الكتاب: الفصل في الملل والأهواء والنحل المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء: 5 × 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الفصل في الملل والأهواء والنحل ابن حزم الكتاب: الفصل في الملل والأهواء والنحل المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء: 5 × 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ الْحَمد لله كثيرا وَصلى الله على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله خَاتم أنبيائه بكرَة وَأَصِيلا أما بعد فَإِن كثيرا من النَّاس كتبُوا فِي افْتِرَاق النَّاس فِي دياناتهم ومقالاتهم كتبا كَثِيرَة جدا فبعض أَطَالَ وأسهب وَأكْثر وهجر وَاسْتعْمل الأغاليط والشغب فَكَانَ ذَلِك شاغلاً عَن الْفَهم قَاطعا دون الْعلم وَبَعض أحذف وَقصر وقلل وَاخْتصرَ وَاضْرِبْ عَن كثير من قوي معارضات أَصْحَاب المقالات فَكَانَ فِي ذَلِك غير منصف لنَفسِهِ فِي أَن يرضى لَهَا بِالْغبنِ فِي الْإِبَانَة وظالماً لخصمه فِي أَن لم يوفه حق اعتراضه وباخساً حق من قَرَأَ كِتَابه إِذا لم يغنه عَن غَيره وَكلهمْ إِلَّا نحلة الْقسم عقد كَلَامه تعقيداً يتَعَذَّر فهمه على كثير من أهل الْفَهم وَحلق على الْمعَانِي من بعد حَتَّى صَار ينسي آخر كَلَامه أَوله وَأكْثر هَذَا مِنْهُم ستائر دون فَسَاد معانيهم فَكَانَ هَذَا مِنْهُم غير مَحْمُود فِي عاجله وآجله قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فجمعنا كتَابنَا هَذَا مَعَ استخارتنا الله عز وَجل فِي جمعه وقصدنا بِهِ قصد إِيرَاد الْبَرَاهِين المنتجة عَن الْمُقدمَات الحسية أَو الراجعة إِلَى الْحس من قرب أَو من بعد على حسب قيام الْبَرَاهِين الَّتِي لَا تخون أصلا مخرجها إِلَى مَا أخرجت لَهُ وَألا يَصح مِنْهُ إِلَّا مَا صححت الْبَرَاهِين الْمَذْكُورَة فَقَط إِذْ لَيْسَ الْحق إِلَّا ذَلِك وبالغنا فِي بَيَان اللَّفْظ وَترك التعقيد راجين من الله تَعَالَى على ذَلِك الْأجر الجزيل وَهُوَ تَعَالَى ولي من تولاه ومعطي من استعطاه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق رُؤْس الْفرق الْمُخَالفَة الدّين الْإِسْلَام سِتّ ثمَّ تتفرق كل فرقة من هَذِه الْفرق السِّت على فرق وسأذكر جماهيرها إِن شَاءَ الله عز وَجل فَالْفرق السِّت الَّتِي ذَكرنَاهَا على مراتبها فِي الْبعد عَنَّا أَولهَا مبطلوا الْحَقَائِق وهم الَّذين يسميهم المتكلمون السوفسطائية ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق إِلَّا أَنهم قَالُوا إِن الْعَالم لم يزل وَأَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 لَا مُحدث لَهُ وَلَا مُدبر ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَإِن الْعَالم لم يزل وَإِن لَهُ مُدبرا لم يزل ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق فبعضهم قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَبَعْضهمْ قَالَ هُوَ مُحدث وَاتَّفَقُوا على أَن لَهُ مُدبرين لم يزَالُوا وَأَنَّهُمْ أَكثر من وَاحِد وَاخْتلفُوا فِي عَددهمْ ثمَّ الْقَائِلين بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَإِن الْعَالم مُحدث وَأَن لَهُ خَالِقًا وَاحِدًا لم يزل وأبطلوا النبوات كلهَا ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَأَن الْعَالم مُحدث وَأَن لَهُ خَالِقًا وَاحِدًا لم يزل وأثبتوا النبوات إِلَّا أَنَّهَا خالفوا فِي بَعْضهَا فأقروا بِبَعْض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأنكروا بَعضهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد تحدث فِي خلال هَذِه الْأَقْوَال آراء هِيَ منتجة من هَذِه الرؤوس مركبة مِنْهَا فَمِنْهَا مَا قد قَالَت بِهِ طوائف من النَّاس مثل مَا ذهبت إِلَيْهِ فرق من الْأُمَم من القَوْل بتناسخ الْأَرْوَاح أَو القَوْل بتواتر النبوات فِي كل وَقت أَو إِن فِي كل نوع من أَنْوَاع الْحَيَوَان أَنْبيَاء وَمثل مَا قد ذهب إِلَيْهِ جمَاعَة الْقَائِلين بِهِ وناظرتهم عَلَيْهِ من القَوْل بِأَن الْعَالم مُحدث وَإِن لَهُ مُدبرا لم يزل إِلَّا أَن النَّفس وَالْمَكَان الْمُطلق وَهُوَ الْخَلَاء وَالزَّمَان الْمُطلق لم يزل مَعَه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول قد ناظرني عَلَيْهِ عبد الله بن خلف ابْن مَرْوَان الْأنْصَارِيّ وَعبد الله بن مُحَمَّد السّلمِيّ الْكَاتِب وَمُحَمّد بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن الأصبحي الطَّبِيب وَهُوَ قَول يُؤثر عَن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب وَلنَا عَلَيْهِ فِيهِ كتاب مُفْرد فِي نقض كِتَابه فِي ذَلِك وَهُوَ الْمَعْرُوف بِالْعلمِ الإلهي وَمثل مَا ذهب إِلَيْهِ قوم من أَن الْفلك لم يزل وَأَنه غير الله تَعَالَى وَأَنه هُوَ الْمُدبر للْعَالم الْفَاعِل لَهُ إجلالاً بزعمهم لله عَن أَن يُوصف بِأَنَّهُ فعل شَيْئا من الْأَشْيَاء وَقد كنى بَعضهم عَن ذَلِك بالعرش وَمِنْهَا مَا لَا نعلم أَن أحدا قَالَ بِهِ إِلَّا أَنه مِمَّا لَا يُؤمن أَن يَقُول بِهِ قَائِل من الْمُخَالفين عِنْد تضييق الْحجَج عَلَيْهِم فليجئون إِلَيْهَا فَلَا بُد إِن شَاءَ الله تَعَالَى من ذكر مَا يَقْتَضِيهِ مساق الْكَلَام مِنْهَا وَذَلِكَ مثل القَوْل بِأَن الْعَالم مُحدث وَلَا مُحدث لَهُ فَلَا بُد بحول الله تَعَالَى من إِثْبَات الْمُحدث بعد الْكَلَام فِي إِثْبَات الْحُدُوث وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق والعون لَا إِلَه إِلَّا هُوَ بَاب مُخْتَصر جَامع فِي مَاهِيَّة الْبَرَاهِين الجامعة الموصلة إِلَى معرفَة الْحق فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ النَّاس وَكَيْفِيَّة إِقَامَتهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا بَاب قد أحكماه فِي كتَابنَا الموسوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بالتقريب فِي حُدُود الْكَلَام وتقصيناه هُنَالك غَايَة التَّقَصِّي وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِلَّا أننا نذْكر هَاهُنَا جملَة كَافِيَة فِيهِ لتَكون مُقَدّمَة لما يَأْتِي بعده مِمَّا اخْتلف النَّاس فِيهِ يرجع إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الْإِنْسَان يخرج إِلَى هَذَا الْعَالم وَنَفسه قد ذهب ذكرهَا جملَة فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك ذاكرة أَولا ذكر لَهَا الْبَتَّةَ فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أَنَّهَا مزاج عرض إِلَّا أَنه قد حصل أَنه لَا ذكر للطفل حِين وِلَادَته وَلَا تَمْيِيز إِلَّا مَا لسَائِر الْحَيَوَان من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية فَقَط فتراه يقبض رجلَيْهِ ويمدها ويغلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إِذا أحس الْبرد أَو الْحر أَو الْجُوع وَإِذا ضرب أَو قرص وَله سوى ذَلِك مِمَّا يُشَارِكهُ فِيهِ الْحَيَوَان والنوامي مِمَّا لَيْسَ حَيَوَانا من طلب الْغذَاء لبَقَاء جِسْمه على مَا هُوَ عَلَيْهِ ولنمائه فَيَأْخُذ الثدي ويميزه بطبعه من سَائِر الْأَعْضَاء بفمه دون سَائِر أَعْضَائِهِ كَمَا تَأْخُذ عروق الشّجر والنبات رطوبات الأَرْض وَالْمَاء لبَقَاء أجسامها على مَا هِيَ عَلَيْهِ ولنمائها فَإِذا قويت النَّفس على قَول من يَقُول أَنَّهَا مزاج أَو أَنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أخذت يعاودها ذكرهَا وتمييزها فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا كَانَت ذاكرة قبل ذَلِك وَأَنَّهَا كالمفيق من مرض فَأول مَا يحدث لَهَا من التَّمْيِيز الَّذِي ينْفَرد بِهِ النَّاطِق من الْحَيَوَان فهم مَا أدْركْت بحواسها الْخمس كعلمها أَن الرَّائِحَة الطّيبَة مَقْبُولَة من طبعها والرائحة الرَّديئَة منافرة لطبعها وكعلمها أَن الْأَحْمَر مُخَالف للأخضر والأصفر والأبيض وَالْأسود وكالفرق بَين الخشن والأملس والمكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفيء وكالفرق بَين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف وكالفرق بَين الصَّوْت الحاد والغليظ وَالرَّقِيق والمطرب والمفزع قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ إدراكات الْحَواس لمحسوساتها والإدراك السَّادِس علمهَا بالبديهيات فَمن ذَلِك علمهَا بِأَن الْجُزْء أقل من الْكل فَإِن الصَّبِي الصَّغِير فِي أول تَمْيِيزه إِذا أَعْطيته تمرتين بَكَى وَإِذا زِدْته ثَالِثَة سر وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن الْكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أَكثر من الْجُزْء وَإِن كَانَ لَا يتَنَبَّه لتحديد مَا يعرف من ذَلِك وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يجْتَمع المتضادان فَإنَّك إِذا وقفته قسراً بَكَى وَنزع إِلَى الْقعُود علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون قَائِما قَاعِدا مَعًا وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يكون جسم وَاحِد فِي مكانين فَإِنَّهُ إِذا أَرَادَ الذّهاب إِلَى مَكَان مَا فأمسكته قسراً بَكَى وَقَالَ كلَاما مَعْنَاهُ دَعْنِي أذهب علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون فِي الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يذهب إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَكَان وَاحِد وَمن ذَلِك علمه بِأَنَّهُ لَا يكون الجسمان فِي مَكَان وَاحِد فَإنَّك ترَاهُ يُنَازع على الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسعهُ ذَلِك الْمَكَان مَعَ مَا فِيهِ فَيدْفَع من فِي ذَلِك الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ إِذا يعلم أَنه مَا دَامَ فِي الْمَكَان مَا يشْغلهُ فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ وَهُوَ فِيهِ وَإِذا قلت لَهُ ناولني مَا فِي هَذَا الْحَائِط وَكَانَ لَا يُدْرِكهُ قَالَ لست أدْركهُ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن الطَّوِيل زَائِد على مِقْدَار مَا هُوَ أقصر مِنْهُ وتراه يمشي إِلَى الشَّيْء الَّذِي يُرِيد ليصل إِلَيْهِ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن ذَا النِّهَايَة يحصر وَيقطع بالعدو وَإِن لم يحسن الْعبارَة بتحديد مَا يدْرِي من ذَلِك وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يعلم الْغَيْب أحد وَذَلِكَ أَنَّك إِذا سَأَلته عَن شيءٍ لَا يعرفهُ أنكر ذَلِك وَقَالَ لَا أَدْرِي وَمِنْهَا فرقة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَإِنَّهُ إِذا أخبر بِخَير تَجدهُ فِي بعض الْأَوْقَات لَا يصدقهُ حَتَّى إِذا تظاهر عِنْده بمخبر آخر وَآخر صدقه وَسكن إِلَى ذَلِك وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يكون شيءٌ إِلَّا فِي زمَان فَإنَّك إِذا ذكرت لَهُ أمرا مَا قَالَ مَتى كَانَ وَإِذا قلت لَهُ لم تفعل كَذَا وَكَذَا قَالَ مَا كنت أَفعلهُ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم إِلَّا فِي زمَان وَيعرف أَن للأشياء طبائع وماهية تقف عِنْدهَا وَلَا تجاوزها فتراه إِذا رأى شَيْئا لَا يعرفهُ قَالَ أَي شَيْء هَذَا فَإِذا شرح لَهُ سكت وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يكون فعل إِلَّا لفاعل فَإِنَّهُ إِذا رأى شَيْئا قَالَ من عمل هَذَا وَلَا يقنع الْبَتَّةَ بِأَنَّهُ الْعَمَل دون عَامل وَإِذا رأى بيد آخر شَيْئا قَالَ من أَعْطَاك هَذَا وَمِنْهَا مَعْرفَته بِأَن فِي الْخَبَر صدقا وكذباً فتراه يكذب بعض مَا يخبر بِهِ وَيصدق بعضه ويتوقف فِي بعضه هَذَا كُله مشَاهد من جَمِيع النَّاس فِي مبدأ نشأتهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ أَوَائِل الْعقل الَّتِي لَا يخْتَلف فِيهَا ذُو عقل وَهَا هُنَا أَيْضا أَشْيَاء غير مَا ذكرنَا إِذا فتشت وجدت وميزها كل ذِي عقل من نَفسه وَمن غَيره وَلَيْسَ يدْرِي أحد كَيفَ وَقع الْعلم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء كلهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يشك ذُو تَمْيِيز صَحِيح فِي أَن هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا صَحِيحَة لَا امتراء فِيهَا وَإِنَّمَا يشك فِيهَا بعد صِحَة علمه بهَا من دخلت عقله آفَة وَفَسَد تَمْيِيزه أَو مَال إِلَى بعض الآراء الْفَاسِدَة فَكَانَ ذَلِك أَيْضا آفَة دخلت على تَمْيِيزه كالآفة الدَّاخِلَة على من بِهِ هيجان الصَّفْرَاء فيجد الْعَسَل مرا وَمن فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عينه ابْتِدَاء نزُول المَاء فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا وكسائر الْآفَات الدَّاخِلَة على الْحَواس قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ الْمُقدمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ الصَّحِيحَة الَّتِي لَا شكّ فِيهَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يطْلب عَلَيْهَا دَلِيلا إِلَّا مَجْنُون أَو جَاهِل لَا يعلم حقائق الْأَشْيَاء وَمن الطِّفْل أهْدى مِنْهُ وَهَذَا أَمر يَسْتَوِي فِي الْإِقْرَار بِهِ كبار جَمِيع بني آدم وصغارهم فِي أقطار الأَرْض إِلَّا من غالط حسه وكابر عقله فيحلق بالمجانين لِأَن الِاسْتِدْلَال على الشَّيْء لَا يكون إِلَّا فِي زمَان وَلَا بُد ضَرُورَة أَن يعلم ذَلِك بِأول الْعقل لِأَنَّهُ قد علم بضرورة الْعقل أَنه لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم إِلَّا فِي وَقت وَلَيْسَ بَين أول أَوْقَات تَمْيِيز النَّفس فِي هَذَا الْعَالم وَبَين إِدْرَاكهَا لكل مَا ذكرنَا مهلة الْبَتَّةَ لَا دقيقة وَلَا جليلة وَلَا سَبِيل على ذَلِك فصح أَنَّهَا ضرورات أوقعهَا الله فِي النَّفس وَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال الْبَتَّةَ إِلَّا من هَذِه الْمُقدمَات وَلَا يَصح شَيْء إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا فَمَا شهِدت لَهُ مُقَدّمَة من هَذِه الْمُقدمَات بِالصِّحَّةِ فَهُوَ صَحِيح مُتَيَقن وَمَا لم تشهد لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ بَاطِل سَاقِط إِلَّا أَن الرُّجُوع إِلَيْهَا قد يكون من قرب وَمن بعد فَمَا كَانَ من قرب فَهُوَ أظهر إِلَى كل نفس وَأمكن للفهم وَكلما بَعدت الْمُقدمَات الْمَذْكُورَة صَعب الْعَمَل فِي الِاسْتِدْلَال حَتَّى يَقع فِي ذَلِك الْغَلَط إِلَّا للفهم الْقوي الْفَهم والتمييز وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يقْدَح فِي أَن مَا رَجَعَ إِلَى مُقَدّمَة من الْمُقدمَات الَّتِي ذكرنَا حق كَمَا أَن تِلْكَ الْمُقدمَة حق لَا فرق بَينهمَا فِي أَنَّهُمَا حق وَهَذَا مثل الْأَعْدَاد فَكلما قلت الْأَعْدَاد سهل جمعهَا وَلم يَقع فِيهَا غلط حَتَّى إِذا كثرت الْأَعْدَاد وَكثر الْعَمَل فِي جمعهَا صَعب ذَلِك حَتَّى يَقع فِيهَا الْغَلَط إِلَّا مَعَ الحاسب الْكَافِي الْمجِيد وَكلما قرب من ذَلِك وَبعد فَهُوَ كُله حق وَلَا تفاضل فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا تعَارض مُقَدّمَة مِمَّا ذكرنَا مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا وَلَا يُعَارض مَا يرجع إِلَى مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا رُجُوعا صَحِيحا وَهَذَا كُله يعلم بِالضَّرُورَةِ وَمن علم النَّفس بِأَن علم الْغَيْب لَا يُعَارض صَحَّ ضَرُورَة أَنه لَا يُمكن أَن يَحْكِي أحد خَبرا كَاذِبًا طَويلا فَيَأْتِي من لم يسمعهُ فيحكي ذَلِك الْخَبَر بِعَيْنِه كَمَا هُوَ لَا يزِيد فِيهِ وَلَا ينقص إِذْ لَو أمكن ذَلِك لَكَانَ الحاكي لمثل ذَلِك الْخَبَر عَالما بِالْغَيْبِ لِأَن هَذَا هُوَ علم الْغَيْب نَفسه وَهُوَ الْإِخْبَار عَمَّا لَا يعلم الْمخبر عَنهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَذَلِك بِلَا شكّ فَكل مَا نَقله من الْأَخْبَار اثْنَان فَصَاعِدا مفترقان قد أيقنا أَنَّهُمَا لم يجتمعا وَلَا تشاعرا فَلم يختلفا فِيهِ فبالضرورة يعلم أَنه حق مُتَيَقن مَقْطُوع بِهِ على غيبه وَبِهَذَا علمنَا صِحَة موت من مَاتَ وولادة من ولد وعزل من عزل وَولَايَة من ولى وَمرض من مرض وافاقة من أَفَاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عَنَّا والوقائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والملوك والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام ودياناتهم وَالْعُلَمَاء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لَا شكّ عِنْد أحد يُوفي عقله حَقه فِي شَيْء مِمَّا نقل من ذَلِك كَمَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بَاب الْكَلَام على أهل الْقسم الأول وهم مبطلوا الْحَقَائِق وهم السوفسطائية قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكر من سلف من الْمُتَكَلِّمين أَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف فصنف مِنْهُم نفى الْحَقَائِق جملَة وصنف مِنْهُم شكوا فِيهَا وصنف مِنْهُم قَالُوا هِيَ حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَهِي بَاطِل عِنْد من هِيَ عِنْده بَاطِل وعمدة مَا ذكر من اعتراضهم فَهُوَ اخْتِلَاف الْحَواس فِي المحسوسات كإدراك المبصر من بعدٍ عَنهُ صَغِيرا وَمن قربٍ مِنْهُ كَبِيرا وكوجود من بِهِ حمى صفراء حُلْو المطاعم مرا وَمَا يرى فِي الرُّؤْيَا مِمَّا لَا شكّ فِيهِ رائيه أَنه حق من أَنه فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن الْخطاب وتعاطي الْمعرفَة إِنَّمَا يكون مَعَ أهل الْمعرفَة وحس الْعقل شَاهد بِالْفرقِ بَين مَا يخيل إِلَى النَّائِم وَبَين مَا يُدْرِكهُ المستيقظ إِذْ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا من اسْتِعْمَال الجري على الْحُدُود المستقرة فِي الْأَشْيَاء الْمَعْرُوفَة وَكَونهَا ابداً على صفة وَاحِدَة مَا فِي الْيَقَظَة وَكَذَلِكَ يشْهد الْحس أَيْضا بِأَن تبدل المحسوس عَن صفته اللازمه لَهُ بحث الْحس إِنَّمَا هُوَ لآفة فِي حس الحاس لَهُ لَا فِي المحسوس جَار كل ذَلِك على رُتْبَة وَاحِدَة لَا تتحول وَهَذِه هِيَ الْبِدَايَة والمشاهدات الَّتِي لَا يجوز أَن يطْلب عَلَيْهَا برهَان إِذْ لَو طلب على كل برهَان برهَان لاقتضى ذَلِك وجود موجودات لَا نِهَايَة لَهَا وَوُجُود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ على مَا سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالَّذِي يطْلب على الْبُرْهَان برهاناً فَهُوَ نَاطِق بالمحال لِأَنَّهُ لَا يفعل ذَلِك إِلَّا وَهُوَ مُثبت لبرهان مَا فَإِذا وقفنا عِنْد الْبُرْهَان الَّذِي ثَبت لزمَه الإذعان لَهُ فَإِن كَانَ لَا يثبت برهاناً فَلَا وَجه لطلبه مَا لَا يُثبتهُ لَو وجده وَالْقَوْل بِنَفْي الْحَقَائِق مُكَابَرَة لِلْعَقْلِ والحس وَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم أَن يُقَال لَهُم قَوْلكُم أَنه لَا حَقِيقَة للأشياء حق هُوَ أم بَاطِل فَإِن قَالُوا هُوَ حق أثبتوا حَقِيقَة مَا وَإِن قَالُوا لَيْسَ هُوَ حَقًا أقرُّوا بِبُطْلَان قَوْلهم وَكفوا خصمهم أَمرهم وَيُقَال للشكاك مِنْهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أشككم مَوْجُود صَحِيح مِنْكُم أم غير صَحِيح وَلَا مَوْجُود فَإِن قَالُوا هُوَ مَوْجُود صَحِيح منا أثبتوا أَيْضا حَقِيقَة مَا وَإِن قَالُوا غير مَوْجُود نفوا الشَّك وأبطلوه وَفِي إبِْطَال الشَّك إِثْبَات الْحَقَائِق أَو الْقطع على إِبْطَالهَا وَقد قدمنَا بعون الله تَعَالَى إبِْطَال قَول من أبطلها فَلم يبْقى إِلَّا الْإِثْبَات وَيُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لمن قَالَ هِيَ حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَهِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بَاطِل عِنْد من هِيَ عِنْده بَاطِل أَن الشَّيْء لَا يكون حَقًا باعتقاد من اعْتقد أَنه حق كَمَا أَنه لَا يبطل باعتقاد من اعْتقد أَنه بَاطِل وَإِنَّمَا يكون الشَّيْء حَقًا بِكَوْنِهِ مَوْجُودا ثَابتا سَوَاء اعْتقد أَنه حق أَو اعْتقد أَنه بَاطِل وَلَو كَانَ غير هَذَا لَكَانَ الشَّيْء مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حَال وَاحِدَة فِي ذَاته وَهَذَا عين الْمحَال وَإِذا أقرُّوا بِأَن الْأَشْيَاء حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق فَمن جملَة تِلْكَ الْأَشْيَاء الَّتِي تعتقد أَنَّهَا حق عِنْد من يعْتَقد أَن الْأَشْيَاء حق بطلَان قَول من قَالَ أَن الْحَقَائِق بَاطِل وَهُوَ هم قد أقرُّوا أَن الْأَشْيَاء حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَبطلَان قَوْلهم من جملَة تِلْكَ الْأَشْيَاء فقد أقرُّوا بِأَن بطلَان قَوْلهم حق مَعَ أَن هَذِه الْأَقْوَال لَا سَبِيل إِلَى أَن يعتقدها ذُو عقل الْبَتَّةَ إِذْ حسه يشْهد بِخِلَافِهَا وَإِنَّمَا يُمكن أَن يلجأ إِلَيْهَا بعض المنقطعين على سَبِيل الشغب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بَاب الْكَلَام على من قَالَ بِأَن الْعَالم لم يزل وَأَنه لَا مُدبر لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا يَخْلُو الْعَالم من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون لم يزل أَو أَن يكون مُحدثا لم يكن ثمَّ كَانَ فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لم يزل وهم الدهرية وَذهب سَائِر النَّاس إِلَى أَنه مُحدث فنبتدئ بحول الله تَعَالَى وقوته بإيراد كل حجَّة شغب بهَا الْقَائِلُونَ بِأَن الْعَالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بهَا ثمَّ نبين بحوله تَعَالَى نقضهَا وفسادها فَإِذا بَطل القَوْل بِأَن الْعَالم لم يزل وَجب القَوْل بالحدوث وَصَحَّ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى وَجه ثَالِث لَكنا لَا نقنع بذلك حَتَّى نأتي بالبراهين الظَّاهِرَة والنتائج الْمُوجبَة والقضايا الضرورية على إِثْبَات حُدُوث الْعَالم وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَمَا اعْترضُوا بِهِ أَن قَالُوا لم نر شَيْئا حدث إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء فَمن ادّعى غير ذَلِك فقد ادّعى مَا لَا يُشَاهد وَلم يُشَاهد وَقَالُوا أَيْضا لَا يَخْلُو مُحدث الْأَجْسَام الْجَوَاهِر والأعراض وَهِي كل مَا فِي الْعَالم إِن كَانَ الْعَالم مُحدثا من أَن يكون أحدثه لِأَنَّهُ أَو إحداثه لعِلَّة فَإِن كَانَ لِأَنَّهُ فالعالم لم يزل لِأَن محدثه لم يزل وَإِذ هُوَ عِلّة خلقه فالعلة لَا تفارق الْمَعْلُول وَمَا لم يُفَارق من لم يزل فَهُوَ أَيْضا لم يزل هُوَ مثله بِلَا شكّ فالعالم لم يزل وَإِن كَانَ أحدثه لعِلَّة فَتلك الْعلَّة لَا تَخْلُو من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تكون لم تزل وَإِمَّا أَن تكون محدثة فَإِن كَانَت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَإِن كَانَت تِلْكَ الْعلَّة محدثة لزم فِي حدوثها مَا لزم فِي حُدُوث سَائِر الْأَشْيَاء من أَنه أحدثها لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة فَإِن كَانَ لعِلَّة لزم ذَلِك أَيْضا فِي عِلّة الْعلَّة وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود محدثات لَا أَوَائِل لَهَا قَالُوا وَهَذَا قَوْلنَا قَالُوا وَإِن كَانَ أحدثها لِأَنَّهُ فَهَذَا يُوجب أَن الْعلَّة لم تزل كَمَا بَينا آنِفا وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَ للأجسام مُحدث لم يخل من أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه لزم وَإِمَّا أَن يكون خلَافهَا من دميع الْوُجُود وَإِمَّا أَن يكون مثلهَا من بعض الْوُجُوه وخلافها من بعض الْوُجُوه قَالُوا فَلَنْ كَانَ مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه لزم أَن يكون مُحدثا مثلهَا وَهَكَذَا فِي محدثة أَيْضا ابداً وَإِن كَانَ مثلهَا فِي بعض الْوُجُوه لزمَه أَيْضا من مماثلتها فِي ذَلِك الْبَعْض مَا يلْزمه من مماثلته لَهَا فِي جَمِيع الْوُجُوه من الْحُدُوث إِذْ الْحُدُوث اللَّازِم للْبَعْض كازومه للْكُلّ وَلَا فرق وَإِن كَانَ خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه فمحال أَن يَفْعَلهَا لِأَن هَذَا هُوَ حَقِيقَة الضِّدّ والمناقض إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يفعل الشَّيْء خِلَافه من جَمِيع الْوُجُوه كَمَا لَا تفعل النَّار التبريد وَقَالُوا أَيْضا لَا يَخْلُو إِن كَانَ للْعَالم فَاعل من أَن يكون فعله لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة أَو طباعاً أَو لَا لشَيْء من ذَلِك قَالُوا فَإِن كَانَ فعله لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَهُوَ مَحل للمنافع والمضار وَهَذِه صفة المحدثات عنْدكُمْ فَهُوَ مُحدث مثلهَا قَالُوا وَإِن كَانَ فعله طباعاً فالطباع مُوجبَة لما حدث بهَا فَفعله لم يزل مَعَه قَالُوا وَإِن كَانَ فعله لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا لَا يعقل وَمَا خرج عَن الْمَعْقُول فمحال وَقَالُوا أَيْضا لَو كَانَت الْأَجْسَام محدثة لَكَانَ محدثها قبل أَن يحدثها فَاعِلا لتركها قَالُوا وَتركهَا لَا يَخْلُو من أَن يكو جسما أَو عرضا وَهَذَا يُوجب أَن الْأَجْسَام والأعراض لم تزل مَوْجُودَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ المشاغب الْخمس هِيَ كل مَا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بالدهر قد تقصيناها لَهُم وَنحن إِن شَاءَ الله نبدأ بحول الله وقوته فِي مناظرتهم فننقضها وَاحِدًا وَاحِدًا إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الأول قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ يُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق والعون لمن قَالَ لم نر شَيْئا حدث إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء هَل تدْرك حَقِيقَة شَيْء عنْدكُمْ من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة أَو لَا يدْرك شَيْء من الْحَقَائِق إِلَّا من طَرِيق الرُّؤْيَة فَقَط فَإِن قَالُوا إِنَّه قد تدْرك الْحَقَائِق من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة تركُوا استدلالهم وأفسدوه إِذْ قد أوجبوا وجود أَشْيَاء من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة وَقد نفوا ذَلِك قبل هَذَا فَإِذا صَارُوا إِلَى الِاسْتِدْلَال نُوظِرُوا فِي ذَلِك إِلَّا أَن دليلهم هَذَا على كل حَال قد بَطل بِحَمْد الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا لَا بل لَا يدْرك شَيْء إِلَّا من طَرِيق الْمُشَاهدَة قيل لَهُم فَهَل شاهدتم شَيْئا قطّ لم يزل فَلَا بُد من نعم أَو لَا فَإِن قَالُوا لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَصَدقُوا وأبطلوا استدلالهم وَإِن قَالُوا نعم كابروا وَادعوا مَالا سَبِيل إِلَى مشاهدته إِذْ مُشَاهدَة قَائِل هَذَا القَوْل للأشياء هِيَ ذَات أول بِلَا شكّ وَذُو الأول هُوَ غير الَّذِي لم يزل لِأَن الَّذِي لم يزل هُوَ الَّذِي لَا أول لَهُ وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يُشَاهد مَاله أول مَالا أول لَهُ مُشَاهدَة مُتَّصِلَة فَبَطل هَذَا الِاسْتِدْلَال على كل وَجه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الثَّانِي قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ لَا يَخْلُو من أَن بِفعل لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة هَذِه قسْمَة نَاقِصَة وَينْقص مِنْهَا الْقسم الثَّالِث وَهُوَ لِأَنَّهُ فعل لَا لِأَنَّهُ وَلَا لعِلَّة أصلا لَكِن كَمَا شَاءَ لِأَن كلا الْقسمَيْنِ الْمَذْكُورين أَولا وهما أَنه فعل لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة قد بطلا بِمَا قدمنَا هُنَالك إِذْ الْعلَّة توجب إِمَّا الْفِعْل أَو التّرْك وَهُوَ تَعَالَى يفعل وَلَا يفعل فصح بذلك أَنه لَا عِلّة لفعله أصلا وَلَا لتَركه الْبَتَّةَ فَبَطل هَذَا الشغب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالُوا إِن ترك الْبَارِي تَعَالَى فِي الْأَزَل فعل مِنْهُ للترك فَفعله الَّذِي هُوَ التّرْك لم يزل قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن ترك الْبَارِي تَعَالَى الْفِعْل لَيْسَ فعلا أصلا على مَا نبين فِي فَسَاد الِاعْتِرَاض الْخَامِس إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الثَّالِث قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ يُقَال لمن قَالَ لَو كَانَ للأجسام مُحدث لم يخل من أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه أَو من بعض الْوُجُوه لَا من كلهَا أَو خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه إِلَى انْقِضَاء كَلَامهم بل هُوَ تَعَالَى خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه وإدخالكم على هَذَا الْوَجْه أَنه حَقِيقَة الضِّدّ والنقيض والضد لَا يفعل ضِدّه كَمَا لَا تفعل النَّار التبريد إِدْخَال فَاسد لِأَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِأَنَّهُ ضد لخلقه لِأَن الضِّدّ هُوَ مَا حمل التضاد والتضاد هُوَ اقتسام الشَّيْئَيْنِ طرفِي الْبعد تَحت جنس وَاحِد فَإِذا وَقع أحد الضدين ارْتَفع الآخر وَهَذَا الْوَصْف بعيد عَن الْبَارِي تَعَالَى وَإِنَّمَا التضاد كالخضرة وَالْبَيَاض اللَّذين يجمعهما اللَّوْن أَو الْفَضِيلَة والرذيلة اللَّتَيْنِ يجمعهما الْكَيْفِيَّة والخلق وَلَا يكون الضدان الأعرضين تَحت جنس وَاحِد وَلَا بُد وكل هَذَا منفي عَن الْخَالِق عز وَجل فَبَطل بِالضَّرُورَةِ أَن يكون عز وَجل ضداً لخلقه وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم لَو كَانَ خلافًا لخلقه من جَمِيع الْوُجُوه لَكَانَ ضداً لَهُم قَول فَاسد إِذْ لَيْسَ كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف الْعرض من كل وَجه حاشا الْحُدُوث فَقَط وَلَيْسَ ضداً لَهُ وَيُقَال أَيْضا لمن قَالَ هَذَا القَوْل هَل تثبت فَاعِلا وفعلاً على وَجه من الْوُجُوه أَو تَنْفِي أَن يُوجد فَاعل وَفعل الْبَتَّةَ فَإِن نفي الْفَاعِل وَالْفِعْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الْبَتَّةَ كَابر العيان لإنكاره الْمَاشِي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن وَمن دفع بِهَذَا كَانَ فِي نِصَاب من لَا يكلم وَإِن أثبت الْفِعْل وَالْفَاعِل فِيمَا بَيْننَا قيل لَهُ هَل بِفعل الْجِسْم إِلَّا الْحَرَكَة والسكون فَلَا بُد من نعم وَالْحَرَكَة والسكون خلاف الْجِسْم وَلَيْسَ ضداً لَهُ إِذْ ليسامعه تَحت جنس وَاحِد أصلا وَإِنَّمَا يجمعها وإياه الْحُدُوث فَقَط فَلَو كَانَ كل خلاف ضداً لَكَانَ الْجِسْم فَاعِلا لضده وَهُوَ الْحَرَكَة أَو السّكُون وَهَذَا هُوَ نفس مَا أبطلوا فصح بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ كل خلاف ضداً وَصَحَّ أَن الْفَاعِل يفعل خِلَافه وَلَا بُد من ذَلِك فَبَطل اعتراضهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الرَّابِع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ لَا يَخْلُو من أَن يكون مُحدث الْأَجْسَام أحدثها لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة أَو طباعاً أَو لَا لشَيْء من ذَلِك إِلَى انْقِضَاء كَلَامهم أما الْفِعْل لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ المخلوقون المختارون وَأما فعل الطباع فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ المخلوقون غير المختارين وكل صِفَات المخلوقين فَهِيَ منفية عَن الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْخَالِق لكل مَا دونه أما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَنه فعل لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا هُوَ قَوْلنَا ثمَّ نقُول لمن قَالَ إِن الْفِعْل لَا لشَيْء من ذَلِك أَمر غير مَعْقُول مَاذَا تَعْنِي بِقَوْلِك غير مَعْقُول أَتُرِيدُ أَنه لَا يعقل حسا أَو مُشَاهدَة أم تَقول أَنه لَا يعقل اسْتِدْلَالا فَإِن قلت أَنه لَا يعقل حسا ومشاهدة قُلْنَا لَك صدقت كَمَا أَن أزلية الْأَشْيَاء لَا نعقل حسا ومشاهدة وَإِن قلت إِنَّه لَا يعقل اسْتِدْلَالا كَانَ ذَلِك دَعْوَى مِنْك مفتقرة إِلَى دَلِيل وَالدَّعْوَى إِذا كَانَت هَكَذَا فَهِيَ سَاقِطَة فالاستدلال بهَا سَاقِط فَكيف وَالْفِعْل لَا لشَيْء من ذَلِك متوهم مُمكن غير دَاخل فِي الْمُمْتَنع وَمَا كَانَ هَكَذَا فالمانع مِنْهُ مُبْطل وَالْقَوْل بِهِ يعقل فَسقط هَذَا الِاعْتِرَاض ثمَّ نقُول لما كَانَ الْبَارِي تَعَالَى بالبراهين الضرورية خلافًا لجَمِيع خلقه من جَمِيع الْوُجُوه كَانَ فعله خلافًا لجَمِيع أَفعَال خلقه من جَمِيع الْوُجُوه وَجَمِيع خلقه لَا نَفْعل إِلَّا طباعاً أَو لاجتلاب مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَوَجَبَ أَن يكون فعله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الْخَامِس قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ إِن ترك الْفَاعِل أَن يفعل الْأَجْسَام لَا يَخْلُو من أَن يكون جسماً أَو عرضا إِلَى مُنْتَهى كَلَامهم إِن هَذِه قسْمَة فَاسِدَة بَيِّنَة العوار وَذَلِكَ أَن الْجِسْم هُوَ الطَّوِيل العريض العميق وَترك الْفِعْل لَيْسَ طَويلا وَلَا عريضاً وَلَا عميقاً فَترك الْفِعْل من الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ جسماً وَالْعرض هُوَ الْمَحْمُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فِي الْجِسْم وَترك فعل الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ مَحْمُولا فَلَيْسَ عرضا فَترك فعل الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ هُوَ جسماً وَلَا عرضا وَإِنَّمَا هُوَ عدم والعدم لَيْسَ معنى وَلَا هُوَ شَيْئا وَترك الله تَعَالَى للْفِعْل لَيْسَ فعلا الْبَتَّةَ بِخِلَاف صفة خلقه لِأَن التّرْك من الْمَخْلُوق للْفِعْل فعل برهَان ذَلِك إِن ترك الْمَخْلُوق للْفِعْل لَا يكون إِلَّا بِفعل آخر مِنْهُ ضَرُورَة كتارك الْحَرَكَة لَا يكون إِلَّا بِفعل السّكُون وتارك الأ كل لَا يكون إِلَّا بِاسْتِعْمَال آلَات الْأكل فِي مقاربة بَعْضهَا بَعْضًا أَو فِي مباعدة بَعْضهَا بَعْضًا وبتعويض الْهَوَاء وَغَيره من الشَّيْء الْمَأْكُول وكتارك الْقيام لَا يكون إِلَّا باشتغاله بِفعل آخر من قعُود أَو غَيره فصح أَن فعل الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف فعل خلقه وَإِن تَركه للْفِعْل لَيْسَ فعلا أصلا فَبَطل استدلالهم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإذْ قد بَطل جَمِيع مَا تعلقوا بِهِ وَلم يبْق لَهُم شغب أصلا بعون الله وتأييده فَنحْن مبتدئون بتأييده عز وَجل فِي إِيرَاد الْبَرَاهِين الضرورية على إِثْبَات حُدُوث الْعَالم بعد أَن لم يكون وَتَحْقِيق أَن لَهُ مُحدثا لم يزل لَا إِلَه إِلَّا هُوَ برهَان أول قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن كل شخص فِي الْعَالم وكل عرض فِي شخص وكل زمَان فَكل ذَلِك متناه ذُو أول نشاهد ذَلِك حسا وعياناً لِأَن تناهي الشَّخْص ظَاهر بمساحته بِأول جرمه وَآخره وَأَيْضًا بِزَمَان وجوده وتناهي الْعرض الْمَحْمُول ظَاهر بَين بتناهي الشَّخْص الْحَامِل لَهُ وتناهي الزَّمَان مَوْجُود باستئناف مَا يَأْتِي مِنْهُ بعد الْمَاضِي وفناء كل وَقت بعد وجوده واستئناف آخر يَأْتِي بعده إِذْ كل زمَان فنهايته الْآن وَهُوَ حد الزمانين فَهُوَ نِهَايَة الْمَاضِي وَمَا بعده ابْتِدَاء للمستقبل وَهَكَذَا أبدا يفنى زمَان ويبتدئ آخر وكل جملَة من جمل الزَّمَان فَهِيَ مركبة من أزمنة متناهية ذَات أَوَائِل كَمَا قدمنَا وكل جملَة أشخاص فَهِيَ مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وَذَوَات أَوَائِل كَمَا قدمنَا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذَات أَوَائِل فَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غير أَجْزَائِهِ إِذْ الْكل لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير الْأَجْزَاء الَّتِي ينْحل إِلَيْهَا وأجزاؤه متناهية كَمَا بَينا ذَات أَوَائِل فالجمل كلهَا بِلَا شكّ متناهية ذَات أَوَائِل والعالم كُله إِنَّمَا هُوَ أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها لَيْسَ الْعَالم كُله شَيْئا غير مَا ذَكرْنَاهُ وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها ذَوَات أَوَائِل كَمَا ذكرنَا فالعالم كُله متناه ذُو أول وَلَا بُد فَإِن كَانَت أجزاؤه كلهَا متناهية ذَات أول بِالْمُشَاهَدَةِ والحس وَكَانَ هُوَ غير ذِي أول وَقد أثبتنا بِالضَّرُورَةِ وَالْعقل والحس أَنه لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أَجْزَائِهِ فَهُوَ ذُو أول لَا ذُو أول وَهَذَا عين الْمحَال وَيجب من ذَلِك أَيْضا أَن لأجزائه أَوَائِل محسوسة وأجزاؤه لَيست غَيره وَهُوَ غير ذِي أول فأجزاؤه إِذن لَهَا أول لَيْسَ لَهَا أول وَهَذَا محَال وتخليط فصح بِالضَّرُورَةِ أَن للْعَالم أَولا إِذْ كل أَجْزَائِهِ لَهَا أول وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غير أَجْزَائِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان ثَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول كل مَوْجُود بِالْفِعْلِ فقد حصره الْعدَد وأحصته طَبِيعَته وَمعنى الطبيعة وَحدهَا هُوَ أَن تَقول الطبيعة هِيَ الْقُوَّة الَّتِي فِي الشَّيْء فتجري بهَا كيفيات ذَلِك الشَّيْء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِن أوجزت قلت هِيَ قُوَّة فِي الشَّيْء يُوجد بهَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَحصر الْعدَد وإحصاء الطبيعة نِهَايَة صَحِيحَة إِذْ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا إحصاء وَلَا حصر لَهُ إِذْ لَيْسَ معنى الْحصْر والإحصاء الأخم مَا بَين طرفِي المحصي المحصور والعالم مَوْجُود بِالْفِعْلِ وكل مَحْصُور بِالْعدَدِ محصي بالطبيعة فَهُوَ ذُو نِهَايَة فالعالم كُله ذُو نِهَايَة وَسَوَاء فِي ذَلِك مَا وجد فِي مُدَّة وَاحِدَة أَو مدد كَثِيرَة إِذْ لَيست تِلْكَ المدد إِلَّا مُدَّة محصاة إِلَى جنب مُدَّة محصاة فَهِيَ مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أَشْيَاء فَهُوَ تِلْكَ الْأَشْيَاء الَّتِي ركب مِنْهَا فَهِيَ كلهَا مدد محصاة كَمَا قدمنَا فِي الدَّلِيل الأول فصح من كل ذَلِك أَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى وجوده بِالْفِعْلِ وَمَا لم يُوجد إِلَّا بعد مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى وجوده أبدا لِأَن وُقُوع البعدية فِيهِ هُوَ وجود نِهَايَة لَهُ وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا بعد لَهُ فعلى هَذَا لَا يُوجد شيءٌ بعد شيءٍ أَبَد الْأَبَد والأشياء كلهَا مَوْجُودَة بَعْضهَا بعد بعض فالأشياء كلهَا ذَات نِهَايَة وَهَذَانِ الدليلان قد نبه الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا وحصرهما بحجته الْبَالِغَة إِذْ يَقُول وكل شيءٍ عِنْده بِمِقْدَار برهَان ثَالِث قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ إِذْ معنى الزِّيَادَة إِنَّمَا هُوَ أَن تضيف إِلَى ذِي النِّهَايَة شَيْئا من جنسه يزِيد ذَلِك فِي عدده أَو فِي مساحته فَإِن كَانَ الزَّمَان لَا أول لَهُ يكون بِهِ متناهياً فِي عدده الْآن فَإِذن كل مَا زَاد فِيهِ وَيزِيد مِمَّا يَأْبَى من الْأَزْمِنَة مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يزِيد ذَلِك فِي عدد الزَّمَان شَيْئا وَفِي شَهَادَة الْحس أَن كل مَا وجد من الأعوام على الْأَبَد إِلَى زَمَاننَا هَذَا الَّذِي هُوَ وَقت ولَايَة هِشَام الْمُعْتَمد بِاللَّه هُوَ أَكثر من كل مَا وجد من الأعوام على الْأَبَد إِلَى وَقت هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن لم يكن هَذَا صَحِيحا فَيجب إِذن أَنه إِذا دَار زحل دورة وَاحِدَة فِي كل ثَلَاثِينَ سنة وزحل لم يزل يَدُور دَار الْفلك الْأَكْبَر فِي تِلْكَ الثَّلَاثِينَ سنة إِحْدَى عشرَة ألف دورة غيرَة خمسين دورة والفلك لم يزل يَدُور وَإِحْدَى عشرَة ألف غير خمسين دورة أَكثر من دورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَاحِدَة بِلَا شكّ فَإِذن مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَكثر مِمَّا لَا نِهَايَة لَهُ بِنَحْوِ إِحْدَى عشرَة ألف مرّة وَهَذَا محَال لما قدمنَا وَلِأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون عدد أَكثر مِنْهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَوَجَبت فِي الزَّمَان من قبل ابْتِدَائه ضَرُورَة وَلَا مخلص مِنْهَا وَيجب أَيْضا من ذَلِك أَن الْحس يُوجب ضَرُورَة أَن أشخاص الْإِنْس مُضَافَة إِلَى أشخاص الْخَيل أَكثر من أشخاص الْإِنْس مُفْردَة عَن أشخاص الْخَيل وَلَو كَانَت الْأَشْخَاص لَا نِهَايَة لَهَا لوَجَبَ أَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَكثر مِمَّا لَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا محَال مُمْتَنع لَا يتشكل فِي الْعقل وَلَا يُمكن وَأَيْضًا فَلَا شكّ فِي أَن الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة جُزْء للزمان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا وَبلا شكّ أَيْضا فِي أَن الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا كل للزمان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة وَلما بعده إِلَى وقتنا هَذَا فَلَا يَخْلُو الحكم فِي هَذِه الْقَضِيَّة من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا إِمَّا أَن يكون الزَّمَان مذ كَانَ مَوْجُودا إِلَى وقتنا هَذَا أَكثر من الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى عصر الْهِجْرَة وَإِمَّا أَن يكون أقل مِنْهُ وَإِمَّا أَن يكون مُسَاوِيا لَهُ فَإِن كَانَ الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا من الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة فَالْكل أقل من الْجُزْء والجزء أَكثر من الْكل وَهَذَا هُوَ الِاخْتِلَاط وَعين الْمحَال إِذْ لَا يخيل على أحد أَن الْكل أَكثر من الْجُزْء وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ ببديهة الْعَمَل وضرورة الْحس وَإِن كَانَ مُسَاوِيا لَهُ فَالْكل مسَاوٍ للجزء وَهَذَا عين الْمحَال والتخليط وَإِن كَانَ أَكثر مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فالزمان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة ذُو نِهَايَة وَمعنى الْجُزْء إِنَّمَا هُوَ إبعاض الشَّيْء وَمعنى الْكل إِنَّمَا هُوَ جملَة الإيعاض فَالْكل والجزء واقعان فِي كل ذِي أبعاض والعالم ذُو أبعاض هَكَذَا تُوجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لَا بعاضه وإبعاضه أَجزَاء لَهُ وَالنِّهَايَة كَمَا قدمنَا لَازِمَة لكل ذِي كل وَذي أَجزَاء وَالزَّمَان هُوَ مُدَّة بَقَاء الجرم سَاكِنا أَو متحركاً وَلَو فَارقه لم يكن الجرم مَوْجُودا وَلَا كَانَ الزَّمَان أَيْضا مَوْجُودا والجرم وَالزَّمَان موجودان فكلاهما لم يُفَارق صَاحبه وَالزَّمَان ذُو أول والجرم ذُو أول وَهَذَا مِمَّا لَا انفكاك لَهُ الْبَتَّةَ وَأما مَا لم يَأْتِ بعد من زمَان أَو شخص أَو عرض فَلَيْسَ كل ذَلِك شَيْئا فَلَا يَقع على شَيْء من ذَلِك عدد وَلَا نِهَايَة وَلَا يُوصف بِشَيْء أصلا لِأَنَّهُ لَا وجود لَهُ بعد فَإِذا وجد لزمَه حِينَئِذٍ مَا لزم سَائِر مَا قد وجد من أجناسه وأنواعه من النِّهَايَة وَالْعدَد وَغير ذَلِك من الصِّفَات وَأَيْضًا فَلَا شكّ فِي أَن مَا وَقع من الزَّمَان وَوجد من الزَّمَان إِلَى يَوْمنَا هَذَا مسَاوٍ لما من يَوْمنَا هَذَا إِلَى مَا وَقع من الزَّمَان معكوساً وواجب فِيهِ الزِّيَادَة بِمَا يَأْتِي من الزَّمَان والمساوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لَا يَقع إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة فالزمان متناه ضَرُورَة وَقد ألزمت بعض الْمُلْحِدِينَ وَهُوَ ثَابت بن مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ فِي هَذَا الْبُرْهَان فَأَرَادَ أَن يعكسه عَليّ فِي بَقَاء الْبَارِي عز وَجل ووجودنا إِيَّاه فَأَخْبَرته بِأَن هَذَا شغب ضَعِيف مضمحل سَاقِط لِأَن الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان وَلَا لَهُ مُدَّة لِأَن الزَّمَان إِنَّمَا هُوَ حَرَكَة كل ذِي الزَّمَان وانتقاله من مَكَان إِلَى مَكَان أَو مُدَّة بَقَائِهِ سَاكِنا فِي مَكَان وَاحِد والباري تَعَالَى لَيْسَ متحركاً وَلَا سَاكِنا ولاشك أَنه لَيْسَ فِي زمَان وَلَا لَهُ مُدَّة وَلَا هُوَ فِي مَكَان أصلا وَلَيْسَ هُوَ جرما وَلَا جوهراً وَلَا عرضا وَلَا عددا وَلَا جِنْسا وَلَا نوعا وَلَا فصلا وَلَا شخصا وَلَا متحركاً وَلَا سَاكِنا وَإِنَّمَا هُوَ تَعَالَى حق فِي ذَاته مَوْجُود مُطلق بِمَعْنى أَنه مَعْلُوم لَا إِلَه غَيره وَاحِد لَا وَاحِد فِي الْعَالم سواهُ مخترع للموجودات كلهَا دونه لَا يشبه شَيْئا من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الدَّلِيل وحصره فِي قَوْله تَعَالَى يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء برهَان رَابِع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ الْعَالم لَا أول لَهُ وَلَا نِهَايَة لَهُ فالإحصاء مناله بِالْعدَدِ والطبيعة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ من أَوَائِل الْعَالم الْمَاضِيَة محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِذْ لَو أحصى ذَلِك كُله لَكَانَ لَهُ نِهَايَة ضَرُورَة فَإِذا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَكَذَلِك أَيْضا هُوَ محَال أَن تكون الطبيعة وَالْعدَد أحصيا مَا لَا نِهَايَة لَهُ من أَوَائِل الْعَالم الخالية حَتَّى يبلغَا إِلَيْنَا وَإِذا كَانَ ذَلِك محالاً فالعدد والطبيعة إِذا لم يبلغَا إِلَيْنَا وَقد تَيَقنا وُقُوع الْعدَد والطبيعة فِي كل مَا خلا من الْعَالم حَتَّى بلغا إِلَيْنَا بِلَا شكّ فَإِذا قد أحصى الْعدَد والطبيعة كل ماخلا من أَوَائِل الْعَالم إِلَى أَن بلغا إِلَيْنَا فَكَذَلِك الإحصاء منا إِلَى أولية الْعَالم صَحِيح مَوْجُود لَا ضَرُورَة بِلَا شكّ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فللعالم أَو ل ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان خَامِس قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا سَبِيل إِلَى وجود ثَان إِلَّا بعد أول وَلَا إِلَى وجود ثَالِث إِلَّا بعد ثَان وَهَكَذَا أبدا وَلَو لم يكن لأجزاء الْعَالم أول لم يكن ثَان وَلَو لم يكن ثَان لم يكن ثَالِث وَلَو كَانَ الْأَمر هَكَذَا لم يكن عدد وَلَا مَعْدُود وَفِي وجودنا جَمِيع الْأَشْيَاء الَّتِي فِي الْعَالم مَعْدُودَة إِيجَاب أَنَّهَا ثَالِث بعد ثَان وثان بعد أول وَفِي صِحَة هَذَا وجوب أول ضَرُورَة وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الدَّلِيل وعَلى الَّذِي قبله وحصرهما فِي قَوْله تَعَالَى وأحصى كل شَيْء عددا وَأَيْضًا فالآخر وَالْأول من بَاب الْمُضَاف فالآخر آخر للْأولِ وَالْأول أول للْآخر وَلَو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هَذَا بِمَا فِيهِ آخر لكل مَوْجُود قبله إِذْ لم يَأْتِ بعد فَلَيْسَ شَيْئا وَلَا وَقع عَلَيْهِ بعد شَيْء من الْأَوْصَاف فَلهُ أول ضَرُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد أَخْبرنِي بعض أصدقائنا وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة رَحمَه الله تَعَالَى أَنه عَارض بِهَذَا الْبُرْهَان بعض الْمُلْحِدِينَ وَهُوَ عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد فِي قَوْله بخلود الْجنَّة وَالنَّار وأهلهما فَقَالَ لَهُ ابْن عقبَة إِنَّمَا أَخذنَا خُلُود دَاري الْجَزَاء وخلود أهلهما بِلَا نِهَايَة على غير هَذَا الْوَجْه لَكِن على أَن الله تَعَالَى ينشئ لكل ذَلِك بَقَاء محدوداً وحركات حَادِثَة ولذات مترادفة أبدا وقتا بعد وَقت إِلَّا أَن الأول وَالْآخر جاريان حادثان فِي كل مَوْجُود من ذَلِك وَإِذا ثَبت الأول فَغير مُمْتَنع تمادي الزَّمَان حينا بعد حِين أبدا بِلَا نِهَايَة وَهَذَا مثل الْعدَد فَإِنَّهُ لَو لم يكن لَهُ أول لم يقدر أحد على عد أَي شَيْء أبدا فالعدد لَهُ أول ضَرُورَة يعرف ذَلِك بالحس والمشاهدة وَهُوَ قَوْلنَا وَاحِد فَإِن هَذَا مبدأ الْعدَد الَّذِي لَا عدد قبله ثمَّ الْأَعْدَاد يُمكن فِيهَا الزِّيَادَة أَبَد الْأَبَد لَا إِلَى غَايَة لَكِن كلما خرج مِنْهُ جُزْء إِلَى حد الْوُجُود وحد الْفِعْل فَلهُ نِهَايَة وَهَكَذَا أبدا سرمداً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَانْقَطع الشنيفي وَلم يكن عِنْده إِلَّا الشغب قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد قَالَ بعض اهل الْإِلْحَاد فِي هَذِه الْبَرَاهِين الَّتِي أَوجَبْنَا بهَا اسْتِحَالَة وجود موجودات لَا أَوَائِل لَهَا أتقولون أَن الله تَعَالَى يُوفي أهل الْجنَّة مَا وعدهم من النَّعيم الَّذِي لَا آخر لَهُ وَلَا نِهَايَة أم لَا يوفيهم مَا وعدهم فَإِن قُلْتُمْ أَنه تَعَالَى يوفيهم إِيَّاه دخل عَلَيْكُم كل مَا أدخلتموه علينا فِي هَذِه الْبَرَاهِين وَلَا فرق وَإِن قُلْتُمْ أَنه تَعَالَى لَا يوفيهم ذَلِك ألزمتموه خلف الْوَعْد وَهُوَ كفر عنْدكُمْ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلهَا فِي كتبنَا الَّتِي جمعناها فِي حُدُود الْمنطق وَهِي متفسخة من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن تعلق الْمَرْء بِمَا يَقُول خَصمه ضعف وَإِنَّمَا يلْزم الْمَرْء أَن يخلص قَوْله مُجَردا وَلَا أُسْوَة لَهُ فِي تنَاقض خَصمه بل لَعَلَّ خَصمه لَا يَقُول ذَلِك الثَّانِي أَن المسؤول بهَا إِن كَانَ جهمياً سقط عَنهُ هَذَا السُّؤَال الْمَذْكُور وَأما نَحن فعلينا بحول الله تَعَالَى بَيَان فَسَاد هَذَا الِاعْتِرَاض وتمويهه فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن من شغب أهل السفسطة إِدْخَال كلمة لَا يؤبه لَهَا يجعلونها مُقَدّمَة وَهِي كذب فيموهون بهَا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الْجُهَّال وَمَا يبنون عَلَيْهَا وَهَذَا الِاعْتِرَاض من هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَنهم أَرَادوا إلزامنا بِأَن الله عز وَجل وعد أهل الْجنَّة أَن يوفيهم نعيماً لَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا خطأ وَكذب وَمَا وعدهم الله عز وَجل قطّ بِأَن يوفيهم ذَلِك النَّعيم وَلَو وعدهم بذلك لَكَانَ ذَلِك النَّعيم إِذا استوفي بَطل وفني وانقضى وَإِنَّمَا وعدهم تَعَالَى بنعيم لَا نِهَايَة لَهُ وكل مَا ظهر وَوجد من ذَلِك النَّعيم فَهُوَ مَحْصُور ذُو نِهَايَة وَمَا لم يخرج إِلَى حد الْفِعْل فَهُوَ عدم بعد وَلَا يَقع عَلَيْهِ عدد وَلَا صفة وَهَكَذَا أبدا فقد ظهر أَن لَفْظَة بوفيهم هِيَ الشغيبة الْفَاسِدَة الَّتِي موهوا بهَا فَإِذا أسقطها الْمُعْتَرض من كَلَامه سقط اعتراضه جملَة وَصحت الْقَضِيَّة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله تَعَالَى يَقُول وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص قُلْنَا هَذَا لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون أَرَادَ بذلك نصِيبهم من الْجَزَاء وَيكون أَرَادَ نصبيهم من مساحة الْجنَّة فَإِن كَانَ عَنى عز وَجل بذلك نصِيبهم من الْجَزَاء بالعقاب وَالنَّعِيم فَهُوَ صَحِيح لِأَن كل مَا خرج من ذَلِك إِلَى حد الْوُجُود فَهُوَ مُسْتَوفى بِيَقِين وَهَكَذَا أبدا وَإِن كَانَ تَعَالَى عَنى بذلك نصيب كل وَاحِد من الْجنَّة وَالنَّار فَهَذَا صَحِيح لِأَن كل مَكَان مِنْهَا متناه من جِهَة المساحة وَإِنَّمَا نَفينَا التوفية الَّتِي توجب الِانْقِضَاء بِلَا زِيَادَة فِيهَا وَقد قَالَ عز وَجل فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تبينان أَن الْأجر المستوفي هُوَ مَا يعطونه من مساحة الْجنَّة وكل مَا خرج إِلَى الْوُجُود من النَّعيم ثمَّ لَا يزَال تَعَالَى يزيدهم من فَضله كَمَا قَالَ تَعَالَى {بِغَيْر حِسَاب} فَهَذَا لَا يَسْتَوْفِي أبدا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لَهُ وَلَا كل وَلَو استوفي لم يُمكن أَن تكون فِيهِ زِيَادَة إِذْ بِالضَّرُورَةِ يعلم أَن مَا استوفى فَلَا زِيَادَة فِيهِ وَمَا تمكن الزِّيَادَة فِيهِ فَلم يسْتَوْف بعد وَالله تَعَالَى قد نَص على أَن بعد تِلْكَ التوفية زِيَادَة فصح أَنَّهَا تَوْفِيَة لشَيْء مَحْدُود متناه وَأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يسْتَوْفى أبدا فقد ثَبت بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْعَالم ذُو أول وَإِذا كَانَ ذَا أول فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا وَهِي إِمَّا أَن يكون أحدث ذَاته وَإِمَّا أَن يكون حدث بِغَيْر أَن يحدثه غَيره وَبِغير أَن يحدث هُوَ نَفسه وَإِمَّا أَن يكون أحدثه غَيره فَإِن كَانَ هُوَ أحدث ذَاته فَلَا يَخْلُو من أحد أَرْبَعَة وُجُوه لَا خَامِس لَهَا وَهِي إِمَّا أَن يكون أحدث ذَاته وَهُوَ مَعْدُوم وَهِي مَوْجُودَة أَو أحدث ذَاته وَهُوَ مَوْجُود وَهِي مَعْدُومَة أَو أحدثها وَكِلَاهُمَا مَوْجُود أَو أحدثها وَكِلَاهُمَا مَعْدُوم وكل هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَوْجه محَال مُمْتَنع لَا سَبِيل إِلَى شَيْء مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 لِأَن الشَّيْء وذاته هِيَ هُوَ وَهُوَ هِيَ وكل مَا ذكرنَا من الْوُجُوه يُوجب أَن يكون الشَّيْء غير ذَاته وَهَذَا محَال وباطل بِالْمُشَاهَدَةِ والحس فَهَذَا وَجه قد بَطل ثمَّ نقُول وَإِن كَانَ خرج عَن الْعَدَم إِلَى الْوُجُود بِغَيْر أَن يخرج هُوَ ذَاته أَو يُخرجهُ غَيره فَهَذَا أَيْضا محَال لِأَنَّهُ لَا حَال أولى بِخُرُوجِهِ إِلَى الْوُجُود من حَال أُخْرَى وَلَا حَال أصلا هُنَالك فَإِذا لَا سَبِيل إِلَى خُرُوجه وَخُرُوجه مشَاهد مُتَيَقن فحال الْخُرُوج غير حَال اللاخروج وَحَال الْخُرُوج هِيَ عِلّة كَونه وَهَذَا لَازم فِي تِلْكَ الْحَال أَعنِي إِن حَال الْخُرُوج يلْزم فِي حدوثها مثل مَا لزم فِي حُدُوث الْعَالم من أَن تكون أخرجت نَفسهَا أَو أخرجهَا غَيرهَا أَو خرجت بِغَيْر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهَكَذَا فِي كل حَال فَإِن تمادي الْكَلَام وَجب بِمَا قدمْنَاهُ إِلَّا نِهَايَة وَإِلَّا نِهَايَة فِي الْعَالم من مبدئه بَاطِل مُمْتَنع محَال فَإِذا قد بَطل أَن يخرج الْعَالم بِنَفسِهِ وَبَطل أَن يخرج دون أَن يُخرجهُ غَيره فقد ثَبت الْوَجْه الثَّالِث ضَرُورَة إِذْ لم يبْق غَيره الْبَتَّةَ فَلَا بُد من صِحَّته وَهُوَ أَن الْعَالم أخرجه غَيره من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن الْفلك بِكُل مَا فِيهِ ذُو آثر مَحْمُولَة فِيهِ من نقلة زمانية وحركة دورية فِي كَون كل جُزْء من أَجْزَائِهِ فِي مَكَان الَّذِي يَلِيهِ والأثر مَعَ الْمُؤثر من بَاب الْمُضَاف فَإِن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وَإِن لم يكن مُؤثر لم يكن أثرٌ فَوَجَبَ بذلك أَنه لَا بُد لهَذِهِ الْآثَار الظَّاهِرَة من مؤثرٌ أَثَرهَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يكون الْفلك أَو شَيْء مِمَّا فِيهِ هُوَ الْمُؤثر لِأَنَّهُ يصير هُوَ الْمُؤثر والمؤثر فِيهِ مَعَ أَن الْمُؤثر والأثر من بَاب الْمُضَاف أَيْضا وَمعنى قَوْلنَا أَن الْمُؤثر والأثر والمؤثر فِيهِ من بَاب الْمُضَاف إِنَّمَا هُوَ أَن الْأَثر والمؤثر فِيهِ يقتضيان مؤثرا وَلَا بُد وَلم يرد أَن الْبَارِي تَعَالَى يَقع تَحت الْإِضَافَة فَلَا بُد ضَرُورَة من مُؤثر لَيْسَ مؤثراً فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا مِمَّا فِي الْعَالم فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ الْخَالِق الأول الْوَاحِد تبَارك وَتَعَالَى فصح بِهَذَا أَن الْعَالم كُله مُحدث وَأَن لَهُ مُحدثا هُوَ غَيره هَذَا الَّذِي مَا نرَاهُ ويشاهد بالحواس من آثَار الصَّنْعَة الَّتِي لَا يشك فِيهَا ذُو عقل وَمن بعض ذَلِك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اخْتِلَاف مراكزها ثمَّ أفلاك تداويرها والبون بَين حَرَكَة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لَهَا ودوران الأفلاك كلهَا من غرب إِلَى شَرق ودوران الْفلك التَّاسِع الْكُلِّي بِخِلَاف ذَلِك من شَرق إِلَى غرب وإدارته لجَمِيع الأفلاك مَعَ نَفسه كَذَلِك فَحدث من ذَلِك حركتان متعارضتان فِي حَرَكَة وَاحِدَة فالبضرورة نعلم أَن لَهَا محركاً على هَذِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الْوُجُوه الْمُخْتَلفَة ثمَّ تراكيب أَعْضَاء الْإِنْسَان وَالْحَيَوَان من إِدْخَال الْعِظَام المحدبة فِي المقعرة وتركيب العضل على تِلْكَ المداخل والشد على ذَلِك بالعصب وَالْعُرُوق صناعَة ظَاهِرَة لَا شكّ فِيهَا لَا ينقصها إِلَّا رُؤْيَة الصَّانِع فَقَط وَمن ذَلِك مَا يظْهر فِي الأصباغ الْمَوْضُوعَة فِي جُلُود كثير من الْحَيَوَان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رُتْبَة وَاحِدَة وَوضع وَاحِد لَا تخَالف فِيهِ كاضباغ الحجل والشفانين اليمام وَالسمان والبزاة وَكثير من الطير والسلاحف والحشارت والسمك لَا يخْتَلف تنقيطه الْبَتَّةَ وَلَا تكون أصباغه مَوْضُوعَة إِلَّا وضعا وَاحِدًا كأذناب الطواويس وَفِي السّمك وَالْجَرَاد والحشرات نوعا وَاحِدًا كَالَّذي يصوره المصور بَيْننَا ثمَّ مِنْهَا مَا يَأْتِي مُخْتَلفا كأصباغ الدَّجَاج وَالْحمام والبط وَكثير من الْحَيَوَان فالبضرورة والحس نعلم أَن لذَلِك صانعاً مُخْتَارًا يفعل ذَلِك كُله كَمَا شَاءَ ويحصيه إحصاء لَا يضطرب أبدا عَمَّا شَاءَ من ذَلِك وَلَيْسَ يُمكن الْبَتَّةَ فِي حس الْعقل أَن تكون هَذِه المختلفات المضبوطة ضبطاً لَا تفَاوت فِيهِ من فعل طبيعة وَلَا بُد لَهَا من صانع قَاصد إِلَى صَنْعَة كل ذَلِك وَمن دري مَا الطبيعة علم أَنَّهَا قُوَّة مَوْضُوعَة فِي الشَّيْء تجْرِي بهَا صِفَاته على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَقَط وبالضرورة يعلم أَن لَهَا وَاضِعا ومرتباً وصانعاً لِأَنَّهَا لَا تقوم بِنَفسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ يحولة على ذِي الطبيعة وَمِنْهَا مَا نرى فِي لِيف النّخل والدوم من النسج الْمَصْنُوع يَقِينا بنيرين وسدى كَالَّذي يصنعه النساج مَا تنْقصنَا إِلَّا رُؤْيَة الصَّانِع فَقَط وَلَيْسَ هَذَا الْبَتَّةَ من فعل طبيعة وَلَا بنسج ناسج وَلَا بِنَاء وَلَا صانع أصباغ مرتبَة بل صَنْعَة صانع مُخْتَار قَاصد إِلَى ذَلِك غير ذِي طبيعة لكنه قَادر على مَا يَشَاء هَذَا أَمر مَعْلُوم بضرورة الْعقل وأوله يَقِينا كَمَا نعلم أَن الثَّلَاثَة أَكثر من الِاثْنَيْنِ فصح أَنه خَالق أول وَاحِد حق لَا يشبه شَيْئا من خلقه الْبَتَّةَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْوَاحِد الأول الْخَالِق عز وَجل بَاب الْكَلَام على من قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَله مَعَ ذَلِك فَاعل لم يزل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين الَّتِي قدمنَا هَذِه الْمقَالة وَلَكِن بَقِي لَهُم اعْتِرَاض وَجب إِيرَاده تقصياً لكل مَا موهوا بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ اعْتمد أهل هَذِه الْمقَالة على أَن قَالُوا إِن عِلّة فعل الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ وجوده وحكمته وَقدرته وَهُوَ تَعَالَى لم يزل جواداً حكيماً قَادِرًا فالعالم لم يزل إِذْ علته لم تزل فَهَذَا فَاسد الْبَتَّةَ بِالدّلَالَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الَّتِي قدمنَا الَّتِي تضطر إِلَى الْمعرفَة والتيقن بحدوث الْعَالم ثمَّ نقُول أَنه إِنَّمَا يلْزم هَذَا من أقرّ بِهَذِهِ الْمُقدمَة أَعنِي أَن للْعَالم عِلّة وَأما نَحن فَإنَّا نقُول أَنه لَا عِلّة لتكوين الله عز وَجل كل مَا كَونه وَأَنه لَا شَيْء غير الْخَالِق وخلقه ثمَّ نقُول على علم هَؤُلَاءِ قولا كَافِيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ أَن الْمَفْعُول هُوَ الْمُنْتَقل من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود بِمَعْنى من لَيْسَ إِلَى شَيْء فَهَذَا هُوَ الْمُحدث وَمعنى الْمُحدث هُوَ مَا لم يكن ثمَّ كَانَ وهم يَقُولُونَ أَنه الَّذِي لم يزل وَهَذَا هُوَ خلاف الْمَعْقُول لِأَن الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ هُوَ غير الَّذِي لم يزل فالعالم إِذا هُوَ غير نَفسه وَهَذَا عين الْمحَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ لنا قَائِل لما كَانَ الْبَارِي تَعَالَى غير فَاعل على قَوْلكُم ثمَّ صَار فَاعِلا فقد لحقته اسْتِحَالَة وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذَا السُّؤَال رَاجع عَلَيْكُم إِذْ صححتموه فَهُوَ لكم لَازم لَا لنا إِذْ لم نصححه وَذَلِكَ أَنه إِن كَانَ عنْدكُمْ الْفِعْل مِنْهُ بعد أَن كَانَ غير فَاعل يرحب الاستحالة على الْفَاعِل تعال فَإِن فعله لما أحدث من الْإِعْرَاض عنْدكُمْ بعد أَن كَانَ غير مُحدث لَهَا وإعدامه مَا أعدم مِنْهَا بعد أَن كَانَ غير معدم لَهَا مُوجب عَلَيْهِ الاستحالة فأجيبوا عَن سؤلكم الَّذِي صححتموه وَلَا جَوَاب لكم إِلَّا بإفساده وَأما نَحن فَنَقُول إِن الاستحالة لَيست مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا معنى الاستحالة أَنه حُدُوث شَيْء فِي المستحيل لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك صَار بِهِ مستحيلاً عَن صفته المحمولة عَلَيْهِ إِلَى غَيرهَا وَهَذَا الْمَعْنى منفي عَن الله تَعَالَى أَي أَنه تَعَالَى بِحل عَن أَن يكون حَامِلا لصفة عَلَيْهِ بل بِذَاتِهِ لم يفعل إِن كَانَ غير فَاعل وبذاته فعل إِن فعل وَلَا عِلّة لما فعل وَلَا عِلّة لما لم يفعل وَأَيْضًا فَإِن الَّذِي لم يزل هُوَ الَّذِي لَا فَاعل لَهُ وَلَا مخرج لَهُ من عدم إِلَى وجود فَلَو كَانَ الْعَالم لم يزل لَكَانَ لَا مخرج لَهُ وَلَا فَاعل لَهُ وَقد أقرّ أهل هَذِه الْمقَالة بِأَن الْعَالم لم يزل وَإِن لَهُ فَاعِلا لم يزل يفعل وَهَذَا عين الْمحَال والتخليط وَالْفساد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بَاب الْكَلَام على من قَالَ أَن للْعَالم خَالِقًا لم يزل وَأَن النَّفس وَالْمَكَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الخلا وَالزَّمَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْمدَّة لم تزل مَوْجُودَة وَأَنَّهَا غير محدثة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ النَّفس عِنْد هَؤُلَاءِ جَوْهَر قَائِم بِنَفسِهِ حَامِل لأعراضه لَا متحرك وَلَا منقسم وَلَا مُتَمَكن أَي لَا فِي مَكَان وَقد ناظرني قوم من أهل هَذَا الرَّأْي ورأيته كالغالب على ملحدي أَهلِي زَمَاننَا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوت مِنْهَا أظهرت بطلَان قَوْلهم بعون الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقوته وَلم نر أحدا مِمَّن تكلم قبلنَا ذكر هَذِه الْفرْقَة فَجمعت مَا نظرتهم بِهِ وأضفت إِلَيْهِ مَا وَجَبت إِضَافَته إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ تزييف وَقَوْلهمْ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَهَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان عِنْدهم هما غير الْمَكَان الْمَعْهُود عندنَا وَغير الزَّمَان الْمَعْهُود عندنَا لِأَن الْمَكَان الْمَعْهُود عندنَا هُوَ الْمُحِيط بالتمكن فِيهِ من جهاته أَو من بَعْضهَا وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أما مَكَان يتشكل المتمكن فِيهِ بشكله كالبر أَو المَاء فِي الخابية وَمَا أشبه ذَلِك وَإِمَّا مَكَان يتشكل هُوَ بشكل المتمكن فِيهِ كَالْمَاءِ لما حل بِهِ من الْأَجْسَام وَمَا أشبهه وَالزَّمَان الْمَعْهُود عندنَا هُوَ مُدَّة وجود الجرم سَاكِنا أَو متحركاً أَو مُدَّة وجود الْعرض فِي الْجِسْم ويعمه أَن نقُول هُوَ مُدَّة وجود الْفلك وَمَا فِيهِ من الْحَوَامِل والمحمولات وهم يَقُولُونَ أَن الزَّمَان الْمُطلق وَالْمَكَان الْمُطلق هما غير مَا حددناه آنِفا من الزَّمَان وَالْمَكَان وَيَقُولُونَ أَنَّهُمَا شَيْئا متغايران وَلَقَد كَانَ يَكْفِي من بطلَان قَوْلهم إقرارهم بمَكَان غير مَا يعْهَد وزمان غير مَا يعْهَد بِدَلِيل على ذَلِك وَلَكِن لَا بُد من إِيرَاد الْبَرَاهِين على إبِْطَال دَعوَاهُم فِي ذَلِك بحول الله وقوته فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أخبرونا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي أثبتم وقلتم أَنه كَانَ مَوْجُودا قبل حُدُوث الْفلك وَمَا فِيهِ هَل بَطل بحدوث الْفلك مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَكَان الْفلك قبل أَن يحدث الْفلك أَو لم يبطل فَإِن قَالُوا لم يبطل وَبِذَلِك أجابني بَعضهم فَيُقَال لَهُم فَإِن كَانَ لم يبطل فَهَل انْتقل عَن ذَلِك الْمَكَان بحدوث الْفلك فِي ذَلِك الْمَكَان أَو لم ينْتَقل فَإِن قَالُوا لم ينْتَقل وَهُوَ قَوْلهم قيل لَهُم فَإِذا لم يبطل وَلَا انْتقل فَأَيْنَ حُدُوث الْفلك وَقد كَانَ فِي مَوْضِعه قبل حُدُوثه عنْدكُمْ معنى ثَابت قَائِم بِنَفسِهِ مَوْجُود وَهل حدث الْفلك فِي ذَلِك الْمَكَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْخَلَاء أم فِي غَيره فَإِن كَانَ حدث فِي غَيره فها هُنَا إِذا مَكَان آخر غير الَّذِي سميتموه خلاء وَهُوَ إِمَّا مَعَ الَّذِي ذكرْتُمْ فِي حيّز وَاحِد أم هُوَ فِي حيّز آخر فَإِن كَانَ مَعَه فِي حيّز وَاحِد فالفلك فِيهِ حدث ضَرُورَة وَقد قُلْتُمْ أَنه لم يحدث فِيهِ فَهُوَ وَإِذا حَادث فِيهِ غير حَادث فِيهِ وَهَذَا تنَاقض ومحال وَإِن كَانَ فِي حيّز آخر فقد أنبتم النِّهَايَة للحلاء إِذْ الحيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الآخر الَّذِي حدث فِيهِ الْفلك لَيْسَ هُوَ فِي ذَلِك الْخَلَاء وَهَذَا ينطوي فِيهِ بِالضَّرُورَةِ نِهَايَة الْخَلَاء الَّذِي ذكرْتُمْ فَهُوَ متناهٍ لَا متناهٍ وَهَذَا تنَاقض وتخليط وَإِذا بَطل أَن يكون غير متناهٍ وَثَبت أَنه متناه فَهُوَ الْمَكَان الْمَعْهُود الْمُضَاف إِلَى المتمكن فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا يعرف ذُو عقل سواهُ وَإِن كَانَ الْفلك حدث فِيهِ والفلك ملاء بِلَا شكّ وَلم ينْتَقل الْخَلَاء عنْدكُمْ وَلَا بَطل فالفلك إِذا خلاءٌ وملاءٌ مَعًا فِي مَكَان وَاحِد وَهَذَا محَال وتخليط فَإِن قَالُوا بَطل بحدوث الْفلك مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَوضِع الْفلك قبل حُدُوث الْفلك أَو قَالُوا انْتقل فقد أوجبوا لَهُ النِّهَايَة ضَرُورَة إِمَّا من طَرِيق الْوُجُود بِالْبُطْلَانِ إِذْ يفْسد وَيبْطل إِلَّا مَا كَانَ حَادِثا لَا مَا لم يزل وَإِمَّا من طَرِيق المساحة بالنقلة إِذْ لَو لم يجد أَيْن ينْتَقل لم تكن لَهُ نقلة إِذْ معنى النقلَة إِنَّمَا هُوَ تصيير الجرم إِلَى مَكَان لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك أَو إِلَى صفة لم يكن عَلَيْهَا قبل ذَلِك ووجوده مَكَانا ينْتَقل إِلَيْهِ مُوجب أَنه لم يكن فِي ذَلِك الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ من قبل انْتِقَاله إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ إِثْبَات النِّهَايَة ضَرُورَة فَهَذَا هُوَ الَّذِي أبطلوا ويلزمهم فِي ذَلِك أَيْضا أَن يكون متحيزا لِأَن الَّذِي بَطل مِنْهُ غير الَّذِي لم يبطل وَالَّذِي انْتقل هُوَ غير الَّذِي لم ينْتَقل وَهُوَ إِذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا هُوَ جسم ذُو أَجزَاء وَإِمَّا هُوَ مَحْمُول فِي جسم فَهُوَ يَنْقَسِم بانقسام الْجِسْم وَقد أثبتنا النِّهَايَة للجسم فِي غير هَذَا الْمَكَان من كتَابنَا هَذَا بِمَا فِيهِ الْبَيَان الضَّرُورِيّ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فَإِن كَانَ لم يبطل فَالَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي مَوضِع الْفلك ثمَّ لم يبطل وَلَا انْتقل لحدوث الْفلك فِيهِ فَهُوَ والفلك إِذا موجودان فِي حيّز وَاحِد مَعًا فَهُوَ إِذا لَيْسَ مَكَانا بالفلك لِأَن الْمَكَان لَا يكون مَعَ المتمكن فِيهِ فِي مَكَان وَاحِد وَهَذَا يعرف بأولية الْعقل وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ الْمَكَان مَكَانا لنَفسِهِ وَلما كَانَ وَاحِد مِنْهُمَا أولى بِأَن يكون مَكَانا للْآخر من الآخر بذلك وَلَا كَانَ أَحدهمَا أولى أَيْضا بِأَن يكون مُتَمَكنًا فِي الآخر من الآخر فِيهِ وكل هَذَا فَاسد ومحال بِالضَّرُورَةِ وَأَيْضًا فَإِن الْخَلَاء عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ والفلك عِنْدهم مَوْجُود فِي الْخَلَاء إِذْ لَا نِهَايَة للخلاء عِنْدهم من طَرِيق المساحة فَإِذا كَانَ الْفلك مُتَمَكنًا فِي الْخَلَاء عِنْدهم والخلاء عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ فالخلاء إِذا مَكَان فِيهِ مُتَمَكن لَيْسَ فِيهِ مُتَمَكن وَهَذَا محَال وتخليط وَهَذَا بِعَيْنِه لَازم فِي قَوْلهم إِن ذَلِك الْجُزْء من الْخَلَاء لم ينْتَقل لحدوث الْفلك فَفِيهِ فَإِن قَالُوا انْتقل فَإِنَّمَا صَار إِلَى مَكَان لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك خلاء وَلَا ملاك فقد ثَبت عدم الْخَلَاء والملاء فِيمَا فَوق الْفلك ضَرُورَة وَهَذَا خلاف قَوْلهم وَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قَالُوا بَطل لَزِمَهُم أَيْضا أَنه قد عدته المدد ضَرُورَة فَإِذا أعدته المدد فقد تناهى من أَوله بالمبدأ ضَرُورَة فَإِن قَالُوا بل لم يحدث الْفلك فِي شَيْء من ذَلِك الْمَكَان الَّذِي هُوَ الْخَلَاء فقد أثبتوا حيزاً آخر للفلك غير الْخَلَاء الشَّامِل عِنْدهم وَإِذا كَانَ ذَلِك فقد تناهى كلا المكانين من جِهَة تلاقيهما ضَرُورَة وَإِذا تناهيا من جِهَة تلاقيهما لزمتهما المساحة وَوَجَب تناهيهما لتناهي ذرعهما ضَرُورَة ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي هُوَ عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ هَل لَهُ مبدأ مُتَّصِل بصفحات الْفلك الْأَعْلَى أم لَا مبدأ لَهُ من هُنَالك وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ ضَرُورَة فَإِن قَالُوا لَا مبدأ لَهُ وَهُوَ قَوْلهم قيل لَهُم إِن قَول الْقَائِل مَكَان إِنَّمَا يفهم مِنْهُ مَا يتَمَثَّل فِي النَّفس من الْمَقْصُود بِهَذِهِ اللَّفْظَة وموضعها فِي اللُّغَة لتَكون عبارَة للتفاهم عَن المُرَاد بهَا أَنَّهَا ساحة وَلَا بُد للساحة من الذرع ضَرُورَة وَلَا بُد للذروع من مبدأ لِأَنَّهُ كمية والكمية أعداد مركبة من الْآحَاد فَإِن لم يكن لَهُ مبدأ من وَاحِد اثْنَيْنِ ثَلَاثَة لم يكن عدد وَإِذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلا وَإِذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة وَلَا انفساح وَلَا مَسَافَة وكل هَذِه أَلْفَاظ وَاقعَة إِمَّا على ذرع المذروع وَإِمَّا على مذروع بالذرع ضَرُورَة فَإِن قَالُوا لَهُ مبدأ من هُنَالك وَجَبت لَهُ النِّهَايَة ضَرُورَة لحصر الْعدَد لمساحته بِوُجُود المبدأ لَهُ ويسألون أَيْضا أمماس هَذَا الْفلك أم غير مماس وباين عَنهُ أم غير باين فَإِن قَالُوا لَا مماس وَلَا باين فَهَذَا أَمر لَا يعقل بالحس وَلَا يتشكل فِي النَّفس وَلَا يقوم على صِحَّته برهَان أبدا إِلَّا فِي الْأَعْرَاض المحمولة فِي الْأَجْسَام وهم لَا يَقُولُونَ أَن الْخَلَاء عرض مَحْمُول فِي جسم وكل دَعْوَى لم يقم عَلَيْهَا دَلِيل فَهِيَ بَاطِلَة مَرْدُودَة وَإِن أثبتوا المماسة أَو المباينة وَجب عَلَيْهِم ضَرُورَة إِثْبَات النِّهَايَة لَهُ كَمَا لزم بِإِثْبَات المبدأ إِذْ النِّهَايَة منطوية فِي ذكر المبدأ والمماسة أَو المباينة ضَرُورَة لَا شكّ فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي يذكرُونَ وَالزَّمَان الَّذِي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أَحدهمَا مَحْمُول وَالثَّانِي حَامِل أم كِلَاهُمَا لَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَأَيّهمَا أجابوا فِيهِ فَإِنَّهُ حَامِل بِلَا شكّ فِي أَن محموله غَيره إِذْ لَا يكون الشَّيْء حَامِلا لنَفسِهِ فَلهُ إِذا مَحْمُول لم يزل وَهُوَ غير الزَّمَان فَإِن قَالُوا ذَلِك كلموا بِمَا قدمنَا قبل على أهل الدَّهْر قائلين بأزلية الْعَالم وَأَيْضًا فَإِن كَانَ الْمَكَان حَامِلا فَلَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون حَامِلا لجرم مُتَمَكن فِيهِ وَهَذَا يُوجب النِّهَايَة نِهَايَة لَهُ لوُجُوب نِهَايَة لوُجُوب الجرم المتمكن فِيهِ بِالدّلَالَةِ الَّتِي قدمنَا فِي إِثْبَات نهايات الأجرام وَإِمَّا أَن يكون حَامِلا لكيفياته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فَإِن كَانَ حَامِلا لكيفياته فَهُوَ مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذِي حس سليم أَن كل مركب فَهُوَ متناه بالجرم وَالزَّمَان بالدلائل الَّتِي