِ خبر زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَيْهِ ارتحل من الْقصر عَامِدًا نَحوه فَالتقى الْجَمْعَانِ عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم بدار الْعَبَّاس على وَادي لكس وَقَالَ فِي نشر المثاني كَانَ اللِّقَاء بالموضع الْمُسَمّى بالمنزه من أحواز الْقصر فِي رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ هم جَيش السُّلْطَان الْمولى عبد الله بالنزول فَقَالَ السُّلْطَان رَحمَه الله لَا نزُول إِلَّا على الْغَنِيمَة أَو الْهَزِيمَة ثمَّ عبر إِلَيْهِم فِي جُنُوده وأعجلهم على النُّزُول وصمد إِلَيْهِم فِي كَتِيبَة من أَخْوَاله وعبيده فخالط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 مقدمتهم ففضها وَكَانَ فِيهَا أهل الفحص وبداوة وطليق والخلط ثمَّ ظَهرت كَتِيبَة أهل الرِّيف الَّتِي فِيهَا قلب الْعَسْكَر وَحده وفيهَا الباشا أَحْمد بن عَليّ فَحمل عَلَيْهَا السُّلْطَان حَملَة ثَانِيَة ألحقها بالمقدمة وتقوضت جموع الريفي من كل جَانب وانهزموا للحين ومروا على وُجُوههم لَا يلوي حميم على حميم وَمضى جَيش السُّلْطَان فِي أَثَرهم يقتلُون ويسلبون إِلَى أَن جنهم اللَّيْل وَقتل الريفي فِي المعركة وَبقيت الْأَبْنِيَة والأثقال بيد السُّلْطَان كَمَا هِيَ فَنزل بهَا بدار الْعَبَّاس وعادت العساكر مسَاء بالغنائم وبرأس الباشا أَحْمد بن عَليّ الريفي عرفه بَعضهم بَين الْقَتْلَى فأزال رَأسه وأتى بِهِ السُّلْطَان فسر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى فاس فعلق بِبَاب المحروق وانقضى أمل أَحْمد الريفي وَذَهَبت أَيَّامه و {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} الرَّحْمَن 26 وَقد خلف هَذَا الريفي آثارا كَثِيرَة بطنجة وتطاوين وأعمالها من أبنية وَغَيرهَا تشهد بعلو همته رَحمَه الله زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى طنجة واستيلاؤه عَلَيْهَا لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله من أَمر الريفي أصبح غاديا يؤم طنجة وَلما شارفها خرج إِلَيْهِ رجالها يحملون الْمَصَاحِف على رؤوسهم وَالصبيان يحملون الألواح بَين أَيْديهم مستشفعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم إِلَّا من كَانَ من بطانة أَحْمد الريفي وَدخل السُّلْطَان طنجة وَاسْتولى عَلَيْهَا وَأمر بِالِاحْتِيَاطِ على دَار الريفي ومتاعه ثمَّ أَمر الخواجا عديلا فِي جمَاعَة من تجار فاس بإحصاء مَا بدار الريفي فَدَخَلُوهَا وتطوفوا خزائنها وَاسْتَخْرَجُوا مَا فِيهَا من مَال وَسلَاح وسروج وكسى وملف وكتان وفرش وخرثي وأثاث يفوق الْحصْر فأحصى ذَلِك كُله وأحصى العبيد وَالْإِمَاء وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَجَمِيع الْمَاشِيَة من إبل وبقر وغنم فجيء من ذَلِك بِشَيْء كثير فَأعْطى الْمَاشِيَة كلهَا للبربر ثمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 أطلق يَد الْجَيْش على الأمراس فانتشلوا مَا فِيهَا من قَمح وشعير فَأتوا عَلَيْهِ ثمَّ تتبع حَاشِيَة الريفي من عُمَّال وَكتاب وَغَيرهم مِمَّن كَانَ لَهُ بِهِ اتِّصَال فاستصفى مَا عِنْدهم من المَال والذخيرة إِلَى أَن استوفى غَرَضه وَكَانَ هَذَا الريفي قد رسخ مجده بطنجة وأعمالها وعظمت ثروته لامتداد الدولة لَهُ ولأبيه بهَا مُنْذُ الْفَتْح فَكَانَ ظفر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بخزائنه من بَاب الظفر بالكنوز القارونية وقدمت عَلَيْهِ فِي أثْنَاء ذَلِك وُفُود الْقَبَائِل الَّتِي هُنَالك فَعَفَا عَنْهُم وأمنهم وَأقَام رَحمَه الله بطنجة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وانقلب رَاجعا إِلَى فاس مؤيدا منصورا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق اعْتِرَاض الْمولى المستضيء للسُّلْطَان الْمولى عبد الله وعود الكرة عَلَيْهِ ومقتل بني حسن لما انهزم الْمولى المستضيء من مكناسة بعد إِيقَاعه بِأَهْلِهَا خرج إِلَى حلَّة بني حسن وَأقَام بَين أظهرهم فاتصل بِهِ خبر مقتل ناصره ووزيره على أمره أَحْمد الريفي ففت ذَلِك فِي عضده وهد أَرْكَانه ثمَّ لما بلغه فتح طنجة واستيلاء السُّلْطَان عَلَيْهَا اسْتَأْنف جده وأرهف حَده وَأخذ فِي تحريض العبيد وَبني حسن على تَجْدِيد الْبَعْث والنهوض لاعتراض أَخِيه السُّلْطَان الْمولى عبد الله مرجعه من طنجة فَخرج كَبِير بني حسن يَوْمئِذٍ وَهُوَ قَاسم أَبُو عريف يطوف فِي أحيائها ويستنفر جموعها وَخرج الْمولى المستضيء فِي لمة من وُجُوه العبيد إِلَى مشرع الرملة فَجهز بهَا عشرَة آلَاف فَارس من عبيده ووافاه قَاسم أَبُو عريف بِمِثْلِهَا من بني حسن فَكَانَ مَجْمُوع الجيشين عشْرين ألفا سوى من انضاف إِلَيْهِم ثمَّ سَارُوا لاعتراض السُّلْطَان وَلَا علم لَهُ بهم وَقدم الْمولى المستضيء أَمَامه الطَّلَائِع والعيون فعادوا إِلَيْهِ بِخَبَر السُّلْطَان وَأَنه بائت تِلْكَ اللَّيْلَة بدار الْعَبَّاس فصبحه الْمولى المستضيء فِي جموعه على حِين غَفلَة مِنْهُ فَلم يرع السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَّا نواصي الْخَيل مقبلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 إِلَيْهِ فعبأ جَيْشه على عجل وَأقَام الرُّمَاة حوالي الْمحلة ثمَّ صَمد إِلَيْهِم فِي الْخَيل وأنشب الْقِتَال فَلم تكن إِلَّا سَاعَة حَتَّى انهزم بَنو حسن وولوا الأدبار وَكَانُوا ميمنة الْجَيْش وَثَبت الْمولى المستضيء وَالْعَبِيد فِي الميسرة فصمد إِلَيْهِ السُّلْطَان وَصدقه الْقِتَال فَهبت ريح النَّصْر وتمت الْهَزِيمَة على الْمولى المستضيء وعبيده ومروا على وُجُوههم لَا يلوون على شَيْء فَجرد السُّلْطَان مَعَ الْقَائِد أبي عزة صَاحب الشربيل كَتِيبَة من الْخَيل فِي أَثَرهم وَتقدم إِلَيْهِم أَن لَا يقتلُوا أحدا من العبيد وَإِنَّمَا يجردونهم لَا غير فَلم يقتل أحدا من العبيد فِي هَذِه الْوَقْعَة واستحر الْقَتْل فِي بني حسن فَهَلَك مِنْهُم مَا ينيف على الْألف وانتهب مِنْهُم أَكثر من خَمْسَة آلَاف فرس وَمن السِّلَاح مثل ذَلِك وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي خضدت شَوْكَة بني حسن وفلت من غربهم ونجى الْمولى المستضيء فِي فَلهم وَأقَام بحلتهم ينْتَظر أَن تدول لَهُ دولة لأَنهم كَانُوا شيعته كَأَهل دكالة وَأهل مراكش وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر خَلِيفَته على مراكش كَمَا مر وقفل السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى فاس الْجَدِيد فاحتل بهَا وَفرق المَال على أَخْوَاله وعبيده وأسهم لأهل فاس وَأقَام بدار الدبيبغ إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف فَقدم عَلَيْهِ فِي شهر ربيع الثَّانِي مِنْهَا جمَاعَة من قواد العبيد تَائِبين خاضعين متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فعاتبهم وَقَالَ لَهُم لَا كَلَام الْيَوْم بيني وَبَيْنكُم حَتَّى أقطع دابر بني حسن وَمن مَعَهم من شيعَة المستضيء ثمَّ عَفا عَنْهُم وَأَعْطَاهُمْ الرَّاتِب وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ إِلَى مكناسة بِقصد غَزْو بني حسن فعادوا إِلَى مشرع الرملة عازمين على ذَلِك وَأخذ هُوَ فِي الاستعداد أَيْضا ونهض من فاس فِي جَيش العبيد والودايا وَأهل فاس والحياينة وشراقة وَأَوْلَاد جَامع وعرب الغرب وَلما انْتهى إِلَى مكناسة وافاه بهَا عبيد مشرع الرملة فِي وُجُوههم وَأهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم فجددوا التَّوْبَة واستأنفوا الْبيعَة بِمحضر الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء وأعطوا صَفْقَة الطَّاعَة من عِنْد آخِرهم وَالله غَالب على أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتدويخه إِيَّاهَا وإجفال الْمولى المستضيء عَنْهَا كَانَ الْمولى المستضيء فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما عِنْد بني حسن كَمَا قُلْنَا وَلما بَايع العبيد السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَاجْتمعت كلمتهم عَلَيْهِ خرج فِي طلبه وَطلب شيعته من بني حسن فسلك طَرِيق الْفَج ليحول بَين بني حسن والشعاب فصبحهم بسيط زبيدة وهم غَارونَ وَالْمولى المستضيء بَين أظهرهم فَلم يرعهم إِلَّا الْخَيل تجوس خلال بُيُوتهم وتسوق أنعامهم وشاءهم وتنتهب أثاثهم ومتاعهم فَانْفَضُّوا فِي كل وَجه وَتَفَرَّقُوا شذر مذر وأفلت الْمولى المستضيء رَحمَه الله بجريعة الذقن وتوزعت العساكر السَّبي وَجَاء بَنو حسن يهرعون إِلَى السُّلْطَان طَالِبين عَفوه فَأمر بالكف عَنْهُم ورد عَلَيْهِم سَبْيهمْ وَترك لَهُم خيلهم وَمضى إِلَى قبائل دكالة إِذْ اتَّصل بِهِ أَن الْمولى المستضيء قد فر إِلَيْهَا فَلَمَّا نزل قَصَبَة أبي الأعوان وَنزلت عساكره أَمَامه بذلك الْبَسِيط من دكالة فر أَهلهَا مَعَ الْمولى المستضيء إِلَى التلول ونزلوا قرب دمنات وشرعت عَسَاكِر السُّلْطَان فِي انتشال الْحُبُوب من الأمراس واستخراج الدفائن من الهميل وتخريب الْقرى وتقطيع الْأَشْجَار وَكلما فرغت من نَاحيَة انْتَقَلت إِلَى غَيرهَا متقلبة فِي ذَلِك الْبَسِيط نَحْو السّنة وَالسُّلْطَان مُقيم بالقصبة إِلَى أَن اكتسح أَرض دكالة وَتركهَا أنقى من الرَّاحَة لَيْسَ بهَا مَا يَأْكُلهُ الطَّائِر أَو يتظلل الحائر ثمَّ انْتقل إِلَى بِلَاد السراغنة وَلما توسطها قدمت عَلَيْهِ وفودها ووفود سَائِر قبائل تِلْكَ الْجبَال بمؤناتهم وهداياهم فقبلهم وَعَفا عَنْهُم ثمَّ انْتقل إِلَى نَاحيَة دمنات ففر أهل دكالة وَالْمولى المستضيء أَمَامه إِلَى جبال مسفيوة فَتَحَصَّنُوا بهَا وَكَانَت مسفيوة قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 بايعته وَدخلت فِي دَعوته فَتقدم السُّلْطَان الْمولى عبد الله حَتَّى نزل بوادي الزات فَقدمت عَلَيْهِ هُنَالك عرب الرحامنة وزمران وَسَائِر أهل الْحَوْز وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِطَاعَتِهِ فنزلوا مَعَه بالوادي الْمَذْكُور وعاثت العساكر فِي بِلَاد مسفيوة وأوسعوها نهبا وتخريبا وَالْحَرب فِي ذَلِك كُله قَائِمَة مَعَ الْمولى المستضيء على سَاق إِلَى أَن صَار وَادي الزات أخرب من جَوف حمَار ثمَّ انْتقل السُّلْطَان إِلَى وَادي كجي فعاثت فِيهِ العساكر على عَادَتهَا وَعجز أهل الدفاع فهدمت حصونهم وَحرقت قراهم وَقطعت أَشْجَارهم وَصَارَ وَادي كجي أوحش من وَادي الزات فطلبوا الْأمان وأعلنوا بِالطَّاعَةِ وجاؤوا مستشفعين بصبيانهم فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان على شَرط أَن تَأْتُوا بالمستضيء فَقَالُوا إِنَّه قد فر بالْأَمْس وَلَو كَانَ عندنَا لأتيناك بِهِ فقبلهم وَعَفا عَنْهُم ثمَّ جَاءَ أهل دكالة بنسائهم وذراريهم وَقَالُوا هَذِه نساؤنا وَأَوْلَادنَا لَك وَأما المَال فقد ذهب وَمَا عندنَا مَا نقتاته فافعل بِنَا مَا بدا لَك فَعَفَا عَنْهُم وَأذن لَهُم فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما دخلت سنة ثَمَان وَخمسين بعْدهَا ارتحل عَن بِلَاد مسفيوة وَنزل بقصبة آلصم بإشمام الصَّاد زايا وَبهَا قدم عَلَيْهِ وَفد من مراكش كَمَا يَأْتِي وَأما الْمولى المستضيء فَإِنَّهُ لما فر من مسفيوة قدم مراكش وحاول الدُّخُول إِلَيْهَا فصده أَهلهَا عَنْهَا ورفضوا دَعوته وأعلنوا بنصر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بمرأى مِنْهُ ومسمع فَلم يبْق لَهُ حِينَئِذٍ بمراكش مطمع وَكَانَ أَخُوهُ الْمولى النَّاصِر قد مَاتَ يَوْمئِذٍ فأخرجوا إِلَيْهِ أثاثه فتسلمه مِنْهُم وكر رَاجعا إِلَى بِلَاد الفحص فَلم يزل تلفظه أَرض إِلَى أَرض إِلَى أَن احتل بطنجة قانعا من الْغَيْبَة بسلامة المهجة وَسَيَأْتِي تَمام خَبره بعد إِن شَاءَ الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وفادة أهل مراكش على السُّلْطَان الْمولى عبد الله بآلصم واستخلافه وَلَده سَيِّدي مُحَمَّدًا عَلَيْهِم لما طرد أهل مراكش الْمولى المستضيء عَن بِلَادهمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَينهم وَأَجْمعُوا الدُّخُول فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وعينوا جمَاعَة من وُجُوههم وأوفدوها عَلَيْهِ وَهُوَ بقصبة آلصم فَانْتَهوا إِلَيْهِ وَقدمُوا بيعتهم وَأَخْبرُوهُ بِمَا كَانَ من الْمولى المستضيء وَمَا عاملوه بِهِ من الصد والإبعاد فقبلهم وَعَفا عَنْهُم بعد العتاب ثمَّ طلبُوا مِنْهُ هم وقبائل الْحَوْز أجمع أَن يطَأ بِلَادهمْ وَيدخل مصرهم فَوَعَدَهُمْ بذلك وَلم يبرح من مَكَانَهُ إِلَى أَن وفدت عَلَيْهِ قبائل الدَّيْر كُله فَلَمَّا تفقد الْجَيْش الَّذِي خرج بِهِ من مكناسة وجد أَكْثَره قد فر وَلم يبْق مَعَه من الْعَسْكَر المخزني إِلَّا النّصْف وَأما الْقَبَائِل فَلم يبْق مَعَهم مِنْهُ إِلَّا أعيانهم فِي الأخبية لطول الْغَيْبَة وَكَثْرَة الحروب وَقلة الزَّاد فَلم يُمكنهُ التَّقَدُّم إِلَى مراكش على تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا تألفهم بِأَن دفع لَهُم وَلَده الْمولى مُحَمَّدًا رَحمَه الله وَقَالَ لَهُم إِنِّي استخلفته عَلَيْكُم فرضوا بِهِ وقرت أَعينهم فَكَانَ ذَلِك أول مَا انغرست شَجَرَة الدولة العلوية بمراكش حَتَّى صَارَت حضرتها وَدَار ملكهَا بعد أَن كَانُوا لَا يَبْغُونَ بمكناسة بَدَلا ثمَّ بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى أَحْمد وَكَانَ أسن من الْمولى مُحَمَّد خَليفَة عَنهُ برباط الْفَتْح وأضاف إِلَيْهِ قبائل الشاوية وَبني حسن ثمَّ أذن السُّلْطَان لعامل فاس عبد الْخَالِق عديل فِي الرُّجُوع إِلَى فاس فَمَرض بِالطَّرِيقِ وَمَات بعد أَن دخل فاسا وَدفن بزاوية سَيِّدي عبد الْقَادِر الفاسي ثمَّ رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة على طَرِيق تادلا بعد أَن أَقَامَ بِبِلَاد الْحَوْز سنة كَامِلَة فَقَدمهَا فِي شهر ربيع الثَّانِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة وَألف وَلما شَارف مكناسة لم يدخلهَا وَنزل بقصبة أبي فكران فَقدم عَلَيْهِ بهَا جمَاعَة من الْمُجَاهدين أهل الرِّيف من طنجة فَوق الْمِائَة وَمَعَهُمْ زَوْجَة الباشا أَحْمد الريفي وولداها مِنْهُ فَقدمت هَدِيَّة عَظِيمَة فَقبض السُّلْطَان الْهَدِيَّة وَقتل الْوَلَدَيْنِ وَمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 مَعهَا من أهل الرِّيف ثمَّ قتل مَعَهم ثَلَاثمِائَة من بني حسن كَانُوا قدمُوا عَلَيْهِ للتهنئة فَكَانَ ذَلِك سَبَب نفرة النَّاس عَنهُ فَسَاءَتْ عَنهُ الأحدوثة وَكَثُرت القالة من الْجَيْش والرعايا حَتَّى فِي الْأَسْوَاق وانقبض النَّاس عَنهُ حَتَّى أهل فاس فضلا عَن غَيرهم مكر السُّلْطَان الْمولى عبد الله بأعيان البربر وإخفار ذمَّة مُحَمَّد واعزيز فيهم ثمَّ إِطْلَاقهم بعد ذَلِك لما صدر من السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا صدر من قتل أهل الرِّيف وَبني حسن وانقباض النَّاس عَنهُ انقبض فِي جُمْلَتهمْ البربر فَلم يَأْته مِنْهُم أحد وَكَانُوا قد حرثوا بأحواز مكناسة فَلَمَّا أدْرك زرعهم أَمر السُّلْطَان العبيد بانتهابه فعمدوا إِلَيْهِ وحصدوه ودرسوه وأكلوه فازدادت نِيَّة البربر فِيهِ فَسَادًا وَلما رأى انقباضهم عَنهُ كَاتب كَبِيرهمْ مُحَمَّدًا واعزيز وَكَانَت بَينهمَا خلة ومصافاة حَتَّى كَانَ يَقُول لَهُ أَنْت أبي إِذْ كَانَ مُحَمَّد واعزيز هَذَا هُوَ الَّذِي حشد لَهُ جموع البربر وشايعه على عدوه أَحْمد الريفي حَتَّى قَتله فَكتب إِلَيْهِ يلومه على انقباضه عَنهُ وتخلف قبيله عَن الْحُضُور بِبَابِهِ مَعَ أَنهم شيعته ومواليه فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ كتاب السُّلْطَان لم يَسعهُ التَّخَلُّف عَن إجَابَته وَاسْتَشَارَ فِي ذَلِك قومه فَلم يوافقوه فراجعهم فَقَالُوا أَلا ترى إِلَى مَا وَقع بِمن وَفد عَلَيْهِ من غَيرنَا فَقَالَ لَا ترَوْنَ إِلَّا الْخَيْر وَلم يزل بهم حَتَّى غلبهم على رَأْيهمْ وَتَفَرَّقُوا عَنهُ لجمع الْهَدِيَّة وَتَعْيِين الْوَفْد فَجمعُوا من ذَلِك مَا قدرُوا عَلَيْهِ ثمَّ أَتَوْهُ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ القَوْل وَحَذرُوهُ الْغدر فَقَالَ هَذَا لَا يكون ولستم مثل أُولَئِكَ فَمَا وسعهم إِلَّا إجَابَته وَأَقْبلُوا مَعَه حَتَّى انْتَهوا إِلَى قَصَبَة أبي فكران حَيْثُ هُوَ السُّلْطَان فَاجْتمعُوا بالحاجب أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب اليموري فَلَمَّا رَآهُمْ بهت وتحركت مِنْهُ الرَّحِم البربرية لكنه لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 يُمكنهُ ردهم بعد بلوغهم إِلَى ذَلِك الْمحل وَكَانُوا نَحْو الْمِائَة كلهم أَعْيَان فترجلوا عَن خيولهم وَوَضَعُوا أسلحتهم ثمَّ دخلُوا على السُّلْطَان الْمولى عبد الله فوجدوه جَالِسا على كرسيه بوسط القلعة فأدوا وَاجِب التَّحِيَّة فأجابهم وَأمرهمْ بِالْجُلُوسِ فجلسوا بَين يَدَيْهِ ثمَّ دخل الحرس والزبانية فوقفوا على رؤوسهم وَأَحَاطُوا بهم وَأخذ السُّلْطَان فِي معاتبتهم على مَا يرتكبونه فِي الطرقات والغارات على الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْأَعْرَاب وَغَيرهم وانتهاب بضائع التُّجَّار وَمَا كَانُوا يعاملون بِهِ عَسَاكِر الْمُلُوك من النهب وَالسَّلب وَعدد عَلَيْهِم الحسائف الْقَدِيمَة وَالْأَفْعَال الذميمة ثمَّ أَمر الحرس بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم فانقضوا عَلَيْهِم انقضاض العقبان وَلم يكن بأسرع من أَن ألقوا بَين يَدَيْهِ مُقرنين فِي الحبال وَلم يقبض على مُحَمَّد واعزيز من بَينهم فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا أغدرا بعد أَمَان وَلست من أَهله فَقَالَ لَهُ إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد حادوا عَن الدّين وَحل مَالهم ودمهم لخروجهم عَن الطَّاعَة وشقهم عَصا الْجَمَاعَة وَقد أعياني أَمرهم وَمَا عدت إِلَى هَذَا الْأَمر بعد خروجي مِنْهُ إِلَّا من أَجلهم أردْت أَن أقابل هَذَا التيس الْأسود يَعْنِي العبيد بِهَذَا الْكَبْش الْأَبْيَض يَعْنِي البربر وأستريح من غُصَّة من هلك مِنْهَا وأتمسك بِالْآخرِ وَلَوْلَا أَنَّك بِمَنْزِلَة وَالِدي مَا أطلعتك على مَا فِي ضميري فَقُمْ فِي حفظ الله وَلَا بَأْس عَلَيْك فَقَالَ مُحَمَّد واعزيز وَالله لَا أقوم وَلَا أكون إِلَّا مَعَ إخْوَانِي حَيْثُمَا كَانُوا فَإِن هَلَكُوا هَلَكت مَعَهم وَيكون لَك غدرك وَإِن سلمُوا سلمت مَعَهم وَلَا يتحدث النَّاس أَنِّي سقتهم إِلَى الذّبْح وَرجعت أَنا سالما فَبِأَي وَجه أَسِير إِلَى أَوْلَادهم وَأي أَرض تحميني من عشيرتهم وَإِلَى أَيْن أقصد فَإِن كَانَ لَا بُد من الْقَتْل فقتلك لي مَعَهم أجمل بِي وَلَا إِثْم عَلَيْك فِي ذَلِك وَلَا عَار لِأَنِّي أَنا الَّذِي سقتهم إِلَيْك وأرحتهم عَلَيْك بعد أَن عرضوا عَليّ هَذَا كُله فَلم أقبل مِنْهُم فَلَمَّا سمع السُّلْطَان هَذَا الْكَلَام العالي وتمكنت مِنْهُ صولته الحقة جعل يتدبره ثمَّ الْتفت إِلَى الْحَاجِب عبد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 الْوَهَّاب وَقَالَ يَا عبد الْوَهَّاب لَا خير فِي الرجل يَقُول للرجل أَبَة ثمَّ لَا يشفعه فِي جمَاعَة من قَبيلَة خلوا عَنْهُم فسرحوهم وَخَرجُوا كَأَنَّمَا نشرُوا من الْقُبُور فَرَكبُوا خيلهم وَسَارُوا إِلَى حلتهم ولسان حَالهم ينشد مَا قَالَه الْأَعرَابِي الَّذِي بَال بواسط فَضَربهُ الْحجَّاج وسجنه ثمَّ أطلقهُ (إِذا نَحن جاوزنا مَدِينَة وَاسِط ... خرئنا وبلنا لَا نَخَاف عقَابا) زحف البربر إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِأبي فكران وفراره إِلَى مكناسة لما خلص جمَاعَة البربر إِلَى حلتهم أَقبلُوا على مُحَمَّد واعزيز وعاتبوه على مَا حملهمْ عَلَيْهِ من الْوِفَادَة على السُّلْطَان والقرب مِنْهُ حَتَّى جرى عَلَيْهِم مَا جرى مَعَ أَنهم كَانُوا فِي غنى عَن ذَلِك كُله وَقَالُوا لَهُ نَحن متْنا وبعثنا وَلَا بُد لنا من الْأَخْذ بالثأر فَقَالَ شَأْنكُمْ وَمَا تُرِيدُونَ فخلصوا نجيا وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ إِلَى أَن أجمع رَأْيهمْ على غَزْو السُّلْطَان لمضي ثَلَاث وَمن تخلف عَنْهَا أحرقت خيمته فَقَالَ لَهُم مُحَمَّد واعزيز إيَّاكُمْ والطرقات ثمَّ افعلوا مَا بدا لكم فَتَفَرَّقُوا لحللهم واستعدوا للحرب وَأَقْبلُوا فِي الْيَوْم الرَّابِع يجرونَ الشوك والمدر فَلم يرع السُّلْطَان وَهُوَ بِأبي فكران إِلَّا الرَّايَات قد أطلت عَلَيْهِ من الْحَاجِب وَالْخَيْل تسيل بهَا الأودية والشعاب فَلم يَسعهُ إِلَّا أَن حمل أثقاله وأركب عِيَاله وجعلهم أَمَامه مَعَ رحى من رُمَاة المسخرين وأردفهم رحى أُخْرَى من الْخَيل ثمَّ تلاهم هُوَ فِي موكبه وردفته رحى ثَالِثَة من خيل العبيد جَاءَت من خَلفه وَانْحَدَرَ فِي بطن الْوَادي وتفرق الْجند عَن يَمِين الْوَادي ويساره وَسَار السُّلْطَان على هَذِه التعبية وَكلما دفعت خيل البربر على المسخرين من الْجند أطْلقُوا عَلَيْهِم شؤبوبا من الرصاص فَيسْقط مِنْهُم الْأَرْبَعُونَ وَالْخَمْسُونَ وَإِذا دفعت خيلهم على رحى الْخَيل فَكَذَلِك وعَلى موكب السُّلْطَان فَكَذَلِك وَهَكَذَا إِلَى أَن دخل بَاب القزدير فاحتل بمكناسة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وَهلك من العبيد فِي هَذِه الْوَقْعَة نَحْو الثلاثمائة وَمن البربر على مَا قيل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وجمعوا قتلاهم فكفنوهم فِي أخبية العبيد إِذْ كَانَت بِأَيْدِيهِم وَلم يرجِعوا بسوى ذَلِك وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة أواسط سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف وَاعْلَم أَنه قد وَقع هُنَا لفظ الرَّحَى وَلَفظ المسخرين وَغير ذَلِك وَهِي ألقاب لطوائف من جَيش هَذِه الدولة السعيدة فَلَا بُد من بَيَان الِاصْطِلَاح فِي ذَلِك تتميما للفائدة فَنَقُول إِن الْجَيْش السلطاني الْيَوْم بِهَذِهِ الدولة الشَّرِيفَة يَنْقَسِم أَولا إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام أَصْحَاب ومسخرين وجيش فَأَما الْأَصْحَاب فهم طَائِفَة من الْجند تلازم السُّلْطَان حضرا وسفرا لَا يفارقونه بِحَال وهم أَرْبَاب الْوَظَائِف المخزنية مِنْهُم الْكتاب الَّذين هم إِلَى نظر الْوَزير الْأَعْظَم وَمِنْهُم أَرْبَاب الْفراش وَمِنْهُم القهارمة القائمون على طَعَام السُّلْطَان وَشَرَابه وَمِنْهُم أَرْبَاب الْوضُوء وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن يطول ذكرهم وكل طَائِفَة برئيسها وَأما المسخرون فهم ملازمون للسُّلْطَان حضرا وسفرا أَيْضا وشأنهم أَن يَكُونُوا فُرْسَانًا فِي الْغَالِب وَقد يكون فيهم الرُّمَاة وهم أهل الشَّوْكَة والغناء وهم الموجهون فِي الْمُهِمَّات لِأَن عَلَيْهِم الْمدَار فِي الْأُمُور المخزنية كَمَا يَقْتَضِيهِ تسميتهم بالمسخرين وَإِذا ركب السُّلْطَان فِي سفر أَو نَحوه انقسموا قسمَيْنِ فالعبيد مِنْهُم يكونُونَ خَلفه لأَنهم الموَالِي والودايا وشراقة يكونُونَ أَمَامه وَأما الْجَيْش فَهُوَ أصل الْجَمِيع كَمَا يَقْتَضِيهِ لَفظه وَمِنْه تنتخب الطوائف السَّابِقَة وَهُوَ عَسْكَر السُّلْطَان الَّذِي يحويه ديوانه إِلَّا أَن معظمه يكون مُتَفَرقًا فِي حلله وبلاده إِلَّا إِذا أَرَادَ السُّلْطَان غزوا فيوجه على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهُ أما الْجَمِيع أَو الْبَعْض وَيكون ذَلِك مناوبة على مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْدهم وَأما الرَّحَى فَهِيَ عبارَة عَن ألف من الْجَيْش خيلا أَو رُمَاة وَرُبمَا زَادَت أَو نقصت بِحَسب مَا يتَّفق وَالله أعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانتقاله إِلَى فاس وانتقال عبيد الدِّيوَان من مَشْرُوع الرملة إِلَى مكناسة لما وصل العبيد الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بِأبي فكران إِلَى مكناسة واجتمعوا بإخوانهم الَّذين كَانُوا هُنَالك تكلمُوا بِمَا فِي أنفسهم على السُّلْطَان من الغيظ ونفثوا بِمَا فِي صُدُورهمْ عَلَيْهِ من الإحنة وَقَالُوا إِنَّه قد قَالَ لمُحَمد واعزيز أردْت أَن أصدم هَذَا التيس الْأسود بِهَذَا الْكَبْش الْأَبْيَض ودارت بَينهم هَذِه الْكَلِمَة وَأخذت مِنْهُم كل مَأْخَذ وَقَالُوا لم يبْق لنا شكّ فِي أَن هَذَا الرجل لَا غَرَض لَهُ إِلَّا فِي هلاكنا فانظروا لأنفسكم أَو دعوا ثمَّ كتبُوا إِلَى عبيد الدِّيوَان يخبرونهم بِمَا صدر من السُّلْطَان فِي جانبهم ويستشيرونهم فِي أمره فجَاء بعض عُيُون السُّلْطَان من عبيد مكناسة إِلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِمَا دَار بَين العبيد وَبِمَا كتبُوا بِهِ إِلَى أهل الدِّيوَان فطير السُّلْطَان بِالْكِتَابَةِ إِلَى ودايا فاس الْجَدِيد يَقُول لَهُم إِن كَانَت لكم حَاجَة بِابْن أختكم عبد الله فاقدموا عَلَيْهِ السَّاعَة ثمَّ أَخذ فِي جمع أثاثه وتنضيده وَحمل مَاله وشده وإسراج خيله وإنهاض رجله وَقَالَ لخاصته غَدا إِن شَاءَ الله نرْجِع إِلَى أبي فكران فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء وصل إِلَى بَاب القزدير من جَيش الودايا أَرْبَعمِائَة فَارس فَأخْرج إِلَيْهِم السُّلْطَان أثاثه وَمَاله وَعِيَاله ثمَّ ركب فِي خاصته وأسروا ليلتهم وَلم يصبحوا إِلَّا بفاس الْجَدِيد فَدخل السُّلْطَان دَاره وَأمن على نَفسه وَأما عبيد الدِّيوَان فَإِنَّهُ لما بَلغهُمْ كتاب إخْوَانهمْ الَّذين بمكناسة وقرؤوه قَالُوا إِنَّه لَا يجمل بِنَا الْمقَام فِي وسط بني حسن لَا ننفع إِخْوَاننَا وَلَا ينفعوننا فَأَجْمعُوا الرحيل والانتقال إِلَى مكناسة وَبعد ثَلَاث انتقلوا إِلَيْهَا وأعروا مَشْرُوع الرملة واستراحت تِلْكَ الْبِلَاد من عيثهم لَا سِيمَا سلا وأحوازها فَإِنَّهُم كَانُوا قد أشجوا أَهلهَا ولاقوا مِنْهُم عرق الْقرْبَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 وَلما وصلوا إِلَى مكناسة نزلُوا بِالْمَدِينَةِ وبالقصبة وبالإصطبل وبريمة وبهدراش وبالرحاب التِّسْعَة فملؤوها واجتمعوا بإخوانهم وَاطْمَأَنَّ جنبهم وَلما كَانَ عيد الْفطر من سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف قدم على السُّلْطَان بفاس جمَاعَة من قوادهم مَعَ القَاضِي وَالْفُقَهَاء والأشراف من أهل مكناسة فَحَضَرُوا مَعَه الْعِيد على الْعَادة وطلبوا مِنْهُ أَن يرجع إِلَى مكناسة وتنصلوا مِمَّا بلغه عَنْهُم وَاعْتَذَرُوا اليه فَوَعَدَهُمْ الرُّجُوع وَأَعْطَاهُمْ مَالا وَانْصَرفُوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَلما كَانُوا بالجديدة قرب مكناسة اعْتَرَضَهُمْ البربر وجردوهم وَأخذُوا مَا مَعَهم وَلم يتْركُوا إِلَّا القَاضِي أَبَا الْقَاسِم العميري على بغلته وَأصْبح الْوَفْد على بَاب مكناسة عُرَاة ينظر بَعضهم إِلَى بعض إجلاب مُحَمَّد واعزيز على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانتقاض أهل فاس والقبائل عَلَيْهِ لما رَجَعَ البربر إِلَى بِلَادهمْ من وقْعَة أبي فكران كتب كَبِيرهمْ مُحَمَّد واعزيز إِلَى أهل فاس يتظلم من السُّلْطَان الْمولى عبد الله ويخبرهم بِمَا اتّفق لَهُ مَعَه من إخفار ذمَّته وعزمه على الفتك يإخوانه ويدعوهم مَعَ ذَلِك إِلَى أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك ودخلوا فِي حزب البربر ثمَّ كتب واعزيز بِمثل ذَلِك إِلَى عرب الغرب من سُفْيَان وَبني مَالك وَكَبِيرهمْ يَوْمئِذٍ حبيب الْمَالِكِي فَقَالُوا نَحن لكم تبع وحربنا حربكم وَسلمنَا سلمكم وانتقضت الفتوق على السُّلْطَان من كل جِهَة وهاجت الْحَرْب بَين الودايا وَأهل فاس وَبعد أَيَّام ورد الْخَبَر بِأَن ركب الْحَاج قد وصل إِلَى تازا وَهُوَ مَحْصُور بهَا فاستغاث أهل فاس بالبربر ليأتوهم بإخوانهم فجردوا مِنْهُم خَمْسمِائَة من الْخَيل إِلَى تازا فَمروا فِي طريقهم بغرب الحياينة فانضموا إِلَيْهِم ودخلوا فِي حزبهم وصاروا بأجمعهم إِلَى تازا فخلصوا الركب الَّذِي بهَا وَقدمُوا بهم إِلَى فاس فَدَخَلُوا على بَاب الْفتُوح وَنزل البربر والحياينة بالزيتون وَدخل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 جمَاعَة مِنْهُم الْمَدِينَة لقَضَاء أغراضهم وَفِي أثْنَاء ذَلِك أغار عَلَيْهِم الودايا ففضوهم وَقتلُوا مِنْهُم كثيرا فَأَمرهمْ السُّلْطَان أَن يعلقوا رؤوسهم على سور قَصَبَة شرافة فَفَعَلُوا ثمَّ بدا لأهل فاس فِي مُرَاجعَة طَاعَة السُّلْطَان فبعثوا إِلَيْهِ فِي ذَلِك فأجابهم بِأَن يقدموا عَلَيْهِ فَخرج إِلَيْهِ الْعلمَاء والأشراف والأعيان فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدَيْهِ عدد عَلَيْهِم أفعالهم ووبخهم وَشرط عَلَيْهِم شُرُوطًا مِنْهَا أَن يعطوه زرع أهل الغرب المخزون عِنْدهم وَأَن يهدموا دُورهمْ ويبنوا بأنقاضها دَار الدبيبغ ويختاروا إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ إِمَّا أَن يَكُونُوا جَيْشًا وَإِمَّا أَن يَكُونُوا نائبة فَقَالُوا نَجْتَمِع على هَذَا الْأَمر مَعَ إِخْوَاننَا وَيكون الْجَواب وَلما رجعُوا من عِنْده أغلقوا أَبْوَاب مدينتهم وَقَالُوا لَا نقبل شَيْئا من ذَلِك كُله وعادت الْحَرْب جَذَعَة وَارْتَفَعت الأسعار وعظمت الأخطار وَفِي سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَألف نهب عَامَّة فاس قفاطين المخزن الَّتِي كَانَت بفندق النجارين على يَد الْأمين الْحَاج الْخياط عديل وَأَرَادُوا مصادرته على مَال المخزن الَّذِي عِنْده فَافْتدى مِنْهُم بِثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال فأطلقوه بعد الْقَبْض عَلَيْهِ وَكَانَت القفاطين ثَلَاثَة آلَاف قفطان فرقوها على رماتهم يُعِيدُوا بهَا عيد الْأَضْحَى واستمرت الْحَرْب بَينهم وَبَين الودايا وَسَائِر شيعَة السُّلْطَان إِلَى أَن دخلت سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَفِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى مِنْهَا قدمت قبائل البربر وقبائل الغرب لمشايعة أهل فاس على حَرْب السُّلْطَان فَنزل مُحَمَّد واعزيز فِي بربره بجبل أطغات وَنزل حبيب الْمَالِكِي فِي أهل الغرب وطليق والخلط بدار الأضياف وانجحر الودايا بفاس الْجَدِيد وَالْعَبِيد بقصبة شراقة وَالسُّلْطَان بدار الدبيبغ وضاق الخناق على السُّلْطَان وشيعته وَمن الْغَد ركب حبيب فى عربه وزحف إِلَى السُّلْطَان بدار الدبيبغ والبربر على أَثَره وَلما وصل إِلَى حزيمها بلغه أَن البربر قد نهبوا محلته فَرجع مُنْهَزِمًا وَعبر الْوَادي وَتوجه إِلَى بِلَاده وَأما البربر فَإِنَّهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 لما فرغوا من محلّة أهل الغرب أجلوا إِلَى سايس وَيُقَال إِن السُّلْطَان دس بِاللَّيْلِ إِلَى مُحَمَّد واعزيز بِمَال على أَن يخذل عَنهُ هَذِه الجموع ويفرقها ففرقها بِنَهْب محلّة أهل الغرب وبجبهة العير يفْدي حافر الْفرس وَلما انْقَضتْ هَذِه الجموع إِلَى بلادها بَقِي أهل فاس فِي الْقِتَال والحصار سنتَيْن وَزِيَادَة كَمَا سَيَأْتِي وبعثوا أثْنَاء ذَلِك إِلَى الْمولى المستضيء الْمُقِيم بأحواز طنجة ليقدم عَلَيْهِم فيبايعوه وتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَرد رسلهم بمخ العرقوب ووعد عرقوب ذكر السَّبَب الَّذِي هاج بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الله الجيوش إِلَى أهل الغرب ومراجعتهم طَاعَته وَفِي سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَألف أثْنَاء حَرْب الودايا لأهل فاس قدم جمَاعَة من عرب بني حسن على السُّلْطَان الْمولى عبد الله شاكين إِلَيْهِ عرب الغرب وَأَنَّهُمْ لما انقلبوا رَاجِعين بجموعهم إِلَى بِلَادهمْ مروا بحلة بني حسن فَأَغَارُوا عَلَيْهَا وانتهبوها فحركوا من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِم وَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا من العبيد والودايا وَأمرهمْ بِالْفَتْكِ بِأَهْل الغرب وَنهب أَمْوَالهم وَأَن لايبقوا لم على سيد وَلَا لبد فَخرج الْجَيْش يؤم بِلَاد الغرب فنذروا بِهِ وانجفلوا أَمَامه عَن بِلَادهمْ وتبعهم طليق والخلط فأرزوا إِلَى مَدِينَة العرائش وتحصنوا بسورها فتبع الْجَيْش آثَارهم حَتَّى نزل عَلَيْهِم بهَا وحاصرهم ثَلَاثَة أشهر هَلَكت فِيهَا ماشيتهم جوعا وبعقب ذَلِك وَردت عَلَيْهِم جمَاعَة من الودايا بِأَمَان السُّلْطَان ومصحفه وسبحته فعاهدوهم على ذَلِك وَأَفْرج الْجَيْش عَنْهُم وَخَرجُوا مَعَ الودايا فقدموا على السُّلْطَان بهديتهم فَعَفَا عَنْهُم وَولى عَلَيْهِم كَبِيرهمْ حبيبا الْمَالِكِي وأضاف إِلَيْهِ قبائل الْجَبَل كلهَا وَأما الْجَيْش الَّذِي كَانَ على العرائش فَإِنَّهُم لما قَفَلُوا باتوا بقصر كتامة فضيفهم أَهله بِمَا قدرُوا عَلَيْهِ من الطَّعَام والعلف وَمن الْغَد دخلُوا الْقصر فاستباحوه ونهبوا وَسبوا وَقتلُوا وفعلوا الأفاعيل الْعَظِيمَة واستمروا على ذَلِك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 سِتَّة أَيَّام وَكَانَ الْحَادِث عَظِيما وَعز ذَلِك على النَّاس كلهم وتأسفوا لَهُ وَكَانَ ذَلِك فِي محرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف زحف البربر إِلَى الودايا ومظاهرة أهل فاس لَهُم عَلَيْهِم لما كَانَ جُمَادَى الثَّانِيَة من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف عزم السُّلْطَان الْمولى عبد الله على غَزْو البربر فَخرج من فاس الْجَدِيد حَتَّى أَتَى أَبَا فكران فَعَسْكَرَ بِهِ ظنا مِنْهُ أَن العساكر ستقدم عَلَيْهِ هُنَالك كَمَا هِيَ الْعَادة فَلم يَأْته أحد فَبعث إِلَى العبيد يستنفرهم لغزو البربر فَقَالُوا حَتَّى يَأْتِي الودايا والقبائل ونأتي نَحن أَيْضا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَنهُ عَاد إِلَى منزله وَأعْرض عَمَّا كَانَ هم بِهِ وَلما سمع البربر بِرُجُوعِهِ عَنْهُم طمعوا فِيهِ وَأَجْمعُوا غزوهم فَقَالَ لَهُم مُحَمَّد واعزيز الرَّأْي أَن ننزل بسايس ونحول بَينه وَبَين العبيد حَتَّى لَا يصل إِلَيْهِم وَلَا يصلوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلُوا حَتَّى نزلُوا ببسيط سايس ثمَّ تقدّمت جموعهم حَتَّى شارفوا مزارع فاس الْجَدِيد فَأَغَارُوا على الودايا ونهبوا ماشيتهم وزروعهم وضيقوا عَلَيْهِم ثمَّ وصلوا أَيْديهم بِأَهْل فاس فَدَخَلُوا مدينتهم وتسوقوا بهَا فباعوا واشتروا عشرَة أَيَّام وانقلبوا إِلَى أهلهم فاكهين وَفِي أول رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ورد الْخَبَر بِأَن أهل الرِّيف قبضوا على الْمولى المستضيء الْمُقِيم ببلادهم ونهبوا خيله وأثاثه وَمَاله وثقفوه حَتَّى يَدْفَعُوهُ لِأَخِيهِ الْمولى عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْتغل بظُلْم النَّاس بالفحص وطنجة وَقبض على الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن عَليّ الريفي وَهُوَ أَخُو أَحْمد بن عَليّ الْمُتَقَدّم الذّكر فَأخذ مَاله وسمل عَيْنَيْهِ وَأما أهل تطاوين فَلم يبايعوه وَلَا عرجوا عَلَيْهِ وَفِي شعْبَان أحرق الودايا بَاب المحروق لَيْلًا فَفطن لَهُم الحرس ودافعوهم عَن الْبَاب وَمن الْغَد ركبُوا بِهِ أبوابا جددا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 مُرَاجعَة أهل فاس طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وانعقاد الصُّلْح بَينهم وَبَين الودايا لما طَال الْحصار على أهل فاس وأضرت بهم معاداة جيرانهم من الودايا وسئموا الْحَرْب راجعوا بصائرهم وجنحوا للسلم وَطَاعَة السُّلْطَان فاتفق أَن كَانَ عِنْدهم رجل من أَشْرَاف تافيلالت فَأَرْسلُوهُ إِلَى السُّلْطَان وَاسِطَة بَينهم وَبَينه وبعثوا مَعَه كتابا بالاعتذار وَالتَّوْبَة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وسر بِهِ وَوَقع مِنْهُ الْموقع وَكتب إِلَيْهِم يَنْفِي ظنونهم ويسل سخائمهم وَيقسم لَهُم أَنه لم يَأْمر بِحَرْبِهِمْ وَلَا إضرارهم قطّ وَإِنَّمَا فعل ذَلِك الودايا من قبل أنفسهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طابت نُفُوسهم وفرحوا وعينوا جمَاعَة من فقهائهم وأشرافهم وَأهل الْخَيْر مِنْهُم فأوفدوها على السُّلْطَان بمكناسة فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ففرح بهم وَأكْرمهمْ وَصرح لَهُم بِالْعَفو وَالرِّضَا عَنْهُم فاغتبطوا بذلك وانقلبوا إِلَى أهلهم فرحين مستبشرين ثمَّ كَانَ الصُّلْح بَينهم وَبَين الودايا بضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَفتحت أَبْوَاب الْمَدِينَة بعد الْحصار سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَلما حضر الْعِيد قدمُوا على السُّلْطَان وَهُوَ بمكناسة بالْخبر وعادوا بِهِ خوفًا من البربر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 خُرُوج العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وبيعتهم لوَلَده سَيِّدي مُحَمَّد وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما رَاجع أهل فاس طَاعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله واصطلحوا مَعَ الودايا وهدأت الْفِتْنَة سَاءَ البربر ذَلِك وكرهوه وبلغهم مَعَ ذَلِك أَن السُّلْطَان قد اسْتنْفرَ العبيد لغزوهم فاحتالوا فِي تَفْرِيق الْكَلِمَة على السُّلْطَان بِأَن أخذُوا فِي شن الغارات على العبيد بمكناسة والتضييق عَلَيْهِم واختطاف أَوْلَادهم من البحائر والجنات فراسل العبيد البربر فِي الْمَسْأَلَة وَالصُّلْح فَقَالُوا لَهُم إِن السُّلْطَان أمرنَا بِهَذَا فَلَمَّا سمع العبيد ذَلِك مِنْهُم لم يشكوا فِي صدقهم بِسَبَب مَا كَانُوا أسلفوه من التقاعد عَن السُّلْطَان والتثاقل عَن النهوض مَعَه لغزو البربر حَتَّى عَاد إِلَى منزله بعد المعسكرة بِأبي فكران كَمَا مر ثمَّ اتّفق رَأْي العبيد على الفتك بالسلطان واغتياله ونما إِلَيْهِ ذَلِك مِنْهُم فَخرج فَارًّا من مكناسة إِلَى دَار الدبيبغ فاستقر بهَا وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَلما ضَاقَ العبيد ذرعا بِفعل البربر كاتبوهم فِي الصُّلْح فأجابوهم إِلَيْهِ على شَرط أَن يبايعوا سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فَبَايعُوهُ بمكناسة وبعثوا إِلَيْهِ ببيعتهم وَهُوَ بمراكش مَعَ جمَاعَة من أعيانهم وخطبوا بِهِ بمكناسة وزرهون وَالسُّلْطَان بدار الدبيبغ لَا يملك من أمره شَيْئا وَلما قدم وَفد العبيد على سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رد بيعتهم وعاتبهم على مَا ارتكبوه فِي حق وَالِده وتألفهم بِشَيْء من المَال وَأعْرض عَن الْخَوْض فِي أَمر الْبيعَة إِذْ كَانَ رَحمَه الله بارا بوالده ساعيا فِي مرضاته وَبعث إِلَيْهِ فِي صفر من هَذِه السّنة بهدية قدرهَا على ماقيل ثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال فَرجع وَفد العبيد من عِنْد سَيِّدي مُحَمَّد وَقد أيسوا من إجَابَته إيَّاهُم وَمَعَ ذَلِك استمروا على الْخطْبَة بمكناسة وزرهون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله لما رأى أَن الْقُلُوب قد نفرت عَنهُ وَأَن العبيد والبربر قد امتدت عيونهم إِلَى وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد وتعلقت آمالهم بِهِ بتلافى أمره وَأخذ فِي استصلاح الرّعية وتألفها فَأمر فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة بِأَن يُنَادى بأسواق فاس على العبيد الَّذين بهَا من لم يحضر إِلَى دَار الدبيبغ لوقت كَذَا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه فَحَضَرَ العبيد الَّذين بفاس كلهم فَأَعْطَاهُمْ خَمْسَة دَنَانِير لكل وَاحِد وَقَالَ لَهُم ابْعَثُوا إِلَى إخْوَانكُمْ الَّذين بمكناسة فَمن أَتَى مِنْهُم إِلَيّ قبض مثل مَا قبضتم فَكَتَبُوا إِلَيْهِم فَلم يزدهم ذَلِك إِلَّا نفورا وبعثوا إِلَى البربر الَّذين بسايس يَقُولُونَ لَهُم كل من صادفتموه منا مُتَوَجها إِلَى فاس فَاقْتُلُوهُ وأعلنوا بخلع السُّلْطَان ثمَّ استدعى السُّلْطَان بعد ذَلِك مُحَمَّد واعزيز كَبِير البربر ووعده ومناه فَقدم عَلَيْهِ فِي إخوانه فِي رَمَضَان فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف دِينَار وَحضر الْعِيد فقدموا عَلَيْهِ أَيْضا فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف أُخْرَى وَأعْطى الودايا عشر آلَاف أَيْضا وَأعْطى أهل فاس مثل ذَلِك ولج العبيد فِي نفورهم وركبوا رَأْسهمْ فِي جماحهم عَن السُّلْطَان والقرب مِنْهُ مَجِيء سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى مكناسة وتوسطه للعبيد فِي الصُّلْح مَعَ وَالِده رحمهمَا الله ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَفِي أَوَاخِر جُمَادَى الأولى مِنْهَا قدم الْمولى مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْمولى عبد الله من مراكش إِلَى مكناسة فَوجدَ العبيد لَا زَالُوا يخطبون بِهِ فعاتبهم على ذَلِك وَقَالَ لَهُم إِنِّي بَرِيء مِنْكُم وَمن فعلكم هَذَا وَإِنَّمَا أَنا خديم وَالِدي فتركوا الْخطْبَة وراجعوا بصائرهم وجددوا الْبيعَة للسُّلْطَان وتلافوا أَمرهم فِي طَاعَته وَكَانَت هَذِه هِيَ الْبيعَة السَّابِعَة للعبيد مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله لأَنهم خلعوه قبلهَا سِتّ مَرَّات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وَلما تمّ لسيدي مُحَمَّد مَعَ العبيد مَا أَرَادَ من مراجعتهم طَاعَة وَالِده ارتحل من مكناسة فِي جَيْشه الَّذِي قدم بِهِ من الْحَوْز وَكَانَ نَحْو أَرْبَعَة آلَاف واستصحب مَعَه جمَاعَة من أَعْيَان العبيد وَقدم على وَالِده بدار الدبيبغ فَخرج الودايا وَأهل فاس لملاقاته وفرحوا بمقدمه وَلما دخل على وَالِده أدّى التَّحِيَّة وَأهْدى إِلَيْهِ هَدِيَّة نفيسة وشفع للعبيد عِنْده فشفعه فيهم وَقَالَ لَهُ لَا تبت هُنَا فَقَالَ نعم يَا سَيِّدي وَلم يبت إِلَّا بِرَأْس المَاء وَأصْبح غاديا إِلَى مراكش ثمَّ حضر العبيد فَقدم على السُّلْطَان جمَاعَة من جروان وَبني مطير فَأَعْطَاهُمْ عشْرين ألف مِثْقَال وَقدم عَلَيْهِ قواد العبيد من مكناسة فَلم يعطهم شَيْئا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْمولى أَحْمد ابْن السُّلْطَان الْمولى عبد الله بفاس وَدفن بقبور الْأَشْرَاف رَحمَه الله انحراف العبيد ثَانِيَة عَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله والتجاؤهم إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما أعْطى السُّلْطَان الْمولى عبد الله بني مطير وجروان عشْرين ألف مِثْقَال وَحرم العبيد قَامَت قيامتهم وقلبوا للسُّلْطَان ظهر الْمِجَن وَاتَّفَقُوا على الذّهاب إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فقدموا عَلَيْهِ فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَقَالُوا لَهُ إِمَّا أَن تكون سلطاننا وَإِمَّا أَن نُبَايِع عمك الْمولى المستضيء وَشَكوا إِلَيْهِ إهمال وَالِده جانبهم وَقَالُوا لَهُ إِنَّه أعْطى البربر أَعدَاء الدولة وحرمنا فرضخ لَهُم بِشَيْء من المَال طيب بِهِ نُفُوسهم وَكتب لَهُم كتابا إِلَى وَالِده يستعطفه لَهُم وانقلبوا من عِنْده مسرورين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 وَأما السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَإِنَّهُ لما سمع بذهاب عبيد مكناسة إِلَى مراكش أعْطى الودايا عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى العبيد الَّذين مَعَه ثَلَاثَة آلَاف ريال وَلما قدم عبيد مكناسة على السُّلْطَان بِكِتَاب ابْنه سامحهم وَأَعْطَاهُمْ عشْرين ألف ريال وَتمّ الصُّلْح بَينهم وَبَينه وعادوا إِلَى مكناسة مغتبطين وَفِي هَذِه السّنة بعث سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش بهدية إِلَى وَالِده مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه فَأثْنى عَلَيْهِ خيرا ودعا لَهُ بِهِ وفيهَا ورد الْخَبَر بِأَن أهل تطاوين قتلوا عاملهم أَبَا عبد الله الْحَاج مُحَمَّدًا تَمِيم ثمَّ قدم جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان معتذرين من قَتله فَقَالَ لَهُم أَنْتُم وليتموه عَلَيْكُم وَأَنْتُم قَتَلْتُمُوهُ فَاخْتَارُوا لأنفسكم فَوَقع اختيارهم على أبي عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن عمر الوقاش فولاه عَلَيْهِم وَانْصَرفُوا إِلَى بلدهم ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم أهل تطاوين على السُّلْطَان الْمولى عبد الله لحضور عيد المولد الْكَرِيم وبيدهم هَدِيَّة مقدارها ثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَقدم بصحبتهم باشدور الإصبنيول وَمَعَهُ مائَة ألف ريال وَمَا يُنَاسِبهَا من الْحَرِير والملف والكتان وَغير ذَلِك بِقصد فكاك أسرى جنسه فَقبض السُّلْطَان المَال وَقَالَ للباشدور حَتَّى تَأْتُوا بأسرى الْمُسلمين وَأعْطى العبيد من ذَلِك المَال ريالين لكل وَاحِد وَأعْطى نِسَاءَهُمْ مثل ذَلِك وَكَانُوا أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم عبيد مكناسة على السُّلْطَان لحضور الْعِيد فَأَعْطَاهُمْ عشرَة آلَاف ريال وفيهَا نَهَضَ أهل فاس لشراء الْخَيل وَالْعدة والإكثار مِنْهَا وفيهَا انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين جنس الإصطادوس وهم سبع قبائل من الفلامنك وَهِي اثْنَان وَعِشْرُونَ شرطا مرجعها إِلَى عقد الْأمان وَالصُّلْح بَين الإيالتين وَأَن يَجْعَل جنس الإصطادوس قنصلا أَو أَكثر بِالْبَلَدِ الَّذِي يختاره من بِلَادنَا وَيكون يُعْطي خطّ يَده الْمُسَمّى بالباصبورط لمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 يُسَافر من مراكبنا إِلَى جِهَة بِلَادهمْ وَكَذَلِكَ هم أَيْضا إِلَى غير ذَلِك وَفِي هَذِه السّنة أَو مَا يقرب مِنْهَا أغار نَصَارَى الجديدة على آزمور واقتحموا ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب لَيْلًا وَقتلُوا بِهِ عددا كثيرا من أهل آزمور نَحْو الْخمسين وَكَانَت اللَّيْلَة لَيْلَة جُمُعَة وَعَادَة أهل آزمور أَن يبيتوا لَيْلَة الْجُمُعَة بضريح الشَّيْخ الْمَذْكُور فنما ذَلِك إِلَى النَّصَارَى الَّذين بالجديدة فجاؤوا مستعدين حَتَّى اقتحموا عَلَيْهِم على حِين غَفلَة وأطفؤوا المصابيح وَوَقع الْقَتْل حَتَّى كَانَ الْمُسلمُونَ يقتل بَعضهم بَعْضًا وَرجع النَّصَارَى عودهم على بدئهم وَذكره لويز مَارِيَة مؤرخ الجديدة فَقَالَ مَا ملخصه وَفِي لَيْلَة الثَّانِي عشر من نوفمبر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسبع عشرَة مائَة مسيحية خرج عشرَة من برتغال الجديدة وقصدوا آزمور حَتَّى دخلُوا ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب لَيْلًا وَقتلُوا هُنَالك أَرْبَعِينَ من الْمُسلمين وَقَامَت الهيعة بِالْبَلَدِ وتسابقوا إِلَيْهِم على الصعب والذلول فَرجع النَّصَارَى من حينهم وأدركهم الْمُسلمُونَ بِالطَّرِيقِ فجرحوا بَعضهم ونجوا بعد مشقة فادحة هَكَذَا زعم لويز وَأَن النَّصَارَى كَانُوا عشرَة فَقَط وَأهل آزمور يَزْعمُونَ أَنهم كَانُوا أَكثر من ذَلِك بِكَثِير وَالله أعلم ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فَلم يكن فِيهَا حدث فِي الدولة ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ بعْدهَا فِيهَا توفّي مُحَمَّد واعزيز كَبِير آيت أدراسن ووازعها الَّذِي كَانَت تقف عِنْد إِشَارَته وتجري أمورها على مُقْتَضى إدارته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 فتْنَة آيت أدراسن وكروان مَعَ الودايا وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما مَاتَ مُحَمَّد واعزيز لم يبْق بآيت أدراسن من يقوم فِيهَا مقَامه فهاجت الْفِتْنَة بَينهم وَبَين جروان فزحفوا إِلَى كروان وأوقعوا بهم فانهزمت كروان أمامهم ولجؤوا إِلَى دَار الدبيبغ معتصمين بهَا ومستجيرين بالسلطان الَّذِي بهَا وضاق بهم رحب الفضاء وعدموا المرعى فشرعوا فِي بيع مَوَاشِيهمْ فبلغت الْبَقَرَة بسوق فاس خمس أَوَاقٍ وَالشَّاة أُوقِيَّة فَأمر السُّلْطَان الْمولى عبد الله الودايا بنصرتهم وآخى بَينهم وَبينهمْ وَعقد لَهُم حلفا مؤكدا مَعَهم فَقَامُوا لحمايتهم والدفاع عَنْهُم وأنشبوا الْقِتَال فَكَانَت الْهَزِيمَة على آيت آدراسن ففرت خيلهم ومقاتلتهم وانكسرت حلتهم وَقتلُوا فِي كل وَجه وَمن سلم مِنْهُم لَجأ إِلَى بِلَاد شراقة فَاسْتَجَارَ بهَا فَكَانَ عدد من قتل مِنْهُم بِتِلْكَ الْوَقْعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَهَذَا سَبَب حلف الودايا مَعَ جروان ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم على السُّلْطَان الْمولى عبد الله عبيد مكناسة وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الذّهاب مَعَهم إِلَيْهَا إِذْ هِيَ دَار ملكه وَملك أَبِيه من قبله فَقَالَ لَهُم كَيفَ أذهب مَعكُمْ وَفِي وسطكم فلَان وَفُلَان لجَماعَة سماهم مِنْهُم كَانُوا منحرفين عَنهُ فَرجع العبيد إِلَى منزلهم وَلما جن اللَّيْل طرقوا أُولَئِكَ الْمُسلمين وأمثالهم فِي رحالهم فَقَتَلُوهُمْ إرضاء للسُّلْطَان وتطييبا لنَفسِهِ وَكَانَ مِنْهُم الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي والقائد سُلَيْمَان بن العسري والقائد زعبول وَغَيرهم وَلما بلغ السُّلْطَان ذَلِك بعث إِلَيْهِم بِأَرْبَعِينَ ألف مِثْقَال راتبا وصرفهم إِلَى مكناسة وَقَالَ لَهُم إِذا فرغت من عَمَلي أتيتكم وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا قدم عَلَيْهِ الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الوقاش فِي أهل تطاوين بهدية فِيهَا ألف ريال وبأسارى وسلع من سلع النَّصَارَى غنمتها قراصينهم فَأكْرمه السُّلْطَان وَأَعْطَاهُ جاريتين وانقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا وفيهَا قدم على السُّلْطَان أَخُوهُ الْمولى أَبُو الْحسن المخلوع بدار الدبيبغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 فَأعْطَاهُ مَالا وأثاثا قِيمَته عشرَة آلَاف مِثْقَال وخيره بَين تافيلالت ومكناسة فأختار مكناسة فَأعْطَاهُ مُسْتَفَاد مكسها وجنات المخزن الَّتِي بهَا وأرضا للحراثة فَقدم الْمولى أَبُو الْحسن مكناسة واستوطن واغتبط بهَا وَلما جَاءَ وَقت إبان الْحَرْث وحرث وثب عَلَيْهِ العبيد فقبضوا عَلَيْهِ وقيدوه وبعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان مُقَيّدا وَقَالُوا لَهُ إِن هَذَا قد أفسد علينا بِلَادنَا فَحل بَيْننَا وَبَينه فسرحه وَبعث بِهِ إِلَى سجلماسة وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا نهب البربر جَمِيع مَاشِيَة الودايا وأفسدوا زُرُوعهمْ وبحائرهم ثمَّ دخلت سنة سبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت بَين آيت أدراسن وكروان حَرْب فظيعة أعَان فِيهَا الودايا كروان فهزموا آيت أدراسن ببسيط النخيلة من سايس وَالله أعلم وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بدار الدبيبغ يَوْم الْخَمِيس فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْخَيْر سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف وَدفن بقبور الْأَشْرَاف من فاس الْجَدِيد حَيْثُ دفن وَلَده الْمولى أَحْمد رحمهمَا الله قَالَ صَاحب الْبُسْتَان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله فِيهِ شدَّة وبطش وبسببهما نفرت قُلُوب الْجند والرعية عَنهُ وَبَقِي مهملا بدار الدبيبغ سِنِين لَا يَأْتِيهِ أحد وبيعته فِي أَعْنَاق النَّاس وهم فارون مِنْهُ لِكَثْرَة مَا سفك من الدِّمَاء بِغَيْر سَبَب ظَاهر واستمرت حَالَته على ذَلِك مُدَّة اثْنَتَيْ عشرَة سنة من سنة تسع وَخمسين إِلَى سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف رَحمَه الله وَغفر لنا وَله ولسائر الْمُسلمين وَمِمَّا مدح بِهِ هَذَا السُّلْطَان قَول بَعضهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 (عَلَيْك سَلام يَا ضِيَاء العوالم ... وَيَا بهجة الْأَشْرَاف من آل هَاشم) (وَيَا من سما غَضبا على كل جَاهِل ... وَأصْبح مَسْرُورا بِهِ كل عَالم) (وَأصْبح ظلّ الله فِي الأَرْض نَاظرا ... إِلَى كل مِسْكين بمقلة رَاحِم) (وَيَا من كَسَاه الله مِنْهُ مهابة ... تذل لَهَا رغما أنوف الْأَعَاجِم) (وَيَا من لَهُ حزم وعزم وسطوة ... تفتت إرهابا قُلُوب الضراغم) (كَفاك افتخارا أَن عزك ظَاهر ... وجودك منسي بِهِ جود حَاتِم) (وَكَون سجاياك الَّتِي فاح عرفهَا ... سجايا الْمُلُوك الشم أهل المكارم) (لعمري لقد أَلْقَت إِلَيْك زمامها ... ضروب الْعلَا إِذْ كنت أحزم حَازِم) (فَقُمْت على الْملك المشيد رُكْنه ... تذود لَدَيْهِ بالقنا والصوارم) (وأغناك رب النَّاس عَن جمع عَسْكَر ... بِرَأْي مُصِيب للعساكر هازم) (وَنَفس علت فَوق السماكين همة ... وعقل غَنِي عَن هِدَايَة عَالم) (فَجئْت وسيل الغرب قد بلغ الزبى ... وأسواقه معمورة بالجرائم) (ونار الشرور فِي الفجاج تأججت ... فطاب لأهل الْبَغي هتك الْمَحَارِم) (فدوخته من بَعْدَمَا استنسرت بِهِ ... بغاث وَقد طَالَتْ رُعَاة الْبَهَائِم) (فأمنتنا من كل طَار وطارق ... وحصنتنا من كل داه وداهم) انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن آخر أَمر الْمولى المستضيء رَحمَه الله قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله خرج سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَألف فِي طلب أَخِيه الْمولى المستضيء وَأَنه دوخ بِلَاد الْحَوْز لأَجله وشرده عَن جبال مسفيوة ولجأ إِلَى مراكش فطرده أَهلهَا وَلما لم يجد بالحوز مُسْتَقرًّا رَجَعَ أدراجه يقتري الْبِلَاد والقرى ويصل حرارة التهجير ببرك السرى فاجتاز بِبِلَاد دكالة ثمَّ بتامسنا ثمَّ ببني حسن فزهدوا فِيهِ فَتقدم إِلَى طنجة وأعمالها فاستقر بالفحص مِنْهَا وطاب لَهُ الْمقَام بِهِ وعسف أُنَاسًا فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى أَن عدا على الْقَائِد عبد الْكَرِيم الريفي فسجنه وَسلمهُ وَأخذ مَاله كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 مر فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الرِّيف وقبضوا عَلَيْهِ ونهبوا خيله ومضاربه وأثاثه وسلبوا أَصْحَابه وامتحنوه وأوثقوه حَتَّى يبعثوا بِهِ إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الله ثمَّ بدا لَهُم فسرحوه وَلما خلص من المحنة كتب إِلَى أَخِيه الْمولى عبد الله وَهُوَ بفاس يعْتَذر إِلَيْهِ عَمَّا سلف مِنْهُ وَيطْلب مِنْهُ محلا يسْتَقرّ بِهِ فَأَجَابَهُ السُّلْطَان الْمولى عبد الله بأنك لم تأت إِلَيّ ذَنبا وَلم ترتكب فِي حَقي عَيْبا إِنَّمَا كنت تطلب ملك أَبِيك كَمَا كنت أطلب ملك أبي والآن فَإِن أردْت الخمول مثلي فأقم بآصيلا واسكن بهَا فَهِيَ أحسن من دَار الدبيبغ الَّتِي أَنا بهَا وأرح نَفسك كَمَا أرحتها وَإِن كنت إِنَّمَا تطلب الْملك فشأنك وإياه فَإِنِّي لَا أنازعك فِيهِ وَالسَّلَام فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ كتاب السُّلْطَان انْتقل إِلَى آصيلا واستوطنها واعتنى بهَا وَأصْلح مَا يحْتَاج إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا وَأصْلح دَار الْخضر غيلَان الَّتِي بقصبتها وسكنها سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَاجْتمعَ عَلَيْهِ بعض أهل الطمع والشره مِمَّن كَانَ هُنَالك فدلوه على وسق الزَّرْع للْكفَّار وتوسطوا لَهُ فِي الْكَلَام مَعَ بعض تجار النَّصَارَى الَّذين بطنجة وتعاقدوا مَعَه على وسقه فانتقل ذَلِك التَّاجِر إِلَى آصيلا وَلما قدم عَلَيْهِ مركبه وسق الزَّرْع وَأدّى صاكته أَي واجبه فَظهر للْمولى المستضيء الرِّبْح فِي ذَلِك فشرهت نَفسه وَرغب فِي شِرَاء الزَّرْع وَبيعه مِمَّن يَأْتِيهِ من التُّجَّار وتسامع النَّصَارَى بِأَن الزَّرْع يوسق من مرسى آصيلا فَلم تمض إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى قدمت مراكبهم من كل وَجه وعمرت المرسى وَقصد الْأَعْرَاب الْبَلَد بالقمح وَالشعِير من كل فج وَالْمولى المستضيء يَشْتَرِي مِنْهُم وَيبِيع لِلنَّصَارَى والمراكب تسق مَا قدرت عَلَيْهِ فَكَانَ يحصل لَهُ الرِّبْح فِي ذَلِك مضاعفا ربح الثّمن وَربح الصاكة فحسنت حَاله وأثرى وَكثر تابعوه وَأخذ فِي شِرَاء الْعدة من تطاوين وتسليح أَصْحَابه وتقويمهم واتصل خَبره بالسلطان الْمولى عبد الله فندم على إِذْنه لَهُ فِي الْمقَام هُنَالك وَكتب إِلَى الْقَائِد أبي مُحَمَّد عبد الله السفياني يَأْمُرهُ بالزحف إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 الْمولى المستضيء وحصاره بآصيلا حَتَّى يَنْفِيه عَنْهَا وَكتب إِلَى وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ من يُخرجهُ مِنْهَا وَيكون مَعَه الْقَائِد عبد الله السفياني فِي خَمْسمِائَة من الْخَيل فَبعث إِلَيْهِ سَيِّدي مُحَمَّد رَفِيقه وَابْن عَمه الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر فِي مائَة فَارس وَأمره أَن يستصحب مَعَه فِي طَرِيقه عبد الله السفياني فِي خَمْسمِائَة من الْخَيل كَمَا رسم لَهُ وَالِده ويضيقوا على الْمولى المستضيء بآصيلا حَتَّى يخرجوه مِنْهَا فَمضى الْمولى إِدْرِيس والسفياني حَتَّى نزلا عَلَيْهِ وحاصراه فَخرج إِلَيْهِمَا وراود ابْن أَخِيه الْمولى إِدْرِيس على الإفراج عَنهُ وَتَركه وشأنه وَاعْتذر إِلَيْهِ بِأَن السُّلْطَان أذن لَهُ فِي سُكْنى آصيلا وَأَعْطَاهُ مُسْتَفَاد مرْسَاها ينْتَفع بِهِ فَلم يقبل الْمولى إِدْرِيس مِنْهُ وَلم يزل بِهِ حَتَّى أخرجه وَاسْتولى على مَا وجد بداره من مَال وأثاث وَسلَاح وبارود وَغير ذَلِك فساقه إِلَى عَمه السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَأما الْمولى المستضيء فَإِنَّهُ لما خرج من آصيلا سَار إِلَى فاس فَنزل بضريح الشَّيْخ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ رَضِي الله عَنهُ وَقدم وَلَده إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الله يشكو لَهُ مَا فعل بِهِ وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد من تجهيز العساكر إِلَيْهِ ونفيه عَن آصيلا فَكَانَ من جَوَاب السُّلْطَان أَن قَالَ لَهُ قل لأَبِيك ذَاك لَا سَبِيل لي عَلَيْهِ هُوَ أعظم شَوْكَة مني ومنك فسر إِلَى بِلَاد أَبِيك وَجدك وأرح نَفسك من التَّعَب وَالْمَوْت قريب مني ومنك فَلَمَّا بلغه كَلَام السُّلْطَان لم يَسعهُ إِلَّا التَّوَجُّه إِلَى مَدِينَة صفرو بعد أَن ترك عِيَاله بدار الشريف الْمولى التهامي بالجوطيين من فاس وَنزل هُوَ بدار الْإِمَارَة من صفرو وَلما قدم الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر على السُّلْطَان بِمَال الْمولى المستضيء وأثاثه قبض السُّلْطَان البارود وَالسِّلَاح ورد الْبَاقِي وَأرْسل إِلَى عَامل فاس يَأْمُرهُ أَن يكْتب إِلَى الْمولى المستضيء ليَبْعَث وَكيلا يحوز إِلَيْهِ مَتَاعه فَكتب إِلَيْهِ فَبعث من حَاز مَاله وأثاثه وَدفعه إِلَى عِيَاله بدار الْمولى التهامي وَكَانَ الْمولى المستضيء لما اطمأنت بِهِ الدَّار بصفرو بعث إِلَى أَعْيَان آيت يوسي على مَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 قيل فقدموا عَلَيْهِ فندبهم إِلَى نصرته وَالْقِيَام بدعوته فتخاذلوا عَنهُ وَقَالُوا لَهُ سر إِلَى آيت أدراسن وكروان فَإِن أجابوك فَنحْن مَعَهم وَلما لم يتم لَهُ أَمر بصفرو بعث من حمل إِلَيْهِ عِيَاله وأثاثه من فاس وَذهب إِلَى سجلماسة فاستوطنها وَذَلِكَ سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَأعْرض عَن الْملك وأسبابه وَاسْتمرّ مُقيما بهَا إِلَى أَن توفّي سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف رَحمَه الله وغفرله انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن هَؤُلَاءِ العبيد الَّذين جمعهم السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل من لدن وَفَاته إِلَى دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل كَانَ قد اعتنى بِجمع العبيد وترتيبهم وتهذيبهم إِلَى أَن بلغ عَددهمْ مائَة وَخمسين ألفا وبلغوا فِي أَيَّامه من الْعِزّ والرفاهية وتشييد الدّور والقصور وارتباط الْجِيَاد وانتخاب السِّلَاح واقتناء الْأَمْوَال وَحسن الشارة والزي مَا لم يبلغهُ غَيرهم وَكَانَ بالمحلة من مشرع الرملة مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا مَا بَين خيل ورماة وَكَانَ عدد اليكشارية مِنْهُم وهم أَصْحَاب الباشا مساهل خَمْسَة وَعشْرين ألفا كلهم رُمَاة إِلَّا القواد مِنْهُم فَإِنَّهُم كَانُوا أَصْحَاب خيل وَكَانَ بتانوت وَوجه عروس مِنْهُم خَمْسَة آلَاف يدعونَ قواد رؤوسهم كلهم أَصْحَاب خيل وَبَاقِي الْعدَد وَهُوَ خَمْسُونَ ألفا كَانُوا مُتَفَرّقين فِي قلاع الْمغرب لعمارتها وحراسة الطَّرِيق وحماية الثغور وَكَانُوا فِي غَايَة من الْكِفَايَة وَالسعَة لِأَن كل قَبيلَة من قبائل الْمغرب كَانَت تدفع أعشارها فِي قلعتها المبنية بهَا لمؤنة جيشها وعلف خيلها وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فَانْقَطع بوفاته عَن جَيش القلاع المدد الَّذِي كَانَ بِهِ قوامهم وَلما ولي بنوه من بعده واتصلت الْفِتَن بَينهم أهملوا أَمر هَؤُلَاءِ العبيد وَلم يلتفتوا إِلَيْهِم فضعفت مادتهم وتلاشى أَمرهم وانتشروا فِي الْقَبَائِل الَّتِي كَانُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 مجاورين لَهَا للتكسب على أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلما أعروا تِلْكَ القلاع الَّتِي كَانُوا مقيمين بهَا امتدت إِلَيْهَا أَيدي الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بالنهب والتخريب واقتلعوا أَبْوَابهَا وخشبها وماراق مِنْهَا وتركوها خاوية على عروشها لم يبْق بهَا إِلَّا الجدرات قَائِمَة وَهَكَذَا كَانَ مآل محلّة مشرع الرملة فَإِنَّهُ لما ارتحل العبيد عَنْهَا إِلَى مكناسة أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله خَلفهم بَنو حسن فِيهَا بالنهب والتخريب وكل من عثروا عَلَيْهِ مُتَأَخِّرًا بهَا نهبوه واستلبوا مَا مَعَه وَأخذُوا كل مَا تَرَكُوهُ مِمَّا ثقل عَلَيْهِم حَتَّى يرجِعوا إِلَيْهِ إِذْ كَانَ العبيد يظنون أَنهم سيرجعون إِلَى مشرع الرملة ثمَّ تجاوزت بَنو حسن ذَلِك إِلَى تخريب الدّور والقصور وَحمل أَبْوَابهَا وخشبها إِلَى سلا فَكَانَت تبَاع بهَا بالبخس فقد كَانَ بِهَذِهِ الْمحلة دور وقصور لَيست بالحواضر وَكَانَ كل قَائِد مِنْهُم يفتخر على نَظِيره بِبِنَاء أعظم من بنائِهِ وتشييد فَوق تشييده وتنميق أحسن من تنميقه وتزويق أبدع من تزويقه فَأتى بَنو حسن على ذَلِك كُله وانتسفوه وطمسوا أَعْلَامه فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وَلم يتْركُوا إِلَّا الجدرات قَائِمَة إِلَّا أَن خربوها بعد ذَلِك شَيْئا فَشَيْئًا بل صَارُوا يبعثرون الأَرْض على الدفائن الَّتِي بهَا فعثروا من ذَلِك على شَيْء كثير ثمَّ إِن العبيد الَّذين رحلوا إِلَى مكناسة لم يصل مِنْهُم إِلَيْهَا إِلَّا دون النّصْف إِذْ تفَرقُوا فِي الْقَبَائِل وَقت رحيلهم فَكل من كَانَ أَصله من قَبيلَة قَصدهَا وكل من كَانَ لَهُ مدشر عَاد إِلَيْهِ ثمَّ الَّذين وصلوا إِلَى مكناسة لم يسْتَقرّ بهم قَرَار لقلَّة ذَات الْيَد وَغَلَاء الأسعار وَكَانَ الْوَقْت وَقت مجاعات وَفتن فَلم يبْق بهَا إِلَّا القواد أهل الْيَسَار وَأهل الْحَرْف الَّذِي يتعيشون بحرفهم وَمَعَ ذَلِك فقد ضَاقَتْ بهم السُّكْنَى بهَا من أجل غَلَبَة البربر الَّذين كَانُوا يغيرون عَلَيْهِم ويتخطفون أَوْلَادهم من البحائر والجنات الْمرة بعد الْمرة فتسلل جلهم للمعاش بالقرى والقبائل ونسوا أَمر الجندية والتمرس بالقنا والقنابل وتفرق مِنْهُم ذَلِك الْجُمْهُور وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور وَلما وَقعت الزلزلة بمكناسة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف حَسْبَمَا نذكرهُ فِي الْأَحْدَاث هلك من العبيد فَحسب نَحْو خَمْسَة آلَاف وَهَكَذَا لم يزَالُوا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 تلاش واضمحلال وتناثر واختلال إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله فَأدْرك مِنْهُم صبَابَة يسيرَة وعصابة حقيرة فاعتنى بهم وجمعهم من الْقَبَائِل بعد الانتشار وَأَحْيَا رسمهم بعد الاندثار وأظهرهم بعد الخمول وأركبهم المسومة من الْخُيُول وَرفع لَهُم الْأَعْلَام والبنود وصيرهم من أعز الْجنُود وَهُوَ الَّذِي جدد هَذِه الدولة الإسماعيلية بعد تلاشيها وأحياها بعد خمود جمرتها وتمزيق حواشيها بِحسن سيرته ويمن نقيبته رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ وَهنا انْتهى بِنَا الْكَلَام على السَّادة الْأَشْرَاف أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل رحم الله الْجَمِيع بمنه قَالَ أكنسوس وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن كل من قَامَ مِنْهُم بعد بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَإِنَّمَا هُوَ ثَائِر عَلَيْهِ لَا إِمَامه لَهُ وَإِنَّمَا يكون خَبره مسوقا من جملَة أَخْبَار دولة الْمولى عبد الله قلت وَمثله يُقَال فِي السُّلْطَان الْمولى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل فَهُوَ الإِمَام الْمُعْتَبر وَالْمولى عبد الْملك خَارج عَلَيْهِ وَقد علم من مَذْهَب الأشعرية أَن طرُو الْفسق لَا يعْزل الإِمَام وَالله تَعَالَى أعلم وَأحكم انعطاف إِلَى سِيَاقَة الْخَبَر عَن خلَافَة سَيِّدي مُحَمَّد ابْن عبد الله بمراكش من مبتدئها إِلَى مُنْتَهَاهَا قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الله كَانَ قد خرج سنة سبع وَخمسين وَألف فِي طلب أَخِيه الْمولى المستضيء إِلَى أَن شرده عَن بِلَاد مسفيوة وَأَنه قدم عَلَيْهِ هُنَالك أهل مراكش وَرَغبُوا إِلَيْهِ أَن يدْخل حَضرتهمْ وَلم يساعده الْوَقْت فَلَمَّا عزم على القفول إِلَى بِلَاد الغرب بعث وَلَده الْأَكْبَر الْمولى أَحْمد إِلَى رِبَاط الْفَتْح نَائِبا عَنهُ بهَا وأضاف إِلَيْهِ قبائل الشاوية وَبني حسن وَمَا بَينهمَا وَبعث وَلَده الْأَصْغَر سَيِّدي مُحَمَّدًا مَعَ أهل مراكش نَائِبا عَنهُ فِيهَا فَكَانَ ذَلِك أول انغراس شَجَرَة الْملك الْعلوِي بمراكش واتخاذها كرسيا لَهُم وَلما وصل سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله إِلَى مراكش نزل بقصبتها وَهِي يَوْمئِذٍ خراب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 لَيْسَ بهَا إِلَّا آثَار السعديين والموحدين قبلهم قد أخنى عَلَيْهَا الدَّهْر وعشش بهَا الصدا والبوم فَضرب بهَا مضاربه ثمَّ شرع رَحمَه الله فِي حفر أساس دَاره بالفضاء الْبعيد عَن الْقُصُور الخربة بهَا من دَاخل السُّور وَلما رأى عرب الرحامنة ذَلِك اتَّفقُوا على مَنعه لأَنهم كَانُوا قد ألفوا العيث فِي أَطْرَاف مراكش فأحبوا أَن لَا تكون بهَا دولة تكبحهم عَن ذَلِك فَاجْتمع طَائِفَة من غوغائهم وتقدموا إِلَى الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد وجبهوه بِالْمَنْعِ وأخرجوه عَن القصبة بعد أَن شرع فِي الْعَمَل فانتقل سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله عَن مراكش إِلَى آسفي وَأما الْمولى أَحْمد صَاحب العدوتين فَإِنَّهُ قدم رِبَاط الْفَتْح وَنزل بالقصبة مِنْهَا وانضاف إِلَيْهِ عبيد القصبة وَاسْتمرّ خَليفَة بهَا إِلَى أَن سمع أهل العدوتين مَا عَامل بِهِ الرحامنة خَليفَة مراكش فَجرى هَؤُلَاءِ على سُنَنهمْ وَاتَّفَقُوا على طرد الْمولى أَحْمد بن عبد الله عَن بِلَادهمْ فتقدموا إِلَيْهِ بِالْحَرْبِ وحاصروه بالقصبة وَمَعَهُ عبيد فلَان الَّذين كَانُوا فِيهَا إدالة من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل وَقَطعُوا الْميرَة وَالْمَاء إِلَى أَن مسهم الْجهد وعضهم الْحصار فطلبوا الْأمان أَن يخرجُوا بِأَنْفسِهِم فأمنوهم وَخرج الْمولى أَحْمد فَسَار إِلَى أَخِيه سَيِّدي مُحَمَّد بآسفي فَنزل عَلَيْهِ ثمَّ كَانَ آخر أمره أَن توفّي بفاس كَمَا مر سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف وَلما خرج الْمولى أَحْمد إِلَى آسفي عمد أهل رِبَاط الْفَتْح إِلَى عبيد القصبة فأنزلوهم مِنْهَا وفرقوهم بِالْمَدِينَةِ حَتَّى لَا تبقى لَهُم شَوْكَة وَلَا عصبية هَذَا مَا كَانَ من خلَافَة الْمولى أَحْمد وَأما خلَافَة سَيِّدي مُحَمَّد فَإِنَّهُ لما خرج من مراكش قَاصِدا إِلَى آسفي اعترضته قبائل عَبدة وأحمر وضيفوه ببلادهم وأهدوا إِلَيْهِ وتسابقوا على الْخَيل ولعبوا بالبارود سُرُورًا بمقدمه وتنويها بِشَأْنِهِ وصحبوه إِلَى آسفي فَدَخلَهَا وَنزل بقصبتها ففرح أهل آسفي بمقدمه واغتبطوا بِهِ وَكَانَ مبارك الناصية أَيْنَمَا توجه وَلما اطمأنت بِهِ الدَّار رفع إِلَيْهِ أهل آسفي هداياهم وتبعهم على ذَلِك تجار النَّصَارَى وَالْيَهُود وتباروا فِي ذَلِك وتنافسوا فِيهِ وَعمر سوقه عرب عَبده برجالاتهم وأعيانهم وبذلوا لَهُ أَوْلَادهم لخدمته وأوصلوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ وسرح للتجار وسق السّلع بالمرسى فأهرعت إِلَيْهِ المراكب من بر النَّصَارَى بأنواع سلعها وقصدها التُّجَّار بالبضائع من كل جِهَة يبيعون بهَا ويشترون وَكَثُرت الْخيرَات ونمت البركات فاستركب واستلحق وَعلا أمره وطار صيته فِي الْبِلَاد الحوزية وَدخل الشياظمة وحاحة فِي طَاعَته وتباروا فِي خدمته فَلم تمض عَلَيْهِ سِتَّة أشهر حَتَّى كَانَ يركب فِي نَحْو الْألف فَلَمَّا سمع الرحامنة مَا صَار إِلَيْهِ أَمر عَبدة وأحمر اقتالهم من تشرفهم بولائه وتقدمهم فِي خدمته نفسوا ذَلِك عَلَيْهِم وراجعوا بصائرهم فَاجْتمع طَائِفَة من أعيانهم وَقدمُوا عَلَيْهِ آسفي وَقدمُوا بَين يديهم هَدِيَّة استرضوه بهَا وَلما دخلُوا عَلَيْهِ اعتذروا إِلَيْهِ مِمَّا فرط مِنْهُم ونسبوا ذَلِك إِلَى السُّفَهَاء وَأَنَّهُمْ لم يأمروا بِشَيْء من ذَلِك وَلَا رضوه وأقسموا لَهُ أَن لَا يبرحوا من بَابه حَتَّى يسير مَعَهم إِلَى مراكش وَلَو أَقَامُوا هُنَالك سنة وأسعفهم وَسَار مَعَهم وَصَحبه من أَعْيَان عَبدة نَحْو ألف فَارس وَكَانَ فِي موكبه من أَصْحَابه وحاشيته نَحْو الْخَمْسمِائَةِ كلهم بالخيول المسومة والشارة الْحَسَنَة والشكة التَّامَّة وَلما انْتهى إِلَى مراكش نزل بالقصبة وجاءه أهل مراكش بهداياهم وَكَذَا قبائل الْحَوْز ثمَّ تلاهم قبائل الدَّيْر كُله بهداياهم أَيْضا وَجَاء الرحامنة بأولادهم للْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مُنَافَسَة لعبدة وأحمر فِي ذَلِك وقفاهم فِي ذَلِك سَائِر أهل الْحَوْز وَقدم عَلَيْهِ عبيد دكالة الَّذين كَانُوا بسلا فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَحسنت مَنْزِلَتهمْ عِنْده وَلما سمع بذلك عبيد مكناسة تسللوا إِلَيْهِ فُرَادَى وأزواجا فاستعملهم فِي خدمَة الْبناء فبنوا بُيُوتهم وَأَصْلحُوا شؤونهم واجتهد هَذَا الْخَلِيفَة فِي بِنَاء دَاره الْكُبْرَى بقصبة مراكش إِلَى أَن أكملها وسكنها ثمَّ شرع فِي بِنَاء ماتلاشى من أسوار القصبة وَركب أَبْوَابهَا وأفردها عَن الْمَدِينَة ثمَّ غرس بستانا عَظِيما مُتَّصِلا بداره الْكُبْرَى على جِهَة الغرب سَمَّاهُ النّيل وَأسسَ قصرا آخرا مُتَّصِلا بغربي هَذَا الْبُسْتَان سَمَّاهُ الْقصر الْأَخْضَر وَيُسمى أَيْضا الْمَنْصُور وَجعل لهَذَا الْبُسْتَان أَرْبَعَة أَبْوَاب فِي زواياه الْأَرْبَع كَذَا قيل وَالْمَوْجُود الْيَوْم ثَلَاثَة أَبْوَاب فَقَط وَجعل لَهُ بَابَيْنِ آخَرين أَحدهمَا للدَّار الْكُبْرَى شرقا وَالْآخر للقصر الْأَخْضَر غربا وَجعل فِي وسط هَذَا الْبُسْتَان قبَّة منتخبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 يتَّصل بهَا من جهاتها الْأَرْبَع مماشي تمْضِي إِلَى قباب أخر منتخبة أَيْضا وَطول هَذَا الْبُسْتَان ينيف على مِائَتي خطْوَة تَقْرِيبًا وَعرضه قريب من ذَلِك وَهَذَا الْقدر هُوَ مساحة مَا بَين القصرين أَعنِي الدَّار الْكُبْرَى وَالْقصر الْأَخْضَر ثمَّ أصلح هَذَا الْخَلِيفَة جَامع الْمَنْصُور الَّذِي بالقصبة إِذْ كَانَ متهدما يَوْمئِذٍ ثمَّ أسس مَسْجِدا آخر للخطبة بجوار قصره وَهُوَ الْمَعْرُوف الْيَوْم بِمَسْجِد بريمة وَهُوَ مَسْجِد حافل بديع وَبنى مدرستين لطلبة الْعلم بالقصبة الْمَذْكُورَة وَبنى حَماما ببريمة وَعمر مَسَاجِد غير ذَلِك للأحرار وَالْعَبِيد وَفرق الْأَمْوَال على من انحاش إِلَيْهِ مِنْهُم لعمارة مساكنهم وَبِنَاء دُورهمْ بعد أَن كَانَت من الطين والقصب وَكتب الْكَتَائِب وجند الأجناد فَاجْتمع لَدَيْهِ من العبيد ألف وَخَمْسمِائة كلهم فَارس شاكي السِّلَاح وَمن عَبدة وأحمر مثل ذَلِك وَمن الرحامنة وَأهل الْحَوْز ألف فَارس كَذَلِك وَلما خرج العبيد بمكناسة على وَالِده وَقدمُوا عَلَيْهِ بمراكش مبايعين لَهُ عَاتَبَهُمْ وَقدم مكناسة وَأصْلح بَينهم وَبَين وَالِده كَمَا مر وَلما كَانَت سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف غزا بِلَاد السوس ودوخها ومهد أقطارها وجبى أموالها وَقرر الحامية بتارودانت مِنْهَا ثمَّ سَار إِلَى آكادير فَقبض على الطَّالِب صَالح الثائر بِهِ والمستبد بِمَال مرساه فسجنه واستصفى أَمْوَاله الَّتِي استفادها من المرسى ورتب الحامية فِي آكادير أَيْضا ثمَّ إِن الطَّالِب صَالحا الْمَذْكُور ذبح نَفسه فِي السجْن وأفضى إِلَى مَا قدم بعد أَن ترك فِي الْقطر السُّوسِي صيتًا وذكرا وَهُوَ الَّذِي يُوجد طابعه على السِّلَاح السُّوسِي من مكحلة وسكين وخنجر إِلَى الْآن وَهُوَ سلَاح منتخب عِنْدهم وقفل الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله إِلَى مراكش مؤيدا منصورا فَمَكثَ فِيهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ خرج غازيا بِلَاد الشاوية فِي السّنة نَفسهَا لما ظهر مِنْهُم من الْفساد وَقطع الطرقات وَنهب الْمَارَّة فَقتل من أعيانهم عددا وَبعث الْبَاقِي فِي السلَاسِل إِلَى مراكش ثمَّ تقدم إِلَى أَرض سلا فَبَاتَ برباط الْفَتْح وَخرج إِلَيْهِ أَهلهَا بالمؤن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 والهدايا وَاسْتَبْشَرُوا بمقدمه وَأما أهل سلا فَلم يخرج إِلَيْهِ مِنْهُم أحد بل أغلق صَاحبهَا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش أَبْوَابهَا فِي وَجهه فَأَعْرض عَنهُ سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وتنكب الْمُرُور بسلا وَعبر مشرع الْمجَاز أَسْفَل من العدوتين وَسَار إِلَى قصر كتامة من بِلَاد الهبط فَقدم عَلَيْهِ بِهِ عبيد مكناسة مَعَ كَبِيرهمْ الباشا الزياني وَفِي ذَلِك الْيَوْم قتل العبيد باشاهم الْمَذْكُور وَقتلُوا مَعَه الْقَائِد يُوسُف السِّلَاح لِأَنَّهُمَا كَانَا يمنعانهم من الْقدوم عَلَيْهِ إِلَى مراكش فولى عَلَيْهِم الْقَائِد سعيد بن العياشي وَمن الْغَد ارتحل إِلَى تطاوين فَتَلقاهُ أَهلهَا مَعَ قائدهم مُحَمَّد بن عمر الوقاش فَقبض عَلَيْهِ وتهدده ثمَّ أطلقهُ ثمَّ مضى إِلَى جِهَة سبتة حَتَّى أشرف عَلَيْهَا ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى طنجة ثمَّ كرّ رَاجعا فَمر بالعرائش ثمَّ بسلا فَلم يحفل بِهِ عبد الْحق أَيْضا فطوى لَهُ سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله على الْبَتّ ثمَّ سَار إِلَى مراكش فاستقر بهَا مؤيدا منصورا إِلَى أَن وافته الْخلَافَة الْكُبْرَى بهَا بعد وَفَاة وَالِده رَحمَه الله تمّ الْجُزْء السَّابِع ويليه الْجُزْء الثَّامِن وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة العلوية الْقسم الثَّانِي الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لما توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الله بن إِسْمَاعِيل فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم أَعنِي السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر الْخَيْر سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَألف كَانَ النَّاس قد سئموا الْهَرج والفتن وأعياهم التفاقم وَالِاضْطِرَاب وملوا الْحَرْب وملتهم إِذْ كَانَت أَيَّامه لَا سِيمَا أخرياتها كأيام الفترة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُلْطَان وَكَانَت حَال الرّعية مَعَه مثل الفوضى الَّذين لَا وازع لَهُم فَكَانَ ذَلِك من أقوى الْأَسْبَاب الَّتِي صرفت وُجُوه أهل الْمغرب كُله إِلَى بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وجمعت كلمتهم عَلَيْهِ لَا سِيمَا مَعَ مَا كَانَ قد ظهر مِنْهُ أَيَّام خِلَافَته من حسن السياسة وَكَمَال النجدة وجودة الرَّأْي وَتَمام الْمعرفَة بإدارة الْأُمُور على وَجههَا وإجرائها على مُقْتَضى صوابها حَتَّى أحبته الْقُلُوب وعلقت بِهِ الآمال وَعرفت لَهُ من بَين بني أبيَّة تِلْكَ الشنشنة وتضافرت على ولائه وَنَصره الْقُلُوب والألسنة فَلَمَّا قضى الله بوفاة وَالِده بَادر أهل فاس إِلَى عقد الْبيعَة لَهُ من غير توقف وَلَا تريث قَالَ وَلَده الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد الْمولى عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن عبد الله فِي كِتَابه الْمُسَمّى بدرة السلوك بُويِعَ لمولانا الْوَالِد السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله الْبيعَة الْعَامَّة الصَّحِيحَة التَّامَّة وحضرها جمَاعَة من أَعْيَان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 الْعلمَاء مثل قَاضِي الْجَمَاعَة بمكناسة السَّيِّد سعيد العميري وقاضي الْجَمَاعَة بفاس السَّيِّد عبد الْقَادِر أبي خريص وَشَيخ الْجَمَاعَة بهَا السَّيِّد مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام الْمُحَقق حَامِل لِوَاء الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول الشَّيْخ أبي حَفْص عمر الفاسي وَابْن عَمه السَّيِّد أبي مَدين الفاسي وَهُوَ الَّذِي تولى كِتَابَة الْبيعَة بِيَدِهِ وَإِمَام جَامع الشرفاء بفاس الْأُسْتَاذ الْمولى عبد الرَّحْمَن المنجرة وَالشَّيْخ الْعَلامَة السَّيِّد التاودي ابْن سَوْدَة المري وَإِمَام الْمَسْجِد الْكَبِير بفاس الْجَدِيد السَّيِّد عبد الله السُّوسِي وَالْإِمَام الْحَافِظ السَّيِّد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس الْعِرَاقِيّ وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة وَقَوله فِي قَاضِي مكناسة السَّيِّد سعيد العميري صَوَابه ابْنه أَبُو الْقَاسِم العميري وَوصل الْخَبَر بِمَوْت السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَهُوَ بمراكش فَأَقَامَ مأتمه وازدحم على بيعَته أهل مراكش وقبائل الْحَوْز والدير وقدمت عَلَيْهِ وُفُود السوس وحاحة بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ العبيد والودايا وَأهل فاس من الْعلمَاء والأشراف وَسَائِر الْأَعْيَان وقبائل الْعَرَب والبربر وَالْجِبَال وَأهل الثغور كل ببيعته وهديته لم يتَخَلَّف عَنهُ أحد من أهل الْمغرب فَجَلَسَ للوفود إِلَى أَن فرغ من شَأْنهمْ وَأَجَازَهُمْ وَزَاد العبيد بِأَن أَعْطَاهُم خيلا كَثِيرَة وسلاحا كثيرا عرفُوا بهَا محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين مغتبطين مَجِيء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله عقب الْبيعَة من مراكش إِلَى فاس وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك لما فرغ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد رَحمَه الله من أَمر الْوُفُود أَخذ فِي الاستعداد للنهوض إِلَى الغرب فَخرج من مراكش فِي عَسْكَر الْحَوْز ووجوهة حَتَّى انْتهى إِلَى مكناسة فَدخل دَار الْملك بهَا وَفرق على العبيد الْخَيل وَالسِّلَاح وَالْمَال وَكَانُوا على غَايَة من سوء الْحَال والاستكانة لغَلَبَة البربر إِذْ كَانُوا يتخطفون أَوْلَادهم من البحائر والجنات ويبيعونهم فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 قبائلهم كَمَا قُلْنَا فجبر الله صدعهم بِولَايَة هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل ثمَّ لما قضى إربه من مكناسة ارتحل إِلَى فاس وَلما نزل فِي عساكره بالصفصافة خرج لملاقاته الودايا وَأهل فاس فهش للنَّاس وألان جَانِبه لَهُم وَاخْتَلَطَ بهم فَكَانُوا يطوفون بِهِ ويقبلون أَطْرَافه وَلَا يمنعهُم أحد وَفرق المَال وَالْكِسْوَة وَالسِّلَاح فِي الودايا وَعبيد السلوقية وَأعْطى الْفُقَهَاء والأشراف وطلبة الْعلم وَأهل الْمدَارِس والمكتبيين وَالْأَئِمَّة والمؤذنين والفقراء وَالْمَسَاكِين وأزاح علل الْجَمِيع وَلم يحرم أحدا وَلما حضرت الْجُمُعَة جَاءَ من الْمحلة فِي تَرْتِيب حسن وزي عَجِيب فَخرج أهل البلدين لرُؤْيَته وامتلأت الأَرْض من العساكر والنظارة وَدخل فاسا الْجَدِيد فصلى بِهِ الْجُمُعَة ثمَّ جلس لفقهاء الْوَقْت وَسَأَلَ عَنْهُم وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى عرفهم ثمَّ خرج إِلَى تربة وَالِده فزارها وَأمر بتفريق الصَّدقَات عِنْدهَا وترتيب الْقُرَّاء بهَا ثمَّ دخل إِلَى دَار الْحرم فَوقف على من بهَا من أخواته وعزاهن فِي مصاب والدهن وَطيب نفوسهن ثمَّ رَجَعَ عَشِيَّة النَّهَار إِلَى الْمحلة فَبَاتَ بهَا وَمن الْغَد جَاءَ إِلَى دَار الدبيبغ فَدَخلَهَا ووقف على متخلف وَالِده من مَال وأثاث وَسلَاح وخيل إِلَى أَن عاينه وأحصاه وَأبقى ذَلِك بيد من كَانَ بِيَدِهِ من أَصْحَاب وَالِده وأوصاهم بالاحتفاظ بِهِ بعد أَن جعل الْجَمِيع إِلَى نظر الْحَاجِب أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب اليموري وعامل أَصْحَاب أَبِيه بالجميل وخفض لَهُم الْجنَاح وألان لَهُم القَوْل ووصلهم بِمَال اقتسموه فِيمَا بَينهم ثمَّ بعد ذَلِك حَاز مِنْهُم مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم من مَال وَالِده فَكَانَ أَكْثَره ذَهَبا من ذَلِك ألف خرج وَتَسْمِيَة المغاربة السماط من الْجلد الفيلالي بأقفالها فِي كل وَاحِد ألفا دِينَار بالتثنية من ضربه وَكَانَت تكون على سروج خيله فِي السّفر فَإِذا نزل الْجَيْش وَضربت الأخبية رَفعهَا الموكلون بهَا كل وَاحِد اسْمه وعينه إِلَى الْقبَّة السُّلْطَانِيَّة وَعند الرحيل كَذَلِك تدفع لَهُم بالإحصاء وَالتَّقْيِيد وَمن ذَلِك مائَة رحى من الذَّهَب الْخَالِص كقرص الشمع فِي كل رحى وزن أَرْبَعَة آلَاف ريال وَكَانَت تكون مَحْمُولَة على البغال فِي أعدالها مغطاة بالقطائف الْمُسَمَّاة عِنْد المغاربة بالحنابل مشدودا عَلَيْهَا بالحبال أَربع أرحاء فِي كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 عَدْلَيْنِ فالمجموع خمس وَعِشْرُونَ بغلة تسير أَمَامه فَإِذا نزل الْجَيْش رفعت إِلَى الْقبَّة السُّلْطَانِيَّة كَالَّذي قبلهَا وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الله رَحمَه الله يرى ذَلِك من الحزم حَيْثُ يحمل مَاله مَعَه أَيْنَمَا سَار لَا يُفَارِقهُ وَمِمَّا وجده سَيِّدي مُحَمَّد من مَال وَالِده أَيْضا ثَلَاثمِائَة ألف ريال إِلَّا خَمْسَة عشر ألفا وَوجد نَحْو الْعشْرين ألفا من الموزونات الدقيقة من ضرب سكته هَذَا مَا خَلفه رَحمَه الله من المَال الصَّامِت وَكَانَ يكون على يَد الْقَائِد علال بن مَسْعُود من وصفانه فحاز ذَلِك كُله أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد وَنَقله إِلَى محلته ووكل بِهِ وزعته وَتقدم إِلَى أَصْحَابه بِأَن يعاملوا أَصْحَاب أَبِيه بالتوقير والاحترام ونظمهم فِي سلك خدمته فَمن ظَهرت نجابته أدناه وَمن لَا عِبْرَة بِهِ أقصاه ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بفاس عَامَّة قبائل الغرب وازدلفوا اليه بالهدايا والتحف فَأكْرم كلا بِمَا يُنَاسِبه وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره سهل الْحجاب رَفِيقًا لم يعْزل أحدا من قواد الْقَبَائِل وعمال الحواضر الَّذين كَانُوا فِي دولة أَبِيه فِي حكم الاستبداد بل أبقى مَا كَانَ وَلم ينكب أحدا إِلَّا بعد الِاسْتِبْرَاء والاختبار غير أَن أهل تطاوين كَانَ قائدهم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الوقاش منحرفا عَنهُ أَيَّام خِلَافَته بمراكش فَكَانَ إِذا كتب اليه بِأَمْر نبذه وَرَاء ظَهره وَرُبمَا قَالَ للرسول الْمَرْأَة لَا تتَزَوَّج برجلَيْن أَو كلَاما يشبه هَذَا يَعْنِي أَنه مجبور لطاعة السُّلْطَان الْمولى عبد الله فَلَمَّا بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم حَضْرَة فاس انقبض عَنهُ الوقاش الْمَذْكُور وعاذ بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش بِمَالِه وَولده خوفًا على نَفسه من السُّلْطَان لسوء مَا قدم ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل تطاوين طائعين متنصلين من فعل عاملهم الْمَذْكُور ومخبرين بِشَأْنِهِ فولى السُّلْطَان عَلَيْهِم الْفَقِيه أَبَا مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن زاكور أحد كِتَابه كَانَ بَعثه من مراكش إِلَى العرائش واليا عَلَيْهَا فَلَمَّا وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين ولاه عَلَيْهِم لكَونه حضريا مثلهم وَأقَام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله بفاس شَهْرَيْن وَعَاد إِلَى مكناسة وَالله أعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 إِحْدَاث المكس بفاس وبسائر أَمْصَار الْمغرب وَمَا قيل فِي ذَلِك لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله وَقدم حَضْرَة فاس رفع إِلَيْهِ أَهلهَا مَا كَانُوا يؤدونه إِلَى وَالِده الْمولى عبد الله مِمَّا كَانَ موظفا على الموازين كميزان سَيِّدي فرج وميزان قاعة السّمن وميزان قاعة الزَّيْت وَغير ذَلِك وَقدره ثَلَاثمِائَة مِثْقَال فِي كل شهر يجب فِيهَا لكل سنة ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وسِتمِائَة مِثْقَال فَلَمَّا حضر فُقَهَاء فاس عِنْد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد كَلمهمْ فِي شَأْنهَا حَتَّى يكون الْأَمر فِيهَا مُسْندًا إِلَى فَتْوَى الْفُقَهَاء فَقَالُوا إِذا لم يكن للسُّلْطَان مَال جَازَ لَهُ أَن يقبض من الرّعية مَا يستخدم بِهِ الْجند فَأَمرهمْ أَن يكتبوا لَهُ فِي ذَلِك فَكَتَبُوا لَهُ تأليفا اعْتَمدهُ السُّلْطَان ووظف على الْأَبْوَاب والغلات والسلع وَكَانَ مِمَّن كتب لَهُ فِي ذَلِك الْعَلامَة الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة والعلامة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام أَبُو حَفْص عمر الفاسي والفقيه الشريف أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المنجرة والفقيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق الطرابلسي والفقيه القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر أَبُو خريص وَغَيرهم فاعتمد السُّلْطَان على فتواهم ووظف مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَاعْلَم أَن أَمر المكس مِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الأقطار والدول مُنْذُ الْأَعْصَار المتطاولة والسنين الأول فَلَا بَأْس أَن نذْكر مَا حَرَّره الْعلمَاء فِي ذَلِك فَنَقُول قد تكلم على ذَلِك الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كِتَابه شِفَاء الغليل بِمَا نَصه فَإِن قَالَ قَائِل توظيف الْخراج على الأَرْض وَوُجُوب الارتفاقات مصلحَة ظَاهِرَة لَا تنتظم أُمُور الْوُلَاة فِي رِعَايَة الْجند والاستظهار بكثرتهم وَتَحْصِيل شَوْكَة الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ وَلذَلِك لم يلف عصر خَالِيا عَنهُ والملوك على تفَاوت سيرهم وَاخْتِلَاف أَخْلَاقهم تطابقوا عَلَيْهِ وَلم يستغنوا عَنهُ فَلَا تنتظم مصلحَة الدّين وَالدُّنْيَا إِلَّا بِإِمَام مُطَاع ووال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 مُتبع يجمع شتات الْإِيمَان ويحمي حوزة الدّين وبيضة الْإِسْلَام ويرعى مصلحَة الْمُسلمين وغبطة الْأَنَام وَلَا يستتب ذَلِك إِلَّا بنجدته وشوكته وَجُنُوده وعدته فيهم مجاهدة الْكفَّار وحماية الثغور وكف أَيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَال وَالْحرم والأزواج فهم الحراس للدّين عَن أَن تنْحَل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الْكفَّار فِي بِلَاد الْمُسلمين وهم الحماة للدنيا عَن أَن يخْتل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام النَّاس بِفضل العرامة والباس وَلَا يخفى عَلَيْكُم كَثْرَة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم فِي نُفُوسهم وعيالهم والمرصد لَهُم خمس الْخمس من الْغَنَائِم والفيء وَذَلِكَ مِمَّا يضيق فِي غَالب الْأَمر عَن الْوَفَاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وَلَيْسَ يعم ذَلِك الا بتوظيف الْخراج على الْأَغْنِيَاء فَإِن كُنْتُم تتبعون الْمصَالح فَلَا بُد من الترخيص فِي ذَلِك مَعَ ظُهُور الْمصلحَة قُلْنَا الَّذِي نرَاهُ جَوَاز ذَلِك عِنْد ظُهُور الْمصلحَة وَإِنَّمَا النّظر فِي بَيَان وَجه الْمصلحَة فَنَقُول أَولا التوظيف فِي عصرنا هَذَا مزاجه ومنهاجه ظلم مَحْض لَا رخصَة فِيهِ فَإِن آحَاد الْجند لَو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقدرا صَالحا من الْوَقْت وَقد شمخوا بتنعمهم وترفههم فِي الْعَيْش وإسرافهم فِي إفَاضَة الْأَمْوَال على العيارة ووجوه التجمل على سَائِر الأكاسرة فَكيف يقدر احتياجهم إِلَى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم وكافة أَغْنِيَاء الدَّهْر فُقَرَاء بِالْإِضَافَة إِلَيْهِم فَأَما لَو قَدرنَا إِمَامًا مُطَاعًا مفتقرا إِلَى تَكْثِير الْجند لسد الثغور وحماية الْملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وَقد خلا بَيت المَال عَن المَال وأرهقت حَاجَة الْجند إِلَى مَا يكفيهم وخلت عَن مِقْدَار كفايتهم أَيْديهم فللإمام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مَا يرَاهُ كَافِيا لَهُم فِي الْحَال إِلَى أَن يظْهر مَال فِي بَيت المَال ثمَّ إِلَيْهِ النّظر فِي توظيف ذَلِك على وُجُوه الغلات والارتفاقات بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي تَخْصِيص بعض النَّاس بِهِ إِلَى إيغار الصُّدُور وإيحاش الْقُلُوب وَيَقَع ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 قَلِيلا من كثير وَلَا يجحف بهم وَيحصل بِهِ الْغَرَض ثمَّ اسْتدلَّ الشَّيْخ أَبُو حَامِد رَضِي الله عَنهُ لذَلِك من النَّقْل وَالْعقل بِمَا يطول جلبه وَقَالَ فِي كِتَابه الْمُسْتَصْفى مَا نَصه إِن قيل توظيف الْخراج من الْمصَالح فَهَل إِلَيْهِ من سَبِيل قُلْنَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ مَعَ كَثْرَة الْأَمْوَال فِي أَيدي الأجناد أما إِذا خلت الْأَيْدِي وَلم يكن فِي بَيت المَال مَا يَفِي بخراجات الْعَسْكَر وَلَو تفَرقُوا وَاشْتَغلُوا بِالْكَسْبِ لخيف دُخُول الْكفَّار بِلَاد الْإِسْلَام فَيجوز للْإِمَام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مِقْدَار كِفَايَة الْجند ثمَّ إِن رأى فِي طَرِيق التَّوْزِيع التَّخْصِيص بالأراضي فَلَا حرج لأَنا نعلم أَنه إِذا تعَارض شران وضرران وَجب دفع أَشد الضررين وَأعظم الشرين وَمَا يُؤَدِّيه كل وَاحِد مِنْهُم قَلِيل بِالْإِضَافَة إِلَى مَا يخاطر بِهِ من نَفسه وَمَاله وَلَو خلت خطة الْإِسْلَام عَن ذِي شَوْكَة يحفظ نظام الْأُمُور وَيقطع مَادَّة الشرور لفسدت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَقَوله على الْأَغْنِيَاء يُرِيد من لَهُ قدرَة وطاقة على دفع شَيْء لَا يجحف بِهِ وَوَقع فِي جَوَاب للْقَاضِي أبي عمر بن مَنْظُور رَحمَه الله إِن لضرب الْخراج وتوظيفه على الْمرَافِق شُرُوطًا الأول مِنْهَا أَن يعجز بَيت المَال وتتعين حَاجَة الْجند فَلَو كَانَ فِي بَيت المَال مَا يقوم بِهِ لم يجز أَن يفْرض على الرّعية شَيْء قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة صَاحب مكس وَهُوَ إغرام المَال ظلما ثَانِيهمَا إِن الإِمَام يتَصَرَّف فِيهِ بِالْعَدْلِ فَلَا يجوز لَهُ أَن يستأثر بِهِ دون الْمُسلمين وَلَا أَن يُنْفِقهُ فِي سرف وَلَا أَن يُعْطي من لَا يسْتَحق وَلَا أَن يُعْطي أحدا أَكثر مِمَّا يسْتَحق ثَالِثهَا أَن يصرفهُ فِي مصروفه بِحَسب الْمصلحَة وَالْحَاجة لَا بِحَسب الشَّهْوَة وَالْغَرَض وَهَذَا يرجع إِلَى الثَّانِي رَابِعهَا أَن يكون الْغرم على من يكون قَادِرًا عَلَيْهِ من غير ضَرَر وَلَا إجحاف وَمن لَا شَيْء لَهُ أَو لَهُ شَيْء قَلِيل فَلَا يغرم شَيْئا خَامِسهَا أَن الإِمَام يتفقد هَذَا فِي كل وَقت فَرُبمَا جَاءَ وَقت لَا يفْتَقر فِيهِ إِلَى زِيَادَة على مَا فِي بَيت المَال وَكَذَلِكَ إِذا تعيّنت الْمصلحَة فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 المعونة بالأبدان وَلم يكف المَال فَإِن النَّاس يجبرون على التعاون بأبدانهم على الْأَمر الدَّاعِي للمعونة بِشَرْط الْقُدْرَة وَتعين الْمصلحَة والافتقار إِلَى ذَلِك انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ وَالله تَعَالَى أعلم مقتل أبي الصخور الخمسي وَمَا كَانَ من أمره لما رَجَعَ السُّلْطَان مُحَمَّد بن عبد الله من فاس إِلَى مكناسة أَقَامَ بهَا يَسِيرا ثمَّ خرج إِلَى جبال غمارة بِسَبَب مَا بلغه عَن المرابط أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الخمسي الْمَعْرُوف بِأبي الصخور وَكَانَ لَهُ صيت وشهرة بقبائل الْجَبَل وَكَانَ يظْهر التنسك وَالْعِبَادَة وَيَزْعُم أَنه يستخدم الْجِنّ فَكَانَ للعامة فِيهَا اعْتِقَاد كَبِير ثمَّ صَار يَقُول للنَّاس هَذَا السُّلْطَان لَا تطول مدَّته فَأَخذه السُّلْطَان وَقَتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى فاس وَولى على قبائل غمارة والأخماس وَتلك النواحي الباشا العياشي وأنزله بِمَدِينَة شفشاون وقفل إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا مَرِيضا فاتح محرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة وَألف فَقَالَ المرجفون مَا أَصَابَهُ الْمَرَض إِلَّا من قَتله لأبي الصخور وَقَالُوا إِنَّه قد صدق فِي قَوْله لَا تطول مدَّته فعافى الله السُّلْطَان وأكذب ظن الشَّيْطَان وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة إِلَى أَن انْسَلَخَ الْمحرم وَدخل صفر فَعَاد إِلَى مراكش بعد أَن أَمر بِنَقْل عبيد السلوقية إِلَى مكناسة وضمهم إِلَى إخْوَانهمْ واستصحب مَعَه إِلَى مراكش من رجالتهم ألفا فَلَمَّا دَخلهَا أَعْطَاهُم الْخَيل وَالسِّلَاح والكسي وعادوا إِلَى مكناسة ثمَّ قدم عَلَيْهِ مِنْهُم ألف آخر فأركبهم وكساهم وَاسْتمرّ حَاله مَعَهم على هَذَا إِلَى أَن استوفوا خيلهم وسلاحهم وكساهم وَلم يسألهم عَمَّا كَانَ فِي أَيْديهم أَيَّام الفترة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الثغور وتفقده أحوالها ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش فَقدم مكناسة وَفرق الرَّاتِب على العبيد بهَا وَبعث إِلَى الودايا راتبهم وَأمرهمْ بالنهوض مَعَه للتطواف على الثغور البحرية من بِلَاد الْمغرب فَخرج من مكناسة حَتَّى أَتَى مَدِينَة تطاوين فَنزل بهَا وَأمر بِبِنَاء برج مرتيل الَّذِي بهَا وَفرق المَال على العبيد المقيمين بِهِ مُنْذُ أَيَّام السُّلْطَان إِسْمَاعِيل وهم بَقِيَّة عبيد سبتة أَعنِي الَّذين كَانُوا يرابطون عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لما انحل نظام الْملك بِمَوْت الْمولى إِسْمَاعِيل وتفرق العبيد المرابطون على سبتة فلحقت كل طَائِفَة مِنْهُم بقبيلتها الَّتِي جلبت مِنْهَا بَقِي هَذَا الْألف الَّذِي لَا قَبيلَة لَهُ هُنَالك فنقلهم أَبُو حَفْص الوقاش إِلَى مرتيل وَأحسن إِلَيْهِم وَصَارَ يدْفع بهم فِي نحر من يُريدهُ بمكورة من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ ثمَّ رَحل السُّلْطَان من تطاوين إِلَى طنجة وَجعل طَرِيقه على سبتة فَمر بهَا ووقف عَلَيْهَا وَنظر إِلَى حصانتها ومناعتها وَتحقّق أَن لَا مطمع فِيهَا إِلَّا بالجد وَأمر الْعَسْكَر الَّذين حوله بِإِخْرَاج دفْعَة من البارود وتسميها الْعَامَّة حاضرونا فَفَعَلُوا وأجابهم النَّصَارَى بِمثل ذَلِك بالمدافع والكور حَتَّى تزلزلت الْجبَال فَعجب السُّلْطَان من ذَلِك وَمَا كَانَ قَصده بِهَذِهِ السفرة إِلَّا الْوُقُوف على سبتة واختبار حَالهَا لِأَنَّهُ لم ينظر إِلَيْهَا بِعَين التَّأَمُّل والاختبار فِي الْمرة الأولى فَلَمَّا تبين لَهُ حَالهَا أرجأ أمرهَا إِلَى يَوْم مَا وَأوصى أهل آنجرة بِتَعْيِين حِصَّته من الرُّمَاة لحراسة نَوَاحِيهَا وَالْوُقُوف على حُدُودهَا وبذل لَهُم مَالا يستعينون بِهِ على ذَلِك ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَنزل قَرِيبا مِنْهَا وَخرج إِلَيْهِ أعيانها ورؤساؤها من أهل الرِّيف بقضهم وقضيضهم يتقدمهم باشاهم عبد الصَّادِق بن أَحْمد بن عَليّ الريفي كَانَ قد قدم عَلَيْهِ بمراكش أَيَّام خِلَافَته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 بهَا فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدي السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة أكْرمهم وَفرق المَال والكسي فيهم وَأمر الباشا عبد الصَّادِق أَن يبْعَث أَخَاهُ عبد الْهَادِي للوقوف على إنْشَاء الغلائط بتطاوين ثمَّ سَار السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى العرائش فألفاها خَالِيَة لَيْسَ بهَا إِلَّا نَحْو الْمِائَتَيْنِ من أهل الرِّيف تَحت كنف أهل الغرب فولى عَلَيْهَا عبد السَّلَام بن عَليّ وعدي ثمَّ أنزل بهَا مائَة من عبيد مكناسة ثمَّ سَار إِلَى سلا فَعبر الْوَادي وَنزل برباط الْفَتْح وَأقَام بِهِ أَيَّامًا وَأمر قائده أَبَا الْحسن عليا مارسيل أَن يَبْنِي صقالة أَي برجا كَبِيرا على الْبَحْر وَأمر قَائِد سلا عبد الْحق فنيش أَن يَبْنِي مثلهَا بسلا على الْبَحْر مقابلتها ثمَّ أَمر بإنشاء سفينتين إِحْدَاهمَا لأهل سلا وَالْأُخْرَى لأهل رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت عِنْدهم سفينة وَاحِدَة مُشْتَركَة بَينهم أنشؤوها أَيَّام الفترة وفيهَا كَانُوا قد خَرجُوا إِلَى حصن آكادير وَمِنْه بعثوا وفدهم إِلَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَليفَة بمراكش فَأكْرم الرُّسُل وَبعث مَعَهم مَالا كثيرا إِلَى الْمُجَاهدين بالعدوتين وَفِي مُدَّة مقَامه برباط الْفَتْح هَذِه الْمرة صرف جَيش العبيد والودايا إِلَى بِلَادهمْ وَسَار هُوَ إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا كتب إِلَى تجار النَّصَارَى بآسفي يَأْمُرهُم أَن يشتروا لَهُ إِقَامَة المراكب القرصانية من صواري ونطاقات وقمن ومخاطيف وحبال وقلوع وبتاتي وَغير ذَلِك فتنافسوا فِي شِرَاء ذَلِك وازدلفوا إِلَى السُّلْطَان بجلبه وانتخابه ثمَّ استقدم جراطين الصَّحرَاء الَّذين بالرتب وتافيلالت وهم الْجَبَابِرَة والمعاركة وَأَوْلَاد أبي أَحْمد لما بلغه عَنْهُم من أَنهم يعينون عَمه الْمولى الْحسن على محاربة الْأَشْرَاف الَّذين هُنَالك فنقلهم إِلَى مكناسة وَأَعْطَاهُمْ الْكسْوَة وَالسِّلَاح وكتبهم فِي ديوَان الْجَيْش وَفِي هَذِه السّنة وصل الْخَبَر بِمَوْت الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل بتافيلالت كَمَا مر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بالودايا وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ هَؤُلَاءِ الودايا أحد أَرْكَان الْعَسْكَر الْإِسْمَاعِيلِيّ حَسْبَمَا تقدم وَكَانَ الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله قد اعتنى بشأنهم وَأخذ بضبعهم وجمعهم بعد الْفرْقَة وأغناهم بعد الْعيلَة وأسكنهم فاسا الجديدة وأعماله فاستوطنوه وألفوه وصاروا هم أَهله بَين سَائِر الْجند فَكَانَ لَهُم فِي الدولة الْغناء الْكَبِير وَاتَّخذُوا الدّور والقصور وتوالت عَلَيْهِم بالعز وإباية الضيم السنون والشهور وَلما توفّي رَحمَه الله كَانُوا بفاس الْجَدِيد على غَايَة من تَمام الشَّوْكَة وَكَمَال العصبية وَقد ملكوا أَمر أنفسهم على الدولة وغلظت قناتهم على من يُرِيد غمزها من أَهلهَا فَكَانَت أَحْكَام الْمُلُوك من أَوْلَاد الْمولى إِسْمَاعِيل لَا تمْضِي عَلَيْهِم سِيمَا مَعَ مَا حازوه من شرف الخؤلة للسُّلْطَان الْمولى عبد الله الَّذِي هُوَ أكبرهم قدرا وأعظمهم صيتًا وَكَانَ شَأْنه مَعَهم أَن يستكثر بهم تَارَة وَعَلَيْهِم أُخْرَى والفتن فِيمَا بَين ذَلِك قَائِمَة حَسْبَمَا مر شرح ذَلِك مُسْتَوفى فَلَمَّا كَانَت أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله وَهلك مُحَمَّد واعزيز كَبِير البربر افْتَرَقت آيت أدراسن وجروان وَوَقعت الْحَرْب بَينهم مرَّتَيْنِ أعَان فِيهَا الودايا جروان وألحوا على آيت أدراسن بالنهب وَالْقَتْل حَتَّى أجلوهم من تِلْكَ الْبِلَاد ثمَّ لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد انحاز إِلَيْهِ آيت أدراسن إِذْ هم شيعَة أَبِيه أَيَّام مُحَمَّد واعزيز فولى عَلَيْهِم ولد مُحَمَّد واعزيز وأنزلهم بأحواز مكناسة إِذْ كَانَ عَالما بِمَا ناله من جروان والودايا وتظاهرهم عَلَيْهِم واشتغالهم مَعَ ذَلِك بإفساد السابلة وَقبض الخفارات عَلَيْهَا وَكَانَ رئيسهم لذَلِك الْعَهْد رجلا يُقَال لَهُ جبور لصا مبيرا فآخى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بَين آيت أدراسن وآيت يمور وحالف بَينهم وَأوصى عَامله على مكناسة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 بهم وَتقدم إِلَى جروان بالكف عَن إذابتهم فَلم يرجِعوا وَلم يقلعوا بل تَمَادَوْا على حَرْب آيت أدراسن وظاهرهم الودايا على عَادَتهم وَأَرَادُوا أَن يَسِيرُوا فيهم بالسيرة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك يتم لَهُم مَعَ ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وهيهات (إِذا رَأَيْت نيوب اللَّيْث بارزة ... فَلَا تَظنن أَن اللَّيْث مبتسم) وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان أَمر قَائِد العبيد وقائد آيت يمور أَن يشدوا عضد آيت أدراسن وينهضوا لنصرتهم على أعدائهم جروان حَيْثُ انتصرت لَهُم الودايا فهاجت الْحَرْب وكشرت عَن أنيابها وشمرت عَن سَاقهَا فبرز الودايا بجموعهم ونزلوا بوادي فاس فِي أول يَوْم من رَمَضَان وَأَقَامُوا هُنَالك مفطرين منتهكين لحُرْمَة الصّيام بسفرهم الْحَرَام ثمَّ اجْتَمعُوا هم وجروان وَسَارُوا إِلَى جِهَة مكناسة وَأَقْبل آيت أدراسن نحوهم بِمن لافهم من العبيد وآيت يمور فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي ويسلن فَوَقَعت الْحَرْب فانتصر آيت أدراسن عَلَيْهِم وهزموهم وانتهبوا محلّة جروان ومحلة الودايا وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وحزوا رُؤُوس أعيانهم فعلقوها على الْبَاب الْجَدِيد من مكناسة وَرجع الودايا إِلَى فاس مفلولين لم يتَقَدَّم لَهُم مثلهَا وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بالسلطان اغتاظ على الودايا بِسَبَب افتياتهم عَلَيْهِ وانتهاكهم حُرْمَة جواره فعزم على الْمَكْر بهم وأسرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَاسْتمرّ مُقيما بمراكش إِلَى أَن دخلت سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَألف فَخرج من مراكش قَاصِدا مكناسة ومضمرا الْإِيقَاع بالودايا وأحس الودايا بذلك مِنْهُ فَلَمَّا وصل إِلَى مكناسة بعثوا إِلَيْهِ عجائزهم متشفعات ومعتذرات عَمَّا فرط مِنْهُم فاجتمعن بِهِ أثْنَاء الطَّرِيق وتوسلن إِلَيْهِ بالرحم والقرابة فرق لَهُنَّ وأعطاهن كسى ودراهم وعدن صحبته إِلَى فاس فَنزل بالصفصافة وخيمت بهَا عساكره وَخرج أهل فاس والودايا لملاقاته فألان لَهُم القَوْل وَأظْهر الْبشر وَمن الْغَد أَمر بعمارة المشور بدار الدبيبغ وَقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أهل فاس طَعَام الضِّيَافَة على الْعَادة فَأمر السُّلْطَان بإدخاله إِلَى دَار الدبيبغ وَلما صلى الْعَصْر خرج على النَّاس بالمشور فَوقف لَهُم وَقدم الْوُفُود هداياهم على الْعَادة وَلما فرغ من ذَلِك كُله أَمر العبيد والودايا بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الدبيبغ لأكل طَعَام الضِّيَافَة وَكَانَ قد أعد بهَا ألفا من المسخرين للقبض على أَعْيَان الودايا أفردهم فِي نَاحيَة فَلَمَّا دخلُوا وغلقت الْأَبْوَاب وَثبُوا عَلَيْهِم وجردوهم من السِّلَاح وكتفوهم وألقوهم على الأَرْض وَلما طعم الْجَيْش وَسَائِر النَّاس أَمر السُّلْطَان الْخَيل بالركوب وَشن الغارات على حلَّة الودايا والمغافرة بلمطة فركبت الْخُيُول وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم وَسَار السُّلْطَان فِي موكبه خَلفهم وَلما شَرق شارق فاسا الْجَدِيد رَمَاه الودايا من أبراجه بالكور فَلم تغن شَيْئا وَتقدم السُّلْطَان حَتَّى وقف بالموضع الْمَعْرُوف بدار الرخَاء فَلم يكن إِلَّا هنيئة حَتَّى أَقبلت العساكر بِالسَّبْيِ والأثاث والخيام وانتسفوا الْحلَّة نسفا وَلما جن اللَّيْل خرج من كَانَ بَقِي من أعيانهم بفاس الْجَدِيد وَتَفَرَّقُوا شذر مذر فَذهب بَعضهم إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الشاوي وَبَعْضهمْ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ اليوسي وَبَعْضهمْ إِلَى ضريح سَيِّدي أبي سرغين بصفرو وَغير ذَلِك وَبَقِي الضُّعَفَاء على الأسوار يطْلبُونَ الْأمان فعطفته عَلَيْهِم الرَّحِم ورق لَهُم فَأَمنَهُمْ وأخرجهم إِلَى فاس الْقَدِيم وأدال مِنْهُم بفاس الْجَدِيد بِأَلف كانون من العبيد فنزلوه وعمروه واقفر من الودايا بعد أَن كَانُوا أَهله مُدَّة طَوِيلَة كَمَا علمت ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بأَرْبعَة من مساجين الودايا فسرحوا أحدهم الْقَائِد قدور بن الْخضر الشهير الذّكر وَأمرهمْ أَن يقفوا على إخْوَانهمْ المسجونين حَتَّى يعينوا أهل الْفساد من غَيرهم ويأتوه بزمامهم ويتحروا الصدْق فِي ذَلِك فعينوا لَهُ خمسين من عتاتهم أهل زيغ وَفَسَاد فَأمر بِأَن تضرب على أَرجُلهم الكبول ويقرن كل اثْنَيْنِ مِنْهُم فِي سلسلة ثمَّ بعث مِنْهُم إِلَى مراكش اثْنَان على الْجمل فسجنوا بهَا وطهرت الأَرْض من شيطنتهم ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله الْقَائِد قدور بن الْخضر أَن يسرح البَاقِينَ من إخوانه وَيضم إِلَيْهِم من الودايا والمغافرة تَكْمِلَة ألف ويشرد من عداهم إِلَى قبائلهم وحللهم ثمَّ عين السُّلْطَان رَحمَه الله لأولئك الْألف إصطبل مكناسة ينزلون بِهِ وَيكون قَصَبَة لَهُم فحملوا أَوْلَادهم إِلَى مكناسة واستوطنوها مَعَ العبيد غير أَنهم قد انفردوا بالإصطبل كَمَا قُلْنَا وَولى عَلَيْهِم السُّلْطَان الْقَائِد قدور بن الْخضر وَكَانَ أَصْغَرهم سنا وأكملهم عقلا وأصدقهم خدمَة وَأمره بتأديبهم وإجراء الْأَحْكَام عَلَيْهِم حَتَّى رئموا ملكة الدولة وَسَكنُوا تَحت تصريفها وخضعوا لأمرها ونهبها وَأخذ السُّلْطَان فِي دفع الْخَيل وَالسِّلَاح والكسى لَهُم شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن أركبهم كلهم فصلحت أَحْوَالهم ونمت فروعهم واستمروا بمكناسة إِلَى أَن ردهم إِلَى فاس الْجَدِيد الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد لأوّل ولَايَته كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَألف بَاعَ السُّلْطَان أمكاس فاس لعاملها الْحَاج مُحَمَّد الصفار بِاثْنَيْ عشر ألف مِثْقَال فِي السّنة ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش فاحتل بهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ مَجِيء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الغرب مرّة أُخْرَى وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من مراكش يُرِيد بِلَاد الغرب وعرج فِي طَرِيقه على جملَة من الْقَبَائِل الَّذين كَانُوا مشتغلين بِالْفَسَادِ فأوقع بهم وشرد بهم من خَلفهم وَذَلِكَ أَنه وصل إِلَى بِلَاد الشاوية فنهبهم وانتسف أَمْوَالهم وقتلهم وَقبض على عدد كثير مِنْهُم بَعثهمْ فِي السلَاسِل إِلَى مراكش ثمَّ عدل إِلَى جِهَة تادلا فَمر على برابرة شقيرين من آيت ومالو فنهب أَمْوَالهم وَقتل من ظفر بِهِ مِنْهُم ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد الغرب عَازِمًا على الْإِيقَاع بعرب الحياينة لإفسادهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وتمردهم فابتدأ أَولا بِنَهْب آيت سكاتو وثنى ببني سادان وَثلث بالحياينة فَفرُّوا إِلَى جبال غياثة وتحصنوا بهَا فَترك الجيوش ببلادهم تَأْكُل زُرُوعهمْ وَتقدم هُوَ إِلَى تازا ثمَّ اقتحم على الحياينة جبال غياثة فأبادهم قتلا وتشريدا والعساكر ببلادهم تنتسف الزروع وَتحرق العمائر وتستخرج الدفائن إِلَى أَن تركتهَا أنقى من الرَّاحَة وَعَاد إِلَى مكناسة وَفِي مقَامه بهَا قبض على الشَّيْخ مَحْمُود الشنكيطي المتصوف النابغ بفاس كَانَ قد قدم من بِلَاده وَنزل بمستودع الْقرَوِيين وَأظْهر التنسك فَصَارَ يجْتَمع عَلَيْهِ الْأَعْيَان والتجار من أهل فاس ويعتقدونه قَالَ فِي الْبُسْتَان فَلم يقْتَصر على مَا هُوَ شَأْنه من إقبال الْخلق عَلَيْهِ بل صَار يتَكَلَّم فِي الدولة ويكاتب البربر وَيَزْعُم أَن سُلْطَان الْوَقْت جَائِر وَلم يُوَافق عَلَيْهِ من الْأَوْلِيَاء أحد فنما ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى مراكش فسجن بهَا ثمَّ امتحن إِلَى أَن مَاتَ وَلم تبكه أَرض وَلَا سَمَاء وَقَالَ أكنسوس إِنَّه كَانَ يَقُول إِن السُّلْطَان يَمُوت إِلَى شهر فَفَشَا ذَلِك فِي الْعَامَّة وتسابقوا إِلَى شِرَاء الفحم والحطب وادخار الأقوات وحصلت فتْنَة بفاس فأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَكتب إِلَى عَامل فاس بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وتوجيهه إِلَى مراكش ثمَّ أَمر السُّلْطَان أَيْضا وَهُوَ بمكناسة بِالْقَبْضِ على الْأمين الْحَاج الْخياط عديل وَإِخْوَته فسجنوا فِي مَال كَانَ عَلَيْهِم بعضه لَهُ وَبَعضه لوالده من قبله وَفِي تَمام السّنة أَمر بتسريحهم وَبعث الْحَاج الْخياط مِنْهُم وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي سفيرين عَنهُ إِلَى السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد العثماني صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وفيهَا أَيْضا اسْتخْلف السُّلْطَان رَحمَه الله ابْن عَمه الْمولى إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر بفاس وولاه على قبائل الْجَبَل كلهَا وفيهَا أَمر بتحبيس الْكتب الإسماعيلية الَّتِي كَانَت بدويرة الْكتب بمكناسة وعددها اثْنَا عشر ألف مُجَلد وَزِيَادَة فحبسها على مَسَاجِد الْمغرب كُله وَلَا زَالَت خزائنها مشحونة بهَا إِلَى الْآن مَكْتُوبًا عَلَيْهَا رسم التحبيس باسم السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الْمَذْكُور ثمَّ ارتحل إِلَى مراكش وفيهَا أَيْضا تولى الْحَاج مُحَمَّد الصفار مكس فاس بِاثْنَيْنِ وَعشْرين ألف مِثْقَال فِي السّنة إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بقبيلة مسفيوة وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ هَؤُلَاءِ مسفيوة شيعَة للْمولى المستضيء حَسْبَمَا تقدم وَلما زحف السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى بِلَاد الْحَوْز وشرد أَخَاهُ الْمولى المستضيء عَن مسفيوة وأوقع بهم الْوَقْعَة الَّتِي تقدم الْخَبَر عَنْهَا أذعنوا إِلَى طَاعَته فِي الظَّاهِر وَبقيت الحسائف كامنة فِي صُدُورهمْ فَكَانَت تِلْكَ الطَّاعَة الَّتِي أظهروها لَهُ هدنة على دخن وَاسْتمرّ حَالهم على ذَلِك إِلَى أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فشرى فسادهم وَقَالَ فِي الْبُسْتَان كَانَ هَؤُلَاءِ مسفيوة من الطغيان وَالِاسْتِخْفَاف من الدولة على غَايَة لم تكن لأحد من يَوْم اسْتخْلف سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش وَهُوَ يعالج داءهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق إِلَى أَن قدم مراكش قَدمته هَذِه فوفد عَلَيْهِ بهَا مائَة وَخَمْسُونَ من أعيانهم فانتهز فيهم الفرصة وقتلهم كلهم سوى القَاضِي ثمَّ سرب الْخُيُول للغارة على حلتهم فانتسفوها وأبلغوا فِي النكاية فانخضدت بذلك شوكتهم واستقامت طاعتهم وصلحت أَحْوَالهم فِيمَا بعد ذَلِك ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا جَاءَ السُّلْطَان من مراكش إِلَى الغرب وَنهب فِي طَرِيقه آيت سيبر من زمور الثَّلج وبددهم وَلما وصل إِلَى مكناسة أَمر الْقَبَائِل بِدفع الزكوات والأعشار فَكَانَت الحياينة وشراقة وَسَائِر الحوزية يدْفَعُونَ واجبهم بهري فاس وَكَانَ أهل الغرب وَبَنُو حسن والبربر يدْفَعُونَ بهري مكناسة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى غَزْو مرموشة فَهَزَمَهُمْ وَنهب أَمْوَالهم وَاسْتولى على معاقلهم وَقتل مِنْهُم عددا وافرا وَذَلِكَ بعد أَن انتصروا على عَسْكَر السُّلْطَان أَولا وظهروا عَلَيْهِ فَتقدم إِلَيْهِم رَحمَه الله بِنَفسِهِ وعبيده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 المسخرين فأوقع بهم وشرهم ثمَّ صَار إِلَى تازا فَأصْلح شؤونها وثقف أطرافها وَعَاد سالما مظفرا وَفِي هَذِه السّنة توفّي قَائِد القواد الَّذِي كَانَ من السُّلْطَان بِمَنْزِلَة الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حدو الدكالي الَّذِي كَانَ ولاه على دكالة لأوّل ولَايَته ثمَّ أضَاف إِلَيْهِ تامسنا وتادلا مَكَان اليوزراري الجابري عَمُود الدولة المحمدية رَحمَه الله وَلما توفّي ولى السُّلْطَان مَكَانَهُ ابْن عَمه الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا أَمر السُّلْطَان بِبِنَاء قبَّة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم بفاس وفيهَا ثار رجل اسْمه أَحْمد الْخضر بصحراء فجيج فَكَانَ يزْعم أَنه الْمولى عبد الْملك ثمَّ صَار يزْعم أَنه داعيته وَفتن النَّاس بِتِلْكَ الْجِهَات وَجَرت على يَدَيْهِ حروب وخطوب فَبعث السُّلْطَان إِلَى عرب تِلْكَ الْبِلَاد فَقَتَلُوهُ وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ بمكناسة وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مَرِيضا فعافاه الله وسافر إِلَى مراكش وَلما اجتاز برباط الْفَتْح بعث مِنْهُ الرئيس الْحَاج التهامي مدور الرباطي باشدورا إِلَى بِلَاد السويد ليَأْتِيه بِإِقَامَة المراكب والبارود وَبعث أَيْضا الرئيس أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ المستيري الرباطي باشدورا إِلَى بِلَاد النجليز ليصلح بهَا قرصانه وَيجْعَل لَهُ إِقَامَة جَدِيدَة فَقَدمهَا وجدد قرصانه واستصحب مَعَه إِقَامَة مركبين ومدافع نحاسية وَغير ذَلِك وَعَاد لتَمام السّنة ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت وَلِيمَة عرس ولد السُّلْطَان الْمولى على بن مُحَمَّد بمراكش على ابْنة عَمه الْمولى أَحْمد بن عبد الله وعرس ابْن أَخِيه سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد على ابْنة السُّلْطَان وَكَانَت وَلِيمَة عَظِيمَة حضرها عَامَّة أهل الْمغرب بهداياهم وأبهاتم وشاراتهم واستقامت الْأُمُور للسُّلْطَان رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بِنَاء مَدِينَة الصويرة حرسها الله لما فرغ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من وَلِيمَة عرس أَوْلَاده سَار إِلَى نَاحيَة الصويرة بِقصد بنائها وعمارتها فَوقف على اختطاطها وتأسيسها وَترك البنائين والعملة بهَا وَأمر عماله وقواده بِبِنَاء دُورهمْ بهَا وَعَاد إِلَى مراكش وَقَالَ الْكَاتِب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمهْدي الغزال فِي رحلته مَا ملخصه إِن السَّبَب فِي بِنَاء مَدِينَة الصويرة هُوَ أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ لَهُ ولوع بِالْجِهَادِ فِي الْبَحْر وَاتخذ لذَلِك قراصين حربية تكون فِي غَالب الْأَوْقَات بمرسى العدوتين ومرسى العرائش وَكَانَ سفرها فِي الْبَحْر مَقْصُورا على شَهْرَيْن فِي السّنة زمَان الشتَاء لِأَن المراسي مُتَّصِلَة بالأودية وَفِي غير إبان الشتَاء يقل المَاء ويعلو الرمل بأفواه المراسي فَيمْنَع من اجتياز القراصين بهَا ويتعذر السّفر ففكر السُّلْطَان رَحمَه الله فِي حِيلَة يَتَأَتَّى بهَا سفر قراصينه فِي سَائِر أَيَّام السّنة فَبنى ثغر الصويرة واعتنى بِهِ لِسَلَامَةِ مرساه من الآفة الْمَذْكُور ة وَذكر غير الغزال أَن الْبَاعِث للسُّلْطَان الْمَذْكُور على بِنَاء الصويرة هُوَ أَن حصن آكادير كَانَت تتداولة الثوار من أهل السوس مثل الطَّالِب صَالح وَغَيره ويسرحون وسق السّلع مِنْهُ افتياتا ويستبدون بأرباحها فَرَأى أَن حسم تِلْكَ الْمَادَّة لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بإحداث مرسى آخر أقرب إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وَأدْخل فِي وسط المملكة من آكادير حَتَّى تتعطل على أُولَئِكَ الثوار منفعَته فَلَا يتشوف أحد إِلَيْهِ فاختط مَدِينَة الصويرة وأتقن وَضعهَا وتأنق فِي بنائها وشحن الجزيرتين الدائرتين بمرساها كبرى وصغرى بالمدافع وشيد برجا على صَخْرَة دَاخل الْبَحْر وشحنه كَذَلِك فَصَارَ القاصد للمرسى لَا يدخلهَا إِلَّا تَحت رمي المدافع من البرج والجزيرة مَعًا وَلما تمّ أمرهَا جلب إِلَيْهَا تجار النَّصَارَى بِقصد التِّجَارَة بهَا وَأسْقط عَنْهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وظيف الأعشار ترغيبا لَهُم فِيهَا فأهرعوا إِلَيْهَا من كل أَوب وانحدروا إِلَى مرْسَاها من كل صوب فعمرت فِي الْحِين وَاسْتمرّ الترخيص لَهُم فِيهَا مُدَّة من السنين ثمَّ رد أمرهَا إِلَى مَا عَلَيْهِ حَال المراسي من أَدَاء الصاكة وَغَيرهَا من اللوازم وَهِي الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى أعلم هجوم الفرنسيس على ثغر سلا والعرائش ورجوعه عَنْهُمَا بالخيبة قد قدمنَا مَا كَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الولوع بِأَمْر الْبَحْر وَالْجهَاد فِيهِ فَلم تزل قراصينه تَتَرَدَّد فِي أكناف الْبَحْر وتجوس خلال ثغور الْكفْر فَتقْتل وتأسر وتغنم وَتَسْبِي إِلَى أَن ضَاقَ بهم رحب الفضاء وَكَاد يستأصل جمهورهم حكم الْقَضَاء فَمنهمْ من فزع إِلَى طلب المهادنة وَحسن الْجوَار وَمِنْهُم من كَذبته نَفسه فتطاول إِلَى الْأَخْذ بالثأر وَمن هَذَا الْقسم الثَّانِي جنس الفرنسيس فَإِن قراصين السُّلْطَان رَحمَه الله كَانَت قد غنمت مِنْهُ مركبا ساقته إِلَى مرسى العرائش وغنمت مِنْهُ غير ذَلِك فِي مَرَّات مُتعَدِّدَة فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى أَن هجم على ثغر سلا أَوَاخِر سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف قَالَ الغزال فِي رحلته رمى الفرنسيس بمرسى سلا من الأنفاض والبنب مَا ظن أَنه يحصل بِهِ على طائل فَأُجِيب مِنْهَا بِضعْف ذَلِك فَلم يلبث إلاوأجفانه هاربة تقفو أواخرها الْأَوَائِل وفر هَارِبا مهزوما سَاقِط الألوية مذموما اه وَرَأَيْت بِخَط الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي رَحمَه الله مَا صورته هجم الفرنسيس على مَدِينَة سلا يَوْم الْجُمُعَة الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة متم سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف فأقاموا يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم السبت بِظَاهِر الْبَحْر لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَفِي يَوْم الْأَحَد تقدّمت سفنهم فرموا من البنب مائَة وَسبعا وَسبعين وهدمت الدّور وفر النِّسَاء وَالصبيان خَارج الْبَلَد وَلم يبْق بهَا إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَفِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ أرسل الله عَلَيْهِم الرّيح ففرقت مراكبهم وَنَفس الله عَن الْمُسلمين وَفِي يَوْم السبت الْآتِي بعده رجعُوا فرموا مائَة وَعشْرين وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور رموا مائَة ونيفا وَثَلَاثِينَ وَلم يستشهد من الْمُسلمين فِي تِلْكَ الْمدَّة سوى رجل وَاحِد اه قَالَ الغزال ثمَّ إِن الفرنسيس عالج مَا انصدع من أجفانه فِي حَرْب سَار ثمَّ هجم على ثغر العرائش قَالَ السدراتي فَرمى عَلَيْهَا فِيمَا ذكرُوا أَرْبَعَة آلَاف نفض ونيفا وَثَلَاثِينَ نفضا وخربوها وهدموا دورها ومسجدها قَالَ وَذَلِكَ مفتتح سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف وَفِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي من الْمحرم وَقيل التَّاسِع مِنْهُ لَيْلَة عَاشُورَاء اقتحموا المرسى فِي خَمْسَة عشر قاربا مشحونة من الْعَسْكَر بِنَحْوِ الْألف وفيهَا من الشلظاظ والفسيان عدد كثير وتصاعدوا مَعَ مجْرى الْوَادي إِلَى مراكب السُّلْطَان الَّتِي كَانَت هُنَالك فحرقوا سفينة مِنْهَا وَهِي الَّتِي غنمها الْمُسلمُونَ مِنْهُم وعمدوا إِلَى أُخْرَى فكسروها بالمعاول والفؤوس ثمَّ تكاثر عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ وَقَاتلهمْ بَنو جرفط وَأهل السَّاحِل حَتَّى ردوهم عل أَعْقَابهم وَلما انقلبوا رَاجِعين إِلَى مراكبهم وجدوا عرب الغرب مَعَ قائدهم حبيب الْمَالِكِي قد أخذُوا بمخنقهم على فَم المرسى وانبثوا لَهُم على الْحجر الَّذِي هُنَالك وَبعث الله ريحًا من جِهَة الْبَحْر عظمت بهَا أمواجه ومنعتهم من الْخُرُوج فَكَانُوا إِذا توسطوا الْوَادي لِيخْرجُوا ردتهم الرّيح وَإِذا انحازوا إِلَى أحد الشطين رماهم الْمُسلمُونَ بالرصاص حَتَّى استأصلوا جمهورهم ثمَّ سبحوا إِلَيْهِم حَتَّى خالطوهم فِي قواربهم فَاسْتَاقُوا أحد عشر قاربا وَنَجَا أَرْبَعَة وتقسمهم الْمُسلمُونَ بَين قَتِيل وأسير وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَعْرَاب والبادية أَيدي سبا ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِجَمْعِهِمْ وَأعْطى كل من أَتَى بأسير مِنْهُم مَالا وَكِسْوَة فَاجْتمع مِنْهُم نَحْو الْخمسين فبقوا فِي الْأسر إِلَى أَن توَسط فِي فدائهم طاغية الإصبنيول ففدوا بِمَال لَهُ بَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وَأما رُؤُوس الْقَتْلَى فقد أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بتوجيه نَحْو الثَّمَانِينَ مِنْهَا إِلَى سلا فعلقت بالصقالة الْقَرِيبَة من ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَبعد هَذَا وَقع الصُّلْح مَعَ جنس الفرنسيس وانعقدت الشُّرُوط مَعَه كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله قدم العرائش عقب الْوَقْعَة وَأقَام بهَا شهرا واعتنى بشأنها فَبنى بهَا الصقائل والأبراج حَتَّى صَارَت من أعمر الثغور وبيد الله تصاريف الْأُمُور مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لطاغية الإصبنيول وَمَا اتّفق فِي ذَلِك كَانَ السَّبَب الَّذِي أوجب مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لطاغية الإصبنيول أَن جمَاعَة من أسرى الْمُسلمين الَّذين كَانُوا بأصبانيا كتبُوا مكاتيب عديدة إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله يعلمونه بِمَا هم فِيهِ من ضيق الْأسر وَثقل الإصر وَمَا نالهم من الْكفَّار من الامتهان وَالصغَار وَكَانَ فيهم من ينتمي للْعلم وَمن يقْرَأ الْقُرْآن وَغير ذَلِك فَلَمَّا وصلت كتبهمْ إِلَى السُّلْطَان وقرئت عَلَيْهِ تأثر لذَلِك وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا وَأمر فِي الْحسن بالكتب إِلَى طاغية الإصبنيول يَقُول لَهُ إِنَّه لَا يسعنا فِي ديننَا إهمال الْأُسَارَى وتركهم فِي قيد الْأسر وَلَا حجَّة فِي التغافل عَنْهُم لمن ولاه الله الْأَمر وَفِيمَا نظن أَنه لَا يَسَعكُمْ ذَلِك فِي دينكُمْ أَيْضا وأوصاه أَن يعتني بخواص الْمُسلمين الَّذين هُنَالك من أهل الْعلم وَحَملَة الْقُرْآن وَأَن لَا يسْلك بهم مَسْلَك غَيرهم من عَامَّة الْأُسَارَى قَالَ مثل مَا نَفْعل نَحن بأساركم من الفرايلية فَإنَّا لَا نكلفهم بِخِدْمَة وَلَا نخفر لَهُم ذمَّة فَلَمَّا وصل هَذَا الْكتاب إِلَى الطاغية أعظمه وَكَاد يطير سُرُورًا بِهِ وللحين أَمر بِإِطْلَاق الْأُسَارَى الَّذين بِحَضْرَتِهِ وَبعث بهم إِلَى السُّلْطَان ووعده أَن يلْحق بهم غَيرهم من الَّذين بقوا بِسَائِر إيالته فَوَقع ذَلِك من السُّلْطَان رَحمَه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 الله الْموقع وَعظم فِي عَيْنَيْهِ وَكَانَ كريم الطَّبْع يحب الْفَخر ويعنى بِهِ فَأطلق لطاغية الإصبنيول جَمِيع من كَانَ تَحت يَده من أُسَارَى جنسه وعززهم بأسرى غير جنسه أَيْضا لتَكون للطاغية بذلك مزية على سَائِر الْأَجْنَاس وَبعث مَعَهم بهدية فِيهَا عدد من الْأسود على يَد قَائِد سبتة فاتصل ذَلِك كُله بالطاغية فطارت نَفسه شعاعا من شدَّة الْفَرح وشمر عَن ساعد الْجد وهيأ هَدِيَّة استوفى فِيهَا غَايَة مقدوره وبعثها مَعَ كبراء القسيسين والفسيان وأصحبهم كتابا أفْصح بِهِ عَمَّا بَين جَنْبَيْهِ للسُّلْطَان من الْمحبَّة وَالِاعْتِرَاف بِالْفَضْلِ والْمنَّة وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتفضل عَلَيْهِ ببعث أحد أَرْبَاب دولته وكبرائها لتتشرف أرضه بمقدمه وتشتهر هَذِه المواصلة والملاحظة عِنْد أَجنَاس الفرنج فيعظم بذلك قدره ويكمل فخره فأسعفه السُّلْطَان رَحمَه الله بذلك وَبعث إِلَيْهِ خاليه الرئيسين أَبَا يعلى عمَارَة بن مُوسَى وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر وَكِلَاهُمَا من الودايا ومعهما كَاتبه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الغزال بَعثه كَاتبا لَهما لَا غير فَلَمَّا وصلوا إِلَى جبل طَارق كتب الغزال إِلَى بعض وزراء السُّلْطَان يَقُول لَهُ إِنِّي أُرِيد مِنْك أَن تعرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن هذَيْن الرجلَيْن لَا معرفَة لَهما بقوانين النَّصَارَى وَإِنِّي قد خفت عَاقِبَة الْأَمر فِيمَا ينشأ عَن رأيهما فَلَا يؤاخذني أَمِير الْمُؤمنِينَ بِشَيْء من ذَلِك إِن كَانَ فَأخْبر الْوَزير السُّلْطَان فَقَالَ صدق وَقد نَدِمت على تقديمهما عَلَيْهِ وَمَا راعيت إِلَّا منزلتهما والآن فَاكْتُبْ إِلَى الطاغية وَقل لَهُ إِنِّي قد بعثت إِلَيْك بكاتبي أَحْمد الْغَزالِيّ باشدورا وَابعث بِالْكتاب إِلَى الغزال فَإِذا بلغه فليستمسك بِهِ وليحز الْكتاب الأول الَّذِي عِنْدهمَا ويلي الْأَمر دونهمَا فَلَمَّا بلغه كتاب السُّلْطَان امتثل وَقضى الْغَرَض على الْوَجْه الْمَطْلُوب وَأبقى ذكرا جميلا رَحمَه الله وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف ألزم السُّلْطَان أهل فاس ببعث الإدالة مِنْهُم إِلَى الصويرة وَهِي خَمْسُونَ راميا بقائدها وفقيه مدرس ومؤقت ومؤذن وشاهدان وَأسْقط عَنْهُم الْبَعْث الَّذِي كَانُوا يفرضونه للمملوك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 قبله وَهِي خَمْسمِائَة رام فعينوا الإدالة الْمَذْكُورَة بعد الَّتِي واللتيا وبعثوهم إِلَيْهِ بمراكش فبعثهم السُّلْطَان إِلَى الصويرة ورتب لَهُم الْمُؤَن والمرافق فَكَانُوا يقومُونَ على المرسى وينتفعون بمستفادها فحسنت حَالهم واغتبطوا بهَا وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك وَفِي هَذِه السّنة بعث أَيْضا السُّلْطَان الرئيس أَبَا الْحسن عليا مارسيل الرباطي إِلَى بِلَاد الفرنسيس لتقرير الصُّلْح مَعَهم وَقبض مَال أُسَارَى العرائش وَشِرَاء الْإِقَامَة مِنْهُ فبذلوا المَال وَالْإِقَامَة مَعًا طائعين وفيهَا بعث السُّلْطَان الفقيهين السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي باشدورين إِلَى صَاحب الاسطنبول السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبهما هَدِيَّة نفيسة فِيهَا خيل عتاق بسروج مثقلة بِالذَّهَب مرصعة بالجوهر والياقوت ونفيس الْأَحْجَار وفيهَا أسياف محلاة بِالذَّهَب ومرصعة بالياقوت الْمُخْتَلف الألوان وفيهَا حلى من عمل الْمغرب فَقبل ذَلِك السُّلْطَان