قدمنَا وَلَا سَبِيل إِلَى حمل ثَالِث وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ أَنه مَحْمُول فَإِنَّهُ يَقْتَضِي حَامِلا وبعكس الدَّلِيل الَّذِي ذكرنَا آنِفا سَوَاء بِسَوَاء وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ أَنه حَامِل مَحْمُول وَجب كل مَا ذكرنَا فِيهِ أَيْضا بعكسه وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ لَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَلَا يَخْلُو من أَن يكون بَاقِيا أَو يكون بَقَاء فَإِن كَانَ بَاقِيا فَهُوَ مفتقرا إِلَى بقاءٍ وَهُوَ مدَّته إِذْ لَا بَاقِي إِلَّا بِبَقَاء وَإِن كَانَ بَقَاء فَلَا بُد لَهُ من بَاقٍ وَهُوَ من بَاب الْإِضَافَة والمدة هِيَ الْبَقَاء إِنَّمَا هِيَ مَحْمُولَة وناعتة للْبَاقِي بهَا ضَرُورَة هَذَا الَّذِي لَا يقوم فِي الْعقل سواهُ وَلَا يقوم برهَان إِلَّا عَلَيْهِ ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الزَّمَان الَّذِي يذكرُونَ هَل زَاد فِي مُدَّة اتِّصَاله مذ حدث الْفلك إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو لم يزدْ ذَلِك فِي أمده فَإِن قَالُوا لم يزدْ ذَلِك فِي أمده كَانَت مُكَابَرَة لِأَنَّهَا مُدَّة مُتَّصِلَة بهَا مُضَافَة إِلَيْهَا وَعدد زَائِد على عدد فَإِن قَالُوا زَاد ذَلِك فِي أمده سئلوا مَتى كَانَت تِلْكَ الْمدَّة أطول أقبل الزِّيَادَة أم هِيَ وَهَذِه الزِّيَادَة مَعًا فَإِن قَالُوا هِيَ وَالزِّيَادَة مَعهَا فقد أثبتوا النِّهَايَة ضَرُورَة إِذْ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَلَا يكون شَيْء مُسَاوِيا لَهُ وَلَا أَكثر مِنْهُ وَلَا أنقص مِنْهُ وَلَا يكون هُوَ أَيْضا مفصلا أصلا فَلَا يكون مُسَاوِيا لنَفسِهِ كَمَا هُوَ وَلَا أَكثر من نَفسه وَلَا أقل مِنْهَا فَإِن قَالُوا لَيست هِيَ وَالزِّيَادَة مَعهَا أطول مِنْهَا قبل الزِّيَادَة فقد أثبتوا أَن الشَّيْء وَغَيره مَعَه لَيْسَ أَكثر مِنْهُ وَحده وَهَذَا بَاطِل وهم يَقُولُونَ إِن الحلاء وَالزَّمَان الْمُطلق شيئآن متعايران فَيُقَال لَهُم فَإِذا هما كَذَلِك فَبِأَي شَيْء انْفَصل بعضهما من بعض فَإِن قَالُوا انْفَصل بِشَيْء مَا وَذكروا فِي ذَلِك أَي شَيْء ذَكرُوهُ فقد أثبتوا لَهما التَّرْكِيب من جنسهما وفصلهما وَأَيْضًا فجعلهم لَهما شَيْئَيْنِ إِيقَاع مِنْهُم للعدد عَلَيْهِمَا وكل عدد فَهُوَ متناه مَحْصُور وكل مَحْصُور فقد سلكته الطبيعة وكل مَا سلكته الطبيعة فَهُوَ متناه ضَرُورَة فَإِن أَرَادوا ألزامنا فِي الْبَارِي تَعَالَى مثل مَا ألزمناهم فِي هَذَا السُّؤَال فَقَالُوا أَيّمَا أَكثر الْبَارِي تَعَالَى وَحده أم الْبَارِي وخلقه مَعًا قُلْنَا هَذَا سُؤال فَاسد بالبرهان الضَّرُورِيّ لِأَن هَذَا الْبُرْهَان إِنَّمَا هُوَ على وجوب حُدُوث الزَّمَان وَمَا لم يَنْفَكّ من الزَّمَان وعَلى حُدُوث النوامي وَأَيْضًا فَإِن الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ عددا وَلَا بعض عدد وَلَيْسَ هُوَ أَيْضا معدوداً وَلَا بَعْضًا لمعدود لِأَن وَاحِدًا لَيْسَ عددا بالبرهان الَّذِي نورده فِي الْبَاب الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلَا وَاحِد على الحققة إِلَّا الله عز وَجل فَقَط فَهُوَ الَّذِي لَا يكترث الْبَتَّةَ وَلَا ينضاف إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 سواهُ إِذْ لَا يجمعه مَعَ شَيْء سواهُ عدد وَلَا صفة الْبَتَّةَ لِأَن كل مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم وَاحِد مِمَّا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ مجَاز لَا حَقِيقَة لِأَنَّهُ إِذا قسم استبان أَنه كَانَ كثيرا لَا وَاحِدًا فَلذَلِك وَقع الْعدَد على الأجرام والأعداد الْمُسَمَّاة آحاداً فِي الْعَالم وَأما الْوَاحِد فِي الْحَقِيقَة فَهُوَ الَّذِي لَيْسَ كثيرا أصلا وَلَا يتكثر بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَا يَقع عَلَيْهِ عدد بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ وَاحِدًا إِلَّا وَاحِدًا كثيرا إِلَّا كثيرا وَهَذَا تَخْلِيط ومحال وممتنع لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَلَا يجوز أَن يُضَاف الْوَاحِد الأول إِلَى شَيْء مِمَّا دونه لَا فِي عدد وَلَا كمية وَلَا فِي جنس وَلَا فِي صفة وَلَا فِي معنى من الْمعَانِي أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله تَعَالَى مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا أَكثر إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى هُوَ رابعهم وَهُوَ سادسهم إِنَّمَا هُوَ فعل فعله فيهم وَهُوَ أَن ربعهم بإحاكته بهم لَا بِذَاتِهِ وسدسهم بإحاطته لَا بِذَاتِهِ أَو قد يربعهم بِملك يشرف عَلَيْهِم ويسدسهم كَذَلِك وبرهان هَذَا القَوْل أَن الله تبَارك وَتَعَالَى إِنَّمَا عَنى بِهَذِهِ الْآيَة بِلَا خلاف بل بضرورة الْعقل من كل سامع أَنه لَا يخفي عَلَيْهِ نَجوَاهُمْ وَهَذَا نَص الْآيَة لِأَنَّهُ تَعَالَى افتتحها بِذكر نجوى المتناجين إِنَّمَا أَرَادَ عز وَجل علمه بنجواهم إِلَّا أَنه مَعْدُود مَعَهم بِذَاتِهِ إِلَى ذواتهم حاشى لله من ذَلِك إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع الْخَارِج عَن رُتْبَة الْأَعْدَاد والمعدودين أَن يكون الله عز وَجل معبودا بِذَاتِهِ مَعَ ثَلَاثَة بِالْهِنْدِ وَمَعَ ثَلَاثَة بالسند وَمَعَ ثَلَاثَة بالعراق وَمَعَ ثَلَاثَة بالصين فِي وَقت وَاحِد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ الَّذين هُوَ رابعهم بِالْهِنْدِ مَعَ الثَّلَاثَة الَّذين هُوَ رابعهم بالصين ثَمَانِيَة لأَنهم أَرْبَعَة وَأَرْبَعَة بِلَا شكّ فَكَأَن تَعَالَى حِينَئِذٍ يكون اثْنَيْنِ وَأكْثر وَهَذَا محَال وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ بِذَاتِهِ سادساً لخمسة هَا هُنَا سِتَّة ورابعاً لثَلَاثَة هُنَالك فهم أَرْبَعَة فهم كلهم بِلَا شكّ عشرَة فَهُوَ إِذا اثْنَان وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة نَفسهَا إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا إِنَّمَا أضَاف الأينية إِلَيْهِم لَا إِلَى نَفسه تَعَالَى مَعْنَاهُ أَيْنَمَا كَانُوا فَهُوَ تَعَالَى مَعَهم بإحاطته إِذْ محَال أَن يكون بِذَاتِهِ فِي مكانين فَبَطل اعتراضهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَلَيْسَ قَول الْقَائِل الله وَرَسُوله أَو الله وَعمر مِمَّا يعْتَرض بِهِ علينا لأننا لم نمْنَع من ضم اسْمه تَعَالَى إِلَى اسْم غَيره لِأَن الِاسْم كلمة مركبة من حُرُوف الهجاء وَإِنَّمَا منعنَا من أَن تعد ذَاته تَعَالَى مَعَ شَيْء غَيره إِذْ الْعدَد إِنَّمَا هُوَ جمع شَيْء إِلَى غَيره فِي قَضِيَّة مَا وَالله تَعَالَى لَا يجمعه وخلقه شَيْء أصلا فصح انْتِفَاء الْعدَد عَنهُ تَعَالَى وَإِذا صَحَّ انْتِفَاء الْعدَد عَنهُ صَحَّ أَنه لَيْسَ معدوداً الْبَتَّةَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ويسألون أَيْضا هَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان اللَّذَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يذكران أَهما واقعان تَحت الْأَجْنَاس والأنواع أم لَا وَهل هما واقعان تَحت المقولات الْعشْر أم لَا فَإِن قَالُوا لَا فقد نفوهما أصلا وأعدموهما الْبَتَّةَ إِذْ لَا مقول من الموجودات إِلَّا هُوَ وَاقع تحتهَا وَتَحْت الْأَجْنَاس والأنواع حاشى الْحق الأول الْوَاحِد الْخَالِق عز وَجل الَّذِي علم بضرورة الدَّلَائِل وَوَجَب بهَا خُرُوجه عَن الْأَجْنَاس والأنواع والمقولات وَبِالْجُمْلَةِ شاؤا أَو أَبَوا فالخلاء وَالزَّمَان الْمُطلق اللَّذَان يذكران كَانَا موجودين فهما واقعان تَحت جنس الكمية وَالْعدَد ضروررة فَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فَهَذَا الزَّمَان الَّذِي ندريه نَحن وهم وَذَلِكَ الزَّمَان الَّذِي يَدعُونَهُ هما واقعان جَمِيعًا تَحت جنس وَاحِد مَتى وَكَذَلِكَ الْمَكَان الَّذِي يَدعُونَهُ وَاقع مَعَ الْمَكَان الَّذِي نعرفه نَحن وهم تَحت جنس أَيْن وبالضرورة يجب أَن مَا لزم بعض مَا نحت الْجِنْس مِمَّا يُوجِبهُ لَهُ الْجِنْس فَإِنَّهُ لَازم لكل مَا تَحت ذَلِك الْجِنْس وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فهما مركبان وَالنِّهَايَة فيهمَا مَوْجُودَة ضَرُورَة إِذْ المقولات كلهَا كَذَلِك وَأَيْضًا فَإِن الْمَكَان لَا بُد لَهُ من مُدَّة يُوجد فِيهَا ضَرُورَة فنسألهم هَل تِلْكَ الْمدَّة هِيَ الزَّمَان الَّذِي يَدعُونَهُ أم هِيَ غَيره فَإِن كَانَت هِيَ هُوَ فَهُوَ زمَان للمكان فَهُوَ مَحْمُول فِي الْمَكَان فَهُوَ ككل زمَان لذِي الزَّمَان فَلَا فرق وَإِن كَانَت غَيره فها هُنَا إِذن زمَان ثَالِث غير مُدَّة ذَلِك الْمَكَان وَغير الزَّمَان الَّذِي ندريه نَحن وهم وَهَذِه وساوس لَا يعجز عَن ادعائها كل من لم يبال بِمَا يَقُول وَلَا استحيا من فضيحة وَيُقَال لَهُم إِذْ لَيْسَ الْمَكَان الَّذِي تَدعُونَهُ وَالزَّمَان الَّذِي تَدعُونَهُ واقعين مَعَ الْمَكَان الْمَعْهُود وَالزَّمَان الْمَعْهُود تَحت جنس وحدٍ وَاحِد فَلم سميتموه مَكَانا وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لَهما ليبعدا بذلك عَن الْإِشْكَال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشركة فَإِن كَانَا مَعَ الزَّمَان وَالْمَكَان المعهودين تَحت حد وَاحِد فقد بطلت دعواكم زَمَانا ومكاناً غير الزَّمَان وَالْمَكَان المعهودين بِالضَّرُورَةِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان غير المعهودين أَهما دَاخل الْفلك أم خَارجه فَإِن قَالُوا هما دَاخل الْفلك فالخلاء إِذا هُوَ الملاء وَالْمَكَان إِذا فِي التَّمَكُّن يَعْنِي فِي دَاخله وَهَذَا محَال وَالزَّمَان إِذن هُوَ الَّذِي لَا يعرف غَيره وَإِن قَالُوا هما خَارج الْفلك أوجبوا لَهما نِهَايَة ابْتِدَاء مِمَّا هُوَ خَارج الْفلك وَإِن قَالُوا لَا خَارج وَلَا دَاخل فَهَذِهِ دَعْوَى مفتقرة إِلَى برهَان وَلَا برهَان على صِحَّتهَا فَهِيَ بَاطِل فَإِن قَالُوا أَنْتُم تَقولُونَ هَذَا فِي البارىء تَعَالَى قُلْنَا لَهُم نعم لِأَن الْبُرْهَان قد قَامَ على وجوده فَلَمَّا صَحَّ وجوده تَعَالَى قَامَ الْبُرْهَان بِوُجُوب خِلَافه لكل مَا فِي الْعَالم على أَنه لَا دَاخل وَلَا خَارج وَأَنْتُم لم يَصح لكم برهَان على وجود الْخَلَاء وَالزَّمَان الَّذِي تَدعُونَهُ فَصَارَ كلامكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كُله دَعْوَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلم نجد لَهُم سؤالاً أصلا وَلَا أتونا قطّ بِدَلِيل فنورده عَنْهُم وَلَا وجدنَا لَهُم شَيْئا يُمكن الشغب بِهِ فِي أزلية الْخَلَاء والمدة فنورده عَنْهُم وَإِن لم ينتبهوا وَإِنَّمَا هُوَ رَأْي قلدوا فِيهِ بعض قدماء الْمُلْحِدِينَ فَقَط وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّا يبطل بِهِ الْخَلَاء الَّذِي سموهُ مَكَانا مُطلقًا وَذكروا أَنه لايتناهي وَأَنه مَكَان مُتَمَكن فِيهِ برهَان ضَرُورِيّ لانفكاك مِنْهُ وأطرف شَيْء أَنه برهانهم الَّذِي موهوا بِهِ وشغبو بإيراده وَأَرَادُوا بِهِ إِثْبَات الْخَلَاء وَهُوَ أننا نرى الأَرْض وَالْمَاء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق وَنَحْو ذَلِك طباعها السّفل أبدا وَطلب الْوسط والمركز وَأَنَّهَا لَا تفارق هَذَا الطَّبْع فتصعد إِلَّا بقسر يغلبها وَيدخل عَلَيْهَا كرفعنا المَاء وَالْحجر قهرا فَإِذا رفعناهما ارتفعا فَإِذا تركناهما عادا إِلَى طبعهما بالرسوب ونجد النَّار والهواء طبعهما الصعُود والبعد عَن المركز وَالْوسط وَلَا يفارقان هَذَا الطَّبْع إِلَّا بحركة قسراً تدخل عليهمو وَيرى ذَلِك عيَانًا كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب فِي المَاء فَإِذا زَالَت تِلْكَ الْحَرَكَة القسرية رجعا إِلَى طبعهما ثمَّ نجد الْإِنَاء الْمُسَمّى سارقة المَاء يبقي المَاء فِيهَا صعداً وَلَا ينسفك ونجد الزراقة ترفع التُّرَاب والزئبق وَالْمَاء ونجد الزرافة ترفع التُّرَاب والزئبق وَالْمَاء ونجد إِذا حفرنا بِئْرا امْتَلَأَ هَوَاء وسفل الْهَوَاء حِينَئِذٍ ونجد المحجمة تمس الْجِسْم الأرضي إِلَى نَفسهَا فَلَيْسَ كل هَذَا إِلَّا لأحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا عدم الْخَلَاء جملَة كَمَا نقُول نَحن وَإِمَّا لِأَن طبع الْخَلَاء يجتذب هَذِه الْأَجْسَام إِلَى نَفسه كَمَا يَقُول من يثبت الْخَلَاء فَنَظَرْنَا فِي قَوْلهم أَن طبع الْخَلَاء يجتذب هَذِه الْأَجْسَام إِلَى نَفسه كَمَا يَقُول من يثبت الْخَلَاء فوجدناه دَعْوَى بِلَا دَلِيل فَسقط ثمَّ تأملناه أُخْرَى فوجدناه عَائِدًا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ إِذا اجتذبت الْأَجْسَام وَلَا بُد فقد صَار ملاء فالملاء حَاضر مَوْجُود والخلاء دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا فَسَقَطت وَثَبت عدم الْخَلَاء ثمَّ نَظرنَا فِي قَوْلنَا فوجدناه يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ أننا لم نجد إِلَّا بالحس وَلَا بتوهم الْعقل بالإمكان مَكَانا يبْقى خَالِيا قطّ دون مُتَمَكن فصح الملاء بِالضَّرُورَةِ وَبَطل الْخَلَاء إِذْ لم يقم عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا وجد قطّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نقُول لَهُم إِن كَانَ خَارج الْفلك خلاء على قَوْلكُم فَلَا يَخْلُو من أَن يكون من جنس هَذَا الْخَلَاء الَّذِي تدعون أَنه يجتذب الْأَجْسَام بطبعه أَو يكون من غير جنسه وَلَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ ضررة وَلَا سَبِيل إِلَى ثَالِث الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا هُوَ من جنسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَهُوَ قَوْلهم فقد أقرُّوا بِأَن طبع هَذَا الْخَلَاء الْغَالِب بِجَمِيعِ الطبائع هُوَ أَن يجتذب المتمكنات إِلَى نَفسه فيمتلىء بهَا حَتَّى أَنه يحِيل قوى العناصر عَن طباعها فَوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْخَلَاء الْخَارِج عَن الْفلك لذَلِك أَيْضا ضَرُورَة لِأَن هَذِه صفة طبعه وجنسه فَوَجَبَ بذلك ضَرُورَة أَن يكون مُتَمَكنًا فِيهِ وَلَا بُد وَإِذا كَانَ هَذَا وَذَلِكَ الْخَلَاء عِنْدهم لَا نِهَايَة لَهُ فالجسم الماليء لَهُ أَيْضا لَا نِهَايَة لَهُ وَقد قدمنَا الْبَرَاهِين الضرورية أَنه لَا يجوز وجود جسم لَا نِهَايَة لَهُ فالخلاء بَاطِل وَلَو كَانَ ذَلِك أَيْضا لَكَانَ مَلأ لَهُ خلاء وَهَذَا خلاف قَوْلهم فَإِن قَالُوا بل ذَلِك الْخَلَاء هُوَ من غير جنس هَذَا الْخَلَاء يُقَال لَهُم فَبِأَي شَيْء عرفتموه وَبِمَ استدللتم عَلَيْهِ وَكَيف وَجب أَن تسموه خلاء وَهُوَ لَيْسَ خلاء وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وهم فِي هَذَا سَوَاء وَمن قَالَ أَن فِي مَكَان خَارج من الْعَالم نَاسا لَا يحدون بِحَدّ النَّاس وَلَا هم كهؤلاء النَّاس أَو من قَالَ أَن فِي خَارج الْفلك نَارا محرقة لَيست من جنس هَذِه النَّار وكل هَذَا حمق وهوس الْكَلَام على من قَالَ أَن فَاعل الْعَالم ومدبره أَكثر من وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ افترق الْقَائِلُونَ بِأَن فَاعل الْعَالم أَكثر من وَاحِد فرقا ثمَّ ترجع هَذِه الْفرق إِلَى فرْقَتَيْن فإحدى الْفرْقَتَيْنِ تذْهب إِلَى أَن الْعَالم غير مدبريه وهم الْقَائِلُونَ بتدبير الْكَوَاكِب السَّبْعَة وأزليتها وهم الْمَجُوس فَإِن الْمُتَكَلِّمين ذكرُوا عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ أَن الْبَارِي عز وَجل لما طَالَتْ وحدته استوحش فَلَمَّا استوحش فكر فكرة سوءٍ فتجسمت فاستحالت ظلمَة فَحدث مِنْهَا اهرمن وَهُوَ إِبْلِيس فرام البارىء تَعَالَى إبعاده عَن نَفسه يسْتَطع فتحرز مِنْهُ بِخلق الْخيرَات وَشرع اهرمن فِي خلق الشَّرّ وَلَهُم فِي ذَلِك تَخْلِيط كثير قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَمر لَا تعرفه الْمَجُوس قَوْلهم الظَّاهِر هُوَ أَن الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ أورمن وابليس وَهُوَ اهرمن وكام وَهُوَ الزَّمَان وجام وَهُوَ الْمَكَان وَهُوَ الْخَلَاء أَيْضا ونوم وَهُوَ الْجَوْهَر وَهُوَ أَيْضا الهيولي وَهُوَ أَيْضا الطينة والخميرة خَمْسَة لم تزل وَإِن اهرمن هُوَ فَاعل الشرور وَإِن اورمن فَاعل الْخيرَات وَإِن نوم هُوَ الْمَفْعُول فِيهِ كل ذَلِك وَقد أفردنا فِي نقض هَذِه الْمقَالة كتابا جمعناه فِي نقض كَلَام مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب فِي كِتَابه الموسوم بِالْعلمِ الإلهي وَالْمَجُوس يعظمون الْأَنْوَار والنيران والمياه إِلَّا أَنهم يقرونَ بنبوة زرادشت وَلَهُم شررائع يضيفونها إِلَيْهِ وَمِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المزدقية وهم أَصْحَاب مزدق الموبذ وهم الْقَائِلُونَ بالمساواة فِي المكاسب وَالنِّسَاء والخزمية أَصْحَاب بابك وهم فرقة من فرق المزدقية وهم أَيْضا سر مَذْهَب الإسماعيليلة وَمن كَانَ على قَول القرامطة وَبني عبيد وعنصرهم وَقد يُضَاف إِلَى جملَة من قَالَ أَن مُدبر الْعَالم أَكثر من وَاحِد الصابئون وهم يَقُولُونَ بقدم الأصليين على مَا قدمنَا نَحن قَول الْمَجُوس إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ بتعظيم الْكَوَاكِب السَّبْعَة والبروج الاثْنَي عشر ويصورونها فِي هياكلهم ويقربون الذَّبَائِح والدخن وَلَهُم صلوَات خمس فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة تقرب من صلوَات الْمُسلمين وَيَصُومُونَ شهر رَمَضَان ويستقبلون فِي صلَاتهم الْكَعْبَة وَالْبَيْت الْحَرَام ويعظمون مَكَّة والكعبة ويحرمون الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير ويحرمون من القرائب مَا يحرم على الْمُسلمين وعَلى نَحْو هَذِه الطَّرِيقَة تفعل الْهِنْد بالبددة فِي تصويرها على أَسمَاء الْكَوَاكِب وتعظيمها وَهُوَ كَانَ أصل الْأَوْثَان فِي الْعَرَب والدقاقرة فِي السودَان حَتَّى آل الْأَمر مَعَ طول الزَّمَان إِلَى عِبَادَتهم إِيَّاهَا وَكَانَ الَّذِي يَنْتَحِلهُ الصائبون أقدم الْأَدْيَان على وَجه الدَّهْر وَالْغَالِب على الدُّنْيَا إِلَى أَن أَحْدَثُوا فِيهِ الْحَوَادِث وبدلوا شرائعه بِمَا ذكرنَا فَبعث الله عز وَجل إِلَيْهِم إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدين الْإِسْلَام الَّذِي نَحن عَلَيْهِ الْآن وَتَصْحِيح مَا أفسدوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بالحنفية السمحة الَّتِي أَتَى بهَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد الله تَعَالَى فَبين لَهُم كَمَا نَص فِي الْقُرْآن بطلَان مَا أحدثوه من تَعْظِيم الْكَوَاكِب وعبادتها وَعبادَة الْأَوْثَان فلقي مِنْهُم مَا نَصه الله فِي كِتَابه وَكَانُوا فِي ذَلِك الزَّمَان وَبعده يسمون الحنفاء وَمِنْهُم الْيَوْم بقايا بحران وهم قَلِيل جدا فَهَذِهِ فرقة وَيدخل من هَذِه الْفرْقَة من وَجه وَيخرج مِنْهَا من وَجه آخر النَّصَارَى فَأَما الْوَجْه الَّذِي يدْخلُونَ بِهِ فَهُوَ قَوْلهم بالتثليث وَأَن خَالق الْخلق ثَلَاثَة وَأما الْوَجْه الَّذِي يخرجُون بِهِ فَهُوَ أَن للصابئين شرائع يسندونها إِلَى هرمس وَيَقُولُونَ أَنه إِدْرِيس وَإِلَى قوم آخر يذكرُونَ أَنهم أَنْبيَاء كايلون وَيَقُولُونَ أَنه نوح عَلَيْهِ السَّلَام واسفلانيوس صَاحب الهيكل الْمَوْصُوف وعاظميون ويوداسف وَغَيرهم وَالنَّصَارَى لَا يعْرفُونَ هَؤُلَاءِ لَكِن يقرونَ بنبوة نَبِي تعرفه من بني إِسْرَائِيل وَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا يعْرفُونَ نبوة إِسْمَاعِيل وَصَالح وَهود وَشُعَيْب وَيُنْكِرُونَ نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى إخْوَته الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام والصابئون لَا يقرونَ بنبوة أحد مِمَّن ذكرنَا أصلا وَكَذَلِكَ الْمَجُوس لَا يعْرفُونَ إِلَّا زرادشت فَقَط وَأما الْفرْقَة الثَّانِيَة فَإِنَّهَا تذْهب إِلَى أَن الْعَالم هُوَ مدبروه لَا غَيرهم الْبَتَّةَ وهم الديصانية والمزقونية والمانية الْقَائِلُونَ بأزلية الطبائع الْأَرْبَع بسائط غير ممتزجة ثمَّ حدث الامتزاج فَحدث الْعَالم بامتزاجها فَأَما المانية فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَن أصلين لم يَزَالَا وهما نور الظلمَة وَأَن النُّور والظلمة حَيَّة وَأَن كليهمَا غير متناه إِلَّا من الْجِهَة الَّتِي لَاقَى مِنْهَا الآخر وَأما من جهاته الْخمس فَغير متناه وأنهما جرمان وَثمّ لَهُم فِي وصف امتزاجهم أَشْيَاء شَبيهَة بالخرافات وهم أَصْحَاب ماني وَقَالَ المتكلمون أَن ديصان كَانَ تلميذ ماني وَهَذَا خطأٌ بل كَانَ أقدم من ماني لِأَن ماني ذكره فِي كتبه ورد عَلَيْهِ وهما متفقان فِي كل مَا ذكرنَا إِلَّا أَن الظلمَة عِنْد ماني حَيَّة وَقَالَ ديصان هِيَ موَات وَكَانَ ماني رَاهِبًا بحران وأحدث هَذَا الدّين وَهُوَ الَّذِي قَتله الْملك بهْرَام بن بهْرَام إِذْ ناظره بِحَضْرَتِهِ إذرباذ بن ماركسفند موبذ مو بذان فِي مَسْأَلَة قطع النَّسْل وتعجيل فرَاغ الْعَام فَقَالَ لَهُ الموبذ أَنْت الَّذِي تَقول بِتَحْرِيم النِّكَاح ليستعجل فنَاء الْعَالم وَرُجُوع كل شكل إِلَى شكله وَأَن ذَلِك حق وَاجِب فَقَالَ لَهُ ماني وَاجِب أَن يعان النُّور على خلاصه بِقطع النَّسْل مِمَّا هُوَ فِيهِ من الامتزاج فَقَالَ لَهُ أذر باذ فَمن الْحق الْوَاجِب أَن يعجل لَك هَذَا الْخَلَاص الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ وتعان على إبِْطَال هَذَا الامتزاج المذموم فَانْقَطع ماني فَأمر بهْرَام بقتل ماني فَقتل هُوَ وَجَمَاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 من أَصْحَابه وهم لَا يرَوْنَ الذَّبَائِح وَلَا إيلام الْحَيَوَان وَلَا يعْرفُونَ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَحده وهم يقرونَ بنبوة زرادشت وَيَقُولُونَ بنبوة ماني وَقَالَت المزقزنية أَيْضا كَذَلِك إِلَّا أَنهم قَالُوا نور وظلمة لم يَزَالَا وثالث أَيْضا بَينهمَا لم يزل إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ كلهم متفقون على أَن هَذِه الْأُصُول لم تحدث شَيْئا هُوَ غَيرهَا لَكِن حدث من امتزاجها وَمن أبعاضها بالاستحالة صور الْعَالم كُله فَهَذِهِ الْفرق كلهَا مطبقة على أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد وَإِن اخْتلف فِي الْعدَد وَالصّفة وَكَيْفِيَّة الْعقل وإلزامات الشَّرَائِع وكلامنا هَذَا كَلَام اخْتِصَار وإيجاز وَقصد إِلَى اسْتِيعَاب قَوَاعِد الِاسْتِدْلَال والبراهين الضرورية والنتائج الْوَاجِبَة من الْمُقدمَات الأولية الصَّحِيحَة وإضراب عَن الشغب والتطويل الَّذِي يَكْتَفِي بِغَيْرِهِ عَنهُ فَإِنَّمَا وكدنا بعون الله تَعَالَى أَن نبين بالبراهين الضرورية أَن الْفَاعِل وَاحِد لَا أَكثر الْبَتَّةَ ونبين بطلَان أَن يكون أَكثر من وَاحِد كَمَا فعلنَا بتأييد الله عز وَجل إِذْ بَينا بالبراهين الضرورية أَن الْعَالم مُحدث كَانَ بعد أَن لم يكن وَإِن لَهُ مخترعاً مُدبرا لم يزل وَسَقَطت خرافاتهم المضافة إِلَى الْأَوَائِل الْفَاسِدَة فِي وَصفهم الفاعلين وَكَيْفِيَّة أفعالهم إِذْ لاتكون صفة إِلَّا لموصوف فَإِذا بَطل الْمَوْصُوف بطلت الصّفة الَّتِي وصفوه بهَا وَأما الِاشْتِغَال أحكامهم الشَّرْعِيَّة فلسنا من ذَلِك فِي شَيْء لِأَنَّهُ لَيْسَ من الشَّرَائِع العلمية شَيْء يُوجِبهُ الْعقل وَلَا شَيْء يمْنَع مِنْهُ الْعقل بل كلهَا من بَاب الْمُمكن فَإِذا قَامَت الْبَرَاهِين الضرورية على قَول الْآمِر بهَا وَوُجُوب طَاعَته وَجب قبُول كل مَا أَتَى بِهِ كَائِنا مَا كَانَ من الْأَعْمَال وَلَو أَنه قتل أَنْفُسنَا وأبنائنا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا وَإِذا لم يَصح قَول الْآمِر بهَا وَلم يَصح وجوب طَاعَته لَا يلْتَفت إِلَى مَا يَأْمر بِهِ أَي شَيْء كَانَ من الْأَعْمَال وكل شَرِيعَة كَانَت على خلاف هَذَا فَهِيَ بَاطِلَة فكلامنا مَعَ الْفرق الَّتِي ذكرنَا فِي إِثْبَات أَن الْفَاعِل الأول وَاحِدًا لَا أَكثر وَإِبْطَال أَن يكون أَكثر من وَاحِد وَهُوَ حاسم لكل شغب يأْتونَ بِهِ بعد ذَلِك وكاف من التَّكَلُّف لما قد كفته الْمَرْء بِيَسِير من الْبَيَان وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى ونبدأ بحول الله تَعَالَى وَقدرته بإيراد عُمْدَة مَا موهو بِهِ فِي إِثْبَات أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد ثمَّ ننقضه بحول الله تَعَالَى وقوته بالبراهين الْوَاضِحَة ثمَّ نشرع إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي إِثْبَات أَنه تَعَالَى وَاحِد بِمَا لَا سَبِيل إِلَى رده وَلَا اعْتِرَاض فِيهِ كَمَا فعلنَا فِيمَا خلا من كتَابنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق عُمْدَة مَا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد استدلالان فاسدان أَحدهمَا هُوَ اسْتِدْلَال المانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والديصانية وَالْمَجُوس والصابئة والمزدقية وَمن ذهب مذاهبهم وَهُوَ أَنهم قَالُوا وجدنَا الْحَكِيم لَا يفعل الشَّرّ وَلَا يخلق خلقا ثمَّ يُسَلط عَلَيْهِ غَيره وَهَذَا عيب فِي الْمَعْهُود وَوجدنَا الْعَالم كُله يَنْقَسِم قسمَيْنِ كل قسم مِنْهُمَا ضد الآخر كالخير وَالشَّر والفضيلة والرذيلة والحياة وَالْمَوْت والصدق وَالْكذب فَعلمنَا أَن الْحَكِيم لَا يفعل إِلَّا الْخَيْر وَمَا يَلِيق فعله بِهِ وَعلمنَا أَن الشرور لَهَا فَاعل غَيره وَهُوَ شَرّ مِنْهَا وَالِاسْتِدْلَال الثَّانِي وَهُوَ اسْتِدْلَال من قَالَ بتدبير الْكَوَاكِب السَّبْعَة والاثني عشر برجاً وَمن قَالَ بالطبائع الْأَرْبَع وَهُوَ أَن قَالُوا لَا يفعل الْفَاعِل أفعالاً مُخْتَلفَة إِلَّا بِأحد وُجُوه أَرْبَعَة إِمَّا أَن يكون ذَا قوى مُخْتَلفَة وَإِمَّا أَن يفعل بآلات مُخْتَلفَة وَإِمَّا أَن يفعل باستحالة وَإِمَّا أَن يفعل فِي أَشْيَاء مُخْتَلفَة قَالُوا فَلَمَّا بطلت هَذِه الْوُجُوه كلهَا وَإِذا لَو قُلْنَا إِنَّه يفعل بقوى مُخْتَلفَة لحكمنا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مركب فَكَانَ يكون من أحد المفعولات وَلَو قُلْنَا إِنَّه يفعل باستحالة لوَجَبَ أَن يكون منفعلاً للشَّيْء الَّذِي أَحَالهُ فَكَانَ يدْخل بذلك فِي جملَة المفعولات وَلَو قُلْنَا إِنَّه يفعل أَشْيَاء مُخْتَلفَة لوَجَبَ أَن تكون تِلْكَ الْأَشْيَاء مَعَه وَهُوَ لم يزل فَتلك الْأَشْيَاء لم تزل فَكَانَ حِينَئِذٍ لَا يكون مخترعاً للْعَالم وَلَا فَاعِلا لَهُ قَالُوا فَعلمنَا بذلك أَن الفاعلين كثير وَأَن كَانَ وَاحِد يفعل مَا يَشَاء كُله قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ عُمْدَة مَا عول عَلَيْهِ وَمن لم يقل بِالتَّوْحِيدِ وكلا هذَيْن الاستدلالين خطأ فَاحش على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيُقَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لمن احْتج بِمَا احتجت بِهِ المانية من أَنه لَا يفعل الْحَكِيم الشَّرّ وَلَا الْعَبَث هَل يَخْلُو علمكُم بِأَن هَذَا الشَّيْء شَرّ وعبث من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تَكُونُوا علمتموه بسمع وردكم وَخبر وَإِمَّا أَن تَكُونُوا علمتموه بضرورة الْعقل فَإِن قُلْتُمْ أَنكُمْ علمتموه من طَرِيق السّمع قيل لكم هَل معنى السّمع الْآتِي غير أَن مُبْتَدع الْخلق ومرتبة سمي هَذَا الشَّيْء شرا وَأمر باجتنابه وَسمي هَذَا الشَّيْء الآخر خيرا وَأمر بإتيانه فَلَا بُد من نعم إِذْ هَذَا هُوَ معنى اللَّازِم عِنْد كل من قَالَ بِالسَّمْعِ فَيُقَال لَهُم فَإِنَّمَا صَار الشَّرّ شرا لنهي الْوَاحِد الأول عَنهُ وَإِنَّمَا صَار الْخَيْر خيرا لأَمره فَلَا بُد من نعم فَإِذا كَانَ هَذَا فقد ثَبت أَن من لَا مبدع وَلَا مُدبر لَهُ وَلَا آمُر فَوْقه لَا يكون شَيْء من فعله شرا إِذا السَّبَب فِي كَون الشَّرّ شرا هُوَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ شَرّ وَلَا مخبر يلْزم طَاعَته إِلَّا الله تَعَالَى فَإِن قَالَ فَكيف يفعل هُوَ شَيْئا قد أخبر أَنه شَرّ قَلِيل لَهُ لَيْسَ يفعل الْجِسْم فِيمَا يُشَاهد غير الْحَرَكَة والسكون وَالْحَرَكَة كلهَا جنس وَاحِد فِي أَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 نقلة مكانية وَكَذَلِكَ السّكُون جنس وَاحِد كُله فَإِنَّمَا أمرنَا تَعَالَى بِفعل بَعْضهَا ونهانا عَن فعل بَعْضهَا وَلم يفعل هُوَ الْحَرَكَة قطّ على أَنه متحرك بهَا وَلَا السّكُون على أَنه سَاكن بِهِ وَإِنَّمَا فعلهمَا على سَبِيل الإبداع فتحركنا نَحن بحركة نهينَا عَنْهَا وسكوننا بِسُكُون نهينَا عَنهُ هُوَ الشَّرّ وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد النَّفس مَا نهبت عَنهُ وَهَذَا كُله غير مَوْصُوف بِهِ الْبَارِي تَعَالَى وَإِن قَالُوا علمنَا ذَلِك ببداهة الْعقل قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَلَيْسَ الْعقل قُوَّة من قوى النَّفس وداخلاً تَحت الْكَيْفِيَّة على الْحَقِيقَة أَو تَحت الْجَوْهَر على قَول من لَا يحصل فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم إِنَّمَا يُؤثر الْعقل مَا هُوَ من شكله فِي بَاب الكيفيات فيميز بَين خطئها وصوابها وَيعرف أحوالها ومراتبها وَأما فِيمَا هُوَ فَوْقه وَفِيمَا لم يزل الْعقل مَعْدُوم وَفِي مخترع الْعقل ومرتبه كَمَا هُوَ فَلَا تَأْثِير لِلْعَقْلِ فِيهِ إِذْ لَو أثر فِيهِ لَكَانَ مُحدثا على مَا قدمنَا من أَن الْأَثر من بَاب الْمُضَاف فَهِيَ تَقْتَضِي مؤثراً فَكَانَ يكون الْبَارِي تَعَالَى منفعلاً لِلْعَقْلِ وَكَانَ يكون الْعقل فَاعِلا فِيهِ تَعَالَى وحاكماً عَلَيْهِ جلّ الله عَن ذَلِك وَقد بَينا فِي كتَابنَا هَذَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يجْرِي مجْرى خلقه فِي معنى وَلَا حكم وَذكرنَا أَيْضا فِيهِ إبِْطَال قَول من قَالَ بِتَسْمِيَة الْبَارِي حَيا أَو حكيماً أَو قَادِرًا أَو غير ذَلِك من سَائِر الصِّفَات من جِهَة الِاسْتِدْلَال حاشى أَرْبَعَة أَسمَاء فَقَط وَهِي الأول الْوَاحِد الْحق الْخَالِق فَقَط وَهِي الْأَسْمَاء هِيَ الَّتِي لَا يَسْتَحِقهَا شيءٌ فِي الْعَالم غَيره فَلَا أول سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا وَاحِد سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا خَالق سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا حق سواهُ الْبَتَّةَ على الْإِطْلَاق وكل مَا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ حق بالباري تَعَالَى وَلَوْلَا الْبَارِي تَعَالَى مَا كَانَ شيءٌ فِي الْعَالم حَقًا وكل مَا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا حق بِالْإِضَافَة وَلَوْلَا أَن السّمع قد ورد بِسَائِر الْأَسْمَاء الَّتِي ورد الْخَبَر الصَّادِق بهَا مَا جَازَ أَن يُسمى الله عز وَجل بشسء مِنْهَا وَلَكِن قد بَينا فِي مَكَانَهُ من هَذَا الْكتاب على أَي شَيْء تَسْمِيَته بِمَا ورد السّمع وَإِن ذَلِك تَسْمِيَة لَا يُرَاد بهَا غَيره تَعَالَى وَلَا يرجع مِنْهَا إِلَى شَيْء سواهُ الْبَتَّةَ وَأَيْضًا فَإِن دليلهم فِيمَا سموا بِهِ الْبَارِي تَعَالَى وأجروه عَلَيْهِ إقناعي شغبي وَفِيه نشبيه للخالق بخلقه وَفِي تشبيههم لَهُ بخلقه حكم عَلَيْهِ بالحدوث وَأَن يكون الْفَاعِل مَفْعُولا وَقد قدمنَا إبِْطَال ذَلِك وَيُقَال لَهُم إِن التزمتم أَن يكون فَاعل فِيمَا عندنَا عابثاً فقررتم بذلك على أَن يكون فَاعل الْعَالم وَاحِدًا وقدد علمنَا فِيمَا بَينا أَن تَارِك الشَّيْء لَا يُغَيِّرهُ وَهُوَ قَادر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 تَغْيِيره عابث ظَالِم وَلَا يَخْلُو فَاعل الْخيرَات عنْدكُمْ من أَن يكون قَادِرًا على تَغْيِيره وَالْمَنْع مِنْهُ وَلم يُغَيِّرهُ فقد صَار عنْدكُمْ عابثاً ضَرُورَة فقد وَقَعْتُمْ فِيمَا عَنهُ فررتم ضَرُورَة وَإِن قُلْتُمْ أَنه غير قَادر على تَغْيِيره وَلَا الْمَنْع مِنْهُ فَهُوَ بِلَا شكّ عَاجز ضَعِيف وَهَذِه صفة سوء عنْدكُمْ فَهَلا تركْتُم القَوْل بِأَنَّهُ أَكثر من وَاحِد لهَذَا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّهُ أصح على أصولكم ومقدماتكم وَأما نَحن فمقدمتكم عندنَا فَاسِدَة بالبرهان الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ والمانية تزْعم أَن النُّور كَانَ فِي الْعُلُوّ إِلَى مَا نِهَايَة لَهُ وَأَن الظلمَة فِي السّفل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَأَن كل وَاحِد مِنْهَا متناهي المساحة من الْجِهَة الَّتِي لَاقَى مِنْهَا الآخر وَغير متناه من جهاته الْخمس وَأَن اللَّذَّة للنور خَاصَّة لَا للظلمة وَأَن الْأَذَى للظلمة خَاصَّة لَا للنور قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَأَما بطلَان هَذَا القَوْل فِي عدم التناهي من الْجِهَات الْخمس فَيفْسد بِمَا أَوجَبْنَا بِهِ تناهي جسم الْعَالم وَأما قَوْلهم بالعلو والسفل فَظَاهر الْفساد لِأَن السّفل لَا يكون إِلَّا بِالْإِضَافَة وَكَذَلِكَ الْعُلُوّ فَكل علو فَهُوَ سفل لما فَوْقه حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الصفحة الْعليا الَّتِي لَا صفحة فَوْقهَا وَهُوَ لَا يقرونَ بهَا وكل سفل فَهُوَ علو لما تَحْتَهُ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى المركز وهم لَا يقرونَ بهَا فصح ضَرُورَة أَن فِي الظلمَة على قَوْلهم علوا وَأَن فِي النُّور سفلاً وَأما قَوْلهم فِي اللَّذَّة والأذى ففاسد جدا لِأَن اللَّذَّة لَا تكون إِلَّا بِالْإِضَافَة وَكَذَلِكَ الْأَذَى فَإِن الْإِنْسَان لَا يتلذ بِمَا يلتذ بِهِ الْحمار ويتأذى بِمَا لَا يتَأَذَّى بِهِ الأفعى فَبَطل هُوَ سهم بِيَقِين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين سُؤال غلى المانية دامغ لقَولهم بحول الله وقوته وَهُوَ أَن يُقَال لَهُم ألهذه الأجساد أنفس أم لَا فَإِن قَالُوا لَا قيل لَهُم فَهَذِهِ الأجساد لَا تحلو على أصولكم من أَن يكون فِي كل جَسَد مِنْهَا نور وظلمة أَو يكون بعض الأجساد نورا مَحْضا وَبَعضهَا ظلمَة مَحْضَة فَإِن قَالُوا فِي كل جَسَد نور وظلمة قيل لَهُم فَهَل يجوز من الظلمَة فعل الْخَيْر فَلَا بُد من لَا لِأَنَّهُ لَو فعل الْخَيْر لانتقلت إِلَى النُّور وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يفعل النُّور شرا لِأَنَّهُ كَانَ يصير ظلمَة فَيُقَال لَهُم فإي معنى لدعائكم إِلَى الْخَيْر ونهيكم عَن النِّكَاح وَالْقَتْل وأخبرونا من تدعون إِلَى كل ذَلِك فَإِن كُنْتُم تدعون النُّور فَهُوَ طبعه وَهُوَ فَاعل لَهُ بطبعه قبل أَن تَدعُوهُ إِلَيْهِ لَا يُمكنهُ أَن يحول عَنهُ فدعاؤكم لَهُ إِلَى مَا يَفْعَله وأمركم لَهُ يتْرك مَا لَا يَفْعَله عَبث من النُّور دَاع إِلَى الْمحَال وَهَذَا خلاف أصلكم وَإِن كُنْتُم تدعون الظلمَة فَذَلِك عَبث من النُّور لَهَا إِلَى ذَلِك إِذْ لَا سَبِيل لَهَا إِلَى ترك طبعها وَكَذَلِكَ يُقَال لَهُم سَوَاء بِسَوَاء إِن قَالُوا إِن من الأجساد مَا هُوَ نور مَحْض وَمِنْهَا مَا هُوَ ظلمَة مَحْضَة وَهَكَذَا يسئلون فِي الْأَرْوَاح أَن أقرُّوا بهَا ثمَّ يسئلون عَمَّن رَأَيْنَاهُ ينْكح وَيقتل وَيظْلم ويكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثمَّ يَتُوب عَن كل ذَلِك من الْقَاتِل الظَّالِم أهوَ النُّور أم الظلمَة وَمن النَّائِب النُّور أم الظلمَة فَأَي ذَلِك قَالُوا فَهُوَ هدم مَذْهَبهم وَقد جوزوا الاستحالة فَإِن قَالُوا معنى دعائنا إِلَى مَا نَدْعُو إِلَيْهِ من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ حض للنور على الْمَنْع للظلمة من ذَلِك قيل لَهُم أَكَانَ النُّور قَادِرًا على منعهَا قبل دعائكم أم لَا فَإِن قَالُوا كَانَ قَادِرًا قيل لَهُم فقد ظلم بِتَرْكِهِ إِيَّاهَا تظلم وَهُوَ يقدر على منعهَا قبل دعائكم وَإِن قُلْتُمْ لم يذكر حَتَّى نبه قيل لَهُم فَهَذَا نقص مِنْهُ وَجَهل وصفات شَرّ لَا تلِيق بِالنورِ على قَوْلكُم وَهَذَا مَالا انفكاك لَهُم مِنْهُ وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُم إِن الدَّاعِي مِنْكُم إِلَى دينه لَا يَقُول لمن دَعَاهُ كف غَيْرك عَن ظلمه إِنَّمَا يَقُول لَهُ كف عَن ظلمك وارجع عَن ضلالك وَلَقَد أَحْسَنت فِي رجوعك عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق فَإِن كُنْتُم تأمرون بِأَن يُخَاطب بذلك الظلمَة فَالْأَمْر بذلك كَاذِب آمُر بِالْكَذِبِ وَإِن كُنْتُم تأمرون بِأَن يُخَاطب بذلك النُّور فَالْأَمْر بذلك أَيْضا كَاذِب آمُر بِالْكَذِبِ = فَإِن قَالُوا فإي معنى لدعائكم إِلَى الْخَيْر وَقد سبق علم الله تَعَالَى فِيمَن يُعلمهُ وَمن لَا يُعلمهُ قيل لَهُم جَوَاب بَعْضنَا فِي هَذَا هُوَ أَن كل من يدعى إِلَى الْخَيْر فممكن وُقُوعه مِنْهُ وممكن أَيْضا فعل الشَّرّ مِنْهُ ومتوهم كل ذَلِك مِنْهُ فَوجه دعائنا لَهُ مَعْرُوف وَلَيْسَ علم الله تَعَالَى إجباراً وَإِنَّمَا هُوَ أَنه تَعَالَى علم مَا يختاره العَبْد وَجَوَاب بَعْضنَا فِي ذَلِك هُوَ أَن فَاعل كل مَا يَبْدُو فِي الْعَالم فعل خلق وإبداع فَهُوَ الله عز وَجل لَا يتعقب عَلَيْهِ فَهُوَ خَالق دعائنا من تَدعُوهُ فَإِن ذَلِك كَذَلِك فَلَا يجوز سُؤال الْخَالِق لما شَاءَ بلم فعلت وَهَذَا هُوَ الْجَواب الَّذِي نختاره وَيُقَال لَهُم أَيْضا أخبرونا عَن ماني والمسيح وزرادشت وَأَنْتُم تعظمونهم أفيهم ظلمَة أم كَانُوا أنورا مَحْضَة فَمن قَوْلهم وَلَا بُد أَن فيهم ظلمَة لأَنهم يَتَغَوَّطُونَ ويجزعون ويألمون فَيُقَال لَهُم فَلم عجز النُّور الَّذِي فِيكُم عَن مثل ذَلِك فَإِن قَالُوا لقلته قيل لَهُم فَكَانَ يجب أَن يَأْتِي من المعجزات وَلَو بِيَسِير على قدره وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا وَيُقَال لَهُم أَيْضا إِن من الْعَجَائِب إلزامكم ترك النِّكَاح لتعجلوا قطع النَّسْل فهبكم قدرتم على ذَلِك فَكيف تَصْنَعُونَ فِي الْوَحْش وَالطير وَسَائِر الْحَيَوَان الْبري والحشرات وحيوان الْمِيَاه والبحار الَّتِي تقتل بَعْضهَا بَعْضًا أَشد من قتل بعض النَّاس لبَعض وَأكْثر فَكيف السَّبِيل إِلَى قطع تناسلها وفراع امتزاجها وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لكم إِلَيْهِ أصلا فَإِن كَانَ النُّور عَاجِزا عَن قطعهَا فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى خلاص أَجْزَائِهِ أَبَد الْأَبَد وَإِن كَانَ على ذَلِك قَادِرًا فَلم لم يعجل خلاص أَجْزَائِهِ وَلم يَتْرُكهَا تردد فِي الظُّلُمَات وأعجب شَيْء مَنعهم من الْقَتْل وَهَذَا عون مِنْهُم على بَقَاء المزاج وعَلى منع الْخَلَاص واستنقاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 النُّور وَقطع المزاج وَهَذَا تنَاقض ظَاهر مِنْهُم لَا خَفَاء بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وكل مَا قدمنَا من الْبَرَاهِين على حُدُوث الْعَالم وَإِيجَاب النِّهَايَة فِي جرمه وأشخاصه وأزمانه فَهُوَ لَازم الْأَصْلَيْنِ النُّور والظلمة على أصُول المانية وعَلى كل من يَقُول بِأَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد وَأَنه لم يزل مَعَ المفاعل غَيره لُزُوم ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الِاسْتِدْلَال الثَّانِي الَّذِي عولوا فِيهِ على أَقسَام من يفعل أفعالا مخلفة فَهُوَ اسْتِدْلَال فَاسد أَيْضا لأَنهم إِنَّمَا عولوا فِيهِ على الْأَقْسَام الْمَوْجُودَة فِي الْعَالم وَقد قدنا الْبَرَاهِين الضرورية على حُدُوث الْعَالم وعَلى أَن محدثه لَا يشبه فِي شَيْء من الْأَشْيَاء فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يدْخل تَحت شَيْء من أَقسَام الْعَالم لكنه تَعَالَى يقعل الْأَشْيَاء الْمُخْتَلفَة والأشياء المتفقة مُخْتَارًا لكل ذَلِك وَحين شَاءَ لَا عِلّة لشَيْء من ذَلِك إِذْ قدمنَا أَن مَا حصرته الطبيعة فَهُوَ متناه والمتناهي مُحدث على قدمنَا من أَن يكون ذَا قوى أَو فَاعِلا بآلات أَو فَاعِلا باستحالة أَو فَاعِلا فِي أَشْيَاء لِأَن هَذَا كُله يَقْتَضِي أَن يكون مُحدثا تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَهُوَ لم يزل فقد وَجب ضَرُورَة أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء من مُخْتَلف ومتفق مُخْتَارًا دون عِلّة مُوجبَة عَلَيْهِ شَيْئا من ذَلِك وَلَا بِقُوَّة هِيَ غَيره وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وكل مَا ألزمنا من يَقُول إِن الْعَالم لم يزل من الْبَرَاهِين الضرورية فَهُوَ لَازم للمانية والديصانية والمزقونية والقائلين بأزلية الطبائع والهيولي لِأَن الْعَالم عِنْد هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير تِلْكَ الْأُصُول الَّتِي لم تزل عِنْدهم وَإِنَّمَا حدثت فيهم عِنْدهم الصُّورَة فَقَط وَيدخل أَيْضا عَلَيْهِم القَوْل يتناهي الْأَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا عِنْدهم جسمان والجسم متناه ضَرُورَة لبرهانين نوردهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَذَلِكَ أننا نقُول لَا يَخْلُو كل جرم من الأجرام من أَن يكون متحركاً أَو سَاكِنا فَإِن كَانَ متحركاً أَو سَاكِنا فَإِن كَانَ متحركاً فقد علمنَا أَن الْمسَافَة الَّتِي لَا تتناهى لَا تقطع أصلا لَا فِي زمَان متناه وَلَا فِي زمَان غير متناه ثمَّ لَا تَخْلُو حركته من أَن تكون إِمَّا باستدارة وَإِمَّا إِلَى جِهَة من الْجِهَات وَلَا ثَالِث لهذين الْوَجْهَيْنِ فَإِن كَانَ متحركاً باستدارة وَهُوَ غير متناه فَهَذَا محَال لِأَن الخطين الخارجين من الْوسط إِلَى الْمشرق وَإِلَى الْعُلُوّ غير متناهين إِذن فَكَانَ يجب أَن يكون الْجُزْء الَّذِي فِي سمت الْمشرق مِنْهُ لَا يبلغهُ إِلَى الْعُلُوّ الَّذِي هُوَ سمت الرَّأْس مِنْهُ أبدا فقد بطلت الْحَرَكَة على هَذَا فَهَذَا إِذن متحرك لَا متحرك وَهَذَا محَال مَعَ مُشَاهدَة العيان لقطع كل جُزْء من الْفلك الْكُلِّي جَمِيع مسافته ورجوعه إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ مِنْهُ فِي كل أَربع وَعشْرين سَاعَة وَإِن كَانَ متحركاً إِلَى جِهَة من الْجِهَات فَهَذَا أَيْضا محَال لِأَن الْحَرَكَة نقلة من مَكَان إِلَى مَكَان فَإِذا وجد هَذَا الْجِسْم مَكَانا ينْتَقل إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك فقد ثبتَتْ النِّهَايَة لَهُ ضَرُورَة لِأَن وجوده غير كَائِن فِي الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ مُوجب لانقطاعه قبله وَإِن كَانَ لم يزل فِي الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ وَهَكَذَا فِيمَا بعده من الْأَمْكِنَة فَلم يزل غير منتقل وَقد قُلْتُمْ أَنه لم يزل منتقلاً فَهُوَ إِذن متحرك لَا متحرك وَهَذَا محَال وَإِن قُلْتُمْ سَاكن قُلْنَا لكم اقْطَعُوا من هَذَا الجرم قِطْعَة بالوهم فَإِذا توهموا ذَلِك سألناهم مَتى كَانَ هَذَا الجرم أعظم أقبل أَن تقطع مِنْهُ هَذِه الْقطعَة أَو بعد أَن قطعت فأياما قَالُوا أَو إِن قَالُوا أَنه مساوؤ لنَفسِهِ قبل أَن تقطع مِنْهُ هَذِه الْقطعَة فقد أثبتوا النِّهَايَة إِذْ لَا تقع الْكَثْرَة والقلة والتساوي إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة وَأَيْضًا فَإِن الْمَكَان والجرم مِمَّا يَقع تَحت الْعدَد كوقوع الزَّمَان تَحت الْعدَد فَكل مَا أدخلْنَاهُ فِيمَا خلا من تناهي الزَّمَان من طَرِيق الْعدَد فَهُوَ لَازم فِي تناهي الْمَكَان والجرم من طَرِيق الْعدَد بالمساحة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل مَا ألزمناه من يَقُول بِأَن الْأَجْسَام لم تزل فَهُوَ لَازم بِعَيْنِه لمن يَقُول أَن السَّبْعَة كواكب والاثني عشر برجاً لم تزل لِأَنَّهَا أجسام جَارِيَة تَحت أَقسَام الْفلك وحركته فَانْظُر هُنَالك مَا ألزمناه من حُدُوث الْأَجْسَام وأزمانها فَهُوَ لَازم لهَؤُلَاء وَتَركنَا مَا ألزمناه فِي حُدُوث الْأَجْسَام فِي فروع أَقْوَالهم كَقَوْلِهِم فِي المزاج والخلاص وصفات النُّور والظلمة إِذا إِنَّمَا قصدنا اجتثاث أصُول الْمذَاهب الْفَاسِدَة فِي أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد واعتمدنا الْبَيَان فِي إِثْبَات الْوَاحِد فَقَط فَإذْ قد ثَبت ذَلِك ببراهين ضَرُورِيَّة بَطل كل مَا عرفوه من هَذَا الأَصْل الْفَاسِد إِنَّمَا قصدنا مَا تدفع إِلَيْهِ الضَّرُورَة من الِاسْتِيعَاب لما لَا بُد مِنْهُ بإيجاز بحول الله تَعَالَى وقوته وَأما من جعل الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد إِلَّا أَنهم جعلوهم غير الْعَالم كالمجوس وَالصَّابِئِينَ والمزقزنية وَمن قَالَ بالتثليث من الناري فَإِنَّهُ يدْخل عَلَيْهِم من الدَّلَائِل الضرورية بحول الله وقوته مَا نَحن موردوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن مَا كَانَ أَكثر من وَاحِد فَهُوَ وَاقع تَحت جنس الْعدَد وَمَا كَانَ وَاقعا تَحت جنس الْعدَد فَهُوَ نوع من أَنْوَاع الْعدَد وَمَا كَانَ نوعا فَهُوَ مركب من جنسه الْعَام وَلغيره وَمن فصل خصّه لَيْسَ فِي غَيره فَلهُ مَوضِع وَهُوَ الجلس الْمُقَابل لصورته وَصُورَة غَيره من أَنْوَاع ذَلِك الْجِنْس وَله مَحْمُول وَهُوَ الصُّورَة الَّتِي خصته دون غَيره فَهُوَ ذُو مَوْضُوع وَذُو مَحْمُول فَهُوَ مركب من جنسه وفصله والمركب مَعَ الْمركب من بَاب الْمُضَاف الَّذِي لَا بُد لكل وَاحِد مِنْهُمَا من الآخر فَأَما الْمركب فَإِنَّمَا يَقْتَضِي وجود الْمركب من وَقت تركبه وَحِينَئِذٍ يُسمى مركبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لَا قبل ذَلِك وَأما الْوَاحِد فَلَيْسَ عددا لما سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فقد انْقَضى الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان على أَن فَاعل الْعَالم لَيْسَ وَاحِدًا أَن الْعَالم لَو كَانَ مخلوقاً لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا لم يخل من أَن يَكُونَا لم يَزَالَا مشتبهين أَو مُخْتَلفين فأياما قَالُوا فقد أثبتوا معنى فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا بِهِ اشتبها أَو بِهِ اخْتلفَا فَإِن نفوا ذَلِك فقد نفوا الِاخْتِلَاف والاشتباه مَعًا وَلَا يجوز ارتفاعهما مَعًا أصلا لِأَن ذَلِك محَال وَمُوجب للعدم لِأَن وجود شَيْئَيْنِ لَا يشتبهان فِي شَيْء وَلَا يَخْتَلِفَانِ بِوَجْه من الْوُجُوه محَال إِذْ فِي ذَلِك عدمهما لِأَن هَذِه الصّفة مَعْدُومَة فحاملها مَعْدُوم وهم قد أثبتوا وجودهَا فَيلْزم القَوْل بموجود مَعْدُوم فِي وَقت وَاحِد من وَجه وَاحِد وَهَذَا محَال وهم إِذا أثبتوهما موجودين لم يَزَالَا فقد أثبتوا لَهما مَعَاني قد اشتبها فِيهَا وَهِي كَونهمَا مشتبهين فِي الْوُجُود مشتبهين فِي الْفِعْل مشتبهين فِي أَن لم يَزَالَا وَلَا يجوز أَن تكون هَذِه الْأَشْيَاء لَيست غَيرهمَا لِأَنَّهَا صِفَات عمتهما أَعنِي اشتباههما فِي الْمعَانِي المذكروة فَإِن كَانَ اشتباههما هُوَ هما فهما شيءٌ وَاحِد وَكَذَلِكَ أَيْضا يلْزم فِي كَونهمَا مُخْتَلفين فِي أَن كل وَاحِد فهما غير صَاحبه فَإِن كَانَ هَذَا الِاخْتِلَاف فيهمَا هُوَ غَيرهمَا فههنا ثَالِث وَهَكَذَا أَيْضا أيدا وَسَنذكر مَا يدْخل فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن كَانَ التغاير هُوَ هما والاشتباه هُوَ هما فالتغاير هُوَ الِاشْتِبَاه وَهَذَا هُوَ عين الْمحَال لِأَنَّهُ لَا بُد من معنى مَوْجُود فِي المتغاير لَيْسَ اشتباهاً لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الشيئآن مشتبهين بالتغاير فَإذْ قد ثَبت مَا ذكرنَا وَلم يكن بُد من اشْتِبَاه أَو اخْتِلَاف هُوَ معنى غَيرهمَا فقد ثَبت ثَالِث وَإِذا ثَبت ثَالِث لزم فيهم ثَلَاثَتهمْ مثل مَا لزم فِي الِاثْنَيْنِ من السُّؤَال وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَن كل وَاحِد فهما أَو أَحدهمَا مركب من ذَاته وَمن الْمَعْنى الَّذِي بَان بِهِ عَن الآخر أَو بِهِ أشبه الآخر فَإِن أثبتوا ذَلِك لَهما جَمِيعًا وَكِلَاهُمَا مركب والمركب مُحدث فهما مخلوقان لغَيْرِهِمَا وَلَا بُد وَإِن أثبتوا ذَلِك لأَحَدهمَا فَقَط كَانَ مركبا وَكَانَ الآخر هُوَ الْفَاعِل لَهُ فقد عَاد الْأَمر إِلَى وَاحِد غير مركب وَلَا بُد ضَرُورَة وَيُوجب أَيْضا إِن تَمَادَوْا على مَا ألزمناهم من وجود معنى بِهِ بار كل من الآخر وجود قدماء لم يزَالُوا وَوُجُود فاعلين آلِهَة أَكثر من الماهولين وَهَذَا محَال لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى وجود أعداد قَائِمَة ظَاهِرَة فِي وَقت وَاحِد لَا نِهَايَة لَهَا لِأَنَّهُ إِن كَانَ لَهَا عدد فقد حصرها ذَلِك الْعدَد على مَا قدمنَا وكل مَا حصر فَهُوَ متناه وَقد أَوجَبْنَا عَلَيْهِم القَوْل بِأَنَّهَا غير متناهية فلزمهم القَوْل بأعداد متناهية لَا متناهية وَهَذَا من أعظم الْمحَال فَإِن لم يكن لَهَا عدد فَلَيْسَتْ مَوْجُودَة لِأَن كل مَوْجُود فَلهُ عدد وكل ذِي عدد متناه كَمَا قدمنَا فَإِن قَالَ قَائِل فَبِأَي شَيْء انْفَصل الْخَالِق عَن الْخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَبِأَيِّ شَيْء انْفَصل الْخلق بعضه من بعض وَأَرَادَ أَن يلْزمنَا فِي ذَلِك مثل الَّذِي أزمناه فِي الدّلَالَة الْمُتَقَدّمَة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْخلق كُله حَامِل ومحمول فَكل حَامِل فَهُوَ مُنْفَصِل من خالقه وَمن غَيره من الحاملين بمحموله من فصوله وأنواعه وجنسه وخواصه وإعراضه فِي مَكَانَهُ وَسَائِر كيفياته وكل مَحْمُول فَهُوَ مُنْفَصِل من خالقه وَمن غَيره من المحولات بحامله وَبِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا باين فِيهِ سَائِر المحمولات من نَوعه وجنسه وفصله والباري تَعَالَى غير مَوْصُوف بشيءٍ من ذَلِك كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد ذكرنَا فِي بَاب الْكَلَام فِي بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار وَبَقَاء الْأَجْسَام فِيهَا بِلَا نِهَايَة وَفِيمَا خلا من كتَابنَا الِانْفِصَال مِمَّن أَرَادَ أَن يلْزمنَا همالك مَا ألزمناهم نَحن هُنَالك من الْأَعْدَاد الَّتِي لَا تتناهى إِلَّا أننا نذْكر هُنَا من ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا كَافِيا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نستعين فَنَقُول إِن الْفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين أننا لم نوجب نَحن فِي الْجنَّة وَالنَّار وجود أعداد لَا تتناهى بل قَوْلنَا إِن أعدادهم متناهية لَا تزيد وَلَا تنقص وَإِن مساحة النَّار وَالْجنَّة محدودة متناهية لَا تزيد وَلَا تنقص وَإِن كل مَا ظهر من حركاتهم ومددهم فِيهَا فمحصورة متناهية وَإِنَّمَا نَفينَا عَنْهَا النِّهَايَة بِالْقُوَّةِ بِمَعْنى أَن الْبَارِي تَعَالَى مُحدث لَهُم فِي كلتا الدَّاريْنِ بَقَاء ومدداً ونعيماً وَعَذَابًا أبدا لَا إِلَى غَايَة وَلَيْسَ مَا ظهر من ذَلِك بَعْضًا لما لم يظْهر فيلزمنا أَن يكون اسْم كل مَا يَقع علا الْمَوْجُود لَا يكون بَعْضًا للمعدوم وَإِنَّمَا هُوَ بعض لموجود مثله هَذَا يعلم بالحس لِأَن الْأَسْمَاء إِنَّمَا تقع على مَعَانِيهَا وَمعنى الْوُجُود إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ قَائِما فِي وَقت من الْأَوْقَات مَاض من الْأَوْقَات أَو حَال مِنْهَا فَمَا لم يكن هَكَذَا فَلَيْسَ مَوْجُودا وأبعاض الموجودات كلهَا مَوْجُودَة فَكلهَا مَوْجُود وَكلهَا كَانَ مَوْجُودا فَلَيْسَ الْمَوْجُود بَعْضًا للمعدوم والعدم هُوَ إبِْطَال الْوُجُود ونفيه وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تكون أبعاض الشَّيْء الَّتِي يلْزمهَا اسْمه الَّذِي لَا اسْم لَهَا سواهُ يبطل بَعْضهَا بَعْضًا وَقد يُمكن أَن شغب مشغب فِي هَذَا الْمَكَان فَيَقُول قد وجدنَا أبعاضاً لَا يَقع عَلَيْهَا اسْم كلهَا كَالْيَدِ وَالرجل وَالرَّأْس وَسَائِر الْأَعْضَاء لَيْسَ شَيْء مِنْهَا يُسمى إنْسَانا فَإِذا اجْتمعت وَقع عَلَيْهَا اسْم إِنْسَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا شغب لأننا إِنَّمَا تكلمنا على الأبعاض المتساوية الَّتِي كل بعض مِنْهَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْكل كَالْمَاءِ الَّذِي كل بعض مِنْهُ مَاء وَكله مَاء وَلَيْسَ الْجُزْء من هَذَا الْبَاب وكل بعض من أبعاض الْمَوْجُود فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِ اسْم مَوْجُود وَقد يُمكن أَن يشغب أَيْضا مشغب فِي قَوْلنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 إِن الأبعاض لَا نتنافي فَيَقُول إِن الخضرة لَا تنَافِي الْبيَاض وَكِلَاهُمَا بعض للون الْكُلِّي فَهَذَا أَيْضا لَيْسَ مِمَّا أردناه فِي شَيْء لِأَن قَوْلنَا مَوْجُود لَيْسَ جِنْسا فَيَقَع على أَنْوَاع المتضادات وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن وجودنا أَشْيَاء قد تَسَاوِي كلهَا فِي وجودنا إِيَّاهَا حَقًا فَهُوَ يعم بَعْضهَا كَمَا يعم كلهَا وَأَيْضًا فَإِن الخضرة لَا تضَاد الْبيَاض فِي أَن هَذَا لون بل يَجْتَمِعَانِ فِي هَذَا الْمَعْنى اجتماعاً وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتلفَا بِمَعْنى آخر وَكَذَلِكَ لَا يُخَالف مَوْجُود مَوْجُودا فِي أَنه مَوْجُود وَالْمَوْجُود يُخَالف الْمَعْدُوم فِي هَذَا الْمَعْنى نَفسه وَلَيْسَ بَعْضًا للمعدوم والمعدوم لَيْسَ شَيْئا وَلَا لَهُ معنى حَتَّى يُوجد فَإِذا وجد كَانَ حِينَئِذٍ شَيْئا مَوْجُودا وَقد تخلصنا أَيْضا فِي بَاب التجزي وكلامنا فِي هَذَا الدِّيوَان من مثل الْإِلْزَام هُنَالك الْكَلَام على النَّصَارَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ النَّصَارَى وَإِن كَانُوا أهل كتاب ويقرون بنبوة بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن جماهيرهم وفرقهم لَا يقرونَ بِالتَّوْحِيدِ مُجَردا بل يَقُولُونَ بالتثليث فَهَذَا مَكَان الْكَلَام عَلَيْهِم وَالْمَجُوس أَيْضا وَإِن كَانُوا أهل كتاب لَا يقرونَ بِبَعْض الْأَنْبِيَاء وَلَكنَّا أدخلناهم فِي هَذَا الْمَكَان لقَولهم بفاعلين لم يَزَالَا فالنصارى أَحَق بالإدخال هَا هُنَا لأَنهم يَقُولُونَ بِثَلَاثَة لم يزَالُوا وَالنَّصَارَى فرق مِنْهُم أَصْحَاب أريوس وَكَانَ قسيساً بالإسكندرية وَمن قَوْله التَّوْحِيد الْمُجَرّد وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عبد مَخْلُوق وَأَنه كلمة الله تَعَالَى الَّتِي بهَا خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ فِي زمن قسطنطين الأول باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأول من تنصر من مُلُوك الرّوم وَكَانَ على مَذْهَب أريوس هَذَا وَمِنْهُم أَصْحَاب بولس الشمشاطي وَكَانَ بطريركيا بأنطاكية قبل ظُهُور النَّصْرَانِيَّة وَكَانَ قَوْله التَّوْحِيد الْمُجَرّد الصَّحِيح وَأَن عِيسَى عبد الله وَرَسُوله كَأحد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام خلقه الله تَعَالَى فِي بطن مَرْيَم من غير ذكر وَأَنه إِنْسَان لَا إلهية فِيهِ وَكَانَ يَقُول لَا أَدْرِي مَا الْكَلِمَة وَلَا روح الْقُدس وَكَانَ مِنْهُم مقدونيوس وَكَانَ بطريركاً فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد ظُهُور النَّصْرَانِيَّة أَيَّام قسطنطين بن قسطنطين باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَكَانَ هَذَا الْملك أريوسياً كَاتبه وَكَانَ من قَول مقدونيوس هَذَا التَّوْحِيد الْمُجَرّد وَأَن عِيسَى عبد مَخْلُوق إِنْسَان نَبِي رَسُول الله كَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن عِيسَى هُوَ روح الْقُدس وَكلمَة الله عز وَجل وَأَن روح الْقُدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذَلِك وَمِنْهُم البربرانية وهم يَقُولُونَ أَن عِيسَى وَأمه إلهان من دون الله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَهَذِه الْفرْقَة قد بادت وعمدتهم الْيَوْم ثَلَاث فرق فأعظمها فرقة الملكانية وَهِي مَذْهَب جَمِيع مُلُوك النَّصَارَى حَيْثُ كَانُوا حاشي الْحَبَشَة والنوبة وَمذهب عَامَّة أهل كل مملكة لِلنَّصَارَى حَيْثُ كَانُوا حاشي الْحَبَشَة والنوبة وَمذهب جَمِيع نَصَارَى أفريقية وصقلية والأندلس وَجُمْهُور الشَّام وَقَوْلهمْ أَن الله تَعَالَى عبارَة عَن قَوْلهم ثَلَاثَة أَسبَاب أَب وَابْن وروح الْقُدس كلهَا لم تزل وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَه تَامّ كُله وإنسان تَامّ كُله لَيْسَ أَحدهمَا غير الآخر وَأَن الْإِنْسَان مِنْهُ هُوَ الَّذِي صلب وَقتل وَأَن الْإِلَه مِنْهُ لم ينله شَيْء من ذَلِك وَأَن مَرْيَم ولدت الْإِلَه وَالْإِنْسَان وأنهما مَعًا شيءٌ وَاحِد ابْن الله تَعَالَى الله عَن كفرهم وَقَالَت النسطورية مثل ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنهم قَالُوا إِن مَرْيَم لم تَلد الْإِلَه وَإِنَّمَا ولدت الْإِنْسَان وَأَن الله تَعَالَى لم يلد الْإِنْسَان وَإِنَّمَا ولد الْإِلَه تَعَالَى الله عَن كفرهم وَهَذِه الْفرْقَة غالبة على الْموصل وَالْعراق وَفَارِس وخراسان وهم منسوبون إِلَى نسطور بطريركاً بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَقَالَت اليعقوبية إِن الْمَسِيح هُوَ الله تَعَالَى نَفسه وَأَن الله تَعَالَى عَن عَظِيم كفرهم مَاتَ وصلب وَقتل وَأَن الْعَالم بَقِي ثَلَاثَة أَيَّام بِلَا مُدبر والفلك بِلَا مُدبر ثمَّ قَامَ وَرجع كَمَا كَانَ وَأَن الله تَعَالَى عَاد مُحدثا وَأَن الْمُحدث عَاد قَدِيما وَأَنه تَعَالَى هُوَ كَانَ فِي بطن مَرْيَم مَحْمُولا بِهِ وهم فِي أَعمال مصر وَجَمِيع النّوبَة وَجَمِيع الْحَبَشَة وملوك الأمتين المذكورتين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى وصف قَوْلهم فِي كِتَابه إِذْ يَقُول تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَإِذ يَقُول تَعَالَى حاكياً عَنْهُم {أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} لما انْطلق لِسَان مُؤمن بحكاية هَذَا القَوْل الْعَظِيم الشنيع السَّمْح السخيف وتاالله لَوْلَا أننا شاهدنا النَّصَارَى مَا صدقنا أَن فِي الْعَالم عقلا يسع هَذَا الْجُنُون ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فَأَما لايعقوبية فَإِنَّهُم ينسبون إِلَى يَعْقُوب البرذعاني وَكَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وهم فرقة نافرت الْعقل والحس منافرة وحشية تَامَّة لِأَن الاستحالة بقلة والبقلة والاستحالة لَا يُوصف بهما الأول الَّذِي لم يزل تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ مخلوقاً والمحدث يَقْتَضِي مُحدثا خَالِقًا لَهُ وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل دُخُوله فِي بَاب الْمحَال والممتنع الَّذِي قد أوجب الْعقل والحس بُطْلَانه وَلَيْسَ فِي بَاب الْمحَال أعظم من أَن يكون الَّذِي لم يزل يعود مُحدثا لم يكن ثمَّ كَانَ وَأَن يُشِير غير الْمُؤلف مؤلفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَيلْزم هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن يعرفونا من دبر السَّمَوَات وَالْأَرْض وأدار الْفلك هَذِه الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي كَانَ فِيهَا مَيتا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا ثمَّ يُقَال لِلْقَائِلين بِأَن الْبَارِي تَعَالَى ثَلَاثَة أَشْيَاء أَب وَابْن وروح الْقُدس أخبرونا إِذْ هَذِه الْأَشْيَاء لم تزل كلهَا وَأَنَّهَا مَعَ ذَات شَيْء وَاحِد إِن كَانَ ذَلِك كَمَا ذكرْتُمْ فَبِأَي معنى اسْتحق أَن يكون أَحدهَا يُسمى أَبَا وَالثَّانِي أَبَا وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الثَّلَاثَة وَاحِد وَأَن كل وَاحِد مِنْهَا هُوَ الآخر فالأب هُوَ الابْن وَالِابْن هُوَ الْأَب وَهَذَا هُوَ عين التَّخْلِيط وانجيلهم يبطل هَذَا بقَوْلهمْ فِيهِ سأقعد عَن يَمِين أبي وبقولهم فِيهِ أَن الْقِيَامَة لَا يعلمهَا إِلَّا الْأَب وَحده وَأَن الابْن لَا يعلمهَا فَهَذَا يُوجب أَن الابْن لَيْسَ هُوَ الْأَب وَإِن كَانَت الثَّلَاثَة متغابرة وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا فيلزمهم أَن يكون فِي الابْن معنى من الضعْف أَو من الْحُدُوث أَو من النَّقْص بِهِ وَجب أَن ينحط عَن دَرَجَة الْأَب وَالنَّقْص لَيْسَ من صفة الَّذِي لم يزل مَعَ مَا يدْخل على من قَالَ بِهَذَا من وجوب أَن تكون محدثة لحصر الْعدَد وَجرى طبيعة النَّقْص وَالزِّيَادَة فِيهَا على حسب مَا قدمْنَاهُ فِي حُدُوث الْعَالم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد لفق بَعضهم أَشْيَاء قَالُوا أَنَّهَا لَا معنى لَهَا إِلَّا أننا ننبه عَلَيْهَا ليتبن هجنة قَوْلهم وَضَعفه بحول الله تَعَالَى وقوته وَذَلِكَ أَن بَعضهم قَالَ لما وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى حَيا وعالما وَجب أَن تكون لَهُ حَيَاة وَعلم فحياته هِيَ الَّتِي تسمى روح الْقُدس وَعلمه هُوَ الَّذِي يُسمى الابْن قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا من أغث مَا يكون من الِاحْتِجَاج لأننا قد قدمنَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِشَيْء من هَذَا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال لَكِن من طَرِيق السّمع خَاصَّة وَلَا يَصح لَهُم دَلِيل لَا من إنجيلهم وَلَا من غَيره من الْكتب أَن الْعلم يُسمى ابْنا وَلَا فِي كتبهمْ أَن علم الله هُوَ ابْنه وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا تَقْتَضِيه اللُّغَة اللاتينية أَن علم الْعَالم يُقَال فِيهِ أَنه ابْنه قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا بَاطِل ظَاهر الْكَذِب لِأَن الْإِنْجِيل الَّذِي كَانَ فِيهِ ذكر الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس لَا يخْتَلف أحد من النَّاس فِي أَنه إِنَّمَا نقل عَن اللُّغَة العبرانية إِلَى السريانية وَغَيرهَا فَعبر عَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ العبرانية وَبهَا كَانَ فِيهِ ذكر الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس وَلَيْسَ فِي اللُّغَة العبرانية شَيْء مِمَّا ذكر وَادّعى وَإِن كَانُوا مِمَّن يَقُولُونَ بِتَسْمِيَة الْبَارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 عز وَجل من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فقد أسقطوا صفة الْقُدْرَة إِذْ لَيْسَ الِاسْتِدْلَال على كَونه عَالما بأصح لَا أولى من الِاسْتِدْلَال على كَونه قَادِرًا لَا سِيمَا مَعَ قَول بولس وَهُوَ عِنْدهم فَوق الْأَنْبِيَاء أَن الْمَسِيح قدرَة الله وَعلمه تَعَالَى قَالَ هَذَا النَّص فِي رسَالَته الأولى إِلَى أهل قريته فليضيفوا إِلَى هَذِه الثَّلَاث صفة رَابِعَة وَهِي الْقُدْرَة وَأُخْرَى وَهِي السّمع وَأُخْرَى وَهِي الْبَصَر وَأُخْرَى وَهِي الْكَلَام وَأُخْرَى وَهِي الْعقل وَأُخْرَى وَهِي الْحِكْمَة وَأُخْرَى وَهِي الْجُود فَإِن قَالُوا الْقُدْرَة هِيَ الْحَيَاة قيل لَهُم وَالْعلم هُوَ الْحَيَاة فَإِن قَالُوا لَيْسَ الْعلم الْحَيَاة لِأَنَّهُ قد يكون حَيّ لَيْسَ عَالما كَالْمَجْنُونِ قيل لَهُم قد يكون حَيّ لَيْسَ قَادِرًا كالمغشي عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك فالقدرة لَيست الْحَيَاة وَأَيْضًا فَإِن كَانَ الابْن هُوَ الْعلم وروح الْقُدس هُوَ الْحَيَاة فَمَا بَال إقحامهم الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَنه الابْن وروح الْقُدس أَتَرَى الْمَسِيح هُوَ حَيَاة الله وَعلمه وَمَا بَال قَول بَعضهم أَن مَرْيَم ولدت ابْن الله أتراها ولدت علم الله أَيكُون فِي التَّخْلِيط أَكثر من هَذَا وَهل حط الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام من علم الله وحياته إِلَّا كحظ غَيره وَلَا فرق وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقَالَ بَعضهم لما وجدنَا الْأَشْيَاء قسمَيْنِ حَيا وَلَا حَيا وَجب أَن يكون الْبَارِي عز وَجل حَيا وَلما وجدنَا الْحَيّ يَنْقَسِم قسمَيْنِ ناطقاً وَغير نَاطِق وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى ناطقاً قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الْكَلَام فِي غَايَة الكلال لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن هَذِه الْقِسْمَة قسْمَة طبيعية وَاقعَة تَحت جنس لِأَنَّهُ إِذا كَانَ تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى حَيا إنماا هُوَ من هَذَا الْوَجْه فَهُوَ إِذا يَقع مَعَ سَائِر الْأَحْيَاء تَحت جنس الْحَيّ وَيحد بِحَدّ الْحَيّ وبحد النَّاطِق وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مركب من جنسه وفصله وكل مَا كَانَ محدوداً فَهُوَ متناه وكل مَا كَانَ مركبا فَهُوَ مُحدث وَالْوَجْه الثَّانِي أَن هَذِه الْقِسْمَة الَّتِي قسموها منقوضة مموهة لِأَنَّهُ يلْزمهُم أَن يبدؤا بِأول الْقِسْمَة الَّذِي هُوَ أقرب إِلَى الطبيعة فيقولوا وجدنَا الْأَشْيَاء جوهراً وَلَا جوهراً ثمَّ يدخلوه تَحت أَي الْقسمَيْنِ شاؤا وهم إِنَّمَا يدخلونه تَحت الْجَوْهَر فَإِذا أدخلوه تَحت الْجَوْهَر فقد وَجب ضَرُورَة أَن يحدوه بِحَدّ الْجَوْهَر فَإِذا كَانَ ذَلِك وَجب أَن يكون مُحدثا إِذْ كل مَحْدُود فَهُوَ مُحدث كَمَا قد بَيناهُ ثمَّ نعترضهم فِي قسمتهم من قبل أَن يبلغُوا إِلَى الْحَيّ النَّاطِق وعَلى بعض الْقسم قبله يَقع الثَّانِي وَهَذِه كلهَا مخلوقات فَلَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى بَعْضهَا أَو كَانَت هَذِه الصِّفَات وَاقعَة عَلَيْهِ من طَرِيق وجوب وُقُوعهَا علينا لَكَانَ مخلوقاً تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَقَالَ بَعضهم لما كَانَت الثَّلَاثَة تجمع الزَّوْج والفرد وَهَذَا أكمل الْأَعْدَاد وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى كَذَلِك لِأَنَّهُ غَايَة الْكَمَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا من أغث الْكَلَام لوجوه ضَرُورِيَّة أَحدهَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِكَمَال وَلَا تَمام لِأَن الْكَمَال والتمام من بَاب الْإِضَافَة لِأَن التَّمام والكمال لَا يقعان الْبَتَّةَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ النَّقْص لِأَن مَعْنَاهُمَا إِنَّمَا هُوَ إِضَافَة شيءٍ إِلَى شيءٍ بِهِ كملت صِفَاته ولولاه لَكَانَ نَاقِصا لَا معنى للتمام والكمال إِلَّا هَذَا فَقَط وَالْوَجْه الثَّانِي أَن كل عدد بعد الثَّلَاثَة فَهُوَ أتم من الثَّلَاثَة لِأَنَّهُ يجمع إِمَّا زوجا وزوجا وَإِمَّا زوجا وزوجاً وفرداً زأما أَكثر من ذَلِك وبالضرورة يعلم أَن مَا جمع أَكثر من زوج فَهُوَ أتم وأكمل مِمَّا لم يجمع إِلَّا زوجا وفرداً فَقَط فَيلْزمهُ أَن يَقُول أَن ربه أعدادا لَا تتناهى أَو أَنه أَكثر الْأَعْدَاد وَهَذَا أَيْضا مُمْتَنع محَال لَو قَالَه وَكفى فَسَادًا بقول يُؤَدِّي إِلَى الْمحَال وَالْوَجْه الثَّالِث أَن هَذَا الِاسْتِدْلَال مضاد لقَولهم أَن الثَّلَاثَة وَاحِدًا وَالْوَاحد ثَلَاثَة لِأَن الثَّلَاثَة الَّتِي تجمع الزَّوْج والفرد هِيَ غير الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ عنْدكُمْ وَاحِد بِلَا شكّ لِأَن الثَّلَاثَة الَّتِي تجمع الزَّوْج والفرد لَيست الْفَرد الَّذِي هُوَ فِيهَا وَهِي جَامِعَة لَهُ وَلغيره بل وَلَا هِيَ بعض فَالْكل لَيْسَ هُوَ الْجُزْء والجزء لَيْسَ هُوَ الْكل والفرد جُزْء للثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة كل للفرد وَللزَّوْج مَعَه فالفرد غير الثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة غير الْفَرد وَالْعدَد مركب من وَاحِد يُرَاد بِهِ الْفَرد وَوَاحِد كَذَلِك وَوَاحِد كَذَلِك إِلَى نِهَايَة الْعدَد الْمَنْطُوق بِهِ فالعدد لَيْسَ الْوَاحِد وَالْوَاحد لَيْسَ هُوَ الْعدَد لَكِن الْعدَد مركب من الْآحَاد الَّتِي هِيَ الْأَفْرَاد وَهَكَذَا كل مركب من أَجزَاء فَذَلِك الْمركب لَيْسَ هُوَ جزأ من أَجْزَائِهِ كَالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مركب من حرف وحرف حَتَّى يقوم الْمَعْنى الْمعبر عَنهُ فَالْكَلَام لَيْسَ هُوَ الْحَرْف والحرف لَيْسَ هُوَ الْكَلَام وَالْوَجْه الرَّابِع أَن هَذَا الْمَعْنى السخيف الَّذِي قَصده هَذَا الْجَاهِل نجده فِي الْإِثْنَيْنِ لِأَن الْإِثْنَيْنِ عدد يجمع فَردا وفرداً وَهُوَ زوج مَعَ ذَلِك فقد وجدنَا فِي الْإِثْنَيْنِ الزَّوْج والفرد فَيلْزمهُ أَن يَجْعَل ربه اثْنَيْنِ وَالْوَجْه الْخَامِس أَن كل عدد فَهُوَ مُحدث وَكَذَلِكَ كل مَعْدُود يَقع عَلَيْهِ فَهُوَ أَيْضا مُحدث على مَا قد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا هَذَا والمعدود لم يُوجد قطّ إِلَّا ذَا عدد وَالْعدَد لم يُوجد قطّ إِلَّا فِي مَعْدُود وَالْوَاحد لَيْسَ عددا على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِه يتم الْكَلَام فِي التَّوْحِيد بحول الله وقوته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وهم يَقُولُونَ أَن الْإِلَه اتَّحد مَعَ الْإِنْسَان بعنى أَنَّهُمَا صَارا شَيْئا وَاحِدًا فَقَالَت اليعقوبية كاتحاد المَاء يلقِي الخمير فيصيران شَيْئا وَاحِدًا وَقَالَت النسطورية كاتحاد المَاء يلقِي فِي الزَّيْت فَكل وَاحِد مِنْهُمَا بَاقٍ بِحَسبِهِ وَقَالَت الملكية كاتحاد النَّار فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الصفيحة المحماة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل هَذَا فِي غَايَة الْفساد أول ذَلِك أَنَّهَا دُعَاء وَلَا يعجز عَن مثلهَا متحامق وَلَيْسَ فِي إنجيلهم شَيْء من هَذِه الْأَقْسَام وَالثَّانِي أَنَّهَا كلهَا محَال لِأَن قَول الملكية فِي تمثيلهم بِمَا مثلُوا إِنَّمَا هُوَ عرض فِي جَوْهَر وَلَا يتَوَهَّم غير ذَلِك فالإله على قَوْلهم عرض وَالْإِنْسَان جَوْهَر وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد وَقَول اليعقوبية أفسد لأننا نقُول لَهُم إِن كَانَ اسْتَحَالَ الْإِلَه إنْسَانا فالمسيح إِنْسَان وَلَيْسَ إِلَهًا وَإِن كَانَ الْإِنْسَان اسْتَحَالَ إِلَهًا فالمسيح إِلَه وَلَيْسَ بِإِنْسَان وَإِن كَانَ كِلَاهُمَا لم يسْتَحل وَاحِد مِنْهَا إِلَى الآخر فَهَذَا هُوَ قَول النسطورية لَا قَوْلهم وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا اسْتَحَالَ إِلَى الآخر فقد صَار الْإِلَه إِنْسَان لَا إِلَهًا وَصَارَ الْإِنْسَان إِلَهًا لَا إنْسَانا وحصلوا بعد هَذَا الْحمق على قَول النسطورية وَلَا مزِيد وَلنْ كَانَا استحالا إِلَى غير الْإِنْسَان والإله فالمسيح لَا إِلَه وَلَا إِنْسَان وكل هَذَا خلاف قَوْلهم وَأما النسطورية فَلم يزِيدُوا على أَن قَالُوا إِن الْإِنْسَان إِنْسَان والإله إِلَه وَهَكَذَا كل فَاضل وفاسق فِي الْعَالم هُوَ إِنْسَان والإله إِلَه فالمسيح وَغَيره من النَّاس سَوَاء وَأَيْضًا فَإِن مَا لَا قُوَّة محَال لِأَن الَّذِي لم يزل لَا يَسْتَحِيل إِلَى طبيعة الْإِنْسَان الْمُحدث وَلَا يَسْتَحِيل الْمُحدث إِلَهًا لم يزل وَهَذَا محَال بِذَاتِهِ مُمْتَنع لَا يتشكك وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان لَا يجاور الْإِلَه مجاورة مكانية لِأَنَّهُ محَال أَيْضا وَكَذَا لَا يتَوَهَّم وَلَا يُمكن أَن يكون الْإِلَه عرضا يحملهُ جَوْهَر الْإِنْسَان وَلَا يُمكن أَن يكون الْإِنْسَان عرضا يحملهُ الْإِلَه فِي ذَاته كَمَا تَدعِي الملكية فِي تَشْبِيه ذَلِك الِاتِّحَاد بضوء الشَّمْس فِي الْبَيْت وبالنار فِي الحديدة المحماة فقد صَحَّ أَن كل مَا قَالُوا محَال وباطل وسخيف لَا يقبله إِلَّا مخذول وَلَا يُمكنهُم ادِّعَاء وجود شَيْء من هَذَا فِي كتب الْأَنْبِيَاء أصلا وَأَيْضًا فَإِنَّهُم يضيفون إِلَى ذكرهم الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس شَيْئا رَابِعا وَهُوَ الْكَلِمَة وَهِي المتحدة عِنْدهم بالإنسان الملتحمة بِهِ فِي مشيمة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فَإِن أمانتهم الَّتِي أَنْفقُوا عَلَيْهَا كلهم هِيَ كَمَا نورده نصا نؤمن بِاللَّه الْأَب مَالك كل شَيْء صانع مَا يرى وَمَا لَا يرى وبالرب الْوَاحِد يسوع الْمَسِيح بكر الْخَلَائق كلهَا وَلَيْسَ بمصنوع الْإِلَه حق من الْإِلَه حق من جَوْهَر أَبِيه الَّذِي بِيَدِهِ انفنت العوالم وَخلق كل شَيْء الَّذِي من أجلنا معشر النَّاس وَمن أجل خلاصنا نزل من السَّمَاء وتجسد من روح الْقُدس وَصَارَ إنْسَانا وَولد من مَرْيَم البتول وألم وصلب أَيَّام قيطوش بلاطش وَدفن وَقَامَ وَفِي الْيَوْم الثَّالِث كَمَا هُوَ مَكْتُوب وَصعد إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 السَّمَاء وَجلسَ عَن يَمِين الْأَب وَهُوَ مستعد للمجيء تَارَة أُخْرَى للْقَضَاء بَين الْأَمْوَات والأحياء ونؤمن