العثماني وابتهج بِهِ ثمَّ كافأ عَلَيْهِ بمركب موسوق من آلَة الْحَرْب مدافع ومهاريس وبارود وَإِقَامَة كَثِيرَة للمراكب القرصانية من كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَفِي هَذِه السّنة خرج السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الرِّيف فَجعل طَرِيقه على تطاوين ثمَّ على بِلَاد غمارة وانْتهى إِلَى جارت وبلاد الرِّيف فمهد تِلْكَ النواحي كلهَا وَرجع على طَرِيق تازا وفيهَا قدم الْمولى عَليّ ابْن السُّلْطَان خَليفَة عَن أَبِيه فَنزل فاسا الْجَدِيد وأضاف إِلَيْهِ قبائل الْجَبَل والريف وفيهَا قدمت ربة الدَّار الْعَالِيَة المولاة فَاطِمَة بنت سُلَيْمَان من مراكش إِلَى فاس بِقصد الزِّيَارَة فركبت ذَات لَيْلَة إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم وضريح الشَّيْخ أبي عبد الله التاودي فطافت عَلَيْهِم وتبركت بتربهم وذبحت أَكثر من مائَة ثَوْر وأخرجت صدقَات كَثِيرَة ثمَّ خرجت بعد ذَلِك إِلَى مَدِينَة صفرو فزارت ضريح سَيِّدي أبي سرغين وضريح سَيِّدي أبي عَليّ وذبحت وتصدقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وعادت إِلَى فاس ثمَّ ذهبت إِلَى زِيَارَة الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ فصحبها فِي ركابهَا أَعْيَان فاس وأشرافها وعلماؤها وَلما كَانَت بأثناء الطَّرِيق اعترضها قواد الغرب بهداياهم وبشاراتهم وزيهم ووافاها قواد الثغور بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام فِي مواكبهم وخيلهم ورجلهم وَذَلِكَ عَن أَمر من السُّلْطَان رَحمَه الله قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا على العرائش فَحَضَرت فِي جُمْلَتهمْ وَلما قَضَت أرب الزِّيَارَة فرقت الْأَمْوَال على الْأَشْرَاف من أهل جبل الْعلم وغمرت النَّاس بالعطايا ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْقصر وَمِنْه سَارَتْ إِلَى العرائش فأقامت بهَا ثَلَاثَة أَيَّام وانفض قواد الثغور كل إِلَى مَحَله وسافرت المولاة الْمَذْكُورَة إِلَى مراكش فِي ألف فَارس من العبيد كَانُوا قد قدمُوا مَعهَا من مراكش عَلَيْهِم الْقَائِد مِصْبَاح وَكَانَ فعلهَا هَذَا من الْآثَار الْعَظِيمَة والمناقب الفخيمة رَحمهَا الله اعتناء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بثغر العرائش وشحنه بِآلَة الْجِهَاد قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله قدم العرائش عقب وقْعَة الفرنسيس فَوقف عَلَيْهَا واعتنى بأمرها وَبنى بهَا الصقائل والأبراج وصونها ثمَّ كَانَ قدوم ابْنه الْمولى يزِيد فِي هَذَا التَّارِيخ إِلَى فاس وَفِي ركابه جمَاعَة من رُؤَسَاء الْبَحْر والطبجية أهل الإجادة فِي الرَّمْي وَكَانَ قدومه بِأَمْر السُّلْطَان لجر المدافع والمهاريس النحاسية الَّتِي كَانَت بفاس الْجَدِيد ومكناسة ونقلها إِلَى ثغر العرائش فَفَعَلُوا وألزم السُّلْطَان الْقَبَائِل الَّذين بِالطَّرِيقِ أَن يتولوا جرها فَكَانَت كل قَبيلَة تجرها إِلَى الَّتِي تَلِيهَا إِلَى أَن وصلوا إِلَى مشرع مسيعيدة من نهر سبو قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فورد علينا أَمر السُّلْطَان بالعرائش أَن نخرج إِلَى لقائهم فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يَعْنِي حوز العرائش قَالَ فوافيناهم على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وَادي سبو فَتَوَلّى أهل الغرب جر تِلْكَ المدافع والمهاريس إِلَى أَن أوصلوها إِلَى وَادي الدردار قرب تاجناوت ثمَّ جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا مهرجانا عَظِيما أخرجت فِيهِ المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت الْقَبَائِل على الْخُيُول ولعبوا بالبارود إِلَى الْمسَاء ثمَّ رَجَعَ الْمولى يزِيد وَمن مَعَه من الرؤساء والبحرية والطبجية إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بمكناسة وَقد تمّ الْغَرَض الْمَقْصُود إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت يمور أهل تادلا ونقلهم إِلَى سلفات وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما انْقَضى أَمر العرائش تفرغ السُّلْطَان لقَضَاء مَا كَانَ قد بَقِي عَلَيْهِ من أَمر الرّعية فَخرج من مكناسة إِلَى تادلا مضمرا الْإِيقَاع بآيت يمور لما كَانَ يبلغهُ عَنْهُم من الْفساد فِي الأَرْض فَلم بلغَهَا مكر بهم بِأَن أرسل إِلَيْهِم يستنفرهم خيلا ورجلا وأراهم أَنه يُرِيد أَن يذهب بهم فِي سَرِيَّة هيأها لآيت ومالو فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أَمر بِعرْض العساكر كلهَا ووقف رَحمَه الله بِإِزَاءِ القصبة ثمَّ عرضت عَلَيْهِ عَسَاكِر الْجند ثمَّ الْقَبَائِل بَعْضهَا إِثْر بعض وَكلما مرت عَلَيْهِ قَبيلَة أوقفها فِي نَاحيَة عينهَا لَهَا وَكلما مر بِهِ جَيش أوقفهُ كَذَلِك حَتَّى غصت الأَرْض بِالْخَيْلِ وَالرجل واستدارت من كل الْجِهَات وَلم يبْق إِلَّا آيت يمور فجاؤوا فِي آخر الْعرض وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ أَمر أهل رحاه أَن يرموهم بالرصاص على زناد وَاحِد فأطلقوا عَلَيْهِم شؤبوبا مِنْهُ تساقط لَهُ عدد كثير وَكَانَ قد تقدم إِلَى العساكر المستديرة بهم أَن ينفحوهم بالرصاص كلما قصدُوا جِهَة من جهاتهم فَكَانُوا كلما قصدُوا نَاحيَة طَالِبين الْخَلَاص مِنْهَا رماهم أَهلهَا فتتساقط مِنْهُم الْعصبَة الْكَبِيرَة إِلَى أَن خلصوا من نَاحيَة أهل دكالة بعد أَن هلك مِنْهُم مَا ينيف على الثَّمَانمِائَة فَأمر السُّلْطَان برؤوسهم فجزت وَبعث بهَا إِلَى فاس فعلقت على الأسوار وَأمر العساكر بِنَهْب حللهم فانتسفوها وسيقت مَوَاشِيهمْ وخيامهم وأثاثهم وفر من أفلت مِنْهُم إِلَى جبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 آيت يسري ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مراكش فوفدوا عَلَيْهِ بعد أَيَّام خاضعين تَائِبين فعفى عَنْهُم ونقلهم إِلَى جبل سلفات من أحواز فاس فأوطنوه حينا من الدَّهْر إغراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت أدراسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَ من السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لآيت أدراسن من الْإِحْسَان مَا كَانَ حَتَّى أوقع بالودايا لأجلهم مَعَ أَنهم صميم الْجند وركن الدولة وَأطَال لَهُم الرسن فِي ذَلِك بِمَا أطغاهم وَحَملهمْ على الدَّالَّة عَلَيْهِ صدرت مِنْهُم هَنَات اعتدها السُّلْطَان عَلَيْهِم فَانْتدبَ لتأديبهم بِأَن كتب وَهُوَ بمراكش إِلَى الودايا لقتالهم وَإِلَى العبيد وجروان يَأْمُرهُم أَن يجتمعوا على حربهم والإيقاع بهم فَكَانَ ذَلِك عِنْد الودايا من أكبر متمناهم فَاجْتمعُوا مَعَ من ذكر ونهدوا إِلَيْهِم فكبسوهم فِي دِيَارهمْ وَجَرت بَينهم حَرْب فظيعة انهزم فِي آخرهَا آيت أدراسن ونهبت حللهم وَقتل مِنْهُم عدد كثير وَأسر مثل ذَلِك ووجهوا فِي السلَاسِل إِلَى السُّلْطَان بمراكش وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان بِجمع جند اليكشارية من قبائل الْحَوْز ووكل بِجَمْعِهِمْ الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي وَأَن يثبتهم فِي ديوَان الْعَسْكَر وَأَن كل من كَانَ عزبا وَأَرَادَ الدُّخُول فِي الجندية فليكتبه فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان الكسي وَالسِّلَاح واستخدمهم مُدَّة ثمَّ كَانَ مآلهم أَن رجعُوا إِلَى إخْوَانهمْ وقبائلهم وَضرب عَلَيْهِم المغرم فِي جُمْلَتهمْ وفيهَا مَاتَ عَامل فاس الْحَاج مُحَمَّد الصفار فولى السُّلْطَان على فاس ابْنه الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الصفار ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة وَقبض على الْقَائِد عبد الصَّادِق بن أَحْمد الريفي صَاحب طنجة وعَلى مائَة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 قرَابَته وَأهل بَيته فأودعهم السجْن ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَدَخلَهَا وَنهب دَار عبد الصَّادِق الْمَذْكُور وَنقل إخوانه بأولادهم إِلَى المهدية وَولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الْملك من بَيتهمْ وَلم يتْرك بطنجة من أهل الرِّيف إِلَّا أهل الْمُرُوءَة وَالصَّلَاح وَأنزل مَعَهم ألفا وَخَمْسمِائة من عبيد المهدية بعددهم بِحَيْثُ لَا يطمعون فِي قيام وَلَا يحدثُونَ أنفسهم بثورة وَوَقع بِخَط الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن انْتِقَال أهل الرِّيف إِلَى المهدية كَانَ بعد هَذَا بِنَحْوِ أَربع سِنِين وَالله أعلم مقتل عبد الْحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بَيته وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا كَانَ بحواضر الْمغرب وبواديه من الِاضْطِرَاب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إِلَى مرتبه الِاسْتِقْلَال وطرحوا طَاعَة السُّلْطَان فِي زَاوِيَة الإهمال فَمنهمْ صَاحب سلا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش كَانَ قد استحوذ على مَدِينَة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بِمَا كَانَ لَهُ من الْعَشِيرَة والعصبية بهَا وَلما اجتاز سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الْقصر أَيَّام وَالِده أغلق عبد الْحق هَذَا أَبْوَاب سلا فِي وَجهه وَلم يحفل بِهِ ذَهَابًا وايابا حَسْبَمَا مر ثمَّ لما ولى الله السُّلْطَان أَمر الْمُسلمين أعرض عَمَّا أسلفه عبد الْحق من جريرته وأبقاه فِي مدينته على رياسته فاستمر على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ فظا غليظا فَقتل رجل من أَعْيَان سلا قيل كَانَ هَذَا الرجل من قرَابَته وَقيل كَانَ من أَوْلَاد زنيبير فَرفع أولياؤه أَمرهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَحضر عبد الْحق مَعَهم وَثَبت أَن قَتله للرجل كَانَ على وَجه الظُّلم فحرك ذَلِك من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول ليتولوا قَتله بِأَيْدِيهِم فجبنوا عَنهُ لما كَانَ لَهُ فِي قُلُوبهم من الهيبة فَأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 السُّلْطَان الوزعة بقتْله بمرأى مِنْهُم فَقَتَلُوهُ فِيمَا قيل بأيدي الفؤوس ثمَّ بعث السُّلْطَان من احتاط على أَمْوَال عبد الْحق والفنانشة أجمع وَأمر بِبيع أصولهم بعد إِعْمَال الموجبات بِأَن الفنانشة مستغرقوا الذِّمَّة وَأَن جَمِيع مَا بِأَيْدِيهِم اكتسبوه من الغصوبات وَغَيرهَا من وُجُوه الظُّلم وَضرب الأتاوات على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين حَتَّى عِنْد نكاحهم فبيعت أصُول عبد الْحق وعشيرته لبني حسن وَكَانَت تنيف على مائَة أصل من بَين ربع وعقار وَكَانَ ذَلِك سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ثمَّ غربهم السُّلْطَان إِلَى العرائش فسجنوا بهَا مُدَّة وَغرب بَعضهم إِلَى الصويرة ثمَّ عَفا عَنْهُم وقربهم وولاهم رياسة الرماية بالمهراس والمدفع الْمَعْرُوفَة برياسة الطبجية وفرقهم على الثغور فَكَانَ بَعضهم بالعرائش وَبَعْضهمْ بطنجة وَبَعْضهمْ برباط الْفَتْح وَبَعْضهمْ بالصويرة وَأَعْطَاهُمْ الدّور الْمُعْتَبرَة والرباع المغلة ورتب لَهُم الجرايات الْعَظِيمَة حَتَّى بلغُوا من الثروة والعز والجاه مَا لم يبلغهُ أحد فِي دولته رَحمَه الله كَذَا فِي الْبُسْتَان وَمن القواد الَّذين كَانُوا فِي حكم الاستبداد أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ نكبهم ابْنه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بعد حِين الْقَائِد أَبُو الْحسن الْحَاج عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري كَانَ قَائِد الْمولى المستضيء بعد أَيَّام ولَايَته وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد قبض عَلَيْهِ وأودعه المطبق عدَّة أَعْوَام ثمَّ سرحه وولاه مَدِينَة شفشاون وتوارث الرياسة بنوه من بعده وَلَهُم آثَار بثغر الجديدة مِنْهَا مَسْجِدهَا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ اسْم بانيه إِلَى الْآن وَمن القواد المستبدين قَائِد تامسنا الْمَدْعُو ولد المجاطية وقائد تادلا الرضي الورديغي فعزلهم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَولى على تامسنا وتادلا الْقَائِد مُحَمَّد بن حدو الدكالي الْمُتَقَدّم الذّكر وَمِنْهُم أَبُو عريف قَائِد بني حسن فَعَزله السُّلْطَان وَولى مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد القسطالي وَمِنْهُم الباشا حبيب الْمَالِكِي قَائِد الغرب كَانَ رَأس الْأُمَرَاء أَيَّام أَبِيه فَقبض عَلَيْهِ وأودعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 المطبق وَأمر بهدم قصره وَحمل أنقاضه إِلَى العرائش وَنهب مَاله وماشيته وَلما طرح الباشا حبيب بالمطبق منع نَفسه من الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى أَن مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة عياذا بِاللَّه فَهَؤُلَاءِ أَنْيَاب الْقَبَائِل وَأهل العصبية مِنْهُم تتبعهم السُّلْطَان وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن أراح الدولة من ضررهم وَالله أعلم وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين جنس الفرنسيس وَهِي عشرُون شرطا مضمنها ومرجعها إِلَى المهادنة وَالصُّلْح والمخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء مَعَ التوقير والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَإِذا سَافَرت مراكبهم من مراسيهم إِلَى إيالتنا فتصحب مَعهَا الورقة الْمُسَمَّاة بالباصبورط من عِنْد أَمِير الْبَحْر الْمُرَتّب بِكُل مرسى من مراسيهم فِيهَا اسْم الْمركب ورئيسه وَبَيَان مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الوسق وَمن أَيْن جَاءَ وَإِلَى أَيْن يذهب وَعَلِيهِ طَابع أَمِير الْبَحْر وَهُوَ طَابع الْجِنْس وَإِذا سَافَرت مراكبنا من مراسينا إِلَى إيالتهم فتصحب كَذَلِك خطّ يَد القنصل الْمُرَتّب بمرسانا من ذَلِك الْجِنْس باسم الْمركب ورئيسه وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مَخْتُومًا عَلَيْهِ بِطَابع الْجِنْس أَيْضا وَكَانَ الْقيَاس أَن مراكبهم تحمل طابعنا وخطنا ليحصل لَهَا التوقير كَمَا نحمل نَحن طابعهم وخطهم ليحصل لنا التوقير مِنْهُم وَلَكِن لما لم تجر الْعَادة بترتب متأصلنا بمراسيهم اكْتفي بطابعهم من الْجَانِبَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود حَاصِل بذلك وَلَا يلتبس على رُؤَسَاء الْبَحْر طَابع جنس بآخر فَإِذا التقى مركب بمركب وَأخرج كل ورقته عرف من أَي جنس هُوَ وعومل على مُقْتَضى ذَلِك وُرُود هَدِيَّة السُّلْطَان مصطفى العثماني على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمهمَا الله وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله خديمه الرئيس عبد الْكَرِيم راغون التطاوني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 باشدورا إِلَى السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبه هَدِيَّة نفيسة مُكَافَأَة لَهُ على هديته الَّتِي كَانَ أرسلها مَعَ السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي حَسْبَمَا مر ثمَّ لما دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قدم الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور من عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور وَمَعَهُ هَدِيَّة عَظِيمَة أعظم من الأولى وَهِي مركب موسوق بالمدافع والمهاريس النحاسية وإقامتها وَإِقَامَة المراكب القرصانية من صوار ومخاطيف وقلوع وقمن وحبال وبراميل وَغير ذَلِك من آلَات الْبَحْر وفيهَا ثَلَاثُونَ من مهرَة المعلمين الَّذين لَهُم الْمعرفَة بأفراع المدافع والمهاريس والكور والبنب وبصناعة المراكب القرصاينة وَفِيهِمْ معلم مجيد فِي الرَّمْي بالمهراس إِلَى الْغَايَة فنزلوا بمرسى العرائش قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا بهَا فورد أَمر السُّلْطَان بتوجيه المعلمين إِلَى فاس يُقِيمُونَ بهَا حَتَّى يقدم السُّلْطَان من مراكش إِلَى مكناسة فيجتمعون بِهِ هُنَالك وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة وحضروا عِنْده فاوضهم فِي الْخدمَة وَأَرَادَ أَن يحيي آثَار دَار الصَّنْعَة الَّتِي كَانَت بسلا تصنع بهَا المراكب الجهادية على عهد الْمُوَحِّدين وَبني مرين فَقَالُوا نحتاج أَن تبني لنا دَارا على هَيْئَة كَذَا وَمن نعتها كَذَا وَكَذَا ورسموا لَهُ شكلها فِي قرطاس فَرَأى أَن أمرهَا لَا يتم فِي عشر سِنِين وَلَا أَكثر وَلَا يَكْفِي فِي بنائها مَال فَأَعْرض عَن ذَلِك وَبعث معلمي البنب إِلَى تطاوين فَكَانَ أحدهم يفرغ البنبة من قنطارين وَبعث معلمي المراكب إِلَى سلا فأنشؤوا فِيهَا ثَلَاث شكظريات وَبعث معلم الرَّمْي إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَكَانَ يعلم بهَا الطبجية من أهل سلا والرباط وَتخرج على يَدَيْهِ نجباء وَمن ثمَّ توارث أهل العدوتين هَذِه الصِّنَاعَة مُدَّة إِلَى أَن لم يبْق بهَا الْيَوْم إِلَّا الِاسْم ورد أَصْحَاب المدافع والمهاريس إِلَى فاس فأقاموا بهَا إِلَى أَن توفوا هُنَالك رَحِمهم الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين جنس الدينمرك وَهِي عشرُون شرطا ترجع إِلَى تَمام الصُّلْح والأمن من الْجَانِبَيْنِ أَيْضا وَالْأول مِنْهَا مضمنة خُرُوج أَمر المراسي المغربية من يَد تجار الدينمرك فَلَا يتصرفون فِيهَا بِشَيْء لكَون الكمبانية الَّتِي كَانَت تدفع من المراسي قد تَفَرَّقت بعد الْتِزَام قنصلهم بأَدَاء اثْنَي عشر ألف ريال وَخَمْسمِائة ريال الَّتِي بقيت بِذِمَّة تجارهم من ذَلِك وَلَا تعود المراسي لأيديهم بِحَال وَالْآخر مِنْهَا مضمنة أَن يدْفع طاغية الدينمرك للسُّلْطَان كل سنة خَمْسَة وَعشْرين مدفعا من مدافع الْمَعْدن وزر كورتها من ثَمَانِيَة عشر رطلا إِلَى أَرْبَعَة وَعشْرين وَيدْفَع مَعهَا ثَلَاثِينَ قمنة وَمن اللَّوْح الروبلي ألفي لوحة مختلطة وَمن الريال سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة وَالْكل وَاصل إِلَى الْمحل الَّذِي يُريدهُ السُّلْطَان وَإِن أَرَادَ الطاغية أَن يدْفع بَدَلا عَن جَمِيع ذَلِك خَمْسَة وَعشْرين ألف ريال فَلهُ ذَلِك وَمثل هَذَا انْعَقَد مَعَ جنس السويد أَيْضا إِلَّا أَن قدر الْمَدْفُوع من جَانِبه عشرُون ألف ريال فَقَط فِي كل سنة وَمَعَ أَجنَاس أخر وظائف أخر واستمرت هَذِه السّنة إِلَى أَن انْقَطَعت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله حَسْبَمَا نذْكر ذَلِك فِي مَحَله وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف كَانَت فتْنَة الدعي كلخ بمراكش وَهُوَ رجل صعلوك اسْمه عمر كَانَ ينتسب إِلَى الشَّيْخ أبي الْعَزْم سَيِّدي رحال وَكَانَ يظْهر للعامة الكرامات الكاذبة وَتَبعهُ السوَاد الْأَعْظَم من جهلة الْبَادِيَة لِأَنَّهُ وعدهم أَن يفتح لَهُم بَيت المَال ويهيلون مِنْهُ الذَّهَب وَالْفِضَّة هيلا من غير ممانع فأهرع النَّاس إِلَيْهِ وَتقدم إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي عَالم من الأوباش شعارهم هَاتَانِ الكلمتان كلخ شلخ رافعين بهَا أَصْوَاتهم وهم كالسيل المنحدر من عل فَوَقع الْهَرج بِالْمَدِينَةِ وغلقت الْأَسْوَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان وَهُوَ بداره فَأمر الوزعة وَالْعَبِيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 فاعترضوهم دون القصبة وقبضوا عَلَيْهِ وَلما صَار فِي أَيْديهم فر من كَانَ مَعَه من الطغام وساقوه إِلَى السُّلْطَان فَقتله وسكنت جعجعته للحين انْعِقَاد الصهر بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين سُلْطَان مَكَّة الشريف سرُور رَحمَه الله كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَله رَغْبَة فِي الْخَيْر وَأَهله وَلما كَانَ سُلْطَان مَكَّة الشريف سرُور رَحمَه الله بِالْمحل الَّذِي أكْرمه الله بِهِ بَلَدا ومحتدا رغب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي مصاهرته وسمحت نَفسه الشَّرِيفَة ببذل كريمته فَمَا دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وعزم ركب الْحَاج المغربي على السّفر إِلَى الْحجاز بعث مَعَهم السُّلْطَان الْمَذْكُور ابْنَته وزفها على بَعْلهَا الْمَذْكُور وَبعث وَلَده الْأَكْبَر وخليفته الْأَشْهر الْمولى عَليّ بن مُحَمَّد لإِقَامَة فَرِيضَة الْحَج وَمَعَهُ شقيقه الْمولى عبد السَّلَام صَغِيرا دون بُلُوغ ليَكُون مَعَ أُخْته وَكِلَاهُمَا فِي صُحْبَة الركب المغربي كَمَا قُلْنَا وأصحبهما هَدِيَّة لأمير طرابلس وهدية لأمير مصر وَالشَّام وهدية عَظِيمَة لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين ومالا كثيرا يفرق على أَشْرَاف الْحجاز واليمن وجوائز سنية للْعُلَمَاء والنقباء وأرباب الْوَظَائِف بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَبعث مَعَهُمَا من وُجُوه أهل الْمغرب وَأَوْلَاد أُمَرَاء الْقَبَائِل وأشياخهم وَمن أكَابِر خُدَّامه وَأَصْحَاب أشغاله بالخيول المسومة وَالسِّلَاح الشاكي والشارة الْحَسَنَة وَمَا تحدث بِهِ أهل الْمشرق دهرا وَكَانَ فِي جهاز ابْنة السُّلْطَان مَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار من الحلى والياقوت والجوهر وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا إِلَى مَكَّة يَوْمًا مشهودا حَضَره عَامَّة أهل الْمَوْسِم الْأَعْظَم من الْآفَاق وتناقلت حَدِيثه الركْبَان والرفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 اعتناء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بعبيد السوس والقبلة وجلبهم إِلَى أجدال رِبَاط الْفَتْح وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عَمه الْمولى عَليّ بن الفضيل وكاتبه أَبَا عُثْمَان سعيد الشليح الْجُزُولِيّ إِلَى بِلَاد السوس لجمع عبيد المخزن الَّذين بهَا وَبعث وصيفه المحجوب ابْن قَائِد رَأسه لإقليم طاطا وآقاوتيشيت من بِلَاد الْقبْلَة لجمع العبيد الَّذين هُنَالك فجاؤوا بِأَلفَيْنِ من عبيد السوس بأولادهم وألفين من عبيد الْقبْلَة بأولادهم كَذَلِك فأنزلهم السُّلْطَان بِظَاهِر مراكش إِلَى أَن أَعْطَاهُم السِّلَاح والكسي وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد المحجوب الْمَذْكُور ثمَّ لما سَار إِلَى رِبَاط الْفَتْح أَمر بِقطع جنَّات أجدال الَّذِي بِظَاهِر الْبَلَد وَأنزل العبيد بِهِ وَبنى لَهُم الدّور وَالْمَسْجِد والمدرسة وَالْحمام والسوق وَزَاد عَلَيْهِم أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة من الودايا جلبها من الْقَبَائِل وَكتب الْجَمِيع فِي الدِّيوَان وجعلهم فِي مُقَابلَة عبيد مكناسة والودايا الَّذين بهَا وأفاض فيهم الْعَطاء الْكثير لسكناهم بثغر من ثغور الْإِسْلَام فتح الجديدة قد ذكر لويز مَارِيَة خبر هَذَا الْفَتْح وَنحن نلخص مَا ذكره من ذَلِك قَالَ لما ولي السُّلْطَان سيد مُحَمَّد بن عبد الله سلطنة الْمغرب كَانَ لَا يقر لَهُ قَرَار من أجل مُشَاركَة البرتغال لَهُ فِي قِطْعَة من أرضه وَكَانَ شهما ذَا أَنَفَة وإباية فَاسْتَشَارَ أهل الرَّأْي من دولته فِي غَزْو الجديدة وَفتحهَا فَقَالُوا لَهُ لَا يظنّ سيدنَا أَن أَخذهَا يكون بِأَن تحمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهَا دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يقتحموها مثلا فَإِن ذَلِك لَا يجدي شَيْئا وَلَا يحصلون إِلَّا على الْقَتْل كَمَا وَقع فِي أَيَّام السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه السَّعْدِيّ وَإِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى فتحهَا بالحصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 والمطاولة برا وبحرا فَعمل على ذَلِك بعد أَن كرهه أَولا وَلما عزم على النهوض إِلَيْهَا جمع جَيْشًا كثيفا من قبائل مراكش والحوز والسوس وَغير ذَلِك زعم لويز أَنه اجْتمع لَهُ من الْمُقَاتلَة نَحْو سبعين ألفا ويظن أَن هَذَا من مبالغته على عَادَته فِي ذَلِك وَكَانَ نُزُوله على الجديدة فِي رَابِع مارس العجمي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَألف مسيحية وَفِي تواريخ الْإِسْلَام أَن نُزُوله عَلَيْهَا كَانَ فِي فاتح رَمَضَان من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف عَرَبِيَّة وَلما نزل عَلَيْهَا أَمر بِحَفر الأساس لاتخاذ أشبار من جَمِيع جهاتها وَنصب عَلَيْهَا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ مدفعا بَين كَبِير وصغير وَرمى عَلَيْهَا كورا وبنبا كثيرا فِي أَيَّام مُتعَدِّدَة سقط مِنْهُ داخلها أَكثر من أَلفَيْنِ وهدمت كثيرا من أبنيتها وَقتلت عددا وافرا من أَهلهَا وَكَانَ من جملَة أَهلهَا رجل عسكري قد أناف على السّبْعين سنة وَعجز عَن حُضُور الْقِتَال وَله زَوْجَة وَأَوْلَاد فَلَمَّا رأى تساقط البنب مثل الْمَطَر طلب النجَاة لنَفسِهِ وَعِيَاله ففر إِلَى هري هُنَالك كَانَ فَوْقه خَزَائِن قَمح فاختفى تَحْتَهُ واختفى مَعَه أنَاس آخَرُونَ وظنوا أَن البنبة لَا تنفذ فِي خزين الْقَمْح وتخرق السّقف الَّذِي تَحْتَهُ وَتصل إِلَى الهري الَّذِي هم بِهِ فَقضى الله تَعَالَى بِأَن سَقَطت بِهِ بنبة تجاوزت الْقَمْح والسقف وَسَقَطت على الشَّيْخ فَقتلته وَمن مَعَه وَكَانُوا تِسْعَة أنفس وانجرح آخَرُونَ وَلما طَال الْحصار على أهل الجديدة كتبُوا إِلَى طاغيتهم فَأَشَارَ عَلَيْهِم بِالْخرُوجِ إِن عجزوا عَن المدافعة وَكَانَت هَذِه الْمُكَاتبَة من غير علم من الْعَامَّة وبينما هم كَذَلِك إِذْ ورد عَلَيْهِم مركب من أشبونة ظنوه مدَدا لَهُم فَإِذا بِهِ قد أَتَى بِكِتَاب الطاغية يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ ويتحملوا بأولادهم وعيالهم فِي مراكبه ويدفعوا الْبَلَد للْمُسلمين وَلما علم الْعَامَّة بذلك امْتَنعُوا وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَسبوا الْكتاب وَمن أرْسلهُ وَقَالُوا لَا نخرج مِنْهَا حَتَّى نهلك عَن أخرنا إِذْ هِيَ مأثرة أجدادنا عجنت طينتها بدمائهم وفنيت عَلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 نفوس أكابرهم وأشرافهم ثمَّ توَسط بَين عامتهم وَكَبِيرهمْ القسيسون وسهلوا عَلَيْهِم الْأَمر حَتَّى انقادوا وَبعث كَبِيرهمْ إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يطْلب مِنْهُ أَن يكف عَن الْقِتَال ويؤجله ثَلَاثَة أَيَّام ليدفع لَهُ الْبَلَد فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَاشْترط عَلَيْهِ أَن لَا يخرجُوا إِلَّا فِي ثِيَابهمْ الَّتِي على ظُهُورهمْ وَلَا يحملوا مَعَهم شَيْئا غَيرهَا فامتثلوا قَالَ لويز حَتَّى أَن عسكريا مِنْهُم حمل مَعَه كسْوَة أُخْرَى لم تسمح بهَا نَفسه فرآها كَبِيرهمْ وَهُوَ يُرِيد أَن يصعد إِلَى الْمركب فانتزعها مِنْهُ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْر وَلما أيسوا من حمل شَيْء مَعَهم أحرقوا الأثاث والفراش وعرقبوا الْخَيل وَقتلُوا الْمَاشِيَة وكسروا الْأَوَانِي وَالْعدة وفلسوا أَكثر من مائَة مدفع وَآخر الْأَمر أَنهم دفنُوا مينات البارود فِي حوماتها كل مينا فِيهَا أَكثر من أَرْبَعِينَ برميلا وَتركُوا رجلا حدادا اسْمه بطروس فَيُقَال إِنَّه الَّذِي أوقد المينا عِنْد دُخُول الْمُسلمين إِلَيْهَا فَهَلَك فِيهَا نَحْو خَمْسَة آلَاف وتهدم السُّور الجنوبي مِنْهَا وَلما وصلوا إِلَى أشبونة أسكنهم طاغيتهم ببلدة يُقَال لَهَا بلين فَأَصَابَهُمْ الوخم وَهلك مِنْهُم أَكثر من ثَلَاثمِائَة نفس ثمَّ انتقلوا إِلَى بِلَاد البرازيل فبنوا هُنَالك مَدِينَة سَموهَا مازكان الثَّانِيَة باسم الجديدة هَذَا ملخص مَا ذكره لويز وَمن خطّ الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن فتح الجديدة كَانَ صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من فبراير العجمي وَهُوَ ثَالِث أَيَّام الحسوم اه وَكَانَ مِمَّن شهد هَذَا الْفَتْح الْمعلم الْحَاج سُلَيْمَان التركي الْمجِيد فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس فأبدأ وَأعَاد وحضرها أَيْضا جمَاعَة من فنانشة سلا فأبلوا بلَاء حسنا وعمرها السُّلْطَان بِأَهْل دكالة إِذْ هِيَ فِي وسط أَرضهم وأضاف إِلَيْهِم حِصَّة من عَسْكَر اليكشارية وَأَعْقَابهمْ بهَا لهَذَا الْعَهْد وَالله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 سعي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي فكاك أسرى الْمُسلمين وَمَا يسر الله على يَدَيْهِ من ذَلِك قد تقدم أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ قد بعث خاليه عمَارَة بن مُوسَى وَمُحَمّد بن نَاصِر الوديين وكاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال إِلَى طاغية الإصبنيول وَأَن الغزال قد أحكم الصُّلْح وَقضى الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وَفِي تِلْكَ السفرة وَقع التفادي بَين السُّلْطَان والطاغية فِي الأسرى الَّتِي كَانَت بَينهمَا حَسْبَمَا مر فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف كتب طاغية الإصبنيول إِلَى السُّلْطَان يَقُول إِنَّه لم يبْق ببلادي أحد من أسرى إيالتكم وَلم يبْق عِنْدِي إِلَّا أسرى أهل الجزائر الَّذين عِنْدهم أسرانا وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتوسط لَهُ عِنْد صَاحب الجزائر فِي المفاداة بَينه وَبَينه وَكَانَت أسرى الإصبنيول تزيد على أسرى الجزائر بِكَثِير وَطلب أَن تكون هَذِه المفاداة على يَدَيْهِ أَعنِي على يَد السُّلْطَان رَحمَه الله الرئيس بالرئيس والبلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري والجندي بالجندي وَمن فضلت عِنْده فضلَة فالبحيري بِخَمْسِمِائَة ريال والرئيس بِأَلف فأسعفه السُّلْطَان فِي طلبه وانتدب للسعي فِي إنقاذ الْمُسلمين من أَيدي الْكفَّار ابْتِغَاء مرضاة الله ورجاء ثَوَابه وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب إِلَيْهِ مَعَ الغزال وصاحبيه فِيمَن تَحت أَيْديهم من سَائِر أسرى الْمُسلمين فبعثوا إِلَيْهِ بِأَهْل الْمغرب فَقَط وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم حبسوا أسرى الجزائر ليفكوا بهم أَسْرَاهُم وَلما كَاتب السُّلْطَان أهل الجزائر وَعرض عَلَيْهِم مَا طلبه طاغية الإصبنيول امْتَنعُوا من الْفِدَاء فَكتب السُّلْطَان إِلَى باي الجزائر ثَانِيًا فَامْتنعَ ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 أعَاد إِلَيْهِم الْكِتَابَة ثَالِثا وحضهم على فكاك أسرى الْمُسلمين ووعظهم وخوفهم عِقَاب الله ورغبهم فِي ثَوَابه فأذعنوا وامتثلوا وطلبوا مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم رجلا من خاصته يقف على المفاداة بِنَفسِهِ ويدفعون إِلَيْهِ أَسْرَاهُم فِي يَده ويتسلم مثل عَددهمْ من إخْوَانهمْ فَلَمَّا ورد على السُّلْطَان كتاب أهل الجزائر بالامتثال كتب إِلَى الطاغية يَأْمُرهُ أَن يبْعَث بِمَا عِنْده من أسرى الْمُسلمين فِي مركب إِلَى الجزائر وينتظر هُنَالك الباشدور الَّذِي يوجهه من قبله حَتَّى تكون المفاداة على يَده وَبعث السُّلْطَان لهَذَا الْغَرَض كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال وصاحبيه وَعند وصولهم إِلَى الجزائر أرسى مركب الإصبنيول بِظَاهِر مرْسَاها وَأنزل من أسرى الْمُسلمين ألفا وسِتمِائَة ونيفا فَأخْرج أهل الجزائر من أسرى النَّصَارَى مثلهم ألفا وسِتمِائَة ونيفا أَيْضا وَبقيت عِنْدهم من أسرى النَّصَارَى فَضله ففداها الإصبنيول بِالْمَالِ وانفصلوا وَرجع الباشدور وَمن مَعَه إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صَحِيفَته ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قبائل تادلا لإفسادهم ومحاربة بَعضهم بَعْضًا فنهب أَمْوَالهم وشردهم فِي كل وَجه وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد صَالح بن الرضي الورديغي فاستصفى أَمْوَالهم وأفقرهم حَتَّى لم يقدروا على الِانْتِقَال من مَحل إِلَى آخر من قلَّة الظّهْر ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة جروان لما ظهر مِنْهُم من الْفساد وإغرائهم ابْنه الْمولى يزِيد بالانتزاء على الْملك واجتماعهم على مُحَمَّد وناصر الْمَعْرُوف بمهاوش رَأس الْفِتْنَة وتباريهم فِي خدمته فَقدم من مراكش وطرقهم وَادي كريكرة فأوقع بهم وَنهب أَمْوَالهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وتركهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس بمكناسة وفاس ثمَّ نقلهم إِلَى بسيط آزغار وأنزلهم وسط الْعَرَب فانحسمت مَادَّة فسادهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 حِصَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية من ثغور الإصبنيول لما كَانَت أَوَاخِر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية وفيهَا نَصَارَى الإصبنيول فأحاطت عساكره بهَا وَنصب عَلَيْهَا المدافع والمهاريس وَشرع فِي رميها أول يَوْم من الْمحرم سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَاسْتمرّ على ذَلِك أَيَّامًا فَكتب إِلَيْهِ طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره المهادنة وَالصُّلْح الَّذِي انْعَقَد بَينه وَبَينه وَيَقُول لَهُ هَذَا خطّ كاتبك الغزال الَّذِي كَانَ وَاسِطَة بيني وَبَيْنك فِي عقد الصُّلْح لَا زَالَ تَحت يَدي فَأَجَابَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن قَالَ إِنَّمَا عقدت مَعَك المهادنة فِي الْبَحْر فَأَما المدن الَّتِي فِي إيالتنا فَلَا مهادنة فِيهَا وَلَو كَانَت فِيهَا مهادنة لخرجتم إِلَيْنَا ودخلنا إِلَيْكُم فَكيف ادِّعَاء المهادنة مَعَ هَذِه المداهنة فَبعث إِلَيْهِ الطاغية عقد الصُّلْح بِعَيْنِه فَإِذا هُوَ عَام فِي الْبر وَالْبَحْر فَكف عَن حربها وَأَفْرج عَنْهَا وَترك هُنَالك جَمِيع آلَات الْحَرْب من مدافع ومهاريس وكراريص وبنب وكور وبارود وَشرط على الطاغية حملهَا فِي الْبَحْر وردهَا إِلَى الثغور الَّتِي جلبت مِنْهَا لما فِي جرها فِي الْبر من الْمَشَقَّة على الْمُسلمين فأنعم بذلك وَبعث مراكبه فَحملت بَعْضهَا إِلَى تطاوين وَبَعضهَا إِلَى الصويرة وَذَلِكَ محلهَا الَّذِي سيقت مِنْهُ وَكَانَ ذَلِك سَبَب تَأْخِيره الغزال عَن كِتَابَته وَبَقِي عاطلا إِلَى أَن كف بَصَره وَمَات رَحمَه الله وَسمعت من بعض فُقَهَاء الْعَصْر وَقد جرت المذاكرة فِي كَيْفيَّة هَذَا الصُّلْح فَقَالَ إِن الغزال رَحمَه الله لما أعْطى خطّ يَده بِالصُّلْحِ والمهادنة كتب فِي الصَّك مَا صورته وَإِن المهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم بحرا لَا برا فَلَمَّا حَاز النَّصَارَى خطّ يَده كشطوا لَام الْألف وَجعلُوا مكنانها واوا فَصَارَ الْكَلَام هَكَذَا بحرا وَبرا وَأَن السُّلْطَان رَحمَه الله إِنَّمَا أَخّرهُ لاختصاره الْكَلَام وإجحافه بِهِ حَتَّى سهل على النَّصَارَى تحريفه وَكَانَ من حَقه أَن يَأْتِي بِعِبَارَة مُطَوَّلَة مفصلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 حَتَّى لَا يُمكن تحريفها فَيَقُول مثلا والمهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَحْر وَأما الْبر فَلَا مهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم فِيهِ أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام فيصعب تحريفه وَقد نَص أهل علم التوثيق على هَذَا وَأَن الموثق يجب عَلَيْهِ أَن يبسط الْكَلَام مَا اسْتَطَاعَ ويجتنب الِاخْتِصَار المجحف وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَالله أعلم نهوض السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى برابرة آيت ومالو وَالسَّبَب فِي ذَلِك ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله إِلَى جبال آيت ومالو وَكَانَ ذَلِك فِي غَرَض قائده بلقاسم الزموري فَإِنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم فَلم يقبلوه فَطلب من السُّلْطَان الْإِعَانَة عَلَيْهِم فأمده بِثَلَاثَة آلَاف فَارس مُضَافَة إِلَى من مَعَه من إخوانه زمور وَبني حكم وَسَار اليهم فَلَمَّا نزل على وَادي أم الرّبيع من نَاحيَة تادلا زحفوا إِلَيْهِ فولى عَنْهُم مُدبرا وَلم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على آيت ومالوا وَأخذ فِي الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بِظَاهِر مكناسة وَبعث السُّلْطَان إِلَى أُمَرَاء الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول وَلما تكاملت الْجنُود نَهَضَ إِلَيْهِم قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالصَّاد المشممة زايا كَلَفْظِ صِرَاط فِي قِرَاءَة حَمْزَة وَكنت مَعَه فِي هَذِه السفرة وسَاق الحَدِيث عَنْهَا بِأَن قَالَ كنت مَعَ السُّلْطَان وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي حيّز الإهمال أتوقع الْمَوْت فِي كل وَقت بِسَبَب مَا كتب إِلَيْهِ فِي شأني الْقَائِد بلقاسم الزموري الْمَذْكُور آنِفا وَأَنِّي أَنا الَّذِي أفسدت عَلَيْهِ قومه وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى محلّة بلقاسم وَنزلت عساكرة فِي بسيط كريكرة أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَن يقسم تِلْكَ الجيوش على ثَلَاثَة أَقسَام ثلث مِنْهَا ينزل بتاسماكت من وَرَاء الْعَدو وَثلث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 ينزل بزاوية أهل الدلاء على طَرِيق بِلَادهمْ وَثلث يذهب مَعَه على طَرِيق تيقيط ويتقدم السُّلْطَان فِي عساكره حَتَّى ينزل بآدخسان وتقصدهم العساكر من كل وَجه وَقرب على السُّلْطَان الأمد الْبعيد بِاللِّسَانِ والرأي الَّذِي لَا يُفِيد وَكَانَ هُوَ لَا يعرف الْبِلَاد وَمن الْغَد افْتَرَقت العساكر فَتوجه كل إِلَى ناحيته الَّتِي عينت لَهُ وَتقدم السُّلْطَان إِلَى آدخسان وَلما عبر وَادي أم الرّبيع قدم كروان أَمَامه للغارة عَلَيْهِم فَسَارُوا إِلَى أَن بلغُوا قَصَبَة آدخسان فَلم يَجدوا بهَا نافخ نَار فأقاموا هُنَالك إِلَى أَن لحق بهم السُّلْطَان فَقَالَ أَيْن هَؤُلَاءِ قَالُوا مَا رَأينَا أحدا وَهَذِه قَصَبَة آدخسان فَأمر بِنزل الجيوش وَبَقِي هُوَ على فرسه متحيرا فاستدعى أَبَا الْقَاسِم الصياني قَالَ فأسرعت نَحوه فَقَالَ لي أتعرف هَذِه الْبِلَاد قلت نعم أتم الْمعرفَة قَالَ وَأَيْنَ أَهلهَا قلت فِي جبلهم قَالَ أوليس هَذَا جبلهم وَهَذَا آدخسان قلت لَا هَذِه قَصَبَة المخزن والجبل من تِلْكَ الثنايا السود فَمَا خلفهَا وأريته الثنايا فَقَالَ وَأَيْنَ الزاوية الَّتِي سَار إِلَيْهَا الْجَيْش مَعَ قدور بن الْخضر ومسرور قلت هِيَ عَن يَمِين الثنايا فِي الْبَسِيط قَالَ وَأَيْنَ تاسماكت الَّتِي سَارَتْ إِلَيْهَا أُمَم البربر مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز قلت بَيْننَا وَبَينهَا مرحلتان من وَرَاء الثنايا قَالَ وَمن أَيْن يَأْتِي الْقَائِد بلقاسم فأريته الثَّنية الَّتِي يطلع مِنْهَا وَقلت لَهُ إِنَّه لَا يصل إِلَيْنَا إِلَّا غَدا إِن سلم وَمَا صنعنَا نَحن قلت ضربنا فِي حَدِيد بَارِد فَإِن الَّذِي بالزاوية لَا يجدي وَالَّذِي بتاسماكت لَا يجدي وآيت ومالو متحصنون بِالْجَبَلِ وبلقاسم رجل مشؤوم عافى الله مَوْلَانَا من شؤمه قَالَ فَظهر للسُّلْطَان خلاف مَا سمع من بلقاسم وَتحقّق فَسَاد رَأْيه وَعلم أَنه قد أَخطَأ فِيمَا ارْتَكَبهُ من التَّغْرِير بِالْمُسْلِمين قَالَ ثمَّ بيّنت لَهُ السَّبَب الَّذِي نفر بِهِ آيت ومالو عَن بلقاسم حَتَّى عرفه قَالَ اكْتُبْ إِلَى قَوْمك صيان يقدموا علينا فَإِنِّي قد سامحتهم فَكتب إِلَيْهِم وَبعث بِالْكتاب من آدخسان مَعَ بعض الْأَشْرَاف واثنين من أَصْحَاب السُّلْطَان فخاضوا إِلَيْهِم اللَّيْل واجتمعوا بهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وَمن الْغَد أصبح عندنَا أَرْبَعَة مِنْهُم بهديتهم فَدخلت بهم على السُّلْطَان فأكرمهم وَقبل هديتهم وَقَالَ إِنِّي سامحتكم لوجه كاتبي فلَان وردهم مبشرين إِلَى إخْوَانهمْ وباتت العساكر تِلْكَ اللَّيْلَة بِلَا علف وَلَا تبن وَمن الْغَد ظَهرت محلّة بلقاسم وَمَعَهُ مُخْتَار وَالْعَبِيد وَكَانُوا قد باتوا على الْقِتَال طول ليلتهم وَلما وصلوا إِلَى السُّلْطَان أَمر أَن ينزل العبيد بجواره وَينزل بلقاسم مَعَ قومه زمور وَبني حكم وَأعْرض عَنهُ ثمَّ أمره بتسريح إخوانه إِلَى بِلَادهمْ وسرح الْقَبَائِل كلهَا إِلَى بلادها وَفرق ذَلِك الْجمع وأرتحل رَاجعا إِلَى تادلا وَأما الَّذين نزلُوا بتاسماكت مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز فبيتهم آيت ومالو بغارة شعواء شردوهم بهَا فِي كل وَجه ونهبوا محلتهم وَقتلُوا مِنْهُم عددا كثيرا وَرَجَعُوا إِلَى مكناسة مفلولين وَلما بَات السُّلْطَان بالزرهونية ورد عَلَيْهِ أَصْحَاب قدور بن الْخضر بكتابه يَقُول فِيهِ إِن البربر قد تألبوا علينا من كل أَوب فَإِن لم يدركنا سيدنَا هلكنا قَالَ الصياني فَأمرنِي السُّلْطَان بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِم والاحتيال فِي خلاصهم بِكُل مَا يُمكن وَبعث معي مائَة فَارس فوافيت الزاوية الدلائية فَوجدت قبائل البربر مُحِيطَة بهم فاجتمعت بآيت يسري ووعدتهم من السُّلْطَان بالعطاء الجزيل إِن هم فسحوا لجيشة حَتَّى يسْلك فِي بِلَادهمْ فأنعموا بذلك ورحل الْجَيْش مَعَ الْفجْر وعدلنا بِهِ من آيت ومالو وعبرنا الْوَادي إِلَى بِلَاد آيت يسري وَسَار مَعنا نَحْو الْمِائَة من أعيانهم إِلَى أَن أخرجونا إِلَى وَادي تاقبالت من تادلا وَرَجَعُوا قَالَ وَتَقَدَّمت إِلَى السُّلْطَان فَأَخْبَرته بخلاص الْجَيْش ووصوله إِلَى وَادي تاقبالت فسره ذَلِك ودعا لي بِخَير وَقَالَ لَا بُد أَن ترجع إِلَيْهِم السَّاعَة وَأَعْطَانِي مَالا أفرقه عَلَيْهِم وأرسم لَهُم الْمنَازل الَّتِي ينزلونها فِي مَسِيرهمْ إِلَى مكناسة وَبهَا ينتظرون السُّلْطَان فَرَجَعت إِلَيْهِم فِي الْحِين وَأَخْبَرتهمْ بِرَأْي السُّلْطَان فِي الْمسير إِلَى مكناسة ورسمت لَهُم الْمنَازل على نَحْو مَا أَمر وَلما أَصْبَحْنَا فرقت عَلَيْهِم المَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وَارْتَحَلُوا إِلَى مكناسة وانقلبت إِلَى السُّلْطَان فَوَجَدته قد أَصَابَته حمى أَقَامَ لَهَا بقصبة تادلا وَكَانَ الطَّبِيب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد آدراق يعالجه وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا أَنا وَهُوَ وَصَاحب طَعَامه الْحَاج عبد الله إِلَى أَن عوفي فوصل الطَّبِيب بِأَلف دِينَار ثمَّ سَافر إِلَى مكناسة وبوصوله إِلَيْهَا قبض على بلقاسم الزموري ونكبه واستصفى أَمْوَاله وَولي على زمور وَبني حكم ولد مُحَمَّد واعزيز قَالَ الصياني وَمن ذَلِك الْوَقْت رفع السُّلْطَان منزلتي على أقراني وَصَارَ يقدمني فِي الْمُهِمَّات ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين البرتغال وَهِي اثْنَان وَعِشْرُونَ شرطا مضمنها الصُّلْح والأمان كالشروط الْمُتَقَدّمَة ذكر مَا آل إِلَيْهِ أَمر اليكشارية الَّذين استخدمهم السُّلْطَان من قبائل الْحَوْز لما جمع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله هَذَا الصِّنْف من رُمَاة الْجند وَسَمَّاهُمْ اليكشارية كَالَّذِين من قبلهم وَكَانَ جمعهم على يَد الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي حَسْبَمَا سبق حصل مِنْهُم ضَرَر كَبِير للرعية فِي المَال والحريم وصاروا يعيثون فِي غلل جناتهم مِمَّا يَمرونَ بِهِ أَيَّام أسفارهم حَتَّى صَار ذَلِك الْفساد عِنْدهم عَادَة وَمَا من منزل يبيتُونَ بِهِ إِلَّا ويكلفون أَهله مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِذا كَلمهمْ أَعْيَان الرّعية فِي الرِّفْق بِالنَّاسِ قَالُوا هَذِه عَادَة لَا نتركها وَهِي من قوانين الدولة وَلما علم السُّلْطَان بِمَا يرتكبونه من العسف أسقطهم من الجندية وَنزع مِنْهُم السِّلَاح وردهم إِلَى المغرم مَعَ إخْوَانهمْ وأراح النَّاس من شرهم ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد مُحَمَّد بن أَحْمد البوزراري عَن قبائل تامسنا وتادلا وَمَا اتَّصل بهما وَلم يتْرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 لَهُ إِلَّا إخوانه من أهل دكالة وَولى على السراغنة أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالصغير وعَلى أهل تادلا صَالح بن الرضي الورديغي وعَلى أَوْلَاد أبي رزك المزابي الْقَائِد صَاحب الطابع وعَلى أَوْلَاد أبي عَطِيَّة عمر بن أبي سلهام المزابي وَأمر مُحَمَّد بن أَحْمد أَن يقبض من إخوانه الَّذين كَانُوا عمالا على هَذِه الْقَبَائِل مَا احتجبوه من الْأَمْوَال أَيَّام ولايتهم واستصفى مِنْهُم مائَة وَخمسين ألفا خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ومبايعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت الْفِتْنَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وبيعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن السُّلْطَان كتب إِلَيْهِم وَهُوَ بمراكش يَأْمُرهُم أَن يعينوا مِنْهُم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَبعث إِلَيْهِم بِالْكتاب مَعَ الْقَائِد الشَّاهِد رَأس الْفِتْنَة وولاه على ذَلِك الْألف فَلَمَّا أَتَاهُم بِكِتَاب السُّلْطَان قَالَ لَهُم لَا يذهب معي إِلَّا الْأَعْيَان وَمن لَهُ دَار وَأَرْض وضيعة وَلَا يذهب معي إِلَّا أمثالي فَلَمَّا سمع اقتراحه أُولَئِكَ الأجلاف ركبُوا رَأْسهمْ فِي سَبِيل الْخلاف واستفزهم الشَّيْطَان حَتَّى صَرَّحُوا بخلع السُّلْطَان جَريا فِي ذَلِك على مَذْهَبهم الْقَدِيم والتفاتا إِلَى فعل سلفهم الذميم فَلَمَّا أنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان بعث إِلَيْهِم ابْنه الْمولى يزِيد وَكَانَ عِنْده بمراكش كي يستصلحهم بِهِ فازداد فسادهم وَعظم عنادهم قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فَلَمَّا ذهبت إِلَى مراكش لقِيت الْمولى يزِيد بالسانية مَوضِع على نَحْو نصف يَوْم مِنْهَا قَالَ فَسَأَلَنِي عَن خبر العبيد فقصصته عَلَيْهِ فسره ذَلِك وجد فِي السّير ففهمت قَصده وَعرفت مَا يؤول إِلَيْهِ أمره فيهم وَزعم أَنه لما قدم على السُّلْطَان لامه فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 بَعثه الْمولى يزِيد فاعترف بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى مكناسة وَاجْتمعَ بالعبيد لم يقدموا شَيْئا على بيعَته وَالْخطْبَة بِهِ فَفتح بيُوت الْأَمْوَال وَأَعْطَاهُمْ حَتَّى رَضوا ثمَّ فتح مخازن السِّلَاح والبارود ففرقه فيهم ثمَّ دخل فِي بيعَته من كَانَ قَرِيبا من قبائل الْعَرَب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان فَإِنَّهُم تعصبوا لَهُ قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَبعد ثَلَاث بَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فَقدمت عَلَيْهِم بهَا وأقمت عِنْدهم إِلَى أَن زحف إِلَيْهِم الْمولى يزِيد فِي جَيش العبيد وهم بالأروى وَكَانَت آيت أدراسن وجروان قد دخلُوا مَعَ الودايا وظاهروهم على العبيد فَوَقَعت الْحَرْب بالمشتهى دَاخل القصبة فَانْهَزَمَ العبيد وسلطانهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَأما الْجَرْحى فبلا عدد وانقلبوا مفلولين واتصل الْخَبَر بالسلطان فَخرج من مراكش فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يُرِيد مكناسة وَلما وصل إِلَّا سلا وَسمع الْمولى يزِيد بقدومه فر إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حمدوش ثمَّ إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ بزرهون فَتقدم السُّلْطَان إِلَى زرهون وَلما دخل الضريح الشريف أَتَاهُ أَشْرَاف زرهون بِابْنِهِ الْمولى يزِيد فَعَفَا عَنهُ وسامحه واستصحبه مَعَه إِلَى مكناسة وَلما وَجه إِلَيْهَا خرج إِلَيْهِ نَحْو الْمِائَة من العبيد من ذَوي أسنانهم وَمَعَهُمْ الْأَشْرَاف والمرابطون وَالنِّسَاء وَالصبيان فَعَفَا عَنْهُم وسامحهم على شَرط الْخُرُوج من مكناسة فأذعنوا وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة يدبر أَمرهم إِلَى أَن فرقهم على الثغور فَبعث مِنْهُم رحيين إِلَى طنجة ورحيين إِلَى العرائش ورحى إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم وتوهين عصبيتهم ثمَّ عمد إِلَى الَّذين كَانُوا برباط الْفَتْح ففرقهم أَيْضا فَبعث أَلفَيْنِ مِنْهُم إِلَى السوس وألفا إِلَى مراكش وَأبقى أَلفَيْنِ برباط الْفَتْح مَعَ عبيد مكناسة المغربين إِلَيْهَا واستراحت الدولة من شرهم استراحة مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 ثمَّ إِن العبيد الَّذين بطنجة وَثبُوا على قائدهم الْقَائِد الشَّيْخ وعَلى قَائِد أهل الرِّيف مُحَمَّد بن عبد الْملك وَأَرَادُوا قَتلهمَا فهربا لآصيلا وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ لَا زَالَ بمكناسة وَلما أنهى إِلَيْهِ خبرهم كتب إِلَى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أَصْحَاب الفعلة وبعثوا بهم إِلَيْهِ وتبرؤوا مِنْهُم فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشَّيْء وَرجع القائدان إِلَى طنجة ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان إِلَى مراكش أَخذ مَعَه عبيد مكناسة فَأنْزل أهل القصبة مِنْهُم بالمنصورية قرب وَادي النفيفيخ لأَنهم كَانُوا رَأس العصاة واستصحب البَاقِينَ إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم الَّذين حَضَرُوا فعلة الْمولى يزِيد وأبقاهم عاطلين مهملين وَولى عَلَيْهِم أُنَاسًا من غَيرهم ذكر مَا سلكه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حق العبيد من التَّأْدِيب الْغَرِيب ثمَّ إِن العبيد الَّذين بالثغور عاثوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا فِي جناتهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم فأنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان أَيْضا وَلما أعياه أَمرهم وَرَأى أَن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انْتقل رَحمَه الله مَعَهم إِلَى مرتبَة أُخْرَى من التَّأْدِيب لم يسْبق إِلَيْهَا كَانَت ترياقا لقطع دائهم وَنَارًا لحسم عرق بلائهم وَذَلِكَ أَنه لما بلغه مَا هم عَلَيْهِ من الْجور والطغيان نَهَضَ من مراكش عَازِمًا على الْإِيقَاع بهم فَلَمَّا وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح كتب إِلَى أهل طنجة والعرائش مِنْهُم يَقُول إِنِّي قد رضيت عَنْكُم وبررت قسمي فِي نقلكم من مكناسة إِلَى الثغور والآن إِذا وصلتكم الْإِبِل وَالْبِغَال الَّتِي أبعثها إِلَيْكُم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إِلَى دَار عَرَبِيّ من بِلَاد سُفْيَان فلينزلوا بهَا ثمَّ يبعثوا الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إِلَى دَار عَرَبِيّ كَذَلِك فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وهم بهَا فَإِنِّي أبْعث إِلَيْكُم بغالي تتحملون عَلَيْهَا إِلَى مكناسة كلكُمْ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طاروا فَرحا وأحبوا الرُّجُوع إِلَى مكناسة وَلما وَردت عَلَيْهِم الْإِبِل وَالْبِغَال ارتحلوا من طنجة وَفِي أثْنَاء ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رَحمَه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 كَانُوا حَالا ثمَّ بدا لَهُ فيهم فَبعث عبيد السوس إِلَى تارودانت وَعبيد حاحة والشبانات إِلَى الصويرة وَعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إِلَى تيط الْفطر وَعبيد دكالة إِلَى آزمور وَعبيد الشاوية إِلَى آنفي وَعبيد زعير والدغماء إِلَى المنصورية وَعبيد بني حسن إِلَى المهدية وَأبقى مَعَه بمراكش عبيد سُفْيَان وَبني مَالك والخلط وطليق والمسخرين من أَصْحَاب الْعَبَّاس وَكَانَ قيام هَؤُلَاءِ العبيد سَببا لافتراق الْكَلِمَة وانحلال نظام الْملك بالمغرب وسرى فسادهم فِي الْقَبَائِل كلهَا عربا وبربرا وَكثر الْهَرج وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وعظمت المجاعة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك نَحوا من سبع سِنِين من سنة تسعين إِلَى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فَكَانَت هَذِه الْمدَّة كلهَا مجاعَة أكل النَّاس فِيهَا الْميتَة وَالْخِنْزِير والآدمي وفنى أَكْثَرهم جوعا وَالسُّلْطَان فِي ذَلِك كُله يكابد المشاق الْعِظَام وَيصير على الْجنُود الْأَمْوَال الثقال راتبا بعد راتب وَعَطَاء بعد عَطاء إِلَى أَن خلصوا من المجاعة وصلحت أَحْوَال الْجَمَاعَة وَكَانَ رَحمَه الله قد رتب الْخبز فِي كل مصر يفرق على ضُعَفَائِهِ فِي كل حومة وأسلف الْقَبَائِل الْأَمْوَال الطائلة يقتسمونها على ضعفائهم إِلَى أَن يؤدوها زمَان الخصب والرخاء وَلما عَاشَ النَّاس وهموا بأدائها سامحهم بهَا وَقَالَ مَا أعطيتهَا بنية الاسترجاع وَإِنَّمَا ذكرت السّلف لِئَلَّا يستبد بهَا الْأَشْيَاخ والأعيان إِذا سمعُوا أَنَّهَا هبة فرحم الله تِلْكَ الهمة الشَّرِيفَة مَا كَانَ أَعْلَاهَا وَأَعْظَمهَا وأرأفها وأرحمها وَأسْقط رَحمَه الله فِي تِلْكَ الْمدَّة جَمِيع الْوَظَائِف والمغارم عَن قبائل الْمغرب إِلَى أَن عاشوا وتمولوا وَكَانَ يُعْطي التُّجَّار الْأَمْوَال ليجلبوا بهَا الأقوات من بر النَّصَارَى فَإِذا وصلت أَمرهم أَن يبيعوها بِثمنِهَا الَّذِي اشْتريت بِهِ رفقا بِالْمُسْلِمين وشفقة على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين وَلما دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف مطر الغرب وعاش النَّاس وحرثوا وَأدْركَ الزَّرْع ورخصت الأسعار وازدهت الدُّنْيَا وَدرت الجبايات وَأخذ أَمِير الْمُؤمنِينَ رَحمَه الله فِي تمهيد الْمغرب ثَانِيَة واستئناف الْعَمَل وَالْجد وَالله غَالب على أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بأولاد أبي السبَاع وتشريدهم إِلَى الصَّحرَاء وَمَا يتبع ذَلِك لما كَانَ بالمغرب مَا تقدم من الْفِتْنَة وشغل السُّلْطَان بإنعاش الضُّعَفَاء عَن ضبط الْأَطْرَاف وقمع الْبُغَاة بهَا نبغت نوابغ الْفِتَن بِبَعْض الْقَبَائِل مِنْهَا وعادت هيف إِلَى أديانها فَمن ذَلِك قَبيلَة أَوْلَاد أبي السبَاع بأحواز مراكش فلطالما ارتكبوا العظائم واجترحوا وغدوا فِي الْفِتْنَة وراحوا واستطالوا على من بجوارهم وغزوهم فِي أَرضهم وديارهم فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف جهز إِلَيْهِم السُّلْطَان العساكر فقاتلوهم وقتلوهم وانتهبوا أَمْوَالهم وشردوهم إِلَى السوس وَقبض السُّلْطَان على كثير من أعيانهم فأودعهم سجن مكناسة إِلَى أَن هَلَكُوا بِهِ وأوعز إِلَى قبائل السوس أَن يطردوا بَقِيَّتهمْ وينفوهم إِلَى بِلَاد الْقبْلَة مسْقط رَأْسهمْ ومنبت شوكتهم وبأسهم فَفَعَلُوا ثمَّ نقل قَبيلَة زمران بعد الْإِيقَاع بهم إِلَى بِلَاد أَوْلَاد أبي السبَاع فعمروها ثمَّ نقل تكنة ومجاط وَذَوي بِلَال من شوشاوة الْحَوْز إِلَى الغرب فنزلوا بفاس الْجَدِيد وأعماله ثمَّ أعَاد آيت يمور من جبل سلفات إِلَى تادلا ثمَّ نقل كطاية وسمكت ومجاط من تادلا إِلَى الغرب ثمَّ أعَاد جروان من آزغار إِلَى الْجَبَل وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَت فتْنَة الدعي مُحَمَّد والحاج اليموري كَانَ يزْعم أَنه من الْأَوْلِيَاء وَيتَكَلَّم فِي المغيبات ويشيع أَنه ينْتَظر صَاحب الْوَقْت فسرى فَسَاده فِي قبيلته وتجاوزها إِلَى غَيرهَا فقصده جهلة البربر من كل قبيل وأغرى آيت يمور بِمن جاورهم من قبائل الْعَرَب وَكَانُوا يَوْمئِذٍ لَا زَالُوا بسلفات فتصدى لَهُم قَائِد سُفْيَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي السفياني وَجمع لَهُ الجموع من قبائل الغرب وصمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبيلَة آيت يمور فَعبر نهر سبو وأنشب الْحَرْب مَعَهم فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وانهزمت جموع الغرب وَقتل الْقَائِد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 الْهَاشِمِي الْمَذْكُور وَعدد كَبِير من وُجُوه قومه وَتركُوا محلتهم بِمَا فِيهَا للبربر وَعظم أَمر هَذَا الدعي وشمخت أنوف قبيلته بِهِ وشرى ضلالهم وَلما قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة بعث من قبض عَلَيْهِ وَسَاقه إِلَيْهِ فَقتله وأراح النَّاس من وساوسه وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى عبد السَّلَام لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج لِأَنَّهُ لم يكن أدْرك الْحلم عَام حج مَعَ أَخِيه الْمولى عَليّ ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة زمور وَبني حكم فَلَمَّا أظلهم قدومه انشمروا إِلَى شعاب تافودايت وتحصنوا بهَا فاحتال عَلَيْهِم بِأَن قَامَ عَنْهُم وأوعز إِلَى آيت أدراسن وكروان أَن يرصدوهم مَتى برزوا إِلَى الفضاء فلينهبوهم فَلَمَّا توجه السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش خرجت زمور من شعابها فَلم يرعهم إِلَّا آيت أدراسن وكروان قد أحاطوا بهم فانتهبوا حللهم وتوزعوا أَمْوَالهم وتركوهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس ذهَاب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى تافيلالت وتمهيده إِيَّاهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ الشريف الْمولى حسن بن إِسْمَاعِيل عَم السُّلْطَان مُقيما بتافيلالت وَكَانَ آيت عطة وآيت يفلمان من برابرة الصَّحرَاء شيعَة لَهُ فَكَانَ إِذا حدث بَينه وَبَين أَشْرَاف سجلماسة حَادث استكثر بهم عَلَيْهِم وحاربهم وَرُبمَا قتل مِنْهُم وَكَانَ السُّلْطَان يبلغهُ بعض ذَلِك عَنهُ فيسوءه إِلَّا أَنه كَانَ يثقل عَلَيْهِ أَن ينَال عَمه مِنْهُ مَكْرُوه وَلِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أهم فاستمر الْحَال إِلَى أَن ترددت أَشْرَاف سجلماسة بالشكاية مِنْهُ فَلم يسع السُّلْطَان إِلَّا زَجره وَقطع عَادِية بربره عَن الْأَشْرَاف فعزم على الْمسير بِنَفسِهِ إِلَى سجلماسة وَكَانَ ابْنه الْمولى يزِيد يَوْمئِذٍ بالمغرب فَلم يرد السُّلْطَان أَن يتْركهُ خَلفه لِئَلَّا ينشأ عَنهُ ناشيء فتْنَة فاحتال فِي إبعاده بِأَن وَجهه إِلَى الْحجاز لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 فِي غير ركب بل أفرده عَنهُ وأصحبه أَمينا يصير عَلَيْهِ وأناسا قليلين يكونُونَ فِي خدمته دفعا لغائلته ثمَّ سَافر السُّلْطَان إِلَى سجلماسة برسم زِيَارَة تربة جده الْمولى عَليّ الشريف رَضِي الله عَنهُ وحسم دَاء عَمه الْمولى حسن وشيعته وَلما شَارف السُّلْطَان تافيلالت قدم أَمَامه أَبَا الْقَاسِم الصياني لإِخْرَاج البربر من قصورهم فِي الْأمان وَإِن كَانَ عِنْدهم مَا يثقلهم من زرع أَو تمر يعطيهم ثمنه لينقطع بذلك عذرهمْ وَإِن أَقَامُوا حَتَّى أدركهم السُّلْطَان بهَا فَإِنَّمَا إثمهم على أنفسهم فامتثل البربر الْأَمر وَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء وَلم يَأْتِ السُّلْطَان حَتَّى لم يبْق مِنْهُم أحد بِتِلْكَ الْقُصُور وأفرد الْمولى حسن وانكسرت شوكته ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَبَا الْقَاسِم الصياني أَيْضا يعرض عَلَيْهِ السُّكْنَى بمكناسة وَينفذ لَهُ مَا يَكْفِيهِ من الظّهْر لحمل عِيَاله وأثقاله قَالَ الصياني فَذَهَبت إِلَيْهِ وباشرت أمره إِلَى أَن أجَاب وَمن الْغَد سرت بِهِ إِلَى مكناسة وَأَمرَنِي السُّلْطَان أَن أعْطِيه دَارا يسكنهَا ورتب لَهُ ثَلَاثمِائَة مِثْقَال لكل شهر ينفقها على نَفسه وَعِيَاله وَأَمرَنِي مَعَ ذَلِك إِذا فرغت من شَأْن عَمه الْمَذْكُور أَن أصحب معي أَوْلَاده الثَّلَاثَة الْمولى سُلَيْمَان وَالْمولى حسن وَالْمولى حُسَيْن وَأَن أصحب مَعَهم قدرا من المَال وعددا من المدافع والمهاريس والبنب وَطَائِفَة من الطبجية من علوج اللمان وألفا من عَسْكَر الثغور رِجَاله لجر تِلْكَ المدافع والمهاريس قَالَ فَقضيت الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وعدت إِلَيْهِ وَهُوَ بسجلماسة بِجَمِيعِ مَا أَمرنِي بِهِ فَبَلغنَا وَنحن أثْنَاء الطَّرِيق وَفَاة ولد السُّلْطَان وخليفته بفاس الْمولى عَليّ بن مُحَمَّد وَكَانَ من سادة العلويين ونجبائهم وَمن أهل الْمُرُوءَة والأوصاف المحمودة عقلا وعلما وأدبا وكرما وعلو همة زَاد فِي الْبُسْتَان وَكَانَ مَجْلِسه مجمع الْفُضَلَاء والأدباء والنبلاء يتشبه بأخلاق الْمولى مُحَمَّد الْعَالم ابْن الْمولى إِسْمَاعِيل فِي كرمه وأدبه وَكَانَ لَهُ اعتناء كَبِير بنسخ كتب الْعلم الغريبة وَكتب الْأَدَب وَكَانَ كثيرا مَا يبْعَث بأشعاره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 ومخاطباته لأهل عصره وأدباء وقته من الفاسيين والبكريين والقادريين كَمَا كَانَ الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مشغوفا بأشعار أَوْلَاد السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن أَيُّوب الْكرْدِي رحم الله الْجَمِيع وَلما بلغ أَوْلَاد السُّلْطَان إِلَى أَطْرَاف سجلماسة قدمُوا الْأَعْلَام إِلَى السُّلْطَان وَاسْتَأْذَنُوا فِي التَّقَدُّم فَخرج رَحمَه الله لملاقاتهم وَأمر الْأَشْرَاف وَسَائِر أهل الْبَلَد أَن يخرجُوا للسلام عَلَيْهِم ويشاهدوا آلَة الْحَرْب الَّتِي لَيست ببلادهم فَخَرجُوا وَخرج السُّلْطَان فِي موكبه وَركبت العساكر خَلفه فِي أحسن زِيّ وأكمل تَرْتِيب فَكَانَ ذَلِك الْيَوْم من أَيَّام الزِّينَة وَلما قضى غَرَضه من سجلماسة وثقف أطرافها ورتب عربها وبربرها وحسم دَاء آيت عطة وآيت يفلمان ولى عَلَيْهِم الْقَائِد عَليّ بن حميدة الزراري من كبار قواده وأعيان دولته ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى مراكش بعد أَن أَقَامَ بسجلماسة شهرا وَكَانَ سلوكه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكَانَ قد ردني إِلَى الغرب لآتيه بِجَيْش من أَوْلَاد عبيد الثغور أَلْقَاهُ بهم بمراكش ليزيدهم فِي جَيْشه ويقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا وَلما انْتهى السُّلْطَان فِي طَرِيقه إِلَى ثنية الكلاوي نزل عَلَيْهِ الثَّلج الْكَبِير فسد المسالك وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي كل وَجه وَحَال الثَّلج بَينهم وَبَين أخبيتهم ورحالهم وَبَات السُّلْطَان منتبذا نَاحيَة عَن مضاربه وقبابه معزولا عَن طَعَامه وَشَرَابه وَلم تلتق طَائِفَة من الْعَسْكَر مَعَ صاحبتها إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَرفع الله عَنْهُم الثَّلج وَأصْبح ذَلِك الْيَوْم عيد الْأَضْحَى فَخَطب السُّلْطَان النَّاس بِنَفسِهِ ودعا للسُّلْطَان عبد الحميد بن أَحْمد العثماني وَدخل مراكش سالما معافى وَسلم الله الْعَسْكَر من ذَلِك الثَّلج فَلم يهْلك مِنْهُ أحد وَالْحَمْد لله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الصويرة بِقصد النزهة واغتنام الرَّاحَة وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك لما قدم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من سجلماسة إِلَى مراكش أَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخل فصل الرّبيع فاعتزم على الْخُرُوج إِلَى الصويرة وَالْوُقُوف عَلَيْهَا ومعاينة مبانيها ومعالمها إِذْ كَانَ لَهُ ولوع بِهَذِهِ الْمَدِينَة الَّتِي أَنْشَأَهَا واغتبط بهَا وَقصد أَيْضا زِيَارَة رجال رجراجة بالسَّاحل والتبرك بآثارهم وَكَانَت سفرته هَذِه سفرة فُرْجَة وجمام نفس واغتنام لَذَّة فأشخص مَعَه جمَاعَة من عُلَمَاء الْعَصْر وأئمته فَكَانَ يملي عَلَيْهِم الحَدِيث النَّبَوِيّ ويؤلفونه على مُقْتَضى إِشَارَته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيع الْعَلامَة أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن أَبُو خريص هَؤُلَاءِ أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يؤلفون لَهُ ويسردون ويخوضون فِيمَا يجمعه ويستخرجه من كتب الحَدِيث الَّتِي جلبها من الْمشرق كمسند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من الْكتاب المعتبرين فِي الْإِنْشَاء والترسيل كالسيد الْمهْدي الحكاك المراكشي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل المراكشي وَالسَّيِّد أَحْمد بن عُثْمَان المكناسي وَالسَّيِّد أَحْمد الغزال الفاسي وَالسَّيِّد مُحَمَّد سكيرج الفاسي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد سعيد الشليح الْجُزُولِيّ وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم إقبيل السُّوسِي وَصَاحب الْبُسْتَان أبي الْقَاسِم الصياني وَغَيرهم وَكَانَ خُرُوجه لهَذِهِ الفرجة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِي فصل الرّبيع فَضربت قبابة بِظَاهِر مراكش ثمَّ ضرب عَلَيْهَا السياج الْمُحِيط بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الْمُسَمّى بأفراك وَفِي وسط تِلْكَ القباب الْقبَّة الْعُظْمَى الَّتِي أهداها إِلَيْهِ طاغية الفرنج وَكَانَت مبطنة بالديباج ومحاريبها من الموبر الْحر الْمُخْتَلف الألوان وسفائفها من الكالون والإبريز وأطنابها من الْحَرِير الصافي زَعَمُوا أَن مبلغ مَا صير عَلَيْهَا الطاغية نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار ومصداق ذَلِك أَن تفاحتها الَّتِي تكون فِي أَعلَى العامود وتسميها الْعَامَّة بالجمور كَانَت من الذَّهَب الْخَالِص وَزنهَا أَرْبَعَة أُلَّاف مِثْقَال ذَهَبا وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد أخرجهَا فِي هَذِه النّوبَة ابتهاجا بهَا وَخرج مَعَه الْخَاصَّة من القواد وَالْكتاب وَغَيرهم بفازاتهم الرفيعة ومضاربهم البديعة ثمَّ توجه فِي ذَلِك الموكب العجيب يرتاد الْبِلَاد النزهة والأماكن الْبَهْجَة الَّتِي تروق الطّرف وتستغرق الْوَصْف وتبسط النَّفس وتجلب الْأنس فَأَقَامَ شَهْرَيْن كَامِلين يتقلب فِي تِلْكَ البسائط ويستوفي اللَّذَّات ويتقرى الْمعَاهد ويقتنص الطَّائِر والشارد إِلَى أَن وصل إِلَى ثغر الصويرة فَوقف عَلَيْهِ وَقضى غَرَضه مِنْهُ على الْوَجْه الْأَكْمَل وانقلب رَاجعا إِلَى حَضرته فاجتاز فِي طَرِيقه برباط شَاكر وَهُوَ من مزارات الْمغرب الْمَشْهُورَة وَكَانَ مجمعا للصالحين من قديم الزَّمَان وَوَقع فِي التشوف أَن شاكرا الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ هَذَا الرِّبَاط من أَصْحَاب عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَأَنه هُنَالك فَلَمَّا مر بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله فِي سفرته هَذِه أَمر بتجديد مَسْجده وحفر أساسه وتشييده وَفِي قفوله طلع مَعَ وَادي نَفِيس إِلَى أَن بلغ مَدِينَة أغمات فزار ضريخ الشَّيْخ أبي عبد الله الهزميري وَغَيره من صلحائها وَنزل بمحلته تَحت الْقرْيَة وَلما اسْتَقر بِهِ الْمنزل جَاءَهُ جمَاعَة من أَهلهَا مَعَ قاضيهم بكبش جيد وآنية فِيهَا شَيْء من الشهد فَدخل القَاضِي على السُّلْطَان وَلما مثل أَمَامه أنسه السُّلْطَان بالْكلَام وَسَأَلَهُ عَن أشياخه فَأجَاب بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ فَقَالَ السُّلْطَان للحاجب ابْعَثْ بِالْقَاضِي إِلَى خباء القَاضِي أبي زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل وَهُوَ الَّذِي يتَوَجَّه قَاضِيا مَعَ الْمحلة إِلَى السوس إِن شَاءَ الله فأنزله عَلَيْهِ وادفع لَهُ هَذَا الْكَبْش وَهَذَا الْعَسَل فَسَار الْحَاجِب بِالْقَاضِي وبالكبش وَالْعَسَل إِلَى خباء قَاضِي الْعَسْكَر أبي زيد بن الْكَامِل وَأمره أَن يكرم القَاضِي ليلته وَمن الْغَد ارتحل السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَار نزل على وَادي نَفِيس وَضرب لَهُ هُنَالك صيوان الراضة على شاطىء النَّهر ثمَّ استدعى القَاضِي أَبَا زيد وَسَائِر الْكتاب وَلما جَلَسُوا بَين يَدَيْهِ سَأَلَ القَاضِي على وَجه المداعبة وَقَالَ لَهُ بِمَ أجزت ضيفك على كبشه وعسله فتلعثم فِي الْجَواب وَعلم أَن السُّلْطَان قصد اختباره بذلك وَأَنه لم يصنع شَيْئا حَيْثُ أهمل أمره وَلما رأى رَحمَه الله خجلته قَالَ فلعلك لم تجزه فَلَو مدحته على كبشه وعسله لصادفت الْمَقْصُود وَخرجت من الْعهْدَة وَمَا بعثت إِلَيْكُم إِلَّا بِسَبَب هَذَا الْكَبْش وَالْعَسَل فَإِنِّي سهرت لَيْلَتي وَلم أنم وَذكرت مَا اتّفق للمنصور السَّعْدِيّ مَعَ كِتَابه فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة وَعلمت أَنه لم يبْق فِي وقتنا هَذَا كتاب وَلَا أدباء وَلَا أُمَرَاء وسأسمعكم مَا اتّفق للمنصور فِي زيارته هَذِه الْقرْيَة الأغماتية ثمَّ أَمر كَاتبه ابْن الْمُبَارك أَن يقْرَأ عَلَيْهِم مَا حَكَاهُ الفشتالي فِي مناهل الصَّفَا عَن خُرُوج الْمَنْصُور السَّعْدِيّ إِلَى أغمات بِقصد الزِّيَارَة والنزهة وَمَا اتّفق للْقَاضِي أبي مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي مَعَ من أهْدى لَهُ الْكَبْش وَالْعَسَل من الشّعْر وَالَّذِي شايعه عَلَيْهِ جمَاعَة من كتاب الدولة وَقد ألممنا بِخَبَر هَذِه الخرجة للمنصور عِنْد ذكر أخباره حَسْبَمَا مر وَقد ذكر صَاحب النزهة أَبْيَات الْحميدِي وَمن قفا نهجه من الْكتاب فَلْتنْظرْ هُنَالك فَقَرَأَ الْكَاتِب الْمَذْكُور التَّرْجَمَة كلهَا على الْكتاب حَتَّى سمعوها وَعَابَ السُّلْطَان عَلَيْهِم تقصيرهم فِي قضيتهم الْمُوَافقَة لَهَا وَفِي ظَنِّي أَن السُّلْطَان رَحمَه الله أَمرهم بنسخ ذَلِك ومراجعته تحريكا لهمتهم وَالله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ذكر السَّبَب الَّذِي هاج غضب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله على ابْنه الْمولى يزِيد رَحمَه الله ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم ولد السُّلْطَان الْمولى عبد السَّلَام من الْحجاز فولاه السُّلْطَان رَحمَه الله تارودانت والسوس وَمَا إِلَيْهَا ثمَّ لما حضر زمَان خُرُوج الركب الْحِجَازِي أحضر السُّلْطَان صهره وَابْن عَمه الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس وكاتبيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان المكناسي وَأَبا حَفْص عمر الوزريق وَشَيخ الركب أَبَا مُحَمَّد عبد الْكَرِيم بن يحيى وَحَملهمْ على وَجه الْأَمَانَة مَالا لأشراف مَكَّة وَالْمَدينَة وَسَائِر الْحجاز واليمن وَقدره ثَلَاثمِائَة ألف ريال وَخَمْسُونَ ألف ريال وَبعث مَعَهم صلات أخر لِأُنَاس مُعينين فِي حقاق مختوم عَلَيْهَا مَكْتُوب على كل وَاحِد مِنْهَا اسْم صَاحبه وَأمرهمْ أَن يذهبوا أَولا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَتَّى يكون مَسِيرهمْ إِلَى الْحجاز مَعَ أَمِين الصرة الَّذِي يوجهه السُّلْطَان العثماني إِلَى الْحَرَمَيْنِ كل عَام وَإِنَّمَا ارْتكب السُّلْطَان هَذِه الْمَشَقَّة حذرا من ابْنه الْمولى يزِيد أَن يعترضهم فِي الطَّرِيق وينتزع مِنْهُم المَال فبعثهم السُّلْطَان فِي الْبَحْر فِي بعض قراصين السُّلْطَان عبد الحميد وَكتب إِلَيْهِ أَن يَبْعَثهُم مَعَ أَمِين صرته فَلَمَّا وصلوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وجدوا أَمِين الصرة قد سَافر بالركب إِلَى الْحجاز فأقاموا بهَا إِلَى الْعَام الْقَابِل وَحِينَئِذٍ سافروا صُحْبَة الركب وَلما وصلوا إِلَى الْمَدِينَة المنورة فرقوا على أَهلهَا وعَلى سَائِر شرفاء الْحجاز حظهم من المَال وَلما وصلوا إِلَى مَكَّة وجدوا الْمولى يزِيد بهَا يترصدهم ففرقوا على أهل مَكَّة حظهم وَبَقِي عِنْدهم حَظّ الْيمن والحقاق الَّتِي فِيهَا صلات الذَّهَب فتغفلهم الْمولى يزِيد وَقت القيلولة وهجم عَلَيْهِم فِي جمع من أَصْحَابه وهم بدار شيخ الركب عبد الْكَرِيم بن يحيى فَانْتزع مِنْهُم مَا قدر عَلَيْهِ وَأخذ الحقاق وَذهب فَذهب شيخ الركب وَالْمولى عبد الْملك والكاتبان إِلَى أَمِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 مَكَّة الشريف سرُور وَأَخْبرُوهُ الْخَبَر فَبعث أعوانه إِلَى الْمولى يزِيد فَحَضَرَ عِنْده وألزمه رد المَال وتهدده فَرد الْبَعْض وَجحد الْبَعْض فبسبب هَذَا فِيمَا قيل غضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وتبرأ مِنْهُ وَكتب بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ مناشير بعث بهَا إِلَى الْآفَاق فعلق أَحدهَا بِالْكَعْبَةِ وَالْآخر بالحجرة النَّبَوِيَّة وَالثَّالِث بِبَيْت الْمُقَدّس وَالرَّابِع بضريح الْحُسَيْن بِمصْر وَالْخَامِس بضريح الْمولى عَليّ الشريف بتافيلالت وَالسَّادِس بضريح الْمولى إِدْرِيس بزرهون وَالسَّابِع بضريح الْمولى إِدْرِيس بفاس وَكتب إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد بِأَن لَا يقبله إِذا أَوَى إِلَيْهِ وَاسْتمرّ الْمولى يزِيد مُقيما بالمشرق وَلم يقدر أَن يواجه أَبَاهُ لسوء صَنِيعه إِلَى سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف أسر أهل الجزائر نَصْرَانِيَّة من قرَابَة طاغية الإصبنيول كَانَت متوجهة فِي مركبها من أصبانيا إِلَى نابل لزيارة ابْن عَمها الَّذِي هُوَ صَاحب نابل فَلَمَّا عرف أهل الجزائر محلهَا من قَومهَا امْتَنعُوا من فدائها بِكُل وَجه فَكتب طاغية الإصبنيول إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله يسْأَله أَن يشفع لَهُ فِي فدائها بِكُل مَا يطْلبُونَ فأسعفه وَكتب لصَاحب الجزائر فِي شَأْنهَا فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَن النَّصْرَانِيَّة فِي سهم الْعَسْكَر وَلَا يُمكنهُ إكراههم على فدائها فَلَمَّا رد صَاحب الجزائر شَفَاعَة السُّلْطَان كتب إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد بذلك فَكتب عبد الحميد رَحمَه الله إِلَى أهل الجزائر يوبخهم على رد شَفَاعَة السُّلْطَان وَيَقُول لَهُم إِن الْوَاجِب أَن تسرحوها لَهُ بِدُونِ مَال وَمَا عَسى أَن يبلغ ثمن هَذِه النَّصْرَانِيَّة وَلَو طلب مني سُلْطَان الْمغرب ألف نَصْرَانِيَّة لبعثتها إِلَيْهِ وَحَتَّى الْآن نأمركم أَن تبعثوا إِلَيْهِ بِهَذِهِ النَّصْرَانِيَّة وَلَو كَانَت هِيَ الملكة وَلَا تقبضوا فِيهَا فدَاء أَو مَا رَأَيْتُمْ مَا افتكه ملك الْمغرب من أسرى التّرْك من كل جنس حَتَّى لم يبْق فِي أسر الْكفَّار مُسلم وَأَنْتُم تردون شَفَاعَته فِي نَصْرَانِيَّة لَا بَال لَهَا فَلَا تعودوا لمثل هَذَا فَيكون سَببا لتغير باطننا عَلَيْكُم وَالسَّلَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَلما ورد عَلَيْهِم فرمان السُّلْطَان عبد الحميد لم يسعهم إِلَّا إرْسَال النَّصْرَانِيَّة إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَتَبُوا إِلَيْهِ بالاعتذار وَقَالُوا إِنَّمَا امتنعنا من فدائها خوف بُلُوغ خَبَرهَا إِلَى ملكنا فَلم نر أَن نفتأت عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِب علينا من طَرِيق الْخدمَة وَالطَّاعَة فَنحب من سيدنَا أَن يقبل عذرنا وَلَا يظنّ بِنَا خلاف هَذَا وَالسَّلَام ذكر مَا كَانَ من السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى أهل زَاوِيَة أبي الْجَعْد حماها الله هَذِه الزاوية من أشهر زَوَايَا الْمغرب وَلها الْفضل الَّذِي يفصح عَنهُ لِسَان الْكَوْن ويعرب تداولها مُنْذُ أزمان فحول أكَابِر ورثوا مقَام الْولَايَة والرياسة بهَا كَابِرًا عَن كَابر قد عرف لَهُم ذَلِك السوقة والملوك والغني والصعلوك وَلم تزل الْمُلُوك من هَذِه الدولة وَغَيرهَا تعاملهم بالإجلال والإعظام والتوقير والاحترام وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْجَلِيل الْمَاجِد الْأَصِيل نقم على كبيرها لوقته المرابط الْبركَة أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الشَّيْخ الْأَكْبَر سَيِّدي الْمُعْطِي بن الصَّالح بعض مَا ينقمه الْأَمِير على الْمَأْمُور وَالْإِنْسَان غير مَعْصُوم والمخلوق نَاقص إِلَّا من أكمله الله فاتفق أَن كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قَافِلًا فِي هَذِه السّنة من رِبَاط الْفَتْح إِلَى مراكش فَجعل طَرِيقه على تادلا وَنزل على زَاوِيَة أبي الْجَعْد فَأمر على مَا قيل بهدمها وطرد الغرباء الملتفين على آل الشَّيْخ بهَا ثمَّ نقل سَيِّدي الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور وعشيرته إِلَى مراكش فأسكنهم بهَا واستمروا على ذَلِك إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وبويع ابْنه الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد بمراكش فَأذن لَهُم فِي الذّهاب إِلَى بِلَادهمْ فعادوا إِلَى زاويتهم واطمأنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 بهَا بُرْهَة من الدَّهْر وَلما كَانَت دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد نقم أَيْضا على سَيِّدي الْعَرَبِيّ الْمَذْكُور أمورا نقلهَا إِلَيْهِ الوشاة عَنهُ فَأمر بنقله إِلَى فاس بعد مكاتبات ومعاتبات يطول جلبها فانتقل إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سرحه إِلَى بِلَاده ثمَّ دخلت سنة مِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله كَاتبه أَبَا الْقَاسِم الصياني باشدورا إِلَى السُّلْطَان عبد الحميد العثماني بهدية عَظِيمَة من جُمْلَتهَا أحمال من سبائك الذَّهَب الْخَالِص مثل بارات الْحَدِيد وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يقْصد بِمثل ذَلِك الْفَخر على الْمُلُوك وَإِظْهَار الْغنى وَكَمَال الثروة وَذَلِكَ من غَرِيب السياسة لمن أقدره الله عَلَيْهَا فَقدم أَبُو الْقَاسِم الْقُسْطَنْطِينِيَّة وألفى بهَا عبد الْملك بن إِدْرِيس وَشَيخ الركب والكاتبين لَا زَالُوا مقيمين بهَا ينتظرون الْمَوْسِم من الْعَام الْقَابِل قَالَ فأقمت بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام وقضيت الْغَرَض وانقلبت إِلَى السُّلْطَان وَبعث معي السُّلْطَان عبد الحميد أحد خُدَّامه بهدية إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله قَالَ وَلما قدمنَا على السُّلْطَان نوه بقدري وَقَالَ لَا أوجه الْهَدَايَا للعثماني إِلَّا مَعَك وَكَانَ الرئيس الطَّاهِر بن عبد الْحق فنيش السلاوي حَاضرا وَقَالَ لَا أوجه القراصين الحربية إِلَّا مَعَ الطَّاهِر يسليه بذلك قَالَ وسألني عَن مِقْدَار راتب عَسْكَر التّرْك الَّذِي يقبضونه فِي كل ثَلَاثَة أشهر فَقلت لَهُ سِتُّونَ أُوقِيَّة لكل وَاحِد فاستقل ذَلِك فَقلت لَهُ إِنَّه لَا يكلفهم فِي أَيَّام الْغَزْو بمؤنة وَلَا علف خيل كل أُمُور السّفر عَلَيْهِ ثمَّ ذكر الصياني هُنَا كلَاما طَويلا فِي وصف الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَحَال أَهلهَا خَارِجا عَن مَوْضُوع كتَابنَا هَذَا وَالله الْمُوفق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 ذكر عدد عَسْكَر الثغور فِي دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا كَانَ يقبضهُ من الرَّاتِب كَانَ بثغر الصويرة أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية أَلفَانِ وَخَمْسمِائة وبآسفي مِائَتَان من الطبجية ومائتان من البحرية وبتيط خَمْسمِائَة من العبيد وبآزمور خَمْسمِائَة مِنْهُم كَذَلِك وبآنفي أَلفَانِ من العبيد وبالعدوتين أَلفَانِ من الطبجية والبحرية وبالمهدية أَلفَانِ وَخَمْسمِائة من العبيد وبالعرائش ألف وَخَمْسمِائة مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية وبآصيلا والساحل مِائَتَان مَا بَين طبجية وبحرية وبطنجة ثَلَاثَة آلَاف وسِتمِائَة من أهل الرِّيف وبتطاوين ثَمَانمِائَة مَا بَين جَيش وطبجية وبحرية فَكَانَت جملَة عَسَاكِر الثغور سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وراتبهم ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة لكل وَاحِد فِي كل ثَلَاثَة أشهر من حِسَاب مِثْقَال للرأس فِي كل شهر وَكَانُوا فِي ابْتِدَاء الْأَمر يقبضون راتب كل شهر عِنْد انتهائه فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة أَعنِي سنة مِائَتَيْنِ وَألف أنعم السُّلْطَان رَحمَه الله على عَسَاكِر الثغور بتعجيل راتب خمس عشرَة سنة بِحِسَاب مِثْقَال للرأس فِي كل شهر وَهَذَا مَال لَهُ بَال فَإِنَّهُ يُقَارب ثَلَاثَة ملايين فعل ذَلِك رَحمَه الله إِعَانَة لَهُم وتوسعة عَلَيْهِم ثمَّ أَمر أَن يَجْعَل فِي كل مرسى من مراسي الْمغرب بَيت مَال وَعند تَمام كل ثَلَاثَة أشهر يفتح بَيت المَال وَيُعْطِي لعسكر ذَلِك الثغر ثَلَاثُونَ أُوقِيَّة للرأس حَضَرُوا أم غَابُوا إِعَانَة لَهُم على عِيَالهمْ وَأما عَطاء الْغَزْو وَعَطَاء عَاشُورَاء والصلات وَالصَّدقَات فَكَانَ يبْعَث بذلك كُله من عِنْده لَا من بيُوت الْأَمْوَال وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله فَوَثَبَ عبيد الثغور على بيُوت أموالها وفتحوها واكتسحوها ثمَّ سَارُوا إِلَى مكناسة مسْقط رَأْسهمْ وَكَانَ ذَلِك بِإِشَارَة الْمولى يزِيد رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قَبيلَة شراقة بأحواز فاس فنهبهم وشردهم فلجؤوا إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الشتَاء بفشتالة فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ سَار إِلَى الحياينة فَأطلق الْجَيْش فِي زُرُوعهمْ فحصدوها ودرسوها واستصفوها عَن آخرهَا ثمَّ جرد الْخَيل فِي طَلَبهمْ فاكتسحوا حللهم وأثاثهم قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ قد تَوَجَّهت بِجَيْش إِلَى عَامل وَجدّة أبلغه إِيَّاه فَلَمَّا رجعت أدْركْت السُّلْطَان بِبِلَاد الحياينة فقلدني ولَايَة تازا وأعمالها فسرت إِلَيْهَا وأقمت بهَا سنة كَامِلَة وَفِي هَذِه السّنة قدم ولد السُّلْطَان الْمولى مسلمه بن مُحَمَّد من الْمشرق مفارقا لِأَخِيهِ الْمولى يزِيد ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى آيت عطة يَأْمُرهُم أَن يبعثوا بستمائة رجل مِنْهُم وبأربعمائة من عبيد تافيلالت فالمجموع ألف ليكسوهم ويسلحهم ويستعملهم فِي خدمَة الْبَحْر وجنديته فبعثوا بهم إِلَيْهِ قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما قدمُوا عَلَيْهِ بمكناسة استدعاني من تازا فَقدمت عَلَيْهِ فَأمرنِي أَن أتوجه بهم إِلَى تطاوين كي يقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا ثمَّ أَسِير بهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَأَمرَنِي أَن أكون أتعاهدهم بركوب الغلائظ الْعشْرين الَّتِي بمرساها وَالْخُرُوج بهَا إِلَى البوغاز وسواحل أسبانبا والتردد فِيهَا بَينهمَا ليتدربوا على الْبَحْر ويتمرنوا بِهِ قَالَ فَذَهَبت بهم إِلَى تطاوين على مَا رسم السُّلْطَان رَحمَه الله فَأخذُوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة ونفذنا إِلَى طنجة فَأَقَمْنَا بهَا شَهْرَيْن وكل يَوْم يركبون السفن ويتطاردون بهَا فِيمَا بَينهم فَتَارَة يخرجُون إِلَى البوغاز وَتارَة يطرقون سواحل أصبانيا وَتارَة يرجعُونَ إِلَى أَن زَالَت عَنْهُم دهشة الْبَحْر وفارقهم ميده وألفوه وَلما أقبل فصل الشتَاء كتب إِلَى السُّلْطَان بالقدوم بهم فَلَمَّا حللنا مكناسة أَمر رَحمَه الله بعمارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 المشور لدخولنا عَلَيْهِ فَلَمَّا مثلنَا بَين يَدَيْهِ دنا منا إِلَى أَن كَانَ فِي وَسطنَا وكلم البربر بلسانهم وسألهم عَن حَالهم فِي سفرهم فَذكرُوا خيرا فسره ذَلِك مِنْهُم ونشط ثمَّ قَالَ لَهُم هَذَا كاتبي وصاحبي قد وليته عَلَيْكُم وعَلى أَوْلَادِي وَبني عمي وَسَائِر أهل الصَّحرَاء فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا قَالَ فَفَزِعت وخرس لساني وَفهم السُّلْطَان عني الْكَرَاهِيَة لذَلِك ثمَّ دخل بستانه وَبعث إِلَى فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي طب نفسا وَلَوْلَا أَنِّي أحبك مَا وليتك على أَوْلَادِي وَأهل بَيْتِي وَإِنِّي لَا أستغني عَنْك وَهَذَا ابْن حميدة الَّذِي وليناه بسجلماسة لم تظهر لَهُ ثَمَرَة وكل يَوْم يأتيني بشكوى بولدي الْحُسَيْن وتطاوله على النَّاس وَلَا يمنعهُ من ذَلِك وَمَا وليتك عَلَيْهِم إِلَّا لهَذَا الْغَرَض فَإِنَّهُم يهابونك لمحلك مني ثمَّ كتب إِلَى جَمِيع أَوْلَاده وأعيان سجلماسة وَأمر لي بِمَال الصائر وَالْبناء وعينه ثمَّ ودعته وانفصلت فَخرجت من مكناسة إِلَى فاس ثمَّ مِنْهَا إِلَى سجلماسة فدخلتها واستوطنتها وَجَاء الْعَامِل الَّذِي كَانَ بهَا قبلي حَتَّى قدم على السُّلْطَان فَقبض عَلَيْهِ ونكبه قدوم الْمولى يزِيد من الْمشرق واحترامه بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام ابْن مشيش رَضِي الله عَنهُ وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَت سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم ولد السُّلْطَان الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد من الْمشرق فِي ركب الْحَاج الفيلالي وَقصد سجلماسة فَلَمَّا كَانَ بقرية أبي صمغون لقِيه رفْقَة من أهل سجلماسة فَسَأَلَهُمْ عَن الْبِلَاد وَأَهْلهَا وَمن الْمُتَوَلِي عَلَيْهَا قَالُوا أَبُو الْقَاسِم الصياني فَلَمَّا سمع الْمولى يزِيد ذَلِك سقط فِي يَده ووجم ثمَّ الْتفت إِلَى شيخ الركب الشريف الْمولى عبد الله بن عَليّ وَالِي الْأَشْرَاف الَّذين مَعَه فَقَالَ لَهُم إِنِّي كنت عَازِمًا على الْوُصُول مَعكُمْ إِلَى بلدكم والاستيجار بضريح جدي الْمولي عَليّ الشريف وأبعث مَعَ أَعْيَان بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 عمي وَذَوي أسنانهم من يشفع لي عِنْد أبي والآن حَيْثُ كَانَ الْوَالِي بِهَذِهِ الْبَلدة هُوَ الصياني فَلَا يَسْتَقِيم لي مَعَه أَمر وَلَا يخيط بيني وَبَين وَالِدي بخيط أَبيض وَهَؤُلَاء عيالي فخذوهم بَارك الله فِيكُم واذهبوا بهم مَعَ أَصْحَابِي ينزلون بدار أخي الْمولى سُلَيْمَان وَيَكُونُونَ بهَا وَأما أَنا فسأسير إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش أكون بِهِ حَتَّى يقْضِي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ثمَّ قدم عِيَاله مَعَ أَصْحَابه فِي جملَة الركب وَكتب إِلَى أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان يوصيه بعياله خيرا وَكتب أَيْضا إِلَى شقيقته المولاة حَبِيبَة بالرتب وَإِلَى بني عَمه الَّذين هُنَالك وَبعث بالمكاتيب مَعَ أَصْحَابه وَلما وصل الركب إِلَى بِلَاد القنادسة تقدم أحد أَصْحَابه بالمكاتيب إِلَى الْمولى سُلَيْمَان وَلما قَرَأَهَا توقف وَلم يدر مَا يصنع ثمَّ جَاءَ بهَا إِلَى أبي الْقَاسِم الصياني وَأخْبرهُ الْخَبَر وَقَالَ إِن وَالِدي غاضب عَلَيْهِ وَإِن أَنا قابلت عِيَاله فَرُبمَا ألحقني بِهِ فَمَا الْعَمَل فَكتب أَبُو الْقَاسِم إِلَى شيخ الركب ينهاه عَن اسْتِصْحَاب عِيَال الْمولى يزِيد مَعَه وحذره غضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن أردْت السَّلامَة لنَفسك فَابْعَثْ بالعيال إِلَى المولاة حَبِيبَة بالرتب وَالسَّلَام وَلما وصل كِتَابه إِلَى شيخ الركب وَكَانَت فِيهِ غَفلَة نجع فِيهِ كَلَامه فحبس الركب إِلَى أَن وصل أَصْحَاب الْمولى يزِيد بعياله فَبعث مَعَهم من يدلهم على طَرِيق الرتب فسلكوا على وَادي كثير ونزلوا عِنْد المولاة حَبِيبَة وَكتب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالْخبر إِلَى السُّلْطَان فَزعم أَنه اسْتحْسنَ فعله ثمَّ أمره أَن يهيىء الظّهْر والزاد وَيبْعَث بهما إِلَى عِيَال الْمولى يزِيد مَعَ ثَلَاثِينَ من العبيد ليأتوا بهم إِلَى دَار الدبيبغ يكونُونَ بهَا مَعَ أمه وَكَانَ السُّلْطَان قد أخرجهَا من الدَّار وأسكنها بدار الدبيبغ فَفعل الزياني ذَلِك كُله وبهذه الْقَضِيَّة كَانَ الْمولى يزِيد يعْتد على الصياني حَتَّى أَنه لما أفْضى إِلَيْهِ الْأَمر قبض عَلَيْهِ وضربه وامتحنه وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام رَضِي الله عَنهُ بعث جمَاعَة من أَشْرَاف الْعلم للشفاعة فِيهِ فَأَمرهمْ السُّلْطَان أَن يَأْتُوا بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 فراودوه على الْإِتْيَان فَامْتنعَ ثمَّ بعث إِلَيْهِ ثَانِيًا فَأبى ثمَّ ثَالِثا فَأبى فَكتب إِلَيْهِ بِالْعَفو مرَارًا فَلم يقبل وتصدى للْخلاف وكشف وَجه الْعِصْيَان وَصَارَ يكْتب لوالده بِمَا يحفظه هَكَذَا زعم الصياني وَلَا يخفى أَن الرجل كَانَ مناوئا لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَن نسْمع مِنْهُ جَمِيع مَا ينْسبهُ إِلَيْهِ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر ثمَّ إِن السُّلْطَان بعث إِلَيْهِ شقيقه الْمولى مسلمة فِي عَسْكَر وَأمره أَن ينزل بِقُرْبِهِ ويضيق عَلَيْهِ ويمنعه النُّزُول من الْحرم ثمَّ بعث إِلَيْهِ عسكرا آخر مَعَ الْقَائِد الْعَبَّاس البُخَارِيّ فنزلوا بِقرب الْحرم من النَّاحِيَة الْأُخْرَى وضيقوا عَلَيْهِ حَتَّى منعُوهُ التصوف بِكُل حَال وَفِي مُدَّة مقَامه هُنَالك أَخذ فِي تأسيس دَاره وَبِنَاء مَسْجده وَلَا زَالَت جدرانها قَائِمَة أَسْفَل الْجَبَل إِلَى الْآن وَاسْتمرّ الْمولى يزِيد محصورا هُنَالك إِلَى أَن بلغه خبر وَفَاة أَبِيه رَحمَه الله فَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله لما اعْتصمَ الْمولى يزِيد بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ وراوده السُّلْطَان على النُّزُول مرَارًا فَأبى نَهَضَ إِلَيْهِ من مراكش وَأَرَادَ أَن يحضر عِنْده بِنَفسِهِ لَعَلَّه تسكن نَفسه وَيذْهب مَا بصدره من الْجزع والنفرة وَكَانَ عِنْد خُرُوجه من مراكش بِهِ مرض خَفِيف فَتحمل الْمَشَقَّة وجد السّير فتزايد بِهِ الْمَرَض فِي الطَّرِيق فوصل إِلَى أَعمال رِبَاط الْفَتْح فِي سِتَّة أَيَّام فَأَدْرَكته منيته رَحمَه الله وَهُوَ فِي محفته على نَحْو نصف يَوْم أَو أقل من رِبَاط الْفَتْح فَأَسْرعُوا بِهِ إِلَى دَاره من يَوْمه ذَلِك وَهُوَ يَوْم الْأَحَد الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَألف وَمن الْغَد اجْتمع النَّاس لجنازته وانحشروا من كل وَجه فَجهز وَدفن بقبة من قباب دَاره وتأسف النَّاس لفقده خَاصَّة وَعَامة رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد ابْن عبد الله ومآثره وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله محبا للْعُلَمَاء وَأهل الْخَيْر مقربا لَهُم لَا يغيبون عَن مَجْلِسه فِي أَكثر الْأَوْقَات وَكَانَ يحضر عِنْده جمَاعَة من أَعْلَام الْوَقْت وأئمته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيه السَّيِّد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الْمَدْعُو بِأبي خريص هَؤُلَاءِ هم أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يسردون لَهُ كتب الحَدِيث ويخوضون فِي مَعَانِيهَا ويؤلفون لَهُ مَا يَسْتَخْرِجهُ مِنْهَا على مُقْتَضى إِشَارَته وَكَانَت لَهُ عناية كَبِيرَة بذلك وجلب من بِلَاد الْمشرق كتبا نفيسة من كتب الحَدِيث لم تكن بالمغرب مثل مُسْند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَألف رَحمَه الله فِي الحَدِيث تآليف بإعانة الْفُقَهَاء الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا مِنْهَا كتاب مساند الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَهُوَ كتاب نَفِيس فِي مُجَلد ضخم الْتزم فِيهِ أَن يخرج من الْأَحَادِيث مَا اتّفق على رِوَايَته الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَو ثَلَاثَة مِنْهُم أَو اثْنَان فَإِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ إِمَام وَاحِد أَو رَوَاهُ غَيرهم لم يُخرجهُ وَهَذَا المنوال لم يسْبق إِلَيْهِ رَحمَه الله وَكَانَ كثيرا مَا يجلس بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي مَقْصُورَة الْجَامِع بمراكش مَعَ فقهائها وَمن يحضرهُ من عُلَمَاء فاس وَغَيرهمَا للمذاكرة فِي الحَدِيث الشريف وتفهمه وَيحصل لَهُ بذلك النشاط التَّام وَكَانَ كثيرا مَا يتأسف أثْنَاء ذَلِك وَيَقُول وَالله لقد ضيعنا عمرنا فِي البطالة ويتحسر على مَا فَاتَهُ من قِرَاءَة الْعلم أَيَّام الشَّبَاب وَلما فَاتَهُ الِاشْتِغَال بفنون الْعلم فِي حَال الصغر اعْتكف أَولا على سرد كتب التَّارِيخ وأخبار النَّاس وَأَيَّام الْعَرَب ووقائعها إِلَى أَن تملى من ذَلِك وَبلغ فِيهِ الْغَايَة القصوى وَكَاد يحفظ مَا فِي كتاب الأغاني لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ من كَلَام الْعَرَب وشعراء الْجَاهِلِيَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وَالْإِسْلَام وَلما ولاه الله أَمر الْمُسلمين بعد وَفَاة وَالِده زهد فِي التَّارِيخ وَالْأَدب بعد التضلع مِنْهُمَا وَأَقْبل على سرد كتب الحَدِيث والبحث عَن غريبها وجلبها من أماكنها ومجالسة الْعلمَاء والمذاكرة مَعَهم فِيهَا ورتب رَحمَه الله لذَلِك أوقاتا مضبوطة لَا تنخرم حذا بهَا حَذْو الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فِي أوقاته المرسومة عِنْد الفشتالي فِي مناهل الصَّفَا حَتَّى أَنه كَانَ إِذا خرج لزيارة أَو صيد أَو نزهة أَيَّام الرّبيع وَأقَام الْأُسْبُوع وَنَحْوه فَإِذا حانت الْجُمُعَة وَدخل تحرى النُّزُول بمنازل الْمَنْصُور الَّتِي كَانَ ينزل بهَا وَقت خُرُوجه لزيارة أغمات وَنَحْوهَا ورجوعه وَيَقُول هَذِه منَازِل الْمَنْصُور رَحمَه الله وَهُوَ أستاذنا فِي مثل هَذِه الْأُمُور وَمن عَجِيب سيرته رَحمَه الله أَنه كَانَ يرى اشْتِغَال طلبة الْعلم بِقِرَاءَة المختصرات فِي فن الْفِقْه وَغَيره وإعراضهم عَن الْأُمَّهَات المبسوطة الْوَاضِحَة تَضْييع للأعمار فِي غير طائل وَكَانَ ينْهَى عَن ذَلِك غَايَة وَلَا يتْرك من يقْرَأ مُخْتَصر خَلِيل ومختصر ابْن عَرَفَة وأمثالهما ويبالغ فِي التشنيع على من اشْتغل بِشَيْء من ذَلِك حَتَّى كَاد النَّاس يتركون قِرَاءَة مُخْتَصر خَلِيل وَإِنَّمَا كَانَ يحض على كتاب الرسَالَة والتهذيب وأمثالهما حَتَّى وضع فِي ذَلِك كتابا مَبْسُوطا أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَبُو عبد الله الغربي وَأَبُو عبد الله المير وَغَيرهمَا من أهل مَجْلِسه وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان الْعَادِل الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله صَار يحض النَّاس على التَّمَسُّك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الْأَمْوَال الطائلة وَالْكل مأجور على نِيَّته وقصده غير أَنا نقُول الرَّأْي مَا رأى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وَقد نَص جمَاعَة من أكَابِر الْأَعْلَام النقاد مثل الإِمَام الْحَافِظ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ وَالشَّيْخ النظار أبي إِسْحَاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن خلدون وَغَيرهم أَن سَبَب نضوب مَاء الْعلم فِي الْإِسْلَام ونقصان ملكة أَهله فِيهِ إكباب النَّاس على تعَاطِي المختصرات الصعبة الْفَهم وإعراضهم عَن كتب الأقدمين المبسوطة الْمعَانِي الْوَاضِحَة الْأَدِلَّة الَّتِي تحصل لمطالعها الملكة فِي أقرب مُدَّة ولعمري لَا يعلم هَذَا يَقِينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 إِلَّا من جربه وذاقه وَقد تقدم لنا فِي صدر هَذَا الْكتاب أَن مُلُوك بني عبد الْمُؤمن كَانُوا يحملون النَّاس على الرُّجُوع فِي الْأَحْكَام إِلَى الْكتاب وَالسّنة كل ذَلِك اعتناء بِالْعلمِ الْقَدِيم ومحافظة على أُصُوله وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله ينْهَى عَن قِرَاءَة كتب التَّوْحِيد المؤسسة على الْقَوَاعِد الكلامية المحررة على مَذْهَب الأشعرية رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ يحض النَّاس على مَذْهَب السّلف من الِاكْتِفَاء بالاعتقاد الْمَأْخُوذ من ظَاهر الْكتاب وَالسّنة بِلَا تَأْوِيل وَكَانَ يَقُول عَن نَفسه حَسْبَمَا صرح بِهِ فِي آخر كِتَابه الْمَوْضُوع فِي الْأَحَادِيث المخرجة من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يَعْنِي أَنه لَا يرى الْخَوْض فِي علم الْكَلَام على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَله فِي ذَلِك أَخْبَار ومجريات قلت وَهُوَ مُصِيب أَيْضا فِي هَذَا فقد ذكر الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب الْإِحْيَاء إِن علم الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الدَّوَاء لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْمَرَض فَكَذَلِك علم الْكَلَام لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْبِدْعَة فِي قطر وَقد حرر النَّاس الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي حق الْعَامَّة وَغَيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بِمَا لَيْسَ هَذَا مَحل بَسطه وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله عالي الهمة يحب الْفَخر ويركب سنامه ويخاطب مُلُوك التّرْك مُخَاطبَة الْأَكفاء ويخاطبونه مُخَاطبَة السَّادة ويمدهم بالأموال والهدايا حَتَّى علا صيته عِنْدهم وحسبوه أَكثر مِنْهُم مَالا ورجالا وَكَانَ يُعْطي عَطاء من لَا يخَاف الْفقر وَيَضَع الْأَشْيَاء موَاضعهَا وَيعرف مقادير الرِّجَال وَيُؤَدِّي حُقُوقهم ويتجاوز عَن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أَحْوَال خُدَّامه فِي الصِّحَّة وَالْمَرَض وَلَا يغْفل عَمَّن كَانَ يعرفهُ قبل الْملك وَكَانَ من الشجعان الْمَذْكُورين فِي وقته يُبَاشر الحروب بِنَفسِهِ ويهزم الجيوش بهيبته وَكَانَ يقتني الرِّجَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل وَاحِد باسمه وَقت اللِّقَاء والحضور عِنْده وَيُوجه كل بَطل مِنْهُم مَعَ قَبيلَة أَو كَتِيبَة من كتائب الْجند وَيعْمل بقواعد السياسة فِي الحروب وَكَانَ إِذا وَجه أحدا مِمَّن يعرف نجدته وكفايته ينشد قَول ابْن دُرَيْد (وَالنَّاس ألف مِنْهُم كواحد ... وَوَاحِد كالألف إِن أَمر عَنَّا) وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ رَحمَه الله من عُظَمَاء الْمُلُوك وخلد آثارا كَثِيرَة بالمغرب فَمن ذَلِك بمراكش تَجْدِيد ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي ومسجده ومدرسته وضريح الشَّيْخ التباع ومسجده وضريح الشَّيْخ الْجُزُولِيّ ومسجده وضريح الشَّيْخ الغزواني ومسجده وضريح الشَّيْخ ابْن صَالح ومسجده وضريح الْمولى عَليّ الشريف ومسجده الْأَعْظَم وضريح الشَّيْخ مَيْمُون الصحراوي وَمَسْجِد الْمُلُوك ببريمة ومدرستاه وتجديد جَامع الْمَنْصُور وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بِبَاب دكالة وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بِبَاب هيلانة وَالْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرحبة ومساجد القصبة ومدارسها السِّت وَمَسْجِد زَاوِيَة الشرادي وَمَسْجِد رِبَاط شَاكر ومدينة الصويرة بمساجدها ومدارسها وصقائلها وأبراجها وكل مَا فِيهَا وَمَسْجِد آسفي ومدرسته وَمَسْجِد مَدِينَة تيط ومدينة آنِفا ومسجدها ومدرستها وحمامها وصقائلها وأبراجها ومدينة فضَالة ومسجدها ومدرستها والمصورية ومسجدها وجامع السّنة برباط الْفَتْح ومساجد أجدال السِّتَّة وأبراجه والصقالتين الكبيرتين بسلا ورباط الْفَتْح وَمَسْجِد العرائش ومدرسته وصقائلها وأبراجها وسوقها وصقائل طنجة وأبراجها وَالْمَسْجِد الْأَزْهَر ومدرسته بإصطبل مكناسة وَمَسْجِد البردعيين بهَا وضريح الشَّيْخ ابْن عِيسَى وضريح الشَّيْخ أبي عُثْمَان سعيد ومسجده ومدرسة الصهريج ومدرسة الدَّار الْبَيْضَاء وَمَسْجِد بريمة ومدرسته وَمَسْجِد هدراش وَمَسْجِد بَاب مراح وَثَلَاثَة أقواس بقنطرة وَادي سبو خَارج فاس وضريح الشَّيْخ عَليّ بن حرزهم وضريح الشَّيْخ دراس بن إِسْمَاعِيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وضريح أبي عبد الله التاودي ومدرسة بَاب الجيسة وَمَسْجِد تازا ومدرسته وضريح الْمولى عَليّ الشريف بسجلماسة وقصبة الدَّار الْبَيْضَاء بهَا ومسجدها ومدرستها وَمَسْجِد الريصاني ومدرسته وأوقافه على المارستان بفاس ومراكش فَهَذِهِ الْآثَار كلهَا مِمَّا سمت إِلَى تخليد همته الشَّرِيفَة بَعْضهَا أَنْشَأَهَا وَبَعضهَا أصلحه وجدده ورتب للأشراف بتافيلالت فِي كل سنة مائَة ألف مِثْقَال سوى مَا ينعم بِهِ عَلَيْهِم فِي أَيَّام السّنة مُتَفَرقًا ورتب لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين وشرفاء الْحجاز واليمن مائَة ألف مِثْقَال أَيْضا فِي السّنة ولشرفاء الْمغرب مائَة ألف مِثْقَال كَذَلِك وَأما الطّلبَة والمؤذنون والقراء وأئمة الْمَسَاجِد كَانَت تأتيهم صلَاتهم فِي كل عيد وَأما مَا كَانَ يُنْفِقهُ فِي الْجِهَاد على رُؤَسَاء الْبَحْر وطبجيته وَمَا يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية الَّتِي مَلأ بهَا بِلَاد الْمغرب فشيء لَا يُحْصِيه الْحصْر وَأما مَا أنفقهُ من الْأَمْوَال فِي فكاك أسرى الْمُسلمين فَأكْثر من ذَلِك كُله حَتَّى لم يبْق بِبِلَاد الْكفْر أَسِير لَا من الْمغرب وَلَا من الْمشرق وَلَقَد بلغ عَددهمْ فِي سنة مِائَتَيْنِ وَألف ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ألف أَسِير وَزِيَادَة وأوقافه بالحرمين الشريفين وَكتبه العلمية المحبسة بهما لَا زَالَت قَائِمَة الْعين والأثر إِلَى الْآن وَأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عَددهَا فِي دولته عشْرين كبارًا من المربع وَثَلَاثِينَ من الفراكط والغلائط وَبلغ رُؤَسَاء الْبَحْر عِنْده سِتِّينَ رَئِيسا كلهَا بمراكبها وبحريتها وَبلغ عَسْكَر البحرية ألفا من المشارقة وَثَلَاثَة آلَاف من المغاربة وَمن الطبجية أَلفَيْنِ وَبلغ عسكره من العبيد خَمْسَة عشر ألفا وَمن الْأَحْرَار سَبْعَة آلَاف وَأما عَسْكَر الْقَبَائِل الَّذِي كَانَ يَغْزُو من الْجند فَمن الْحَوْز ثَمَانِيَة آلَاف وَمن الغرب سَبْعَة آلَاف وَكَانَت لَهُ هَيْبَة عَظِيمَة فِي مشوره وموكبه يتحدث النَّاس بهَا وهابته مُلُوك الفرنج وطواغيتهم ووفدت عَلَيْهِ رسلهم بالهدايا والتحف يطْلبُونَ مسالمته فِي الْبَحْر بلغ ذَلِك رَحمَه الله بسياسته وعلو همته حَتَّى عَمت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 مسالمته أَجنَاس النَّصَارَى كلهم إِلَّا المسكوب فَإِنَّهُ لم يسالمه لمحاربته للسُّلْطَان العثماني وَلَقَد وَجه رسله وهديته إِلَى طنجة فَردهَا السُّلْطَان رَحمَه الله وأبى من مسالمته ووظف على الْأَجْنَاس الْوَظَائِف فالتزموها وَكَانُوا يؤدونها كل سنة وَاسْتمرّ ذَلِك من بعده إِلَى أَن انْقَطع فِي هَذِه السنين الْمُتَأَخِّرَة وَكَانُوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَمهما كتب إِلَى طاغية فِي أَمر سارع إِلَيْهِ وَلَو كَانَ محرما فِي دينه ويحتال فِي قَضَاء الْأَغْرَاض مِنْهُم بِكُل وَجه أَحبُّوا أم كَرهُوا وَكَانَ أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فَكَانَا يأنفون من أَدَاء الضريبة عَلَانيَة مثل غَيرهم من الْأَجْنَاس فَكَانَ رَحمَه الله يستخرجها مِنْهُم وَأكْثر مِنْهَا بِوَجْه لطيف وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو الْحسن عَليّ والمأمون وَهِشَام وَعبد السَّلَام هَؤُلَاءِ لربة الدَّار المولاة فَاطِمَة بنت عَمه سُلَيْمَان بن إِسْمَاعِيل ثمَّ عبد الرَّحْمَن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثمَّ يزِيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثمَّ الْحسن وَعمر أمهما حرَّة من الأحلاف ثمَّ عبد الْوَاحِد أمه حرَّة من أهل رِبَاط الْفَتْح ثمَّ سُلَيْمَان وَالطّيب ومُوسَى لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ الْحسن وَعبد الْقَادِر لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثمَّ إِبْرَاهِيم لعلجة رُومِية وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الشّعْر أرجوزة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الونان الْمَعْرُوفَة بالشمقمقبية الَّتِي يَقُول فِي مطْلعهَا (مهلا على رسلك حادي الأينق ... وَلَا تكلفها بِمَا لم تطق) وَهَذِه الأرجوزة مَشْهُورَة بَين النَّاس وَهِي من الشّعْر الْفَائِق وَالنّظم البديع الرَّائِق أبان منشئها عَن بَاعَ كَبِير وإطلاع غزير على أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَحكمهَا وأمثالها بِحَيْثُ أَن من حفظهَا وَعرف مقاصدها أغنته عَن غَيرهَا من كتب الْأَدَب وَقد كنت فِي أَيَّام التعاطي اعتنيت بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عَن تلميحاتها وتلويحاتها حَتَّى فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثمَّ شرعت فِي كِتَابَة شرح عَلَيْهَا يُحِيط بمعانيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ويستوعب دقائق مبانيها فَكتبت مِنْهُ نَحْو أَرْبَعَة كراريس ثمَّ عاقت الأقدار عَن إِتْمَامه نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يصرف عَنَّا الْعَوَائِق فِيمَا ينفعنا فِي ديننَا ودنيانا ويحفنا بالسعادة الدُّنْيَوِيَّة والأخروية فِي متقلبنا ومثوانا إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ وَمن وزراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله الْوَزير الشهير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الْمَدْعُو أفاندي كَانَ من موَالِي السُّلْطَان وغرس نعْمَته وربي دولته وَأَصله من أعلاج الإصبنيول وَكَانَ شعلة من الذكاء والفطنة وركنا شَدِيدا من أَرْكَان الدولة المحمدية فِي حسن التَّدْبِير والحزم الَّذِي لَا يعزب عَنهُ من أُمُور الحضرة قَلِيل وَلَا كثير وَقد أدْرك من فخامة الجاه وضخامة الرياسة غَايَة تفرد بهَا فِي وقته بِحَيْثُ كَانَت الأعاظم من وُجُوه الدولة تقف بِبَابِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَلَا يَتَيَسَّر لَهُم لقاؤه وَلما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله امتحن الْمولى يزِيد هماما الْوَزير فِي جملَة من امتحنه من أهل مراكش كَمَا سَيَأْتِي الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد وأوليته ونشأته رَحمَه الله كَانَ الْمولى يزِيد هَذَا عِنْد وَالِده رَحمَه الله بِعَين الْعِنَايَة ملحوظا وَمن النقائص محروسا ومحفوظا وَكَانَ عَامَّة أهل الْمغرب وخاصتهم من الْجند والرعية متشوفين لَهُ ومغتبطين بِهِ يهتفون باسمه ويلهجون بِذكرِهِ لما كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والتمسك بمذاهب الفتوة وَالدّين والاعتناء بجوائز أهل الْبَيْت ومحبة أهل الْخَيْر وإكرامهم وَإِقَامَة الصَّلَوَات لأوقاتها حضرا وسفرا لَا يشْغلهُ عَن ذَلِك شاغل فأصابته عين الْكَمَال وَصَارَ ينْتَقل من حَال إِلَى حَال حَتَّى خالطته جمَاعَة من الأغمار كَانُوا فِي خدمته فلزموه وحسنوا لَهُ الاستبداد على وَالِده وَالْخُرُوج عَلَيْهِ وأتوه من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه حَتَّى وقر ذَلِك فِي صَدره وارتسم فِيهِ وَكَانَ ذَلِك على حِين أَوَان الشبيبة وَأَخذهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 مِنْهُ مأخذها وَكَانَت همته طماحة لَا تقف بِهِ عِنْد غَايَة فاستعجل الْأَمر قبل أَوَانه وَخرج على وَالِده بجبش العبيد حَسْبَمَا مر ولسان حَاله ينشد (فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا ... فَإِن مَظَنَّة الْجَهْل الشَّبَاب) فَسَقَطت مَنْزِلَته عِنْد أَبِيه بعد أَن بلغ من الحظوة لَدَيْهِ مَا بلغ وَكَانَ يرشحه للخلافة ويقمه على كبار إخْوَته لما ظهر لَهُ من نجدته واقتداره وجوده فِي مَحل الْجُود ورغبته فِي الْجِهَاد وولوعه بصناعة الرَّمْي بالمهراس فأسند إِلَيْهِ أَمر الطبجية والبحرية وَصَارَ يوجهه مَعَ الرؤساء والطبجية إِلَى الثغور كل سنة ليقف على الملازمين لصقائلها وأبراجها وَيُعلمهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تعلمه وَلما رَآهُ وَالِده مغتبطا بذلك وتوسم فِيهِ النجابة أقبل عَلَيْهِ بالعطاء ثمَّ ولاه الْكَلَام مَعَ قناصل الْأَجْنَاس الَّذين بالمراسي واستنابة فِي ذَلِك وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ولاه السُّلْطَان على قَبيلَة كروان وهم يَوْمئِذٍ أعظم قبائل البربر خيلا ورجالا فأسند إِلَيْهِ أَمرهم وَتقدم إِلَيْهِ فِي أَن يَكفهمْ عَن الْحَرْب مَعَ آيت أدراسن فَسَار إِلَيْهِم واغتبطوا بِهِ واغتبط بهم وَصَارَ أحداثهم وَأَبْنَاء أعيانهم يركبون مَعَه للصَّيْد فغمرهم بالعطاء وأنعم عَلَيْهِم بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح والكسي ولزموا مَجْلِسه حَتَّى أفسدوا قلبه وحسنوا لَهُ الانتزاء على الْملك وَقَالُوا هَذَا بَيت المَال الَّذِي بقبة الخياطين هُوَ فِي يدك وَلَيْسَ دونه مَانع وَبِه يقوم ملكك وَمَتى استدعيت إِخْوَاننَا آيت ومالو لم يتوقفوا عَنْك طرفَة عين وَلَا يقوم لَهُم شَيْء من الْجند وَغَيره وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى شرهت نَفسه وَصَارَ لَا حَدِيث لَهُ إِلَّا فِي ذَلِك واطلع على ذَلِك قَائِد الودايا أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الْخضر وَكَانَ محبا فِي جَانب السُّلْطَان صَادِق الْخدمَة وَالطَّاعَة لَهُ فَكتب إِلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ وَلَده مَعَ جروان وَأَنَّهُمْ يأْتونَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ والمائتين ويبيتون عِنْده بالقصبة وَنحن خفنا أَن يبرز من ولدك أَمر فتعاقبنا عَلَيْهِ فأخبرناك بالواقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَلما وصل كِتَابه إِلَى السُّلْطَان بعث للحين قائده الْعَبَّاس البُخَارِيّ فِي مائَة من الْخَيل للقبض على الْمولى يزِيد وَأَصْحَابه وَقد قُلْنَا لَك أَن الْجند والرعية مَعًا كَانُوا مغتبطين بالمولى يزِيد فَلَمَّا وصل الْقَائِد الْعَبَّاس إِلَى سلا دس إِلَى الْمولى يزِيد أَنه مَقْبُوض فلينج بِنَفسِهِ فَخرج الْمولى يزِيد من مكناسة لَيْلًا فِي خاصته وَأَصْحَابه من جروان وقصدوا آيت ومالو وَلما وصل الْقَائِل الْعَبَّاس إِلَى مكناسة ألفاها مقفرة من الْمولى يزِيد وشيعته فَأَقَامَ بهَا وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بالْخبر فَبعث السُّلْطَان إِلَى الْمولى يزِيد كَاتبه أَبَا عُثْمَان سعيد الشليخ فَقدم عَلَيْهِ بزاوية آيت إِسْحَاق لِأَنَّهُ لم يجد من قبائل آيت ومالو إِلَّا مهاوش وشقيرين فتجاوزهم إِلَى الزاوية الْمَذْكُورَة وَلما أَتَاهُ أَبُو عُثْمَان الْمَذْكُور بِكِتَاب وَالِده وأمانه سَار مَعَه إِلَى مراكش وَلما وصل إِلَيْهَا دخل ضريح أبي الْعَبَّاس السبتي فاحترم بِهِ ثمَّ عَفا عَنهُ السُّلْطَان وَاجْتمعَ بِهِ فتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَنسب ذَلِك إِلَى سُفَهَاء جروان وَأَنه لم يوافقهم على ذَلِك فأضمر السُّلْطَان الْإِيقَاع بهم وَلما قدم من مراكش سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قصدهم بالكريكرة وأوقع بهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ حَسْبَمَا مر وَأنزل الْمولى يزِيد مَعَ أَخَوَيْهِ الْمولى عَليّ وَالْمولى عبد الرَّحْمَن بفاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ حدثت حَرْب بَينه وَبَين أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بوسط فاس الْعليا وَهلك فِيمَا بَينهمَا عدد وَبلغ خبر ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَقدم مكناسة وَبعث من يقبض عَلَيْهِمَا فَقبض على الْمولى عبد الرَّحْمَن وَأَصْحَابه وفر الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر بزرهون فَأتى بِهِ الْأَشْرَاف إِلَى وَالِده فسامحه ثمَّ سرح الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسَأَلَ عَن أَحْوَال أَصْحَاب الْأَخَوَيْنِ مَعًا ثمَّ عرف صَالحهمْ من طالحهم فَأخْرجهُمْ من السجْن وَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف وَكَانُوا ثَلَاثِينَ رجلا وسرح البَاقِينَ وَنقل الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَترك الْمولى يزِيد بفاس ثمَّ إِن الْمولى عبد الرَّحْمَن كَانَ يسابق يَوْمًا فِي الميدان ويلعب بالبارود فَقتل رجلا من بني مطير فجَاء إخْوَته إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 قائدهم مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز فَأدى دِيَته من عِنْده وعفوا وَكتب عَلَيْهِم سجلا بذلك وسكنت الهيعة فاتفق أَن وَجه السُّلْطَان قائده الْعَبَّاس إِلَى مكناسة لقتل أنَاس كَانُوا بسجن مكناسة فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى عبد الرَّحْمَن ظن أَنه قدم فِي شَأْن المطيري الْمَقْتُول وَأَن خَبره قد بلغ السُّلْطَان ففر من مكناسة لَيْلًا إِلَى وَجدّة ثمَّ إِلَى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فَسَأَلَ عَن السَّبَب فَأخْبرهُ الْقَائِد الْعَبَّاس بالواقع فَبعث إِلَيْهِ الْأمان فَلم يَثِق ثمَّ سَار إِلَى تلمسان إِلَى سجلماسة فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من يُؤمنهُ وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ فَلم يَثِق وفر إِلَى السوس فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان أَمَانًا إِلَى السوس ففر إِلَى الْقبْلَة وَأقَام يتَرَدَّد فِي قبائلها إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله فجَاء إِلَى تارودانت فَأَقَامَ بهَا وَطلب الْأَمر فَلم يتم لَهُ أَمر وَمَات رَحمَه الله وَأما الْمولى يزِيد فَإِنَّهُ أَقَامَ بفاس إِلَى أَن استدعاه وَالِده للقدوم عَلَيْهِ بمراكش فَقدم عَلَيْهِ ثمَّ اتّفق قيام العبيد على السُّلْطَان بِسَبَب الإدالة الَّتِي أَمرهم بتوجيهها إِلَى طنجة حَسْبَمَا مر فَبعث الْمولى يزِيد لإصلاحهم وردهم عَن غيهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم استفزوه بقَوْلهمْ وحركوا مِنْهُ مَا كَانَ سَاكِنا وَاسْتَخْرَجُوا مَا كَانَ كامنا فَبَايعُوهُ وخطبوا بِهِ حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وانحرف قدور بن الْخضر بالودايا عَنهُ وَلما فتح الْمولى يزِيد بَيت المَال وَأعْطى العبيد بعث إِلَى الودايا بعطائهم يستهويهم بِهِ وَكَانَ شَيْئا كثيرا فَردُّوهُ عَلَيْهِ وانضم مُحَمَّد واعزيز فِي بربره إِلَى الودايا فقصدهم الْمولى يزِيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة فهزموه وَقتل من العبيد مَا ينيف على الْخَمْسمِائَةِ ثمَّ قدم السُّلْطَان فِي العساكر وجموع الْقَبَائِل ففر الْمولى يزِيد إِلَى زرهون فَتَبِعَهُ السُّلْطَان وزار الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فشفع لَهُ الْأَشْرَاف الأدارسة فِيهِ فَقبل شفاعتهم وَعَفا عَنهُ حَسْبَمَا مر ثمَّ بعد هَذَا بَعثه إِلَى الْمشرق وَصدر مِنْهُ بِمَكَّة فِي حق شيخ الركب مَا صدر فَكَانَت تِلْكَ الفعلة هِيَ الْمُخَالفَة وَبهَا تَبرأ السُّلْطَان مِنْهُ ثمَّ قفل من الْمشرق سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف والتجأ إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش إِلَى أَن توفّي وَالِده حَسْبَمَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد رَحمَه الله لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَبلغ خبر مَوته الْمولى يزِيد وَهُوَ بِالْحرم المشيشي بَايعه الْأَشْرَاف هُنَالك وَسَائِر أهل الْجَبَل وَتقدم إِلَيْهِ السَّابِقُونَ من الْجند الَّذين كَانُوا محاصرين لَهُ فَبَايعُوهُ واستتب أمره فَتوجه إِلَى تطاوين إِذْ هِيَ أقرب الثغور إِلَيْهِ فَبَايعهُ أَهلهَا والقبائل الْمُجَاورَة لَهَا وَأطلق الْجند على يهود تطاوين فاستباحهم وَاصْطلمَ نعمتهم ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أهل طنجة والعرائش وآصيلا فقابلهم بِمَا يجب ثمَّ توجه إِلَى طنجة فَخرج عسكرها للقائه ففرح بهم وَأحسن إِلَيْهِم وَبهَا قدم عَلَيْهِ وَفد أهل فاس من أَشْرَافهَا وعلمائها وأعيانها فأكرمهم وَولى عَلَيْهِم أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الذيب ثمَّ انْتقل إِلَى العرائش فوفاه بهَا حَاشِيَة أَبِيه وخدمه ووجوه دولته بمتخلف وَالِده وقبابه وخيله وبغاله وَسَائِر أثاثه فَأحْسن إِلَيْهِم وصاروا مَعَه فِي ركابه إِلَى زرهون وَلما وصل إِلَيْهَا قدم عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمولى سُلَيْمَان من تافيلالت بقبائل الصَّحرَاء عربها وبربرها وَمَعَهُ بِيعَتْ أهل سجلماسة وَكَانَ قد استجار بِهِ مُحَمَّد واعزيز فَإِنَّهُ كَانَ خَائفًا على نَفسه من الْمولى يزِيد لانحرافه عَنهُ أَيَّام أَبِيه فَسَار فِي صحبته بقبائله وَلما اجْتمع بالسلطان سامحه وأبقاه على قومه وَلما دخل مكناسة قدمت عَلَيْهِ قبائل الغرب كلهَا عربها وبربرها حَتَّى عصاة آيت ومالو ودجالهم مهاوش فَأعْطى مهاوش وَحده عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى الَّذين قدمُوا مَعَه مائَة ألف ريال ثمَّ قدمت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز كُله من عرب وبربر لم يتَخَلَّف عَن بيعَته أحد وَقدم عَلَيْهِ أهل مراكش وأعمالها ببيعتهم وَنَصهَا الْحَمد لله الْمُنْفَرد بِالْملكِ والخلق وَالتَّدْبِير الَّذِي أبدع الْأَشْيَاء بِحِكْمَتِهِ واخترع الْجَلِيل مِنْهَا والحقير الْغَنِيّ عَن الْمعِين والمرشد والوزير أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير يُؤْتِي الْملك من يَشَاء ويعز من يَشَاء وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الْمُدبر الْقَدِير جَاعل الْمُلُوك كفا للأكف العادية وولايتهم مرتعا للعباد فِي ظلّ الْأَمْن والعافية وبيعتهم أمنا من الْهَرج وَالْفساد وقمعا لأهل الشَّرّ والعناد فهم ظلّ الله على الْأَنَام وحصن حُصَيْن للخاص وَالْعَام حَسْبَمَا أفْصح بذلك سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام فَتَبَارَكَ الله رَبنَا الَّذِي شرف هَذَا الْوُجُود وزين هَذَا الْعَالم الْمَوْجُود بِهَذِهِ الْخلَافَة الْمُبَارَكَة والإمامة الحسنية الهاشمية العلوية والطلعة القرشية المحمدية الَّتِي انصرفت الْوُجُوه إِلَى قبلتها الْمَشْرُوعَة واستبان الْحق عِنْد مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة نحمده تَعَالَى على مَا من بِهِ علينا من هَؤُلَاءِ الْإِمَامَة السعيدة ونشكره جلّ جَلَاله شكرا نستوجب بِهِ من الهنا أفضاله ومزيده ونشهد أَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ لَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا فعله أجْرى الأقدار على حسب مَا افتضاه حكمه وعدله ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ومصطفاه من خلقه وخليله سيد الْمَخْلُوقَات كلهَا من إنس وجان الْمُصَفّى من ذؤابة معد بن عدنان صَاحب الشَّرِيعَة المطهرة الَّتِي لَا يخْتَلف فِي فَضلهَا اثْنَان وَالدّين القويم الَّذِي هُوَ أفضل الْأَدْيَان الَّذِي اختصه الله مَا بَين الْأَنْبِيَاء بمزية التَّفْضِيل والتقديم وافترض على أمته الغراء فَرِيضَة الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَأثْنى عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْحَكِيم فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست صِفَاته وأسماؤه {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} الْقَلَم 4 صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة مُتَّصِلَة الدَّوَام متعاقبة بتعاقب اللَّيَالِي وَالْأَيَّام وعَلى آله الْكِرَام الْأَطْهَار وصحابته النجباء البررة الأخيار الَّذين أوضحُوا لنا الْحق تبيانا وأسسوا لهَذِهِ الْملَّة السمحة قَوَاعِد وأركانا وعَلى من اقتفى أَثَرهم القويم واهتدى بهديهم الْمُسْتَقيم إِلَى يَوْم الدّين أما بعد فَإِن الله تَعَالَى جعل صَلَاح هَذَا الْعَالم وأقطاره المعمورة ببني آدم مَنُوطًا بالأئمة الْأَعْلَام محوطا بالملوك الَّذين هم ظلّ الله على الْأَنَام فطاعتهم مَا داموا على الْحق وَاتَّقوا الله سَعَادَة والاعتصام بحبلهم إِذْ ذَاك وَاجِب وَعبادَة قَالَ عز من قَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ل} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن) النِّسَاء 59 وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن أَمر عَلَيْكُم عبد مجدع أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب وَكره إِلَّا أَن يُؤمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من خرج عَن الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن قَاتل تَحت راية عمية يغْضب لعصبية أَو يَدْعُو إِلَى عصبية أَو ينصر عصبية فَقتل فَقتلته جَاهِلِيَّة وَمن خرج على أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها وَلَا يتحاشى مؤمنها وَلَا يَفِي لذِي عهدها فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ أخرجهَا مُسلم كلهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ الضَّعِيف وَبِه ينتصر الْمَظْلُوم وَمن أكْرم سُلْطَان الله فِي الدُّنْيَا أكْرمه الله يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام السُّلْطَان الْعدْل المتواضع ظلّ الله وَرمحه فِي الأَرْض يرفع الله لَهُ عمل سبعين صديقا وَلما كَانَ أهل بَيت سيد الْمُرْسلين أعظم قُرَيْش فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَأكْرمهمْ منزلَة عِنْد رب الْعَالمين أنالهم الله تَعَالَى فِي خلقه فضلا كَبِيرا ومنحهم إجلالا ورفعة وتعظيما وتكبيرا قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} الْأَحْزَاب 33 وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء وَأهل بَيْتِي أَمَان لأمتي وَإِن مِمَّن امتن الله بِهِ علينا من أهل هَذَا الْبَيْت الشريف الَّذِي أولاه الله أشرف التَّعْظِيم وَأعظم التشريف وَقدمه تَعَالَى لسلطانه الْعَزِيز وَرَفعه جلّ وَعلا على منصة التبريز عميد الْمجد الَّذِي لَا يتناهى فخره ووحيد الْحسب جلّ منصبه وَقدره الإِمَام الَّذِي أَلْقَت لَهُ الْإِمَامَة زمامها وقدمته الأفاضل لفضله إمامها من جَاءَت لَهُ الْخلَافَة تجر أذيالها وَأَخذهَا دون بني أَبِيه وَلم تَكُ تصلح إِلَّا لَهُ وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا وَمن جبلت قُلُوب الْخَلَائق على محبته وَألقى لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض لمجده ولعلو همته السُّلْطَان السعيد الواثق بربه الْمعِين الرشيد أَبَا المكارم والمفاخر سيدنَا ومولانا يزِيد ابْن مَوْلَانَا الإِمَام السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الْهمام المرحوم بِاللَّه سَيِّدي مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ سيدنَا ومولانا عبد الله ابْن السُّلْطَان الْجَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن موالينا السَّادة الْأَشْرَاف ذَوي الْفضل وَالْكَرم والإنصاف قدس الله أَرْوَاحهم فِي أَعلَى الْجنان ومنحهم بفضله الرِّضَا والرضوان أيد الله بِبَقَائِهِ الدّين وطوق بِسَيْفِهِ الْمُلْحِدِينَ وَكتب تَحت لوائه الْمُعْتَدِينَ وَكتب لَهُ النَّصْر إِلَى يَوْم الدّين وأعاذ بِهِ الأَرْض من لايدين بدين وَأعَاد بعدله أَيَّام آبَائِهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأسكن فِي الْقُلُوب سكينته ووقاره وَمكن لَهُ فِي الْوُجُود وَجمع لَهُ أقطاره هُوَ وَالله مِمَّن فِيهِ اسْتِحْقَاق مِيرَاث آبَائِهِ الْأَعْلَام وتراث أجداده الْكِرَام الْمجمع عَلَيْهِ أَنه فِي هَذِه الْأَيَّام فَرد هُوَ الأنان وَوَاحِد وَهَكَذَا فِي الْوُجُود الإِمَام الراقي فِي صبح سَمَاء هَذِه الذرْوَة المنيفة الْبَاقِي بعد الْأَئِمَّة الماضين نعم الإِمَام وَنعم الْخَلِيفَة سلالة الأخيار وخلاصة أَبنَاء النَّبِي الْمُخْتَار أسمى الله إيالته الشَّرِيفَة وأنار البسيطة بأنوار مَمْلَكَته الشامخة المنيفة انْعَقَد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة المراكشية حاطها الله وَمَا حولهَا من أهل السوس وكافة الرحامنة وَغَيرهم من قبائل عديدة حَسْبَمَا تضمنته أَسمَاء من يكْتب اسْمه مِنْهُم عقبه بِخَط من يكْتب مِنْهُم أَو خطوط الْعُدُول الثِّقَات عَمَّن لم يكن يحسن الْكِتَابَة وأذنوا لمن يكْتب عَنْهُم بيعَة تمّ بِمَشِيئَة الله تَمامهَا وَعم بالصوب المغدق غمامها سعيدة مَيْمُونَة شريفة لَهَا السَّلامَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَضْمُونَة صَحِيحَة شَرْعِيَّة ملحوظة مرعية دائبة دائمة لَازِمَة جازمة صَحِيحَة صَرِيحَة متعبة مريحة على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وعَلى مَا بُويِعَ بِهِ مَوْلَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الراشدون من بعده وَالْأَئِمَّة المهتدون الموفون بعهده وعَلى السّمع وَالطَّاعَة وملازمة السّنة وَالْجَمَاعَة قرت بهَا نواظرهم وَشهِدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وأمضوها إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر والمنشط وَالْمكْره واليسر والعسكر أجمع عَلَيْهَا أَرْبَاب العقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 والحل وَأَصْحَاب الْكَلَام فِيمَا قل وَجل وَمن يُوصف بِعلم وَقَضَاء وَمن يرجع إِلَيْهِ فِي رد وإمضاء لم يُخَالف فِيهَا إِمَام مَسْجِد وَلَا خطيب وَلَا ذُو فَتْوَى يسْأَل فيجيب وَلَا من يجْتَهد فِي رَأْي فيخطىء أَو يُصِيب وَلَا مَعْرُوف بدين وَصَلَاح وَلَا فرسَان حَرْب وكفاح وَلَا طَاعن بِرُمْح وَلَا ضَارب بصفاح وَلَا وُلَاة الْأَمر وَالْأَحْكَام وَلَا حَملَة الْعلم الْأَعْلَام وَلَا حماة السيوف والأقلام وَلَا أَعْيَان السَّادة الْأَشْرَاف وَلَا أكَابِر الْفُقَهَاء وَمن انخفض قدره وَمن أناف بيعَة تمت بهَا نعْمَة من وحد الله قائلين {الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} الْأَعْرَاف 43 {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} الْفَتْح 10 الْآيَة فَمن حضر خَواص من ذكر وعوامهم قيد شَهَادَته بمضمن العقد الْمَنْصُوص مُلْتَزما لجَمِيع مَا اقْتَضَاهُ من الْعُمُوم وَالْخُصُوص باسطا كَفه بِالدُّعَاءِ والابتهال والتضرع لذِي الْعِزَّة والجلال قَائِلا اللَّهُمَّ كَمَا خصصت مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بمزيد الْكَرَامَة وارتضيته لمقام الْإِمَامَة وانتخبته من أَشْرَاف النَّاس وصنت بِهِ وُجُوههم عَن الباس فانصره اللَّهُمَّ نصرا مؤزرا وَاجعَل نصِيبه من عنايتك وكفايتك جزيلا موفرا وَأَن لَهُ فِي كل مرام فتحا مُبينًا وظفرا ميسرًا معينا وأسعدنا اللَّهُمَّ بأيامه واكلأه بكلاءتك فِي ظعنه ومقامه وَاجعَل بيعَته الْمُبَارَكَة بيعَة تخلد بهَا مآثره تخليدا وتؤيد علوه وتأييده وَنَصره تأييدا وأبقه على الْأَنَام شفيقا وبجميعهم بارا رَفِيقًا وأعنه اللَّهُمَّ على مَا وليته من أُمُور عِبَادك ومهد لَهُ أتم التَّمْهِيد فِي أقطار بلادك وَكن لَهُ فِيمَا يرضيك مؤيدا وظهيرا وَاجعَل لَهُ من لَدُنْك وليا وسلطانا نَصِيرًا أجب دعاءنا إِنَّك با مَوْلَانَا ولي ذَلِك وَبِه قدير وَأَنت نعم الْمولى وَنعم النصير وبالإجابة جدير وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْكَبِير وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين فِي ثامن عشر شعْبَان عَام أَرْبَعَة وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتَهَت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 انْتِقَال الودايا من مكناسة إِلَى فاس وَعبيد الثغور مِنْهَا إِلَى مكناسة لما كَانَ السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله بمكناسة أَمر الودايا أَن يَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى فاس الْجَدِيد مسْقط رؤوسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم وبذل لَهُم خمسين ريالا للرأس إِعَانَة لَهُم على نقلتهم فعادوا إِلَى فاس الْجَدِيد واستوطنوه بعد تغريبهم عَنهُ بمكناسة ثَلَاثِينَ سنة كَمَا سبق ثمَّ أَمر عبيد الثغور أَن يَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى مكناسة لتجتمع كلمتهم بهَا وأنعم على أهل كل ثغر مِنْهُم بِبَيْت مَاله الَّذِي بِهِ فَاقْتَسمُوهُ وانقلبوا إِلَى مكناسة مغتبطين نقض الصُّلْح مَعَ جَيش الإصبنيول وحصاره سبتة قَالَ منويل القشتيلي فِي كِتَابه الْمَوْضُوع فِي أَخْبَار الْمغرب لما ولي الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد رَحمَه الله أظهره معاداة الإصبنيول وصمم على حربهم فتفادى طاغيتهم من حربه بِكُل وَجه وَبعث باشدوره إِلَيْهِ بطنجة يهنئه بِالْملكِ ويتملق لَهُ فَأَعْرض عَن ذَلِك وَلم يحفل بِهِ وَلَا بهديته بل عمد إِلَى من كَانَ بمراسيه من نَصَارَى الإصبنيول تجارًا وفرايلية وَغَيرهم وَقبض عَلَيْهِم وسلكهم فِي السلَاسِل وساقهم إِلَى طنجة فحبسهم بهَا قَالَ وَكَانَت قراصين الْمُسلمين الحربية يَوْمئِذٍ سِتَّة عشر قرصانا وفيهَا من المدافع ثَلَاثمِائَة مدفع وَسِتَّة مدافع قلت قد تقدم أَن القراصين أَكثر من ذَلِك بِكَثِير وَاسْتمرّ النَّصَارَى محبوسين بطنجة إِلَى أَن اتّفق أَن كَانَ قرصان للإصبنيول يطوف بساحل العرائش فظفر بمركب هُنَالك وَأسر بَعضهم وَكَانَ الْمولى يزِيد يَوْمئِذٍ بالعرائش فَنظر إِلَيْهِم بِمِرْآة الْهِنْد وَهُوَ على سطح دَاره إِذْ أسروهم وَبعث الصَّرِيخ فِي أَثَرهم ففاتوه ثمَّ وَقع التفادي بَينه وَبَين الطاغية فِي أُولَئِكَ الأسرى بأسرى طنجة اه كَلَام منويل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ثمَّ إِن السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله زحف إِلَى سبتة واستنفر النَّاس لجهادها والمرابطة عَلَيْهَا واستصحب مَعَه آلَة الْحَرْب من المدافع والمهاريس وَنصب عَلَيْهَا سَبْعَة أشبارات كَانَ جلها لفنانشة سلا وأهرعت إِلَيْهِ المتطوعة من حَاضر وباد ونسلوا إِلَيْهِ من كل حدب وواد وَأقَام على حصارها مُدَّة ثمَّ أفرج عَنْهَا وَسَار إِلَى نَاحيَة مراكش لأمر اقْتضى ذَلِك فَلَمَّا وصل إِلَى مَدِينَة آنِفا بدا لَهُ من الرُّجُوع فَرجع وَنزل عَلَيْهَا واستأنف الْجد وأرهف الْحَد وَأرْسل إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم للْجِهَاد والمرابطة فتقاعدوا عَنهُ بعد أَن أشرف على فتحهَا وَكَانَ مَا نذكرهُ انْتِقَاض أهل الْحَوْز على السُّلْطَان الْمولى يزِيد ابْن مُحَمَّد وبيعتهم لِأَخِيهِ الْمولى هِشَام رحمهمَا الله لما قدمت قبائل الْحَوْز على السُّلْطَان الْمولى يزِيد بمكناسة ظهر لَهُم مِنْهُ بعض التَّجَافِي عَنْهُم وأنزلهم فِي الْعَطاء دون البربر والودايا وَغَيرهم فَسَاءَتْ ظنونهم بِهِ وانفسدت قُلُوبهم عَلَيْهِ وَلما رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ تمشت رجالاتهم بَعْضهَا إِلَى بعض وخب الرحامنة فِي ذَلِك وَوَضَعُوا واتفقت كلمتهم مَعَ أهل مراكش وَعَبدَة وَسَائِر قبائل الْحَوْز فقدموا الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد للْقِيَام بأمرهم وآتوه بيعتهم وطاعتهم وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بالمولى يزِيد وَهُوَ محاصر لسبتة أقلع عَنْهَا وَسَار إِلَى الْحَوْز فشرد قبائله وَوصل إِلَى مراكش فَدَخلَهَا عنْوَة يُقَال إِن دُخُوله إِلَيْهَا كَانَ من الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب يغلى فاستباحها وَقتل وسمل وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما ثمَّ استجاش عَلَيْهِ الْمولى هِشَام قبائل دكالة وَعَبدَة وقصده بمراكش فبرز إِلَيْهِ الْمولى يزِيد وَلما التقى الْجَمْعَانِ بِموضع يُقَال لَهُ تازكورت انهزم جمع الْمولى هِشَام وتبعهم الْمولى يزِيد فأصيب برصاصة فِي خَدّه فَرجع إِلَى مراكش يعالج جرحه فَكَانَ فِي ذَلِك حتفه رَحمَه الله وَذَلِكَ أَوَاخِر جُمَادَى الثَّانِيَة سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَدفن بقبور الْأَشْرَاف قبلي جَامع الْمَنْصُور من قَصَبَة مراكش وَلَقَد كَانَ رَحمَه الله من فتيَان آل عَليّ وسمحائهم وأبطالهم لَهُ فِي النجدة والكفاية الْمحل الَّذِي لَا يجهل والسبق الَّذِي لَا يلْحق وَالْغُبَار الَّذِي لَا يشق وَلَا يضرّهُ تنقيص من نَقصه من الحسدة عَفا الله عَنَّا وعنهم فَإِن مَكَان الرجل غير مكانهم وهمته الْعَالِيَة فَوق تزويراتهم تغمد الله الْجَمِيع بعفوه وغفرانه آمين ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي بسلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد السُّوسِي المنصوري وَدفن قرب الْوَلِيّ الصَّالح سَيِّدي مغيث من طالعة سلا وَله شرح على مُخْتَصر السنوسي فِي الْمنطق وَآخر على كبراه وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من الْمحرم فاتح سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه المرابط الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الغزواني ابْن الْبَغْدَادِيّ من حفدة الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي مُحَمَّد الشَّرْقِي رَضِي الله عَنهُ وَدفن بداره بجوار سَيِّدي مغيث أَيْضا وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من صفر سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الإِمَام صَاحب التصانيف المفيدة والأجوبة العتيدة أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن زكري الفاسي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع من رَجَب سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة وَألف كمل بِنَاء قبَّة ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ على يَد الْقَائِد أبي عبد الله الحوات وَفِي الشَّهْر نَفسه توفّي الْفَقِيه القَاضِي النوازلي أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد الشدادي بزاوية زرهون وَفِي سنة خمسين وَمِائَة وَألف ولد الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني شيخ الطَّائِفَة التجانية وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله وفيهَا كَانَت المجاعة الْعَظِيمَة بالغرب والفتن وَنهب الدّور بِاللَّيْلِ بفاس وَغَيرهَا وَصَارَ جلّ النَّاس لصوصا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 فَكَانَ أهل الْيَسَار لَا ينامون لحراستهم دُورهمْ وأمتعتهم وَهلك من الْجُوع عددا لَا حصر لَهُ حَتَّى لقد أخبر صَاحب المارستان أَنه كفن فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ثَمَانِينَ ألفا وَزِيَادَة سوى من كَفنه أَهله هَذَا بفاس وليقس عَلَيْهَا غَيرهَا وَفِي زَوَال يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة وَألف توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَبُو عَمْرو عُثْمَان التواتي وَدفن دَاخل رَوْضَة سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَ الوباء بالمغرب وانحباس الْمَطَر فلحق النَّاس من ذَلِك شدَّة ثمَّ تداركهم الله بِلُطْفِهِ وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة بالمغرب الَّتِي هدمت جلّ مكناسة وزرهون وَمَات فِيهَا خلق كثير بِحَيْثُ أحصي من العبيد وحدهم نَحْو خَمْسَة آلَاف وَتكلم لويز مَارِيَة على هَذِه الزلزلة فَقَالَ إِنَّهَا مكثت ربع سَاعَة وتشققت الأَرْض مِنْهَا واضطراب الْبَحْر وفاض حَتَّى ارْتَفع مَاؤُهُ على سور الجديدة وَفرغ فِيهَا وَلما رَجَعَ الْبَحْر إِلَى مقره ترك عددا كثيرا من السّمك بِالْبَلَدِ وفاض على مسارحهم ومزارعهم وأشباراتهم فنسف ذَلِك كُله نسفا واضطربت المراكب والفلك بالمرسى فتكسرت كلهَا وفر نَصَارَى الْبَلَد إِلَى الْكَنِيسَة وَتركُوا دِيَارهمْ منفتحة وَمَعَ ذَلِك لم يفقد مِنْهَا شَيْء لاشتغال النَّاس بِأَنْفسِهِم وَتكلم صَاحب نشر المثاني على هَذِه الزلزلة فَقَالَ وَفِي ضحوة يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا ومادت شرقا وغربا واستمرت كَذَلِك نَحْو درج زماني وفاض مَاء البرك والصهاريج على الْبيُوت وتكدرت الْعُيُون ووقف مَاء الأودية عَن الجري وَسَقَطت الدّور وتصدعت الْحِيطَان وَأخذ النَّاس فِي هدم مَا تصدع خوف سُقُوطه وفزع النَّاس وَتركُوا حوانيتهم وأمتعتهم وَوَقع بِمَدِينَة سلا أَن مَاء الْبَحْر انحصر عَنهُ إِلَى أقصاه فجَاء النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَرجع المَاء إِلَى جِهَة الْبر وَتجَاوز حَده الْمُعْتَاد بمسافة كَبِيرَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 فأغرق جَمِيع من كَانَ خَارج الْمَدِينَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وصادف قافلة ذَاهِبَة إِلَى مراكش فِيهَا من الدَّوَابّ وَالنَّاس عدد كثير فأتلف الْجَمِيع وَرمى بالقوارب والزوارق الَّتِي فِي الْوَادي إِلَى مَسَافَة بعيدَة جدا ثمَّ بعد هَذِه بِنَحْوِ سِتَّة وَعشْرين يَوْمًا عَادَتْ زَلْزَلَة أُخْرَى أَشد من الأولى بعد صَلَاة الْعشَاء هِيَ الَّتِي أثرت فِي مكناسة غَايَة وَهلك تَحت الْهدم بهَا نَحْو عشرَة آلَاف نفس وَفعلت بفاس أَيْضا فعلا شنيعا انْظُر تَمام كَلَامه فقد أَطَالَ فِي وصفهَا وَفِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَبَقِي مِنْهَا مثل الْهلَال ثمَّ انجلت بعد حِين وَفِي فجر يَوْم الْأَحَد الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني وعمره ينيف على الثَّمَانِينَ سنة وَبعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَظَهَرت النُّجُوم لِكَثْرَة الظلام ثمَّ انجلت وَرجعت لحالها بعد نصف سَاعَة وَنَحْوهَا وَفِي أَعْوَام تسعين وَمِائَة وَألف كَانَت المجاعة الْكَبِيرَة بالمغرب وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وَكثر الْهَرج ودام ذَلِك قَرِيبا من سبع سِنِين وَفِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام الْمُحَقق البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بناني الفاسي الْفَقِيه الْمَشْهُور صَاحب التآليف الحسان مثل حَاشِيَته البديعة على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على مُخْتَصر خَلِيل حكى الْعَلامَة الرهوني فِي حَاشِيَته قَالَ لما أخبر الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة بوفاته جَاءَ فَزعًا وَهُوَ يبكي فَلَقِيَهُ بعض النَّاس فَقَالَ لَهُ الله يَجْعَل الْبركَة فِيكُم فَقَالَ لم تبْق بركَة بعد هَذَا الرجل وَذَلِكَ لمعرفته بمكانته وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة الْمولى أَحْمد بن الطّيب الوزاني رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه آمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 حُدُوث الْفِتْنَة بالمغرب وَظُهُور الْمُلُوك الثَّلَاثَة من أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما قتل الْمولى يزِيد رَحمَه الله بمراكش افْتَرَقت الْكَلِمَة بالمغرب فَأَقَامَ أهل الْحَوْز وَأهل مراكش على التَّمَسُّك بدعوة الْمولى هِشَام وشايعه على أمره الْقَائِد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي صَاحب آسفي وأعمالها والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري وَكَانَ الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد شَقِيق الْمولى يزِيد خَليفَة عَنهُ بِبِلَاد الهبط والجبل يدبر الْأَمر بثغورها وَينظر فِي أمورها فَلَمَّا اتَّصل بِهِ خبر وَفَاة أَخِيه دَعَا إِلَى نَفسه أهل تِلْكَ الْبِلَاد فَبَايعُوهُ واتفقت كلمتهم عَلَيْهِ وَوصل خبر موت الْمولى يُزْبِد إِلَى فاس وأعمالها فَبَايعُوا الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الرّبيع الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله أعلق بقلب أَبِيه من سَائِر إخْوَته على مَا قيل لسعيه فِيمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله ويرضي وَالِده واشتغاله بِالْعلمِ والعكوف عَلَيْهِ بسجلماسة وَغَيرهَا وَلم يلْتَفت قطّ إِلَى شَيْء مِمَّا كَانَ يتعاطاه إخْوَته الْكِبَار وَالصغَار من أُمُور اللَّهْو كالصيد وَالسَّمَاع ومعاقرة الندمان وَمَا يزري بالمروءة وَلم يَأْتِ فَاحِشَة قطّ من صغره إِلَى كبره وَكَانَ رَحمَه الله يرى لَهُ ذَلِك ويثيبه عَلَيْهِ بالعطايا الْعَظِيمَة والذخائر النفيسة وَالْأُصُول الْمُعْتَبرَة الَّتِي تغل الْألف وَأكْثر وينوه بِذكرِهِ فِي المحافل وَيبْعَث إِلَيْهِ بأعيان الْفُقَهَاء والأدباء إِلَى سجلماسة ليقْرَأ عَلَيْهِم وَيَأْخُذ عَنْهُم وَيَدْعُو لَهُ فِي كل موقف على رُؤُوس الأشهاد وَيَقُول إِن وَلَدي سُلَيْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يبلغنِي عَنهُ قطّ مَا يكدر باطني عَلَيْهِ فأشهدكم أَنِّي عَنهُ رَاض وَنَشَأ رَحمَه الله نشأة حَسَنَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 طيبَة وَكَانَت شمائل الْملك لائحة عَلَيْهِ إِلَى أَن أظفره الله بِهِ وَكُنَّا قدمنَا أَنه قدم على أَخِيه الْمولى يزِيد بقبائل الصَّحرَاء فأجل مقدمه وَأكْرم وفادته فَأَقَامَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله بفاس إِلَى أَن كَانَت وَفَاة الْمولى يزِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فاتصل خبر مَوته بِأَهْل فاس ومكناسة فَقَامُوا على سَاق وَاتفقَ العبيد والودايا والبربر وَأهل فاس على بيعَته لما كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالدّين وَالْفضل وَسَائِر الْأَوْصَاف الحميدة الَّتِي تفرد بهَا عَن غَيره وَلما قدم العبيد والبربر من مكناسة إِلَى فاس اجْتَمعُوا بأعيان الودايا وَأهل فاس ودخلوا ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَبَايَعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يَوْم الأثنين سَابِع عشر رَجَب سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما تمت بيعَته انْتقل إِلَى فاس الْجَدِيد فاستقر بدار الْملك مِنْهَا وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ بعدهمْ قبائل بني حسن وَأهل الغرب ثمَّ أهل العدوتين سلا ورباط الْفَتْح وانحرف بعض أهل رِبَاط الْفَتْح عَن بيعَته كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل الثغور الهبطية بعد أَن توقفوا عَن بيعَته مُدَّة يسيرَة لأَنهم كَانُوا قد بَايعُوا الْمولى مسلمة كَمَا مر وَنَصّ بيعَة أهل فاس الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الْحَمد لله الَّذِي نظم بالخلافة شَمل الدّين وَالدُّنْيَا وَأَعْلَى قدرهَا على كل قدر فَكَانَت لَهَا الدرجَة الْعليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وَأصْلح بهَا أَمر المعاش والمعاد وَألف بهَا بَين قُلُوب الْعباد من الْحَاضِر والباد وَجعلهَا صونا للدماء وَالْأَمْوَال والأعراض وغل بهَا أَيدي الْجَبَابِرَة فَلم تصل إِلَى مفاسد الْأَغْرَاض وَقَامَ بهَا أَمر الْخلق واستقام وأقيمت الشَّرَائِع وَالْحُدُود وَالْأَحْكَام وَنصب منارها علما هاديا وأقامه إِلَى الْحق دَاعيا فأوى لظلها الوريف الْقوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى وَلم يتْرك الْإِنْسَان سدى بل أمره وَنَهَاهُ وحذره اتِّبَاع هَوَاهُ وطوقه الْقيام بالنفل وَالْفَرْض وَهُوَ أحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الْحَاكِمين {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين} الْبَقَرَة 25 فَمن رَحمته نصب الْمُلُوك ومهد الطَّرِيق للسير والسلوك وَلَو ترك النَّاس فوضى لأكل بَعضهم بَعْضًا وَآل الْأَمر إِلَى الخراب وأفضى لَوْلَا الْخلَافَة لم تؤمن لنا سبل وَكَانَ أضعفنا نهبا لقوانا وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الْمَبْعُوث رَحْمَة للأنام أصل الْوُجُود ومبدأه وَغَايَة الْكَمَال ومنتهاه سيد الْأَوْلِيَاء وَإِمَام الْأَنْبِيَاء وقائد الأصفياء وعَلى آله أولي الْمجد العميم وَالْقدر الْعَظِيم وَأَصْحَابه الْخُلَفَاء الرَّاشِدين والهداة المهتدين الَّذين شيدوا أَرْكَان الدّين ومهدوا قَوَاعِده للمشيدين وأخبروا عَنهُ وأسندوا إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله اخْتصَّ بِهَذَا الْأَمر قُريْشًا وَأنزل عَلَيْهِ {وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء} الْبَقَرَة 247 هَذَا وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ وَله الْبَقَاء والدوام بنزول مَا لَا بُد مِنْهُ من فَجْأَة الْحمام لمن كَانَ قَائِما بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم وانتقاله إِلَى دَار عَفوه ورضوانه العميم أسْكنهُ الله فسيح الْجنان وَسَقَى ثراه سحائب الرَّحْمَة والغفران وَجب على النَّاس نصب إِمَام لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من مَاتَ وَلَيْسَت فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة فجالت أفكارهم وخاصت عُقُولهمْ وأنظارهم فِيمَن يقدمُونَ لهَذَا المنصب الْأَعْظَم ويسلك بهم السَّبِيل الأقوم فهداهم التَّوْفِيق والتسديد والرأي الصَّالح السديد إِلَى من نَشأ فِي عفة وصيانة ومروءة وديانة وعكوف على تَحْصِيل الْعلم الشريف ودؤب على التحلي بحلى الْعَمَل المنيف مَعَ نجدة ونباهة وذكاء وفطانة ونزاهة وعلو همة وَقُوَّة عَزمَة وتدبير وسياسة وَخَبره بالأمور وفراسة فَتى جمع الله لَهُ بَين الصرامة والحلم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَألبسهُ الهيبة وَالْوَقار ورقاه أَعلَى رتب الْعِزّ والفخار وَهُوَ السّري الْمُقدم الشهم الأبر الْهمام ذُو الْأَخْلَاق الطاهرة الزكية والمآثر الظَّاهِرَة السّنيَّة عالي الْقدر والشأن فريد الْعَصْر ووحيد الأوان أَبُو الرّبيع مَوْلَانَا سُلَيْمَان ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الله ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف فانعقد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة الإدريسية وَمَا حولهَا من الْبِقَاع على تقدمه وإمامته وَاسْتَبْشَرُوا بإمرته وخلافته وَبَادرُوا إِلَى تَعْيِينه وَبَايَعُوهُ بيعَة انْعَقَد على ألوية النَّصْر عقدهَا وطلع فِي أفق الهناء سعدها حضرها الصُّدُور والأعيان وَأهل الوجاهة فِي هَذَا الزَّمَان وذوو الْحل وَالْعقد وَمن إِلَيْهِم الْقبُول وَالرَّدّ من عُلَمَاء وأعلام وَأَصْحَاب الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام وَعُظَمَاء أَشْرَاف كرام ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمتقدمين فِي كل نَاد من عرب البدو والحضر وجيوش العبيد والبربر فانعقدت بِحَمْد الله مؤسسة على التَّقْوَى وَاشْتَدَّ بهَا عضد الْإِسْلَام وتقوى بيعَة تَامَّة محكمَة الشُّرُوط وفية العهود وَثِيقَة الربوط جَارِيَة على سنَن السّنة وَالْجَمَاعَة سَالِمَة من كل كلفة ومشقة وتباعة رَضِي الْكل بهَا وارتضاها وألزم حكمهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وأمضاها شهد بذلك الْحَاضِرُونَ على أنفسهم طَوْعًا وأدوا إِلَيْهِ تَعَالَى مَا وَجب عَلَيْهِم شرعا جعلهَا الله رَحْمَة على الْخلق وَأقَام بهَا فِي البسيطة الْعدْل وَالْحق وأيد بعونه وتأييده وتوفيقه وتسديده من تلقاها بِالْقبُولِ وَأَحْيَا بِهِ سنة سيدنَا ومولانا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم فهنيئا لأرضنا إِذْ أَلْقَت مقاليدها إِلَى من يحمي حماها ويحقن دماها ويكبت عَداهَا وَيدْفَع رداها وينصر الشَّرِيعَة ويشيد مبناها ويعلن بِحَقِيقَة الْحق ويوضح مَعْنَاهَا نَصره الله وَنصر بِهِ وأمات الْبدع والظلالة بِسَبَبِهِ وَدَمرَ بِهِ شيعَة الْجور وَالْفساد وَأبقى الْخلَافَة فِي بَيته إِلَى يَوْم التناد وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النبيئين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ والراوين عَنْهُم والمتلقين مِنْهُم آمين وَفِي ثامن عشر رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سِتَّة وَمِائَتَيْنِ وَألف من هِجْرَة الْمُصْطَفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام أفقر العبيد إِلَى الله سُبْحَانَهُ عبد الله تَعَالَى مُحَمَّد التاودي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة المري كَانَ الله لَهُ وليا وَبِه حفيا أَحْمد بن التاودي الْمَذْكُور أَخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 الله بِيَدِهِ وَكَانَ لَهُ فِي جَمِيع الْأُمُور وأناله الثَّوَاب والأجور وَعبد الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الفاسي لطف الله بِهِ آمين وَعبد الْقَادِر بن أَحْمد بن الْعَرَبِيّ بن شقرون أَمنه الله بمنه آمين وَمُحَمّد بن أَحْمد بنيس كَانَ الله لَهُ وليا ونصيرا آمين وَعبد ربه وأفقر عبيده إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الْمجِيد الفاسي لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ يحيى بن الْمهْدي الشفشاوني الحسني لطف الله بِهِ وَعبد ربه عَليّ بن إِدْرِيس كَانَ الله لَهُ ولطف بِهِ آمين وَعبد ربه تَعَالَى مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد بن مَسْعُود الطرنباطي وَفقه الله بمنه آمين وَعبد ربه سُبْحَانَهُ سُلَيْمَان بن أَحْمد الشهير بالفشتالي كَانَ الله لَهُ وَأصْلح حَاله وَعبد ربه مُحَمَّد الْهَادِي بن زين العابدين الْعِرَاقِيّ الْحُسَيْنِي وَفقه الله وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد التهامي طَاهِر الحسني وَفقه الله آمين وَعبد الْملك بن الْحسن الفضيلي الحسني لطف الله بِهِ آمين وَعبد ربه إِدْرِيس بن هَاشم الحسني الجوطي لطف الله بِهِ آمين انْتهى حَرْب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لِأَخِيهِ الْمولى مسلمة وطرده إِلَى بِلَاد الْمشرق لما تمت بيعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله بفاس بِاتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد من الْجند وَالْعُلَمَاء والأشراف وَسَائِر الْأَعْيَان تداعى أَمر الْمولى مسلمة إِلَى الاختلال وَكَانَ أول مَا ابْتَدَأَ بِهِ عمله بعد تِلْكَ الْبيعَة المستعجلة أَن بعث جَرِيدَة من الْخَيل إِلَى نظر الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَذَلِكَ باستدعاء محتسبها أبي الْفضل الْعَبَّاس مرينو وَأبي عبد الله مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن الْعَرَبِيّ فرج من أَهلهَا المنحرفين عَن الْمولى سُلَيْمَان إِلَى التَّمَسُّك بدعوة الْمولى مسلمة وَكَانَ أهل رِبَاط الْفَتْح يَوْمئِذٍ على فرْقَتَيْن فرقة دخلت فِي طَاعَة الْمولى سُلَيْمَان وَفرْقَة أَقَامَت بالتمسك ببيعة الْمولى مسلمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وَلما اتَّصل بالمولى سُلَيْمَان خبر مسير الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح عقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب على بني حسن وَبَعثه فِي اعتراضه فتوافى الجيشان مَعًا برباط الْفَتْح وَوَقعت الْحَرْب فَانْهَزَمَ الزعري وشيعته وَقتل الْعَبَّاس مرينو وفر الْمَكِّيّ فرج إِلَى الزاوية التهامية فَاسْتَجَارَ بهَا وَقبض الْمولى الطّيب على الزعري وَجَمَاعَة من أَصْحَابه ثمَّ سرحه بِأَمْر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَاجْتمعت كلمة أهل العدوتين على طَاعَته هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَآل فرج يثبتونه وَيَقُولُونَ إِن أصل هَذِه الْفِتْنَة أَن آل مرينو كَانَت لَهُم الوجاهة مَعَ الْمولى يزِيد رَحمَه الله فسعوا عِنْده بآل فرج وَقَالُوا لَهُ إِنَّهُم تقاعدوا على مَال الْوَزير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الَّذِي أَمنه عِنْدهم فبطش بهم الْمولى يزِيد وصادرهم واستحكمت الْعَدَاوَة يَوْمئِذٍ بَينهم وَبَين آل مرينو فَلَمَّا توفّي الْمولى يزِيد بَادر آل مرينو وَمن لافهم إِلَى بيعَة الْمولى مسلمة وانحرف عَنْهُم إِلَى بيعَة الْمولى سُلَيْمَان من لم يكن من حزبهم وَلما قتل الْعَبَّاس مرينو عمد أوباش رِبَاط الْفَتْح إِلَى شلوه وربطوا فِي رجله حبلا وجروه فِي أسواق الْمَدِينَة وعرضوه على حوانيتها حانوتا حانوتا إِذْ كَانَ فِي حَيَاته محتسبا رَحمَه الله وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بفاس لم يَتَحَرَّك مِنْهُ ثمَّ أَن الْمولى مسلمة صَاحب بِلَاد الهبط بعث وَلَده إِلَى آيت يمور وَأمرهمْ أَن يشنوا الْغَارة على أهل زرهون الَّذين هم فِي طَاعَة السُّلْطَان فَفَعَلُوا وَكثر عيثهم فِي الرعايا فَسَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة واستنفر جَيش العبيد وقبائل البربر ثمَّ وافاه الودايا وَأهل فاس وشراقة فَاجْتمع عَلَيْهِ الجم الْغَفِير وصمد بهم إِلَى آيت يمور فألفاهم على نهر سبو بالموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف فصمدت إِلَيْهِم العساكر وأوقعت بهم وقْعَة شنعاء وفر ولد الْمولى مسلمة فلحق بِأَبِيهِ ولجأ آيت يمور بقضهم وقضيضهم إِلَى جبل سلفات وَبقيت حلتهم بماشيتها وأثاثها بيد السُّلْطَان فانتهبتها جيوشه من العبيد والودايا والبربر وَبَات السُّلْطَان هُنَالك وَلما أصبح بعث إِلَيْهِ آيت يمور نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ للشفاعة وَطلب الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم وثابوا إِلَيْهِ وَبَايَعُوهُ فأنعم عَلَيْهِم بماشيتهم وزرعهم وَعَاد إِلَى فاس ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 بلغه أَن الْمولى مسلمة معسكر بِبِلَاد الحياينة فَنَهَضَ إِلَيْهِ من فاس فأوقع بِهِ فَانْهَزَمَ الْمولى مسلمة وجيشه وَنهب جَيش السُّلْطَان حلَّة الحياينة وجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ونظمهم فِي سلك الْجَمَاعَة وتفرق عَن الْمولى مسلمة كل من كَانَ مَعَه من عرب الْخَلْط وَأهل الْجَبَل وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَأَوْلَاده وَابْن أَخِيه الْمولى حسن بن يزِيد فَسَار إِلَى جبل الزَّبِيب فَلم يقبلوه ثمَّ انْتقل إِلَى الرِّيف فأهملوه ثمَّ صعد إِلَى جبل بني يزناسن فطردوه ثمَّ توجه إِلَى ندرومة فَمَنعه صَاحبهَا من الْوُصُول إِلَى الباي صَاحب الجزائر وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر مِنْهُ فَتوجه إِلَى تلمسان وَأقَام بهَا قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُنَاكَ اجْتمعت بِهِ فِي ضريح الشَّيْخ أبي مَدين بالعباد يَعْنِي حِين قدم تلمسان مفارقا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَزعم أَن الْمولى مسلمة لما اجْتمع بِهِ لامه على تخذيل النَّاس عَن بيعَته وحضه إيَّاهُم على بيعَة أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان قَالَ فبينت لَهُ حَال الْمولى سُلَيْمَان وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اتِّبَاع سيرة وَالِده فِي الْعدْل والرفق بالرعية وَبِذَلِك أحبه النَّاس فَلَمَّا سمع كَلَامي بَكَى واعترف بِالْحَقِّ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر} الْأَعْرَاف 188 ثمَّ طلب من صَاحب الجزائر أَن يَأْذَن لَهُ فِي الذّهاب إِلَى الْمشرق والمرور بإيالته فَأبى وَبعث من أزعجه من تلمسان إِلَى سجلماسة وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان الْمولى سُلَيْمَان وَأَنه عَاد إِلَى سجلماسة أرسل إِلَيْهِ مَالا وكسى وَعين لَهُ قَصَبَة ينزلها ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ فِي كل شهر كَسَائِر إخْوَته فَلم يطب لَهُ مقَام بهَا وَسَار إِلَى الْمشرق فاجتاز فِي طَرِيقه بِصَاحِب تونس الْأَمِير حمودة باشا ابْن عَليّ باي قَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية قدم الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد على الْأَمِير حمودة باشا شَرِيدًا أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أَسْنَى منزلَة وأجرى عَلَيْهِ جراية سلطانية وَبَالغ فِي بره اه ثمَّ أَن الْمولى مسلمة سَافر إِلَى الْمشرق فَأَقَامَ بِمصْر مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة فَنزل على سلطانها صهره على أُخْته فَأكْرمه ورتب لَهُ جراية ثمَّ عَاد من مَكَّة إِلَى مصر وَسَاءَتْ حَاله فِي هَذِه الْمدَّة وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَرجع إِلَى تونس وَنزل على حمودة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 باشا الْمَذْكُور فعاود إكرامه ثمَّ طلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان فَكتب لَهُ بذلك فَأخذ كِتَابه وَانْحَدَرَ إِلَى وهران وَطلب من أميرها الشَّفَاعَة أَيْضا فَكتب لَهُ وَبعث بمكاتيب الأميرين إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فَقبله وَأمره أَن يذهب إِلَى سجلماسة ينزل بهَا بدار وَالِده ويرتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ من مُؤنَة وَكِسْوَة ويقاسمه نعْمَته وَيبقى بَعيدا عَن سماسرة الْفِتَن حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة فَلَمَّا بلغه جَوَاب أَخِيه لم يرض ذَلِك وَعَاد إِلَى الْمشرق فَبَقيَ يتَرَدَّد بِهِ إِلَى أَن وافته منيته واستراح من تَعب الدُّنْيَا رَحمَه الله نهب عرب آنقاد لركب حَاج الْمغرب وَمَا نَشأ عَن ذَلِك ثمَّ بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله أَن جمَاعَة من التُّجَّار وَالْحجاج الَّذين قدمُوا من الْمشرق خَرجُوا من وَجدّة متوجهين إِلَى فاس فَلَمَّا توسطوا أَرض آنقاد عدت عَلَيْهِم عربها فنهبتهم فاستدعى السُّلْطَان رَحمَه الله الْكَاتِب أَبَا الْقَاسِم الصياني وَأمره بِالْمَسِيرِ إِلَى وَجدّة يكون واليا بهَا وَيصْلح مَا فسد من أَعمالهَا فكره الصياني ذَلِك واستقال فَلم يقلهُ السُّلْطَان وعزم عَلَيْهِ فِي الْمسير إِلَيْهَا وَعين لَهُ مائَة فَارس تذْهب مَعَه فامتثل راغما وأضمر أَنه إِن فَارق السُّلْطَان يذهب إِلَى أحد الْحَرَمَيْنِ الشريفين فيقيم بِهِ بَقِيَّة عمره وَجمع موجوده وَخرج فَخرج مَعَه قفل التُّجَّار الَّذِي كَانَ محصورا بفاس وَلما توسطوا أَرض آنكاد وجدوا الْعَرَب فِي انتظارهم فثأروا بهم وقاتلوهم فتماسكت خيل السُّلْطَان هنيئة ثمَّ كثرهم الْعَرَب فهزموهم وَلم يبْق من تِلْكَ الْخَيل إِلَّا قائدها فِي عشرَة من إخوانه وانتهبت الْعَرَب مَا كَانَ فِي ذَلِك القفل من أَمْتعَة التُّجَّار وسلعها وَلم ينج من نجا مِنْهُ إِلَّا بِنَفسِهِ قَالَ الصياني فلجأنا إِلَى قَصَبَة الْعُيُون وتفرق جَمعنَا وَقتل منا سَبْعَة نفر وجرح آخَرُونَ فَبعثت من أَتَانَا بالقتلى فدفناهم ثمَّ سرحت قَائِد الْخَيل إِلَى وَجدّة مَعَ بعض الْعَرَب الَّذين هُنَالك وطلعت أَنا مَعَ برابرة بني يزناسن وَلَيْسَ معي إِلَّا مركوبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وَفرس آخر كَانَ عَلَيْهِ مَمْلُوك لي قتل فِي المعركة قَالَ ثمَّ خلصت إِلَى وهران فَنزلت عِنْد الباي مُحَمَّد باشا فأظهر التأسف والتوجع وراودني على الْمقَام فأبيت ثمَّ ذكر الصياني أَنه بعد هَذَا ذهب إِلَى تلمسان وَاجْتمعَ هُنَالك بالمولى مسلمة بن مُحَمَّد وتلاوما وتعاتبا حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان الجيوش إِلَى الْحَوْز ونهوضه على أَثَرهَا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَعوده إِلَى فاس قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدعوة الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد من لدن دولة الْمولى يزِيد رَحمَه الله وَلما صفت بِلَاد الغرب للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله تاقت نَفسه إِلَى تمهيد بِلَاد الْحَوْز والاستيلاء عَلَيْهَا فعقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَعين مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وبعثهم إِلَى قبائل الشاوية وَذَلِكَ أَوَاخِر سنة سبع وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ زحف السُّلْطَان على أَثَرهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح فمحا بَقِيَّة آثَار الْفِتْنَة الَّتِي نشأت بهَا وَأقَام ينْتَظر مَا يكون من أَمر أَخِيه وَفِي سادس شَوَّال من السّنة صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة بِمَسْجِد القصبة مِنْهَا وَكَانَ هُوَ الإِمَام وخطب خطْبَة بليغة تشْتَمل على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتحذير من الْحَرَام وَاجْتنَاب الآثام ووعد وأوعد وَقَالَ فِي آخر خطبَته وانصر اللَّهُمَّ جيوش الْمُسلمين وعساكرهم ودعا لكافة الْأمة وَصلى فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة الْجُمُعَة وَفِي الثَّانِيَة بِسُورَة الغاشية الخ وَلما قدم الْمولى الطّيب بِلَاد الشاوية تنافس قواد الْجَيْش الَّذين مَعَه وَتَنَازَعُوا الرياسة وَصَارَ كل وَاحِد مِنْهُم يرى أَنه صَاحب الْأَمر وَكَانَ من أعظمهم تهورا الْقَائِد الغنيمي كَانَ من قواد الْمولى يزِيد رَحمَه الله فأبقاه الْمولى سُلَيْمَان على رياسته تألفا لَهُ فاستبد على سَائِر القواد فِي الرَّأْي إِذْ كَانَ رَدِيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الْخَلِيفَة الْمولى الطّيب وَصَاحب مشورته فَلَمَّا كَانَ وَقت اللِّقَاء تخاذلوا عَنهُ وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَتركُوا أخبيتهم وأثاثهم بيد الْعَدو وَرَجَعُوا مفلولين إِلَى السُّلْطَان برباط الْفَتْح وهم عشرَة آلَاف فَارس كَمَا مر فَمَا وسع السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَّا الرُّجُوع بهم إِلَى فاس لتجديد آلَة السّفر والغزو ثَانِيًا وإخلاف مَا ضَاعَ من الأخبية وَالسِّلَاح والأثاث حَسْبَمَا يذكر بعد إِن شَاءَ الله ثورة مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الخمسي الْمَعْرُوف بزيطان بِالْجَبَلِ لما كَانَت سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَألف ثار بقبيلة الْأَخْمَاس من جبال عمَارَة رجل من طلبتها يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن عبد السَّلَام ويدعى زيطان فاجتمعت عَلَيْهِ سماسرة الْفِتَن من كل قَبيلَة وَكثر تابعوه وَكَانَ السَّبَب فِي ثورته أَن الْقَائِد قاسما الصريدي كَانَ واليا بِتِلْكَ النَّاحِيَة أَيَّام الْمولى يزِيد رَحمَه الله فَلَمَّا بُويِعَ الْمولى سُلَيْمَان ولى على تِلْكَ النَّاحِيَة الْقَائِد الغنيمي الْمُتَقَدّم الذّكر وَكَانَ عسوفا فِيمَا قيل فَقبض على الْقَائِد قَاسم واستصفى أَمْوَاله وَبث عَلَيْهِ الْعَذَاب كي يظْهر مَا بَقِي عِنْده حَتَّى هلك فِي الْعَذَاب فثار زيطان وَاجْتمعت عَلَيْهِ الغوغاء من أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَلما شرى داؤه بعث السُّلْطَان بِجَيْش إِلَى الْقَائِد الغنيمي وَأمره أَن يقْصد زيطان وَجمعه فزحف إِلَيْهِ بِبِلَاد غصاوة قرب وازان وأوغل فِي طلبه فَنَهَاهُ من مَعَه من رُؤَسَاء الْجَيْش عَن التورط بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ الْجبَال والشعاب فلج واقتحمها بخيله وراميته وَلما توسطها سَالَتْ عَلَيْهِ الشعاب بالرماة من كل جَانب وهاجت الْحَرْب وأحاط الْعَدو بالجيش فَقتلُوا مِنْهُم وسلبوا كَيفَ شاؤوا وردوهم على أَعْقَابهم منهزمين وَلما اتَّصل خبر الْهَزِيمَة بالسلطان اغتاظ وَقبض على الغنيمي وَمكن مِنْهُ أَوْلَاد قَاسم الصريدي فباشروا قَتله بِأَيْدِيهِم وَاقْتَصُّوا مِنْهُ بأبيهم وَولى على قبائل الْجَبَل أَخَاهُ الْمولى الطّيب وفوض إِلَيْهِ أَمر الثغوروأنزله طنجة وَبَقِي الْمولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 الطّيب يدبر أَمر الْقَبَائِل الجبلية وثغورها من تطاوين إِلَى طنجة إِلَى العرائش وَكلما بَدَت لَهُ فُرْجَة سدها أَو فرْصَة انتهزها وَحَارب قبائل الفحص إِلَى أَن اسْتَكَانُوا وانقادوا إِلَى الطَّاعَة ثمَّ حَارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يُدِير والأخماس من أَصْحَاب زيطان فَكَانَت الْحَرْب بَينهم سجالا ثمَّ لما دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف أمد السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى الطّيب بِجَيْش وافاه بطنجة فَخرج مِنْهَا وَمَعَهُ عسكرها وعسكر العرائش وصمد إِلَى بني جرفط عش الْفساد وَنزل على بِلَادهمْ وَقَاتلهمْ فِي عقر دِيَارهمْ فَقتل مُقَاتلَتهمْ وأحرق مداشرهم وانتهب أَمْوَالهم ومزقهم كل ممزق فجاؤوه خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ تقدم إِلَى بني حرشن من بني يُدِير على تفيئة ذَلِك ففر الثائر زيطان إِلَى قبيلته بالأخماس وتسللت عَنهُ الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت ملتفة عَلَيْهِ واستنزله الْمولى الطّيب بالأمان فظفر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأمْضى لَهُ أَمَانَة وولاه على قبيلته وَصَارَ من جملَة خدام الدولة ونصحائها إِلَى أَن ملك زمامها وَتعين غَيره للْقِيَام بأمرها فَأخر وَنَقله السُّلْطَان إِلَى تطاوين فسكنها ورتب لَهُ بهَا مَا يَكْفِيهِ وَبَقِي إِلَى أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَلما خرج عَلَيْهِ الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَدخل تطاوين كَانَت لزيطان هَذَا فِي التَّمَسُّك بدعوة السُّلْطَان الْيَد الْبَيْضَاء وأغنى غناء جميلا فِي تثبيت تِلْكَ الْقَبَائِل وتسكينها ثمَّ وَفد على السُّلْطَان بطنجة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد طعن فِي السن فَأحْسن إِلَيْهِ غَايَة الْإِحْسَان وَإِلَى الْآن لَا زَالَ أهل الْأَخْمَاس يستنصرون بحفدته ويعتقدون فيهم مَا تعتقده آيت ومالو فِي آل مهاوش وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين وَفِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْعَلامَة الإِمَام السَّيِّد التاودي بن سَوْدَة المري الفاسي صَاحب الْحَاشِيَة على البُخَارِيّ والحاشية على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على الْمُخْتَصر وَشرح العاصمية والزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف المفيدة وَكَانَ رَحمَه الله خَاتِمَة الشُّيُوخ بفاس ومناقبه شهيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 أَخْبَار الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد بمراكش والحوز وَمَا يتَّصل بذلك قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا قد خَرجُوا على السُّلْطَان الْمولى يزِيد وَبَايَعُوا أَخَاهُ الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد وَلما قتل الْمولى يزِيد بمراكش اسْتَقَرَّتْ قدم الْمولى هِشَام بهَا وأطاعته قبائل الْحَوْز كلهَا وَكَانَ وزيراه القائمان بأَمْره صَاحب آسفي الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي وَكَانَ غَايَة فِي الْجُود وَبسط الْكَفّ وَصَاحب دكالة والحوز الْقَائِد مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن العروسي وَكَانَ ذَا شَوْكَة بعصبيته وَقَومه فَكَانَ هَذَانِ القائدان إِلَيْهِمَا النَّقْض والإبرام فِي دولة الْمولى هِشَام هَذَا بِكَثْرَة مَاله وعطائه وَهَذَا بعصبيته وَشدَّة شوكته فدانت للْمولى هِشَام قبائل دكالة وَعَبدَة وأحمر والشياظمة وحاحة وَغير ذَلِك وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن افْتَرَقت عَلَيْهِ كلمة الرحامنة وتجنوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قتل عاملهم الْقَائِد أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الرحماني غيلَة على أَنه كَانَ مُدبر دولته والقائم بأَمْره قَالَ أكنسوس هَكَذَا شاع أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي أَمر بقتل عبد الله الرحماني وَابْن الدَّاودِيّ قَالَ وَالَّذِي تحدث بِهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مَعَ بعض النَّاس هُوَ أَن الْفرْقَة المنحرفة من الرحامنة قَتَلُوهُ وأظهروا أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي دس إِلَيْهِم بذلك وَكَذَلِكَ أَمر ابْن الدَّاودِيّ وَالله أعلم وَلما قتل الْقَائِد عبد الله خلعت الرحامنة طَاعَة الْمولى هِشَام وبايعت أَخَاهُ الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وزحفوا بِهِ إِلَى مراكش فَلم يرع الْمولى هشاما إِلَّا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عَن ركُوب فرسه فَخرج يسْعَى على قَدَمَيْهِ إِلَى أَن أَتَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي فعاذ بِهِ وثابت إِلَيْهِ نَفسه وَبعد أَيَّام تسلل وَسَار فِي جمَاعَة من حَاشِيَته إِلَى آسفي وَنزل على وزيره الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر فَأكْرم مثواه وَأحسن نزله وَغدا وَرَاح فِي طَاعَته ومرضاته وَدخل الْمولى حُسَيْن قصر الْخلَافَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 بمراكش فاستولى على مَا فِيهِ من الذَّخِيرَة والأثاث من مَتَاع الْمولى هِشَام ومتخلف الْمولى يزِيد فاضطر أهل مراكش حِينَئِذٍ إِلَى مبايعة الْمولى حُسَيْن وَالْخطْبَة بِهِ وَكَانَ ذَلِك سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف وافترقت الْكَلِمَة بالحوز فَكَانَ بعضه كعبدة وأحمر ودكالة مَعَ الْمولى هِشَام وَبَعضه مثل الرحامنة وَسَائِر قبائل حوز مراكش مَعَ الْمولى حُسَيْن واتقدت نَار الْفِتْنَة بَين هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل وتفانوا فِي الحروب إِلَى أَن بلغ عدد الْقَتْلَى بَينهم أَكثر من عشْرين ألفا هَذَا كُله وَالسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مُقيم بفاس معرض عَن الْحَوْز ومتربصين بأَهْله الدَّوَائِر إِلَى أَن ملوا الْحَرْب وملتهم وَكَانَ ذَلِك من سعادته فصاروا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ أَرْسَالًا ويسألونه الذّهاب إِلَى بِلَادهمْ ليعطوه صَفْقَة بيعتهم فَكَانَ يعدهم بذلك وَيَقُول إِذا فرغت من أَمر الشاوية قدمت عَلَيْكُم إِن شَاءَ الله ثورة الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بآنفا وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَت قبائل الشاوية مُنْذُ هزموا جَيش الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد وهم حذرون من سطوة السُّلْطَان عالمون بِأَنَّهُ غير تاركهم فعزموا على تلافي أَمرهم عِنْده وأوفدوا عَلَيْهِ جماعات من أعيانهم الْمرة بعد الْمرة يسألونه أَن يولي عَلَيْهِم رجلا يكونُونَ عِنْد نظره ويقفون عِنْد أمره وَنَهْيه فولى عَلَيْهِم ابْن عَمه وصهره على أُخْته الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر وَوَجهه مَعَهم فَقدم الْمولى عبد الْملك أَرض تامسنا وَنزل بِمَدِينَة آنِفا وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بِالدَّار الْبَيْضَاء وَتَوَلَّى الْقيام على مُسْتَفَاد مرْسَاها وَصَارَ يُسهم فِيهِ لأعيان الشاوية الَّذين مَعَه وَكَانَ قَصده بذلك أَن يتألفهم على الطَّاعَة والخدمة فَلَمَّا حصل لَهُم ذَلِك السهْم من المَال تطاولوا إِلَى الزِّيَادَة عَلَيْهِ وَقد قيل فِي الْمثل قَدِيما لَا تطعم العَبْد الكراع فيطمع فِي الذِّرَاع فَصَارَ الْمولى عبد الْملك يقاسمهم الْمُسْتَفَاد شقّ الأبلمة فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك كتب إِلَيْهِ يعاتبه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فعله ثمَّ نَهَضَ على تفئة ذَلِك من فاس يُرِيد تامسنا إِذْ لم يشف الْمولى عبد الْملك الغليل فِي ضَبطهَا فَلَمَّا بلغ كتاب السُّلْطَان الْمولى عبد الْملك أنف من ذَلِك العتاب وَكَانَت لَهُ وجاهة عِنْد السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَكَانَ من كبار بني عَمه وخواص قرَابَته ثمَّ اتَّصل بِهِ الْخَبَر بِخُرُوج السُّلْطَان من فاس فطارت نَفسه شعاعا وَاسْتَشَارَ بطانته من الشاوية فَقَالَ لَهُم إِن هَذَا الرجل قادم علينا لَا محَالة وَلَيْسَ لَهُ قصد إِلَّا أَنا وَأَنْتُم فَمَا الرَّأْي قَالُوا الرَّأْي أَن نُبَايِعك ونحاربه قَالَ ذَلِك الَّذِي أُرِيد فَبَايعُوهُ وَلما انْفَصل السُّلْطَان عَن رِبَاط الْفَتْح بعث فِي مقدمته أَخَاهُ وخليفته الْمولى الطّيب وَعقد لَهُ على كَتِيبَة من الْخَيل وَتَبعهُ السُّلْطَان على أَثَره وَلما بَات بقنطرة الحلاج جَاءَهُ الْخَبَر بِأَن قبائل الشاوية قد بَايعُوا الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس واتصل بالمولى عبد الْملك وَهُوَ بآنفا أَن السُّلْطَان بائت بالقنطرة فتضاعف خَوفه وفر فِيمَن بَايعُوهُ من أهل الشاوية وأخلى مَدِينَة آنِفا من خيله وَرجله ففرح أَهلهَا بِخُرُوجِهِ من بَين أظهرهم لِئَلَّا يعديهم جربه وَبَادرُوا بِإِخْرَاج المدافع لَيْلًا إعلاما للسُّلْطَان بفراره ثمَّ أنفذوا إِلَيْهِ رسلهم بجلية الْخَبَر فهش لَهُم السُّلْطَان وَبعث مَعَهم كَتِيبَة من الْخَيل تقيم بآنفا وَتقدم هُوَ بالعساكر إِلَى قَصَبَة عَليّ بن الْحسن فَأَغَارَ على حلَّة مديونة وزناته فنهبها وامتلأت أَيدي الْجَيْش وأوغل الْمولى عبد الْملك فِي الْفِرَار إِلَى جِهَة أم الرّبيع وَعَاد السُّلْطَان بِالنعَم والماشية إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَدَخلَهَا مؤيدا منصورا وَنقل تجار النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بآنفا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وأبطل مرْسَاها واستمرت معطلة إِلَى دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فأحياها كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ثمَّ ارتحل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَقَالَ فِي ذَلِك الْعَلامَة الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن شقرون (مولَايَ أَنْت الَّذِي صفت مشاربه ... إِن تغز نَاحيَة أوليتها جِلْدك) (هذي البشائر وافت وَهِي قائلة ... أعوذ بِاللَّه من شَرّ الَّذِي حسدك) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 (فاصعد على مِنْبَر الإقبال معتليا ... فالسعد أنْجز مَا كَانَ بِهِ وَعدك) (وانهض إِلَى غَايَة الآمال تدركها ... فَالْآن قَالَت لَك العلياء هَات يدك) (وَلَا تخف أبدا من سوء عَاقِبَة ... فَلَيْسَ يفلح من بالسوء قد قصدك) (ألبسك الْملك العميم نائله ... من الرضى حللا قوى بهَا مددك) (فضلا من الحكم الترضي حكومته ... جعلهَا كالشجا فِي حلق من جحدك) (فاشكر صَنِيع الَّذِي أولاك مكرمَة ... تنَلْ رِضَاهُ وتبلغ بالرضى رشدك) قدوم عرب الرحامنة على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ومسيره إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا قد قدمنَا أَن أهل الْحَوْز افْتَرَقت كلمتهم على قسمَيْنِ فبعضهم بَايع الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وَبَعْضهمْ أَقَامَ على بيعَة أَخِيه الْمولى هِشَام وَأَنه نَشأ عَن ذَلِك حروب تفانى فِيهَا الْخلق فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم على السُّلْطَان بمكناسة جمَاعَة من أَعْيَان الرحامنة مبايعين لَهُ وسائلين لَهُ الْمسير مَعَهم إِلَى بِلَادهمْ لتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ إِذْ فرغ من أَمر الشاوية ومهد طَرِيقه بهَا إِلَى الْحَوْز سَار إِلَيْهِم ثمَّ قوى عزمه رَحمَه الله فَخرج فِي العساكر من مكناسة وَقصد تامسنا فَلَمَّا احتل بهَا قدم عَلَيْهِ أَوْلَاد أبي رزق وفر أَوْلَاد أبي عَطِيَّة وَأَوْلَاد حريز الَّذين عِنْدهم الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس ولجؤوا إِلَى وَادي أم الرّبيع فقصدهم السُّلْطَان هُنَالك وأوقع بهم وفر الْمولى عبد الْملك إِلَى أَخْوَاله بالسوس فَأَقَامَ عِنْدهم إِلَى أَن شفع فِيهِ أَخُو السُّلْطَان الْمولى عبد السَّلَام بن مُحَمَّد وَأُخْته الملاة صَفِيَّة وَكَانَت زَوْجَة الْمولى عبد الْملك فَقبل السُّلْطَان شفاعتهما فَعَفَا عَنهُ وَعَاد إِلَى فاس وَاطْمَأَنَّ جنبه وَأما الشاوية فَإِنَّهُم قدمُوا على السُّلْطَان تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم وَولى عَلَيْهِم الْأُسْتَاذ الْغَازِي بن الْمدنِي المزمري فصلحت الْأَحْوَال على يَده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وَرجع السُّلْطَان إِلَى فاس مظفرا منصورا فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فتهيأ للغزو وَخرج إِلَى بِلَاد دكالة فاستولى عَلَيْهَا وعَلى مَدِينَة آزمور وتيط وَبَايَعَهُ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَقدم عَلَيْهِ أَعْيَان دكالة تَائِبين وَخَرجُوا من زمرة عَبدة وسلطانهم الْمولى هِشَام وانتظموا فِي سلك الْجَمَاعَة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أَعْيَان الرحامنة ثَانِيَة ببيعتهم فَأكْرم مقدمهم وزحف إِلَى مراكش وهم فِي ركَانَة فَلَمَّا شارفها فر عَنْهَا سلطانها الْمولى حُسَيْن إِلَى زَاوِيَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأمغاري بِالْجَبَلِ فَدخل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا وَقدم عَلَيْهَا بهَا قبائل الْحَوْز والدير وقبائل حاحة والسوس بهداياهم مغتبطين فسر بهم وَأكْرمهمْ وَأصْلح بَين قبائل الْحَوْز وَجمع كلمتهم وأهدر دِمَاءَهُمْ ومهد بِلَادهمْ ورتب حاميتها وَأنزل بقصبة مراكش أهل الْحَوْز الَّذين كَانُوا بهَا أَيَّام وَالِده ورتب لَهُم الجرايات وَأمر بِأَلف من عبيد السوس يأْتونَ لسكنى القصبة واستقامت الْأُمُور دُخُول آسفي وصاحبها الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله كَانَ عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر هَذَا على مَا وصفناه قبل من الوجاهة ونفوذ الْكَلِمَة بآسفي وأعمالها وَكَانَ مستوليا على جباية مرْسَاها وخلد بهَا آثارا مثل الدَّار الْكُبْرَى الَّتِي على شاطىء الْبَحْر وَمَسْجِد الزاوية وَغير ذَلِك وَكَانَ جوادا بالعطاء وَلما استولى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله على مراكش بعث إِلَيْهِ كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان المكناسي ليَأْتِيه بِهِ أَو يَأْذَن بحربه وَلما وصل الْكَاتِب الْمَذْكُور إِلَيْهِ بآسفي ألفاه مَرِيضا فَاعْتَذر عَن الْقدوم على السُّلْطَان بِالْمرضِ وَكتب بيعَته وَأدّى طَاعَته وانتقل الْمولى هِشَام عَنهُ إِلَى زَاوِيَة الشرابي فَأَقَامَ بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من أَمنه وَجَاء بِهِ إِلَيْهِ فلقاه مبرة وتكرمة وَقدم إِلَيْهِ المراكب والكسي وأنزله بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 ريثما استراح ثمَّ بَعثه إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستوطنها ورتب لَهُ من الجراية مَا يَكْفِيهِ وَلما قدم الْكَاتِب ابْن عُثْمَان على السُّلْطَان ببيعة عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَاعْتذر لَهُ عَنهُ بِالْمرضِ قبل ظَاهر عذره وأرجأ أمره إِلَى يَوْم مَا وَحكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى هشاما لما قدم على السُّلْطَان بمراكش وَنزل بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون أَتَاهُ السُّلْطَان بعد ثَلَاث إِلَى منزله رَاجِلا لقرب الْمسَافَة وَلما التقيا تعانقا وتراحما ثمَّ جَاءَ مَعَه الْمولى هِشَام حَتَّى دخلا بُسْتَان النّيل من بَاب الرئيس وَنصب لَهُ السُّلْطَان كرسيا جلس عَلَيْهِ وَجلسَ هُوَ أَمَامه إعظاما لَهُ لكَونه أسن مِنْهُ ثمَّ صَار يستدعيه صباحا وَمَسَاء فيجلسان ويتحدثان ثمَّ يفترقان وَكَانَ لَا يتغدى وَلَا يتعشى إِلَّا وَهُوَ مَعَه وَكلما دخل عَلَيْهِ رفع مَجْلِسه وأجله وَإِذا ذكره لَا يذكرهُ إِلَّا بِلَفْظ الْأُخوة بِأَن يَقُول أخي الْمولى هِشَام دون سَائِر بني أَبِيه وَلما طلب الْمولى هِشَام مِنْهُ السُّكْنَى برباط الْفَتْح أَجَابَهُ إِلَيْهَا وَقضى مآربه وأزاح علله ثمَّ عَاد إِلَى مراكش فَكَانَت منيته بهَا كَمَا نذكرهُ دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله كَانَ من خبر دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله أَن الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق المسجيني وَهُوَ من عبيد الصويرة كَانَ قد قدم من الْحَج عامئذ فَمر على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَهُوَ بالغرب فَدخل عَلَيْهِ فولاه على الصويرة وَكتب لَهُ الْعَهْد بذلك وَأمره بإخفائه حَتَّى يختبر حَال أَهلهَا وَيعلم أَيْن هواهم إِذْ كَانَ ذَلِك قبل أَن يطَأ السُّلْطَان بِلَاد الْحَوْز ويستولي عَلَيْهَا وَكَانَت الصويرة حِينَئِذٍ من جملَة النواحي الَّتِي إِلَى نظر عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَمن فِي حزبه وَتَحْت غَلَبَة حاحة وعصبيتها وَكَانَ الْوَالِي بهَا يَوْمئِذٍ الْقَائِد أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 لَهُ نباهة وَذكر فِي قبائل حاحة وَمَا اتَّصل بهَا فَقدم ابْن عبد الصَّادِق الصويرة على أَنه قدم من حجه لَا غير فأراح بمنزله ثَلَاثًا ثمَّ جَاءَ إِلَى بَاب الْقَائِد وَأظْهر عبد الْملك بن بيهي وَأقَام من جملَة الأعوان فِي الْخدمَة المخزنية إِذْ تِلْكَ هِيَ وظيفته وخف فِي خدمَة الْقَائِد الْمَذْكُور واعتمل فِي مرضاته وَأظْهر من النصح مَا قدر عَلَيْهِ ولازم الْبَاب لَيْلًا وَنَهَارًا فَكَانَ عبد الْملك لَا يخرج إِلَّا ويجده قَائِما محتزما على الْبَاب كَمَا قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد فِي فَتى بني شَيبَان يزِيد بن مُزْبِد بن زَائِدَة (ترَاهُ فِي الْأَمْن فِي درع مضاعفة ... لَا يَأْمَن الدَّهْر أَن يدعى على عجل) فَلم يلبث أَن حلى بِعَيْنيهِ وعظمت مَنْزِلَته لَدَيْهِ فقدمه على الأعوان وعَلى الْحَاشِيَة حَتَّى اتَّخذهُ صَاحب رَأْيه وَجعله عَيْبَة سره وَابْن عبد الصَّادِق فِي أثْنَاء ذَلِك يحكم أمره مَعَ إخوانه مسكينة وَأهل آكادير سرا وَأذنه صاغية لخَبر السُّلْطَان مَتى يطَأ بِلَاد الْحَوْز فَلَمَّا سمع بوصوله إِلَى دكالة واستيلائه على آزمور وتيط أفْضى بِأَمْر ولَايَته إِلَى خاصته وشيعته وواعدهم لمظاهرتهم إِيَّاه على أمره لَيْلَة مَعْلُومَة وَعبد الْملك لَا علم لَهُ بِمَا يُرَاد بِهِ وَكَانَ ابْن عبد الصَّادِق فِيمَا قيل قد أَخذ عَلَيْهِ أَنه إِذا حدث أَمر وَلَو لَيْلًا يخرج إِلَيْهِ حَتَّى يفاوضه فِيمَا يكون عَلَيْهِ الْعَمَل فَجَاءَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد هيأ جمَاعَة من عبيد الصويرة الَّذين أعدهم للْقِيَام مَعَه وتركهم بِحَيْثُ يسمعُونَ كَلَامه إِذا تكلم وَقَالَ لَهُم إِذا سمعتموني ُأكَلِّمهُ وأراجعه فِي القَوْل فبادروه واقبضوا عَلَيْهِ ثمَّ تقدم وَاسْتَأْذَنَ على عبد الْملك فَخرج إِلَيْهِ وبينما هُوَ يكلمهُ أحَاط بِهِ العبيد وقبضوا عَلَيْهِ وعَلى جمَاعَة من أَصْحَابه من حاحة الَّذين كَانُوا يخدمونه وَلم يملكوهم من أنفسهم شَيْئا حَتَّى أخرجوهم عَن الْبَلَد فِي تِلْكَ السَّاعَة ودفعوا لعبد الْملك فرسه وَأَغْلقُوا الْبَاب خَلفه وَصفا لَهُم أَمر الْبَلَد وَمن الْغَد جمع ابْن عبد الصَّادِق أهل الصويرة وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بولايته عَلَيْهِم فأذعنوا وَأَجَابُوا وَلم يرق فِيهَا محجمة دم ثمَّ ورد الْخَبَر عقب ذَلِك بِدُخُول السُّلْطَان إِلَى مراكش واستيلائه عَلَيْهَا وَبهَا تمّ لَهُ أَمر الْمغرب وَصفا لَهُ ملكه وَلم يبْق لَهُ فِيهَا مُنَازع وَذَلِكَ بعد مُضِيّ خمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 سِنِين من ولَايَته رَحمَه الله ثمَّ إِنَّه اسْتخْلف أَخَاهُ الْمولى الطّيب نَائِبا عَنهُ بمراكش وقفل إِلَى فاس من عَامه فَمر على طَرِيق تادلا وَأمر عاملها الْقَائِد عبد الْملك أَن يُغير على بني زمور وينهب أَمْوَالهم وَيقبض على مُقَاتلَتهمْ ويلقاه بهم إِلَى الصَّخْرَة فكرب الْقَائِد عبد الْملك فِي الْجَيْش الَّذِي كَانَ مَعَه واحتال عَلَيْهِم بِأَن أرسل إِلَيْهِم بالقدوم عَلَيْهِ فُرْسَانًا فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أَمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِم وشدهم وثاقا وَحَازَ خليهم وسلاحهم ثمَّ أغار على حلتهم فنهبها وَقدم على السُّلْطَان بمالهم ورقابهم وَكَانُوا مِائَتي رجل بالتثنية فَبعث بهم السُّلْطَان إِلَى مكناسة فسجنوا بهَا حَتَّى صلحت أَحْوَالهم بعد ذَلِك وسرحهم استرجاع السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مَدِينَة وَجدّة وأعمالها من يَد التّرْك وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر من فاس إِلَى وَجدّة فعقد على الودايا للقائد أبي السرُور عياد بن أبي شفرة وعَلى شراقة للقائد مُحَمَّد بن خدة وعَلى الأحلاف للقائد عبد الله بن الْخضر وَأمرهمْ أَن يَأْتُوا أَرض وَجدّة ويدوخوها ويقاتلوا التّرْك الَّذين استحوذوا عَلَيْهَا ومانعوا دونهَا وَكتب مَعَ ذَلِك إِلَى الباي مُحَمَّد باشا فِي أَن يتخلى عَنْهَا وَعَن قبائلها الَّتِي كَانَ يتَصَرَّف فِيهَا أَيَّام الفترة أَو يَأْذَن بِالْحَرْبِ فامتثل الباي مُحَمَّد ذَلِك وَلم يمانع بل كتب إِلَى نَائِبه بهَا أَن يَتْرُكهَا لأربابها ويتخلى عَن قبائل بني يزناسن وسقونة والمهاية وَأَوْلَاد زكرى وَأَوْلَاد عَليّ وَرَأس الْعين فامتثل وَدخل جَيش السُّلْطَان لوجدة وجبى عَامله زكواتها وأعشارها واستخلف نَائِبه بهَا وقفل بالعساكر على السُّلْطَان وَهُوَ بفاس وَقد تمهد الْملك ووشجت عروقه وَألقى السعد بجرانه وَالْحَمْد لله وَفِي هَذِه السّنة قدم الشَّيْخ الْفَقِيه المتصوف أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فاس فاستوطنها وَكَانَ الباي مُحَمَّد بن عُثْمَان صَاحب وهران قد أزعجه من تلمسان إِلَى قَرْيَة أبي صمغون فَأَقَامَ بهَا وَأَقْبل أَهلهَا عَلَيْهِ ثمَّ لما مَاتَ الباي الْمَذْكُور وَولي بعده ابْنه عُثْمَان بن مُحَمَّد سعى عِنْده بالشيخ التجاني فَبعث إِلَى أهل أبي صمغون وتهددهم ليخرجوه وَلما سمع بذلك الشَّيْخ الْمَذْكُور خرج مَعَ بعض تلامذته وَأَوْلَاده وسلك طَرِيق الصَّحرَاء حَتَّى احتل بفاس وَلما دَخلهَا بعث رَسُوله بكتابه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يُعلمهُ بِأَنَّهُ هَاجر إِلَيْهِ من جور التّرْك وظلمهم واستجار مِنْهُم بِأَهْل الْبَيْت الْكَرِيم فَقبله السُّلْطَان وَأذن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ والحضور بمجلسه وَلما اجْتمع بِهِ وَرَأى سمته ومشاركته فِي الْعُلُوم أقبل عَلَيْهِ واعتقده وَأَعْطَاهُ دَارا مُعْتَبرَة من دوره كَانَ أنْفق فِي عمارتها نَحوا من عشْرين ألف مِثْقَال ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَأَقْبل عَلَيْهِ الْخلق واشتهر أمره بفاس وَالْمغْرب وَهُوَ شيخ الطَّائِفَة التجانية رَحمَه الله ونفعنا بِهِ ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان فِي العساكر من مكناسة يُرِيد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر بآسفي وعزم على حربه إِلَّا أَن يُؤَدِّي الطَّاعَة هُوَ وقبيلته مُبَاشرَة طَوْعًا أَو كرها وَلما عبر وَادي أم الرّبيع قدم إِلَيْهِ الْقَائِد أَبُو السرُور عياد بن أبي شفرة فِي جَيش الودايا وَقَالَ لَهُ إِذا قدمت عَلَيْهِ فأزعجه للمجيء فَإِن قدم فأقم أَنْت بآسفي وَإِن امْتنع من الْمَجِيء فَاكْتُبْ إِلَيّ وأقم هُنَالك حَتَّى أقدم عَلَيْك فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْقَائِد عياد لم يَسعهُ إِلَّا الْمَجِيء لملاقاة السُّلْطَان فجَاء وَهُوَ مَرِيض فِي محفته وَمَعَهُ جموعه وقبائله حَتَّى اجْتمع بالسلطان بالموضع الْمَعْرُوف بِمِائَة بير وبير بَين عَبدة ودكالة فَبَايعهُ مُبَاشرَة وَأدّى الطَّاعَة هُوَ وإخوانه مُبَاشرَة كَمَا اقترح السُّلْطَان وَتحقّق بِأَن تَأَخره إِنَّمَا كَانَ للمرض الَّذِي بِهِ فوفى لَهُ السُّلْطَان بعهده وَزَاد فِي كرامته بوصوله مَعَه إِلَى آسفي ودخوله إِلَى دَاره بعد تثبيط رُؤَسَاء الْجَيْش لَهُ عَن الدُّخُول مَعَه ثمَّ عقد لَهُ على قبائله وَأمره بِقَبض الْوَاجِب مِنْهُم زَاد صَاحب الْجَيْش وشكره على إيوائه لِأَخِيهِ الْمولى هِشَام ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى مراكش فَدَخلَهَا مظفرا منصورا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وَفِي هَذِه السّنة حدث الوباء بِبِلَاد الْمغرب وَعم حاضره وبواديه وَلما فَشَا بمراكش وأعمالها رَجَعَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة وَترك أَخَاهُ الْمولى الطّيب نَائِبا عَنهُ بهَا فَبَلغهُ أثْنَاء الطَّرِيق وَفَاة كَاتبه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان تَركه بمراكش مصابا بالوباء قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة استقدمني من فاس فَقدمت عَلَيْهِ وقلدني كِتَابَته بعد أَن أخرني عَنْهَا سنة وَفِي أثْنَاء ذَلِك بلغه وَفَاة إخْوَته الْأَرْبَعَة خَلِيفَته الْمولى الطّيب وَالْمولى هِشَام وَالْمولى حُسَيْن وَالْمولى عبد الرَّحْمَن بالوباء الثَّلَاثَة الأول بمراكش وَالرَّابِع بالسوس وَدفن الْمولى هِشَام وَالْمولى حُسَيْن بقبة إِلَى جنب الشَّيْخ الْجُزُولِيّ رَضِي الله عَنهُ وقبرهما مَشْهُور بمراكش قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فَبَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى مراكش لآتيه بمتخلف إخْوَته الَّذين هَلَكُوا بهَا ومتخلف الْكَاتِب ابْن عُثْمَان وَبعث معي خيلا وبغالا لأحمل المتخلف الْمَذْكُور والوباء لَا زَالَ لم يَنْقَطِع قَالَ فوصلت إِلَى مراكش وجمعت المتخلف وَرجعت بِهِ إِلَى فاس وَقد ارْتَفع الوباء وازدهرت الدُّنْيَا وَدرت ألبان الجباية للسُّلْطَان وَفِي هَذِه الْمدَّة قدم على حَضْرَة السُّلْطَان باشدور الإصبنيول فعقد مَعَه شُرُوط المهادنة وَكَانَ الَّذِي تولى عقدهَا مَعَه الْكَاتِب ابْن عُثْمَان المكناسي قبل وَفَاته بِيَسِير وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا مرجعها إِلَى الصُّلْح والأمان من الْجَانِبَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا أَشد بِيَسِير من الشُّرُوط الَّتِي انْعَقَدت مَعَ السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله من ذَلِك أَن شُرُوط سَيِّدي مُحَمَّد كَانَت تَتَضَمَّن أَنه إِذا تشاجر مُسلم وَنَصْرَانِي فَالَّذِي يفصل بَينهمَا هُوَ الْحَاكِم إِلَّا أَن القنصل يحضر وَقت الْفَصْل عَسى أَن يدْفع عَن ابْن جنسه بِحجَّة إِن كَانَت وَصَارَت شُرُوط السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان تَتَضَمَّن أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يتَوَلَّى أَخذ الْحق مِنْهُ حاكمه ويدفعه لخصمه وَإِذا فر نَصْرَانِيّ من سبتة أَو مليلية أَو نكور أَو بادس وَأَرَادَ إسلاما فَلَا بُد من حُضُور القنصل إِن كَانَ وَإِلَّا فالعدول يسمعُونَ مِنْهُ ثمَّ شَأْنه وَمَا يُرِيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا وَجه السُّلْطَان كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الرهوني لجمع أَمْوَال المنقطعين فَجمع مِنْهَا مَا قدر عَلَيْهِ وَعَاد سالما معافى ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان كَاتبه الْمَذْكُور عَاملا على السوس وَمَعَهُ طَائِفَة من الْجند فجبى قبائله وَرجع وأحبه أهل السوس لحسن سيرته ولين جَانِبه وَفِي هَذِه السّنة فِي الْيَوْم الثَّامِن من ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الماهر أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي وَكَانَ من أهل الْمُشَاركَة وَالتَّحْقِيق والخط الْحسن رَحمَه الله ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر لبرابرة آيت ومالو وَعقد عَلَيْهَا لِلْكَاتِبِ أبي عبد الله الحكماوي وَبعث مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وقواد الْقَبَائِل فَلم يرْضوا إمارته عَلَيْهِم إِذْ كلهم كَانُوا أسن مِنْهُ وَفِيهِمْ من هُوَ أعرف بأحوال البربر ومكايدهم فخذلوه وَقت اللِّقَاء وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وأستولى البربر على أثاثهم ومدافعهم وجردوا الْكثير مِنْهُم وقبضوا على الْكَاتِب حَتَّى أجاره بعض البربر فأبقوا عَلَيْهِ إِلَى أَن بعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان الْجَيْش إِلَى بِلَاد درعة مَعَ كَاتبه أبي الْعَبَّاس أَحْمد آشقراس فَدَخلَهَا وَاسْتولى على قُصُورهَا الْمَغْصُوبَة وَأخرج مِنْهَا الْعَرَب والبربر وجبى أموالها ومهد نَوَاحِيهَا وَأمن سبلها حَتَّى صَار مَا بَين السوس ودرعة والفائجة مجالا للتِّجَارَة وممرا لأبناء السَّبِيل يَغْدُونَ بِهِ وَيَرُوحُونَ آمِنين على أَمْوَالهم وأنفسهم ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر إِلَى بِلَاد الرِّيف مَعَ أَخِيه الْمولى عبد الْقَادِر والقائد مُحَمَّد بن خدة الشَّرْقِي وقائد الْعَسْكَر أَحْمد بن الْعَرَبِيّ فجبى قبائل الرِّيف من قلعية وكبدانة وَغَيرهمَا عَن ثَلَاث سِنِين سلفت وَلما رجعت العساكر أغارت على المطالسة وَبني أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 يحيى بِكَسْر الْيَاء الْأَخِيرَة فَاسْتَاقُوا ماشيتهم وَسَبْيهمْ وَقدمُوا بهما على السُّلْطَان فسرح السُّلْطَان السَّبي ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانِينَ وَألف فِيهَا أغار آيت أدراسن على رفاق تافيلالت بطرِيق ملوية ونهبوا بعض القفل وَذَلِكَ بِسَبَب أَن السُّلْطَان كَانَ قد قبض على مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز وسجنه بالجزيرة وَولى عَلَيْهِم أَخَاهُ أَبَا عزة بن مُحَمَّد واعزيز فَلم يقبلوه وجمعوا كلمتهم على ابْن عَمه أبي عزة بن نَاصِر وَكَانَ منحرفا عَن السُّلْطَان ومفارقا لَهُ فولوه أَمرهم وَلما رأى السُّلْطَان اعوجاجهم سرح لَهُم مُحَمَّدًا واعزيز وولاه عَلَيْهِم وَأمره بِالْقَبْضِ على أبي عزة بن نَاصِر فَأبى فَغَضب السُّلْطَان عَلَيْهِ ثَانِيَة وهم بِهِ ففر مُحَمَّد واعزيز وكشف وَجه الْعِصْيَان فَنَهَضَ حِينَئِذٍ إِلَى آيت أدراسن فِي العساكر وَأرْسل إِلَى قبائل آيت ومالو أَن يأتوهم من خَلفهم وَتقدم هُوَ حَتَّى نزل بِقرب آعليل وَوَقعت الْحَرْب فنصر الله السُّلْطَان وَانْهَزَمَ آيت أدراسن ونهبت مَوَاشِيهمْ واحتوى البربر على حللهم وفر أَوْلَاد واعزيز الثَّلَاثَة برؤوسهم لآيت ومالو وشرعت العساكر فِي إِخْرَاج زُرُوعهمْ إِلَى أَن استصفوها وَأمر السُّلْطَان بهدم قصورهم فهدمت وَأعْطى كروان بِلَادهمْ وَرجع إِلَى فاس مظفرا منصورا ثمَّ لم يقم بهَا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى خرج إِلَى تازا وَترك عَامل فاس أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليموري بِبِلَاد الحياينة لقبض خراجهم وَلما احتل بتازا جهز العساكر إِلَى وَجدّة مَعَ الشَّيْخ عبد الله بن الْخضر لجباية قبائلها وجهز جَيْشًا آخر مَعَ عَامل سجلماسة أبي عبد الله مُحَمَّد الصريدي فَنزل ملوية وجبى قبائلها وطلع إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء مَعَ أَوديتهَا إِلَى نَاحيَة فجيج فجبى أَمْوَال تِلْكَ النواحي ثمَّ توجه إِلَى سجلماسة فَفرق الْجَيْش على أقاليم صحرائها درعة والفائجة وتدغة وفركلة وغريس وزيز وَالْخَنْدَق ومدغرة والرتب فجبى أَمْوَال تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا وَقرر عماله ونوابه بِكُل إقليم مِنْهَا ومهد طَرِيق الصَّحرَاء وَرجعت عساكره منصورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليموري عَن فاس وَولى عَلَيْهَا صهره الْمولى حبيب بن عبد الْهَادِي فَقَامَ بهَا أحسن قيام وَكَانَ ذَا عقل ومروءة وسمت ودهاء وفيهَا توجه السُّلْطَان فِي العساكر إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا بعث جَيْشًا إِلَى السوس لنظر الْكَاتِب أبي عبد الله الرهوني وَبعث جَيْشًا آخر إِلَى عَامل حاحة لنظر أبي الْعَبَّاس أَحْمد اليموري ثمَّ خرج السُّلْطَان فِي جَيش ثَالِث إِلَى ثغر الصويرة لمشاهدتها وَالْوُقُوف على آثَار وَالِده بهَا فَانْتهى إِلَيْهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا وَفرق المَال على جندها أحرارا وعبيدا وَنظر فِي أُمُور مرْسَاها وَأمر بإصلاح مَا لَا بُد مِنْهُ فِيهَا وَعَاد إِلَى الغرب مؤيدا منصورا فتْنَة الْفَقِير أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر ابْن الشريف الفليتي واستحواذه على تلمسان وبيعته للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَت سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف هَاجَتْ الْفِتْنَة بَين عرب تلمسان وَالتّرْك وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن باي وهران كَانَ لَهُ انحراف عَن الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسُوء اعْتِقَاد فيهم فَقتل بعض الطَّائِفَة الدرقاوية وَأمر بِالْقَبْضِ على مقدمهم أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الشريف الفليتي تلميذ الشَّيْخ الْأَكْبَر أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي شيخ الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة ففر أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر الْمَذْكُور إِلَى الصَّحرَاء وَنزل بحلة الْأَحْرَار فَاجْتمع عَلَيْهِ أهل طائفته وامتعضوا لمن قتل مِنْهُم ولنفي مقدمهم عَن وَطنه وعشيرته وامتعضت لَهُم عَشَائِرهمْ من قبائل الْعَرَب الَّذِي هُنَالك وزحفوا لِحَرْب التّرْك على حِين غَفلَة مِنْهُم فَقَتَلُوهُمْ فِي كل وَجه وَلما دخل فصل الرّبيع من السّنة الْمَذْكُورَة بعث صَاحب الجزائر عسكرا إِلَى باي وهران وَأمره بغزو الْعَرَب فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَوَقعت الْحَرْب بَينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وَبينهمْ فَانْهَزَمَ التّرْك ثَانِيَة وَنهب الْعَرَب محلتهم وتبعوهم إِلَى وهران فحاصروهم وَلما مني الباي مِنْهُم بالداء العضال كتب إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان يعرفهُ بِمَا دهاه مِنْهُم وَيطْلب مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم شيخهم أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ليكفهم عَنهُ ويراجعوا طَاعَة المخزن فَبعث السُّلْطَان رَحمَه الله الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّاهِر بادو المكناسي فَانْتهى الشَّيْخ إِلَى ابْن الشريف وَهُوَ فِي جموعه بِظَاهِر وهران فَشَكا إِلَى الشَّيْخ مَا نَالَ الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسَائِر الرعيه من عسف التّرْك وجورهم وانتهائهم فِي ذَلِك إِلَى الْقَتْل والطرد عَن الوطن فتوقف الشَّيْخ وَرُبمَا صدر مِنْهُ بعض تقبيح لفعل التّرْك وَمَا هم عَلَيْهِ فازدادت الْعَرَب بذلك تظاهرا على التّرْك وتكالبا عَلَيْهِم فاتهم الباي السُّلْطَان بِأَنَّهُ الَّذِي يغريهم لِأَنَّهُ كَانَ ينْتَظر الْفرج على يَده ويرجو رقع الْخرق من جِهَته فأخفق سَعْيه وَحِينَئِذٍ نصب مدافعه فِي وَجه جموع الْعَرَب وفرقهم بالكور والضوبلي فَانْهَزَمُوا عَن وهران وأبعدوا المفر ثمَّ تذامروا وتحالفوا وزحفوا إِلَى تلمسان فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروها وَكَانَ أهل تلمسان خُصُوصا وقبائلها عُمُوما لَهُم الْتِفَات كَبِير إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما أكْرمه الله بِهِ من شرف النّسَب وَطيب المنبت وَلما اشْتهر عَنهُ من الْعدْل والرفق بالرعية والشفقة عَلَيْهَا فَكَانُوا يحبونَ الدُّخُول فِي طَاعَته والانخراط فِي سلك رَعيته فَلَمَّا نزلت الْعَرَب على تلمسان تمشت الرُّسُل بَينهم وَبَين الْحَضَر من أَهلهَا وَاتَّفَقُوا على خلع طَاعَة التّرْك ومبايعة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ففتحوا بَاب الْمَدِينَة وَدخل ابْن الشريف وطائفته وَأخذ الْبيعَة بهَا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وخطب بِهِ على منابرها وَوجه وفده وهديته إِلَى السُّلْطَان مَعَ شَيْخه أبي عبد الله الْمَذْكُور ثمَّ نهد فِي عربه وحضره من أهل تلمسان لِحَرْب الكرغلية الَّذين بالقصبة فأجحرهم بهَا وضيق عَلَيْهِم فَلم يبْق للترك حِينَئِذٍ شكّ فِي أَن ذَلِك كُله بِأَمْر السُّلْطَان فَكَتَبُوا إِلَى الدولاتي وَهُوَ باشاهم الْأَعْظَم صَاحب الجزائر يعلمونه بالواقع واستمرت الْحَرْب بَينهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وَبَين ابْن الشريف فِي وسط الْمَدِينَة وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَقدم الشَّيْخ على السُّلْطَان بوفد أهل تلمسان وَالْعرب وهدية ابْن الشريف وبيعته وَأخْبرهُ بِأَن النَّاس فِي شدَّة من أَمر التّرْك وَأَنَّهُمْ قد تطارحوا على بَابه وعلقت آمالهم بِهِ وراموا الاستظلال بِظِل عدله فَرَأى السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يسْلك فِي حَقهم وَحقّ التّرْك مسلكا هُوَ أرْفق بِالْجَمِيعِ فَبعث الْقَائِد أَبَا السرُور عياد بن أبي شفرة الوديي وَأمره أَن يحجز بَين الْحَضَر وَالتّرْك حَتَّى يقدم الباي إِلَى تلمسان ورد مَعَه الْوَفْد الَّذين قدمُوا مَعَ الشَّيْخ وَتقدم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض على ابْن الشريف إِن هُوَ لم يرجع عَن الْحَرْب إِلَى السّلم ثمَّ كتب السُّلْطَان إِلَى الباي بِمَا أَزَال شكه وأبطل وهمه وَلما شَارف الْقَائِد عياد تلمسان فر الشريف إِلَى منجاته وَدخل الْقَائِد عياد الْمَدِينَة فحجز بَين الْفَرِيقَيْنِ وَقدم الباي إِلَى تلمسان فَأصْلح بَينه وَبَين رَعيته ومكنه من بَلَده وانقلب إِلَى حَال سَبيله وَمَعَ ذَلِك لم يتم للترك مَا أَرَادوا من أجل الْقَحْط الَّذِي كَانَ قد عَم حَتَّى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْمغرب وَكَذَا عربها وَأهل جبالها كلهم جلوا عَن أوطانهم حَتَّى لم يبْق لباشا التّرْك مَعَ من يتَكَلَّم فضلا عَن أَن يتأمر فَجعل يكْتب إِلَى السُّلْطَان ويرغب إِلَيْهِ أَن يرد عَلَيْهِ أهل تلمسان وعربها فَكَلَّمَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الرُّجُوع فَأَبَوا وَقَالُوا نَذْهَب إِلَى بِلَاد النَّصَارَى وَلَا نجاور التّرْك فنجمع علينا الْجُوع وَالْقَتْل فرق لَهُم السُّلْطَان وتركهم بل جبرهم بِأَن صَار يعينهم بالعطاء ويتخولهم بالصدقات الْمرة بعد الْمرة حَتَّى كَانَ عطاؤه إيَّاهُم كالراتب الْمَفْرُوض وعالج داءهم مَعَ التّرْك إِلَى أَن أخصبت بِلَادهمْ ورخصت أسعارهم فتراجعوا حِينَئِذٍ إِلَى أوطانهم وَكتب السُّلْطَان إِلَى الباي فِي شَأْنهمْ بِالْعَدْلِ وَحسن السِّيرَة فامتثل وكف أَيدي الكرغلية عَنْهُم وَلم يبْق مِنْهُم بالمغرب إِلَّا من كَانَ عَلَيْهِ دين للترك فَلم يقدر على الرُّجُوع لِأَن أَرْبَاب الدُّيُون لَا يُقِيمُونَ لَهُم وزنا وَلَا يعْملُونَ مَعَهم شرعا وَالله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 ذكر مَا اتّفق للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي وسط دولته من الخصب والأمن والسعادة واليمن كَانَ هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله مَوْصُوفا بِالْعَدْلِ مَعْرُوفا بِالْخَيرِ مَرْفُوع الذّكر عِنْد الْخَاصَّة والعامة قد ألْقى الله عَلَيْهِ مِنْهُ الْمحبَّة فأحبته الْقُلُوب ولهجت بِهِ الْأَلْسِنَة لحسن سيرته وَطيب سَرِيرَته وَاتفقَ لَهُ فِي أواسط دولته من السَّعَادَة والأمن والعافية ورخاء الأسعار وابتهاج الزَّمَان وتبلج أنوار السعد والإقبال مَا جعله النَّاس تَارِيخا وتحدثوا بِهِ دهرا طَويلا حَتَّى صَارَت أَيَّام السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مثلا فِي أَلْسِنَة الْعَامَّة وَلَقَد أدركنا الجم الْغَفِير مِمَّن أدْرك أواسط دولته فكلهم يثني عَلَيْهَا بملء فِيهِ وَيذْهب فِي إطرائها كل مَذْهَب لَوْلَا مَا كدر آخرهَا من فتْنَة البربر الَّتِي جرت مَعهَا فتنا أخر كَمَا نذْكر بعد إِن شَاءَ الله فمما هيأ الله لَهُ من أَسبَاب الْخَيْر والسعادة أَنه بُويِعَ مَطْلُوبا لَا طَالبا ومرغوبا لَا رَاغِبًا ثمَّ لما بُويِعَ كَانَ ثَلَاثَة من إخْوَته كلهم يزاحمه فِي المنصب ثمَّ لم يزل أَمرهم يضعف وَأمره يقوى إِلَى أَن كفى الْجَمِيع من غير ضرب ولاطعن وَلَا بارز أحدا مِنْهُم قطّ وَلَا واجهه بِسوء وَمن ذَلِك أَنه لما دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان عَامله إِلَى صحراء فجيج وجبى أموالها واسترجع قصر المخزن الَّذِي أغتصبه أَهلهَا من يَد العبيد الَّذين كَانُوا بِهِ أَيَّام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله وَوجه فِي السّنة الْمَذْكُورَة جَيْشًا مَعَ عَامل فاس باعقيل السُّوسِي وَمَعَهُ جمَاعَة من قواد الْقَبَائِل إِلَى نَاحيَة الشرق فَنزل الْعَامِل مَدِينَة وَجدّة وجبى تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا ثمَّ بدا لَهُ فَنَهَضَ إِلَى عرب الأعشاش وَكَانَ ذَلِك خطأ مِنْهُ فِي الرَّأْي إِذْ كَانَت لَهُم شَوْكَة وَكَانَ فِي غنى عَن التَّعَرُّض لَهُم بِمَا در عَلَيْهِ من الجبايات الوافرة من تِلْكَ الْقَبَائِل لَكِن الْحِرْص لَا يزَال بِصَاحِبِهِ حَتَّى يقطع عُنُقه فَلَمَّا علمُوا بِقَصْدِهِ إيَّاهُم عدلوا عَن لِقَائِه إِلَى الْمحلة فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوها فَرجع أَهلهَا منهزمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 من غير قتال وَتركُوا أثقالهم بيد الْعَدو وَلم يجتمعوا إِلَّا على وَادي ملوية وَمن هُنَاكَ انفض الأحلاف إِلَى بِلَادهمْ ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عَن الْقدوم خوفًا من السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وَأَتَاهُ بِهِ فنكبه وعزله عَن فاس وَولى عَلَيْهَا وصيفه ابْن عبد الصَّادِق ثمَّ عَزله وَولى عَلَيْهَا مُحَمَّد واعزيز ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر إِلَى تادلا يُرِيد بني مُوسَى وآيت أعتاب ورفالة وَبني عياط الذّبْح آووا بني مُوسَى فَبَثَّ السُّلْطَان عَلَيْهِم العساكر فنهبوا بني مُوسَى وَمن آواهم من رفالة وَبني عياط وأحرقوا مداشرهم وَقَطعُوا أَشْجَارهم وأبلغوا فِي النكاية إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فتح على السُّلْطَان إقليم تيكرارين وتوات من أقْصَى الصَّحرَاء وجبى عَامله خراجهم وَعَاد سالما معافى وفيهَا حدثت الْحَرْب بَين السُّلْطَان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وَبَين الموسكوب فَكتب العثماني إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يشد عضده بِأَن يُقيم قراصينه بِبَاب البوغاز من مرسى طنجة لِئَلَّا تدخل قراصين الموسكوب مِنْهُ وتعيث فِي الجزر الَّتِي هِيَ فِي ملكة العثماني كَمَا فعلت فِي دولة عَمه السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله رُؤَسَاء قراصينه بالتهيىء وَالْمقَام هُنَالك فَفَعَلُوا وَلم يظْهر شَيْء حكى هَذَا الخبرصاحب الْبُسْتَان ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عقد السُّلْطَان لوصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الطابع على جَيش كثيف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من قواد الْجند والقبائل وَسَار حَتَّى نزل على حُدُود بِلَاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السُّلْطَانِيَّة بهم من كل جِهَة وَكَانَ ذَلِك فِي فصل الشتَاء فمنعوهم من النُّزُول إِلَى الْبَسِيط للمرعى وجلب الْميرَة إِلَى أَن ضَاعَت مَوَاشِيهمْ وأذعنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 لدفع مَا وظف عَلَيْهِم فدفعوا الْمَاشِيَة والكراع وخلى سبيلهم وفيهَا خرج السُّلْطَان من مكناسة لتفقد أَحْوَال الثغور البحرية وَكَانَ الْمُتَوَلِي على جمعهَا الْقَائِد الشهير أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش التطواني فَعَزله السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة وَولى عَلَيْهَا الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي البُخَارِيّ ثمَّ ولاه على قبائل الغرب وَالْجِبَال كلهَا وتتبع السُّلْطَان رَحمَه الله الثغور كلهَا وَأحسن إِلَى أَهلهَا ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى تادلا يُرِيد عرب ورديغة وقبائل البربر الَّذين هُنَالك فأغارت عَسَاكِر السُّلْطَان عَلَيْهِم وَوَقعت بَينهم حَرْب فظيعة هلك فِيهَا عدد من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انتصرت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فهزموهم ونهبوا أَمْوَالهم وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ أنفذ جَيْشًا كثيفا لآيت يسري بعد أَن قبض مِنْهُم على عدد مُعْتَبر فَشُنُّوا الْغَارة عَلَيْهِم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المَال وَلما بذلوه سرح لَهُم إخْوَانهمْ الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَعَاد السُّلْطَان مظفرا منصورا ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الرِّيف فَنزل عين زورة وسرح الْكَتَائِب فِي قبائل الرِّيف فحاربوها وهزموها وَقتلُوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فقدموا على السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم على أَن يدفعوا مَا ترَتّب عَلَيْهِم ثمَّ عين السُّلْطَان الْأُمَنَاء الَّذين استوفوه مِنْهُم على التَّمام وَعَاد مظفرا منصورا وَفِي هَذِه السنين كلهَا كَانَت الرّعية فِي غَايَة الطُّمَأْنِينَة والعافية والأمن وَالْخصب والرخاء وَكَمَال السرُور والهناء حَتَّى كَانَت هَذِه الْمدَّة غرَّة فِي جبهة ذَلِك الْعَصْر ودمية فِي محراب ذَلِك الْقصر ثمَّ انعكست الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وعظمت الأوجال واتسع فِي الْفِتْنَة المجال وَتمّ على هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل الْعَالم النَّبِيل فِي آخر عمره مَا لم يتم على أحد من مُلُوك بني أَبِيه وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 بَدْء هيجان فتْنَة البربر وَمَا نَشأ عَنْهَا من التفاقم الْأَكْبَر لما دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَامَت الْفِتْنَة بَين قبائل البربر وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا أَولا بَين آيت أدراسن وكروان وَبَين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثمَّ لما انتشبوا الْحَرْب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إِلَى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن وَوضع آيت ومالو فيهم السَّيْف ونهبوا حلتهم بِمَا فِيهَا وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا الذل مهطعين وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا أَصْحَاب الْخَيل الَّذين نَجوا بنواصيها وَقدمُوا على السُّلْطَان شاكين بَاكِينَ فَقَامَ وَقعد لذَلِك لما أوجب الله عَلَيْهِ من النّظر لَهُم إِذْ هم رَعيته وشيعته وشيعة وَالِده من قبله فَجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إِلَى حَرْب كروان فظاهرهم آيت ومالو عَلَيْهِم وهزموهم مرّة أُخْرَى ثمَّ بعد هَذَا اتّفقت البربر على حَرْب آيت أدراسن مناوأة للسُّلْطَان وبغضا فِي قائدهم مُحَمَّد واعزيز الَّذِي كَانَ يوليه عَلَيْهِم وبعثوا إِلَى دجالهم مهاوش الْمعد عِنْدهم لأمثالها وتحالفوا عِنْده على مَعْصِيّة السُّلْطَان وَطَاعَة الشَّيْطَان وعاثوا فِي الطرقات والرعايا واتسع الْخرق وَعظم الفتق فسارت إِلَيْهِم العساكر من بَاب السُّلْطَان حَتَّى نزلت بأحواز صفرو وَكَانَت لنظر الْقَائِد مُحَمَّد الصريدي الَّذِي يبغضه البربر كبغض مُحَمَّد واعزيز أَو أَكثر فكشفوا القناع فِي الْعِصْيَان وزحفوا إِلَى الْجَيْش وَهُوَ نَازل حول صفرو فأحاطوا بِهِ وانتهبوه ففر من أفلت مِنْهُ وتحصن الْبَاقِي بِمَدِينَة صفرو ونهبت الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا وعاثوا فِي طرقات الصَّحرَاء فنهبوا من وجدوا بهَا مُقبلا أَو مُدبرا وأعضل الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَالسُّلْطَان مُقيم بمكناسة يعالج دائهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق وشمخت أنوف البربر وَكلما بعث إِلَيْهِم جَيْشًا هزموه أَو سَرِيَّة انتهبوها قيل إِن منشأ ذَلِك كَانَ من أجل تمسك السُّلْطَان رَحمَه الله بِمُحَمد واعزيز وجبرهم على طَاعَته وَكَانُوا قد نفروا عَنهُ لسوء سيرته فيهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وَالْمَعْرُوف من حَال السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله خلاف هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ قَلما تَشْكُو رعية إِلَيْهِ بعاملها إِلَّا ويعزله عَنْهَا تحريا للعدل واتهاما للعمال حَتَّى لقد عيب عَلَيْهِ ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال من جِهَة السياسة وَلما أعيا السُّلْطَان أَمرهم تَركهم فوضى ووكل الْقَائِد عياد بن أبي شفرة بتدبير أمرهَا وَتوجه إِلَى مراكش فَكَانَ عياد على أَمرهم أعجز وبسياستهم أَجْهَل وَصَارَ يتألفهم بالعطاء وَيجْرِي الْمُؤَن على كل من يقدم عَلَيْهِ مِنْهُم من طَعَام وعلف وَنَحْو ذَلِك فَكَانَ ذَلِك مِمَّا زَاد فِي طغيانهم حَتَّى كَانُوا ينهبون أَمْوَال النَّاس ومتاعهم بِبَاب فاس ويدخلون لقبض الخفارة وَأخذ الْميرَة وَإِذا تكلم أحد من أهل الْبَلَد قَالَ الْقَائِد الْمَذْكُور إِن السُّلْطَان أَمرنِي بذلك وَرُبمَا عاقب من يعْتَرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أمره السُّلْطَان أَن يسوسهم على الْوَجْه الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ على الدولة وَلَا على الرّعية وَالله أعلم إجلاب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان على برابرة كروان ورجوعه عَنْهُم من آصرو وَمَا نَشأ عَن ذَلِك لما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش اسْتنْفرَ قبائل الْحَوْز كلهَا وَقدم بهم إِلَى مكناسة واستنفر قبائل الغرب من الأحلاف والحياينة وَأهل الفحص وَأهل الغرب وَبني حسن وَأهل الثغور وَضرب الْبَعْث على جَيش العبيد والودايا وشراقة وَأَوْلَاد جَامع واستصحب مَعَه البربر الَّذين هم فِي طَاعَته حَتَّى لم يبْق أحد بالمغرب وَخرج فِي هَذَا الْجمع الْعَظِيم قَاصِدا كروان وهم يَوْمئِذٍ بتاسماكت وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بآصرو وَبَقِي بَينهم وَبَينه نصف مرحلة بِحَيْثُ صَار يرى محلتهم ويرون محلته بدا لَهُ فَرجع يُرِيد آيت يوسي فَكَانَ ذَلِك الرُّجُوع سَبَب الخذلان وَلما رَأَتْهُ عُيُون كروان رَاجعا ظنُّوا بِهِ جبنا فجرؤوا على الْجَيْش وتبعوه من خَلفه إِلَى أَن خالطوا أخريات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 النَّاس فأوقعوا بهم وَقتلُوا ونهبوا وَأَيْنَ أَوله بَينهمَا مرحلة وَلَا علم للسابق بِمَا جرى على اللَّاحِق ثمَّ نزل السُّلْطَان على آيت يوسي بِقرب آعليل وصاروا بَنو مكيلد أَمَامه وكروان من خَلفه وَلم يكن علم بِمَا وَقع فِي الْعَسْكَر من النهب وَالْقَتْل إِلَى أَن ورد عَلَيْهِ منهزمة العبيد لَيْلًا فأخبروه بِمَا وَقع وَأَن قَائِد عسكره أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الشَّاهِد قد قتل فِي جمَاعَة من القواد وَغَيرهم ففت ذَلِك فِي عضده وتجلد رَحمَه الله ليلته تِلْكَ وَلما أصبح ركبت العساكر وقصدت آيت ومالو الَّذين كَانُوا مَعَ آيت يوسي وَلما وَقعت الْحَرْب انهزم عَسْكَر السُّلْطَان وألجأهم البربر إِلَى شعب لَا منفذ لَهُ فترجلوا وَتركُوا الْخَيل ونجوا بأعناقهم وحمتهم آيت يمور وآيت أدراسن حَتَّى خلصوهم وَكَانَت حلتهم قَرِيبا من الْعَسْكَر فَلَو تبعوهم لوقعوا عَلَيْهَا وَلما حصلت هَذِه المزية لهَؤُلَاء البربر الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان وَلم تظهر للْعَرَب مزية حقدوا ذَلِك عَلَيْهِم وصاروا كل من دنا من الْمحلة مِنْهُم قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وَقَالُوا إِن البربر كلهم سَوَاء فَلَمَّا وَقع ذَلِك بشيعة السُّلْطَان امتعضوا وَرفعُوا أَمرهم إِلَيْهِ فَأمر كَاتبه وعامله مُحَمَّدًا السلاوي أَن ينظر فِي أَمرهم فبحث الْقَائِد الْمَذْكُور حَتَّى اطلع على حَقِيقَة الْأَمر وَعلم فَسَاد نِيَّة البربر لما وَقع بهم من الْقَتْل وسط الْمحلة وَرَأى أَن الْقصاص فِي ذَلِك الْوَقْت مُتَعَذر وَأَن عاقبته غير مَأْمُونَة فَأَشَارَ على السُّلْطَان بِالرُّجُوعِ قبل أَن يَتَّسِع الْخرق على الراقع فَرجع وَكَانَ رُجُوعه أكبر غنيمَة وَكَثْرَة هَذِه الجموع بِلَا تَرْتِيب سَبَب تِلْكَ الْهَزِيمَة وَالْأَمر كُله لله وَهَذِه الْوَقْعَة تعرف عِنْد النَّاس بوقعة آصرو إِضَافَة إِلَى الْموضع الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ السُّلْطَان من بِلَاد البربر ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَقد جعلهَا الْعَامَّة تَارِيخا يَقُولُونَ كَانَ ذَلِك عَام وقْعَة آصرو وَالله تَعَالَى أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 مراسلة صَاحب تونس حمودة باشا ابْن عَليّ باي للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَمَا اتّفق فِي ذَلِك وَفِي هَذِه الْمدَّة أَو مَا يقرب مِنْهَا بعث صَاحب تونس وَهُوَ الرئيس حمودة باشا ابْن عَليّ باي الْعَالم الأديب الطَّائِر الصيت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فَقدم عَلَيْهِ حَضْرَة فاس وَمَعَهُ هَدِيَّة وَكتاب يتَضَمَّن طلب الْإِمْدَاد بالميرة لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية فأعظم السُّلْطَان رَحمَه الله مقدم هَذَا الشَّيْخ واهتزت لَهُ فاس وامتدح السُّلْطَان بقصيدة من جيد شعره يَقُول فِي أَولهَا (إِن عز من خير الْأَنَام مَزَار ... فلنا بزورة نجله استبشار) وَمن جُمْلَتهَا قَوْله (هَذَا الْخَلِيفَة وَابْن أكْرم مُرْسل ... وسليل من تمطى لَهُ الأكوار) (وخلاصة الْأَشْرَاف وَالْخُلَفَاء من ... بَيت البتول وحبذا الأظهار) (وَأجل وَارِث ملك إِسْمَاعِيل من ... بَطل شذا أخباره معطار) (وأعز سُلْطَان وأشرف مَالك ... شَرقَتْ بِملك يَمِينه الْأَحْرَار) (وأحق من تَحت السَّمَاء بِأَن يرى ... ملك البسيطة والورى أنصار) (لَكِن إِذا كل الْقُلُوب تحبه ... فلغيره الْأَجْسَام وَهِي نفار) (هَذَا سُلَيْمَان الرضي ابْن مُحَمَّد ... من أشرقت لجبينه الْأَنْوَار) (هَذَا الَّذِي رد الْخلَافَة غضه ... وسما بِهِ للْمُسلمين منار) (وأعز دين الله فَهُوَ بشكره ... فِي أيكها تترنم الأطيار) فأعجب السُّلْطَان وَمن حضر بهَا وأمده بمطلبه من الْميرَة وبهدية جليلة وآب الشَّيْخ من سفارته بِخَير مآب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وُصُول كتاب صَاحب الْحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إِلَى فاس وَمَا قَالَه الْعلمَاء فِي ذَلِك وَفِي هَذِه الْمدَّة أَيْضا وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع بِجَزِيرَة الْعَرَب المتغلب على الْحَرَمَيْنِ الشريفين الْمظهر لمَذْهَب بهما إِلَى فاس المحروسة وأصل هَذِه الطَّائِفَة الوهابية كَمَا عِنْد صَاحب التعريبات الشافية وَغَيره أَن فَقِيرا من عرب نجد يُقَال لَهُ سُلَيْمَان رأى فِي الْمَنَام كَأَن شعلة من نَار خرجت من بدنه وانتشرت وَصَارَت تَأْكُل مَا قابلها فَقص رُؤْيَاهُ على بعض المعبرين فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَن أحد أَوْلَاده يجدد دولة قَوِيَّة فتحققت الرُّؤْيَا فِي ابْن ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن سُلَيْمَان فالمؤسس للْمَذْهَب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وَلَكِن نسب إِلَى عبد الْوَهَّاب فَلَمَّا كبر مُحَمَّد احترمه أهل بِلَاده ثمَّ أخبر بِأَنَّهُ قرشي وَمن أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَألف لَهُم قَوَاعِد وعقائد وَهِي عبَادَة الله وَاحِد قديم قَادر حق رحمان يثيب الْمُطِيع ويعاقب العَاصِي وَأَن الْقُرْآن قديم يجب اتِّبَاعه دون الْفُرُوع المستنبطة وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وحبيبه وَلَكِن لَا يَنْبَغِي وَصفه بأوصاف الْمَدْح والتعظيم إِذْ لَا يَلِيق ذَلِك إِلَّا بالقديم وَأَن الله تَعَالَى حَيْثُ لم يرض بِهَذَا الْإِشْرَاك سَخَّرَهُ ليهدي النَّاس إِلَى سَوَاء الطَّرِيق فَمن امتثل فبها ونعمت وَمن أَبى فَهُوَ جدير بِالْقَتْلِ فَهَذِهِ أصُول مذْهبه وَكَانَ قد بثه أَولا سرا فقلده أنَاس ثمَّ سَافر إِلَى الشَّام لهَذَا الْأَمر فَلَمَّا لم يجد بِهِ مُرَاده رَجَعَ إِلَى بِلَاد الْعَرَب بعد غيبته عَنْهَا ثَلَاث سِنِين فاتصل بشيخ من أَشْيَاخ عرب نجد يُقَال لَهُ عبد الله بن سعود وَكَانَ شهما كريم النَّفس فقلده وَقَامَ بنصرة مذْهبه وَقَاتل عَلَيْهِ حَتَّى أظهره واقتسم الرياسة هُوَ وَمُحَمّد بن عبد الْوَهَّاب فَابْن عبد الْوَهَّاب صَاحب الِاجْتِهَاد فِي مسَائِل الدّين وَابْن سعود أَمِير الوهابية وَصَاحب حربهم وَلَا زَالَ أَمر هَؤُلَاءِ الوهابية يظْهر شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن تغلبُوا على الْحجاز والحرمين الشريفين وَسَائِر بِلَاد الْعَرَب ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 قَالَ صَاحب التعريبات الشافية إِن مَسَاجِد الوهابية خَالِيَة عَن المنارات والقباب وَغَيرهَا من الْبدع المستحسنة لَا يعظمون الْأَئِمَّة وَلَا الْأَوْلِيَاء ويدفنون موتاهم من غير مشْهد واحتفال يَأْكُلُون خبز الشّعير وَالتَّمْر وَالْجَرَاد والسمك وَلَا يَأْكُلُون اللَّحْم والأرز إِلَّا نَادرا وَلَا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه وَلما استولى ابْن سعود على الْحَرَمَيْنِ الشريفين بعث كتبه إِلَى الْآفَاق كالعراق وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاع مذْهبه والتمسك بدعوته وَلما وصل كِتَابه إِلَى تونس بعث مفتيها نُسْخَة مِنْهُ إِلَى عُلَمَاء فاس فتصدى للجواب عَنهُ الشَّيْخ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ تصدي الشَّيْخ أبي الْفَيْض لذَلِك الْجَواب بِأَمْر السُّلْطَان وعَلى لِسَانه وَذهب بجوابه وَلَده الْمولى إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان حِين سَافر لِلْحَجِّ قلت وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كتاب ابْن سعود ورد عِلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِالْقَصْدِ الأول لَا أَن نُسْخَة مِنْهُ وَردت بِوَاسِطَة عُلَمَاء تونس وَالله تَعَالَى أعلم حج الْمولى أبي اسحاق إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَلَده الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل الْمولى أَبَا اسحاق إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج مَعَ الركب النَّبَوِيّ الَّذِي جرت الْعَادة بِخُرُوجِهِ من فاس على هَيْئَة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظَاهِر الْبَلَد وقرع الطبول وَإِظْهَار الزِّينَة وَكَانَت الْمُلُوك تعنى بذلك وتختار لَهُ أَصْنَاف النَّاس من الْعلمَاء والأعيان والتجار وَالْقَاضِي وَشَيخ الركب وَغير ذَلِك مِمَّا يضاهي ركب مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا فَوجه السُّلْطَان وَلَده الْمَذْكُور فِي جمَاعَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 من عُلَمَاء الْمغرب وأعيانه مثل الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أبي الْفضل الْعَبَّاس بن كيران والفقيه الشريف الْبركَة الْمولى الْأمين بن جَعْفَر الحسني الرتبي والفقيه الْعَلامَة الشهير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الساحلي وَغَيرهم من عُلَمَاء الْمغرب وشيوخه فوصلوا إِلَى الْحجاز وقضوا الْمَنَاسِك وزاروا الرَّوْضَة المشرفة على حِين تعذر ذَلِك وَعدم اسْتِيفَائه على مَا يَنْبَغِي لاشتداد شَوْكَة الوهابيين بالحجاز يَوْمئِذٍ ومضايقتهم لحجاج الْآفَاق فِي أُمُور حجهم وزياراتهم إِلَّا على مُقْتَضى مَذْهَبهم حكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى إِبْرَاهِيم ذهب إِلَى الْحَج واستصحب مَعَه جَوَاب السُّلْطَان فَكَانَ سَببا لتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم وعَلى كل من تعلق بهم من الْحجَّاج شرقا وغربا حَتَّى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الْأَمْن والأمان وَالْبر وَالْإِحْسَان قَالَ حَدثنَا جماع وافرة مِمَّن حج مَعَ الْمولى إِبْرَاهِيم فِي تِلْكَ السّنة أَنهم مَا رَأَوْا من ذَلِك السُّلْطَان يَعْنِي ابْن سعود مَا يُخَالف مَا عرفوه من ظَاهر الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا شاهدوا مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه غَايَة الاسْتقَامَة وَالْقِيَام بشعائر الْإِسْلَام من صَلَاة وطهارة وَصِيَام وَنهي عَن الْمُنكر الْحَرَام وتنقية الْحَرَمَيْنِ الشريفين من القاذورات والآثام الَّتِي كَانَت تفعل بهما جهارا من غير نَكِير وَذكروا أَن حَاله كَحال آحَاد النَّاس لَا يتَمَيَّز عَن غَيره بزِي وَلَا مركوب ولالباس وَأَنه لما اجْتمع بالشريف الْمولى إِبْرَاهِيم أظهر لَهُ التَّعْظِيم الْوَاجِب لأهل الْبَيْت الْكَرِيم وَجلسَ مَعَه كجلوس أحد أَصْحَابه وحاشيته وَكَانَ الَّذِي تولى الْكَلَام مَعَه هُوَ الْفَقِيه القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الزداغي فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ ابْن سعود لَهُم إِن النَّاس يَزْعمُونَ أننا مخالفون للسّنة المحمدية فَأَي شَيْء رَأَيْتُمُونَا خَالَفنَا من السّنة وَأي شَيْء سمعتموه عَنَّا قبل اجتماعكم بِنَا فَقَالَ لَهُ القَاضِي بلغنَا أَنكُمْ تَقولُونَ بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فَقَالَ لَهُم معَاذ الله إِنَّمَا نقُول كَمَا قَالَ مَالك الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة فَهَل فِي هَذَا من مُخَالفَة فالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 لَا وبمثل هَذَا نقُول نَحن أَيْضا ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا عَنْكُم أَنكُمْ تَقولُونَ بِعَدَمِ حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياة إخوانه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قُبُورهم فَلَمَّا سمع ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارتعد وَرفع صَوته بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ معَاذ الله إِنَّمَا نقُول إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ فِي قَبره وَكَذَا غَيره من الآنبياء حَيَاة فَوق حَيَاة الشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا أَنكُمْ تمْنَعُونَ من زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة سَائِر الْأَمْوَات مَعَ ثُبُوتهَا فِي الصِّحَاح الَّتِي لَا يُمكن إنكارها فَقَالَ معَاذ الله أَن ننكر مَا ثَبت فِي شرعنا وَهل منعناكم أَنْتُم لما عرفنَا أَنكُمْ تعرفُون كيفيتها وآدابها وَإِنَّمَا نمْنَع مِنْهَا الْعَامَّة الَّذين يشركُونَ الْعُبُودِيَّة بالألوهية وَيطْلبُونَ من الْأَمْوَات أَن تقضى لَهُم أغراضهم الَّتِي لَا تقضيها إِلَّا الربوبية وَإِنَّمَا سَبِيل الزِّيَارَة الِاعْتِبَار بِحَال الْمَوْتَى وتذكر مصير الزائر إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ المزور ثمَّ يَدْعُو لَهُ بالمغفرة ويستشفع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَيسْأل الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بالإعطاء وَالْمَنْع بجاه ذَلِك الْمَيِّت إِن كَانَ مِمَّن يَلِيق أَن يتشفع بِهِ هَذَا قَول إمامنا أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وَلما كَانَ الْعَوام فِي غَايَة الْبعد عَن إِدْرَاك هَذَا الْمَعْنى منعناهم سدا للذريعة فَأَي مُخَالفَة للسّنة فِي هَذَا الْقدر أه ثمَّ قَالَ صَاحب الْجَيْش هَذَا مَا حدث بِهِ أُولَئِكَ المذكورون سمعنَا ذَلِك من بَعضهم جمَاعَة ثمَّ سَأَلنَا الْبَاقِي أفرادا فاتفق خبرهم على ذَلِك اه قلت مَسْأَلَة زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة وَهِي من الْقرب المرغوب فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية مِنْهُم فِيهَا محتجا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ عِنْد الْجُمْهُور مؤول بِأَن الْمَعْنى لَا تشد الرّحال لصَلَاة فِي مَسْجِد إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد اه وَقد بسط القَوْل فِي هَذَا صَاحب الْمَوَاهِب اللدنية وَالْقَوْل الْفَصْل أَن التَّبَرُّك بآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والأولياء رَضِي الله عَنْهُم وزيارة مشاهدهم من الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْد أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمجمع عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 خلفا وسلفا لَا يسع إِنْكَاره غير أَن للزيارة آدابا تجب الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وشروطا لَا بُد من مراعاتها وَالْوُقُوف لَدَيْهَا ثمَّ القَوْل بمنعها مُطلقًا سدا للذريعة فِي حق الْعَامَّة إِذْ هم أَكثر النَّاس وغولا فِي ذَلِك فِيهِ نظر أما الْأَنْبِيَاء فَلَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يحرم نَفسه من الْوُقُوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم وَلَا أَن يَقُول بذلك لمزيد ارْتِفَاع درجتهم عِنْد الله تَعَالَى ولندور اتِّفَاق زيارتهم لأكْثر الغرباء وَأما الْأَوْلِيَاء فَالْقَوْل بِمَنْع زيارتهم سدا للذريعة مَعَ بَيَان الْعلَّة وإشهارها بَين النَّاس حَتَّى لَا يلتبس عَلَيْهِم الْمَقْصُود قَول وجيه لَا تأباه قَوَاعِد الشَّرِيعَة بل تَقْتَضِيه وَالله أعلم وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي رَآهُ الشَّيْخ الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني رَحمَه الله حَتَّى نهى أَصْحَابه عَن زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وَأَقُول إِن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله كَانَ يرى شَيْئا من ذَلِك ولأجله كتب رسَالَته الْمَشْهُورَة الَّتِي تكلم فِيهَا على حَال متفقرة الْوَقْت وحذر فِيهَا رَضِي الله عَنهُ من الْخُرُوج عَن السّنة والتغالي فِي الْبِدْعَة وَبَين فِيهَا بعض آدَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وحذر من تغالي الْعَوام فِي ذَلِك وَأَغْلظ فِيهَا مُبَالغَة فِي النصح للْمُسلمين جزاه الله خيرا وَمن كَلَامه فِيهَا مَا نَصه تَنْبِيه من الغلو الْبعيد ابتهال أهل مراكش بِهَذِهِ الْكَلِمَة سَبْعَة رجال فَهَل كَانَ لسبعة رجال شيعَة يطوفون عَلَيْهِم إِلَى أَن قَالَ فعلينا أَن نقتدي بسبعة رجال وَلَا نتخذهم آلِهَة لِئَلَّا يؤول الْحَال فيهم إِلَى مَا آل إِلَيْهِ فِي يَغُوث ويعوق ونسرا إِلَى آخر كَلَامه وَصدق رَحمَه الله فكم من ضَلَالَة وَكفر أَصْلهَا الغلو فِي التَّعْظِيم وَمَا ضلت النَّصَارَى إِلَّا من غلوهم فِي عِيسَى وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 17 الْآيَة وَمن ذَلِك قصَّة يَغُوث ويعوق ونسرا الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي مَذْكُورَة فِي الصَّحِيح وَفِي كتب التَّفْسِير وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَن أصل حُدُوث عبَادَة الْحجر فِي بِلَاد الْعَرَب أَن آل إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما كَثُرُوا حول الْحرم وَضَاقَتْ بهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فجاج مَكَّة تفَرقُوا فِي النواحي وَأخذُوا مَعَهم أحجارا من الْحرم تبركا بهَا فَكَانَ أحدهم يضع الْحجر فِي بَيته فيطوف ويتمسح بِهِ ويعظمه ثمَّ توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تِلْكَ الْأَحْجَار ثمَّ عبدُوا غَيرهَا وَذَهَبت مِنْهُم ديانَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام إِلَّا يَسِيرا جدا بَقِي فيهم إِلَى أَن صبحهمْ الْإِسْلَام هَذَا معنى مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَقد تكلم الشاطبي وَغَيره من الْعلمَاء فِيمَا يقرب من هَذَا وَذكروا أَن الغلو فِي التَّعْظِيم أصل من أصُول الضلال وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا قَضِيَّة الشِّيعَة لَكَانَ كَافِيا فَالْحَاصِل أَن خير الْأُمُور الْوسط وَمن هُنَا أَيْضا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله قد أبطل بِدعَة المواسم بالمغرب وَهِي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وَجعل فِي عليين مثواه وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْحجاز وَنزل بطنجة وَكَانَ قدومه فِي قرصان الإنجليز لِأَن وَالِده رَحمَه الله كَانَ قد وَجهه إِلَيْهِ مَعَ بضع قراصينه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فصادفوه قد انحدر إِلَى جَزِيرَة مالطة فَركب الْمولى الْمَذْكُور فِيمَا خف من حَاشِيَته فِي قرصان النجليز وَسبق إِلَى طنجة فاحتل بهَا ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة وَالِده بمكناسة فَأَقَامَ عِنْده ثَلَاثًا ريثما استراح ثمَّ انْفَصل عَنهُ إِلَى دَاره بفاس فَخرج لملاقاته جَيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وَسَائِر عامتها بفرح وسرور وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وَلما وصل الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَه نشرُوا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وَمَا فعله من الْبر فِي طَرِيق الْحَج خُصُوصا فِي مفاوز الْحجاز فقد أنْفق فِيهَا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا لايحصى وشاع ذكره فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وتجاوزهما إِلَى مصر وَالشَّام والعراقين وَلما نفذ مَا عِنْده استسلف من التُّجَّار الَّذين كَانُوا مَعَه أَمْوَالًا طائلة أنفقها فِي سَبِيل الله وَلما قدم أَرْبَابهَا على السُّلْطَان عرفوه بِمَا استسلفه مِنْهُم وَلَده وأطلعوه على حساباتهم فَعرف أَن مَا فعله وَلَده صَوَاب فَأمر رَحمَه الله لأولئك التُّجَّار بِقَضَاء مَا أسلفوه وَأَن يُزَاد لَهُم مِقْدَار ربحه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 تطييبا لنفوسهم وَقَالَ إِنَّمَا تتعاطون التِّجَارَة لتنموا أَمْوَالكُم وتربحوا فَلَا يَنْبَغِي أَن ننقصكم من ربحكم شَيْئا فَأَما نَحن فربحنا هُوَ مَا أنفقهُ ولدنَا قي سَبِيل الله وَقد مدح هَذَا النجل الأرضي جمَاعَة من أدباء مصر وَغَيرهَا بقصائد نفيسة وَمن جملَة من مدحه الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم عبد الْقَادِر الريَاحي التّونسِيّ فَإِنَّهُ بعث بقصيدة رائقة إِلَى وَالِده السُّلْطَان المرحوم يمدح النجل الْمَذْكُور ويهنئه بالقدوم وألم فِيهَا بِذكر السُّلْطَان فَأَعْجَبتهُ وهزت من عطفه وَأمر كتاب دولته أَن يَأْخُذُوا مِنْهَا نسخا وَشَرحهَا بَعضهم وَنَصهَا (هذي المنى فأنعم بِطيب وصال ... فلطالما أضناك طول مطال) (مَاذَا وَكم أوليتني يَا مخبري ... بقدومه من منَّة ونوالي) (بشرتني بحياتي الْعُظْمَى الَّتِي ... قد كنت أحسبها حَدِيث خيال) (بشرتني بِابْن الرَّسُول لَو إِنَّمَا ... روحي ملكت بذلتها فِي الْحَال) (بشرتني بسلالة الْخُلَفَاء من ... أمداحهم تثنى بِكُل مقَال) (من حبهم فرض الْكتاب أما ترى ... إِلَّا الْمَوَدَّة حِين يَتْلُو التَّالِي) (من ضمهم شَمل العباء وأذهبوا ... رجسا فيالك من مقَام عالي) (من قومُوا أود المكارم بعد مَا ... شادوا الْهدى بمعارف ونصال) (لولاهم كَانَ الورى فِي ظلمَة ... مدت غياهبها بِكُل ضلال) (آباءك الْأَطْهَار فاقصد يَا أَبَا ... إِسْحَاق يَا نجل المليك العالي) (يَا حبه وَصفيه من قومه ... وخياره من سَائِر الأنجال) (لَو لم تكن أَهلا لصفو وداده ... لم يستنبك لجدك المفضال) (لَكِن توسم فِيك كل فَضِيلَة ... فحبى يَمِينك راية الإقبال) (وَأقَام جودك بل وجودك زَاد من ... يَبْغِي بِبَيْت الله حط رحال) (أَنْت استطاعتهم فَمَا عذر الَّذِي ... ترك الزِّيَارَة خيفة الإقلال) (وَبِك المشاعر أطربت طرب الَّتِي ... وجدت على وَله فقيد فصَال) (ووصلتها رحما هُنَاكَ قطيعة ... دهرا وَلم تبلل بِهِ ببلال) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 (وتأنس الحرمان مِنْك بطلعة ... أغنتهما عَن وابل هطال) (كرم لكم أدريه يَوْم أفاضه ... عني سُلَيْمَان باي سِجَال) (وهب الألوف وَكَانَ أكْرم منزل ... يسلى الْغَرِيب ببره المتوال) (يَوْم التشرف لي بلثم يَمِينه ... وتمتعي من وَجهه بِجَمَال) (وتلذذي بخطابه المعسول إِذْ ... حفت بِهِ للدرس أَي رجال) (لم أنسه يَوْمًا حسبت نعيمه ... بلذائذ الجنات ضرب مِثَال) (عجبا لَهُ يحيي الْقُلُوب بِعِلْمِهِ ... وَيُمِيت جند الْفقر مِنْهُ بِمَال) (وَإِذا تقلد للوغي فحسامه ... تعنو الرّقاب لَهُ بِدُونِ قتال) (تتلوه بِالْفَتْح الْمُبين عَسَاكِر ... قد أرهفت بالنصر حد نصال) (تخشى الْمُلُوك مقَامه ولذكره ... رعْبًا تطير فرائص الْأَبْطَال) (وينال آمله بخفض جنَاحه ... ماليس يخْطر قطّ مِنْهُ ببال) (حَتَّى سعى لصفي منهله الَّذِي ... يسْعَى لمروته ذَوُو الأثقال) (وَأَتَتْ لمغربه الشريف مَشَارِق ... وَالشَّمْس تغرب لاقْتِضَاء كَمَال) (لما تكدر صفوها بضلاله ... جَاءَتْهُ كَيْمَا ترتوي بزلال) (وَمَتى تخلف عَاجز فبقلبه ... يسْعَى لفعل شَعَائِر الإجلال) (أُمْنِية وَقعت أَشرت لذكرها ... فِي مدحه قدما بِصدق مقَال) (تهوى الْمَشَارِق أَن تكون مغاربا ... لتنال من جدواه كل منال) (يَا فَخر دين الله مِنْهُ بناصر ... وسعادة الدُّنْيَا بِهِ من وَال) (لَا تفتخر فاس وَلَا مراكش ... بولائه كل الْأَنَام موَالٍ) (أَو لَيْسَ فِي كل الْبِقَاع ثَنَاؤُهُ ... ورد البكور وسحة الآصال) (أَو لم يشد للدّين وَالْعُلَمَاء ... والأشراف والصلحاء أَي جلال) (أَو لم يعم بجوده أقطارها ... لَا فرق بَين جنوبها وشمال) (أَو لم يسر ركبانها بمحاسن ... ضاءت لَهَا سرج بجنح لَيَال) (أَو لَيْسَ أَحْيَا سنة العمرين فِي ... زمن إِلَى بدع الْهوى ميال) (شيم يهز الراسيات سماعهَا ... ويعجن فِي أنف الزَّمَان غوال) (أَوْصَاف والدك الإِمَام المرتضى ... للدّين وَالدُّنْيَا بِحسن خلال) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 (ذَاك الرّبيع أَبُو الرّبيع وَمن بِهِ ... حيى الْهدى وَشَرَائِع الأفضال) (كل الْكَمَال لَهُ وَأَنت مقره ... وَالْفرع عين الأَصْل عِنْد مَال) (يَا ابْن المليك ابْن المليك ابْن المليك ... ابْن المليك سلالة الْأَقْيَال) (أنسيتم ذكر العباسية الأولى ... زَالُوا وَمَا زَالُوا بِعَين جلال) (لكم الفخار بِذَاتِهِ وسواكم ... مستمسك من فخركم بظلال) (ولي الفخار بِأَن نسجت مديحكم ... حللا تَجِد وكل شَيْء بَال) (أملي مَعَانِيهَا على ودادكم ... فَجرى بِهِ طبع كَمَا السلسال) (وَلَو أنني حاولت مدح سواكم ... عقل القريحة عَنهُ أَي عقال) (فَكَأَنَّمَا طبعي شرِيف حَيْثُمَا ... لَا يَهْتَدِي لسوى مديح الْآل) (أَو قد درى أَن المديح تعرض ... وسواكم لَا يرتضي لسؤال) (أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم ... مختاركم لإنالة الآمال)) (وأدام لِلْإِسْلَامِ والدك الَّذِي ... هُوَ رَحْمَة وسعت بِغَيْر جِدَال) (وَعَلَيْكُم وعَلى الَّذِي يهواكم ... أزكى الرضى من حَضْرَة المتعال) (مَا دَامَ ذكركُمْ بِكُل صحيفَة ... تبعا لِأَحْمَد سيد الْإِرْسَال) (صلى عَلَيْهِ مُسلما رب الورى ... وعَلى مقدم حزبه والتالي) وعزز هَذِه القصيدة بِمِثْلِهَا بحرا وقافية ورويا الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج الفاسي يَقُول فِي مطْلعهَا (بِشِرَاك إِبْرَاهِيم بالإقبال ... إقبال عز لم يكن بالبال) وَهِي طَوِيلَة تركناها اختصارا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْمولى عَليّ ابْن الْمولى أَحْمد الوزاني وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِلَاد الرِّيف وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان أَن قبائل الرِّيف من قلعية وَغَيرهم صَارُوا يبيعون الزَّرْع لِلنَّصَارَى ويسوقونه من بِلَادهمْ فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي على جَيش كثيف وأنفذه إِلَيْهِم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فَسَار الْعَامِل الْمَذْكُور وَقصد قلعية عش الْفساد وَلما شارفها سرب إِلَيْهِم العساكر فنهبوا أَمْوَالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أَرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابْن المدلق ثمَّ بَث عماله فِي تِلْكَ الْقَبَائِل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وَعَاد ظافرا وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ صباح يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام خَاتِمَة الْمُحَقِّقين بالمغرب سَيِّدي مُحَمَّد الطّيب بن عبد الْمجِيد بن عبد السَّلَام ابْن كيران الفاسي صَاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وَشرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَغير ذَلِك من التآليف الْمَعْرُوفَة والموجودة بأيدي النَّاس ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان ثَانِيًا أَن أهل الرِّيف لَا زَالُوا مقيمين على بيع الزَّرْع لِلنَّصَارَى وَأَنَّهُمْ أضافوا إِلَى بيع الزَّرْع بيع الْمَاشِيَة وَقد كَانَ السُّلْطَان منع النَّصَارَى من وسق ذَلِك بالمراسي فافتات هَؤُلَاءِ الْقَوْم على السُّلْطَان وأعطوهم من ذَلِك مَا أَرَادوا طَمَعا فِي الرِّبْح وَكَانَ السُّلْطَان قد تقدم إِلَى الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي فِي كفهم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم وأضافهم إِلَى من كَانَ إِلَى نظره من أهل الْجَبَل والثغور فَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِم وَرُبمَا قبض أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم على سفلتهم مِمَّن يتعاطى ذَلِك ويبعثون بهم إِلَيْهِ فيسرحهم على طمع فاتسع الْخرق وَصَارَ كلهم يفعل ذَلِك وَلما تحقق السُّلْطَان بفعلهم أَمر رُؤَسَاء قراصينه أَن يذهبوا إِلَى جِهَة الرِّيف ومراسيها وكل من عثروا عَلَيْهِ بهَا من مراكب النَّصَارَى فليأخذوه فَسَارُوا وقبضوا على بعض النَّصَارَى فأسروهم وَلم يقنعه ذَلِك حَتَّى أَمر بغزو الرِّيف وعزم على النهوض إِلَيْهِم بِنَفسِهِ وَأذن فِي النَّاس بذلك وجهز العساكر مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي وَوجه مَعَه وَلَده الْمولى إلراهيم بعساكر الثغور وعرب سُفْيَان وَبني مَالك فَسَارُوا على طَرِيق الْجَبَل وَخرج السُّلْطَان من فاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ السوَاد الْأَعْظَم فسلك الجادة إِلَى تازا وكارت حَتَّى نفذ إِلَى بِلَاد الرِّيف فَلم يرعهم إِلَّا العساكر مُحِيطَة بهم من كل وَجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم وَاسْتَخْرَجُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 أمراسهم ودفائنهم وَولى السُّلْطَان عَلَيْهِم أَحْمد بن عبد الصَّادِق الريفي وَتَركه فِي بِلَادهمْ فِي حِصَّة من الْعَسْكَر يستخلص مِنْهُم الْأَمْوَال وَعَاد السُّلْطَان إِلَى دَار ملكه مؤيدا منصورا خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتمهيدها ثمَّ دُخُوله مراكش كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله قد ولى على قبائل تامسنا الْقَائِد كريران الحريزي فَيُقَال إِنَّه أَسَاءَ السِّيرَة فيهم فنبذوا طَاعَته وَخَرجُوا عَلَيْهِ فَقدم على السُّلْطَان مستصرخا عَلَيْهِم فَخرج إِلَيْهِم فِي العساكر سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتقدم إِلَى جيرانهم من الْقَبَائِل بِأَن يزحفوا إِلَيْهِم من خَلفهم فَفَعَلُوا وهجم هُوَ عَلَيْهِم من أمامهم وأوقع بهم وقْعَة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وفر مِنْهُم طَائِفَة فعبروا وَادي أم الرّبيع زمَان مُدَّة فَهَلَك جلهم ثمَّ ترك فيهم عَامله فِي حِصَّة من الْجند وَأمره باستخلاص الْأَمْوَال مِنْهُم وَتقدم هُوَ إِلَى نَاحيَة مراكش لقمع أهل الْفساد من قبائل الْحَوْز مثل دكالة وَعَبدَة والشياظمة الَّذين خَرجُوا أَيْضا على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق صَاحب الصويرة فَأصْلح من شَأْنهمْ وعزله عَنْهُم لما علمه من سوء سيرته فيهم وَنَقله من الصويرة إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى فاس فولى أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد على عَسْكَر القلعة بمراكش وَعَاد رَحمَه الله إِلَى الغرب وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْحَاج الرهوني صَاحب الْحَاشِيَة الْكَبِيرَة على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل وَغَيرهَا من التآليف النافعة والخطب البارعة وَبَاعه فِي الْعُلُوم خُصُوصا الْفِقْه مُقَرر مَعْلُوم رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْعَالم الْعَارِف الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 شيخ الطَّائِفَة التجانية وَكَانَت وَفَاته بفاس المحروسة وضريحه بهَا شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل رَحمَه الله ونفعنا بِهِ غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان قبائل الصَّحرَاء وإيقاعة بآيت عطة وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان أَن بعض قبائل الصَّحرَاء كعرب الصَّباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بِالْفَسَادِ وَعظم ضررهم واستولوا على قُصُور المخزن الَّتِي هُنَالك من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل فعقد لِابْنِهِ الْمولى إِبْرَاهِيم على جَيش كثيف وَوَجهه إِلَيْهِم فَسَار وَنزل أَولا على قُصُور الْعَرَب وَنصب عَلَيْهِم آلَة الْحَرْب فبددهم ثمَّ زَاد إِلَى قُصُور آيت عطه فنصب عَلَيْهِم الْآلَة كَذَلِك وضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ فطلبوا أَن يفرج بالجيش عَنْهُم قَلِيلا حَتَّى يخرجُوا بعيالهم خوفًا من معرة الْجَيْش فأشفق لَهُم وَأَفْرج عَنْهُم وَكَانَ ذَلِك مكيدة مِنْهُم فَلَمَّا نفس عَن مخنقهم أدخلُوا مَعَهم مَا شاؤوا من رجال وَسلَاح وقوت وتمادوا على الْحَرْب فَسقط فِي يَد الْمولى إِبْرَاهِيم وَحمى أَنفه وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من أعيانهم رهنا عِنْده فَقتل طَائِفَة مِنْهُم وسَاق نَحْو الْمِائَة إِلَى فاس فَقَتلهُمْ بِبَاب المحروق وَلما أنهى خبر فعلة البربر إِلَى السُّلْطَان عَابَ على ابْنه إفراجه عَنْهُم أَولا وَقتل الرهائن ثَانِيًا ثمَّ أَنهم أوفدوا جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان راغبين إلية أَن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وَقَالَ لَهُم لَا بُد لي من الْوُصُول إِلَى تِلْكَ الْقُصُور إِن شَاءَ الله حَتَّى تكون لي أولكم وَلما انْسَلَخَ رَمَضَان من السّنة وَأقَام سنة عيد الْفطر شرع فِي تجهيز العساكر إِلَى الصَّحرَاء وقمع ظلمَة آيت عطه ثمَّ بعث فِي مقدمته السوَاد الاعظم من جَيش العبيد وَعقد عَلَيْهِم لوصيفه الأنجب الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الحاتم وَبعث مَعَه الطبجية بالمدافع والمهاريس وَآلَة الْحصار وَالْهدم فَخَرجُوا من فاس فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 زِيّ فاخر وشوكة تَامَّة وَبعد انفصالهم عَنْهَا طَرَأَ على السُّلْطَان من بعض الثغور البحرية خبر بِأَن عمَارَة الْعَدو تروج بالبحر وتجتمع عِنْد جبل طَارق وَلم ندر إِلَى أَيْن تُرِيدُ فَتَأَخر السُّلْطَان عَن الْخُرُوج حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ أَمر هَذِه الْعِمَارَة ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بِأَنَّهَا قد قصدت ثغر الجزائر وَأصَاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدّور والمساجد وَحرق الْأَشْجَار شَيْئا كثيرا لَكِن لما رجعُوا مفلولين مقتولين هان الْأَمر وصغرت الْمُصِيبَة وَلما جَاءَ البشير بانهزام الفرنج عَن الجزائر قوي عزم السُّلْطَان على مُتَابعَة من وَجه من عسكره إِلَى الصَّحرَاء فَخرج فِي غرَّة ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فِيمَن تخلف مَعَه من الْعَسْكَر وقبائل الْعَرَب والبربر وجد السيرإلى أَن عمر وَادي ملوية فَلَقِيَهُ البشير هُنَالك بِخَبَر الْفَتْح والاستيلاء على الْقُصُور وَقتل أَهلهَا وَسَبْيهمْ وَنهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السّير إِلَى أَن خيم بأغريس وَمِنْهَا كتب إِلَى الْقَائِد أَحْمد أَن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على الْقُصُور الخربات الَّتِي بهَا آيت عطة فَاجْتمعُوا مَعَ السُّلْطَان بهَا ونصبوا عَلَيْهَا المدافع والمهاريس ودام الرَّمْي عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى كثر الْهدم وَالْقَتْل وعاينوا الْمَوْت الْأَحْمَر فأرسلوا إِلَى السُّلْطَان النِّسَاء وَالصبيان للشفاعة فِي الْخُرُوج بؤوسهم فَأَمنَهُمْ وَلما جن اللَّيْل خَرجُوا حاملين أَوْلَادهم على ظُهُورهمْ خوفًا من معرة الْجَيْش وَلما أصبح السُّلْطَان أَمر بِنَهْب مَا فِي الْقُصُور من الْقُوت وَالْمَتَاع والكراع وكمل فتح هَذِه الْأَمَاكِن الَّتِي كَانَت نقمة لأهل ذَلِك الْقطر الصحراوي وَلما من الله على السُّلْطَان بِهَذَا الْفَتْح شكر صنع الله لَهُ بِأَن فرق على الْعَسْكَر وقبائل تِلْكَ الأقطار مَا وسعهم من الْخيرَات قَالَ صَاحب الْجَيْش أعْطى الشرفاء مائَة ألف مِثْقَال غير مَا كَانَ يعطيهم فِي كل سنة وَقسم رَحمَه الله ذَلِك بِخَط يَده فَكتب لدار مولَايَ عبد الله كَذَا ولشريفات حموبكة كَذَا ولشرفاء تافيلالت كَذَا ولشرفاء تيزيمي وَأَوْلَاد الزهراء كَذَا ولشرفاء الرتب كَذَا ولشرفاء مدغرة كَذَا ولشرفاء زيز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 والخنق والقصابي كَذَا وَأعْطى الطّلبَة والعميان والمقعدين والزمنى وزوايا تافيلالت مائَة ألف مِثْقَال قسم ذَلِك بِخَط يَده أَيْضا وَجعل للفقيه الْمدرس أَرْبَعَة أسْهم وَلغيره سَهْمَيْنِ والسهم من كَذَا وللطالب الَّذِي يحفظ الْقُرْآن برسمه حَتَّى صفا لوحه سَهْمَان وَلغيره سهم والسهم من كَذَا وَلَا فرق بَين الْأَحْرَار والحراطين وَلكُل وَاحِد من الضُّعَفَاء والعمى والمقعدين كَذَا الْأَحْرَار والحراطين سَوَاء وللزوايا كَذَا فلزاوية الشَّيْخ سَيِّدي الْغَازِي كَذَا ولزاوية سَيِّدي أبي بكر بن عمر كَذَا ولزاوية سَيِّدي أَحْمد الحبيب كَذَا ولزاوية سَيِّدي عَليّ بن عبد الله كَذَا ولزاوية ضريح مَوْلَانَا عَليّ الشريف كَذَا ولمقبرة أخنسوس كَذَا وَوجه المَال مَعَ الْأمين السَّيِّد الْمُعْطِي مرينو الرباطي وَأمر الشرفاء أَن يعينوا أَرْبَعِينَ من ثقاتهم وأمنائهم حَتَّى لَا تقع زِيَادَة فِيمَا كتبه بِيَدِهِ وَلَا نُقْصَان وَأمر القَاضِي أَن يعين عشرَة من الطّلبَة وَعشرَة من الْعَوام للْقِيَام على تَفْرِقَة ذَلِك ثمَّ أعْطى المدرسين زِيَادَة على مَا تقدم وَكَذَا الْأَئِمَّة والمؤذنين وَلم ينس أحدا كل ذَلِك بِخَط يَده رَحمَه الله قَالَ صَاحب الْجَيْش وَلَا زَالَ هَذَا الزِّمَام عِنْدِي ثمَّ بعد قَضَاء وطره من الزِّيَارَة والصلة توجه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة لتفقد أَحْوَال جَيش الْحَوْز الَّذِي كَانَ وَجهه من مراكش لإقليم درعة فَبَلغهُ أثْنَاء الطَّرِيق أَن آيت عطه الَّذين بدرعة لما سمعُوا بِقُرْبِهِ مِنْهُم خَرجُوا من الْقُصُور هاربين وتركوها يبابا وتحصنوا بجبل صاغرو وَلما دخل السُّلْطَان مراكش سرح العساكر إِلَى السوس لتفقد أَحْوَاله وجباية أَمْوَاله وتمهيد أَطْرَافه وَأخذ هُوَ رَحمَه الله فِي استصلاح قبائل الْحَوْز من دكالة وَعَبدَة والشياظمة فَقتل وَعزا وسجن وَولى من ولى وطهر تِلْكَ الْأَعْمَال من وُلَاة السوء الَّذين كَانُوا بهَا وَعَاد إِلَى حَضرته بفاس وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دَخلهَا أَخذ فِي تجهيز ولديه الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج إِلَى أَن استوفى الْغَرَض فِي ذَلِك وَعين من يتَوَجَّه مَعَهُمَا من الخدم والتجار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَسَائِر الْحَاشِيَة وخرجا مَعَ الركب النَّبَوِيّ على الْهَيْئَة الْمَعْهُودَة فِي حفظ الله وَفِي هَذِه السّنة عزل السُّلْطَان وصيفه ابْن عبد الصَّادِق عَن فاس وَولى عَلَيْهَا كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الرِّفَاعِي الرباطي الْمَدْعُو القسطالي كَانَ يعلم أَوْلَاده فنقله عَن ذَلِك إِلَى مرتبَة الْولَايَة وأوصاه أَن يسير بِالْعَدْلِ فِي الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين ويشتد على الفجرة والمتمردين وَفِي هَذِه السّنة عَشِيَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْمُحَقق الأديب البليغ أَبُو الْفَيْض حمدون بن عبد الرَّحْمَن بن حمدون بن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ المرداسي الشهير بِابْن الْحَاج صَاحب التآليف الْحَسَنَة والفوائد المستحسنة والخطب النافعة وَالْحكم الجامعة رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف عزل السُّلْطَان الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس عَن فاس لعَجزه عَن الْقيام بالخطة وَولى على فاس خديمه الْحَاج أَبَا عبد الله مُحَمَّد الصفار من بَيت رياسة وَفِي هَذِه السّنة أبطل السُّلْطَان الْجِهَاد فِي الْبَحْر وَمنع رؤساءه من القرصنة بِهِ على الْأَجْنَاس وَفرق بعض قراصينه على الإيالات الْمُجَاورَة مثل الجزائر وطرابلس وَمَا بَقِي مِنْهَا أنزل مِنْهَا المدافع وَغَيرهَا من آلَة الْحَرْب وَأعْرض عَن أَمر الْبَحْر رَأْسا بعد أَن كَانَت قراصين الْمغرب أَكثر وَأحسن من قراصين صَاحب الجزائر وتونس قَالَه منويل وَفِي هَذِه السّنة قدم ولدا السُّلْطَان الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر من الْمشرق مَعَ الركب ونزلوا بثغر طنجة وَكَانَ السُّلْطَان قد بعث إِلَيْهِمَا بمركب من مراكب النجليز فَانْتهى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وحملهما وَمن مَعَهُمَا من الخدم والتجار وَسَائِر الْحَاج وَلما نزلُوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب فَقَالَ النَّاس إِن ذَلِك بسببهم فانتشر أَولا بِتِلْكَ السواحل وَمِنْهَا شاع فِي الحواضر والبوادي إِلَى أَن بلغ فاسا ومكناسة فِي بَقِيَّة الْعَام وَلما دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف شاع الوباء وَكثر فِي بِلَاد الغرب فَتوجه السُّلْطَان إِلَى مراكش وَكَانَ الْأَمر لَا زَالَ مُحْتملا ثمَّ زَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وتفاحش حَتَّى أصَاب النَّاس مِنْهُ أَمر عَظِيم وَفِي هَذَا الوباء توفّي الشَّيْخ المرابط الْبركَة سَيِّدي