بِروح الْقُدس الْوَاحِد روح الْحق الَّذِي هُوَ مُشْتَقّ من أَبِيه روح محبَّة وبمعبودية وَاحِدَة لغفران الْخَطَايَا وبجماعة وَاحِدَة قدسية سليحية جائليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إِلَى أَبَد الآبدين وَقَالَ فِي أول إنجيل يوحنا التلميذ فِي البدء كَانَت الْكَلِمَة والكلمة عِنْد الله وَالله كَانَ الْكَلِمَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ أَقْوَال إِذا تأملها ذُو عقل علم أَنَّهَا وساوس أَو جُنُون ملقى من الشَّيْطَان لَا يمْتَحن بِهِ إِلَّا مخذول مشهود لَهُ بِبَرَاءَة الله تَعَالَى مِنْهُ وَيُقَال لَهُم الْكَلِمَة هِيَ الْأَب أَو الابْن أَو روح الْقُدس أم شَيْء رَابِع فَإِن قَالُوا شَيْء رَابِع فقد خَرجُوا عَن التَّثْلِيث إِلَى التربيع وَإِن قَالُوا إِنَّهَا أحد الثَّلَاثَة سئلوا عَن الدَّلِيل على ذَلِك إِذْ الدَّعْوَى لَا يعجز عَنْهَا أحد ثمَّ يُقَال لَهُم الْأَب هُوَ الابْن أم غَيره فَإِن قَالُوا هُوَ غَيره سئلوا أَيْضا من الملتحم فِي مشيمة مَرْيَم المتحد مَعَ طبيعة الْمَسِيح الْأَب أم الابْن فَإِن قَالُوا الابْن فقد بَطل أَن يكون هُوَ الْأَب وخالفوا يوحنا إِذْ يَقُول فِي أول إنجيله إِن الْكَلِمَة هِيَ الله فَإِذا كَانَت هِيَ الله والكلمة التحمت فِي مشيمة مَرْيَم فَالله تَعَالَى هُوَ نَفسه التحم فِي مشيمة مَرْيَم وَفِي أمانتهم أَن الابْن هُوَ الَّذِي التحم فِي مشيمة مَرْيَم وَهَذِه وساوس لَا نَظِير لَهَا وَيُقَال أَيْضا هَل معنى التحم إِلَّا صَار لَحْمًا وَهَذَا غير قَول النسطورية والملكية وَإِن قَالُوا بل الْأَب فقد بَطل أَن يكون هُوَ الابْن وخالفوا يوحنا وَالْأَمَانَة وَإِن قَالُوا هُوَ الْأَب وَهُوَ الابْن تركُوا قَوْلهم أَن الابْن يقْعد عَن يَمِين أَبِيه وَأَن الْأَب يعلم وَقت الْقِيَامَة وَالِابْن لَا يعلمهَا وَقَوْلهمْ فِي إنجيل يوحنا الْأَب فوض الْأَمر إِلَى ابْنه وَالْأَب أكبر من الابْن فَهَذِهِ نُصُوص على أَن الابْن غير الْأَب إِذْ لَا يقْعد الْمَرْء عَن يَمِين نَفسه وَلَا يُفَوض الْأَمر إِلَى نَفسه وَلَا يجهل مَا يعلم وَهَذَا كُله يبطل قَوْلهم أَن الابْن هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة أَو غير ذَلِك لِأَن هَذِه الصِّفَات لَا تقعد عَن يَمِين حاملها وَلَا يُفَوض إِلَيْهَا شَيْء وَإِن قَالُوا لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيره دخل عَلَيْهِم من الْجُنُون مَا يدْخل على من ادّعى أَن الصِّفَات لَا هِيَ الْمَوْصُوف وَلَا هِيَ غَيره وَإِن قَالُوا الْأَب هُوَ الابْن وَهُوَ غَيره لم يكن ذَلِك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عَن الْمَعْقُول ولزمهم أَن الابْن ابْن لنَفسِهِ وَأب لنَفسِهِ وَأَن الْأَب أَب لنَفسِهِ وَابْن لنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي الْحمق والهوس أَكثر من هَذَا وَلَا مُتَعَلق لَهُم بِشَيْء مِمَّا فِي الزبُور وَلَا فِي كتاب شعياء وَغَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أَن المُرَاد بِمَا ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 هُنَالك هُوَ عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقد قَالَ لوقا فِي آخر إنجيله أَنه كَانَ نَبيا مقتدرا عبد الله وَهَذَا كُله بَين عَظِيم مناقضتهم وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه فَإِن تعلقوا بِمَا فِي الْإِنْجِيل من ذكر الْمَسِيح أَنه ابْن الله قيل لَهُم فِي الْإِنْجِيل أَيْضا أبي وأبيكم الله إلهي وإلهكم وَأمرهمْ إِذا دعوا أَن يَقُولُوا يَا أَبَانَا السماوي فَلهُ من ذَلِك كَالَّذي لَهُم وَلَا فرق فَإِن قَالُوا أَنه أَتَى بالعجائب قيل لَهُم والحواريون أَيْضا عنْدكُمْ أَتَوا بالعجائب ومُوسَى قبله والياس وَسَائِر الْأَنْبِيَاء قد أَتَوا بِمثل مَا أَتَى بِهِ من إحْيَاء الْمَوْتَى وَغَيره فَأَي فرق بَينه وَبينهمْ على أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من الْإِنْجِيل نَص الْأَمَانَة الَّتِي لَا يَصح الْإِيمَان عِنْدهم إِلَّا بهَا من ذكر أَب وَابْن وروح الْقُدس مَعًا وَسَائِر مَا فِيهَا وَإِنَّمَا تَقْلِيد لأسلافهم من الأساقفة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وأمانتهم الَّتِي ذكرُوا أَنهم متفقون عَلَيْهَا مُوجبَة أَن الابْن هُوَ الَّذِي نزل من السَّمَاء وتجسد من روح الْقُدس وَصَارَ إنْسَانا وَقتل وصلب فَيُقَال لَهُم هَذَا الابْن الَّذِي فِي أمانتكم أَنه نزل من السَّمَاء أمخلوقاً كَانَ أَو غير مَخْلُوق بل كَانَ لم يزل فَإِن قَالُوا كَانَ مخلوقاً فقد تركُوا قَوْلهم لَا سِيمَا أَن قَالُوا لَيْسَ هُوَ غير الْأَب بل يصير الْأَب وروح الْقُدس مخلوقين وَإِن قَالُوا كَانَ قبل أَن ينزل غير مَخْلُوق قيل لَهُم فقد صَار مخلوقاً إنْسَانا وَهَذَا محَال وتناقض وَأَيْضًا فقد لزم من هَذَا أَن الابْن مَخْلُوق وروح الْقُدس مَخْلُوق إِذْ صَار إنْسَانا ثمَّ يُقَال لَهُم أخبرونا عَن هَذَا الابْن الَّذِي أخبرتم عَنهُ بِمَا لم تخبروا عَن الْأَب وَالَّذِي يقْعد عَن يَمِين الرب ثمَّ ينزل لفصل الْقَضَاء أَله علم وحياة أم لَا علم لَهُ وَلَا حَيَاة فَإِن قَالُوا لَا علم لَهُ وَلَا حَيَاة فارقوا إِجْمَاعهم ولزمهم ضَرُورَة أَن قَالُوا مَعَ ذَلِك أَنه غير الْأَب الَّذِي لَهُ حَيَاة وَعلم إِذْ مَا لَا علم لَهُ هُوَ بِلَا شكّ غير الَّذِي لَهُ علم وَالَّذِي لَا حَيَاة لَهُ هُوَ بِلَا شكّ غير الَّذِي لَهُ حَيَاة وَهَذَا ترك مِنْهُم للنصرانية وَإِن قَالُوا بل لَهُ علم وحياة لَزِمَهُم أَن الأزليين خَمْسَة الْأَب وَعلمه وحياته وَالِابْن الَّذِي هُوَ علم الْأَب وَعلمه وحياته وَهَكَذَا يسْأَلُون أَيْضا عَن روح الْقُدس وَلَا فرق وَقد قَالَ يوحنا فِي أول إنجيله فَمن تقبله مِنْهُم وآمن بِهِ أَعْطَاهُم سُلْطَانا أَن يَكُونُوا أَوْلَاد الله أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ باسمه الَّذين لم يتوالدوا من دم وَلَا شَهْوَة اللَّحْم وَلَا باه رجل وَلَكِن تَوَالَدُوا من الله فصح بِهَذَا أَن لكل نَصْرَانِيّ من ولادَة الله والأزلية والكون من جَوْهَر الْأَب كَالَّذي للمسيح سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَإِلَّا فقد كذب يوحنا اللعين قَائِل هَذَا الْكفْر وَأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الْكَذِب هُوَ وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَهَذَا يلْزم الأشعرية الَّذين يَقُولُونَ بِأَن علم الله تَعَالَى وَقدرته هما غير الله تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا وَمِمَّا يعْتَرض بِهِ علينا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمن ذهب إِلَى إِسْقَاط الكواف من سَائِر الْمُلْحِدِينَ إِن قَالَ قَائِلهمْ قد نقلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قد صلب وَقتل وَجَاء الْقُرْآن بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقتل وَلم يصلب فَقولُوا لنا كَيفَ كَانَ هَذَا فَإِن جوزتم على هَذِه الكواف الْعِظَام الْمُخْتَلفَة الْأَهْوَاء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الْبَاطِل فَلَيْسَتْ بذلك أولى من كافتكم الَّتِي نقلت أَعْلَام نَبِيكُم وشرائعه وَكتابه فَإِن قُلْتُمْ اشْتبهَ عَلَيْهِم فَلم يعْتَمد وانقل الْبَاطِل فقد جوزتم التلبيس على الكواف فَلَعَلَّ كافتكم أَيْضا متلبس عَلَيْهَا فَلَيْسَ سَائِر الكواف أولى بذلك من كافتكم وتولوا لنا كَيفَ فرض الْإِقْرَار بصلب الْمَسِيح عنْدكُمْ قبل وُرُود الْخَبَر عَلَيْكُم بِبُطْلَان صلبه وَقَتله فَإِن قُلْتُمْ كَانَ الْفَرْض على النَّاس الْإِقْرَار بصلبه وَجب من قَوْلكُم الْإِقْرَار أَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس الْإِقْرَار بِالْبَاطِلِ وَأَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس تَصْدِيق الْبَاطِل والتدين بِهِ وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَإِن قُلْتُمْ كَانَ الْفَرْض عَلَيْكُم الْإِنْكَار لصلبه فقد أوجبتم أَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس تَكْذِيب الكواف وَفِي هَذَا إبِْطَال قَول كافتكم بل إبِْطَال جَمِيع الشَّرَائِع بل إبِْطَال كل خبر كَانَ فِي الْعَالم عَن كل بلد وَملك وَنَبِي وفيلسوف وعالم ووقعتم وَفِي هَذَا مَا فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الإلزامات كلهَا فَاسِدَة فِي غَايَة الْحِوَالَة والاضمحلال بِحَمْد الله تَعَالَى وَنحن مبنيون ذَلِك بالبراهين الضرورية بَيَانا لَا يخفى على من لَهُ أدنى فهم بحول الله تَعَالَى وقوته فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن صلب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لم يقلهُ قطّ كَافَّة وَلَا صَحَّ بالْخبر قطّ لِأَن الكافة الَّتِي يلْزم قبُول نقلهَا هِيَ إِمَّا الْجَمَاعَة الَّتِي يُوقن أَنَّهَا لم تتوطا لتنابذ طرقهم وَعدم التقائهم وَامْتِنَاع اتِّفَاق خواطرهم على الْخَبَر الَّذِي نقلوه عَن مُشَاهدَة أَو رَجَعَ إِلَى مُشَاهدَة وَلَو كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَإِمَّا أَن يكون عدد كثير يمْتَنع مِنْهُ الِاتِّفَاق فِي الطبيعة على التَّمَادِي على سنَن مَا تواطؤا عَلَيْهِ فَأخْبرُوا بِخَبَر شاهدوه وَلم يَخْتَلِفُوا فِيهِ فَمَا نَقله أحد أهل هَاتين الصفتين عَن مثل أَحدهمَا وَهَكَذَا حَتَّى يبلغ إِلَى مُشَاهدَة فَهَذِهِ صفة الكافة الَّتِي يلْزم قبُول نقلهَا ويضطر خَبَرهَا سامعها إِلَى تَصْدِيقه وَسَوَاء كَانُوا عُدُولًا أَو فساقاً أَو كفَّارًا وَلَا يقطع على صِحَّته إِلَّا ببرهان فَلَمَّا صَحَّ ذَلِك نَظرنَا فِيمَن نقل خبر صلب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فوجدناه كواف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عَظِيمَة صَادِقَة بِلَا شكّ فِي نقلهَا جيلاً بعد جيل إِلَى الَّذين ادعوا مُشَاهدَة صلبه فَإِن هُنَالك تبدلت الصّفة وَرجعت إِلَى شَرط مأمورين مُجْتَمعين مَضْمُون مِنْهُم الْكَذِب وَقبُول الرِّشْوَة على قَول الْبَاطِل وَالنَّصَارَى يقرونَ بِأَنَّهُم لم يقدموا على أَخذه نَهَارا خوف الْعَامَّة وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ لَيْلًا عِنْد افْتِرَاق النَّاس عَن الفصح وَأَنه لم يبْق فِي الْخَشَبَة إِلَّا سِتّ سَاعَات من النَّهَار وَأَنه أنزل إِثْر ذَلِك وَأَنه لم يصلب إِلَّا فِي مَكَان نازح عَن الْمَدِينَة فِي بُسْتَان فخار متملك للفخار لَيْسَ موضعا مَعْرُوفا بصلب من يصلب وَلَا مَوْقُوفا لذَلِك وَأَنه بعد هَذَا كُله رسي الشَّرْط على أَن يَقُولُوا أَن أَصْحَابه سَرقُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِك وَأَن مَرْيَم المجدلانية وَهِي امْرَأَة من الْعَامَّة تقدم على حضورمة مَوضِع صلبه بل كَانَت واقفة على بعد تنظر هَذَا كُله فِي نَص الْإِنْجِيل عِنْدهم فَبَطل أَن يكون صلبه مَنْقُولًا بكافة بل بِخَبَر يشْهد ظَاهره على أَنه مَكْتُوم متواطأ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ الحواريون ليلتئذ بِنَصّ الْإِنْجِيل إِلَّا خَائِفين على أنفسهم غيباً عَن ذَلِك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين وَإِن شَمْعُون الصَّفَا غرر وَدخل دَار قيقان الكاهن أَيْضا بضوء النَّهَار فَقَالَ لَهُ أَنْت من أَصْحَابه فَانْتفى وَجحد وَخرج هَارِبا عَن الدَّار فَبَطل أَن ينْقل خبر صلبه أحد تطيب النَّفس عَلَيْهِ أَن تظن بِهِ الصدْق فَكيف أَن يَنْقُلهُ كافةٌ وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} إِنَّمَا عَنى تَعَالَى أَن أُولَئِكَ الْفُسَّاق الَّذين دبروا هَذَا الْبَاطِل وتواطؤا عَلَيْهِ هم شبهوا على من قلدهم فَأَخْبرُوهُمْ أَنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون فِي ذَلِك عالمون أَنهم كذبة وَلَو أمكن أَن يشبه ذَلِك على ذِي حاسة سليمَة لبطلت النبوات كلهَا إِذْ لَعَلَّهَا شبهت على الْحَواس السلمِيَّة لَو أمكن ذَلِك لبطلت الْحَقَائِق كلهَا ولأمكن أَن يكون كل وَاحِد منا يشبه عَلَيْهِ فِيمَا يَأْكُل ويلبس وفيمن يُجَالس وَفِي حَيْثُ هُوَ فَلَعَلَّهُ نَائِم أَو مشبه على حواسه وَفِي هَذَا خُرُوج إِلَى السخف وَقَول السوفسطائية والحماقة وَقد شاهدنا نَحن مثل ذَلِك وَذَلِكَ أننا اندرنا للجبل لحضور دفن الْمُؤَيد هِشَام بن الحكم الْمُسْتَنْصر فَرَأَيْت أَنا وغيري نعشاً فِيهِ شخص مكفن وَقد شَاهد غسله شَيْخَانِ جليلان حكيمان من حكام الْمُسلمين وَمن عدُول الْقُضَاة فِي بَيت وخارج الْبَيْت أبي رَحمَه الله وَجَمَاعَة عُظَمَاء الْبَلَد ثمَّ صلينَا فِي أُلُوف من النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ لم يلبث شهوراً نَحْو السَّبْعَة حَتَّى ظهر حَيا وبويع بعد ذَلِك بالخلافة وَدخلت عَلَيْهِ أَنا وغيري وَجَلَست بَين يَدَيْهِ ورأيته وَبَقِي ثَلَاثَة أَعْوَام غير شَهْرَيْن وَأَيَّام قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما قَوْله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بَينا أَنَّهَا لم تكن كَافَّة قطّ وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا كَافَّة فَكيف لَا يجوز ذَلِك فِي كل آيَة تحيل الطبائع والحواس فهم ضَرُورَة لَا يحمل على الممكنات فَلَو صَحَّ أَنَّهَا كَانَت كَافَّة لَكَانَ خبر الله تَعَالَى أَنه شبه لَهُم حَاكما على حواسهم ومحيلالها كخروج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة هَاجر بِحَضْرَة مائَة رجل من قُرَيْش وَقد حجب الله سُبْحَانَهُ أَبْصَارهم عَنهُ فَلم يروه وَأما مَا لم يَأْتِ خبر عَن الله عز وَجل بِأَنَّهُ شبه على الكافة فَلَا يجوز أَن يُقَال ذَلِك لِأَنَّهُ قطع على الْمحَال وإحالة طبيعة وإحالة الطبائع لَا تدخل فِي الْمُمكن إِلَّا أَن يَأْتِي بذلك يَقِين عَن الله عز وَجل فَيلْزم قبُوله وَأما التَّشْبِيه على الْوَاحِد والاثنين وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ جَائِز وَكَذَلِكَ فقد الْعقل والسخافة يجوز ذَلِك على الْوَاحِد والاثنين وَنَحْو ذَلِك وَلَا يجوز على الْجَمَاعَة كلهَا وَقَوله تَعَالَى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} إِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن الَّذين يَقُولُونَ تقليداً لأسلافهم من النَّصَارَى وَالْيَهُود أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قتل وصلب فَهَؤُلَاءِ شبه لَهُم القَوْل أَي أدخلُوا فِي شُبْهَة مِنْهُ وَكَانَ المشبهون لَهُم شُيُوخ السوء فِي ذَلِك الْوَقْت وشرطهم المدعون أَنهم قَتَلُوهُ وصلبوه وهم يعلمُونَ أَنه لم يكن ذَلِك وَإِنَّمَا أخذُوا من أمكنهم فَقَتَلُوهُ وصلبوه فِي استتار وَمنع من حُضُور النَّاس ثمَّ أنزلوه ودفنوه تمويهاً على الْعَامَّة الَّتِي شبه الْخَبَر لَهَا ثمَّ نقُول للْيَهُود وَالنَّصَارَى بعد أَن بَينا بحول الله وقوته بَيَان مَا شنعوه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن كوافكم قد نقلت عَن بعض أنبيائكم فسوقاً وَوَطْء إِمَاء وَهُوَ حرَام عنْدكُمْ وَعَن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَنه هُوَ الَّذِي عمل الْعجل لبني إِسْرَائِيل وَأمرهمْ بِعِبَادَتِهِ والرقص أَمَامه وَقد نزه الله تَعَالَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام عَن عبَادَة غَيره وَعَن الْأَمر بذلك وَعَن كل مَعْصِيّة ورذيلة فَإِذا جوزوا كلهم هَذَا على أَنْبِيَائهمْ مِنْهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ كَانَ كل مَا أمروهم بِهِ من جنس عمل الْعجل والرقص وَالْأَمر بِعِبَادَتِهِ وَمن جنس وَطْء الْإِمَاء وَسَائِر مَا نسبوه إِلَى دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ وَلَا سِيمَا وهم يقرونَ بِأَن الْعجل كَانَ يخور بطبعه وَأما نَحن فجوابنا فِي هَذَا كُله بِأَن لَيْسَ شَيْء مِنْهُ نقل كَافَّة وَلَكِن نقل آحَاد كذبُوا فِيهِ وَأما خوار الْعجل فَإِنَّمَا هُوَ على مَا روينَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من أَنه كَانَ صفير الرّيح تدخل من فِيهِ وَتخرج من دبره لَا أَنه خار بطبعه قطّ وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنه خار بطبعه لَكَانَ ذَلِك من أجل الْقُوَّة الَّتِي كَانَت فِي القبضة الَّتِي قبضهَا السامري من إِثْر جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَالَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ فَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْله كَيفَ كَانَ الْفَرْض قبل وُرُود النَّص بِبُطْلَان صلبه الْإِقْرَار بصلبه أم الْإِنْكَار لَهُ فَهَذِهِ قسْمَة فَاسِدَة شغبية قد حذر مِنْهَا الْأَوَائِل كثيرا وَنبهَ عَلَيْهَا أهل الْمعرفَة بحدود الْكَلَام وَذَلِكَ أَنهم أوجبوا فرضا ثمَّ قسموه على قسمَيْنِ إِمَّا فرض بإنكار وَإِمَّا فرض بِإِقْرَار وأضربوا عَن الْقسم الصَّحِيح فَلم يذكروه وَهَذَا لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ إِلَّا جَاهِل أَو سخيف مغالط غابن لنَفسِهِ غاش لمن اعتر بِهِ وَإِنَّمَا الْحَقِيقَة هَاهُنَا أَن يَقُول هَل يلْزم النَّاس قبل وُرُود الْقُرْآن فرض بِالْإِقْرَارِ بصلب الْمَسِيح أَو بإنكار صلبه أَو لم يلْزمهُم فرض بِشَيْء من ذَلِك فَهَذِهِ هِيَ الْقِسْمَة الصَّحِيحَة وَالسُّؤَال الصَّحِيح وَحقّ الْجَواب أَنه لم يلْزم النَّاس قطّ قبل وُرُود الْقُرْآن فرض بِشَيْء من ذَلِك لَا بِإِقْرَار وَلَا بإنكار وَإِنَّمَا كَانَ خَبرا لَا يقطع الْعذر وَلَا يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ مُمكن صدق قَائِله فقد قتل أَنْبيَاء كَثِيرَة وممكن أَن يكون ناقله كذب فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 هُوَ بِمَنْزِلَة شَيْء مغيب فِي دَار فَيُقَال لهَذَا المعرض بِهَذَا السُّؤَال الْفَاسِد مَا الْفَرْض على النَّاس فِيمَا فِي هَذِه الدَّار الْإِقْرَار بِأَن فِيهَا رجلا أم الْإِنْكَار لذَلِك فَهَذَا كُله لَا يلْزم مِنْهُ شَيْء وَلم ينزل الله عز وَجل كتابا قبل الْقُرْآن يفْرض إِقْرَار بصلب الْمَسِيح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بإنكاره وَإِنَّمَا ألزم الْفَرْض بعد نزُول الْقُرْآن بتكذيب الْخَبَر بصلبه فَإِن قَالُوا قد نقل الحواريون صلبه وهم أَنْبيَاء وعدول قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عَلَيْهِ السَّلَام هم الناقلون عَنْهُم الْكَذِب فِي نسبه وَالْقَوْل بالتثليث الَّذِي من قَالَ بِهِ فَهُوَ كَاذِب على الله تَعَالَى مفتر عَلَيْهِ كَافِر بِهِ فَإِن كَانَ النَّاقِل لذَلِك عَنْهُم صَادِقا أَو كَانُوا كَافَّة فَمَا كَانَ يوحنا وَمَتى وبولس إِلَّا كفَّارًا كاذبين وَمَا كَانُوا قطّ من صالحي الحواريين وَإِن كَانَ ناقل مَا ذكرنَا عَنْهُم كَاذِبًا فالكاذب لَا يقوم بنقله حجَّة فَبَطل التمويه الْمُتَقَدّم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ متكلموهم إِن الِاتِّحَاد الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد للإنجيل وَلم يكن نقلة وَلَا حَرَكَة وَلَا فَارق الْبَارِي وَلَا الْعلم مَا كَانَا عَلَيْهِ وَلَا انتقلا فَيُقَال لَهُم هَذَا إبِْطَال للاتحاد وَقَول مِنْكُم بِأَن حَظه وحظ غَيره فِي ذَلِك سَوَاء وَخلاف لأمانتكم الَّتِي فِيهَا أَن الابْن نزل من السَّمَاء وتجسد وَولد وَقتل وَدفن وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم الْمَسِيح حجاب الله خاطبه الله تَعَالَى مِنْهُ فَيُقَال لَهُم أَنْتُم تَقولُونَ أَن الْمَسِيح رب معبود وإله خَالق والحجاب عنْدكُمْ مَخْلُوق والمسيح عِنْد بَعْضكُم طبيعة وَاحِدَة وَعند بَعْضكُم طبيعتان ناسوتية وَلَا هوتية فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين مَعًا اللاهوتية والناسوتية أم تَعْبدُونَ أَحدهمَا دون الْأُخْرَى فَإِن قَالُوا نعبدهما جَمِيعًا أقرُّوا بِأَنَّهُم يعْبدُونَ إنْسَانا وحجاباً مخلوقاً مَعَ الله تَعَالَى وَهَذَا أقبح مَا يكون من الشّرك وَإِن قَالُوا بل نعْبد اللاهوت وَحده قيل لَهُم فَإِنَّمَا تَعْبدُونَ نصف الْمَسِيح لَا كُله لِأَنَّهُ طبيعتان ولستم تَعْبدُونَ إِلَّا أَحدهمَا دون الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ يسْأَلُون عَن موت الْمَسِيح وصلبه فَمن قَول الملكية والنسطورية إِن الْمَوْت والصلب إِنَّمَا وَقع على الناسوت خَاصَّة فَيُقَال لَهُم فَأنْتم فِي قَوْلكُم مَاتَ الْمَسِيح وصلب كاذبون لِأَنَّهُ إِنَّمَا مَاتَ نصفه وصلب نصفه فَقَط لِأَن اسْم الْمَسِيح عنْدكُمْ وَاقع على اللاهوت والناسوت كليهمَا مَعًا لَا على أَحدهمَا دون الآخر وكل من قَالَ من اليعقوبية الْإِنْسَان والإله شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يعبد إنْسَانا لِأَنَّهُ إِذا عبد الْإِلَه والإله هُوَ الْإِنْسَان فقد عبد إنْسَانا وربه إِنْسَان مَخْلُوق وكل من قَالَ مِنْهُم الْإِلَه غير الْإِنْسَان فقد أبطل الِاتِّحَاد وَهَكَذَا يُقَال لَهُم فِي الْحجاب مَعَ الله تَعَالَى سَوَاء بِسَوَاء ويلزمهم جَمِيعهم إِذْ قد أقرُّوا بِعبَادة الْمَسِيح هَكَذَا هَكَذَا جملَة وَأَنه رب خَالق وَفِي الْإِنْجِيل أَنه جَاع وَأكل الْخبز وَالْحِيتَان وعرق وَضرب أَن رَبهم أكل وجاع وَأَن الْإِلَه ضرب وَلَطم وصلب وَكفى بِهَذَا رذالة وفحش وَبَيَان بطلَان وَيُقَال للملكية واليعقوبية الْقَائِلين بِأَن الْمَسِيح ابْن الله وَابْن مَرْيَم قد أقررتم أَن الْمَسِيح إِنْسَان وإله فالإنسان هُوَ ابْن الله وَابْن مَرْيَم والإله هُوَ ابْن مَرْيَم وَهَذِه غَايَة الشناعة فَإِن قَالُوا مَا تَقولُونَ فِيمَا فِي كتابكُمْ {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} وَأَنه تَعَالَى كلم مُوسَى من جَانب الطّور من الشَّجَرَة من شاطىء الْوَادي قُلْنَا التكليم قعل الله تَعَالَى مَخْلُوق والحجاب إِنَّمَا هُوَ للتكليم والتكليم هُوَ الَّذِي حدث فِي الشَّجَرَة وشاطىء الْوَادي وجانب الطّور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وكل ذَلِك مَخْلُوق مُحدث وَكَذَلِكَ تحول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَة دحْيَة إِنَّمَا هُوَ أَن الله تَعَالَى جعل للْمَلَائكَة وَالْجِنّ قُوَّة يتحولون بهَا فِيمَا شاؤا من الصُّور وَكلهمْ مَخْلُوق تعاقب عَلَيْهِم الْإِعْرَاض بِخِلَاف الله تَعَالَى فِي ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّا يعْتَرض بِهِ على النَّصَارَى وَإِن كَانَ لَيْسَ برهاناً ضَرُورِيًّا على جَمِيعهم لكنه برهَان ضَرُورِيّ على كل من تقلد مِنْهُم الشَّرَائِع الَّتِي يعْمل بهَا الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارقية قَاطع لَهُم وَهِي مَسْأَلَة جرت لنا مَعَ بَعضهم وَذَلِكَ أَنهم لَا يخلون من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَكُونُوا يَقُولُونَ بِبُطْلَان النُّبُوَّة بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا أَن يَقُولُوا بإمكانها بعده عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن قَالُوا بِإِمْكَان النُّبُوَّة بعده عَلَيْهِ السَّلَام لَزِمَهُم الْإِقْرَار بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ ثَبت نقل إِعْلَامه بالكواف الَّتِي بِمِثْلِهَا نقلت إِعْلَام عِيسَى وَغَيره عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِن قَالُوا بِبُطْلَان النُّبُوَّة بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَزِمَهُم ترك جَمِيع شرائعهم من صلَاتهم وتعظيمهم الْأَحَد وصيامهم وامتناعهم من اللَّحْم ومناكحتهم وأعيادهم واستباحتهم الْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَترك الْخِتَان وَتَحْرِيم النِّكَاح على أهل المراكب فِي دينهم إِذْ كل مَا ذكرنَا لَيْسَ مِنْهُ فِي أَنَاجِيلهمْ الْأَرْبَعَة شَيْء الْبَتَّةَ بل أَنَاجِيلهمْ مبطلة لكل مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم إِذْ فِيهَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لم آتٍ لأغير شَيْئا من شرائع التَّوْرَاة وَأَنه كَانَ يلْتَزم هُوَ وَأَصْحَابه بعده السبت وأعياد الْيَهُود من الفصح وَغَيره بِخِلَاف كل مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم فَإِذا منعُوا من وجود النُّبُوَّة بعده وَكَانَت الشَّرَائِع لَا تُؤْخَذ إِلَّا عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَّا فَإِن شارعها عَن غير الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَاكم على الله تَعَالَى وَهَذَا أعظم مَا يكون من الشّرك وَالْكذب والسخف فشرائعهم الَّتِي هِيَ دينهم غير مَأْخُوذَة عَن نَبِي أصلا فَهِيَ معاص مفتراة على الله عز وَجل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا حِين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إِن شَاءَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي تَبْيِين أَن الْوَاحِد لَيْسَ عددا فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَن خَاصَّة الْعدَد هُوَ أَن يُوجد عدد آخر مساوٍ لَهُ وَعدد آخر لَيْسَ مُسَاوِيا لَهُ هَذَا شَيْء لَا يَخْلُو من عدد أصلا والمساواة هِيَ أَن تكون إبعاضه كلهَا مُسَاوِيَة لَهُ إِذا جزئت أَلا ترى أَن الْفَرد والفرد مساويان للإثنين وَأَن الزَّوْج والفرد لَيْسَ مُسَاوِيا للزَّوْج الَّذِي هُوَ الإثنان والخمسة مُسَاوِيَة للإثنين وَالثَّلَاثَة غير مُسَاوِيَة للثَّلَاثَة وَهَكَذَا كل عدد فِي الْعَالم فَهَذَا معنى قَوْلنَا أَن الْمسَاوِي وَغير الْمسَاوِي هُوَ خَاصَّة الْعدَد وَهَذِه الْمُسَاوَاة أردنَا لَا غَيرهَا فَلَو كَانَ للْوَاحِد أبعاض مُسَاوِيَة لَهُ لَكَانَ كثيرا بِلَا شكّ لِأَن الْوَاحِد الْمُطلق على الْحَقِيقَة هُوَ الَّذِي لَيْسَ كثيرا هَذَا مَا لاشك فِيهِ عِنْد كل ذِي حس سليم وَكَانَ مَا كَانَ لَهُ أبعاض فَهُوَ كثير بِلَا شكّ فَهُوَ إِذا بِالضَّرُورَةِ لَيْسَ وَاحِدًا فالواحد ضَرُورَة هُوَ الَّذِي لَا أبعاض لَهُ فَإذْ لَا شكّ فِيهِ فالواحد الَّذِي لَا أبعاض لَهُ تساويه لَيْسَ عددا وَهُوَ الَّذِي أردنَا أَن نبين وَأَيْضًا فَإِن الْحس وضرورة الْعقل يَشْهَدَانِ بِوُجُود الْوَاحِد إِذْ لَو لم يكن الْوَاحِد مَوْجُودا لم يقدر على عدد أصلا إِذْ الْوَاحِد مبدأ الْعدَد والمعدود الَّذِي لَا يُوصل إِلَى عدد وَلَا مَعْدُود إِلَّا بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وجوده وَلَو لم يُوجد الْوَاحِد لما وجد فِي الْعَالم عدد وَلَا مَعْدُود أصلا والعالم كُله أعداد ومعدودات مَوْجُودَة فالواحد مَوْجُود ضَرُورَة فَلَمَّا نَظرنَا فِي الْعَالم كُله نظرا طبيعياً ضَرُورِيًّا لم نجد فِيهِ وَاحِدًا على الْحَقِيقَة الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَن كل جرم من الْعَالم فمنقسم مُحْتَمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبدا بِلَا نِهَايَة وكل حَرَكَة فَهِيَ أَيْضا منقسمة بانقسام المتحرك بهَا وَالزَّمَان حَرَكَة الْفلك فَهُوَ منقسم بإنقسام الْفلك فَكل مُدَّة فمنقسمة أَيْضا بانقسام المتحرك بهَا الَّذِي هُوَ الْمدَّة وَكَذَلِكَ كل مقول من جنس أَو نوع أَو فصل وَكَذَلِكَ كل عرض مَحْمُول فِي جرم فَإِنَّهُ منقسم بانقسام حامله هَذَا أَمر يعلم بضرورة الْعقل والمشاهدة وَلَيْسَ الْعَالم كُله شَيْئا غير مَا ذكرنَا فصح ضَرُورَة أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم وَاحِد الْبَتَّةَ وَقد قدمنَا ببرهان ضَرُورِيّ آنِفا أَنه لَا بُد من وجود الْوَاحِد فَإِذا لَا بُد من وجوده وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْء من الْعَالم الْبَتَّةَ فَهُوَ إِذا بِالضَّرُورَةِ شيءٌ غير الْعَالم فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالبضرورة الَّتِي لَا محيد عَنْهَا فَهُوَ الْوَاحِد لأوّل الْخَالِق للْعَالم إِذْ لَيْسَ يُوجد بِالْعقلِ الْبَتَّةَ شيءٌ غير الْعَالم إِلَّا خالقه فَهُوَ الْوَاحِد الأول الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الَّذِي لَا يتكثر الْبَتَّةَ أصلا لَا بِعَدَد وَلَا صفة وَلَا بِوَجْه من الْوُجُوه لَا وَاحِد سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا أول غَيره أصلا وَلَا مخترع فَاعِلا خَالِقًا إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي كل فَرد فِي الْعَالم وَهُوَ الَّذِي يُسمى فِي اللُّغَة عِنْد الْعَدو وَاحِد على الْمجَاز أَنه كثير بِمَعْنى أَنه يحْتَمل أَن يقسم وَأَن لَهُ مساحة كَثِيرَة الْأَجْزَاء فَإِذا قسم ظَهرت الْكَثْرَة فِيهِ وَأما مَا لم يقسم فَهُوَ يعد فَردا حَقِيقِيًّا وَقد ذكرنَا برهَان وجوب احْتِمَال الإنقسام لكل جُزْء فِي الْعَالم فِي آخر كتَابنَا هَذَا ببراهين ضَرُورِيَّة لَا محيد عَنْهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقول فِي الْبَاء وَالتَّاء والثاء وَسَائِر حُرُوف الهجاء أَلَيْسَ كل وَاحِد مِنْهَا وَاحِدًا لَا يَنْقَسِم قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذَا شغب ينيغي أَن تحفظ من مثله لِأَن الْحَرْف إِنَّمَا هُوَ هَوَاء ينْدَفع من مخرج ذَلِك الْحَرْف بعصر بعض آلَات الصَّوْت لَهُ من الرئة وأنابيب الصَّدْر وَالْحلق والحنك وَاللِّسَان والأسنان والشفتين فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَذَلِك الْهَوَاء المندفع جسم طَوِيل عريض عميق فَهُوَ مُحْتَمل الإنقسام ضَرُورَة فَذَلِك الْهَوَاء هُوَ الْحَرْف فالحرف هُوَ جسم مُحْتَمل للْقِسْمَة ضَرُورَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْكَلَام على من يَقُول أَن البارىء خلق الْعَالم جملَة كَمَا هُوَ بِجَمِيعِ أَحْوَاله بِلَا زمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ رَأينَا من يقر بالخالق تَعَالَى وَلَا يقر بِالنُّبُوَّةِ وَمن يذهب إِلَى ذَلِك وناظرناه على ذَلِك فَقلت إِن الَّذِي تَقول مُمكن فِي قُوَّة الله تَعَالَى وَالَّذِي نقُول نَحن من أَنه تَعَالَى خلق من النَّوْع الإنساني ذكر وَاحِدًا وَأُنْثَى وَاحِدَة تناسل النَّاس كلهم مِنْهُمَا مُمكن أَيْضا فَمن أَيْن ملت إِلَى تِلْكَ الحثيثة دون هَذِه فتردد سَاعَة فَلَمَّا لم يجد دَلِيلا قَالَ فَمن أَيْن ملتم أَنْتُم أَيْضا إِلَى هَذِه الحثيثة دون تِلْكَ فَقلت لبراهين ضَرُورِيَّة توجب مَا قُلْنَا وتنفي مَا قُلْتُمْ مِنْهَا أَنه لَو كَانَ مَا قلت لَكَانَ كل من أخرجه الله تَعَالَى حِينَئِذٍ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود من الشبَّان والشيوخ يعلمُونَ ذَلِك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أَنهم الْآن بِهِ حدثوا وَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا قبل ذَلِك لَكِن حدثوا الْآن فِي حَال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وطبخ وَغير ذَلِك وَلَو كَانَ هَذَا لنقلوه إِلَى أَوْلَادهم نقلا يَقْتَضِي لَهُم الْعلم الضَّرُورِيّ بذلك وَلَا بُد كَمَا يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ كل نقل جَاءَ بِأَقَلّ من هَذَا الْمَجِيء مِمَّا كَانَ قبلنَا من الْمُلُوك والدول والوقائع ولبلغ الْأَمر إِلَيْنَا كَذَلِك ولعلمه جَمِيع النَّاس علما ضَرُورِيًّا لِأَن شَيْئا يَنْقُلهُ جَمِيع أهل الأَرْض عَن مشاهدتهم لَهُ لَا يُمكن التشكك فِيهِ أبدا كَمَا نقل طُلُوع الشَّمْس وغروبها وَالْمَوْت والولاد وَغير ذَلِك وَنحن نجد الْأَمر بِخِلَاف هَذَا لأَنا نجد جَمِيع أهل الأَرْض قاطبة لَا يعْرفُونَ هَذَا بل لَا يدريه أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا قلته أَنْت وَمن وافقته أَو من وَافَقت بِرَأْي وَظن لَا بِخَبَر وَنقل أصلا وَهَذَا مَا لَا تخالفنا فِيهِ أَنْت وَلَا أحد من النَّاس فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون خبرٌ نَقله جَمِيع سكان الْعَالم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم إِلَى كل من حدث بعدهمْ عَمَّا شاهدوه يخفي حَتَّى لَا يعرفهُ أحد من سكان الأَرْض هَذَا أَمر يعرف كذبه بِأول الْعقل وبديهته فَقَالَ وَالَّذِي تحكونه أَنْتُم أَيْضا قد وجدنَا جماعات ينكرونه فَيَنْبَغِي أَن يبطل بِمَا عارضتنا بِهِ فَقلت بَين النقلين فرق لَا خَفَاء بِهِ لِأَن نقلنا نَحن لما قُلْنَاهُ إِنَّمَا يرجع إِلَى خبر رجل وَاحِد وَامْرَأَة وَاحِدَة فَقَط وهما أول من أحدثهم الله تَعَالَى من النَّوْع الإنساني وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوجد الْعلم الضَّرُورِيّ إِذْ التواطؤ مُمكن فِي ذَلِك وَلَوْلَا أَن الْأَنْبِيَاء وَالَّذين جَاءُوا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذَلِك مَا صَحَّ قَوْلنَا من جِهَة النَّقْل وَحده بل كَانَ مُمكنا أَن يكون الله تَعَالَى ابْتَدَأَ خلق جمَاعَة تناسل الْخلق مِنْهُم لَكِن لما أخبر من صححت المعجزة قَوْله بِأَن الله تَعَالَى لم يبتدىء من النَّوْع الإنساني إِلَّا رجلا وَاحِدًا وَامْرَأَة وَاحِدَة وَجب تَصْدِيق قَوْلهم وبرهان آخر وَهُوَ أَنكُمْ قد أثبتم ضَرُورَة صِحَة قَوْلنَا من أَن الله ابْتَدَأَ النَّوْع الإنساني بِأَن خلق ذكرا وَأُنْثَى ثمَّ ادعيتم زِيَادَة أَن الله تَعَالَى خلق سواهُمَا جماعات وَلم تَأْتُوا على ذَلِك ببرهان أصلا وَلَا بِدَلِيل إقناعي فضلا عَن برهاني وَقد صحت الْبَرَاهِين الَّتِي قدمنَا قيل أَنه لَا بُد من مبدأ ضَرُورَة فَوَجَبَ وَلَا بُد حُدُوث ذكر وَأُنْثَى وَكَانَ من ادّعى حُدُوث أَكثر من ذَلِك مُدعيًا لما لَا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين لَا مرية فِيهِ وكل مَا ذكرت عَنهُ نبوةٌ فِي الْهِنْد وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمين فَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أحدث النَّاس من ذكر وَأُنْثَى وَمَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيء فَلَا يجوز الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى وَإِنَّمَا اخْتلف عَنْهُم فِي الْأَسْمَاء فَقَط وَلَيْسَ فِي هَذَا معترض لِأَنَّهُ قد يكون للمرء أَسمَاء كَثِيرَة فَلم يمْنَع من هَذَا مَانع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَلم نجد عِنْدهم فِي ذَلِك مُعَارضَة أصلا وَمَا علمنَا أحدا من الْمُتَكَلِّمين ذكر هَذِه الْفرْقَة أصلا وَقلت لَهُ فِي خلال كَلَامي مَعَه أَتَرَى الْعَالم إِذا خرج دفْعَة أخرج فِيهِ الْحَوَامِل يطلقن والطباقون قعُودا على أطباقهم يبيعون التِّين والسرقين فَضَحِك وَعلم أَنِّي سلكت بِهِ مَسْلَك السخرية فِي قَوْله لفساده وَقَالَ لي نعم فَقلت يَنْبَغِي أَن يَكُونُوا كلهم أننبياء يُوحى إِلَيْهِم أَو لَهُم عَن آخِرهم بِمَا هم عَلَيْهِ من الْعُلُوم والصناعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أَو يُلْهمُون ذَلِك وَفِي هَذَا من بطلَان الدَّعْوَى مَا لَا خَفَاء بِهِ وَكَانَ مِمَّا اعْترض بِهِ أَن ذكر الجزائر المنقطعة فِي الْبحار وَأَنه يُوجد فِيهَا النَّمْل والحشرات وَكثير من الطير وَكثير من حشرات الأَرْض فَقلت إِن كل ذَلِك لَا يُنكر ذُو حس دُخُوله فِي جملَة رحالات الْمُسَافِرين الداخلين إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد فقد شاهدنا دُخُول الفيران فِي جملَة الرحل كَذَلِك وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يُوجب مَا ذكرت أصلا مَعَ أَن الْحَيَوَان نَوْعَانِ نوع متولد يخلقه الله تَعَالَى من عفونات الْأَبدَان وعفونات الأَرْض فَهَذَا لَا يُنكر تولده بإحداث الله تَعَالَى فِي كل حِين وَقسم آخر متوالد قد رتب الله تَعَالَى بنية الْعَالم أَنه لَا يخلقه إِلَّا عَن مني ذكر وَأُنْثَى فَهَذَا هُوَ الَّذِي صَار فِي تِلْكَ الجزائر عَن دُخُول إِلَيْهَا بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمَا ننكر فِي كل نوع مَا عدا الْإِنْسَان أَن يخلق الله مِنْهُ أَكثر من اثْنَيْنِ فَهَذَا مُمكن فِي قدرَة الله تَعَالَى وَلم يَأْتِ خبر صَادِق بِخِلَافِهِ لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي أَمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام وسفينته حِين الطوفان {احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَمَعَ هَذَا فقد يُمكن أَن يكون نوح عَلَيْهِ السَّلَام مَأْمُورا بِأَن يحمل من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَلَا يمْنَع ذَلِك من بَقَاء بعض أَنْوَاع نَبَات المَاء وحيوانه فِي غير السَّفِينَة وَالله أعلم وَإِنَّمَا نقُول فِيمَا لَا يُخرجهُ الْعقل إِلَى الْوُجُوب والامتناع بِمَا جَاءَت بِهِ النُّبُوَّة فَقَط وبرهان آخر وَهُوَ أَنه لَو كَانَ إِخْرَاج الله تَعَالَى لكل مَا فِي الْعَالم من الْمَعْلُوم وَالْعُلَمَاء بهَا والصناعات والصانعين لَهَا دفْعَة وَاحِدَة لَكَانَ ذَلِك بضرورة الْعقل وأوله لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون ذَلِك بِوَحْي من إِعْلَام وتوقيف مِنْهُ تَعَالَى وَإِمَّا بطبع مركب فيهم يَقْتَضِي لَهُم مَا علمُوا من ذَلِك وَمَا صَنَعُوا فَإِن كَانَ بِوَحْي إِعْلَام وتوقيف فقد صحت النُّبُوَّة لجميعهم إِذْ لَيست النُّبُوَّة معنى غير هَذَا وَهَذِه دَعْوَى مِمَّن قَالَ بِهَذَا القَوْل بِلَا دَلِيل وَمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل لَا يجوز القَوْل بِهِ لَا سِيمَا والقائلون بهَا منكرون للنبوة فلاح تنَاقض قَوْلهم وَإِن كَانَ كل ذَلِك عَن طبيعية تَقْتَضِي لَهُم كَونهم عَالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين فِي الصناعات بِلَا تَعْلِيم وَلَا تَوْقِيف فَهَذَا محَال ضَرُورَة وممتنع فِي الْعقل وَفِي الطبيعة إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لوجدوا أبدا كَذَلِك إِذْ الطبيعة وَاحِدَة لَا تخْتَلف وبالضرورة نَدْرِي أَنه لَا يُوجد أحد أبدا فِي شَيْء من الْأَزْمَان وَلَا فِي مَكَان أصلا يَأْتِي بِعلم من الْعُلُوم لم يُعلمهُ إِيَّاه أحد وَلَا يتَكَلَّم بلغَة لم يُعلمهُ إِيَّاهَا أحد وَلَا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عَلَيْهَا أحد وبرهان ذَلِك مَا قدمنَا قبل من أَن الْبِلَاد الَّتِي لَيست فِيهَا الْعُلُوم وَأكْثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي الَّتِي فِي خلال المدن لَيْسَ يُوجد فِيهَا أبدا أحد يدْرِي شَيْئا من الْعُلُوم وَلَا من الصناعات حَتَّى يُعلمهُ ذَلِك معلم وَأَنه لَا ينْطق أحد حَتَّى يُعلمهُ معلم فَظهر فَسَاد هَذَا القَوْل ببرهان وَقبل الْبُرْهَان بتعريه من الْبُرْهَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الْكَلَام على من يُنكر النُّبُوَّة وَالْمَلَائِكَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذهبت البراهمة وهم قَبيلَة بِالْهِنْدِ فيهم أَشْرَاف أهل الْهِنْد وَيَقُولُونَ أَنهم من ولد برهمي ملك من مُلُوكهمْ قديم وَلَهُم عَلامَة ينفردون بهَا وَهِي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يَقُولُونَ بِالتَّوْحِيدِ على نَحْو قَوْلنَا أَنهم أَنْكَرُوا النبوات وعمدة احتجاجهم فِي دَفعهَا أَن قَالُوا لما صَحَّ أَن الله عز وَجل حَكِيم وَكَانَ من بعث رَسُولا إِلَى من يدْرِي أَنه لَا يصدقهُ فَلَا شكّ فِي أَنه متعنت عابث فَوَجَبَ نفي بعث الرُّسُل عَن الله عز وَجل لنفي الْعَبَث والعنت عَنهُ وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَ الله تَعَالَى إِنَّمَا بعث الرُّسُل إِلَى النَّاس ليخرجهم بهم من الضلال إِلَى الْإِيمَان فقد كَانَ أولى بِهِ فِي حكمته وَأتم لمراده أَن يضْطَر الْعُقُول إِلَى الْإِيمَان بِهِ قَالُوا فَبَطل إرْسَال الرُّسُل على هَذَا الْوَجْه أَيْضا ومجيء الرُّسُل عِنْدهم من بَاب الْمُمْتَنع وَأما نَحن فَنَقُول إِن مَجِيء الرُّسُل عِنْدهم قبل أَن يَبْعَثهُم الله تَعَالَى وَاقع فِي بَاب الْإِمْكَان وَأما بعد إِن بَعثهمْ الله عز وَجل فَفِي حد الْوُجُوب ثمَّ أخبر الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام عَنهُ تَعَالَى أَنه لَا نَبِي بعده فقد جد الِامْتِنَاع ولسنا نحتاج إِلَى تكلّف ذكر قَول من قَالَ من الْمُسلمين أَن مَجِيء الرُّسُل من بَاب الْوَاجِب واعتلالهم فِي ذَلِك بِوُجُوب الْإِنْذَار فِي الْحِكْمَة إِذْ لَيْسَ هَذَا القَوْل صَحِيحا وَإِنَّمَا قَوْلنَا الَّذِي بَيناهُ فِي غير مَوضِع أَنه تَعَالَى لَا يفعل شَيْئا لعِلَّة وَأَنه تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَأَن كل مَا فعله فَهُوَ عدل وَحِكْمَة أَي شيءٍ كَانَ فَيُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لمن احْتج بِالْحجَّةِ الأولى من أَن الْحِكْمَة تضَاد بعثة الرُّسُل وَأَن الْحَكِيم لَا يبْعَث الرُّسُل إِلَى من يدْرِي أَنه يعصيه أَنكُمْ اضطركم هَذَا الأَصْل الْفَاسِد الْحَاكِم إِلَى مُوَافقَة المانية على أُصُولهَا فِي أَن الْحَكِيم لَا يخلق من يعصيه وَمن يكفر بِهِ وَيقتل أولياءه وهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى خلق الْخلق ليدلهم بهم على نَفسه وَيُقَال لَهُم قد علمنَا وعلمتم أَن فِي النَّاس كثيرا يجحدون الربوبية والوحدانية فَقولُوا أَنه لَيْسَ حكيماً من خلق دَلَائِل لمن يدْرِي أَنه لَا يسْتَدلّ بهَا فَإِن قَالُوا إِنَّه قد اسْتدلَّ بهَا كثير قيل لَهُم وَقد صدق الرُّسُل أَيْضا كثير فَإِن قَالُوا أَنه خلق الْخلق كَمَا شَاءَ قيل لَهُم وَكَذَلِكَ بعث الرُّسُل أَيْضا كَمَا شَاءَ فبعثته تَعَالَى الرُّسُل هِيَ بعض دلائله الَّتِي خلقهَا تَعَالَى ليدل بهَا على الْمعرفَة بِهِ تَعَالَى وعَلى توحيده وَيُقَال لمن احْتج بِالْحجَّةِ الثَّانِيَة من أَن الأولى بِهِ أَنه كَانَ يضْطَر الْعُقُول إِلَى الْإِيمَان بِهِ أَن هَذَا قَول مرذول مَرْدُود عَلَيْكُم فِي قَوْلكُم أَن الله عز وَجل خلق الْخلق ليدلهم بهم نَفسه ووحدانيته فيلزمكم على ذَلِك الأَصْل الْفَاسِد أَنه كَانَ الأولى إِذْ خلقهمْ أَن لَا يدعهم وَالِاسْتِدْلَال وَقد علم أَن فيهم من لَا يسْتَدلّ وَأَن فيهم من يغمض عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال فَكَانَ الأولى فِي الْحِكْمَة أَن يضْطَر عُقُولهمْ إِلَى الْإِيمَان بِهِ وَلَا يكلفهم مُؤنَة الِاسْتِدْلَال وَأَن يلطف بهم ألطافاً يخْتَار جَمِيعهم مَعهَا الْإِيمَان كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وملاك هَذَا كُله مَا قد قُلْنَاهُ فِي غير مَوضِع من أَن الْخلق لما كَانُوا لَا يَقع مِنْهُم فعل إِلَّا لعِلَّة وَوَجَب بالبراهين الضرورية أَن الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف جَمِيع خلقه من جَمِيع الْجِهَات وَجب أَن يكون فعله لَا لعِلَّة بِخِلَاف أَفعَال جَمِيع الْخلق وَأَنه لَا يُقَال فِي شَيْء من أَفعاله تَعَالَى أَنه فعل كَذَا لعِلَّة وَلَا إِذْ جَاءَ الْإِنْسَان بالنطق وَحرمه سَائِر الْحَيَوَان وَخلق بعض الْحَيَوَان صائداً وَبَعضه مصيداً وباين بَين جَمِيع مفعولاته كَمَا شَاءَ فَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 لم خلق الْإِنْسَان ناطقاً وَحرم الْحمار النُّطْق وَجعل الْحجر جَامِدا لَا حَيَاة لَهُ وَلَا نطق وَهَذَا أصل قد وَافَقنَا البراهمة عَلَيْهِ وَسَائِر من خَالَفنَا من تَفْرِيع هَذَا الْمَعْنى مِمَّن يَقُول بِالتَّوْحِيدِ وَهَكَذَا إِذا بعث تَعَالَى الْأَنْبِيَاء لَيْسَ لأحد أَن يَقُول لم بَعثهمْ أَو لم بعث هَذَا الرجل وَلم يبْعَث هَذَا الآخر وَلَا لم بَعثهمْ فِي هَذَا الزَّمَان دون غَيره فِي الْأَزْمِنَة وَلَا لم بَعثهمْ فِي هَذَا الْمَكَان دون غَيره من الْأَمْكِنَة كَمَا لَا يُقَال لم حباه بالسعد فِي الدُّنْيَا دون غَيره وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم إِذا نظر فِيهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَهُوَ يسْأَلُون قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تَعَالَى وتأييده فلنقل الْآن بعون الله تَعَالَى وتأييده فِي إِثْبَات النُّبُوَّة إِذا وجدت قولا بَينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قدمنَا فِيمَا خلا إِثْبَات حُدُوث الْأَشْيَاء وَأَن لَهَا مُحدث لم يزل وَاحِدًا لَا مبدأ لَهُ وَلَا كَانَ مَعَه غَيره وَلَا مُدبر سواهُ وَلَا خَالق غَيره فَإذْ قد ثَبت هَذَا كُله وَصَحَّ أَنه تَعَالَى أخرج الْعَالم كُله إِلَى الْوُجُود بعد أَن لم يكن بِلَا كلفة وَلَا معاناة وَلَا طبيعة وَلَا استعانة وَلَا مِثَال سلف وَلَا عِلّة مُوجبَة وَلَا حكم سَابق قبل الْخلق يكون ذَلِك الحكم لغيره تَعَالَى فقد ثَبت أَنه لم يفعل إِذْ لم يَشَأْ وَفعل إِذْ شَاءَ كَمَا شَاءَ فيزيد مَا شَاءَ وَينْقص مَا شَاءَ فَكل مَنْطُوق بِهِ مِمَّا يتشكك فِي النَّفس أَولا يتشكك فَهُوَ دَاخل لَهُ تَعَالَى فِي بَاب الْإِمْكَان على مَا بَينا فِي غير هَذَا الْمَكَان إِلَّا أننا نذْكر هَهُنَا طرفا إِن شَاءَ الله عز وَجل فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن الْمُمكن لَيْسَ وَاقعا فِي الْعَالم وقوعاً وَاحِدًا أَلا تري أَن نَبَات اللِّحْيَة للرِّجَال مَا بَين الثمان عشرَة إِلَى عشْرين سنة مُمكن وَهُوَ فِي حُدُود الإثني عشر سنة إِلَى العامين مُمْتَنع وَإِن فك الإشكالات العويصة واستخراج الْمعَانِي الغامضة وَقَول الشّعْر البديع وصناعة البلاغة الرائقة مُمكن لذِي الذِّهْن اللَّطِيف والذكاء النَّافِذ وَغير مُمكن من ذِي البلادة والشديدة والغباوة المفرطة فعلى هَذَا مَا كَانَ مُمْتَنعا بَيْننَا إِذْ لَيْسَ فِي بنيتنا وَلَا فِي طبيعتنا وَلَا من عادتنا فَهُوَ غير ممتننع على الَّذِي لَا بنية لَهُ وَلَا طبيعة لَهُ وَلَا عَادَة عِنْده وَلَا رُتْبَة لَازِمَة لفعله فَإذْ قد صَحَّ هَذَا فقد صَحَّ أَنه لَا نِهَايَة لما يقوى عَلَيْهِ تَعَالَى فصح أَن النُّبُوَّة فِي الْإِمْكَان وَهِي بعثة قوم قد خصهم الله تَعَالَى بالفضيلة لَا لعِلَّة إِلَّا أَنه شَاءَ ذَلِك فعلمهم الله تَعَالَى الْعلم بِدُونِ تعلم وَلَا تنقل فِي مراتبه وَلَا طلب لَهُ وَمن هَذَا الْبَاب مَا يرَاهُ أَحَدنَا فِي الرُّؤْيَا فَيخرج صَحِيحا وَمَا هُوَ من بَاب تقدم الْمعرفَة فَإذْ قد أثبتنا أَن النُّبُوَّة قبل مَجِيء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَاقعَة فِي حد الْإِمْكَان فلنقل الْآن بحول الله تَعَالَى وقوته على وُجُوبهَا إِذا وَقعت وَلَا بُد فَنَقُول إِذْ قد صَحَّ أَن الله تَعَالَى ابْتَدَأَ الْعَالم وَلم يكن مَوْجُودا حَتَّى خلقه الله تَعَالَى فبيقين نَدْرِي أَن الْعُلُوم والصناعات لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَهْتَدِي أحد إِلَيْهَا بطبعه فِيمَا بَيْننَا دون تَعْلِيم كالطب وَمَعْرِفَة الطبائع والأمراض وسببها على كَثْرَة اختلافها وَوُجُود العلاج لَهَا بالعقاقير الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى تجريبها كلهَا أبدا وَكَيف يجرب كل عقار فِي كل عِلّة وَمَتى يتهيأ هَذَا وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَّا فِي عشرَة آلَاف من السنين ومشاهدة كل مَرِيض فِي الْعَالم وَهَذَا يقطع دونه قواطع الْمَوْت والشغل بِمَا لَا بُد مِنْهُ من أَمر المعاش وَذَهَاب الدول وَسَائِر الْعَوَائِق وكعلم النُّجُوم وَمَعْرِفَة دورانها وقطعها وعودها إِلَى أفلاكها مِمَّا لَا يتم إِلَّا فِي عشرَة آلَاف من السنين وَلَا بُد من أَن يقطع دون ضبط ذَلِك الْعَوَائِق الَّتِي قُلْنَا وكاللغة الَّتِي يَصح تربية وَلَا عَيْش وَلَا تصرف إِلَّا بهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَلَا سَبِيل إِلَّا الِاتِّفَاق عَلَيْهَا إِلَّا بلغَة اخرى وَلَا بُد فصح أَنه لَا بُد من مبدأ للغة مَا وكالحرث والحصاد والدراس والطحن وآلاته والعجن والطبخ والحلب وحراسة الْمَوَاشِي واتخاذ الْإِنْسَان مِنْهَا وَالْغَرْس واستخراج الأدهان ودق الْكَتَّان والقنب والقطن وغزله وحياكته وقطعه وخياطته ولبسه وآلات كل ذَلِك وآلات الْحَرْث والإرحاء والسفن وتدبيرها فِي الْقطع بهَا للبحار والدواليب وحفر الْآبَار وتربية النَّحْل ودود الْخَزّ واستخراج الْمَعَادِن وَعمل الْأَبْنِيَة مِنْهَا وَمن الْخشب والفخار وكل هَذَا لَا سَبِيل إِلَى الاهتداء إِلَيْهِ دون تَعْلِيم فَوَجَبَ بِالضَّرُورَةِ وَلَا بُد أَنه لَا بُد من إِنْسَان وَاحِد فَأكْثر علمهمْ الله تَعَالَى ابْتِدَاء كل هَذَا دون معلم لَكِن بِوَحْي حَقَّقَهُ عِنْده وَهَذِه صفة النُّبُوَّة فَإِذا لَا بُد من نَبِي أَو انبياء ضَرُورَة فقد صَحَّ وجود النُّبُوَّة وَالنَّبِيّ فِي الْعَالم بِلَا شكّ وَمن الْبُرْهَان على مَا ذكرنَا أننا نجد كل من لم يُشَاهد هَذِه الْأُمُور لَا سَبِيل لَهُ إِلَى اختراعها الْبَتَّةَ كَالَّذي يُولد وَهُوَ أَصمّ فَإِنَّهُ لَا يُمكن لَهُ الْبَتَّةَ الاهتداء إِلَى الْكَلَام وَلَا إِلَى مخارج الْحُرُوف وكالبلاد الَّتِي لَيست فِيهَا بعض الصناعات وَهَذِه الْعُلُوم الْمَذْكُورَة كبلاد السودَان والصقالبة وَأكْثر الْأُمَم وسكان الْبَوَادِي نعم والحواضر لَا يُمكن الْبَتَّةَ مُنْذُ أول الْعَالم إِلَى وقتنا هَذَا وَلَا إِلَى انقضائه اهتداء أحد مِنْهُم إِلَى علم لم يعرفهُ وَلَا إِلَى صناعَة لم يعرف بهَا فَلَا سَبِيل إِلَى تهديهم إِلَيْهَا الْبَتَّةَ حَتَّى يعلموها وَلَو كَانَ مُمكنا فِي الطبيعة التهدي إِلَيْهَا دون تَعْلِيم لوجد من ذَلِك فِي الْعَالم على سعته وعَلى مُرُور الْأَزْمَان من يَهْتَدِي إِلَيْهَا وَلَو وَاحِدًا وَهَذَا أَمر يقطع على أَنه لَا يُوجد وَلم يُوجد وَهَكَذَا القَوْل فِي الْعُلُوم وَلَا فرق ولسنا نعني بِهَذَا ابْتِدَاء جمعهَا فِي الْكتب لِأَن هَذَا أَمر لَا مُؤنَة فِيهِ إِنَّمَا هُوَ كتاب مَا سَمعه الْكَاتِب وإحصاؤه فَقَط كالكتب الْمُؤَلّفَة فِي الْمنطق وَفِي الطِّبّ وَفِي الهندسة وَفِي النُّجُوم وَفِي الْهَيْئَة والنحو واللغة وَالشعر وَالْعرُوض إِنَّمَا نعني ابْتِدَاء مُؤنَة اللُّغَة وَالْكَلَام بهَا وَابْتِدَاء معرفَة الْهَيْئَة وتعلمها وَابْتِدَاء أشخاص الْأَمْرَاض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بهَا وَابْتِدَاء معرفَة الصناعات فصح بذلك أَنه لَا بُد من وَحي من الله تَعَالَى فِي ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَيْضا برهَان ضَرُورِيّ على حُدُوث الْعَالم وَأَن لَهُ مُحدثا مُخْتَارًا وَلَا بُد إِذْ لَا بَقَاء للْعَالم الْبَتَّةَ إِلَّا بنشأة ومعاش وَلَا نشأة وَلَا معاش وَلَا معاش إِلَّا بِهَذِهِ الْأَعْمَال والصناعات والآلات وَلَا يُمكن وجود شَيْء من هَذِه كلهَا إِلَّا بتعليم الْبَارِي فصح أَن الْعَالم لم يكن مَوْجُودا إِذْ لَا سَبِيل إِلَى بَقَائِهِ إِلَّا بِمَا ذكرنَا ثمَّ وجد معلما مُدبرا مُبْتَدأ بتعليمه على مَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِذ قد تكلمنا على أَنه لَا بُد من نبوة وَصَحَّ ذَلِك ضَرُورَة فلنتكلم على براهينها الَّتِي يَصح بهَا علم صدق مدعيها إِذْ وَقعت فَنَقُول أَنه قد صَحَّ أَن الْبَارِي تَعَالَى هُوَ فَاعل كل شَيْء ظهر وَأَنه قَادر على إِظْهَار كل متوهم لم يظْهر وَعلمنَا بِكُل مَا قدمنَا أَنه تَعَالَى مُرَتّب هَذِه الرتب الَّتِي فِي الْعَالم ومجريها على طبائعها الْمَعْلُومَة منا الْمَوْجُودَة عندنَا وَأَنه لَا فَاعل على الْحَقِيقَة غَيره تَعَالَى ثمَّ رَأينَا خلافًا لهَذِهِ الرتب والطبائع قد ظَهرت وَوجدنَا طبائع قد أحيلت وَأَشْيَاء فِي حد الْمُمْتَنع وَقد وَجَبت وَوجدت كصخرة انفلقت عَن نَاقَة وعصا انقلبت حَيَّة وميت أَحْيَاهُ إِنْسَان ومئين من النَّاس رووا وتوضؤا كلهم من مَاء يسير فِي قدح صَغِير ضيق عَن بسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْيَد فِيهِ لَا مَادَّة لَهُ فَعلمنَا أَن محيل هَذِه الطبائع وفاعل هَذِه المعجزات هُوَ الأول الَّذِي أحدث كل شَيْء وَوجدنَا هَذِه القوى قد أصحبها الله تَعَالَى رجَالًا يدعونَ إِلَيْهِ ويذكرون أَنه تَعَالَى أرسلهم إِلَى النَّاس ويستشهدون بِهِ تَعَالَى فَيشْهد لَهُم بِهَذِهِ المعجزات المحدثة مِنْهُ تَعَالَى فِي حِين رَغْبَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلَيْهِ فِيهَا وضراعتهم إِلَيْهِ فِي تصديقهم بهَا فَعلمنَا علما ضَرُورِيًّا لَا مجَال للشَّكّ فِيهِ أَنهم مبعوثون من قبله عز وَجل وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أخبروا بِهِ عَنهُ تَعَالَى إِذْ لَا سَبِيل فِي طبيعة مَخْلُوق فِي الْعَالم إِلَى التحكم على الْبَارِي وَلَا على طبائع خلقه بِمثل هَذَا وَوُجُوب النُّبُوَّة إِذْ ظهر على مدعيها معْجزَة من إِحَالَة الطبائع الْمُخَالفَة لما بني عَلَيْهِ الْعَالم وَقد تكلمنا فِي غير هَذَا الْمَكَان على أَن هَذِه الْأَشْيَاء لَهَا طرق توصل إِلَى صِحَة الْيَقِين بهَا عِنْد من لم يشاهدها كصحتها عِنْد من شَاهدهَا وَلَا فرق وَهِي نقل الكافة الَّتِي قد استشعرت الْعُقُول ببدايتها والنفوس بِأول معارفها أَنه لَا سيبل إِلَى جَوَاز الْكَذِب وَلَا الْوَهم عَلَيْهَا وَإِن ذَلِك مُمْتَنع فِيهَا فَمن تجاهل وَأَجَازَ ذَلِك عَلَيْهَا خرج عَن كل مَعْقُول وَلَزِمَه أَن لَا يصدق أَن من غَابَ عَن بَصَره من الانس بِأَنَّهُم أَحيَاء ناطقون كمن شاهدوا أَن صورهم على حسب الصُّورَة الَّتِي عاين وَلزِمَ أَن يكون عِنْده مُمكنا فِي بعض من غَابَ عَن بَصَره من النَّاس أَن يَكُونُوا بِخِلَاف مَا عهد من الصُّورَة إِذْ لَا يعرف أحد إِن كَانَ غَابَ عَن حسه فَإِنَّهُ فِي مثل كَيْفيَّة مَا شَاهد من نَوعه إِلَّا بِنَقْل الكواف ذَلِك كَمَا نقلت أَن بَعضهم بِخِلَاف ذَلِك فِي بعض الكيفيات فَوَجَبَ تَصْدِيق ذَلِك ضَرُورَة كبلاد السودَان وَمَا أشبه ذَلِك وَيلْزم من لم يصدق خبر الكافة ويجيز فِيهِ الْكَذِب وَالوهم أَن لَا يصدق ضَرُورَة بِأَن أحدا كَانَ قبله فِي الدُّنْيَا وَلَا أَن فِي الدُّنْيَا أحد إِلَّا من شَاهد بحسه فَإِن جوز هَذَا عرف بِقَلْبِه أَنه كاذبوخرج عَن حُدُود من يتَكَلَّم مَعَه لِأَن هَذَا الشَّيْء لَا يعرف الْبَتَّةَ إِلَّا من طَرِيق الْخَبَر لَا غير فَإِن نفر عَن هَذَا وَأقر بِأَنَّهُ قد كَانَ قبله مُلُوك وعلماء ووقائع وأمم وأيقن بذلك وَلم يكن فِي كثير مِنْهَا شكّ بلَى هِيَ عِنْده فِي الصِّحَّة كَمَا شَاهد وَلَا فرق سُئِلَ من أَيْن عرفت ذَلِك وَكَيف صَحَّ عنْدك فَلَا سَبِيل لَهُ أصلا إِلَى أَن يَصح ذَلِك عِنْده إِلَّا بِخَبَر مَنْقُول نقل كَافَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول لَهُ حِينَئِذٍ فرق بَين مَا نقل إِلَيْك من كل ذَلِك وَبَين كل مَا نقل إِلَيْك من عَلَامَات الْأَنْبِيَاء وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْفرق بَين شَيْء من ذَلِك أصلا فَإِن قَالَ الْفرق بَينهَا وَبَينهَا أَنه لَا يُنكر أحد هَذِه الْأُمُور وَكثير من النَّاس يُنكرُونَ أَعْلَام الْأَنْبِيَاء قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن كثيرا من النَّاس لَا يعْرفُونَ كثيرا مِمَّا صَحَّ عنْدك من الْأَخْبَار الْعَارِضَة لمن كَانَ فِي بلادك قبلهَا فَلَيْسَ جهلهم بهَا ودفعهم لَهَا لَو حدثوا بهَا مخرجا لَهَا عَن الصِّحَّة وَكَذَلِكَ جحد من جحد إِعْلَام الْأَنْبِيَاء لَيْسَ مخرجا لَهَا عَن الْوُجُوب وَالصِّحَّة فَإِن قَالَ إِنَّه لَيْسَ نجد النَّاس على الْكَذِب فِيمَا كَانَ قبلنَا من الْأَخْبَار مَا نجدهم على الْكَذِب فِي إِعْلَام النُّبُوَّة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذَا كذب بل الْأَمْرَانِ سَوَاء لَا فرق بَينهمَا وَمن الْمُلُوك من يشْتَد عَلَيْهِم وصف أسلافهم بالجور وَالظُّلم والقبائح ويحمي هَذَا الْبَاب بِالسَّيْفِ فَمَا دونه فَمَا انتفعوا بذلك فِي كتمان الْحق قد نقل ذَلِك كُله وَعرف كَمَا نقلت فَضَائِل من يغْضب مُلُوك الزَّمَان من مدحه كفضائل عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا قدر قطّ من مُلُوك بني مَرْوَان على سترهَا وطيها وَقد رام الْمَأْمُون والمعنصم والواثق على سَعَة ملكهم لأقطار الأَرْض قطع القَوْل بِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق فَمَا قدرُوا على ذَلِك وكل نَبِي فَلهُ عَدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 من الْمُلُوك والأمم يكذبونهم فَمَا قدرُوا قطّ على طي إعلامهم وَلَا على تَحْقِيق مَا زادوا على ذَلِك لمن يغْضب لَهُ من لَا دين لَهُ فصح أَن الْأَمريْنِ سَوَاء فَإِن قَالَ قَائِل فَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي ظَهرت مِنْهُ المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قد مَعهَا على إِظْهَار مَا أظهر قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الْخَواص قد علمت ووجوه الْحِيَل قد أحكمت وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا عمل يحدث عَنهُ اختراع جسم لم يكن كنحو مَا ظهر من اختراع المَاء الَّذِي لم يكن وَلَا فِي شَيْء مِنْهُ إِحَالَة نوع إِلَى نوع آخر دفْعَة على الْحَقِيقَة وَلَا جنس إِلَى جنس آخر دفْعَة على الْحَقِيقَة وَهَذَا كُله قد ظهر على أَيدي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فصح أَنه من عِنْد الله تَعَالَى لَا مدْخل لعلم انسان وَلَا حيلته فِيهِ وَنحن نبين إِن شَاءَ الله الْفرق الْوَاضِح بَين معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَبَين مَا يقدر عَلَيْهِ بِالسحرِ وَبَين حيل العجائبيين فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْعَالم كُله جَوْهَر وَعرض لَا سَبِيل إِلَى وجود قسم ثَالِث فِي الْعَالم دون الله تَعَالَى فَأَما الْجَوَاهِر فاختراعها من لَيْسَ إِلَى أنس وَهُوَ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود فممتنع غير مُمكن الْبَتَّةَ لأحد دون الله تَعَالَى مبتدىء الْعَالم ومخترعه فَمن ظهر عَلَيْهِ اختراع جسم كَالْمَاءِ النابع من أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَة الْجَيْش فَهِيَ معْجزَة شاهدة من الله تَعَالَى لَهُ بِصِحَّة نبوته لَا يُمكن غير ذَلِك أصلا وَكَذَلِكَ إِحَالَة الْأَعْرَاض الَّتِي هِيَ جوهريات ذاتيات وَهِي الْفُصُول الَّتِي تُؤْخَذ من الْأَجْنَاس وَذَلِكَ كقلب الْعَصَا حَيَّة وحنين الْجذع وإحياء الْمَوْتَى الَّذين رموا وصاروا عظاماً والبقاء فِي النَّار سَاعَات لَا تؤذيه وَمَا أشبه ذَلِك وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاض الَّتِي لَا تَزُول إِلَّا بِفساد حاملها كالفطس والرزق وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ أحد دون الله تَعَالَى بِوَجْه من الْوُجُوه وَأما إِحَالَة الْأَعْرَاض من الغيرات الَّتِي تَزُول بِغَيْر فَسَاد حملهَا فقد تكون بِالسحرِ وَمِنْه طلمسات كتنفير بعض الْحَيَوَان عَن مَكَان مَا فَلَا يقربهُ أصلا وكإبعاد الْبرد بِبَعْض الصناعات وَمَا أشبه هَذَا وَقد يزِيد الْأَمر ويفشوا الْعلم بِبَعْض هَذَا النَّوْع حَتَّى يحسبه أَكثر النَّاس كالطير والاصباغ وَمَا أشبه هَذَا وَأما التخييل بِنَوْع من الخديعة كسكين مثقوبة النّصاب تدخل فِيهَا السكين ويظن من رَآهَا أَنَّهَا دخلت فِي جَسَد الْمَضْرُوب بهَا فِي حيل غير هَذِه من حيل أَرْبَاب الْعَجَائِب والحلاج وأشباهه فَأمر يقدر عَلَيْهِ من تعلمه وتعلمه مُمكن لكل من أَرَادَهُ فَالَّذِي يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ إِحَالَة الذاتيات وَمن ذَلِك صرف الْحَواس على طبائعها كمن أَرَاك مَا لَا يرَاهُ غَيْرك أَو مسح يَده على مَرِيض فأفاق أَو سقَاهُ مَا يضر علته فبرىء أَو أخبر عَن الغيوب فِي الجزئيات عَن غير تَعْدِيل وَلَا فكرة فَهَذِهِ كلهَا إِحَالَة الذاتيات وَمَا ثَبت إِذْ ثباتها لَا يكون إِلَّا لنَبِيّ فَإِذا قد تكلمنا على مَكَان النُّبُوَّة قبل مجيئها ووجوبها حِين وجودهَا فلنتكلم الْآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذَلِك فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِذْ قد صَحَّ كل مَا ذكرنَا من المعجزات الظَّاهِرَة من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَهَادَة من الله تَعَالَى لَهُم يصدقُوا بهَا أَقْوَالهم فقد وَجب علينا الانقياد لما أَتَوا بِهِ ولزمنا تَيَقّن كل مَا قَالُوا وَقد صَحَّ عَن رَسُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَقْل الكواف الَّتِي نقلت نبوته واعلامه وَكتابه أَنه أخبر أَنه لَا نَبِي بعده إِلَّا مَا جَاءَت الْأَخْبَار الصِّحَاح من نزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي بعث إِلَى بني إِسْرَائِيل وَادّعى الْيَهُود قَتله وصلبه فَوَجَبَ الْإِقْرَار بِهَذِهِ الْجُمْلَة وَصَحَّ أَن وجود النُّبُوَّة بعده عَلَيْهِ السَّلَام بَاطِل لَا يكون الْبَتَّةَ وَبِهَذَا يبطل أَيْضا قَول من قَالَ بتواتر الرُّسُل وَوُجُوب ذَلِك أبدا وَبِكُل مَا قدمْنَاهُ مِمَّا أبطلنا بِهِ قَول من قَالَ بامتناعهما الْبَتَّةَ إِذْ عُمْدَة حجَّة هَؤُلَاءِ هِيَ قَوْلهم إِن الله حَكِيم والحكيم لَا يجوز فِي حكمته أَن يتْرك عباده هملاً دون إنذار قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد أحكمنا بحول الله تَعَالَى وقوته قبل هَذَا أَن الله تَعَالَى لَا شَرط عَلَيْهِ وَلَا عِلّة مُوجبَة عَلَيْهِ أَن يفعل شَيْئا وَلَا أَن لَا يَفْعَله وَأَنه تَعَالَى لَو أهمل النَّاس لَكَانَ حَقًا وحسناً لَو خلقهمْ كَمَا خلق سَائِر الْحَيَوَان الَّذِي لم يلْزمه شَرِيعَة وَلَا خطر عَلَيْهِ شيءٌ وَأَنه تَعَالَى لَو واتر الرُّسُل والنذارة أبدا لَكَانَ حَقًا وحسناً لما فعل بِالْمَلَائِكَةِ الَّذين هم حَملَة وحيه وَرُسُله أبدا وَأَنه تَعَالَى لَو خلق الْخلق كفَّارًا كلهم لَكَانَ ذَلِك مِنْهُ حَقًا وحسنا وَلَو خلقهمْ مُؤمنين كلهم لَكَانَ حَقًا وحسناً كَمَا أَن الَّذِي فعل تَعَالَى من كل ذَلِك حق وَحسن وَأَنه لَا يقبح شَيْء إِلَّا من مَأْمُور مَنْهِيّ قد تقدّمت الْأَوَامِر وجوده وسبقت الْحُدُود الْمرتبَة للأشياء كَونه وَأما من سبق كل ذَلِك فَلهُ أَن يفعل مَا يَشَاء وَيتْرك مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وَأما الْمَلَائِكَة فَكل من لَهُ معرفَة ببنية الْعَالم والأفلاك والعناصر فَإِنَّهُ يعلم أَن الأَرْض وعمقها أقرب إِلَى الْفساد من سَائِر العناصر وَمن سَائِر الأجرام العلوية وَأَنَّهَا مواتية كلهَا وَأَن الْحَيَاة إِنَّمَا هِيَ فِي النُّفُوس الْمنزلَة قسراً إِلَى مجاورة أجساد الترابية المواتية من جَمِيع الْحَيَوَان فقد ثَبت يَقِينا بضرورة الْمُشَاهدَة أَن مَحل الْحَيَاة وعنصرها ومعدنها وموضعها إِنَّمَا هُوَ هُنَالك من حَيْثُ جَاءَت النُّفُوس الْحَيَّة النَّاقِصَة بِمَا فِي طبعها من مجاورة هَذِه الأجساد والتثبت بهَا عَن كَمَال مَا خص بِالْحَيَاةِ الدائمة وَلم يَشن وَلَا نقص فَضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفَات ودرنا عيوبا فصح أَن الْعُلُوّ الصافي هُوَ مَحل الْأَحْيَاء الفاضلين السالمين من كل رذيلة وَمن كل نقص وَمن كل مزاج فَاسد المحبوين بِكُل فَضِيلَة فِي الْخلق وَهَذِه صفة الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَصَحَّ بِهَذَا أَن على قدر سَعَة ذَلِك الْمَكَان يكون كَثْرَة من فِيهِ من أَهله وعماره وَأَنه لَا نِسْبَة لما فِي هَذَا الْمحل الضّيق والنقطة الكدراء وَمِمَّا هُنَالك كَمَا لَا نِسْبَة لمقدار هَذَا الْمَكَان من ذَلِك وَبِهَذَا صحت الرِّوَايَة وَهَكَذَا أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَثْرَة الْمَلَائِكَة فِي الْأَخْبَار المسندة الثَّابِتَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا وَجب أَن يَكُونُوا هم الرُّسُل والوسائط بَين الأول تَعَالَى الَّذِي خصهم بِالنُّبُوَّةِ والرسالة وَتَعْلِيم الْعُلُوم وَبَين إنقاذ النُّفُوس من الهلكة الْكَلَام على من قَالَ أَن فِي الْبَهَائِم رسلًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذهب أَحْمد بن حابط وَكَانَ من أهل الْبَصْرَة من تلاميذ إِبْرَاهِيم النظام يظْهر الاعتزال وَمَا نرَاهُ إِلَّا كَافِرًا لَا مُؤمنا وَإِنَّمَا استخرنا إِخْرَاجه عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الْإِسْلَام لِأَن أَصْحَابه حكوا عَنهُ وُجُوهًا من الْكفْر مِنْهَا التناسخ والطعن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنِّكَاحِ وَكَانَ من قَوْله أَن الله عز وَجل نبأ أَنْبيَاء من كل نوع من أَنْوَاع الْحَيَوَان حَتَّى البق والبراغيث وَالْقمل وحجته فِي ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} ثمَّ ذكرُوا قَوْله تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله عز وَجل يَقُول {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَإِنَّمَا يُخَاطب الله تَعَالَى بِالْحجَّةِ من يَعْقِلهَا قَالَ الله تَعَالَى {يَا أولي الْأَلْبَاب} وَقد علمنَا بضرورة الْحسن أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خص بالنطق الَّذِي هُوَ التَّصَرُّف وَمَعْرِفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات على اختلافها الْإِنْسَان خَاصَّة وأضفنا إِلَيْهِم بالْخبر الصَّادِق مُجَرّد الْجِنّ وأصفنا إِلَيْهِم بالْخبر الصَّادِق وببراهين أَيْضا ضَرُورِيَّة الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا شَارك من ذكرنَا سَائِر الْحَيَوَان فِي الْحَيَاة الْخَاصَّة وَهِي الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية فَعلمنَا بضرورة الْعقل أَن الله تَعَالَى لَا يُخَاطب بالشرائع إِلَّا من يَعْقِلهَا وَيعرف المُرَاد بهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَوجدنَا جَمِيع الْحَيَوَان حاشا النَّاس يجْرِي على رُتْبَة وَاحِدَة فِي تصرفها فِي معايشها وتناسلها لَا يجْتَنب مِنْهَا وَاحِد شَيْئا يَفْعَله غَيره هَذَا الَّذِي يدْرك حسا فِيمَا يعاشر النَّاس فِي مَنَازِلهمْ من الْمَوَاشِي وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَالطير وَغير ذَلِك وَلَيْسَ النَّاس فِي أَحْوَالهم كَذَلِك فصح أَن الْبَهَائِم غير مُخَاطبَة بالشرائع وَبَطل قَول ابْن حابط وَصَحَّ أَن معنى قَول الله تَعَالَى {أُمَم أمثالكم} أَي أَنْوَاع أمثالكم إِذْ كل نوع يُسمى أمة وَإِن معنى قَوْله تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} إِنَّمَا عَنى تَعَالَى الْأُمَم من النَّاس وهم الْقَبَائِل والطوائف وَمن الْجِنّ لصِحَّة وجوب الْعِبَادَة عَلَيْهِم فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا يدْريك لَعَلَّ سَائِر الْحَيَوَان لَهُ نطق وتمييز قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق بقضية الْعُقُول وبديهها عرفنَا الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَبهَا عرفنَا الله تَعَالَى وَصِحَّة النُّبُوَّة وَهِي الَّتِي لَا يَصح شَيْء إِلَّا بموجبها فَمَا عرف بِالْعقلِ فَهُوَ وَاجِب فِيمَا بَيْننَا نُرِيد فِي الْوُجُود فِي الْعَالم وَمَا عرف بِالْعقلِ أَنه محَال فَهُوَ محَال فِي الْعَالم وَمَا وجد بِالْعقلِ إِمْكَانه فَجَائِز أَن يُوجد وَجَائِز أَن لَا يُوجد وبضرورة الْعقل والحس علمنَا أَن كل واقعين تَحت جنس فَإِن ذَلِك الْجِنْس يعطيهما اسْمه وَحده عَطاء مستوياً فَلَمَّا كَانَ جنس الْحَيّ يجمعنا مَعَ سَائِر الْحَيَوَان استوينا مَعهَا كلهَا اسْتِوَاء لَا تفاضل فِيهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ اسْم الْحَيَاة من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية وَهَذَا المعنيان هما الْحَيَاة لَا حَيَاة غَيرهمَا أصلا وَعلمنَا ذَلِك بِالْمُشَاهَدَةِ لأننا رَأينَا الْحَيَوَان يألم بِالضَّرْبِ والنخس وَيحدث لَهما من الصَّوْت والقلق مَا يُحَقّق ألما كَمَا نَفْعل نَحن وَلَا فرق وَلذَلِك لما شاركنا وَالْحَيَوَان جَمِيع الشّجر والنبات فِي النَّمَاء اسْتَوَى جَمِيع الْحَيَوَان فِيمَا اقْتَضَاهُ اسْم النمو من طلب الْغذَاء واستمالته فِي المتغذى بِهِ إِلَى نَوعه وَمن طلب بَقَاء النَّوْع مَعَ جَمِيع الشّجر والنبات اسْتِوَاء وَاحِدًا لَا تفاضل فِيهِ وَلما شاركنا وَجَمِيع الْحَيَوَان وَالشَّجر والنبات وَسَائِر الجمادات فِي أَن كل ذَلِك أجسام طَوِيلَة عريضة عميقة جَمِيع الأجرام اسْتَوَى كل ذَلِك فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 اقْتَضَاهُ لَهُ اسْم الجسمية فِي ذَلِك اسْتِوَاء لَا تفاضل فِيهِ وَلم يدْخل مَا لم يُشَارك شَيْئا مِمَّا ذكرنَا فِي الصّفة الَّتِي انْفَرد بهَا عَنهُ هَذَا كُله يُعلمهُ ضَرُورَة من وقف عَلَيْهِ مِمَّن لَهُ حس سليم فَلَمَّا كَانَ النُّطْق الَّذِي هُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات قد خصنا دون سَائِر الْحَيَوَان وَجب ضَرُورَة أَن لَا يشاركنا شَيْء من الْحَيَوَان فِي شَيْء مِنْهُ إِذْ لَو كَانَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ لما كُنَّا أَحَق بكله من سَائِر الْحَيَوَان كَمَا أَنا لسنا بِالْحَيَاةِ أَحَق مِنْهَا وَلَا بالنمو وَلَا بالحركة وَلَا بالجسمية فَصبح بِهَذَا أَنه لَا نطق لَهَا أصلا فَإِن قَالَ قَائِل لَعَلَّ نطقها بِخِلَاف نطقنا قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَا يتشكل فِي الْعُقُول أَلْبَتَّة حَيَاة على غير صفة الْحَيَاة عندنَا وَلَا نَمَاء على غير صفة النَّمَاء عندنَا وَلَا حمرَة على غير الْحمرَة عندنَا وَلَا جسم على خلاف الْأَجْسَام عندنَا وَهَكَذَا فِي كل شَيْء وَلَو كَانَ شَيْء بِخِلَاف مَا عندنَا لم يَقع عَلَيْهِ ذَلِك الِاسْم أصلا وَكَانَ كمن سمى المَاء نَارا وَالْعَسَل حجرا وَهَذَا هُوَ الْحمق والتخليط فالبضرورة وَجب أَن كل صفة هِيَ بِخِلَاف نطقنا فَلَيْسَ نطقاً والنطق عندنَا هُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات وَمَعْرِفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَو كَانَ ذَلِك النُّطْق بِخِلَاف هَذَا لَكَانَ لَيْسَ معرفَة للأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا تَصرفا فِي الْعُلُوم والصناعات فَهُوَ إِذا لَيْسَ نطقاً فَبَطل هَذَا الشغب السخيف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن اعْترض معترض بِفعل النَّحْل ونسج العنكبوت قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذِه طبيعة ضَرُورِيَّة لِأَن العنكبوت لَا يتَصَرَّف فِي غير تِلْكَ الصّفة من النسج وَلَا تُوجد أبدا إِلَّا لذَلِك وَأما الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يتَصَرَّف فِي عمل الديباج والوشي وَالْقَبَاطِي وأنواع الأصباغ والدباغ والخرط والنقش وَسَائِر الصناعات من الْحَرْث والحصاد والطحن والطبخ وَالْبناء والتجارات وَفِي أَنْوَاع الْعُلُوم من النُّجُوم وَمن الأغاني والطب والقبل والجبر والعبارة وَالْعِبَادَة وَغير ذَلِك وَلَا سَبِيل لشَيْء من الْحَيَوَان إِلَى التَّصَرُّف فِي غير الشَّيْء الَّذِي اقْتَضَاهُ لَهُ طبعه وَلَا إِلَى مُفَارقَة تِلْكَ الْكَيْفِيَّة فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {علمنَا منطق الطير} وَبِمَا ذكر الله تَعَالَى من قَول النملة {يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ} الْآيَة وَقصد الهدهد قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لم ندفع أَن يكون للحيوان أصوات عِنْد معاناة مَا تَقْتَضِيه لَهُ الْحَيَاة من طلب الْغذَاء وَعند الْأَلَم وَعند الْمُضَاربَة وَطلب الْفساد وَدُعَاء أَوْلَادهَا وَمَا أشبه ذَلِك فَهَذَا هُوَ الَّذِي علمه الله تَعَالَى سُلَيْمَان رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا الَّذِي يُوجد فِي أَكثر الْحَيَوَان وَلَيْسَ هَذَا من تَمْيِيز دقائق الْعُلُوم وَالْكَلَام وَلَا من عمل وُجُوه الصناعات كلهَا فِي شَيْء وَإِنَّمَا عَنى الله تَعَالَى بمنطق الطير أصواتها الَّتِي ذكرنَا لَا تَمْيِيز الْعُلُوم وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات الَّذِي من ادِّعَاء لَهَا أكذبه العيان وَالله تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق وَأما قصَّة النملة والهدهد فهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 معجزتان خاصتان لذَلِك النَّمْل وَلذَلِك الهدهد وآيتان لِسُلَيْمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ككلام الذِّرَاع وحنين الْجذع وتسبيح الطَّعَام لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَات لنبوته عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ حَيَاة عَصا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آيَة لرَسُول الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن هَذَا النُّطْق شَامِل ولأنواع هَذِه الْأَشْيَاء قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد قاد السخف والضعف وَالْجهل من يقدر فِي نَفسه أَنه عَالم وَهُوَ الْمَعْرُوف بخويز