الْعَرَبِيّ ابْن الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي الْمُعْطى بن الصَّالح الشرقاوي وضريحه شهير بِأبي الْجَعْد رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وأسلافه آمين وقْعَة ظيان وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما وصل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب مِنْهَا ثمَّ أَخذ فِي الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة وَعرفت الْوَقْعَة بوقعة ظيان فَخذ مِنْهُم فحشد السُّلْطَان رَحمَه الله عرب الْحَوْز كلهم وَكتب إِلَى العبيد بمكناسة يَأْمُرهُم أَن يوافوه بتادلا وَكتب إِلَى وَلَده وخليفته بفاس الْمولى إِبْرَاهِيم أَن يوافيه بهَا بِجَيْش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وَكَانَ النَّاس يَوْمئِذٍ فِي شدَّة من هَذَا الوباء الَّذِي عَم الحواضر والبوادي وَكَانَ السُّلْطَان لما أَخذ فِي استنفار هَذِه الْقَبَائِل لَا علم لَهُ بتفاحش الوباء بالمغرب وَكَانَ الْوَاجِب على ابْن السُّلْطَان أَن يعلم أَبَاهُ بِمَا النَّاس فِيهِ من فتْنَة الوباء فيعفيهم من الْغَزْو أَو يُؤَخِّرهُ إِلَى يَوْم مَا فَجمع ولد السُّلْطَان الجموع وجلهم كَارِه وَسَار لميعاد أَبِيه فوافاه بتادلا فَاجْتمع للسُّلْطَان فِيمَا يُقَال من الجيوش نَحْو سِتِّينَ ألفا وزحف إِلَى البربر فَانْتهى إِلَى بسيط آدخسان وَبهَا مزارع البربر وفدنها فَأرْسل السُّلْطَان الجيوش فِي تِلْكَ الزروع وَكَانَت شَيْئا كثيرا فَأتوا عَلَيْهَا وَبعث البربر إِلَيْهِ بنسائهم وولدانهم للشفاعة وَأَن يدفعوا للسُّلْطَان كل مَا يَأْمُرهُم بِهِ من المَال وينصرف عَنْهُم فَأبى وزحف إِلَيْهِم فَقَاتلهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل وَلَقَد أَخْبرنِي من حضر الْوَقْعَة أَن الْمُقَاتلَة كَانَت فِي هَذَا الْيَوْم من عرب الغرب وَمن برابرة زمور وجروان وآيت أدراسن إِلَّا أَن الْقَتْل استحر فِي الْعَرَب دون البربر وَذَلِكَ أَن كَبِير زمور الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي دس إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 ظيان بأنما نَحن وَأَنْتُم وَاحِد فَإِذا كَانَ اللِّقَاء فَلَا ترمونا وَلَا نرميكم إِلَّا بالبارود وَحده وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما قدمهم لِلْقِتَالِ فِي أول يَوْم مِنْهُ وَأخر عرب الْحَوْز استرابوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يصدم بَعضهم بِبَعْض وتسلم لَهُ الْعَرَب فَفعل ابْن الْغَازِي مَا فعل وَلما رَاح مقاتلة الْعَرَب مَعَ الْعشي أخبروا السُّلْطَان بِأَن هَؤُلَاءِ البربر الَّذين مَعَه لَا أَمَان فيهم وَإِنَّمَا ظلوا يترامون بالبارود لَا غير وَلأَجل ذَلِك قد هلك من إِخْوَاننَا كثير وَلم يهْلك مِنْهُم أحد فأسرها السُّلْطَان فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَلما كَانَ الْغَد وَركب النَّاس لِلْقِتَالِ أرسل إِلَى البربر أَن لَا يركب مِنْهُم أحد وَقَالَ لَهُم إِنِّي أردْت أَن أجرب الْعَرَب الْيَوْم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطَّاعَة وَتقدم الْعَرَب إِلَى الْقِتَال وَأقَام البربر فِي أخبيتهم إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ ركبُوا خيولهم وتسابقوا إِلَيْهَا عَن آخِرهم قَالَ الْمخبر بِهَذَا الْخَبَر شاهدتهم سَاعَة ركبُوا فَكنت لَا ألتفت إِلَى جِهَة إِلَّا رَأَيْتهَا حَمْرَاء من كَثْرَة سروجهم الَّتِي كَانَت على ظُهُور الْخَيل إِذْ ذَاك ثمَّ تصايحت البربر فِيمَا بَينهَا وَتَقَدَّمت براياتها إِلَى الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْقِتَال وَأتوا من خلف الْعَرَب الَّذين كانو فِي نحر الْعَدو وهم يتصايحون فَلم يردهم إِلَّا صياح البربر من خَلفهم وراياتهم قد أطلت عَلَيْهِم من كل جِهَة وَكَانَت شَيْئا كثيرا فظنوا أَن ظيان قد التحفتهم من خَلفهم فخشعت نُفُوسهم وفشلوا وَرَجَعُوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فَأَخَذتهم البربر من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم يقتلُون ويسلبون وَحصل انزعاج كَبِير فِي الْمحلة وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهَا وَلم يبْق بهَا إِلَّا جَيش الودايا وَالْعَبِيد هَكَذَا أَخْبرنِي من شَاهد هَذِه الْوَقْعَة مِمَّن يوثق بِهِ وسَاق صَاحب الْجَيْش الْخَبَر عَنْهَا بِأَن قَالَ كَانَ انخذال برابرة زمور بِرَأْي كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي وَكَانَت لَهُ وجاهة فِي الدولة وَكَانَ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن يساميه فِي الْمنزلَة وَلما خرج الْمولى إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزْوَة كَانَ ابْن واعزيز قد حظي لَدَيْهِ حَتَّى صَار من أخص ندمائه فَنَفْس ابْن الْغَازِي عَلَيْهِ ذَلِك ودبر بِأَن جر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 الْهَزِيمَة على الْجَيْش أجمع فَإِنَّهُ أظهر الْفِرَار وَقت اللِّقَاء حَتَّى سرى الفشل فِي النَّاس وانهزموا ثمَّ عطفت البرابر مَعَ الْعشي على محلّة السُّلْطَان فشرعوا فِي نهبها وأحاط عَسْكَر العبيد بهَا من كل جِهَة وصاروا يُقَاتلُون البربر على أَطْرَاف الأخبية وَلما أقبل الْمسَاء ترك العبيد الأخبية وأرزوا إِلَى أفراك السُّلْطَان وَصَارَ الْقِتَال على أفراك إِلَى وَقت الْعشَاء فَهَلَك من العبيد خلق كثير وَصَارَ الْقِتَال بِالسُّيُوفِ والرماح وَمَا زَالَ أَصْحَاب السُّلْطَان يترسون عَلَيْهِ بِأَنْفسِهِم حَتَّى عجزوا عَن الدفاع وخلص البربر إِلَى السُّلْطَان وَأَرَادَ رجل مِنْهُم يُقَال إِنَّه من بني مكيلد أَن يجرده فَأعلمهُ بِأَنَّهُ السُّلْطَان فاستحلفه الْبَرْبَرِي فَحلف لَهُ فَنزل عَن فرسه وأركبه وطار بِهِ إِلَى خيمته وَكَانَ البربر يلقونه وَهُوَ ذَاهِب بِهِ فَيَقُولُونَ من هَذَا الَّذِي مَعَك فَيَقُول أخي أَصَابَته جِرَاحَة وَلما وصل بِهِ إِلَى خيمته أعلن بِأَنَّهُ السُّلْطَان فَأَقْبَلت نسَاء الْحَيّ من كل جِهَة يفرحن ويضربن بِالدُّفُوفِ ثمَّ جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا بِهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ إعجابا بِهِ حَتَّى أضجرنه وَلما جَاءَ رجال الْحَيّ أعظموا حُلُوله بَين أظهرهم وأجلوه وَسعوا فِيمَا يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ فَلم يقر لَهُ قَرَار مَعَهم وَيُقَال إِنَّه بَقِي عِنْدهم ثَلَاثًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب أسفا على مَا أَصَابَهُ إِلَّا أَنه كَانَ يسد رمقه بِشَيْء من الحليب وَالتَّمْر وتنصل البربر لَهُ مِمَّا شجر بَينهم وَبَينه وأظهروا لَهُ غَايَة الخضوع والاستكانة حَتَّى أَنهم كتفوا نِسَاءَهُمْ وقدموهن إِلَيْهِ مستشفعين بِهن على عَادَتهم فِي ذَلِك وَبعد ثَلَاث أركبوه وَقدمُوا بِهِ فِي جمَاعَة من الْخَيل إِلَى قَصَبَة آكراي فنزلوا بِهِ قَرِيبا مِنْهَا وَبعث رَحمَه الله إِلَى مكناسة يعلم الْجَيْش بمكانه فجاؤوه مُسْرِعين وَدخل مكناسة بعد أَن أحسن إِلَى ذَلِك الْفَتى الْبَرْبَرِي وَإِلَى جَمِيع أهل حيه غَايَة الْإِحْسَان وَأمر رَحمَه الله أَن يعْطى لكل من أَتَى سليبا من المنهزمين حائك وَثَلَاثُونَ أُوقِيَّة فَفرق من ذَلِك شَيْئا كثيرا بِبَاب مَنْصُور العلج من مكناسة وَأُصِيب الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان فِي هَذِه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 الْوَقْعَة بجراحات معظمها فِي رَأسه فَحمل جريحا إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا وَكَانَت مصيبته على السُّلْطَان أعظم مِمَّا أَصَابَهُ فِي نَفسه وَالْأَمر لله وَحده قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ السُّلْطَان الحازم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لَا يرد الشَّفَاعَة فِي مثل هَذَا الْمقَام وَرُبمَا دس إِلَى من يظْهر ذَلِك صُورَة حَتَّى يكون نهوضه عَن عز وَذَلِكَ من حسن سياسته وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة الفادحة سَبَب سُقُوط هَيْبَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من قُلُوب الرّعية فَلم يمتثل لَهُ بعْدهَا أَمر فِي عصاتها حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى وَلما دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله حبالة الطمع وكادهم بهَا بِأَن صَار كلما وَفد عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم كساها وَأحسن إِلَيْهَا فتسامعوا بذلك فقادهم الطمع إِلَى أَن وَفد عَلَيْهِ مِنْهُم فِي مرّة وَاحِدَة سَبْعمِائة فَارس من أعيانهم فَقبض عَلَيْهِم وجردهم من الْخَيل وَالسِّلَاح وأودعهم السجْن ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على كل من وجد مِنْهُم بسوق مكناسة وصفرو فَقبض بصفرو على نَحْو الثلاثمائة من آيت يوسي وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك فتْنَة البربر على سَاق فَإِنَّهُم امتعضوا لمن قبض عَلَيْهِ من إخْوَانهمْ وزحفوا إِلَى مكناسة وحاصروها وجاؤوا مَعَهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا وَاحِدَة على كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب وَكَانَ مهاوش فِي هَذِه الْأَيَّام قد أَمر أمره لِأَنَّهُ لما عزم السُّلْطَان على غزوهم كَانَ يعدهم بِأَن الظُّهُور يكون لَهُم فَلَمَّا صدق عَلَيْهِم ظَنّه اعتقدوه وافتتنوا بِهِ وزحفوا إِلَى مكناسة فضيقوا على السُّلْطَان بهَا فَجعل رَحمَه الله يعالج أَمرهم بِالْحَرْبِ تَارَة وَالسّلم أُخْرَى إِلَى أَن طلبُوا مِنْهُ أَن يسرح لَهُم إخْوَانهمْ ويرجعوا إِلَى الطَّاعَة وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فسرحهم لَهُم على يَد المرابط أبي مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَلَمَّا ظفروا بإخوانهم نقضوا الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم المرابط الْمَذْكُور وعادوا إِلَى العيث وإفساد السابلة ثمَّ تَبِعَهُمْ على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ذَلِك قبائل الْعَرَب وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَاشْتَدَّ الْأَمر وَبلغ الحزام الطبيين وَللَّه در الْعَلامَة أبي مَرْوَان عبد الْملك التاجموعتي إِذْ يَقُول (هم البرابر لَا ترجو نوالهم ... وسل من الله تَعْجِيل النَّوَى لَهُم) (لَا بلغ الله قلبا مِنْهُم أملا ... وَبلغ الله قلبِي مَا نوي لَهُم) ثمَّ لما سَقَطت هَيْبَة السُّلْطَان وَزَالَ وقعه من الْقُلُوب سرى فَسَاد الْقَبَائِل إِلَى الْجند فَإِن العبيد عَادوا على كَبِيرهمْ الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الْخَاتم فَقَتَلُوهُ افتياتا على السُّلْطَان مَعَ أَنه كَانَ من أخص دولته لنجابته وكفايته وديانته واعتماد السُّلْطَان عَلَيْهِ فِي سَائِر مهماته وَلما قَتَلُوهُ اعتذروا للسُّلْطَان بأعذار كَاذِبَة فَقبل ظَاهر عذرهمْ وطوى لَهُم على الْبَتّ قَالَ أكنسوس كَانَ الْقَائِد أَحْمد وَأَبَوَاهُ وَإِخْوَته قد أَعْطَاهُم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لِابْنِهِ الْمولى سُلَيْمَان فَنَشَأَ الْقَائِد أَحْمد فِي كفَالَته وتخلق بأخلاقه من زمن الصِّبَا إِلَى مماته وَكَانَت حَيَاته مقرونة بسعادة السُّلْطَان الْعَادِل الْمولى سُلَيْمَان فَإِنَّهُ من يَوْم قتل رَحمَه الله سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف لم يلتئم شَمل المملكة حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور ذكر آل مهاوش وأوليتهم وَمَا آل إِلَيْهِ أَمرهم أما الَّذِي كَانَ مِنْهُم فِي دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فاسمه مُحَمَّد وناصر وَالْوَاو فِي لُغَة البربر بِمَعْنى ابْن وَكَانَ وَالِده مرابطا من آيت مهاوش فرقة من آيت سخمان مِنْهُم وَكَانَ جده أَبُو بكر من أَتبَاع الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي رَحمَه الله وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور قد جرى فِي مَجْلِسه يَوْمًا ذكر الدَّجَّال فَقَالَ الشَّيْخ لَا يخرج الدَّجَّال حَتَّى تخرج دجاجيل من جُمْلَتهمْ مهاوش وَمَعْنَاهُ من جُمْلَتهمْ ولد هَذَا الرجل فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ لما شب مُحَمَّد وناصر قَرَأَ الْقُرْآن والعربية وَالْفِقْه وَحصل على طرف من علم الشَّرِيعَة ثمَّ تنسك وتزهد وَلبس الخشن فَيُقَال إِنَّه حصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 لَهُ نوع من الْكَشْف شاع بِهِ خَبره عِنْد البربر وأكبوا عَلَيْهِ واشتهر أمره أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَلما انْتهى أمره نَهَضَ إِلَى قَبيلَة جروان الَّذين كَانُوا يخدمونه فنهبهم بِسَبَبِهِ وفر مهاوش إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَبَقِي مختفيا إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى يزِيد رَحمَه الله وَكَانَ قد اتَّصل بمهاوش قبل ولَايَته وَذَلِكَ حِين فر من وَالِده ولجأ إِلَيْهِ حَسْبَمَا مر فآواه مهاوش وَأحسن إِلَيْهِ وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمَذْكُور وَفد عَلَيْهِ مهاوش فِي جمَاعَة من قومه ففرح بهم الْمولى يزِيد وَأعْطى مهاوش عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى الَّذين قدمُوا مَعَه مائَة ألف ريال وَلما هلك مُحَمَّد وناصر هَذَا ترك عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو بكر وَمُحَمّد وَالْحسن إِلَّا أَنهم تبعوا سيرة أَبِيهِم فِي مُجَرّد التدجيل والتمويه على جهلة البربر وتثبيطهم على طَاعَة السُّلْطَان وَلم يكن مَعَهم مَا كَانَ مَعَ والدهم من التظاهر بِالْخَيرِ وَالدّين فَأمر أَمرهم عِنْد أهل جبل فازاز واعتقدوهم ووقفوا عِنْد إشارتهم ثمَّ لما جَاءَت دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله واتفقت لَهُ الْهَزِيمَة الَّتِي مر ذكرهَا وأمتلأت أَيدي البربر من خيل المخزن وسلاحه وأثاث الْجند وفرشه بطروا وَظهر لَهُم إِن ذَلِك إِنَّمَا نالوه ببركة مهاوش لِأَنَّهُ كَانَ يعدهم بِشَيْء من ذَلِك فَتمكن ناموسه من قُلُوبهم واستحكمت طاعتهم لَهُ وتمردوا على السُّلْطَان بِسَبَب مَا كَانُوا يسمعُونَ مِنْهُ إِلَّا أَن كَيده كَانَ قاصرا على أهل لِسَانه ووطنه لَا يتعداهم إِلَى غَيرهم ثمَّ بعد ذَلِك بِزَمَان انطفأ ذباله وَلم يزل فِي انتقاص إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره حُدُوث الْفِتْنَة بفاس وقيامهم على عاملهم الصفار لما توالت هَذِه الْفِتَن على السُّلْطَان رَحمَه الله وانفتقت عَلَيْهِ الفتوق وَصَارَ النَّاس كَأَنَّهُمْ فوضى لَا سُلْطَان لَهُم قَامَ عَامَّة أهل فاس على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد الصفار فأرادوا عَزله وتعصبت لَهُ طَائِفَة من أهل عدوته وافترقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 الْكَلِمَة بفاس حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء وَنهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من أَعلَى منار مَسْجِد الرصيف وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمكناسة يعالج دَاء البربر فزاده ذَلِك وَهنا على وَهن فَكتب إِلَى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وَأمر ابْنه الْمولى عليا أَن يقرأه عَلَيْهِم فَجَمعهُمْ وقرأه عَلَيْهِم حَتَّى سَمِعُوهُ وفهموه وَنَصّ الْكتاب الْمَذْكُور بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم إِلَى أهل فاس السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِن العثماني بإصطنبول وَأمره ممتثل بتلمسان والهند واليمن وَمَا رَأَوْهُ قطّ وَلَكِن أَمر الله يمتثلون {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن} النِّسَاء 59 وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح وَاعْلَمُوا أَن الْعمَّال ثَلَاثَة عَامل أكل السُّحت وأطعمه الغوغاء والسفلة وعامل لم يَأْكُل وَلم يطعم غَيره انتصف من الظَّالِم وعامل أكل وَحده وَلم يطعم غَيره فَالْأول تحبه الْعَامَّة والسفلة ويبغضه الله وَالسُّلْطَان والصالحون وَالثَّانِي يُحِبهُ الله ويكفيه مَا أهمه من أَمر السُّلْطَان وَالثَّالِث كعمال الْيَوْم يَأْكُل وَحده وَيمْنَع رفده وَلَا ينصر الْمَظْلُوم فَهَذَا يبغضه الله وَرَسُوله وَالسُّلْطَان وَالنَّاس أَجْمَعُونَ وَهَذَا معنى حَدِيث أزهد فِيمَا فِي أَيدي النَّاس يحبك النَّاس الخ وَحَدِيث الْعمَّال ثَلَاثَة الخ فَلَو كَانَ للصفار مائدة خمر وَطَعَام يَأْخُذهُ من الْأَسْوَاق ويتغذى عِنْده ويتعشى السفلة والفساق وَيَدْعُو الْيَوْم ابْن كيران وَغدا ابْن شقرون وَبعده بنيس وَابْن جلون وَيفرق عَلَيْهِم من الذعائر لأحبوه وَمَا قَامُوا عَلَيْهِ وَلَو أردتم النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولأميره لقدم علينا ثَلَاثَة مِنْكُم أَو ذكرْتُمْ ذَلِك لولدنا مولَايَ عَليّ أصلحه الله فَأخْبرنَا بذلك وَقل للصفار الْكلاب لَا تتهارش إِلَى على الطَّعَام والجيف فَإِذا رَأَتْ كَلْبا بِبَاب دَار سَيّده وَلَا شَيْء أَمَامه لم تعرج عَلَيْهِ وَإِن رَأَتْهُ يَأْكُل فَإِن هُوَ تعامى وأشركهم فِيمَا يَأْكُل أكلُوا مَعَه وسكتوا وَإِن هُوَ قطب وَجهه وكشر عَن أنيابه تراموا عَلَيْهِ وغلبوه على مَا فِي يَده وَهَذَا الصفار لم يتق الله ويزهد الزّهْد الَّذِي ينصره الله بِهِ وَلم يلاق النَّاس بِوَجْه طلق ويطرف مِمَّا يَأْكُلهُ فسلطهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الله عَلَيْهِ وَلما رأى يُوسُف بن تاشفين النِّعْمَة الَّتِي فِيهَا ابْن عباد قَالَ أكل أَصْحَابه وأعوانه مثله فَقَالُوا لَا فَقَالَ إِنَّهُم يبغضونه ويسلمونه للمكاره لاستبداده دونهم ولتغيير الْمُنكر شُرُوط وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَكم من مرّة قُلْنَا لكم الْعلمَاء هُوَ يُنكرُونَ مَا يُنكر ويعلموننا بِمَا كَانَ وَلَكِن الْجُلُوس بِلَا شغل والفراغ وَعدم الْحَمد حملكم على مَا يحرم عَلَيْكُم الْكَلَام فِيهِ (إِن الشَّبَاب والفراغ والجده ... مفسده للمرء أَي مفْسدَة) وَأما بَيت مَال الله والأحباس فَالله حسيب من بدل وَقد كُنْتُم تتكلمون على المكس وَالْحَرِير والقشينية وَغير ذَلِك فَأرى حكم الله من ذَلِك وانظروا لمن تعرفونه من الْعمَّال وَأما الْفسق فَهُوَ عَادَة وديدن كل من قَامَ فِي الْفِتْنَة وَكم مرّة رمت قِطْعَة فَلم أجد إِلَيْهِ سَبِيلا لِأَن جلّ كبرائكم بالمصاري والعرصات وَإِنَّمَا أولي عَلَيْكُم البراني لأنكم لَا تحسدونه وَإِن أكل وَحده والحاسد يُرِيد زَوَال النِّعْمَة عَن محسوده والتجار لِأَن التَّاجِر لَا يطْمع فِي مَال أحد ويكفيه الرّفْعَة والجاه لنماء مَاله وانظروا مَا أجبتكم بِهِ وَمَا كتبتم لنا بِهِ واعرضوه على فقهائكم فَمن قَالَ الْحق منا وَمن قَالَ الْبَاطِل أَخَذْتُم بحظكم من الْفِتَن اهـ وَهَذِه الرسَالَة قد شرحها الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عبد الْكَرِيم اليازغي وَكَانَ أهل فاس قد كتبُوا إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله فِي شَأْن عاملهم الصفار الْمَذْكُور وَاعْتَذَرُوا عَن خُرُوجهمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ اشْتغل بِمَا لَا يُرْضِي الله من الْفسق وَمد الْيَد إِلَى الْحَرِيم فأنكروا عَلَيْهِ فَأجَاب السُّلْطَان رَحمَه الله بالرسالة الْمَذْكُورَة خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مكناسة إِلَى فاس وَمَا لَقِي من سُفَهَاء البربر فِي طَرِيقه إِلَيْهَا قد تقدم لنا أَن البربر طلبُوا من السُّلْطَان تَسْرِيح إخْوَانهمْ وَأَنه بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 تصلح أَحْوَالهم ويراجعون الطَّاعَة وَلما سرحهم نكثوا الْعَهْد وازدادوا تمردا فَلَمَّا أعيا السُّلْطَان أَمرهم وكل أَمرهم إِلَى الله وعزم على الْخُرُوج من مكناسة إِلَى فاس لما حدث بهَا من الشغب أَيْضا فولى على مكناسة وجند العبيد وَلَده الْمولى الْحسن وَكَانَ لَهُ علم وحزم ثمَّ خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من مكناسة لَيْلًا على خطر عَظِيم وَأسرى ليلته وَلم يعلم البربر بِخُرُوجِهِ حَتَّى أصبح وَقد جَاوز المهدومة وشارف وَادي النجَاة فتبعوه على الصعب والذلول ونهبوا كل من تخلف من الْجَيْش واستولوا على كثير من روام السُّلْطَان وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المرابط الْبركَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَجعل يكف البربر عَن الْجَيْش فَلم يغن شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ كلما كفهم من نَاحيَة أَغَارُوا من نَاحيَة أُخْرَى وخلص السُّلْطَان إِلَى فاس وَقد ازْدَادَ حنقة على البربر فَلَمَّا دَخلهَا أَمر بِنَهْب دور البربر القاطنين بفاس فنهبوا كل من فِيهِ رَائِحَة البربرية وَلَو قَدِيما فَكَانَ ذَلِك فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَادًا كَبِيرا وَأقَام السُّلْطَان بفاس إِلَى رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ خرج لإِصْلَاح نواحي بِلَاد الهبط فوصل فِي خرجته هَذِه إِلَى قصر كتامة فمهد تِلْكَ الْبِلَاد وَأمن سبلها وَرجع إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَقدم عَلَيْهِ بهَا قبائل الْحَوْز على بكرَة أَبِيهِم من حاحا والشياظمة وَعَبدَة والرحامنة وَأهل السوس والسراغنة وزمران وَأهل دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا قبائل بني حسن وَعبيد الدِّيوَان وَقبض فِي هَذِه الْمرة على نَحْو الْمِائَة من زعير وأودعهم السجْن وَدخل شهر رَمَضَان فَفرق عُمَّال الْقَبَائِل كلا إِلَى عمله وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ لعيد الْفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وَكَانَ قد عزم على الْمقَام برباط الْفَتْح إِلَى أَن يُقيم سنة الْعِيد بِهِ وتجتمع عَلَيْهِ العساكر فَيتَوَجَّه بهَا لغزو البربر ثمَّ بدا لَهُ رَحمَه الله فسافر مَعَ قبائل الْحَوْز إِلَى مراكش فِي عَاشر رَمَضَان الْمَذْكُور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 ذكر مَا حدث من الْفِتَن بفاس وأعمالها بعد سفر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش لما عزم السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله على السّفر إِلَى مراكش ندب جند العبيد إِلَى السّفر مَعَه فتثاقلوا عَلَيْهِ وَظهر مِنْهُم قلَّة المبالاة بِهِ وأحس مِنْهُم بذلك فَأَعْرض عَنْهُم وَبعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ انْسَلَّ من بَين أظهرهم وَقصد محلّة أهل الْحَوْز فَدخل قبَّة الْقَائِد مُحَمَّد بن الجيلاني ولد مُحَمَّد الصَّغِير السرغيني وَكَانَ السُّلْطَان يطمئن إِلَيْهِ مُنْذُ كَانَ رَفِيقه فِي نكبته عِنْد ظيان إِذا كَانَ ابْن الجيلاني الْمَذْكُور مأسورا عِنْدهم وسرحوه للسُّلْطَان فرافقه إِلَى مكناسة حَسْبَمَا مر وَلما احتل السُّلْطَان بمحلة أهل الْحَوْز ازْدَادَ فَسَاد نِيَّة العبيد وسافر السُّلْطَان إِلَى مراكش وَترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إِلَى مكناسة وَسمع النَّاس بِمَا ارْتَكَبهُ هَؤُلَاءِ العبيد فِي حق السُّلْطَان فَعَاد شباب الْفِتْنَة إِلَى عنفوانه وسرى فِي الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخْوَانهمْ عَلَيْهِم فِي الْفِتْنَة وَوَضَعُوا وَامْتنع عُمَّال الغرب وَبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة السُّلْطَان وَعمد الودايا بفاس إِلَى حارة الْيَهُود الَّتِي بَين أظهرهم بفاس الْجَدِيد فانتهبوها واستصفوا موجودها وَأخذُوا مَا كَانَ تَحت أَيدي الْيَهُود من كتَّان وحرير وَفِضة وَذهب لتجار أهل فاس إِذْ كَانُوا يخيطون لَهُم ويصنعون مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَى خياطته وصنعته فَضَاعَت فِي ذَلِك أَمْوَال لَا يحصيها قلم حاسب ثمَّ جردوهم رجَالًا وَنسَاء وَسبوا نِسَاءَهُمْ وافتضوا أبكارهم وسفكوا دِمَاءَهُمْ وَشَرِبُوا الْخُمُور فِي نَهَار رَمَضَان وَقتلُوا الْأَطْفَال ازدحاما على النهب ثمَّ تجاوزوا هَذَا كُله إِلَى حفر الْبيُوت على الدفائن فوقعوا بِسَبَب ذَلِك على أَمْوَال طائلة وَلما رَأَوْا ذَلِك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بِالضَّرْبِ والنكال ليدلوهم على مَا دفنوه من المَال وَمن عِنْده يَهُودِيَّة حسناء حالوا بَينه وَبَينهَا حَتَّى يفتديها بِالْمَالِ وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما فرغوا من الْيَهُود التفتوا إِلَى أهل فاس فَاسْتَاقُوا السَّرْح وبهائم الْحَرْث والجنات وَمنعُوا الدَّاخِل وَالْخَارِج فَقَامَ بفاس هرج عَظِيم وغلقوا الْأَبْوَاب ومالوا على من وجدوه من الودايا دَاخل الْبَلَد فأوقعوا بهم ونهبوهم وَحمل النَّاس السِّلَاح ونقلت البضائع والسلع من الْأَسْوَاق إِلَى الدّور خوفًا عَلَيْهَا وَاجْتمعَ أهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم فعينوا من يقوم بأمرهم فَقدم اللمطيون رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْحَاج أَحْمد الْحَارِثِيّ وَقدم أهل العدوة رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ قدور المقرف وَقدم أهل الأندلس رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن فَارس فضبطوا الْبَلَد وبينما هم كَذَلِك قدم عَلَيْهِم جمَاعَة من أَعْيَان الودايا وتلافوا أَمرهم مَعَهم والتزموا رد مَا نهبوه لَهُم من السَّرْح وَمَا نهب فِي جملَة أَمْوَال الْيَهُود مِمَّا كَانَ يصنع عِنْدهم فخمدت بذلك نَار الْفِتْنَة بعض الشَّيْء وَقد قَالَ أدباء الْوَقْت فِي هَذَا الْخطب الَّذِي اتّفق فِي هَذِه الْمدَّة جملَة من الْأَشْعَار من ذَلِك قَول الْكَاتِب البارع أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي (أعين الْعين للمحبين دَاء ... والدوا فِي شفاهها والشفاء) (فَإِذا مَا رمين سَهْما لصب ... فالهوى قد هوى بِهِ والهواء) (كَيفَ يعدل نَحْو رَأْيِي عذول ... من رمته ظَبْي اللحاظ الظباء) (سعد ساعد أَخا الغرام بِقرب ... من سعاد فقد عناه العناء) (زارني ضيف طيفها فشجاني ... وسرى الطيف للمحب حباء) (هَب شوقي أذهب نشر كباها ... وعرتني من ذكرهَا العرواء) (فسقى عهدها العهاد وَحيا ... الْملك الْعَادِل الْحيَاء الْحيَاء) (لَيْسَ إِلَّا أَبَا الرّبيع ربيع ... خلقه الْجُود والجدي وَالْوَفَاء) (بِسُلَيْمَان قد سلمنَا وسدنا ... فالعلي منزل لَهُ والْعَلَاء) (ملك ملك الْعلَا والمعالي ... وسما فَلهُ الفخار سَمَاء) (غرَّة الْمجد درة العقد من قد ... راق من فَضله السنا والسناء) (نجل خير الورى وَأفضل من فذ ... نبأت بظهوره الْأَنْبِيَاء) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 (من إِذا رجاه راج لنول ... قبل حل الحبى أَتَاهُ الحباء) (خلق دمث وَخلق بهي ... من ذكي نوره تغار ذكاء) (كَفه كفت الْفساد وكفت ... كل عَاد فَمَا لَهُ أكفاء) (رَاحَة رَاحَة لكل فَقير ... بحياء تحيا بِهِ الْأَحْيَاء) (رَوْضَة راضت الْعُلُوم وَلَكِن ... عرفهَا الْعرف والثراء الثَّنَاء) (قد روى فَضله الأفاضل طرا ... فعلى الْفضل والرواة رواء) (لأبي الْقَاسِم الظياني لديهم ... فضل سبق لَهُ علا وعلاء) (جمع الْوَصْف أحكم الْوَصْف صدقا ... وَأَتَاهُ الْإِنْشَاء كَيفَ يَشَاء) (صَالح نَاصح أَمِين رصين ... قد ثناه إِلَى علاك السناء) (كَيفَ لَا يحسن السناء ويسمو ... فِي إِمَام لَهُ الْمَعَالِي رِدَاء) (إِنَّمَا هُوَ معجز مُسْتَقل ... يَقْتَدِي بفعاله الْعُقَلَاء) (بسط الْعدْل فِي البسيطة فالدين ... لَهُ بسطة بِهِ وارتقاء) (وَغدا بِإِقَامَة الدّين فالغرب ... غَرِيبا أنصاره الغرباء) (لم يجد فِي البرابر الغلف برا ... شَأْنه الْبر فِي البدا والبراء) (نقضوا الْعَهْد خالفوا الْأَمر وَالنَّهْي ... إِلَّا إِنَّهُم هُوَ السُّفَهَاء) خالفوا منتقى الْخَلَائق جهلا ... بعماهم فَلَا عداهم عماء) (عَادَة فِي جدودهم جددوها ... لَهُم الدَّهْر الارتداد رِدَاء) (قد دعاهم مهاوش لضلال ... فَعَلَيْهِم وبالهم والوباء) (شقّ جهلا عَصا الإِمَام شقاقا ... وَعصى الله لَا هَناه الهناء) (واقتفى أَثَرهم الغواة ضلالا ... فغاباهم مَا أَن عَلَيْهِ غباء) (وَإِذا خبثت أصُول فروع ... لَاحَ من فعلهم عَلَيْهِ لِوَاء) (وَكَذَا الْعَرَب أعربوا عَن مساوفهم ... فِي سوى الْخُرُوج سَوَاء) (نافقوا رافقوا الخبيثين كفرا ... همزوا لمزوا فَلَيْسَ برَاء) (والودايا جاؤوا بادوء عيب ... داؤهم مَاله الزَّمَان دَوَاء) (قتلوا سلبوا أخافوا وحافوا ... مَا ثناهم عَن الْقَبِيح ثَنَاء) (مَا رعوا ذمَّة وَلَا فعل ذمّ ... بل عراهم من الْحيَاء عراء) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 (وَإِمَام الْأَنَام يُحِلهُمْ عَنْهُم ... ويوالي وَمَا يُفِيد الْوَلَاء) (نهبوا حارة الْيَهُود وهدوا ... دُورهمْ وعرى النِّسَاء سباء) (لَو تراهم بَين الرعايا عُرَاة ... يحتذيهم رِجَالهمْ وَالنِّسَاء) (خفروا ذمَّة النَّبِي فذموا ... لعماء فَلَا سقاهم عماء) (يَا إِمَام الْهدى عَلَيْك بِقوم ... مَلأ الغرب بغيهم والبغاء) (قد طم ظلمهم وَعم أذاهم ... وانجلى عَنْهُم فَحق الْجلاء) (كم سدلت عَلَيْهِم أَي ستر ... ووهبت فَمَا أَفَادَ الْعَطاء) (وحدوت إِلَى الرشاد فحادوا ... ودعوت فَمَا أَفَادَ الدُّعَاء) (نلْت رشدا برشدهم وجهادا ... فَأبى مِنْهُم الرشاد إباء)) (وَإِذا خذل الْإِلَه أُنَاسًا ... من محياهم يَزُول الْحيَاء) (فعبيد الْإِلَه خير عبيد ... قد كفى مِنْهُم الإِمَام كفاء) (حَاربُوا ضاربوا على الْحق راعوا ... ذمَّة الله لَا عداهم عَلَاء) (فاتخذهم مواليا وجنودا ... واصطفيهم فَإِنَّهُم أصفياء) (قد أصَاب الأعادي مِنْهُم عَذَاب ... ودهى مِنْهُم الدهاة دهاء) (وَإِذا سخر الْإِلَه أُنَاسًا ... لسَعِيد فَإِنَّهُم سعداء) (يَا إِلَه الْأَنَام خُذ بيدَيْهِ ... وأعنه فقد عناه العناء) (فينام الْأَنَام فِي ظلّ أَمن ... ورداه للماردين رِدَاء) (وَعَلِيهِ السَّلَام مَا سَار سَار ... وشدت فَوق وَرقهَا الورقاء) ثمَّ حدث على تفئة ذَلِك فتْنَة أُخْرَى بفاس بِسَبَب نزاع جرى بَين قاضيها الْفَقِيه أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي وَبَين مفتيها الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي فِي قَضِيَّة الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وَهِي مَعْلُومَة فأنهى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان فَأخر الْفَقِيه أَبَا عبد الله عَن الْفَتْوَى فَغَضب للمفتي جمَاعَة من المدرسين وطلبة الْعلم وتعصبوا لَهُ وتحزبوا على القَاضِي فَكَتَبُوا رسما يتَضَمَّن الشَّهَادَة بجوره وجهله وَوَضَعُوا خطوطهم وناطوا بِهِ قصيدة تَتَضَمَّن الشكوى بِهِ وَشرح حَاله للسُّلْطَان ووجهوا بهما إِلَيْهِ وَنَصّ القصيدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي عَدَالَته ... أحيت مآثرها الصّديق أَو عمرا) (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي مناقبه ... فِي غرَّة الدَّهْر قد لاحت لنا قمرا) (أَنْت الَّذِي وضع الْأَشْيَاء موضعهَا ... وَفِي الْعُلُوم الَّذِي أَحْيَا الَّذِي اندثرا) (أَنْت الَّذِي صير الدّين القويم كَمَا ... أوصى بِهِ من سما الْأَمْلَاك والبشرا) (وَلم يزل بك فِي عز وَفِي حرم ... يجني ذَوُو الْعلم من رياضة ثمرا) (تذب عَنهُ بأسياف وآونة ... بفكرة تحكم الْأَحْكَام والصورا) (وَمن يرم هَدمه تَأْخُذهُ صَاعِقَة ... من راحتيك فَلَا تبقى لَهُ أثرا) (وَقد شكا الدّين من هضم وَمن كمد ... أَصَابَهُ فَهُوَ يبكي الدمع منهمرا) (سطت عَلَيْهِ يَد القَاضِي الَّذِي غمرت ... أقضية الْجور مِنْهُ البدو والحضرا) (أعفى مراسمه جورا وأبدله ... جهلا بِمَا يذهب الْأَلْبَاب والفكرا) (جَاءَ الْولَايَة وَهُوَ من شبيبته ... يرى القضا حِرْفَة يجني بهَا وطرا) (فَلم يكن همه فِيهِ سوى قنص ... أَو نخوة تتْرك الضَّعِيف منكسرا) (أما حُقُوق الورى فَإِنَّهَا عدم ... مَجْهُولَة جعلت منبوذة بعرا) (فاستنقذت مِلَّة الْمُخْتَار جدك من ... هَذَا الَّذِي مَا درى وردا وَلَا صَدرا) (يَأْتِي الْحُكُومَة عباسا ومنقبضا ... مِمَّا بِهِ من سقام يجلب الكدرا) (فَلَا يرى أرسم الْخَصْمَيْنِ من ملل ... لَكِن يحكم أوهاما بهَا جَهرا) (ويستبد بِرَأْيهِ وَحَيْثُ بَدَت ... فَتْوَى تبصره ألْقى بهَا حجرا) (وَلَا يُمكن خصما قد دَعَاهُ إِلَى ... تسجيله مَا رأى فِي الحكم مُعْتَبرا) (ملت قُلُوب الورى مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُم ... إلاك يَا من بِهِ الْإِسْلَام قد نصرا) (ضجوا لعزتكم يَشكونَ سيرته ... بعبرة تتْرك الْفُؤَاد منفطرا) (فأدركن يَا عماد الدّين صارمه ... رعية ترتجي من حلمكم مَطَرا) (فأنزلنه لقد طَغى بعزته ... وَلم يخف فِي غَد لظى وَلَا سقرا) (واصرفه عَنْهُم كصرفه ضعيفهم ... واعزله عزلا فَإِن الْأَمر قد أمرا) (فَأَنت غيثهم إِن أزمة أزمت ... وَأَنت كهفهم إِن حَادث ظهرا) وَلما وصل الرَّسْم وَالْقَصِيدَة إِلَى السُّلْطَان رأى أَن ذَلِك من التعصب الَّذِي يحدث بَين الأقران فرفضه لكَمَال أناته وعقله وَلم يقبل شَهَادَة عَالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 على مثله فَلَمَّا رَأَوْا أَن السُّلْطَان لم يساعدهم هجموا على القَاضِي وَهُوَ بِمَجْلِس حكمه وَأَرَادُوا قَتله وسدد نَحوه الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطَّاهِر الكتاني كابوسا أخرجه فِيهِ فأخطأه فانزعج القَاضِي وَلزِمَ بَيته وَقدمُوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الدلائي ثمَّ عزلوه وولوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الزرهوني فَكَانَت عَاقِبَة أمره أَنه لما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله نَفَاهُ إِلَى الصويرة وَالله تَعَالَى أعلم خُرُوج أهل فاس على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبيعتهم للولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك لما اسْتمرّ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله مُقيما بمراكش والفتن بفاس وَسَائِر بِلَاد الغرب قد تجاوزت مداها وَعم أذاها وَرفعت الشكايات إِلَيْهِ من فاس وَغَيرهَا بِمَا النَّاس فِيهِ من الكرب الْعَظِيم والخطب الجسيم كتب رَحمَه الله بِخَط يَده كتابا إِلَى أهل فاس يرشدهم إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحهمْ من حلف البربر والاعتماد عَلَيْهِم فِي حراسة بِلَادهمْ وَسَائِر مرافقهم كَمَا كَانُوا قَدِيما أَيَّام الفترة فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى أَن يفرغ من شَأْن الْحَوْز وَيقدم عَلَيْهِم هَكَذَا زعم صَاحب الْبُسْتَان قَالَ أكنسوس كَانَ مُرَاد السُّلْطَان بذلك الْكتاب تهييج أهل فاس على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ وترغيبهم فِي محبته ونصرته وَقد فعل مثل ذَلِك بمراكش فَإِنَّهُ جمع أعيانها وأعيان الرحامنة عقب صَلَاة الْجُمُعَة وَقَالَ لَهُم قد رَأَيْتُمْ مَا جرت بِهِ الأقدار من فَسَاد قُلُوب الرّعية وتمادي الْقَبَائِل على الغي وَالْفساد وَمن يَوْم رَجعْنَا من وقْعَة ظيان وَنحن نعالج أَمر النَّاس فَلم يزدادوا إِلَّا فَسَادًا وَقد جرى على الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين أَكثر من هَذَا فَلم ينقصهم ذَلِك عِنْد رعيتهم بل قَامُوا مَعَهم وأعانوهم على أهل الْفساد حَتَّى أصلحوهم وَإِنِّي قد عجزت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 بِشَهَادَة الله لِأَنِّي مَا وجدت معينا على الْحق وَكم مرّة تُحَدِّثنِي نَفسِي أَن أترك هَذَا الْأَمر وأتجرد لعبادة رَبِّي حَتَّى أَمُوت فَقَالَ من حضر من أَعْيَان الرحامنة وَغَيرهم يَا مَوْلَانَا بَارك الله لنا فِي عمرك وَجَعَلنَا فداءك وَنحن أمامك ووراءك فمرنا بِمَا تشَاء فقولك مُطَاع وأمرك ممتثل وَمَا رَأينَا مِنْك إِلَّا الْخَيْر فسر السُّلْطَان بمقالتهم ودعا لَهُم بِخَير وَلما فعل مَعَ أهل مراكش هَذَا الْأَمر أَرَادَ أَن يسْلك مثله مَعَ أهل فاس فَوَقع مَا وَقع وَلما بعث السُّلْطَان بِالْكتاب الْمَذْكُور إِلَى ابْنه الْمولى عَليّ بفاس أمره أَن يقرأه على أَهلهَا بِمحضر الْفَقِيه الْمُفْتِي السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي والفقيه الشريف السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الفيلالي والفقيه الْكَاتِب السَّيِّد أبي الْقَاسِم الظياني والأمين السَّيِّد الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَجَمعهُمْ الْمولى عَليّ فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِبَاب دَاره بزقاق الْحجر وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب الْمَذْكُور وَكَانَ الْمَسْجِد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عَلَيْهِ ليروا الْكتاب بأعينهم وَأَكْثرُوا عَلَيْهِ فضجر وَقَامَ وَدخل دَاره وأغلقها عَلَيْهِ فَقَالَ بعض النَّاس إِن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَقَالَ لكم قدمُوا من ترضونه وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه لم يخلع نَفسه وَجعل آخَرُونَ يقرعون بَاب الْمولى عَليّ وَيَقُولُونَ أخرج إِلَيْنَا كتاب السُّلْطَان حَتَّى نقرأه ونعلم مَا فِيهِ فَقَالَ لَهُم إِنِّي أحرقته فازدادوا رِيبَة وَصَدقُوا أَن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَاجْتمعَ رُؤَسَاء أهل فاس مِنْهُم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الرزيق وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وعلال الْعَافِيَة وقدور بن عَامر الجامعي وَلم يكن من أهل فاس وَإِنَّمَا كَانَ قاطنا بالطالعة وَهَؤُلَاء من أهل عدوة الأندلس وَكَذَلِكَ عيرهم من أهل عدوة الْقرَوِيين واللمطيين ثمَّ جمعُوا الطّلبَة الَّذين حَضَرُوا قِرَاءَة الْكتاب وألزموهم أَن يكْتب كل وَاحِد مِنْهُم مَا سمع فَكتب لَك وَاحِد مَا ظهر لَهُ ثمَّ حازوا خطوطهم وخلصوا مِنْهَا مَا هُوَ مُرَادهم وَهُوَ أَن السُّلْطَان عجز وعزل نَفسه وَأمر النَّاس أَن ينْظرُوا لأَنْفُسِهِمْ هَذَا وَالْحَرب قَائِمَة بَين أهل فاس والودايا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 فَكتب أهل فاس إِلَى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنَّظَر والخوض مَعَهم فِيمَن يتَوَلَّى أَمر النَّاس فَقدم الْحسن بن حمو واعزيز المطيري كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَقدم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي كَبِير زمور وَبني حكم فِي وُجُوه قومه فَاجْتمعُوا بِأَهْل فاس وتفاوضوا فِي أَمر الْبيعَة فَوَقع اختيارهم على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَكَانَ ذَا سمت وانقباض وصهر السُّلْطَان على ابْنَته وَكَانَ يسكن بدرب ابْن زيان قرب الْمدرسَة العنانية فَكَانَ لَا يخرج إِلَّا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يُصَلِّي بِالْمَدْرَسَةِ ثمَّ يعود إِلَى دَاره فاختاروه لذَلِك من غير اختبار وَلَا تمحيص ثمَّ قَالُوا إِن السُّلْطَان لَا بُد لَهُ من مَال وَرِجَال فتكفل ابْن واعزيز بِالرِّجَالِ وَقَالَ عندنَا من الْخَيل وَالرِّجَال مَا لن يغلب من قلَّة وتكفل الْحَاج الطَّالِب بن جلون بِالْمَالِ وأحال على جمَاعَة من التُّجَّار وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَن السُّلْطَان لما عزم على السّفر إِلَى مراكش ودع عِنْدهم بواسطته مَالا لَهُ بَال وَلما تمّ لَهُم مَا أَرَادوا غدوا على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد فأحضروه وشرطوا عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا إِخْرَاج الودايا من فاس الْجَدِيد وَكَانُوا كلما شرطُوا عَلَيْهِ شرطا حرك لَهُم رَأسه أَي نعم ثمَّ بَايعُوهُ صَبِيحَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من محرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَيُقَال إِنَّهُم لما خاطبوه أَولا امْتنع فَقَالُوا لَهُ إِن لم نُبَايِعك بَايعنَا رجلا من آل الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فخاف خُرُوج الْأَمر من بَيتهمْ وَأجَاب وَالله أعلم وَحضر هَذِه الْبيعَة الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ ابْن عَليّ الوزاني وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري من أخص أَتْبَاعه وَهُوَ رَئِيس البربر فِي ذَلِك الْوَقْت وَعَلِيهِ وعَلى ابْن واعزيز كَانَت تَدور هَذِه الْأُمُور وحضرها أَيْضا أَبُو بكر مهاوش كَبِير آيت ومالو وَلما أحكموا أَمرهم كتبُوا إِلَى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إِلَّا أَن من كَانَ يبغض السُّلْطَان مِنْهُم وعدهم سرا ثمَّ كتبُوا إِلَى الودايا بِمثل مَا كتبُوا بِهِ إِلَى العبيد فَكَانُوا عَنْهَا أبعد فَبعث أهل فاس الشَّيْخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 أَبَا عبد الله الدرقاوي إِلَى الودايا ليَأْتِي بيعتهم وَكَانَ لَهُ فيهم أَتبَاع فقبضوا عَلَيْهِ وأودعوه السجْن وَكَتَبُوا بذلك إِلَى السُّلْطَان فَمَا سخط وَلَا رَضِي وَاسْتمرّ الْمولى إِبْرَاهِيم والبربر مقيمين بفاس إِلَى أَن نفذ مَا عِنْدهم من المَال الَّذِي أظهره لَهُم الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فاتفق رَأْيهمْ على الْخُرُوج من فاس وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ مسير الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد إِلَى تطاوين ووفاته بهَا لما نفذ مَا كَانَ عِنْد الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وشيعته من المَال واستهلكوه فِي غير فَائِدَة تفاوضوا فِيمَا يصنعون فأجمع رَأْيهمْ على أَن يَسِيرُوا إِلَى المراسي بِقصد فتحهَا والاستيلاء على مَالهَا فَخَرجُوا بالمولى إِبْرَاهِيم مستبدين عَلَيْهِ ضاربين على يَده وَإِنَّمَا الْمُتَصَرف والآمر والناهي هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَأما ابْن عبد الرزيق وَجَمَاعَة من أَصْحَابه الَّذين أسسوا هَذَا الْأَمر فَإِنَّهُم هَلَكُوا فِي حَرْب الودايا فِي عَشِيَّة وَاحِدَة فِي وقْعَة ظهر المهراس وحزت رؤوسهم وَبعث بهَا إِلَى السُّلْطَان بمراكش وَلما برزوا من فاس مروا بآيت يمور ونزلوا بالولجة الطَّوِيلَة وراودوا من هُنَالك من عرب بني حسن وَأهل الغرب ودخيسة وَأَوْلَاد نصير على الانخراط فِي سلكهم فَأَبَوا عَلَيْهِم وعزم الْقَائِد مُحَمَّد بن يشو على أَن يبيتهم بغارة شعواء تفرق جمعهم فَدس إِلَيْهِم مُحَمَّد بن قَاسم السفياني اللوشي وَكَانَ منحرفا عَن السُّلْطَان بِمَا عزم عَلَيْهِ ابْن يشو وَأَشَارَ عَلَيْهِم أَن يعبروا النَّهر إِلَى ناحيته ليحميهم مِمَّن أَرَادَهُم فعبروا إِلَيْهِ وانضم إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه وَسَارُوا إِلَى قصر كتامة فنزلوا بالكدية الإسماعيلية وَمِنْهَا كتبُوا إِلَى أهل الثغور والعرائش وطنجة وتطاوين يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم وَالدُّخُول فِي حزبهم فَأَما أهل العرائش وطنجة فَأَجَابُوا بِالْمَنْعِ وَقيل أَن أهل العرائش بَايعُوا ووفد عَلَيْهِ بَعضهم وَلَعَلَّ ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 كَانَ فِي ثَانِي حَال وَأما أهل تطاوين فامتثلوا وَكَانَ قَاضِي طنجة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْفُلُوس قد عزم على بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم فَنَذر بِهِ عاملها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ السعيدي فنفاه وَقدم للْقَضَاء مَكَانَهُ الْفَقِيه الأديب أَبَا الْبَقَاء خَالِد الطنجي وَلما ورد على الْمولى إِبْرَاهِيم وَحزبه جَوَاب أهل تطاوين بِالْقبُولِ سَارُوا إِلَيْهَا فَدَخَلُوهَا واستولوا على مَال المرسى وعَلى مخازن السُّلْطَان وَمَا فِيهَا من سلَاح وكتان وملف وَغير ذَلِك فتوزعته البربر ثمَّ انتهبوا ملاح الْيَهُود واكتسحوه فعثروا فِيهِ على أَمْوَال طائلة يُقَال إِنَّهُم وجدوا بِهِ عددا كثيرا من فنائق الضبلون والبندقي فَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري وَغَيره من رُؤَسَاء ذَلِك الْجمع لَا يُعْطون أَصْحَابهم إِلَّا البندقي فَكثر جمعهم لذَلِك وَلما مَضَت لَهُم من قدومهم تطاوين سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم رَحمَه الله وَكَانَ قد دَخلهَا مَرِيضا يُقَاد بِهِ فِي المحفة فأخفوا مَوته ودفنوه بداره وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ بيعَة الْمولى السعيد بن يزِيد بتطاوين ورجوعه إِلَى فاس لما توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد اخفى رُؤَسَاء دولته مَوته لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ثمَّ دعوا أهل تطاوين إِلَى بيعَة أَخِيه الْمولى السعيد بن يزِيد فافترقت كلمتهم فَمنهمْ من أَبى وَمِنْهُم من أجَاب فأحضر ابْن سُلَيْمَان وَابْن الْغَازِي وأشياعهما من أَبى من أهل تطاوين وألزموهم الْبيعَة فالتزموها وكتبوها وأحكموا عقدهَا وَكَانَ الْمُتَوَلِي يَوْمئِذٍ بتطاوين الْحَاج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش فأخروه وولوا مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ داهية شهما وبينما هم فِي ذَلِك ورد عَلَيْهِم الْخَبَر بمجيء السُّلْطَان من مراكش وَأَنه قد وصل إِلَى قصر كتامة ففت ذَلِك فِي عضدهم وَخَرجُوا مبادرين إِلَى فاس على طَرِيق الْجَبَل وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 مَجِيء السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مراكش إِلَى الْقصر ثمَّ مسيره إِلَى فاس وحصاره إِيَّاهَا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش وَكَانَ العبيد قد ندموا على مَا فرط مِنْهُم برباط الْفَتْح من التَّخَلُّف عَن السُّلْطَان وَنهب أثاثه حَسْبَمَا مر فَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ من مكناسة مثنى وفرادى حَتَّى اجْتمع عِنْده جلهم لَا سِيمَا من كَانَ مِنْهُم مَعْرُوفا بِعَيْنِه مثل القواد وأرباب الْوَظَائِف وَلما بلغه مَا كَانَ من بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد تربص قَلِيلا حَتَّى إِذا بلغه خُرُوجه إِلَى المراسي قلق وَخرج من مراكش فِي جَيش العبيد وَبَعض قبائل الْحَوْز يبادره إِلَيْهَا وَلما وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح عبر إِلَى سلا وَنزل بِرَأْس المَاء وَلما حضرت الْجُمُعَة دخل الْمَدِينَة فصلى بالجامع الْأَعْظَم مِنْهَا وَدخل دَار الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الله معنينو من أَعْيَان أهل سلا واستصحب مَعَه الْفَقِيه الْمُؤَقت أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي من أهل سلا أَيْضا بِقصد الْقيام بوظيفة التَّوْقِيت وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى قصر كتامة أَتَاهُ الْخَبَر بِدُخُول الْمولى إِبْرَاهِيم إِلَى تطاوين فَأَقَامَ هُنَالك وَكتب إِلَى الودايا وَإِلَى من بَقِي بمكناسة يحضهم على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَكتب إِلَى وَلَده الْمولى الطّيب بفاس الْجَدِيد يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالفقيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد أكنسوس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش قَالَ أكنسوس فقدمنا على السُّلْطَان بريصانة على مرحلَتَيْنِ من الْقصر قَاصِدا تطاوين ومحاصرة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد بهَا قَالَ فورد عَلَيْهِ كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي عبد الله الْعَرَبِيّ السعيدي صَاحب طنجة بوفاة الْمولى إِبْرَاهِيم وبيعة أَخِيه الْمولى السعيد وَأَنَّهُمْ قد عَادوا بِهِ إِلَى فاس وَلما تحقق بذلك رَجَعَ على طَرِيق الْقصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إِلَيْهَا فوافياها فِي يَوْم وَاحِد فَنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو وَدخل السُّلْطَان دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد مَعَ الودايا وَلما كَانَ فجر الْغَد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أغارت خيل الودايا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 على محلّة الْمولى السعيد بالقنطرة فانتسفوها بِمَا فِيهَا وَقتلُوا من البربر وَأهل فاس وَغَيرهم خلقا كثيرا واحتووا على أَمْوَال طائلة مِمَّا كَانَت البربر قد نهبته من ملاح تطاوين وأفلت الْمولى السعيد وبطانته بجريعة الذقن ودخلوا فاسا فأغلقوها عَلَيْهِم وثابت إِلَيْهِم نُفُوسهم وَفِي هَذِه الْأَيَّام قتل الْمعلم الْأَكْبَر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد عنيقيد التطاوني وَكَانَ عجبا فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس وَكَانَ الْمولى السعيد قد أَتَى بِهِ من تطاوين ليحاصر بِهِ على فاس الْجَدِيد فَدس إِلَيْهِ السُّلْطَان من قَتله ناداه رجل وَهُوَ فِي محلّة أَصْحَابه لَيْلًا يَا فلَان أجب مَوْلَانَا السُّلْطَان فَظن أَنه دعِي إِلَى الْمولى السعيد فَقَالَ هَا أَنا ذَا وبرز من خبائه فَرَمَاهُ الْمُنَادِي برصاصة كَانَ فِيهَا حتفه ثمَّ عزم السُّلْطَان على محاصرة فاس حَتَّى يفيئوا إِلَى أَمر الله وَلَكِن اكْتفى من الْحصار بمنعهم من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَكَانَ الودايا قد ألحوا عَلَيْهِ فِي أَن يرميهم بالبنب فَأبى رَحمَه الله وَقَالَ لَو كَانَت البنبة الَّتِي نرميها تذْهب حَتَّى تقع بدار ابْن سُلَيْمَان أَو بدار الطّيب البياز أَو غَيرهمَا من رُؤُوس الْفِتْنَة لفعلنَا وَلَكِن إِنَّمَا تقع فِي دَار أرملة أَو يَتِيم أَو ضَعِيف حَبسه الْعَجز مَعَهم ثمَّ إِن أهل فاس بدؤوا بِالرَّمْي وَكَانَ مَعَهم سعيد الْعجل عَارِفًا بِالرَّمْي فَجعلُوا يقصدون دَار السُّلْطَان فَوَقَعت بنبة بالموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ للْقِرَاءَة وَوَقعت أُخْرَى بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِبَاب دَاره وَكَانَ بهَا جمَاعَة من طبجية سلا ورباط الْفَتْح فقتلت مِنْهُم أَربع نفر مِنْهُم الباشا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن فنيش السلاوي فَعِنْدَ ذَلِك حنق السُّلْطَان وَأمر أَن يُؤْتى بالمهاريس الْكِبَار من طنجة من فرمة ثَمَانِينَ إِلَى فرمة مائَة فجيء بهَا ونصبها عَلَيْهِم فَكَانَ الْقِتَال لَا يفتر لَيْلًا وَنَهَارًا والكور والبنب تخْتَلف بَين أهل البلدين فِي كل وَقت وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك قَرِيبا من عشرَة أشهر وَلَا يدْخل أحد إِلَى فاس وَلَا يخرج مِنْهَا إِلَّا على خطر وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى طنجة للنَّظَر فِي أَمر تطاوين الْخَارِجَة عَلَيْهِ بعد أَن تقدم إِلَى الودايا فِي الْحصار والتضييق على فاس إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 أَن يعود إِلَيْهِم وَلما اسْتَقر بطنجة بعث إِلَى أهل تطاوين وراودهم على الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فَأَبَوا ولجوا فِي عصيانهم فَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا مَعَ الْقَائِد حمان الصريدي البُخَارِيّ فَنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مُدَّة فَكَانَت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ سجالا مرّة لَهُ وَمرَّة عَلَيْهِ وَهَلَكت نفوس من أَعْيَان تطاوين وَغَيرهم مَجِيء الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام من الصويرة إِلَى الغرب واستخلافه بفاس وَمَا تخَلّل ذَلِك كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فِي ابْتِدَاء أمره بتافيلالت وَلما توسم فِيهِ عَمه الْمولى سُلَيْمَان مخايل الْخَيْر والنجابة استقدمه مِنْهَا وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرهَا وَقَامَ بشأنها ثمَّ لما كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بطنجة فِي هَذِه الْمرة واستعصى عَلَيْهِ أَمر فاس وتطاوين وانصرم فصل الشتَاء وَأَقْبل فصل الرّبيع كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ فِي قبائل الْحَوْز ويلقاه بهم برباط الْفَتْح وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان أَن يزحف بهم إِلَى فاس إِلَّا أَن السياسة اقْتَضَت أَن يكون الْأَمر هَكَذَا فَجمع الْمولى عبد الرَّحْمَن قبائل الْحَوْز وقواده وَقدم بهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما لم يَجدوا السُّلْطَان بِهِ تثاقلوا عَن العبور مَعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى بِلَاد الغرب لِأَن السُّلْطَان إِنَّمَا وعدهم أَن يلقوه برباط الْفَتْح فَكتب الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى عَمه يُعلمهُ بِصُورَة الْحَال وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه قد استوزر فِي هَذِه الْمدَّة الْفَقِيه أَبَا عبد الله أكنسوس فَبَعثه إِلَى الْمولى عبد الرَّحْمَن وأصحبه مَالا يفرقه على جَيْشه لينشطوا للقدوم وَكَانَ قدر المَال خمسين أُوقِيَّة لكل فَارس وَأمره إِذا قدم أَرض سلا أَن ينزل عِنْد عاملها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عزة الْمَعْرُوف بِأبي جميعة وَبعث للْمولى عبد الرحمن ليعبر إِلَيْهِ فِي وُجُوه الْجَيْش لقبض الصِّلَة وَلَا يذكر لَهُم سفرا فَإِذا قبضوها فليقرأ عَلَيْهِم كِتَابه وَكَانَ مضمنه أَنه يَأْمُرهُم بالقدوم عَلَيْهِ لقصر كتامة لقبض الْكسْوَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 الَّتِي أَتَى بهامن طنجة وَحِينَئِذٍ يذهب مَعَهم السُّلْطَان إِلَى الْحَوْز فَفعل الْوَزير ذَلِك كُله وَتقدم الْمولى عبد الرَّحْمَن فِي جَيْشه إِلَى قصركتامة قَالَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلَمَّا جِئْنَا الْقصر وجدنَا السُّلْطَان لَا زَالَ مُقيما بطنجة فتقدمت إِلَيْهِ وأعلمته بوصول الْمولى عبد الرَّحْمَن وجيشه إِلَى الْقصر فَخرج السُّلْطَان من طنجة وَجعل طَرِيقه على آصيلا وَلما بَات بسوق الْأَحَد بالغربية بعث إِلَيْهِ الْمولى المجذوب سَيِّدي مُحَمَّد بن مَرْزُوق يَدعُوهُ للقدوم عَلَيْهِ والبيات عِنْده فَأجَاب دَعوته وَدخل عَلَيْهِ وتبرك بِهِ وَمن هُنَاكَ كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن أَن يتَقَدَّم بالجيش إِلَى العرائش ويلقاه بِهِ هُنَالك فَفعل الْمولى عبد الرَّحْمَن وَهُنَاكَ اجْتمع بِعَمِّهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فسر بمقدمه ودعا لَهُ بِخَير وَأثْنى عَلَيْهِ بِمحضر أُولَئِكَ الْمَلأ من النَّاس ثمَّ دَعَا السُّلْطَان قواد الْحَوْز فيهم الْقَائِد عبد الْملك بن بيهي والقائد عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الغنيمي نَائِبا عَن الْحَاج حمان الْعَبْدي وَكَانَ فِي ركابه ابْنه فضول بن حمان صَغِيرا والقائد بلعباس بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج الْعَرَبِيّ بن رقية البوزراري والقائد مُحَمَّد بن حَدِيدَة البوعزيزي والقائد الْمُعْطى الحمري والقائد الصّديق ابْن الْفَقِيه العمراني وَلم يكن فيهم من الرحامنة إِلَّا الْحَاج الْمُعْطى بن مُحَمَّد الْحَاج وَلم يكن فيهم من السراغنة وَلَا من الشاوية أحد وَلما اجْتَمعُوا خرج عَلَيْهِم السُّلْطَان وَجلسَ على طنفسة ثمَّ دَعَا بالقائد عبد الْملك بن بيهي فأجلسه إِلَى جنبه ودعا لَهُ بِخَير ثمَّ قَالَ إِنَّكُم تعبتم فِي سَبِيل الله وَنحن أتعب مِنْكُم ونسأل الله أَن لَا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أَنكُمْ فِي طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله وَلكم المزية التَّامَّة وَقد وَجب علينا الْإِحْسَان إِلَيْكُم وَقد ظهر لي أَنكُمْ حِين وصلتم إِلَى هَذَا الْمحل لَا يَنْبَغِي لكم أَن ترجعوا بِدُونِ زِيَارَة مَوْلَانَا إِدْرِيس وَكنت أردْت أَن أوجهكم إِلَى بِلَادكُمْ من هُنَا وَلَكِن أَنا لايمكنني أَن أرجع إِلَّا بعد أَن يحكم الله بيني وَبَين هَؤُلَاءِ الخارجين عَن الْحق وَأَنْتُم لَا يجمل بكم أَن ترجعوا بِغَيْر سُلْطَان فَاصْبِرُوا قَلِيلا وتمموا عَمَلكُمْ حَتَّى تذْهبُوا إِن شَاءَ الله بسلطانكم فرحين مستبشرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فَقَالُوا كلهم سمعا وَطَاعَة لَا نُفَارِقك حَتَّى نرْجِع بك وَلَو مكثنا عشر سِنِين وعَلى أثر هَذَا عقد السُّلْطَان لقائد خيل الْجَيْش البُخَارِيّ الْحَاج إِبْرَاهِيم بن رزوق على مِائَتَيْنِ من الْخَيل مَفْرُوضَة من الحوزية وَالْعَبِيد وَأمره أَن يسير إِلَى تطاوين وَيُقِيم بمرتيل وَيمْنَع أَهلهَا من الْوُصُول إِلَى المرسى فَفعل وارتحل السُّلْطَان من العرائش يُرِيد فاسا فِي قبائل الْحَوْز فَمر بِبِلَاد سُفْيَان وَنزل بسوق الْأَرْبَعَاء مِنْهَا قرب ضريح سَيِّدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي فَأَصَابَهُ مرض هُنَالك وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بِأَن إِبْرَاهِيم بن رزوق قد كاده صَاحب تطاوين الْعَرَبِيّ بن يُوسُف حَتَّى قبض عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وسلبهم وسجنهم فآلم هَذَا الْخَبَر السُّلْطَان وزاده إِلَى مَا بِهِ من الْمَرَض ثمَّ أبل مِنْهُ بعد أَيَّام فَنَهَضَ إِلَى فاس وعرج على طَرِيق تازا وَلما بَات بسوق الْخَمِيس بالكور من بِلَاد الحياينة أغارت عَلَيْهِ غياثة وَمن شايعهم من أهل تِلْكَ النواحي وَكَانُوا قد دخلُوا فِي بيعَة أبي يزِيد فَدَارُوا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فَقَامَ السُّلْطَان وَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ونهاهم عَن الرّكُوب وَالِاضْطِرَاب فحفظ الله الْمحلة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يصب أحد من النَّاس وَلَا من الدَّوَابّ وأصبحت قَتْلَى الْعَدو مصرعة حول الْمحلة ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة تازا فوفد عَلَيْهِ بهَا أهل الرِّيف وعرب آنقاد والصحراء وَجعلُوا يزدحمون عَلَيْهِ ليروا وَجهه وَيَقُولُونَ إِنَّه وَالله للسُّلْطَان لِأَن أهل فاس كَانُوا يشيعون مَوته ويكتبون بذلك إِلَى الْقَبَائِل ثمَّ تقدم السُّلْطَان إِلَى فاس فَنزل بقنطرة وَادي سبو وَذَلِكَ أَوَاخِر رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ أهل فاس قد سئموا الْحَرْب وعضهم الْحصار وملوا دولة أبي يزِيد فاختلفت كلمتهم عِنْد مَا قدم السُّلْطَان وهاجت الْحَرْب دَاخل الْبَلَد بَين شيعَة السُّلْطَان وشيعة السعيد فكثرهم شيعَة السُّلْطَان وفتحوا الْبَاب وَخَرجُوا إِلَيْهِ بالأشراف وَالصبيان والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تَائِبين خاضعين وَجَاء السعيد فِي جوَار الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فَكَانَ جَوَاب السُّلْطَان لَهُم أَن قَالَ {قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} يُوسُف 92 وَكَانَ رَحمَه الله قد رأى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وَهُوَ سَائِر إِلَى فاس رُؤْيا وَهِي أَنه دخل فاسا وزار تربة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وقلده سَيْفا وَصعد الْمنَار وَأذن فَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَن فتح عَلَيْهِ فاسا ودخلها وزار الْمولى إِدْرِيس وَأذن بمنارة على الْهَيْئَة الَّتِي رأى وَجَاء رجل من أَوْلَاد الْبَقَّال فقلده سَيْفا تَصْدِيقًا للرؤيا وَلما دخل ضريح الْمولى إِدْرِيس وجد الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني هُنَالك فَعَاتَبَهُ السُّلْطَان عتابا خَفِيفا وَزَالَ مَا بصدره عَلَيْهِ وانقطعت أَسبَاب الْفِتَن وَالْحَمْد لله وَاعْلَم أَن مَا صدر من أهل فاس وَمن وافقهم على هَذِه الْبيعَة لَا لوم عَلَيْهِم فِيهِ وماكان من حق السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم بذلك الْكتاب الَّذِي أوقعهم فِي حيص بيص وَكَانَ سَببا لهَذِهِ الْفِتَن وَقَول أكنسوس إِن السُّلْطَان أَرَادَ تهييجهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ كَمَا فعل مَعَ أهل مراكش لَيْسَ بِشَيْء أَو مَا علم السُّلْطَان رَحمَه الله كَلَام الكبراء خُصُوصا الْمُلُوك مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَأَن الْعَامَّة إِذا نقلته وَضعته غَالِبا فِي غير مَحَله وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رَضِي الله عَنهُ بلغه وَهُوَ بمنى أَن رجلا قَالَ وَالله لَو قد مَاتَ عمر لبايعنا فلَانا يُرِيد رجلا من غير قُرَيْش فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لأقومن العشية فأحذر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ أَن يغصبوهم فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع النَّاس يغلبُونَ على مجلسك فَأَخَاف أَن يسمعوا مِنْك كلمة فَلَا ينزلوها على وَجههَا ويطيروا بهَا عَنْك كل مطير فامهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السّنة فتخلص بأصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فيحفظوا مَقَالَتك وينزلوها على وَجههَا فَقَالَ عمر وَالله لأقومن بِهِ فِي أول مقَام أقومه بِالْمَدِينَةِ الحَدِيث فَانْظُر كَيفَ منع عبد الرَّحْمَن عمر رَضِي الله عَنهُ من الْكَلَام بِالْمَوْسِمِ وبمحضر الْعَامَّة خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وانقاد لَهُ عمر حَيْثُ علم أَن ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق هَذَا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان وَفِي خير الْقُرُون فَكيف فِي زمَان قل علمه وَكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب وَلما افْتتح السُّلْطَان رَحمَه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وقْعَة زَاوِيَة الشرادي وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله هَؤُلَاءِ الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصَّحرَاء وهم طوائف زُرَارَة والشبانات وهم الخلص مِنْهُم ويضاف لَهُم بعض أَوْلَاد دليم وتكنة وذوو بِلَال وَغَيرهم وَكَانَت مَنَازِلهمْ فِي دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يَوْم مِنْهَا فَنَشَأَ فيهم الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشرادي من أهل الصّلاح زمن أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي فاعتقدوه وَرُبمَا ناله بعض الْإِحْسَان من السُّلْطَان الْمَذْكُور ثمَّ نَشأ ابْنه السَّيِّد أبي مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس فَجرى مجْرى أَبِيه وَبنى الزاوية المنسوبة إِلَيْهِم واعتقده قومه أَيْضا بل وَغَيرهم فقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَن السَّيِّد مُحَمَّدًا هَذَا لما قدم من الْحَج سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف اجتاز بِمَدِينَة فاس فَاجْتمع عَلَيْهِ نَاس مِنْهَا وتلمذوا لَهُ وبنوا لَهُ زَاوِيَة بدرب الدرج من عدوة الأندلس وَأثْنى عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه فَانْظُرْهُ ثمَّ جَاءَ ابْنه الْمهْدي بن مُحَمَّد فسلك ذَلِك المسلك أَيْضا وَنَشَأ فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَاتخذ شَيْئا من كتب الْعلم من غير أَن يكون لَهُ فِيهِ يَد تعْتَبر ثمَّ تظاهر بِمَعْرِِفَة السيميا والحدثان فازداد ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَرُبمَا نمى شَيْء من أمره إِلَى السُّلْطَان فتغافل عَنهُ ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رَحمَه الله مراكش هَذِه الْمرة وجد أمره قد زَاد واستفحل وَكَانَ الشراردة يَوْمئِذٍ قد حسنت حَالهم فأثروا وكثروا وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم اسْمه قَاسم الشرادي فَحدث بَينه وَبَين الْمهْدي مَا يحدث بَين المرابطين وأرباب الْولَايَة وَكَانَ رُبمَا التجأ جَان إِلَى زَاوِيَة الْمهْدي فَيقبض عَلَيْهِ الْقَائِد ويخرجه مِنْهَا فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الْقَائِد وَبَين الْمهْدي ثمَّ جرى شنآن بَين الْمهْدي وَبَين بعض قرَابَته ففر ذَلِك الْقَرِيب إِلَى مراكش وَكَانَ الْقَائِد قَاسم بهَا فَشَكا إِلَيْهِ عَمه الْمهْدي فاغتنمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 الْقَائِد وَدخل على السُّلْطَان فشرح لَهُ حَال الْمهْدي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من التهور والسمو بِنَفسِهِ إِلَى الْمحل الَّذِي لَا يبلغهُ وَأَنه لَا يَسْتَقِيم أَمر المخزن بِتِلْكَ الْقَبِيلَة مَعَه وَلم يزل بِهِ حَتَّى أعطَاهُ السُّلْطَان مِائَتَيْنِ من الْخَيل أغار بهَا على الزاوية فانتهبوها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وجلهم غَائِب فِي أَعماله فتسامعوا بِأَن الْخَيل قد عاثت فِي دِيَارهمْ وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إِلَى مراكش راجلين فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان واغتاظ وَاتفقَ أَن كَانَ مَعَ السُّلْطَان عَامل مراكش أَبُو حَفْص عمر بن أبي سِتَّة وعامل الرحامنة الْقَائِد قَاسم الرحماني وَكِلَاهُمَا عَدو للشراردة لَا سِيمَا الرحماني فشنعوا فِي ذَلِك بِمحضر السُّلْطَان وأسدوا وألحموا فِي غَزْو الشراردة وتأديبهم حَتَّى لَا يعودوا لمثلهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك نَدم الشراردة على مَا كَانَ مِنْهُم وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بالشفاعات وذبحوا عَلَيْهِ وعَلى صلحاء مراكش فَلم يقبل مِنْهُم وَيُقَال إِن ذَلِك لم يكن يبلغ السُّلْطَان لِأَن النَّقْض والإبرام إِنَّمَا كَانَ لعمر بن أبي سِتَّة وقاسم الرحماني وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله كالمغلوب على أمره مَعَهُمَا فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بعث إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم لغزو الشراردة فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه جَيش الودايا وكبارهم مثل الطَّاهِر بن مَسْعُود الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَغَيرهمَا وَمَعَهُ الْقَائِد مُحَمَّد بن العامري فِي بني حسن وَغَيرهم من قبائل الغرب وَلما أجمع السُّلْطَان الْخُرُوج إِلَيْهِم قدم أَمَامه قاسما الرحماني إِذْ كَانَ قد تكفل لَهُ بِأَن يَكْفِيهِ أَمر الشراردة وَحده فَكَانَ متسرعا إِلَيْهِم قبل كل أحد فرابط بِعَين دادة ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا والوسائط تَتَرَدَّد بَين السُّلْطَان وَبَين الشراردة وكادت كلمتهم تخْتَلف إِذْ قَامَ فيهم رجل مرابط اسْمه الحبيب من أَوْلَاد سَيِّدي أَحْمد الزاوية وَبعث نَحْو الْأَرْبَعين من الشراردة إِلَى السُّلْطَان سعيا فِي الصُّلْح فَأَشَارَ الرحماني وَابْن أبي سِتَّة فِيمَا قيل على السُّلْطَان بِالْقَبْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 عَلَيْهِم فَقبض عَلَيْهِم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء ثمَّ زحف السُّلْطَان وانتشبت الْحَرْب أول النَّهَار وَلما اشْتَدَّ الْحر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف تحاجزوا ثمَّ عَاد قَاسم الرحماني فأنشب الْحَرْب مَعَ الْعشي فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وَقتل وَحمل رَأسه على رمح وَانْهَزَمَ جَيش المخزن وَوَقع الفشل فِي الْمحلة فتفرقت الْقَبَائِل وَبَاتُوا لَا يلوون على شَيْء وَلما طلع النَّهَار لم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا جَيش المخزن فزحف الشراردة إِلَى الْمحلة وَرَأَوا السُّلْطَان قد بَقِي فِي قلَّة فطمعوا فِيهِ وأنشبوا الْحَرْب فَانْهَزَمَ الْجَيْش الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَتركُوا الْمحلة بِمَا فِيهَا فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السُّلْطَان فِي حَاشِيَته وَقصد مراكش فلقيتهم فِي طريقهم ساقية مَاء حبستهم عَن الْمُرُور وخالط الشراردة الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَجعلُوا يستلبون من ظفروا بِهِ مِنْهُم وتراكم المنهزمة على السُّلْطَان ولجؤوا إِلَيْهِ وَقتل الشراردة عمر بن أبي سِتَّة خلف ظَهره وَلما رأى السُّلْطَان رَحمَه الله ذَلِك نَادَى فِي النَّاس أَن لَا يقتل أحد نَفسه على وَلَا على هَذِه الأسلاب أعطوهم مِنْهَا مَا شاؤوا وَاجْتمعَ نَحْو الْعشْرين من كبار الشراردة وتقدموا إِلَى السُّلْطَان فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا تحيز إِلَيْنَا لِئَلَّا تصيبك الْعَامَّة فانحاز إِلَيْهِم وَكَانَ رَاكِبًا على بغلته فالتفوا عَلَيْهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى زاويتهم وأنزلوه بِالدَّار الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بدار الْمَوْسِم واحترموه وغدوا وراحوا فِي خدمته وَكَانَ مَعَ وصيفه فرجى صَبيا صَغِيرا وَهُوَ الَّذِي ولي إِمَارَة فاس الْجَدِيد فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَكَانَ مَعَه أَيْضا عبد الْخَالِق بن كريران الحريزي شَابًّا كَمَا بقل عذاره وَبَقِي عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام وَحَضَرت الْجُمُعَة فَصلاهَا عِنْدهم وخطبوا بِهِ وَمن الْغَد ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى مراكش إِلَى أَن وصلوا إِلَى عين أبي عكاز فودعوه وَرَجَعُوا وَمِمَّا قَالَ لَهُم عِنْد الْوَدَاع إِن الَّذين أَرَادوا أَن يفتحوا بَاب الْفِتْنَة على النَّاس قد سد الله أَبْوَابهَا برؤوسهم يَعْنِي الرحامنة وَبعد وُصُول السُّلْطَان إِلَى مراكش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 بِيَوْم أَو نَحوه عدا الرحامنة على مُحَمَّد بن أبي سِتَّة فَقَتَلُوهُ بِسَبَب أَن الشراردة كَانُوا قد أسروه ثمَّ استحيوه وَاتَّخذُوا عِنْده عهدا ويدا بِأَنَّهُ إِذا أفضت إِلَيْهِ ولَايَة مراكش بعد أَخِيه عمر الْمَقْتُول يحسن فِي إدارة أَمرهم عِنْد السُّلْطَان فَسمع الرحامنة بذلك فَقَتَلُوهُ قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزم السُّلْطَان على الْخُرُوج إِلَى زَاوِيَة الشرادي بَعَثَنِي قبل ذَلِك بِثَلَاث إِلَى السوس فِي شَأْن ابْن أَخِيه الْمولى بناصر بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَاملا عَلَيْهَا فكثرت الشكايات بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَبَعَثَنِي فِي شَأْنه فَلَمَّا جِئْت تارودانت تربصت قَلِيلا فَلم يفجأنا إِلَّا خبر الْهَزِيمَة على السُّلْطَان بالروايات الْمُخْتَلفَة فَقَائِل يَقُول إِنَّه قد قتل وَآخر يَقُول إِنَّه قد مَاتَ حتف أَنفه وَآخر يَقُول لَا بَأْس عَلَيْهِ ثمَّ ورد علينا كِتَابَانِ من عِنْد السُّلْطَان أَحدهمَا بِخَط الْكَاتِب مطبوعا وَالْآخر بِخَط يَده تَحْقِيقا لسلامته يَقُول فِيهِ إِن هَذِه الْحَرَكَة مَا وَقعت إِلَّا لهلاك الظلمَة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم فِي الْبَاطِن أعدى الأعادي مثل قَاسم الرحماني وَفُلَان وَفُلَان وَأما أَوْلَاد أبي سِتَّة فقد قتل زُرَارَة عمر على رَائِحَة الرحامنة وَقتل الرحامنة مُحَمَّدًا على رَائِحَة أهل السوس والشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل الوزاني أَصَابَته رصاصة رِعَايَة رَحمَه الله عَلَيْهِ وَالْحَاصِل هان علينا كسر الخابية بِمَوْت الفار وَقد أَحْسَنت فِي التَّرَبُّص فاترك الْأَمر على طيته واصحب مَعَك أَشْيَاخ السوس وعدهم منا بِالْإِحْسَانِ ومساعدتهم على مَا يطلبونه منا وَالسَّلَام اه وَلما دخل السُّلْطَان مراكش رَاجع الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا عَنهُ بصائرهم وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ خاضعين تَائِبين وعَلى أبوابه فِي الْعَفو راغبين فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِعْرَاض عَن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ أَمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ ليأتوا بحصصهم إِلَى عيد المولد الْكَرِيم فانقضى أَجله رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رَحمَه الله كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة قد سئم الْحَيَاة ومل الْعَيْش وَأَرَادَ أَن يتْرك أَمر النَّاس لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ويتخلى هُوَ لعبادة ربه إِلَى أَن يَأْتِيهِ الْيَقِين قَالَ ذَلِك غير مرّة وتعددت فِيهِ رسائله ومكاتيبه فمما كتبه فِي ذَلِك هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي يَقُول فِيهَا الْحَمد لله لما رَأَيْت مَا وَقع من الْإِلْحَاد فِي الدّين واستيلاء الفسقة والجهلة على أَمر الْمُسلمين وَقد قَالَ عمر إِن تابعناهم تابعناهم على مَا لَا نرضى وَإِلَّا وَقع الْخلاف وَأُولَئِكَ عدُول وَهَؤُلَاء كلهم فساق وَقَالَ عمر فَبَايعْنَا أَبَا بكر فَكَانَ وَالله خير وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق أبي بكر يَأْبَى الله وَيدْفَع الْمُسلمُونَ ورشحه بتقديمه للصَّلَاة إِذْ هِيَ عماد الدّين وَقَالَ أَبُو بكر للْمُسلمين بَايعُوا عمر وَأخذ لَهُ الْبيعَة فِي حَيَاته فلزمت وَصحت بعد مَوته وَقَالَ عمر هَؤُلَاءِ السِّتَّة أفضل الْمُسلمين وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم العَبْد صُهَيْب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَمِين هَذِه الْأمة وَقَالَ مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر وَقَالَ فِي أبي بكر وَعمر أَكثر من هَذَا فَصَارَ الْمَدْح للتعريف وَاجِبا ولإظهار حَال الرجل لينْتَفع بِهِ فَأَقُول جعله الله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم مَا أَظن فِي أَوْلَاد مَوْلَانَا الْجد عبد الله وَلَا فِي أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد وَالِدي رَحمَه الله وَلَا أَوْلَاد أَوْلَاده أفضل من مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَلَا أصلح لهَذَا الْأَمر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن شَاءَ الله حفظه الله لَا يشرب الْخمر ويزني ولايكذب وَلَا يخون وَلَا يقدم على الدِّمَاء وَالْأَمْوَال بِلَا مُوجب وَلَو ملك ملك المشرقين لِأَنَّهَا عبَادَة صهيبية ويصوم الْفَرْض وَالنَّفْل وَيُصلي الْفَرْض وَالنَّفْل وَإِنَّمَا أتيت بِهِ من الصويرة ليراه النَّاس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لَهُم لِأَن الدّين النَّصِيحَة فَإِن اتبعهُ أهل الْحق صلح أَمرهم كَمَا صلح سَيِّدي مُحَمَّد جده وَأَبوهُ حَيّ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيّ أبدا ويغبطه أهل الْمغرب ويتبعونه إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَكَانَ من اتبعهُ اتبع الْهدى والنور وَمن اتبع غَيره اتبع الْفِتْنَة والضلال وَاحْذَرْ النَّاس أَوْلَاد يزِيد كَمَا حذر وَالِدي وَقد رأى من اتبعهُ أَو اتبع أَوْلَاده كَيفَ خَاضَ الظلمَة ونالته دَعْوَة وَالِده وَخرج على الْأمة وَأما أَنا فقد خفت قواي ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا حفظني الله فِي أَوْلَادِي وَالْمُسْلِمين آمين نصيحة وَصِيَّة سُلَيْمَان بن مُحَمَّد لطف الله بِهِ اه وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَقعت غدرة ذَوي بِلَال فِي انتهابهم الصاكة الْوَارِدَة من مرسى الصويرة وَكَانَ انتهابهم إِيَّاهَا بِاتِّفَاق من الشياظمة الَّذين جاؤوا مَعهَا وَقَائِدهمْ عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي هُوَ الَّذِي انتهب أَكْثَرهَا وَكَانَ فِيهَا من الذَّخَائِر النفيسة وَالْأَمْوَال الثَّقِيلَة شَيْء كثير وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي هدت أَرْكَان السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فاعتراه مَرضه الَّذِي كَانَ سَبَب وَفَاته وَلما أثقله الْمَرَض أعَاد الْعَهْد للْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس إِذْ كَانَ خَليفَة بهَا كَمَا مر فَدَعَا رَحمَه الله بِصَحِيفَة بَيْضَاء ودعا بالطابع الْكَبِير فجيء بِهِ وَلم يحضرهُ إِلَّا أَهله من النِّسَاء فطبع الصَّحِيفَة بِيَدِهِ وَكتب بعض الْكتاب وأكملته بعض حظاياه مِمَّن كَانَت تحسن الْكِتَابَة ثمَّ طواه وَختم عَلَيْهِ ودعا الْقَائِد الجيلاني الرحماني الحويوي وَكَانَ قَائِد المشور وَقَالَ لَهُ ادْع لي فارسين يذهبان بِهَذَا الْكتاب إِلَى فاس وَقد عينت لَهما سخرة كَبِيرَة يقبضانها هُنَاكَ إِذا أَسْرعَا السّير فَكَانَ ذَلِك الْكتاب هُوَ الْعَهْد الَّذِي قرىء بفاس وَنَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى ابْن عمنَا الْفَقِيه القَاضِي مولَايَ أَحْمد والفقيهين ابْن إِبْرَاهِيم والآزمي وَبعد فقد وجدت من نَفسِي مَا لَيْسَ بتارك أحدا فِي الدُّنْيَا وَهَذِه وَصِيَّة أقدمها بَين يَدي أَجلي وَالله مَا بَقِي فِي قلبِي مِثْقَال ذرة على أحد من خلق الله لِأَن ذَلِك أَمر قد قدره الله وَسبق علمه بِهِ وَلست فِيهِ بأوحد وَمَا وَقع لمن قبلي أشنع وأقطع وَإِنِّي قد عقدت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 بَين أخوالي وَأهل فاس أخوة بحول الله لَا تنفصم يَرِثهَا الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء وأوصي الْجَمِيع بِمَا أوصى الله بِهِ الْأَوَّلين {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا} النِّسَاء 131 {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله} الْحَشْر 7 وبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة بِخَير مَا أخذُوا بِكِتَاب الله وَقد عهِدت لِابْنِ أخي مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ورجوت الله أَن يكون لي فِي هَذَا الْأَمر مثل مَا لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي عَهده لعمر بن عبد الْعَزِيز {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} يس 12 من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على عقد الْبيعَة بالعهد وَالْقَاضِي والفقيهان يبينون لكم هَذَا {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} النِّسَاء 59 وَإِنِّي أشهد الله أَنِّي مقرّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعبد الله عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وببيعته أَلْقَاهُ وَقد أدّيت لأمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عَليّ من النَّصِيحَة وأرجوا الله أَن يثيبني بِهَذِهِ النِّيَّة الصَّحِيحَة وَهُوَ المطلع على مَا فِي الضمائر والعالم بالسرائر وَالسَّلَام وَفِي رَابِع ربيع النَّبَوِيّ عَام ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه ثمَّ تَمَادى بالسلطان رَحمَه الله مَرضه إِلَى أَن توفّي ثَالِث عشر ربيع الأول وَهُوَ الثَّانِي من عيد المولد الْكَرِيم من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَات رَحمَه الله ثَابت الذِّهْن صَحِيح الميز على غَايَة من الْيَقِين والفرح بلقاء ربه وَدفن بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف بِبَاب آيلان من مراكش وَقد رثاه جمَاعَة من أدباء الْعَصْر من ذَلِك قَول الْفَقِيه الأديب الْكَاتِب البليغ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي (نبأ عرى أَوْهَى عرى الْإِيمَان ... وَأَبَان حسن الصَّبْر عَن إِمْكَان) (شقَّتْ لموقعه الْقُلُوب وزلزلت ... أَرض النُّفُوس ورج كل مَكَان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 (فقد الإِمَام أبي الرّبيع المرتضى ... جزعت لعظم مصابه الثَّقَلَان) (وبكت عُيُون الدّين مَاء جفونها ... وجدا عَلَيْهِ وكل ذِي إِيمَان) (لم نعى الناعون خير خَليفَة ... وعرا الْفُؤَاد طوارق الأحزان) (مزقت ثوب تجلدي من فَقده ... وَنَثَرت در الدمع من أجفاني) (عجبا لمَوْت غاله إِذْ لم يخف ... فتك الْمُلُوك وسطوة السُّلْطَان) (وسما لمنصبه المنيف وَلم يهب ... غضب الْجنُود وغيرة الأعوان) (لَو كَانَ ينفع خَاضَ فرسَان الوغا ... حرصا عَلَيْهِ مواقد النيرَان) (وحموه بِالنَّفسِ النفيسة إِنَّمَا ... يحْمُونَ روح الْعدْل وَالْإِحْسَان) (لَكِن قَضَاء الله حم فَلَا يرى ... للمرء فِي دفع الْقَضَاء يدان) (وَالْمَوْت مورد كل حَيّ كأسه ... وَسوى الْمُهَيْمِن فِي الْحَقِيقَة فان) (إِن غَابَ عَنَّا شخصه فَلَقَد ثوى ... فِينَا الثَّنَاء لَهُ بِكُل لِسَان) (ومناقب ومفاخر ومآثر ... شاعت لَهُ فِي سَائِر الأوطان) (ومعارف وعوارف ووسائل ... ومسائل قد أوضحت ومعاني) (وبدور أَوْلَاد وَآل قد قفوا ... آثاره فِي الْعلم والعرفان) (تخذوا الدّيانَة والصيانة شرعة ... وتقلدوا بصوارم الإيقان) (أَخْلَاقهم ووجوههم وأكفهم ... كالزهر والأزهار والأمزان) (إِن حَاربُوا أبدوا شجاعة جدهم ... أَو خاطبوا أزروا على سحبان) (من كل من جعل الْقُرْآن سميره ... وسما بِوَصْف الْعلم والتبيان)) (كم آيَة ظَهرت لَهُ وكرامة ... دَامَت دلائلها مدى الْأَزْمَان) (قد كَانَ أوحد دهره ولذاته ... فِي الْعدْل والتمكين وَالْإِحْسَان) (قد كَانَ عَالم عصره وفريده ... فِي الْفَهم وَالتَّحْقِيق والإتقان) (قد كَانَ فَردا فِي البلاغة إِن جرت ... أقلامه بهرت بِسحر بَيَان) (من للعلى من بعده من للنَّهْي ... من للتقى وتلاوة الْقُرْآن) (يَا رمسه مَاذَا حويت من العلى ... وطويت من علم وَمن عرفان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 (يَا رمس كم واريت من كرم وَمن ... جود وَمن فضل وَمن إِحْسَان) (يَا رمس كم حجبت عَنَّا شمسه ... وضياؤها فِي سَائِر الْبلدَانِ) (ووسعت بَحر علومه وسخائه ... فطمى بِضيق بَطْنك البحران) (فَلَو اسْتَطَعْت جعلت قلبِي قَبره ... حبا وأحشائي من الأكفان) (وَلَو أَن عمري فِي يَدي لوهبته ... وفديته بالأهل والإخوان) (لَكِن يُخَفف بعض أثقال الأسى ... علمي بِهِ فِي جنَّة الرضْوَان) (فسقى ثراه من الْمَوَاهِب دِيمَة ... وهمت عَلَيْهِ سحائب الغفران) (ورد الرَّسُول بِمَوْت خير خَليفَة ... وَولَايَة الْعَهْد الرفيع الشَّأْن) (فَجَزِعت من حزن لما قد نابني ... وطربت من فَرح بِمَا أولاني) (مَا مَاتَ من ترك الْخَلِيفَة بعده ... مثل الْمُؤَيد عَابِد الرَّحْمَن) (ملك تسربل بالتقى حَتَّى ارْتقى ... من نهجه الأتقى على كيوان) (يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مشارك ... أَقْسَمت مَا لَك فِي الْبَريَّة ثَان) (لله بيعتك الَّتِي قد أشبهت ... فِيمَا تَوَاتر بيعَة الرضْوَان) (قد أحكمتها يَد الشَّرِيعَة والتقى ... بعرى النُّصُوص وواضح الْبُرْهَان) (سعد الَّذِي أضحى بهَا متمسكا ... وَهوى العنيد بهوة الخسران) (وَجرى على التَّيْسِير أَمرك فَاسْتَوَى ... ملك الورى لَك فِي أقل زمَان) (وَأَتَتْ لنصرتك المغارب كلهَا ... فبعيدها لَك فِي الْحَقِيقَة داني) (عقدوا على النصح الْقُلُوب وَإِنَّمَا ... عقدوا بنصرك رايه الْإِيمَان) (لَو شِئْت من أهل الْمَشَارِق طَاعَة ... لأتوك من يمن وَمن بغدان) (هابتك أَصْنَاف الطغاة بزعمهم ... لما وثقت بنصرة الرَّحْمَن) (وَبسطت عدلك فِي الورى فَكَأَنَّمَا ... قد عَاشَ فِي أيامك الْعمرَان) (يَا أهل بَيت الْمُصْطَفى أوصافكم ... جلت عَن الإحصاء والحسبان) (طَابَ المديح مَعَ الرثاء بذكركم ... فنظمته كقلائد العقيان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته لما بُويِعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله رد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا وأجرى الْخلَافَة على قوانينها بِإِقَامَة الْعدْل والرفق بالرعية والضعفاء وَالْمَسَاكِين وَمن وفور عقله وعدله إِسْقَاط المكوس الَّتِي كَانَت موظفة على حواضر الْمغرب فِي الْأَبْوَاب والأسواق وعَلى السّلع والغلل وعَلى الْجلد وعشبة الدُّخان فقد كَانَ يقبض فِي ذَلِك أَيَّام وَالِده رَحمَه الله خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال مَعْلُومَة مثبتة فِي الدفاتر مبيعة فِي ذمم عُمَّال الْبلدَانِ وقواد الْقَبَائِل كل مَدِينَة وَمَا عَلَيْهَا وَمن ذَلِك المكس كَانَ صائر الْعَسْكَر فِي الْكسْوَة والسروج وَالسِّلَاح وَالْعدة وَالْإِقَامَة والخياطة والتنافيذ لوفود الْقَبَائِل والعفاة والمؤنة للعسكر ولدور السُّلْطَان وَسَائِر تعلقاته فَكَانَ ذَلِك المكس كَافِيا لصوائر الدولة كلهَا وَلَا يدْخل بَيت المَال إِلَّا مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل وزكواتهم وَكَانَ مُسْتَفَاد هَذَا المكس يعادل مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل فزهد فِيهِ هَذَا السُّلْطَان الْعَادِل فَعوضهُ الله أَكثر مِنْهُ من الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي هُوَ الزكوات والأعشار من الْقَبَائِل وزكوات أَمْوَال التُّجَّار وَالْعشر الْمَأْخُوذ من تجار النَّصَارَى وَأهل الذِّمَّة بالمراسي وَأما الْمُسلمُونَ فقد مَنعهم من التِّجَارَة بِأَرْض الْعَدو لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تعشير مَا بِأَيْدِيهِم أَو المشاجرة مَعَ الْأَجْنَاس هَكَذَا بلغنَا وَالله أعلم وَكَانَت الْقَبَائِل فِي دولته قد تمولت ونمت مواشيها وَكَثُرت الْخيرَات لَدَيْهَا من عدله وَحسن سيرته فَصَارَت الْقَبِيلَة الَّتِي كَانَت تُعْطِي عشرَة آلَاف مِثْقَال مُضَارَبَة أَيَّام وَالِده يسْتَخْرج مِنْهَا على النّصاب الشَّرْعِيّ عشرُون وَثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَذَلِكَ من توفيق الله لَهُ وتمسكه بِالْعَدْلِ والحلم والجود وَالْحيَاء وَجَمِيل الصَّبْر وَحسن السياسة والتأني فِي الْأُمُور واجتنابه لما هُوَ بضد ذَلِك فَأَما الْحلم فَهُوَ دأبه وطبعه وَقد اتّفق أهل عصره على أَنه كَانَ أحلم النَّاس فِي زَمَانه وأملك لنَفسِهِ عِنْد الْغَضَب من أَن يَقع فِي الْخَطَأ ومذهبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 دَرْء الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ والتماس التَّأْوِيل وَقبُول الْعذر حَتَّى لقد حكى عَنهُ أَنه مَا اعْتمد الْبَطْش بِأحد وتصدى لنكبته لغَرَض نفساني أَو لحظ دُنْيَوِيّ وحسبك من حلمه مَا قَابل بِهِ الخارجين عَلَيْهِ قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزمت على الْخُرُوج من فاس أَيَّام الْفِتْنَة لملاقاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بقصر كتامة جِئْت إِلَى القَاضِي أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي لأودعه فَكَانَ من جملَة مَا أَوْصَانِي بِهِ قَالَ قل لمولانا السُّلْطَان يَقُول لَك عَبَّاس إِنَّا نَخَاف إِذا ظَفرت بهؤلاء الظلمَة أَن تصفح عَنْهُم فَلَمَّا اجْتمعت بالسلطان أبلغته مقَالَة القَاضِي فَقَالَ كَيفَ أصفح عَنْهُم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي عَزِيز لَا أتركك تمسح سبلتك بِمَكَّة وَتقول خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ فاسا كَانَ جَوَابه أَن قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ بل تعجل بِالْخرُوجِ مِنْهَا مَخَافَة أَن يغريه بعض بطانته بِأحد مِنْهُم فلعمري لقد صدق من قَالَ إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق وَأما الدّين وَالتَّقوى فَذَلِك شعاره الَّذِي يمتاز بِهِ ومذهبه الَّذِي يدين الله بِهِ من أَدَاء الْفَرِيضَة لوَقْتهَا الْمُخْتَار حضرا وسفرا وَقيام رَمَضَان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذَلِك الأساتيذ ومشايخ الْقُرَّاء وَيجمع أَعْيَان الْعلمَاء لسرد الحَدِيث الشريف وتفهمه والمذاكرة فِيهِ على مر اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ويتأكد ذَلِك عِنْده فِي رَمَضَان ويشاركهم بغزارة علمه وَحسن ملكته ويتناول راية السَّبق فِي فهم الْمسَائِل الَّتِي يعجز عَنْهَا غَيره فَيُصِيب الْمفصل ويواظب على صِيَام الْأَيَّام المستحبة من كل شهر ويعظم الْعلمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَيرْفَع مناصبهم على سَائِر رجال دولته وَيجْرِي عَلَيْهِم الأرزاق ويعطيهم الدّور الْمُعْتَبرَة والضياع المغلة وَيحسن مَعَ ذَلِك إِلَى من دونهم فِي الْمرتبَة من المدرسين وطلبة الْعلم ويؤثر المعتنين مِنْهُم وَذَوي الْفَهم بمزيد البروتضعيف الجراية حَتَّى لقد تنافس النَّاس فِي أَيَّامه فِي اقتناء الْعُلُوم وانتحال صناعتها لاعتزاز الْعلم وَأَهله فِي دولته وسعة أَرْزَاقهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَأما صبره عِنْد الشدائد وَاحْتِمَال العظائم وتجلده عِنْد حُلُول الْخطب ونزول الْمَقْدُور فَحدث عَن الْبَحْر وَلَا حرج وَعَن الْجَبَل سكونا ورسوخ قدم قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَو حَدثنَا بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْهُ لَكَانَ عجبا وَأما الْعدْل فَإِنَّهُ مَا رئي فِي مُلُوك عصره أعدل مِنْهُ وَمن عَجِيب سيرته أَنه كَانَ يلْزم الْعمَّال رد مَا يقبضونه من الرعايا على وَجه الظُّلم من غير إِقَامَة بَيِّنَة عَلَيْهِم على مَا جرى بِهِ عمل الْفُقَهَاء من قلب الحكم فِي الدَّعْوَى على الظلمَة وَأهل الْجور حَسْبَمَا ذكره الوانشريسي وَغَيره وَمن عدله واقتصاده مَا حَكَاهُ لنا الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي الْمُؤَقت بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا قَالَ مر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بسلا سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنزل بِرَأْس المَاء واستدعاني للْقِيَام بوظيفة التَّوْقِيت عِنْده قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ رجل طَوِيل أَبيض جميل الصُّورَة ففاوضني فِي مسَائِل من التَّوْقِيت وَكَانَ يُحسنهُ فأجبته عَنْهَا فأعجبه ذَلِك ثمَّ وصلني بضبلونين وَأخرج مجانته من جيبه ليحققها فَرَأَيْت مجدولها من صوف ثمَّ حضرت صَلَاة الْعَصْر فَتقدم وَصلى بِنَا فَرَأَيْت سراويله مرقعة وَكَانَ إِمَام صلَاته الرَّاتِب هُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الْحَاج الْعَرَبِيّ الساحلي لكنه صلى بِنَا تِلْكَ الصَّلَاة وَلما فَرغْنَا من الصَّلَاة وانقلبنا إِلَى مَنَازلنَا جِيءَ بِالطَّعَامِ وَهُوَ قصيعة من الكسكس عَلَيْهَا شَيْء من اللَّحْم والخضرة وَلَيْسَ مَعهَا غَيرهَا قَالَ وَكَانَت عَادَة الْمولى سُلَيْمَان فِي السّفر أَن لَا يتَّخذ كشينة أَي مطبخا إِنَّمَا هُوَ طَعَام يسير يصنع لَهُ ولبعض الْخَواص مِمَّا يَكْفِي من غير إِسْرَاف حَتَّى أَن الْكتاب كَانُوا يقبضون سِتّ موزونات ويعولون أنفسهم وَكَانَت أقواتهم وأزوادهم خَفِيفَة اه وَأما سياسته الْخَاصَّة فِي جبر الْقُلُوب واستئلاف الشارد وتسكين المرتاب وإرضاء الْوَلِيّ ومجاداة الْعَدو والدفاع بِالَّتِي هِيَ أحسن عِنْد اشْتِبَاه الْأُمُور ومعاناة الرِّجَال بِوُجُودِهِ المكائد والحيل فِي الْأُمُور الَّتِي لَا ينفع فِيهَا حَرْب وَلَا قُوَّة فشيء لَا يبلغ فِيهِ شأوه وَلَا يشق غباره وَأما عَادَته فِي الْحَرْب فقد أَخذ فِيهَا بسيرة الْعَجم بِحَيْثُ لَا يُبَاشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الحروب بِنَفسِهِ وَيعْمل بِعَمَل أهل الصَّدْر الأول فيقف فِي قلب الْجَيْش كالجبل الراسي وأمراؤه يباشرون الْحُرُوف بِأَنْفسِهِم فِي الميمنة والميسرة وَهُوَ ردء لَهُم كلما رأى فُرْجَة سدها أَو خللا أصلحه وَهُوَ كالصقر مطل على حومة الوغا فَإِذا أمكنته فرْصَة أنتهزها وَمن شدَّة ثباته وَعدم تزحزحه أَنه كَانَ لَا يركب وَقت الْحَرْب إِلَّا البغلة وَبِذَلِك جرى عَلَيْهِ فِي وقْعَة ظيان والشراردة مَا جرى فَكَانَ حماته يفرون عَنهُ بِلَا حَيَاء وَيبقى هُوَ ثَابتا رَحمَه الله وَأما جمعه لأشتات الْعُلُوم فَلَقَد كَانَ وَارِثا من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء حَامِلا للواء الشَّرِيعَة جَامعا مَانِعا إِذا بوحث فِي الْأَخْبَار كَانَ كجامع سُفْيَان أَو فِي الْأَشْعَار فكنابغة ذبيان أَو فِي الفطنة والفراسة فكإياس أَو فِي النجدة والرأي فكالمهلب وَإِذا خَاضَ فِي السّنة وَالْكتاب أبدى ملكة مَالك وَابْن شهَاب وَلَو تصدى فِي الْفِقْه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه أَنه ابْن الْقَاسِم أَو ابْن إِدْرِيس وَإِذا تكلم فِي عُلُوم الْقُرْآن أنهل بِمَا يغمر مورد الظمآن قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَا يعرف مِقْدَار هَذَا السُّلْطَان إِلَّا من تغرب عَن الأوطان وَحمل عَصا التسيار ورمت بِهِ فِي الأقطار الْأَسْفَار وَشَاهد سيرة الْمُلُوك فِي الْعباد وَمَا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الْبِلَاد وَلَا يتَحَقَّق أهل الْمغرب بعدله إِلَّا بعد مغيبه وفقده (الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ ... ويعظم الرزء فِي حِين يفتقد) وَمن آثاره الْبَاقِيَة وبناءاته العادية فبفاس الْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرصيف الَّذِي لَا نَظِير لَهُ كَانَ حفر أساسه الْمولى يزِيد واشتغل عَنهُ وَتَركه فَافْتتحَ هُوَ عمله ببنائه وتشييده وأبقاه دينا على الْمُلُوك وَبنى مَسْجِد الدِّيوَان كَانَ صَغِيرا فهدمه وَزَاد فِيهِ أملاكا وَجعله مَسْجِدا جَامعا تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَبنى مَسْجِد الشرابليين زَاد فِيهِ ووسعه وَجعله مَسْجِدا جَامعا كَذَلِك وَبنى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن بن غَالب وضريحه وَبنى ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب التازي وَهدم مدرسة الْوَادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد الْمدرسَة العنانية وَأصْلح مَسْجِد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وَبنى بَاب الْفتُوح على هَيْئَة ضخمة وَبَاب بني مُسَافر وَالْبَاب الْجَدِيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 على براح أبي الْجُلُود وَبنى القنطرة على الْوَادي بَينهمَا وجدد قنطرة الرصيف مرَّتَيْنِ وَأصْلح قنطرة وَادي سبو وَأصْلح طرقات فاس الْجَدِيد كلهَا من دَاخل وخارج ورصفها بِالْحِجَارَةِ وَأصْلح أَبْوَاب فاس الْجَدِيد كلهَا ورمم مَا تلثم مِنْهَا وجدد قُصُور الْملك الخربة بهَا وَزَاد غَيرهَا وَأمر بتبييض مَسَاجِد الْخطب وتبليط أرْضهَا وَبنى مَسْجِد صفرو وجدد أسواره وَبنى لأَهله حَماما بِهِ وَبنى مَسْجِد الْمنزل ببني يازغة وَبنى مَسْجِد وَجدّة وحماما بهَا وَأصْلح قلعتها وَدَار إمارتها وَبنى مَسْجِد وازان وَمَسْجِد تطاوين وَأخرج أهل الذِّمَّة من جواره وَبنى لَهُم حارة بطرِيق الْمَدِينَة وَبنى الصقائل والأبراج بطنجة وجدد مَسْجِد آصيلا وأسوارها وجدد قُصُور الْملك بمكناسة بعد تلاشيها وَأصْلح القناطر الَّتِي بَين فاس ومكناسة وَبنى قنطرة على وَادي سَيِّدي حرازم بخولان وَبنى مَسْجِد الجزارين بسلا ووقف عَلَيْهِ أوقافا تقوم بمصلحته وَأخرج يهودها من وسط الْبَلَد من حومة بَاب حُسَيْن وَبنى لَهُم حارة على حدتها غربي الْبَلَد وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم بحومة السويقة من رِبَاط الْفَتْح وَبنى دَار الْبَحْر لنزوله وَبنى قنطرة وَادي حِصَار بتامسنا وَبنى مَسْجِد أبي الْجَعْد بتادلا وَبنى قنطرة وَادي أم الرّبيع وقنطرة تانسيفت بمراكش بعد سُقُوطهَا وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم الَّذِي كَانَ أسسه على بن يُوسُف اللمتوني بمراكش وبناه بِنَاء ضخما وأزال منارته الَّتِي كَانَت بِهِ قَدِيما وشيد مَنَارَة أُخْرَى بديعة الْحسن رائقة الصَّنْعَة وأكمل مَسْجِد الرحبة الَّذِي كَانَ أسسه وَالِده رَحمَه الله وَمَات قبل تَمَامه وجدد قُصُور وَالِده بمراكش وَأَصْلَحهَا وصان القصبة وعمرها ثمَّ ختم رَحمَه الله ديوانه بِالْحَسَنَة الْعَظِيمَة والمنقبة الفخيمة وَهِي عَهده بالخلافة لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام على كَثْرَة أَوْلَاده وَوُجُود بعض إخْوَته ولعمري أَن هَذَا الْعَهْد لمنقبة جليلة للعاهد والمعهود إِلَيْهِ أما العاهد فَإنَّا لم نسْمع بعد أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِأحد من خلفاء الأسلام وملوكه عدل بِولَايَة الْعَهْد عَن وَلَده الْمُسْتَحق لَهَا إِلَى غَيره حَتَّى كَانَ هَذَا الإِمَام الْجَلِيل الَّذِي أَحْيَا سيرة العمرين نعم قد عهد سُلَيْمَان بن عبد الْملك لِابْنِ عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 رحمهمَا الله لَكِن حكى ابْن الْأَثِير أَن سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة عزم أَن يعْهَد لِابْنِ لَهُ صَغِير فوعظه رَجَاء بن حَيْوَة فَرجع عَن ذَلِك وشاوره فِي ابْنه دَاوُد وَكَانَ غازيا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَجَاء لَا تَدْرِي أَحَي هُوَ أم ميت فَحِينَئِذٍ رَجَعَ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَأما الْمَعْهُود إِلَيْهِ فَإِن فِي الْعَهْد إِلَيْهِ دون الْأَبْنَاء وَالإِخْوَة شَاهدا عدلا على كَمَال فَضله وإحرازه لخلال الْخَيْر وتبريزه فِيهَا على من عداهُ من بني أَبِيه وعشيرته ولعمري أَن ذَلِك لكذلك فَإِن الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عِنْد القاصي والدان حَتَّى صَار لَا يخْتَلف فِي عَدَالَته اثْنَان تمّ الْجُزْء الثَّامِن ويليه الْجُزْء التَّاسِع وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الدولة العلوية الْقسم الثَّالِث الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وأوليته ونشأته كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله مُنْذُ نَشأ وَهُوَ متمسك بالتقوى والعفاف متصف بالصيانة وَجَمِيل الْأَوْصَاف من الانقباض عَن الْخلق وملازمة الْعِبَادَة وَالصَّوْم وَقيام اللَّيْل وَترك مَا لَا يَعْنِي وَالْجد فِي الْأُمُور كلهَا حَتَّى عرفت لَهُ هَذِه الشنشنة وتطابقت على حبه ومدحه الْقُلُوب والألسنة وَلما نَشأ هَذِه النشأة الطّيبَة أقبل عَلَيْهِ عَمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وضمه إِلَيْهِ واعتنى بِشَأْنِهِ وَرفع مَنْزِلَته حَتَّى علا أَوْلَاده وَلما بعث أَوْلَاده إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج بَعثه فِي جُمْلَتهمْ فَظهر لَهُ فِي تِلْكَ السفرة من الْوَرع وَالدّين والتمسك بِأَسْبَاب الْيَقِين مَا رفع قدره وأشاع بالصلاح ذكره وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد أعطَاهُ بضَاعَة ينفقها فِي سفرته تِلْكَ ويستعين بهَا على حجه فَلَمَّا آب من سَفَره أَتَى بالبضاعة إِلَى عَمه وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي هَذِه البضاعة الَّتِي أَعْطَيْتنِي إِنَّمَا أَخَذتهَا لأنفق مِنْهَا إِذا نفذ مَا عِنْدِي وَكَانَت معي بضَاعَة جمعتها بِقصد إنفاقها فِي هَذِه الوجهة وَلم أرد أَن أخلطها بغَيْرهَا وَقد حصلت الْكِفَايَة بهَا وَالْحَمْد لله فَعجب عَمه من شَأْنه وازداد محبَّة وغبطة فِيهِ ورد لَهُ البضاعة وطيبها لَهُ ودعا لَهُ بِخَير وَكَانَ فِي أول أمره مُقيما بتافيلالت ثمَّ استقدمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي آخر عمره وولاه بثغر الصويرة وأعمالها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فَقَامَ بذلك أحسن قيام ثمَّ استقدمه مِنْهَا فِي فتْنَة ابْني يزِيد كَمَا مر واستخلفه على حَاضِرَة الْمغرب وَأم أمصاره مَدِينَة فاس فقرت بولايته الْعُيُون وَطَابَتْ الأنفاس كل ذَلِك فعله بِهِ ترشيحا لِلْأَمْرِ وتقديما لَهُ فِيهِ على زيد وَعَمْرو بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة جدد الْعَهْد لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس ثمَّ كَانَت وَفَاة السُّلْطَان عقب ذَلِك فوصل خبر وَفَاته إِلَى فاس فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَحَضَرَ القَاضِي الشريف الْمولى أَحْمد بن عبد الْملك والعلامة الْمُفْتِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم والتاجر الْأَمِير الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون وَسَائِر أَعْيَان فاس من الْعلمَاء والأشراف وَغَيرهم وَحضر أَعْيَان الودايا وقوادهم وَلما قرىء الْعَهْد ترحموا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَبَايَعُوا للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة وَتمّ أمره وسر النَّاس بذلك خَاصَّة وَعَامة ثمَّ ترادفت على حَضرته بيعَة أهل الدِّيوَان وَسَائِر الْجنُود وَحل من الْملك الْعَزِيز فِي فلك السُّعُود وكتبت البشائر بذلك إِلَى الْبلدَانِ فوفدت بيعات أهل الْأَمْصَار وهداياهم وَلم يتَوَقَّف عَن هَذِه الْبيعَة الشَّرْعِيَّة أحد مِنْهُم واستبشر أهل الْمغرب بولايته وَبَان لَهُم مصداق يمنه وسعادته بتوالي الأمطار وَرخّص الأسعار والعافية آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلما تمت هَذِه الْبيعَة الْمُبَارَكَة وَحصل مَا ذكرنَا من الْأَمْن والعافية وَحسن الْحَال والرفاهية استوزر السُّلْطَان رَحمَه الله الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي فَقَالَ (مولَايَ بِشِرَاك بالتأييد بشراكا ... قد أكمل الله بالتوفيق سراكا) (الْفَتْح والنصر قد وافاك جيشهما ... والسعد واليمن قد حَيا محياكا) (الله ألبسك الإقبال تكرمة ... وبالتقى والنهى وَالْعلم حلاكا) (فراسة الْملك المرحوم قد صدقت ... لما تفرس فِيك حِين ولاكا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 (أعدت للدّين وَالدُّنْيَا جمالهما ... فأصبحا فِي حلى من حسن مغناكا) (وزادك الْغَيْث غوثا فِي سحائبه ... فجاد بالقطر قطرا فِيهِ مأواكا) ثمَّ وَردت على السُّلْطَان تهنئة عَالم إفريقية ومفتيها وأديبها الشَّيْخ أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي بقصيدة يَقُول فِيهَا (نصر من الرَّحْمَن جلّ لعَبْدِهِ ... أيروم خلق نقض مبرم عقده) (وعدت بِهِ الأقدار وَهِي نوافذ ... لَا تحسبن الله مخلف وعده) (وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل نَصره ... فِي الشَّاكِرِينَ لَهُ سوابغ رفده) (فلتبسم ثغر الهنا مُسْتَبْشِرًا ... فالوقت ينْطق عَن سَعَادَة جده) (أَن يمض مَوْلَانَا سُلَيْمَان الرِّضَا ... وَعَلِيهِ تبْكي الباكيات لفقده) (الْعلم وَالتَّقوى وكل فَضِيلَة ... منشورة طويت بِهِ فِي لحده) (فَلَقَد أَقَامَ لنا أَبَا زيد هدى ... نورا مُبينًا يستضاء برشده) (لَو لم يكن كفئا لما أوصى بِهِ ... وَبَنوهُ ترفل فِي ملابس مجده) (سعدت بِهِ الْأَيَّام ثمَّ أَرَادَ أَن ... تبقى السَّعَادَة للورى من بعده) (أعظم بِهِ نصرا يَدُوم سروره ... للخافقين سرى تضوع رنده) (أهْدى إِلَى الْأَعْدَاء أقتل غُصَّة ... والأوليا متنعمون بشهده) (فاستبشروا بِالْيمن من مرضاته ... واستمطروا نيل المنى من وده) (مَا هُوَ إِلَّا ابْن الرَّسُول وَهل فَتى ... فِي النَّاس يعدل عَن مَكَارِم جده) (وتناسقت أسلافه كرما كَمَا ... راق النواظر لُؤْلُؤ فِي عقده) (لَا غرو أَن جمع المحاسن كلهَا ... مِنْهُم فإرث الْجمع حق لفرده) (لَا يأفك الخراص حَيْثُ يَقُول قد ... ذهب الزَّمَان بعمره وبزيده) (فبسيف مَا ننسخ يقد أديمه ... حَتَّى وَلَو وفى العيان برده) (فلكم وَكم من آخر زَمنا لَهُ ... فضل عَظِيم لَا يحاط بسرده) (يَا أهل فاس والمغارب كلهَا ... والشرق من مصر لغاية حَده) (يهنيكم هَذَا الزَّمَان فَإِن فِي ... أَيَّامه للدّين مطلع سعده) (وَالْعلم وَالتَّقوى وكل مُعظم ... عِنْد الشَّرِيعَة فَهُوَ بَالغ قَصده) (النُّور أوقد مِنْهُم أَترَاهُم ... يرضون إِلَّا باستدامة وقده) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 (الله يبقي نوره متوقدا ... يفنى الزَّمَان وَلَا فنَاء لخلده) (ويخص مَوْلَانَا الْأَمِير بِنِعْمَة ... لَا تَنْقَضِي وعناية من عِنْده) (ويديمه ظلا وريفا كلما ... حمى الورى هرعوا لجنة برده) (وحسام فتح كلما نهضت بِهِ ... عزماته فالنصر شاحذ حَده) (وَتَمام بدر كلما اقتعد السرى ... لم يسر إِلَّا فِي منَازِل سعده) (وَعَلِيهِ تَسْلِيم تأرج نده ... لكنه فِي الْفضل عادم نده) (ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... وَالْحَمْد فِي بَدْء الْكَلَام وَعوده) اجْتِمَاع البربر على بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد تقدم لنا أَن البربر بعد وقْعَة ظيان اتَّفقُوا على مناوأة السُّلْطَان ومنابذته وَأَنَّهُمْ صَارُوا يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ وعَلى كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن زَاد البربر ذَلِك الْحلف توكيدا وَشدَّة وَأَعدُّوا لعصيانهم واعوجاجهم أكمل عدَّة لَا سِيمَا رئيسهم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي الزموري فَإِنَّهُ لما فعل فعلته فِي وقْعَة ظيان من جرة الْهَزِيمَة على الْمولى سُلَيْمَان ثمَّ عززها بأختها من بيعَته للْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد والإجلاب فِيهَا بالقريب والبعيد خَافَ أَن يَأْخُذهُ بذلك من يَأْتِي بعده من بني أَبِيه وعشيرته فجد فِي صرف وُجُوه البربر عَن السُّلْطَان واستعان فِي ذَلِك بِأبي بكر مهاوش فروض لَهُ رُؤَسَاء البربر حَتَّى اجْتمعت كلمتهم على أَن لَا يتْركُوا بِأَرْض الْمغرب ذكرا للسُّلْطَان وَحزبه وَرُبمَا شايعهم على ذَلِك بعض غواة الْعَرَب مثل الصفافعة والتوازيط من بني حسن وزعير وَجل عرب تادلا فَلَمَّا أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ نقض مَا أبرموا ونثر مَا جمعُوا من ذَلِك ونظموا جعل لذَلِك سَببا وَهُوَ أَن الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي كَانَ مسجونا عِنْد الودايا كَمَا تقدم فِي أَخْبَار فتْنَة ابْني يزِيد وَاسْتمرّ فِي السجْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 إِلَى أَن بُويِعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَكَانَ ابْن الْغَازِي من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمِمَّنْ لَهُ فِيهِ اعْتِقَاد كَبِير فوفد عَلَيْهِ أَوْلَاد الشَّيْخ ونزلوا عَلَيْهِ لكَي يسْعَى فِي تَسْرِيح والدهم وألحوا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من إِظْهَار الطَّاعَة للسُّلْطَان وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فوفد على السُّلْطَان فِي جمع من وُجُوه قومه بهديتهم وبيعتهم فَلَمَّا رأى بَاقِي البربر الَّذين حالفوه من آيت أدراسن وجروان أَنه قدم على السُّلْطَان ظهر لَهُم خيانته فنبذوا ذَلِك الْعَهْد وسارعوا إِلَى بيعَة السُّلْطَان وخدمته بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فَقدم عَلَيْهِ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَأدّى الطَّاعَة وَدخل فِي حزب الْجَمَاعَة وَعَلِيهِ وعَلى ابْن الْغَازِي كَانَ يَدُور أَمر البربر فِي ذَلِك الْوَقْت فخذل الله فِيمَا بَينهم وَجمع كلمتهم على السُّلْطَان من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا إيجَاف بخيل وَلَا رجل فقابلهم السُّلْطَان بغاية الْإِحْسَان لَا سِيمَا ابْن الْغَازِي فَإِنَّهُ إستخلصه وَجعله عُمْدَة رَأْيه وعيبة سيره حَتَّى كَانَ لَا يقطع أمرا دونه بعد أَن سرح لَهُ الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي رَحمَه الله ثمَّ إِن السُّلْطَان زوج ابْن الْغَازِي بِإِحْدَى حظايا عَمه السُّلْطَان المرحوم وَهِي ابْنة الْقَائِد عمر بن أبي سِتَّة فعلا قدر ابْن الْغَازِي فِي الدولة بذلك وَاطْمَأَنَّ إِلَى السُّلْطَان بعد أَن كَانَ يسايره على أوفاز وَذهب مَعَه إِلَى مراكش مرَّتَيْنِ حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لتفقد أَحْوَال الرّعية ووصوله إِلَى رِبَاط الْفَتْح لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله من أَمر الْوُفُود والتهاني بِحَضْرَة فاس الْتفت إِلَى النّظر فِي أَحْوَال الرّعية وتثقيف أَطْرَاف المملكة فولى على فاس وصيفه أَبَا جُمُعَة بن سَالم الَّذِي كَانَ بوابا على الدَّار الْكُبْرَى بفاس الْجَدِيد ثمَّ لما عزم على السّفر عَزله وَولى مَكَانَهُ ابْن عَمه سَيِّدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 مُحَمَّد بن الطّيب ثمَّ نَهَضَ من فاس الْجَدِيد بِقصد تفقد الممالك فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَسَار حَتَّى وصل إِلَى قصر كتامة وعسكر هُنَالك بالكدية الإسماعيلية وَبهَا وَفد عَلَيْهِ الْمولى عبد السَّلَام ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْكتاب فيهم أَبُو عبد الله أكنسوس وَكَانَ الْمولى عبد السَّلَام الْمَذْكُور قد قدم من تافيلالت إِلَى مراكش عقب وَفَاة وَالِده بِقصد أَخذ الْبيعَة على أهل مراكش لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان وَكَانَ قد بُويِعَ بتافيلالت وَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم فَلَمَّا صَادف الْمولى عبد السَّلَام الْأَمر قد تمّ للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ سقط فِي يَده فَأَعْرض عَمَّا جَاءَ لأَجله وتدارك أمره عِنْد السُّلْطَان بالوفادة عَلَيْهِ وَالدُّخُول فِي بيعَته قَالَ أكنسوس لما قدمنَا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن من مراكش إِلَى قصر كتامة أَمر بإدخالي عَلَيْهِ لشدَّة تشوفه إِلَى أَخْبَار السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان فَدخلت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ نَحْو ساعتين وسألني عَن كل شَاذَّة وفاذة قَالَ ثمَّ دخلت عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْمغرب وسألني عَن بَقِيَّة الْأَخْبَار ثمَّ ذكر أَوْلَاد عَمه السُّلْطَان المرحوم وَقَالَ وَالله لَا يرَوْنَ مني إِلَّا الْخَيْر ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستقر بهَا ثمَّ وفدت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز ورؤساؤها فعيد هُنَالك عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس وَمَعَهُ أَعْيَان قبائل الْحَوْز الَّذين وفدوا عَلَيْهِ وَلما احتل بفاس قدم عَلَيْهِ عَمه الْمولى مُوسَى بن مُحَمَّد مَعَ جمَاعَة من أهل مراكش وَفِيهِمْ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم وَلم يلم أحدا من شيعَة الْمولى عبد الْوَاحِد وَلَكِن عَفا وصفح وقابل بِالْإِحْسَانِ ثمَّ ولى على مراكش ابْن عَمه الْمولى مبارك بن عَليّ بن مُحَمَّد وَبَعثه فِي صحبتهم فَقَدمهَا وَتصرف فِي أمرهَا إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بشرَاء دَار أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام شقشاق الفاسي وَكَانَت مجاورة لقبة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ بَينهَا وَبَين القيسارية ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 أَمر بهدمها وزيادتها فِي مَسْجِد الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَجمع الصناع والعملة على ذَلِك فتأنقوا فِيهِ مَا شاؤوا حَتَّى جَاءَ أحسن من الْمَسْجِد الْقَدِيم وَكَانَ الَّذِي تولى الْقيام على ذَلِك الشريف الْمولى الْهَاشِمِي بن مُلُوك البلغيني فكمل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة على غَايَة من الإبداع والإتقان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صحيفَة السُّلْطَان وَفِي هَذِه الْمدَّة توفّي الشَّيْخ الْأَكْبَر الْعَارِف الْأَشْهر أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء بِأبي برِيح من بِلَاد غمارة وقبره شهير وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ عَجِيب الْحَال كَبِير الشَّأْن ورسائله مَوْجُودَة فِي أَيدي النَّاس وَله فِيهَا نفس مبارك نفعنا الله بِهِ وبأمثاله خُرُوج السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَنَقله آيت يمور إِلَى الْحَوْز ومسيره إِلَى مراكش لما سَافر السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن السفرة الأولى إِلَى رِبَاط الْفَتْح كَانَ قَصده أَن ينظر فِي أَحْوَال الرعايا وَمَا هِيَ عَلَيْهِ حَتَّى يكون على بَصِيرَة فِيمَا يَأْتِي ويذر من أمرهَا ثمَّ لما عَاد إِلَى فاس استعد الاستعداد التَّام بِقصد تدويخ الْمغرب وتمهيد أقطاره وَلم شعثه وتدارك رمقه إِذْ كَانَت الْفِتْنَة أَيَّام الفترة قد أحالت حَاله وكسفت باله وَكَانَ الْمولى مبارك بن عَليّ صَاحب مراكش قد استولت عَلَيْهِ بطانة السوء وَكَثُرت بِهِ الشكايات إِلَى السُّلْطَان فعزم السُّلْطَان رَحمَه الله على إِعْمَال السّفر إِلَى مراكش فَخرج من فاس وَقصد أَولا مكناسة فَلَمَّا دنا مِنْهَا خرج العبيد إِلَى لِقَائِه بالأعلام مَرْفُوعَة على العصي وَكَانُوا جمَاعَة يسيرَة فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله أَيْن جند عبيد البُخَارِيّ فَقَالُوا هَذِه الْبركَة الَّتِي أشأرتها الْفِتْنَة وعَلى الله ثمَّ عَلَيْك الْخلف فَدخل السُّلْطَان رَحمَه الله مكناسة وتفقد بَيت مَالهَا فَأَلْقَاهُ أنقى من الرَّاحَة وَوجد العبيد على غَايَة من الْقلَّة والخصاصة حَتَّى لقد باعوا الْخَيل وَالسِّلَاح وأكلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 أثمانها فأنعشهم وجدد رسمهم وقواهم بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح والجرايات حَتَّى صلح أَمرهم وَذهب فَقرهمْ قَالَ صَاحب الْجَيْش وَحَاصِل الْأَمر أَن هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله وجد الدولة قد ترادفت عَلَيْهَا الهزاهز وَصَارَت بعد حسن الشبيبة إِلَى قبح الْعَجَائِز قد تفانت رجالها وضاق مجالها وَذَلِكَ من وقْعَة ظيان إِلَى موت السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فَلَمَّا جَاءَ الله بِهَذَا السُّلْطَان الْمُؤَيد لم يجد بهَا إِلَّا رمقا قَلِيلا وخيالا عليلا قد وهت دعائمها وأشرفت على الانهدام المفضي إِلَى حَالَة الانعدام فأمده الله بضروب السَّعَادَة الخارقة للْعَادَة فَقَامَ بأعبائها بِلَا مَال وَلَا رجال والعناية من الله تساعده والفشل يباعده حَتَّى أَقَامَ بِنَاء الْملك الْإِسْمَاعِيلِيّ على أساسه ورد روحه إِلَى الْجَسَد بعد خمود أنفاسه وَلما قضى رَحمَه الله أربه من مكناسة صرف عزمه إِلَى آيت يمور وَكَانُوا نازلين بجبل سلفات وبالولجة الطَّوِيلَة من عهد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فعفوا وكثروا وأطغاهم نزولهم بِتِلْكَ الأَرْض العجيبة ذَات الْمزَارِع الخصيبة فأضروا بجيرانهم من أهل زرهون وَأهل الغرب وَغَيرهم فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن يشو الْمَالِكِي العروي أَن يحتال فِي كيادهم والإيقاع بهم فَفعل وَقبض على نَحْو الأربعمائة مِنْهُم وَبعث بهم إِلَى السُّلْطَان ثمَّ نقلهم السُّلْطَان إِلَى حوز مراكش وَسَار إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاحتل بِهِ وَعقد لِأَخِيهِ الْمولى الْمَأْمُون بن هِشَام على مراكش وولاه عَلَيْهَا مَكَان الْمولى مبارك بن عَليّ ثمَّ خرج السُّلْطَان من رِبَاط الْفَتْح قَاصِدا مراكش فَمر بقبائل الشاوية وساس أَمرهم بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَقتل الْهَاشِمِي بن الْعَبَّاس الزياني وَكَانَ هَذَا قد قتل قَائِد الشاوية أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الوراوي احتال عَلَيْهِ بِأَن دَعَاهُ للاصطياد فَلَمَّا خلا بِهِ رَمَاه برصاصة فَقتله بالموضع الْمَعْرُوف بتادارت قرب مديونة فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بالهاشمي أَن تضرب عُنُقه بذلك الْموضع وَذَلِكَ بعد أَن ولاه على قبيلته مُدَّة ثمَّ مر بقبائل دكالة فأوقع بالعونات وَتقدم إِلَى مراكش فَلَمَّا دَخلهَا بعث من جَاءَ بِمُحَمد بن سُلَيْمَان الفاسي موقد نَار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فتْنَة إِبْرَاهِيم بن يزِيد فَأتى بِهِ من سجن الجزيرة فَضربت عُنُقه وَنصب رَأسه على بَاب الْخَمِيس من مراكش وَكَانَ مسجونا مَعَه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب البياز الفاسي فَأخْرجهُ السُّلْطَان من السجْن وَمن عَلَيْهِ إِذْ لم يكن على مَذْهَب ابْن سُلَيْمَان بل كَانَ صَاحب مُرُوءَة وجد فِي الْأُمُور وَلذَلِك استخدمه السُّلْطَان رَحمَه الله فَجعله أَمينا على مرسى طنجة أَولا ثمَّ ولاه على فاس ثَانِيًا وَالله تَعَالَى أعلم نكبة ابْن الْغَازِي الزموري وَمَا آل إِلَيْهِ أمره قد قدمنَا أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي الزموري كَانَ قد بَايع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وسعى فِي سراح الشَّيْخ أبي عبد الله الدرقاوي رَضِي الله عَنهُ وَأَن السُّلْطَان استخلصه وصاهره بِإِحْدَى حظايا عَمه الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما وصل مَعَه إِلَى مراكش ثمَّ اضْطربَ كَلَام أكنسوس فِي أَن السُّلْطَان قبض على ابْن الْغَازِي فِي أول قدمة قدمهَا مَعَه إِلَى مراكش أَو بعْدهَا وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن ابْن الْغَازِي الْمَذْكُور كَانَت لَهُ دَالَّة على السُّلْطَان قد جَاوَزت الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن تسير بِهِ الرّعية مَعَ الْمُلُوك وَكَانَت عَادَته أَن يحضر بِالْغَدَاةِ والعشي إِلَى بَاب السُّلْطَان كَغَيْرِهِ من كبار الدولة ووجوهها على الْعَادة فِي ذَلِك فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي وَهُوَ رَاجع إِلَى منزله رصده بعض العبيد بِالطَّرِيقِ فَرَمَاهُ برصاصة فأخطأه فوصل إِلَى منزله وَقد ارتاب بالسلطان فَمن دونه من أهل الدولة وَحَمَلته دالته على أَن أطلق لِسَانه وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فأغضى لَهُ عَنْهَا ثمَّ أفْضى بِهِ التهور إِلَى أَن انْقَطع عَن الْحُضُور بِبَاب السُّلْطَان غَضبا على الدولة فَأطَال لَهُ السُّلْطَان الرسن كي يرجع فَلم يرجع وَبلغ السُّلْطَان أَنه يحتال فِي الْفِرَار فعاجله بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى جَزِيرَة الصويرة الَّتِي هِيَ سجن أهل الجرائم الْعِظَام فسجن بهَا مُدَّة ثمَّ أصبح ذَات يَوْم مَيتا وَذَلِكَ فِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف على مَا قيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان رَحمَه الله وَبني جنس الصاردو وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ شرطا كلهَا ترجع إِلَى تَمام الصُّلْح ودوام الْأَمْن والمجاملة فِي التِّجَارَات وَسَائِر أَنْوَاع المخالطات وَالثَّالِث عشر مِنْهَا يتَضَمَّن لُزُوم مراكب الْمُسلمين أَن تعْمل الكرنتينة إِن تعين مُوجبهَا عِنْد دُخُول مرسى من مراسي الصاردو وَكَذَلِكَ هم أَيْضا ولَايَة الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على تامسنا ودكالة وأعمالها كَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد ولى ابْن عَمه الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بن مُحَمَّد بن عبد الله على فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ ولاه على قبائل تامسنا ودكالة بأسرها وفوض إِلَيْهِ النّظر فِي أمرهَا وَكَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا ذَا شدَّة وشكيمة على العصاة دوسري الْبَطْش حجاجي السَّيْف وَكَانَ قد اتخذ كلابا ضخاما تسميها الْعَامَّة القناجر يُوهم النَّاس أَنه إِذا غضب على أحد أَلْقَاهُ إِلَيْهَا فتفترسه وَكَانَ رُبمَا جِيءَ إِلَيْهِ بالجاني فَيقوم إِلَيْهِ ويباشر ذبحه بِيَدِهِ حَتَّى لقد حز أُصْبُعه فِي ذبحه لبَعض الجناة فَقدم سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا تامسنا وأوقع بأولاد حريز وقْعَة شنعاء فَقبض على جمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم وَضرب مِنْهُم نَحْو مِائَتي رَقَبَة وَهدم قَصَبَة كريران الحريزي الْمُسَمَّاة بمرجانة فَتَسَامَعَتْ الْقَبَائِل بسطوته فذعروا واقشعرت جُلُودهمْ لهيبته ثمَّ زحف إِلَى دكالة وَمَعَهُ بعض مساجين أهل تامسنا فَلَمَّا وصل إِلَى شاطىء وَادي آزمور أحضر أُولَئِكَ المساجين فَقطع الْبَعْض وَقتل الْبَعْض ثمَّ عبر الْوَادي وَنزل بآزمور فازداد النَّاس رعْبًا مِنْهُ وخشعت لَهُ قبائل دكالة بأسرها ثمَّ تقدم إِلَى الجديدة فاحتل بهَا وَكَانَت يَوْمئِذٍ خربة لَا زَالَت على الْهَيْئَة الَّتِي فتحت عَلَيْهَا أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وَكَانَت تسمى قبل الْفَتْح بالبريجة فَلَمَّا فتحت وتهدم صورها بالمينى صَار النَّاس يسمونها بالمهدومة فَأمر سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بِبِنَاء سورها وترميم مَا تلثم مِنْهَا وسماها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الجديدة وتهدد من يسميها بِغَيْر ذَلِك فسميت الجديدة من يَوْمئِذٍ وَهُوَ الَّذِي بنى القبيبة الصُّغْرَى الْمُقَابلَة لباب الْمَسْجِد الْجَامِع بهَا ثمَّ لما صفا للسُّلْطَان أَمر هَذِه الْبِلَاد بِسَبَب ابْن الطّيب وبسبب مَا حدث فِي الْمغرب من الْجُوع الَّذِي أهلك النَّاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهِم بَعثه إِلَى الصَّحرَاء لتدويخ أَهلهَا وجباية زكواتها وأعشارها فَذهب إِلَيْهَا وَعَاد مخففا فولاه السُّلْطَان على وَجدّة فَأَقَامَ بهَا يَسِيرا وَرجع بِلَا طائل شُرُوع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي غرس أجدال بِحَضْرَة مراكش لما صفا للسُّلْطَان رَحمَه الله أَمر الْمغرب شرع فِي غرس آجدال غربي مراكش وَهُوَ بُسْتَان عَظِيم جدا يشْتَمل على جنَّات كَثِيرَة مَعْرُوفَة بحدودها وأسمائها وأكرتها وتشتمل كل وَاحِدَة مِنْهَا على نوع أَو أَنْوَاع من الْأَشْجَار المثمرة النفاعة من زيتون ورمان وتفاح وليمون وعنب وتين وَجوز ولوز وَغير ذَلِك وكل نوع مِنْهَا يغل ألوفا فِي السّنة بِحَيْثُ أَن غلَّة الليمون وَحده تبَاع بِخَمْسِينَ ألفا وَأكْثر إِذا كَانَت صَالِحَة وَفِي خلال هَذِه الجنات من قطع الأزهار والرياحين والبقول الْمُخْتَلفَة اللَّوْن والطعم والرائحة والخاصية مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر حَتَّى أَن مِنْهَا مَا لَا يعرفهُ جلّ أهل الْمغرب وَلَا رَأَوْهُ قطّ لكَونه جلب من أقطار أُخْرَى وَفِي وَسطه برك عِظَام تسير فِيهَا القوارب والفلك وتصب فِيهِ الْعُيُون كأمثال الْأَنْهَار لسقي تِلْكَ الجنات وَعَلِيهِ من الأرحاء شَيْء كثير وَتلك البرك مِنْهَا مَا ضلعها الْوَاحِد يكون مِائَتَيْنِ خطْوَة وَأَقل وَأكْثر وَفِي دَاخله أَيْضا من المنتزهات الكسروية والقباب القيصرية والمقاعد المروانية مَا يستوقف الطّرف ويستغرق الْوَصْف مثل دَار الهناء وَالدَّار الْبَيْضَاء والصالحة والزاهرة وَغير ذَلِك ويتصل بِهِ جنان رضوَان الْفَائِق بحسنه وقبابه ومقاعده البهية على ذَلِك كُله وَالْحَاصِل أَن هَذَا الْبُسْتَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 جنَّة من جنان الدُّنْيَا يزري بشعب بوان وينسى ذكر غمدان إِلَى جنَّة المنارة والعافية وَغير ذَلِك من منتزهات مراكش العجيبة الَّتِي أنشأتها هَذِه الدولة فِي إبان الإقبال والشبيبة وَلما شرع السُّلْطَان رَحمَه الله فِي غرس هَذَا الْبُسْتَان جلب لَهُ الْعين الْآتِيَة من بِلَاد مسفيوة الْمُسَمَّاة بتاسلطانت وَهِي من أعذب الْعُيُون مَاء وأخفها وأنفعها للبدن وَكَانَت مسفيوة متغلبة على هَذِه الْعين من لدن دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يَعْمِدُونَ إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فيفرقونها سواقي على جناتهم ومزارعهم فَكَانَ ذَلِك دأبهم إِلَى أَن جَاءَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فأعياه أَمرهم فِيهَا فأقطعهم إِيَّاهَا على ألف مِثْقَال يؤدونه كل سنة فَلَمَّا جَاءَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن انتزعها مِنْهُم رغما عَلَيْهِم وَجَاء بهَا تشق الوهاد والربى حَتَّى أَلْقَت جِرَانهَا بأجدال السعيد وَعم نَفعهَا وريها الْقَرِيب مِنْهُ والبعيد وَفِي ذَلِك يَقُول الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رَحمَه الله (وَردت وَكَانَ لَهَا السُّعُود مواجها ... وَالْحسن مَقْصُورا على مواجها) (وبدت طلائع بشرها من قبلهَا ... كَالشَّمْسِ طالعة لَدَى أبراجها) (وتسير مَا بَين الأباطح والربى ... ترمي فريد الدّرّ من أمواجها) (وتصوغ من صافي النضار سبائكا ... حلت بهَا الأعطاف من أثباجها) (هَبَطت إِلَيْك من الْجبَال وطالما ... تعبت مُلُوك الأَرْض فِي إخْرَاجهَا) (وأتتك راغبة تجر ذيولها ... وَتفِيض غمر النّيل من أفواجها) (تنساب مثل الأفعوان وتنثني ... كالغصن بَين وهادها وفجاجها) (خطب الْمُلُوك نِكَاحهَا فتمنعت ... وأتتك واهبة حَلَال زواجها) (فلتهنك الخود الرفيع فخارها ... وليهنها أَن صرت من أزواجها) (حراء عباسية بدوية ... نشرت ذوائبها على ديباجها) (وافتك وافدة وَقد صبغ الحيا ... وجناتها وَجرى على أدراجها) (فَكَأَنَّهَا بلقيس جَاءَت صرحها ... لكنه صرح بِغَيْر زجاجها) (عرفت أناملك الشَّرِيفَة أبحرا ... غرقت بحار الأَرْض فِي عجاجها) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 (فأتتك طالبة الْأمان لنَفسهَا ... لتنال بعض الطّيب من ثجاحها) (لبتك إِذْ سَمِعت نداك وَأَقْبَلت ... مرهوبة تستن من إزعاجها) (ونزعتها بالقهر من غصابها ... وَالسَّابِقُونَ رَضوا بِبَعْض خراجها) وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي سردناها من أول هَذِه الدولة السعيدة إِلَى هُنَا تبعنا فِي جلها أَبَا عبد الله أكنسوس وَقد سَاقهَا رَحمَه الله مُجَرّدَة عَن التَّارِيخ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من الْفَنّ وَنحن لما لم نعثر فِي الْوَقْت على مَا يُحَقّق لنا تواريخها رتبناها بِحَسب مَا أدّى إِلَيْهِ الْفِكر والروية وأثبتناها لِئَلَّا تذْهب فائدتها بِالْكُلِّيَّةِ وعَلى كل حَال فَهِيَ فِي حُدُود الْأَرْبَعين من مائَة التَّارِيخ وَالله أعلم ولَايَة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الجراري على وَجدّة وأعمالها قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَ قد ولى ابْن عَمه سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على وَجدّة وَرجع عَنْهَا بِلَا طائل وَكَانَت ولَايَة هَذَا الثغر عِنْد السُّلْطَان من أهم الولايات وأخصها بمزيد الاعتناء لبعدها عَن دَار الْملك ومتاخمتها لمملكة التّرْك فَكَانَت ثغرا من الثغور ولكثرة قبائلها وَاخْتِلَاف آراء أَهلهَا وتعدد عصبياتهم فِي الْعَرَب والبربر ففكر السُّلْطَان رَحمَه الله فِيمَن يَكْفِيهِ هَذَا المهم ويسد لَهُ هَذَا المسد فَوَقع اخْتِيَاره على الْقَائِد الأنجد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان بن الْعَرَبِيّ الوديي الجراري فَرَمَاهَا بِهِ وَجعل أمرهَا إِلَيْهِ وعول فِي شَأْنهَا عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الرجل