منداد الْمَالِكِي إِلَى أَن جعل للجمادات تمييزاً قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَعَلَّ مُعْتَرضًا يعْتَرض بقول الله تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حاكياً أَنه قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض {ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم يفتص للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فَهَذَا كُله حق وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لِأَن الْقُرْآن وَاجِب أَن يحمل على ظَاهره كَذَلِك كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن خَالف ذَلِك كَانَ عَاصِيا لله عز وَجل مبدلاً لكلماته مَا لم يَأْتِ نَص فِي أَحدهمَا أَو إِجْمَاع مُتَيَقن أَو ضَرُورَة حس على خلاف ظَاهره فَيُوقف عِنْد ذَلِك وَيكون من حمله على ظَاهره حِينَئِذٍ ناسباً الْكَذِب إِلَى الله عز وَجل أَو كَاذِبًا عَلَيْهِ وعَلى نبيه عَلَيْهِ السَّلَام نَعُوذ بِاللَّه من كلا الْوَجْهَيْنِ وَإِذ قد بَينا قبل بالبراهين الضرورية أَن الْحَيَوَان غير الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة لَا نطق لَهُ نعني أَنه لَا تصرف لَهُ فِي الْعُلُوم والصناعات وَكَانَ هَذَا القَوْل مشَاهد بالحس مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ لَا يُنكره إِلَّا وقح مكابر لحسه وَبينا أَن كل مَا كَانَ بِخِلَاف التَّمْيِيز الْمَعْهُود عندنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ تمييزاً وَكَانَ هَذَا أَيْضا يعلم بِالضَّرُورَةِ والعيان والمشاهدة فَوَجَبَ أَنه بِخِلَاف مَا يُسمى فِي الشَّرِيعَة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا فقد وَجب أَنَّهَا أَسمَاء مُشْتَركَة اتّفقت ألفاظها وَأما مَعَانِيهَا فمختلفة لَا يحل لأحد أَن يحملهَا على غير هَذَا لِأَنَّهُ إِن فعل كَانَ مخبرا أَن الله تَعَالَى قَالَ مَا يُبطلهُ العيان وَالْعقل الَّذِي بِهِ عرفنَا الله تَعَالَى ولولاه مَا عَرفْنَاهُ وَمن أجَاز هَذَا كَانَ كَافِرًا مُشْركًا وَمن أبطل الْعقل فقد أبطل التَّوْحِيد إِذْ كذب شَاهد عَلَيْهِ إِذْ لَو الْعقل لم يعرف الله عز وَجل أحد أَلا ترى المجانين والأطفال لَا يلْزمهُم شَرِيعَة لعدم عُقُولهمْ وَمن جوز هَذَا فَلَا يُنكر على النَّصَارَى مَا يأْتونَ بِهِ خلاف الْمَعْقُول وَلَا على الدهرية وَلَا على السوفسطائية مَا يخالفون بِهِ الْمَعْقُول لَكنا نقُول أَن اللَّفْظ مُشْتَرك وَالْمعْنَى هُوَ مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ كَمَا فعلنَا فِي النُّزُول وَفِي الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ والأعين وحملنا كل ذَلِك على أَنه حق بِخِلَاف مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم ينزل عندنَا وَاسم يَد وَعين عندنَا لِأَن هَذَا عندنَا فِي اللُّغَة وَاقع على الْجَوَارِح والنقلة وَهَذَا منفي عَن الله تَعَالَى فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فلنقل الْآن على مَعَاني الْآيَات الَّتِي ذكرنَا أَنه رُبمَا اعْترض بهَا من لَا يمعن النّظر بحول الله وقوته فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما تسيبح كل شَيْء فالتسبيح عندنَا إِنَّمَا هُوَ قَول سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ وبالضرورة نعلم أَن الْحِجَارَة والخشب والهوام والحشرات والألوان لَا تَقول سُبْحَانَ الله بِالسِّين والباءوالحاء وَالْألف وَالنُّون وَاللَّام وَالْهَاء هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ من لَهُ مسكة عقل فإ لَا شكّ فِي هَذَا فباليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 علمنَا أَن التَّسْبِيح الَّذِي ذكره الله تَعَالَى هُوَ حق وَهُوَ معنى غير تسبيحنا نَحن بِلَا شكّ فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن التَّسْبِيح فِي أصل اللُّغَة وَهُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن السوء فَإذْ قد صَحَّ هَذَا فَإِن كل شَيْء فِي الْعَالم بِلَا شكّ منزه لله تَعَالَى عَن السوء الَّذِي هُوَ صفة الْحُدُوث وَلَيْسَ فِي العاعلم شَيْء إِلَّا وَهُوَ دَال بِمَا فِيهِ من دَلَائِل الصَّنْعَة واقتضائه صانعاً لَا يشبه شَيْئا مِمَّا خلق على أَن الله تَعَالَى منزه عَن كل سوء وَنقص وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يفهمهُ وَلَا يفقهه كثير من النَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} فَهَذَا هُوَ تَسْبِيح كل شَيْء بِحَمْد الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَهَذَا الْمَعْنى حق لَا يُنكره موحد فَإِن كَانَ قَوْلنَا هَذَا مُتَّفقا على صِحَّته وَكَانَت الضَّرُورَة توجب أَنه لَيْسَ هُوَ التَّسْبِيح الْمَعْهُود عندنَا ففقد ثَبت قَوْلنَا وانتفى قَول من خَالَفنَا بَطْنه الْكَاذِب وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَالْكَافِر الدهري شَيْء لَا يشك فِي أَنه شَيْء وَهُوَ لَا يسبح بِحَمْد الله تَعَالَى أَلْبَتَّة فصح ضَرُورَة أَن الْكَافِر يسبح إِذْ هُوَ من جملَة الْأَشْيَاء الَّتِي تسبح بِحَمْد الله تَعَالَى وَأَن تسبيحه لَيْسَ هُوَ قَوْله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ بِلَا شكّ وَلكنه تَنْزِيه الله تَعَالَى بدلائل خلقه وتركيبه عَن أَن يكون الْخَالِق مشبهاً لشَيْء مِمَّا خلق وَهَذَا يَقِين لَا شكّ فِيهِ فصح بِمَا ذكرنَا أَن لَفْظَة التَّسْبِيح هِيَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة وَهِي الَّتِي تقع على نَوْعَيْنِ فَصَاعِدا وَأما السُّجُود الَّذِي ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْله {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} فقد علمنَا أَن السُّجُود المعهد عندنَا فِي الشَّرِيعَة واللغة هُوَ وضع الْجَبْهَة وَالْيَدَيْنِ والركبتين وَالرّجلَيْنِ وَالْأنف فِي الأَرْض بنية التَّقَرُّب بذلك إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا مَا لَا يشك فِيهِ مُسلم وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة لَا شكّ فِيهَا أَن الْحمير والهوام والخشب والحشيش وَالْكفَّار لَا تفعل ذَلِك لَا سِيمَا من لَيْسَ لَهُ هَذِه الْأَعْضَاء وَقد نَص تَعَالَى على صِحَة مَا قُلْنَا وَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من لَا يسْجد لَهُ السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا بقوله تَعَالَى {واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} فَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من يستكبر عَن السُّجُود لَهُ فَلَا يسْجد وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} فَبين تَعَالَى أَن السُّجُود كرها غير السُّجُود بالطوع الَّذِي هُوَ السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا وَإِذ قد أخبر الله تَعَالَى بِهَذَا وَصَحَّ أَيْضا بالعيان فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن السُّجُود الَّذِي أخبر الله تَعَالَى أَنه يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض هُوَ غير السُّجُود الَّذِي يَفْعَله الْمُؤْمِنُونَ طَوْعًا ويستكبر عَنهُ بعض النَّاس وَيمْتَنع مِنْهُ أَكثر الْخلق هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ مُسلم فَإذْ هَذَا كَذَلِك بِلَا شكّ فَوَاجِب علينا أَن نطلب معنى هَذَا السُّجُود مَا هُوَ فَفَعَلْنَا فوجدناه مُبينًا بِلَا إِشْكَال فِي آيَتَيْنِ من كتاب الله وهما قَوْله تَعَالَى {وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} وَقَوله تَعَالَى {أَو لم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون} فَبين تَعَالَى فِي هَاتين الآيتيين بَيَانا لَا إِشْكَال فِيهِ أَن ميل الْفَيْء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذِي ظلّ هُوَ معنى السُّجُود الْمَذْكُور فِي الْآيَة لَا السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا وَصَحَّ بِهَذَا أَن لَفْظَة السُّجُود هِيَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة الَّتِي تقع على نَوْعَيْنِ فَأكْثر وَأما قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 تَعَالَى قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ والمشاهدة أَن القَوْل فِي اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ دفع آلَات الْكَلَام من أنابيب الصَّدْر وَالْحلق والحنك وَاللِّسَان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إِلَى أذن السَّامع فيفهم بِهِ مرادات الْقَائِل فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَكل من لَا لِسَان لَهُ وَلَا شفتين وَلَا أضراس وَلَا حنك وَلَا حلق فَلَا يكون مِنْهُ القَوْل الْمَعْهُود منا هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ ذُو عقل فَإذْ هَذَا هَكَذَا كَمَا قُلْنَا بالعيان فَكل قَول ورد بِهِ نَص وَلَفظ مخبر بِهِ عَمَّن لَيست هَذِه صفته فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ القَوْل الْمَعْهُود عندنَا لكنه معنى آخر فَإذْ هَذَا كَمَا ذكرنَا فبالضرورة قد صَحَّ أَن معنى قَوْله تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} إِنَّمَا هُوَ الجري على نَفاذ حكمه عز وَجل فيهمَا وتصريفه لَهَا وَأما عرضه تَعَالَى الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وإباية كل وَاحِد مِنْهَا فلسنا نعلم نَحن وَلَا أحد من النَّاس كَيْفيَّة ذَلِك وَهَذَا نَص قَوْله تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} فَمن تكلّف أَو كلف غَيره معرفَة ابْتِدَاء الْخلق وَأَن لَهُ مبدئاً لَا يُشبههُ الْبَتَّةَ فَأَرَادَ معرفَة كَيفَ كَانَ فقد دخل فِي قَوْله تَعَالَى {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} إِلَّا أننا نوقن أَنه تَعَالَى لم يعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال الْأَمَانَة إِلَّا وَقد جعل فِيهَا تمييزاً لما عرض علييها وَقُوَّة تفهم بهَا الْأَمَانَة فِيمَا عرض عَلَيْهَا فَلَمَّا أبتها وأشفقت مِنْهَا سلبها ذَلِك التَّمْيِيز وَتلك الْقُوَّة وَأسْقط عَنْهَا تَكْلِيف الْأَمَانَة هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه عز وَجل وَلَا مزِيد عندنَا على ذَلِك وَأما مَا كَانَ بعد ابْتِدَاء الْخلق فمعروف الكيفيات قَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} فصح أَنه لَا تَبْدِيل لما رتبه الله تَعَالَى مِمَّا أجْرى عَلَيْهِ خلائقه حاشا مَا أحَال فِيهِ الرتب والطبائع للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن اعْترضُوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى يصف الْحِجَارَة وَأَن من الْحِجَارَة {لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن الْحِجَارَة لم تُؤمر بشريعة وَلَا بعقل وَلَا بعث إِلَيْهَا نَبِي قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن القَوْل مِنْهُ تَعَالَى يخرج على أحد ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن يكون الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط} رراجع إِلَى الْقُلُوب الْمَذْكُورَة فِي أول الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} الْآيَة فَذكر تَعَالَى أَن من تِلْكَ الْقُلُوب القاسية مَا يقبل الْإِيمَان يَوْمًا مَا فيهبط عَن الْقَسْوَة إِلَى اللين من خشيَة الله تَعَالَى وَهَذَا أَمر يُشَاهد بالعيان فقد تلين الْقُلُوب القاسية بلطف الله تَعَالَى ويخشى العَاصِي وَقد أخبر عز وَجل أَن من أهل الْكتاب من يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَيْهِم وكما أخبر تَعَالَى أَن من الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه من بعد أَن أخبر تَعَالَى أَن الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقاً وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله فَهَذَا وَجه ظَاهر مُتَيَقن الصِّحَّة وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الخشية الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة إِنَّمَا هِيَ التَّصَرُّف بِحكم الله تَعَالَى وجري أقداره كَمَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى عز وَجل حاكياً عَن السَّمَاء وَالْأَرْض قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين وَقد بَين جلّ وَعز ذَلِك مَوْصُولا بِهَذَا اللَّفْظ فَقَالَ جلّ وَعز {فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} فَبين الله تَعَالَى بَيَانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رفع كل إِشْكَال أَن تِلْكَ الطَّاعَة من السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّمَا هِيَ تصرفه لَهَا وقضاؤه تَعَالَى إياهن سبع سموات ووحيه فِي كل سماءٍ أمرهَا فصح قَوْلنَا نصاجليا بِبَيَان الله تَعَالَى لذَلِك وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَصَحَّ بِهَذَا إباية السَّمَوَات ولأرض وَالْجِبَال من قبُول الْأَمَانَة إِنَّمَا هُوَ لماركبها الله تَعَالَى عَلَيْهِ من الجمادية وَعدم التَّمْيِيز وَقد علم كل ذِي عقل امْتنَاع قبُول مَا هَذِه صفته للشرائع والأوامر والنواهي وَقد ذمّ الله تَعَالَى من ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دعاءونداء وَلَا يحل لمُسلم أَن ينْسب إِلَى الله تَعَالَى فعلا ذمه وَالْوَجْه الثَّالِث أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بقوله وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله الْجَبَل الي صَار دكاً إِذْ تجلى الله تَعَالَى لَهُ يَوْم سَأَلَهُ كليمه عَلَيْهِ السَّلَام الرُّؤْيَة فَذَلِك الْجَبَل بِلَا شكّ من جملَة الْحِجَارَة وَقد هَبَط عَن مَكَانَهُ من خشيَة الله تَعَالَى وَهَذِه معْجزَة وَآيَة وإحالة طبيعة فِي ذَلِك الْجَبَل خَاصَّة وَيكون يهْبط بِمَعْنى هَبَط كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} وَمَعْنَاهُ بِلَا شكّ وَإِذ مكر وَبَين قَوْله تَعَالَى مُصدقا إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنْكَاره على أَبِيه عبَادَة الْحِجَارَة لم تعبد مَا يسمع وَلَا يبصر وَقَوله تَعَالَى {أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل أولو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ} مَا هِيَ عَلَيْهِ من الجمادية وَعدم التَّمْيِيز قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فصح بِهَذَا صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَن الْحِجَارَة لَا تعقل لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانُوا لَا يعْبدُونَ مِمَّا لَا يعقل وَأما سَائِر مَا كَانُوا يعْبدُونَ من الْمَلَائِكَة والمسيح وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَمن الْجِنّ فَكل هَؤُلَاءِ عاقلون مميزون فَلم يبْق إِلَّا الْحِجَارَة فصح بِالنَّصِّ أَنَّهَا لَا تعقل وَإِذ تَيَقّن ذَلِك بِالنَّصِّ وبالضرورة وبالمشاهدة فقد انْتَفَى عَنْهَا النُّطْق والتمييز والخشية الْمَعْهُود كل ذَلِك عندنَا وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَأما الْأَحَادِيث المأثورة فِي أَن الْحجر لَهُ لِسَان وشفتان والكعبة كَذَلِك وَأَن الْجبَال تطاولت وخشع جبل كَذَا فخرافات مَوْضُوعَة نقلهَا كل كَذَّاب وَضَعِيف لَا يَصح شَيْء مِنْهَا من طَرِيق الْإِسْنَاد أصلا وَيَكْفِي من التَّطْوِيل فِي ذَلِك أَنه لم يدْخل شَيْئا مِنْهَا من انتدب من الْأَئِمَّة لصبيف الصَّحِيح من الحَدِيث أوما يستجاز رِوَايَته مِمَّا يُقَارب الصِّحَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل من يخالفنا فِي هَذَا فَإِنَّهُ إِذا أقرّ لنا أَن القَوْل الْمَذْكُور فِي الْآيَات الَّتِي تلونا وَالسُّجُود وَالتَّسْبِيح والحشية لَيْسَ شَيْء مِنْهُ على الصّفة الْمَعْهُودَة بَيْننَا فقد وَافَقنَا أحب أَو كره وهم كلهم مقرون بذلك وَقد جَاءَ ذَلِك فِي أشعار الْعَرَب قَالَ الشَّاعِر ... شكى الى جمل طول السرى ... وَقَالَ آخر ... فَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... وَقَالَ الرَّاعِي ... قلق الفؤوس إِذا أردن نصولا ... وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله تَعَالَى {جداراً يُرِيد أَن ينْقض} وَهَذَا بِلَا شكّ غير الْإِرَادَة الْمَعْهُودَة من الْحَيَوَان فصح قَوْلنَا بِالنَّصِّ والضرورة وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم يقْتَصّ للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا الوحوش حشرت} فصح أَنَّهَا تحْشر بِلَا شكّ ويسلط الله تَعَالَى مَا يَشَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 من خلقه على مَا يَشَاء فَإِذا سلط القرناء على الْجَمَّاء فِي الدُّنْيَا فَلهُ تَعَالَى أَن يُسَلط الْجَمَّاء على القرناء فِي الْآخِرَة يَوْم الْقِيَامَة وَلم يَأْتِي نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا دَلِيل خبر على أَن الْمَوَاشِي متعبدة بشريعة وَهَذَا مِمَّا نقربه ونقول يفعل الله مَا يَشَاء وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الرَّد على من زعم ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْسُوا أَنْبيَاء الْيَوْم وَلَا الرُّسُل الْيَوْم رسلًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حَدِيث فرقة مبتدعة تزْعم أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ هُوَ الْآن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا قَول ذهب إِلَيْهِ الأشعرية وَأَخْبرنِي سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ وَهُوَ من مقدميهم الْيَوْم أَن مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك الْأَصْبَهَانِيّ على هَذِه المسئلة قَتله بالسم مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب مادون وَرَاء النَّهر من خرسان رَحمَه الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه مقَالَة خبيثة مُخَالفَة لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما أجمع عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة زانما حملهمْ على هَذَا قَوْلهم الْفَاسِد أَن الرّوح عرض وَالْعرض يفنى أبدا وَيحدث وَلَا يبْقى وَقْتَيْنِ فَروح النَّبِي صالى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدهم قد فنيت وَبَطلَت وَلَا روح الْآن عِنْد الله تَعَالَى وَأما جسده فَفِي قَبره موَات فبطلت نبوته بذلك ورسالته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ كفر صراح لَا ترداد فِيهِ وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل الْفَاحِش الفظيع أَنه مُخَالف لما أَمر الله عز وَجل بِهِ وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتفقَ عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام من كل فرقة وَمن كل نحلة من الْأَذَان فِي الصوامع كل يَوْم حمس مَرَّات فِي كل قَرْيَة من شَرق الأَرْض إِلَى غربها بِأَعْلَى أَصْوَاتهم قد قرنه الله تَعَالَى بِذكرِهِ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله فعلى قَول هَؤُلَاءِ الموكلين إِلَى أنفسهم يكون الآذان كذبا وَيكون من أَمر بِهِ كَاذِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكون الْأَذَان على قَوْلهم أشهد أَن مُحَمَّدًا كَانَ رَسُول الله وَإِلَّا فَمن أخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عَن شَيْء كَانَ وَبَطل أَنه كَائِن الْآن فَهُوَ كَاذِب فالأذان كذب على قَوْلهم وَهَذَا كفر مُجَرّد وَكَذَلِكَ مَا اتّفق عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم من تلقين موتاهم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَإِنَّهُ بَاطِل على قَول هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَا عمل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة قِتَاله الْأمة وَأمره عَن الله عز وَجل بِأَن يعْمل بِهِ بعده أبدا وَأجْمع على القَوْل بِهِ وَالْعَمَل جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أول الْإِسْلَام إِلَى آخِره وَمن شَرق الأَرْض إِلَى غربها إنسهم وجنهم بِيَقِين مَقْطُوع بِهِ دون مُخَالف فَمَا تخرج بِهِ الدِّمَاء من التَّحْلِيل إِلَى التَّحْرِيم أَو إِلَى الحقن بالجزية من أَن يعرض على أهل الْكفْر أَن يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَيجب على قَول هَؤُلَاءِ المحرومين أَن هَذَا بَاطِل وَكذب وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكفلوا أَن يَقُولُوا أَن مُحَمَّد كَانَ رَسُول الله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم} وَقَوله تَعَالَى {وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} فسماهم الله رسلًا وَقد مَاتُوا وَسَمَّاهُمْ نبيين ورسلاً وهم فِي الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ مَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ وَجَاء بِهِ النَّص من قَول كل مصل فرضا أَو نَافِلَة السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَلَو لم يكن روحه عَلَيْهِ السَّلَام مَوْجُودا قَائِما لَكَانَ السَّلَام على الْعَدَم هدرا فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون مَيتا رَسُول الله وَإِنَّمَا الرَّسُول هُوَ الَّذِي يُخَاطب عَن الله بالرسالة قيل لَهُم نعم من أرْسلهُ الله مرّة وَاحِدَة فَقَط رَسُولا لله تَعَالَى أبدا لِأَنَّهُ حَاصِل على مرتبَة جلالة لَا يحطه عَنْهَا شىء أبدا ول يسْقط عَنهُ هَذَا الِاسْم أبدا وَلَو كَانَ مَا قُلْتُمْ لوَجَبَ أَن لَا يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولا إِلَى أهل الْيمن فِي حَيَاته لِأَنَّهُ لم يكلمهم وَلَا شافههم وَيلْزم أَيْضا أَن لَا يكون رَسُول الله إِلَّا مَا دَامَ يكلم النَّاس فَإِذا سكت أَو أكل أَو نَام أَو جَامع لم يكن رَسُول الله وَهَذَا حمق مشوب بِكفْر وحلاف للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن خبر الْإِسْرَاء الَّذِي ذكره الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَهُوَ مَنْقُول نقل التَّوَاتُر وَأحد أَعْلَام النُّبُوَّة ذكر فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي سماءٍ سَمَاء فَهَل رأى إِلَّا أَرْوَاحهم الَّتِي هِيَ أنفسهم وَمن كذب بِهَذَا أَو بعضه فقد انْسَلَخَ عَن الْإِسْلَام بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَهَذِه براهين لَا محيد عَنْهَا وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر أَن لله مَلَائِكَة يبلغونه منا السَّلَام وَأَنه من رَآهُ فِي الْمَنَام فقد رَآهُ حَقًا وَلَقَد بَلغنِي عَن بَعضهم أَنهم يَقُولُونَ أَن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم لسن الْآن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ لكنهن كن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا ضلال بحت وحماقة مَحْضَة وَلَو كَانَ هَذَا الْوَاجِب أَن لَا تكون أم الْمَرْء الَّتِي وَلدته وَأَبوهُ الَّذِي وَلَده أَبَاهُ وَلَا أمه إِلَّا فِي حِين الْولادَة وَالْحمل من الْأُم فَقَط وَفِي حِين الْإِنْزَال من الْأَب فَقَط لَا بعد ذَلِك وَهَذَا من السخف الَّذِي لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ ذُو مسكة فَإِن قَالُوا أتقولون أَن عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْيَوْم أَو عُثْمَان أَيْضا كَذَلِك قُلْنَا لَهُم لَا وَهَذَا إِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا يكون أَمِيرا إِلَّا من الائتمار لأَمره وَاجِب وَلَيْسَ هَذَا لأحد إِلَّا بعد مَوته إِلَّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هُوَ لخليفة بعد خَليفَة طول حَيَاته فَقَط فَبَطل أَن يكون لَهُم فِيهَا مُتَعَلق الْكَلَام على من قَالَ بتناسخ الْأَرْوَاح قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ افترق الْقَائِلُونَ بتناسخ الْأَرْوَاح على فرْقَتَيْن فَذَهَبت الْفرْقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الْوَاحِدَة إِلَى أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل بعد مفارقتها الأجساد إِلَى أجساد أخر وَإِن لم تكن من نوع الأجساد الَّتِي فَارَقت وَهَذَا قَول أَحْمد بن حابط وَأحمد بن نانوس تِلْمِيذه وَأبي مُسلم الْخُرَاسَانِي وَمُحَمّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب صرح بذلك فِي كِتَابه الموسوم بِالْعلمِ الإلهي وَهُوَ قَول القرامطة وَقَالَ الرَّازِيّ فِي بعض كتبه لَوْلَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى تَخْلِيص الْأَرْوَاح عَن الأجساد المتصورة بالصور الهيمية إِلَى الأجساد المتصورة بصور الْإِنْسَان إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالذّبْح لما جَازَ ذبح شَيْء من الْحَيَوَان أَلْبَتَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه كَمَا ترى دعاوي وخرافات بِلَا دَلِيل وَذهب هَؤُلَاءِ إِلَى أَن التناسخ إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الْعقَاب وَالثَّوَاب قَالُوا فالفاسق الْمُسِيء الْأَعْمَال تنْتَقل روحه إِلَى أجساد الْبَهَائِم الخبيثة المرتطمة فيي الأقذار والمسخرة المؤلمة الممتهنة بِالذبْحِ وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت أفاعيله كلهَا شَرّ الاخبر فِيهَا فَقَالَ بَعضهم أَرْوَاح هَذِه الطَّبَقَة هِيَ الشَّيَاطِين وَقَالَ أَحْمد بن حابط أَنَّهَا تنْتَقل إِلَى جَهَنَّم فتعذب بالنَّار أَبَد الْأَبَد وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت أفاعيله كلهَا خيرا لَا شَرّ فِيهَا فَقَالَ بَعضهم أَرْوَاح هَذِه الطَّبَقَة هِيَ الْمَلَائِكَة وَقَالَ أَحْمد بن حابط أَنَّهَا لَا شكّ أَنَّهَا تنْتَقل إِلَى الْجنَّة فتنعم فِيهَا أَبَد الْأَبَد واحتجت هَذِه الطَّائِفَة المرتسمة بِالْإِسْلَامِ أَعنِي أَحْمد بن حابط وَأحمد بن نانوس بقول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ} وَاحْتج من هَذِه الطَّائِفَة من لَا يَقُول بِالْإِسْلَامِ بِأَن قَالُوا إِن النَّفس لَا تتناهى والعالم لَا يتناهى لأمد فَالنَّفْس منتقلة أبدا وَلَيْسَ انتقالها إِلَى نوعها بِأولى من انتقالها إِلَى غير نوعها بِأولى من انتقالها إِلَى غير نوعها قَالَ أَبُو أَحْمد رَضِي الله عَنهُ وَذَهَبت الْفرْقَة الثَّانِيَة إِلَى أَن منعت من انْتِقَال الْأَرْوَاح إِلَى غير أَنْوَاع أجسادها الَّتِي فَارَقت وَلَيْسَ من هَذِه الْفرْقَة أحد يَقُول بشيءٍ من الشَّرَائِع وهم من الدهرية وحجتهم هِيَ حجَّة الطَّائِفَة الَّتِي ذكرنَا قبلهَا القائلة أَنه لَا تناهي للْعَالم فَوَجَبَ أَن تَتَرَدَّد النَّفس فِي الأجساد أبدا قَالُوا وَلَا يجوز أَن تنْتَقل إِلَى غير النَّوْع الَّذِي أوجب لَهَا طبعها الإشراف عَلَيْهِ وتعلقها بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما الْفرْقَة المرتسمة باسم الْإِسْلَام فَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم إِجْمَاع جَمِيع أهل الْإِسْلَام على تكفيرهم وعَلى أَن من قَالَ بقَوْلهمْ فَإِنَّهُ على غير الْإِسْلَام وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِغَيْر هَذَا وَبِمَا وَبِمَا الْمُسلمُونَ مجمعون عَلَيْهِ من أَن الْجَزَاء لَا يَقع إِلَّا بعد فِرَاق الأجساد للأرواح بالنكر أَو التنعم قبل يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ بِالْجنَّةِ أَو النَّار فِي موقف الْحَشْر فَقَط إِذا جمعت أجسادها مَعَ أرواحها مَعَ أرواحها الَّتِي كَانَت فِيهَا وَأما احتجاجهم بالآيتين فَكفى من بطلَان قَوْلهم أَيْضا مَا ذَكرْنَاهُ من الْإِجْمَاع وَأَن الْأمة كلهَا مجمعون بِلَا خلاف على أَن المُرَاد بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ غير مَا ذكر هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ وَأَن المُرَاد بقوله تَعَالَى فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك أَنَّهَا الصُّورَة الَّتِي رتب الْإِنْسَان عَلَيْهَا من طول أَو قصر أَو حسن أَو قبح أَو بَيَاض أَو سَواد وَمَا أشبه ذَلِك وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَإِن مَعْنَاهَا أَن الله تَعَالَى امتن علينا فِي أَن خلق لنا من أَنْفُسنَا أَزْوَاجًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تتولد مِنْهَا ثمَّ امتن علينا بِأَن خلق لنا من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج ثمَّ أخبر تَعَالَى أَنه يذرؤنا فِي هَذِه الْأزْوَاج يَعْنِي الَّتِي هِيَ من أَنْفُسنَا فَتبين ذَلِك بَيَانا ظَاهرا لاخفاء بِهِ أَن الله تَعَالَى أخبرنَا فِي هَذِه الْآيَة نَفسهَا أَن الْأزْوَاج المخلوقة لنا إِنَّمَا هِيَ من أَنْفُسنَا ثمَّ فرق بَين أَنْفُسنَا وَبَين الْأَنْعَام فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يكون لنا أَزوَاج تتولد فِيهَا من غير أَنْفُسنَا وَيَكْفِي من هَذَا أَن قَوْلهم إِنَّمَا هُوَ دَعْوَى بِلَا برهَان وَإِنَّمَا رتبوه على أصلهم فِي الْعدْل فأخرجوا هَذَا الْوَجْه لما شاهدوه من إيلام الْحَيَوَان وكل قَول لم يُوجِبهُ برهَان فَهُوَ بَاطِل وَلم يَأْتِ هَذَا القَوْل قطّ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء وَهَؤُلَاء الْقَوْم مقرون بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فلاح يَقِينا فَسَاد قَوْلهم وَأما الْفرْقَة الثَّانِيَة القائلة بالدهر فإننا نقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِنَّه يَكْفِي من فَسَاد قَوْلهم هَذَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان لَا عَقْلِي ولاحسي وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ لكننا لَا نقنع بِهَذَا بل نبين عَلَيْهِم بَيَانا لائحاً ضَرُورِيًّا بحول الله تَعَالَى وقوته فَتَقول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين أَن الله تَعَالَى خلق الْأَنْوَاع والأجناس ورتب الْأَنْوَاع تَحت الْأَجْنَاس وَفصل كل نوع من النَّوْع الآخر بفصله الْخَاص لَهُ الَّذِي لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره وَهَذِه الْفُصُول الْمَذْكُورَة لأنواع الْحَيَوَان إِنَّمَا هِيَ لأنفسها الَّتِي هِيَ أرواحها فَنَفْس الْإِنْسَان حَيَّة ناطقة وَنَفس الْحَيَوَان حَيَّة غير ناطقة هَذَا هُوَ طبيعة كل نفس وجوهرها الَّذِي لَا يُمكن استحالته عَنهُ فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يصير غير النَّاطِق ناطقاً وَلَا النَّاطِق غير النَّاطِق وَلَو جَازَ هَذَا لبطلت المشاهدات وَمَا أوجبه الْحس وبديهة الْعقل والضرورة لانقسام الْأَشْيَاء على حُدُودهَا وَأما الْفرْقَة الثَّالِثَة الَّتِي قَالَت أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل إِلَى أجساد نوعها فَيبْطل قَوْلهم بحول الله تَعَالَى وقوته بطلاناً ضَرُورِيًّا بِكُل مَا كتبناه فِي إِثْبَات حُدُوث الْعَالم وَوُجُوب الِابْتِدَاء لَهُ وَالنِّهَايَة من أَوله وَبِمَا كتبناه فِي إِثْبَات النُّبُوَّة أَن جَمِيع النبوات وَردت بِخِلَاف قَوْلهم وببرهان ضَرُورِيّ عَلَيْهِم وهوانه فِي الْعَالم كُله شيآن يشتبهان بِجَمِيعِ أعراضها اشتباهاً تَاما من وَجه يعلم هَذَا من تدبر اخْتِلَاف الصُّور وَاخْتِلَاف الهيآت وتباين الْأَخْلَاق وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا الشَّيْء يشبه هَذَا على معنى أَن ذَلِك فِي أَكثر أحوالهما لافي كلهَا وَلَو لم يكن مَا قُلْنَا مَا فرق أحد بَينهمَا أَلْبَتَّة وَقد علمنَا بِالْمُشَاهَدَةِ أَن كل من يتَكَرَّر عَلَيْهِ ذَلِك الشيآن تكرراً كثيرا مُتَّصِلا أَنه لَا بُد أَن يفصل بَينهمَا وَأَن يُمَيّز أَحدهمَا من الثَّانِي وَأَن يجد فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَشْيَاء بَان بهَا عَن الآخر لَا يُشبههُ فِيهَا فصح بِهَذَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى وجود شَخْصَيْنِ يتفقان فِي أخلاقهما كلهَا حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرق فِي شَيْء مِنْهَا وَقد علمنَا بِيَقِين أَن الْأَخْلَاق مَحْمُولَة فِي النَّفس فصح بِهَذَا أَن نفس كل ذِي نفس من الأجساد من أَي نوع كَانَت غير النَّفس الَّتِي فِي غَيره من الأجساد كلهَا ضَرُورَة وَقَالَ أَيْضا بعض من ذهب إِلَى التناسخ من الحاملين ذَلِك على سَبِيل الْجَزَاء أَن الله تَعَالَى عدل حَكِيم رَحِيم كريم فإذهو كَذَلِك فمحال أَن يعذب من لَا ذَنْب لَهُ قَالَ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ تَعَالَى يقطع أجسام الصّبيان الَّذين لَا ذَنْب لَهُم بالجدري والقروح وَيَأْمُر بِذبح بعض الْحَيَوَان الَّذِي لَا ذَنْب لَهُ وبطبخه وَأكله ويسلط بَعْضهَا على بعض فيقطعه ويأكله وَلَا ذَنْب لَهُ علمنَا أَنه تَعَالَى لم يفعل ذَلِك إِلَّا وَقد كَانَت الْأَرْوَاح عصاة مُسْتَحقَّة للعقاب بكسب هَذِه الأجساد لتعذب فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى عَنهُ وَقد تكلمنا على إبِْطَال هَذَا الأَصْل الْفَاسِد فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 غير هَذَا الْمَكَان على البراهمة فِي كتَابنَا هَذَا بِمَا يَكْفِي وَقد رددنا الْكَلَام أَيْضا فِي بَيَان بُطْلَانه فِي غير مَا مَوضِع من كتَابنَا وَفِي بَاب الْكَلَام على من أبطل الْقدر من الْمُعْتَزلَة فِي كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا الأَصْل الْفَاسِد أَن يُقَال لَهُم إِن طردتم هَذَا الأَصْل وَقَعْتُمْ فِي مثل مَا أنكرتم وَلَا فرق وَهُوَ أَن الْحَكِيم الْعدْل الرَّحِيم على أصلكم لَا يخلق من يعرضه للمعصية حَتَّى يحْتَاج إِلَى إفساده بِالْعَذَابِ بعد إِصْلَاحه وَقد كَانَ قَادِرًا على أَن يطهر كل نفس خلقهَا وَلَا يعرضهَا للفتن ويلطف بهَا ألطافاً فيصلحها بهَا حَتَّى تسْتَحقّ كلهَا إحسانه وَالْخُلُود فِي النَّعيم وَمَا كَانَ ذَلِك ينقص شَيْئا من ملكه فَإِن كَانَ عَاجِزا عَن ذَلِك فَهَذِهِ صفة نقص وَيلْزم حاملها أَن يكون من أجل نَقصه مُحدثا مخلوقاً فَإِن طردوا هَذَا الأَصْل خَرجُوا إِلَى قَول المانوية فِي أَن للأشياء فاعلين وَقد تقدم إبطالنا لقَولهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبينا أَن الَّذِي لَا آمُر فَوْقه وَلَا مُرَتّب عَلَيْهِ فَإِن كل مَا يَفْعَله فَهُوَ حق وَحِكْمَة وَإِذ قد تعلق هَؤُلَاءِ الْقَوْم بالشريعة أَن كل قَول لم يَأْتِ عَن نَبِي تِلْكَ الشَّرِيعَة فَهُوَ كذب وفرية فَإذْ لم يَأْتِ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام القَوْل بتناسخ الْأَرْوَاح فقد صَار قَوْلهم بِهِ خرافة وكذباً وباطلاً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل فِي الْكَلَام على من أنكر الشَّرَائِع من المنتمين إِلَى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد النَّاس عَن الْعلم بهَا جملَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ نبين فِي هَذَا الْفَصْل بحول الله تَعَالَى وقوته وجوب صِحَة الشَّرَائِع على مَا توجبه أصُول الفلاسفة على الْحَقِيقَة أَوَّلهمْ عَن آخِرهم على اخْتِلَاف أَقْوَالهم فِي غير ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ الفلسفة على الْحَقِيقَة إِنَّمَا مَعْنَاهَا وثمرتها وَالْغَرَض الْمَقْصُود نَحوه بتعلمها لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير إصْلَاح النَّفس بِأَن تسْتَعْمل فِي دنياها الْفَضَائِل وَحسن السِّيرَة المؤدية إِلَى سلامتها فِي الْمعَاد وَحسن السياسة للمنزل والرعية وَهَذَا نَفسه لَا غَيره هُوَ الْغَرَض فِي الشَّرِيعَة هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد من الْعلمَاء بالفلسفة وَلَا بَين أحد من الْعلمَاء بالشريعة فَيُقَال لمن انْتَمَى إِلَى الفلسفة بِزَعْمِهِ وَهُوَ يُنكر الشَّرِيعَة بجهله على الْحَقِيقَة بمعاني الفلسفة وَبعده عَن الْوُقُوف على غرضها وَمَعْنَاهَا أليست الفلسفة بِإِجْمَاع من الفلاسفة مبينَة للفضائل من الرذائل موقفة على الْبَرَاهِين المفرقة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَلَا بُد من نعم وضرورة فَيُقَال لَهُ أَلَيْسَ الفلاسفة كلهم قد قَالُوا صَلَاح الْعَالم بشيئين أَحدهمَا بَاطِن وَالْآخر ظاهرفالباطن هُوَ اسْتِعْمَال النَّفس للشرائع الزاجرة عَن تظالم النَّاس وَعَن القبائح وَالظَّاهِر