نَسِيج وَحده وقريع دهره فِي جودة الرَّأْي وإدارة الْأُمُور على وَجههَا وإجرائها على مُقْتَضى صوابها ومحبة السُّلْطَان ونصحه فولاه عَلَيْهَا فِي أَوَائِل سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَقَامَ بأمرها أحسن قيام وَاسْتوْفى جباية أهل المداشر مِنْهَا والخيام ثمَّ حمله نصحه وَصدق خدمته على أَن يسْتَأْذن السُّلْطَان فِي أَن يكون يكاتبه بِجَمِيعِ مَا يحدث فِي تِلْكَ الْبِلَاد من الْأُمُور الدَّاخِلَة فِي الدولة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 والخارجة عَنْهَا ليَكُون السُّلْطَان على بَال من ذَلِك الثغر فَاسْتَأْذن فِي ذَلِك بِوَاسِطَة الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس فَكَانَ من جَوَاب الْوَزير لَهُ أَن قَالَ حَسْبَمَا وقفت عَلَيْهِ بِخَطِّهِ إِنِّي أخْبرت سيدنَا الْمَنْصُور بِاللَّه بِمَا كتبت فِي شَأْنه فأعجبه ذَلِك وَقَالَ لَا بَأْس بِهِ وَليكن خفِيا من غير شُعُور أحد ليطلع سيدنَا على الْأُمُور وَيكون على بَصِيرَة فِيهَا فَلَا تقصر فِي ذَلِك واجتهد فِي إصْلَاح مَا ولاك وَأعظم ذَلِك وأهمه أَمَان الطَّرِيق وخمود الْفِتْنَة حَتَّى لَا يصل من تِلْكَ النَّاحِيَة إِلَّا الْخَيْر فَأَنت من فضل الله ذُو رَأْي وبصيرة بالأمور وخصوصا تِلْكَ النواحي وَالله يوفقك ويسددك وَهَذِه النواحي بِخَير وعافية وَفِي نعم من الله وافية قد نزل فِيهَا الْمَطَر الغزير وَكثر الخصب وحرث النَّاس الْحَرْث الْكثير وَسَيِّدنَا بمكناسة الزَّيْتُون وَلَا مَا يشوش البال غير أَن والدته المقدسة صَارَت إِلَى عَفْو الله وَرَحمته وَذَلِكَ قبل تَارِيخه بِشَهْر وَنحن على الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف مُحَمَّد بن إِدْرِيس لطف الله بِهِ انْتهى لفظ الْكتاب الْمَذْكُور وَفِي هَذِه الْمدَّة كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد اسْتعْمل الشَّيْخ أَبَا زيان بن الشاوي الأحلافي على تازا وأعمالها وأوصاه بالتعاون على أَمر الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالقائد إِدْرِيس فَكَانَا فِي إدارة الْأُمُور بِتِلْكَ النواحي كفرسي رهان وَلَكِن التبريز إِنَّمَا هُوَ للقائد إِدْرِيس وَلما دخل رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على الْمسير إِلَى بِلَاد الشرق وَجدّة وأعمالها للوقوف على تِلْكَ التخوم بِنَفسِهِ وَالنَّظَر فِي أمورها بِرَأْيهِ إِذْ لم يكن وَطأهَا قبل ذَلِك فاستنفر الْقَبَائِل لحضور عيد الْفطر والنهوض إِلَيْهَا وَلما حضر الْعِيد وَفد على السُّلْطَان جمَاعَة من بني يزناسن وعرب آنقاد فباحثهم رَحمَه الله عَن حَال بِلَادهمْ فشكوا قلَّة الخصب فصده ذَلِك عَن الْمسير إِلَيْهِم وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ سيطأ أَرضهم من الْعَام الْقَابِل فِي أول يناير ثمَّ صرف رَحمَه الله وجهته تِلْكَ إِلَى التطواف على مراسي الْمغرب وَالنَّظَر فِي أمورها وإحياء مراسم الْجِهَاد بهَا فَخرج من مكناسة منتصف شَوَّال من السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَمر بأرضات من أَعمال وازان وَصَارَ إِلَى تطاوين ثمَّ إِلَى طنجة ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 أصيلا وزار وَليهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مَرْزُوق وتبرك بِهِ ثمَّ مر بالعرائش وَهَكَذَا تتبع الثغور ثغرا ثغرا إِلَى آسفي وَفِي أثْنَاء ذَلِك ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بانتقاض الشراردة على الْمولى الْمَأْمُون صَاحب مراكش وخروجهم عَن الطَّاعَة وإفسادهم السابلة ونهبهم الرفاق وأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا حَتَّى كَانُوا يصلونَ إِلَى جنَّات مراكش فسدد السُّلْطَان رَحمَه الله قَصده نحوهم وَكَانَ من أمره مَعَهم مَا نذكرهُ فتح زَاوِيَة الشرادى وَالسَّبَب الدَّاعِي إِلَى غزوها قد قدمنَا مَا كَانَ من أَمر الْمهْدي بن الشرادي الزراري مَعَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله بِمَا فِيهِ كِفَايَة ثمَّ لما بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بَايعه الْمهْدي فِي جملَة النَّاس وَلما قدم السُّلْطَان مراكش قَدمته الأولى لقِيه الشراردة فِي خَمْسمِائَة فَارس بمشرع ابْن حمى مؤدين الطَّاعَة ففرح السُّلْطَان بهم وَأكْرم وفادتهم وَلما عزموا على الرُّجُوع كَانَ فِي جملَة مَا قَالَ لَهُم السُّلْطَان رَحمَه الله إِن مَا فَاتَ قد مَاتَ وَمَا نهب فِي أَيَّام الْفِتْنَة فَهُوَ هدر وَمن الْآن من فعل شَيْئا يخَاف على نَفسه فَرجع الشراردة إِلَى بِلَادهمْ وَعِيد السُّلْطَان بمراكش عيد المولد فَحَضَرت الْوُفُود وَحضر الشراردة فِي جُمْلَتهمْ وَسَاقُوا للسُّلْطَان خَمْسَة عشر جملا من الْكَتَّان وَخَمْسَة أحمال من الملف وَأَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال عينا مِمَّا كَانُوا نهبوه من صاكة الصويرة قبيل وَفَاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله حَسْبَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ قبل فَكَانَ من تَمام إِحْسَان السُّلْطَان إِلَيْهِم وتألفه إيَّاهُم أَن قَالَ لَهُم افرضوا لي مِائَتي فَارس مِنْكُم تذْهب إِلَى درعة وَهَذَا الْكَتَّان والملف هُوَ كسوتهم وَالْمَال صائرهم فَفَعَلُوا وكساهم السُّلْطَان وأنعم عَلَيْهِم ثمَّ لما ولى أَخَاهُ الْمولى الْمَأْمُون على مراكش مرضوا فِي طَاعَته ودعا الْمهْدي تهوره إِلَى أَن شكاه إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بمكناسة يَوْمئِذٍ ويعتد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَأْخُذ مِنْهُم الزكوات والأعشار على غير وَجههَا الشَّرْعِيّ وَأَنه ولي عَلَيْهِم أَرْبَعَة عُمَّال أَو خَمْسَة عوض عَامل وَاحِد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 كَانَ يتَوَلَّى عَلَيْهِم فأغضى السُّلْطَان عَن ذَلِك وَبَالغ فِي الأنة القَوْل لَهُ فِي كِتَابه ووعده بِأَنَّهُ إِذا وصل إِلَى مراكش يشكيه من أَخِيه وَفِي أثْنَاء ذَلِك وَقبل وُصُول كتاب السُّلْطَان إِلَيْهِ أغرى إخوانه بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة السُّلْطَان والاشتغال بِمَا يسْخط الله ويرضي الشَّيْطَان فانبثت خيولهم فِي الطرقات ومخروها مخرا وانتسفوها نسفا وعمدوا إِلَى قوادهم الَّذين ولاهم الْمولى الْمَأْمُون عَلَيْهِم فقبضوا عَلَيْهِم وأودعوهم السجْن وانتهبوا دُورهمْ وَوصل المسافرون والتجارإلى بَاب السُّلْطَان مجردين عُرَاة يَشكونَ مَا دهمهم من أَمر الشراردة وتكاثر عَلَيْهِ شذاذهم فَحِينَئِذٍ اسْتَأْنف السُّلْطَان جده وأرهف حَده وَكتب إِلَى أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون باستنفار قبائل الْحَوْز وَجَمعهَا عَلَيْهِ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ وَسَار السُّلْطَان فِي جَيش العبيد والودايا وآيت أدراسن وزمور وعرب بني حسن وَبني مَالك وسُفْيَان وَكتب إِلَى الشاوية ودكالة أَن تكون خيلهم معدة حِين يمر بهم وَكَانَ الْمهْدي قد عظم ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَكَاد يتجاوزهم إِلَى غَيرهم حَتَّى صَار يعرض أَو يُصَرح بِأَنَّهُ الْمهْدي المنتظر وَكَانَ السَّبَب الْأَقْوَى فِي طغيانه وطغيان قومه مَا اتّفق لَهُ فِي هزيمَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فَظن الْمهْدي وشراردته أَن لَا غَالب لَهُم من الله وَلما برز السُّلْطَان رَحمَه الله من رِبَاط الْفَتْح لقِيه ركب الْحجَّاج الَّذين انتهبهم هشتوكة والشياظمة الَّذين بأحواز آزمور وَكَانَت الْعَادة يَوْمئِذٍ بالمغرب أَن ركاب الْحَاج تَأتي من آفَاق الْمغرب فتجتمع بفاس وَمِنْهَا يخرج الركب على الْهَيْئَة الْمَعْهُودَة فِي ذَلِك الزَّمَان فَلَمَّا وصل هَؤُلَاءِ الْحجَّاج من أهل السوس وَغَيرهم إِلَى الشياظمة وهشتوكة انتهبوهم وجردوهم من الْمخيط وَالْمُحِيط فَسمع السُّلْطَان رَحمَه الله شكواهم وامتعض لانتهاك حرمتهم وزحف إِلَى هَؤُلَاءِ المفسدين فأوقع بهم وقْعَة شنعاء بالموضع الْمَعْرُوف بفرقالة من أَعمال آزمور حَتَّى كَانُوا يلقون أنفسهم فِي الْبَحْر طلبا للنجاة بعد أَن أثروا فِي الْمحلة أول النَّهَار ثمَّ كَانَت الكرة عَلَيْهِم وَحكم السُّلْطَان السَّيْف فِي رقابهم وامتلأت أَيدي الْعَسْكَر من أثاثهم وماشيتهم وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة طَلِيعَة الْفَتْح ومقدمة الظفر ثمَّ عبر إِلَى آزمور وَمِنْهَا إِلَى الجديدة ثمَّ سَار مَعَ السَّاحِل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 حَتَّى وصل إِلَى آسفي فزار الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد صَالح رَضِي الله عَنهُ وَعطف إِلَى الزاوية الشرادية فبغتها وطلعت عَلَيْهَا راياته المنصورة بِاللَّه مَعَ الصَّباح وَلم يعرج على مراكش وَقبل نزُول الْجَيْش وَضرب الأخبية أنشبت الْحَرْب مَعَهم فتقاتلوا وتحاجزوا مَعَ الظّهْر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف ودامت الْحَرْب سَبْعَة أَيَّام وَنصب عَلَيْهِم السُّلْطَان المدافع والمهاريس الْعِظَام وَفِي الْيَوْم الْخَامِس من تِلْكَ الْأَيَّام كَانَ عيد المولد الْكَرِيم يَوْم الْأَرْبَعَاء من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَأَرَادَ السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يعفي النَّاس من الْحَرْب ذَلِك الْيَوْم فَحمل الشراردة طغيانهم وبغيهم على أَن تقدمُوا للجيش وأنشبوا الْحَرْب فَأمر السُّلْطَان بالزحف إِلَيْهِم والنكاية فيهم وَكَانَ الْمعلم الْأَكْبَر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله ملاح السلاوي حَاضرا فِي هَذِه الْوَقْعَة فَتقدم إِلَيْهِ السُّلْطَان بالوصاة بالجد وَالِاجْتِهَاد فِي الرَّمْي فَرمى عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْيَوْم مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بنبة كلهَا فِي وسط الزاوية تتفرقع عِنْد نُزُولهَا فتأتي على مَا جاورها من جِدَار وَغَيره حَتَّى شاهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم الْمَوْت الْأَحْمَر وَكَانُوا هم أَيْضا يرْمونَ بالكور والبنب من المدافع والمهاريس الَّتِي استولوا عَلَيْهَا فِي محلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ثمَّ لما كَانَ عشي الْجُمُعَة السَّابِع من أَيَّام الْحَرْب افْتَرَقت كلمتهم وعزم الْمهْدي على الْفِرَار فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه كَيفَ تَفِر وتتركنا وَأَيْنَ مَا كنت تعدنا فَقَالَ لَهُم أما أَنْتُم فَالَّذِي أورثكم أسلافكم هُوَ الْخدمَة مَعَ السُّلْطَان فَلَا تستنكفوا مِنْهَا وَأما أَنا فَالَّذِي عِنْدِي وسمعته من آبَائِي أَن الْحَرْب تدوم على هَذِه الْقرْيَة سَبْعَة أَيَّام ثمَّ يستولي عَلَيْهَا السُّلْطَان الَّذِي يَجِيء من نَاحيَة الْبَحْر وَهُوَ هَذَا فِي كَلَام آخر تكهن لَهُم فِيهِ واعتقد الجهلة صدقه بعد أَن أتلفوا عَلَيْهِ نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد وَلما جن اللَّيْل ركب فِيمَا قيل على حمَار وَركب مَعَه شرذمة من أَصْحَابه نَحْو الْعشْرين فَارِسًا فشيعوه إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بتيزكي فودعهم وَذهب إِلَى السوس بعد أَن سفك الدَّم الْحَرَام وانتهب المَال الْحَرَام وملأ صَحِيفَته من الآثام نسْأَل الله الْعَفو والعافية وَلما فر الْمهْدي عَنْهُم تفَرقُوا شذر مذر وَبَاتُوا يتحملون بنسائهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى منجاتهم وَالَّذين صَعب عَلَيْهِم الْخُرُوج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 اجْتَمعُوا وَسَارُوا إِلَى القواد الْأَرْبَعَة فسرحوهم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الوساطة عِنْد السُّلْطَان فَأَصْبحُوا على أَطْرَاف الْمحلة يستأذنون على الْمولى الْمَأْمُون فَأذن لَهُم ودخلوا عَلَيْهِ وشفعوا فِيمَن بَقِي مِنْهُم وطلبوا الْأمان فَأَمنَهُمْ ثمَّ تقدمُوا إِلَى السُّلْطَان فَاسْتَأْذنُوا فَأذن لَهُم ودخلوا وأخبروا بِمَا عقد لَهُم الْمولى الْمَأْمُون من الْأمان فأمضاه لَهُم ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِجمع الشراردة الَّذين بقوا بالقصبة فَجمع لَهُ مِنْهُم نَحْو الْأَلفَيْنِ وعاثت الجيوش فِي بُيُوتهم وأمتعتهم وَقيل إِن السُّلْطَان رَحمَه الله لم يؤمنهم وَلما قبض عَلَيْهِم عزم على تحكيم السَّيْف فِي رقابهم فاستفتى الْعلمَاء فيهم فتحاموا الْإِفْتَاء بإراقة الدَّم حَتَّى أَن مِنْهُم من أفتى وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المرابط المراكشي بِأَنَّهُم تَابُوا قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِم فتوقف السُّلْطَان رَحمَه الله عَن قَتلهمْ وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق دائرا مَعَ الشَّرْع حَيْثُ دَار ثمَّ أَمر رَحمَه الله بِالِاحْتِيَاطِ على عِيَال الْمهْدي وَأَوْلَاده فاحتيط عَلَيْهِم فجيء بهم إِلَيْهِ وبعثهم إِلَى مكناسة فأنزلوا بدار الْقَائِد مُحَمَّد بن الشَّاهِد البُخَارِيّ الَّذِي هلك فِي وقْعَة آعليل مَعَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَأمر السُّلْطَان بسور القصبة فهدم إبرارا لقسمه وحيزت المدافع والمهاريس الَّتِي كَانَت مَنْصُوبَة عَلَيْهِ وَلما انْقَضى أَمر الْحَرْب وَتمّ الْفَتْح هلك الْمعلم مُحَمَّد ملاح نفطت فِيهِ بنبة فَقتلته وَقتلت جمَاعَة مَعَه فَوقف السُّلْطَان عَلَيْهِ بِنَفسِهِ حَتَّى أقبر وَأحسن إِلَى أَوْلَاده بعد ذَلِك وَرَأَيْت بِخَط الْوَزير ابْن إِدْرِيس فِي بعض مكاتيبه مَا نَصه وَاعْلَم أَن الله سُبْحَانَهُ قد فتح علينا الزاوية الشرادية وَأهْلك أَهلهَا الظَّالِمين وَلم تبْق لَهُم بَاقِيَة وَلَا زَالَت العساكر مُقِيمَة على هدمها وتخريبها وَقد قبض مِنْهُم على أَكثر من سِتّمائَة رجل وربحت النَّاس بِمَا وجدت فِيهَا من الأثاث والذخائر والأنعام اه ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله فرق مساجين الشراردة فسجن بَعضهم برباط الْفَتْح وَبَعْضهمْ بمكناسة وَبَعْضهمْ بفاس ثمَّ بعد مُضِيّ نَحْو السّنة سرحهم ونقلهم إِلَى بسيط آزغار وَجمع إخْوَانهمْ من الْقَبَائِل فضمهم إِلَيْهِم وَلَا زَالُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 موطنين بِهِ إِلَى الْآن وَأما الْمهْدي فَإِنَّهُ ذهب إِلَى السوس وانْتهى إِلَى آيت باعمران من ولتيتة فَنزل على مرابطها أبي عبد الله مُحَمَّد آعجلي الباعمراني وَاسْتمرّ عِنْده ثَلَاث سِنِين وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ بعث من شفع لَهُ عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقبل السُّلْطَان شَفَاعَته وَجَاء الْمهْدي فِي قَيده إِلَى أَن دخل على السُّلْطَان بمراكش وَبكى أَمَامه وتضرع فسامحه السُّلْطَان ثمَّ بَعثه إِلَى مكناسة فَاجْتمع بأولاده وَبعد مُدَّة يسيرَة ولاه السُّلْطَان على إخوانه قَالَ أكنسوس عاملهم بالإساءة فَعَادَت محبتهم لَهُ عَدَاوَة وضجوا إِلَى السُّلْطَان مِنْهُ فَعَزله ثمَّ حج الْمهْدي بِإِذن السُّلْطَان وَرجع فولاه أَيْضا فَلم يقبلوه ثمَّ سجن ثمَّ سرح وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال وتأخرت وَفَاته إِلَى أَوَائِل شَوَّال من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِي أول دولة سُلْطَان الْعَصْر وَإِمَام النَّصْر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الْحسن بن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلما تمّ فتح الزاوية الْمَذْكُورَة قَالَ شعراء الْعَصْر فِي ذَلِك فَمنهمْ الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله أكنسوس قَالَ (بشائر لَا تحيط بهَا الشُّرُوح ... كَأَن سميعها فنن مروح) (سقى ربع البشير بهَا غمام ... يباكرها هتون أَو يروح) (تفديه المحافل وَهُوَ يشدو ... فتوح فِي مضمنها فتوح) (وَتَأمل أَن تقبله الغواني ... تذيل لَهُ المباسم أَو تبيح) (بشائر كَاد يسْمعهَا دَفِين ... ويسري فِي الجماد بِهن روح) (شفى الْمولى الْمُؤَيد كل صدر ... بِهِ من قبل وقعتها جروح) (وَأدْركَ ثار عصبته وأضحى ... لعزة قدره شرف صَرِيح) (لقد حسم الْفساد بِكُل أَرض ... فَسَاد بِهِ لنا الدّين السميح) (وزر على زُرَارَة كل خزي ... تشق لَهُ المجاسد إِذْ تنوح) (وَقد كَانَت تصر على ازورار ... وَكَانَت لَا ينهنهها قَبِيح) (وَمن كَانَت مراكبه جماحا ... فسحقا حِين تصرعه الجموح) (أتيح لَهُم لحينهم جهول ... غوى للضلال لَهُ جنوح) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 (يقودهم إِلَى الْعِصْيَان سرا ... وَيظْهر أَنه الْبر النصوح) (يُحَدِّثهُمْ إِذا مَا حم خطب ... حَدِيثا كَانَ مصدره سطيح) (هُوَ الدَّجَّال فِي سمت وَفعل ... فَمن يَدعُوهُ مهديا وقوح) (فَأَهْلَكَهُ الإِمَام فَكَانَ عِيسَى ... كَذَا الدَّجَّال يهلكه الْمَسِيح) (فصير دَار منعته فلاتا ... على أطلالها البوم السنيح) (وفر عَن الذمار على حمَار ... عليل الْعرض جؤجؤه صَحِيح) (فيالؤم الذَّلِيل فَلَا وهين ... فيعذر بالفرار وَلَا جريح) (وَخير من جباة فِي هوان ... يبوء بِهِ الْفَتى موت مريح) (أيطمع فِي النجَاة فَلَا نجاة ... سيدركه الهزيز المستبيح) (إِذا كَانَ الشَّرَاب لَهُ بحارا ... تخوض إِلَيْهِ سلهبة سبوح) (ستدركه العزائم من إِمَام ... تدك لَهُ المعاقل والصروح) (إِمَام قد أعَاد لنا سُرُورًا وجاد لنا بِهِ الزَّمن الشحيح) (أعز الله ملك بني عَليّ ... بصولته وَتمّ لَهُ الوضوح) (وجرد من جلالته حساما ... يزِيل بِهِ الضَّلَالَة أَو يزيح) (وَقد كَانَ الْخَلَائق فِي ظلام ... فلاح على الْخَلَائق مِنْهُ بوح) (وأصبحت الأباطح باسمات ... وَكَانَ على مناظرها كلوح) (أعز معود للنصر ساع ... إِلَى العلياء مسعاه نجيح) (يخاطر فِي منال الْعِزّ دأبا ... بِرَأْي كل مدركه رجيح) (فرايات السُّعُود عَلَيْهِ نشر ... وساحات الفخار لَدَيْهِ جوح) (أَبَا زيد فَأَنت لنا ملاذ ... وجاهك فِي المهم لنا فسيح) (فقد زانت مآثرك اللَّيَالِي ... ولاح لعدلك الْوَجْه الْمليح) (وَهَذَا الدَّهْر كالطوفان موجا ... وطاعتك السفين وَأَنت نوح) (وَأَنت خَليفَة الرَّحْمَن من لَا ... تؤمنه فمشربه نشوح) (كَمَا أَن الشبانة حِين زاغت ... وهب لَهَا من الطغيان ريح) (عصفت عَلَيْهِم باليأس تزجي ... كتائب كالسحاب إِذا تلوح) (فألقيت الجران على ذراهم ... بِجَيْش كلهم بَطل مشيح) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 (فجَاء الْعَفو مِنْك وهم ثَلَاث ... أَسِير أَو كسير أَو ذبيح) (وَقد قسمت بِلَادهمْ بِعدْل ... ودورهم كَمَا قسم الوطيح) (وَقد نظمت مكايدهم قَدِيما ... بني سعد وزيدان نطيح) (فظنوا آل إِسْمَاعِيل يرنو ... لغير الحزم طرفهم الطموح) (وَمَا علمُوا بأنكم سيوف ... لحدكم نجيعهم سفوح) (أَبَا زيد إِذا تبقى عَلَيْهِم ... بصفح رُبمَا نَدم الصفوح) (فَلَا تحلم فَإِن الْجرْح يكوي ... طريا بالمحاور أَو يقيح) (فَلَا زَالَت بك الدُّنْيَا عروسا ... ومجدك من مفارقها يفوح) وَمن ذَلِك قَول بَعضهم وَلَعَلَّه الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله الديماني قَالَ (بشرى تقر بأعين الْإِيمَان ... كالوصل ينْسَخ دولة الهجران) (جاد الزَّمَان بهَا على مقداركم ... فتقاصرت عَنْهَا خطا الأذهان) (أَيْن المفر لمن عَنَّا عَن أَمركُم ... أَتَرَى البغاث تفوت مَا لعقبان) (الْأَمر أَمر الله غير مُنَازع ... لَاحَ الصَّباح لمن لَهُ عينان) (يَا من يُطَالب أَمرهم بدلائل ... أتطالب الْبُرْهَان بالبرهان) (إِن كنت تجْهَل فالحسام معلم ... يشفي البريء بِهِ ويشقي الْجَانِي) (كم من غوي قد عتا عَن أَمرهم ... كزرارة فَمضى إِلَى الخسران) (أَيْن المفر لمن عتا عَن أَمركُم ... يَوْم الكفاح إِذا التقى الْجَمْعَانِ) (لم يمْنَع الْأَعْدَاء مِنْهُم معقل ... لَو أَنهم صعدوا إِلَى كيوان) (لكِنهمْ باؤوا بأخسر صَفْقَة ... فكأنهم غصبوا أَبَا غبشان) (جَيش تسد وفوده مسرى الصِّبَا ... وتهد وطأته ذرى ثهلان) (يَا مَالِكًا مَلأ الْوُجُود محاسنا ... لَا تختفي عَن أعين العميان) (أجريت بَين المعتقين مكارما ... يسلوا الْغَرِيب بهَا عَن الأوطان) (لوقيل للغيث اعْترف لم يعْتَرف ... إِلَّا بِفضل نداكم الهتان) (إِنْسَان عين الدَّهْر أَنْت وَإِنَّمَا ... تَكْمِيل شكل الْعين بالإنسان) (ذكراك بالأفواه تعذب كاللما ... وتخف كالبشرى على الآذان) (أيقظت جفن الْحق من إغفائه ... وأقمت مَيْلَة عطفه الكسلان) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 (ألْقى لَك الزَّمن العصى زمامه ... وعنا لطاعة أَمرك الثَّقَلَان) (فالدهر دُونك دَافع ومدافع ... وصروفه لكم من العبدان) (فَإِذا أشرتم فِي الزَّمَان لمقصد ... كَانَ الْقَضَاء لكم من الأعوان) (أخلصت للرحمن فِي طاعاته ... فَلِذَا دعيت بعابد الرَّحْمَن) (ألقيت رحلي فِي ذراك مخيما ... فجريت فِي الآمال طوع عنان) (وَتركت أوطاني وَجئْت وَإِنَّمَا ... من فرط حبك غبت عَن أوطاني) (يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بأنني ... من جودكم أرد الْفُرَات الثَّانِي) (لَا زلتم فِي أسعد مبسوطة ... مَقْبُوضَة عَنْهَا يَد الْحدثَان) وَاسْتمرّ السُّلْطَان مُقيما بمراكش مُدَّة طَوِيلَة وَبعث أَخَاهُ الْمولى الْمَأْمُون بن هِشَام لقطر السوس فجباه ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي شعْبَان مِنْهَا عقد السُّلْطَان الصُّلْح مَعَ جنس النابريال وَيُقَال لَهُ استرياك وَهِي اثْنَا عشر شرطا مضمنها المخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَغير ذَلِك مَعَ الْأمان والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَالْآخر مِنْهَا مضمنه الصُّلْح الدَّائِم على هَذِه الشُّرُوط لَا يُفْسِدهُ أَمر يحدث بعده وَلَا يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان ثمَّ حدثت الْفِتْنَة عقب هَذَا بِيَسِير على مَا نذكرهُ هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش وَالسَّبَب فِي ذَلِك قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد طَاف فِي آخر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف على ثغور الْمغرب ومراسيه وَأَنه أَرَادَ إحْيَاء سنة الْجِهَاد فِي الْبَحْر الَّتِي كَانَ أغفلها السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله وَأمر أَعنِي الْمولى عبد الرَّحْمَن بإنشاء أساطيل تضم إِلَى مَا كَانَ قد بَقِي من آثَار جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَأذن لرؤساء الْبحار من أهل العدوتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 سلا ورباط الْفَتْح أَن يخرجُوا فِي القراصين الجهادية للتطواف بسواحل الْمغرب وَمَا جاورها فَخرج الرئيسان الْحَاج عبد الرَّحْمَن باركاش والحاج عبد الرَّحْمَن بريطل فصادفوا بعض مراكب النابريال فاستاقوها غنيمَة إِذْ لم يَجدوا مَعهَا ورقة الباصبورط الْمَعْهُودَة عِنْدهم وعثروا فِيهَا على شَيْء كثير من الزَّيْت وَغَيرهَا وَكَانَ بَعْضهَا قد جِيءَ بِهِ إِلَى مرسى العدوتين وَبَعضهَا إِلَى مرسى العرائش فهجم النابريال على مرسى العرائش بِسِتَّة قراصين يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَرمى عَلَيْهَا من الكور شَيْئا كثيرا من الضُّحَى إِلَى الاصفرار وَعمد فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى سَبْعَة قوارب فشحنها بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْعَسْكَر ونزلوا إِلَى الْبر من جِهَة الْموضع الْمَعْرُوف بالمقصرة وتقدموا صُفُوفا قد انتشب بَعضهم فِي بعض بمخاطيف من حَدِيد لِئَلَّا يَفروا وَمَشوا إِلَى مراكب السُّلْطَان الَّتِي كَانَت مرساة بداخل الْوَادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم الَّتِي فِي الْبَحْر ترمي بالضوبلي مَعَ امتداد الْوَادي لتمنع من يُرِيد العبور إِلَيْهِم فَانْتَهوا إِلَى المراكب وأوقدوا فِيهَا النَّار وقصدوا بذلك أَخذ ثأرهم فِيمَا انتزع مِنْهُم فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى انثال عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ من كل جِهَة من أهل السَّاحِل وَغَيرهم وَعبر إِلَيْهِم أهل العرائش وأحوازها سبحا فِي الْوَادي وعَلى ظهر الْفلك إِلَى أَن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وَكَانَ هُنَالك جملَة من الحصادة يحصدون الزروع فِي الفدن فَشَهِدُوا الْوَقْعَة وأبلوا بلَاء حسنا حَتَّى كَانُوا يحتزون رُؤُوس النابريال بمناجلهم وَقد ذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة وبسطها وَقَالَ إِن النابريال قتل مِنْهُم ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ سوى الأسرى وَتركُوا مدفعا وَاحِدًا وشيئا كثيرا من الْعدة وأفلت الْبَاقِي مِنْهُم إِلَى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وَرَاءَهُمْ وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي كَانَت سَببا فِي إِعْرَاض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن عَن الْغَزْو فِي الْبَحْر والاعتناء بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ رَحمَه الله لما أَرَادَ إحْيَاء هَذِه السّنة صَادف إبان قيام شَوْكَة الفرنج ووفور عَددهمْ وأدواتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 البحرية وَصَارَ الْغَزْو فِي الْبَحْر يثير الْخُصُومَة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن بَين الدولة الْعلية ودول الْأَجْنَاس الموالية لَهَا حَتَّى كَاد عقد المهادنة ينفصم وأكد ذَلِك اتِّفَاق اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَهُوَ مَا هُوَ فَوَجَمَ السُّلْطَان رَحمَه الله وأعمل فكره ورويته فَظهر لَهُ التَّوَقُّف عَن أَمر الْبَحْر رعيا للْمصْلحَة الوقتية ولقلة الْمَنْفَعَة العائدة من غَزْو المراكب الإسلامية وانضم إِلَى ذَلِك إعلان الدول الْكِبَار من الفرنج مثل النجليز والفرنسيس بِأَن لَا تكون المراكب إِلَّا لمن يقوم بضبط قوانين الْبَحْر الَّتِي يَسْتَقِيم بهَا أمره وتحمد مَعهَا الْعَاقِبَة وتدوم بحفظها الْمَوَدَّة على مُقْتَضى الشُّرُوط وَمن مهمات ذَلِك تَرْتِيب القناصل بالمراسي الَّتِي تُرِيدُ الدولة دُخُول مراكبها إِلَيْهَا وتجارتها فِيهَا أَي دولة كَانَت وَمن هَذِه الْمُهِمَّات مَا قد لَا يساعد عَلَيْهِ الشَّرْع أَو الطَّبْع مثل الكرنتينات وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ هوس كَبِير فَاشْتَدَّ عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على ترك مَا يُفْضِي إِلَى ذَلِك وتأكد لَدَيْهِ إهماله لتوفر هَذِه الْأَسْبَاب ولعمري أَن تَركه لمصْلحَة كَبِيرَة لمن أمعن النّظر فِيهَا وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَأما فتْنَة النابريال هَذِه فَإِنَّهَا تفاصلت بِوَاسِطَة النجليز حَيْثُ وَجه باشدوره مَعَ باشدور النابريال فَقدما على السُّلْطَان رَحمَه الله مكناسة فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَمَا ترَتّب على ذَلِك من دُخُول أهل تلمسان فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَ اسْتِيلَاء طاغية الفرنسيس على ثغر الجزائر فِي آخر الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن أتراك الجزائر كَانُوا يَوْمئِذٍ مَعَ الفرنسيس على طرفِي نقيض قد تعدّدت بَينهم الوقعات برا وبحرا وَكَثُرت بَينهم الذحول والترات وَكَانَ التّرْك يؤذونهم أَشد الإذاية وأمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الجزائر يَوْمئِذٍ واسْمه أَحْمد باشا قد أَمر أمره وَأَرَادَ الاستبداد على الدولة العثمانية وَرُبمَا شكا طاغية الفرنسيس إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود العثماني فَقَالَ لَهُ شَأْنك وإياه فهجم الفرنسيس فِي الْعدَد وَالْعدَد على ثغر الجزائر فاستولى عَلَيْهِ بعد مقاتلات ومجاولات فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ بمراكش فاتصل بِهِ خبر الجزائر فِي أَوَائِل صفر فَنَهَضَ إِلَى مكناسة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلما وَقع بِأَهْل الجزائر مَا وَقع اجْتمع أهل تلمسان وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ وَاتَّفَقُوا على أَن يدخلُوا فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فجاؤوا إِلَى عَامله بوجدة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الْجَوَارِي وعرضوا عَلَيْهِ أَن يتوسط لَهُم عِنْد السُّلْطَان فِي قبُول بيعتهم وَالنَّظَر لَهُم بِمَا يصلح شَأْنهمْ ويحفظ من الْعَدو جانبهم ثمَّ عينوا جمَاعَة مِنْهُم للوفادة على السُّلْطَان تَأْكِيدًا للطلب واستعجالا لحُصُول هَذَا الأرب فقدموا على السُّلْطَان بمكناسة غرَّة ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَأكْرم السُّلْطَان وفادتهم وَأجل مقدمهم وَلما صَرَّحُوا لَهُ عَن مُرَادهم توقف فِي ذَلِك رَحمَه الله وَكَانَ هَوَاهُ إِلَى قبولهم أميل إِلَّا أَنه أَرَادَ أَن يَبْنِي ذَلِك على صَرِيح الشَّرْع كَمَا هِيَ عَادَته فاستفتى عُلَمَاء فاس فَأفْتى جلهم بنقيض الْمَقْصُود وَرخّص لَهُ بَعضهم فِي ذَلِك فَأخذ السُّلْطَان رَحمَه الله بقول المرخص مَعَ أَن أهل تلمسان لما بَلغهُمْ فَتْوَى أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان فِي الرَّد عَلَيْهِم مَا نَصه ليعلم سيدنَا قطب الْمجد ومركزه وَمحل الْفَخر ومحرزه أساس الشّرف الباذخ ومنبعه وبساط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الأمجد الأفخم نجل الْمُلُوك الْعِظَام سيدنَا ومولانا عبد الرَّحْمَن بن هِشَام أبقى الله سيدنَا للْمُسلمين ذخْرا ومنحه مَوَدَّة وَأَجرا أَن فَتْوَى سَادَاتنَا عُلَمَاء فاس مَبْنِيَّة على غير أساس لأَنهم اعتقدوا أَن فِي عنقنا للْإِمَام العثماني بيعَة وَهَذَا لَو صَحَّ لَكَانَ علينا حجَّة وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا لَهُ مُجَرّد الِاسْم هُنَالك وعامل الجزائر إِنَّمَا كَانَ متغلبا وبالدين متلاعبا فَأَهْلَكَهُ الله بظلمه وتطاوله على عباد الله وجوره وفسقه إِن الله يُمْهل على الظَّالِم حَتَّى يَأْخُذهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فَإِذا أَخذه لم يفلته وَيدل على تغلبه واستقلاله عدم وُقُوفه عِنْد أَمر العثماني وامتثاله بل لَا يكترث بِهِ أصلا وَلَا يتبع لَهُ قولا وَلَا فعلا كَيفَ وَقد أمره أَن يعْقد مَعَ النَّصَارَى صلحا فَلم يقبل لَهُ قولا وَلَا نصحا وَطلب مِنْهُ بعض الْأَمْوَال ليستعين بهَا على مَا حل بِهِ مَعَ النَّصَارَى من الْأَهْوَال فَامْتنعَ غَايَة الِامْتِنَاع وَلم يُمكنهُ من شبر مِنْهَا فضلا عَن الباع حَتَّى أَخذهَا الْعَدو الْكَافِر وَهَذَا جَزَاء كل فَاسق فَاجر مَال جمع من حرَام سلط الله عَلَيْهِ الْأَعْدَاء اللئام وَهَذَا كُله من هَذَا المتغلب متواتر مشَاهد بالعيان مستغن عَن إِقَامَة الدَّلِيل والبرهان النَّاس كلهم عبيد الله وإماؤه وَالسُّلْطَان وَاحِد مِنْهُم ملكه الله أَمرهم ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ فيهم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف وَالصَّلَاح مثل سيدنَا نَصره الله فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ فيهم بالجور والعسف والطغيان وَالْفساد مثل هَذَا المتغلب فَهُوَ متجاسر على الله فِي مَمْلَكَته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة الله الشَّدِيدَة وَسخطه هَذَا وعَلى فرض تَسْلِيم أَن للعثماني فِي عنقنا بيعَة فَلَا تكون علينا حجَّة لِأَنَّهُ تبَاعد علينا قطره فَلم يغن عَنَّا شَيْئا ملكه لما بَيْننَا وَبَينه من المفاوز والقفار والبحار والقرى والمدن والأمصار وَرُبمَا قرب مَحَله من جِهَة الْبَحْر لَكِن مَنعه الْآن من ركُوبه الْكفَّار على أَنه ثَبت بتواتر الْأَخْبَار الْبَالِغَة حد الْكَثْرَة والانتشار أَنه مشتغل لنَفسِهِ ومقره عَاجز عَن الدّفع عَن إيالته الْقَرِيبَة من مَحَله حَتَّى أَنه هادن النَّصَارَى خمس سِنِين على عدد كثير من المئين وَأعْطى فِيهِ مِنْهُم ضَامِنا ليَكُون فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة على نَفسه وحشمه آمنا فَكيف يُمكنهُ مَعَ هَذَا الدفاع عَن قطرنا وناحيتنا وَبَلَدنَا وأدل دَلِيل على بعده عَن هَذَا المرام خبر مصر ونواحي الشَّام فقد استولى عَلَيْهَا أَعدَاء الدّين مُدَّة تزيد على الْخمس سِنِين فَلم يجد لَهُم نفعا وَلَا ملك عَنْهُم دفعا حَتَّى اسْتَعَانَ بالعدو الْكَافِر وَالله تَعَالَى قد يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر هَذَا وَنَصّ الأبي فِي شرح مُسلم مفصح عَن مثل قَضِيَّتنَا ومعلم على أَن الإِمَام إِذا لم ينفذ فِي نَاحيَة أمره جَازَ إِقَامَة غَيره فِيهَا وَنَصره فانتظار نصرته يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك كَيفَ وَقد تطاولت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 إِلَيْهَا الْأَعْنَاق وتشوفت إِلَيْهَا من كل جَانب الْعُيُون والأحداق فأعرضنا عَن الْكل صفحا وطوينا عَنهُ الجوانب كشحا مُقْبِلين إِلَى عتبَة بَاب سيدنَا نَصره الله وسدته داخلين تَحت طَاعَته ملتزمين لخدمته متوافقين مَعَ الْقَبَائِل والأمصار وَأهل الرَّأْي والاستبصار لعلمنا أَن سيدنَا نَصره الله المتأهل فِي هَذَا الْأَمر العريق الجدير بِالْإِمَامَةِ الْحقيق كَيفَ وَقد ورثهَا كَابِرًا عَن كَابر وإليهم انْتَهَت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنَا نَصره الله أَن يلْتَزم لنا بفضله من هَذِه الْبيعَة الْقبُول مستشفعين بجاه جده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين اه وَلما وقف السُّلْطَان رَحمَه الله على هَذَا الْكَلَام قبل بيعتهم والتزمها وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الْمولى عَليّ بن سُلَيْمَان وأضاف إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند من أَعْيَان الودايا وَالْعَبِيد وَوجه الْجَمِيع مَعَ أهل تلمسان بعد إكرامهم وَتَمام الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَكتب إِلَى عَامله الْقَائِد إِدْرِيس يستوصيه بِالْجَمِيعِ خيرا وَيكون بَصِيرَة عَلَيْهِم وأشركه فِي النّظر والرأي مَعَ الْمولى عَليّ بل الِاعْتِمَاد فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ وَقد وقفت على كتاب الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس بِخَط يَده للقائد الْمَذْكُور فِي هَذِه الْقَضِيَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله محبنا وخال سيدنَا الأرضى السَّيِّد إِدْرِيس بن حمان الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته عَن خير سيدنَا أيده الله وَبعد فقد وصلنا كتابك صُحْبَة أَعْيَان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا مَعَهم كل الْوُقُوف وبذلنا المجهود فَوق الطَّاقَة وقبلهم مَوْلَانَا وقابلهم بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَام كَمَا هُوَ شَأْنه ذَهَابًا وإيابا وهاهم وجههم مَوْلَانَا مكرمين وَرشح ابْن عَمه مولَايَ عليا للخلافة عَلَيْهِم لما يعلم من عقله ودرايته وسياسته وَأَنه ذُو نفس أبيَّة لكَون تِلْكَ النواحي لَا يصلح لَهَا إِلَّا من اتّصف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف ليميزوا حَالَة السَّاعَة مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ وكما رشح مَوْلَانَا ابْن عَمه الْمَذْكُور رشحك لتَكون وَاسِطَة بَينهم وَبَينه لكَون الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة مَوْجُودَة فِيك فَكُن عِنْد الظَّن بك وَإِيَّاك والطمع وازهدوا فِيمَا فِي أَيدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 النَّاس وكل مَا تحتاجون إِلَيْهِ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ أخبرونا بِهِ يصلكم وَلَا تكتموا عَنَّا شَاذَّة وَلَا فاذة وَاعْلَم أَن مَوْلَانَا انتخبك من وسط أَبنَاء جنسك وقربك مِنْهُ وَلَا زلت لَدَيْهِ فِي الترقي فَالله الله فَكُن عِنْد الظَّن بك بَارك الله فِيك آمين وَقد أكْرم سيدنَا كل وَاحِد بِمَا يُنَاسِبه من الْكسْوَة وصنع لَهُم فِي كل بلد دَخَلُوهُ مهرجانا وأدخلهم سيدنَا لوسط دَاره وَجَمِيع جناته وأماكن المملكة الَّتِي لَا يدخلهَا إِلَّا الْخَاصَّة غَايَته أَنهم نالوا من الْعِنَايَة فَوق الظَّن ووقفنا مَعَهم فَوق مَا تحب وَفِيهِمْ الْكِفَايَة وَلم يبْق إِلَّا مَا عنْدك فَكُن عِنْد الظَّن بك فَإِن سيدنَا نَصره الله جرب غَيْرك وَطَرحه وَهَذَا معيارك نسْأَل الله أَن يكون معيار التبر الْخَالِص وَمَا وَعدك بِهِ سيدنَا سيرد عَلَيْك حِين تَسْتَقِر بِالْبَلَدِ وَيحسن تصرفك على عين الْحَاضِر والبادي وَفِي وَصِيَّة سيدنَا فِي كِتَابه الشريف مقنع وعَلى الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي ثَالِث عشر ربيع الثَّانِي عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف مُحَمَّد بن إِدْرِيس لطف الله بِهِ اه نَص الْكتاب بِحُرُوفِهِ وَلما وصل الْمولى عَليّ إِلَى تلمسان وَجه السُّلْطَان فِي أَثَره خَمْسمِائَة فَارس وَمِائَة رام وَجَمَاعَة وافرة من حذاق الطبجية من أهل سلا ورباط الْفَتْح فيهم ولد عَامل سلا مُحَمَّد ابْن الْحَاج مُحَمَّد أبي جميعة وَكَانَ من النجباء ثمَّ لما دخل الْمولى عَليّ تلمسان وَاسْتقر بهَا فَرح بِهِ الْحَضَر من أهل تلمسان واغتبطوا بِهِ وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة للسُّلْطَان هُوَ والقائد إِدْرِيس وانحرف عَنهُ الكرغلية من التّرْك الَّذين كَانُوا إدالة بقصبة تلمسان من لدن قديم وحاصرهم الْمولى عَليّ وَقَاتلهمْ مُدَّة إِلَى أَن ظفر بهم وَاسْتولى على مَا فِي أَيْديهم وانحرف عَنهُ أَيْضا قبيلتا الدَّوَائِر والزمالة من عرب تِلْكَ النَّاحِيَة وَيُقَال إِن أصلهم من جند كَانَ للْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله بَعثه إدالة بِتِلْكَ النَّاحِيَة واستمروا هُنَالك وتناسلوا إِلَى هَذَا التَّارِيخ فأظفر الله الْمولى عليا بهم وانتهب الْجَيْش مَتَاعهمْ ومتاع الكرغلية من قبلهم وَنَشَأ عَن ذَلِك من الْفساد مَا نذكرهُ بعد هَذَا إِن شَاءَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة خرج الْقَائِد إِدْرِيس من تلمسان فِي جمَاعَة من الْجَيْش الَّذين مَعَه بِقصد تدويخ الْقَبَائِل الَّذين هُنَالك وَأخذ الْبيعَة على من لم يكن بَايع مِنْهُم وَكَانَ الَّذين بَايعُوا هم أهل معسكر والحشم والمشاشيل مِنْهُم وَبَنُو شقران والمرابطون أهل غريس وورغية وتحليت وحميان وَغير هَؤُلَاءِ وَنَصّ بيعتهم الْحَمد لله الَّذِي أنار الْخلَافَة وَجه الزَّمَان وأطلع فِي صحيفَة غرته طوالع السعد واليمن والأمان وَهدى من ارْتَضَاهُ من الْأَنَام للدخول تَحت ظلّ راية مَوْلَانَا الإِمَام وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث رَحْمَة للْعَالمين وعَلى آله وَصَحبه الطيبين وَبعد فَلَمَّا وَفد على حَضْرَة مَوْلَانَا الْخَلِيفَة أبي الْحسن عَليّ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا سُلَيْمَان أَعلَى الله ثراه فِي عليين جَمِيع الْقَبَائِل المسطرة يمنته وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب مَوْلَانَا الْمَنْصُور ذِي اللِّوَاء المنشور وَالسيف الْمَشْهُور أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن ابْن مَوْلَانَا هِشَام أدام الله رعيه وَجعل فِيمَا يرضيه سَعْيه بِمحضر خَلِيفَته الطَّالِب الأرشد الْمَاجِد الأسعد الْقَائِد السَّيِّد إِدْرِيس الْجَوَارِي وتلقوه بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتكريم أشهدوا على أنفسهم أَنهم عقدوا الْبيعَة لمولانا الإِمَام أيده الله وأدام عزه وعلاه والتزموها بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَفِي جيدهم انتظموها بيعَة تَامَّة مستوفية الشُّرُوط وافية العهود وَثِيقَة الربوط قبلهَا الْكل وارتضاها وَأوجب الْعَمَل بمقتضاها فَمن سمع مَا ذكر مِمَّن ذكر قَيده فِي مهل جُمَادَى الثَّانِيَة عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَبعده عَلامَة العدلين المتلقيين من رُؤَسَاء الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة فهولاء الَّذين بَايعُوا وَمن لم يكن بَايع بعد فهم الَّذين خرج الْقَائِد إِدْرِيس الْمَذْكُور لأخذ الْبيعَة عَلَيْهِم كَمَا قُلْنَا وَالْحَاصِل أَن السُّلْطَان رَحمَه الله كَانَ قد اعتنى بِأَمْر هَذِه النَّاحِيَة غَايَة الاعتناء وبذل المجهود فِي إمدادها بِالْعدَدِ وَالْعدَد وَالْمَال مرّة بعد أُخْرَى وَبعث الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني إِلَى أهل تِلْكَ الْبِلَاد يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة ويحضهم على الدُّخُول فِي أَمر الْجَمَاعَة لكَوْنهم كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي سلفه اعْتِقَاد كَبِير وَبعث الشريف الْأَخير أَبَا مُحَمَّد عبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 السَّلَام البوعناني فولاه خطة الْحِسْبَة بتلمسان وَبعث من الكسي والرايات والأعلام والمدافع والمهاريس والبارود والرصاص شَيْئا كثيرا لَكِن لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى فافترقت كلمة الْعَرَب الَّذين هُنَالك لضعف إِيمَانهم وَقلة همتهم فجلهم مَال إِلَى الدُّخُول فِي حزب النَّصَارَى عِنْدَمَا استولوا على مَدِينَة وهران فِي هَذِه الْأَيَّام ثمَّ سرى ذَلِك الِاخْتِلَاف فِي قواد جَيش السُّلْطَان فتنافسوا وتحاسدوا وَكثر القيل والقال مِنْهُم على السُّلْطَان ثمَّ ختموا عَمَلهم بانتهاب أثاث الكرغلية وتقاعدهم عَلَيْهِ ثمَّ بانتهاب مَال الزمالة والدوائر وماشيتهم فِي جوَار الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَفَسَد الْعَمَل وخاب الأمل فَحِينَئِذٍ رأى السُّلْطَان رَحمَه الله استرجاع تِلْكَ الجيوش الَّتِي لم يبْق طمع فِي صَلَاحهَا بعد أَن أَمر بِالْقَبْضِ على الْقَائِد إِدْرِيس لكَونه سعى بِهِ عِنْده وَأَنه شَارك فِي نهب الكرغلية والزمالة والدوائر وتقاعد على النفيس من أثاثهم فَرَجَعت الْحلَّة وَكَانَ رُجُوعهَا فِي آخر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي هَذِه السّنة منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا حدثت زَلْزَلَة بقرية من قرى تلمسان تسمى البليدة فَجعلت عاليها سافلها وَهلك أَهلهَا وَالْأَمر لله كَيفَ شَاءَ فعل خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي الْمحرم فاتح سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الطَّاهِر بن مَسْعُود المغفري الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر الغفري الْعقيلِيّ والحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري كَانُوا من كبار قواد هَذَا الْجَيْش وأعيانه وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يَبْعَثهُم فِي الْمُهِمَّات ويستكفي بهم فِي الأقطار النائية والجهات وَكَانُوا هم يظهرون للسُّلْطَان الطَّاعَة وهم فِي الْبَاطِن منحرفون عَنهُ بِسَبَب أَن الدَّالَّة الَّتِي كَانُوا يدلون بهَا على السُّلْطَان الْمولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 سُلَيْمَان رَحمَه الله انْقَطَعت عَنْهُم مَعَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وزالت من أَيْديهم فَكَانُوا يمرضون فِي الطَّاعَة بعض الأحيان وَالسُّلْطَان يطويهم على غرهم ويلبسهم على عرهم إِلَى أَن كَانَ الْبَعْث إِلَى تلمسان فوجههم إِلَيْهِ فِيمَن وَجه من أَعْيَان الْجَيْش ورؤسائه فَكَانَت قوارصهم لَا تَنْقَطِع عَن الدولة وشغبهم لَا يفتر من التطاول والصولة ثمَّ كَانَ نهب الزمالة والدوائر فأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا وشايعهم على فعلهم الْقَائِد أَحْمد بن المحجوب البُخَارِيّ وأظهروا عدم المبالاة بالسلطان وخليفته وعامله وَكَانَت بَينهم وَبَين الْقَائِد إِدْرِيس الجراري مُنَافَسَة باطنية فخاف من الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم فِيمَا ارتكبوه من النهب أَن يسدوا بِرَأْسِهِ هَذَا الْخرق فأسعفهم وانتهب مَعَهم وَكَانَ مَا قدمْنَاهُ من استرجاع السُّلْطَان لذَلِك الْجَيْش وَبعث من قبض على الْقَائِد إِدْرِيس بوجدة وَجِيء بِهِ إِلَى تازا فسجن بهَا وَلما وصل جَيش تلمسان إِلَى عنق الْجمل قرب فاس خرج إِلَيْهِم الْقَائِد الطّيب الوديني البُخَارِيّ وَكَانَ واليا على فاس فَقيل أَرَادَ أَن يقبض عَلَيْهِم بِإِذن من السُّلْطَان وَقيل أَرَادَ أَن يحوز مِنْهُم أرحلهم وحقائبهم الَّتِي ملؤوها من النهب وَكَانَ الودايا وَالْعَبِيد لما فعلوا فعلتهم تحالفوا وتعاهدوا على أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدًا على من أَرَادَهُم بِسوء كَائِنا من كَانَ فَلَمَّا خرج إِلَيْهِم الطّيب الوديني تجهموه وهموا بِهِ فَرجع أدراجه وأنهى ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فأغضى عَنْهُم ثمَّ بعد أَيَّام عزم السُّلْطَان على الْقَبْض على الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر الْعقيلِيّ فأحس هُوَ بذلك فَذهب إِلَى الطَّاهِر بن مَسْعُود وتطارح عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِنِّي مَقْبُوض لَا محَالة فَإِن ولاك السُّلْطَان من أَمْرِي شَيْئا فَأحْسن وَلَا تؤاخذني بِمَا كَانَ مني إِلَيْك وَقد كَانَ الطَّاهِر بن مَسْعُود قبل هَذِه الْمدَّة عَاملا بتارودانت فَعَزله السُّلْطَان بِابْن الطَّاهِر فأساء إِلَيْهِ فَلهَذَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ الطَّاهِر بن مَسْعُود وَأَنت مَقْبُوض قَالَ نعم قَالَ عَليّ وَعلي لَا جرى عَلَيْك أَمر تكرههُ مَا دمت حَيا ثمَّ إِن السُّلْطَان أحضر الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَأحمد بن المحجوب فقرعهما وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا فَقبض أعوان الودايا على أخيهم وَقبض أعوان العبيد على أخيهم وَخَرجُوا بهما إِلَى السجْن مَعَ الْعشي وَكَانَ الطَّاهِر بن مَسْعُود قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ترصد بِبَاب دَار السُّلْطَان للْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر ليفتكه وَصَاحبه فَلَمَّا خرجا قَامَ الطَّاهِر بن مَسْعُود إِلَى الأعوان فراودهم على إِطْلَاق المسجونين فَأَبَوا وَقَالُوا إنَّهُمَا مسجونان عَن أَمر السُّلْطَان فتصامم عَن ذَلِك واستل خنجره وَضرب إِدْرِيس البواب الوديي على ترقوته فخدشه وانتزع مِنْهُ المسجون وَتقدم لافتكاك أَحْمد بن المحجوب فَأبى وانتهره وَقَالَ لَا أُخَالِف أَمر السُّلْطَان وَكَانَ الودايا يظنون قيام العبيد مَعَهم لحلفهم السَّابِق فخذل الله فِيمَا بَينهم ثمَّ أسْرع الطَّاهِر وَابْن الطَّاهِر إِلَى فرسيهما فركباهما ونجوا إِلَى نَاحيَة دَار الدبيبغ وثارت المغافرة بِبَاب دَار السُّلْطَان وحملوا السِّلَاح وأخرجوا البارود والرصاص وَقَامَت شيعَة السُّلْطَان لمدافعتهم فكثرهم الودايا وهزموهم حَتَّى أغلقوا عَلَيْهِم بَاب المشور وَسَأَلَ السُّلْطَان عَن الهيعة فَأعْلم بالْخبر وَكَانَ مَعَه الْحسن بن حمو واعزيز فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن هَؤُلَاءِ مَا جسروا على هَذَا الْفِعْل ببابك حَتَّى عزموا على مَا هُوَ أَكثر فَدَعَا السُّلْطَان بفرسه وَركبهُ مَعَ الْغُرُوب وَخرج من بَاب البجاة وَمَعَهُ ابْن واعزيز وَبَعض أَصْحَابه خيلا ورجلا وَلما علم الودايا بِخُرُوج السُّلْطَان ركبُوا بقضهم وقضيضهم من فاس الْجَدِيد وَمن قَصَبَة شراقة فأدركوا السُّلْطَان عِنْد قنطرة عياد فنزلوا إِلَى الأَرْض يقبلُونَ حوافر فرسه ويتشفعون لَهُ ويتبرؤون من فعل أُولَئِكَ السُّفَهَاء وَكَانَ الْحَال إِذْ ذَاك حَال مطر خَفِيف وَالشَّمْس قد غربت أَو كَادَت تغرب فساعدهم رَحمَه الله على الرُّجُوع وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْحَاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ بِأَن يذهب مَعَه إِلَى قَصَبَة شراقة وَكَانَت يَوْمئِذٍ لأهل السوس فَذهب مَعَه إِلَى دَاره من غير أَن يطمئن إِلَيْهِ وَلَكِن ذَلِك الَّذِي اقْتَضَاهُ الْحَال فِي تِلْكَ السَّاعَة وَلما اسْتَقر بدار ابْن فَرِحُونَ اجْتمع عَلَيْهِ المغافرة والودايا وَأهل السوس وأساء عَلَيْهِ المغافرة الْأَدَب بل عزموا على الفتك بِهِ وَلَكِن الله تَعَالَى وَقَاه شرهم فاختلفت كلمتهم وتذامر أهل السوس فِيمَا بَينهم وَقَالُوا لَا يبيتن السُّلْطَان اللَّيْلَة إِلَّا بداره واستنهضوه فَنَهَضَ رَحمَه الله وَركب فرسه وصحبوه إِلَى دَاره فِي ذَلِك اللَّيْل فاستقر بهَا وَبعد ذَلِك بأيام انْتقل السُّلْطَان إِلَى بُسْتَان أبي الْجُلُود خَارج فاس الْجَدِيد على حِين غَفلَة من الودايا وانحاز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 شيعَة السُّلْطَان إِلَيْهِ من العبيد وَغَيرهم وَنزل جلهم بفاس الْقَدِيم وَبَقِي الودايا وحدهم بفاس الْجَدِيد ثمَّ استدعى السُّلْطَان عبيد مكناسة فقدموا عَلَيْهِ وَلما علم الودايا بعزم السُّلْطَان على الْخُرُوج من بَين أظهرهم ساءهم ذَلِك وَعَلمُوا أَنه إِن خرج من بَين أظهرهم لَا يتركهم حَتَّى يُوقع بهم فراودوه على الْمقَام وتنصلوا وأظهروا التَّوْبَة وَتقدم سفهاؤهم إِلَى العبيد فأنشبوا مَعَهم الْحَرْب وَهلك من الْفَرِيقَيْنِ عدد ثمَّ تدارك السُّلْطَان أَمرهم وتلطف وَطيب أنفسهم وَأجْمع على الْخُرُوج إِلَى مكناسة فَخرج بثقله وأثاثه وأمواله وسلك طَرِيق قبقب وَعقبَة المساجين كَأَنَّهُ يُرِيد بِلَاد الغرب وَخرج لتشييعه جمَاعَة وافرة من أَعْيَان الودايا ثمَّ أَنهم ندموا ونكسوا على رؤوسهم وَرُبمَا سمعُوا من العبيد بعض كَلَام فحميت أنوفهم وتحزبوا وأوقعوا بالعبيد فَانْهَزَمُوا عَن السُّلْطَان وانتهب الودايا خيرته وأثاثه وَقَامَ عقالهم دون الْعِيَال حَتَّى ردُّوهُ إِلَى الدَّار مَحْفُوظًا مصونا وَلم يَفْعَلُوا أحسن مِنْهَا وَأما المَال والأثاث فقد أَتَى عَلَيْهِ النهب وَكَانَ شَيْئا كثيرا وَتقدم السُّلْطَان رَحمَه الله لطيته وَتَبعهُ سَفِيه من سُفَهَاء الودايا كَانَ أَرَادَ الفتك فِيهِ فحماه الله مِنْهُ وَوصل السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مكناسة فاستقر بهَا واتصل خبر هَذِه الْفِتْنَة بالقائد إِدْرِيس بن حمان الجراري وَهُوَ مسجون بتازا فاحتال على سراح نَفسه بِأَن افتعل كتابا على لِسَان السُّلْطَان وَبعث بِهِ إِلَى عَامل تازا فسرحه وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد بعث إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس الْمَذْكُور وَهُوَ بتلمسان أَربع وَرَقَات مَخْتُومًا عَلَيْهَا بالخاتم السلطاني الْكَبِير وَأمره السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يحْتَفظ بِتِلْكَ الورقات وَلَا يسْتَعْمل وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَّا فِي أهم الْمُهِمَّات مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ غَرَض السُّلْطَان والدولة وَلَا تمكن مشاورته فِيهِ لبعد الْمسَافَة بَين فاس وتلمسان فَعمد الْقَائِد إِدْرِيس إِلَى وَاحِدَة من تِلْكَ الورقات فَكتب فِيهَا بتسريحه فسرح وَجَاء يجد السّير إِلَى فاس وبنفس وُصُوله كتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بِمَا صنع وَأَنه لَا زَالَ على مَا يعْهَد مَوْلَانَا من بذل النصح وَالسَّعْي فِي صَلَاح السُّلْطَان والجيش فَأَجَابَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله بِمَا نَصه وَبعد فقد وصلنا كتابك وعرفنا مَا فِيهِ وَالْحَمْد لله على سلامتك وَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وجهنا لَك إِلَّا بِقصد أَن نسرحك لأننا تحققنا أَنَّك كنت مَغْلُوبًا عَلَيْك فَلَا عُهْدَة عَلَيْك بل من تَمام عقلك مساعدتك لمن نهب وَلَو منعتهم من ذَلِك لتفاقم الْأَمر هُنَالك وَأَنت عَلَيْك الْأمان ظَاهرا وَبَاطنا فِي الْحَال والاستقبال فَلَا تخش من شَيْء أبدا فَإنَّك مِمَّن نتهمه بِالدّينِ وَالْعقل والصدق وَقد عَايَنت وَسمعت مَا صدر من إِخْوَاننَا من النزعة الشيطانية وَلَا يَنْبَغِي أَن نقابلهم بِمثل مَا قابلنا بِهِ من لاعقل لَهُ مِنْهُم وَإِن قابلناهم بِهِ لَا نَلْتَقِي أبدا وَأَنت اسع فِي الْخَيْر وَالصَّلَاح مَا أمكنك وَتحمل لَهُم عَنَّا بالأمن من كل مَا يخافونه من جانبنا فجسارتهم أولى من صَلَاح الْقَبَائِل فقف على سَاق الْجد لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَالسَّلَام فِي السَّابِع عشر من الْمحرم فاتح عَام سَبْعَة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى لفظ الْكتاب الشريف ثمَّ إِن الْقَائِد إِدْرِيس أحسن الْقيام على عِيَال السُّلْطَان الَّذين بقوا بفاس الْجَدِيد وَكَانَ فيهم حظيته المولاة فَاطِمَة بنت الْمولى سُلَيْمَان وَتقدم الْقَائِد إِدْرِيس إِلَى أَمِين الصائر من قبل وَقَالَ لَهُ مَا كنت تدفع إِلَى دَار السُّلْطَان كل يَوْم من دَقِيق وَلحم وإدام وَغير ذَلِك فَاكْتُبْ لي بِقَدرِهِ وَابعث إِلَى بِهِ فأحصاه الْأمين الْمَذْكُور وَبعث إِلَيْهِ بِهِ فَصَارَ يبْعَث بذلك الْقدر إِلَى دَار السُّلْطَان كل يَوْم وَانْقطع المَاء ذَات يَوْم عَن دَار السُّلْطَان فَكَانَ الْقَائِد إِدْرِيس يحمل قرب المَاء إِلَيْهَا كل يَوْم وَأصْلح القنوات وجد فِي ذَلِك حَتَّى رَجَعَ المَاء إِلَى مجْرَاه ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله اسْتنْفرَ قبائل الغرب كلهَا حوزا وغربا وثغورا فقدموا مكناسة على بكرَة أَبِيهِم وَسمع الودايا بذلك فاستدعوا الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب من بعض الْأَعْمَال والتفوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ فَحِينَئِذٍ تبرأت مِنْهُم الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت تعدهم بِالْقيامِ مَعَهم من مجاوريهم لِأَن سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب كَانَت قبائل الْمغرب قد تناذرته مُنْذُ أَيَّام ولَايَته على تامسنا ودكالة وَفعله بِأَهْلِهَا الأفاعيل فَكَانَ مبغضا عِنْد الْعَامَّة وزحف السُّلْطَان إِلَى فاس الْجَدِيد فَحَاصَرَهُمْ بهَا وَنصب عَلَيْهِم المدافع والمهاريس وتعاقب عَلَيْهِم الرَّمْي بهَا من محلّة السُّلْطَان بِعَين قادوس وَمن بستيون أبي الْجُلُود وبستيون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 بَاب الجيسة وبستيون بَاب الْفتُوح ودام الْحصار أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْحَرب لَا تَنْقَطِع فِي كل وَقت وَكَانَ الودايا يرْمونَ أَيْضا بالكور والبنب وابلى بنوحسن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الْبلَاء الْحسن ثمَّ إِن السُّلْطَان عزم على الْبناء عَلَيْهِم وجلب اللواحين فشرعوا فِي الْعَمَل وسئم الودايا الْحَرْب وملوها فأذعنوا إِلَى الصُّلْح وسعى فِي الوساطة بَينهم وَبَين السُّلْطَان الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على شَرط الْخُرُوج من فاس الْجَدِيد فأذعنوا ثمَّ بعثوا شفاعاتهم بالمشايخ وَالصبيان والألواح على رؤوسها وَمَعَهُمْ سلطانهم ابْن الطّيب فسامح رَحمَه الله الْجَمِيع وَقَالَ لَهُم فِي جملَة مَا قَالَ الْحَمد لله إِذْ لم أغلبكم وَلم تغلبوني لِأَنِّي لَو غلبتكم لذبحت هَذِه الجيوش أَوْلَادكُم وَلم أقدر أَن أردهَا عَنْكُم وَلَو غلبتموني لفعلتم كل مَا تقدرون عَلَيْهِ فَهَذَا من لطف الله بِي وبكم قلت وَهَذَا كَلَام دَال على وفور عقل السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَمَال شفقته وَرَحمته ثمَّ لما عزم السُّلْطَان على النهوض إِلَى مكناسة ولى على جَيش الودايا كُله الْقَائِد إِدْرِيس بن حمان الجراري وَذَلِكَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ نَهَضَ إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَلما حضر عيد الْفطر قدمت الْوُفُود على السُّلْطَان بمكناسة واستقامت الْأَحْوَال وَكتب رَحمَه الله إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس أَن يحضر الْعِيد فِي جمَاعَة وافرة من إخوانه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَحَضَرُوا ودخلوا على السُّلْطَان ذَات عَشِيَّة بالمشور فوبخهم حَتَّى ظن النَّاس أَنه يقبض عَلَيْهِم ثمَّ سرحهم فعادوا إِلَى فاس الْجَدِيد وَلما عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على النهوض إِلَى مراكش قدم أَولا فاسا وَنزل خَارج الْبَلَد وَنظر فِي شَأْنه وشأن الْجَيْش والرعية ثمَّ ارتحل يُرِيد مراكش فَلَمَّا انْفَصل عَن فاس بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ كتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالطاهر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر يذهبان مَعَه إِلَى مراكش بِقصد الْخدمَة بهَا مَعَ وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فذهبا على فرسيهما مسرحين إِلَّا أَنَّهُمَا كَانَا حذرين من السُّلْطَان لما قدما من الْفِعْل الشنيع الَّذِي كَانَ سَبَب هَذِه الْفِتْنَة الْعَظِيمَة فَقدما مراكش وترتبا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 الْخدمَة مَعَ الْخَلِيفَة الْمَذْكُور وانسلخت هَذِه السّنة وفيهَا عزل السُّلْطَان وزيره الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس وامتحنه وَبَقِي عاطلا مُدَّة ثمَّ رده إِلَى خطته وَكَانَ السُّلْطَان فِي مُدَّة تَأْخِيره إِيَّاه قد استوزر مَكَانَهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي فَقَامَ بأعباء الخطة وبرز فِيهَا رَحمَه الله وفيهَا بنى السُّلْطَان رَحمَه الله المارستان الْكَبِير على ضريح ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بسلا وَكَانَ على ضريح الْوَلِيّ الْمَذْكُور الْقبَّة وَالْمَسْجِد فَقَط فأدار السُّلْطَان رَحمَه الله على ذَلِك كُله مارستانا كَبِيرا وَبنى بِهِ مَسْجِدا آخر وبيوتا للمرضى تنيف على الْعشْرين وأجرى إِلَيْهِ المَاء وَجعل ميضأة بِإِزَاءِ الْمَسْجِد للرِّجَال وَأُخْرَى شرقيها للنِّسَاء فجَاء ذَلِك من أحسن الْأَعْمَال وَكتب الله أجره فِي صحيفَة السُّلْطَان ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي صفر مِنْهَا ورد على الْقَائِد إِدْرِيس كتاب من عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ لَا زَالَ برباط الْفَتْح يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري فوصل إِلَيْهِ مسرحا فَقبض عَلَيْهِ وَبَعثه إِلَى الصويرة وبإثر ذَلِك ورد على السُّلْطَان كتاب من عِنْد وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد يُعلمهُ بِأَنَّهُ قبض على الطَّاهِر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر لِكَوْنِهِمَا لم يقلعا عَن ضلالهما وشيطنتهما حَتَّى أَنَّهُمَا عزما على اغتياله بمصلى عيد الْأَضْحَى من السّنة الفارطة فحماه الله مِنْهُمَا وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش صَار يكْتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس برؤوس الْفِتْنَة وَالْقَبْض عَلَيْهِم وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن استوفى جلهم وَكَانَ الْقَائِد إِدْرِيس فِي هَذِه الْمدَّة قد أحس بِأَن بَاطِن السُّلْطَان لَا زَالَ متغيرا على الودايا فألح عَلَيْهِ فِي الْبَحْث والاستكشاف عَمَّا هُوَ مضمره لَهُم وَمَا يُرِيد بهم وَمَا الَّذِي يجلب رِضَاهُ عَنْهُم ويصفي بَاطِنه عَلَيْهِم فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله كتابا أفْصح فِيهِ عَن مُرَاده يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح والطابع الشريف بَينه وَبَين الْخطاب مَا نَصه خَالنَا الأرضى الْقَائِد إِدْرِيس الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبعد فَاعْلَم بأنك طلبت منا مشافهة وَكِتَابَة أَن نعرب لَك عَن مرادنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 ونطالعك بغاية قصدنا وأمنيتنا فِي الْجَيْش وَمَا يجلب رضانا عَنْهُم وَكُنَّا نجيبك عَن ذَلِك جَوَابا إقناعيا لعدم وثوقنا وقتئذ بِصدق لهجتك وَكَانَ يخيل لنا أَنَّك تباحثنا على جِهَة الِاطِّلَاع على خبيئة أمرنَا والآن اتَّضَح مَا أَنْت عَلَيْهِ من الصدْق ووفور الْمحبَّة وخلوص النِّيَّة حَتَّى صرت بِهِ كَأحد أَوْلَادنَا (وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء ... إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل) وَعَلِيهِ فَأَنت أولى من نبثه سرنا وَلَا ندخر عَنهُ شَيْئا من دخيلة أمرنَا فَاعْلَم أرشدك الله أَن من بارزنا بالسوء قولا وفعلا من ذَلِك الْجَيْش هم المغافرة كَافَّة واستوى فِي ذَلِك كَبِيرهمْ وصغيرهم قويهم وضعيفهم وَلم يلف مِنْهُم رجل رشيد وَلَو ساعدهم الودايا وَأهل السوس وخلوا بَينهم وَبَين هواهم لَكَانَ مَا أرادوه من تلف مهجتنا وَلَكِن الله سلم وَلَا يخفى على أحد مَا استوجبوه لذَلِك شرعا وطبعا ولسالف خدمتهم وكظم الغيظ المرغب فِيهِ ارتكبنا فِي جانبهم أخف مَا أوجبه الله تَعَالَى على أمثالهم قَالَ جلّ علاهُ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} الْمَائِدَة 33 الْآيَة وَقد آلَيْت على نَفسِي وأشهدت الله وَمَلَائِكَته أَن لَا يضمني سور فاس الْجَدِيد والمغافرة بِهِ فَهَذَا هُوَ مَحْض الصدْق والآن بَين لنا كَيفَ يكون الْعَمَل فِي ذَلِك وَمَا نقدم وَمَا نؤخر لِأَن المُرَاد قَضَاء الْغَرَض من غير مشقة وَلَا فضيحة للجيش وَهل تفشي هَذَا أَو تكتمه وعَلى تَقْدِير امتثالهم عين لنا أَي مَحل ينتقلون إِلَيْهِ من ثغور إيالتنا كالرباط وَغَيره أَو قَصَبَة مراكش فَإِن النَّفس لم تسمح بهم بِالْكُلِّيَّةِ بل المُرَاد زجرهم وَإِقَامَة بعض حق الله فيهم وَيحصل لنا الاطمئنان والسكينة ونبر قسمنا فالمؤمن لَا يلْدغ من جُحر مرَّتَيْنِ وَمَا ذكرت من أَنا عاهدناك ووعدناك بِالْإِحْسَانِ والتنويه بشأنك فَإِنَّهُ وعد صدق لَا مرية فِيهِ إِن شَاءَ الله وَكَيف وَقد اسْتَوْجَبت منا كل جميل وقدمك لمعالي الْأُمُور عقلك وصدقك وَلَو ألفينا فِي الْجَيْش مثلك لضممنا عَلَيْهِ البراجم والرواجب وَفعلنَا فِي جَانِبه مَا هُوَ الْوَاجِب وَقد اقتصرت حَيْثُ طلبت أَن تكون بِمَنْزِلَة الْقَائِد قدور بن الْخضر عِنْد سَيِّدي الْكَبِير رحمهمَا الله فَأَنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 عندنَا بِمَنْزِلَة أعظم من مَنْزِلَته وَالْيَد الَّتِي اتَّخذت عندنَا أعظم مِمَّا اتخذ هُوَ عِنْد سَيِّدي الْكَبِير قدس الله سره فقد جازاه على الصدْق فَقَط أما أَنْت فقد شاركته فِي هَذِه الْمرتبَة وفقته بِمَا هُوَ أعظم وَهُوَ إحسانك لعيالنا وَأَوْلَادنَا وَلَوْلَا أَنْت لهلكوا جوعا فَلَا يكفر هَذِه الضَّيْعَة إِلَّا لئيم وحاشانا الله من ذَلِك فطب نفسا وقر عينا فلك عندنَا من المكانة والخطوة مالو اطَّلَعت على حَقِيقَته لطربت سُرُورًا ونشاطا وسترى إِذا انجلى الْغُبَار وَلَا زَالَ أهلنا يتذكرون إحسانك إِلَيْهِم بحضرتنا ويلتمسون لَك الدُّعَاء الصَّالح من جانبنا وَفِي الحَدِيث مَا مَعْنَاهُ أَن أمْرَأَة من بني اسرائيل أَبْصرت كَلْبا يلعق الحمئة من شدَّة الْعَطش فسقته فغفر الله لَهَا فَكيف بِمن أسدى مَعْرُوفا لجَماعَة انْقَطع رجاؤهم إِلَّا من الله وَالله لن يخزيك الله أبدا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر رَمَضَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب ثمَّ إِن الله تَعَالَى هيأ للسُّلْطَان أمره فِي الودايا وألهمه رشده فيهم فَأمر أَولا بِنَقْل رحى المغافرة إِلَى قَصَبَة الشرادي من أَعمال مراكش وَظن النَّاس أَنه يقْتَصر على ذَلِك لِأَنَّهُ رَحمَه الله لم يكن يظْهر إِلَّا أَنه يُرِيد نقل المغافرة فَقَط ثمَّ نقل رحى الودايا إِلَى العرائش وأحوازها ثمَّ ردهم إِلَى جبل سلفات ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة يسيرَة نقل رحى أهل السوس إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَأنْزل حلتهم بالمنصورية على شاطىء وَادي النفيفيخ وقوادهم ووجوههم بقصبة رِبَاط الْفَتْح ثمَّ رد الْحلَّة بعد مُضِيّ سِتّ سِنِين إِلَى قَصَبَة تمارة قرب رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت متلاشية فَأمر السُّلْطَان بعد سنتَيْن أَو ثَلَاث بترميمها وإصلاحها وَكَانَ رَحمَه الله قد أسقط هَذَا الْجند الوديي من الجندية وَأعْرض عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ سِنِين ثمَّ استردهم فِي حُدُود السِّتين كَمَا سَيَأْتِي وَلما أخلى السُّلْطَان فاسا الْجَدِيد من جَيش الودايا بأسره وَكَانَ بمراكش بعث بالطاهر بن مَسْعُود وبالحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فسجنا بِهِ مُدَّة ثمَّ قدمت عريفة الدَّار الْحَاجة زويدة بِكِتَاب من عِنْد السُّلْطَان على وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد بفاس يتَضَمَّن الْأَمر بقتل الطَّاهِر وَابْن الطَّاهِر بِالْمحل الَّذِي افتك فِيهِ الأول الثَّانِي فأخرجا إِلَى الْمحل الْمَذْكُور وَحضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الوصيف الْقَائِد فرجى وَقدم الطَّاهِر بن مَسْعُود فأخرجت فِيهِ عمَارَة وحز رَأسه ثمَّ قدم الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فَفعل بِهِ مثل صَاحبه فَيُقَال إِنَّه زهقت نَفسه قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لم يسل مِنْهُ دم وَأما الطَّاهِر بن مَسْعُود فَسَالَ مِنْهُ دم كثير وَأمر سَيِّدي مُحَمَّد ولد السُّلْطَان بمواراته فووري وَأما ابْن الطَّاهِر فَإِنَّهُ رمي على المزبلة ووكل بِهِ الحرس إِلَى أَن أَكلته الْكلاب وَلم يبْق إِلَّا رِجْلَاهُ بالقيد وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأما ابْن فَرِحُونَ وَأَصْحَابه فَإِنَّهُم استمروا فِي سجن الجزيرة إِلَى أَن هَلَكُوا وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة الهائلة دَالَّة على كَمَال عقل السُّلْطَان ووفور حلمه وفضله حَتَّى أَنه مَا عَامل هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين آذوه أَشد الإذاية إِلَّا بِبَعْض الْبَعْض مِمَّا استوجبوه كَمَا قَالَ وكما رَأَيْت وَعلمت ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته ويقينا وإياهم مصَارِع السوء وينيلنا الْأَمْن فِي الدُّنْيَا والفوز فِي الْآخِرَة بجنته إِنَّه على ذَلِك قدير وبالإجابة جدير ظُهُور الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين الْمُخْتَار بالمغرب الْأَوْسَط وَبَعض أخباره لما رَجَعَ جَيش السُّلْطَان من تلمسان مَعَ الْمولى على بن سُلَيْمَان حَسْبَمَا مر بَقِي أهل تلمسان فوضى وَرجعت الْحَرْب بَين الْحَضَر من أَهلهَا والكرغلية جَذَعَة وهاجت الْفِتَن بَين قبائل الْعَرَب الَّذين هُنَالك وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَكَانَ الْفَقِيه المرابط محيي الدّين عبد الْقَادِر المختاري نِسْبَة إِلَى أحد أجداده الْمَشْهُورين بِتِلْكَ النَّاحِيَة نازلا وسط حلَّة الحشم عِنْد المشاشيل مِنْهُم وَكَانَ متظاهرا بِالْخَيرِ وتدريس الْعلم وَاتخذ زَاوِيَة لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن فاشتهر عِنْد أُولَئِكَ الْقَبَائِل واعتقدوه فَلَمَّا دهم الْعَدو أهل تِلْكَ الْبِلَاد وجاشت فِيمَا بَينهم الْفِتَن اجْتمع الحشم وَبَعض بني عَامر وتفاوضوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على بيعَة الشَّيْخ محيي الدّين الْمَذْكُور فَذَهَبُوا إِلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وعرضوا عَلَيْهِ مَا فِي أنفسهم فتجافى عَن منصب الرياسة وَأظْهر الْوَرع وَاعْتذر بِأَنَّهُ قد شاخ وَذهب مِنْهُ الأطيبان وَإِنَّمَا هُوَ هَامة الْيَوْم أَو غَد فسدكوا بِهِ وتطارحوا عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِم بولده الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين وَكَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ عدَّة أَوْلَاد لَيْسَ الْحَاج عبد الْقَادِر أكبرهم وَلَا أعلمهم وَلَا أَصْلحهم وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ مضاء وإقدام فأسعفوه بِشَرْط أَن يكون نظره منسحبا عَلَيْهِ ومشيرا بِمَا تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَيْهِ وَلما تمّ أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر جمع كَتِيبَة من بني عَامر والحشم وزحف إِلَى وهران وَكَانَت يَوْمئِذٍ فِي ملكة النَّصَارَى قد استولوا عَلَيْهَا مُنْذُ سِتَّة أشهر أَو سَبْعَة فأوقع بهم وقْعَة شنعاء قتل فِيهَا وَأسر وأبلغ فِي النكاية وَرجع مظفرا منصورا فتيمنوا بِهِ وأحبوه وَتمكن مِنْهُم ناموسه وَاتخذ عسكرا من الحشم وَبني عَامر لَا بَأْس بِهِ وَلما سمع بِهِ أهل تلمسان وهم أحْوج مَا كَانُوا إِلَى من يقوم بأمرهم وفدوا عَلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْهُم من مبايعة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن صَاحب مراكش وفاس وَأَنَّهُمْ يبايعونه على بيعَته والإعلان بدعوته فأجابهم الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَى ذَلِك وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة وَأظْهر الطَّاعَة والانقياد للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وخطب بِهِ على مَنَابِر تلمسان وَغَيرهَا وَولى على تلمسان وأعمالها وزيره أَبَا عبد الله مُحَمَّد البوحميدي الولهاصي وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بِأَنَّهُ بعض خدمه وقائد من قواد جنده واستقام أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر وَثبتت قدمه فِي تِلْكَ الإيالة التلمسانية ثمَّ إِن قبيلتي الزمالة والدوائر الَّذين قدمنَا ذكرهم انحرفوا عَن الْحَاج عبد الْقَادِر لأسباب مِنْهَا أَنهم كَانُوا معادين للحشم وَلما قرب الْحَاج عبد الْقَادِر الحشم وجعلهم جنده ازدادت عداوتهم ونفرتهم عَن الْحَاج عبد الْقَادِر وَسَارُوا إِلَى وهران وأعلنوا بدعوة الفرنسيس فقبلهم وحماهم وَحدثت بَينه وَبَين الْحَاج عبد الْقَادِر بسببهم حروب صعبة حَدثنِي الْأمين السَّيِّد الْحَاج عبد الْكَرِيم ابْن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني قَالَ ذهبت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف إِلَى مَدِينَة وهران بِقصد التِّجَارَة بهَا وَذَلِكَ عقب اسْتِيلَاء الفرنسيس عَلَيْهَا قَالَ وَكنت يَوْمئِذٍ فِي سنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 الشَّبَاب حِين بقل عِذَارَيْ فأقمت بهَا مُدَّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِذْ ذَاك مهادنا لكبير الفرنسيس بوهران والجزائر قد أنزل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِبَلَد الآخر قنصله وتجاره على الْعَادة فِي ذَلِك أَيَّام الْهُدْنَة فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم ورد الْخَبَر بِأَن قبيلتي الزمالة والدوائر من إيالة الْحَاج عبد الْقَادِر وهم نَحْو الْأَلفَيْنِ كَانُوا قد فروا مِنْهُ ونزلوا حول مَدِينَة وهران مستجيرين بالفرنسيس وَقد رفعوا سنجقة وأعلنوا بِأَنَّهُم تَحت حكمه وَمن جملَة رَعيته فَبعث إِلَيْهِم الفرنسيس يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد قبلهم وَلَا يصيبهم مَكْرُوه فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث الْحَاج عبد الْقَادِر مَعَ كَبِير دولته الْحَاج الحبيب ولد الْمهْر المعسكري كتابا إِلَى الفرنسيس يَقُول فِيهِ إِنَّك قد علمت أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين فروا إِلَيْك هم رعيتي وَمن إيالتي وَعَلِيهِ فَلَا بُد أَن تردهم عَليّ وَإِلَّا فالحرب بيني وَبَيْنك فَامْتنعَ الفرنسيس من ردهم وَأجَاب إِلَى الْحَرْب وَاتَّفَقُوا أَن يخرج كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر تجاره الَّذين فِي أرضه وَأَن من بَقِي مِنْهُم بعد ثَلَاث فَهُوَ هدر وَاتَّفَقُوا أَيْضا على أَن يكون القنصلان آخر من يخرج وَأَن يكون خروجهما فِي سَاعَة مَعْلُومَة من اللَّيْل بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ على المحدة الَّتِي بَين أَرض الْمُسلمين وَأَرْض النَّصَارَى فَفَعَلُوا وخلص كل إِلَى مأمنه وَلما انْقَضى الْأَجَل تزاحفوا لِلْقِتَالِ فِي يَوْم مَعْلُوم فَكَانَت بَينهم حَرْب يشيب لَهَا الْوَلِيد وَلما كَانَ عشي النَّهَار سمع النَّاس من دَاخل الْبَلَد ضوضاء وجلبة عَظِيمَة وبارودا كثيرا وَإِذا بالحاج عبد الْقَادِر هزم الْكفَّار هزيمَة شنعاء حَتَّى ألجأهم إِلَى سور الْبَلَد وازدحموا على أبوابه وَركب بَعضهم بَعْضًا وَجَاءَت خيالتهم من خَلفهم فركبوهم أَيْضا وَمَشوا عَلَيْهِم ورفسوهم بخيلهم فَهَلَك بِهَذَا الازدحام من الفرنسيس نَحْو أَرْبَعَة آلَاف دون الَّذين هَلَكُوا خَارج الْبَلَد بالكور والرصاص والتوافل والرماح وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على معسكر النَّصَارَى بِمَا فِيهِ من مدافع وعجلات وفساطيط وأخبية وأثاث وَكَانَت فتكة بكرا قَالَ الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور وَكنت فِي تِلْكَ الْمدَّة مساكنا لبَعض كبراء عَسْكَر الفرنسيس فِي دَار وَاحِدَة فَلَمَّا انْقَضتْ الْوَقْعَة بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ سَأَلته كم ترَاهُ يكون هلك من عَسْكَر الفرنسيس فِي هَذِه الْوَقْعَة قَالَ أقرب لَك أم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أبعد قلت بل أقرب قَالَ أَنا كَبِير من كبراء الْعَسْكَر وَتَحْت نَظَرِي ثَمَان عشرَة مائَة بَقِي مِنْهَا فِي هَذِه الْوَقْعَة ثَمَانِيَة عشر عسكريا انْتهى كَلَام هَذَا الْمخبر ثمَّ إِن الزمالة والدوائر لجوا فِي مُوالَاة الفرنسيس وأحكموا أَمرهم مَعَه وولوا عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْمُصْطَفى بن إِسْمَاعِيل كَانَ هُوَ السَّبَب الْأَكْبَر فِي تملك الفرنسيس بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَجل الحروب الَّتِي كَانَت تكون بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمدَّة على يَده إِلَى أَن قتل منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ضاعف الله عَلَيْهِ غَضَبه ونقمته وَلما اتَّصل بالسلطان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله مَا عَلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر من جِهَاد عَدو الدّين وحماية بَيْضَة الْمُسلمين أعجبه حَاله وَحسنت مَنْزِلَته عِنْده لِأَنَّهُ رأى أَنه قد قَامَ بنصرة الْإِسْلَام على حِين لَا نَاصِر لَهُ فَصَارَ السُّلْطَان رَحمَه الله يمده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال الْمرة بعد الْمرة على يَد الْأمين الْحَاج الطَّالِب بن جلون الفاسي وَغَيره وطالت الْحَرْب بَينه وَبَين الفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس فِي بعض الكرات على تلمسان وضايقه الْحَاج عبد الْقَادِر فِيهَا حَتَّى أخرجه مِنْهَا ثمَّ استردها الفرنسيس بعد معارك شَدِيدَة ومواقف صعبة إِلَّا أَن ضَرَر الْحَاج عبد الْقَادِر للفرنسيس كَانَ مَقْصُورا على قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَأما الفرنسيس فَكَانَ ضَرَره بِالْمُسْلِمين عَائِدًا على تملك بِلَادهمْ وتنقصها من أطرافها ودام ذَلِك مُدَّة من سِتّ عشرَة سنة وَبِالْجُمْلَةِ فَلَقَد كَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر هَذَا فِي أول أمره على مَا يَنْبَغِي من المثابرة على الْجِهَاد والدرء فِي نحر الْعَدو وَلَوْلَا أَنه انعكس حَاله فِي آخر الْأَمر وخلصت الأَرْض للفرنسيس وَالله غَالب على أمره وَفِي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ولد مؤلف هَذَا الْكتاب أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي أَخْبَرتنِي والدتي السِّت فَاطِمَة بنت الْفَقِيه السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن قَاسم بن زَرُّوق الحسني الإدريسي الجباري أَنِّي ولدت بعد طُلُوع الْفجْر صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الْمَذْكُورَة وَفِي محرم فاتح سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الشهير السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي بمراكش واستوزر السُّلْطَان بعده الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الحاجي النكنافي مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَخّرهُ ورد وزيره الأقدم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة كَانَ الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور الْعَينَيْنِ وبرودة الْأَطْرَاف وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد سُؤال من عِنْد الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِلَى عُلَمَاء فاس يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله سادتنا الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام فُقَهَاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرّحال العيسية أطباء أدواء الدّين ومحقين حَقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فِيمَا عظم بِهِ الْخطب وَاشْتَدَّ بِهِ الكرب بوطن الجزائر الَّذِي صَار لغربال الْكفَّار جزائر وَذَلِكَ أَن الْعَدو الْكَافِر يحاول ملك الْمُسلمين مَعَ استرقاقهم بِالسَّيْفِ وَتارَة بحيل سياسته وَمن الْمُسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الْخَيل إِلَيْهِم وَلَا يَخْلُو من دلالتهم على عورات الْمُسلمين ويطالعهم وَمن أَحيَاء الْعَرَب المجاورين لَهُم من يفعل ذَلِك ويتمالؤون على الْجُحُود وَالْإِنْكَار فَإِذا طلبُوا بتعيينه جعجعوا وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ مِنْهُم الْأَعْين والْآثَار فَمَا حكم الله فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَل لَهُم من عِقَاب أم يتركون على حَالهم وَمَا الحكم فِيمَن يتَخَلَّف عَن المدافعة عَن الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد إِذا استنفره نَائِب الإِمَام للدفاع والجلاد فَهَل يعاقبون وَكَيف عقابهم وَلَا يَتَأَتَّى بِغَيْر قِتَالهمْ وَهل تُؤْخَذ أَمْوَالهم وأسلابهم كَيفَ الْعَمَل فِيمَن يمْنَع الزَّكَاة أَو يمْنَع بَعْضهَا من التحقق بعمارة ذمَّته فِي الْحَال فَهَل يصدق مَعَ قلَّة الدّين فِي هَذَا الزَّمَان أم يكون للِاجْتِهَاد فِيهِ مجَال وَمن أَيْن يرْزق الْجَيْش المدافع عَن الْمُسلمين الساد ثغورهم عَن المغيرين وَلَا بَيت مَال وَمَا يجمع من الزَّكَاة لَا يَفِي بشبعهم فضلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 عَن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فَهَل تتْرك فيستبيح الْكَافِر الوطن أم يكون مَا يلْزمهُم على جمَاعَة الْمُسلمين وَإِذا كَانَ فَهَل على الْعُمُوم أم على الْأَغْنِيَاء فَقَط وَلَا يُمكن اخْتِصَاص الْأَغْنِيَاء لجفوة الْأَعْرَاب وجهلهم وَهل يعد مَانع المعونة بَاغِيا أم لَا وَمَا حكم أَمْوَال الْبُغَاة وَهل القَوْل بِعَدَمِ ردهَا يجوز الْعَمَل بِهِ أم لَا أجِيبُوا عَمَّا ذكرنَا وَعَما يُنَاسب الْمقَام وَالْحَال مِمَّا لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضَاقَ من هَذِه الْأُمُور الذرع وَكَاد الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين لضيق الْأَسْبَاب أَن يتخلى عَن الْأَمر ويطرح ثوب الْإِمَارَة والدرع مَأْجُورِينَ وَالسَّلَام فِي تَاسِع عشر من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة صَدره عَن إِذن الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين لطف الله بِهِ وَقد أجَاب عَن هَذَا السُّؤَال بِإِشَارَة السُّلْطَان الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام مديدش التسولي بِجَوَاب طَوِيل يشْتَمل على خمس كراريس وَزِيَادَة وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلأَجل مَا كَانَ يصل من هَذِه الْأُمُور من جَانب الْحَاج عبد الْقَادِر كَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يبْذل مجهوده فِي إمداده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال وَغير ذَلِك ثمَّ لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد ظهر يَوْم السبت الْعشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة المتفنن الْمُحدث أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحَاج الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي وَدفن صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد فِي الْجَبانَة الَّتِي قرب ضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر وَشهد جنَازَته خلق كثير وأمهم الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي طُوبَى وللفقيه أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور شرح حفيل على موطأ الإِمَام مَالك رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس وَفِي سنة أَربع وَخمسين بعْدهَا وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله طُوبَى الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ رَحمَه الله من قُضَاة الْعدْل وَأهل الْعلم بالنوازل وَالْأَحْكَام مَحْمُود السِّيرَة ذَا سكينَة ووقار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي سَابِع جُمَادَى الأولى مِنْهَا كمل بِنَاء الْمنَار بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا وَكَانَ الْمنَار الَّذِي قبله قد أَصَابَته صَاعِقَة تداعت لَهَا أَرْكَانه فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله بنقضه وإعادته جَدِيدا فأعيد على هَيْئَة متقنة أحسن مِمَّا كَانَ وَأعظم وصير عَلَيْهِ بِوَاسِطَة أُمَنَاء مرسى العدوتين ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وَأَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وست أَوَاقٍ وَثلث الْأُوقِيَّة والريال الْكَبِير يَوْمئِذٍ من سعر سِتّ عشرَة أُوقِيَّة وَكَانَ جلّ الصائر من بَيت المَال وَأقله من مَال الْحَبْس وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى النظارة يَوْمئِذٍ وَالْقِيَام على الْبناء عَامل سلا الأبر الْأَخير السَّيِّد الْحَاج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْهَاشِمِي عواد وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق البارع أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام التسولي الْمَدْعُو مديدش صَاحب الشَّرْح الْكَبِير على تحفة ابْن عَاصِم فِي الْأَحْكَام وَشرح الشَّامِل وحاشية الزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف الحسان رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قَبيلَة زمور الشلح وَكَانُوا قد تجاوزوا الْحَد فِي الْإِفْسَاد وإخافة الْعباد والبلاد فأوقع بهم وقْعَة شنعاء كسرت من حَدهمْ وفلت من غربهم وَكتب السُّلْطَان رَحمَه الله فِي ذَلِك إِلَى وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد كتابا من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله بن إِدْرِيس يَقُول فِيهِ مَا نَصه ولدنَا الأرضى الأبر الأرشد سَيِّدي مُحَمَّد أصلحك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد كُنَّا أردنَا الْإِبْقَاء على قَبيلَة زمور رَحْمَة وإشفاقا وَحَملهمْ على الاسْتقَامَة بالإرهاب من الشدَّة فِي بعض الْأُمُور هِدَايَة وإرفاقا فَلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حَولهمْ وقوتهم فَمَا رَأَوْا منا لينًا وسدادا إِلَّا ازدادوا شدَّة وَفَسَادًا وَلَا أظهرنَا لَهُم عظة وإرشادا إِلَّا أظهرُوا تطاولا وعنادا وَمَا أخرنا الْمحلة المنصورة عَن الرّكُوب إِلَيْهِم إبْقَاء وألفا إِلَّا ظنُّوا ذَلِك عَجزا وضعفا قد طمس الْإِعْجَاب مِنْهُم بصرا وسمعا وَلم يرَوا أَن الله قد أهلك من قبلهم من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر جمعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 (إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته ... وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا) (وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا) فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 (وَمَا عَن رضى مِنْهَا عَطِيَّة أسلمت ... وَلكنهَا قد قادها للهدى الْقَهْر) (أردنَا بهَا الْإِبْقَاء فازداد عجبها ... وأدبها التَّشْدِيد والفتك والأسر) وَلَو قيدوا النِّعْمَة بالشكر لأمنوا الزَّوَال {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال} الرَّعْد 11 وَالسَّلَام فِي فاتح رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام تِسْعَة وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف انْتِقَاض الْهُدْنَة مَعَ الفرنسيس وتمحيص الْمُسلمين بإيسلي قرب وَجدّة وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَت الْهُدْنَة معقودة بَين هَذِه الدولة الشَّرِيفَة وَبَين جنس الفرنسيس من لدن دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله وَلما حدث الشنآن بَين ترك الجزائر والفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس على ثغورهم جَاءَ أهل تلمسان إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله راغبين فِي بيعَته وَالدُّخُول فِي طَاعَته فقبلهم بعد التَّوَقُّف والمشاورة كَمَا مر وَلما أعرى جَيش السُّلْطَان تلمسان وَاجْتمعَ أهل ذَلِك الْقطر على الْحَاج عبد الْقَادِر محيي الدّين تَحت كلمة السُّلْطَان بر بِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وقاوم الفرنسيس بِتِلْكَ الْبِلَاد أَشد المقاومة إِلَّا أَن فَائِدَة حربه كَانَت تظهر فِي قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَفَائِدَة حَرْب الفرنسيس كَانَت تظهر فِي انتقاص الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا وشتان مَا بَينهمَا وَلما كَانَت سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ اسْتِيلَاء الفرنسيس على جَمِيع بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَصَارَ الْحَاج عبد الْقَادِر يتنقل فِي أطرافها فَتَارَة بالصحراء وَتارَة ببني يزناسن وَتارَة بوجدة والريف وَغير ذَلِك وَرُبمَا استكثر فِي هَذِه التنقلات بِمن هُوَ من رعية السُّلْطَان أَو جنده فَمد الفرنسيس يَده إِلَى إيالة السُّلْطَان رَحمَه الله فشن الْغَارة على بني يزناسن وعَلى وَجدّة وأعمالها الْمرة بعد الْمرة ثمَّ اقتحم وَجدّة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وانتهبها وَكثر عيثه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فِي الْحُدُود فَكلم من جَانب السُّلْطَان رَحمَه الله فِيمَا ارْتَكَبهُ من إيالته فتعلل بِأَن الْهُدْنَة قد انتقضت بإمداد الْحَاج عبد الْقَادِر بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال الْمرة بعد الْمرة وبمحاربة جَيش السُّلْطَان المرابط على الْحُدُود لَهُ وبمحاربة بني يزناسن لَهُ مَعَ الْحَاج عبد الْقَادِر وَغير ذَلِك مِمَّا اعْتد بِهِ وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر فِي هَذِه الْمدَّة قد فَسدتْ نِيَّته أَيْضا فِي السُّلْطَان وَفِي الْجِهَاد مَعَ أَنه مَا كَانَ لجهاده ثَمَرَة ورام الِاسْتِقْلَال وَأخذ فِي استفساد الْقَبَائِل الَّذين هُنَالك وَتحقّق السُّلْطَان بأَمْره وشرى الشَّرّ وتفاقم الْأَمر فَعمد السُّلْطَان رَحمَه الله على حَرْب الفرنسيس وَتقدم إِلَى أهل الثغور بالاستعداد والحراسة وإرهاف الْحَد لما عَسى أَن يحدث ثمَّ عقد لِابْنِ عَمه الْمولى الْمَأْمُون بن الشريف على كَتِيبَة من الْجند ووجهها إِلَى نَاحيَة وَجدّة وعززه بالفقيه أبي الْحسن عَليّ بن الجناوي من أَعْيَان رِبَاط الْفَتْح فَكَانَت لَهُم مناوشة مَعَ رابطة الفرنسيس الَّتِي هُنَالك ثمَّ أَخذ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي أَسبَاب الْغَزْو والاستعداد التَّام وحشد الْجنُود واتخاذ الرَّايَات والبنود واستنفار الْقَبَائِل وَقَالَ فِي ذَلِك الْوَزير ابْن إِدْرِيس أشعارا يستنفر بهَا أهل الْمغرب ويحضهم على الْجِهَاد وإيقاظ العزائم لَهُ من ذَلِك قَوْله (يَا أهل مغربنا حق النفير لكم ... إِلَى الْجِهَاد فَمَا فِي الْحق من غلط) (فالشرك من جنبات الشرق جاوركم ... من بعد مَا سلم أهل الدّين بالشطط) (فَلَا يَغُرنكُمْ من لين جَانِبه ... مَا عَاد قبل على الْإِسْلَام بالسخط) (فَعنده من ضروب الْمَكْر مَا عجزت ... عَن دركه فكرة الشبَّان والشمط) (فواتح الْمَكْر تبدو من خواتمه ... فَعنده الْمَكْر وَالْمَكْرُوه فِي نمط) (وَأَنْتُم الْقَصْد لَا تبقن فِي دعة ... إِن السّكُون إِلَى الأعدا من السقط) (من جاور الشَّرّ لَا يعْدم بوائقه ... كَيفَ الْحَيَاة مَعَ الْحَيَّات فِي سقط) (قد يغبط الْحر فِي عز يخلده ... وَلَيْسَ حَيّ على ذل بمغتبط) وَفِي هَذَا الشّعْر تضمين بَيت ابْن الْعَسَّال وَهُوَ مَشْهُور فَاجْتمع للسُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الاستنفار ثَلَاثُونَ ألف فَارس تزيد قَلِيلا أَو تنقص قَلِيلا فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 الْجند وحصص الْقَبَائِل فِي أكمل شكة وَأحسن زِيّ وَلم يشهدها من الودايا سوى نفر يسير لأَنهم كَانُوا فِي زَاوِيَة الإهمال عِنْد السُّلْطَان ثمَّ عقد رَحمَه الله على هَذِه الْجنُود لوَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَسَار حَتَّى نزل بوادي إيسلي من أَعمال وَجدّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر لَا زَالَ جائلا فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَمَعَهُ نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مِمَّن كَانَ قد بَقِي مَعَه من أهل الْمغرب الْأَوْسَط لِأَن حَاله كَانَ قد أَخذ فِي التراجع والانحطاط وَلم تبْق لَهُ هُنَالك كَبِير فَائِدَة بل انْقَلب نَفعه ضَرَرا وحزمه خورا بِفساد نِيَّته واستفساده لجند السُّلْطَان ورعيته وَلما احتل الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بإيسلي وعسكر بِهِ جَاءَهُ الْحَاج عبد الْقَادِر يسْتَأْذن عَلَيْهِ فِي الِاجْتِمَاع بِهِ فَأذن لَهُ وَاجْتمعَ بِهِ وَهُوَ على فرسه فدار بَينهمَا كَلَام كَانَ من جملَته أَن قَالَ الْحَاج عبد الْقَادِر إِن هَذِه الْفرش والأثاث والشارة الَّتِي جئْتُمْ بهَا حَتَّى وضعتموها بِبَاب جَيش الْعَدو لَيْسَ من الرَّأْي فِي شَيْء وَمهما نسيتم فَلَا تنسوا أَن لَا تلاقوا الْعَدو إِلَّا وَأَنْتُم متحملون منكمشون بِحَيْثُ لَا يبْقى لكم خباء مَضْرُوب على الأَرْض وَإِلَّا فَإِن الْعَدو مني رأى الأخبية مَضْرُوبَة لم ينْتَه دون الْوُصُول إِلَيْهَا وَلَو أفنى عَلَيْهَا عساكره وَبَين كَيفَ كَانَ هُوَ يقاتله وَكَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ صَوَابا إِلَّا أَنه لم ينجع فِي الْقَوْم لانفساد البواطن وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَرُبمَا انتهره بعض حَاشِيَة الْخَلِيفَة على التفصح بمحضره وَالْإِشَارَة عَلَيْهِ فَبل استيشاره فَرجع الْحَاج عبد الْقَادِر عوده على بدئه وانتبذ نَاحيَة فِي جَيْشه ولسان حَاله يَقُول لم آمُر بهَا وَلم تسؤني وَلما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وَقعت الْحَرْب صبيحتها جَاءَ رجلَانِ من أَعْرَاب تِلْكَ النَّاحِيَة وطلبوا الدُّخُول على الْحَاجِب وَهُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين فدخلا عَلَيْهِ وَقَالا إِن الْعَدو عازم على أَن يصبحكم غَدا إِن شَاءَ الله فَاسْتَعدوا لَهُ وأعلموا الْأَمِير فَيُقَال إِن الْحَاجِب قَالَ إِن الْأَمِير الْآن نَائِم وَلست بِالَّذِي أوقظه ثمَّ جَاءَ عقب ذَلِك أَرْبَعَة أنَاس آخَرُونَ يعلمُونَ بِأَمْر الْعَدو فَكَانَ سبيلهم سَبِيل الْأَوَّلين وَلما طلع الْفجْر وَصلى الْخَلِيفَة الصُّبْح جَاءَ عشرَة من الْخَيل قيل من الْعَرَب وَقيل من حرس الْخَلِيفَة فأعلموا بمجيء الْعَدو وَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ قد أَخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 فِي الرحيل فَأمر الْخَلِيفَة رَحمَه الله النَّاس بالركوب والاستعداد وَأَن لَا يبْقى بالمحلة إِلَّا الرُّمَاة وَكَانُوا دون الْألف وَبعث إِلَى بني يزناسن بالركوب فَرَكبُوا فِي أُلُوف كَادَت تَسَاوِي جَيش الْخَلِيفَة وَصَارَت الْخَيل نَحْو الْعَدو مصطفة مد الْبَصَر وراياتها تخفق على هَيْئَة عَجِيبَة وترتيب بديع وَكَانَ الْخَلِيفَة سائرا فِي وَسطهمْ ناشرا المظلة على رَأسه رَاكِبًا على فرس أَبيض وَعَلِيهِ طيلسان أرجواني قد تميز بزيه وشارته وَلما تقَارب الجيشان جعلت الفرسان تبرز من الصُّفُوف كَأَنَّمَا تتعجل الْقِتَال فَأمر الْخَلِيفَة رَحمَه الله بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالسير بسير النَّاس ثمَّ لما التقى الْجَمْعَانِ وانتشبت الْحَرْب رصد الْعَدو الْخَلِيفَة وقصده بِالرَّمْي مَرَّات عديدة حَتَّى سَقَطت بنبة أَمَام حَامِل المظلة وجمح فرسه بِهِ وَكَاد يسْقط وَلما رأى الْخَلِيفَة ذَلِك غير زيه بِأَن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فَرَكبهُ وَلبس طيلسانا آخر فاختفى حِينَئِذٍ وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد أَحْسنُوا دفاع الْعَدو وصدموه صدمة قَوِيَّة برقتْ لَهُم بهَا بارقة وَكَانَت خيلهم تنفر من صَوت المدافع وَلَكنهُمْ كَانُوا يقحمونها إقحاما وثبتوا فِي نحر الْعَدو مِقْدَار سَاعَة وَلما التفتوا إِلَى جِهَة الْخَلِيفَة وَلم يروه بِسَبَب تغير زيه خَشَعت نُفُوسهم وَقَالَ المرجفون إِن الْخَلِيفَة قد هلك فماج النَّاس بَعضهم فِي بعض وتسابق الشراردة إِلَى الْمحلة فعمدوا إِلَى الخباء الَّذِي فِيهِ المَال فانتهبوه وتقاتلوا عَلَيْهِ وتبعهم غَيرهم مِمَّن كَانَ الرعب قد ملك قلبه وَجعل النَّاس يَتَسَلَّلُونَ حَتَّى ظهر الفشل فِي الْجَيْش من كل جِهَة فَتقدم بعض الْحَاشِيَة إِلَى الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن النَّاس قد انْهَزمُوا وهم الْآن بالمحلة يقتل بَعضهم بَعْضًا ويسلب بَعضهم بَعْضًا فَقَالَ يَا سُبْحَانَ الله والتفت فَرَأى مَا هاله من أَمر النَّاس فَرجع عوده على بدئه وَانْهَزَمَ من كَانَ قد بَقِي مَعَه عَن آخِرهم وتبعهم الْعَدو يَرْمِي الكور والضوبلي من غير فَتْرَة وَثَبت الله بعض الطبجية بالمحلة وَلَكِن سَالَ الْوَادي فطم على الْقرى وَنفذ أَمر الله وَلم يهْزم الْمُسلمين إِلَّا الْمُسلمُونَ كَمَا رَأَيْت وَلما استولى الْعَدو على الْمحلة فر النهاب الَّذين كَانُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 بهَا وَبقيت فِي يَده بِمَا فِيهَا وَكَانَت مُصِيبَة عَظِيمَة وفجيعة كَبِيرَة لم تفجع الدولة الشَّرِيفَة بِمِثْلِهَا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار منتصف شعْبَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما رَجَعَ المنهزمة تفَرقُوا شذر مذر وَأهْلك النَّاس الْعَطش والجوع والتعب حَتَّى كَانَ نسَاء عرب آنكاد يستلبنهم كَيفَ شئن وانْتهى الْخَلِيفَة إِلَى تازا فَأَقَامَ بهَا أَرْبَعَة أَيَّام ريثما اجْتمع إِلَيْهِ الرُّمَاة وضعاف الْجَيْش ثمَّ قدم فاسا وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قادما من مراكش إِلَى فاس فاتصل بِهِ خبر الْوَقْعَة وَهُوَ برباط الْفَتْح فَنَهَضَ إِلَى فاس مجدا واتصل بِهِ فِي أثْنَاء طَرِيقه خبر وقعتين اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وهما هجوم الفرنسيس على طنجة والصويرة ورميه إيَّاهُمَا بألوف من الكور والبنب وَوَقع بالصويرة حَادث عَظِيم بِسَبَب الغوغاء الَّذين بِالْبَلَدِ والشياظمة المجاورين لَهُم فَإِنَّهُم لما رَأَوْا الْعَدو دخل الجزيرة ظنُّوا أَنه سيدخل الْبَلَد فمدوا أَيْديهم للنهب وَكَانَ ذَلِك أَولا فِي الْيَهُود ثمَّ عَم غَيرهم وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ فَكَانَ هَذَا مِمَّا زَاد غيظ السُّلْطَان وكمده فَعمد إِلَى جمَاعَة من قواد الْجَيْش وَحلق لحاهم تأديبا لَهُم وَذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة فَزعم أَن عَسَاكِر الفرنسيس كَانَت يَوْمئِذٍ عشرَة آلَاف وَإنَّهُ كَانَ غَرَضه محاربة الَّذين كَانُوا يحاربونه على أَطْرَاف الْبِلَاد حَتَّى لقد أعْطى خطّ يَده للنجليز أَنه إِذا حَارب وَغلب لَا يتَمَلَّك من أَرض الْمغرب شَيْئا قَالَ فَلذَلِك لما وَقعت الْهَزِيمَة بعث بإثرها رسله يطْلب الصُّلْح مَعَ أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لم يظْهر عَجزا وَلَا فل ذَلِك من غربه بل اسْتَأْنف الْجد وَشرع فِي جمع الْعدَد اه كَلَامه ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله هادن الفرنسيس على يَد الْفَقِيه أبي سلهام بن عَليّ آزطوط عَامل طنجة والعرائش على شُرُوط ثَمَانِيَة من جُمْلَتهَا نفي الْحَاج عبد الْقَادِر من تِلْكَ الْبِلَاد لما فِي بَقَائِهِ هُنَالك من آثاره الْفِتْنَة بَين الدولتين بِلَا فَائِدَة ودعت الْمصلحَة الوقتية السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى أَن أسقط عَن جنس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 الدينمرك وجنس السويد مَا كَانَا يؤديانه إِلَى الدولة الْعلية كل سنة فَالْأول خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف ريال وَالثَّانِي عشرُون ألف ريال وَكَذَلِكَ أسقط عَن غَيرهم وظائف أخر والأمور كلهَا بيد الله {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} الْأَنْبِيَاء 23 وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع وَكَانَ الريال الْكَبِير ذُو المدفع بست عشرَة أُوقِيَّة والريال الصَّغِير الإفرنك بِخمْس عشرَة أُوقِيَّة والبندقي بِثَلَاثِينَ أُوقِيَّة وَالدِّرْهَم الصَّغِير بِأَرْبَع موزونات وَالْكَبِير بست موزونات وَلما أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع أخذت الأسعار فِي الِارْتفَاع أَيْضا وحاول السُّلْطَان رَحمَه الله حصرها فَلم تَنْحَصِر وَعلة ذَلِك وَالله أعلم أَنه لما وَقع مَعَ الفرنسيس هَذَا الصُّلْح وَأسْقط السُّلْطَان عَن الْأَجْنَاس مَا كَانَت تُؤَدِّيه كثر خطارهم وتجارهم بمراسي الْمغرب وازدادت مخالطتهم وممازجتهم لأَهله وَكَثُرت تِجَارَتهمْ فِي السّلع الَّتِي كَانُوا ممنوعين مِنْهَا وَانْفَتح لَهُم بَاب كَانَ مسدودا عَلَيْهِم من قبل فَظهر أثر ذَلِك فِي السِّكَّة وَفِي السّلع أما السِّكَّة فَلِأَن سكتهم كَانَت هِيَ الْغَالِبَة وَهِي أَكثر روجانا من سكَّة الْمغرب فَلَا بُد أَن يكون الحكم والتأثير لَهَا والتجار يعتبرون فِيهَا من الفضول والأرباح الناشئة عَن تغاير القطرين مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيرهم من الْعَامَّة وتبعهم على ذَلِك تجار الْمُسلمين وَأما السّلع فَلِأَن تجار النصاري يغالون فِي أثمانها أَكثر من غَيرهم كَمَا هُوَ مشَاهد ثمَّ مَا دَامَت بِلَاد الفرنج مترقية فِي التمدن وَحسن التَّرْتِيب واتساع الْأَمْن وَالْعدْل إِلَّا وسككنا وأسعارنا دائمة الترقي فِي الغلاء على نِسْبَة كَثْرَة المخالطة واتساع مَادَّة البيع وَالشِّرَاء فَتَأَمّله وَالله الْمُوفق وَفِي هَذِه السّنة ثار أهل رِبَاط الْفَتْح على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد السُّوسِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ من أهل الوجاهة بالرباط ومتبوع الْعقب فِيهَا وَكَانَ كثيرا مَا يُجَالس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الْعَامِل الْمَذْكُور ويدلي عِنْده بالصداقة والمودة فَيُقَال إِنَّه تشفع عِنْده فِي بعض أهل الْبَلَد فَرد شَفَاعَته فَغَضب الزُّبْدِيُّ وَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وَكَانَ أهل الْبَلَد قد سئموا ملكة السُّوسِي ومرضوا فِي طَاعَته لأسباب تعدها الرّعية على الْعمَّال فجَاء الزُّبْدِيُّ إِلَى منزله وَجمع جمَاعَة من أَعْيَان الْبَلَد مِمَّن يعلم انحرافهم عَن الْعَامِل الْمَذْكُور وأطعمهم وأطلعهم على خبيئة صَدره فِي أَمر الْعَامِل فَوَجَدَهُمْ إِلَيْهِ سرَاعًا فتحالفوا وتعاهدوا على أَن لَا يبْقى مُتَوَلِّيًا عَلَيْهِم بِحَال ثمَّ مَشوا إِلَيْهِ وأنذروه وتقدموا إِلَيْهِ بِأَن يلْزم بَيته ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على تَقْدِيم الزُّبْدِيُّ مَكَانَهُ فقدموه وَضبط أَمر الْبَلَد واتصل الْخَبَر بالسلطان رَحمَه الله وَهُوَ بفاس فَقَامَ وَقعد وَكتب إِلَيْهِم بالوعظ والتقريع فصموا عَن سَمَاعه وتمادوا على شَأْنهمْ ثمَّ بعث إِلَيْهِم الْقَائِد الطّيب الوديني البُخَارِيّ يتَوَلَّى عَلَيْهِم وَيقبض على أهل الْفساد مِنْهُم فأفحشوا عَلَيْهِ وطردوه من الْبَلَد مَعَ الْعشي فَعبر إِلَى سلا فِي مطر غزير وَرجع إِلَى السُّلْطَان فَأعلمهُ الْخَبَر فاحتال السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن بعث الْفَقِيه الْكَاتِب أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي فَقدم رِبَاط الْفَتْح وَجمع أعيانها وَخَيرهمْ فِيمَن يتَوَلَّى عَلَيْهِم فَاخْتَارُوا الزُّبْدِيُّ فولاه السُّلْطَان عَلَيْهِم وحمدوا سيرته وَبعد نَحْو سِتَّة أشهر قدم السُّلْطَان رِبَاط الْفَتْح وتريث بهَا مُدَّة حَتَّى نقر عَن رُؤُوس الْفِتْنَة فَقبض عَلَيْهِم وعَلى قائدهم الزُّبْدِيُّ وَبعث بهم إِلَى فاس فسجنوا بهَا ثمَّ سرحوا بعد حِين وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف نَهَضَ السُّلْطَان من فاس ونهض الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش والتقيا بمشرع أبي الأعوان من دكالة وعيدا هُنَالك عيد المولد الْكَرِيم ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى مراكش وَانْحَدَرَ الْخَلِيفَة إِلَى فاس وَفِي هَذَا الْعِيد بعث أَبُو عبد الله أكنسوس إِلَى السُّلْطَان بالقصيدة وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ بِنَاء البرج الْكَبِير بسلا الْمَعْرُوف بالصقالة الجديدة وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله شرع فِي بنائِهِ زمَان انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الفرنسيس وَتمّ فِي هَذِه الْمدَّة على أكمل الْأَحْوَال وأحسنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 بَقِيَّة أَخْبَار الْحَاج عبد الْقَادِر وانقراض أمره وَمَا آل إِلَيْهِ حَاله قد قدمنَا مَا كَانَ من فَسَاد نِيَّة الْحَاج عبد الْقَادِر وَأَنه رام الاستبداد بل والتملك على الْمغرب فَلَمَّا كَانَت الْهَزِيمَة بإيسلي ازْدَادَ طمعه فَصَارَ يَدْعُو أهل النواحي إِلَى مبايعته وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَكَاتب الْخَواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على مَا قيل ثمَّ احتال بِأَن بعث جمَاعَة وافرة من الحشم وَبني عَامر شيعته إِلَى السُّلْطَان قدمهم أَمَامه فِي صُورَة هراب مستجيرين بالسلطان فقبلهم السُّلْطَان وأنزلهم على نهر سبو ثمَّ تقدم الْحَاج عبد الْقَادِر حَتَّى وصل إِلَى الْقعدَة الْحَمْرَاء بَين التسول والبرانس وَكَانَ قَصده أَن يجْتَمع بشيعته ويصل يدهم بِيَدِهِ وَيتم لَهُ مَا أَرَادَ فَلَمَّا أطلع السُّلْطَان على دسيسته بعث إِلَى أُولَئِكَ الْجَمَاعَة عسكرا من الشراردة عَلَيْهِم الْقَائِد إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأكحل فاجتاحوهم بعد جهد جهيد وقتال شَدِيد من ذَلِك أَنهم اعتصموا بِرَبْوَةٍ وَجعلُوا يُقَاتلُون على حريمهم وَكَانُوا رُمَاة لَا تسْقط لَهُم رصاصة فِي الأَرْض فَكَانُوا كلما تَوَجَّهت إِلَيْهِم طَائِفَة من الْجَيْش استأصلوها بالرصاص وَكَانُوا يجمعُونَ موتاهم وينصبونهم أشبارا يتترسون بِهِ ويقاتلون من خَلفه وَلما أعيا الْجَيْش أَمرهم حملُوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة حَتَّى خالطوهم فِي معتصمهم وجالدوهم بِالسُّيُوفِ وطاعنوهم بِالرِّمَاحِ والتوافل وَانْقطع البارود فَكَانُوا يقتلُون أَبْنَاءَهُم ونساءهم بِأَيْدِيهِم فِرَارًا من السَّبي والعار ثمَّ جعلُوا يقتلُون أنفسهم حِين تحققوا أَنهم فِي قَبْضَة الأسار وَبعد هَذَا وَجه السُّلْطَان وَلَده سَيِّدي مُحَمَّدًا لحسم دائه فِي جَيش كثيف وَكَانَ رَئِيس الْجَيْش وكبيره بعد الْخَلِيفَة الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي الْمَدْعُو أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ ذكر فِي الشجَاعَة والرأي وَلما وصل الْخَلِيفَة إِلَى سلوان بعث إِلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر جمَاعَة فيهم وزيره أَبُو عبد الله البوحميدي يتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة والخدمة للسُّلْطَان وَقدمُوا إِلَى الْخَلِيفَة هَدِيَّة ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن يقدموا على السُّلْطَان رَحمَه الله فينهوا إِلَيْهِ الْأَمر وَالْعَمَل على مَا قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فَوجه مَعَهم الْخَلِيفَة من يصحبهم إِلَى أَبِيه بفاس وَفِي أثْنَاء ذَلِك عمد الْحَاج عبد الْقَادِر ذَات لَيْلَة إِلَى طَائِفَة من جنده نَحْو الْخمس عشرَة مائَة على مَا قيل كلهم بَطل مجرب انتقاهم انتقاء وَكَانَ جَيش الْخَلِيفَة منقسما قسمَيْنِ بعضه مَعَه وَبَعضه مَعَ أَخِيه الْمولى أَحْمد فضمد الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَيْهِمَا (فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أندية ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا) بِتِلْكَ الْعصبَة الَّذين هم فتيَان الكريهة ومساعير الهيجاء وجمرات الْحَرْب كالما شهد بهم الوقائع وخاض غَمَرَات الْمَوْت مَعَ الفرنسيس وَغَيره فَلم يقف بهم إِلَّا بَين المجلتين وأطلقوا الرصاص مثل الْمَطَر وَأَرْسلُوا حراقيات على الْجمال وتهاويل مفزعة فماج النَّاس فِي ذَلِك الظلام الْغَاسِق وَنزل بهم من الهول مَا يقصر اللِّسَان عَن وَصفه وَقَامَ الْخَلِيفَة فَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ويمنعهم من الرّكُوب خوف الْفِرَار وَأمر الْعَسْكَر والطبجية بِالرَّمْي بالكور والضوبلي فَكَانُوا يرْمونَ إِلَى جِهَة محلّة الْمولى أَحْمد ظنا مِنْهُم أَن الْعَدو لَا زَالَ مقابلهم ومحلة الْمولى أَحْمد يرْمونَ إِلَى جهتهم كَذَلِك فَهَلَك من المحلتين بِسَبَب ذَلِك بشر كثير وَأما الْحَاج عبد الْقَادِر فَإِنَّهُ فر فِي أَصْحَابه بعد أَن حملُوا الْكثير من موتاهم مَعَهم وَكَانَ للقائد مُحَمَّد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ذكر وَلما أصبح النَّاس وتفقدوا حَالهم وجدوا فيهم من الْجَرْحى نَحْو الْألف وَمن الْقَتْلَى مَا يقرب ذَلِك وَأصْبح حول الْمحلة من قَتْلَى أَصْحَاب الْحَاج عبد الْقَادِر الَّذين أجهضهم الْقِتَال عَن حملهمْ نَحْو الْخمسين وأسروا نَفرا أَحيَاء فشاهدوا من طمأنينتهم عِنْد الْقَتْل مَا قضوا مِنْهُ الْعجب ووجدوا عَلَيْهِم كسى رفيعة مطرزة بالصقلى وَالْحَرِير وَنَحْو ذَلِك فَلَقَد كَانَ للرجل اعتناء بالجيش كَمَا نرى ثمَّ إِن الْخَلِيفَة رَحمَه الله أَمر بِاتِّبَاع الْحَاج عبد الْقَادِر فتبعته الْكَتَائِب المختارة فَكَانَ اللِّقَاء ثَانِيًا بمشرع الرحائل من وَادي ملوية قرب الْبَحْر عِنْد مسْقط ملوية فِي الْبَحْر فصدمته الجيوش صدمة أُخْرَى فنى فِيهَا كماته وَكسرت شوكته وفل حَده وخشعت نَفسه وأيس من جبر حَاله ففر إِلَى الفرنسيس ولجأ إِلَيْهِ وَترك محلته بِمَا فِيهَا فاستولى جَيش الْخَلِيفَة عَلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 حكى من حضر أَن الْخَيل كَانَ يطردون الْجَمَاعَة من أَصْحَاب الْحَاج عبد الْقَادِر وهم راجلون ليأسروهم فَمَا كَانُوا يدركونهم إِلَّا بعد الْمسَافَة الْبَعِيدَة جدا وَالْحَاصِل أَن مقَام هَذَا الرجل فِي الشجَاعَة مَعْرُوف وبصارته بمكائد الْحَرْب مَعْلُومَة لَوْلَا مَا ذَكرْنَاهُ من انعكاس حَاله ورومه الاستبداد وخلعه طَاعَة الإِمَام الْحق الَّذِي كَانَت بيعَته فِي عُنُقه وَاعْلَم أَنه قد يقف بعض المنتقدين على مَا حكيناه من أَخْبَار هَذَا الرجل فينسبنا إِلَى تعصب وَسُوء أدب وَالْجَوَاب أَنا مَا حكينا إِلَّا الْوَاقِع وَأَيْضًا فَلَقَد قَالَ لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله حضرت يَوْمًا بَين يَدي السُّلْطَان أبي عنان فِي بعض وفاداتي عَلَيْهِ لغَرَض الرسَالَة وَجرى ذكر بعض أعدائه فَقلت مَا أعتقد فِي إطراء ذَلِك الْعَدو وَمَا عَرفته من فَضله فَأنْكر عَليّ بعض الْحَاضِرين مِمَّن لَا يحطب إِلَّا فِي حَبل السُّلْطَان فصرفت وَجْهي وَقلت أيدكم الله تحقير عَدو السُّلْطَان بَين يَدَيْهِ لَيْسَ من السياسة فِي شَيْء بل غير ذَلِك أَحَق وَأولى فَإِن كَانَ السُّلْطَان قد غلب عدوه كَانَ قد غلب غير حقير وَهُوَ الأولى بفخره وجلالة قدره وَإِن غَلبه الْعَدو لم يغلبه حقير فَيكون أَشد للحسرة وآكد للفضيحة فَوَافَقَ رَحمَه الله على ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وشكر عَلَيْهِ وخجل الْمُعْتَرض اه وَلما كَانَ هَذَا الْفَتْح كتب السُّلْطَان إِلَى الْبِلَاد وزينت الْأَسْوَاق وأعلمت المفرحات وَنَصّ مَا كتب بِهِ السُّلْطَان بعد الِافْتِتَاح وَبعد فَإِن الْفَاسِد الفتان وَخَلِيفَة الشَّيْطَان أبعد فِي الجسارة وامتطى مطي الخسارة وَاسْتَوْسَعَ سَبِيل العناد واستضل سَبِيل الرشاد وَقَالَ من أَشد مِنْهُ قُوَّة وسولت لَهُ نَفسه الأمارة الاتصاف بالإمارة وَأَرَادَ شقّ عَصا الْإِسْلَام وصدع مهج الْأَنَام فأعلن بِكُل قَبِيح وَاسْتشْكل كل صَرِيح واستبطن الْمَكْر وَالْخداع وفَاق فِيهِ عابدي ود وسواع وشاع فِي طرف الإيالة ضَرَره وساء مخبره وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يظْهر مظَاهر يستهوي بهَا أهل الْجَهَالَة والعماية والضلالة فأيسنا من رشده وعرفنا مُضْمر قَصده فجهزنا لَهُ محلّة منصورة ذَات أَعْلَام منشورة جعلنَا فِي وَسطهَا ولدنَا الأبر سَيِّدي مُحَمَّد أصلحه الله وأسندنا إِلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 أمرهَا وقلدناه تدبيرها وعهدنا إِلَيْهِ أَن يسْعَى فِي حقن الدِّمَاء جهد الْإِمْكَان ويحتال على إِقَامَة أود هَذَا الفتان وَأَن يعالج داءه بِكُل دَوَاء وَأَن لَا يتبع فِيهِ الْأَغْرَاض والأهواء وَأَن يَجْعَل الْقِتَال آخر عمله وَعَدَمه غَايَة أمله فَلَمَّا رأى عَدو نَفسه إحاطة الجيوش بِهِ وَجه وَفْدًا من قبله يَدعِي التَّوْبَة فِيمَا مضى والكون على وفْق الْمُقْتَضى فأجبناهم بِأَن أحب الحَدِيث إِلَى الله أصدقه إِن صَاحبكُم هَذَا إِن أَرَادَ الْخَيْر لنَفسِهِ واحتاط لدينِهِ وَعمل لرمسه يخْتَار أحد أَمريْن أما أَن يدْخل لإيالتنا هُوَ وَمن مَعَه آمِنين على أنفسهم ومالهم لَهُم وَمَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا أَو يصحر فطلبوا منا الْإِمْهَال حَتَّى يوجهوا بَعضهم يخبرونه بالملاقاة ويستدركون الْأَمر قبل الْفَوات فأجبناهم إِلَى ذَلِك فَمَا وصلوا حَتَّى ضرب على الْمحلة لَيْلًا فَرده الله بالخيبة وأشوه أوبة وَترك قتلاه صرعى بعد مَا حمل مِنْهُم عددا وَجعل يدْفن مِنْهُم فِي قفوله ويخفي مَا حل بِهِ فِي أفوله فتقدمت إِلَيْهِ الْمحلة الْغَالِبَة بِاللَّه وقاتلته قتالا أذاقته فِيهِ الوبال والخبال فَكَانَت الكرة عَلَيْهِ فأجفل إجفال النعام واستدبر المعركة وهام وَمَات من خاصته ورؤسائه وَأهل شدته وَذَوي بأسائه عدد مُعْتَبر وَمن هُوَ أدهى وَأمر وعادت جموعه جمع تكسير وجيوشه موزعة بَين قَتِيل وأسير وسخر بهم بعد أَن كَانُوا ساخرين وغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين وَمن الله أَسْتَمدّ التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة إِلَى أرشد طَرِيق وَالسَّلَام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من محرم الْحَرَام فاتح سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف وَأما الْحَاج عبد الْقَادِر فَإِنَّهُ فر إِلَى الفرنسيس كَمَا قُلْنَا فَبَقيَ عِنْده مُدَّة قَالَ صَاحب قطف الزهور مَا صورته لما فر الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَى الفرنسيس بَقِي عِنْدهم سِتّ سِنِين ثمَّ أعْتقهُ نابليون الثَّالِث وَعين لَهُ مُرَتبا سنويا يدْفع إِلَيْهِ من بَيت مَال الدولة فسكن دمشق الشَّام وَلم يزل قاطنا بهَا إِلَى هَذَا الْيَوْم اه قلت وَهُوَ الْآن فِي قيد الْحَيَاة حَسْبَمَا يبلغنَا وَالله تَعَالَى يتَوَلَّى أَمر الْمُسلمين ويتداركهم بِلُطْفِهِ وفضله آمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس وَفِي ضحى يَوْم الْإِثْنَيْنِ الرَّابِع من الْمحرم فاتح سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الْأَعْظَم الْفَقِيه الْأَجَل الأكرم إِمَام عملة اليراع ومقدم حَملَة ذَلِك الشراع مقلد الدولة بقلائد النثار والنظام فِي المواقف الْعِظَام والمزري ببدائعه وأوابده وروائعه ببديع الزَّمَان وَالْفَتْح بن خاقَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس جدد الله عَلَيْهِ ملابس الرِّضَا كلما لَاحَ نجم وأضا فولى السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه النجيب ذَا الْأَخْلَاق العاطرة والأنامل الواكفة الماطرة والرأي الْأَصِيل وَالْأَمر المحبوك وَالْبَاطِن الصافي الَّذِي يحاكيه الذَّهَب المسبوك أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رَحمَه الله لحضرة مراكش آخر قدمة قدمهَا سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف عَزله وَولى مَكَانَهُ الْفَقِيه الْكَاتِب اليحيى النزيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار التطاوني وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من فاس إِلَى نَاحيَة وَجدّة فوصل إِلَى عين زورة فَوقف على تِلْكَ النواحي وَأصْلح من شَأْنهَا وَعَاد إِلَى فاس لَيْلَة عيد الْأَضْحَى من السّنة وَفِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت فتْنَة عرب عَامر بأحواز سلا وفتنة عرب زعير بأحواز رِبَاط الْفَتْح وكلب هَاتَانِ القبيلتان على المدينتين وألحوا عَلَيْهِمَا بالغارات والنهب وَالْمُبَالغَة فِي العيث والإفساد بالطرقات والجنات واستافوا السَّرْح مرَارًا وَبَقِي النِّتَاج عِنْد أربابه حَتَّى هلك ضيَاعًا إِلَى غير ذَلِك وَلما تجاوزوا الْحَد فِي الطغيان بعث السُّلْطَان وصيفه الباشا فرجى صَاحب فاس الْجَدِيد فأوقع بعامر وقْعَة شنعاء رَابِع يَوْم النَّحْر من السّنة ومزقهم شذر مذر بعد أَن تحَصَّنُوا بالغراك فِيمَا بَين سلا والمهدية وَفِي هَذِه السّنة حج ولد السُّلْطَان الْمولى الرشيد وَالْمولى سُلَيْمَان واعتنى بشأنهما صَاحب مصر وَصَاحب الْحجاز غَايَة ورجعا من السّنة الْقَابِلَة وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب كَانَ يطلع فِي نَاحيَة الْمغرب ويغرب بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الْعشَاء مُدَّة من شهر وَنَحْوه فَفَزعَ النَّاس من ذَلِك وتخوفوه كَمَا قَالَ أَبُو تَمام (وخوفوا النَّاس من دهياء مظْلمَة ... إِذا بدا الْكَوْكَب الغربي ذُو الذَّنب) وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أحدث السُّلْطَان المكس بفاس وَغَيرهَا من الْأَمْصَار أحدثه أَولا فِي الْجلد على يَد الْمُصْطَفى الدكالي بن الجيلاني الرباطي والمكي القباج الفاسي ثمَّ أحدثه فِي الْبَهَائِم ثمَّ تفاحش أمره فِي دولة ابْنه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وهلم جرا وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ لَيْلَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان توفّي ولي الله أَبُو عبد الله سَيِّدي عبد الْقَادِر العلمي الْبركَة الشهير صَاحب الأزجال الملحونة وَكَانَت وَفَاته بمكناسة الزَّيْتُون وَدفن بحومة سَيِّدي أبي الطّيب وَعَلِيهِ بِنَاء حفيل إِلَى الْغَايَة رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى عبد الْقَادِر وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَى سلا بِقصد الْقِرَاءَة بهَا فَنزل بدار قاضيها أبي عبد الله مُحَمَّد بن حسون عواد وَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن يعود الْوَلَد الْمَذْكُور الخشن من الْمطعم والملبس وَأَن لَا يُمكنهُ من شرب الأتاي إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ فِي الْجُمُعَة وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا كَانَ الغلاء الْكَبِير والجوع المفرط وَكَانَ أَكْثَره بقبائل الْحَوْز من ابْن مِسْكين وَعَبدَة ودكالة وَغَيرهم فأهرعت هَذِه الْقَبَائِل إِلَى بِلَاد الغرب والفحص وأكلت النَّاس الْجِيَف وَالْميتَة والنبات وَصَارَ يعرف عِنْد أهل الْبَادِيَة بعام الخبيزي وعام يرني وَكَانَ الرجل يَأْكُل وَلَا يشْبع وَإِذا أمعن فِي الْأكل وتضلع شبعا لم تمض إِلَّا هنيهة حَتَّى تضطرم أحشاؤه جوعا وَكَانَ الْمَدّ بسلا ورباط الْفَتْح وَهُوَ مد كَبِير جدا قد بلغ ثَمَانِيَة عشر مِثْقَالا فَجعله الْعَامَّة تَارِيخا يَقُولُونَ كَانَ ذَلِك عَام ثَمَانِيَة عشر مِثْقَالا وَفِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي بسلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حسون عواد وَدفن بزاوية الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن عبد الْقَادِر التستاوتي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 حومة بَاب أحسين من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رَحمَه الله عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث والنحو قد أفنى عمره فِي جمع الْكتب ونسخها وخطه مُعْتَمد سَالم من التَّصْحِيف وَكَانَت فِيهِ شَفَقَة على الضُّعَفَاء والأشراف وَذَوي البيوتات كثير البرور بهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم رَحمَه الله وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء فاتح هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْأَفْضَل أَبُو عبد الله سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَكَانَ جليل الْقدر شهير الذّكر نفعنا الله بِهِ وبأسلافه وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف هجم الفرنسيس على ثغر سلا وَذَلِكَ بِسَبَب مركبين وردا إِلَى مرسى العدوتين مملوءين قمحا وَكَانَت السّنة سنة مسغبة فنشب المركبان بساحل سلا فتسارعت الْعَامَّة إِلَيْهِمَا وانتهبوهما ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى أَلْوَاح المركبين وآلتهما فتوزعوها وَكَانَ المركبان لتجار الفرنسيس فتكلموا فِي شَأْنهمَا مَعَ السُّلْطَان رَحمَه الله فَكتب إِلَى عَامل سلا أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر يستكشفه عَن الْخَبَر فَجحد ذَلِك ظنا مِنْهُ أَنه يدْفع بذلك عَن الْبَلَد وَلما لم يحصل الفرنسيس بالْكلَام مَعَ السُّلْطَان على طائل هجم على سلا يَوْم الثُّلَاثَاء مهل صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فِي خَمْسَة بابورات وقاباق كَبِير وَيُقَال لَهُ النابيوس يشْتَمل على نَحْو سِتِّينَ مدفعا أَو أَكثر وَمن الْغَد زحف بمراكبه حَتَّى سامت بهَا الْبَلَد فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار وَشرع فِي رمي الكور والبنب إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا فَإِنَّهُ تبَاعد قَلِيلا وَبَقِي ينظر قيل هُوَ للنجليز وَكَانَ ترادف الكور والبنب على الْبَلَد على صُورَة فظيعة مثل الرَّعْد القاصف تكَاد تنهد لَهُ الْجبَال وَكَانَ فِي أول النَّهَار لَا يفتر وَبعد الزَّوَال صَار تتخلله فترات يسيرَة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن غربت الشَّمْس وَمضى نَحْو نصف سَاعَة وَكَانَت مُدَّة الرَّمْي ثَمَانِي سَاعَات وَنصفا وبذل النَّاس مجهودهم فِي مقابلتهم بِالرَّمْي وَفِي آخر النَّهَار عجز النَّاس وَبَقِي يَرْمِي وَحده وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو سَبْعَة أنفس وَكَانَ الكور والبنب الَّذِي رمى بِهِ الْعَدو فِي ذَلِك الْيَوْم شَيْئا كثيرا فالمقلل يَقُول سَبْعَة آلَاف وَالْمُكثر يَقُول اثْنَا عشر ألفا وَكَانَ البنب يتفرقع بعد مُدَّة وَقتل أُنَاسًا وَوَقع فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومناره كور كثير خرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 السقوف والحيطان وَكَذَا فِي دور أهل الْبَلَد فأنعم السُّلْطَان على النَّاس بإصلاحها من بَيت المَال وَقد سَاق منويل خبر هَذِه الْقِصَّة وَقَالَ إِنَّه لما انْقَضى للفرنسيس الزَّاد يَعْنِي الكور والبارود أقلع لَيْلًا لِأَنَّهُ خَافَ إِن لم يذهب طَوْعًا ذهب كرها وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان رَحمَه الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس كتب كتابا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه عبد الرَّحْمَن بن هِشَام الله وليه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بِمَا صدر من مراكب عَدو الله الفرنسيس من استرسال الرَّمْي على الْمَدِينَة من ضحى النَّهَار إِلَى قرب الْعشَاء ثمَّ أقلعوا بالخيبة والهوان وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا ومنح الله الْمُسلمين من الصَّبْر والثبات وَالْيَقِين ماقرت بِهِ عين الدّين وَكَانَ قذا فِي عين أهل الشّرك الْمُعْتَدِينَ وَاسْتشْهدَ من الْمُجَاهدين من ختم الله لَهُ بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية فَالْحَمْد لله على إعزاز دينه وَنصر مِلَّة نبيه وَلَا زَالَت وَالْحَمْد لله مشكاة الْإِسْلَام ساطعة الْأَنْوَار مشيدة الْمنَار {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} الصَّفّ 8 وَلَا يخفى عَلَيْكُم مَا ورد من اآيات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فِي فضل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَالصَّبْر لإعلاء كلمة الله وَقد قُمْتُم بِالْوَاجِبِ عَلَيْكُم فِي ذَلِك وكنتم عَن الظَّن بكم وأتيتم بالمطلوب مِنْكُم أصلحكم الله وَرَضي عَنْكُم وَمن قتل فقد أكْرمه الله بالنعيم الَّذِي لَا نفاد لَهُ وكل مَا تلف يخلفه الله فَمَا كَانَ فِي الله تلفه فَعَلَيهِ سُبْحَانَهُ خَلفه فزيدوا فِي التيقظ وَالصَّبْر أعانكم الله وَقد أمرنَا خدامنا أُمَنَاء العدوتين بتوجبه معلمين للغابة لقطع الكراريط وكتبنا لخديمنا ابْن الحفيان بإنزال خيام بقربهم يأوون إِلَيْهَا حَسْبَمَا طلبت وَلَا تعدمون شَيْئا مِمَّا يخصكم إِن شَاءَ الله وَمَا ذكرت من اجْتِمَاع أهل الْمَدِينَة عنْدك مَعَ القَاضِي والأمين راغبين فِي الْكتب لحضرتنا الْعلية بالإنعام عَلَيْهِم بِمَا يصلحون بِهِ صقالتهم ومساجدهم ودورهم وأسوارهم فها نَحن كتبنَا لأمناء العدوتين بالقدوم عَلَيْكُم والتطواف على الْمحَال المتهدمة دور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وَغَيرهَا بمحضرك مَعَ القَاضِي والعدول وتقويم إصْلَاح كل مَحل بالمناسب وَأما الْجَامِع الْكَبِير وسيدي ابْن عَاشر فييسرون لَهما الْإِقَامَة وَعَن تيسيرها يشرعون فِي إصلاحهما وَأما الصقالة الجديدة والسور فيشرعون الْآن فِي إصلاحهما إصلاحا متقنا بالطابية الجيدة الَّتِي لَا يُؤثر الكور فِيهَا شَيْئا ويجعلون لَهَا ساترا على كَيْفيَّة بِحَيْثُ يكون الضَّارِب فِي أَمَان وَلَا تتراخوا فِي ذَلِك وَنحن على نِيَّة إِحْدَاث بستيون جيد إِن شَاءَ الله عِنْد مُنْتَهى السُّور من جِهَة الصقالة الجديدة فالعزم الْعَزْم والحزم الحزم ويصلك كتاب اقرأه على خداما أهل سلا وَالسَّلَام فِي ثامن صفر عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى نَص الْكتاب الشريف وَقد أحدث السُّلْطَان رَحمَه الله هَذَا البستيون فجَاء فِي غَايَة الْجَوْدَة والمتانة وَالْحسن وَهُوَ أثر من آثَار الدول الْعِظَام وَفِي هَذِه السّنة ورد كتاب من السُّلْطَان فِي شَأْن حصر السِّكَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فقد طالما حاولنا حصر الزِّيَادَة فِي السِّكَّة وحذرنا وأنذرنا وأوعدنا من تعدى فِيهَا حدا أَو مد فِيهَا بِغَيْر مَا عينا يدا فَلم يزدْ النَّاس إِلَّا تطاولا فِيهَا وإقداما عَلَيْهَا فاستخرنا الله فِي أمرهَا فَظهر لنا أَن نزيد فِيهَا مَا تواطأ النَّاس على زِيَادَته وَلم يرجِعوا عَنهُ تتميما للأعذار وتكميلا للإنذار فَمن وقف عِنْد مَا حددنا وَلم يحد عَمَّا أبرمنا فقد اخْتَار سَلامَة نَفسه وَمَاله وَمن تعدى وافتات فِي ذَلِك بِأَدْنَى شَيْء فقد سعى فِي هَلَاك نَفسه ويناله من الوبال والنكال مَا يتْركهُ عِبْرَة لمن اعْتبر وَتَذْكِرَة لم تذكر وَقد أعذر من أنذر وَهَا نَحن جعلنَا للبندقي أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة وللضبلون اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِثْقَالا وللريال ذِي المدفع عشْرين أُوقِيَّة وللذي لَا مدفع فِيهِ تسع عشرَة أُوقِيَّة وللبسيطة الَّتِي بالمدفع خمس أَوَاقٍ وللتي لَا مدفع فِيهَا أَربع أَوَاقٍ وللدرهم الرباعي أَربع موزونات وَنصف موزونة وللدرهم السداسي سبع موزونات فعلى هَذَا الْعَمَل فأعلموا بِهِ من إِلَى نظركم وَفِي إيالتكم ومروهم بِالْوُقُوفِ عِنْده وَمن حاد عَنهُ وشممتم عَلَيْهِ رَائِحَة الْخَوْض والتعدي فِيهِ ازجروه زجرا شَدِيدا وأعلمونا وَالسَّلَام فِي رَابِع عشر ربيع الثَّانِي عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان رَحمَه الله قَبيلَة زمور الثَّلج وَكَانَ بمكناسة فَكتب أَولا لِابْنِهِ وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فَنَهَضَ مِنْهَا وَمر على تادلا فأوقع ببني مُوسَى وَقطع مِنْهُم أَرْبَعَة وَسِتِّينَ رَأْسا وَقبض على مائَة وَخمسين مسجونا وَكَانُوا قد قتلوا عاملهم أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن زيدوح ثمَّ دخل الْخَلِيفَة رِبَاط الْفَتْح يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فَأَقَامَ بِهِ إِلَى يَوْم السبت السَّادِس عشر مِنْهُ ثمَّ عبر الْوَادي وَنزل بقرميم من أَعمال سلا ثمَّ سَار من الْغَد وَبَات بسيدي علال البحراوي فَأَقَامَ هُنَالك يَوْمَيْنِ ثمَّ رَحل فَنزل بتيفلت وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ تقدم إِلَى دَار ابْن الْغَازِي وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله قد خرج من مكناسة فَنزل الخمسينات وَشن الغارات على زمور فتوغلوا فِي الْجبَال فانتسف السُّلْطَان أَمْوَالهم وَأكل زُرُوعهمْ حَتَّى أشجاهم ثمَّ ارتحل عَنْهُم إِلَى مراكش وارتحل الْخَلِيفَة إِلَى فاس وَذَلِكَ فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة من السّنة وَمن هَذَا التَّارِيخ صَار السُّلْطَان والخليفة رحمهمَا الله يغزوانهم كل سنة ويجتمعان عَلَيْهِم فتنتسف الْجنُود زُرُوعهمْ وَأَمْوَالهمْ حَتَّى أضرّ بهم الْحَال وأشرفوا على الْهَلَاك وكادت تعدم عِنْدهم الأقوات وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة طَوْعًا وَكرها وَلما نَهَضَ السُّلْطَان عَنْهُم فِي هَذِه الْمرة كتب كتابا يَقُول فِيهِ وَبعد فَإِن فَسَاد زمور يعرفهُ الْخَاص وَالْعَام وَالْجُمْهُور أَشد سوادا من اللَّيْل وَأقوى مضاهاة بالسيل وطالما ذَكَرْنَاهُمْ ووعظناهم وحذرناهم وأنذرناهم وغضضنا الطّرف عَنْهُم مقابلين شدتهم باللين وتحريكهم بالتسكين فأطغاهم الْعجب وأبطرهم وغطى الشَّرّ سمعهم وبصرهم {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} الْمَائِدَة 41 وَلما رَأينَا ضلالهم لم يسفر عَنهُ صبح الإقلاع وشعائر الْإِسْلَام استولت عَلَيْهَا يَد الضّيَاع استنهضنا إِلَيْهِم الجيوش المنصورة الَّتِي لم تزل ألوية الْفَتْح أمامها بحول الله منشورة واستقدمنا ولدنَا الأبر سَيِّدي مُحَمَّدًا حفظه الله من مراكش فِي جَيش يقدمهُ الْيمن والإقبال ويسوقه السعد فِي الْمقَام والترحال ونهضنا نَحن من مكناسة الزَّيْتُون فِي جَيش شحن الفضاء وملأ النواحي والأرجاء خيلا ورجالا خفافا وثقالا وَكُنَّا فِيمَا تقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 نحارب هَؤُلَاءِ المفسدين فِي الْمحل الْمَشْهُور بالخميسات فَكَانَت الْمحَال لَا تستوعبهم قتلا ونهبا وتشريدا وَضَربا فَرَأَيْنَا هَذِه الْمرة أَن ننزل عَلَيْهِم أَولا بِعَين العرمة مَحل أفسدهم على الْإِطْلَاق والشمول والاستغراق فخيمنا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رحلنا مِنْهَا ونزلنا بمحصى ثمَّ رحلنا مِنْهُ ونزلنا الخميسات وَفِي خلال مقامنا ورحيلنا حل ولدنَا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله من الرِّبَاط وَنزل بتيفلت مَحل المفسدين ومحط رحال الْبُغَاة الْمُعْتَدِينَ وتقاربت المحلتان فعظمت على المفسدين بذلك النكاية وَبَلغت فيهم الْحَد وَالنِّهَايَة واشتغلت الْمحَال بِأَكْل زُرُوعهمْ وتبديدها واستخراج خباياهم قديمها وجديدها وهم حيارى ينظرُونَ وَإِلَى مَا حل بهم من الْبلَاء يبصرون وَكلما عزموا على المدافعة رجعُوا بالهوان وتخطفت رُؤُوس زعمائهم العقبان فعجزوا إِذا وَخَرجُوا من بِلَادهمْ وأيقنوا أَن الشَّقَاء الْمَكْتُوب عَلَيْهِم حكم بطردهم وبعادهم وَلم يبْق بهَا أنيس إِلَّا اليعافير والا العيس وتحصنوا بأوعارهم الْمَعْلُومَة وصياصيهم المشؤومة فِي جبال تنقبت بالغيوم وكادت تصافح النُّجُوم فَضَاقَ بهم الْحَال وَهلك الْعِيَال وضاعت الْأَمْوَال جوعا وعطشا وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ وَمَعَ تحصنهم بِتِلْكَ الأوعار وملتف تِلْكَ الْأَشْجَار كَانَت الجيوش تود أَن تقتحمها عَلَيْهِم وتهب نَفِيس أعمارها فِي أَخذهم وَنحن قد هبنا الرِّفْق الَّذِي يزين وَتَركنَا الْخرق الَّذِي يشين فَأمرنَا بالإمساك عَنْهُم حَتَّى تلفظهم أوعارهم وتحرقهم نارهم فَلَمَّا طَال بهم الأمد وتجرعوا حمى الكمد استجاروا بولدنا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله فشفع عندنَا فيهم فَقبلنَا شَفَاعَته على شُرُوط قبلوها وَحُقُوق التزموها ومثالب نبذوها وجنحنا إِلَى الْحلم وَالْعَفو اللَّذين أَمر الله بهما وأسندنا أَمرهم إِلَى ولدنَا الْمَذْكُور قطعا لأعذارهم ونهضنا عَنْهُم وَالْحَمْد لله محتسبين وَالله أسَال توفيق الْمُسلمين أَجْمَعِينَ آمين فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تِسْعَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب أَيْضا وَفِي أوائلها استوزر السُّلْطَان رَحمَه الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْأَفْضَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 الصفار التطاوني عقب قدومه إِلَى مراكش وفيهَا تمّ بِنَاء البستيون الْعَظِيم بسلا الْمَوْضُوع بالزاوية الشمالية مِنْهَا على شاطىء الْبَحْر وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ بِأَمْر السُّلْطَان من أحباس الْمَسْجِد الْأَعْظَم برباط الْفَتْح خَمْسُونَ ألف مِثْقَال أَو مَا يقرب مِنْهَا وفيهَا أَيْضا وَقعت نادرة بفاس وَهِي أَن الإِمَام كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين فَسقط بالصف الثَّالِث مِنْهُ قِطْعَة من الجبص الْمَبْنِيّ بِهِ السّقف تزن نَحْو ربع قِنْطَار ففر النَّاس الَّذين كَانُوا بذلك الصَّفّ فَرَآهُمْ الَّذين من خَلفهم فَفرُّوا لفرارهم فَرَآهُمْ غَيرهم فَفَعَلُوا مثلهم حَتَّى تقوضت صُفُوف الْمَسْجِد كلهَا وَخَرجُوا يتسابقون إِلَى الْأَبْوَاب وَوَقع عَلَيْهَا ازدحام شَدِيد وجاوزت مقدمتهم سوق الشماعين وَتركُوا نعَالهمْ ولبدهم وطيالسهم بل وَقَلَانِسِهِمْ وَضاع من الْمَصَاحِف والأجزاء وَدَلَائِل الْخيرَات مَا لَا يُحْصى كل ذَلِك وهم لَا يَدْرُونَ مَا وَقع وَمَا تراجعوا إِلَّا بعد حِين ثورة إِبْرَاهِيم يسمور اليزدكي بالصحراء لما كَانَت أواسط إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ظهر إِبْرَاهِيم يسمور اليزدكي بصحراء تافيلالت وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن برابرة الصَّحرَاء يَوْمئِذٍ كَانُوا حزيين حزب آيت عطة وَلَهُم الْعِزَّة وَالْكَثْرَة بذلك الْقطر وحزب آيت يفلمان وهم دون ذَلِك وَكَانَت آيت عطة تؤذي الْأَشْرَاف بِتِلْكَ النَّاحِيَة وتسيء جوارهم فَقَامَ إِبْرَاهِيم هَذَا فِي آيت يفلمان وجنح إِلَى الْأَشْرَاف وَبَالغ فِي إكرامهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَصَارَ يَأْمر قومه بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيذكر السُّلْطَان بِخَير ويحض قومه على طَاعَته حَتَّى اشْتهر بذلك الْقطر وَكثر الثَّنَاء عَلَيْهِ وَاتفقَ أَن حدث فِي أثْنَاء ذَلِك بَينهم وَبَين آيت عطة شنآن فزحف إِلَيْهِم إِبْرَاهِيم وأوقع بهم وقْعَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا فازداد قومه فِيهِ محبَّة وغبطة وعلقت بِهِ آمال الْأَشْرَاف وأحبوه لِأَن غَلَبَة آيت عطة يَوْمئِذٍ كَانَت من الْأَمر الْغَرِيب وانضم إِلَى ذَلِك بسط يَده بالعطاء للبعيد والقريب واتصل خَبره بالسلطان وَكَانَ من طبعه رَحمَه الله محبَّة أهل الْخَيْر والجنوح لَهُم فَأقبل عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَرفع من قدره وولاه على تِلْكَ النَّاحِيَة فَاشْتَدَّ أمره وطار ذكره وسرت فِيهِ نخوة الرياسة فَأَرَادَ الاستبداد واستحال حَاله إِلَى الْفساد حَتَّى صَار يرد على السُّلْطَان أوامره ثمَّ تدنى قَلِيلا قَلِيلا من أَطْرَاف المملكة وَقَوي حسه بالمغرب فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله الْكَتَائِب وَبعث الْبعُوث فقاتلوه بُرْهَة ثمَّ قبض الله بعض قرَابَته فاغتاله واحتز رَأسه وَجَاء بِهِ متقربا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش فَأمر السُّلْطَان بإعمال المفرحات واستدعى أهل مراكش على طبقاتهم فَأَفَاضَ عَلَيْهِم النعم وغمرهم بِالْإِحْسَانِ غمر الديم نادرة كَانَ مِمَّن استدعاه السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الصَّنِيع أهل الْمدَارِس من طلبة الْعلم المتغربين بهَا فجلسوا نَاحيَة من الْقَوْم وَلما خرج الطَّعَام من دَار السُّلْطَان وَفرق على طَبَقَات النَّاس اتّفق تَأْخِيره عَن هَؤُلَاءِ الطّلبَة وَاتفقَ أَيْضا أَن سَأَلَ بعض الْحَاشِيَة بعض الأعوان القائمين على الطَّعَام فَقَالَ لَهُ من الَّذِي بَقِي بِدُونِ إطْعَام فَقَالَ لم يبْق إِلَّا الطّلبَة والطحانون وَكَانَ كَذَلِك فَسَمعهُ أحد الطّلبَة فَقَالَ لأَصْحَابه أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُول هَذَا فَقَالُوا وَمَا قَالَ قَالَ لَهُم قَالَ إِنَّه لم يبْق إِلَّا أَنْتُم والطحانون فقد شوركتم مَعَهم بالْعَطْف بِالْوَاو وَالله لَا جلستم وَقَامُوا مغضبين فَتَبِعهُمْ بعض حَاشِيَة السُّلْطَان واستعطفهم فَلم يرجِعوا واتصل الْخَبَر بالسلطان فَقَالَ دعهم فسنصلح شَأْنهمْ وَمن الْغَد دعاهم إِلَى بُسْتَان الْوَزير إِبْنِ إِدْرِيس دَاخل بَاب الرب من مراكش وأفاض عَلَيْهِم من النعم مَا غمرهم ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى رَضوا ثمَّ عَمدُوا إِلَى ثمار الْبُسْتَان فاستلبوها عَن آخرهَا وَهَذِه الْقِصَّة تدل على كرم طبع السُّلْطَان رَحمَه الله وسعة أخلاقه وتعظيمه للْعلم وَأَهله وَقد ذكرت بِهَذِهِ النادرة قَول الْقَائِل (إِذا شوركت فِي أَمر بِدُونِ ... فَلَا يَك مِنْك فِي هَذَا نفور) (فَفِي الْحَيَوَان يجْتَمع اضطرارا ... أرسطاليس وَالْكَلب الْعَقُور) وَتَحْقِيق مَسْأَلَة هَذَا الْعَطف مَذْكُور فِي بَاب الْفَصْل والوصل من علم الْمعَانِي وبستان ابْن إِدْرِيس هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ أَبُو عبد الله أكنسوس رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 (ألمم بمغنى الْيمن من ذَا الْمجْلس ... وأدر بساحته نُجُوم الأكؤس) (واسعد فَإِن الدَّهْر أسعد أَهله ... وأحلهم فِيهِ حُلُول المعرس) (واشرب هنيء البال فِي جنباته ... يُغْنِيك عَن جيرون أهل الْمُقَدّس) (واصرف عَن الزهراء ذكرك ساليا ... وَعَن الخورنق والرسوم الدَّرْس) (لَو قلت مَا نَالَتْ بَدَائِع حسنه ... غرف البديع وَحقّ مجدك لم تس) (نصر تحف بِهِ المحاسن كلهَا ... وتحار فِي مرآه عين الأكيس) (فَإِذا أردْت إِصَابَة الْأَغْرَاض من ... كل المنى أَو كل معنى أنفس) (أرسل مهام اللَّفْظ فِي أكنافه ... إِن الحنايا الحدب فِيهِ كالقس) (لَا شَيْء أهنى من تفيىء ظله ... المخضل أَو من زهره المتنفس) (تتمثل الأزهار فِي أنهاره ... مثل المجرة والنجوم النكس) (وَترى الجداول تلتوي بغصونه ... تحكي البرين عَن الغواني الميس) (طابت حسى الكاسات تَحت ظلاله ... وتسابقوا اللَّذَّات نَحْو المحتس) (يَا منزلا قد خصصته سَعَادَة ... واستبدلته أنعما من أبؤس) (أَصبَحت مأوى للوزير مُحَمَّد ... نجل الأدارسة الْكِرَام المغرس) (إِنْسَان عين الْكَوْن من لبست بِهِ ... رتب العلى أبهى وأبهج ملبس) (يَا أَيهَا الْبَحْر الَّذِي من فيضه ... كل الْأَمَانِي والغنى للْمُفلس) (يهنيك ذَا الْقصر الَّذِي أنشأته ... بالسعد فِي عَام انْشِرَاح الْأَنْفس) (قَابل قدور الدوح فِي جنباته ... بالغيد ترفل فِي بهي السندس) (وَمَتى شربت زلاله فامزج بِهِ ... رَاح المراشف من أغن ألعس) (لَا زلت تشرف من مطالع سعده ... كالبدر يظْهر من خلال الحندس) (والدهر يخْدم جانبيك ويحتمي ... بجلالك العالي الْأَعَز الأقعس) وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب وَهُوَ إسهال مفرط يعتري الشَّخْص ويصحبه وجع حاد فِي الْبَطن والساقين ويعقبه تشنج وبرودة واسوداد لون فَإِذا تَمَادى بالشخص حَتَّى جَاوز أَرْبعا وَعشْرين سَاعَة فالغالب السَّلامَة وَإِلَّا فَهُوَ الحتف وَفِي هَذَا الوباء مَاتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 شيخ الطَّرِيقَة أَبَا عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الحراق التطاوني وبموته أقلع الوباء من تِلْكَ الْبَلدة وَمَات بِهِ بسلا منتصف ذِي الْقعدَة من السّنة مائَة وَعِشْرُونَ نفسا وَفِي هَذَا الْيَوْم توفّي عَامل سلا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف الْتفت الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن إِلَى عرب الْخَلْط فاستعملهم فِي الجندية بعد أَن كَانُوا فِي عداد الْقَبَائِل الغارمة من لدن الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فاعتنى بهم الْخَلِيفَة الْمَذْكُور ونقلهم من بِلَاد سُفْيَان وَبني مَالك وأحواز العرائش وأنزلهم بزقوطة ووادي مكس من أَعمال مكناسة وكساهم وأجرى عَلَيْهِم الجرايات ثمَّ اخْتَلَّ أَمرهم بعد سنتَيْن أَو ثَلَاث وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد كتاب من السُّلْطَان رَحمَه الله يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح مَا نَصه خديمنا الأرضى الطَّالِب عبد الْعَزِيز محبوبة وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فبوصول كتَابنَا هَذَا إِلَيْك عين عشْرين من الْولدَان النجباء لتعلم علم تاطبجيت وَانْظُر لَهُم معلما ماهرا أَو معلمين من طبجية الْبَلَد يعلمهُمْ ويشرعون فِي التَّعَلُّم الْآن فيبدؤون بمقدماته ثمَّ يتدربون مِنْهَا إِلَى الْأَخْذ فِي تعلم رماية المدفع والمهراس وَهَكَذَا حَتَّى ينجبوا ويمهروا فِي الصَّنْعَة ويصيروا قَادِرين على الْخدمَة ونطلب الله أَن يعينهم وَيفتح بصائرهم وَهَؤُلَاء الْعشْرين يكونُونَ زائدين على من هُنَالك من الطبجية ونأمر الْأُمَنَاء أَن يرتبوا لَهُم إِعَانَة على ذَلِك خمس عشرَة أُوقِيَّة فِي كل شهر للْوَاحِد ثمَّ من ظَهرت نجابته مِنْهُم وفَاق غَيره فَإنَّا نزيده فِي الْمُرَتّب كَمَا نأمرهم أَن يرتبوا لمعلمهم وَاحِد أَو أثنين ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة للْوَاحِد فِي كل شهر زِيَادَة على راتبهم الْمَعْلُوم واعتن بأمرهم غَايَة الاعتناء وَقد كتبنَا لغيركم من المراسي مثل هَذَا وسننظر من تظهر ثَمَرَته واعتناؤه وَالسَّلَام فِي عشْرين من ذِي الْقعدَة عَام ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين النجليز وَهِي قِسْمَانِ قسم فِي أُمُور التِّجَارَة وَبَيَان الصاكة والأعشار وَأَن لَا تُعْطى من أَعْيَان السّلع إِلَّا إِذا أَرَادَ التَّاجِر ذَلِك عَن طيب نَفسه وَهِي خَمْسَة عشر شرطا وَقسم فِي أُمُور الْهُدْنَة بشمول الْأَمْن والاحترام لرعيتي الْجَانِبَيْنِ فِي أَي مَوضِع كَانُوا وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا وَكَانَ الْمُبَاشر لعقدها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْخَطِيب التطاوني بطنجة بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أَوْلَاده إِلَى الْحجاز وَمَا اتّفق لَهُم فِي ذَلِك وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان رَحمَه الله أَوْلَاده إِلَى الْحجاز بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج وهم الْمولى عَليّ وَالْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى عبد الله وَالْمولى جَعْفَر وَابْن عمهم الْمولى أَبُو بكر بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الله وَبَالغ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي حسن تجهيزهم بِمَا لم يتَقَدَّم مثله لإخوتهم الَّذين حجُّوا قبلهم لَا من الْأَمْوَال وَلَا من الرِّجَال وَلَا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وَبعث مَعَهم من الْأَمْوَال شَيْئا كثيرا لأشراف الْحَرَمَيْنِ ولخواص مُعينين من الْفُقَهَاء والمجاورين وَوجه أكَابِر التُّجَّار والأمناء العارفين بعوائد الْبِلَاد والأقاليم والأمم مثل الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني والحاج مُحَمَّد بن جنان البارودي التلمساني وَبعث مَعَهم قَاضِي مكناسة الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب بن سَوْدَة المري الفاسي وأخاه الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن سَوْدَة فِي جملَة من الْفُقَهَاء يقرؤون عَلَيْهِم أَخْبرنِي الْحَاج عبد الْكَرِيم بن الْحَاج أَحْمد الرزيني وَهُوَ أَخُو الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور آنِفا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله لما عزم على بعث أَوْلَاده إِلَى الْحجاز استدعى الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور فَدخل عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 فَأَوْصَاهُ بِمَا تنبغي الوصاة بِهِ وَأخْبرهُ أَن المَال الَّذِي عينه للنَّفَقَة على الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين هِيَ نَفَقَة جمعت من حَلَال بَعْضهَا من أصُول بتافيلالت وَبَعضهَا من غَيرهَا مِمَّا هُوَ حَلَال وَقَالَ لَهُ احتفظ بذلك المَال وَاجعَل السخاء فِيهِ بِمَنْزِلَة الْملح فِي الطَّعَام اه وَلما عزم الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين على الِانْفِصَال إِلَى وجهتهم أصحبهم السُّلْطَان رَحمَه الله وَصِيَّة كَافِيَة يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَوْلَادنَا عبد الله وَإِبْرَاهِيم وعليا وَأَبا بكر وجعفرا وفقنا الله وَإِيَّاكُم للْعَمَل بِطَاعَتِهِ وحفظكم وأرشدكم وتولاكم وَكَانَ لكم فِي سَائِر أحوالكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما كَانَت الْأَوْلَاد قطع الأكباد وعماد الظُّهُور وثمار الْقُلُوب وشفاء الصُّدُور وَجب أَن يكون لَهُم الْآبَاء السَّمَاء الظليلة والسحابة المنيلة وَخير الْآبَاء للأبناء مَا لم تَدعه الْمَوَدَّة للتفريط فِي الْحُقُوق وَخير الْأَبْنَاء للآباء مَا لم يَدعه التَّقْصِير إِلَى الْمُخَالفَة والعقوق قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَوْلَاد من رياحين الْجنَّة وَقَالَ الْقَائِل (وَإِنَّمَا أَوْلَادنَا بَيْننَا أكبادنا ... تمشي على الأَرْض) (إِن هبت الرّيح على بَعضهم ... تمْتَنع الْعين من الغمض) هَذَا وَإِن أولى مَا زود بِهِ وَالِد وَلَده وَصِيَّة يتخذها فِي سَفَره إِمَامه ومعتمده فاعلموا أَنا وجهناكم لحج بَيت الله الْحَرَام وزيارة قبر نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام واستودعناكم الله الَّذِي لَا تضيع ودائعه فاقدروا قدر هَذِه الوجهة الَّتِي قصدتموها واعرفوا حق هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي يممتموها فتوجهوا لَهَا بِحسن النِّيَّة راجين من الله سُبْحَانَهُ بُلُوغ الْقَصْد والأمنية وأوصيكم بتقوى الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى وَبِمَا أوصى بِهِ إِبْرَاهِيم بنيه {يَا بني إِن الله اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} الْبَقَرَة 132 وَبِمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} {يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} لُقْمَان 13، 17 الْآيَة وَاسْتَوْصُوا بَعْضكُم بَعْضًا خيرا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة وأخوكم مولَايَ عبد الله أكبركم فكونوا عِنْد إِشَارَته فَإِن للسن حَقًا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 التَّقَدُّم وَفِي الحَدِيث الشريف كبر كبر ومنذ نوينا توجيهكم لهَذِهِ الوجهة السعيدة وَنحن نجيل الْفِكر فِيمَن نوجهه مَعكُمْ حَتَّى وَقع اختيارنا على خديمنا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني لكَونه نعم الرجل وَاجْتمعَ فِيهِ من الْأَوْصَاف المحمودة مَا افترق فِي غَيره فكونوا لَهُ بِمَنْزِلَة الْأَوْلَاد البررة وَليكن لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد الشفيق كَمَا قَالَ الْقَائِل (وَكَانَ لَهَا أَبُو حسن عَليّ ... أَبَا برا وَنحن لَهُ بَنِينَ) وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وَحسن هَدْيه وسمته وَكِلَاهُمَا خير وَالْحَمْد لله وآثرناكم على أَنْفُسنَا بالفقيه الأوحد المشارك السَّيِّد الْمهْدي ابْن سَوْدَة وَتوجه مَعَه أَخُوهُ وَهُوَ أَيْضا مِمَّن يشفع بِعِلْمِهِ فأوفوا كل وَاحِد مِنْهُم قسطه ومستحقه مِمَّا أرشد إِلَيْهِ الرَّسُول فهذب وأدب إِذْ قَالَ لَيْسَ منا من لم يوقر كَبِيرنَا وَيرْحَم صَغِيرنَا وَيعرف لعالمنا حَقه وحافظوا على دينكُمْ وَاشْتَغلُوا بِمَا يعنيكم واتركوا مَا لَا يعنيكم فَفِي الحَدِيث الشريف من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَالا يعنيه واعكفوا على قراءتكم وَلَا تضيعوا الْأَوْقَات فِي البطالة خُصُوصا مَا يتَعَلَّق بِالْعبَادَة الَّتِي أَنْتُم بصددها فَمن الْآن اصرفوا كليتكم لقِرَاءَة الْمَنَاسِك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مَنَاسِك المرشد الْمعِين ثمَّ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أوسع فروعا وَأكْثر مسَائِل وعَلى الْفَقِيه السَّيِّد الْمهْدي الْمَذْكُور أَن لَا يألو جهدا ونصيحة فِي تعليمكم وَالْقِرَاءَة مَعكُمْ وَاجْعَلُوا أَيْضا وقتا مَعَ أَخِيه فَإِنَّهُ من طلبة الْوَقْت المدرسين فَلم يبْق لكم عذر فِي التَّقْصِير والبطالة وكل من توجه مَعكُمْ من الْأَصْحَاب والأتباع والدايات فَهُوَ فِي رعايتكم وَفِي الحَدِيث كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته فعلموهم أَمر دينهم ومناسك حجهم وخاطبوهم فِي ذَلِك على قدر مَا يفهمون ليَكُون عَمَلهم فِي صحيفتكم وَفِي الحَدِيث خَيركُمْ من تعلم وَعلم وَفِيه أَيْضا لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وتحلوا بحلية أهل الْفضل والكمال وَكُونُوا على مَا يَنْبَغِي من الْأَدَب مَعَ الْخلق وَمَعَ الْخَالِق وهذبوا أخلاقكم وهشوا وبشوا لملاقاة النَّاس وعاملوا كل وَاحِد بِمَا يسْتَحقّهُ وَلَا زَالَ النَّاس يذكرُونَ هُنَالك أَخَاكُم مولَايَ سُلَيْمَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 أصلحه الله وَيدعونَ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة لما رَأَوْا من سَعَة أخلاقه وَحسن بشره وبشاشته مَعَ النَّاس ونعهد إِلَيْكُم أَن لَا تتركونا من الدُّعَاء فِي أَي موطن حللتموه من تِلْكَ المواطن الشَّرِيفَة خُصُوصا عِنْد الْمُلْتَزم وَالْمقَام وَغَيرهمَا من الْأَمَاكِن الَّتِي ترجى إِجَابَة الدُّعَاء عِنْدهَا وتوبوا عَنَّا فِي استلام الْحجر الأسعد وَفِي زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ وعَلى صَاحِبيهِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَلَيْكُم بالاستقامة فِي جَمِيع أُمُوركُم وسلوك سَبِيل الْمُوَافقَة والائتلاف وَترك المشاجرة وَالِاخْتِلَاف وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس والشيطان فَإِن لَهُ مزِيد تسلط بِالشَّرِّ فِي طرق الْخَيْر فكونوا فِي جَمِيعهَا على حذر قَالَ تَعَالَى {إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا} فاطر 6 نسْأَل الله لكم الْحِفْظ والسلامة والأمن والعافية ذَهَابًا وإيابا فِي أَنفسكُم ودينكم ودنياكم ونستودع الله دينكُمْ وأمانتكم وخواتم عَمَلكُمْ فتوجهوا فِي حفظ الله على مهل حَتَّى تصلوا إِلَى الْقصر وَأقِيمُوا بِهِ فِي جوَار أبي الْحسن بن غَالب نفعنا الله وَإِيَّاكُم ببركاته كَمَا فعل إخْوَانكُمْ قبل فَإِن الْمقَام بِالْقصرِ خير من الْمقَام بطنجة حَتَّى يقدم البابور وَيكْتب لكم الْخَطِيب بالإعلام وَحِينَئِذٍ توجهوا إِلَيْهَا راشدين وَقد كتبنَا بذلك للطَّالِب مُحَمَّد الْخَطِيب وطالعوا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني على كتَابنَا هَذَا حِين تتلاقوا مَعَه إِن شَاءَ الله وَاعْلَمُوا أننا عينا عشْرين ألف ريال بِقصد أَن يَشْتَرِي بهَا حبس فِي سَبِيل الله عشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا بِمَكَّة وَعشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا فِي سَبِيل الله بِالْمَدِينَةِ المنورة وَهِي من جملَة مَا حَاز الْحَاج مُحَمَّد الرزيني ورفيقه فِيمَا حازا من الصائر رَجَاء أَن يبْقى أجر ذَلِك جَارِيا مُنْتَفعا بِهِ إِن شَاءَ الله وَالسَّلَام فِي السَّادِس من رَمَضَان الْمُعظم عَام أَرْبَعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَالَ أكنسوس وَكَانَ ركوبهم من طنجة فِي قرصان النجليز فَلَمَّا بلغُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة تلقاهم صَاحب مصر بغاية الْفَرح وَالسُّرُور وَفَوق مَا يُوصف من الْإِكْرَام والبرور وأنزلهم فِي أعز مساكنه وأبهاها وأبهجها وأشهاها وَأعد فِيهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أواني الْفضة وَالذَّهَب وفرش الْحَرِير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 والديباج والنفائس الغريبة ورتب لَهُم الرَّوَاتِب الْعَالِيَة من أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الفاخرة الَّتِي تناسب أقدارهم وأباح لَهُم الدُّخُول إِلَى كل مَحل أَرَادوا رُؤْيَته من الْأَبْنِيَة والمصانع والرياض والبساتين الملوكية الَّتِي يتعجب من رؤيتها وتنقل أَخْبَارهَا فشاهدوا من ذَلِك مَا لَا يكْشف حَقِيقَته اللِّسَان وَمَا لَا يظنّ أَن تناله قدرَة الْإِنْسَان ثمَّ ركبُوا فِي بَحر القلزم إِلَى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مُبَاشرَة شَعَائِر الشَّرِيعَة المطهرة من الطّواف وَالسَّعْي وَالْوُقُوف وزيارة الْمشَاهد الْمُبَارَكَة وتوجهوا إِلَى أعظم الْمَقَاصِد وأسناها الَّتِي هِيَ لنفوس الْمُؤمنِينَ غَايَة منأها زِيَارَة شَفِيع الْأُمَم فِي الْموقف الْأَعْظَم وَكَانُوا صادفوا بِمَكَّة وخما وَفَسَاد هَوَاء مَاتَ مِنْهُ كثير من الْحجَّاج الأفاقين فَمَاتَ من أَصْحَابهم جملَة وَمَات من أَوْلَاد السُّلْطَان الْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى جَعْفَر الأول بِمَكَّة وَالثَّانِي بِالْمَدِينَةِ وَسلم الله الْبَاقِي وأكرمه وَأَعْلَى مقَامه وعظمه وَجمع لَهُ بَين شرف الْحَيَاة وثواب احتساب مصيبته لمن مَاتَ وَلما فازوا بزيارة سيد الْأَرْضين وَالسَّمَوَات ووافقتهم السَّعَادَة فِي ذَلِك الْمقَام الَّذِي تتضاءل دونه جَمِيع المقامات وأدركوا مَا أَملوهُ من لثم تُرَاب أشرف الْبِقَاع وَأكْرم الْحجر وانفجر عَلَيْهِم من كرم الله مَا انفجر ونال كل وَاحِد مَا كَانَ يؤمله ويرجوه فَخَرجُوا من الْمَدِينَة رَاجِعين بِكُل خير وغسلوا بالدموع مَا كَانُوا عفروه فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن من الْوُجُوه وَلَكِن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الْأَعْرَاب فِي الْمسَافَة الَّتِي بَين الْمَدِينَة وينبع لأَنهم انفردوا عَن الركب عِنْد الرُّجُوع وَلَوْلَا لطف الله لاستؤصلوا عَن آخِرهم وَلَقَد كَانَت نجاتهم من تِلْكَ الشدَّة من أعجب العجاب وَفِي خلوصهم مِنْهَا عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب فَإِنَّهُم كمن بعث بعد مماته وإقباره وَانْقِطَاع أنفاسه وأخباره وَالْحَمْد لله الَّذِي لَا تخفر ذمَّته وَلَا تنتهك حرمته فَلَمَّا بلغُوا يَنْبع وجدوا المراكب الَّتِي تحملهم فِي انتظارهم فَرَكبُوا قافلين ورياح السَّلامَة تسوقهم وأرباح التِّجَارَة والسعادة قد تكفل بهَا سوقهم فَلَمَّا وردوا حَضْرَة مراكش تَحت ظلال السَّلامَة وَقد نشر عَلَيْهِم الْقبُول بنوده وأعلامه باتوا بقنطرة تانسيفت وَفِي الْغَد ركبت الْخُيُول والعساكر السُّلْطَانِيَّة لتلقيهم وَخرج أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 مراكش فِي زيهم وزينتهم وَكَانَ يَوْم لقائهم يَوْمًا مشهودا وموسما من المواسم المعظمة معدودا اه وَفِي سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي عَالم فاس وَالْمغْرب والمجيد فِي صناعَة التدريس والتحرير لَا سِيمَا مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل الْفَقِيه الْعَلامَة الأوحد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الفيلالي الفاسي وَكَانَ الْمُصَاب بِهِ خُصُوصا عِنْد طلبة الْعلم عَظِيما وَلم يتْرك بعده فِي إجادة تَحْرِير الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة مثله رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة السَّادِس من شعْبَان مِنْهَا بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة زلزلت الأَرْض زلزالا يَسِيرا وَفِي رَابِع شَوَّال من هَذِه السّنة ورد الْمُجَاهِد أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ فنيش السلاوي من مَدِينَة لوندرة إِلَى ثغر سلا وَمَعَهُ مركب موسوق فِيهِ سَبْعَة عشر مدفعا ومهراسان عظيمان من الْمَعْدن وَأَشْيَاء أخر من آلَة الْحَرْب وَكَانَ جلبه لذَلِك بِأَمْر السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لعمارة البستيون الْجَدِيد بسلا الَّذِي قدمنَا ذكره قبل وَالله تَعَالَى أعلم وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب أَيْضا وَهِي الْمرة الثَّالِثَة فِي هَذِه الْمدَّة وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد قدم مراكش فاتح سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ولأول دُخُوله عزل الْوَزير أَبَا عبد الله الجامعي ورتب مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله غريط أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ استوزر الْفَقِيه أَبَا عبد الله الصفار التطاوني وَاسْتمرّ السُّلْطَان مُقيما بمراكش إِلَى آخر سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فغزا زمور الشلح وَاجْتمعَ عَلَيْهَا هُوَ والخليفة سَيِّدي مُحَمَّد على الْعَادة ثمَّ صَار الْخَلِيفَة إِلَى مراكش وَانْحَدَرَ السُّلْطَان إِلَى مكناسة فاستمر مُقيما بهَا يَغْزُو زمور الشلح وَيعود إِلَيْهَا وَرُبمَا ذهب فِي بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الأحيان إِلَى فاس إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَمَرض مرض مَوته وَقد كَانَ ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ منَازِل لزمور فَنَهَضَ عَنْهَا إِلَى مكناسة وَتَمَادَى بِهِ مَرضه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم فاتح سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن بَين العشاءين أول لَيْلَة من صفر بضريح السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رحم الله الْجَمِيع بمنه وَقد كنت رثيته بقصيدة شذت عني الْآن وأولها (أَمن طيف ذَات الْخَال قَلْبك هائم ... ودمعك هام واكتئابك دَائِم) (وَهل أذكرتك النائبات عشائرا ... عفت مِنْهُم بعد الْمَعَالِي معالم) ورثاه الْفَقِيه أَبُو عبد الله أكنسوس بقوله (هذي الْحَيَاة شَبيهَة الأحلام ... مَا النَّاس إِن حققت غير نيام) (حسب الْفَتى إِن كَانَ يعقل أَن يرى ... مِنْهُ لآدام رُؤْيَة استعلام) (فَيرى بداية كل حَيّ تَنْتَهِي ... أبدا وَإِن طَال المدا لتَمام) (وَالنَّفس من حجب الْهوى فِي غَفلَة ... عَمَّا يُرَاد بهَا من الْأَحْكَام) (أوليس يَكْفِي مَا يرى متعاقبا ... بَين الورى من سطوة الْأَيَّام) (من لم يصب فِي نَفسه فمصابه ... بحبيبه حكما على إِلْزَام) (بعد الشبيبة شيبَة يخْشَى لَهَا ... ذُو صِحَة أَن يبتلى بسقام) (دَار أُرِيد بهَا العبور لغَيْرهَا ... ويظنها الْمَغْرُور دَار مقَام) (منع الْبَقَاء بهَا تخَالف حَالهَا ... وتكرر الْإِشْرَاق والإظلام) (لَو كَانَ ينجو من رداها مَالك ... فِي كَثْرَة الْأَنْصَار والخدام) (لنجا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمن غَدا ... أَعلَى مُلُوك الأَرْض نجل هِشَام) (خير السلاطين الَّذين تقدمُوا ... فِي الغرب أوفي الشرق أَو فِي الشَّام) (سر الْإِلَه وَرَحْمَة منشورة ... كَانَت سرادق مِلَّة الْإِسْلَام) (قصدته عَادِية الْحمام فَمَا عدت ... إِن هددت علما من الْأَعْلَام) (لم تحجب الْحجاب مِنْهَا طَارِقًا ... كلا وَلَا دفعت يَد الأقوام) (وَالْملك فِي عز مهيب شامخ ... وإمامه فِي جرْأَة الضرغام) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 (عجبا لَهَا لم تخش من فتكاته ... والأسد تزأر حوله وتحامي) (عجبا لَهَا لم تستح من وَجهه ... وَالْوَجْه أبهج من بدور تَمام) (عجبا لَهَا لم ترع طول قِيَامه ... متهجدا لله خير قيام) (تَبًّا لَهَا لم تدر من فجعت بِهِ ... من مُعتق وأرامل الْأَيْتَام) (أسفا على ذَات الْجلَال وَأَنه ... لأجل من أَسف وفرط هيام) (يَا مَالِكًا كَانَت لنا أَيَّامه ... ظلا ظليلا دَائِم الإنعام) (لَا ضير أَنَّك قد رحلت ميمما ... دَار الهناء وجنة الْإِكْرَام) (فِي حَضْرَة تَغْدُو عَلَيْك بشائر ... من حورها بِتَحِيَّة وَسَلام) (ضاجعت فِي تِلْكَ الْقُصُور كواعبا ... درية الألوان والأجسام) (تسقيك صرف السلسبيل مروقا ... وتدير كأسا من مدام مدام) (فلك الرضى فانعم بِمَا أَعْطيته ... وَلَك الهناء بنيل كل مرام) بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسيرَته ومآثره يَكْفِيك أَيهَا الْوَاقِف على أَخْبَار هَذَا الإِمَام الْجَلِيل السّري النَّبِيل من مناقبه خصلتان إِحْدَاهمَا شَهَادَة عَمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لَهُ بالتقوى وَالْعَدَالَة والمحافظة على خِصَال الْخَيْر ونوافله حَتَّى قدمه على بنيه حَسْبَمَا مر ذَلِك كُله مُسْتَوفى وَالثَّانيَِة إِقَامَته صلب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة بعد إشرافها على الاختلال وردهَا إِلَى شبابها بعد أَن حَان مِنْهَا الزَّوَال والارتحال كَمَا رَأَيْته أَيْضا فعلى التَّحْقِيق أَن الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله هُوَ الْمولى إِسْمَاعِيل الثَّانِي وَأما حزمه وَضَبطه وَكَمَال عقله وتأنيه فِي الْأُمُور وَوَضعه الْأَشْيَاء موَاضعهَا وتبصره فِي مبادئها وعواقبها وإجراؤها على قوانينها فَمَا أَظُنك تجْهَل مِنْهُ شَيْئا بعد أَن قَصَصنَا عَلَيْك مَا مضى من أخباره رَحمَه الله وَقد رَأَيْت كَيفَ نزلت بِهِ النَّوَازِل وترادفت عَلَيْهِ الهزاهز من غير معِين يذكر أَو وَزِير يعْتَبر إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر فَقَامَ رَحمَه الله بأعباء ذَلِك كُله وعالج حلوه ومره حَتَّى رد النّصاب الملكي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 إِلَى أَصله وَأحل عزه فِي مَحَله وَأما ورعه وَصَبره وحياؤه وتوقفه فِي الدِّمَاء توقفا تَاما إِلَّا إِذا حصحص الْحق وَصرح الشَّرْع فَكل ذَلِك أَمر مَعْلُوم يُعلمهُ الْخُصُوص والعموم وَأما آثاره بالمغرب فشيء كثير من ذَلِك مَا افْتتح بِهِ ولَايَته من بِنَاء مَا تهدم من مرسى طنجة وصير عَلَيْهِ مَالا عَظِيما حَتَّى أَعَادَهُ أحسن وَأحْصن مِمَّا كَانَ وَمن ذَلِك تَجْدِيد الْحرم الإدريسي بفاس وَبِنَاء مَسْجده وتوسعته وتنميقه حَسْبَمَا مر وَمن ذَلِك البرجان العظيمان بسلا وأشبار الْكَبِير المواجه للبحر مِنْهَا والمارستان الْكَبِير بضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر والمنار الشهير بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم مِنْهَا وخزين البارود بالقليعة وَغير ذَلِك وأشبار الْكَبِير برباط الْفَتْح وَبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إِحْدَاهمَا الصخيرات وَالْأُخْرَى قَصَبَة أبي زنيقة فأمن النَّاس بهما وارتفقوا بالتردد إِلَيْهِمَا وجدد مَا تهدم من أبراج الصويرة واعتنى بهَا وصير عَلَيْهَا أَمْوَالًا ثقالا فَجَاءَت فِي غَايَة الإتقان والحصانة وَمن آثاره بمراكش آجدال الشهير وتجديد جَامع الْمَنْصُور بالقصبة بعد أَن لم يبْق مِنْهُ إِلَّا الِاسْم فَأَعَادَهُ إِلَى حَالَته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائِهِ وتجديد جَامع الكتبيين مرَّتَيْنِ وَإِصْلَاح قبَّة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي رَضِي الله عَنهُ وَالزِّيَادَة فِي جَامع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق البلفيقي بسوق الدقاقين مِنْهَا وَهدم جَامع الْوُسْطَى وإعادته على شكل بديع وهيئة حَسَنَة وَبِنَاء جَامع أبي حسون وَإِقَامَة الْجُمُعَة بِهِ كَمَا كَانَت أَولا وَبِنَاء جَامع القنارية وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمن آثاره بِحَضْرَة فاس الْعليا تَجْدِيد بُسْتَان آمِنَة المرينية قَالَ أكنسوس وَكَانَ هَذَا الْبُسْتَان خرابا تألفه الوحوش مَعَ أَنه بِبَاب دَار السُّلْطَان وَفِي سرة الحضرة وَقد كَانَ فِي الدول المرينية على هَيْئَة بهية فِيهِ ظَهرت زِينَة تِلْكَ الدولة وضخامتها وَفِيه مَقَاعِدهمْ ومنازلهم الْعَالِيَة ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إِلَى أَن قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت تِلْكَ الْعَرَصَة منية من زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وجنة حائزة من الْبَهْجَة الْمرتبَة الْعليا ثمَّ أخنت عَلَيْهَا الْأَيَّام بصروفها ومحت من تِلْكَ الرسوم جَمِيع حروفها فرآها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الْمُلُوك قبل مَوْلَانَا الْمُؤَيد فَلم يرقوا لحالها وَلَا أنقذوها من أوحالها مَعَ أَنَّهَا فِي جوارهم وعقر دِيَارهمْ فعطف الله عَلَيْهَا هَذَا السُّلْطَان الْمُبَارك فَأَعَادَ بعد الْمَمَات محياها وأبرز من ظلمات الْعَدَم جميل محياها الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله بِعَين الرضى من وَالِده مُنْذُ نَشأ وشب وَكَانَ متميزا عَن سَائِر إخْوَته بِشدَّة البرور بِأَبِيهِ ومتصفا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالصَّلَاح وَالتَّقوى وَسَائِر خِصَال الْخَيْر واستخلفه أَبوهُ صَغِيرا فَجرى على السّنَن الأقوم وحمدت سيرته وَلما رأى مِنْهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مخايل النجابة وَالصَّلَاح فوض إِلَيْهِ وَألقى بزمام مَمْلَكَته بيدَيْهِ وَلم يدّخر عَنهُ شَيْئا من أُمُور الْملك ووظائفه فاستلحق فِي أَيَّام أَبِيه واستركب وَاتخذ العساكر وجند الأجناد وَقدم وَأخر وخفض وَرفع وَأعْطى وَمنع حَتَّى كَأَنَّهُ ملك مُسْتَقل وَكَانَت الْعَادة أَنه إِذا كَانَ السُّلْطَان بمراكش كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا بفاس أَو بمكناسة وَبِالْعَكْسِ فَلَمَّا مرض السُّلْطَان رَحمَه الله مرض مَوته بمكناسة كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فَلم يرعه إِلَّا وُرُود الْكتب عَلَيْهِ من أَخِيه الْمولى الْعَبَّاس وَمن الْوَزير أبي عبد الله الصفار أَن السُّلْطَان قد أشرف وَوَقع الْيَأْس مِنْهُ فَنَهَضَ سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش منزعجا وجد السّير لَعَلَّه يدْرك حَيَاة أَبِيه فَلَمَّا كَانَ بِبِلَاد السراغنة على مرحلَتَيْنِ من مراكش اتَّصل بِهِ الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان رَحمَه الله ثمَّ قدمت عَلَيْهِ بيعَة أهل الحضرتين فاس ومكناسة وَجَمِيع الْجَيْش البُخَارِيّ وَسَائِر أهل الْحل وَالْعقد من أَعْيَان الْقَبَائِل والبربر فَاسْتَرْجع السُّلْطَان لمصابه وشكر الله إِذْ أبقى أَمر الْمُسلمين فِي نصابه وَكتب بالْخبر إِلَى مراكش وَبعث بالبيعة الْوَارِدَة عَلَيْهِ فَاجْتمع أهل مراكش على طبقاتهم بِجَامِع الكتبيين وَحضر عَامل الْبَلَد يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة وقائد الْجَيْش السُّوسِي بالقصبة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الجراوي وقواد الْحَوْز من الرحامنة وَغَيرهم فقرىء كتاب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بالأخبار بِمَوْت وَالِده واجتماع النَّاس على بيعَته فارتفعت الْأَصْوَات بالترحم على السُّلْطَان الصائر إِلَى عَالم الرضى وَالرَّحْمَة وبالنصر لهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الله لحماية الْأمة وَكتب أهل مراكش بيعتهم من إنْشَاء أبي عبد الله أكنسوس وَكَذَا الْجَيْش السُّوسِي وَأهل الْحَوْز وَقدمُوا على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بمكناسة مؤدين الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فَأكْرم وفادتهم وَأجل مقدمهم وأفاض عَلَيْهِم من الْإِحْسَان مَا غمرهم وَكَانَ مِمَّا قيل فِي تهنئته بِالْملكِ قَول أبي عبد الله أكنسوس (وُجُوه الْأَمَانِي حسنها متجدد ... ومنظرها يحكيه خد مورد) (قضى الْحبّ فِي كل الْقُلُوب بِأَنَّهَا ... مماليك أَرْبَاب الْجمال وأعبد) (وَكم من عصي للهوى متعفف ... يفر من السود الْعُيُون وَيبعد) (تصيده ظَبْي على حِين غَفلَة ... مهفهف مستن الوشاحين أغيد) (فَأصْبح مَفْقُود الْفُؤَاد مخبلا ... وَأي فؤاد عاشق لَيْسَ يفقد) (وَللَّه فِي أسر الغرام ونهره ... نفوس ضِعَاف ليلهن مسهد) (إِذا اللَّيْل أضواها تكنفها الْهوى ... وَلَيْسَ لَهَا غير الكواعب منجد) (وَذي ظمأ بَين الضلوع يجنه ... إِلَى رشفات للصبابة تبرد) (ترَاءى لَهُ من منحنى الْجزع برقه ... فَظن بِأَن الْجزع ثغر منضد) (وتذكره تِلْكَ البروق مباسما ... عَلَيْهِنَّ مرفض الجفان معقد) (يراقب أسراب النُّجُوم بمقلة ... تقسمها شطرين نسر وفرقد) (ويهفو لأيام العقيق فتنثني ... مدامعه مثل العقيق تبدد) (وَهل يتناهى عهد من سكن اللوى ... إِذا الْعَيْش غض والحبائب تسعد) (وَمَا زَالَت الْأَيَّام تغري بِنَا النَّوَى ... وتنفي الَّذِي نهواه عَنَّا وتبعد) (وَلست أُبَالِي للزمان صروفه ... وكهفي أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد) (خَليفَة رب الْعَالمين بأرضه ... وصارمه الشاكي الشبات المهند) (إِمَام تولى الله تشييد ملكه ... وناهيك ملكا بالإله يشيد) (وصفوة هَذَا الْخلق من آل هَاشم ... وَأَعْلَى ذَوي التيجان فخرا وأمجد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 (وأرحبهم فِي الْعِزّ باعا وَفِي العلى ... وَأَكْثَرهم فِي الْفضل حظا وأزيد) (أَتَتْهُ عروس الْملك عاشقة لَهُ ... وَكم عاشق عَنْهَا يذاذ ويطرد) (وَأَلْقَتْ على شوق إِلَيْهِ زمامها ... فطاب لَهَا مِنْهُ الجناب الممهد) (فَأَصْبَحت الْأَيَّام تزهو بعدله ... وتنعم فِي ظلّ الهناء وتسعد) (فَفِي بَابه مأوى المكارم والندى ... وَفِي بَابه الْخيرَات تولي وتوجد) (ودولته للعز والنصر مألف ... وحضرته للأمن واليمن موعد) (تذل مُلُوك الْعَالمين لِبَأْسِهِ ... وتركع مهما أبصرته وتسجد) (لَهُ رَاحَة فِي الْجُود مَا الْغَيْث عِنْدهَا ... وَمَا الْبَحْر والدر النفيس الْمُقَلّد) (لَهُ أنعم تأوي إِلَى ظلها المنى ... وتسحب أذيال السماح وترفد) (وعزم على الْخيرَات لَيْسَ بسامع ... مقَالَة من فِي المكرمات يزهد) (ورأي ينير الْخطب عِنْد اعتكاره ... وَيفْسخ مَا أَيدي النوائب تعقد) (وَوجه إِذا مَا لَاحَ أيقنت أَنه ... محيا لَهُ وَقت السَّعَادَة مولد) (حييّ كثير الابتسام مبارك ... يكبر رَبِّي إِن بدا ويوحد) (أهز بِهَذَا الْمَدْح مِنْهُ معاطفا ... تجر ذيول الْفَخر إِن هُوَ يحمد) (لَهُ الْعَسْكَر الجرار تبرق فِي الوغا ... صوارم مِنْهُ والمدافع ترْعد) (يعد إِلَى الْأَعْدَاء كل كَتِيبَة ... من الرَّعْد يحدوها الوشيح المسدد) (وكل كمى كالغضنفر مغضبا ... وكل صقيل وَهُوَ مَاض مُجَرّد) (يبد العدا قبل اللِّقَاء مهابة ... فصارمه يفري الطلى وَهُوَ مغمد) (هُوَ الْملك الْمَشْهُور بالحلم والدها ... وبالعلم والشهب الدراري تشهد) (تشد لإدراك الْغنى عِنْد بَابه ... ركائب أنضاها الدؤب المشدد) (يحدث عَنهُ الْوَفْد عِنْد صدوره ... أَحَادِيث من بَحر إِذا الْبَحْر يزِيد) (إِلَى مجده آمالنا قد تطاولت ... وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا حماه الْمُؤَيد) (فيا ملكا يحمي الرّعية بأسه ... ويحييهم بالبذل والبذل أرغد) (يدبر فيهم كل يَوْم مصالحا ... تعود بِمَا يرضون وَالْعود أَحْمد) (ويشملهم بِالْعَدْلِ وَالْفضل والندا ... وَيصْلح بالصمصام من هُوَ مُفسد) (هَنِيئًا لَك الْملك الْجَدِيد فَإِنَّهُ ... يَدُوم بِحَمْد الله وَهُوَ مسرمد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 (هَنِيئًا لنا نَحن العبيد فإننا ... بسؤدد مَوْلَانَا الإِمَام نسود) (ودونك يَا خير السلاطين كاعبا ... بديعة حسن للنَّهْي تتودد) (تدير كؤوس الراح دون تأثم ... إِذا هِيَ أثْنَاء المحافل تنشد) (فَلَا زلت مَا بَين الْمُلُوك مُخَيّرا ... كَمَا اختبر مَا بَين الْمَعَادِن عسجد) وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظهر الْمولى عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد وَقرب من فاس طَالبا للْملك قيل إِن بعض أَبنَاء عَمه بفاس ومكناسة لما توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله كاتبوه واستحثوه للقدوم وواطأهم على ذَلِك بعض عبيد البُخَارِيّ وَبَعض البربر الَّذين بأحواز مكناسة وَلما قرب من فاس كَانَ الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي يَوْمئِذٍ يَلِي أَمر شراقة بهَا فَقَامَ فِي ذَلِك أحسن قيام وَحمل النَّاس على الثَّبَات والتمسك بِطَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فَكَانَ ذَلِك سَببا فِي سُكُون هَذِه الْفِتْنَة وانحسام مادتها فَرجع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عوده على بدئه وآيس من بُلُوغ قَصده وَأقَام بزاوية العياشي عِنْد البربر إِلَى أَن أضمحل أمره وَلما قدم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله من مراكش إِلَى مكناسة اجتاز بِمَدِينَة سلا وَنزل بِرَأْس المَاء فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَبعد الزَّوَال دخل فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وزار الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن حسون وَالشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر رَضِي الله عَنْهُمَا وَدخل البستيون الْكَبِير وَرَأى مدافعه مَنْصُوبَة على عجلات الْحَدِيد وَكَانَت تغوص فِي الأَرْض إِذا جرت من شدَّة ثقل المدافع فَأَشَارَ بِأَن يفرش لَهَا بِسَاط من الْعود الْجيد الْمُحكم الصَّنْعَة والتركيب حَتَّى يَتَأَتَّى جريانها عَلَيْهِ بِلَا كلفة فصنعت لَهَا كَمَا أَشَارَ رَحمَه الله وَقد كنت مدحته بقصيدة لم يبْق على ذكري الْآن مِنْهَا إِلَّا بيتان وهما (حوى العلويون الْمَعَالِي كلهَا ... وَمَا مِنْهُم إِلَّا ذرى الْمجد صاعد) (وَلَكِن أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد ... هُوَ الْبَدْر فِي العلياء وَهِي الفراقد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الإصبنيول واستيلاؤه على تطاوين ورجوعه عَنْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك كَانَ السَّبَب فِي انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ جنس الإصبنيول أَن الْعَادة كَانَت جَارِيَة مَعَ أهل سبتة من النَّصَارَى وَأهل اللانجرة من الْمُسلمين أَن يتَّخذ كل من الْفَرِيقَيْنِ محلا للحراسة على المحدة الَّتِي بَينهمَا وَكَانَ النَّصَارَى يتخذون هُنَالك بُيُوتًا صغَارًا من اللَّوْح والمسلمون يتخذون أخصاصا من البردى وَنَحْوه فَلَمَّا كَانَ آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بنى نَصَارَى سبتة على المحدة بَيْتا من حجر وطين وَجعلُوا فِيهِ عَلامَة طاغيتهم الْمُسَمَّاة عِنْدهم بالكرونة فَتقدم إِلَيْهِم أهل اللانجرة وَقَالُوا لَهُم لَا بُد أَن تهدموا هَذَا الْبَيْت الَّذِي لم تجر الْعَادة ببنائه وترجعوا إِلَى حالتكم الأولى من اتِّخَاذ بيُوت الْخشب فَامْتنعَ النَّصَارَى من ذَلِك فَعمد أهل اللانجرة إِلَى ذَلِك الْبَيْت فهدموه وَإِلَى تِلْكَ الكرونة فنجسوها بالعذرة وَقتلُوا مِنْهُم أُنَاسًا وضيقوا على أهل سبتة بالغارات حَتَّى كَانُوا يصلونَ إِلَى السُّور فَرفع أهل سبتة أَمرهم إِلَى كَبِيرهمْ بطنجة فَكلم كَبِيرهمْ نَائِب السُّلْطَان بهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْحَاج عبد الله الْخَطِيب التطاوني وشكا إِلَيْهِ مَا نَالَ أهل سبتة من عيث اللانجرة فدافعه الْخَطِيب فَلم ينْدَفع وَقَالَ لَا بُد من حُضُور اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بطنجة وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا بُد من قَتلهمْ جَزَاء على فعلهم فَعظم الْأَمر على الْخَطِيب وَرُبمَا كلم فِي ذَلِك باشدور النجليز فَقَالَ لَهُ أحضر هَؤُلَاءِ المطلوبين على عين الْأَجْنَاس وَإِذا حَضَرُوا وَظهر حق الإصبنيول فَأَنا ضَامِن أَن لَا يصيبهم شَيْء فأعجب الْخَطِيب ذَلِك وعزم عَلَيْهِ فاتصل الْخَبَر بِأَهْل اللانجرة وَأَن الْخَطِيب عازم على أَن يكْتب إِلَى السُّلْطَان فِي شَأْن اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بأعيانهم فَمَشَوْا إِلَى الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بن الْعَرَبِيّ الوزاني وَقَالُوا لَهُ إِن الْخَطِيب لَا ينصح السُّلْطَان وَلَا الْمُسلمين وَإِن كل مَا قَالَه النَّصَارَى يساعدهم عَلَيْهِ حَتَّى جسرهم علينا وَنحن جئْنَاك لتعلم السُّلْطَان بأمرنا وتسأله أَن يمدنا بالقبائل الْمُجَاورَة لنا وَنحن نكفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 هَذَا المهم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة توفّي السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وَولي ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم مكناسة وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ فَكتب لَهُ الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بِأَمْر أهل اللانجرة وَقرر لَهُ مطلبهم فَشَاور السُّلْطَان فِي ذَلِك بعض حَاشِيَته فَمَال إِلَى الْحَرْب وَذَلِكَ كَانَ الرَّاجِح عِنْد السُّلْطَان لِأَنَّهُ عظم عَلَيْهِ أَن يُمكن الْعَدو من اثْنَي عشرا من الْمُسلمين وفْق اقتراحه واختياره يقتلهُمْ بِمحضر الْمَلأ من نواب الْأَجْنَاس وَرَأى رَحمَه الله أَن لَا يُمكنهُ من مطلبه حَتَّى يعْذر فِيهِ فاستخار الله تَعَالَى وَبعث خديمه الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي إِلَى الْخَطِيب بطنجة وَأمره أَن ينظر فِي الْقَضِيَّة ويستكشف الْحَال وَأَن لَا يجنح إِلَى الصُّلْح إِلَّا إِذا لم يجد عَنهُ محيصا وَكثر المتنصحون لَدَى السُّلْطَان وهونوا عَلَيْهِ أَمر الْعَدو جدا مَعَ أَنه لَيْسَ من السياسة تهوين أَمر الْعَدو وتحقيره وَلَو كَانَ هينا حَقِيرًا فوصل الزُّبْدِيُّ إِلَى طنجة وَاجْتمعَ بالخطيب وفاوضه فِي الْقَضِيَّة فَوجدَ الْخَطِيب جانحا إِلَى السّلم فَأبى أَن يساعده على ذَلِك وَأظْهر كتاب السُّلْطَان بتفويض النّظر إِلَيْهِ فِي النَّازِلَة فَتَأَخر الْخَطِيب عَنْهَا وَترك الْخَوْض وَالْكَلَام فِيهَا وَآخر الْأَمر أَن الزُّبْدِيُّ انْفَصل مَعَ نَائِب الإصبنيول على الْحَرْب وَذهب إِلَى حَال سَبيله وأزال الإصبنيول سنجقه من طنجة وَركب إِلَى بِلَاده فِي الْحِين وَكتب الزُّبْدِيُّ إِلَى السُّلْطَان بالْخبر فَكتب السُّلْطَان إِلَى الثغور يُخْبِرهُمْ بِمَا عقده مَعَ الإصبنيول من الْحَرْب وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا على حذر وَأَن يَأْخُذُوا أهبتهم للْجِهَاد وَفتح السُّلْطَان بَيت المَال وأبدأ وَأعَاد فِي تَفْرِيق المَال وَالسِّلَاح والكسي وَقدم أَولا الْقَائِد الْمَأْمُون الزراري إِلَى تطاوين فِي نَحْو مائَة فَارس وَخَمْسمِائة من رُمَاة الْعَسْكَر فرابطوا خَارج تطاوين إِلَى جِهَة سبتة ثمَّ برز جَيش الإصبنيول من سبتة فِي نَحْو عشْرين ألفا من الْعَسْكَر فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة وَنزل على طرف المحدة دَاخل أرضه وَكَانَ خُرُوجه يَوْم السبت أواسط ربيع الأول سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَيْهِ أهل اللانجرة وَمن جاورهم من قبائل الْجَبَل وتسامع النَّاس بذلك فقدموا من كل جِهَة حَتَّى اجْتمع مِنْهُم نَحْو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الْخَمْسَة آلَاف وزحفوا إِلَى الْعَدو وقاتلوه نَحْو نصف شهر وكل يَوْم يقتل مِنْهُ ضعف مَا يقتل من الْمُسلمين لِأَن حربه كَانَ زحفا بالصف وحربهم كَانَ مطاردة بالكر والفر فَلَا بُد أَن يهْلك مِنْهُ أَكثر مِمَّا يهْلك من الْمُسلمين غير أَنهم لم يتمكنوا من مخالطته فِي مُعَسْكَره وَلَا من هزيمته لِأَنَّهُ كَانَ يحصن على نَفسه بأشبارات والمتارزات بخناشى الرمل وَغَيرهَا غَايَة التحصين ثمَّ بعث السُّلْطَان رَحمَه الله أَخَاهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الْمولى الْعَبَّاس فِي كَتِيبَة من الْخَيل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَارس فَنزل بِموضع يعرف بِعَين الدالية قرب طنجة ثمَّ بعد أَيَّام زحف إِلَى الْعَدو فَنزل بمدشر يُقَال لَهُ الْبيُوت باللانجرة وَاسْتمرّ الْقِتَال بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على نَحْو ماسبق نَحْو الْعشْرَة أَيَّام ثمَّ انْتقل الْمُسلمُونَ إِلَى مَوضِع آخر يعرف بِأبي كدان خوفًا من كرة الْعَدو ودهمه إيَّاهُم فَكَانَ ذَلِك مِمَّا جرأ الْعَدو عَلَيْهِم وَأظْهر الفشل فيهم وقاتلوا هُنَالك نَحْو الْخَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ إِن الْعَدو اجْتمع يَوْمًا وَتحمل بخيله وَرجله وزحف إِلَى الْمُسلمين فصدمهم بِجَمِيعِ قوته وشوكته فصبروا لَهُ وَصَدقُوهُ اللِّقَاء فَردُّوهُ على عقبه وَلما لم يستقم لَهُ ذَلِك جمع نَفسه ذَات لَيْلَة من غير شُعُور من الْمُسلمين وَركب الْبَحْر وَنزل بِمحل يعرف بالفنيدق لِأَنَّهُ كَانَ هُنَالك فندق قديم وَكَانَ الْعَدو فِي تنقلاته هَذِه لَا يُفَارق السَّاحِل ليحمي ظَهره بمراكبه البحرية وَكَانَ بَين الفندق ومحلة الْمُسلمين نَحْو سَاعَة وَنصف فَأَشَارَ أهل الرَّأْي على الْمولى الْعَبَّاس بِأَن يتَأَخَّر فليلا لكَون الْعَدو قد ضايقه فَتَأَخر الْمولى الْعَبَّاس بالجيش إِلَى مَوضِع يعرف بمجاز الْحَصَا فازداد طمع الْعَدو فِي الْمُسلمين وَظهر لَهُ ضعف رَأْيهمْ فِي مَكَائِد الْحَرْب وَعدم ثباتهم لَدَى الطعْن وَالضَّرْب وَكَانَ قَائِد عَسْكَر الإصبنيول يُسمى أردنيل ووزيره المشير عَلَيْهِ يُسمى بريم ورينتهم يَوْمئِذٍ إيسابيلا الثَّانِيَة ثمَّ عَاد الْمُسلمُونَ إِلَى مطاردة الْعَدو ومقاتلته على نَحْو مَا أسلفنا فَكَانُوا يذهبون إِلَيْهِ وَهُوَ بالفنيدق فيقاتلونه من الصَّباح إِلَى الْمسَاء فَكَانُوا ينالون مِنْهُ وينال مِنْهُم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَفد جمَاعَة من أهل تطاوين على السُّلْطَان رَحمَه الله بمكناسة فأعظموا أَمر الْعَدو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وتخوفوا معرته فِي مَالهم وَأَوْلَادهمْ لأَنهم كَانُوا قد أحسوا بِشدَّة شوكته فَوَعَدَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن يمدهُمْ ويحامي عَنْهُم وَلَا يدّخر عَنْهُم شَيْئا من الْعدَد وَالْعدَد حَتَّى يعْذر فيهم وَفِي غَيرهم ثمَّ إِن الْعَدو ارتحل من الفنيدق بعد نَحْو عشرَة أَيَّام وَتقدم نَحْو تطاوين وَكَانَ النَّاس قبل هَذَا لَا يَدْرُونَ أَيْن هُوَ قَاصد وَلما ارتحل من الفنيدق عرفُوا أَنه قَاصد تطاوين فَنزل بِموضع يُقَال لَهُ النيكرو فَأَقَامَ هُنَالك نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام والقتال على حَاله الْمُتَقَدّم غير أَن الْعَدو كَانَ فِي مَادَّة قَوِيَّة من الْبر وَالْبَحْر يصل إِلَيْهِ من سبتة وَغَيرهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وَغير ذَلِك حَتَّى أَنه كَانَ إِذا ارتحل ترك من ذَلِك فضلَة كَثِيرَة يتعيش فِيهَا ضعفاء أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَكَانَ ذَلِك مكيدة مَقْصُودَة عِنْده يظْهر بهَا الْقُوَّة والرفاهية وَكَانَ شذاذ المتطوعة من أهل الْبَادِيَة يهجمون على مُعَسْكَره بِاللَّيْلِ ويجلبون مِنْهُ البغال والنيران ويصبحون بهَا فِي تطاوين وَغَيرهَا وَكَانَ ضعفاء الْعُقُول من الْعَامَّة يستحسنون ذَلِك وينشطون لَهُ ويرون أَنهم قد صَنَعُوا شَيْئا مَعَ أَن ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ فِي جنب مَا كَانَ يستولي عَلَيْهِ الْعَدو من الأَرْض ويتقدم بِهِ فِي نحر الْمُسلمين وهم يتأخرون وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين لم يَكُونُوا يقاتلونه على تَرْتِيب مَخْصُوص وهيئة منضبطة إِنَّمَا كَانُوا يقاتلونه وهم متفرقون أَيدي سبا فَإِذا حَان الْمسَاء تفَرقُوا إِلَى محالهم فِي غير وَقت مَعْلُوم وعَلى غير تعبية فَكَانَ قِتَالهمْ على هَذَا الْوَجْه لَا يجدي شَيْئا وَكَانَ الْعَدو يُقَاتل بالصف وعَلى تَرْتِيب مُحكم وَكَانَت عنايته بِمَا يستولي عَلَيْهِ من الأَرْض وَيرى تقدمه إِلَى أَمَام وَتَأَخر الْمُسلمين بَين يَدَيْهِ إِلَى خلف هزيمَة عَلَيْهِم وَقد ذكر ابْن خلدون فِي فصل الحروب قتال أهل الْمغرب الَّذِي هُوَ المطاردة بالكر والفر وعابه فَقَالَ وَصفَة الحروب الْوَاقِعَة بَين أهل الْخَلِيفَة مُنْذُ أول وجودهم على نَوْعَيْنِ نوع بالزحف صُفُوفا وَنَوع بالكر والفر أما الَّذِي بالزحف فَهُوَ قتال الْعَجم كلهم على تعاقب أجيالهم وَأما الَّذِي بالكر والفر فَهُوَ قتال الْعَرَب والبربر من أهل الْمغرب وقتال الزَّحْف أوثق وَأَشد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 من قتال الْكر والفر وَذَلِكَ لِأَن قتال الزَّحْف ترَتّب فِيهِ الصُّفُوف وتسوى كَمَا تسوى القداح أَو صُفُوف الصَّلَاة ويمشون بصفوفهم إِلَى الْعَدو قدما فَلذَلِك تكون أثبت عِنْد المصارع وأصدق فِي الْقِتَال وأرهب لِلْعَدو لِأَنَّهُ كالحائط الممتد وَالْقصر المشيد لَا يطْمع فِي إِزَالَته وَفِي التَّنْزِيل {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} الصَّفّ 4 اه ولازال الْعَدو هَكَذَا يتنقل شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى وصل إِلَى وَادي يعرف بوادي آسمير وَكَانَ يتحَرَّى فِي تنقلاته يَوْم السبت مُعْتَمدًا فِي ذَلِك حكما نجوميا على مَا قيل فَلَمَّا احتل بآسمير صَادف ريحًا شرقية هاج من أجلهَا الْبَحْر حَتَّى لم تقدر مراكبه أَن تحاذيه قرب السَّاحِل فَانْقَطَعت عَنهُ مَادَّة الْبَحْر وطلع مَاء الْبَحْر فِي وَادي النيكرو من خَلفه فأفعمه وَقطع عَنهُ الْمَادَّة من سبتة كَمَا طلع أَيْضا فِي وَادي آسمير من أَمَامه فحبسه عَن العبور وَصَارَ الْعَدو متوسطا بَين الوادين وَالْبَحْر عَن يسَاره وانقطعت عَنهُ الْموَاد حَتَّى حكى بعض عسكره بعد ذَلِك الْيَوْم أَن الكليطة وَهِي خبْزَة صَغِيرَة تشبه البقسماط كَانَت أول النَّهَار تبَاع ببسيطة وَفِي آخِره بِيعَتْ بريال وَلَا وجود لَهَا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ لَو وجدوا من ينتهز الفرصة فيهم وَلَكِن أَيْن الْيَد الباطشة وبقوا على تِلْكَ الْحَال يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة ثمَّ سكن الْبَحْر وانفش الواديان وجاءه المدد وَلما رأى الْمُسلمُونَ أَن الْعَدو وصل إِلَى ذَلِك الْمحل تقهقروا ونزلوا بمدشر القلالين بَينه وَبَين تطاوين نَحْو نصف سَاعَة ثمَّ إِن الْعَدو عبر الْوَادي من آخر اللَّيْل وَأصْبح بِموضع يُقَال لَهُ الْمضيق وَكَانَ متطوعة الْأَعْرَاب فِي هَذِه الْمدَّة على قسمَيْنِ الحازمون وَأهل الْغيرَة مِنْهُم يَقُولُونَ لَوْلَا أَنه بَين الْجبَال ومتحصن بالمتارزات لفعلنَا وَفعلنَا وَالْآخرُونَ يَقُول أحدهم مَا لي وللتقدم إِلَى هَذِه الشرشمة وَإِنَّمَا أهل تطاوين يُقَاتلُون عَن تطاونهم وَأما أَنا فحتى يصل إِلَيّ بخيمتي فِي عَبدة أَو دكالة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يعْتَقد أَنه لَا تجب عَلَيْهِ نصْرَة الْمُسلمين نعم الَّذين قَاتلُوا قتالا شَدِيدا وأحسنوا الدفاع وَقَامُوا بالنصرة بنية خَالِصَة وهمة صَادِقَة هم طَائِفَة من شُبَّان أهل فاس وَطَائِفَة من أهل زرهون وَالْبَعْض من آيت يمور وخصوصا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِأبي ريالة مِنْهُم فَإِنَّهُ أبدأ وَأعَاد وأتى بِمَا لم يسمع إِلَّا فِي زمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حكى من حضر وتواتر عَنهُ أَنه كَانَ معلما براية صفراء وَكَانَ يضمها إِلَى صَدره ويسددها نَحْو الْعَدو ثمَّ يحمل على صفهم فيخرقه حَتَّى يَأْتِي من خَلفه ويفتك فيهم أَشد الفتك ثمَّ يعود ويستلب خيل الْعَدو ويقودها بأرسانها وَيَأْتِي بهَا حَتَّى يَدْفَعهَا لمن بإزائه وَكَانَ إِذا تقدم نَحْو الْعَدو يَقُول لمن حوله تقدمُوا فَأَنا درقتكم وَأَنا سوركم تكَرر ذَلِك مِنْهُ الْمرة بعد الْمرة وَلما أصبح الْعَدو بالمضيق فَارق الْبَحْر وصمد إِلَى تطاوين فَدخل بَين جبلين وَكَانَ فِي انْتِهَاء ذَلِك الْمضيق الَّذِي بَين الجبلين من جِهَة تطاوين وَيُسمى فَم العليق بعض أخبية أهل فاس وَغَيرهم فصمد الْعَدو نحوهم وبغتهم بالكور والضوبلي وَهُوَ يقرع طبوله حَتَّى أعجل الْبَعْض مِنْهُم عَن حمل أثقاله وَلما وصل إِلَى هَذَا الْموضع حصل بتطاوين انزعاج كَبِير واستأنف النَّاس الْجد وَالِاجْتِهَاد والقتال وتذامر جَيش الْمُسلمين وَكَانَ الْيَوْم شَدِيد الْمَطَر وقاتلوا قتالا شَدِيدا وأبدأ أَبُو ريالة وَأعَاد فِي هَذَا الْيَوْم هلك تَحْتَهُ فرسَان وَأرْسل لَهُ الْمولى الْعَبَّاس فرسه وَكَانَ يعتني بِهِ وينوه بِقَدرِهِ وَيبْعَث الطبل يقرع على خبائه وأصابته فِي هَذَا الْيَوْم جِرَاحَة خَفِيفَة وَهلك من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى عدد كثير قيل هلك من أهل تطاوين فَقَط نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَكَانَ الظُّهُور فِي ذَلِك الْيَوْم لِلْعَدو وَمن الْغَد ارتحل من فَم العليق وَعدل يسارا إِلَى المرسى فَنزل بهَا ليتَمَكَّن من مدد الْبَحْر وَاسْتولى على برج مرتيل وَمَا وَالَاهُ كدار مرتيل الَّتِي هِيَ الديوانة وبمجرد وُصُوله إِلَيْهَا حصنها بأشبارات الرمل والمدافع وَغير ذَلِك وَاتخذ بهَا دورا من اللَّوْح وحوانيت مِنْهُ وَأقَام مطمئنا وَصَارَت المراكب تَتَرَدَّد لَهُ فِي الْبَحْر بالأقوات وَالْعدة والعسكر وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَتَّى استراح ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَلم يكن فِي هَذِه الْمدَّة قتال وَلَا أنشبه الْعَدو وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْمولى أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن فِي جَيش بعث بِهِ السُّلْطَان من مكناسة وَنزل بِموضع يُقَال لَهُ فَم الجزيرة بِالتَّصْغِيرِ وَكَانَ الْمولى الْعَبَّاس نازلا بمدشر القلالين بِمحل مُرْتَفع يشرف على مَا حوله وَلما استراح الْعَدو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وصلحت أَحْوَال جَيْشه أنشب الْقِتَال فَكَانَ يخرج فيحوم حول المحلتين فَيُقَاتل وَيرجع فَكَانَ بريم دَائِما يكون فِي أول الْمُقدمَة على فرس أَبيض مَشْهُورا عِنْدهم مَوْصُوفا بالشجاعة وجودة الرَّأْي ثمَّ إِن الْعَدو عزم على مصادمة الْمُسلمين والهجوم على تطاوين فارتحل يَوْم السبت الْحَادِي عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وانكمش وَاجْتمعَ وَتقدم لِلْقِتَالِ وَأرْسل جنَاحا من الْخَيل طالعا مَعَ الْوَادي إِلَى جِهَة الْمَدِينَة وجناحا من الْعَسْكَر الرجالة طالعا من الغابة إِلَى جِهَتهَا أَيْضا وزحف بعسكره شَيْئا فَشَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِك يَرْمِي الكور والضوبلي وَالْبِغَال تجر المدافع والجناحات ممتدان يكتنفان محلّة الْمولى أَحْمد وَلما قربا مِنْهَا وَكَاد ينطبقان عَلَيْهَا فر من كَانَ بهَا وَتركُوا الأخبية والأثاث بيد الْعَدو فاستولى عَلَيْهَا وَنزل هُنَالك بعسكره وحصن عَلَيْهِ وتقهقر الْمولى الْعَبَّاس بجيشه حَتَّى نزل خلف تطاوين وَبقيت بَينه وَبَين الْعَدو وَكَانَ فِي تقهقره هَذَا قد دخل الْمَدِينَة وَمر فِي وَسطهَا وَاضِعا منديلا على عَيْنَيْهِ وَهُوَ يبكي أسفا على الدّين وَقلة ناصره وَلما اسْتَقر بالمحلة مَعَ الْعشي خرج إِلَيْهِ أهل تطاوين وَشَكوا إِلَيْهِ مَا نزل بهم من أَمر الْعَدو وَاسْتَأْذَنُوا فِي تَحْويل أثاثهم وأمتعتهم وحريمهم إِلَى مداشر الْجَبَل وَحَيْثُ يأمنون على أنفسهم قبل حُلُول معرة الْعَدو بهم فَأذن لَهُم وَعذرهمْ وَكَانَ قبل ذَلِك قد منع النَّاس من نقل أمتعتهم وحريمهم لِئَلَّا يفتنوا الْمُسلمين ويجروا عَلَيْهِم الْهَزِيمَة ولكي يقاتلوا عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ والقالب فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْم وَشَكوا إِلَيْهِ أَمر الْعَدو الَّذِي قد أطل عَلَيْهِم وَلم يبْق إِلَّا أَن يثب وثبة أُخْرَى فَيصير بهَا فِي وسط الْبَلَد عذرهمْ وَكَانَ الْعَدو حِين نزل بِفَم الجزيرة عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم قد أرسل أَربع كورات على تطاوين فَوَقَعت فِي وسط الْمَدِينَة كَأَنَّهُ يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد أشرف عَلَيْهِم وَلم يبْق دون أَخذهم قَلِيل وَلَا كثير وَلما سمع النَّاس كَلَام الْمولى الْعَبَّاس انْطَلقُوا مُسْرِعين إِلَى نقل أمتعتهم وَقَامَ الضجيج فِي الْمَدِينَة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل وامتدت أَيدي الغوغاء إِلَى النهب وخلع النَّاس جِلْبَاب الْحيَاء وانهار من كَانَ هُنَالك من أهل الْجَبَل والأعراب والأوباش ينقبون ويكسرون أَبْوَاب الدّور والحوانيت والداخل للمدينة أَكثر من الْخَارِج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وَبَاتُوا ليلتهم كَذَلِك إِلَى الصَّباح وَلما طلع النَّهَار وتراءت الْوُجُوه انتقلوا من نهب الْأَمْتِعَة إِلَى الْمُقَاتلَة عَلَيْهَا فَهَلَك دَاخل الْمَدِينَة نَحْو الْعشْرين نفسا وعظمت الْفِتْنَة وتخوف من بَقِي بتطاوين عَاجِزا عَن الْفِرَار فَاجْتمع جمَاعَة مِنْهُم على الْحَاج أَحْمد بن عَليّ آبعير أَصله من طنجة وَسكن تطاوين وَتَشَاوَرُوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على أَن يكتبوا كتابا إِلَى كَبِير محلّة الْعَدو أردنيل يطْلبُونَ مِنْهُ أَن يقدم عَلَيْهِم لتحسم مَادَّة الْفِتْنَة الَّتِي هم فِيهَا فَكَتَبُوا الْكتاب ووجهوه مَعَ جمَاعَة مِنْهُم فَمَا انفصلوا عَن الْمَدِينَة غير بعيد حَتَّى عثروا على طلائع الْعَدو يطوفون حول الْمَدِينَة ويحرسون محلتهم فتسابقوا إِلَيْهِم وهشوا وبشوا وسألوهم مَا الَّذِي أقدمكم فَقَالُوا جِئْنَا بِكِتَاب إِلَى أردنيل فأبلغوهم إِلَيْهِ فأظهر أَيْضا الْبشر والفرح وَقدم إِلَيْهِم طَعَاما من الْحَلْوَاء وَقَالَ لَهُم فِي جملَة كَلَامه إِنِّي أفعل مَعكُمْ مَا لم يَفْعَله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان يَعْنِي من الْإِحْسَان وَكذب خذله الله فَإِن ذَلِك من حيله الَّتِي يستهوي بهَا الأغمار وَيفْسد بهَا الدّين وَإِلَّا فَأَي إِحْسَان فعله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان أَلسنا نرى دينهم قد ذهب وَأَن الْفساد قد عَم فيهم وَغلب وَأَن ذَرَارِيهمْ قد نشؤوا على الزندقة وَالْكفْر إِلَّا قَلِيلا وَعَما قريب يلْحق التَّالِي بالمقدم وَالله تَعَالَى يحوط مِلَّة الْإِسْلَام وَيكسر بقوته شَوْكَة الزَّنَادِقَة وَعَبدَة الْأَصْنَام وَلما عرضوا على الْعَدو الدُّخُول إِلَى بلدهم قَالَ لَهُم أما الْيَوْم فَيوم الْأَحَد وَهُوَ عيد النَّصَارَى وَلَا يحل لي التحرك والانتقال وَأما غَدا فانظروني فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار فَرَجَعُوا إِلَى أهلهم وأصحابهم وأعلموهم بمقالة الْعَدو وَالْحَال مَا حَال والقتال لَا زَالَ وأبواب الحوانيت تكسر والدور تخرب وَالْقَوِي يَأْكُل الضَّعِيف وَبَاتُوا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ كَذَلِك وَأَصْبحُوا من الْغَد كَذَلِك ثمَّ إِن الْعَدو استعد وَأخذ أهبته وَتقدم إِلَى تطاوين بعد أَن فرق عسكره على جِهَتَيْنِ فرقة مرت مَعَ أردنيل على الْجَبانَة قاصدة الْبَاب الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهَا وَفرْقَة ذهبت مستعلية إِلَى جِهَة القصبة والبرج وَلما وصل أردنيل إِلَى الْبَاب وصل الْآخرُونَ إِلَى القصبة فَأَما أردنيل فَوجدَ الْبَاب مغلقا وَكَلمه الْمُسلمُونَ من دَاخل الْمَدِينَة فَأَمرهمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 بِالْفَتْح فَقَالُوا إِن المفاتيح قد ذهبت فِي الْفِتْنَة فَقَالَ اكسروا الأقفال فكسروها وَدخل وَدخل مَعَه كبراء عسكره فَتوجه هُوَ إِلَى دَار المخزن فَنزل بهَا وافترق كبراء الْعَسْكَر فِي الْمَدِينَة بِأَيْدِيهِم وَرَقَات مَكْتُوب فِيهَا أَسمَاء الدّور الَّتِي ينزلون بهَا كل وَاحِد بداره مَكْتُوبَة فِي ورقته فَكَانَ أحدهم يسْأَل عَن دَار الرزيني وَآخر يسْأَل عَن دَار اللبادي وَآخر يسْأَل عَن دَار ابْن الْمُفْتِي وَهَكَذَا بِحَيْثُ دخلُوا على بَصِيرَة بأَمْره الْبَلَد ودور كِبَارهَا فاستقر كل وَاحِد مِنْهُم فِي دَاره الَّتِي عينت لَهُ وَأما الَّذين ذَهَبُوا نَحْو القصبة فَإِنَّهُم لما وصلوا إِلَى السُّور أنشبوا فِيهِ سلاليم من قمن غِلَاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فِيهَا بِسُرْعَة وَلما صَارُوا فِي أَعلَى البرج رفعوا سنجقهم فِي أَعلَى الصاري وأخرجوا عَلَيْهَا مدفعا وَلما سمع المشتغلون بالنهب وَالْقَتْل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إِلَى البرج وبمجرد مَا وَقع بصرهم على بنديرة الْعَدو تلوح خَرجُوا على وُجُوههم فارين كالنعم الشارد فَالْأَمْر لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَا أسفي على الدّين وَأَهله وَلما اسْتَقر الْعَدو بِالْبَلَدِ رتب حكامها وكف الْيَد العادية عَنْهَا وَولى على الْمُسلمين الْحَاج أَحْمد آبعير الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ دُخُوله إِلَى تطاوين واستيلاؤه عَلَيْهَا ضحوة يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّالِث عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورثاها الأديب الشريف السَّيِّد الْفضل أفيلال بقصيدة يَقُول فِيهَا (يَا دهر قل لي على مَه ... كسرت جمع السَّلامَة) (نصبته للدواهي ... وَلم تخف من ملامة) (خفضت قدر مقَام ... للرفع كَانَ علامه) (ملكته لأعاد ... لَيست تَسَاوِي قلامة) (فالدين يبكي بدمع ... يحكيه صوب الغمامة) (على مَسَاجِد أضحت ... تبَاع فِيهَا المدامة) (كم من ضريح ولي ... تلوح مِنْهُ الْكَرَامَة) (علق فِيهِ رهيب ... صليبه ولجامه) (ومنزل لشريف ... وعالم ذِي استقامة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 (صَار كنيفا لعلج ... وَلم يراع احترامه) (وَكم وَكم من أُمُور ... للدّين فِيهَا اهتضامه) (تبْكي عَلَيْهَا عُيُون ... كآبة وندامة) (تطوان مَا كنت إِلَّا ... بَين الْبِلَاد حمامة) (أَو كخطيب تردى ... من بعد لبس الْعِمَامَة) (بل كنت روضا بهيجا ... زهرك أبدى ابتسامه) (أَو كمحيا عروس ... علاهُ فِي الخد شامة) (فقت بهاء وحسنا ... فاسا ومصر وشامه) (رماك بِالْعينِ دهر ... وَلَا كزرق الْيَمَامَة) (فَفرق الْأَهْل حَتَّى ... لم يبْق إِلَّا ارتسامه) (مَا كَانَ أحلى زَمَانا ... وَمَا ألذ غرامه) (مضى لنا مَعَ بدور ... ذَوي نهى وفخامه) (مَا بَين إنشاد شعر ... وَبَين إنشا مقَامه) (وشملنا فِي التئام ... والبسيط يهوى التئامه) (حن السرُور إِلَيْهِ ... شوقا ورام التثامه) (ساعده السعد حَتَّى ... نَالَ المنى ومرامه) (يَا حسنها من لَيَال ... لَو لم تصر كالمنامة) (تطوان يَا دَار أنس ... وخيس أهل الزعامة) (هَل للوصال سَبِيل ... فالهجر أكمل عَامه) (وَالْقلب ذاب اشتياقا ... وحسرة واستهامة) (والوجد أَضْعَف جسما ... وَكَاد يبري عِظَامه) (يَا أهل تطوان صبرا ... فَمَا لخطب أدامه) (دوَام حَال محَال ... وَهل لظل إِقَامَة) (إِن غَابَ نجم سعود ... ولاح نجم شآمة) (فَسَوف يطلع بدر ... يمحو سناه ظلامه) (فَاعْتَصمُوا برجاء ... وارعوا بِصدق ذمامه) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 (وحسنوا الظَّن تنجوا ... دنيا وَيَوْم الْقِيَامَة) (وفوضوا الْأَمر لله ... يكف عَنَّا انتقامه) (مَا فَازَ إِلَّا ذكي ... قدم خيرا أَمَامه) (حَيْثُ أَقَامَهُ يرضى ... وَلَو بقصر كتامة) (وَلَا يزل ذَا انْتِظَار ... فِي كل وَقت ختامه) (يراقب الله سرا ... وجهرة باستدامه) (يطْلب حسن ختام ... وَحل دَار المقامة) ثمَّ إِن أردنيل بعد أَن رتب الْحُكَّام بتطاوين عَاد إِلَى محلته وَقسم عسكره قسمَيْنِ وأنزله مكتنفا للبلد شرقا وغربا وَاخْتَارَ مِنْهُ عشرَة آلَاف فَأدْخلهَا الْمَدِينَة وَبَقِي هُوَ خَارِجا بِإِحْدَى المحلتين قَالَ إِن جَيْشه كَانَ يَوْم دخل تطاوين سبعين ألفا كلهَا مقاتلة فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة ثمَّ أَمر بالنداء فِي الْبَلَد أَن من أوقد نَارا تلْزمهُ الْعقُوبَة الشَّدِيدَة حذرا من أَن تكون هُنَالك مينا للْمُسلمين أَو مَا أشبههَا فَبَقيَ النَّاس على ذَلِك نَحْو أَرْبَعَة أَيَّام لم يوقدوا فِيهَا نَارا ونادى أَيْضا بِأَن من فر من أهل الْبَلَد وَلم يَأْتِ إِلَى مَتَاعه وَأَصله إِلَى سَبْعَة أَيَّام فَلَا شَيْء لَهُ بعد وَلم يقدم شَيْئا على نقل البارود والمدفع الَّذِي كَانَ للْمُسلمين بِالْمَدِينَةِ فَأَما المدفع فَحَمله إِلَى أصبانيا وَأما البارود فَجعله بضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي السعيدي وَكَذَا فعل بِجَمِيعِ آلَات الْجِهَاد ثمَّ عمد إِلَى ضريح سَيِّدي عبد الله الْبَقَّال فَجعله كَنِيسَة وَجعل مَسْجِد الباشا مختزنا للأرز وَالشعِير وَمَسْجِد القصبة مختزنا للكليط ثمَّ سَار فِي الْمُسلمين بالتوقير والاحترام وَلم يسمهم خسفا وَلَا كلفهم شغلا وَلَا اقْتضى مِنْهُم مغرما كَانَ يتألفهم بذلك وَمن بَاعَ مِنْهُم شَيْئا أَضْعَف لَهُ فِي الثّمن وأربحه وَكَذَا فعل مَعَ أهل المداشر الَّذين حول الْبَلَد حَتَّى اتخذ النَّاس سوقا بِموضع يعرف بكدية المدفع خَارج تطاوين وشاع خَبره فِي قبائل الْجَبَل فانهاروا عَلَيْهِ من كل جَانب وربحت النَّاس فِيهِ ثمَّ كتب أردنيل كتبا وَبعث بهَا إِلَى قبائل الْجَبَل يعدهم ويمنيهم إِن هم قدمُوا عَلَيْهِ وخالطوه بِالْبيعِ وَالشِّرَاء ويتوعدهم إِن لم يَفْعَلُوا فقدموا من كل أَوب وَارْتَفَعت الأسعار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 فزادت ضعف مَا كَانَت عَلَيْهِ وَأكْثر واستمرت كَذَلِك فَلم ترجع بعد ثمَّ أَخذ فِي تَرْتِيب بِنَاء الْمَدِينَة وتبديل شكلها حَسْبَمَا جرت بِهِ عَادَة النَّصَارَى فِي مدنهم فهدم مَا لم يُوَافق نظره وفرز الدّور من سور الْبَلَد وكل دَار كَانَت ملتصقة بالسور فصلها عَنهُ وَاسْتمرّ على هَذَا الْحَال نَحْو الْعشْرين يَوْمًا ثمَّ دَار الْكَلَام بَينه وَبَين الْمولى الْعَبَّاس فِي الصُّلْح وتسامع النَّاس بِهِ ففرح الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى مَعًا أما الْمُسلمُونَ فَوجه فَرَحهمْ ظَاهر وَأما النَّصَارَى فَإِنَّهُم وَإِن كَانَ لَهُم الظُّهُور فهم لَا يدركونه سهلا بل مَعَ الْقَتْل الْعَظِيم وَالْجرْح الْكثير وَالْمَشَقَّة الفادحة قَالَ تَعَالَى {إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَا لَا يرجون} النِّسَاء 104 هَذَا إِلَى مُفَارقَة بِلَادهمْ الَّتِي ألفوها وعوائدهم الَّتِي ربوا عَلَيْهَا لَا سِيمَا عَامَّة جيشهم الَّذين الْغَلَبَة فِي ضمن هلاكهم فدماؤهم هِيَ ثمنهَا كَمَا قيل بجبهة العير يفد حافر الْفرس حكى من حضر أَن عَسْكَر النَّصَارَى لما سمعُوا بتناول الصُّلْح حصل لَهُم من الْفَرح أَضْعَاف مَا حصل للْمُسلمين وصاروا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِم ويبحثونهم عَمَّا تجدّد من الْأَخْبَار وَكلما سمعُوا بِشَيْء من أَمر الصُّلْح طاروا فَرحا وَذَلِكَ لِأَن قتال النَّصَارَى كُله على الْإِكْرَاه إِذْ لَا يُمكن عسكريا مِنْهُم أَن يفر من الزَّحْف حَال الْقِتَال لِأَن الخيالة والسيافة من ورائهم يذمرونهم إِلَى الإِمَام وَمهما رَجَعَ أحد مِنْهُم إِلَى خلف وَترك فِي الصَّفّ فُرْجَة ضربت عُنُقه فِي الْحِين فالموت عِنْدهم فِي الْفِرَار مُحَقّق وَفِي التَّقَدُّم مظنون فيختارون المظنون على الْمُحَقق اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا اشتدت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس وَاخْتَلَطَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ أمكن الْفِرَار حِينَئِذٍ لاشتغال الرئيس والمرؤوس كل بِنَفسِهِ وَبِهَذَا الضَّبْط لم تتفق لَهُم هزيمَة مُنْذُ خَرجُوا من سبتة وَمن عَادَة الْعَدو فِي الْحَرْب أَنه إِذا نَهَضَ لِلْقِتَالِ ارتحل بِجَمِيعِ مَا فِي عسكره كَأَنَّهُ مُسَافر فترى العسكري مِنْهُم إِذا تقدم لِلْقِتَالِ حَامِلا مَعَه جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من مَاء وَطَعَام وبارود ورصاص حَتَّى الموسى والمقص والمرآة والصابون وَغير ذَلِك قد اتخذ لجَمِيع ذَلِك أوعية لطافا وعلقها عَلَيْهِ فَلَا يؤده حملهَا لِأَنَّهُ اقْتصر من كل على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 قدر الْحَاجة وَأما الأخبية فَيحمل كل ثَلَاثَة رجال خباء وَلَا تلحقهم كلفة فِي حمله لِأَن أخبيتهم فِي غَايَة اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فَهِيَ مَعَ كفايتها على الْوَجْه الأتم فِي غَايَة الخفة بِحَيْثُ إِذا لف الخباء بِمَا فِيهِ كَانَ كلا شَيْء وَلَو أَرَادَ أَن يحملهُ وَاحِد لفعل لكنه يقسمهُ ثَلَاثَة أشخاص زِيَادَة فِي الرِّفْق وَلِئَلَّا يحصل الضجر إِذا طَال السّفر وَأما المدافع فقد اتَّخذُوا لَهَا عجلات أفرغت إفراغا وَركبت عَلَيْهَا على وَجه مُحكم وَاتَّخذُوا للعجلات بغالا خصية تجرها فِي غَايَة الفراهة والارتياض ويجعلون فَوق تِلْكَ العجلات صناديق الْإِقَامَة من بارود ورصاص وضوبلي وَغير ذَلِك وتجلس الطبجية على تِلْكَ الصناديق وَيقوم آخَرُونَ حَولهمْ قد أخذُوا أهبتهم لِلْقِتَالِ بِكُل مَا يُمكن ثمَّ تنْدَفع العساكر على هَذَا التَّرْتِيب صُفُوفا صُفُوفا وتتقدم شَيْئا فَشَيْئًا يخلف بَعْضهَا بَعْضًا كَأَنَّهَا أمواج الْبَحْر تبرق الشَّمْس على طموس رؤوسها وتلمع على عَددهَا المصقولة وآلاتها وَهُوَ فِي هَذِه الْحَالة لَا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جِهَة هَكَذَا قِتَاله أبدا وَإِذا أدْركهُ الْمسَاء أَو وَقعت محاجزة أثْنَاء النَّهَار وَكَانَ قَصده الثَّبَات ثَبت بمحله ذَلِك وَلَا يتزحزح عَنهُ بِحَال إِلَّا إِذا فني كل عسكره أَو جله فبمثل هَذَا الضَّبْط كَانَ لَهُ الِاسْتِيلَاء والظهور وَأما مقاتلة الْمُسلمين لَهُ فَكَانَت غير منضبطة وَإِنَّمَا قَاتله من قَاتله مِنْهُم بِاخْتِيَارِهِ وَمن قبل نَفسه وَإِن كَانَ هُنَالك ضبط من أَمِير الْجَيْش فكلا ضبط وَمَتى ظهر لَهُ أَن يذهب ذهب مَعَ أَن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} النُّور 62 لَكِن الْمقَاتل من الْمُسلمين يَأْتِي الْقِتَال وَلَيْسَ مَعَه مَا يَأْكُل وَلَا مَا يشرب فبالضرورة إِذا جَاع أَو عَطش ذهب يبْحَث عَمَّا يُقيم بِهِ صلبه ثمَّ هم يُقَاتلُون على غير صف وَلَا تعبية بل يتفرقون فِي الشعاب ومخارم الأودية وحول الْأَشْجَار فيقاتلون من وَرَائِهَا وَإِذا دفعُوا فِي نحر الْعَدو دفعُوا زرافات ووحدانا ثمَّ إِذا أدركهم الْمسَاء وَوَقعت المحاجزة ذهب كل إِلَى خبائه الَّذِي تَركه وَرَاءه بمسافة بعيدَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وهم فِي هَذَا كُله لَيْسَ لَهُم وازع يحملهم على مَا يُرَاد مِنْهُم فَالْحَاصِل أَن جَيش مغربنا إِذا حَضَرُوا الْقِتَال وَكَانُوا على ظُهُور خيولهم فهم فِي تِلْكَ الْحَال مساوون فِي الاستبداد لأمير الْجَيْش لَا يملك من أَمرهم شَيْئا وَإِنَّمَا يُقَاتلُون هِدَايَة من الله لَهُم وحياء من الْأَمِير وَقَلِيل مَا هم وَقد جربنَا ذَلِك فصح فَفرُّوا عَن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي وقْعَة ظيان أَولا وَفِي وقْعَة الشراردة ثَانِيًا وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أهيب فِي نُفُوسهم مِنْهُ فَكَانُوا يلزمون غرزه لكنه لما بَعثهمْ إِلَى تلمسان فعلوا فعلتهم وسلكوا عَادَتهم وَلما شهدُوا مَعَ الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وقْعَة إيسلي جاؤوا بهَا شنعاء غَرِيبَة فِي الْقبْح وَلَوْلَا أَنه قَامَ بِنَفسِهِ لَيْلَة الْحَاج عبد الْقَادِر وَمنع النَّاس من الرّكُوب لربما عَادوا إِلَى فعلهم وَأحسن مَا كَانَت حَالهم فِي هَذَا الْحَرْب فَإِنَّهُم قاوموا الْعَدو وَفرقُوا صفوفه غير مرّة لكِنهمْ أَتَوا من عدم الضَّبْط الَّذِي هُوَ كضبطه فَعدم ملاقاتهم لِلْعَدو فِي الْكَيْفِيَّة القتالية هُوَ الَّذِي أضرّ بهم وَأوجب لعدوهم الظُّهُور عَلَيْهِم إِذْ الشَّيْء كَمَا علمت إِنَّمَا يُقَاوم بِمثلِهِ وَالشَّر إِنَّمَا يدْفع بضده فالتنافي إِنَّمَا يحصل بَين الضدين أَو المثلين وحربنا وَحرب الإصبنيول كَانَ من بَاب الخلافين وَلَا تنَافِي بَين الخلافين كَمَا هُوَ مُقَرر فِي علم الْحِكْمَة والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله ولنرجع إِلَى الْكَلَام على الصُّلْح المتناول فَنَقُول لما دَار الْكَلَام بَين الْمولى الْعَبَّاس رَحمَه الله وَبَين أردنيل فِي الصُّلْح اسْتَعدوا للاجتماع فِي يَوْم مَعْلُوم بمَكَان سوي بَين المحلتين فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم ضرب بِالْمحل الْمعِين خباء وَجَاء الْمولى الْعَبَّاس وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه جَيْشه وَفِيهِمْ أَبُو عبد الله الْخَطِيب التطاوني وَخرج أردنيل وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه عسكره وَخرج مَعَه مقدم الْمُسلمين بتطاوين الْحَاج أَحْمد آبعير رَجَاء أَن يكون هُوَ الترجمان بَين الأميرين فيفوز بِذكر ذَلِك الْجمع وفخره فأخفق رجاؤه لِأَنَّهُ لما توافى الْجَمْعَانِ إِلَى الخباء بَقِي النَّاس كلهم قَائِمين على بعد مِنْهُ وَلم يدْخلهُ إِلَّا الْمولى الْعَبَّاس وأردنيل والخطيب لَا رَابِع لَهُم فِيمَا قيل وَأبْدى أردنيل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 الْأَدَب والخضوع للْمولى الْعَبَّاس مَا جَاوز الْحَد وتفاوضوا سَاعَة ثمَّ انفض الْمجْلس وتناقل النَّاس أَن حَاصِل مَا دَار بَينهمَا أَن أردنيل رغب فِي الصُّلْح وتأكيد الوصلة بَينهم وَبَين الْمُسلمين على شُرُوط ذكرهَا وَأَن الْمولى الْعَبَّاس توقف فِيهَا وأحال ذَلِك على مشورة أَخِيه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَذهب كل إِلَى سَبيله وَبَقِي النَّاس ينتظرون الْجَواب بِأَيّ شَيْء يَأْتِي من عِنْد السُّلْطَان وَبعد أَيَّام ورد الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان لم يقبل ذَلِك الصُّلْح فاستمر النَّاس على حالتهم الأولى من كَون محلّة الْعَدو بتطاوين وَبَعضهَا خَارِجهَا شرقا وغربا ومحلة مولَايَ الْعَبَّاس على بعد من الْبَلَد مِقْدَار نصف يَوْم ثمَّ إِن الْمُسلمين اجْتَمعُوا ذَات يَوْم وبيتوا محلّة الْعَدو النَّازِلَة خَارج الْبَلَد فِي لَيْلَة مَعْلُومَة فتقدموا إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وهجموا عَلَيْهَا فِي لَيْلَة مظْلمَة وَالنَّصَارَى غَارونَ وفتكوا فيهم فتكة بكرا باتوا يَقْتُلُونَهُمْ اللَّيْل كُله وَمن الْغَد كَذَلِك إِلَى الْمسَاء وَقَاتل النَّصَارَى ذَلِك الْيَوْم أَيْضا وَلَكِن الظُّهُور كَانَ للْمُسلمين وَلَوْلَا قُوَّة نفوس الْعَدو باستنادهم إِلَى الْبَلَد وتحصن كَبِيرهمْ بهَا لكانوا انكسروا كسرة شنيعة وَكَانَ عدد الْقَتْلَى من النَّصَارَى فِي هَذِه الْوَقْعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ والجرحى أَكثر من ألف وَأما الْمُسلمُونَ فَكَانَ الْقَتْل فيهم ضَعِيفا وَلما أصبح أردنيل وَرَأى مَا حل بعسكره ساءت أخلاقه وقلب لأهل تطاوين ظهر الْمِجَن وأبدل تِلْكَ الشَّفَقَة الَّتِي كَانَ يعاملهم بهَا بالغلظة والبشاشة بالاكفهرار وَعمد إِلَى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بركَة رَحمَه الله فاتخذه مارستانا للجرحى فظلت الْجَرْحى تنقل إِلَيْهِ وَفرض على أهل تطاوين اللحف والقطائف فَجمع من ذَلِك شَيْئا كثيرا فرشه بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور لجرحاه وَصَارَ عَامَّة عَسْكَر النَّصَارَى بتطاوين كلما لقوا أحدا من الْمُسلمين عيروه بالغدر وقبحوه ثمَّ إِن أردنيل أَقَامَ بعد هَذِه الْوَقْعَة نَحْو عشرَة أَيَّام ريثما استجم جَيْشه وأبلت جرحاه وَخرج فِي تَمام الشَّوْكَة وَكَمَال الاستعداد يُرِيد أَن يضْرب فِي محلّة الْمُسلمين فَجعل تطاوين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 خَلفه وَتقدم حَتَّى كَانَ بوادي أبي صفيحة فَلَمَّا شعر بِهِ النَّاس من أهل المداشر والمتطوعة تسابقوا إِلَيْهِ من كل جَانب وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم قدوم عرب الحياينة جاؤوا فِي حرد كَبِير وحنق شَدِيد فَقَوِيت قُلُوب النَّاس بهم وَاشْتَدَّ أزرهم وتقدموا إِلَى الْعَدو فأنشبوا مَعَه الْحَرْب بِأبي صفيحة قبل أَن يصل إِلَى محلّة الْمُسلمين وكثروه فأوقعوا بِهِ وقْعَة أنست مَا قبلهَا فَقتلُوا مِنْهُ مَا خرج عَن الْحصْر وَأما الْجَرْحى فَقل مَا شِئْت وكست قتلاه الأَرْض وَلما أعياه الدّفن جعل يجمع الْجَمَاعَة من الثَّمَانِية إِلَى الْعشْرَة ويهيل عَلَيْهَا التُّرَاب وَمَعَ ذَلِك بَقِي مِنْهُ عدد كَبِير بِلَا دفن حَتَّى أنتن مَوضِع المعركة من شدَّة نَتن الْجِيَف ونال الْمُسلمُونَ من عدوهم فِي هَذَا الْيَوْم مَا لم ينالوا قبله مثله وَلَا مَا يُقَارِبه وَكَانَ الذّكر فِيهِ لعرب الحياينة ثمَّ للمتطوعة غَيرهم وَأما محلّة الْمولى الْعَبَّاس فَكَانَت بعيدَة عَن المعركة بمسافة كَبِيرَة وَقد ذكر منويل خبر هَذَا الْيَوْم فَأقر بِأَنَّهُ أهرق مِنْهُم دم كثير وخسروا فِيهِ عددا كَبِيرا من نفوس الْعَسْكَر وَالْخَيْل وَلما بلغ الْمولى الْعَبَّاس أَن الْعَدو قد برز من تطاوين وَأَن الْمُسلمين يقاتلونه الْآن فِي أبي صفيحة قلب رَأْيه واستأنف النّظر فِي عَاقِبَة أمره وَرَأى أَن الْمُسلمين وَإِن نالوا من الْعَدو فِي هَذِه الْمرة وأبلغوا فِي نكايته لَكِن الثَّمَرَة ضَعِيفَة من جِهَة أَن نكايتنا لَهُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْقَتْل وَالْجرْح ونكايته فِي أَخذ الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَا غير مرّة فجنح رَحمَه الله إِلَى الصُّلْح وَاخْتَارَهُ على الْحَرْب حَتَّى تَدور للْمُسلمين سعود إِن شَاءَ الله أَخْبرنِي صاحبنا الْقَائِد الْأَجَل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري حفظه الله قَالَ لما طَالَتْ الْحَرْب بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على تطاوين استدعاني السُّلْطَان وسيدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وَأَعْطَانِي سِتِّينَ ألف مِثْقَال أذهب بهَا إِلَى جَيش الْمُسلمين المرابط على تطاوين بِقصد الْمُؤْنَة والصائر وَقَالَ لي مَعَ ذَلِك إِذا وصلت إِلَى محلّة الْمُسلمين فَانْظُر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 حَالهم وتبصر فِي جَمِيع أُمُورهم وَمَا هم عَلَيْهِ فِي قتال عدوهم من الضَّبْط وَعَدَمه وَهل هم مكفيون فِي جَمِيع مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ أم لَا واستوعب ذَلِك وائتنى بِالْأَمر على وَجهه قَالَ فَذَهَبت فوصلت إِلَى الْمحلة يَوْم الْخَمِيس وَفِي صَبِيحَة الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ كَانَ حَرْب أبي صفيحة فجَاء النذير إِلَى الْمولى الْعَبَّاس وَأخْبرهُ بِأَن الْمُسلمين الْآن يُقَاتلُون الْعَدو قَالَ فركبت فِي جمَاعَة من النَّاس وَذَهَبت لأنظر حَال الْمُسلمين وَحَال عدوهم كَمَا أَمرنِي السُّلْطَان رَحمَه الله فوصلت إِلَى مقاتلة الْمُسلمين فَإِذا هم يرتادون موضعا ينزلون بِهِ أثقالهم ويضربون بِهِ أخبيتهم ليتفرغوا لقِتَال عدوهم فَإِذا هم عزموا على النُّزُول بوادي آكراز فأجهضهم الْعَدو عَنهُ بِالرَّمْي بالكور والضوبلي وَهُوَ مُتَقَدم أَمَام لَا يثنيه شَيْء فتأخروا عَن ذَلِك الْمحل ونزلوا بِمحل أمنُوا بِهِ على أخبيتهم وأثاثهم ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ وقاتلوه قتالا شَدِيدا حَتَّى ردُّوهُ على عقبه بالموضع الْمَعْرُوف بآمصال مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَقتلُوا مِنْهُ مَا جَاوز الْحصْر وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد عَامل سُفْيَان وَبني مَالك أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن عبد الْكَرِيم بن عودة الْحَارِثِيّ وَبَات الْعَدو تِلْكَ اللَّيْلَة بوادي آكراز الَّذِي كَانَ الْمُسلمُونَ أَرَادوا أَن ينزلُوا بِهِ وباتت محلّة الْمُسلمين بالفنيديق وتفرق جلّ متطوعتها كل إِلَى حَال سَبيله على عَادَتهم وَكَانَ الْوَقْت وَقت شتاء وَبرد غَايَة قَالَ فَلم يُعجبنِي ذَلِك وَمن الْغَد وَهُوَ يَوْم السبت أصبح الْعَدو مُقيما والمسلمون مقيمين كَذَلِك وَكَانَ الرَّأْي أَن يعاجلوه بوقعة أُخْرَى ويلحوا عَلَيْهِ كي يكسروا شوكته ويهضموا مَا دَامَ متألما وَلَا يَتْرُكُوهُ حَتَّى يجم ويستريح لكِنهمْ لم يَفْعَلُوا وَدَار الْكَلَام فِي ذَلِك الْيَوْم فِي الصُّلْح فأذعن كل من الأميرين أَمِير الْمُسلمين وأمير النَّصَارَى وجنحوا إِلَيْهِ لأَنهم كَانُوا مَعًا قد سئموا الْحَرْب وملوا الْقِتَال ثمَّ من الْغَد وَهُوَ يَوْم الْأَحَد تداعوا للاجتماع بعد أَن نَهَضَ الْعَدو من مَحَله الَّذِي كَانَ نازلا بِهِ وَاجْتمعَ وانكمش وَأظْهر الْقُوَّة بالتهييىء للحرب والتعبئة لِلْقِتَالِ حَتَّى أَنه إِذا كَانَ صلح فَذَاك وَإِلَّا فالقتال فعل ذَلِك مكيدة وَالْحَاصِل أَن الْمولى الْعَبَّاس تقدم فِي جمَاعَة من وُجُوه الْجَيْش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وتدنى أردنيل فِي جمَاعَة من أَصْحَابه كَذَلِك بعد أَن أمربضرب خباء صَغِير يَجْتَمِعَانِ بِهِ وَتقدم أردنيل على الخباء بِكَثِير لملاقاة الْمولى الْعَبَّاس وإظهارا للأدب مَعَه فتلاقى بِهِ وعادا إِلَى الخباء وَحضر مَعَهم الترجمان ورجلان آخرَانِ وأبرموا الصُّلْح وَأعْطى كل خطّ يَده بذلك وانفصلوا وَذهب كل إِلَى مَحَله وَكَانَ ذَلِك آخر حَرْب بَين الْمُسلمين والإصبنيول وَلما وصل الْخَبَر بانعقاد الصُّلْح إِلَى عَسْكَر النَّصَارَى فرحوا فَرحا لم يعْهَد مثله وَجعلُوا ينادون الباص الباص أَي الصُّلْح الصُّلْح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بهَا أَصْوَاتهم وَكلما لقوا مُسلما هشوا لَهُ كَأَنَّهُمْ يهنئونه بِالصُّلْحِ وَكَانَ الصُّلْح قد انْعَقَد بَين الْمُسلمين والإصبنيول على شُرُوط مِنْهَا أَن يدْفع السُّلْطَان إِلَيْهِم عشْرين مليونا من الريال ويخرجوا من تطاوين وَمَا استولوا عَلَيْهِ من الأَرْض الَّتِي بَينهَا وَبَين سبتة إِلَّا شَيْئا يَسِيرا يُزَاد لَهُم فِي المحدة على سَبِيل التَّوسعَة وَكَانَ انْعِقَاد هَذَا الصُّلْح فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وتراخى السُّلْطَان رَحمَه الله فِي دفع هَذَا المَال فاستمر الْعَدو مُقيما بتطاوين حَتَّى يَسْتَوْفِيه وَبعد سنة من يَوْم هَذَا الصُّلْح استوفى عشرَة ملايين مِنْهُ وَبقيت عشرَة وَقع الِاتِّفَاق فِيهَا على أَن يقتضيها الْعَدو من مُسْتَفَاد مراسي الْمغرب فَأَقَامَ أمناءه بهَا لاقْتِضَاء نصف دَاخل كل شهر مِنْهَا وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى يَكْفِي الْمُسلمين شرهم وَشر كل شَرّ وَبعد مَا وَقع هَذَا الِاتِّفَاق أسلم النَّصَارَى تطاوين إِلَى الْمُسلمين وَكَانَ خُرُوجهمْ مِنْهَا ضحوة يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد أَن مَكَثُوا فِيهَا سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَنصفا ووقعة تطاوين هَذِه هِيَ الَّتِي أزالت حجاب الهيبة عَن بِلَاد الْمغرب واستطال النَّصَارَى بهَا وانكسر الْمُسلمُونَ انكسارا لم يعْهَد لَهُم مثله وَكَثُرت الحمايات وَنَشَأ عَن ذَلِك ضَرَر كَبِير نسْأَل الله تَعَالَى الْعَفو والعافية فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلما فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من أَمر تطاوين جد فِي جمع الْعَسْكَر الْمُرَتّب على التَّرْتِيب الْمَعْهُود الْيَوْم وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان أول من أحدثه من مُلُوك الْمغرب وَكَانَ إحداثه إِيَّاه فِي دولة أَبِيه رَحمَه الله بعد رُجُوعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 من وقْعَة إيسلي مَعَ الفرنسيس ثمَّ جد فِيهِ فِي هَذِه الْأَيَّام فَجمع مِنْهُ مَا تيَسّر جمعه ثمَّ رتب المكوس على الْأَبْوَاب والمبيعات وَكتب فِي ذَلِك كتبا للآفاق فمما كتبه لأمناء مرسى الدَّار الْبَيْضَاء فِي ذَلِك مَا نَصه وَبعد فَإنَّا لما أَخذنَا فِي جمع النظام للْمصْلحَة المتعينة الْوَاضِحَة الْبَيِّنَة الْمقر أمرهَا لَدَى الْخَاص وَالْعَام وَاجْتمعَ مِنْهُ عدد يسير واختبرنا مَا صير عَلَيْهِ فِي شهر وَاحِد فَاجْتمع فِيهِ عدد كثير فَكيف أَن جَمعنَا مِنْهُ عددا مُعْتَبرا يحصل بِهِ المُرَاد وَيكون قذى فِي أعين أهل العناد اقْتضى الْحَال ذكر ذَلِك لكبراء التُّجَّار لينظروا فِيمَا يستعان بِهِ على أَمرهم إِذْ لَا بُد من كفايتهم وَإِلَّا انحل نظام جمعهم وَفِي ذَلِك مَا لَا يجهله من لَهُ أدنى عقل ومحبة فِي الدّين فأشاروا بِفَرْض إِعَانَة لَا ضررفيها على الرّعية وسطروها فِي ورقة وَهِي كل شَيْء بِالنِّسْبَةِ لما ارْتَكَبهُ الْمُلُوك فِي مثل هَذَا للاستعانة بِهِ على الْمصَالح المرعية وللضرورة أَحْكَام تخصها كَمَا هُوَ مَعْلُوم مُقَرر ومسطر فِي غير مَا ديوَان مُحَرر ثمَّ اقْتضى نَظرنَا أَن نسند الْأَمر فِي ذَلِك لأهل الْعلم ليقرروا للنَّاس حكمه تقريرا تَنْشَرِح لَهُ الصُّدُور وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فِي الْوُرُود والصدور وَإِن كَانَ جلهم يعلم هَذَا إِذْ من الْمَعْلُوم أَن الرّعية لَا يَسْتَقِيم أمرهَا إِلَّا بجند قوي بِاللَّه وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَهُوَ لَا يكون إِلَّا من الرّعية على وَجه لَا ضَرَر فِيهِ وَقد أَخذ النَّاس هَذِه مُدَّة بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وبمكناسة وتازا والعدوتين ومراكش فِي ذَلِك وسلكوا فِي ترتيبه أحسن المسالك وَلَا نشك أَن بركَة ذَلِك تعود عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وأنفسهم فبوصول هَذَا إِلَيْكُم قومُوا على سَاق الْجد فِي الْقَبْض من النَّاس بِالْبَابِ على نَحْو مَا فِي الورقة الْمشَار إِلَيْهَا وَلَا دخل لِلنَّصَارَى فِي ذَلِك وَالله أسَال أَن يُبَارك للْمُسلمين فِي مَالهم ويعوضهم خلفا آمين وَالسَّلَام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام سَبْعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَإِذا انجر بِنَا الْكَلَام على اتِّخَاذ الْعَسْكَر وترتيبه فَلَا بُد من تتميم الْفَائِدَة بِذكر كَلَام نَافِع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 القَوْل فِي اتِّخَاذ الْجَيْش وترتيبه وَبَعض آدابه اعْلَم أَنه وَاجِب على الإِمَام حماية بَيْضَة الْإِسْلَام وحياطة الرّعية وكف الْيَد العادية عَنْهَا والنصح لَهَا وَالنَّظَر فِيمَا يصلحها وَيعود عَلَيْهَا نَفعه فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بجند قوي وشوكة تَامَّة بِحَيْثُ تكون يَده غالبة على الكافة وقاهرة لَهُم فاتخاذ الْجند إِذا وَاجِب وَعَلِيهِ فَينْدب لَهُ أَن يتَّخذ لَهُم ديوانا يجمع أَسْمَاءَهُم ويحصي عَددهمْ ليحصل الضَّبْط وينتفي اللّبْس وَأول من اتخذ الدِّيوَان أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَمر عقيل بن أبي طَالب ومخزمة بن نَوْفَل وَجبير بن مطعم وَكَانُوا من كتاب قُرَيْش فَكَتَبُوا ديوَان العساكر الإسلامية على تَرْتِيب الْأَنْسَاب مُبْتَدأ من قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا بعْدهَا الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب فَهَكَذَا يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يرتب جُنُوده فِي ديوَان يحفظها ودستور يجمعها ثمَّ يَنْبَغِي أَن يكون عِنْده أَولا ديوَان كَبِير هُوَ الْأُم يجمع أَسمَاء العساكر كلهَا الْحَاضِرَة والغائبة والخاصة والعامة ثمَّ يَجْعَل دواوين صغَارًا يشْتَمل كل وَاحِد مِنْهَا على طَائِفَة مَخْصُوصَة مثل عَسْكَر الإِمَام الَّذِي يلازمه حضرا وسفرا وعساكر الثغور والقلاع وَنَحْو ذَلِك وَتَكون هَذِه الدَّوَاوِين الصغار بِمَنْزِلَة الْفُرُوع للكبير تجدّد كلما تَجَدَّدَتْ الطوائف كَمَا سَيَأْتِي وكل ديوَان مِنْهَا يشْتَمل على أرحاء مثلا وكل رحى على مئين وكل مائَة بضباطها وطبيبها وعالمها الَّذِي يعلمهَا أَمر دينهَا وَغير ذَلِك قَالَ صَاحب مِصْبَاح الساري مَا ملخصه كَانَت الدولة العثمانية فِي أول أمرهَا إِذا استخدمت طَائِفَة من الْجند بقيت فِي الْخدمَة طول عمرها وَلما كَانَ هَذَا الْأَمر صعبا يَعْنِي وَغير مُقْتَض للتسوية بَين الرّعية فِي هَذَا الْحق الْعَظِيم اقْتضى نظرهم أَن يعملوا الْقرعَة بَين أَبنَاء الرعايا عِنْد انْتِهَاء كل خمس سِنِين فَمن اسْتكْمل مُدَّة خدمته وتبصر بِمَا يلْزمه من حَرْب عدوه وَقدر على الْمُطَالبَة والمدافعة ذهب إِلَى حَال سَبيله لطلب معيشته فذو الحرفة يرجع إِلَى حرفته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 والتاجر إِلَى تِجَارَته وَهَكَذَا وَيُؤْتى بطَائفَة أُخْرَى بدلهَا حَتَّى تصير الرّعية كلهَا جندا قادرة على الْمُطَالبَة والمدافعة مَتى احْتَاجَت إِلَى ذَلِك ثمَّ من استوفى مُدَّة خدمته بَقِي معدودا فِي صنف الرديف سبع سِنِين أُخْرَى وَمعنى الرديف أَنهم يكونُونَ عدَّة للدولة مَتى احْتَاجَت إِلَيْهِم فِي نازلة عَظِيمَة أَو حَرْب عَامَّة مثل مَا يكون بَين الْأَجْنَاس فَإِذا انسلخت السَّبع سِنِين فَهُوَ حر دَائِما وأبدا فَلَا يضْرب عَلَيْهِ بعث وَلَا يُكَلف بغزو إِلَّا أَن يَشَاء فجملة مُدَّة الْخدمَة العسكرية بَين أَصْلِيَّة ورديفية اثْنَتَا عشرَة سنة وَشرط المستخدمين فِي الْعَسْكَر أَن يَكُونُوا فِي سنّ الْعشْرين إِلَى خمس وَعشْرين سنة فَمن زَاد على ذَلِك أَو نقص لَا تقبله الدولة لينضبط الْأَمر وَإِن اصْطلحَ على أقل من ذَلِك أَو أَكثر فَلَا بَأْس فَإِذا أُرِيد إِعْمَال الْقرعَة بَينهم وَذَلِكَ عِنْد رَأس خمس سِنِين كَمَا قُلْنَا اجْتمع كل من هُوَ فِي ذَلِك السن من أهل النَّاحِيَة مثل مراكش وأعمالها وفاس وأعمالها والعدوتين وأعمالهما فِي يَوْم مَعْلُوم من السّنة لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر فيحضر نَائِب السُّلْطَان ويحضر القَاضِي وَالشُّهُود وتكتب بطائق على عدد رُؤُوس الْحَاضِرين فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ سنة كَذَا فَإِذا اجْتمع لنا من البطائق مائَة وَنحن غرضنا اسْتِخْدَام خمسين مثلا أَخذنَا تِلْكَ البطائق وَاحِدَة وَاحِدَة حَتَّى نستوفي الْخمسين ثمَّ نفتحها فَمن عثرنا عَلَيْهِ فِيهَا فَهُوَ عسكري فِي تِلْكَ الْمدَّة وَمن أخطأته الْقرعَة ذهب إِلَى حَال سَبيله لكنه إِن جَاوز سنّ العسكرية الَّذِي هُوَ خمس وَعِشْرُونَ سنة وَلم تصبه الْقرعَة فَهُوَ فِي صنف الرديف إِلَى سبع سِنِين كَمَا قُلْنَا وَالَّذين أَصَابَتْهُم الْقرعَة وأثبتوا فِي الدِّيوَان يرخص لَهُم فِي الذّهاب إِلَى محالهم عشْرين يَوْمًا لقَضَاء أوطارهم ثمَّ يحْضرُون بعْدهَا إِلَى القشلة وَمن تخلف عَن حُضُور هَذَا الْجمع بِدُونِ عذر مَقْبُول يثبت فِي الدِّيوَان بِلَا قرعَة وَيسْقط من أصل الْعدَد الْمَطْلُوب وَلَا تقبل فِيهِ شَفَاعَة وَلَا فدَاء وَمن لَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْن وَاحِد من رجل كَبِير أَو امْرَأَة أرملة أَو نَحْو ذَلِك وَلَا كَافِي لَهُ سواهُ فَإِنَّهُ يسرح لَهُ لِئَلَّا يضيع لَكِن بعد حُضُور الْجمع وَإِثْبَات مَا ادَّعَاهُ وَمن لَهُ ولدان وأصابتهما مَعًا الْقرعَة فَيمسك وَاحِد ويسرح لَهُ الآخر وَمن لَهُ أَرْبَعَة أَو خَمْسَة وأصابت الْقرعَة مِنْهُم ثَلَاثَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فَأكْثر أمسك اثْنَان وسرح الْبَاقِي ويعفى عَن كل من كَانَ مُفردا فِي بَيته وَعَن كل أَعور وأشل وأعرج وأحدب وَعَن كل مبتلى بداء مزمن أَو عِلّة معدية أَو ضَعِيف الْجِسْم نحيف البنية لَا يقدر على الْأَعْمَال الجندية وَغير سَالم المزاج وَهَكَذَا ويعفى عَن طلبة الْعلم لَكِن بعد حضورهم وامتحانهم فَمن ظَهرت نجابته خلى سَبيله لِأَنَّهُ قد قَامَ بوظيف هُوَ من أهم الْوَظَائِف وَمن كَانَ قَلِيل الْفَهم أَو مقسم البال أَو طائش الفكرة لَا ترجى فَائِدَته وَإِنَّمَا تستر بِطَلَب الْعلم دخل فِي الْقرعَة وَإِذا كَانَ لرجل ولدان وأصابت الْقرعَة أَحدهمَا وَأَرَادَ إِبْدَاله بِالْآخرِ فَذَلِك لَهُ إِذا توفرت فِيهِ شُرُوط الْخدمَة وَإِذا أَرَادَ أَن يُبدلهُ بِغَيْر أَخِيه من عبد أَو أجِير فَلَا بُد من زِيَادَة قدر مَعْلُوم من المَال لَا يجحف بِهِ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل تِجَارَته وَلَا بيع أَصله وَلِهَذَا الْبَدَل شُرُوط الأول أَن يكون سالمامن الْآفَات الْمُتَقَدّمَة الثَّانِي أَن لَا يكون مِمَّن استوفى مُدَّة الْخدمَة الَّتِي هِيَ خمس سِنِين وَدخل فِي صنف الرديف اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا لم تكن الْقرعَة أَصَابَته حَتَّى جَاوز السن الْمَعْلُوم وَصَارَ فِي صنف الرديف فَهَذَا يقبل الثَّالِث أَن يكون من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة فَلَا يقبل مراكشي عَن فاسي مثلا وَبِالْعَكْسِ الرَّابِع أَن لَا يكون من العبيد السود اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ فِي الْجند صنف مِنْهُم فَيقبل فِي صنفه وَلَا بَأْس إِذا كَانَ مَمْلُوكا أَبيض الْخَامِس أَن لَا يكون من الَّذين استعملوا فِي الجندية وأخرجوا مِنْهَا لعَارض خلقي أَو خلقي مثل آفَة بدنية أَو فعل قَبِيح من سَرقَة وَنَحْوهَا السَّادِس أَن لَا يكون الْبَدَل قد جِيءَ بِهِ بعد ثَلَاثَة أشهر ثمَّ إِذا فر الْبَدَل فينتظر مَجِيئه إِلَى شهر فَإِن جَاءَ وَإِلَّا أَخذ بِهِ صَاحبه الَّذِي جَاءَ بِهِ ثمَّ إِذا انتظم هَذَا الْجمع العسكري فَأول مَا يعلمونهم أَمر دينهم مِمَّا لَا بُد مِنْهُ على سَبِيل الِاخْتِصَار بِأَن يلقنوا كَيْفيَّة اللَّفْظ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَبَين لَهُم مَعْنَاهَا بِوَجْه إجمالي فَإِن جلّ الْعَوام سِيمَا أهل الْبَادِيَة والقرى النائية لَا يفقهُونَ ضروريات دينهم ويعلمون كَيْفيَّة الْوضُوء وَالصَّلَاة ويلزمون بالمحافظة عَلَيْهَا حَتَّى أَن من لم يحضر مِنْهُم وَقت النداء لَهَا يُعَاقب عقَابا شَدِيدا وَإِلَّا فَلم يحضر عِنْد سَمَاعه الطرنبيطة وَلَا يحضر إِذا سمع دَاعِي الله فَهَذَا أول مَا يتعلمونه لتعود عَلَيْهِم بركَة الدّين وينجح سَعْيهمْ فِي حماية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الْمُسلمين فَإنَّا لم نرد بِجمع هَذَا الْجند إِلَّا حفظ الدّين فَإِذا كَانَ الْجند مضيعا لَهُ فَكيف يحفظه على غَيره وَيعود على الْمُسلمين نَفعه ثمَّ بعد هَذَا يعلمُونَ الْأُمُور الَّتِي تدل على كَمَال الْمُرُوءَة وعلو الهمة من الْحيَاء والحشمة والإيثار وَترك الْكَلَام الْفُحْش وتوفير الْكَبِير وَرَحْمَة الصَّغِير ويلقنون أَن من أفضل الْخِصَال عِنْد الله وَعند الْعباد الْغيرَة على الدّين والوطن ومحبة السُّلْطَان ونصحه وَيُقَال لَهُ مثلا إِذا كَانَ العجمي الزنديق يغْضب لدينِهِ الْبَاطِل ووطنه فَكيف لَا يغْضب الْعَرَبِيّ الْمُؤمن لدينِهِ ودولته ووطنه وَلَا بُد من تَرْتِيب مجْلِس يومي يسمعُونَ فِيهِ سيرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومغازيه وَمَغَازِي الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَسلف الْأمة وأخبار رُؤَسَاء الْعَرَب وحكمائها وشعرائها ومحاسنهم وسياساتهم وليتخير لَهُم من الْكتب الْمَوْضُوعَة فِي ذَلِك أنفعها مثل كتاب الْأَكفاء لأبي الرّبيع الكلَاعِي وَكتاب ابْن النّحاس فِي الْجِهَاد وَكتاب سراج الْمُلُوك وَنَحْوهَا فَإِن ذَلِك مِمَّا يُقَوي إِيمَانهم ويحرك هممهم ويؤكد محبتهم فِي الدّين وَأَهله وينبهون على التحافظ على ثِيَابهمْ وأطرافهم من الأوساخ والأوضار الَّتِي تدل على دناءة الهمة ونقصان الإنسانية وَعدم النخوة ويلزمون بترك اسْتِعْمَال الدُّخان فَإِنَّهُ منَاف لنظافة الدّين وَمذهب للمروءة وَالْمَال بِلَا فَائِدَة ثمَّ إِذا رسخت فيهم هَذِه الْآدَاب فِي سِتَّة أشهر أَو عشرَة أَو أَكثر أخذُوا فِي تعلم الثقافة وَأُمُور الْحَرْب ثمَّ من أهم مَا يعتنى بِهِ فِي شَأْنهمْ أَن لَا يتخلقوا بأخلاق الْعَجم وَلَا يسلكوا سبيلهم فِي اصطلاحاتهم ومحاوراتهم وَكَلَامهم وسلامهم وَغير ذَلِك فقد عَمت الْمُصِيبَة فِي عَسْكَر الْمُسلمين بالتخلق بِخلق الْعَجم فيريدون تعلم الْحَرْب ليحفظوا الدّين فيضيعون الدّين فِي نفس ذَلِك التَّعَلُّم فَلَا تمْضِي على أَوْلَاد الْمُسلمين سنتَانِ أَو ثَلَاث حَتَّى يصيروا عجما متخلقين بأخلاقهم متأدبين بآدابهم حَتَّى أَنهم تركُوا السَّلَام الْمَشْرُوع فِي الْقُرْآن وأبدلوه بِوَضْع الْيَد خلف الْأذن فَيجب على معلمهم فِي حَالَة تَعْلِيمه إيَّاهُم أَن يعدل عَن الِاصْطِلَاح العجمي إِلَى الْعَرَبِيّ ويعبر عَن الْأَلْفَاظ العجمية بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِن كَانَ أصل الْعَمَل مأخوذا عَن الْعَجم فليجتهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 الْمعلم الحاذق فِي تعريبه وَلَيْسَ ذَلِك بعسير على من وَفقه الله إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْدَال لفظ عجمي بِلَفْظ عَرَبِيّ بِأَن يَقُول مثلا أَمَام خلف دَائِرَة نصف دَائِرَة وَهَكَذَا فَإِذا مرنوا عَلَيْهِ شهرا أَو شَهْرَيْن كَانَ أسهل شَيْء عَلَيْهِم لِأَن تِلْكَ هِيَ لغتهم الَّتِي فِيهَا نشأوا وَعَلَيْهَا ربوا فَالْعَمَل عجمي وَالْكَلَام الَّذِي ينبهون بِهِ على ذَلِك الْعَمَل عَرَبِيّ فَأَي كلفة فِي هَذَا وَبِه ينْدَفع عَنْهُم التَّشَبُّه بالعجم الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَإِن التزيي بزيهم لَا يَأْتِي بِخَير أبدا وَهُوَ وَالله من أفسد الْأَشْيَاء للدّين الَّذِي نُرِيد أَن نحوطه بهم قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ من لم تصلحه السّنة فَلَا أصلحه الله ثمَّ عَمُود هَذَا كُله وصلبه الْعَقِيم لَهُ وروحه الَّذِي بِهِ حَيَاته هُوَ الْكِفَايَة فِي الْمطعم والملبس وليختر لَهُم من الأغذية أطيبها وأنفعها للبدن وليجعل لَهُم كسوتان كسْوَة الشتَاء وَكِسْوَة الصَّيف وليتخير لَهُم من المساكن والمنازل أطيبها وَأَصْلَحهَا هَوَاء وأبعدها عَن مَحل الوخم وليلزمهم بالاعتناء بتنظيف مساكنهم وتبريدها وتطييبها حَتَّى لَا ينشأ عَنْهَا دَاء وَإِذا تراخوا فِي مثل ذَلِك عوقبوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دَال على دناءة الهمة ودنيء الهمة لَا يَأْتِي مِنْهُ شَيْء وليرتب لَهُم الْأَطِبَّاء العارفون حَتَّى إِذا أصَاب أحدا مِنْهُم مرض عالجه الطَّبِيب فِي الْحَال فَإِن هَذَا الْجند هُوَ سور الْإِسْلَام وسياج الدّين فبحفظه يحفظ الدّين وبسلامته يسلم فَإِذا اتخذ الْجند على هَذِه الْكَيْفِيَّة الَّتِي ذكرنَا سهل على النَّاس الدُّخُول فِي الجندية وتنافسوا فِيهَا وَمن كَانَ عِنْده من الرّعية دِرْهَم طابت نَفسه بِأَن يقتسمه مَعَهم وَيكون الْجند حِينَئِذٍ فِي مرتبَة هِيَ أشرف من مرتبَة الرّعية بِكَثِير لِأَن الْجند يحفظهم والرعية تكسب وتبذل لَهُم ثمَّ إِذا ظهر من آحَاد الْجند نجابة أَو شجاعة أَو نصيحة فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة رفع قدره ونوه باسمه ليغتبط هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ ويزداد فِي خدمته ويغبطه غَيره وينافسه فِي خصاله الَّتِي أكسبته تِلْكَ الْمنزلَة وليقس مَا لم يقل وَالله الْهَادِي إِلَى التَّوْفِيق بمنه ولنرجع إِلَى التَّارِيخ فَنَقُول وَفِي سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 من ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي والدنا الْفَقِيه المرابط الْأَخير أَبُو الْبَقَاء خَالِد بن حَمَّاد بن مُحَمَّد الْكَبِير الناصري بقبيلة سُفْيَان وَدفن بتربة الشَّيْخ أبي سلهام رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ رَحمَه الله من الْوَرع والتحري فِي أكل الْحَلَال على جَانب عَظِيم بِحَيْثُ فاق أَكثر أهل زَمَانه فِي ذَلِك وَكَانَ دينا وقورا كثيرالأوراد ذَا صمت وجد وَله إِلْمَام بالفقه والسيرة النَّبَوِيَّة مرجو الْبركَة عِنْد الْعَامَّة رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين ثورة الجيلاني الروكي ومقتله كَانَ الجيلاني الروكي من عرب سُفْيَان رجلا خامل الذّكر سَاقِط الْقدر حرفته رعي الْبَهَائِم وَنَحْو ذَلِك من عمل أهل الْبَادِيَة فَوكل بِهِ جني أَو شَيْطَان ففاه بالمخاريق وتبعته الْعَامَّة فثار بِبِلَاد كورت وَتقدم إِلَى دَار الْقَائِد عبد الْكَرِيم بن عبد السَّلَام بن عودة الْحَارِثِيّ السفياني فِي أخلاط من الأوباش بِالْعِصِيِّ والمقاليع فحاصر الْقَائِد الْمَذْكُور فِي دَاره من الظّهْر إِلَى الْغُرُوب ثمَّ اقتحم الْعَامَّة عَلَيْهِ دَاره فَقَتَلُوهُ وَقتلُوا جمَاعَة من إخْوَته وَبني عَمه ونهبوا مَا وجدوا بداره وَكَانَ شَيْئا كثيرا من المَال والأثاث وَبَقِي أُولَئِكَ الْقَتْلَى مصرعين بِفنَاء الدَّار ثَلَاثَة أَيَّام لم يدفنوا وافتتنت الْعَامَّة بِهَذَا الروكي ونسبوا لَهُ الخوارق والكرامات من غير استناد إِلَى دَلِيل وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ يستولي على الْملك وَيحكم المتمسكين بدعوته فِي الْأَمْوَال كَيفَ شاؤوا وضاعت نفوس فِي تِلْكَ الْفِتْنَة ونهبت أَمْوَال وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل وَكنت حَاضرا لهَذَا الْخطب الْعَظِيم فَكَانَ من افتتان الْعَامَّة بِهَذَا الْمَعْتُوه واعتقادهم فِيهِ وجهلهم الْمركب فِي أمره مَا لَا يكَاد يصدق بِهِ إِذا حُكيَ وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فاهتز لهَذَا الْخطب لِأَن الشَّيْطَان كَانَ قد نفخ فِي أباطيل الروكي وشاعت فِي الْعَالم حَتَّى اهتز لَهَا النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بتطاوين وَحَدثُوا أنفسهم بالفرار ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله أغراه أَخَاهُ الْمولى الرشيد فَلَمَّا سمع الروكي بمجيئه وعد أوباشه بِأَنَّهُ سينصر عَلَيْهِ وَأَن خيل السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 تكون غنيمَة لَهُ وَقَالَ لَهُم اتَّخذُوا الشكائم أَي الأرسان من الدوم وأعدوها لتقودوا بهَا خيل السُّلْطَان فَاتخذ جمع عَظِيم من الْعَامَّة الحبال والأرسان وتوشحوا بهَا تَحت الثِّيَاب وَجعلُوا يتبعُون الروكي أَيْنَمَا ذهب انتظارا لوعده وَلما قرب الْمولى الرشيد مِنْهُ أَخذ أمره فِي النُّقْصَان وناموسه فِي الْبطلَان وَلما كَانَ الْمولى الرشيد قرب سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان جعل الشكائمية يقربون من الْمحلة ويتطوفون حولهَا مختفين بالأودية والشعاب والكدى ينتظرون هزيمتها بخارق من خوارق دجالهم فَأعْلم الْمولى الرشيد بمكانهم فَبعث الْخَيل فالتقطوهم فِي سَاعَة وَاحِدَة وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وسيقوا إِلَى رِبَاط الْفَتْح فسجنوا بِهِ مُدَّة وَأما الروكي فَإِنَّهُ قصد جبل زرهون وَدخل رَوْضَة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ فَاجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَشْرَاف الأدارسة والعلويين وغلقوا أَبْوَاب الْقبَّة وَتقدم إِلَيْهِ شرِيف علوي ففتك فِيهِ وأراح النَّاس من شَره واحتزوا رَأسه وَيَده وحملوهما إِلَى السُّلْطَان فَبعث بهما إِلَى مراكش فعلقا بِجَامِع الفناء مُدَّة وَكَانَ جهلة الْعَوام لَا يصدقون بِمَوْتِهِ وبقوا ينتظرون رجعته سنتَيْن أَو ثَلَاثًا {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} الرَّعْد 33 وَكَانَ مقتل الروكي فِي أواسط شعْبَان سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلم تجَاوز مدَّته أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ مِمَّا كتبه السُّلْطَان فِي شَأْنه مَا نَصه وَبعد فَإِن فتانا من سُفْيَان مرق من الدّين وَفتن بِأُمُور شيطنته من اغْترَّ بِهِ من الْمُسلمين وَجمع عَلَيْهِ أوباشا من أَمْثَاله وَأَضْرَابه وأشكاله وَتقدم بهم لدار خديمنا ابْن عودة فَقَتَلُوهُ ثمَّ تقدم بهم للشراردة فقاتلوه ثمَّ تقدم بهم لزاوية مَوْلَانَا إِدْرِيس فقاتله أَهلهَا قتالا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَلم يحصل لَهُم من قِتَاله ضجر ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وعلقوا رَأسه بِبَاب الزاوية الْمُسَمّى بِبَاب الْحجر وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب بعد ذَلِك على من دخل مَعَه من أَتْبَاعه وأنصاره وأشياعه فقبضوا عَلَيْهِم وجعلوهم فِي السلَاسِل والأغلال وَنحن على نِيَّة إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِم إِن شَاءَ الله جَزَاء وفَاقا على مَا ارتكبوه من الْفساد وقبيح الْأَعْمَال وَمن كَانَ مِنْهُم حِينَئِذٍ خَارِجا عَن الْبَاب تخطفته الْأَيْدِي وجنوا ثمار مَا سعوا فِيهِ من الْبَغي والتعدي وَقطع دابر جَمِيعهم فَالْحَمْد لله حق حَمده وَمَا كل نعْمَة إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 من عِنْده وأعلمناكم لِتَكُونُوا على بَصِيرَة إِذْ رُبمَا يبلغ المرجفون على عَادَتهم النَّازِلَة على غير وَجههَا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر شعْبَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بعرب الرحامنة لما كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله بِبِلَاد الغرب مشتغلا بِأَمْر الإصبنيول وحربه على تطاوين ثار عرب الرحامنة بالحوز وعمدوا إِلَى سوق الْخَمِيس بمراكش فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوه وسلبوا الْمَارَّة وأرباب الجنات وضايقوا أهل مراكش حَتَّى منعوهم من الارتفاق حول الْمَدِينَة فَانْقَطَعت السبل وَارْتَفَعت الأسعار وَقطع الرحامنة مَا حول الأسوار من الْأَشْجَار واحتطبوها وحصدوا الزروع فِي الفدن واغتصبوها وَاشْتَدَّ الْحصار وتخاذلت الْأَنْصَار ودام الْحَال إِلَى أَن فرغ السُّلْطَان رَحمَه الله من حَرْب الإصبنيول وفتنة الروكي فَوجه وجهته إِلَى مراكش فَلَمَّا قرب مِنْهَا تحزب الرحامنة وَأَجْمعُوا على حربه فانحازوا إِلَى نَاحيَة الرميلة والأودية وزاوية ابْن ساسي ليحولوا بَينه وَبَين الدُّخُول إِلَى مراكش فهجم عَلَيْهِم وأوقع بهم وقْعَة سيقوا بهَا بعد سَاعَة إِلَى مراكش مُقرنين فِي الحبال حَتَّى ضَاقَتْ بهم السجون وَلَوْلَا أَنه رَحمَه الله كف أَيدي الْجَيْش عَنْهُم لاستأصلوهم ثمَّ عَفا عَنْهُم بعد أَن انتزع مِنْهُم بِلَاد آيت سَعَادَة وغواطم والأودية وَهِي من أخصب الْبِلَاد وأزكاها وَكتب السُّلْطَان فِي هَذِه الْوَقْعَة لِأَخِيهِ الْمولى الرشيد بِكِتَاب مختوم عَلَيْهِ بالخاتم الْكَبِير بن الِافْتِتَاح وَالْخطاب وبداخل الْخَاتم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن غفر الله لَهُ وبدائرته (وَمن تكن برَسُول الله نصرته ... إِن تلقه الْأسد فِي آجامها تجم) {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} هود 88 وبأركان الْخَاتم الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 مُحَمَّد أَبُو بكر عمر عُثْمَان عَليّ وَنَصّ الِافْتِتَاح الْحَمد لله الَّذِي تدارك الْأمة باللطف الْكَفِيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الَّذين نصروا الدّين بالصفاح والأسنة وأوضحوا أَحْكَام السّنة أخانا الْأَعَز الأرضى مولَايَ الرشيد أصلحك الله وأعانك وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما تَوَاتَرَتْ الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها بِمَا ارْتَكَبهُ ظالموا أنفسهم الرحامنة من أَنْوَاع الْفساد الَّتِي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وَقد كَانَت فِي صُدُورهمْ كامنة صرفنَا الوجهة إِلَيْهِم وطوينا المراحل من أَجلهم وَلما حللنا ببلادهم أرسلنَا عَلَيْهِم سيل العرم من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أَتَوا برؤوس مِنْهُم كَثِيرَة مَحْمُولَة على أسنة الرماح وأسارى من مُقَاتلَتهمْ مجردين من الثِّيَاب وَالسِّلَاح وَمن نجى مِنْهُم رَجَعَ مُجَردا إِلَّا من خيبة سَعْيه وَمَا سقِِي إِلَّا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على جَمِيع مَا كَانَ عِنْد أهل الْفساد وَمن الْمَعْلُوم أَن من سل سيف الْبَغي يعود إِلَى نَحره وَمن ركب متن الشقاق يغرق فِي بحره وَأَن الْفِتْنَة نَار تحرق من أوقدها والمخالفة صَفْقَة تعود بالخسارة على من عقدهَا وَلما أردنَا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت مَا بَقِي من رماد أَثَرهم تعلقوا بالمرابطين من ذَوي الوجاهات وَأَكْثرُوا من الذَّبَائِح على الْمحَال وتوجيه العارات وَقَامُوا بِوَاجِب السّمع وَالطَّاعَة فِي كل مَا أمرناهم بِهِ جهد الِاسْتِطَاعَة فأبقينا عَلَيْهِم وَإِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا بحول الله لَهَا وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة فَالْحَمْد لله الَّذِي خيب آمالهم وأبطل أَعْمَالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أَبْصَارهم وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الْأَمْوَال وَقطع الرّقاب {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} الْأَنْفَال 13 ونعوذ بِاللَّه من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة وَسُوء الْفِعْل الَّذِي يُورد المهالك والحرمان الَّذِي يَجْعَل الْبَصِير كالأعمى فِي دجنة اللَّيْل الحالك هَذَا ويصلكم مَا قطع من رُؤُوس قتلاهم لتتعلق بِبَاب الْمَدِينَة وَيعْتَبر بهَا المعتبرون ويتذكر بهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 المتذكرون وَالله أسأَل أَن لَا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا طرفَة عين وَلَا أقل من ذَلِك وَأَن يكون لنا وللمسلمين بِمَا كَانَ لأوليائه وأحبائه وأصفيائه وَأَن يوفقنا وإياهم لما يُحِبهُ ويرضاه وَيخْتم للْجَمِيع بِخَير وَالسَّلَام فِي ذِي الْحجَّة الْحَرَام عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَمن تَمَامه وَأَن علقت يَوْمًا وَاحِدًا فادفعها لحملتها وَلَا بُد ليتوجهوا بهَا إِلَى مكناسة صَحَّ بِهِ اهـ نَص الْكتاب الشريف وَفِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف سَافر شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز محبوبة السلاوي إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج فوافته منيته بِمَكَّة المشرفة بعد الْفَرَاغ من الْحَج وَالْعمْرَة وَدفن بالمعلاة وَكَانَ رَحمَه الله وَاعِيَة دراكة نفاعة كثير الدَّرْس وَالتَّقْيِيد والنسخ للكتب الْمُعْتَبرَة فصيح الْعبارَة حسن النغمة وَالصَّوْت عَارِفًا بِالْحَدِيثِ دؤوبا على سرده عَارِفًا بالنحو وَالْفِقْه وعلوم الْآلَة لازمناه وانتفعنا بِهِ وعادت علينا بركاته رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَكنت رثيته بقصيدة ذهبت فِي جملَة مَا ذهب من شعري إِذْ لم يكن لي اعتناء بتقييده ومطلعها (مُلَازمَة التذْكَار تذْهب باللب ... وتغري قديم الوجد بالهائم الصب) وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم السبت الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا كَانَت هدة البارود بمراكش وَذَلِكَ أَنه كَانَ بِجَامِع الفناء مِنْهَا فندق فِي بعض بيوته نَحْو أَرْبَعمِائَة قِنْطَار من البارود وَبِه أَيْضا شَيْء من فَحم الريش الْمُتَّخذ للبارود فَوَقَعت فِيهِ نَار وسرت مِنْهُ إِلَى البارود فنفض وَقت الْغُرُوب من الْيَوْم الْمَذْكُور وَالنَّاس كَثِيرُونَ حول الفندق فطار الفندق بِمَا فِيهِ وَكَانَت حيطانه عَادِية وطار من كَانَ حوله من النَّاس قيل نَحْو الثلاثمائة فَمنهمْ من لم يُوجد أصلا وَمِنْهُم من وجد بعضه من يَد أَو رجل وَنَحْو ذَلِك وتهدمت كل دَار كَانَت متلاشية بمراكش وانخلعت الأقفال من الْأَبْوَاب وصرصرت السقوف والحيطان وَكَانَ الْحَادِث عَظِيما وَفِي هَذِه السّنة ورد يَهُودِيّ من اللوندرة على السُّلْطَان بمراكش يطْلب مِنْهُ الْحُرِّيَّة ليهود الْمغرب وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 لما كَانَت وقْعَة تطاوين ودهم النَّاس مَا دهمهم من أَمر الحمايات وَأكْثر من تعلق بهَا الْيَهُود لم يقتصروا على ذَلِك وراموا الْحُرِّيَّة تشبها بيهود مصر وَنَحْوهَا فَكَتَبُوا إِلَى يَهُودِيّ من كبار تجارهم باللوندرة اسْمه روشابيل وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيّ قَارون زَمَانه وَكَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة فِي دولة النجليز لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج إِلَيْهِ فيسلفها الْأَمْوَال الطائلة وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَشْهُورَة فَكتب يهود الْمغرب إِلَيْهِ أَو بَعضهم يَشكونَ إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من الذلة وَالصغَار وَيطْلبُونَ مِنْهُ الوساطة لَهُم عِنْد السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الإنعام عَلَيْهِم بِالْحُرِّيَّةِ فعين هَذَا الْيَهُودِيّ صهرا لَهُ للوفادة على السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الْغَرَض وَفِي غَيره وأصحبه هَدَايَا نفيسة وَسَأَلَ من دولة النجليز أَن يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان ويكتبوا لَهُ فِي قَضَاء غَرَضه فَفَعَلُوا وَقدم على السُّلْطَان بمراكش وَقدم هداياه وَسَأَلَ تَنْفِيذ مطلبه فتجافى السُّلْطَان رَحمَه الله عَن رده مخفقا وَأَعْطَاهُ ظهيرا فتمسك بِهِ الْيَهُودِيّ يتَضَمَّن صَرِيح الشَّرْع وَمَا أوجب الله لَهُم من حفظ الذِّمَّة وَعدم الظُّلم والعسف وَلم يعطهم فِيهِ حريَّة كحرية النَّصَارَى وَنَصّ الظهير الْمَذْكُور بالطابع الْكَبِير بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم نأمر من يقف على كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وأطلع فِي سَمَاء الْمَعَالِي شمسه المنيرة وبدره من سَائِر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أَعمالنَا أَن يعاملوا الْيَهُود الَّذين بِسَائِر إيالتنا بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من نصب ميزَان الْحق والتسوية بَينهم وَبَين غَيرهم فِي الْأَحْكَام حَتَّى لَا يلْحق أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة من الظُّلم وَلَا يضام وَلَا ينالهم مَكْرُوه وَلَا اهتضام وَأَن لَا يتعدوا هم وَلَا غَيرهم على أحد مِنْهُم لَا فِي أنفسهم وَلَا فِي أَمْوَالهم وَأَن لَا يستعلموا أهل الْحَرْف مِنْهُم إِلَّا عَن طيب أنفسهم وعَلى شَرط توفيتهم بِمَا يستحقونه على عَمَلهم لِأَن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَنحن لَا نوافق عَلَيْهِ لَا فِي حَقهم وَلَا فِي حق غَيرهم وَلَا نرضاه لِأَن النَّاس كلهم عندنَا فِي الْحق سَوَاء وَمن ظلم أحدا مِنْهُم أَو تعدى عَلَيْهِ فَإنَّا نعاقبه بحول الله وَهَذَا الْأَمر الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وأوضحناه وبيناه كَانَ مقررا ومعروفا محررا لَكِن زِدْنَا هَذَا المسطور تقريرا وتأكيدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 ووعيدا فِي حق من يُرِيد ظلمهم وَتَشْديد ليزِيد الْيَهُود أمنا إِلَى أَمنهم وَمن يُرِيد التَّعَدِّي عَلَيْهِم خوفًا إِلَى خوفهم صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان الْمُبَارك عَام ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما مكنهم السُّلْطَان من هَذَا الظهير أخذُوا مِنْهُ نسخا وفرقوها فِي جَمِيع يهود الْمغرب وَظهر مِنْهُم تطاول وطيش وَأَرَادُوا أَن يختصوا فِي الْأَحْكَام فِيمَا بَينهم لَا سِيمَا يهود المراسي فَإِنَّهُم تحالفوا وتعاهدوا على ذَلِك ثمَّ أبطل الله كيدهم وَخيَّب سَعْيهمْ على أَن السُّلْطَان رَحمَه الله لما أحس بطيش الْيَهُود عقب ذَلِك الظهير بِكِتَاب آخر بَين فِيهِ المُرَاد وَأَن ذَلِك الْإِيصَاء إِنَّمَا هُوَ فِي حق أهل الْمُرُوءَة وَالْمَسَاكِين مِنْهُم المشتغلين بِمَا يعنيهم وَأما صعاليكهم المعروفون بِالْفُجُورِ والتطاول على النَّاس والخوض فِيمَا لَا يَعْنِي فيعاملون بِمَا يستحقونه من الْأَدَب وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرِّيَّة الَّتِي أحدثها الفرنج فِي هَذِه السنين هِيَ من وضع الزَّنَادِقَة قطعا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم إِسْقَاط حُقُوق الله وَحُقُوق الْوَالِدين وَحُقُوق الإنسانية رَأْسا أما إِسْقَاطهَا لحقوق الله فَإِن الله تَعَالَى أوجب على تَارِك الصَّلَاة وَالصَّوْم وعَلى شَارِب الْخمر وعَلى الزَّانِي طَائِعا حدودا مَعْلُومَة وَالْحريَّة تَقْتَضِي إِسْقَاط ذَلِك كَمَا لَا يخفى وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الْوَالِدين فلأنهم خذلهم الله يَقُولُونَ إِن الْوَلَد الْحَدث إِذا وصل إِلَى حد الْبلُوغ وَالْبِنْت الْبكر إِذا بلغت سنّ الْعشْرين مثلا يفْعَلَانِ بأنفسهما مَا شاءا وَلَا كَلَام للْوَالِدين فضلا عَن الْأَقَارِب فضلا عَن الْحَاكِم وَنحن نعلم أَن الْأَب يسخطه مَا يرى من وَلَده أَو بنته من الْأُمُور الَّتِي تهتك الْمُرُوءَة وتزري بِالْعرضِ سِيمَا إِذا كَانَ من ذَوي البيوتات فارتكاب ذَلِك على عينه مَعَ مَنعه من الْكَلَام فِيهِ مُوجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الإنسانية فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان كرمه وشرفه بِالْعقلِ الَّذِي يعقله عَن الْوُقُوع فِي الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وَبِذَلِك تميز عَمَّا عداهُ من الْحَيَوَان وَضَابِط الْحُرِّيَّة عِنْدهم لَا يُوجب مُرَاعَاة هَذِه الْأُمُور بل يُبِيح للْإنْسَان أَن يتعاطى مَا ينفر عَنهُ الطَّبْع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وَغير ذَلِك إِن شَاءَ لِأَنَّهُ مَالك أَمر نَفسه فَلَا يلْزم أَن يتَقَيَّد بِقَيْد وَلَا فرق بَينه وَبَين الْبَهِيمَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 الْمُرْسلَة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد هُوَ إِعْطَاء الْحق لإِنْسَان آخر مثله فَلَا يجوز لَهُ أَن يَظْلمه وَمَا عدا ذَلِك فَلَا سَبِيل لأحد على إِلْزَامه إِيَّاه وَهَذَا وَاضح الْبطلَان لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَمَا ميز الْإِنْسَان بِالْعقلِ إِلَّا ليحمله هَذِه التكاليف الشَّرْعِيَّة من معرفَة خالقه وبارئه والخضوع لَهُ لتَكون لَهُ بهَا الْمنزلَة عِنْد الله فِي العقبى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْأَحْزَاب 72 الْآيَة وَاعْلَم أَن الْحُرِّيَّة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه وَبَينهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته وحررها الْفُقَهَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي بَاب الْحجر من كتبهمْ فراجع ذَلِك وتفهمه ترشد وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كمل بِنَاء الدَّار الفيحاء الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله بآجدال من ظَاهر رِبَاط الْفَتْح بجوار ضريح جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهِي دَار كَبِيرَة حَسَنَة الْبناء وَاسِعَة المقاعد والفناء يُقَال إِنَّهَا من أَخَوَات بديع الْمَنْصُور وَلما كمل بناؤها أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يخْتم فِيهَا فُقَهَاء رِبَاط الْفَتْح صَحِيح البُخَارِيّ أَولا وفقهاء سلا ثَانِيًا فدخلناها فِي جُمْلَتهمْ وتقصينا منازلها ومقاعدها فَرَأَيْنَا مَا مَلأ أبصارنا حسنا وإتقانا وَعَجِيب صَنْعَة وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف حدثت فتْنَة بفاس وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا فِي صَلَاة الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين خَامِس ربيع الأول وَكَانَ فيهم التَّاجِر الأمجد أَبُو عبد الله حبيب بن هَاشم بن جلون الفاسي فَلَمَّا سجد مَعَ النَّاس شدخ بعض اللُّصُوص رَأسه بِحجر كَبِير من أَحْجَار التَّيَمُّم الَّتِي تكون بِالْمَسْجِدِ ثمَّ انحنى عَلَيْهِ بخنجر كَانَ بِيَدِهِ فَقطع بِهِ صفاق بَطْنه وساوره التَّاجِر الْمَذْكُور وَمَا بالعير من قماص وَلما وَقعت الضجة قطع النَّاس صلَاتهم وَخَرجُوا فارين من الْمَسْجِد وَتركُوا ثِيَابهمْ ونعالهم ومصاحفهم وَغير ذَلِك فَقَائِل يَقُول إِن الإِمَام الْمهْدي قد خرج وَآخر يَقُول إِن النَّاس يذبح بَعضهم بَعْضًا فِي الْجَامِع واهتزت الْمَدِينَة ثمَّ تراجع النَّاس بعد حِين وَأما اللص فَإِنَّهُ خرج شاهرا سلاحه حَتَّى وصل إِلَى بَاب الْمَسْجِد فكثره النَّاس وقبضوا عَلَيْهِ وانتزعوا السِّلَاح من يَده وكشفوه فَإِذا بِهِ قد أدَار حِبَالًا كَثِيرَة من تَحت الثِّيَاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 على بدنه وقاية لَهُ فَقَتَلُوهُ هُنَالك وَبَقِي التَّاجِر ابْن جلون يعالج جراحاته إِلَى أَن مَاتَ من آخر اللَّيْل واتهم أولياؤه نَاسا من أَعْيَان فاس بِأَنَّهُم أغروا بقتْله وَلم يثبت ذَلِك وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان رَحمَه الله قَائِد جَيْشه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وعامل سلا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سعيد السلاوي باشدورين إِلَى دولة فرنسا بباريس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك مَا أَخْبرنِي بِهِ الْقَائِد أَبُو عبد الله بن سعيد الْمَذْكُور قَالَ كَانَ سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد أصحبنا كتابا إِلَى طاغية الفرنسيس وأمرنا بالْكلَام مَعَه فِي شَأْن هَؤُلَاءِ النواب الَّذين يَبْعَثهُم إِلَى الْمغرب وَأَن يكون ينتخبهم من بيُوت الْأَعْيَان وَمِمَّنْ يَتَّصِف بالتأني وَحسن السِّيرَة وَالْوُقُوف عِنْد مَا حد لَهُم وَلما وصلنا إِلَى باريس شرحنا ذَلِك للطاغية الْمَذْكُور كِتَابَة ففرح وقابلنا بمالا مزِيد عَلَيْهِ من البرور الَّذِي لَا نقدر على شَرحه مَعَ إِن إكرامنا وَالْحَمْد لله لَهُم يفوق ذَلِك فِي الصوائر وَكُنَّا توجهنا ومعنا خُيُول وَغَيرهَا وأقمنا بباريس شهرا وَكَانَ مقامنا بدار كَثِيرَة الْفرش والأثاث من الْفضة والمعدن ووكل بِنَا أَمِين يصير علينا حسب نَظرنَا وقومة يباشرون فرش الْمنزل وتنظيفه وَغير ذَلِك ومعنا أَصْحَابنَا وطباخنا إِلَّا أَنهم منعزلون بِمحل يخصهم وَفِي كل يَوْم تستدعينا الدولة للفرجة بِمحل يُسمى التياترو فِيهِ مواعظ وَحكم لمن تبصر ومتعة للنَّفس لمن كَانَ حَظه النّظر وَقد أكرمنا الطاغية بمنزله وَأَكْرمنَا الوزراء وعامل الْبَلَد والأعيان لَيْلًا وكل وَاحِد يجمع علينا أَعْيَان الدولة وَأهل الْبَلَد نسَاء ورجالا وعادتهم عِنْد دخولك الْمنزل أَن تحيي الزَّوْجَة وَمن مَعهَا بِالسَّلَامِ أَولا ثمَّ بعد ذَلِك تحيي الرجل ورأينا من الطاغية ووزيره على الْأُمُور البرانية من البرور والبشاشة مَا جَاوز الْحَد وَطلب منا هَذَا الطاغية أَن نبحث لَهُ فِي كتب التَّارِيخ بالمغرب هَل نعثر على تَارِيخ بِنَاء رومة وَفِي أَي وَقت بنيت وَاسم بانيها ونبعث بِهِ إِلَيْهِ اهـ كَلَام الْعَامِل الْمَذْكُور وَهُوَ حفظه الله من أمثل النَّاس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وأعدلهم وأتقاهم وَله الْمنزلَة الْكَبِيرَة عِنْد السُّلْطَان وَعند النَّاس حرس الله مجادته وأدام بمنه عافيته وسلامته وَنَصّ الْكتاب الَّذِي وجههم بِهِ السُّلْطَان رَحمَه الله مَكْتُوبًا فِيهِ اسْم السُّلْطَان بداخل الطابع الشريف بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم من عبد الله المتَوَكل على الله الْمُفَوض أمره إِلَى الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ بالمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَفقه الله أدام الله نَصره وزين بالخيرات عصره إِلَى الْمُحب الَّذِي حل من مَرَاتِب الرياسة أسناها وَحَازَ من خِصَال التَّقَدُّم أقصاها وَأَدْنَاهَا فَأَصْبَحت ألسن الرؤساء لهجة بِذكرِهِ مفصحة بِتَسْلِيم نتائج فكره ملك الممالك الفرنساوية السُّلْطَان نابليون الثَّالِث بونابارتي أما بعد فموجب تَحْرِير هَذَا المسطور إِلَيْكُم إعلامكم بِمَا تضمنه الْفُؤَاد من خَالص الْمحبَّة وَحفظ الوداد وإننا مسرورون بِمَا يَتَجَدَّد لدينا كل وَقت من عقد أَسبَابهَا وَمَا يظْهر كل حِين من تشييد أَرْكَانهَا وَفتح أَبْوَابهَا فَإِن محبتنا مَعكُمْ الشخصية زَادَت على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد الأسلاف وَذَلِكَ لما جبلتم عَلَيْهِ من صفاء الطوية وَحسن الائتلاف فَإِن الْقُلُوب فِي الوداد تتضاهى وَمَا بني على أصل وثيق كَانَ جَدِيرًا بِأَن يعظم ويتناهى وبموجب ذَلِك عينا للسفارة إِلَيْكُم خَالنَا الأرضى الأنجد الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وَهُوَ أحد باشات جيشنا وَمن كبراء رجال دولتنا مَعَ مَا تشرف بِهِ من قرَابَة الرَّحِم لدينا وَمَعَهُ خديمنا الأرضي الْأمين الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد قَائِد سلا وَهُوَ عندنَا أَيْضا بِالْمَكَانِ المكين لما تخلق بِهِ من الْأَدَب وَالْعقل الرصين وَالْغَرَض من توجيههما تَجْدِيد الْعَهْد بكم والحرص على مُوالَاة المواصلة مَعكُمْ لما فِي ذَلِك من تَأْكِيد أَسبَاب الْمحبَّة بَين الدولتين وتمهيد طَرِيق الْخَيْر بَين الإيالتين وَالظَّن بشيمتكم مقابلتهم بِحسن الْقبُول وتبليغهم فِي وجهتهم غَايَة المأمول جَريا على عادتكم الْقَدِيمَة وسلوكا على طريقتكم القويمة وَقد حملناهم مَا فِي خاطرنا من أُمُور السياسة الجالبة لمصَالح الْجَانِبَيْنِ مَا يقررونه لديكم ويعرضونه عَلَيْكُم فَفِي أخبارهم كِفَايَة وأوصيناهم بِحسن الِاسْتِمَاع لما تلقونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 إِلَيْهِم وَالْأَدب فِي تلقي مَا تعرضونه عَلَيْهِم كَمَا أننا نتحقق أَنكُمْ لحسن معاملتكم ومزيد محبتكم توصون نوابكم الَّذين توجهونهم للْخدمَة بإيالتنا السعيدة بِحسن الْمُعَامَلَة والتقصي فِي ترحيب الصَّدْر والمجاملة وَالْوُقُوف عِنْد الشُّرُوط وَالْعَمَل بمقتضاها والتمام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ وَاعْلَم أَن هَذَا الْكتاب بديع فِي بَابه غَرِيب فِي منواله قد اشْتَمَل من التوريات والنكات ومقتضيات الْأَحْوَال على مَا يشْهد لمنشئه بالمعرفة والمهارة والبصيرة والبصارة رَحمَه الله وَفِي شَوَّال من هَذِه السّنة مرض السُّلْطَان رَحمَه الله مَرضا شَدِيدا أشرف مِنْهُ على الْهَلَاك بل أشاع المرجفون أَنه قد هلك واضطربت أَحْوَال الرّعية وَعَاد أَعْرَاب الْبَادِيَة إِلَى العيث فِي الطرقات واستلاب النَّاس بهَا من الْمَارَّة وَغَيرهم وحاصر عرب عَامر مَدِينَة سلا وعاثوا فِي جناتها وَمنعُوا الدَّاخِل إِلَيْهَا وَالْخَارِج مِنْهَا وغلقت الْأَبْوَاب وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى عيد الْأَضْحَى ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بإبلال السُّلْطَان وإفاقته من علته وَكَانَت علته الدَّاء الْمَعْرُوف بالخوانق بلغ بِهِ إِلَى حد الْيَأْس والإشراف ثمَّ تدارك الله الْمُسلمين بِلُطْفِهِ وَمن على إمَامهمْ بعافيته فأعملت المفرحات والولائم فِي جَمِيع الْأَمْصَار قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس مَا ملخصه لما أَفَاق السُّلْطَان رَحمَه الله من علته هَذِه كتب حجاب الحضرة ووزراؤها لِابْنِهِ الْخَلِيفَة الْمُنْتَصر بِاللَّه أبي عَليّ الْمولى حسن بن مُحَمَّد يهنئونه بعافية السُّلْطَان فَأمر هَذَا الْخَلِيفَة أعزه الله بِإِخْرَاج المدافع والأنفاض حَتَّى اهتزت الْجبَال ثمَّ دَعَا أيده الله النَّاس الدعْوَة الحفلا فَلم يتَخَلَّف مِمَّن كَانَ بمراكش أحد من الْعُقَلَاء فَأمر أيده الله بتهيئة جنان رضوَان ففتحت أبوابه وفرشت قصوره وقبابه وفجرت أنهاره حَتَّى تفتقت أزهاره وَحضر وُجُوه الدولة وأعيانها ورؤساء الْقَبَائِل وأقيالها وَكَانَ ذَلِك بأثر عيد الْأَضْحَى قبل انْفِصَال وُفُود الْعِيد عَن الحضرة ثمَّ انْدفع عَلَيْهِم من الدَّار المولوية من سيول مَوَائِد الطَّعَام الفاخر مَا عَم الأول مِنْهُم وَالْآخر هَذَا للعامة الْمُطلقَة والأوزاع الملفقة وَأما الْخَواص وَالْوُجُوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 فَلهم الْحَظ الأوفر من الْعِنَايَة وَالْخطاب بِصَرِيح الترحيب دون كِنَايَة بالقعود على الْفرش الحريرية المذهبة والمقاعد الْعَالِيَة المطنبة والرش بمياه الأزهار ومباخر الطّيب وكل معنى لطيف ومنظر عَجِيب وَقد أحضر كل وَاحِد مَا شَاءَ من آلَات اللَّهْو والفرح على حسب مَا اشْتهى واقترح فَلَا تكَاد تسمع فِي تِلْكَ الْمجَالِس والمغاني إِلَّا أصوات المثالث والمثاني وضروب الألحان والأغاني وَاسْتمرّ النَّاس فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام وَالْمولى الْخَلِيفَة أعزه الله مَعَ إخْوَته وَبني عَمه فِي الْقبَّة المحمدية الصويرية المشرفة على مجاري الْخَيل وملاعبها ومطاردها ومتاعبها وكل عَشِيَّة يركب من بالحضرة من الْوُجُوه والأكابر على عتاق الْخَيل والجياد الضوامر ويبدي مَا عِنْده من الثقافة والفروسية مَعَ إِظْهَار الشارة المخزنية والأبهة الملوكية ثمَّ بعد هَذَا شرع كبار الدولة ووجوهها ورؤساؤها وقوادها فِي انتخاب الصَّنَائِع والولائم كل على حسب مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اخْتِيَاره واعتناؤه ثمَّ تتَابع النَّاس فِي مزهاتهم وَإِظْهَار أبهاتهم وانتخاب دواعي الأفراح ومقتضيات الازدهاء والانشراح فَمَا يمر اُحْدُ ببستان إِلَّا ويجد بِهِ جمَاعَة زاهية وَطَائِفَة منبسطة لاهية اهـ وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ بالمغرب جَراد سد الْأُفق وَذَلِكَ فِي ربيع الأول الْمُوَافق لشهر مارس العجمي فَأكل النَّجْم وَالشَّجر ثمَّ عقبه فرخه الْمَعْرُوف بآمرد فَأكل كل خضراء على وَجه الأَرْض واستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها وفاض فِي الْأَمْصَار حَتَّى دخل على النَّاس فِي بُيُوتهم وَفِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الغلاء المفرط بالمغرب الَّذِي لم يتَقَدَّم مثله بلغ فِيهِ الرّبيع وَهُوَ ربع ثمن الْمَدّ بسلا ورباط الْفَتْح سِتِّينَ أُوقِيَّة وَبَاعَ النَّاس أثاثهم وحليهم بالبخس وَكَانَ الْأَمر شَدِيدا على الضُّعَفَاء وَفِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة توفّي الْقَائِد الْأَجَل أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَ من كبار قواد الْمغرب وَأهل الْبَذْل والإيثار وَالْمَعْرُوف لَهُ فِي ذَلِك أَخْبَار مَذْكُورَة رَحمَه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين على نَحْو مَا وصفناه فِي السنين الْمَاضِيَة وَفِي زَوَال يَوْم الْأَحَد الْحَادِي عشر من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة الْوَرع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور وَدفن بالجبانة الْمُتَّصِلَة بضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت لهَذَا القَاضِي سيرة حَسَنَة وَعدل فِي الْأَحْكَام وتأن فِيهَا مَعَ سمت ومروءة وانقباض رَحمَه الله وَبقيت سلا بِلَا قَاض أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى وَقع اخْتِيَار السُّلْطَان على شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أبي بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بِضَرْب الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وحاول ضبط السِّكَّة بِهِ وَحمل النَّاس على أَن لَا يذكرُوا فِي معاملاتهم وأنكحتهم وَسَائِر عقودهم إِلَّا الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وشدد فِي ذَلِك وَكتب فِيهِ إِلَى وُلَاة الْأَمْصَار يَقُول فِي كِتَابه مَا نَصه وَبعد فَإِن أَمر السِّكَّة من الْأُمُور الْوَاجِبَة الْمُتَعَيّن رد البال إِلَيْهَا والاهتمام بشأنها وَالنَّظَر فِيمَا يصدر بِسَبَبِهَا من النَّفْع وَالضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم وَقد كَانَ أسلافنا رَحِمهم الله اعتنوا كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها وَدفع مفاسدها وجعلوها على قدر شَرْعِي مَعْلُوم لضبط أمرهَا والتبرك بِتِلْكَ النِّسْبَة إِذْ بذلك يعلم الْمُسلم علم يَقِين كَمَال النّصاب عِنْده فَتجب عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاة الَّتِي هِيَ من دعائم الْإِسْلَام أَو عدم كَمَاله فَلَا يكون مُخَاطبا فِي بِشَيْء وَلما رَأينَا مَا حدث فِيهَا من التَّغَيُّر وَعدم الضَّبْط وَنَشَأ عَن ذَلِك من الضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم مَا لم يخف على أحد اقْتضى نَظرنَا السديد ردهَا لأصلها الْأَصِيل الَّذِي أسسه أسلافنا الْكِرَام سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف أذلنا فيهم أُسْوَة حَسَنَة فِي الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل فَرددْنَا الدِّرْهَم الْكَبِير المسلوك على وزن الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ والمنهاج المرعي كَمَا كَانَ على عهد جدنا سَيِّدي الْكَبِير قدسه الله وجدد عَلَيْهِ وابل رحماه بِحَيْثُ تكون عشرَة دَرَاهِم مِنْهُ هِيَ المثقال كَمَا هُوَ مَعْلُوم إِن عشرَة دَرَاهِم من الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَت تروج قبل على عهد أسلاقنا رَحِمهم الله هِيَ المثقال وَبِهَذَا الْعدَد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 الَّذِي هُوَ عشرَة مِنْهُ فِي المثقال تكون جَمِيع الْمُعَامَلَات والمخالطات فِي البيع والابتياع وَغَيرهمَا بَين جَمِيع رعيتنا السعيدة فِي كل الْبَوَادِي والحواضر وَبِه أمرنَا جَمِيع الْعمَّال وَمن هُوَ مُكَلّف بِعَمَل من الْأَعْمَال وإشاعته ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَبِه يقبل لجَانب المَال وأمرناهم بِالْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمر الَّذِي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وَأَن يعاقبوا كل من عثروا عَلَيْهِ ارْتكب خلاف ذَلِك وَبِأَن يسلكوا بِهِ أضيق المسالك جَزَاء وفَاقا على مُخَالفَته وتعديه الْحَد وافتياته نعم مَا سلف من الْمُعَامَلَات بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا فِيمَا تقدم قبل تَارِيخ هَذَا الْكتاب فَحكمه حكم مَا تقدم فِي السِّكَّة فَلَا يُكَلف أحد بِزِيَادَة وَمن كَانَ بِذِمَّتِهِ شَيْء فِيمَا سلف يُؤَدِّيه بِحِسَاب مَا كَانَت تروج بِهِ السِّكَّة فِي الريال وَالدِّرْهَم وَالْعَمَل بِهَذَا الَّذِي أمرنَا بِهِ هُوَ من الْآن لما يسْتَقْبل إِن شَاءَ الله وَبِهَذَا يَزُول الْإِشْكَال فِيمَا تقدم بَين النَّاس فِي الْمُعَامَلَات ونسأل الله أَن يخلص الْعَمَل فِي سَبيله ومرضاته ويجازي من فَضله وَكَرمه على قَصده وَصَلَاح نياته وَالسَّلَام فِي ثامن شَوَّال عَام خَمْسَة وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس عشر من شَوَّال الْمَذْكُور توفّي الْبركَة الْخَيْر المنتسب سَيِّدي الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الدلائي الرباطي بِالدَّار الْبَيْضَاء وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بالزاوية المنسوبة إِلَيْهِ بهَا رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي هَذِه السّنة كَانَ سوق دَار البلار بباريس من أَرض افرانسا وَذَلِكَ أَن الطاغية نابليون الثَّالِث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الْكَلِمَة مَا قل اتفاقه لغيره من الْأَجْنَاس حاول أَن يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى أَن يجلب إِلَى رَعيته وَدَار ملكه كل أَمر غَرِيب فِي الْعَالم حَتَّى يجْتَمع عِنْده مَا افترق عِنْد غَيره فَكتب إِلَى مُلُوك الْآفَاق يَقُول إِنَّه قد عزم على إِقَامَة سوق بباريس فِي وَقت مَعْلُوم وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا بتجارهم لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إِلَيْهَا وقصده بذلك عُمُوم النَّفْع وتعدي الصَّنَائِع والحرف من أمة إِلَى أُخْرَى فَأجَاب الْمُلُوك داعيه بِمُقْتَضى الْعرف الْجَارِي بَين الدول وَالْعَادَة المقررة من عهد الْمُلُوك الأول وَلم يبْق إِلَّا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الْجَلِيل إِلَى الحقير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله قد بعث تاجره الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ القباج الفاسي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الْمَعْرُوف بالفرنساوي وَهَذَا الرجل من العارفين بِاللِّسَانِ الفرنجي البصيرين بعوائد ذَلِك الجيل وَلذَا لقب بالفرنساوي وَبعث مَعَه السُّلْطَان رَحمَه الله كل شَيْء غَرِيب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ قطر الْمغرب من سروج مذهبَة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وَغير ذَلِك من الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى حَتَّى الزليج الفاسي والمعلمين الَّذين يباشرون ترصيعه فِي محاله وَحضر هَذَا السُّوق الْمُلُوك فَمن دونهم من كل إقليم حَتَّى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز العثماني رَحمَه الله فَكَانَ الْحَال كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي (تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة ... فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم) وأقامت عمارتها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ انفض النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وَلما بلغ نابليون الثَّالِث إِلَى هَذِه الْغَايَة فَجِئْته وقْعَة البروس الَّتِي كسرت من شوكته وفلت من غربه وَقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ وحوصرت دَار ملكه باريس مُدَّة طَوِيلَة فَبلغ فِيهَا لحم الْحمار أَرْبَعَة ريالات افرنك لكل رَطْل على مَا قيل وَلم تغب عَنْهُم محنة وَوَقع الصُّلْح على شُرُوط مِنْهَا ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه كَانَ بِهِ دَاء الْحصْر فَدخل الميضأة الَّتِي بمشور أبي الخصيصات من دَار السُّلْطَان بِحَضْرَة مراكش فَيُقَال إِن مثانته تمزقت فَمَاتَ رَحمَه الله وَحمل إِلَى دَاره وَصلى عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة بِمَسْجِد المواسين وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير وَدفن بضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني من حومة الْقُصُور وَكَانَ رَحمَه الله ذَا جد فِي الْأُمُور ونصح للسُّلْطَان وللمسلمين وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي مِنْهَا خسف الْقَمَر خسوفا كليا بعد الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي فجر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الناسك السّني أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب ابْن الشَّيْخ الْأَشْهر مولَايَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَدفن بِمحل زاويته بآمجوط من بِلَاد بني زروال وَكَانَ من خِيَار عبد الله على غَايَة من التَّقْوَى والورع والتواضع من النَّاس يركب الْحمار ويلبس الْجُبَّة وَلَا يتَمَيَّز عَن أَصْحَابه بِشَيْء مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَعدم الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي والإعراض عَن زهرَة الدُّنْيَا وَأَهْلهَا رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة انكسفت الشَّمْس وَكَانَ ابْتِدَاء الْكُسُوف على مَا أعطَاهُ التَّعْدِيل بعد الزَّوَال بِنَحْوِ نصف سَاعَة وَكَاد يكون كليا حَتَّى أظلم الجو وَبَقِي من الشَّمْس حَلقَة نورانية يسيرَة وَلم يُمكن تَحْقِيق وَقت التجلي لتراكم السَّحَاب وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظَهرت حمرَة فِي السَّمَاء غَرِيبَة أرجوانية مَعَ غَايَة الصحو وَكَانَ ظُهُورهَا يكون فِيمَا بَين العشاءين معظمها فِي جِهَة الشمَال ودامت كَذَلِك نَحْو سَبْعَة أَيَّام وانقطعت وَفِي لَيْلَة السبت الثَّامِن من شَوَّال من السّنة وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْهَا زلزلت الأَرْض وَلم يشْعر بهَا كثير من النَّاس لكَوْنهم نياما وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله قبائل تادلا فَمر على السماعلة منتصف رَجَب ثمَّ مِنْهُم لبني زمور ثمَّ لأبي الْجَعْد ثمَّ مِنْهُ توجه لقصبة تادلا وَعبر القنطرة وَنزل على بني عُمَيْر ثمَّ زحف لبني مُوسَى فأوقع بهم لأَنهم كَانُوا خَارِجين على عاملهم الغزواني ابْن زيدوح فَقطع مِنْهُم خمسين رَأْسا وَقبض على أَرْبَعِينَ مسجونا وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم عَلَيْهِ وَفد أهل مراكش وَكَانُوا قد ثَارُوا على عاملهم أَحْمد بن دَاوُد لكَونه كَانَ يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السُّلْطَان متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فَأَعْرض السُّلْطَان عَنْهُم وَلم يسمع مِنْهُم كلَاما وَلَا قبل لَهُم عذرا فَرَجَعُوا مخفقين ثمَّ تقدم السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى مراكش وَهُوَ غَضْبَان على أَهلهَا وَكَانُوا مظلومين فِيمَا قيل إِلَّا أَنه لبس على السُّلْطَان فِي أَمرهم فَلَمَّا شَارف الْمَدِينَة خَرجُوا إِلَيْهِ بالعلماء والقراء وصبيان الْمكَاتب متشفعين فَلم يقف لَهُم وَلَا الْتفت إِلَيْهِم وَكَانَ ابْنه وخليفته الْمولى الْحسن حَاضرا يَوْمئِذٍ فَتقدم إِلَى أهل مراكش ورق لَهُم وَقَالَ لَهُم قولا جميلا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث فِي رَمَضَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ لم يلبث ابْن دَاوُد بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى توفّي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذَلِك مرقوب وَفِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت جَائِحَة النَّار بِكَثِير من بِلَاد الْمغرب أحرقت الزروع وَالثِّمَار وأجيحت الجنات وتراجع النَّاس فِي أَثمَان مَا بيع مِنْهَا بعد إِثْبَات الموجبات وَكَانَت أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي أَولهَا شَدِيدَة بِسَبَب ظُهُور الْعَدو على الْمُسلمين وَمَا عقبه من الغلاء وَالْمَوْت ثمَّ بعد ذَلِك اتَّسع الْحَال وَحصل الْأَمْن وانخضدت شَوْكَة قبائل الْعَرَب بالمغرب وَأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدُّنْيَا ورخصت الأسعار رخصا يَسِيرا وَكَانَ النَّاس ممعشين فِي أَيَّامه وغلت الدّور والأملاك حَتَّى كَانَت فِي بعض السنين لَا تسمسر وَمن يَشْتَرِي دَارا إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بالتنقير عَنْهَا والطلب من رَبهَا بِالثّمن الجافي وَاتخذ النَّاس ذَوُو الْيَسَار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا فِي الْبُنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لَا سِيمَا بفاس ورباط الْفَتْح ولاحت على النَّاس سمة الحضارة الأعجمية وَكَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كل بلد عُيُون يَكْتُبُونَ لَهُ بِمَا يَقع من الْوُلَاة فَمن دونهم فَكَانَت الرّعية كَأَنَّهَا فِي كف يَده وَكَانَ يخْتَار أُولَئِكَ الْعُيُون من الْعَوام فَكَانُوا يَكْتُبُونَ لَهُ بالغث والسمين فَيسمع ذَلِك كُله فينتقي مِنْهُ الصَّحِيح ويطرح السقيم فاستقامت أَحْوَال الرّعية بذلك وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي زَوَال يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بداره بِحَضْرَة مراكش فِي الْبُسْتَان الْمُسَمّى بالنيل وَلم يمرض إِلَّا يَوْمًا أَو بعض يَوْم قيل إِنَّه شرب دَوَاء مسهلا فَكَانَ فِيهِ أَجله وَالله أعلم وَدفن لَيْلًا بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف قرب ضريح القَاضِي عِيَاض وَكتب على رخامة قَبره أَبْيَات لَيست من جيد الشّعْر وَهِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 (أمستعبرا حَولي رويدك إِنَّنِي ... ضريح سعيد حل فِيهِ سعيد) (هُوَ الْعلوِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد ... إِمَام لَهُ فِي الْملك سعي حميد) (أَبوهُ أَبُو زيد وَقدس ذكره ... فقد كَانَ يُبْدِي فِي العلى وَيُعِيد) (ترحم عَلَيْهِ وَاعْتبر بمصابه ... فعقد نَفِيس قد أُصِيب فريد) (وَمن رام تَارِيخ الْوَفَاة فَقل لَهُ ... بشعرك أرخ مَا عَلَيْهِ مزِيد) بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله ومآثره وَسيرَته كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله متقيا لله تَعَالَى بانيا أمره على الشَّرْع لَا يشذ عَنهُ طرفَة عين حَتَّى أَنه لما عزم على بِنَاء دَاره الَّتِي برباط الْفَتْح قَامَ جمَاعَة من أهل الْبَلَد يطْلبُونَ مِنْهُ النصفة فِي جناتهم الَّتِي هُنَالك فأذعن رَحمَه الله لإعمال الشَّرْع مَعَهم واستناب وَكيلا عَنهُ واستنابوا هم وكيلهم أَيْضا وتحاكموا لَدَى قَاضِي سلا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور ثمَّ انفصلت الْقَضِيَّة عَن ضرب من الصُّلْح بِأَن أَعْطَاهُم أَثمَان جناتهم أَو بَعْضهَا وذهبوا بِسَلام وَكَانَ رَحمَه الله حازما فِي أمره عالي الهمة راميا بهَا الْغَرَض الْأَقْصَى إِلَّا أَن الزَّمَان لم يساعده كل المساعدة فَكَانَت همته أجل من دهره وَكَانَ ذَا سياسة وسكينة وتأن فِي الْأُمُور وتبصر بالعواقب كثير الْحيَاء بعيد الْغَضَب سريع الرضى مشفقا على الرّعية متوقفا فِي الدِّمَاء لَا يزايل خوف الله قلبه رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه وَله آثَار بالمغرب مِنْهَا مَا خلده أَيَّام خِلَافَته فِي حَيَاة وَالِده وَمِنْهَا مَا فعله بعد ولَايَته فَمن آثاره فِي أَيَّام أَبِيه كَمَا قَالَ أكنسوس إِجْرَاء الْأَنْهَار وتفجير الْعُيُون الَّتِي عجز الْمُلُوك المتقدمون عَنْهَا وتكملة غرس آجدال بِحَضْرَة مراكش وَكَانَ فِي زمَان الصَّيف يَنَالهُ الجدب من قلَّة المَاء لِأَن بركه الَّتِي كَانَ يختزن بهَا المَاء كَانَت قد تعطلت بامتلائها بِالتُّرَابِ والطين الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 تجلبه السُّيُول إِلَيْهَا وَأَعْظَمهَا الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر وطولها اثْنَتَا عشرَة مائَة قدم وعرضها تِسْعمائَة قدم حَسْبَمَا أخبر من قاسها وَكَانَ تربيعها بِمَنْزِلَة سور قَصَبَة فجَاء من بني فِي وَسطهَا قَرْيَة بدورها وأزقتها وأسواقها فجَاء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله أَيَّام خِلَافَته فَأمر بِإِخْرَاج مَا فِي تِلْكَ البرك والصهاريج كلهَا وتنقيتها من الطيون المتحجرة فَاجْتمع على ذَلِك عَالم من النَّاس فكنسوها وعادت إِلَى حَالهَا الَّذِي بنيت لأَجله وَهُوَ اختزان المَاء لوقت المصيف وَبِذَلِك كمل المُرَاد من آجدال وَصَارَ آمنا من الْعَطش والأمحال وَمن ذَلِك أَيْضا إحْيَاء عين أبي عكاز خَارج بَاب الطبول من مراكش وَكَانَت لَهَا بركَة بائدة على الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا فَعمد إِلَيْهَا سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وفجر لَهَا عينا ثرة وَمَاء غدقا وأجراه إِلَى الْبركَة الْمَذْكُورَة بعد أَن أَمر بتنقيتها وإصلاحها فَعَاد ذَلِك الْبَسِيط الَّذِي حولهَا مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وَبنى رَحمَه الله حولهَا قلعة يأوي إِلَيْهَا الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم وَاتخذ هُنَالك من إناث الْخَيل الْمعدة للنتاج عددا كثيرا وَمن ذَلِك إحْيَاء عين المنارة وبركتها الْعُظْمَى الَّتِي تقرب من الْبَحْر الْأَصْغَر بدار الهناء وَكَانَت قد عطلت مُنْذُ زمَان فقيض الله لَهَا هَذَا السُّلْطَان فَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا حَتَّى أخرج مَا فِي جوفها من جبال الطين وَأصْلح مَا تشعث من حيطانها وأجرى إِلَيْهَا الْعُيُون والأنهار وَأمر بغرس مَا حولهَا من الفضاء بأنواع الْأَشْجَار وضاهى بهَا جنَّة آجدال وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الْمُسَمّى بتاركي المستمد من وَادي نَفِيس فَإِنَّهُ ضاهى بِهِ النَّهر الْقَدِيم الَّذِي هُنَاكَ وَهَذَا النَّهر الْجَدِيد أَنْفَع مِنْهُ وأوسع أحيى الله بِهِ تِلْكَ البسائط الَّتِي بَين مراكش ووادي نَفِيس وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الَّذِي جلبه من تاستاوت إِلَى الْبَسِيط الَّذِي بَين بِلَاد زمران والرحامنة والسراغنة وَهُوَ الْمُسَمّى بفيطوط فَصَارَ ذَلِك كُله رياضا مخضرة وبساتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 ذَات أزهار مفترة وَبنى رَحمَه الله فِيهَا قَصَبَة عامرة يأوي إِلَيْهَا الوكلاء والفلاحون وَصَارَت آهلة بعد أَن كَانَت بائدة غامرة وَمن آثاره بعد ولَايَته أَمر الْمُؤمنِينَ دَاره الْكُبْرَى بآجدال رِبَاط الْفَتْح والسور الْكَبِير الْمُحِيط ببسيطها وجلب المَاء إِلَيْهَا بعد أَن صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وأحيى جَامع السّنة قربهَا وَكَانَ بائدا يعشش فِيهِ الصدى والبوم وَأقَام فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس وَالْخطْبَة كل جُمُعَة وَأَحْيَا الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَالك الْمُسَمّى بِمَسْجِد أهل فاس واعتنى بِهِ وزخرف سقوفه وانتهج الطَّرِيق من الدَّار الْمَذْكُورَة إِلَى الْوَادي أَسْفَل من حسان تسهيلا على الْمَارَّة وتقريبا عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَنه نقل طَائِفَة من الْجَيْش السُّوسِي الَّذِي بالمنشية وأوطنها حول الدَّار الْمَذْكُورَة بآجدال فاستطابوا الْمقَام هُنَاكَ وَحسنت حَالهم وانعمرت بهم تِلْكَ النَّاحِيَة وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَمِنْهَا بِالدَّار الْبَيْضَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِالسوقِ وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من أحباس الْمَسْجِد الْقَدِيم وَإِنَّمَا السُّلْطَان رَحمَه الله أذن فِي بنائِهِ بِإِشَارَة عاملها يَوْمئِذٍ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَمِنْهَا الْحمام الْقَدِيم الَّذِي بهَا وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من بَيت المَال وَأصْلح رَحمَه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وَبعث من نوابه من يتفقد أحوالها وَمِنْهَا بمراكش دَار فابريكة السكر بآجدال مِنْهَا صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا طائلة وَجَاءَت على عمل متقن وهيئة ضخمة إِلَّا أَنَّهَا الْيَوْم معطلة لقلَّة الْمَادَّة وَمِنْهَا دَار فابريكة تزديج البارود بِالْمحل الْمَعْرُوف بالسجينة من مراكش أَيْضا وَمن ذَلِك برج الفنار الَّذِي على سَاحل الْبَحْر بأشقار قرب طنجة يسرج فِيهِ ضوء كثير يظْهر للسيارة فِي الْبَحْر لَيْلًا من مَسَافَة بعيدَة وصير عَلَيْهِ مَالا لَهُ بَال وَكَانَت المراكب تنشب بذلك السَّاحِل كثيرا إِذْ لم يكن لَهَا عَلامَة تهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَلما اتخذ السُّلْطَان رَحمَه الله هَذَا الفنار أمنت من تِلْكَ الآفة وَله رَحمَه الله آثَار كَثِيرَة يطول ذكرهَا جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَرفع بهَا فِي عليين درجاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الْخَبَر عَن دولة ملك الزَّمن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خلد الله ملكه لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من كبار الدولة وقواد الْجَيْش والقضاة وَالْعُلَمَاء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على بيعَة نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد لما توفر فِيهِ من شُرُوط الْإِمَامَة وتكامل فِيهِ من النجدة والشهامة والزعامة وَلما اتّصف بِهِ من الْفضل وَالدّين وَسَائِر خِصَال الْخَيْر وَأَسْبَاب الْيَقِين وَلِأَن وَالِده رَحمَه الله كَانَ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَألقى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مهماته فَنَهَضَ بأعبائها وتقلب من مغاني السَّعَادَة فِي ظلالها وأفيائها قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما اسْتخْلف الْمولى الْحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الْخلَافَة المترادفة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلَا فِي قصوره السُّلْطَانِيَّة من الحدائق والأزهار عَن وظائف الدّين وَأَسْبَاب الْيَقِين من نوافل الْخَيْر من صَلَاة وَصِيَام وتلاوة كَمَا حَدثنِي بذلك بعض بطائنه وَأَنه يجد لَهَا فِي خلواته لَذَّة وحلاوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان كَمَا قُلْنَا كَانَ الْمولى حسن أيده الله غَائِبا عَن الحضرة بِأبي ريقي من بِلَاد حَاجَة فَكتب إِلَيْهِ رُؤَسَاء الدولة بِمَا حدث من موت السُّلْطَان واجتماع النَّاس على بيعَته فَقدم مراكش فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دنا مِنْهَا خرج للقائه الوزراء والقضاة والأشراف والأعيان وَسَائِر أهل مراكش برجالهم وَنِسَائِهِمْ وصبيانهم فملؤوا تِلْكَ البطاح وَضَاقَتْ بهم الأَرْض وَأخذُوا يعزونه ويهنئونه وَهُوَ أيده الله يقف لكل جمَاعَة مِنْهُم عل حدتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان إشفاقا عَلَيْهِم وتطييبا لنفوسهم وَكَانَ يَوْم دُخُوله لحضرة مراكش يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَلما اسْتَقر بدار الْملك قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من جَمِيع الْأَمْصَار ونسلوا إِلَيْهِ من سَائِر النواحي والأقطار وكل وَفد يَأْتِي ببيعته وهديته واغتبط النَّاس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 بِمَا يسْتَحقّهُ من الْإِكْرَام وأفاض على الرّعية جلائل الإنعام وَشرع فِي تجهيز الجيوش وَفتح بيُوت الْأَمْوَال فغمر النَّاس بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَاصِدا حَضْرَة فاس وَالْوُقُوف على الرِّعَايَة وَالنَّظَر فِيهَا بِمَا يصلحها فَمر على بِلَاد السراغنة وَخرج مِنْهَا إِلَى البروج وَمِنْهَا إِلَى كيسر من بِلَاد تامسنا فاتصل بِهِ هُنَالك خبر فتْنَة أهل فاس وإيقاعهم بالأمين الْحَاج مُحَمَّد بن الْمدنِي بنيس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك على مَا قيل أَنه لما وصل خبر وَفَاة السُّلْطَان إِلَى فاس وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا على بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن أعزه الله وَاجْتمعَ أهل فاس لعقد الْبيعَة أَيْضا اشْترط عامتهم لَا سِيمَا الدباغون أَن يزَال عَنْهُم المكس فَيُقَال إِن بعض من أَرَادَ جمع الْكَلِمَة من الْعلمَاء والأعيان تكفل لَهُم بذلك عَن السُّلْطَان وَلما تمت الْبيعَة أصبح الْأمين بنيس غاديا على عمله من تَرْتِيب وكلائه لقبض الوظيف فِي الْأَسْوَاق والأبواب وَغَيرهَا فَكَلمهُ بعض أَعْيَان فاس فِي التَّأَخُّر عَن هَذَا الْأَمر قَلِيلا حَتَّى تطمئِن النُّفُوس وَيثبت الْحق فِي نصابه وَحِينَئِذٍ يُؤْتى الْأَمر من بَابه فَأبى وأصر على مَا هُوَ بصدده فثار بِهِ الْعَامَّة وهدموا دَاره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده وَأَرَادُوا قَتله فاختفى بِبَعْض الْأَمَاكِن حَتَّى سكنت الهيعة ثمَّ تسرب إِلَى حرم الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فَأَقَامَ بِهِ وَأمن على نَفسه وَكَانَت فتْنَة عَظِيمَة يطول شرحها واتصل بالسلطان وَهُوَ بكيسر أَيْضا خبر فتْنَة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وَكَانَ عاملهم يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة المراكشي ونائبه هُوَ أَحْمد بن الْمُؤَذّن الْفَرَجِيِّ من سكان آزمور وَكَانَ قَتلهمْ لَهُ تَاسِع عشر رَمَضَان من السّنة ثمَّ أَن أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بِبِلَاد تامسنا رِسَالَة بليغة يتنصلون فِيهَا من فعلة بنيس ويرمون بهَا الْعَامَّة والغوغاء وَمن لَا خلاق لَهُم وَنَصهَا الْحَمد لله وَحده الْكَرِيم الَّذِي لَا يعجل بعقوبة من ارْتكب الذَّنب وتعمده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد صَاحب الشَّفَاعَة الْكُبْرَى والجاه الْعَظِيم الْمُخَاطب بقول مَوْلَانَا فِي كِتَابه الْحَكِيم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الْقَلَم 4 وعَلى آله الَّذين أوجب الله لَهُم مَوَدَّة وحبا وَأنزل فيهم {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وَأَصْحَابه الَّذين كَانُوا أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم فَكَانَت الْمَلَائِكَة يَوْم حنين نَصرهم وعونهم هَذَا ونخص الْمقَام الَّذِي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار وَالْوَقار وعلاه الْبَهَاء وكساه وَألبسهُ الرَّسُول من رِدَاء الشّرف يَوْم كَانَ عَليّ وَفَاطِمَة والحسنان فِي دَاخل كَسَاه من ارْتقى وفَاق وساد ومهد بِهِ للخلافة المهاد والوساد وتزينت بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها بناديه وَلم تزل الْمَعَالِي تَدعُوهُ لنَفسهَا وتناديه واتخذت بيعَته جلبابا للأجياد والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أَعْيَان الدولة الشَّرِيفَة المولوية وَصدر المملكة العلوية الَّذين لم تزل سيرتهم فِي سجلات الْآثَار المحمودة مرسومة ومآثرهم فِي الدَّوَاوِين مرقومة وَألقى إِلَيْهِ هَذَا الْقطر المغربي الرسن وَحل مِنْهُ مَحل الوسن السُّلْطَان الْمُؤَيد مَوْلَانَا الْحسن سلالة الْقَوْم الَّذين زكتْ نُفُوسهم وأينعت فِي حدائق المزايا غروسهم ويسير الْمجد تَحت أَلْوِيَتهم وتتعطر الْمجَالِس بِطيب أفنيتهم لَا زَالَ السعد يراوحك ويغاديك والعز نَائِما بواديك والطعن فِي عين حاسديك والقذى فِي عين أعاديك وجعلك الله من صروف الزَّمَان فِي أَمَان وَلَا قطع الله عَن جمَاعَة الْعلمَاء جميل عادتكم وَلَا سلب الْمُسلمين ملابس سعادتكم وَرفع فِي بروج السَّعَادَة أعلامك وَمكن من رِقَاب الْأَعْدَاء حسامك وَجعل الْفَتْح أَيْنَمَا تَوَجَّهت قبالتك وأمامك وَشَرِيعَة جدك مقلدك وأمامك فِي نعْمَة طَوِيلَة الْأَعْمَار وروضة حلوة الثِّمَار أما بعد أبعد الله عَن ساحة سيدنَا كل شَرّ وَقرب مِنْهَا المحسن وَالْبر وأبقاها ملْجأ للمحتاج والمضطر فَإِنَّهُ لما ورد علينا من حَضْرَة سيدنَا الْعُظْمَى ومكانته الشما كتاب سنى مُعظم الصِّفَات والأسما بديع الْمعَانِي رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي ببراعته أَعلَى المنابر فَمن تكلم دونه فقد لَغَا بادرناه بالتقبيل وأحللناه مَحل التَّاج والإكليل فقرىء على الجم الْغَفِير وَفَرح بوروده الْكَبِير وَالصَّغِير واطمأنت بنشره النُّفُوس وارتفع بِهِ كل كدر وبوس وَتَشَوُّقِ الْحَاضِرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 لسَمَاع مَا فِيهِ وأنصت لقرَاءَته ذُو الْمُرُوءَة وَالسَّفِيه وَالْجَامِع غاص بأَهْله وكل حَال بمحله فَلَمَّا قرىء الْكتاب تبين أَن صَدره مدح وعجزه لوم وعتاب فَاشْتَمَلَ على بسط وجمال وَقبض وجلال وَجمع بَين ترغيب وترهيب فارتاب مِنْهُ كل مريب فَلَمَّا تمّ وَختم وتقرر كل مَا فِيهِ وَعلم تَفَرَّقت الْجَمَاعَات أَفْوَاجًا وارتجت الْمَدِينَة ارتجاجا وَحصل للنَّاس بذلك الْجزع وعمهم الْخَوْف والفزع وَالَّذِي أوقع النَّاس فِي ذَلِك مَا فِي الْكتاب من الْأَمر بتدارك مَا وَقع ففهموا أَن ذَلِك برد مَا ضَاعَ وَقد تفرق فِي الْآفَاق وَمَا اجْتمع وَذَلِكَ غير مُمكن كَمَا سيتبين وَالْحق أوضح وَأبين من أَن يبين على أَن الْمَقْصُود بذلك وَالْمرَاد حسم مَادَّة الْفساد لينقطع من جمَاعَة السُّفَهَاء عداؤها وَلِئَلَّا تتقد نَار الْفِتْنَة فيتعذر إطفاؤها أما مَا وَقع فِي قَضِيَّة الْحَاج مُحَمَّد بنيس حَتَّى أفْضى بِهِ الْحَال إِلَى الاحترام بمولانا إِدْرِيس وَفعل بأمكنته الْفِعْل الخسيس وليم بِسَبَبِهِ المرؤوس والرئيس حَتَّى تَوَجَّهت الْحجَّة على مسموع الْكَلِمَات إِذْ هِيَ متوجهة من جِهَات فقد تنْدَفع الْحجَّة بشرح الْقَضِيَّة على وَجههَا وإيرادها على مُقْتَضى كنهها من غير قلب للْحَقِيقَة وَلَا خُرُوج عَن متن الطَّرِيقَة وَفِي كريم علم سيدنَا أَن للْإنْسَان أعذارا يرْتَفع عَنهُ بهَا الملام وَلَا يُعَاتب مَعهَا وَلَا يلام وَذَلِكَ أَن مَا وَقع من النهب وَقع بَغْتَة فِي يَوْم يستعظم شَاهده وَصفه ونعته وَالْمَدينَة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة وَلَا معرفَة لنا بِمن نهب وَلَا بِمن أَتَى وَلَا بِمن ذهب أَمر أبرزته الْقُدْرَة لم يمكنا تلافيه وَلم يفد فِيهِ نهي سَفِيه فَلَو صدر ذَلِك من آحَاد مُعينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ من غير اعتساف لَكِن الْأَمر برز وَصدر من قوم مختلطين من بَدو وَحضر فيهم الْأَبْيَض وَالْأسود والأحمر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من أستأسد وتنمر وَلَيْسَ فِي وُجُوههم من الْحيَاء عَلامَة وَلَا أثر لَا يقلبون موعظة إِذْ لَيْسُوا من أهل الْفِكر فَلَا يُمكن دفعهم إِلَّا بِجَيْش عَظِيم وعسكر يصاح فيهم بِالنَّهْي وهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَا يلتفتون إِلَى من نَهَاهُم بل لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء إِذا مَا ينذرون ثمَّ لما كَانَ الْيَوْم الْعَاشِر من شهر تَارِيخه وَقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 بِالْحرم الإدريسي مَا وصلكم وَلَا أَظُنهُ إِلَّا فصل لكم لَكِن عمتنا ألطاف الله ورحماته وَحفظ الضريح ورحباته وَلم تنتهك حرماته وحمته حماته ورماته فأبوابه قد فتحت وزواره بمشاهدة أنواره قد منحت وَمِمَّا فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السَّفِيه إِذا لم ينْتَه فَهُوَ مَأْمُور ولعمرك أَنه لَيْسَ منا علم بذلك وَلَا شُعُور وَكَيف يَأْمر الْعَاقِل بالمحظور أم كَيفَ يرضى مُسلم بهتك حُرْمَة الْإِسْلَام وَأَهله وَمَا يُوجب افْتِرَاق الْكَلِمَة من قَول أحد أَو فعله وَقد جَاءَ الْوَعيد بِمَا يلْزم من سكت وَحضر فَكيف بِمن بَاشر أَو أَمر لَكِن بَاب التَّوْبَة وَالْحَمْد لله مَفْتُوح لمن يَغْدُو عَلَيْهِ أَو يروح فنسأل الله أَن يمن عَلَيْهِم بِالتَّوْبَةِ من ارْتِكَاب هَذِه الحوبة وَقد كتبنَا لسيدنا بِهَذَا الْكتاب وَالْمَدينَة بِحَمْد الله آمِنَة والنفوس مطمئنة سَاكِنة وَالْأَيْدِي على التَّعَدِّي مَكْفُوفَة والطرق مسلوكة غير مخوفة وَذَلِكَ بعد معاناة فِي إخماد نَار الْفِتْنَة وَنصب وألطاف الله تتوارد وتصب بعد أَن كَانَت نَار الْفِتْنَة توقدت وتأججت وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وبالأكدار قد مزجت وكل من لَهُ مُرُوءَة وَدين وعد من المهتدين بذل فِي صَلَاح الْمُسلمين جهده وَأبْدى من الْفِعْل الْجَمِيل مَا عِنْده ولقاضينا بَارك الله فِيهِ الْيَد الطُّولى فَلم يَقع مِنْهُ تَقْصِير فِي الْقَضِيَّة الثَّانِيَة وَلَا الأولى هَذَا وكما فِي علمكُم أَن الْملك من ملك هَوَاهُ وَلم يغتر بِهَذَا الْعرض الفاني وَمَا أغواه وقهر نَفسه عِنْد الْغَضَب وابتكر مَا يوصله إِلَى الله واقتضب وَأَن الْكَرِيم إِذا حاسب مسامح وَإِذا قدر عَفا وَلَو أبدى الْمُسِيء إساءته وهفا فليتفضل سيدنَا بِقبُول شَفَاعَة من يضع اسْمه فِي هَذَا الْكتاب من الْعلمَاء والأشراف وَمِنْهُم بِعَدَمِ صَوَاب مَا صدر من السُّفَهَاء إِقْرَار واعتراف وَلَا يستغرب صُدُور الْخَيْر من معدنه وَالْفضل من موطنه وتتحاشى أخلاقك الفاخرة وشيمك الطاهرة أَن تكون شفاعتنا فِي هَؤُلَاءِ العصاة مَرْدُودَة وجماعتنا عَن ساحتكم مبعدة مطرودة ولحسن الظَّن بكم تحمل لجانبكم الزعيم وَالْكَفِيل على أَن لَا نرى مِنْكُم إِلَّا الْجَمِيل فليمن سيدنَا على هَذِه الحضرة الفاسية منا وَلَا يؤاخذنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا وَكَيف والحلم من داركم برز وَخرج وَفِي أوصافكم الحسان اندرج فأحببنا أَن تكون هَذِه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 المنقبة فِي أوصافكم تذكر وَفِي صحيفتكم تكْتب وتسطر فقابلوا بالصفح والإغضا عَمَّا سلف وَمضى وكلنَا من رعيتكم ومقتطفون من ثمار روضتكم ومستمدون من مائدتكم وَالظَّن الْأَقْوَى بكم أَنكُمْ تقبلون الشَّفَاعَة منا وتمنون على الْمُسْتَضْعَفِينَ من رعيتكم منا وكأنا بِكِتَابِكُمْ بضمن ذَلِك يُتْلَى وكلماته أشهر من الْعَسَل وَأحلى وَالله يتَوَلَّى أَمر الائتلاف بمتعود إحسانه وَيجمع قُلُوبنَا على طَاعَته وموجبات رضوانه حَتَّى نَكُون فِي ذَات الله إخْوَانًا وعَلى الدّين أنصارا وأعوانا والقلوب بيد من لَهُ الْأَمر وَالِاخْتِيَار وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار وَإِذا تَعَارَضَت الحظوظ فَمَا عِنْد الله خير للأبرار وَخير الْعَمَل عمل قرب إِلَى الْجنَّة وَأبْعد من النَّار فَالْوَاجِب على كل مُسلم أَن يدع مَا يزري بِالْإِسْلَامِ ويهينه وَلَا يلْتَفت لدواعي القطيعة فَإِنَّهَا تقَوِّي الْكفْر وتعينه أما علمنَا أَن من وَرَائِنَا عدوا يَشْتَهِي مواطىء أقدامنا وتنكيس أعلامنا تقضي أخوة الْإِسْلَام ومناصرته ومعاضدته ومواصلته أَن لَا يكون لجميعنا طموح إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا تمالؤ إِلَّا عَلَيْهِ وفقنا الله لما فِيهِ رِضَاهُ وَجعل سعينا فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه آمين وَالسَّلَام فِي منتصف رَمَضَان الْمُعظم عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ ثمَّ دخل السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله رِبَاط الْفَتْح صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور وَكَانَ الْعِيد يَوْم السبت فَأَقَامَ السُّلْطَان أيده الله سنة الْعِيد برباط الْفَتْح وَختم بِهِ صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ على الْعَادة وَكَانَ فَقِيه الْمجْلس ومدرسه يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي وَحضر ذَلِك الْمجْلس وُفُود الْمغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها وحضرنا فِي جُمْلَتهمْ ومدح السُّلْطَان بقصائد بليغة واحتفل أعزه الله لهَذَا الْخَتْم بأنواع الْأَطْعِمَة والأشربة وَالطّيب وَفرق الْأَمْوَال على من حضر ثمَّ وصل أهل العدوتين من علمائهما وقرائهما ومؤذنيهما وطبجيتها وبحريتهما على الْعَادة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أهل آزمور متنصلين مِمَّا صدر من عامتهم فِي حق مُحَمَّد بن الْمُؤَذّن فقابلهم بالبشر والصفح إِلَى أَن بحث عَن رُؤُوس الْفِتْنَة بعد ذَلِك فعاملهم بِمَا يستحقونه وَأقَام السُّلْطَان أعزه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 الله برباط الْفَتْح إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة فَنَهَضَ قَاصِدا مكناسة فَعبر الْمجَاز وَمَعَهُ من جنود الدولة وعساكر الْقَبَائِل مَا يجل عَن الْحصْر وَكَانَ نهوضه عَن إزعاج بِسَبَب مَا اتَّصل بِهِ من خبر الْمولى عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان ولد الَّذِي كَانَ ثار لأوّل بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فسلك هَذَا الْوَلَد مَسْلَك أَبِيه وأطمعه شياطين البربر فِي الْملك حَتَّى أوردوه مورد الردى وحان وَسقط الْعشي بِهِ على سرحان وَلما كَانَ السُّلْطَان أعزه الله بِبِلَاد بني حسن بلغه خبر الْقَبْض عَلَيْهِ فَكتب كتابا إِلَى الْأَمْصَار يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فَإِن عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن الَّذِي سَوَّلت لَهُ نَفسه مَا سَوَّلت من الرَّأْي المنكوس والحظ المعكوس كَانَ تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وَأتوا بِهِ لآيت عَيَّاش قرب فاس فَلَمَّا سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وَغَيرهم من الْجَيْش السُّوسِي وقبائل الصّلاح قَامُوا على سَاق فِي طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده وقابلوه بالنكاية والوبال وَرَأى مِنْهُم مَا لم يخْطر لَهُ ببال وَرجع بخفي حنين ثمَّ بعد الطَّرْد والإبعاد لم يبال بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء الْحَال وَلَا أقلع عَمَّا طمع فِيهِ من الْمحَال وَلَا انتبه من نومته وَلَا أَفَاق من سكرته وَبَقِي على دورانه عِنْد البربر إِلَى أَن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسي فَحكم الله فِيهِ هُنَالك وأتى بِهِ مَقْبُوضا عَلَيْهِ وَذَهَبت رِيحه وَسقط فِي أَيدي من كَانَ آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وَهَا الفتان متقف تَحت يَد أخينا الأرضى مولَايَ إِسْمَاعِيل رعاه الله فَالْحَمْد لله حق حَمده وَلَا نعْمَة إِلَّا من عِنْده وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجزينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد مَا خيمنا بحول الله بِبِلَاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بِاللَّه محفوفة بالنصر والعز بِحَمْد الله وأعلامنا المنصورة بِاللَّه ريَاح الْيمن والسعادة تسوقها والأرباح تكفل بهَا سوقها وَقد أعلمناكم لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بِمَا خول مَوْلَانَا جلّ وَعلا من عَظِيم نعمه فَللَّه الْحَمد وَله الْمِنَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ ثمَّ تقدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى دَار ابْن العامري فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وَكَانُوا قد ثَارُوا بعاملهم عبد الْقَادِر بن أَحْمد المحروقي فهدموا دَاره وانتهبوها وعاثوا فِي الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله وقْعَة كَادَت تستأصلهم وَتَأْتِي عَلَيْهِم فتشفعوا إِلَيْهِ وتطارحوا عَلَيْهِ وأظهروا التَّوْبَة والخضوع فَقبل تَوْبَتهمْ وَولى عَلَيْهِم ثَلَاثَة عُمَّال ووظف عَلَيْهِم مَالا لَهُ بَال ونهض أعزه الله إِلَى مكناسة الزَّيْتُون ف 4 ي سَابِع ذِي الْقعدَة من السّنة فَدَخلَهَا مظفرا منصورا وَلما احتل بهَا كتب أيده الله إِلَى الْأَمْصَار بِمَا نَصه وَبعد فَأَنا بإثر الْفَرَاغ من أَمر الْقَبِيلَة اليحيوية وَبِنَاء أمرهَا على أساس الْجد بحول الله وَحُصُول المُرَاد من كَمَال استقامتها بِحَمْد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الْكِرَام قدسهم الله بمكناسة الزَّيْتُون وتقدمنا فِي محلتنا السعيدة المنصورة الَّتِي أرْخى الْيمن وَالظفر عَلَيْهَا ستوره فلقينا فِي طريقنا أهل هَذَا الْقطر المغربي من البرابرة وَغَيرهم على اخْتِلَاف شعوبهم وقبائلهم مظهرين غَايَة الْفَرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعَلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزَّيْتُون فِي يَوْم كَانَ من الْأَيَّام السعيدة المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذَلِك الْيَوْم السعيد بِمَا وَقع فِيهِ من السرُور كل موسم وَعِيد فَالْحَمْد لله على مَا خول وَأولى من فَضله العميم وخيره الجسيم وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجرينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته آمين وَالسَّلَام فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ وَكَانَ دُخُوله أعزه الله إِلَى مكناسة بعد زيارته تربة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر وَصلَاته الْجُمُعَة بهَا وَأطَال أيده الله الْمقَام بمكناسة وَفِي مُدَّة مقَامه بهَا أوقع ببني مطير وَمن لافهم من مجاط وَبني مكيلد وآيت يوسي وَغَيرهم بعد أَن طَال قِتَاله لَهُم ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم معاقلهم وانْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالحاجب بحبوحة قرارهم وَمحل منعتهم وانتصارهم بل تجاوزته عساكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 المنصورة وأعلامه المنشورة بمسافة بعيدَة إِلَى أَن دخلت فَم الخنيق الَّذِي هُوَ أول بني مكيلد فاستباحت هُنَالك حلاتهم وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم فِي أعز مكانهم كل ممزق وقبضت مِنْهُم على عدد وافر من الأسرى بعث بِهِ السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الْأَمْصَار فَكَانَت عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار وَكَانَ إِيقَاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَاسْتمرّ مُقيما بمكناسة إِلَى فاتح ربيع الأول مِنْهَا وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور نَهَضَ أيده الله إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس مِنْهُ بعد مَا تَلقاهُ أَشْرَافهَا وأعلامها وأعيانها وَجَمِيع رماتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان مَعَ الْعَامِل وَالْقَاضِي وَاجْتمعت بِهِ مقدمتهم بوادي النجَاة فألان جَانِبه لَهُم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم وَلما وصل إِلَى الْبَلَد لم يعرج على شَيْء دون قصد ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وزيارته والتبرك بِهِ وانهار عَلَيْهِ الضُّعَفَاء وَالنِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ أَطْرَافه ويتمسحون بأذياله وَقدم الذَّبَائِح للحرم الإدريسي وَغَيره وأفاض من العطايا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا جَاوز الْحصْر وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَعِيد بفاس عيد المولد الْكَرِيم وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَاجْتمعت بِبَابِهِ وُجُوه الْقَبَائِل من كل قاصية ودانية وازدان الْعَصْر وَعم الْفَتْح والنصر واستقامت الْأُمُور ونادى مُنَادِي السرُور فِي الْخَاص وَالْجُمْهُور وَلما فرغ السُّلْطَان أعزه الله من شَأْن الْعِيد أَمر أَمِينه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون المراكشي أَن يرتب الوظيف المجعول على أَبْوَاب فاس وأسواقها على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله فَفعل وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما جَلَست الْأُمَنَاء كل بمحله واستقامت الْأَحْوَال وَذَهَبت الْأَهْوَال ثقل ذَلِك على الدباغين ومرضوا فِيهِ وذهبوا إِلَى الشريف الْفَقِيه الْمولى عبد الْملك الضَّرِير وَقَالُوا لَهُ أَنْت الَّذِي أوقعتنا فِي هَذَا كُله بضمانك إِسْقَاط المكس أَولا حَتَّى صدر منا فِي حق بنيس مَا صدر والآن أخرجنَا مِمَّا أوقعتنا فِيهِ أما بِإِسْقَاط المكس وَأما بِإِخْرَاج بنيس من بَين أظهرنَا لِئَلَّا تدول لَهُ دولة علينا وَالرجل قد صَار عدوا لنا فَقَامَ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقدم على السُّلْطَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 أعزه الله وَذكر لَهُ مَا عزم عَلَيْهِ السفلة من الدباغين فَأَعْرض السُّلْطَان أيده الله عَن ذَلِك وقابل بالجميل فَقَالَ الْفَقِيه الْمَذْكُور إِن لم يكن شَيْء مِمَّا ذكرت لسيدنا فَالْأولى بِي أَن أنتقل إِلَى تافيلالت وَلَا أبقى بَين أظهر هَؤُلَاءِ الْقَوْم فأسعفه السُّلْطَان وَبعث جملَة من الحمارين لحمله وَحمل أَوْلَاده وَلما رأى الدباغون ذَلِك نفخ الشَّيْطَان فيهم وعمدوا إِلَى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس وَمَاجَتْ الْأَسْوَاق وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان أيده الله فاستدعى عَامل فاس إِدْرِيس بن عبد الرَّحْمَن السراج وَكَانَ مُتَّهمًا بالخوض فِي وقْعَة بنيس وَمَا ترَتّب عَلَيْهَا بعد فأظهر الطَّاعَة والامتثال وَركب بغلته يُرِيد الْقدوم على السُّلْطَان بفاس الْجَدِيد فَقَامَ الدباغون دونه ومنعوه من الذّهاب إِلَى السُّلْطَان وتهددوه بِالْقَتْلِ إِن فعل فَقعدَ وَوَقع ذَلِك مِنْهُ الْموقع لِأَنَّهُ كَانَ متخوفا على نَفسه وَلما رأى السُّلْطَان أيده الله تمادي هَؤُلَاءِ الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أَن بَالغ فِي إلانة الْجَانِب والمقابلة بالجميل وَمن ذَلِك إعراضه أعزه الله عَن الْكَلَام فِي أَمر بنيس أَمر بحصارهم والتضييق عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ثمَّ لم يَكفهمْ عصيانهم حَتَّى صعدوا على منار الْمدرسَة العثمانية وعَلى غَيرهَا مِمَّا هُوَ مطل على فاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي الرَّمْي بالرصاص حَتَّى أَصَابُوا بعض من كَانَ بِأبي الْجُلُود وَلما انْتَهوا من سوء الْأَدَب إِلَى هَذِه الْغَايَة أَمر السُّلْطَان أيده الله بمقابلتهم على قدر جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل نَاحيَة ثمَّ اقتحمت طَائِفَة من الْعَسْكَر سور فاس من جِهَة الطالعة وَأخذُوا فِي النهب وَالْقَتْل وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَفِي أثْنَاء ذَلِك بعث السُّلْطَان أعزه الله وزيره أَبَا عبد الله الصفار يَعِظهُمْ ويعرض عَلَيْهِم الْأمان بِشَرْط التَّوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نَار الْفِتْنَة وانحسمت أَسبَاب المحنة فَعجل السُّلْطَان أيده الله بِالْكِتَابَةِ لجَمِيع الْآفَاق وتلطف وَاعْتذر بِأَنَّهُم الَّذين بدؤوا بِالْحَرْبِ والبادي أظلم وَمَعَ ذَلِك فبمجرد مَا أذعنوا إِلَى الطَّاعَة كف عَنْهُم رَحْمَة لَهُم وإبقاء عَلَيْهِم وَكَانَ هَذَا الْحَادِث يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الثَّانِي من السّنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وَنَصّ كتاب السُّلْطَان أعزه الله وَبعد فَبعد مَا كتبنَا لكم فِي شَأْن مَا تلقانا بِهِ أهل فاس من الْفَرح وَالسُّرُور والاحتفال فِي جَمِيع الْأُمُور اختبرناهم وبلونا أَحْوَالهم فألفينا أَحْوَالهم تصدق أَقْوَالهم فأمرناهم حِينَئِذٍ برد المستفادات لحالها الْمُعْتَاد كَمَا فعلنَا بمكناسة وَغَيرهَا من الْبِلَاد فامتثلوا طائعين وجدوا فِي دَفعهَا مسارعين وَمن جملَة من أمنا عَلَيْهَا ابْن شقرون المراكشي الْأمين فَلم نشعر بالدباغين أَصْحَاب فعلة بنيس إِلَّا وَقد ملئوا رعْبًا وتخوفوا أَن يركبُوا فِي الْمُؤَاخَذَة بهَا مركبا صعبا فطلبوا إِخْرَاج بنيس من بَين أظهرهم وإبعاده وهم حِينَئِذٍ عِنْد السّمع وَالطَّاعَة الْمُعْتَادَة فَلم نساعدهم فازدادوا تخوفا وَظهر مِنْهُم طيش أبان مِنْهُم تشوشا وتشوفا فتصدينا بحول الله وقوته لتربيتهم وتأنينا كل التأني فِي مفاجأتهم وأحجمنا حَيَاء من معاجلتهم تأدبا مَعَ حرمهم الْأَكْبَر سيدنَا ومولانا إِدْرِيس الْأَزْهَر ومراعاة لجَماعَة أهل الله الْأَحْيَاء والنائمة وإعذارا وإنذارا لتَكون الْحجَّة عَلَيْهِم شرعا وطبعا قَائِمَة حَتَّى ابتدؤونا وكسروا الْحرم فقابلناهم والبادي أظلم فَمَا كَانَ إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب حَتَّى ظهر نصر الله فهدمت دور وصوامع وَخَربَتْ فنادق ومصانع كَانُوا يضْربُونَ مِنْهَا ويتترسون بهَا ونهبت حوانيت ودور واستلبت أَيدي الْجَيْش أَقْوَامًا مِنْهُم وأسرت أسرى وَأخذُوا نكالا للآخرة وَالْأولَى لَكنا بِمُجَرَّد ظُهُور سطوة الله الْقَاهِرَة فيهم وَالْفَتْح أمرنَا بالنداء فِي الْحِين بِالْعَفو والصفح وكف أَيدي الْقَتْل والأسر عَنْهُم إبْقَاء عَلَيْهِم وشفقة لَهُم حَتَّى يظْهر مآل أَمرهم ويصفوا كدر غمرهم وَفِي عصر ذَلِك الْيَوْم ورد الْعلمَاء والشرفاء والرؤساء والعرفاء ضارعين صارخين شُفَعَاء على شَرط أَدَاء الْحُقُوق والتزام الشُّرُوط والبقاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قيد حَيَاة مَوْلَانَا الْمُقَدّس من اللوازم والمغارم فشفعناهم على الشُّرُوط الْمَذْكُورَة وقبلناهم على الْتِزَام الْحُدُود المحصورة وأعلمناكم لتفرحوا بنصر الله وتكونوا على بَال من حَقِيقَة الْوَاقِع وَلِئَلَّا تصيخوا للْأَخْبَار الكاذبة مسام المسامع أَو تلتفتوا إِلَى أقاويل المرجفين الَّذين لَا يدينون الله بدين ولايريدون إِلَّا فتْنَة الْمُؤْمِنَات وَالْمُؤمنِينَ وَالسَّلَام فِي رَابِع ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 اهـ ثمَّ إِن السُّلْطَان أعزه الله قبض على عَامل فاس إِدْرِيس السراج وعَلى وَلَده واثنين آخَرين مَعَه من رُؤُوس الْفِتْنَة وغربهم إِلَى مراكش وَولى على فاس الْقَائِد الجياني بن حمو البُخَارِيّ أحد قواده واستقامت الْأَحْوَال وَكَانَ مِمَّا قيل من الشّعْر فِي هَذِه الْوَقْعَة قَول صاحبنا الْفَقِيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر حركات السلاوي حفظه الله (لله ياتلك الَّتِي تأوي الفنا ... لَا تَنْقَضِي مَا كَانَ صبري قد بنى) (كلا وَقد هيجت مني لوعة ... قد أوشكت فِي مهجتي أَن تهدنا) (وأتيت موطن مصرع العشاق ثمَّ ... بَكَيْت حَتَّى كدت تبْكي الموطنا) (لَو كَانَت الأجبال تعقل لانثنت ... تبْكي لما بك رأفة وتحننا) (فَبِأَي رَأْي يَا حميمة قد غَدا ... مِنْك البكا عوض الترنم والغنا) (وَبِأَيِّ ذَنْب قد فجعت قُلُوبنَا ... وسقيتنا كأس الأسى بدل الهنا) (أَو مَا كَفاك من المتيم مهجة ... مَا شَأْنهَا إِلَّا معاناة العنا) (صب لَهُ فِي كل يَوْم عِبْرَة ... وتلهف يقتده قد القنا) (كَيفَ اصْطِبَارِي والحبيب مصارمي ... والدهر مغرا بالوشاية بَيْننَا) (دَعْنِي فعدلك للمتيم ضلة ... شَرّ عَلَيْهِ من مقاساة الضنا) (تالله لارقأت لعَيْنِي عِبْرَة ... حَتَّى ترى وَجه المليك الأيمنا) (الْيَد الشهم السّري الأصيد الفخم ... النَّهْي الباهي الْهمام الصيدنا) (الْأَعْظَم المستعظم العذب الْحلِيّ المستعذب ... الْحسن الثنا المستحسنا) (قد حَاز فِي الْأَشْرَاف كل فَضِيلَة ... مَلأ المسامع حسنها والأعينا) (ومكارما ومحاسنا ومفاخرا ... لَو ذاق لذتها الكفور لآمَنَّا) (فلذاك سيدنَا الْمُقَدّس خصّه ... بمآثر مَا تَنْتَهِي فتدونا) (ورث الْخلَافَة كَابِرًا عَن كَابر ... لَا كَالَّذي يَأْتِي إِلَيْهَا ضعيفنا) (عشقته عشق ابْن الملوح خذنه ... وصبت إِلَيْهِ صبا الْعُيُون إِلَى الرنا) (وَله وَقد لبته قبل دُعَائِهِ ... أَلْقَت أزمتها وَقَالَت هَا أَنا) (ملك بِهِ الْملك الْأَغَر تشيدت ... أَرْكَانه فِي الْعِزّ محكمَة الْبَنَّا) (أضحى بِهِ يختال فخرا قَائِلا ... لسواك يَا ركن الورى لن أركنا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 (والدهر سلم والحظوظ بواسم ... والنصر يقبل من هُنَاكَ وَمن هُنَا) (والسعد قد ألْقى عَصا تسياره ... فِي قصره متاليا أَن يقطنا) (حسنت بطلعته الدنا فَكَأَنَّهَا ... حلى بِهِ هَذَا الزَّمَان تزينا) (إِن المزايا والعطايا والحجا ... أَخْلَاق سيدنَا تناء أودنا) (لَا لَا تقس قيسا بِهِ فِي النبل أَو ... فِي الْفضل قعقاعا وأحنف فِي الأنا) (أَو فِي الشجَاعَة عَامِرًا أَو فِي الندى ... مَعنا وَفِي الإفصاح قس الألسنا) (فهم لَو اطلعوا على خصلاته ... لغدت ظنونهم بِذَاكَ تَيَقنا) (فاستصغروا مَا كَانَ يصدر مِنْهُم ... وأتى جَمِيعهم إِلَيْهِ مذعنا) (لَيْت الْمُلُوك السالفين قد أحضروا ... فَرَأَوْا مليكا مَالِكًا حسن الثنا) (وَلَو أَنهم علمُوا ضخامة ملكه ... قَالُوا لنا ملك وَلَكِن قدونا) (وَلَو أَنهم سمعُوا بِعظم سماحه ... تاقوا وَقَالُوا ليته فِي عصرنا) (وَلَو أَنهم قد أبصروا إقدامه ... بهتُوا وَقَالُوا لَيْسَ ذَا فِي طوقنا) (هَذَا الْأَمِير ابْن الْأَمِير ابْن الْأَمِير ... ابْن الْأَمِير الْمَالِكِي رسن الدنا) (هاذ العصامي العظامي الَّذِي ... وسع الْأَمَاكِن فَضله والأزمنا) (مَا زَالَ يسمح بالجوائز واللها ... حَتَّى لقد تخذ السماحة ديدنا) (فخم نتيه تلذذا بحَديثه ... حَتَّى نظن الأَرْض قد مادت بِنَا) (طبع الْفُؤَاد على مودنه فَمَا ... نَدْعُو لَهُ بالنصر إِلَّا هيمنا) (يَا أَيهَا الْملك السميذع وَالَّذِي ... مَا كَانَ مشبهه مضى فِي غربنا) (مَا زلت تجتاب الْبِلَاد بسيرة ... عمرية تذر الْمعاصِي مذعنا) (وَتبين للنَّاس الرشاد وسبله ... وتريهم نهج السوَاء البينا) (وتدمر العاتي بأبيض صارم ... وَتقوم المعوج بالسمر القنا) (لَوْلَا الْبُغَاة من الْأَنَام وجورهم ... مَا فَارَقت بيض السيوف الأجفنا) (لَكِن بِحِلْمِك قد حقنت دِمَاءَهُمْ ... مَا أوشكت من بغيهم أَن تحقنا) (وأنمت فِي ظلّ الْأمان جفونهم ... لولاك لم يَك لامرىء أَن يأمنا) (وَلَقَد تَركتهم وكل قَبيلَة ... تثني عَلَيْك ثَنَا الْقُلُوب على المنا) (حَتَّى أتيت الحضرة الفاسية الغراء ... معتجرا بأثواب السنا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 (وَالْملك من فرط السرُور بك أزدهى ... وَله فَم بجميل ذكرك أعلنا) (وأتاك أَهلهَا قؤلا هَل لنا ... يَا ماجدا من عطفة تشفي الضنى) (يَا طالما اشتاقت إِلَيْك قُلُوبنَا ... شوق الْفَقِير إِلَى ملاقاة الْغنى) (فمنحتهم بعد الضراعة عزة ... وكسوتهم بعد الأسا ثوب الهنا) (هَذَا وَمَا صبحتهم بكريهة ... حَتَّى جنى جهلا بِفَضْلِك من جنا) (شربوا كؤوس الحتف لَوْلَا أَنَّهَا ... أبقت عَلَيْهِم رأفة وتحننا) (وأتاك أَرْبَاب البصائر قولا ... يَا لَا تُؤَاخِذنَا بزلة غَيرنَا) (فصفحت عَنْهُم صفح مقتدر وَلم ... تتْرك جيوشك فيهم أَن تثخنا) (وحبوتهم بعد الآسى بمسرة ... منعت قُلُوب النَّاس أَن تتحزنا) (فغدى ببغيته المصافي وانثنى ... بندامة الكسفى من قد شيطنا) (لَو كَانَ فِي الْإِحْسَان شَيْء يتقى ... لنهاك طبع الْجُود أَن لَا تحسنا) (إِن الْكَرِيم إِذا تمكن من أَذَى ... صاحت بِهِ أحلامه فتحننا) (مثل الشجاع إِذا سطى يَوْم الوغا ... أضحى بري طعم الردى حُلْو الجنا) (لَا كالجبان فَلَو تكلّف نجدة ... صدته خَشيته الْحمام فأقبنا) (وَكَذَا اللَّئِيم إِذا أَرَادَ تفضلا ... جَاءَتْهُ أَخْلَاق اللئام فأشقنا) (لَو أَن جودك فِي الورى متفرق ... مَا كَانَ فيهم من بَرى متمسكنا) (وَلَو أَن بأسك قد تفرق بَينهم ... مَا كَانَ يُمكن لامرىء أَن يجبنا) (لَو لم تكن مولى خَمِيس أرعن ... لكفتك هيبتك الْخَمِيس الأرعنا) (لَو أَن من أثنى على هرم رأى ... يَوْمًا علاك لقَالَ غَيْرك مَا عَنَّا) (شهد الْأَنَام بِأَن مجدك باهر ... لم يجحدنه جَاحد فنبرهنا) (يدعونك الْحسن الرضى طرا وَلَو ... شوركت فِي حسن دعوك الأحسنا) (يَا أَيهَا الشهم السّري وَمن بِهِ ... أضحى على الأقطار يفخر قطرنا) (إِنِّي امتدحتك والمحبة شَافِعِيّ ... ومحبة الْأَشْرَاف نعم المقتنى) (وتحصني أبدا بعزة ركنكم ... ومعزز من بالكرام تَحَصُّنًا) (لَا زَالَت أمداحي لأقعس مجدكم ... مُتَوَالِيَات أَو يصدني المنا) (تالله لَا قمنا بشكركم وَلَو ... أعضاؤنا كَانَت جَمِيعًا أَلسنا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 (فلنمدحنك فِي الْحَيَاة وَإِن نمت ... قَامَت عظامتنا بمدحك بَعدنَا) (خُذْهَا إِلَيْك خريدة فكرية ... طلعت بغيظ قُلُوب أَبنَاء الزِّنَى) (بهرت قُلُوب ذَوي النَّهْي بمحاسن ... منعت خرائد فكرهم أَن تحسنا) (فاصرف إِلَيْهَا منَّة عين الرضى ... وامنع بِفَضْلِك حسنها أَن يغبنا) (دَامَت إِلَيْك من الْمُهَيْمِن نصْرَة ... تدع المعاند ضارعا مستهجنا) (بِمُحَمد الْمُخْتَار جدك خير من ... قد أوضح النهج الْقَدِيم وَبينا) (صلى عَلَيْهِ الله مَا جن الدجى ... وأمالت الرّيح الْجنُوب الأغصنا) (والآل والصحب الصناديد الذرى ... والمانحي قصادهم نيل المنا) ثمَّ شرع السُّلْطَان أعزه الله بِجمع الْعَسْكَر وتنظيمه زِيَادَة على مَا كَانَ فِي حَيَاة وَالِده فألزم أهل فاس بِخَمْسِمِائَة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غَيرهمَا من الثغور بمائتين مِائَتَيْنِ وَلم يتَّخذ من مراكش وَلَا أَعمالهَا شَيْئا فصعب على النَّاس ذَلِك وجمعوا مِنْهُ مَا قدرُوا عَلَيْهِ واعتنى السُّلْطَان أعزه الله بِهِ فَكَانَ يُبَاشر عرضه وترتيبه بِنَفسِهِ وَفِي أَيَّام مقَامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وَجدّة يُقَال لَهُ أَبُو عزة الهبري من هبرة بطن من سُوَيْد وسُويد من عرب بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ هَذَا الرجل فِيمَا زَعَمُوا يخط فِي الرمل وَيتَعَاطَى بعض السحريات فَتَبِعَهُ بعض الأوباش الَّذين لَا شغل لَهُم وتأشبوا عَلَيْهِ ودنا من أَطْرَاف الإيالة وَقَوي حسه وَكَانَ السُّلْطَان أعزه الله عَازِمًا على النهوض إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وتمهيدها وَنفي الدجاجلة عَنْهَا فاستعد غَايَة الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الْجنُود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلهَا ثمَّ نَهَضَ من فاس منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما بَات فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة بآيت شغروسن أغار على الْمحلة لَيْلًا أَبُو عزة الهبري وَمَعَهُ سعيد بن أَحْمد الشغروسني وَيُقَال إِنَّه إدريسي النّسَب فماجت الْمحلة بعض الشَّيْء ثمَّ تراجع النَّاس وَأخذُوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الْحَرْب نَحْو عدوهم فشردوهم فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهم وَقبض على عدد من أَصْحَابه وَقطعت رُؤُوس مِنْهُم وَتقدم السُّلْطَان أعزه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فِي جموع مؤلفة من الْجَيْش السعيد المظفر وأنجاد نظام الْعَسْكَر وغزاة الْقَبَائِل الغربية بربرية وعربية إِلَى بني سادان وآيت شغروسن فأوقع بهم وَقتل وَأسر وانتسفت الجيوش زُرُوعهمْ وبعثرت أَرضهم وديارهم فلجؤوا إِلَى بني وراين فَأمر السُّلْطَان أيده الله بِقِتَال الْجَمِيع ثمَّ جَاءَ بَنو وراين متنصلين متبرئين إِلَى السُّلْطَان مِنْهُم فقبلهم وَولى عَلَيْهِم رجلا من أعيانهم ثمَّ جَاءَ بَنو سادان وآيت شغروسن تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم ووظف عَلَيْهِم مائَة ألف مِثْقَال وَزِيَادَة أَرْبَعمِائَة من الْخَيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السُّلْطَان أعزه الله مِنْهُم فِي أَوَائِل شعْبَان من السّنة ثمَّ تقدم إِلَى تازا فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما احتل بهَا قدمت عَلَيْهِ وُفُود قبائلها مُتَمَسِّكِينَ بِحَبل الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فرحين مغتبطين وَبِكُل مَا أمكنهم من الْخدمَة متقربين وَجَاءَت عرب الأحلاف وَمن جاورهم حاملين هوادجهم المحلاة بِأَحْسَن حليهم وشاراتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وزيهم فقابل السُّلْطَان أعزه الله كلا بِمَا يجب من المجاملة وَحسن الْمُعَامَلَة مَا عدا ثَلَاث فرق من غياثة المجاورين لتازا وهم بَنو أبي قيطون وَأهل الشقة وَأهل الدولة فَإِنَّهُم كَانُوا يضرون بِأَهْل تازا ويغيرون عَلَيْهِم فألزمهم السُّلْطَان أيده الله بأَدَاء مَا تعلق لَهُم بِذِمَّتِهِمْ فأدوه فِي الْحَال ثمَّ وظف عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ ألف ريال أُخْرَى لبيت المَال فأدوها أَيْضا عَن طيب أنفسهم وَمن عداهم من أهل غياثة فَإِنَّمَا أَدّوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن الطَّاعَة والامتثال وَفِي هَذِه الْأَيَّام جِيءَ إِلَى السُّلْطَان بالهبري أَسِيرًا فَإِنَّهُ لما خرج السُّلْطَان أعزه فِي طلبه وَطلب غَيره أبعد فِي الصَّحرَاء وَلم تزل تلفظه الْبِلَاد وتتدافعه الشعاب والوهاد إِلَى أَن ساقته خَاتِمَة النكال إِلَى قَبيلَة بني كلال وهم على أَربع مراحل من تازا فقبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أَسِيرًا حَتَّى أوقفوه بَين يَدَيْهِ مصفدا كسيرا فأظهر الهبري الْجزع وتضرع وخضع فحقن السُّلْطَان أعزه الله دَمه وَأمر بِهِ فطيف فِي الْمحلة على جمل ثمَّ أَمر ببعثه إِلَى فاس فسجن بهَا بعد أَن طيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 بِهِ فِي أسواقها ثمَّ مضى السُّلْطَان أعزه الله لوجهه حَتَّى بلغ قَصَبَة سلوان على طرف الإيالة المغربية من جِهَة الشرق فوفدت عَلَيْهِ قبائل تِلْكَ النواحي وأهدوا ومانوا وأظهروا غَايَة الْفَرح وَالسُّرُور حكى من حضر أَنهم كَانُوا يزدحمون عَلَيْهِ لتقبيل يَده وركابه وَوضع ثِيَابه على أَعينهم تبركا بِهِ وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من هَذِه السّنة فِي لَيْلَة الْخَامِس أَو السَّادِس وَقع تناثر فِي الْكَوَاكِب وتداخل واضطراب عَظِيم على هَيْئَة مفزعة بَعْضهَا مشرق وَبَعضهَا مغرب وَبَعضهَا إِلَى هَيْئَة أُخْرَى فَكَانَ الْحَال كَمَا وصف الْأَعْمَى بقوله (كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه) دَامَ ذَلِك إِلَى قرب السحر وَأقَام السُّلْطَان أعزه الله بِهَذِهِ الْبِلَاد حَتَّى عيد بهَا بعيد الْفطر وَكَانَ المشهد هُنَالك عَظِيما والموسم مخيما وَحضر بَنو يزناسن وَمَعَهُمْ كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود فأهدى هَدِيَّة كَبِيرَة وولاه السُّلْطَان على تِلْكَ الْقَبَائِل من بني يزناسن وَغَيرهَا وقفل أعزه الله رَاجعا فأدركه فصل الشتَاء بِتِلْكَ الْجبَال والفيافي فَاشْتَدَّ الْبرد وَقلت الأقوات وَهلك بِسَبَب ذَلِك عدد كثير من الْجند وَلحق النَّاس مشقة فادحة وَأظْهر السُّلْطَان نَصره الله يَوْمئِذٍ من الشَّفَقَة والبرور مَا تناقله النَّاس وتحدثوا بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يسير بسير الضَّعِيف وَيقف على المرضى حَتَّى يصلح من شَأْنهمْ وَيَأْمُر بدفن من يدْفن وَحمل من يحمل وَإِذا سقط لأحد دَابَّته أَو رَحْله وقف عَلَيْهِ بِنَفسِهِ حَتَّى يعان عَلَيْهِ وَهَكَذَا إِلَى أَن دخل حَضْرَة فاس بِحَيْثُ أدْرك بِهِ عيد الْأَضْحَى من السّنة فعيد بهَا وتفرغ للنَّظَر فِي أَمر الْعَسْكَر يقوم عَلَيْهِ بِنَفسِهِ ويعرضه على عينه ويتصفح قَوَائِم مؤنه ورواتبه فَاطلع أيده الله على مَا كَانَ يدلسه القائمون على ذَلِك من الزِّيَادَة الْبَاطِلَة فعزل من عزل وأدب من يسْتَحق التَّأْدِيب ثمَّ قبض على كَبِير الْعَسْكَر السُّوسِي وَهُوَ الْحَاج منو الحاحي وَكَانَت فِيهِ شجاعة وإقدام إِلَّا أَنه كَانَ مفرطا فِي التهور والإدلال على الدولة وكبرائها فَأدى ذَلِك إِلَى الانتقام مِنْهُ بِالضَّرْبِ والسجن وَالِاحْتِيَاط على مَاله وضياعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وَلَا زَالَ مسجونا إِلَى الْآن ثمَّ سرح من السجْن واستوطن مراكش عَام ألف وثلاثمائة وَخَمْسَة وَفِي هَذِه الْمدَّة شرع السُّلْطَان أعزه الله فِي بِنَاء دَاره الْعَالِيَة بِاللَّه العامرة المزرية بمصانع الْمُعْتَمد وقباب الزهرة وَذَلِكَ فِي الْبُسْتَان الْمَعْرُوف ببستان آمِنَة دَاخل فاس الْجَدِيد عمد أعزه الله إِلَى نَاحيَة من ذَلِك الْبُسْتَان فَقطع مَا كَانَ بهَا من الشّجر وَبنى فِيهَا قبَّة فارهة فائقة الْحسن بديعة الْجمال يُقَال إِنَّه ضاهى بهَا بعض قباب الْمُعْتَمد بن عباد بإشبيلية ثمَّ بنى الدَّار الْكُبْرَى بإزائها وَهِي من عجائب الدُّنْيَا حَسْبَمَا بلغنَا بَالغ أيده الله فِي تنجيدها وتنميقها وأودعها من النقش العجيب والترخيم البديع والزليج الرفيع المزري بخمائل الزهر وقطائف الْهِنْد وبديع الطوس بِحَيْثُ جزم كل من رأى ذَلِك بِأَن مثله لم يتَقَدَّم فِي دولة من دوَل الْمغرب وجلب لقبابها الْأَبْوَاب من بِلَاد الأروام يُقَال إِن ثمن أحد الْأَبْوَاب خَمْسَة عشر ألف ريال مسامره من الْفضة المذهبة وَعوده من أفضل أَنْوَاع الْعود لَا تعرف لَهُ قيمَة وَفِيه من التخريم والنقش مَا يدهش الْفِكر ويحير النّظر وَبَاقِي الْأَبْوَاب من البلور الصافي الْمَذْهَب الْمُودع فِيهِ كل نقش غَرِيب وَبهَا خوخات مركبة بهيئة بديعة كل ذَلِك قد عَمه الذَّهَب النضار الَّذِي يدهش الْأَبْصَار وجلب لذَلِك من الأثاث الرُّومِي مَا قِيمَته أُلُوف من الريال وفيهَا من الْفرش والحائطيات المزخرفة مَا لَا يدرى ثمنه وَلَا يعرف معدنه وموطنه إِلَى غير ذَلِك من المقاعد الْحَسَنَة والمنازل المستحسنة الرائقة الطّرف البديعة الصَّنْعَة والرصف وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان أيده الله بفاس بلغه عَن ولد البشير بن مَسْعُود بعض استبداد فَاقْتضى نظر السُّلْطَان أعزه الله أَن يبْعَث من قبله عَاملا لجباية تِلْكَ النواحي فعقد لِأَخِيهِ الْمولى عَليّ على جَيش وأضاف إِلَيْهِ الْقَائِد أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن الشليح الزراري بِمَنْزِلَة الْوَزير والظهير وبعثهما إِلَى نَاحيَة وَجدّة وَكَانَ ابْن الشليح الْمَذْكُور يَوْمئِذٍ يتَوَلَّى عمالة تازا وَكَانَ أهل وَجدّة وأعمالها يكْرهُونَ ولَايَة ولد البشير عَلَيْهِم وَيُحِبُّونَ ولَايَة ابْن الشليح إِذْ كَانَ لَهُ ذكر وصيت فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَرُبمَا كَاتبه عرب آنقاد وكاتبهم وَلما أحس ولد البشير بذلك انصبغت الْعَدَاوَة بَينه وَبَين ابْن الشليح فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَجه السُّلْطَان أيده الله ابْن الشليح الْمَذْكُور واليا على وَجدّة وأعمالها وجابيا لأموالها وناظرا فِي شؤونها وَأَحْوَالهَا فَقَامَتْ قِيَامَة ولد البشير وَعلم أَنه لَا يصفو لَهُ عَيْش مَعَه فعزم على أَن يطرده عَن تِلْكَ الْبِلَاد وَيَردهُ من حَيْثُ جَاءَ وَكَانَ ولد البشير هَذَا حسن الطَّاعَة للسُّلْطَان إِلَّا أَنه انفسد أمره بِمَا ذَكرْنَاهُ وَلما قرب ابْن الشليح من أرضه خرج إِلَيْهِ فِي خيله وَرجله وَلما الْتَقت مُقَدّمَة الْجَيْش بهم انتشبت الْحَرْب بَينهم وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق وَكَانَ غَرَض ولد البشير أَن يضم إِلَيْهِ أَخا السُّلْطَان وجيشه وَيقوم بخدمتهم ويطرد عَنهُ عدوه فَقَط فَلم يستقم لَهُ ذَلِك وَكَانَ رَأْيه هَذَا خطأ إِذْ لَيست هَذِه بِطَاعَة كَمَا لَا يخفى ثمَّ انهزم الْجَيْش وعمدت بَنو يزناسن وَالْعرب إِلَى الْمحلة فانتهبوها وَعَاد عبد الرَّحْمَن بن الشليح إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بفاس فَأخْبرهُ الْخَبَر وبإثر ذَلِك كتب ابْن البشير إِلَى السُّلْطَان يتنصل من أَمر ابْن الشليح ومحلته وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة لم يُبدل وَلم يُغير وَإِنَّمَا الَّذِي انتهب الْمحلة هم السُّفَهَاء من غير إِذن لَهُم وَلَا مُوَافقَة على ذَلِك وَحَتَّى الْآن فَكل مَا ضَاعَ من تِلْكَ الْمحلة يُؤَدِّيه بِأَكْثَرَ مِنْهُ فطوى لَهُ السُّلْطَان أيده الله عَلَيْهَا وأرجأ أمره إِلَى وَقت آخر وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت خبر أبي عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب جبل تينملل وَكَانَ أصل هَذَا الرجل أَنه كَانَ من أَشْيَاخ قبيلته وَكَانَ الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم هُوَ قَائِد الْجَيْش السُّوسِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد الجراوي وَكَانَ الكنتافي هَذَا أحذر من غراب وَأَمْنَع من عِقَاب قد اتخذ حصنا فِي رَأس جبل تينملل حَيْثُ كَانَ ظُهُور مهْدي الْمُوَحِّدين حَسْبَمَا مر فِي أخبارهم وتحصن بِهِ وَصَارَ يُؤَدِّي للقائد الجراوي كل مَا يَأْمُرهُ بِهِ من غير توقف إِلَّا أَنه لَا ينزل إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي الجراوي الْمَذْكُور وَولى السُّلْطَان على الْجَيْش السُّوسِي وَمَا أضيف لَهُ وصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مَالك ضايق الكنتافي بعض الشَّيْء وَسَار مَعَه بِغَيْر سيرة الجراوي قبله فَأَنف الكنتافي من ذَلِك وأعلن أَنه فِي طَاعَة السُّلْطَان ومتقلد بيعَته يَمُوت عَلَيْهَا وَيبْعَث عَلَيْهَا وَلَا يقبل ولَايَة أَحْمد بن مَالك وَلَو ألقِي فِي النَّار فَكتب أَحْمد بن مَالك إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بفاس يُعلمهُ بِأَن الكنتافي قد خلع الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة وأشاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 المرجفون بِأَنَّهُ يحاول الِاسْتِقْلَال بِالْأَمر التفاتا إِلَى مَا كَانَ لسلفه من أهل ذَلِك الْجَبَل مُنْذُ سَبْعمِائة سنة وَرُبمَا حن هُوَ إِلَى ذَلِك أَيْضا وَقد حكى ابْن خلدون أَن أهل ذَلِك الْجَبَل كَانُوا فِي زَمَانه على هَذَا الِاعْتِقَاد (تخرصا وأحاديثا ملفقة ... لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب) وَاسْتَأْذَنَ أَحْمد بن مَالك السُّلْطَان أعزه الله فِي غَزْو هَذَا الكنتافي فَأذن لَهُ فَبعث إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند ففضها الكنتافي فازداد المرجفون تقولا وتخرصا ثمَّ بعث إِلَيْهِ ابْن مَالك جَيْشًا آخر أعظم من الأول فَهَزَمَهُ الكنتافي أَيْضا وَقبض على جمَاعَة مِنْهُم بِالْيَدِ فَمن كَانَ من جَيش السُّلْطَان سرحه إِظْهَارًا للطاعة وَمن كَانَ من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ ضرب عُنُقه وَكَانُوا عددا وافرا فتفاحش أَمر الكنتافي فِي الْحَوْز وَكَاد يَسْتَحِيل إِلَى فَسَاد فَبعث وَلَده إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس وَكتب لَهُ بشرح قَضيته وَأَنه مظلوم من قبل أَحْمد بن مَالك وَمَا ارْتَكَبهُ فِي حق الْجَيْش إِنَّمَا هُوَ مدافعة عَن نَفسه وَأَنه لم يقتل جنديا قطّ وَبَالغ فِي التنصل وَتَقْدِيم الشفاعات والذبائح والعارات فأرجأ السُّلْطَان أعزه الله أمره ونهض من فاس منتصف رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فوصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح لَيْلَة عيد الْفطر فاتفق أَن وَقع بهَا نادرة وَهِي أَن جمَاعَة من شُهُود اللفيف اثنى عشر جاؤوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الله بن إِبْرَاهِيم رَحمَه الله لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وشهدوا عِنْده أَنهم رَأَوْا هِلَال شَوَّال بعد الْغُرُوب رُؤْيَة مُحَققَة لم يلحقهم فِيهَا شكّ وَلَا رِيبَة فَسمع القَاضِي شَهَادَتهم وسجلها وَكتب للسُّلْطَان بذلك وَهُوَ بقرميم فارتحل السُّلْطَان فِي جَوف اللَّيْل وَدخل دَاره وَأصْبح من الْغَد معيدا وَعِيد أهل العدوتين وأعمالهما والجم الْغَفِير من أهل الْمغرب الَّذين حَضَرُوا مَعَ السُّلْطَان وَلما كَانَ ظهر ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ التَّاسِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان حقق الفلكيون من أهل الدولة أَن الْعِيد لَا يُمكن فِي ذَلِك الْيَوْم وَتَكَلَّمُوا بذلك وفاهوا بِهِ فَكثر الْكَلَام بذلك وَكَانَ جلّ النَّاس على شكّ أَيْضا وَلما حَان وَقت الْغُرُوب ارتقب النَّاس الْهلَال وَالسَّمَاء مصحية لَيْسَ فِيهَا قزعة فَلم يرَوا لَهُ أثرا فَأمر السُّلْطَان أعزه الله بالنداء وَأَن النَّاس يُصْبِحُونَ صياما لِأَن رَمَضَان لَا زَالَ فصَام النَّاس من الْغَد وَبعد ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 ظهر الْهلَال ظهورا مُعْتَادا وَتبين كذب الشُّهُود فسجنوا ثمَّ سرحوا بعد حِين وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله سنة الْعِيد نَهَضَ إِلَى مراكش فَلَمَّا قرب من زَاوِيَة ابْن ساسي بَين بِلَاد الرحامنة وزمران نزل هُنَالك على الرحامنة وَكَانُوا قد حصل مِنْهُم اعوجاج وتمرض فوظف عَلَيْهِم من الْأَمْوَال مَا أثقل ظُهُورهمْ وَفرض عَلَيْهِم من الْعَسْكَر وَالْخَيْل مَا امتحنوا فِي أَدَائِهِ وَلم يقم عَنْهُم حَتَّى أَدّوا جَمِيع ذَلِك وَحَتَّى خرج الْأَشْرَاف والمنتسبون من أهل مراكش إِلَى السُّلْطَان للشفاعة فيهم وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي دُخُوله منزله فَقبل السُّلْطَان أيده الله شفاعتهم وارتحل عَنْهُم فَدخل مراكش آخر ذِي الْقعدَة من السّنة وَكَانَت مُدَّة مقَامه على الرحامنة سِتَّة عشر يَوْمًا وَكَانَ يَوْم دُخُوله إِلَى مراكش يَوْمًا مشهودا وَفِي رَابِع ذِي الْحجَّة بعده قبض على مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ شخصا من أَعْيَان أَوْلَاد أبي السبَاع وَكَانُوا قد عاثوا فِي ذَلِك الْحَوْز على عَادَتهم وَعظم ضررهم واستطار شررهم وَخَرجُوا على عاملهم السَّيِّد عبد الله بن بلعيد وصالوا على الْقَائِد أبي حَفْص عمر المتوكي وَكَانَ الْقَتْل بَينهم وَبَين شيعَة عاملهم ابْن بلعيد الْمَذْكُور ففر إِلَى السُّلْطَان بفاس فَأرْخى أعزه الله لَهُم الْحَبل وَأطَال عَلَيْهِم الرسن وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن زروال الرحماني صُورَة حَتَّى اطمأنوا بذلك وأنسوا وَلما قدم أعزه الله مراكش ضرب الْبعُوث على قبائل الْحَوْز فناب أَوْلَاد أبي السبَاع فِي ذَلِك ثَلَاثمِائَة فَارس فَقدمت مراكش بخيلها وأسلحتها وَكَانَ السُّلْطَان أيده الله يَوْمئِذٍ قد أَخذ فِي عرض بعوث الْقَبَائِل دَاخل مشور أبي الخصيصات فجَاء أَوْلَاد أبي السبَاع للعرض فَلَمَّا توسطوا المشور الْمَذْكُور أغلقت الْأَبْوَاب وَقبض عَلَيْهِم وجردوا من السِّلَاح وحملوا إِلَى السجْن وَكَانُوا مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ كَمَا قُلْنَا ثمَّ وَجه السُّلْطَان أعزه الله إِلَى حلتهم الْقَائِد الْعَرَبِيّ الرحماني مَعَ كَتِيبَة من الْجَيْش فنزلوا عَلَيْهِم وأغرمهم سِتِّينَ ألف ريال فأدوها فِي الْحَال بعد بيع ماشيتهم بأبخس ثمن وَحِينَئِذٍ بعث السُّلْطَان إِلَى عاملهم عبد الله بن بلعيد فاستدعاه من فاس وَقدم وولاه عَلَيْهِم فاطمأنوا وأطاعوا وجد السُّلْطَان أيده الله فِي جمع العساكر والاستعداد إِلَى أَوَاخِر صفر من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 فَقدم عَلَيْهِ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب الْجَبَل مستأمنا بالمرابط أبي عَليّ الْحسن بن تيمكيلشت فقابله السُّلْطَان بِالْعَفو والصفح وَأكْرم وفادته وولاه على إخوانه وانقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا وَلما حضر عيد المولد الْكَرِيم احتفل السُّلْطَان أيده الله غَايَة الاحتفال على عَادَة أسلافه الْكِرَام قدس الله أَرْوَاحهم وَجعل فِي عليين عدوهم ورواحهم وتشنفت الأسماع بالأمداح النَّبَوِيَّة فِي اللَّيْلَة الْمُبَارَكَة بِالْمَسْجِدِ الْمعد لذَلِك وأنشدت قصائد لأدباء الْعَصْر وَبعد الْعِيد كسا السُّلْطَان نَصره الله جَمِيع الْجَيْش والعسكر وَالْكتاب حَتَّى الْأُمَنَاء والطلبة وَفِي مهل ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة خرج من مراكش يؤم بِلَاد الغرب فَجعل طَرِيقه على ثغر الجديدة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا بعد أَن زار تربة بني آمغار برباط تيط وتفقد أَحْوَال ثغر الجديدة ووقف على أبراجها وأسوارها وباشر فِي الرماية بالمدفع وَكَانَ رميه صَوَابا بِحَيْثُ أصَاب الْغَرَض أعزه الله وَأهْدى لَهُ جَمِيع تجارها من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود فَقبل ذَلِك وكافأ عَلَيْهِ وَكَانَ أعزه الله حِين عزم على النهوض من مراكش قد كتب إِلَى عَامله على مَدِينَة آنفى وَهُوَ الْقَائِد الْأَجَل الأنصح أَبُو عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري أَن يتَقَدَّم إِلَى ثغر الجديدة وَيُقِيم هُنَالك حَتَّى يَأْمُرهُ بِمَا يكون عَلَيْهِ عمله فامتثل الْقَائِد الْمَذْكُور وَلما قدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الثغر الْمَذْكُور اجْتمع بِهِ الْقَائِد الْمَذْكُور وَطلب مِنْهُ أَن يجدد لَهُ ظهيرا بالتوقير والاحترام حَسْبَمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ ووالده من قبله مَعَ السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد رحمهمَا الله فَأَجَابَهُ أعزه الله إِلَى ذَلِك وَكتب لَهُ ظهيرا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وَجعل فِي الصَّالِحَات طيه ونشره يسْتَقرّ بيد ماسكه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري ويتعرف مِنْهُ أننا بحول الله وقوته أَنزَلْنَاهُ الْمنزلَة الَّتِي كَانَ بهَا هُوَ ووالده عِنْد أسلافنا الْكِرَام ولحظناه بِعَين الرِّعَايَة والبرور والاحترام هُوَ وَأَوْلَاده وَإِخْوَته فَلَا يرَوا من جانبنا العالي بِاللَّه إِلَّا الْخَيْر لأَنهم خدام أَبنَاء خدام ودارهم دَار الْمحبَّة والنصيحة فَلَا نسلمهم وَلَا نفوتهم وَلَا نضيع لَهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 سالف خدمتهم وَلَا نكشف عَنْهُم جِلْبَاب حرمتهم بحول الله وقوته وَالسَّلَام صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي تَاسِع ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله أربه من ثغر الجديدة نَهَضَ إِلَى آزمور فَتَلقاهُ أَهلهَا بالفرح وَالسُّرُور والبهجة والحبور فهش لَهُم وقابلهم بِمَا يُنَاسب ودعا لَهُم بِخَير وزار ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب وَأبي عبد الله مُحَمَّد واعدود رَضِي الله عَنْهُمَا وَقدم لضريحهما ذَبَائِح وَطَاف بأسوار الْبَلَد وأبراجه وَأمر بتحصين برج هُنَالك كَانَ مُقَابلا للمرسى ثمَّ خرج من آزمور بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَانْتهى إِلَى مَدِينَة آنفى فَدَخلَهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي الْمَذْكُور وعزل عَنْهَا الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَولى مَكَانَهُ الْحَاج عبد الله بن قَاسم حِصَار السلاوي ثمَّ كتب إِلَى أبي عبد الله الجراري الْمَذْكُور بولايته على الجديدة وأعمالها وَنَصّ كِتَابه إِلَيْهِ خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإنَّا أعفيناك من ولَايَة الدَّار الْبَيْضَاء ووليناك على الجديدة وَلم نعزلك عَنْهَا سخطا لسيرتك وَلَا هضما لجَانب خدمتك وَإِنَّمَا اقْتَضَت الْمصلحَة ذَلِك تَقْدِيمًا للأهم فالأهم وَأَنت منا وإلينا ودارك دَار الْخدمَة وَالصَّلَاح فَلَا نسلمكم وَلَا نفوتكم وَلَا نهضم لكم جانبا وَالسَّلَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ وَاعْلَم أَن هَذَا الْعَامِل من أمثل عُمَّال السُّلْطَان نَصره الله وأعقلهم وأرجحهم وأنصحهم قد اسْتَعْملهُ الْمُلُوك الثَّلَاثَة الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَابْنه الْمولى الْحسن رَضِي الله عَنْهُم فظهرت كِفَايَته ونصيحته وحمدت ولَايَته وَسيرَته وَهُوَ الْآن بِهَذَا الْحَال حفظنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين آمين وَلما احتل السُّلْطَان أعزه الله بِالدَّار الْبَيْضَاء طَاف فِي أبراجها وَأمر الطبجية بِنصب الْأَغْرَاض الْمُسَمَّاة بالقريبيات فِي الْبَحْر ثمَّ أَمر برميها وَهُوَ حَاضر وَرُبمَا بَاشر مَعَهم ثمَّ اجتاز بعد الْفَرَاغ على بَاب المرسى وَمحل وضع السّلْعَة للتجار بهَا فَوقف عَلَيْهِ وتأمله كَمَا فعل بثغر الجديدة ووعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 بإصلاح المون على شاطىء الْبَحْر لِأَن البحرية يتعبون فِيهِ وَقت إِنْزَال السّلع ووسقها وَأقَام بِالدَّار الْبَيْضَاء بالمحلة خَارج الْبَلَد يَوْمَيْنِ وَأهْدى إِلَيْهِ تجارها من النَّصَارَى وَالْيَهُود وَالْمُسْلِمين وَأظْهر النَّصَارَى الْفَرح وَأَكْثرُوا من تَعْلِيق الصناجق وَإِيقَاد الحراقيات بِاللَّيْلِ وإرسالها فِي الجو فقابلهم السُّلْطَان أعزه الله بالجميل وَحمل النَّصَارَى مِنْهُم على خيل مُكَافَأَة لَهُم على هديتهم فطاروا بذلك فَرحا حَتَّى أَنهم كتبُوا بذلك لأهل دولتهم ونشروه فِي كوازيطهم وأجوبتهم وَفِي هَذِه الْمدَّة وَجه السُّلْطَان أعزه الله خديمه الأنجد الْفَاضِل أَبَا عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي باشدورا وسفيرا عَنهُ إِلَى دوَل الإفرنج مثل دولة افرانسا ودولة النجليز ودولة الطاليان ودولة البلجيك واستصحب مَعَه هَدَايَا نفيسة وأموالا طائلة صيرها فِي وجهته تِلْكَ ورافقه فِي سفارته هَذِه الْأمين الأرضى السَّيِّد بناصر ابْن السَّيِّد الْحَاج أَحْمد غَنَّام الرباطي برسم الْقيام بخطة الْأَمَانَة والقهرمانية وصاحبنا الْفَقِيه الأديب فلكي الْعَصْر وحاسبه الشريف أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس بن مُحَمَّد الجعيدي السلاوي برسم الْقيام بخطة الْكِتَابَة فوصلوا إِلَى أهل هَذِه الدول وقضوا الْغَرَض على أكمل الْوُجُوه وأحسنها وعادوا مسرورين فِي أَوَاخِر شعْبَان من السّنة وَفِي هَذِه الوجهة قيد صاحبنا أَبُو الْعَلَاء الْمَذْكُور رحلته البديعة الْمُسَمَّاة بتحفة الْأَحْبَار بِغَرَائِب الْأَخْبَار قد اشْتَمَلت على كل نادرة وغريبة وأفصحت عَن صنائع الفرنج وحيلها العجيبة وَعند قفوله وقدومه على حَضْرَة السُّلْطَان أيده الله مدحه بقصيدة جَيِّدَة مطْلعهَا (أسالم دهري فِي المرام وَفِي الْقَصْد ... فينقض مَا أبرمت للصلح من عقد) (وأسأله الرحمى فيبدي ازوراره ... ونفرته عني فيا عظم مَا يُبْدِي) (وَكم لي استرضيه وَهُوَ مغاضب ... وَلَا يرعوي عَمَّا جناه على عمد) وَمِنْهَا فِي آخرهَا (وهذي بَنَات الْفِكر مني هَدِيَّة ... إِلَى الْملك الْمَنْصُور ذِي الْجُود والرفد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 (فَإِن أهملت عدلا فَإِنِّي مهمل ... وإ، صادفت وَقت الْقبُول فيا سعدي) (وَمَا كنت فِي بَاب القريض مبرزا ... شهيرا وَلَكِنِّي تعاطيته جهدي) (لأجل امتحاني لذت فِيهِ بربنا ... فَأَصْبَحت ذَا وجد وَقد كنت ذَا فقد) (فها أَنا ضيف زائر لحماكم ... وحسبي رضاكم فَهُوَ نفس المنى عِنْدِي) (وَيَا رَبنَا أعْط الْأَمِير مرامه ... وظفره بالمطلوب مِنْك وبالقصد) ثمَّ إِن السُّلْطَان أعزه الله نَهَضَ من الدَّار الْبَيْضَاء وَمَعَهُ الْجند الوافر والعسكر المجر والجم الْغَفِير من قبائل الْحَوْز وَأهل دكالة وتامسنا فأوقع بعرب الزيايدة أهل تامسنا وَتقدم إِلَى رِبَاط الْفَتْح فدخله غرَّة جُمَادَى الأولى من السّنة فَمَكثَ بِهِ نَحْو سَبْعَة أَيَّام وَعبر إِلَى سلا فزار أولياءها وَدخل مَسْجِدهَا الْأَعْظَم وَصلى الظّهْر بِهِ وَأمه فِي صلَاته يَوْمئِذٍ صاحبنا الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي بن خضراء وَدخل السُّلْطَان أعزه الله خزانَة الْكتب العلمية بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور وتأملها وَمَعَهُ يَوْمئِذٍ شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر بن مُحَمَّد عواد فَطلب من السُّلْطَان أيده الله أَن يزِيد فِي شِرَاء الْكتب للخزانة الْمَذْكُورَة فَأذن لَهُ بِأَن يَشْتَرِي من ذَلِك مَا ثمنه نَحْو مائَة ريال فَفعل وَهِي يَوْمئِذٍ بالخزانة الْمَذْكُورَة وَوصل أيده الله عُلَمَاء العدوتين ومجاهديها على الْعَادة وَقد كنت أنشأت قصيدة فِي غَرَض من الْأَغْرَاض فَلَمَّا اتّفق قدوم السُّلْطَان أيده الله هَذِه الْمرة حولتها إِلَى مدحه وَنَصهَا (قلب كواه من النَّوَى مقباس ... فغدا بِهِ الوسواس والخناس) (ونحول جسم يشتكي ألم الضنى ... وجوى بِهِ تتصاعد الأنفاس) (والدمع فِي الوجنات محمرا غَدا ... ولدى الوشاة بِهِ انْتَفَى الإلباس) (إِن الألى يستعذبون ملامه ... مَا أَن لَهُم بعذابه إحساس) (قدما عذلت ذَوي الغرام سفاهة ... حَتَّى غَدَوْت بمنسميه أداس) (وحسبته حُلْو الجنى فأساغني ... من بأسه مَا لَا يسيغ الباس) (إِن الَّذين علقتهم قد انجدوا ... بمها الْخُدُور ودونها الحراس) (أبدا أُؤَمِّل فِي حَياتِي وصلهم ... وَالْيَوْم قد غلب الرَّجَاء الياس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 (مَا كنت أَحسب قبل إلمامي بهم ... إِن الظباء لَهَا الْبيُوت كناس) (تحكى بدور التم يخفي ضوءها ... ضوء الشموس إِذا بِهن تقاس) (من كل خود كاعب يهدي لنا ... نشر الخزامي عطفها المياس) (تسبي بقد السمهري وباسم ... يَرْمِي الشعاع كَأَنَّهَا النبراس) (وَكَأن هاتيك الخدود وفاحما ... فِي ظلها ورد حواه الآس) (لله مَا عَيْش تقضي بَيْننَا ... فَكَأَنَّمَا أَيَّامه الأعراس) (طَابَ السرُور لنا بِهِ وتأرجت ... آصاله وافترت الأغراس) (أَيَّام روض اللَّهْو غض نوره ... ومنادمي فِيهِ المنى والكاس) (بِاللَّه يَا قلب استفق ودع الْهوى ... إِن الْهوى غول النهى الفراس) (أَو مَا رَأَيْت المخلدين إِلَى المنا ... سكنوا الثرى وعراهم الإفلاس) (واعمل ليَوْم لَا تخس شعيرَة ... فِيهِ إِذا مَا ينصب القسطاس) (وابك الذُّنُوب بكاء خندف بَعْلهَا ... لما جلا عَن ربعهَا الياس) (وَإِذا حوت كَفاك فَابْن مبادرا ... مجدا تخلده لَك الأنقاس) (من غير تبذير لمَالِك لَا تكن ... حُلْو الجنا فتلوكك الأضراس) (كم من فَتى جَازَ الحضيض إِلَى الذرى ... وَبنى على لم تبله الأرماس) (وَإِذا وعدت فَكُن لوعدك مُنجزا ... كَيْمَا ترى لَك فِي الفخار غراس) (فالمنع فِي جنب الْوَفَاء صَنِيعَة ... والتبر فِي جنب المطال نُحَاس) (وَإِذا حصلت على الرياسة فاذكرن ... من كَانَ يجمعه بك الإيناس) (وَاحْذَرْ مناصبة الدنى فَرُبمَا ... خَان الحسام وطاشت الأقواس) (كم يغن يَوْمًا عَن كُلَيْب مجده ... لما حشاه بالقنا جساس) (وَإِذا تصاحب فاصحبن مهذب ... راز النهى وَله بِهن مراس) (فالمرء وَيحك إِنَّمَا يذري بِهِ ... ويزينه الْأَصْحَاب والجلاس) (وَإِذا البذي جفاك يَوْمًا فاحتسب ... فالجهل بالطبع الْكَرِيم يساس) (وَإِذا عرتك ملمة فاصبر وَلَا ... تكن الجزوع وهمك الإيجاس) (واحفظ لسَانك واله من عيب الورى ... كل امرىء بفعاله منقاس) (وادأب على حفظ الْعُلُوم وَكن بهَا ... ذَا خبْرَة وملاذك الأطراس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 (فالعلم أَنْفَع للفتى وأجله ... مَا قد وعاه الْقلب لَا القرطاس) (وارو الحَدِيث وَكن بِهِ متأدبا ... وَالْفِقْه حَقَّقَهُ يطعك قِيَاس) (وأقم بِعلم النَّحْو لفظك ولتكن ... فِيهِ الْمُقدم إِذْ بِهِ الإيناس) (كل الْعُلُوم إِذا نظرت رَأَيْتهَا ... والنحو مِصْبَاح لَهَا وأساس) (واكتب من الشّعْر الْمُهَذّب نبذة ... فالشعر أفضل مَا وعاه الراس) (إِن لم تقله فَكُن لَهُ مستحضرا ... إِن رمت نطقا يرتضيه النَّاس) (كم من وضيع قد علا بقريضه ... رتبا تشرفه وحسبك شَاس) (إِذْ خلصته من الأسار وقده ... أَبْيَات عَلْقَمَة الْفَتى القنعاس) (وَإِذا قصدت أَخا النوال بمدحة ... فاقصد فَتى لَهُ فِي الندى آراس) (مثل الإِمَام أبي عَليّ الرضي ... حسن الَّذِي هُوَ فِي العلى نبراس) (الْمَاجِد الْملك الْهمام المرتضى ... فَخر الْمُلُوك سنامها والراس) (شملت بِلَاد الغرب رأفته وَقد ... بهج الزَّمَان وعمت الأرغاس) (وحبا الورى من نيله حَتَّى لقد ... طَابَ السرُور وَطَابَتْ الأنفاس) (سعدت بمقدمه سلا وتقدست ... مراكش الْحَمْرَاء مِنْهُ وفاس) (أبدا سيوف الْعَزْم مِنْهُ على العدا ... برق وغيث نواله بجاس) (شهم بَصِير بالأمور مجرب ... يقظان من دَاء الضَّلَالَة ياس) (حلب الزَّمَان شطوره فَمَتَى اعتصى ... دَاء الخطوب فرأيه النسطاس) (يلقى الْوُفُود بحشمة وطلاقة ... لَا يختشى مِنْهُ أَذَى وشماس) (فِي الْجُود كَعْب والبسالة عَامر ... والحلم قيس والذكاء إِيَاس) (فَالله يحفظه ويحفظ ملكه ... حَتَّى يُصِيب عداهُ مِنْهُ عماس) (ويشيد لِلْإِسْلَامِ من عزماته ... عزا تطأطىء دونه الْأَجْنَاس) (وينيله مجدا ينسى ذكره ... فِي عزة قعساء لَيْسَ نقاس) (فليعل ملك بني على وليدم ... مَا خلدت مَرْوَان وَالْعَبَّاس) وَقد تَبِعنِي صاحبنا شَاعِر الْعَصْر الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر حركات فِي رُوِيَ هَذِه القصيدة دون بحرها وَهِي من ميلادياته قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 (أدر كؤوسك فالسراء فِي الكأس ... واشرب على طرب بروضك الكاسي) (وقم لتنظر وَجه الدَّهْر مبتهجا ... مُسْتَبْشِرًا بعد تقطيب وتعباس) (والأفق طلق وَذَا النسيم منطلق ... مسكي نشر خلال الجو جواس) (وَالْأَرْض تضحك من بكا الْغَمَام كَمَا ... يشكو الكئيب على مستهزىء قاسي) (كَأَنَّهَا وَهِي بِالربيعِ حَالية ... عواطل قد تحلت يَوْم أعراس) (وَالْوَرق من ضحك الأزهار نائحة ... كنوح صب على أحبابه آسى) (والدوح زاهية الأفنان زاهرة ... تهدي الْبَهَاء إِلَى البهار والآس) (كَأَنَّمَا الزهر إِذْ ترَاهُ منتثرا ... على جداولها الْحباب فِي الكاس) (كَأَنَّمَا طيب نشره شمائل من ... قد سَاد بالمكرمات سَائِر النَّاس) (إمامنا الْحسن المجلي بطلعته ... عَن الورى كل أزمة وقسقاس) (كسا الرّعية أَثوَاب المنى جددا ... من بعد مَا اشْتَمَلت بِكُل إدراس) (سبط الرَّسُول وَفرع من سلالته ... طيب الْفُرُوع ترى بِطيب أغراس) (خَليفَة الله من دَانَتْ لعزته ... شم الْمُلُوك برغم كل دمناس) (أنداهم فِي الندى كفا وأشجعهم ... قلبا وأسطاهم بِكُل دعاس) (من ذَا ينازله عِنْد الجلاد وَهل ... يهول اللَّيْث يَوْمًا صوب ولاس) (قد عَمه النَّصْر فِي ورد وَفِي صدر ... وحفه الْيمن من سَاق إِلَى راس) (مولى تردى رِدَاء المكرمات فَقل ... مَا شِئْت فِي شيم لَهُ واتواس) (لم يمض مشبهه على الْحَقِيقَة فِي ... بني أُميَّة أَو أَبنَاء عَبَّاس) (من ذَا يدانيه فِي حلم وَفِي كرم ... وَمن يضاهيه فِي الْإِقْدَام والباس) (يَا كم بِهِ قوي الضَّعِيف وامتلأت ... كف الْفَقِير وأثرى رب إفلاس) (سلا كَمثل سلا الغرا وضرتها ... أَو مثل مراكش وحضرتي فاس) (فكم بهَا من مآثر لَهُ كرمت ... لَيست تعد بأقلام وأنقاس) (بل كل مصر وقرية لَهُ ديم ... تهمي لأهلهما بِكُل ارغاس) (فدا الْأَمِير أدام الله عزته ... طول المدى كل أنفس وأنفاس) (إليكها أَيهَا الجحجاح مائسة ... أزرت طلاوتها بِكُل مياس) (خريدة من بَنَات الْفِكر غانية ... لرقمها يتَمَنَّى كل قرطاس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 (جاءتك تطلبك الْقبُول عائذة ... بِاللَّه من شَرّ وسواس وخناس) (فليهنها أَنَّهَا تشرفت بك إِذْ ... حوت مَعَاني من مديحك الراسي) (وَأَنَّهَا لَك قد وافت مهنئة ... بليلة ذَات أسفار وإهلاس) (أكْرم بهَا لَيْلَة غراء قد فضلت ... بِأَفْضَل الرُّسُل كل ذَات إغباس) (إِذْ أشرق الْكَوْن من أنوار مولده ... حَتَّى كَفاهُ سناها كل نبراس) (والشرك فِي الْهون قد أضحت طوائفه ... مستيقنين حُلُول الْبُؤْس والبأس) (إِذْ هالهم أَمر أَحْمد وأوقعهم ... فِي حيرة عبثت بهم وإبلاس) (تيقنوا أَنه مَا كَانَ يُخْبِرهُمْ ... بِشَأْنِهِ كل قسيس وشماس) (وأصبحت جملَة الْأَصْنَام سَاقِطَة ... منكسات الرؤوس أَي تنكاس) (وَفِي انصداع الْبناء أَصبَحت عبر ... لَهُم كَذَا فِي خمود نَار أَفْرَاس) (وَالْجِنّ لَا تصل السَّمَاء إِذْ منعت ... مِنْهَا بشهب لرميها وحراس) (وَمن يرم مِنْهُم للسمع مسترقا ... ينحط محترقا مِنْهَا بمقباس) (مُحَمَّد صفوة الْبَارِي وَخيرته ... من خلقه الْجِنّ والأملاك وَالنَّاس) (جَاءَت شَرِيعَته البيضا مطهرة ... للدّين من كل أدران وأدناس) (وَلم تزل أمد الْأَعْصَار رَافِعَة ... عَن الْهَدْي كل شُبْهَة وتدلاس) (أصل الْهدى والندى فَلَيْسَ يُشبههُ ... هطال غيث وَلَا تيار رجاس) (فَلَا تقسه بِشَيْء فِي مكارمه ... فَمَا ترام خلاله بمقياس) (فَإِنَّهُ الْبَحْر فِي فضل وَفِي كرم ... وَفِي الشجَاعَة ضيغم بأخياس) (كَانُوا بِهِ يَتَّقُونَ فِي الوغا بَدَلا ... عَن اتِّخَاذ مغافر وأتراس) (أسرى بِهِ الْملك الْأَعْلَى لحضرته ... وَالروح مونسه أتم إيناس) (وَاللَّيْل أحرس لَيْسَ فِيهِ يسمع من ... صياح ديك وَلَا عواء لواس) (حَتَّى دنا فَتَدَلَّى ثمَّ كَلمه ... وَقد رأى ربه بمقة الراس) (ونال من فَضله عزت جلالته ... مَا لَا يسام بأوهام وأحداس) (فآب وَالدّين أسست قَوَاعِده ... على أصُول حميدة وأساس) (ترَاهُ كَالْقَمَرِ الْمُنِير فِي غسق ... من الدجى بَين أَصْحَاب وجلاس) (غَدا يحدث والملا يصدقهُ ... وَلَيْسَ يرتاب غير المائق الماس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 (دَعَا على المعتدي عتيبة فغدا ... يَوْمًا بدعوته قَتِيل هماس) (ورد عين قَتَادَة فَصَارَ بهَا ... بعد الْعَمى ذَا تمقل وإيناس) (وَالْمَاء من كَفه السمحاء سَالَ فكم ... من وَارِد عذبه الروي وَكم حاسي) (هُوَ الرَّسُول الَّذِي جمت فضائله ... فَلَيْسَ تحصر أَو تحصى بأطراس) (مديم ذكر فَإِن تذهل لواحظه ... فالقلب لَيْسَ بذاهل وَلَا ناسي) (فالأرض طاولت السَّمَاء قائلة ... لخير رسل بِبَطن خير ارماس) (كل النَّبِيين طرا لائذون بِهِ ... كَمثل نوح وَيُونُس والياس) (كَذَاك مُوسَى وَعِيسَى والخليل بِهِ ... لدفع باس بِيَوْم الْحَشْر أباس) (يَا أكْرم الْخلق يَا خير الورى شرفا ... يَا من أَتَانَا بتطهير وتقداس) (أشكوك دَاء أساي فأسه كرما ... فَمَا لداء الأسى سواك من آسى) (قسا الزَّمَان وَفِي قسم النوائب لم ... يعدل فيا ويحه من قَاسم قاسي) (لَكِن قصدتك والكريم قاصده ... مَا أَن يرد بخيبة وَلَا يأس) (وَقد توسلت للْمولى بجاهك أَن ... يشد بالشرعة الْبَيْضَاء أمراسي) (وَأَن يحسن أعمالي ومعتقدي ... فِيهِ ويكشف بلبالي ووسواسي) (وَأَن يعاملني بِالْعَفو عَن زللي ... وَأَن يُبدل إقلالي بإقعاس) (وَأَن يهيىء أَسبَاب السَّعَادَة لي ... حَتَّى أُنِيخ بِذَاكَ الْبَيْت عرماسي) (إِذْ قلت من أم طيبتي وَمَات بهَا ... نَالَ الشَّفَاعَة فِي أهل وَفِي نَاس) (صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا نفحت ... نوافح الزهر من دوح وأخياس) (صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا اعتصمت ... بك الْخَلَائق من عَار وَمن كاس) (صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا رمقت ... بيض الْقَرَاطِيس يَوْمًا سود أنقاس) (والآل مَا قَالَ نشوان بحبهم ... أدر كؤوسك فالسراء فِي الكاس) ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أعزه الله من رِبَاط الْفَتْح فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَاصِدا مكناسة وَجعل طَرِيقه على زمور الشلح فَخَرجُوا إِلَيْهِ متذللين خاضعين متقربين إِلَيْهِ بالهدايا والضيافات فَضرب عَلَيْهِم الإتاوة والبعث فانقادوا ثمَّ دخل أعزه الله مكناسة ثامن عشر الشَّهْر الْمَذْكُور فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة كَذَلِك ريثما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 اجْتمعت إِلَيْهِ الْجنُود وَخرج قَاصِدا بِلَاد وَجدّة وَبني يزناسن وَكَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود وَكَانَ خُرُوجه من فاس منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة فاجتاز بتازا وأناخ على قَبيلَة غياثة جاعلا الهضبة الْمَعْرُوفَة بِذِرَاع اللوز أَمَامه قبْلَة ووظف عَلَيْهِم الْمُؤْنَة قيل إِنَّه وظف عَلَيْهِم مائَة صَحْفَة من الْقَمْح وَالشعِير فدفعوا شَيْئا يَسِيرا وعجزوا وتعللوا بِأَن هَذَا الَّذِي جرت الْعَادة أَن يدفعوا للملوك من قبل وَكَانَت هَذِه الْقَبِيلَة لم يهجها هيج مُنْذُ قديم لتحصنهم بجبالهم وأوعارهم وَلَهُم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فَظهر للسُّلْطَان أعزه الله قِتَالهمْ فَقَاتلهُمْ يَوْم الْخَمِيس أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور واقتحم عَلَيْهِم حصنهمْ الْمَعْرُوف بالشقة وَهُوَ خَنْدَق بَين جبلين فِيهِ وَاد وعَلى حافتيه بناءات ودور فَحرق ذَلِك كُله وهدمه وانتسف مَا فِيهِ من قَمح وشعير وأدام وَغير ذَلِك وَقطع مِنْهُم رؤوسا يسيرَة وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعشْرُونَ من الشَّهْر الْمَذْكُور ركب السُّلْطَان أيده الله وَركب مَعَه أهل الْمحلة إِلَّا قَلِيلا وَقدم المدافع والمهاريس أَمَامه واقتحم الشقة فَتَبِعَهُ النَّاس ودخلوا بِلَاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أَهلهَا فهزموهم وَالسُّلْطَان أَمَام الْجَيْش فِي موكبه فَسَار حَتَّى بلغ المداشر وَرمى عَلَيْهَا من الكور والبنب شَيْئا يَسِيرا وَكَانَت غياثة قد وضعت الكمائن على الأنقاب وشحنوها بالرماة وَتركُوا منفذا وَاحِدًا يُفْضِي إِلَى مهواة متلفة ذَات شقوق غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لَا يدْرك قعرها وَلَا يبصرها إِلَّا من وقف عَلَيْهَا وَلما وغل الْجَيْش فِي مَزَارِعهمْ ومداشرهم خرجت الكمائن من خَلفهم ورموهم عَن يَد وَاحِدَة بالرصاص فدهش النَّاس وتذكروا فعلهم الْقَدِيم من الانهزام عَن الْمُلُوك بِلَا مُوجب إِذْ لم يكن فِي شَوْكَة غياثة هَؤُلَاءِ وكثرتهم مَا ينهزم مِنْهُ ذَلِك الْجَيْش اللهام وَلَو تلبثوا يَسِيرا وقاوموهم لهزموهم فِي الْحَال كَمَا هزموهم أول مرّة وَلَكِن الْعَادة الْعَادة فَوَلوا مُدبرين لَا يلوون على شَيْء وتكاثر الرصاص على موكب السُّلْطَان حَتَّى سقط حَامِل الرَّايَة وجرح الْمولى عَرَفَة أَخُو السُّلْطَان وَقتل سَيِّدي مُحَمَّد بن الحبيب نقيب الْأَشْرَاف بالعدوتين وَأما الْجَيْش وقواده فَإِنَّهُم لما انْهَزمُوا صرفُوا وُجُوههم إِلَى المهواة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 الَّتِي ذكرنَا وقصدوها على عمياء وَقد ارْتَفع دُخان البارود وغبار الْخَيل فتهافتوا فِيهَا تهافت الْفراش فِي النَّار لَا يعلم اللَّاحِق مَا وَقع بالسابق إِلَى أَن امْتَلَأت من الْخَيل وَالرِّجَال والأثاث وَمَا كَادَت وَكَانَ ذَلِك قَضَاء من الله وتمحيصا مِنْهُ فَهَلَك من النَّاس وَالْخَيْل مَا لَا يُحْصى وَبقيت أشلاؤهم ناشبة فِي تِلْكَ الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السُّلْطَان أعزه الله عَن فرسه حَتَّى خلص من تِلْكَ الشقوق ثمَّ ركب وَاجْتمعَ النَّاس عَلَيْهِ وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثمَّ انشمر غياثة بعْدهَا إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَتركُوا المداشر والجنات فاقتحهما السُّلْطَان بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عَلَيْهِم فَلم يقف أَمَامه مِنْهُم أحد فعاث فِيهَا وحرقها وَجعلهَا حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَكتب أيده الله بذلك إِلَى الْآفَاق وَذكر فِي كِتَابه أَن الْخَيل وَالرُّمَاة قد انتسفوا بِلَادهمْ انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حَتَّى أشرفوا على بِلَاد جيرانهم وأناخوا فِيهَا بكلكلهم وجرانهم ثمَّ توجه السُّلْطَان نَصره الله إِلَى نواحي وَجدّة فَانْتهى إِلَيْهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة فَتَلقاهُ بَنو يزناسن خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم لكَوْنهم ثغرا من ثغور الْمُسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدّين إِلَّا أَنه عزل عَنْهُم ولد البشير وَبعث بِهِ مسجونا إِلَى فاس وَولى عَلَيْهِم قوادا مِنْهُم من أهل الحزم والنجدة ووظف عَلَيْهِم قدرا صَالحا من المَال فشرعوا فِي دَفعه فِي الْحَال والتزموا رد مَا تعلق بذممهم من الْمَظَالِم وصلحت أَحْوَالهم واستقام أَمر تِلْكَ النَّاحِيَة وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله غَرَضه مِنْهَا قفل رَاجعا إِلَى فاس فَدَخلَهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار يَقُول هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حُلُول عز وظفر وإسعاد وَنصر من لَدنه لم يكن بحيلة وَلَا استعداد وَذَلِكَ بعد الْفَرَاغ من تَرْتِيب تِلْكَ الْقَبَائِل وتطهيرها مِمَّا تعلق بهَا من الرذائل ونلنا بِفضل الله فِي هَذِه الْحَرَكَة من أثر الْخَيْر واليمن وَالْبركَة مَا أثلج الصُّدُور وحمدنا غبه فِي الْوُرُود والصدور وَتَركنَا أهل تِلْكَ النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن مَا يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بِالْقَلْبِ والقالب سرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وإعلانا وأبقينا طَائِفَة من جيشنا السعيد عِنْد قبائل الرِّيف زِيَادَة فِي الاطمئنان والتأليف بِقصد اسْتِيفَاء مَا بذممهم من الْوَاجِب واستخلاص مَا تعلق بهم من الْحُقُوق الَّتِي ألزموها ضَرْبَة لازب وَذَلِكَ كُله من تيسير الله ورفده وفضله على عَبده فَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْده فَأَما نَحن فَلَا حول لنا وَلَا قُوَّة وَلَا أنصار مرجوة وَلَا نعتمد على عدَّة وَلَا عدد بل على فَضله تَعَالَى الْمعول وَالْمُعْتَمد عرفنَا الله حق النِّعْمَة وألهمنا شكرها وحمدها وأجرانا على عوائده الجميلة وفوائده الجليلة الَّتِي لَا يقدر قلم الواصف أَن يدْرك حصرها وَحدهَا وَقد اقْتضى نَظرنَا العالي بِاللَّه إعلامكم بذلك لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بتأييد الله وَنَصره وتخلصوا فِي حمد نعمه الجزيلة وشكره وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه اسْتمرّ السُّلْطَان أعزه الله مُقيما بفاس وجد فِي بِنَاء مقاصيره ومنتزهاته ببستان آمِنَة من فاس الْجَدِيد وَكتب أيده الله إِلَى وصيفه أَحْمد بن مَالك قَائِد الْجَيْش السُّوسِي بالمنشية من حَضْرَة مراكش أَن بيني لَهُ على الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب الرئيس من الدَّار الْكُبْرَى بالحضرة المراكشية قبَّة فارهة ويبالغ فِي رَفعهَا وتنجيدها وتنميقها فشرع فِيهَا فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكُنَّا يَوْمئِذٍ نتولى إحصاء صائرها وصائر غَيرهَا من البناءات المراكشية فَكَانَ مَا صير على الْقبَّة وَحدهَا أَكثر من مائَة ألف مِثْقَال وَكَذَلِكَ بنى بمكناسة الْقبَّة الْعَظِيمَة الَّتِي طاولت السَّمَاء ترفعا وَذَهَبت فِي الجو صعدا بِحَيْثُ أشرفت على مَا حولهَا من بسيط سائس وَغَيره حَتَّى صَارَت مثلا فِي الطول والاشتهار وَبنى أعزه الله قبَّة عَظِيمَة حفيلة على ضريح الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الصَّالح ابْن الْمُعْطِي الشرقاوي بِأبي الْجَعْد فصير عَلَيْهَا أَكثر من ثَلَاثِينَ ألف مِثْقَال تقبل الله مِنْهُ وَفِي عَاشر شَوَّال من هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الناسك قَاضِي رِبَاط الْفَتْح أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن التهامي البريبري وَدفن بزاوية حنصالة من الْبَلَد الْمَذْكُور وَكَانَ رَحمَه الله من أمثل قُضَاة الْوَقْت وَمن المتحريين للعدل ولي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 الْقَضَاء برباط الْفَتْح أَكثر من عشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنهُ من غير عزل وَدخل دَاره فَلم يخرج بعد فَاحْتمل السُّلْطَان وَالنَّاس ذَلِك واعتقدوه وَاسْتمرّ حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب شَاعِر الْعَصْر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد أكنسوس المراكشي وَدفن قرب ضريح الإِمَام أبي الْقَاسِم السُّهيْلي خَارج بَاب الرب من مراكش وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من النَّاس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش رَحمَه الله وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ولد لنا ولد سميناه مُحَمَّدًا الْعَرَبِيّ وَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَنه ولد مختونا وَلذَا ذَكرْنَاهُ هُنَا وَهُوَ الْآن حَيّ أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وَجعله من عباد الله الصَّالِحين وَمن الْعلمَاء العاملين آمين وَفِي جُمَادَى الأولى من السّنة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي الاستعداد بالحضرة الفاسية للحركة اسْتِعْدَادًا لم يتَقَدَّم لَهُ مثله حَتَّى أَنه كتب إِلَى أَخِيه وخليفته بمراكش الْمولى عُثْمَان بن مُحَمَّد أَن يُوَجه إِلَيْهِ من الْعدة الرومية وَهِي مكاحل مركبة فِيهَا توافلها مَا قدرهَا ألف وسِتمِائَة وَعِشْرُونَ مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وَأَن يُوَجه إِلَيْهِ أَرْبَعمِائَة ألف وَعشرَة آلَاف من الْحبَّة الْمَذْكُورَة وَعشرَة قناطير من البارود وَمِائَة قِنْطَار من ملحه ومدفعين وَكتب أعزه الله إِلَى أُمَنَاء الصائر بِأَن يبعثوا إِلَيْهِ بثلاثمائة وَسِتِّينَ سرجا وسِتمِائَة كسْوَة من الملف للعسكر وَخَمْسَة عشر ألفا من الْبلْغَة وَمثلهَا من النعالة وَبعث أعزه الله عَمه الْمولى الْأمين بن عبد الرَّحْمَن إِلَى رِبَاط الْفَتْح لجمع عَسَاكِر الثغور وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وَبني حسن وَغَيرهم وَوجه أَخَاهُ الْمولى الْحسن الصَّغِير لحشد قبائل الدَّيْر والجيش المتفرق بهَا ثمَّ كَانَ خُرُوج السُّلْطَان من فاس إِلَى مكناسة أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما سَمِعت قبائل البربر بِخُرُوجِهِ ارتابت وحذرت وظنت كل قَبيلَة أَنَّهَا الْمَقْصُودَة ففرت مجاط وَبَنُو مطير إِلَى رُؤُوس الْجبَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وفرت عرب عَامر من بني حسن إِلَى زمور الشلح وَكَانَ النَّاس يظنون أَن السُّلْطَان يَغْزُو فِي هَذِه السّنة برابرة الْجبَال والصحراء فَخرج الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك وَفِي هَذِه الْمدَّة وَفد على السُّلْطَان أيده الله عدَّة باشدورات للآجناس مثل باشدور الفرنسيس والإصبنيول والبرتغال وَتكلم الفرنسيس فِي شَأْن بابور الْبر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كَمَا هما بِسَائِر بِلَاد الْمَعْمُور وَزعم أَن فِي ذَلِك نفعا كَبِيرا للْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَهُوَ الله عين الضَّرَر وَإِنَّمَا النَّصَارَى أجربوا سَائِر الْبِلَاد فأرادوا أَن يجربوا هَذَا الْقطر السعيد الَّذِي طهره الله من دنسهم نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ أَن يكْتب كيدهم ويحفظ الْمُسلمين من شرهم ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان نَصره الله من مكناسة فِي أواسط رَجَب فِي جمع وافر وعدة كَامِلَة فاجتاز بِبِلَاد زمور الشلح فأظهروا لَهُ غَايَة الطَّاعَة والخضوع وقدمت عَلَيْهِ وفودهم من كل جَانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وأعيادهم وأدوا لَهُ من المَال والمؤن والضيافات مَا استكثر النَّاس ذَلِك وتحدثوا بِهِ ثمَّ زحف إِلَى عرب السهول من أَعمال سلا فأوقع بهم وشرد بهم من خَلفهم وَكتب أعزه الله فِي الْعشْرين من رَمَضَان إِلَى الْآفَاق يعلمهُمْ بِمَا أتاح الله لَهُ من الظُّهُور والنصر والسعادة وخضوع قبائل البربر لَهُ وتباريهم فِي طَاعَته وخدمته وبذلهم من الجباية مَا لم يَكُونُوا يبذلون الْقَلِيل مِنْهُ لغيره وَذكر فِي كِتَابه أَن ذَلِك كُله بمحض فضل الله ومجاري السَّعَادَة وَحسن السياسة من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا سفك دم حَتَّى أَن قَبيلَة بني حكم قد أظهرُوا بعض الاعوجاج فَقَامَ إِلَيْهِم إخْوَانهمْ من زمور فَقومُوا اعوجاجهم حَتَّى فاؤوا إِلَى أَمر الله وَكفى الله السُّلْطَان أَمرهم ثمَّ ذكر فِي كِتَابه أعزه الله أَمر السهول وَأَنه بعد أَن أوقع بهم أَمر بِجمع فَلهم وَرَأى استصلاح كلهم تَأْمِين جلهم لعمارة بِلَادهمْ بهم رَجَاء نفع مَا تقدم من أدبهم وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الرَّابِع عشر من شعْبَان من السّنة خسف الْقَمَر خسوفا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 كليا بِحَيْثُ ذهب نوره واختفى شخصه حَتَّى لم ير مِنْهُ شَيْء وَبَقِي كَذَلِك نَحْو ساعتين ثمَّ أَخذ فِي التجلي شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن عَاد إِلَى امتلائه وَفِي هَذِه الْمدَّة قلت فلوس النّحاس بمراكش وأعمالها حَتَّى كَادَت تنعدم وَذَلِكَ بِسَبَب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فَكَانَ صرفه بمراكش يَوْمئِذٍ بِثَلَاث وَسِتِّينَ أُوقِيَّة وَصَرفه بفاس بِثَلَاث وَخمسين أُوقِيَّة فَصَارَ التُّجَّار يجلبون فلوس النّحاس من مراكش إِلَى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون فِي كل ريال نَحْو مِثْقَال وتمالؤوا على ذَلِك وتوفرت دواعيهم عَلَيْهِ حَتَّى قلت الْفُلُوس بمراكش وتقاعد النَّاس عَلَيْهَا لما فِيهَا من الرِّبْح وتعطل معاش الضُّعَفَاء بذلك وَلحق النَّاس ضَرَر كثير فَكَانَ الرجل يطوف بالبسيطة والريال فِي الْأَسْوَاق فَلَا يجد من يصرفهُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَن يَشْتَرِي من ضروريات معاشه مَا قِيمَته أقل من بسيطة واتصل الْخَبَر بالسلطان أعزه الله فَكتب فِي الْآفَاق يَأْمر النَّاس برد صرف الريال إِلَى الثَّلَاثَة مَثَاقِيل وَربع مِثْقَال فامتثل النَّاس ذَلِك وَنُودِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق فانعكس الْحَال على التُّجَّار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الْفُلُوس فِي الْأَسْوَاق حَتَّى صَارَت مُعَاملَة النَّاس لَيست إِلَّا بهَا وَحصل للتجار من الضَّرَر فِي رخص الريال مَا كَانَ حصل للضعفاء فِي قلَّة الْفُلُوس لِأَن التُّجَّار حِينَئِذٍ صَارُوا يبيعون سلعهم الَّتِي بذلوا فِيهَا الريال الغالي بالقراريط النحاسية الَّتِي صَار صرف الريال فِيهَا على النّصْف فَأمْسك النَّاس سلعهم وامتنعوا من بيعهَا وتعطلت الْمرَافِق أَو كَادَت فَكتب السُّلْطَان ثَانِيًا برد أسعار السّلع والأقوات على النّصْف مِمَّا كَانَت حَتَّى تحصل الْمُسَاوَاة بَين الْأَثْمَان والمثمنات فَنَشَأَ بذلك هرج كَبِير وضرر للنَّاس فِي معاشهم وأبى الله إِلَّا أَن تعود السِّكَّة إِلَى حالتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَقد بَينا الْعلَّة فِي ذَلِك قبل هَذَا وَأَن السكَك والأسعار لَا تزَال فِي الزِّيَادَة مَا دَامَت المخالطة مَعَ الفرنج تكْثر بكثرتها وتقل بقلتها وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث رَمَضَان من السّنة توفّي عَالم الْمغرب السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي كَانَ عَلامَة متقنا فصيحا عَارِفًا بصناعة الدَّرْس حسن الْإِيرَاد فِيهِ بِحَيْثُ فاق أهل زَمَانه يُقَال إِن لَهُ تآليف لَكِن لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 نقف على شَيْء مِنْهَا رَحمَه الله ثمَّ عيد السُّلْطَان عيد الْفطر من هَذِه السّنة بزبيدة من بِلَاد زعير وَلم يدْخل رِبَاط الْفَتْح على قربه مِنْهَا ووفدت عَلَيْهِ هُنَالك قبائل الْمغرب وَأهل الْأَمْصَار فَشَهِدُوا الْعِيد مَعَه وَأَجَازَهُمْ وكساهم على الْعَادة وَلما فرغ من أَمر الْعِيد عين عَامل رِبَاط الْفَتْح وَهُوَ الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مُحَمَّد السُّوسِي وَعين الْحَاج عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بريشاء التطاوني والحاج مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق ابْن شقرون الفاسي للذهاب إِلَى مادريد دَار ملك الإصبنيول بِقصد السفارة عَنهُ إِلَى دولتهم والمكافأة لَهُم على مَجِيء باشدورهم حَسْبَمَا مر التَّنْبِيه عَلَيْهِ فَفَعَلُوا وعادوا بِحَيْثُ أدركوا عيد الْأَضْحَى من السّنة مَعَ السُّلْطَان أعزه الله بمراكش ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان بعد عيد الْفطر من زبيدة يؤم الْبِلَاد المراكشية فاجتاز بتادلا وَسكن قبائلها وأوقع ببني عُمَيْر وَقبض مِنْهُم على مَا يناهز أَرْبَعمِائَة مسجون سيقت فِي السلَاسِل والأغلال إِلَى السجْن وفر بَنو مُوسَى إِلَى رُؤُوس الْجبَال حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ السُّلْطَان على الْأمان ودخلوا فِي الطَّاعَة والتزموا الْخدمَة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أيده الله إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي عشر ذِي الْحجَّة من السّنة فَكَانَ بهَا عيد لم يعْهَد النَّاس مثله مُنْذُ قديم وَكتب إِلَى الْآفَاق يعلم النَّاس بِمَا من الله بِهِ من النَّصْر والتأييد وَالْفَتْح والعز المديد وَأقَام السُّلْطَان بمراكش فِي هَذِه الْمرة مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَت هَذِه السّنة من أَشد السنين على الْمُسلمين قد تعدّدت فِيهَا المصائب والكروب وتلونت فِيهَا النوائب والخطوب لَا أَعَادَهَا الله عَلَيْهِم فَكَانَ فِيهَا أَولا غلاء الأسعار وَكَانَ منشأه وابتداؤه من تثقيف السِّكَّة فِي آخر السّنة الْمَاضِيَة ثمَّ عقب ذَلِك انحباس الْمَطَر لم تنزل من السَّمَاء قَطْرَة وأجيحت النَّاس وَهَلَكت الدَّوَابّ والأنعام وعقب ذَلِك الْجُوع ثمَّ الوباء على ثَلَاثَة أَصْنَاف كَانَت أَولا بالإسهال والقيء فِي أوساط النَّاس بادية وحاضرة ثمَّ كَانَ الْمَوْت بِالْجُوعِ فِي أهل الْبَادِيَة خَاصَّة هلك مِنْهُم الجم الْغَفِير وَكَانَ إخْوَانهمْ يحفرون على من دفن مِنْهُم لَيْلًا ويستلبونهم من أكفانهم عثر بسلا على عدد مِنْهُم وَأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 السُّلْطَان أعزه الله عُمَّال الْأَمْصَار وأمناءها أَن يرتبوا للنَّاس من الأقوات مَا ينتعشون بِهِ فَفَعَلُوا وَبعد هَذَا كُله حدث الوباء بالحمى فِي أَعْيَان النَّاس وأماثلهم فَهَلَك مِنْهُم عدد كثير وَفِي هَذِه المسغبة مد النَّصَارَى أَيْديهم إِلَى الرَّقِيق فاشتروه وَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك أَنهم كَانُوا يعاملون ضعفاء الْمُسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى شِرَاء الرَّقِيق مِنْهُم وَالْأَمر لله وَحده يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَ فِي أوائلها موت النَّاس بالحمى كَمَا قُلْنَا فَمَاتَ فِي الْمحرم مِنْهَا الْوَزير الْأَعْظَم أَبُو عمرَان مُوسَى بن أَحْمد وَكَانَ شعلة ذكاء وتمثال فطنة ودهاء غفر الله لنا وَله واستوزر السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه الْأَخير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي من بَيت الوزارة وَأهل العراقة فِيهَا ويبلغنا عَنهُ أَنه يحب أهل الْخَيْر ويلين جَانِبه للضعفاء وَالْمَسَاكِين وَيُحب السُّلْطَان وَينْصَح لَهُ ويغار على جَانِبه الْمُعظم وحماه الْمُحْتَرَم ويتجافى عَن الطمع الَّذِي هُوَ أصل كل مفْسدَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا سدده الله وَفِي ظهر يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد كَانَ رَحمَه الله من أهل الْمُشَاركَة فِي الْعلم والاعتناء بِهِ كثير الدَّرْس كثير التَّقْيِيد ختمنا عَلَيْهِ رَحمَه الله عدَّة كتب كبار جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته مِنْهَا صَحِيح البُخَارِيّ نَحْو عشر مَرَّات وصحيح مُسلم ثَلَاث مَرَّات وشفاء القَاضِي عِيَاض مرَارًا وَكتاب الاكتفا لأبي الرّبيع الكلَاعِي مرّة وَأُخْرَى إِلَى غَزْوَة خَيْبَر وشمائل التِّرْمِذِيّ مرَّتَيْنِ بشرح أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وإحياء الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وعوارف المعارف للسهروردي وتآليف غَيرهَا من كتب النَّحْو وَالْفِقْه وَالْبَيَان وَالْكَلَام وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِالْجُمْلَةِ فقد انتفعنا عَلَيْهِ واستفدنا مِنْهُ رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَولي الْقَضَاء بعده الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْجريرِي عرف بِابْن الْفَقِيه من بَيت الْعلم وَالدّين والصون وَهُوَ رَحمَه الله يتحَرَّى المعدلة فِي أَحْكَامه وينتهج صَرِيح الشَّرْع فِي جَمِيع أُمُوره سدده الله وكلاه وَتَوَلَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الخطابة بِالْمَسْجِدِ بعد شَيخنَا الْمَذْكُور شقيقه الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد عواد وَهُوَ مجيد فِي الخطابة وَمن أهل الْمُرُوءَة وَالدّين وَالْعلم وفقنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين لما يُحِبهُ ويرضاه وَفِي هَذِه الْأَيَّام استدعى السُّلْطَان أيده الله خديمه الْأمين الأرضى السَّيِّد مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد التازي الرباطي إِلَى حَضرته الْعَالِيَة بِاللَّه بمراكش فَقدم عَلَيْهِ الْأمين الْمَذْكُور وَأجل السُّلْطَان مقدمه وَأسْندَ إِلَيْهِ أَمر خراج الْمغرب ومراسيه ومستفاداتها وَمَا يتبع ذَلِك من صوائرها وفوض إِلَيْهِ فِي ذَلِك تفويضا تَاما لعلمه بنصحه وأمانته وَضَبطه وَهَذَا الرجل من أمثل أهل الْمغرب وأصدقهم وأنصحهم للسُّلْطَان وأشدهم غيرَة على الدّين والوطن حَتَّى لَو كَانَ فِي الدولة عشرَة رجال على شاكلته ومذهبه لَكَانَ يظنّ أَن يكون لَهَا بذلك النجاح التَّام نسْأَل الله تَعَالَى أَن يصلح أمرهَا ويشيد بمنه عزها وَفَخْرهَا وَفِي ربيع الثَّانِي من السّنة ورد أَمر السُّلْطَان أعزه الله على وُلَاة العدوتين أَن يوجهوا عددا من أمنائهم وعدولهم للْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالمراسي المغربية فقدموا عَلَيْهِ بمراكش وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ أخونا فِي الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي بن خضراء السلاوي فَقَالَ قصيدة فِي مدح السُّلْطَان نَصره الله نَصهَا (لبيْك لبيْك يَا خير السلاطين ... أدامك الله فِي عز وتمكين) (دَعَوْت عَبدك فَاسْتَجَاب مبتدرا ... وَقد اناخ على الطير الميامين) (يهدي إِلَيْك تَحِيَّة مباركة ... أذكى وَأطيب من مسك ونسرين) (ممرغا وجنتيه فارحا جذلا ... إِذا فَازَ مِنْك بتخصيص وَتَعْيِين) (مؤملا راجيا بُلُوغ مقْصده ... مُسْتَبْشِرًا برضى بالنجح مقرون) (يَا نجح سعيي وَيَا بشراي قد سعدت ... حَالي وفزت بتقريب وتأمين) (من مبلغ معشري أَنِّي أويت إِلَى ... ظلّ مديد يُظِلنِي ويؤويني) (ظلّ الْإِلَه على عباده وَكفى ... بِهِ كَفِيلا وذخرا للْمَسَاكِين) (رب السماح فَمَا معن بن زَائِدَة ... وَأَيْنَ من راحتيه نهر سيحون) (لله من ملك جلت مآثره ... عَن أَن يُحِيط بهَا حصر بتدوين) (دَعَا الْمَعَالِي فانقادت ملبية ... يضيق عَن وصفهَا بطن الدَّوَاوِين) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 (لَهُ السَّعَادَة قد أَلْقَت أزمتها ... وَالْفَتْح رائده فِي كل مَا حِين) (وَبشر طلعته يسر ذَا حزن ... وَأَيْنَ مَا حل كَانَ خير مَيْمُون) (حامي الشَّرِيعَة والرحمن ناصره ... ماضي الْعَزِيمَة لَا يرضى بتوهين) (فِي كل قطر ثَنَاء عَنهُ منتشر ... أَي انتشار يفوق مسك دارين) (سَاس الْعباد بتدبير ومعدلة ... وَأحسن الْأَمر فِي الدُّنْيَا وَفِي الدّين) (وَلَيْسَ يعبأ بالدنيا وَزينتهَا ... لكنه بَين مَفْرُوض ومسنون) (وطبق الأَرْض عدله وَنعمته ... مجاله بَين تسكين وتحسين) (بسعده الغرب قد بَدَت محاسنه ... فجر ذيلا على بَغْدَاد والصين) (وتاه مزدريا بِكُل مملكة ... يميس فِي حلل ذَوَات تلوين) (نعم الإِمَام الْهمام المرتضى حسن ... فَخر الْمُلُوك سلالة السلاطين) (السَّيِّد الْملك ابْن السَّيِّد الْملك ابْن ... السَّيِّد الْملك الْمَعْرُوف باللين) (بَحر خضم مغيث سيد بَطل ... بُد الليوث وفرسان الميادين) (دَانَتْ بِطَاعَتِهِ العدا بأجمعها ... مذ البست ملبس الصغار والهون) (وفَاق من قبله حلما ومكرمة ... وسطوة بهرت أهل الأواوين) (لَا غرو إِن نَالَ مَا فَاتَ الألى غبروا ... وشاد مَا عجزوا عَنهُ بتحصين) (قد يدْرك الآخر الشأو الَّذِي قصرت ... عَنهُ الْأَوَائِل فِي ماضي الْأَحَايِين) (تبَارك الله مَا أسمى مفاخره ... كسبا وَارِثا من الشم العرانين) (وَلَا ترى الْغَرْس قد زكتْ أرومنه ... إِلَّا أَتَى الْفَرْع مِنْهُ فِي أفانين) (يَا خير من أمه الراجي وَأكْرم من ... يثني عَلَيْهِ بمعرب وملحون) (وَيَا ابْن خير الْأَنَام من نبوته ... لَهُ وآدَم بَين المَاء والطين) (وَيَا ملاذ الورى يَا من سما كرما ... يَا نعْمَة عظمت يَا كنز مِسْكين) (يَا منبع الْجُود يَا تَاج الفخار وَيَا ... مأوى العفاة وَيَا سلوان محزون) (يَا من روى عَن أَبِيه رفع سؤدده ... يَا من أوامره إِلَيْهِ تَدعُونِي) (وفدت ملتمسا رضاك يَا سندي ... وَلَيْسَ شَيْء سوى رضاك يرضيني) (فأمنن عَليّ بعطفة تُصَاحِبنِي ... مدى الدهور وللعلى ترقيني) (بقيت مَا شِئْت فِي عز ومقدرة ... ودمت فِي نعم بِحَق جبرين) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وَلما وقف السُّلْطَان أعزه الله على هَذِه القصيدة هزت من عطفه وَأمر أَن يسْأَل منشئها عَن مطلبه فاقترح أَن يُؤذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَأَن يعْطى ظهيرا بالتوقير والاحترام وَأَن ينعم عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِي الاعتناء بِهِ فأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان أعزه الله بِالْإِذْنِ فِي الْإِفْتَاء وبظهير الاحترام وَنفذ لَهُ راتبا من أحباس جَامع ابْن يُوسُف إِعَانَة لَهُ على الدَّرْس بِهِ ثمَّ كَانَ نهوض السُّلْطَان أيده الله من مراكش قَاصِدا بِلَاد الغرب غرَّة جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فاجتاز فِي طَرِيقه بتادلا وأناخ على قَبيلَة آيت أعتاب فأوقع بهم فِي أوعارهم وأعز معاقلهم وأوكارهم وَقطع مِنْهُم وَاحِدًا وَعشْرين رَأْسا ثمَّ زحف إِلَى بني مُوسَى فأدوا الطَّاعَة وَقَامُوا بواجبها ثمَّ سَار محفوفا بالنصر واليمن إِلَى أَن دنا من مكناسة الزَّيْتُون فزحف إِلَى بني مطير وَكَانَ شررهم قد استطار فِي تِلْكَ النواحي كل مطير فَإِنَّهُ لما سَافر السُّلْطَان نَصره الله عَن مكناسة سنة أَربع وَتِسْعين كَمَا مر زحف بَنو مطير هَؤُلَاءِ إِلَى عرب دخيسة وَأَوْلَاد نصير الَّذين أنزلهم السُّلْطَان بسايس وبوأهم إِيَّاه عوض مجاط وأوقعوا بهم وقْعَة شنعاء وَقد صبرت الْعَرَب فِي ذَلِك الْيَوْم صبرا جميلا حَتَّى أَن جمَاعَة مِنْهُم قد عقلوا أنفسهم فِي حومة الْحَرْب لِئَلَّا يَفروا وَقَاتل إخْوَانهمْ دونهم حَتَّى كثرهم البربر فقبضوا عَلَيْهِم بِالْيَدِ وضربوا أَعْنَاقهم وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو مِائَتَيْنِ وَهلك من البربر مثل ذَلِك أَو أَكثر وَلما انْهَزَمت الْعَرَب عمد بَنو مطير إِلَى مجاط فأنزلوهم بسائس على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قبل ثمَّ انْطَلقُوا فِي الطرقات بالعيث والإفساد فِيهَا والنهب للمارة وَلم يدخروا شَيْئا من الشيطنة ليَوْم آخر وَكَثُرت الشكايات بهم على السُّلْطَان وَهُوَ بمراكش فَلَمَّا قدم أعزه الله قَدمته هَذِه لم يقدم شَيْئا على تأديبهم فَنَهَضَ إِلَى رَأس بِلَادهمْ ومزرعة فسادهم آكراي والحاجب وَغَيرهمَا وتقرى آثَارهم فِي تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى جَاوَزت عساكره الْحَاجِب بمسايف كَثِيرَة وتوغلت البربر فِي قنن الْجبَال فَأمر السُّلْطَان أدام الله علاهُ بني مكيلد أَن يزحفوا إِلَيْهِم من نَاحيَة قبْلَة آكراي فزحفوا وانبثوا على حدودهم إِلَى غابة افقفاق الَّتِي هِيَ الْحَد بَين بني مكيلد وآيت شغروسن وآيت يوسي فحصروهم من تِلْكَ الْجِهَات ثمَّ نزل بإزائهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 آيت يوسي وآيت شغروسن وآيت عَيَّاش وآيت والان من جِهَة الشمَال وامتدوا امتدوا إِلَى حُدُود وَادي النجَاة وربط حذوهم من جِهَة الغرب وَرَاء وَادي النجَاة الْقَائِد الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الشَّرْقِي الْمَدْعُو بَابا مُحَمَّد وَوصل جنَاحه عَلَيْهِم قبائل الغرب والحوز وَصَارَ بَنو مطير فِي مثل أفحوص القطاة وضاق بهم رحب الفضاء وأيقنوا بِالْهَلَاكِ والبوار ولفظتهم السهول والأوعار ونهبت الْجنُود زُرُوعهمْ الْقَائِم والحصيد واستخرجت من مخزونهم الْكثير والعتيد وَلما انْتهى الْحَال بهم إِلَى هَذِه الْغَايَة تطارحوا على السُّلْطَان بالشفاعات وَأَكْثرُوا من التوسل بالذبائح والعارات فرق لَهُم وأقلع عَنْهُم بعد أَن ألزمهم إِعْطَاء خَمْسمِائَة مَرْهُون ووظف عَلَيْهِم مائَة وَخمسين ألف ريال بعد أَدَاء الْحُقُوق ورد الْمَظَالِم وَشرط عَلَيْهِم إِخْرَاج قَبيلَة مجاط من بَين أظهرهم وضمنهم طَرِيق مكناسة وفاس وَجعل الْعهْدَة فِيهَا عَلَيْهِم جَريا على عَادَتهم الْقَدِيمَة من جعلهم النزائل بهَا والحراس فالتزموا ذَلِك كُله وأدوه وَبعد ذَلِك نَهَضَ السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا أَوَاخِر رَجَب الْفَرد من السّنة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَى فاس وَلما احتل بهَا فرق الجيوش فِي النواحي لجباية الزكوات والأعشار والوظائف المخزنية فانتهت السَّرَايَا والبعوث إِلَى آيت يزدق من برابرة الصَّحرَاء فأذعنوا وأدوا مَا كلفوا بِهِ من الزكوات والأعشار وَغَيرهَا وَإِلَى آيت يوسي وَغَيرهم فأطاعوا وأذعنوا إِلَّا آيت حلى وهم بطن من آيت يوسي فَإِنَّهُم انحرفوا عَن عاملهم وأبوا من أَدَاء مَا وظف عَلَيْهِم فأوقع بهم جَيش السُّلْطَان وَقَطعُوا مِنْهُم عددا من الرؤوس وَسَاقُوا مثلهَا من المساجين فعلقت الرؤوس بأسوار فاس وَبعد ذَلِك أذعن آيت حلى للطاعة فقبلهم السُّلْطَان أيده الله وألزمهم ولَايَة عاملهم الَّذِي كَانُوا منحرفين عَنهُ وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ كَانَ عيد المولد الْكَرِيم فاحتفل لَهُ السُّلْطَان على الْعَادة وَبعث إِلَى حَضرته صاحبنا الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن خضراء بقصيدة ميلادية يَقُول فِيهَا (أمل المديح محبرا يَا منشد ... وأعده تطريبا فَذَلِك أَحْمد) (هَذَا أَوَان مَسَرَّة وسعادة ... هذي اللَّيَالِي الغر هَذَا الْموعد) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 (أَو مَا ترى علم الْبشَارَة لائحة ... أَو مَا تشاهد نورها يتَرَدَّد) (هَذَا زمَان ظُهُور طلعة أَحْمد ... فِي عَالم الأجساد هَذَا المولد) (طُوبَى لمن يروي غَرِيب حَدِيثه ... متأدبا ويعيده ويردد) (طُوبَى لمن يقْضِي حُقُوق مديحه ... ويجيده نظما بديعا ينشد) (فمديح خير الْخلق أعظم قربَة ... لكنه فِي ذَا الأوان مُؤَكد) (يَا لَيْلَة مَا كَانَ أعظم قدرهَا ... مَعَ فجرها طلع النَّبِي مُحَمَّد) (فاسرد شمائله الحسان وَمَا لَهُ ... من معجزات بِالنُّبُوَّةِ تشهد) (وَاذْكُر عجائب مولد قرت بِهِ ... عين الْمُحب وضاق مِنْهُ الأحقد) (وَاجعَل دعاءك للْإِمَام المرتضى ... إِن الدُّعَاء لَهُ لحق أوكد) (واملأ بدر مديحه أسماع من ... حَضَرُوا لَدَيْهِ وضمهم ذَا المشهد) (سَاس الرّعية صَادِقا فعنت لَهُ ... أُمَم وَقد كَانَت قَدِيما تشرد) (من كَفه فاضت مواهب جمة ... فالكف مِنْهُ للعفاة المورد) (طود أتآد شامخ ذُو همة ... علياء يقصر عَن علاها الفرقد) (مَا جود حَاتِم طيىء مَا حلم أحنف ... إِن ذَا لَهو الْحَلِيم الأجود) (أزكى الْمُلُوك أرومة وأجلهم ... قدرا وأسبقهم لأمر يحمد) (باهى بِهِ الغرب الممالك فاغتدى ... مِنْهُ يغار قريبها والأبعد) وَمن آخرهَا (مولَايَ يَا تَاج الْمُلُوك وفخرهم ... فليهنك الْعِيد الْأَغَر الأسعد) (لله موسم مولد لَك عَائِد ... بمسرة مَوْصُولَة تتجدد) (لَا زلت ممنوحا جلائل أنعم ... مَا اهتز فِي روض بهي أملد) (لَا زلت محروسا بِعَين عناية ... مَا رنم الْحَادِي وَحبر منشد) وَفِي ربيع الثَّانِي من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد كتاب السُّلْطَان أعزه الله على قَاضِي سلا بِتَعْيِين صاحبنا الشريف الأديب فلكي الْعَصْر أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن مُحَمَّد الجعيدي السلاوي للذهاب إِلَى مراكش برسم الْقيام على إحصاء صائر السُّلْطَان بهَا بَدَلا عَن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد الله بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 خضراء فامتثل الشريف الْمَذْكُور وسافر فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور ومدح جناب السُّلْطَان أسماه الله بِهَذِهِ القصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا (لبيْك يَا منقذي من لجة الْعَدَم ... سعيا على الجفن لَا مشيا على الْقدَم) (فَذا أَوَان سعود كنت أرصده ... وَذي مناي كَمَا فِي سَابق الْقدَم) (فَهُوَ المرام وكل الْعِزّ يعقبه ... وَلَا يُحَال بِأَنِّي أَحْقَر الخدم) (قصدت أعتاب ملك شامخ بهج ... يقري الضيوف ويغني صَاحب الْعَدَم) (أنزلت رحلي بهَا وَعِنْدهَا أملي ... وَهل يخيب نزيل الْجُود وَالْكَرم) (شمرت عَن ساعدي وَالْأُذن وَاعِيَة ... فهاب أهل الحسام سطوة الْقَلَم) (أرْضى بِذَاكَ الَّذِي أَضَاء مغربنا ... بعدله فغدا يميس فِي نعم) (أزكى الْأَئِمَّة شِيمَة وأرفعهم ... قدرا وأسبقهم لكل مغتنم) (أميرنا الْحسن الْمَحْمُود سيرته ... تروع صولته الْأسود فِي الأجم) (نجل السلاطين قد أَحْيَا مآثرهم ... ونال مَا عجزت عَنهُ ذَوُو الهمم) (قد شاد للدولة الغراء مفخرها ... فَسَاد عِنْد مُلُوك الْعَرَب والعجم) (تَاج الْمُلُوك وفخرهم وسيدهم ... وَخير من قد مضى فِي غابر الْأُمَم) (قد لاحظته السُّعُود وَهِي فِي شرف ... وكل نحس عداهُ وَهُوَ عَنهُ عَم) (النَّصْر سابقه والسعد قائده ... وَالْفَتْح يَخْدمه من جملَة الخدم) (والجود سيرته والحلم حليته ... وَالْجد عَادَته فاحذر من النَّدَم) (لَيْث إِذا مَا أحس الْحَيّ سطوته ... ألقوا سِلَاحهمْ مَخَافَة النقم) (غيث إِذا الأَرْض يَوْمًا مَسهَا عَطش ... غوث توسل بِهِ لبارىء النسم) (مدير عَالم مفكر فطن ... ومفحم باهر بأفصح الْكَلم) (كل الفهوم لَهُ أَلْقَت أزمتها ... ونوره يَهْتَدِي بِهِ لَدَى الظُّلم) (بهَا يُقَاوم من بغى ويدمغه ... بهَا يدافع أهل الريب والتهم) (كم دبر الرّوم من كرّ وَمن حيل ... توجو النجاح بهَا والنجح فِي عقم) (يرى بِنور حجاه كل عَاقِبَة ... وَعين تَدْبيره لِلْأَمْرِ لم تنم) (فصل الْخطاب حباه الله مكرمَة ... وَحِكْمَة عظمت من أبدع الحكم) (فاطلب رِضَاهُ وَدم على محبته ... مدا الدهور وجانب دَاعِي السأم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 (فَهُوَ المنى لِذَوي الحجا وبغيتهم ... وسيب يمناه مثل الزاخر العرم) (يدني الْأُصُول إِلَى نيل الْوُصُول ويحيينا ... بنعمته كالأرض بالديم) (مَا زَالَ يحيى بهَا بِلَاد مغربنا ... فاقرع بصدقك بَاب الْجُود تغتنم) (واسلك سَبِيل الصَّفَا تنَلْ بِهِ شرفا ... وَاقْبَلْ نصيحة من حباك واستقم) (يَا غَايَة الْقَصْد إِنِّي رَاغِب طرب ... مستمسك بجوار مِنْك لم يضم) (مولَايَ يَا من مزاياه وأنعمه ... فِي النَّاس أشهر من نَار على علم) (مولَايَ أَنْت الَّذِي تغني الضَّعِيف إِذا ... مَا الدَّهْر أفْضى بِهِ لقبضة الْهَرم) (بِشِرَاك إِن الفرنج سَوف يُدْرِكهَا ... مِنْكُم صغَار بِهِ تداس بالقدم) (فَأَنت ذُو مدد وهم ذَوُو نكد ... وَأَنت ذُو جذل وهم ذَوُو غمم) (مولَايَ جد برضاك لي وَخذ بيَدي ... واحرس جنابي بِهِ من سَائِر الْأَلَم) (وَاجعَل ثِيَاب الرضى سترا عَليّ وَلَا ... يرى بِهِ حَبل عروتي بمنفصم) (فها أَنا ذَاك عِنْد بَاب سيدنَا ... أَرْجُو قبولا ووصلا غير منصرم) (أبقاك رَبك فِي عز ومكرمة ... بِاللَّه أَمرك نَافِذ على الْأُمَم) (أدامك الله مَنْصُور اللِّوَاء على ... كل الأعادي وَلَا بَرحت فِي نعم) وَفِي آخر هَذِه السّنة ورد كتاب السُّلْطَان أيده الله باستدعاء صاحبنا أبي مُحَمَّد بن خضراء الْمَذْكُور آنِفا لتوليته خطة الْقَضَاء بِحَضْرَة مراكش فامتثل ووفد على أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله علاهُ بِحَضْرَتِهِ السعيدة من فاس المحروسة بِاللَّه فولاه الْقَضَاء بمراكش وَسَار إِلَيْهَا وَهُوَ الْآن بهَا مَحْمُود السِّيرَة حسن السريرة سدده الله وكلاه وَقَالَ فِي وفادته على الحضرة الشَّرِيفَة قصيدة يمدح بهَا الجناب المولوي وَنَصهَا (لبيْك دمت مؤيدا ومظفرا ... وَلَك الْكَمَال كَمَا تشَاء موفرا) (وافى خديمك أَمرك العالي الَّذِي ... فِي ضمنه إسعاده بَين الورى) (إِذْ خص دونهم بأشرف دَعْوَة ... يَا سعد من أضحى بهَا مُسْتَبْشِرًا) (فَأجَاب مبتدرا إِجَابَة صَادِق ... لم يلهه أهل وَلَا حب الذرى) (وطوى المراحل كي يحل بِحَضْرَة ... يلقى بهَا وَجه الْأَمَانِي مُسْفِرًا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 (فبدت لَهُ الدَّار المنيفة يَا لَهَا ... دَارا أعز حمى وأبهى منْظرًا) (ونحا الجناب المستجار بظله ... وأناخ فِيهِ خاضعا ومعفرا) (يهدي إِلَيْك تَحِيَّة مختارة ... أذكى من الْمسك الذكي وأعطرا) (ويمد كفيه بِصدق دَاعيا ... لَك بِالْبَقَاءِ مهنئا وَمُبشرا) (ويجيد شكر مواهب أوليتها ... كرما وَحقّ لمثلهَا أَن يشكرا) (وَيُعِيد ذكر محَاسِن أوتيتها ... ويصوغ مدحك صوغ تبر أحمرا) (ويروم إقبالا عَلَيْهِ بالرضى ... يَا فوزه إِن بالرضى هُوَ بشرا) (إِن ناله نجحت لَهُ آماله ... وَدنت مناه وارتقى واستبشرا) (يَا من يؤمل رفْعَة وسعادة ... يمم حمى الْمولى الْهمام لتظفرا) (ملك عَظِيم الْقدر جلّ كَمَاله ... عَن أَن تعد خصاله أَو تحصرا) (ملك كريم الطَّبْع عز مِثَاله ... خلقا كَرِيمًا لم يضاه ومفخرا) (ملك جزيل الْفضل عَم نواله ... كل الْأَنَام وفَاق غيثا ممطرا) (ملك أَفَاضَ على الرّعية خَيره ... وأنامهم فِي ظله متبصرا) (ملك جميل سياسة وسريرة ... وَيدل ظَاهره على مَا أضمرا) (ملك ترقى فِي سَمَاء مَكَارِم ... فغدا بِهِ أفق المكرم مقعرا) (ملك رَحِيم خاشع متواضع ... وَيرى اكْتِسَاب الْحَمد أربح متجرا) (قرت بِهِ عين الْخلَافَة واغتدى ... من سعده ذَا الْقطر أنعم أزهرا) (من أهل بَيت الْمُصْطَفى أكْرم بِهِ ... نسبا شريفا مَا أجل وأطهرا) (جمع المفاخر مكسبا ووراثة ... وحوى مآثر حَقّهَا أَن تؤثرا) (ماضي الْعَزِيمَة فِي الْأُمُور مُسَدّد ... فِي رَأْيه الميمون لَيْسَ مقصرا) (قل للمحاول شأوه فِي مجده ... أَو رفده أَو حلمه أطرق كرا) (هَذَا همام لَا يشق غباره ... هَذَا همام لن يجارى إِن جرى) (مولَايَ يَا أزكى الْأَئِمَّة شِيمَة ... وافيت بابك أَبْتَغِي مِنْك القرا) (لَا أَبْتَغِي إِلَّا الرضى وَكفى بِهِ ... فأنلني الْحَظ الجزيل الأوفرا) (مولَايَ مَا عِنْدِي إِلَيْك هَدِيَّة ... إِلَّا مديحك هاك مِنْهُ جوهرا) (نظمته فكرة مخلص متودد ... خُذْهُ إِلَيْك منظما ومحبرا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 (لَا زلت فِي نعم تدوم ونصرة ... وسعادة لَا زلت أَنْت الأكبرا) (لَا زلت فِي حلل الْعِنَايَة رافلا ... لَا زلت فِي ملك كَبِير أبهرا) وَاعْلَم أَن الأمداح فِي جناب هَذَا الْملك الْجَلِيل الشريف الْأَصِيل كَثِيرَة والقصائد المفصحة عَن علو قدره وشموخ مجده وفخره شهيرة خطيرة لَا سِيمَا لِأَصْحَابِنَا السلاويين مِمَّن ذَكرْنَاهُ مِنْهُم وَمِمَّنْ لم نذكرهُ وَلَوْلَا خوف الإطالة لأثبتنا من ذَلِك مَا يزرى بالحبر ويفصح بالذكرى والعبر وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَالله يَجْزِي كلا بنيته وخلوص طويته ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تَجَدَّدَتْ الشُّرُوط بَين السُّلْطَان أعزه الله وَبَين أَجنَاس الفرنج فِي سَبِيل تَأْكِيد المهادنة وجلب نفع التِّجَارَة وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَن النَّصَارَى وَأهل حمايتهم يلزمون بغرامة الْوَظَائِف المخزنية الْمرتبَة على الْأَبْوَاب كَسَائِر رعية السُّلْطَان وَقدر ذَلِك الوظيف سِتَّة بلايين لكل حمل وَفِي هَذِه الْمدَّة الَّتِي هِيَ أواسط السّنة الْمَذْكُورَة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي التأهب للحركة والنهوض من مكناسة الزَّيْتُون قَاصِدا حَضْرَة مراكش الْحَمْرَاء فاحتلها فِي آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تحرّك السُّلْطَان أعزه الله لغزو بِلَاد السوس الْأَقْصَى فَأخذ فِي التأهب والاستعداد لذَلِك وَأمر قبائل دكالة وتامسنا بِحمْل الْقَمْح وَالشعِير والتبن إِلَى مرسى الجديدة ومرسى الدَّار الْبَيْضَاء ليحمل مِنْهُمَا فِي المراكب إِلَى سَاحل السوس الْأَقْصَى بِقصد إرفاق الْجَيْش وإعانته وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن جنس الإصبنيول كَانَ متشوفا لتملك بعض المراسي السوسية مُنْذُ انْعِقَاد الْهُدْنَة مَعَه عقب حَرْب تطاوين وَكَثِيرًا مَا كَانَت مراكبه الحربية والتجارية تَتَرَدَّد إِلَى تِلْكَ النواحي فيستهوي أَهلهَا بِأَسْبَاب التِّجَارَة ونيل الأرباح فَرُبمَا سكنوا إِلَيْهِ وَرُبمَا نفروا مِنْهُ وَتكلم السُّلْطَان أعزه الله مَعَ كبرائهم فِي ذَلِك فاحتجوا بِأَن صلح تطاوين كَانَ منعقدا على فتح بعض المراسي السوسية وَأَنَّهُمْ الْآن قد عزموا على الْأَخْذ بشرطهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 الْمَذْكُور وَإِلَّا أفْضى الْحَال إِلَى مَا لَا يَلِيق فَرَأى السُّلْطَان أعزه الله أَن من الْوَاجِب أَن ينْهض إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد ليباشر أمرهَا بِنَفسِهِ لَا سِيمَا وَكَانَ أَهلهَا قد بعد عَهدهم بإجراء الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِيمَا بَينهم على مقتضياتها فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَانْتهى مِنْهَا إِلَى قرب وَادي نول ومهد أقطارها وَولى على أَهلهَا الْقُضَاة والعمال وَاتخذ هُنَاكَ مرسى للوسق والوضع تسمى آساكا وَكتب فِي ذَلِك كتابا لولاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح أما بعد فَإنَّا لما نهضنا من مراكش بحول الله وقوته وسطوته الباهرة وصولته وجيوش الله المظفرة موفورة وَجُنُوده سُبْحَانَهُ مقطورة وأعلامها منشورة منصورة نهضة مُعْتَمد على مَوْلَاهُ متقلد لما قذف فِي قلبه فأبداه متمسك بعروته الوثقى الَّتِي من استمسك بهَا بلغ مناه وانتهينا بمعونة الله لمبدأ هَذِه الأقطار السوسية وامتطينا صهوتها وَهِي ذلولا فِي ربوع الْيمن ساعيه وبنود الله خافقة على مفارق الظفر وبذرى الْمجد سامية تواردت على حضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه الْوُفُود متناسقة متتابعة وانتظمت فِي سلك السّمع وَالطَّاعَة والخدمة الجامعة فتسارعوا إِلَى مَا إِلَيْهِ دعوا وتلقوه تلقي الظمآن فنهلوا وكرعوا وأوقدوا لوفود كبرائهم وأعيانهم وأشياخهم مصباحا واستضاؤوا بضياء نور الله غدوا ورواحا ومدوا أَعْنَاق الإذعان وبسطوا أَيدي المسالمة والإبقاء عَلَيْهِم والامتنان بعد مَا كَانَت قد بلغت مِنْهُم الْقُلُوب الْحَنَاجِر وارتعدت فرائصهم من هَيْبَة الله ثمَّ اطْمَأَن الْبر وشرق الْفَاجِر وانتهبت أجفان المراسم المخزنية الَّتِي عفت بعد نومتها فَانْظُر إِلَى أثر رَحْمَة الله كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا وصرفنا إِلَيْهِم عنان التَّرْتِيب بعد أَن وطأنا لَهُم كنف الترحيب فبوأنا من توسمنا فِيهِ الْأَهْلِيَّة للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أَمرهم جمعا وفرادى وضربنا للْكُلّ فِيهَا على مُقْتَضى السياسة بمعونة الله بِسَهْم مُصِيب وأرعيناه من مربع خدمتنا الشَّرِيفَة المرعى الخصيب حَتَّى وَقع التَّمَكُّن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتِّصَال الْأَرْوَاح بالأجساد واستنارت هَذِه الأرجاء بِنور الله اسْتِنَارَة عَمت الْحَاضِر والباد فأدوا من الطّرف والهدايا مَا فِيهِ غنية لمن ركب متن المزايا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 مَعَ كَون الْبِلَاد لم تنْكح بالمخزن مُدَّة من السنين تنيف على عدد السِّتين وَلَو لم ننل من هَذ الْفتُوح الباهرة بِفضل الله إِلَّا عشرا لَكَانَ فِي جنب من قدم عَهده بالمخزنية كثرا ولكان مَا عودنا سُبْحَانَهُ إِلَّا الْجَمِيل إِذْ هُوَ الْمُتَصَرف الْغَنِيّ القاهر الْقوي الْكَفِيل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل ثمَّ ولينا عَلَيْهِم من الْقُضَاة من فيهم الْكِفَايَة لإِقَامَة شرائع الدّين وَلم نأل جهدا فِي انتخابهم من أمثل المقلدين علما بِأَن الشَّرْع عَلَيْهِ المبنى وَبِه يعمر المغنى ويغزر الْحس وَالْمعْنَى ثمَّ تطارح شرفاؤهم ومرابطوهم على أَعلَى جنابنا بإقرارهم على عوائدهم وإبقائهم على أعرافهم ومحاتدهم الَّتِي عِنْدهم عَلَيْهَا ظهائر أسلافنا المقدسين أَئِمَّة الْمُسلمين وأمراء الْمُؤمنِينَ وَكَذَا ظهائر من غبر من الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فانتهجنا نهجهم وسمكنا بحول الله أوجهم وساعدناهم فأقررنا وجددنا لكل ظهيره وأجريناه على مَا أسس لَهُ من الْمجد وجعلناه نجيه وسميره وَحَيْثُ كَانَ الْقَصْد الأهم من هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة هُوَ حماية ذمار هَؤُلَاءِ الْمُسلمين والدفاع عَن بِلَادهمْ ورقابهم وَأَمْوَالهمْ مِمَّا طمحت إِلَيْهِ نفوس المؤملين وَكَانَ ملاك ذَلِك هُوَ فتح المرسى بوادي نول بِمحل يُسمى آساكا بِأَرْض قبيلتي تكنة وآيت باعمران إِذْ بِفَتْحِهَا يَسْتَقِيم أَمر الدفاع ويسهل على أهل ذَلِك الْمحل البيع والابتياع يَقِينا بِأَن سد أَبْوَاب الضَّرَر من الْأَمر المحتوم وإرشاد الضال فِي الشَّرْع من الْمُقَرّر الْمَعْلُوم تسابق القبيلتان المذكورتان اللَّتَان تلقيتا جنابنا العالي حِين عبرنا وَادي والغاس وقصدنا بجيوش الله بِلَادهمْ قصد طَبِيب آس فتلقوا رِكَابنَا السعيد بِمحل يعرف بآمصاو قرب مرسى تسمى باكلو إِذْ هُوَ الطّرف الموَالِي لآيت باعمران الْمُسَمّى بالسَّاحل وَإِلَيْهِ شدت هَذِه المراحل وَبَين آمصاو وَمحل المرسى الَّذِي أُرِيد فَتحه مرحلتان وبثلاث عشرَة سَاعَة ميقاتية مقدرتان فَأتوا بشرفائهم وفقهائهم ومرابطيهم وأعيانهم وأشياخهم المالكين لقيادهم فقوبلوا بِمَا قوبل بِهِ أمثالهم وناسب أَن يَتَّصِف بِهِ حَالهم ثمَّ ولينا عَلَيْهِم عدَّة من الْعمَّال جعلناهم بحول الله عدَّة فِي تِلْكَ الْأَعْمَال وَحِينَئِذٍ وَقع الْكَلَام مَعَهم فِي شَأْن المرسى فامتثلوا مَا أمرناهم بِهِ من فتحهَا امْتِثَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 من أضحى يتقلب فِي رضَا الله وَرَسُوله وَأمسى ثمَّ وجهنا مَعَهم سَرِيَّة من أَعْيَان الْجَيْش مُعْتَبرَة وَمَعَهُمْ من الْفُقَهَاء والمهندسين من يعْتد بهم فِي رسم تِلْكَ المرسى وتخطيطها على نهج الْقَوَاعِد المقررة والأعمال المحررة اقْتضى الْمقَام وَالْحَال تسبيقها رفقا بعباد الله واعتبارا بِأَن الله سُبْحَانَهُ قد قضى الْغَرَض ووهبه وأسداه وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله قل إِن الْفضل بيد الله وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ أَقَمْنَا فِي الْمحل الْمَذْكُور لانتظارهم فِي تشييد منارهم فَإِن انقلبوا بِالْمَقْصُودِ فَالْحَمْد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وَإِن لم يشفوا الغليل شددنا بحول الله لذَلِك المرسى عَزمَات الرحيل وقطعنا تِلْكَ المفازات هَذَا وَقد نصبنا قائدا من قواد جيشنا السعيد مُخْتَارًا من ذَوي الرَّأْي السديد وأقمناه بقصبة تيزنيت مَحل المخزن فِي الْقَدِيم بِقصد أَن يكون إِعَانَة لسَائِر عُمَّال الْقطر السُّوسِي من وَادي والغاس إِلَى مُنْتَهى وَادي نول وكليميم يتفاوضون مَعَه فِيمَا عَسى أَن يعرض لَهُم من الْمُهِمَّات وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المخزن بَعيدا عَن هَذِه الشرفات بعد مَا عرفناهم بِأَنا أقمناه مشرفا للتفاوض مَعَه وبصيرة على مَا قصدنا من فتح ذَلِك المرسى إيثارا للنعمى ودفعا للبؤسى فَفَرِحُوا بذلك فَرح الظمآن الْوَارِد والضال الْوَاجِد وَوَقع الْإِشْهَاد عَلَيْهِم بِكُل مَا فصلناه وأبرم عقده مَعَهم على نَحْو مَا رسمناه فَكَانَ ذَلِك تَمام الْعَمَل الَّذِي قصدناه والمورد الَّذِي أردناه وانتحيناه وَالله تَعَالَى يخلص فِي ذَاته الْعَمَل وَيجْعَل هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة بفضله ومنته من الْجِهَاد المتقبل إِنَّه جواد كريم متفضل غَنِي حَلِيم وَالسَّلَام فِي متم شعْبَان عَام تِسْعَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله وَفِي أَوَاخِر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة وَألف قَامَ نواب الإصبنيول من مراسي الْمغرب الْأَقْصَى بعد أَن أَقَامُوا بهَا نيفا وَعشْرين سنة لِاسْتِيفَاء مَا وَقع الصُّلْح عَلَيْهِ فِي حَرْب تطاوين وَكَانَ جملَة المَال الْمصَالح عَلَيْهِ عشْرين مليونا من الريال الْكَبِير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد دفع مِنْهُ عشرَة ملايين مُعجلَة وَالْعشرَة الْبَاقِيَة هِيَ الَّتِي استوفاها الإصبنيول فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة أَقَامَ أمناءه مَعَ أُمَنَاء السُّلْطَان بمراسي الْمغرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 فَكَانَ كل فريق يَسْتَوْفِي نصف الدَّاخِل حَتَّى تمّ الْعَمَل وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْمنور الذاكر الخاشع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي الطَّالِبِيُّ من صلحاء أهل سلا وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة تعشى تِلْكَ اللَّيْلَة عشَاء خَفِيفا على عَادَته وَصلى الْعشَاء وتلا أوراده مُنْفَردا فِي بَيته كَمَا كَانَ يفعل ثمَّ أصبح مَيتا من غير أَن يحضرهُ أحد وَكَانَ قد ناهز الثَّمَانِينَ وشاخ وابيضت لحيته وَرَأسه وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من أهل العدوتين سلا والرباط وازدحموا على نعشه وتناوبوه تبركا بِهِ وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا عقب صَلَاة الظّهْر وَدفن بِالْبَيْتِ القبلي من دَاره وَتردد الطّلبَة إِلَى قَبره مُدَّة لقِرَاءَة الْقُرْآن والبردة وَغَيرهَا من الأمداح وَعظم مصاب النَّاس بِمَوْتِهِ وَكَيف لَا وَقد كَانَ مِصْبَاح العدوتين بل وَغَيرهمَا فِي زَمَانه مَعَ مَا اكرمه الله تَعَالَى بِهِ من التَّوَاضُع وَحسن الْخلق ولين الْجَانِب مَعَ النَّاس بِحَيْثُ لم يعْهَد ذَلِك وَلم يرو إِلَّا عَن السّلف الصَّالح وَمن سلك سبيلهم من أمثالهم رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ مَجْلِسه مجْلِس علم وحياء وَوعظ وَذكر للأولياء وَالصَّالِحِينَ وسيرهم وأخبارهم لَا يسمع فِي مَجْلِسه لَغْو وَلَا خوض فِي دنيا إِنَّمَا هُوَ سرد الْأَحَادِيث وأخبار الصَّالِحين وَنَحْو ذَلِك محافظا على الصَّلَوَات وَقيام اللَّيْل والأذكار وبذل الْمَعْرُوف وَالْأَمر بِهِ مَا أمكن وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فِي سيرته وأخلاقه على مُقْتَضى السّنة النَّبَوِيَّة وآثار السّلف الصَّالح رَضِي الله عَنْهُم ونفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم آمين وَبعد غرُوب الشَّمْس من لَيْلَة الْجُمُعَة فاتح ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْمدنِي كنون عَالم فاس وَالْمغْرب وَصلى عَلَيْهِ عقب صَلَاة الْجُمُعَة بِجَامِع الأندلس من فاس حرسها الله وَدفن بالموضع الْمَعْرُوف بالقباب وَكَانَ رَحمَه الله فَقِيها عَالما متضلعا قولا بِالْحَقِّ صادعا بِهِ لَا يهاب فِي ذَلِك كَبِيرا وَلَا صَغِيرا وَلَقَد امتحن فِي ذَلِك من قبل السُّلْطَان فَلم يفل ذَلِك من غربه وَلم يوه من صرامته وَلَا حَده وَله عدَّة تآليف من أحْسنهَا اخْتِصَار حَاشِيَة الرهوني على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل جدد الله عَلَيْهِ الرحمات آمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَألف فَفِي لَيْلَة الْعشْرين من صفر مِنْهَا وَقع فِي النُّجُوم تناثر كَبِير وَرمي شَدِيد تشريقا وتغريبا وَغير ذَلِك على خلاف الْمُعْتَاد حَتَّى لقد أذكرت قَول بشار بن برد الْأَعْمَى فِي وصف الْحَرْب (كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه) ودام ذَلِك من وَقت الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي هَذِه الْأَيَّام كَانَت بَين جيوش الرجل الْمَنْصُور الْقَائِم بِبِلَاد الْحَبَشَة والنوبة المتسمي بالمهدي وَبَين جَيش النجليز حروب عَظِيمَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَكَانَ للمهدي الْمَذْكُور على النجليز غَايَة النَّصْر والظهور وَلَوْلَا أَن التَّعَرُّض لخبره لَيْسَ من مَوْضُوع الْكتاب لشرحت ذَلِك فَإِن أمره عَجِيب جدا وَفِي أواسط ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ورد أَمر السُّلْطَان أيده الله بتسريح مَا كَانَ موظفا على أَبْوَاب المدن والقرى مِمَّا كَانَت تُؤَدِّيه الْعَامَّة على أحمال السّلع والتجارات من المكوس وَكتب فِي ذَلِك إِلَى عَامل سلا وقته بِمَا نَصه بعد الِافْتِتَاح والطابع الْمُشْتَمل على اسْم السُّلْطَان أيده الله خديمنا الأرضى الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد السلاوي وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبعد فقد شرح الله صدرنا لرفع الْعَطاء فِي سَائِر الْأَبْوَاب بالمدن والمراسي عَن كل مَا يمر بِهِ عَلَيْهَا دَاخِلا وخارجا وأصدرنا أمرنَا الشريف لأمين المستفادات بثغر سلا المحروس بِاللَّه كَغَيْرِهِ بإنهاض المشترين لأبوابه الجالسين للقبض بهَا والمتصرفين فِي شؤونها لحَال سبيلهم وإعمال الْحساب مَعَ مشتريها الْمَذْكُورين على مَا تصرفوا فِيهِ إِلَى يَوْم الإنهاض وتوجيه الْقَائِمَة بذلك لحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وَغير الْأَبْوَاب من الْأَمَاكِن الْمُعْطى فِيهَا وَعَلَيْهَا تبقى على حَالهَا حَتَّى نَنْظُر فِي أمرهَا بحول الله وأعلمناك لتَكون على بَال وَالسَّلَام فِي ثَانِي ربيع الأول عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف وَلما ورد هَذَا الْكتاب فَرح النَّاس بِهِ ودعوا للسُّلْطَان بالنصر والتأييد من خَالص نياتهم نطلب الله تَعَالَى أَن يتمم نعْمَته على الْمُسلمين بتسريح مَا بَقِي موظفا من مبيعات الْأَسْوَاق ويريح النَّاس من شؤمه فَإِنَّهُ لَا شَيْء أشأم من هَذِه المكوس على الدول نسْأَل الله الْعَافِيَة وَفِي عَاشر جُمَادَى الثَّانِيَة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 السّنة الْمَذْكُورَة خرج السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله من حَضْرَة مراكش غازيا بِلَاد السوس الْأَقْصَى وَمَا وَرَاءَهَا من عرب معقل وَسَائِر قبائل الصَّحرَاء لما بلغه من اضْطِرَاب الرعايا بِتِلْكَ الْبِلَاد وخروجهم على ولاتهم وَأَن بعض تجار النجليز قد تسور على مرسى بِتِلْكَ السواحل يُسمى طرفاية وَوصل يَده فِي البيع وَالشِّرَاء بِبَعْض الْقَبَائِل الَّذين هُنَاكَ وَأَرَادَ أَن يَبْنِي بِالْمحل الْمَذْكُور فَنَهَضَ السُّلْطَان أيده الله لحسم مَادَّة هَذَا الْفساد وَلما توَسط بِلَاد السوس وَأصْلح أحوالها وثقف أطرافها كتب كتابا إِلَى وُلَاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح مَا نَصه وَبعد فَإنَّا بحول الله الْقوي الْمعِين الفاتح لما اغلق كَمَا يَشَاء فِي الْحِين أَو بعد حِين الْمُؤَيد بعنايته عَبده فِي كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين كتبنَا إِلَيْكُم هَذَا يَوْم حلولنا وسط خدامنا قبائل آيت باعمران بحبوحة مجامع قبائل السوس الْأَقْصَى ومناخ الْأَعْيَان نعلمكم بِمَا وَاجَهنَا الْمولى سُبْحَانَهُ فِي هَذِه الْحَرَكَة الْمُبَارَكَة من تعاقب المنن والأيادي وابتسام ثغر الزَّمَان بِمَا أملناه من الْعلي المنان فِي هَذَا النادي لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَبِيَدِهِ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْوَلِيّ والنصير والسميع والبصير فَكَانَ من أَمر هَذِه الْقَبَائِل السوسية والقساملة الساحلية أَن تلقوا رِكَابنَا السعيد أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا ناشرين أَعْلَام الْفَرح تجاه جيوش الله المظفرة سري وإدلاجا حاشدين جموعهم مصحوبة بأعيانهم وَمن يعْتد بِهِ من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم من غير أَن يكون جمعهم خداجا مستنتجين للفوز بخاطرنا الشريف مُقَدمَات الِامْتِثَال والسمع وَالطَّاعَة لله وَلِرَسُولِهِ استنتاجا مقدمين بَين يديهم هداياهم متترسين بأبنائهم وإخوانهم وسراياهم مادين أَعْنَاق الِامْتِثَال عاضين بالنواجذ على الْخدمَة وَصَالح الْأَعْمَال فَأتوا بمؤنتهم على قدر الِاسْتِطَاعَة ومهدوا لسلوك الْجَيْش السعيد مَا صَعب من طرقهم حَتَّى صَارَت مسلوكة مشاعة وَنحن فِي كل ذَلِك نعاملهم بالبرور ونبسط الْبشر إِلَيْهِم ونقابلهم بِمَا ارتسم فيهم من السرُور وَهَا نَحن بحول الله جادون فِي الخلوص إِلَى الْمَقْصد الَّذِي لأَجله نقلنا هَذِه الخطوات واستعملنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 فِيهِ الْفِكر وأسهرنا أحداق الاعتبارات من صرف النّظر لفتح مرسى آساكا مَرْكَز سَاحل وَادي نول وَمجمع الْقَبَائِل الْعَرَبيَّة والبربرية ومنتهى ذَلِك المسكون وَلَا سِيمَا من جَاءَت بَينهمَا كالام والعنصر وهما كالتوأمين لَهَا يستمدان مِنْهَا ويرضعان خُلَاصَة لبن ثديها وهما القبيلتان الباعمرانية والتكنة وَمن تراكم عَلَيْهِمَا وارتدف من قبائل الْعَرَب والبربر أَو كَانَ على حكمهمَا فِيمَا ارتضع وارتشف هَذَا إِن كَانَت تصلح لذَلِك وتعود مَنْفَعَتهَا على الْمُسلمين وَالْإِسْلَام بعد الاستخارة مرَارًا فِي اختطاطها وتتحقق بصلاحيتها كشفا واستبصارا ونتوخى فِي الْإِقْدَام على ذَلِك بحول الله الْأسد من الأنظار والمنهاج القويم الْجَارِي على اعْتِرَاف هاتيك الأقطار ثمَّ إِن كَانَت مُوَافقَة للأصلح أقدمنا وَإِن لم يظْهر وَجه الْمصلحَة أعرضنا عَنْهَا إِلَى غَيرهَا قَالَ الله الْعَظِيم {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} الْبَقَرَة 106 وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر نعلمكم بِهِ ونشنف آذانكم بِمَا سنح من سره فَإِنَّهُ لكل عمل نتيجة بعد العنوان وَالله الْمولى الْمُسْتَعَان وَالْهَادِي إِلَى سَوَاء السَّبِيل وَهُوَ نعم الْمولى وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام فِي تَاسِع شعْبَان الأبرك عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف ثمَّ تجَاوز السُّلْطَان أيده الله قطر السوس الْأَقْصَى إِلَى صحراء كليميم فوفدت عَلَيْهِ هُنَاكَ أَشْيَاخ عرب معقل وكبراؤها خاضعين مُطِيعِينَ وفرحوا بِمقدم السُّلْطَان ووطئه بِلَادهمْ غَايَة الْفَرح حَتَّى لقد اتَّخذُوا مَوضِع خبائه الَّذِي كَانَ مَضْرُوبا بِهِ مزارا يتبركون بِهِ إِلَى الْآن إِذْ لم يَكُونُوا هم وَلَا آباؤهم من قبل رَأَوْا سُلْطَانا بأرضهم وَلَا سمعُوا بوصوله إِلَيْهَا وأجروا خيولهم وإبلهم بمحضره ولعبوا عَلَيْهَا بالبارود إِذْ عَادَة عرب الصَّحرَاء أَن يسابقوا على الْإِبِل كَمَا يسابقون على الْخَيل وَمن هُنَاكَ وَجه السُّلْطَان أيده الله كَتِيبَة من جَيْشه إِلَى مرسى طرفاية فغيروا مَا كَانَ أحدثه أُولَئِكَ التُّجَّار من النجليز بهَا وطمسوا أَعْلَامه وفر من كَانَ بهَا من النَّصَارَى إِلَى بابوراتهم الَّتِي كَانَت على ذَلِك السَّاحِل وَأمر أيده الله بِبِنَاء مرسى آساكا واتخاذها محلا للوسق والوضع هُنَاكَ ورتب الحامية والعسات بِتِلْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 السواحل من آكادير إِلَى كليميم وَكتب بذلك كُله إِلَى وُلَاة الْمغرب وقفل رَاجعا فأوقع فِي رُجُوعه بقبيلة ذاوتنان من أهل السوس الْأَقْصَى ثمَّ كَانَت عَاقِبَة الْقَضِيَّة النجليزية أَن قَامَ فهيا أَرْبَاب دولتهم وقعدوا وخبوا فِي التشغيب على عَادَتهم وَوَضَعُوا حَتَّى وَقع الصُّلْح على مَال دَفعه السُّلْطَان إِلَيْهِم تسكينا لِلْأَمْرِ ودفعا لما هُوَ أعظم وَالْأَمر لله وَحده وَفِي عَشِيَّة يَوْم الثُّلَاثَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة غيمت السَّمَاء غيما كثيفا أسود وَذَلِكَ بمراكش ونواحيها وهبت ريح سَوْدَاء مَعَ رعد قاصف ثمَّ نزل برد مثل الْبيض وَأعظم وتهدمت بمراكش دور كَثِيرَة وَمَات تَحت الْهدم خلق كثير نيفوا فِيمَا قيل على الْمِائَة وفر النَّاس إِلَى أضرحة الْأَوْلِيَاء بعد أَن ودعوا عَشَائِرهمْ وأحبتهم ولزموا الاسْتِغْفَار والتضرع إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى انجلى الْغَيْم بعد نَحْو ساعتين وَالْحَمْد لله على حلمه بعد علمه وعَلى عَفوه بعد قدرته وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ حرص أَجنَاس الفرنج على تنقيص صاكة الأعشار وطلبوا من السُّلْطَان أيده الله أَن يحط عَنْهُم من صاكة السّلع الموسوقة الَّتِي كَانَت مسرحة من قبل وَأَن يسرح لَهُم مَا كَانَ مثقفا قبل ذَلِك وأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا وَقَامُوا فِيهِ وقعدوا فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أيده الله شدَّة حرصهم وتكالبهم كتب كتابا إِلَى الرّعية يستشيرهم فِيهِ وَيَقُول بعد الِافْتِتَاح أما بعد فقد كَانَ طلب منا بعض نواب الْأَجْنَاس بطنجة على وَجه الْخَيْر والمحبة فِيمَا سلف من أَعْوَام تَجْدِيد شُرُوط التِّجَارَة بِقصد تَسْرِيح الْأَشْيَاء الممنوعة الوسق كالحبوب مُطلقًا والأنعام والبهائم وَنَحْو ذَلِك ونقصان صاكة الْخَارِج ذاكرين أَن تَسْرِيح ذَلِك فَهِيَ النَّفْع لبيت المَال وللرعية وَهَذِه مُدَّة من خَمْسَة أَعْوَام وَنحن ندافع ونسدد ونقارب بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت وَالْحَال عملا بقول سيد الْوُجُود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وقائع وقضايا سددوا وقاربوا لإبقاء مَا كَانَ على مَا كَانَ إِذْ لَا أقل من ذَلِك سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله يَأْتِي على النَّاس زمَان يمر فِيهِ الْحَيّ على قبر الْمَيِّت فَيَقُول لَيْتَني مَكَانك وحاشى لله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 أَن نتسبب للْمُسلمين فِي غلاء أَو نوافق لَهُم على ضَرَر وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَكَيف وَالله سُبْحَانَهُ قد استرعانا عَلَيْهِم وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كلكُمْ رَاع وكل رَاع مسؤول عَن رَعيته والآن قد اشْتَدَّ حرصهم على ذَلِك وتمالؤوا فِيهِ على كلمة وَاحِدَة وصمموا عَلَيْهِ وَلما أفْضى الْحَال إِلَى مَا افضى إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَلم يُمكن إِلَّا الإعلان بذلك والمشاورة فِيهِ مَعَ من يعْتد بِهِ استشرنا فِيهِ جَمِيع من يشار إِلَيْهِ بِالْخَيرِ وَالْفضل وَالدّين وَالْعقل والذكاء والدهاء موثوقا بديانته وأمانته فَلم يشيروا فِيهِ بِخَير وَاتَّفَقُوا على أَن لَا مصلحَة فِي تَسْرِيح ذَلِك أصلا وبينوا مَا يَتَرَتَّب على الْكل من الْمَفَاسِد ففصل الْحَيَوَان أول مَا يَتَرَتَّب على تسريحه من الضَّرَر غلاؤه على ضعفاء الرّعية بل يُؤَدِّي إِلَى فَقده بِالْكُلِّيَّةِ من هَذِه الإيالة وَأَشْيَاء أخر لَا يَفِي بهَا التَّعْبِير هُنَا وَفصل النَّقْص من الصاكة يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ضعف الْمَدْخُول الَّذِي مِنْهُ يقوم المخزن الْجَيْش والعسكر ومصالح الرّعية وَأَعْظَمهَا تَضْعِيف الرّعية بِالْقَبْضِ مِنْهُم كتضعيف المكوس وَضرب الْخراج عَلَيْهَا تَقْوِيَة لبيت المَال والجيوش وَمَا أبداه بعض نواب الْأَجْنَاس الراغبون فِي تَسْرِيح ذَلِك من الْمصَالح الْمَالِيَّة العائدة على رعيتنا السعيدة على مُقْتَضى مَا ظهر لَهُم ردُّوهُ بِمَا يطول شَرحه وَلَا يَفِي بِهِ قرطاس وَلما رَأينَا الْأَمر اسْتَحَالَ إِلَى أَسْوَأ حَال أَو كَاد تداركنا هَذَا الْخرق بالرفء وجنحنا إِلَى السّلم امتثالا لقَوْله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} الْأَنْفَال 61 الْآيَة وارتكبنا أخف الضررين فَاقْتضى نَظرنَا الشريف أَن ظهر لكم درءا لتِلْك الْمَفَاسِد الْمُقدم على جلب الْمصَالح أَن يساعدوا على تَسْرِيح أَشْيَاء بِقصد الاختبار من تِلْكَ الْأُمُور الممنوعة الوسق كالقمح وَالشعِير وذكران الْبَقر وَالْغنم والمعز وَالْحمير ثَلَاث سِنِين فَقَط على شَرط الاختبار فِي الْمَنْفَعَة الَّتِي ذكروها فِي تسريحه الْكل بأعشاره الْمَعْلُومَة فِي مثله على أَن يكون تَسْرِيح ذَلِك فِي وَقت غَلَّته مَعَ وجود الخصب مُدَّة من ثَلَاثَة أشهر وَبعد مضيها يثقف وَلَا يسمع كَلَام من أحد فِي تسريحه وَلَا يقبل مِنْهُ عذر فِيهِ وَفِي الْعَام الْمقبل إِذا كَانَ صَالحا يسرح ثَلَاثَة أشهر بِقصد الاختبار أَيْضا وَإِذا كَانَ نَاقِصا لَا يَقع اختبار بتسريحه الْمدَّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 المحدودة وَيبقى مثقفا على أَن ذَلِك لَيْسَ بِشَرْط وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الاختبار حَتَّى يظْهر ولتعلموا أَنكُمْ لن تزالوا فِي سَعَة فَإِن ظهر لكم ذَلِك فَالْأَمْر يبْقى بِحَالهِ وَإِن ظهر لكم مَا هُوَ أَسد وأحوط فِي الدفاع عَن الْمُسلمين فأعلمونا بِهِ إِذْ مَا أَنا إِلَّا وَاحِد من الْمُسلمين وأعلمناكم بِمَا كَانَ امتثالا لقَوْله تَعَالَى {لَهُم وشاورهم فِي} آل عمرَان 159 وَإِلَّا فَمَا {مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة وَالله خير الرازقين} الجمعه 11 وَالسَّلَام فِي سَابِع رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أعزه الله وَلما قرىء هَذَا الْكتاب على خَاصَّة النَّاس وعامتهم أجابوا كلهم بِأَن الرَّأْي مَا رَآهُ السُّلْطَان وَفقه الله إِلَّا مَا كَانَ من بعض الْعَامَّة الأغمار الَّذين لم يجربوا الْأُمُور وَلَا اهتدوا إِلَى النّظر فِي العواقب فَإِنَّهُم قَالُوا مَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف لَكِن لم يلْتَفت إِلَيْهِم وَقد كتبت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَوَابا مطولا رَأَيْت إثْبَاته هُنَا خشيَة ضيَاعه وَنَصه اعلموا حفظكم الله أَن النّظر فِي هَذِه النَّازِلَة يكون من وُجُوه أَحدهَا من جِهَة الْفِقْه وَالْحكم الشَّرْعِيّ ثَانِيهَا من جِهَة الرَّأْي والسياسة وَهَذَا لَا بُد أَن يجْرِي على ضَابِط الْفِقْه أَيْضا ثَالِثهَا من جِهَة الْفَهم عَن الله تَعَالَى وَالنَّظَر فِي تَصَرُّفَاته سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْوُجُود بِعَين الِاعْتِبَار فَأَما الْوَجْه الأول فَاعْلَم أَن الْفُقَهَاء رضوَان الله عَلَيْهِم قد نصوا على أَنه لَا يجوز بيع آلَة الْحَرْب من السِّلَاح والكراع والسروج والترسة وَنَحْو ذَلِك من الْكفَّار الْحَرْبِيين لما يخْشَى من تقويهم بذلك على الْمُسلمين هَذِه عِلّة الْمَنْع وَهِي تفِيد أَمريْن أَحدهمَا أَن كل ماهو فِي معنى السِّلَاح مِمَّا يفيدهم تَقْوِيَة حكمه حكم السِّلَاح فِي الْمَنْع وَهُوَ مَنْصُوص عَلَيْهِ فَلَا نحتاج إِلَى التَّطْوِيل بجلبه ثَانِيهمَا إِن مَا لَا يتقوون بِهِ وَيجوز بَيْعه مِنْهُم كَيفَ مَا كَانَ وَعدم التقوي يكون بِأحد وَجْهَيْن إِمَّا يكون ذَلِك الْمَبِيع لَيْسَ من شَأْنه التقوي بِهِ فِي الْحَرْب كبعض المأكولات والملبوسات وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مسرح لَهُم الْيَوْم وَقَبله بِزَمَان وَإِمَّا بِكَوْنِهِ من شَأْنه أَن يتقوى بِهِ فِيهَا وَلكنه عديم الْفَائِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالهم الْيَوْم لما تقرر من أَنهم صَارُوا من الْقُوَّة والاستعداد والتفنن فِي أَنْوَاع الْآلَات الحربية إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 حَيْثُ صَارَت آلاتنا عِنْدهم هِيَ والحطب سَوَاء وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم يبيعوننا أنواعا من الْآلَات الحربية نقضي الْعجب من جودتها وإتقانها وَمَعَ ذَلِك فينقل لنا عَنْهُم أَنهم لَا يبيعوننا مِنْهَا إِلَّا مَا انعدمت فَائِدَته عِنْدهم لكَوْنهم ترقوا عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَجود مِنْهَا واستنبطوا مَا هُوَ أتقن وأنفع إِلَّا فِيمَا قل وعَلى هَذَا فتنبغي الْيَوْم الْفَتْوَى بِجَوَاز بيع سِلَاحنَا مِنْهُم فضلا عَن غَيره لجزمنا بِأَن ذَلِك لَا يفيدهم فِي معنى التقوي شَيْئا وَإِن كَانَت هُنَاكَ فَائِدَة فَهِيَ كلا فَائِدَة هَذَا إِذا لم نتوقع ضَرَرا مِنْهُم عِنْد امتناعنا من البيع فَأَما إِذا كُنَّا نتوقعه مِنْهُم كَمَا هُوَ حَالنَا الْيَوْم فيرتقي الحكم عَن الْجَوَاز إِلَى مَا هُوَ فَوْقه وللضرورة أَحْكَام تخصها فَإِن قلت فقد أقدمت بِهَذَا الْكَلَام على مَا لم يقدم عَلَيْهِ أحد قبلك فِي استجازتك بيع السِّلَاح من الْحَرْبِيين قلت إِنَّمَا ذكرت السِّلَاح تَوْطِئَة لما الْكَلَام فِيهِ حَتَّى يُؤْخَذ حكمه بالأحرى ثمَّ إِنِّي مَا أقدمت عَلَيْهِ إِلَّا بالقاعدة الْفِقْهِيَّة لَا مجازفة كَمَا أقدم من قبلي على إجَازَة بِنَاء الْكَنَائِس بِأَرْض الْمُسلمين لأجل الضَّرُورَة الداعية إِلَى ذَلِك فقد أفتى عُلَمَاء الأندلس فِي الْقرن الْخَامِس بِالْإِذْنِ لِلنَّصَارَى فِي إِحْدَاث الْكَنَائِس بِأَرْض العنوة وَبِمَا اختطه الْمُسلمُونَ من الْأَمْصَار مَعَ أَن الْمَوْجُود فِي كتب السّلف هُوَ الْمَنْع وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْأَحْكَام الْمرتبَة على الْأَعْرَاف تخْتَلف باخْتلَاف تِلْكَ الْأَعْرَاف قَالَ الْقَرَافِيّ فِي كتاب الْأَحْكَام فِي الْفرق بَين الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام فِي السُّؤَال التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ مَا نَصه إِن قلت مَا الصَّحِيح فِي هَذِه الْأَحْكَام الْوَاقِعَة فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا الْمرتبَة على الْعَادة وَالْعرْف اللَّذين كَانَا حاصلين حَالَة جزم الْعلمَاء بِهَذِهِ الْأَحْكَام فَهَل إِذا تَغَيَّرت تِلْكَ العوائد وَصَارَت تدل على ضد مَا كَانَت تدل عَلَيْهِ أَولا فَهَل تبطل هَذِه الْفَتَاوَى المسطورة فِي الْكتب ونفتي بِمَا تَقْتَضِيه هَذِه العوائد المتجددة أَو يُقَال نَحن مقلدون وَمَا لنا أَحْدَاث شرع لعدم أهليتنا للِاجْتِهَاد فنفتي بِمَا فِي الْكتب المنقولة عَن الْمُجْتَهدين فَالْجَوَاب إِن إِجْرَاء هَذِه الْأَحْكَام الَّتِي مدركها العوائد مَعَ تغير تِلْكَ العوائد خلاف الْإِجْمَاع وجهالة فِي الدّين بل كل مَا هُوَ فِي الشَّرِيعَة يتبع العوائد يتَغَيَّر الحكم فِيهِ عِنْد تغير الْعَادة إِلَى مَا تَقْتَضِيه الْعَادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 المتجددة وَلَيْسَ ذَلِك تجديدا للِاجْتِهَاد من الْمُقَلّد حَتَّى تشْتَرط فِيهِ أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بل هَذِه قَاعِدَة اجْتهد فِيهَا الْعلمَاء وَأَجْمعُوا عَلَيْهَا فَنحْن نتبعهم فِيهَا من غير اسْتِئْنَاف اجْتِهَاد اهـ وَنَحْوه لَهُ فِي كتاب الفروق وَنَقله عَنهُ الْأَئِمَّة واعتمدوه فَبَان من هَذَا أَنه لَا معنى للإفتاء الْيَوْم بِمَنْع بيع شَيْء من الْكفَّار أيا كَانَ إِلَّا الْمُصحف وَالْمُسلم وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لأَنهم بلغُوا الْيَوْم من الْقُوَّة إِلَى الْحَد الَّذِي لم يكن لأحد فِي ظن وَلَا حِسَاب إِلَّا أَن يُرِيد الله كفايتنا إيَّاهُم بِأَمْر من عِنْده فَهُوَ سُبْحَانَهُ ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ وَذَلِكَ ظننا بِهِ تَعَالَى فَإِن قلت هَهُنَا مضرَّة أُخْرَى تمنع من بيع مَا طلبوه وَهِي التَّضْيِيق على الْمُسلمين فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم لأَنهم إِذا أَكَبُّوا على شِرَاء هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا بُد أَن تغلو وترتفع أثمانها وَفِي ذَلِك من الْإِضْرَار بِالْمُسْلِمين مَا لَا يخفى وَلذَا أفتى الْأَئِمَّة بِمَنْع الحكرة فِي كل مَا للنَّاس بِهِ حَاجَة من طَعَام وأدام وعروض فَإِن كَانَ فِي الْحَال سَعَة وَلم يضر الاحتكار بِالنَّاسِ جَازَ فِي الطَّعَام وَغَيره قلت وَالنَّاس الْيَوْم وَالْحَمْد لله فِي سَعَة وَأما حُصُول التَّضْيِيق عَلَيْهِم فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم بِسَبَب تَسْرِيح وسق هَذِه الْأَشْيَاء لِلنَّصَارَى فمشكوك فِيهِ قد يحصل وَقد لَا يحصل وَالشَّكّ مطروح فِي نظر الشَّرْع بِخِلَاف الْمضرَّة المتوقعة مِنْهُم عِنْد الْمَنْع والمحاربة فمقطوع بهَا نظرا للقرائن القوية وَالْعَادَة فَإِن قلت بل الْغَالِب حُصُول التَّضْيِيق لَا أَنه مَشْكُوك فَقَط قلت لَيْسَ بغالب فقد رأيناهم مُنْذُ أزمان وهم مكبون على وسق أَشْيَاء كَثِيرَة مثل القطاني وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك لم يحصل فِيهَا وَالْحَمْد لله إِلَّا الرخَاء بل الْحق إِن هَذَا من علم الْغَيْب لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يحكم عَلَيْهِ بِغَلَبَة وَلَا قلَّة لِأَن الحكم فِي ذَلِك بالتخمين من بَاب التخرص على الله تَعَالَى فِي غيبه وَهُوَ حرَام على أَن النَّصَارَى إِذا اشْتَروا منا شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّمَا يشترونه بِالثّمن الَّذِي لَهُ بَال ويعشرونه بالصاكة الَّتِي لَهَا بَال فَتحصل الأرباح للرعية وللسلطان وَهَذِه مَنْفَعَة مَقْطُوع بهَا وَأما الغلاء فمشكوك كَمَا قُلْنَا وَالْحَاصِل أَن الأبحاث والتفريعات فِي هَذَا الْمَوْضُوع كَثِيرَة وَفِي هَذِه النبذة كِفَايَة لمن استبصر وَالله الْمُوفق وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ النّظر من جِهَة الرَّأْي والسياسة وَلَا بُد فِيهِ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 الْفِقْه أَيْضا إِذْ كل سياسة لَا تستضيء بِنور الشَّرْع فَهِيَ ضلال فَنَقُول لَا يخفى أَن النَّصَارَى الْيَوْم على غَايَة من الْقُوَّة والاستعداد والمسلمون لم الله شعثهم وجبر كسرهم على غَايَة من الضعْف والاختلال وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف يسوغ فِي الرَّأْي والسياسة بل وَفِي الشَّرْع أَيْضا أَن ينابذ الضَّعِيف الْقوي أَو يحارب الأعزل الشاكي السِّلَاح وَكَيف يستجاز فِي الطَّبْع أَن يصارع المقعد الْقَائِم على رجلَيْهِ أَو يعقل فِي النّظر أَن تناطح الشَّاة الْجَمَّاء الشَّاة القرناء كَمَا قَالَ الشَّاعِر (أهم بِأَمْر الحزم لَو أستطيعه ... وَقد حيل بَين العير والنزوان) فالمحاربة على هَذَا الْوَجْه مِمَّا لم تقل بِهِ سياسة وَلَا وَردت بِهِ شَرِيعَة فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ خير الْخلق عِنْد ربه وَأكْرمهمْ لَدَيْهِ قد صَالح الْمُشْركين يَوْم الْحُدَيْبِيَة صلحا قَالَ فِيهِ بعض كبار الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم نَحن الْمُسلمُونَ فَكيف نعطي الدنية فِي ديننَا ورد أَبَا جندل رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْمُشْركين وَهُوَ يرسف فِي قيوده ويصرخ بِأَعْلَى صَوته يَا معشر الْمُسلمين كَيفَ أرد إِلَى الْمُشْركين يفتنونني فِي ديني والقصة مَشْهُورَة لَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بهَا وَقد عزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحْزَاب أَن يُعْطي عُيَيْنَة بن حصن والْحَارث بن عَوْف وهما قائدا غطفان ثلث تمر الْمَدِينَة على أَن يرجعا بِمن مَعَهُمَا عَنهُ وَعَن أَصْحَابه حَتَّى رده عَن ذَلِك سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا حِين أحسوا من أنفسهم بمقاومة الْعَدو وَأَيْنَ نَحن مِنْهُم دينا ويقينا وبصيرة وثباتا فِي الْحَرْب وَقد أفتى الْفُقَهَاء رضوَان الله عَلَيْهِم لأجل هَذَا الْوَارِد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجَوَاز عقد الْهُدْنَة مَعَ الْكفَّار على إِعْطَاء المَال انْظُر الْمُخْتَصر وَغَيره فَإِذا كَانَ إِعْطَاء المَال مجَّانا جَائِزا عِنْد الضَّرُورَة فَكيف لايجوز إِعْطَاء بعض المتمولات بأثمانها الَّتِي لَهَا بَال وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْأَجْنَاس إِنَّمَا دَعونَا فِي ظَاهر الْأَمر إِلَى السّلم لَا إِلَى الْحَرْب وَغَايَة مطلوبهم فِي هَذِه النَّازِلَة الاستكثار من ضروب المتاجرة الَّتِي ينشأ عَنْهَا فِي الْغَالِب كَثْرَة المازجة بَيْننَا وَبينهمْ ولعمري أَن فِي اختلاطهم بِنَا وممازجتهم لنا لمضرة وَأي مضرَّة وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَلكنهَا تستصغر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 مضرَّة الْمُحَاربَة وَلَيْسَ من الرَّأْي والسياسة أَن يَدْعُوك خصمك إِلَى السّلم فتدعوه إِلَى الْحَرْب مَا وجدت إِلَى السّلم سَبِيلا وَهَذَا هُوَ الَّذِي فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ قَالَ لأَصْحَابه لما اغتاظوا من ذَلِك الصُّلْح وَقَالَ بَعضهم وَالله مَا هَذَا بِفَتْح لقد صُدِدْنَا عَن الْبَيْت وَصد هدينَا بل هُوَ أعظم الْفتُوح قد رَضِي الْمُشْركُونَ أَن يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَن بِلَادهمْ وَيَسْأَلُوكُمْ الْقَضِيَّة وَيرغبُوا إِلَيْكُم من الْأمان إِلَى آخر مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى هَذَا وَنَحْوه الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا وتوكل على الله} الْأَنْفَال 61 ذكر تَعَالَى ذَلِك عقب قَوْله {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْأَنْفَال 60 إِشَارَة إِلَى أَن الصُّلْح يجوز وَلَو كَانَ بِالْمُسْلِمين قُوَّة واستعداد كَمَا نبه عَلَيْهِ بعض الْمُفَسّرين فَكيف وَلَا قُوَّة وَلَا استعداد إِلَّا أَن يتداركنا الله بلطف من عِنْده وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ هَل الْآيَة مَنْسُوخَة أم لَا وَالصَّحِيح كَمَا فِي الْكَشَّاف وَغَيره إِن الْأَمر مَوْقُوف على مايرى فِيهِ الإِمَام مصلحَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله من حَرْب أَو سلم وَلَيْسَ بحتم أَن يقاتلوا أبدا أَو يجابوا إِلَى الْهُدْنَة أبدا اهـ وهذ مَذْهَبنَا وَمذهب غَيرنَا وَلذَلِك جَازَت عندنَا الْهُدْنَة وَإِن على مَال كَمَا مر فدلت الْآيَة الْكَرِيمَة على أَن السّلم أولى من الْحَرْب وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُوم الْمُسلم شرعا وطبعا أما الشَّرْع فَهَذِهِ الْآيَة وقصة الْحُدَيْبِيَة وَقَوله تَعَالَى {وَالصُّلْح خير} النِّسَاء 128 وَقَوله {والفتنة أَشد من الْقَتْل} الْبَقَرَة 191 وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ وَإِن نزلتا فِي شَيْء خَاص لَكِن يجوز الاستشهاد بهما فِيمَا نَحن فِيهِ وَفِي غَيره إِذْ هما من الْكَلَام الْجَامِع الْجَارِي مجْرى الْمثل وَالْحكمَة وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا دَعَوْت إِلَى المبارزة قطّ وَمَا دَعَاني أحد إِلَيْهَا إِلَّا أَجَبْته فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ الدَّاعِي إِلَى الْحَرْب بَاغ والباغي مصروع وَأما الطَّبْع فَلَا يحْتَاج إِلَى شَاهد لِأَن كل عَاقل يعلم أَن السّلم خير من الْحَرْب وَقد قَالَ شريك لمعاوية رَضِي الله عَنْهُمَا فِي مقاولة جرت بَينهمَا إِنَّك ابْن حَرْب وَالسّلم خير من الْحَرْب وَقَالَ الْحصين بن نمير السكونِي لِابْنِ الزبير رَضِي الله عَنهُ يَوْم مَاتَ يزِيد اذْهَبْ معي إِلَى الشَّام لأدعو النَّاس إِلَى بيعتك فَلَا يتَخَلَّف عَنْك أحد فَقَالَ ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 الزبير أما دون أَن أقتل بِكُل وَاحِد من أهل الْحجاز عشرَة من أهل الشَّام فَلَا وَجعل ابْن الزبير يجْهر بذلك فَقَالَ لَهُ الْحصين أُكَلِّمك سرا وتكلمني جَهرا وأدعوك إِلَى السّلم والخلافة وتدعوني إِلَى الْحَرْب والمناجزة كذب من زعم أَنَّك داهية الْعَرَب اهـ فقد عَابَ عَلَيْهِ ذَلِك من جِهَة الرَّأْي كَمَا ترى وَأنْشد صَاحب الْكَشَّاف وَغَيره لَدَى قَوْله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} الْأَنْفَال 61 قَول الْعَبَّاس بن مرداس رَضِي الله عَنهُ (السّلم تَأْخُذ مِنْهَا مَا رضيت بِهِ ... وَالْحَرب يَكْفِيك من أنفاسها جرع) وَفِي كتاب الْفِتَن من صَحِيح البُخَارِيّ مَا نَصه كَانَ السّلف يستحبون أَن يتمثلوا بِهَذِهِ الأبيات عِنْد الْفِتَن (الْحَرْب أول مَا تكون فتية ... تسْعَى بزينتها لكل جهول) (حَتَّى إِذا اشتعلت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذَات حليل) (شَمْطَاء ينكسر لَوْنهَا وتغيرت ... مَكْرُوهَة للشم والتقبيل) قَالَ الْقُسْطَلَانِيّ المُرَاد أَنهم يتمثلون بِهَذِهِ الأبيات ليستحضروا مَا شاهدوه وسمعوه من حَال الْفِتْنَة فَإِنَّهُم يتذكرون بإنشادها ذَلِك فيصدهم عَن الدُّخُول فِيهَا حَتَّى لَا يغتروا بِظَاهِر أمرهَا أَولا اهـ وَلَا شكّ أَن هَذِه حَالَة الْعَامَّة الأغمار الَّذين لم تضرسهم الحروب وَلَا حنكتهم التجارب تجدهم إِذا ظَهرت مخايل فتْنَة نسْأَل الله الْعَافِيَة استشرفوا إِلَيْهَا وتمنوا خوضها وَرُبمَا تألى بَعضهم وَقَالَ وَالله لَئِن حضرتها لَأَفْعَلَنَّ وأفعلن وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو وَحَال هَذَا الْغمر المتألي هُوَ الَّذِي أفْصح عَنهُ المتنبي بقوله (وَإِذا مَا خلا الجبان بِأَرْض ... طلب الطعْن وَحده والنزالا) فَهَذَا الْقطر المغربي تدارك الله رمقه على مَا ترى من غَايَة الضعْف وَقلة الاستعداد فَلَا تنبغي لأَهله المسارعة إِلَى الْحَرْب مَعَ الْعَدو الْكَافِر مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من غَايَة الشَّوْكَة وَالْقُوَّة وَقد تقرر فِي علم الْحِكْمَة أَن المعاندة والمدافعة إِنَّمَا تحصل بَين المتضادين والمتماثلين وَلَا تحصل بَين المتخالفين وحالنا الْيَوْم مَعَ الْعَدو لَيْسَ من بَاب التضاد وَلَا من بَاب التَّمَاثُل وَإِنَّمَا هُوَ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 بَاب التخالف فَافْهَم بل لَو فَرضنَا أَن أهل الْمغرب الْيَوْم مماثلون لِلْعَدو فِي الْقُوَّة والاستعداد لما كَانَ يَنْبَغِي لَهُم ذَلِك لِأَنَّهُ لَيست الْعدة وَحدهَا كَافِيَة فِي الْحَرْب وَلَا كَثْرَة الرِّجَال والمقاتلة وَحدهَا بِالَّذِي يُغني فِيهَا شَيْئا بل لَا بُد مَعَ ذَلِك من اجْتِمَاع الْكَلِمَة وَكَون النَّاس فِيهَا على قلب رجل وَاحِد وَلَا بُد مَعَ ذَلِك من ضَابِط بِجَمْعِهِمْ وقانون يسوسهم حَتَّى تكون الْجَمَاعَة كالبدن الْوَاحِد يقوم جَمِيعًا وَيقْعد جَمِيعًا وَهَذَا معنى مَا صَحَّ فِي الحَدِيث من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان المرصوص يشد بعضه بَعْضًا فَإِن لم يكن ضَابِط وقانون فَلَا بُد من نَفاذ البصيرة فِي الدّين وَقُوَّة الْيَقِين والألفة فِيمَا بَين الْمُسلمين والغيرة على الوطن والحريم وجودة الرَّأْي والتمرس بالحروب ومكايد الْمُشْركين وَأهل الْمغرب الْيَوْم إِلَّا الْقَلِيل منسلخون من هَذَا كُله أَو جله فقد توالت عَلَيْهِم الأجيال فِي السّلم والهدنة وَبعد عهد أسلافهم فضلا عَنْهُم بِالْحَرْبِ وشدائدها ومعاناة الْأَعْدَاء ومكايدها وَإِنَّمَا هَمهمْ مأكولهم ومشروبهم وملبوسهم كَمَا لَا يخفى حَتَّى لم يبْق من هَذِه الْحَيْثِيَّة فرق بَينهم وَبَين نِسَائِهِم وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان فَكيف يحسن فِي الرَّأْي المسارعة إِلَى عقد الْحَرْب مَعَ أَجنَاس الفرنج وَمَا مثلنَا وَمثلهمْ إِلَّا كَمثل طائرين أَحدهمَا ذُو جناحين يطير بهما حَيْثُ شَاءَ وَالْآخر مقصوصهما وَاقع على الأَرْض لَا يَسْتَطِيع طيرانا وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ سَبِيلا فَهَل ترى لهَذَا المقصوص الجناحين الَّذِي هُوَ لحم على وَضم أَن يحارب ذَلِك الَّذِي يطير حَيْثُ شَاءَ وَهل يكون فِي ذَلِك إِن كَانَ إِلَّا هَلَاك هَذَا وسلامة ذَاك بل وغنيمته فَإِن ذَاك ينقر هَذَا مَتى وجد فِيهِ فرْصَة للنقر وَيبعد عَنهُ ويطير إِذا لم يجدهَا وَهَكَذَا يسْتَمر حَاله مَعَه حَتَّى يُثبتهُ أَو يملكهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ فِي طوق هَذَا إِلَّا أَن يَدْفَعهُ عَن نَفسه فِي بعض الأحيان إِذا تأتى لَهُ ذَلِك وَلَكِن إِلَى مَتى فَهَكَذَا حَالنَا مَعَ عدونا فَإِنَّهُ بقراصينه الحربية ذُو أَجْنِحَة كَثِيرَة فَهُوَ علينا بِالْخِيَارِ يهجم علينا فِي ثغورنا إِذا شَاءَ وَيبعد عَنَّا فَلَا ندركه مَتى شَاءَ وقصارانا مَعَه الدّفع عَن أَنْفُسنَا إِذا اتّفقت كلمتنا وَلم تشغلنا غوغاء الْأَعْرَاب من خلفنا وهيهات فقد جرب ذَلِك مرَارًا فصح وَالْمُؤمن لَا يلْدغ من جُحر مرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَالْكَلَام فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 هَذَا الْفَصْل أَيْضا طَوِيل وَفِيمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ كِفَايَة فَإِن قلت أَرَاك قد صيرت الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم مَحْض فتْنَة وَقد زهدت النَّاس فِيهِ وَقطعت آمالهم مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَام قلت أعلمت يَا أخي مَا هُوَ الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم اعْلَم أَن الْجِهَاد الْمَذْكُور هُوَ قتال أهل الشّرك والطغيان على إعلاء كلمة الرَّحْمَن لينساقوا بذلك إِلَى الدُّخُول فِي دين الله طَوْعًا أَو كرها ولتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَكلمَة الشَّيْطَان هِيَ السُّفْلى مَعَ نَفاذ البصيرة وخلوص النِّيَّة والغيرة على دين الله وكل ذَلِك بِشَرْط الْقُوَّة المكافئة أَو الْقَرِيبَة مِنْهَا وَمهما اخْتَلَّ ركن أَو شَرط مِمَّا ذكرنَا كَانَ إِلَى الْفِتْنَة أقرب مِنْهُ إِلَى الْجِهَاد بل نقُول إِن الْجِهَاد الشَّرْعِيّ قد تعذر مُنْذُ أحقاب فَكيف تطلبه الْيَوْم فَإِن كنت تسارع إِلَى الْحَرْب لتدركه جهلا مِنْك بِحَقِيقَة الْأَمر فَاعْلَم أَنَّك إِنَّمَا تسارع إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة وايجاد الْعَدو السَّبِيل عَلَيْك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السَّبي لحريمك وَمَالك ودمك نسْأَل الله الْعَافِيَة اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون مِمَّن اخْتَارَهُمْ الله وأهلهم لذَلِك وَكتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ كَمَا نسْمع الْيَوْم عَن أمة الْحَبَشَة والنوبة الَّذين يُقَاتلُون عَسَاكِر النجليز على تخوم صَعِيد مصر وَغَيرهَا فقد تَوَاتر النَّقْل وَصَحَّ الْخَبَر أَن دولة النجليز قد بارت حيلها مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَأَنَّهَا وجهت إِلَيْهِم العساكر من الديار المصرية بِكُل قُوَّة وشوكة مرّة بعد أُخْرَى فمحقوهم محقا مَعَ أَنهم لايقاتلونهم فِي الْغَالِب إِلَّا بالحراب على عَادَة السودَان فِي ذَلِك والنصر بيد الله وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ الْفَهم عَن الله تَعَالَى وَالنَّظَر فِي تَصَرُّفَاته سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْوُجُود بِعَين الِاعْتِبَار فَهَذَا حق الْكَلَام فِيهِ أَن يكون من أَرْبَاب البصائر المتنورة والقلوب المطهرة لَا من أمثالنا الَّذين أَصْبحُوا على أنفسهم مسرفين وَفِي أَوديَة الشَّهَوَات منهمكين تداركنا الله بِلُطْفِهِ لَكنا نقُول وَإِن كَانَ القَوْل من بَاب الفضول إِذا نَظرنَا مَا عَامل الله تَعَالَى بِهِ عَبده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن أيده الله وَجَدْنَاهُ وَالْحَمْد لله مصنوعا لَهُ مصحوبا بالعناية الإلهية مكلوء بِعَين الرِّعَايَة الربانية تصحبه السَّعَادَة أَيْنَمَا توجه ويختار لَهُ فِي جَمِيع مَا يحاوله وَلَا تنجلي مهماته إِلَّا عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 مَا يسر الصّديق ويسوء الْعَدو فَالْحَمْد لله على ذَلِك حمدا كثيرا وَهُوَ مَعَ ذَلِك جميل الظَّن بربه حسن العقيدة فِي توكله عَلَيْهِ مُفردا وجهته إِلَيْهِ حَرِيصًا على استصلاح رَعيته ذَا غيرَة تَامَّة على الدّين والوطن بِحَيْثُ فاق بذلك وَغَيره من خِصَال الْخَيْر كثيرا من مُلُوك عشيرته الَّذين تقدموه وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الرَّأْي الَّذِي لَا رَأْي فَوْقه أَن نفوض إِلَيْهِ فِي ذَلِك ونثق بِحسن رَأْيه ويمن نقيبته ونجاوبه فِي هَذِه النَّازِلَة بِأَن الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيره إِذْ هُوَ الَّذِي طوقه الله أمرنَا وكلفه النّظر لنا والنصح لدينا وَإِن كَانَ لَا بُد من المشورة فَلَيْسَتْ إِلَّا مَعَ أهل الْحل وَالْعقد وَقد قَالَ الْعلمَاء أهل الْحل وَالْعقد هم أهل الْعلم وَالدّين وَالْبَصَر بِهَذَا الْأَمر الْخَاص لِأَنَّهُ يشْتَرط فِي كل من ولي النّظر فِي أَمر مَا من الْأُمُور الْعلم بِهِ فَمَا اخْتَارَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ اخترناه وَمَا انْشَرَحَ لَهُ صَدره وأمضاه أمضيناه وَكَيف لَا وَمَا عوده الله إِلَّا خيرا {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} الْآيَة وَعَسَى أَن يكون فِيمَا طلبه هَؤُلَاءِ الْأَجْنَاس فَسَاد أَمرهم وَصَلَاح أمرنَا وَذَلِكَ الظَّن بِهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بعزيز فَيكون تدميرهم فِي تدبيرهم وَقد استروحنا وَالْحَمْد لله نسيم الْفرج مِمَّا كُنَّا فِيهِ قبل الْيَوْم تمم الله علينا نعْمَته آمين وَأَيْضًا فَفِي التَّفْوِيض فِي هَذِه النَّازِلَة ضرب من التبري من الْحول وَالْقُوَّة فَحَيْثُ ساقت الأقدار إِلَيْنَا هَذَا الْأَمر فَيَنْبَغِي أَن نتلقاه بالرضى وَالتَّسْلِيم بِخِلَاف مَا إِذا استعملنا فِيهِ حيلتنا ورأينا فَيكون من بَاب الدُّخُول فِي التَّدْبِير وشتان مَا بَين التَّفْوِيض وَالتَّدْبِير وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَه وَكتبه أَحْمد بن خَالِد الناصري كَانَ الله لَهُ فِي عَاشر شعْبَان سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَألف اهـ ثمَّ إِن الله تَعَالَى لطف فِي هَذِه النَّازِلَة بمنه اللَّطِيف الْجَمِيل وَكفى مؤنتها من ذَلِك الْمَطْلُوب بِشَيْء قَلِيل وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان أيده الله سرح لَهُم وسق الْقَمْح وَالشعِير ثَلَاث سِنِين وَوضع عَنْهُم من صاكتهما نَحْو الرّبع لَا غير وَلم يحصل وَالْحَمْد لله للرعية ضَرَر قطّ ثمَّ دخلت سنة أَربع وثلاثمائة وَألف فِيهَا كتب السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله إِلَى عُلَمَاء فاس كتابا يستفتيهم فِي حكم التِّجَارَة فِي الأعشاب المرقدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 والمفسدة ويستشيرهم فِي تسريحها وإمساكها وَنَصّ ذَلِك الْكتاب بعد الِافْتِتَاح أحباءنا فُقَهَاء فاس الأجلة المرضيين وعلماءها المرشدين سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فطالما قدمنَا رجلا وأخرنا أُخْرَى فِي تَسْرِيح الصاكة الَّتِي هِيَ الأعشاب المرقدة والمفسدة وَنَحْوهَا وَكَانَ تسريحها من أهم الْأُمُور لدينا وآكد من تَسْرِيح غَيرهَا كالأبواب لما نجده فِي نفسنا لَهَا من الاستقباح ونستقذره من أمرهَا فِي الغدو والرواح مَعَ مزِيد ثقلهَا على فؤادنا وَكَونهَا أحرج فِي روعنا وَكَانَ أسلافنا قدسهم الله اجتهدوا فِي قطعهَا وحسم مادتها بِكُل مَا أمكنهم وأفضى بهم الْحَال إِلَى إحراقها مرَارًا وَلما رَأَوْا تمالؤ الرعاع والسفهاء والمقلين والمعدمين عَلَيْهَا ارتكبوا فِيهَا مَا يحصل بِهِ التَّضْيِيق على مستعمليها وتمنع مِنْهُم فَلَا يلْحقهَا إِلَّا من عِنْده مَا يشريها بِهِ وهم فِي أُولَئِكَ الرعاع قَلِيل مَعَ النّظر لما يحصل لبيت المَال من النَّفْع الْكثير فحيزت لجَانب المخزن لتَحْصِيل المقصدين الْمَذْكُورين وَحَيْثُ قذف الله فِي قلبنا تسريحها ورفض درن مَا يحصل مِنْهَا تعَارض لدينا أَمْرَانِ وهما إبقاؤها بيد المخزن وتسريحها أما الأول فَهُوَ الَّذِي فَرَرْنَا مِنْهُ وَبينا علله وَأما الثَّانِي وَهُوَ التسريح فمقتضاه إغراء الرعاع والسفهاء على اسْتِعْمَالهَا وَلَا سِيمَا مَعَ انحطاط ثمنهَا فيتناولها الْقوي والضعيف فَيصير ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى إِبَاحَة مَا كَانُوا ممنوعين مِنْهُ فيتجاهرون بِهِ وَلَا يَخْشونَ رقيبا وَيَأْتِي مِنْهَا من بر النَّصَارَى مَا لَا حصر لَهُ فيعشر كَسَائِر المعشرات الْمُبَاحَة وتنبني على ذَلِك مفاسد هِيَ أعظم من كَونهَا محوزة وأشكل الْأَمر فلتبينوا المخلص من ذَلِك بِمَا تَقْتَضِيه قَوَاعِد الشَّرِيعَة المطهرة حَتَّى نخرج من عُهْدَة ذَلِك فَإِن الْخطب عَظِيم وَالسَّلَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم عَام أَرْبَعَة وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله وَأجَاب عَنهُ عُلَمَاء فاس وفرهم الله بِجَوَاب طَوِيل مرجعه إِلَى حُرْمَة اسْتِعْمَال تِلْكَ الأعشاب وَالتِّجَارَة فِيهَا حَسْبَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء والصوفية رضوَان الله عَلَيْهِم وَلما كَانَ الْمَقْصُود الأهم للسُّلْطَان أيده الله هُوَ الْإِشَارَة بكيفية التَّخَلُّص من ورطة تسريحها والحصول على السَّلامَة مِمَّا عَسى أَن ينشأ عَنهُ من الْمَفَاسِد المرموز إِلَيْهَا فِي الْكتاب الشريف كتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 إِلَى بعض الْأَحِبَّة من فاس بِقصد المذاكرة فِي النَّازِلَة فأجبته عَنْهَا بِمَا نَصه اعْلَم حفظك الله أَن مَا أجَاب بِهِ سادتنا فُقَهَاء فاس من حرمتهَا وَوُجُوب تخلي المخزن عَن بيعهَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ تِلْكَ الأعشاب من الْمَفَاسِد العديدة الَّتِي كل وَاحِدَة مِنْهَا كَافِيَة فِي الْجَزْم بحرمتها وَقد بَينا شَيْئا من ذَلِك فِي كتاب الِاسْتِقْصَاء عِنْد الْكَلَام على حدوثها ودخولها لبلاد الْمغرب أَيَّام الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فلينظره من أَرَادَهُ فَإِنَّهُ كَاف فِي هَذَا الْبَاب وَأما مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكتاب الشريف من أَن مصلحَة احتياز المخزن لَهَا واستبداده بِبَيْعِهَا هِيَ التَّضْيِيق على مستعمليها حَتَّى لَا يَتَنَاوَلهَا مِنْهُم إِلَّا الملي بِثمنِهَا دون الْفَقِير الخ فَهِيَ مصلحَة موهوبة أَو مَعْدُومَة لجزمنا بِأَن الْحَامِل لمتعاطيها على اسْتِعْمَالهَا إِنَّمَا هُوَ التبذل وَقلة الْمُرُوءَة ورقة الدّيانَة وخسة النَّفس وَسُقُوط الهمة كَمَا أَن الْوَازِع لمن لم يتعاطاها إِنَّمَا هُوَ كَمَال الْمُرُوءَة ومتانة الدّيانَة وَشرف النَّفس وعلو الهمة لَا فقدان ذَلِك الثّمن التافه كَيفَ لَا وَهِي لَا يتعاطاها فِي الْغَالِب إِلَّا الْفُقَرَاء المقلون فمصلحة التَّضْيِيق عَلَيْهِم فِي ثمنهَا مفقودة كَمَا ترى وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَالْوَاجِب شرعا ومروءة هُوَ تَنْزِيه منصب الْإِمَامَة الإسلامية والخلافة النَّبَوِيَّة الَّتِي هِيَ أهم الخطط الدِّينِيَّة والمناصب الشَّرْعِيَّة عَن التِّجَارَة فِيهَا وتطهير تِلْكَ الساحة الْكَرِيمَة من التلوث بأقذارها إِذْ لَا يُنَاسب ذَلِك حَال مُطلق الْمُسلمين فَكيف بجناب أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَيْضًا فَفِي تنَاول ذَلِك الجناب لَهَا بِالتِّجَارَة والاستبداد بِالرِّبْحِ تهييج للعامة عَلَيْهَا وإغراء لَهُم بتعاطيها كَمَا قَرَّرَهُ عُلَمَاء فاس حفظهم الله وَلَو نهوا عَنْهَا لما انْتَهوا بل رُبمَا احْتَجُّوا بِأَنَّهَا لَو كَانَت حَرَامًا مَا احتازها المخزن واستبد بربحها وَمن الْعَادة المقررة أَنه لَا يمتثل إِلَّا قَول الممتثل وَلَا يؤتمر إِلَّا بِأَمْر المؤتمر وَلما انبرم الصُّلْح بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين قُرَيْش يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَأمر أَصْحَابه أَن ينحروا ويحلقوا أَمْسكُوا وَلم يَفْعَلُوا حَتَّى قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا لم يقم مِنْهُم أحد قَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل على أم سَلمَة فَذكر لَهَا مَا لَقِي من النَّاس فَقَالَت أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا يَا نَبِي الله اخْرُج ثمَّ لَا تكلم مِنْهُم أحدا كلمة حَتَّى تنحر بدنك وَتَدْعُو حالقك فيلحقك فَخرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وَلم يكلم أحدا مِنْهُم حَتَّى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك قَامُوا فنحروا وَجعل بَعضهم يحلق بَعْضًا حَتَّى كَادُوا يقتتلون اهـ فَكَذَلِك نقُول هُنَا إِن الْعَامَّة مهما رَأَوْا الْأَمِير تعاطى شَيْئا تعاطوه وَإِذا رَأَوْهُ نبذ أمرا نبذوه لِأَن الْعَامَّة مولعون بالاقتداء بالأمير وَمن فِي مَعْنَاهُ من الكبراء حَسْبَمَا قَرَّرَهُ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان من تَارِيخه وَأما التخوف من الْإِتْيَان بهَا من بر النَّصَارَى واشتغالهم بِالتِّجَارَة فِيهَا بأسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لبيعها وَمَا ينشأ عَن ذَلِك من الْمَفَاسِد فَهُوَ مَأْمُون بِمُقْتَضى الشُّرُوط المنعقدة بَيْننَا وَبينهمْ حَسْبَمَا تضمنه الشَّرْط الثَّانِي وَالْخَامِس وَالسَّابِع من شُرُوط التِّجَارَة المنعقدة مَعَ النجليز خُصُوصا وَغَيره عُمُوما سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فقد صرح فِي الشَّرْط الثَّانِي مِنْهَا بِأَن هَذِه الأعشاب وَنَحْوهَا من جملَة الممنوعات دُخُولا وخروجا ثمَّ نبه على ذَلِك أَيْضا فِي الْخَامِس وَالسَّابِع فلينظره من أَرَادَهُ وَإِنَّمَا يكون لَهُم بعد تخلي السُّلْطَان عَن بيعهَا أَن يجلبوا مِنْهَا مَا يحتاجونه لأَنْفُسِهِمْ فَقَط لَا أَكثر مِنْهُ كَالْخمرِ أَلا ترى أَنهم الْيَوْم إِنَّمَا يجلبون مِنْهَا مَا يشربونه ويتبايعونه فِيمَا بَينهم وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى التِّجَارَة بهَا فِي أسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لبيعها فَكَذَلِك هَذِه الأعشاب حكمهَا حكم الْخمر حَذْو النَّعْل بالنعل وَإِذا امْتنع المخزن من التِّجَارَة فِيهَا مَعَ بَقَاء منع الرّعية مِنْهَا أَيْضا فَلَا حجَّة لِلنَّصَارَى فِي ذَلِك وَلَا مُتَكَلم لَهُم فِيهِ إِذْ لَيْسَ فِي امْتنَاع المخزن حِينَئِذٍ إِلَّا تَأْكِيد الْمَنْع الَّذِي كَانَ قبل وَإِنَّمَا تكون لَهُم الْحجَّة إِذا بِيعَتْ لبَعض الرعايا دون بعض لِأَن حَاصِل شُرُوط التِّجَارَة الْخَمْسَة عشر ومدارها على أَن رعايا الْأَجْنَاس يكون لَهَا مَا لرعية الإيالة المغربية من التحجير وَالْإِطْلَاق والتخصيص والتعميم بِحَيْثُ لَا يستبد أحد من الْفَرِيقَيْنِ بِنَوْع من أَنْوَاع التِّجَارَة دون الآخر إِلَّا مَا للمخزن فِيهِ غَرَض ومصلحة فِي تثقيفه من أَشْيَاء مَخْصُوصَة فَإِنَّهُ يثقفه بنظره إِذا شَاءَ ويسرحه كَذَلِك مَتى شَاءَ وَإِن اقْتضى نظره أَن يستبد بأرباح شَيْء من ذَلِك دون رعايا الْفَرِيقَيْنِ فَلهُ ذَلِك وَإِنَّمَا الْمَمْنُوع أَن يُبِيح لرعيته دون رعايا غَيره أَو يُبِيح لبَعض الْأَجْنَاس دون بعض هَذَا هُوَ الْمَمْنُوع فِي الشُّرُوط أما هُوَ فِي خَاصَّة نَفسه ومصلحة ملكه فَلهُ أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 يستبد من تِلْكَ الممنوعات بِمَا شَاءَ هَذَا حَاصِل تِلْكَ الشُّرُوط وَإِن طَالَتْ وامتدت إِذا علمت هَذَا فَكيف يتخوف عِنْد امْتنَاع السُّلْطَان من بيع تِلْكَ الأعشاب مَعَ اسْتِمْرَار منع الرّعية مِنْهَا أَيْضا الْإِتْيَان بهَا من بر النَّصَارَى ومتاجرتهم بهَا فِي أسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لَهَا الخ هَذَا لَا يتَوَهَّم نعم يتخوف من ذَلِك إِذا امْتنع السُّلْطَان من بيعهَا وَأذن للنَّاس فِيهِ وَأطلق لَهُم يَد التَّصَرُّف بِهِ وَلَيْسَ هَذَا مُرَاد السُّلْطَان أيده الله وَإِن أَوْهَمهُ لفظ الْكتاب الشريف حَيْثُ قَالَ طالما قدمنَا رجلا وأخرنا أُخْرَى فِي تَسْرِيح الصاكة الخ وَلَعَلَّ الْكَاتِب أَو المملي عَلَيْهِ لم يحرر مُرَاد السُّلْطَان أيده الله فنسج الْكتاب على ذَلِك المنوال وأوهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه الله يُرِيد أَن يمْتَنع من بيع تِلْكَ الأعشاب تقذرا لَهَا وتأففا مِنْهَا ويبيحها لرعيته من الْمُسلمين وَغَيرهم ومعاذ الله أَن يكون هَذَا مُرَاده كَيفَ وَهُوَ أيده الله من أخْشَى الْمُلُوك وأتقاهم لله وأحبهم لرعاياه وأحدبهم عَلَيْهَا وأحرصهم على جلب النَّفْع لَهَا وَدفع الضّر عَنْهَا وأعلمهم بقول جده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يكون الْمُؤمن مُؤمنا حَتَّى يحب لِأَخِيهِ الْمُؤمن مَا يحب لنَفسِهِ فقد بَان لَك من هَذَا التَّقْرِير أَن الْوَاجِب شرعا ومروءة هُوَ الْمُبَادرَة إِلَى رفض التِّجَارَة فِي تِلْكَ الأعشاب وتطهير ساحة الْإِمَامَة الإسلامية من قذرها قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف رَسُوله صلوَات الله عَلَيْهِ {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} الْأَعْرَاف 157 وكما يجب على أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله تَطْهِير ساحة الْخلَافَة مِنْهَا يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي تَطْهِير ساحة الْمُسلمين أَيْضا مِنْهَا لما أسلفناه آنِفا فَإِن قلت أما مَا ذكرته من الْمُبَادرَة إِلَى تَطْهِير ساحة الْخلَافَة مِنْهَا فسهل متيسر إِن شَاءَ الله وَأما تَطْهِير ساحة الْمُسلمين مِنْهَا فَيظْهر أَنه فِي غَايَة الصعوبة لِأَن الْعَامَّة إِذا حملُوا على رفضها كرة وألجئوا إِلَى ترك اسْتِعْمَالهَا بالمرة ضَاقَ بهم المتسع وَسَاءَتْ أَخْلَاقهم وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَرُبمَا صدر مِنْهُم مَا لَا يَنْبَغِي من الإعلان بِالْخِلَافِ والمجاهرة بالعصيان وَمن وَصَايَا أرسطوطاليس الْحَكِيم لتلميذه الْإِسْكَنْدَر يَا إسكندر تغافل عَن الْعَامَّة مَا أمكن وَلَا تلجئها أَن تَقول فِيك إِلَّا خيرا فَإِن الْعَامَّة إِذا قدرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 أَن تَقول قدرت أَن تفعل أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالْحَاصِل أَن فطم الْعَامَّة عَمَّا اعتادوه من بعض الجهالات وصرفهم عَمَّا مرنوا عَلَيْهِ من بعض الضلالات فِي غَايَة الصعوبة وَلَا يَتَيَسَّر ذَلِك إِلَّا لمن هيأه الله لَهُ من نَبِي مُرْسل أَو ولي كَامِل أَو إِمَام عَادل وَإِذا كَانَ صرف الْعَامَّة عَن هَذِه الْمفْسدَة الَّتِي اعتادوها ونشؤوا عَلَيْهَا جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يُؤَدِّي إِلَى الْهَرج وَالْخلاف جزما أَو ظنا فَالْوَاجِب هُوَ تَركهم على مَا هم عَلَيْهِ لِأَن تَغْيِير الْمُنكر لَهُ شُرُوط مِنْهَا أَن لَا يُؤَدِّي إِلَى مُنكر أعظم كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع قُلْنَا كل مَا قَرّرته فِي هَذَا السُّؤَال حق لَا محيد عَنهُ وَلَكِن نَحن لَا نقُول إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله يحمل الْعَامَّة على رفضها كرة ويلجئهم إِلَى تَركهَا بالمرة بل يسْلك مَعَهم فِي ذَلِك سَبِيل التدريج كَمَا سلكه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَحْرِيم الْخمر على الْعَرَب فَإِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعرب من أعشق الْأُمَم للخمر وأشدهم بهَا ولوعا وَأَكْثَرهم لَهَا حبا حَتَّى كَانَت شَقِيقَة روحهم ومغناطيس أنسهم قد اتَّخذُوا لَهَا الْمجَالِس الحفيلة واختاروا لَهَا الْقَيْنَات الجميلة وضربوا عَلَيْهَا بالمعازف والدفوف وحكموا لَهَا على غَيرهَا من مألوفاتها بغاية الشفوف حَتَّى نسبوا بهَا فِي أشعارهم وتوجوا بهَا بَنَات أفكارهم وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُؤثر عَن أمة من محبَّة الْخمر ومدحها مَا أثر عَن الْعَرَب فَلذَلِك لما انصرفت عناية الشَّرْع الْكَرِيم إِلَى تَحْرِيمهَا كَانَ ذَلِك على سَبِيل التدريج كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي الْكتاب وَالسّنة حَتَّى تمّ مُرَاد الله وَرَسُوله من الْعَرَب فرفضوها بِالْكُلِّيَّةِ وسماها الشَّارِع أم الْخَبَائِث زِيَادَة فِي التنفير مِنْهَا وَمَا حرمت آلَات اللَّهْو إِلَّا من أجلهَا ومبالغة فِي تَحْرِيمهَا إِذْ هِيَ وَسِيلَة إِلَيْهَا كَمَا حَقَّقَهُ الْغَزالِيّ رَحمَه الله فِي كتاب السماع من الْإِحْيَاء وَفِي تَفْسِير الخازن بعد سرده كَيْفيَّة التَّحْرِيم مَا نَصه وَالْحكمَة فِي وُقُوع التَّحْرِيم على هَذَا التَّرْتِيب أَن الله تَعَالَى علم أَن الْقَوْم كَانُوا قد ألفوا شرب الْخمر وَكَانَ انتفاعهم بذلك كثيرا فَعلم أَنه لَو مَنعهم من الْخمر دفْعَة وَاحِدَة لشق عَلَيْهِم فَلَا جرم اسْتعْمل هَذَا التدريج وَهَذَا الرِّفْق قَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ حرمت الْخمر وَلم يكن للْعَرَب يَوْمئِذٍ عَيْش أعجب مِنْهَا وَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 حرم عَلَيْهِم شَيْء أَشد عَلَيْهِم من الْخمر اهـ إِذا علمت هَذَا فَنَقُول كَذَلِك يَنْبَغِي لأمير الْمُؤمنِينَ أيده الله أَن يسْعَى فِي تَطْهِير رَعيته من خبث هَذِه الأعشاب الَّتِي لَا شَيْء أَخبث مِنْهَا كَمَا أوضحته فِي كتاب الِاسْتِقْصَاء ويسلك مَعَهم فِيهَا سَبِيل التدريج صارفا همته إِلَيْهِ ومستعينا بِاللَّه ومتوكلا فِي ذَلِك عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يصعب ذَلِك عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله (إِذا كَانَ عون الله للمرء ناصرا ... تهَيَّأ لَهُ من كل صَعب مُرَاده) وَقَالَ البوصيري لسَيِّد الْوُجُود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقُول ولأمير الْمُؤمنِينَ من حَال جده قسط وَالْحَمْد لله (كل أَمر تعنى بِهِ تغلب الْأَعْيَان ... فِيهِ ويعجب البصراء) وَكَيْفِيَّة التدريج فِي ذَلِك أَن يَأْمر أيده الله عُلَمَاء الْمجَالِس وخطباء المنابر ووعاظ الكراسي بالتواطىء على ذمّ تِلْكَ الأعشاب وتقبيحها فِي نفوس الْعَامَّة وإبداء معايبها لَهُم وَشرح مفاسدها لديهم والتغليظ فِي ذَلِك بأبلغ مَا يُمكن وَمن قدر على تأليف أَلفه أَو شعر نظمه أَو رِسَالَة أَنْشَأَهَا ويستمرون على ذَلِك ثَلَاثَة أشهر أَو أَرْبَعَة أَو أَكثر من ذَلِك فَإِن ذَلِك لَا بُد أَن يُؤثر فِي نفوس الْعَامَّة بعض التَّأْثِير فَإِن الهمم إِذا تواطأت على شَيْء أثرت فِيهِ بعون الله لَا سِيمَا همم أهل الْخَيْر وَفِي الحَدِيث يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ بعد مُضِيّ هَذِه الْمدَّة وتقرر قبحها فِي نفوس الْعَامَّة يكْتب أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله إِلَى قُضَاته وَيَأْمُرهُمْ بتفقد الشُّهُود وأئمة الْمَسَاجِد فَمن عثروا عَلَيْهِ أَنه يسْتَعْمل شَيْئا من تِلْكَ الْخَبَائِث أسقطوا شَهَادَته وحظروا إِمَامَته وَأَن لَا يقبلوه وَلَو فِي اللفيف ويوالي الْكِتَابَة والاعتناء بذلك مُدَّة مثل الأولى أَو أَكثر فَيَزْدَاد قبحها فِي نفوس الْعَامَّة وتعزف نفوس كثير مِنْهُم عَنْهَا ثمَّ بعد هَذَا كُله يكْتب لولاة الْأَمْصَار وعمال الْبَوَادِي أَن يتقدموا إِلَى رعاياهم بِمَنْع ازدراعها وادخار شَيْء مِنْهَا أَو التِّجَارَة فِيهِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِذا تمّ هَذَا الْغَرَض على هَذَا الْوَجْه تخلى هُوَ حِينَئِذٍ عَن بيعهَا وَأمر بإحراق بَاقِيهَا وسد حاناتها الْمُسَمَّاة فِي عرفنَا بالقهاوي وَيمْنَع النَّاس من اسْتِعْمَالهَا فِي المجامع الْعَامَّة كالأسواق وَنَحْوهَا ويشدد فِي ذَلِك ويعلن بالنداء فِي جَمِيع الإيالة المغربية بِأَن حكم هَذِه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 الأعشاب حكم الْخمر فَكَمَا لَا يتجاهر بِالْخمرِ فِي الْأَسْوَاق وَنَحْوهَا كَذَلِك لَا يتجاهر بِاسْتِعْمَال هَذِه الأعشاب فِيهَا وَمن فعل ذَلِك أدب أدبا يَلِيق بِهِ ويرتدع بِهِ غَيره فَهَذَا أقْصَى مَا يَفْعَله السُّلْطَان والتوفيق بعد ذَلِك بيد الله وَإِذا تمّ هَذَا الْعَمَل فِي نَحْو ثَلَاث سِنِين فَهُوَ قريب وَإِذا يسر الله ذَلِك كَانَ فِيهِ بشرى للْمُسلمين وعنوانا لَهُم على تَجْدِيد دينهم ولعمري مَا كَانَ أَمر الْخمر فِي الْعَرَب إِلَّا أرسخ من أَمر هَذِه الأعشاب فِي النَّاس الْيَوْم بِكَثِير وَأَن الشُّبْهَة كَانَت فِيهَا أقوى مِنْهَا فِي هَذِه وَذَلِكَ مَظَنَّة سهولة زَوَالهَا وتطهير الْبِلَاد والعباد مِنْهَا وَمَا ذَلِك على الله بعزيز قَالَه وَكتبه أَحْمد بن خَالِد الناصري لطف الله بِهِ فِي خَامِس عشر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وثلاثمائة وَألف ثمَّ إِن السُّلْطَان أيده الله رفض التِّجَارَة فِيهَا وأحرق مَا كَانَ محوزا لجَانب المخزن مِنْهَا وَمنع تجار الْأَجْنَاس من جلبها إِلَى قطر الْمغرب إِلَّا الْقدر الَّذِي يستعملونه فِي خَاصَّة أنفسهم مِنْهَا بِشَرْط تعشيره وَقصر نُزُوله على مرسى طنجة دون سَائِر المراسي المغربية وَالْحَال على ذَلِك لهَذَا الْعَهْد وَلما دخلت سنة خمس وثلاثمائة وَألف غزا السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله آيت ومالو من برابرة فازاز وهم بطن من صنهاجة يشْتَمل على أفخاذ كَثِيرَة مثل ظيان وَبني مكيلد وشقيرين وآيت سخمان وآيت يسري وَغَيرهم أُمَم لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم قد عمروا جبال فازاز وملؤوا قننها وتحصنوا بأوعارها مُنْذُ تملك البربر الْمغرب قبل الْإِسْلَام بأعصار طَوِيلَة فَلَمَّا كَانَت السّنة الْمَذْكُورَة خرج السُّلْطَان من مكناسة الزَّيْتُون عَاشر رَمَضَان مِنْهَا بِقصد غَزْو هَذِه الْقَبَائِل العاصية وتدويخ بلادها إِذْ لم تكن تبذل الطَّاعَة إِلَّا للْوَاحِد بعد الْوَاحِد من مُلُوك دوَل الْمغرب فِي الْأَعْصَار المتراخية حَسْبَمَا يعلم مِمَّا أسلفناه فِي هَذَا الدِّيوَان من أخبارهم وأخبار غَيرهم فَانْتهى السُّلْطَان إِلَى تِلْكَ الْجبَال ودوخها ثمَّ إِلَى قَصَبَة آدخسان الَّتِي بناها الْمولى إِسْمَاعِيل رَحمَه الله فوفد عَلَيْهِ هُنَاكَ جلّ تِلْكَ الْقَبَائِل وبذلوا الطَّاعَة وأظهروا الخضوع وبذلوا الْمُؤَن والأنزال للجيش والهدايا للسُّلْطَان إِلَّا مَا كَانَ من آيت سخمان فَإِنَّهُم أظهرُوا الطَّاعَة أَولا كغيرهم وطلبوا من السُّلْطَان أَن يبْعَث مَعَهم طَائِفَة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 الْجَيْش ليدفعوا لَهُم الْمُؤَن وَمَا وظف عَلَيْهِم من الْهَدَايَا والأنزال فَأرْسل مَعَهم السُّلْطَان مِائَتي فَارس وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الشريف الْفَاضِل الناسك مولَايَ سرُور بن إِدْرِيس بن سُلَيْمَان وجده سُلَيْمَان هَذَا هُوَ أحد مُلُوك هَذِه الدولة العلوية حَسْبَمَا تقدم فَلَمَّا توسطوا حلَّة آيت سخمان مَعَ الْعشي تناجوا فِيمَا بَينهم والشيطان لَا يفارقهم فاتفقوا على الْغدر بأصحاب السُّلْطَان وفرقوهم على مداشرهم وحللهم فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء الْأَخِيرَة أظهرُوا عَلامَة بَينهم وسعت كل طَائِفَة إِلَى من عِنْدهَا من أَصْحَاب السُّلْطَان فأوقعوا بهم فَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْعشْرين على مَا قيل وأفلت الْبَاقُونَ بجريعاء الذقن وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم كَبِيرهمْ الشريف مولَايَ سرُور الْمَذْكُور وَكَانَ من خِيَار عشيرته رَحْمَة الله عَلَيْهِ رَمَوْهُ برصاصة وطعنوه بتفالة وَكَانَت هَذِه الفعلة الشنعاء بِإِشَارَة كَبِيرهمْ عَليّ بن الْمَكِّيّ من بَقِيَّة آل مهاوش الَّذين تقدم الْخَبَر عَنْهُم فِي دولة السُّلْطَان مولَايَ سُلَيْمَان رَحمَه الله ثمَّ أَسرُّوا من ليلتهم تِلْكَ فَلم يصبحوا إِلَّا بآيت حديدو وآيت مرغاد وَغَيرهمَا من قبائل البربر وَتَفَرَّقُوا شذر مذر وَبَقِي مِنْهُم نفر يسير على مَا قيل فَقبض عَلَيْهِم من الْغَد وَضربت أَعْنَاقهم وَقَالَ بعض من حضر الْوَقْعَة إِنَّهُم لما فعلوا فعلتهم هربوا من تَحت اللَّيْل وَتركُوا زُرُوعهمْ وأمتعتهم فِي مداشرهم وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان بعث فِي طَلَبهمْ طَائِفَة من عسكره وَضم إِلَيْهِم خيل شقيرين إخْوَانهمْ وَكَانُوا راكبين مَعَ السُّلْطَان مظهرين للطاعة فانتهبوا أمتعتهم وانتسفوا رزوعهم وهدموا أبنيتهم وحرقوا بُيُوتهم وأبلغوا فِي النكاية وتحامت خيل شقيرين ذَلِك إبْقَاء على إخْوَانهمْ وتعصبا للبربرية وَرُبمَا دسوا إِلَيْهِم من أعلمهم بِالْحَال وَأمرهمْ بالإبعاد فِي الارتحال وَلما اطلع السُّلْطَان على خبيئة شقيرين أَمر بِنَهْب حللهم وَأسر من ظفر بِهِ مِنْهُم وَقَتله فأوقع بهم جَيش السُّلْطَان وقْعَة شنعاء فأسروا مِنْهُم عددا وافرا وضربوا أَعْنَاق نَحْو الثَّلَاثِينَ مِنْهُم وانتهبوا حللهم ومداشرهم حَتَّى كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَمن الْغَد جَاءَت نِسَاؤُهُم وأطفالهم فاستجاروا بالمدافع واستغاثوا بالسلطان فرق لَهُم وسرح مساجينهم وكساهم وَعَفا عَنْهُم وَكَانَ هَذَا كُله فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 سنة خمس وثلاثمائة وَألف ثمَّ قفل السُّلْطَان رَاجعا فَدخل مكناسة الزَّيْتُون أَوَاخِر ذِي الْحجَّة خَاتِمَة السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ دخلت سنة سِتّ وثلاثمائة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان جبال غمارة فَخرج من حَضْرَة فاس عَاشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فسلك تِلْكَ الْجبَال ودوخها وزار تربة الشَّيْخ الْأَكْبَر والكبريت الْأَحْمَر أَبَا مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رَضِي الله عَنهُ ثمَّ تقدم إِلَى مَدِينَة تطاوين فَدَخلَهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن الْمحرم من السّنة الَّتِي تَلِيهَا أَعنِي سنة سبع وثلاثمائة وَألف فَأَقَامَ بهَا نَحْو الْخَمْسَة عشر يَوْمًا وزار صلحاءها وَتَطوف فِي معالمها وتبارى وُجُوه أهل تطاوين وكبراؤهم فِي الإهداء إِلَيْهِ وبذل المجهود فِي الاعتناء بحاشيته وجيشه وأعجب ذَلِك السُّلْطَان وحاشيته وَرَأَوا مِنْهُم مَا تقر بِهِ أَعينهم وأنعم عَلَيْهِم السُّلْطَان بِعشْرَة آلَاف ريال لبِنَاء قنطرة يرتفقون بهَا فِي وَادِيهمْ الْمُحِيط بمدينتهم لَكِن لم يحصل مَقْصُود من ذَلِك لعدم إتقان بنائها فتهدمت فِي الْحَال وَضاع ذَلِك المَال ثمَّ سَار السُّلْطَان من تطاوين إِلَى طنجة ثمَّ مِنْهَا إِلَى العرائش ثمَّ عَاد إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا إِلَى أواسط شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ غزا آيت سخمان الَّذين قتلوا ابْن عَمه مولَايَ سرُور فأوقع بهم وَقبض على نفر مِنْهُم وَلم يتَمَكَّن مِنْهُم على مَا يَنْبَغِي ثمَّ سَار إِلَى مراكش فأعرس لجَماعَة من بنيه وَبنَاته ووفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من أقطار الْمغرب بالتهنئة وتباروا فِي الْهَدَايَا والتحف على مَا يَنْبَغِي وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامهم وإفاضة الإنعام عَلَيْهِم وَاسْتمرّ أيده الله على كرْسِي ملكه وأريكة عزه وسلطانه وَالْأَيَّام سلم لَهُ وَالدُّنْيَا مهنأة بعزه وَنَصره والرعية طوع نَهْيه وَأمره إِلَّا مَا كَانَ من نواب أَجنَاس الدول فَإِنَّهُم أَكْثرُوا التَّرَدُّد إِلَيْهِ والاقتراحات عَلَيْهِ والتلونات لَدَيْهِ فَمرَّة بالنصائح الفارغة وَمرَّة بالتظلمات الْبَاطِلَة والحجج الْوَاهِيَة وَأُخْرَى بِطَلَب التَّخْفِيف من الأعشار والتنقيص من الصاكات إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا تكَاد تقوم لَهُ الْجبَال الراسية وَهُوَ يدافعهم ويراوغهم وحيدا لَا نَاصِر لَهُ وَلَا معِين إِلَّا الله الَّذِي أيد بِهِ الدّين وعصم بِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وَلما كَانَت سنة عشر وثلاثمائة وَألف خرج السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الله غازيا صحراء تافيلالت وقبائلها فَخرج إِلَيْهَا من فاس عقب عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة فَقضى الأوطار من تمهيد تِلْكَ الأقطار على مَا يَنْبَغِي ثمَّ كتب كتابا إِلَى وُلَاة الْمغرب يصف فِيهِ الْحَال وَمَا قاساه فِي تِلْكَ السفرة من الْحل والارتحال فَقَالَ فِي كِتَابه بعد الِافْتِتَاح والطابع الْمُشْتَمل على اسْمه الْمُبَارك مَا نَصه وَبعد فَإِن الله تَعَالَى لما أَقَامَ عَبده بمحض الْفضل وَالِاخْتِيَار وأورثه الأَرْض وَعمر بِهِ الأقاليم والديار لم تكن لنا همة فِيمَا عدا السَّعْي فِي صَلَاح الْمُسلمين وانتظام أُمُورهم وَجمع كلمة الْمُؤمنِينَ وَلم نأل فِي ذَلِك جهدا حَتَّى يسر الله سُبْحَانَهُ قبل فِي الْوُصُول إِلَى سَائِر قبائل رعيتنا السعيدة وتخللنا أراضيهم كلهَا بجيوش الله المصحوبة بالعناية المزيدة فَلم نَتْرُك من الأقاليم إِلَّا النزر الْغَيْر الْمُعْتَبر أَو مَا كَانَ فِي الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا مُجَرّد الْمَشَقَّة وَالضَّرَر وتفقدنا من أحوالها الْأُمُور وأجريناها على مَا يُرْضِي الله من الاسْتقَامَة فِي الْوُرُود والصدور وَكَانَ مِمَّا بَقِي علينا الْوُصُول إِلَيْهِ هَذِه الأصقاع الصحراوية والمعاقل البربرية الَّتِي كَانَ يفهم قبل أَنَّهَا صعبة المرتقى عديمة وُجُوه الارتقا فاستخرنا الله تَعَالَى وتوكلنا عَلَيْهِ وفوضنا الْأَمر كُله إِلَيْهِ وَعلمنَا أَنه تَعَالَى إِذا أَرَادَ أمرا هيأ لَهُ الْأَسْبَاب وَفتح إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ المغالق والأبواب وكل شَيْء مِنْهُ وَإِلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْن عَطاء الله فِي حكمه إِذا أَرَادَ أَن يظْهر فَضله عَلَيْك خلق وَنسب إِلَيْك وَمَا من نفس تبديه إِلَّا وَله فِيك قدر يمضيه فنهضنا من حضرتنا الْعلية فاس المحمية واستقبلنا هَذِه النواحي البربرية وَنصر الله وفتحه يواليان علينا فِي كل أَوَان ويتجددان مَا تجدّد الملوان وَنعم الله لدينا متسابقة وتدبيرات قدرته الجلية لنا محكمَة العقد متناسقة فجاوزنا بِلَاد آيت يوسي مرورا وعبرنا بِلَاد بني مكيلد عبورا ووجدناهم جَمِيعًا منقادين للطاعة أتم انقياد ملقين لجانبنا العالي بِاللَّه الرسن والمقاد واقفين مَعَ النَّهْي وَالْأَمر لم يتَخَلَّف عَنْهُم فِي ذَلِك زيدهم وَلَا عَمْرو واستقبلنا بجيوش الله المنصورة وَجُنُوده الموفورة قَبيلَة آيت أزدك الَّذين هم بَيت القصيد وَعتبَة القصيد فسيقت إِلَيْهِم من الله الْهِدَايَة وطويت عَنْهُم اعلام الضَّلَالَة والغواية وتلقونا بأوائل بِلَادهمْ خَائِفين وجلين وَمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 سطوة الله فزعين فجنحنا للعفو إيثارا لَهُ وحرصا على حقن الدِّمَاء وعدولا عَن الْقِتَال نظرا للصبيان والعجائز والشيوخ وضعفاء الْحَال ومعاملة بالصفح لمن كَانَ مِنْهُم ضل وغوى أخذا بقول الله تَعَالَى {وَأَن تعفوا أقرب للتقوى} الْبَقَرَة 237 وَبعد أَن تحققت مِنْهُم التَّوْبَة وَسعوا فِي تَحْصِيل مرضات الله وخاطرنا الشريف بِمَا محا عَنْهُم الهفوة والحبوة وصير سيئاتهم حَسَنَات وأبعدهم عَن المثلات فقابلناهم بِمَا أَزَال دهشتهم وفزعهم وكشف جزعهم فانشرحوا وسايروا رِكَابنَا الشريف فِي زيهم وجموعهم بسرور ونشاط مغتبطين بمقدمنا السعيد أتم اغتباط إِلَى أَن خيمنا عَلَيْهِم بأوطاط فأظهروا من حسن الِامْتِثَال وَالطَّاعَة مَا وصلوا بِهِ إِلَى الْغَايَة وَقَامُوا بِوَاجِب الْمحلة السعيدة من الضيافات والمبرة وشرعوا على الْفَوْر فِي دفع مَا وظفناه عَلَيْهِم من الْأَمْوَال متسارعين إِلَى الْأَدَاء فِي الْحَال منقادين لكل مَا أُرِيد مِنْهُم من الْأَعْمَال فنهضنا للتخييم بمركز بِلَادهمْ على وَادي زيز وحادي الميامين يَحْدُو بِالْفَتْح الْمُبين والنصر الْعَزِيز فاستوفينا مِنْهُم فِيهِ مَا بَقِي من المفترض وحصلنا مِنْهُم بعناية الله على غَايَة الْغَرَض ثمَّ ارتحلنا عَنْهُم مصحوبين بكتيبة مِنْهُم مُعْتَبرَة وافرة الْعدَد كَثِيرَة المدد مُشْتَمِلَة على عدد لَهُ بَال من خيولهم وصناديد رِجَالهمْ وحللنا بِبِلَاد آيت مرغاد فتلقوا رِكَابنَا الشريف بِطَاعَة وخضوع وانقياد مظهرين الإذعان فِي كل مَا مِنْهُم يُرَاد وَقَامُوا بأَدَاء الْفَرَائِض والنوافل مبتهجين بطلعتنا الشَّرِيفَة فِي سَائِر الْمنَازل وكل ذَلِك بتيسير الله وتسديده وإرشاده وتوفيقه وإرادته وتسهيله كَمَا قَالَ صَاحب الحكم مَا توقف مطلب أَنْت طَالبه بِرَبِّك وَلَا تيَسّر مطلب أَنْت طَالبه بِنَفْسِك مَعَ سياسة صدقت بهَا أنباء الْكتب وادخرت بهَا المرهفات فِي الحقب وحقنت الدِّمَاء بإراقة مداد الأقلام وصينت الْأَعْرَاض وأغنى الْكَلَام السياسي عَن الْكَلَام ودوخنا بِلَادهمْ كلهَا غورها ونجدها على مَا هِيَ عَلَيْهِ من الوعورة وتعاظم الْجبَال الَّتِي يخال أَنَّهَا تنادم الْقَمَر وتصافح الْكَوْكَب مهما بزغ وَظهر فسبحان الله مَا أعظم شَأْنه وأوضح برهانه إِلَى أَن حللنا بمركز أَرضهم بتادغوست وَبهَا قَرَار قطب رحاهم فِي جاهليتهم الْمُفْسد عَليّ بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 يحيى المرغادي الَّذِي طالما حذره الْإِنْذَار ولسان حَاله يَقُول لَا حَيَاة لمن تنادي فَوَقع الْقَبْض عَلَيْهِ ووجهناه مصفدا إِلَى مراكش على سنة الله فِيمَن زلت بِهِ الْقدَم وَصَارَ حَلِيف التأسف والندم وأراح الله مِنْهُ الْعباد وطهر مِنْهُ الْبِلَاد وَفِيمَا قبل ذَلِك كُنَّا وجهنا من يَسْتَوْفِي من آيت حديدو مَا وظف عَلَيْهِم فِي المغارم وَيَأْتِي من عِنْدهم بِمَا هُوَ لَهُم لَازم فَلم يظْهر مِنْهُم مَا يُفِيد وَرجع الموجهون بِغَيْر طائل وَلَا عتيد فترصدنا من أعيانهم وَأهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم جمَاعَة وافرة تقرب من الْمِائَتَيْنِ وقبضنا عَلَيْهِم بأجمعهم جَزَاء وفَاقا حَتَّى يؤدوا جَمِيع مَا فرض عَلَيْهِم بحول الله وتوجهنا والسعادة تقدمنا والميامين تحفنا وصحبة رِكَابنَا الشريف من جَيش آيت مرغاد قدر كثير الْعدَد قوي المدد مُشْتَمل على أُلُوف من الْخَيل والأبطال وليوث الْحَرْب والنزال إِلَى أَن وصلنا إِلَى قصر السُّوق فَوَجَدنَا بِهِ جَيش خدامنا آيت عطة فِي انْتِظَار جانبنا الشريف لمصاحبة رِكَابنَا السعيد المنيف وهم فِي عدد عديد وَقُوَّة مَا عَلَيْهَا من مزِيد يقربون من الْأَرْبَعَة آلَاف فَارس وَكلهمْ لُيُوث عوابس وَمَعَهُمْ من رُمَاة إخْوَانهمْ عدد كثير مُعْتَبر كَأَنَّهُمْ سيل إِذا انحدر فنهضوا مَعَ جانبنا العالي بِاللَّه فِي جموعهم وَكَثْرَة عَددهمْ وعديدهم إِلَى مدغرة فتبركنا مِنْهَا بمواطىء الأسلاف وتعاهدنا أُمُور أَهلهَا بِحسن مُبَاشرَة وإسعاف وأنعمنا على شرفائها بِعشْرين ألفا من الريال ووجهناها إِلَيْهِم صُحْبَة ولدنَا مولَايَ عبد الْعَزِيز أصلحه الله وَفرقت فيهم صلَة لَهُم وَأَدَاء لحقوق الْقَرَابَة والاتصال وتزودنا من دُعَائِهِمْ الصَّالح بمقبول مستجاب يُرْجَى أَن لَا يكون بَينه وَبَين الله حجاب ونهضنا عَنْهُم إِلَى بِلَاد عرب الصَّباح فتلقوا مواكبنا السعيدة فِي زيهم بفرح وانشراح وَقَامُوا بالواجبات من الْميرَة والضيافات ودفعوا فِي الْحِين جَمِيع المفروضات ونهضنا من بِلَادهمْ إِلَى تافيلالت بِقصد زِيَارَة جدنا الْأَكْبَر القطب الْوَاضِح ذِي السِّرّ الْأَظْهر مَوْلَانَا عَليّ الشريف رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ فَخرج أَهلهَا من جَمِيع الشرفاء والعامة لملاقاتنا رجَالًا وَنسَاء وصبيانا وشيوخا وكهولا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا جموعا وفرادى وأزواجا وَحصل لَهُم ابتهاج عَظِيم برؤيتنا وامتلؤوا فَرحا وسرورا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 بمقدمنا وانشرحت هُنَالك الخواطر وسرت الضمائر وأدينا وَاجِبا بصلَة رحم من هُنَالك من ذَوي الْقَرَابَة وَالرحم وَكَانَ ذَلِك عندنَا من الْأَمر المهم وأنعمنا عَلَيْهِم بِعشْرين ألف ريال أُخْرَى كَأَهل مدغرة وجهناها إِلَيْهِم مَعَ ولدينا مولَايَ عبد الْعَزِيز ومولاي بلغيث حفظهما الله وَقسمت فيهم صلَة وأقمنا هُنَاكَ ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا بِقصد الاسْتِرَاحَة والزيارة ومشاهدة آثَار الأسلاف قدسهم الله وَمَا اجلها مآثر وَأعظم سناها فِي تِلْكَ الْمظَاهر وعاينا مَا لَهُم من الْأَمْلَاك وَالْأُصُول وتفقدناها بِمَا أَحْيَا مواتها كفاحا وازدادت بِهِ بهجة ونجاحا فَللَّه الْحَمد بداية وَنِهَايَة وَله مزِيد الشُّكْر أَولا وَغَايَة نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ أَن يَجْعَل مَا ارتكبناه فِي ذَلِك كُله خَالِصا لوجهه جَارِيا على سَبيله الْمُسْتَقيم ونهجه ويتقبله بِأَحْسَن قبُول ويبلغنا فِي صَلَاح الْمُسلمين غَايَة المأمول وَيجْعَل فِي طَاعَته الْحَرَكَة والسكون وعَلى حوله وقوته الِاعْتِمَاد والركون وَقد نهضنا إِلَى حضرتنا الشَّرِيفَة المراكشية سائلين من الله سُبْحَانَهُ الْإِعَانَة وَالْقُوَّة والتيسير وبلوغ الأمنية وأعلمناكم لِتَكُونُوا مستبصرين بِمَا كَانَ وتفرحوا بِفضل الله وفتحه وَنَصره فِي الْإِسْرَار والإعلان وَهُوَ المسؤول سُبْحَانَهُ أَن يَجْعَل الْبِدَايَة عنوان الاختتام ويبلغنا من كل خير غَايَة المرام وَالسَّلَام فِي خَامِس عشر جُمَادَى الأولى عَام أحد عشر وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله وَكَانَ رُجُوعه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة وَلما انْتهى إِلَى ثنية الكلاوي أصَاب النَّاس ثلج كثير وَبرد شَدِيد تألموا مِنْهُ حَتَّى السُّلْطَان ثمَّ خلصوا مِنْهُ بعد عصب الرِّيق وَفِي مُدَّة غيبَة السُّلْطَان هَذِه حدثت حَرْب شَدِيدَة بَين زناتة الرِّيف وَبَين نَصَارَى الإصبنيول من أهل مليلية وَمَا والاها فمحقتهم زناتة محقا وشردوا بهم من خَلفهم استئصالا وقتلا وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنهم اقترحوا على السُّلْطَان أَن يزيدهم فِي مساحة أَرض مليلية على عَادَتهم فِي كَثْرَة الاقتراحات والتلونات فأسعفهم وَزَادَهُمْ من أَرض زناتة نَحْو الغلوة وَصَارَ الْحَد الْمُشْتَرك بَين الْفَرِيقَيْنِ قَرِيبا من تربة ولي الله سَيِّدي وارياش وَهُوَ عِنْد أهل تِلْكَ الْبِلَاد عَظِيم الْقدر شهير الذّكر يتناوبونه للزيارة ويتبركون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 بِهِ ويدفنون عِنْده موتاهم فَلم يحل لنصارى مليلية بِنَاء العسات وَغَيرهَا إِلَّا بِمحل يشرف على تربة الْوَلِيّ الْمَذْكُور ويكشف عَنْهَا فراودهم أهل الرِّيف عَن التخلي عَن ذَلِك الْموضع وَالْبناء بِغَيْرِهِ فَأَبَوا وأصروا على الِامْتِنَاع وَرُبمَا لسعوهم بِمَا أحفظهم من الْكَلَام المؤلم على عَادَتهم فِي ذَلِك فَإِن هَذَا الإصبنيول مُنْذُ كَانَت لَهُ الْغَلَبَة فِي حَرْب تطاوين وَأهل الْمغرب مَعَه فِي عناء شَدِيد من كَثْرَة مَا يتعنت ويتجنى عَلَيْهِم وَيسْمعهُمْ من محفظات الْكَلَام وصريح الملام لَا سِيمَا أوباشهم ورعاعهم وتالله لقد سَمِعت أذناي من ذَلِك مَا يضيق لَهُ الصَّدْر وَلَا ينْطَلق بِهِ اللِّسَان وَإِذا رفعت الشكاية بهم إِلَى أكابرهم غمصوا الْحق وجادلوا بِالْبَاطِلِ هَذَا دأبهم وديدنهم وَإِلَى الله وَحده المشتكى وَله سُبْحَانَهُ العتبى حَتَّى يرضى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ فَلَمَّا سلكوا هَذَا المسلك وَنَحْوه مَعَ أهل الرِّيف أذاقوهم من بأسهم شَدِيد الْعقَاب وأليم الْعَذَاب كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَلَمَّا احتل السُّلْطَان أيده الله بِحَضْرَة مراكش من هَذِه السفرة قدم عَلَيْهِ وَفد الإصبنيول يطْلبُونَ الْإِنْصَاف من أهل الرِّيف فِي هَذِه النَّازِلَة واستصحبوا مَعَهم سربا من الْحمام الطيار بالمكاتيب وَالْأَخْبَار وَدَار الْكَلَام بَينهم وَبَين السُّلْطَان فِي النَّازِلَة وَحكم فِيهَا من لم يكن ذَا بَصِيرَة بمعضلات النَّوَازِل من غافل أَو متغافل فَوَقع الْفَصْل على أَن يدْفع السُّلْطَان عَن دِمَاء قتلاهم أَرْبَعَة ملايين من الريال وَتمّ الصُّلْح على ذَلِك وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة كلما دَار بَينهم وَبَين السُّلْطَان كَلَام فِي الْقَضِيَّة أطاروا بِهِ الْحمام إِلَى أَرْبَاب دولتهم بمادريد وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وَفِي آخرهذه السّنة كَانَت وَفَاة السُّلْطَان مولَايَ الْحسن بن مُحَمَّد رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه فَإِنَّهُ خرج من مراكش فاتح ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا قبائل البربر الَّذين بجبال فازاز لَا سِيمَا آيت سخمان الَّذين غدروا بِأَصْحَابِهِ وَابْن عَمه حَسْبَمَا تقدم قَرِيبا وَكَانَ رَحمَه الله قد قدم من حَرَكَة تافيلالت وَهُوَ مَرِيض مَرضا خَفِيفا فِي الظَّاهِر وَلكنه مزمن فِي الْبَاطِن فَكَانَ يتَكَلَّف مَعَه الْخُرُوج للنَّاس وَينفذ القضايا وَيجْلس للوفود ويجيزهم وَيفْعل جَمِيع الْأُمُور المخزنية ثمَّ خرج من مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور على مَا بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 من الْأَلَم وَالْمَرَض وتحامل حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي العبيد من أَرض تادلا فأدركه أَجله هُنَالك فِي السَّاعَة الْحَادِيَة عشرَة من لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْحجَّة الْحَرَام متم عَام أحد عشر وثلاثمائة وَألف وَحمل فِي تَابُوت إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَدفن بِإِزَاءِ جده الْأَعْلَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحْمَة الله على جَمِيعهم آمين وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَكَانَ رَحمَه الله من خِيَار الْمُلُوك العلوية وأفاضلهم بِمَا نشر من الْعدْل وَأصْلح من الرعايا وَأبقى من الْآثَار بالمغرب وثغوره فَالله تَعَالَى يجْبر كسر الْمُسلمين فِيهِ ويعوضهم أجرا عَن مصابه آمين وَبَايع أهل العقد والحل نجله الأرضى الأبر المرتضى مَوْلَانَا عبد الْعَزِيز ابْن مَوْلَانَا الْحسن نَصره الله نصرا عَزِيزًا وَفتح لَهُ فتحا مُبينًا آمين وَهُوَ الْآن على كرْسِي ملكه بفاس المحروسة كَمَا يَنْبَغِي وعَلى مَا يَنْبَغِي وَقد تسرب إِلَيْهِ جمَاعَة من نواب الْأَجْنَاس كعادتهم مَعَ وَالِده من قبله فقدموا عَلَيْهِ حَضْرَة فاس مظهرين أَنهم إِنَّمَا قدمُوا للتهنئة ومرادهم خلاف ذَلِك {ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} الْأَنْفَال 30 وَمَا ظَنك بِمن يزْعم أَنه قدم للتهنئة وَهُوَ مُقيم بالحضرة هَذِه مُدَّة من أَرْبَعَة أشهر يتجسس الْأَخْبَار ويتطلع العورات ويترصد الغفلات ويحصي الأنفاس لَعَلَّه تظهر لَهُ خلة أَو تمكنه فرْصَة نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرد كَيده فِي نَحره ويعديه بعاره وعره آمين ولعمري مَا الْحَامِل على هَذَا وَنَحْوه إِلَّا قلَّة الْحيَاء من الله وَمن النَّاس وَإِلَّا فَمَا معنى الْإِقَامَة فِي سَبِيل التهنئة أَرْبَعَة أشهر ثمَّ انْظُر مايزاد مِنْهَا بعد ذَلِك وَكَانَ مِمَّا يُؤثر من كَلَام النُّبُوَّة الأولى إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَاعْلَم أَن أَحْوَال هَذَا الجيل الَّذِي نَحن فِيهِ قد باينت أَحْوَال الجيل الَّذِي قبله غَايَة التباين وانعكست عوائد النَّاس فِيهِ غَايَة الانعكاس وانقلبت أطوار أهل التِّجَارَة وَغَيرهَا من الْحَرْف فِي جَمِيع متصرفاتهم لَا فِي سككهم وَلَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 أسعارهم وَلَا فِي سَائِر نفقاتهم بِحَيْثُ ضَاقَتْ وُجُوه الْأَسْبَاب على النَّاس وصعبت عَلَيْهِم سبل جلب الرزق والمعاش حَتَّى لَو نَظرنَا فِي حَال الجيل الَّذِي قبلنَا وَحَال جيلنا الَّذِي نَحن فِيهِ وقايسنا بَينهمَا لوجدناهما كالمتضادين وَالسَّبَب الْأَعْظَم فِي ذَلِك مُلَابسَة الفرنج وَغَيرهم من أهل الأربا للنَّاس وَكَثْرَة مخالطتهم لَهُم وانتشارهم فِي الْآفَاق الإسلامية فَغلبَتْ أَحْوَالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إِلَيْهَا جذبة قَوِيَّة وَأَنا أحكي لَك حِكَايَة تعْتَبر بهَا وتستدل بهَا على مَا وَرَاءَهَا وَهِي أَنِّي ذاكرت ذَات يَوْم رجلا من أهل جيلنا فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ لي إِن لي راتبا سلطانيا أقبضهُ فِي كل شهر قدره ثَلَاثُونَ أُوقِيَّة قَالَ فَكنت فِي حُدُود السِّتين وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقبض فِيهِ عشر بسائط لِأَن صرف البسيطة يَوْمئِذٍ ثَلَاث أَوَاقٍ فَلَمَّا أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع بعد السِّتين صرت أَقبض فِيهِ تسع بسائط وفلوسا ثمَّ بعد ذَلِك بِسنة أَو سنتَيْن صرت أَقبض ثَمَان بسائط وفلوسا ثمَّ سبع بسائط وفلوسا وَهَكَذَا إِلَى أَن صرت الْيَوْم فِي أَعْوَام التسعين أَقبض فِي الثَّلَاثِينَ أُوقِيَّة بسيطة وَاحِدَة وشيئا من الْفُلُوس اهـ فَانْظُر إِلَى هَذَا التَّفَاوُت الْعَظِيم الَّذِي حصل فِي الجيل فِي مُدَّة من ثَلَاثِينَ سنة أَو نَحْوهَا فقد زَادَت السكَك والأسعار فِيهَا كَمَا ترى نَحْو تِسْعَة أعشار وَالْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ وَيكثر بِكَثْرَة الِاخْتِلَاط والممازجة مَعَ الفرنج ويقل بقلتها وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أهل الْمغرب أقل الْأُمَم اختلاطا بهم فهم أرخص النَّاس أسعارا وأرفقهم معاشا وأبعدهم زيا وَعَادَة من هَؤُلَاءِ الفرنج وَفِي ذَلِك من سَلامَة دينهم مَا لَا يخفى بِخِلَاف مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا من الْأَمْصَار فَإِنَّهُ يبغلنا عَنْهُم مَا تصم عَنهُ الآذان فَلْيتَأَمَّل هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ وليعرف مِنْهُ سر الله فِي خلقه وَاعْلَم أَيْضا أَن أَمر هَؤُلَاءِ الفرنج فِي هَذِه السنين قد علا علوا مُنْكرا وَظهر ظهورا لَا كفاء لَهُ وأسرعت أَحْوَاله فِي التَّقَدُّم وَالزِّيَادَة إسراعا متضاعفا كتضاعف حبات الْقَمْح فِي بيُوت الشطرنج حَتَّى كَاد يَسْتَحِيل إِلَى فَسَاد وَعلم عَاقِبَة ذَلِك وغايته إِلَى الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بِالْغَيْبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 (وَأعلم علم الْيَوْم والأمس قبله ... ولكنني عَن علم مَا فِي غَد عَم) وَهَذَا مَا قصدنا جمعه من هَذَا الْكتاب وَالله الملهم للصَّوَاب {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} الْأَعْرَاف 23 وَصلي الله وَسلم وَبَارك على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 تقريظ الطبعة الأولى لكتاب الاستقصا تقريظ الْعَلامَة الأديب السَّيِّد أَحْمد بن الْمَأْمُون البلغيثي الْحُسَيْنِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد النَّبِي الْكَرِيم وعَلى آله وَصَحبه ذَوي الْمجد الفخيم الْحَمد لله الَّذِي أنعم علينا بالكمال الإنساني وتكرم إِلَيْنَا بِأَحْسَن التَّقْوِيم فِي النُّطْق اللساني نحمده وَله الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة على نعمه الَّتِي لَا تحصى ونشكره على مننه الَّتِي لَا تعد بالاستقصا وَنُصَلِّي ونسلم على نبيه سيدنَا ومولانا مُحَمَّد أفْصح من بالضاد نطق الْمنزل عَلَيْهِ فِي حَكِيم الذّكر وَكَذَلِكَ نقص عَلَيْك من أنباء مَا قد سبق وعَلى آله وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ وَمن قصّ علينا قصصهم من أَئِمَّة الدّين صَلَاة وَسلَامًا ندرك بهما مدارك الْكَمَال ونبلغ بهما مُنْتَهى الآمال أما بعد فَيَقُول العَبْد الْفَقِير إِلَى مَوْلَاهُ الْغَنِيّ الْكَبِير أَحْمد بن الْمَأْمُون الحسني الْعلوِي البلغيثي السجلماسي أصلا ودارا الفاسي منشأ وقرارا تقبل الله صَالح أَعماله وبلغه فِي الدَّاريْنِ غَايَة آماله لما أَن وقفت على هَذَا التَّارِيخ الْمُفِيد وقُوف طَالب مستفيد ألفيته مَرْغُوب اللبيب ومحبوب الحبيب قد جمع فأوعى وَبلغ من الإتقان غَايَة الْمَسْعَى حَيْثُ احتوى على أَخْبَار الأقطار المغربية واستقصى أهم الأوطار من أنبائها الشهية فطابق اسْمه مُسَمَّاهُ وَوَافَقَ لَفظه مَعْنَاهُ (كتاب رَأَيْت الْحسن فِيهِ مفصلا ... كَمَا فصل الْيَاقُوت بالدر ناظمه) (فَكَانَ لَهُ نشر يفوح وبهجة ... كَمَا افتر عَن زهر الرياض كمائمه) ولعمري أَنه لتاريخ تشد إِلَيْهِ الرّحال وتعتكف بجامعه الْأَزْهَر جهابذة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الرِّجَال إِذْ أغْنى وأقنى وَبلغ النَّاظر فِيهِ مَا تمنى يُغني عَن غَيره من الموضوعات فِي فنه بِصِحَّة أسانيده المرفوعات على أَعْلَام حسنه تناديك مِنْهُ سطوره والطروس لَا تلْتَفت لغيري فَلَا عطر بعد عروس وَكَيف لَا ومؤلفه الْعَلامَة من هُوَ فِي غرَّة هَذَا الْعَصْر عَلامَة الطالع الأسعد والسند الأصعد الْمُحَقق النقاد والمشارك فِي جَمِيع الْفُنُون بالذهن الْوَقَّاد المرتوي من نهر كل فَضِيلَة بِمَا راق وحلا أَبُو الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد الناصري الدرعي شمس ثغر سلا أبقى الله بركته وأدام فِي اكْتِسَاب الْمَعَالِي حركته فَللَّه دره من مؤلف ألف بَين الكمالات وشنف السّمع بأصح المقالات فِي هَذَا التَّارِيخ الَّذِي أرخت فِي صَحَائِف الْكَمَال آيَاته وخلدت فِي دفاتر الْمجد فضائله وكراماته وَقد زَاده رونق الطَّبْع نورا على نور وأفاده اجتلاء على مَنَابِر الظُّهُور فَقرب نوره لمقتبسه وَسَهل ملكه لملتمسه وَلما ملك حسنه خاطري وفؤادي وسلك بَين مَنْهَج قصدي ومرادي وصرت بِهِ أنشط من ظَبْي مقمر وأسلط عَلَيْهِ من ذِئْب متنمر تشوفت لإنشاء امتداحه وتشوقت لإملاء أمداحه بِمَا لَا أعده فِي شَيْء من طَبَقَات الفصاحة عِنْد فرسَان هَذَا الميدان وَلَكِن عُذْري عِنْد الْوَاقِع عَلَيْهِ أَنه لقطَة عجلَان مَا لَهُ فِي الْأَدَب يدان فَقلت فِي ذَلِك مؤرخا تَمام طبعه فِي بداعة صنعه ورقة طبعه بقول وسيط من بَحر الْبَسِيط (أَخْبَار أهل الْهوى مَا زَالَ يَرْوِيهَا ... أَحْبَار كأس رحيق الراح يَرْوِيهَا) (حَتَّى إِذا سمعُوا العشاق مخبرها ... هاموا وَقَامُوا بألحان تواتيها) (لكِنهمْ أبدا فِي الدَّهْر مَا سمعُوا ... مَا نالني فِي هوى خود أفديها) (خود بهَا الصب قد لذ الْعَذَاب لَهُ ... لما غَدا وَهُوَ مطروح بناديها) (يَرْجُو رِضَاهَا وَلم تسمح بوصلته ... وبالتذلل والشكوى يناديها) (قد استرقته فِي شرع الغرام وَمَا ... رقت لما بِهِ من نَار يقاسيها) (حَتَّى استبان لَهَا أَنِّي على تلف ... وَأَن مَا بِي مِنْهَا لَيْسَ تمويها) (جَاءَت إِلَيّ على فَور تعللني ... بالْعَطْف من طلعة سُبْحَانَ باريها) (فأتحفتني بحتف الرَّمْز من مقل ... السَّيْف حاجبها وَالْحسن كاسيها) (إِن أَوْمَأت بلحاظ جرحت كَبِدِي ... أَو أَعرَضت بلغت روحي تراقيها) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 (مَا حيلتي فِي الْهوى وَمَا دوا كَبِدِي ... الْعَطف يجرحها والهجر يبليها) (إِنِّي خلعت عِذَارَيْ فاعذروني فِي ... حب الملاح فَإِن الْقلب يبغيها) (فَهَل ملام على من صَار ذَا وَله ... بغاة سلبت عَقْلِي مَعَانِيهَا) (إِذا بَدَت لأولي الْأَلْبَاب شمتهم ... صرعى وطرحى جَمِيعًا فِي مغانيها) (يَا حسن مَا حَدَّثتنِي عِنْدَمَا عطفت ... فِي شَأْن من ببعادي كَانَ يغريها) (قَالَت لَك الْوَصْل مني لَيْسَ يعقبه ... هجر على رغم من يَبْغِي لَك التيها) (تخال نطق لماها عِنْدَمَا نطقت ... أَخْبَار تَارِيخ الِاسْتِقْصَاء تمليها) (ذَاك الْكتاب الَّذِي فاقت صناعته ... كل التواريخ بالإتقان عاديها) (لله مَا قد حوى من كل وَاقعَة ... يُلْهِيك عَن نَغمَة الألحان راويها) (وَمن محَاسِن أَحْوَال تتوق لَهَا الأسماع ... من كل ذِي لب يدانيها) (وَمن نَوَادِر قد كَانَت لذِي أدب ... تود إِذن الْعلَا أَن لَو تحليها) (أغْنى وأقنى بأخبار مصححة ... قد كَانَ فِي الْمغرب الْأَقْصَى دواعيها) (كم من فَوَائِد قد كَانَت أوابد لم ... تظفر بهَا بِهِ يستدعيك قاصيها) (مَا شِئْت من أدب غض وَمن ملح ... تشتاقها همم ترحو توافيها) (فاعكف عَلَيْهِ ونزه فِي بدائعه ... أبصار فكرك تستجني أمانيها) (فَإِنَّهُ رَوْضَة أشجارها قصَص ... أزهارها حكم إِن رمت تجنيها) (أنهارها من معِين مَا بِهِ كدر ... من كل معنى غَدا للنَّفس شافيها) (بل جنَّة جمعت آمال أَنْفُسنَا ... وتستلذ بهَا أبصار رائيها) (لَا غرو حَيْثُ غَدا مِفْتَاح بهجتها ... من فِيهِ يُرْسل أعْط الْقوس باريها) (ذَاك الأديب الأريب الْعَالم الْعلم الْهمام ... غَايَته من ذَا يجاريها) (الناصري أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد من ... نَالَ الْعلَا واعتلى أَعلَى أعاليها) (نقاد كل فنون الْعلم لَيْسَ لَهُ ... بغَيْرهَا شغل دأبا يواليها) (فكم أَجَاد وَكم أسدى فوائدها ... فِي كل قطر من الأقطار يوليها) (أنسى إياسا بأفكار لَهُ وقدت ... ترى شموس الْهَدْي كشفا لباغيها) (فَهَذِهِ قبسة من نور عمله قد ... مدت إِلَيْهَا أقاصي الأَرْض أيديها) (نَالَتْ أشعتها الْأَيْدِي على بعد ... كَالشَّمْسِ مَعَ رَفعهَا يَبْدُو تدانيها) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 (تريك سيرة قطر الغرب كَيفَ مَضَت ... رأى الْحَقِيقَة فِي أفكار قاريها) (إِن التواريخ فِي أخباره كثرت ... لَكِن ذَا قد حوى أصح مَا فِيهَا) (بل زَاد أنباء قوم لم تكن جمعت ... مِمَّا جرى عَن قريب فِيهِ تلفيها) (مَعَ مَا حوى من عُلُوم من مؤلفة ... بَدَت معالمهما هَديا لآتيها) (أعظم بهَا منحة قد عَم نائلها ... وَطَاف فِي شاسع الأقطار سَاقيهَا) (فرقة الطَّبْع قد نمت بهَا وسرت ... لطبع آياتها كَيْمَا تجليها) (فَعَاد مِنْهَا محياها كَمَا قمر ... يهدي الضليل بهَا إِن جا يماشيها) (كَمَال طبع حلاها جَاءَ وفْق منى ... فَالْحَمْد لله كم نعماء يسديها) (مَعَ مُنْتَهى أرب قل كي تؤرخه ... معالم الطَّبْع بالبشرى تناهيها) 181 113 545 472 سنة 1312 هَذَا التَّارِيخ يعرف من بَين أَنْوَاعه بالمذيل وَحَقِيقَته أَن تكون جملَة التَّارِيخ نَاقِصَة فتكمل بِحرف أَو أَكثر مَعَ التَّنْبِيه عل ذَلِك بِإِشَارَة تَتَضَمَّن تورية وَبَيَان ذَلِك هُنَا أَن جَامع عدد قولي معالم الطَّبْع بالبشرى تناهيها هُوَ عشرَة وثلاثمائة وَألف فتوقف الْعدَد المؤرخ بِهِ على اثْنَيْنِ أَشرت لَهَا بِقَوْلِي مَعَ مُنْتَهى أرب ومنتهى أرب هُوَ الْبَاء الَّتِي بِاثْنَيْنِ فاستوفى عدد التَّارِيخ هَذَا وليعلم من يقف عَلَيْهِ من أدباء أهل الْمغرب أَنِّي حسبت حرف الشين من قولي بالبشرى بثلاثمائة على اصْطِلَاح المشارقة فِيهَا لَا بِأَلف كَمَا هُوَ اصطلاحنا وَهِي أحد الْحُرُوف السِّتَّة الَّتِي اخْتلف فِيهَا اصْطِلَاح الْفَرِيقَيْنِ وَقد تمذهبت بمذهبهم فِي هَذَا التَّارِيخ مُرَاعَاة لمحل الطَّبْع كَمَا يستحسن ذَلِك مني سَالم القريحة والطبع وَالله الْهَادِي إِلَى سَوَاء السَّبِيل وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 تقريظ الأديب السَّيِّد إِبْرَاهِيم الْأَزْهَرِي حمدا لمن أَضَاء عقول الْخلف بأنوار تواريخ السّلف وَصَلَاة وَسلَامًا على من قصّ عَلَيْهِ أحسن الْقَصَص فِي كِتَابه الْمكنون وَأخْبرهُ بسرائر مَا كَانَ وَمَا يكون وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين أشرقت صَحَائِف التَّارِيخ بآياتهم الباهية الباهرة وتزينت المحافل بمحاسن إحسانهم الزاهية الزاهرة أما بعد فَإِن علم التَّارِيخ كنز يجب التحلي بنفائس فرائده وَروض لَا غنية لأحد عَن مجاني فَوَائده وَكم للْعُلَمَاء فِيهِ من تصانيف مهمة عَادَتْ بالمنافع الجمة على كل أمة فَلم ترتق أمة إِلَى عرش تمدنها إِلَّا بتبحرها فِي هَذَا الْفَنّ وتفننها وَأَن أجل مَا ألف فِيهِ كتاب الاستقصا لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى فَهُوَ أول كتاب كشف الغطاء عَن هَذِه الممالك وَقرب لمن يهمه الْوُقُوف على حَقِيقَة أَخْبَارهَا جَمِيع المسالك وَأَبَان عَن أول من دَخلهَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لرفع أَعْلَام الْإِسْلَام وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من المعارف الَّتِي لم تطو سجلات نشرها تعاقب الْأَيَّام لَا سِيمَا بِلَاد الأندلس وَمَا لَهَا من الحضارة والأبهة والنضارة وَمَا لبلاد الجزائر من كل أثر جليل يشْهد برفعة قدرهَا جيلا بعد جيل مَعَ تَحْرِير التراجم للملوك والأعاظم وَمَا دهم هَذِه الْبِلَاد من الوقائع الحربية الَّتِي أثارت غبارها يَد الدسائس الْأَجْنَبِيَّة وَمَا ثَبت لهَذِهِ الدول من الاختراعات والاستكشافات وَمَا بَينهَا وَبَين الدول الْأُخْرَى من المواصلات والمعاهدات كل ذَلِك بعبارات صَادِقَة ومحررات شائقة (حَدِيث الْمغرب الْأَقْصَى ... قد استقصاه الاستقصا) (كتاب جلّ مبدعه ... على نسق بِهِ اختصا) (بدا وَالنَّاس فِي شغف ... ليقتنص النهى قنصا) (فتاهوا فِي محاسنه ... فَأَرْشَدَهُمْ بِمَا أوصى) (فيالله مَا أَعلَى ... وَمَا أغْلى وَمَا أحصى) (فَكَّيْهِ فِي فكاهته ... صَدُوق القَوْل إِن قصا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 (عَلَيْهِ فَكُن أَشد النَّاس ... فِي اسْتِقْصَائِهِ حرصا) (تَجِد غررا حوت دررا ... عَلَيْهَا تكْثر الغوصا) وَكَيف لَا ومؤلفه إِنْسَان عين الْأَدَب وترجمان لِسَان الْعَرَب جَوْهَر بحور المعارف وسويداء صُدُور العوارف من أَجمعت الْفَضَائِل على التباهي بسيرته وتسابقت المحامد إِلَى الاقتباس من مشكاة سَرِيرَته ألفته الْحِكْمَة فسامرها وَمَا سلا عَلامَة الْمشرق وَالْمغْرب فضلا عَن كَونه تَاج مجد سلا بَحر الْعلم الخضم الرَّاوِي شهَاب الدّين أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي وَلأَجل أَن يعم النَّفْع الجزيل بِهَذَا الْأَثر الْجَلِيل قَامَ حَضْرَة مُؤَلفه بطبعه فِي إِحْدَى مطابع الْقطر الْمصْرِيّ حَتَّى أشرق بدر كَمَاله على الْكَوْكَب الدُّرِّي بمشاركة كل من صَاحب الْحسب العاطر وَالنّسب الطَّاهِر صَاحب الشّرف وَالْمجد السّني السَّيِّد الحبيب البلغيتي الحسني وحضرة من هُوَ لكل كَمَال مصطفى جناب مُحَمَّد أَفَنْدِي مصطفى فَهَؤُلَاءِ السَّادة هم السَّبَب فِي تَعْمِيم نَفعه وتعطير الْآفَاق بعبير طبعه بمطبعة حَضْرَة الأفندي الشهيرة بإتقان الصِّنَاعَة وَكَمَال رونق الطباعة جزاهم الله بمنه وفضله أكمل جَزَاء عَن الْعلم وَأَهله وَكَانَ انْتِهَاء طبعه الأنيق واستكمال حسنه الرَّقِيق فِي أَوَاخِر شهر رَمَضَان الْمُعظم سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف والثلاثمائة من هجرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تمّ الْجُزْء التَّاسِع والأخير من كتاب الاستقصا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215