هُوَ التحصين بالأسوار واتخاذ السِّلَاح لدفع الْعَدو الَّذِي يُرِيد ظلم النَّاس والإفساد ثمَّ أضافوا إِلَى إصْلَاح النُّفُوس بِمَا ذكرنَا إصْلَاح الأجساد بالطب فَلَا بُد من نعم ضَرُورَة فَيُقَال لَهُم فَهَل صَلَاح الْعَالم وانكفاف النَّاس عَن الْقَتْل الَّذِي فِيهِ فنَاء الْحلق وَعَن الزِّنَا الَّذِي فِيهِ فَسَاد النَّسْل وحراب الْمَوَارِيث وَعَن الظُّلم الَّذِي فِيهِ الضَّرَر على الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وحراب الأَرْض وَعَن الرذائل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الْبَغي والحسد وَالْكذب والجبن وَالْبخل والنميمة والغش والخيانة وَسَائِر الرذائل إِلَّا بشرائع زاجرة للنَّاس عَن كل ذَلِك فَلَا بُد من نعم ضَرُورَة وَإِلَّا وَجب الإهمال الَّذِي فِيهِ فَسَاد كل مَا ذَكرْنَاهُ فَإِذا لَا بُد من ذَلِك وَإِلَّا ذَلِك لفسد الْعَالم كُله ولفسدت الْعُلُوم كلهَا ولكان الْإِنْسَان قد بطلت فَضِيلَة الْفَهم والنطق وَالْعقل الَّذِي فِيهِ وَصَارَ كَالْبَهَائِمِ فَلَا تَخْلُو تِلْكَ الشَّرَائِع من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تكون صحاحاً من عِنْد الله عز وَجل الَّذِي هُوَ خَالق الْعَالم ومدبره كَمَا يقوا أَصْحَاب الشَّرَائِع وَإِمَّا أَن تكون مَوْضُوعَة بِاتِّفَاق من أفاضل الْحُكَمَاء لسياسة النَّاس بهَا وكفهم عَن التظالم والرذائل وَإِن كَانَت مَوْضُوعَة كَمَا يَقُول هَؤُلَاءِ المخاذيل فقد تَيَقنا أَن مَا ألزموا النَّاس من ذَلِك كذب لَا أصل لَهُ وزور مختلق وَإِيجَاب لما لَا يجب وباطل لَا حَقِيقَة لَهُ ووعيد ووعد كِلَاهُمَا كذب فَإِن كَانَ ذَلِك كَذَلِك فقد صَار الْكَذِب الَّذِي هُوَ أرذل الرذائل وَأعظم الشَّرّ لَا يتم صَلَاح الْعَالم الَّذِي هُوَ الْغَرَض من طلب الْفَضَائِل إِلَّا بِهِ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فقد صَار الْحق بَاطِلا والصدق رذيلة وَصَارَ الْبَاطِل حَقًا وصدقاً وَالْكذب فَضِيلَة وَصَارَ لَا قوام للْعَالم أصلا إِلَّا بِالْبَاطِلِ وَصَارَ الْكَذِب نتيجة الْحق وَصَارَ الْبَاطِل ثَمَرَة الصدْق وَصَارَ الْغرُور والغش والخديعة فَضَائِل ونصيحة وَهَذَا أعظم مَا يكون من الْمحَال والممتنع والخلق الَّذِي لَا مدْخل لَهُ فِي الْعقل فَإِن قَالُوا إِنَّه لَو كشف السِّرّ فِي ذَلِك إِلَى الْعَامَّة لم ترغب فِي الْفَضَائِل فَوَجَبَ لذَلِك أَن يُؤْتِي بِمَا ترهبه وتتقيه فاضطر فِي ذَلِك إِلَى الْكَذِب لَهُم كَمَا يفعل بالصبيان وكما أبحتم أَنْتُم فِي شرائعكم كذب الرجل لامْرَأَته ليستصلحها بذلك وَفِي دفاع الظَّالِم على سَبِيل التقية وَفِي الْحَرْب كَذَلِك فيلزمكم فِي هَذَا مَا ألزمتموه إيانا من أَن الْكَذِب صَار حَقًا وفضيلة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أما نَحن فقولنا أَنه لَيْسَ كَمَا ذكرْتُمْ قبيحاً إِذْ أَبَاحَهُ الله عز وَجل الَّذِي لَا حسن إِلَّا مَا حسن وَمَا أَمر بِهِ وَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح وَمَا نهي عَنهُ وَلَا آمُر فَوْقه فَلَا يلْزمنَا مَا أردتم إلزامنا إِيَّاه ثمَّ أَيْضا على أصولكم فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا ذكرْتُمْ مُعَارضَة وَلَا مَا شبهتم بِهِ مشبهاً لما شبهتموه بِهِ لأننا إِنَّمَا أبحنا الْكَذِب فِي الْوُجُوه الَّتِي ذكرْتُمْ للضَّرُورَة الدافعة إِلَى ذَلِك النَّص الْوَارِد علينا بذلك كَمَا جَازَ بِالنَّصِّ عِنْد الضَّرُورَة دفع الْقَتْل عَن النَّفس بقتل المريد لقتلها وَلَو أمكننا كف الصَّبِي وَالْمَرْأَة بِغَيْر ذَلِك لما جَازَ الْكَذِب أصلا فَإِذا ارْتَفَعت الضَّرُورَة وَجب الرُّجُوع إِلَى اسْتِعْمَال الصدْق على كل حَال وَلَوْلَا النَّص لم نبح شَيْئا من ذَلِك وَلَا حرمناه وَأَنْتُم فِيمَا تَدعُونَهُ من مداراة النَّاس كلهم مبتدئون لاختيار الْكَذِب دون أَن يَأْمُركُمْ بِهِ من يسْقط عَنْكُم اللوم بِطَاعَتِهِ فَأنْتم لَا عذرلكم على خلاف حكمنَا فِي ذَلِك ثمَّ إِنَّكُم لَا تخلون من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تطووا هَذَا السِّرّ عَن كل أحد فتصيرون إِلَى مَا ألزمناكم من أَن قطع الصدْق جملَة فَضِيلَة وَأَن الْكَذِب على الْجُمْلَة حق وَاجِب وَهَذَا هُوَ الَّذِي ألزمناكم ضَرُورَة وَإِمَّا أَن تبوحوا بذلك لمن وثقتم بِهِ فَهَذَا إِن قُلْتُمْ بِهِ يُوجب ضَرُورَة كشف سركم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن ينكتم أصلا على كَثْرَة العارفين بِهِ هَذَا أَمر يعلم بالضضرورة أَن الشَّيْء إِذا كثر العارفون بِهِ فبالضرورة لَا بُد من انتشاره فَإِن كُنْتُم تَقولُونَ أَن طيه وَاجِب الاعمن يوثق بِهِ وَفِي كشفه إِلَى من يوثق بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مَا يُوجب انتشاره إِلَى من لَا يوثق بِهِ فقد رجعتم إِلَى وجوب كشفه لِأَن كشفه الْبَتَّةَ هُوَ نتيجة كشفه إِلَى خَاص دون عَام وَفِي كشفه بطلَان مَا دبرتموه صلاحاً فقد بَطل حكمكم بِالضَّرُورَةِ لَا سِيمَا والقائلون بِهَذَا القَوْل مجدون فِي كشف سرهم هَذَا إِلَى الْخَاص وَالْعَام فقد أبطلوا علتهم جملَة وتناقضوا أقبح تنَاقض وعَلى كل ذَلِك فقد صَار الْبَاطِل وَالْكذب لَا يتم الْخَيْر والفضائل الْبَتَّةَ فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إِلَّا بهما وَهَذَا خلاف الفلسفة جملَة وَأَيْضًا إِن كَانَت الشَّرَائِع مَوْضُوعَة فَلَيْسَ مَا وَضعه وَاضع مَا بِأَحَق بِأَن يتبع مِمَّا وَضعه وَاضع آخر هَذَا أَمر يعلم بِالضَّرُورَةِ وَقد علمنَا بِمُوجب الْعقل وضرورته أَن الْحق لَا يكون من الْأَقْوَال الْمُخْتَلفَة والمتناقضة إِلَّا فِي وَاحِد وسائرها بَاطِل فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَأَي تَكُ الموضوعات هُوَ الْحق أم أَيهَا هُوَ الْبَاطِل وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يَأْتُوا بِمَا يحِق مِنْهَا شَيْئا دون سائرها أصلا فَإذْ لَا دَلِيل على صِحَة شىء مِنْهَا فقد صَارَت كلهَا بَاطِلَة إِذْ مَا لَا دَلِيل على صِحَّته فَهُوَ بَاطِل وَلَيْسَ لأحد أَن يَأْخُذ بقول وَيتْرك غَيره بِلَا دَلِيل فَبَطل بِهَذَا بطلاناً ضَرُورِيًّا كل مَا تعلقوا بِهِ وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَبَطل بِهَذَا الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ ماتوهمه هَؤُلَاءِ الْجُهَّال المجانين وَصَحَّ يَقِينا أَن الشَّرَائِع صِحَاح من عِنْد منشىء الْعَالم ومدبره الَّذِي يُرِيد بَقَاءَهُ إِلَى الْوَقْت الَّذِي سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه يبقيه إِلَيْهِ كَمَا هُوَ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك ضَرُورَة لَا يَخْلُو الحكم فِي ذَلِك من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تكون الشَّرَائِع كلهَا حَقًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت مِنْهُم من يذهب إِلَى هَذَا وَإِمَّا أَن يكون بَعْضهَا حَقًا وَبَعضهَا بَاطِلا لَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ ضَرُورَة فَإِن كَانَت كلهَا حَقًا فَهَذَا محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا شَرِيعَة مِنْهَا إِلَّا وَهِي تكذب سائرها وتخبر يأنها بَاطِل وَكفر وضلال وإلحادٌ فَوَجَدنَا هَذَا المخذول الَّذِي أَرَادَ بِزَعْمِهِ مُوَافقَة جَمِيع الشَّرَائِع قد حصل على خلاف جَمِيعهَا أَولهَا عَن آخرهَا وَحصل على تَكْذِيب جَمِيع الشَّرَائِع لَهُ كلهَا بِلَا خلاف وعَلى تَكْذِيبه هُوَ لجميعها وَمَا كَانَ هَكَذَا أَو هُوَ يَقُول إِنَّهَا كلهَا حق وَهِي كلهَا مكذبة لَهُ وَهُوَ مُصدق لَهَا كلهَا فقد شهد على نَفسه بِالْكَذِبِ وَبطلَان قَوْله وَصَحَّ بِالْيَقِينِ أَنه كَاذِب فِيهِ وَأَيْضًا فَإِن كل شَرِيعَة فَهِيَ مضادة فِي أَحْكَامهَا لغَيْرهَا تحرم هَذِه مَا تحل هَذِه وتوجب هَذِه مَا تسْقط هَذِه وَمن الْمحَال الْفَاسِد أَن يكون الشَّيْء وضده حَقًا مَعًا فِي وَقت وَاحِد حَرَامًا حَلَالا فِي حِين وَاحِد على إِنْسَان وَاحِد وَوجه وَاحِد وَاجِبا غير وَاجِب كَذَلِك وَهَذَا أَمر يُعلمهُ بَاطِلا كل ذِي حس سليم وَلَيْسَ فِي الْعقل تَحْرِيم شَيْء مِمَّا جَاءَ فِيهَا تَحْرِيمه وَلَا إِيجَاب شَيْء مِمَّا جَاءَ فِيهَا إِيجَابه فَبَطل أَن يرجح بِمَا فِي الْعقل إِذْ كل ذَلِك فِي حد الْمُمكن فِي الْعقل فَإذْ قد بَطل هَذَا الْوَجْه ضَرُورَة فقد وَجَبت صِحَة الْوَجْه الآخر ضَرُورَة وَهُوَ أَن فِي الشَّرَائِع شَرِيعَة وَاحِدَة صَحِيحَة من عِنْد الله عز وَجل وَإِن سَائِر الشَّرَائِع كلهَا بَاطِل فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَفرض على كل ذِي حس طلب تِلْكَ الشَّرِيعَة وإطراح كل شَرِيعَة دون ذَلِك وَإِن جلت حَتَّى يُوقف عَلَيْهَا بالبراهين الصِّحَاح إِذْ بهَا يكون صَلَاح النَّفس فِي الْأَبَد وبجهلها يكون هَلَاك النَّفس فِي الْأَبَد فَالْحَمْد الله الَّذِي وفقنا لتِلْك الشَّرِيعَة ووفقنا عَلَيْهَا وهدانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إِلَى طريقها وعرفناها حمداً كثيرا طيبا كَمَا هُوَ أَهله وَنحن نَسْأَلهُ تَعَالَى أَن يثبتنا عَلَيْهَا حَتَّى نَلْقَاهُ وَنحن من أَهلهَا وحملتها آمين رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا فَمن نازعنا فِي هَذَا القَوْل وادعاه لنَفسِهِ فَنحْن فِي ميدان النّظر وَحمل الْأَقْوَال على السّير بالبراهين فسنزيف الْبَاطِل والدعاوي الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا حَيْثُمَا كَانَت ويلوح الْحق ثَابتا حَيْثُمَا كَانَ وبيد من كَانَ وَلَا حول وَلَا قُوَّة إل بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الْكَلَام على الْيَهُود وعَلى من أنكر التثليب من النَّصَارَى وَمذهب الصابئين وعَلى من أقرّ بنبوة زرادشت من الْمَجُوس وَأنكر من سواهُ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن أهل هَذِه الْملَّة يَعْنِي الْيَهُود وَأهل هَذِه النحلة يَعْنِي من أنكر التَّثْلِيث من النَّصَارَى موافقون لنا فِي الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ ثمَّ بِالنُّبُوَّةِ وبآيات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وبنزول الْكتب من عِنْد الله عز وَجل إِلَّا أَنهم فارقونا فِي بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام دون بعض وَكَذَلِكَ وافقتنا الصابئة وَالْمَجُوس على لإقرار بِبَعْض الْأَنْبِيَاء فَأَما الْيَهُود فَإِنَّهُم قد افْتَرَقُوا على خمس فرق وَهِي 1 السامرية وهم يَقُولُونَ أَن مَدِينَة الْقُدس هِيَ نابلس وَهِي من بَيت الْمُقَدّس على ثَمَانِيَة عشر ميلًا وَلَا يعْرفُونَ حُرْمَة لبيت الْمُقَدّس وَلَا يعظمونه وَلَهُم توراة غير التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي سَائِر الْيَهُود وييبطلون كل نبوة كَانَت فِي بني اسرائييل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَبعد يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام فيكذبون بنبوة شَمْعُون وَدَاوُد وَسليمَان واشعيا وَالْيَسع والياس وعاموص وحبقوق وزَكَرِيا وارميا وَغَيرهم وَلَا يقرونَ بِالْبَعْثِ أَلْبَتَّة وهم بِالشَّام لَا يسْتَحلُّونَ الْخُرُوج عَنْهَا والصدوقية ونسبوا إِلَى رجل يُقَال لَهُ صَدُوق وهم يَقُولُونَ بَين سَائِر اليهودان العزير هُوَ ابْن الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَكَانُوا بِجِهَة الْيَمين والعنانية وهم أَصْحَاب عانان الدَّاودِيّ الْيَهُودِيّ وتسميهم الْيَهُود العراس والمسر وَقَوْلهمْ إِنَّهُم لَا يتعدون شرائع التَّوْرَاة وَمَا جَاءَ فِي كتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ويتبرؤن من قَول الْأَحْبَار ويكذبونهم وَهَذِه الْفرْقَة بالعراق ومصر وَالشَّام وهم من الأندلس بطليطله وطليبره والربانية وهم الأشعنية وهم الْقَائِلُونَ بأقوال الْأَحْبَار ومذاهبهم وهم جُمْهُور الْيَهُود والعيسوية وهم أَصْحَاب أبي عِيسَى الْأَصْبَهَانِيّ رجل من الْيَهُود كَانَ بأصبهان وَبَلغنِي أَن اسْمه كَانَ مُحَمَّد بن عِيسَى وهم يَقُولُونَ بنبوة عِيسَى بن مَرْيَم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ أَن عِيسَى بَعثه الله عز وَجل إِلَى بني إِسْرَائِيل على مَا جَاءَ فِي الْإِنْجِيل وَأَنه أحد أَنْبيَاء بني اسرائيل وَيَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِي أرْسلهُ الله تَعَالَى بشرائع الْقُرْآن إِلَى بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَى سَائِر الْعَرَب كَمَا كَانَ أَيُّوب نَبيا فِي بني عيص وكما كَانَ بلعام نَبيا فِي بني مواب بِإِقْرَار من جَمِيع فرق الْيَهُود قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَقَد لقِيت من ينحو إِلَى هَذَا الْمَذْهَب من خَواص الْيَهُود كثيرا وقرأت فِي تَارِيخ لَهُم جمعه رجل هاروني كَانَ قَدِيما فيهم وَمن كبارهم وأئمتهم وَمِمَّنْ عصبت بِهِ ثلث بلدهم وَثلث حروبهم وَثلث جيوشهم أَيَّام حَرْب طيطوس خراب الْبَيْت وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ آثَار عَظِيمَة وَكَانَ قد أدْرك أَمر الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام واسْمه يُوسُف بن هَارُون فَذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 مُلُوكهمْ وحروبهم إِلَى أَن وصل إِلَى قتل يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَذكره أجمل ذكر وَعظم شَأْنه وَأَنه قتل ظلما لقَوْله الْحق وَذكر أَمر المعمودية ذكرا حسنا لم ينكرها وَلَا أبطلها ثمَّ قَالَ فِي ذكره لذَلِك الْملك هردوس بن هردوس وَقبل هَذَا الْملك من حكماء بني إِسْرَائِيل وخيارهم وعلمائهم جمَاعَة وَلم يذكر من شَأْن الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام أَكثر من هَذَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ) وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا الْكَلَام لأرى إِن هَذَا الْمَذْهَب كَانَ فيهم ظَاهرا فاشياً فِي أئمتهم من حِينَئِذٍ إِلَى الْآن ثمَّ انقسم الْيَهُود جملَة على قسمَيْنِ فقسم أبطل النّسخ وَلم يجْعَلُونَ مُمكنا وَالْقسم الثَّانِي أجازوه إِلَّا أَنهم قَالُوا لم يَقع وعمدة حجَّة من أبطل النّسخ أَن قَالُوا إِن الله عز وَجل يَسْتَحِيل مِنْهُ أَن يَأْمر بِالْأَمر ثمَّ ينْهَى عَنهُ وَلَو كَانَ كَذَلِك لعاد الْحق بَاطِلا وَالطَّاعَة مَعْصِيّة وَالْبَاطِل حَقًا وَالْمَعْصِيَة طَاعَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ) لَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَذِه وَهِي من أَضْعَف مَا يكون من التمويه الَّذِي لَا يقوم على سَاق لِأَن من تدبر أَفعَال الله كلهَا وَجَمِيع أَحْكَامه وآثاره تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالم تَيَقّن بطلَان قَوْلهم هَذَا لِأَن الله تَعَالَى يحيي ثمَّ يُمِيت ثمَّ يحيي وينقل الدولة من قوم أعزة فيذلهم إِلَى قوم أَذِلَّة فيعزهم ويمنح من شَاءَ مَا شَاءَ من الْأَخْلَاق الْحَسَنَة والقبيحة وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق مَا تَقولُونَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ من الْأُمَم المقبول دُخُولهَا فِيكُم إِذا غزوكم أَلَيْسَ دِمَاؤُهُمْ لكم حَلَالا وقتلهم حَقًا وفرضاً وَطَاعَة وَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم فَإِن دخلُوا فِي شريعتكم لَيْسَ قد حرمت دِمَاؤُهُمْ وَصَارَ عنْدكُمْ قَتلهمْ حَرَامًا وباطلاً ومعصية بعد أَن كَانَ فرضا وَحقا وَطَاعَة فَلَا بُد من نعم ثمَّ إِن عدوا فِي السبت وَعمِلُوا أَلَيْسَ قد عَاد قَتلهمْ فرضا بعد أَن كَانَ حَرَامًا فَلَا بُد من نعم فَهَذَا إِقْرَار ظَاهر مِنْهُم بِبُطْلَان قَوْلهم وَإِثْبَات مِنْهُم لما أنكروه من أَن الْحق يعود بَاطِلا وَالْأَمر يعود نهيا وَأَن الطَّاعَة تعود مَعْصِيّة وَهَكَذَا القَوْل فِي جَمِيع شرائعهم لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ أوَامِر فِي وَقت مَحْدُود بِعَمَل مَحْدُود فَإِذا خرج ذَلِك الْوَقْت عَاد ذَلِك الْأَمر مَنْهِيّا عَنهُ كالعمل هُوَ عِنْدهم مُبَاح فِي الْجُمُعَة محرم يَوْم السبت ثمَّ يعود مُبَاحا يَوْم الْأَحَد وكالصيام والقرابين وَسَائِر الشَّرَائِع كلهَا وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ نسخ الشَّرَائِع الَّذِي أَبوهُ وامتنعوا مِنْهُ إِذْ لَيْسَ معنى النّسخ إِلَّا أَن يَأْمر الله عزز وَجل بِأَن يعْمل عمل مَا مُدَّة مَا ثمَّ ينْهَى عَنهُ بعد انْقِضَاء تِلْكَ الْمدَّة وَلَا فرق فِي شَيْء من الْعُقُول بَين أَن يعرف الله تَعَالَى ويخبر عباده بِمَا يُرِيد أَن يَأْمُرهُم بِهِ قبل أَن يَأْمُرهُم بِهِ ثمَّ بِأَنَّهُ سينهى عَنهُ بعد ذَلِك وَبَين أَن لَا يعرفهُمْ بِهِ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعَالَى شَرط أَن يعرف عباده بِمَا يُرِيد أَن يَأْمُرهُم قبل أَن يَأْتِي الْوَقْت الَّذِي يُرِيد إلزامهم فِيهِ الشَّرِيعَة وَأَيْضًا فَإِن جَمِيعهم مقرّ بِأَن شَرِيعَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت غير شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن يَعْقُوب تزوج ليا وراحيل إبنتي لَا بَان وجمعهما مَعًا وَهَذَا حرَام فِي شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا مَعَ قَوْلهم أَن أم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت عمَّة أَبِيه أُخْت جده وَهِي يوحا نذا بنت لاوي وَهَذَا فِي شَرِيعَة مُوسَى حرَام وَلَا فرق فِي الْعُقُول بَين شَيْء أحله الله تَعَالَى ثمَّ حرمه وَبَين شَيْء حرمه الله ثمَّ أحله والمفرق بَين هذَيْن مكابر للعيان مجاهر بالقحة وَلَو قلب عله قالب كَلَامه مَا كَانَ بَينهمَا فرق وَفِي توراتهم أَن الله تَعَالَى افْترض عَلَيْهِم بِالْوَحْي إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَأمرهمْ مُوسَى بذلك فِي نَص توراتهم أَن لَا يتْركُوا من الْأُمَم السَّبْعَة الَّذين كَانُوا سكاناً فِي فلسطين والأردن أحدا أصلا إِلَّا قَتَلُوهُ ثمَّ أَنه لما اختدعتهم الْأمة الَّتِي يُقَال لَهَا عباوون وَهِي إخدى تِلْكَ الْأُمَم الَّتِي افْترض عَلَيْهِم قَتلهمْ واستئصالهم فتحيلوا عَلَيْهِم وأظهروا لَهُم أَنهم أَتَوْ من بِلَاد بعيدَة حَتَّى عاهدوهم فَلَمَّا عرفُوا بعد ذَلِك أَنهم من السكان فِي الأَرْض الَّتِي أمروا بقتل أَهلهَا حرم الله عز وَجل عَلَيْهِم قَتلهمْ على لِسَان يُوشَع النَّبِي بِنَصّ كتاب يُوشَع عِنْدهم فأبقوهم ينقلون المَاء والحطب إِلَى مَكَان التَّقْدِيس وَهَذَا هُوَ النّسخ الَّذِي أَنْكَرُوا بِلَا كلفة وَفِي توراتهم البداء الَّذِي هُوَ أَشد من النّسخ وَذَلِكَ أَن فِيهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سأهلك هَذِه الْأمة وأقدمك على أمة أُخْرَى عَظِيمَة فَلم يزل مُوسَى يرغب إِلَى الله تَعَالَى فِي أَن لَا يفعل ذَلِك حَتَّى أَجَابَهُ أمسك عَنْهُم وَهَذَا هُوَ البداء بِعَيْنِه وَالْكذب المنفيان عَن الله تَعَالَى لِأَنَّهُ ذكر أَن الله تَعَالَى أخبر أَنه سيهلكهم ويقدمه على غَيره ثمَّ لم يفعل فَهَذَا هُوَ الْكَذِب بِعَيْنِه تَعَالَى الله عَنهُ وَفِي سفر اشعيا أَن الله تَعَالَى سيرتب فِي آخر الزَّمَان من الْفرس خداماً لبيته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه لِأَن التَّوْرَاة مُوجبَة أَن لَا يخْدم فِي الْبَيْت الْمُقَدّس أحد غير بني لاوي بن يَعْقُوب على حسب مَرَاتِبهمْ فِي الْخدمَة فعلى أَي وَجه أنزلوا هَذَا القَوْل من اشعيا فَهُوَ نسخ لما فِي التَّوْرَاة على كل حَال وَأما فِي الْحَقِيقَة فَهُوَ إنذار بالملة الإسلامية الَّتِي صَار فِيهَا الْفرس وَالْعرب وَسَائِر الْأَجْنَاس فِي الْمَسَاجِد بِبَيْت الْمُقَدّس وَغَيره الَّتِي هِيَ بيُوت الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما الطَّائِفَة الَّتِي أجازت النّسخ إِلَّا أَنَّهَا أخْبرت أَنه لم يكن فَإِنَّهُ يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بِأَيّ شَيْء علمْتُم صِحَة نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَوُجُوب طَاعَته فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يَأْتُوا بِشَيْء غير إِعْلَامه وبراهينه وإعلامه الظَّاهِرَة فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِذا وَجب تَصْدِيق مُوسَى وَالطَّاعَة لأَمره لما ظهر من أحالة الطبائع على مَا بَيناهُ فِي بَاب الْكَلَام فِي بَيَان إِثْبَات النبوات فَلَا فرق بَينه وَبَين من أَتَى بمعجزات غَيرهَا وبإحالة لطبائع أخر وبضرورة الْعقل يعلم كل ذِي حس أَن مَا أوجبه لنَوْع فَإِنَّهُ وَاجِب لأجزائه كلهَا فَإِذا كَانَت إِحَالَة الطبائع مُوجبَة تَصْدِيق من ظَهرت عَلَيْهِ فوجوب تَصْدِيق مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب وجوبا مستوياً وَلَا فرق بَين شَيْء مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم فِي تصديقكم بعض من ظَهرت عَلَيْهِ المعجزات وتكذبيكم بَعضهم وَبَين من صدق من كَذبْتُمْ وَكذب من صَدقْتُمْ كالمجوس المصدقين بنبوة زرادشت المكذبين بنبوة مُوسَى وَسَائِر أنبيائكم أَو المانوية المصدقة بنبوة عِيسَى وزرادشت المكذبة بنبوة مُوسَى أَو الصابئين المكذبين بنبوة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَمن دونه المصدقين بنبوة إِدْرِيس وَغَيره وكل هَذِه الْفرق والملل تَقول فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سَائِر أنبيائكم أَكثر مِمَّا تَقولُونَ أَنْتُم فِي عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهَا السَّلَام تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم وَهِي مَوْجُودَة مَشْهُورَة وَأقرب ذَلِك السامرية الَّذين يُنكرُونَ نبوة كل نَبِي لكم بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تَأْتُوا على جَمِيع من ذكرنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بفرق إِلَّا أَتَوْكُم بِمثلِهِ وَلَا تدعوا عَلَيْهِم دَعْوَى إِلَّا ادعوا عَلَيْكُم بِمِثْلِهَا وَلَا أَن تطعنوا فِي نقلهم بِشَيْء إِلَّا أروكم فِي نقلكم مثله سَوَاء بِسَوَاء وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الْبُرْهَان بقوله تَعَالَى {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد} فنص تَعَالَى على أَن طَرِيق الْإِيمَان بِمَا آمنُوا بِهِ من النُّبُوَّة وَطَرِيق مَا آمنا بِهِ نَحن فَمَا وَاحِد وَأَنه لَا فرق بَين شَيْء من ذَلِك وَأَن الْإِيمَان بالإله الْبَاعِث لمُوسَى هُوَ الْإِيمَان الْبَاعِث لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم وَأَن طَرِيق كل لَك طَرِيق وَاحِدَة لَا فرق فِيهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَأما شغب من شغب مِنْهُم بأننا نؤمن بمُوسَى وهم لَا يُؤمنُونَ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ شغب ضَعِيف بَارِد لأَنهم لَا يخلون من أَن يَكُونُوا إِنَّمَا صدقُوا بنبوة مُوسَى من أجل تصديقنا نَحن وَلَوْلَا ذَلِك لم يصدقُوا بِهِ وَيكون إِنَّمَا صدقُوا بِهِ لما أظهر من الْبُرْهَان فَقَط فَإِن كَانُوا إِنَّمَا صدقُوا بِهِ من أجل تصديقنا نَحن فَوَاجِب عَلَيْهِم أَن يصدقُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل تصديقنا نَحن بِهِ وَإِلَّا فقد تناقضوا وَإِن كَانَ إِنَّمَا صدقُوا بِهِ لما أظهر من الْآيَات فَلَا معنى لتصديق من صدقه وَلَا لتكذيب من كذبه وَالْحق حق صدقه النَّاس أَو كذبوه وَالْبَاطِل بَاطِل صدقه النَّاس أم كذبوه وَلَا يزِيد الْحق دَرَجَة فِي أَنه حق أطباق النس كلهم على تَصْدِيقه وَلَا يزِيد الْبَاطِل مرتبَة فِي أَنه بَاطِل تَكْذِيب النَّاس كلهم لَهُ وَلَا يظنّ ظان أننا فِي مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا الْمُخَالفين لنا فِي بعض أقوالنا بِالْإِجْمَاع وَقد نقضنا كلامنا فِي هَذَا الْمَكَان فَليعلم أننا لم ننقضه لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قد قَامَ الْبُرْهَان على صِحَّتهَا فِي الْفتيا فِي دين الْإِسْلَام وَمَا قَامَ على صِحَّته الْبُرْهَان فَهُوَ حجَّة قَاطِعَة على من خَالفه وعَلى من وَافقه وَأما إِن نحتج على مخالفنا بِأَنَّهُ مُوَافق لنا فِي بعض مَا نَخْتَلِف فِيهِ فَلَيْسَ حجَّة علينا فَإِن وجد لنا يَوْمًا من الْأَيَّام فَإِنَّمَا نخاطب بِهِ جَاهِلا نستكف تخليطه بذلك أَو نبكته لنريه تناقضه فَقَط وَأَيْضًا فَإنَّا إِنَّمَا آمنا بنبوة مُوسَى الَّذِي أنذر بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالتوراة الَّتِي فِيهَا الْإِنْذَار برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باسمه وَنسبه وَصفَة أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَهَكَذَا نقُول فِي عِيسَى وَالْإِنْجِيل حرفا حرفا لَا بنبوة من لم ينذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نؤمن بمُوسَى وَعِيسَى وَلَا نؤمن بتوراة وَلَا إنجيل لَيْسَ فيهمَا الْإِنْذَار برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصفَة أَصْحَابه بل نكفر بِكُل ذَلِك ونبرأ مِنْهُم فَلم نوافقهم قطّ على مَا يَدعُونَهُ فَبَطل شغبهم الضَّعِيف وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَجُمْلَة القَوْل فِي هَذَا إِن نقل الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَاسد لما ذكرنَا وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى من عَظِيم الدَّاخِلَة فِي كتبهمْ المبينة أَنَّهَا مفتعلة وَفَسَاد نقلهم فَإِنَّمَا صدقنا بنبوة مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لِأَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقهما وَأخْبرنَا عَنْهُمَا وَعَن أعلامهما وَلَوْلَا ذَلِك لما صدقنا بهما وَلما كَانَا عندنَا بِمَنْزِلَة إلْيَاس وَالْيَسع وَيُونُس وَلُوط فِي ذَلِك كَمَا أننا لَا نقطع بِصِحَّة نبوة سموال وحقاي وَحُقُوق وَسَائِر الْأَنْبِيَاء الَّذين عِنْدهم كموسى وَسَائِر من ذكرنَا وَلَا فرق وَلَكِن نقُول آمنا بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله فَإِن كَانَ المذكورون أَنْبيَاء فَنحْن نؤمن بهم وَإِن لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فَلَا ندخل فِي أَنْبيَاء الله تَعَالَى من لَيْسَ مِنْهُم بأخبار الْيَهُود وَالنَّصَارَى الكاذبة الَّتِي لَا أصل لَهَا الراجعة إِلَى قوم كفار كاذبين وَبِاللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تَعَالَى نتأيد وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ تَعَالَى فِي الرُّسُل {مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} فَنحْن نؤمن بالأنبياء جملَة وَلَا نسمي مِنْهُم إِلَّا من يُسَمِّي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لسَائِر فرق الْيَهُود حاشا السامرية مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين السامرية الَّذين كذبُوا بنبوة كل نَبِي صَدقْتُمْ أَنْتُم بِهِ بعد يُوشَع بِمثل مَا كَذبْتُمْ أَنْتُم بِهِ عِيسَى ومحمداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا مَا لَا إنفكاك مِنْهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن ادعوا أَن عِيسَى ومحمداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يأتيا بالمعجزات بِأَن كذبهمْ ومجاهرتهم إِذْ قد نقلت الكواف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سقى الْعَسْكَر فِي تَبُوك وهم أُلُوف كَثِيرَة من قدح صَغِير نبع فِيهِ المَاء من بَين أَصَابِعه عَلَيْهِ السَّلَام وَفعل أَيْضا مثل ذَلِك بِالْحُدَيْبِية وَأَنه أطْعم عَلَيْهِ السَّلَام فِي منزل أبي طَلْحَة أهل الخَنْدَق حَتَّى شَبِعُوا وَفِي منزل جَابر أَيْضا وَرمى هوَازن فِي جَيش فعميت عُيُون جَمِيعهم بِتُرَاب يَده وفيهَا أنزل الله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وشق الْقَمَر إِذْ سَأَلَهُ قومه آيَة فَأنْزل الله تَعَالَى فِي ذَلِك {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم وكل أَمر مُسْتَقر وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر} وَكَذَلِكَ حنين الْجذع الَّذِي سَمعه كل من حَضَره من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَمن أبهر ذَلِك وأعظمه قَوْله للْيَهُود الَّذين كَانُوا مَعَه فِي وقته وهم زِيَادَة على ألف بِلَا شكّ ولعلهم كَانُوا ألوفاً وهم بَنو قُرَيْظَة وبنوا النصير وبنوا أهدل وَبَنُو قينقاع أَن يتمنوا الْمَوْت إِن كَانُوا صَادِقين فِي تكذيبهم نبوته وأعلمهم أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِك أصلا فعجزوا عَن ذَلِك أَي عَن تمني الْمَوْت وحيل بَينهم وَبَين النُّطْق بذلك وَهَذِه قصَّة منصوصة فِي سُورَة الْجُمُعَة يقْرَأ بهَا كل يَوْم جُمُعَة فِي جَمِيع جَوَامِع الْمُسلمين من شَرق الدُّنْيَا إِلَى غربها وَقد كَانَ أسهل الْأُمُور عَلَيْهِم أَن يكذبوا بِأَن يتمنوا الْمَوْت لَو اسْتَطَاعُوا وهم يسمعونه يَقُول فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَمر لَا يَدْفَعهُ الأوقاح جَاهِل مكابر للعيان لِأَن الْقُرُون والاعصار نقلت هَذِه الْآيَات جيلاً جيلاً يخاطبون بهَا فَكل أذعن وَأقر وَلم يُمكن أحدا دَفعه ودعا عَلَيْهِ السَّلَام من حِين مبعثه الْعَرَب كلهم على فصاحة ألسنتهم وَكَثْرَة استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز وَالتَّصَرُّف فِي أفانين البلاغة والألفاظ المركبة على وُجُوه الْمعَانِي إِلَى أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن ثمَّ ردهم إِلَى سُورَة فعجزوا كلهم عَن ذَلِك على سَعَة بِلَادهمْ طولا وعرضاً وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقَامَ بَين أظهرهم ثَلَاثَة وَعشْرين عَاما يستسهلون قِتَاله والتعرض لسفك دِمَائِهِمْ واسترقاق ذَرَارِيهمْ وَقد أضربوا عَمَّا دعاهم إِلَيْهِ من الْمُعَارضَة لِلْقُرْآنِ جملَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا يخفى على من لَهُ أقل فهم أَنه إِنَّمَا حملهمْ على ذَلِك الْعَجز عَمَّا كلفهم من ذَلِك وارتفاع الْقُوَّة عَنْهُم وَأَنه قد حيل بَينهم وَبَين ذَلِك ثمَّ عَم الدُّنْيَا من البلغاء الَّذين يتخللون بألسنتهم تخَلّل النَّاقِد ويطيلون فِي الْمَعْنى التافة إِظْهَارًا لإقتدراهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 على الْكَلَام جماعات لَا بصائر لَهُم فِي دين الْإِسْلَام مُنْذُ أَرْبَعمِائَة عَام وَعشْرين عَاما فَمَا مِنْهُم أحد يتَكَلَّف معارضته إِلَّا افتضح وَسقط وَصَارَ مهزأة ومعيرة يتماجن بِهِ وَبِمَا أَنِّي بِهِ ويتطايب عَلَيْهِ مِنْهُم مُسَيْلمَة بن حبيب الْحَنَفِيّ لما رام ذَلِك لم ينْطق لِسَانه إِلَّا بِمَا يضْحك الثكلى وَقد تعاطى بَعضهم ذَلِك يَوْمًا فِي كَلَام جرى بيني وَبَينه فَقلت لَهُ اتَّقِ الله على نَفسك فَإِن الله تَعَالَى قد منحك من الْبَيَان والبلاغة نعْمَة سبقت بهَا وَوَاللَّه لَئِن تعرضت لهَذَا الْبَاب بِإِشَارَة ليسلبنك الله هَذِه النِّعْمَة وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة كَمَا فعل بِمن رام هَذَا من قبلك فَقَالَ لي صدقت وَالله أظهر النَّدَم وَالْإِقْرَار بقبحه قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا مشَاهد وَهِي آيَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم وَإِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا وَسَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قد فنيت بفنائهم فَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْخَبَر عَنْهَا فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد ظن قوم إِن عجز الْعَرَب وَمن تلاهم من سَائِر البلغاء عَن مُعَارضَة الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ لكَون الْقُرْآن فِي أَعلَى طَبَقَات البلاغة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا خطأ شَدِيد وَلَو كَانَ ذَلِك وَقد أَبى الله عز وَجل أَن يكون لما كَانَ حينئذٍ معْجزَة لِأَن هَذِه صفة كل باسق فِي طبقته وَالشَّيْء الَّذِي هُوَ كَذَلِك وَإِن كَانَ قد سبق فِي وَقت مَا فَلَا يُؤمن أَن يَأْتِي فِي غَد مَا يُقَارِبه بل مَا يفوقه وَلَكِن الإعجاز فِي ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أَن الله عز وَجل حَال بَين الْعباد وَبَين أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَرفع عَنْهُم الْقُوَّة فِي ذَلِك جملَة وَهَذَا مثل لَو قَالَ قَائِل إِنِّي أَمْشِي الْيَوْم فِي هَذِه الطَّرِيق ثمَّ لَا يُمكن أحدا بعدِي أَن يمشي فِيهَا وَهُوَ لَيْسَ بأقوى من سَائِر النَّاس وَأما لَو كَانَ الْعَجز عَن الْمَشْي لصعوبة الطَّرِيق وَقُوَّة هَذَا الْمَاشِي لما كَانَت آيَة وَلَا معْجزَة وَقد بَينا فِي غير هَذَا الْمَكَان أَن الْقُرْآن لَيْسَ من نوع بلاغة النَّاس لِأَن فِيهِ الْأَقْسَام الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور والحروف الْمُقطعَة الَّتِي لَا يعرف أحد مَعْنَاهَا وَلَيْسَ هَذَا من نوع بلاغة النَّاس الْمَعْهُودَة وَقد روينَا عَن أنيس أخي أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع الْقُرْآن فَقَالَ لقد وضعت هَذَا الْكَلَام على أَلْسِنَة البلغاء وألسنة الشُّعَرَاء فَلم أَجِدهُ يُوَافق ذَلِك أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فصح بِهَذَا مَا قُلْنَاهُ من أَن الْقُرْآن خَارج عَن نوع بلاغة المخلوقين وَأَنه على رُتْبَة قد منع الله تَعَالَى جَمِيع الْخلق عَن أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَلنَا فِي هَذَا رِسَالَة مستقصاة كتبنَا بهَا إِلَى أبي عَامر أَحْمد بن عبد الْملك ابْن شَهِيد وَسَنذكر مِنْهَا هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا فِيهِ كِفَايَة فِي كلامنا مَعَ الْمُعْتَزلَة والأشعرية فِي خلق الْقُرْآن من ديواننا هَذَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل أَنه منع المعارضون حينئذٍ من الْمُعَارضَة أَو عارضوا فَستر ذَلِك قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَو أمكن مَا تَقول لأمكن لغيرك أَن يَدعِي فِي آيَات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مثل ذَلِك بل كَانَ يكون أقرب إِلَى التلبيس لِأَن فِي توراتكم أَن السَّحَرَة عمِلُوا مثل مَا عمل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حاشا الْعِوَض خَاصَّة فَإِنَّهُم لم يطيقوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل والتبديل الظَّاهِر لِأَن السحر لَا يحِيل عينا وَلَا يقلبها وَلَا يحِيل طبيعة إِنَّمَا هُوَ حيل قد بَينا الْكَلَام فِيهَا بعون الله تَعَالَى فِي مَوْضِعه من هَذَا الْكتاب وَفِي غَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الِاعْتِرَاض هُوَ على سَبِيل إبِْطَال الكواف لَا سَبِيل من أفر بِشَيْء مِنْهَا ثمَّ يُقَال كل من ولي الْأَمر بعده عَلَيْهِ السَّلَام مَعْرُوف لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَله أَعدَاء يخرجُون من عداوته إِلَى أبعد الغايات من الحنق والغيظ فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا تعاديهما الرافضة وتبلغ فِي عداوتهما أقْصَى الغايات وَمَا قَالَ قطّ أحد مُؤمن وَلَا كَافِر عَدو لَهما وَلَا ولي أَن أحد مِنْهُمَا أجبر أحدا على الْإِقْرَار بآيَات مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا على ستر شَيْء عورض بِهِ وَلَا قدر أَن يَقُول هَذَا أَيْضا يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ وَكَذَلِكَ عُثْمَان أَيْضا وَعلي تعاديهما الْخَوَارِج وَتخرج فِي عداوتهما وتكفيرهما إِلَى أبعد الغايات مَا قَالَ قطّ قَائِل فِي أَحدهمَا شَيْئا من هُنَا وَحَتَّى لَو رام أحد من الْمُلُوك ذَلِك لما قدر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يملك أَيدي النَّاس وَلَا ألسنتهم يصنعون فِي مَنَازِلهمْ مَا أَحبُّوا وينشرونه عِنْد من يثقون بِهِ حَتَّى ينتشر وَهَذَا أَمر لَا يقدر على ضَبطه وَالْمَنْع مِنْهُ أحد لَا سِيمَا مَعَ انخراق الدُّنْيَا وسعة أقطارها من أقْصَى السَّنَد إِلَى أقْصَى الأندلس فَلَو أمكنت معارضته مَا تَأَخّر عَن ذَلِك من لَهُ أدنى حَظّ من استطاعة عِنْد نَفسه على ذَلِك مِمَّن لَا بَصِيرَة لَهُ فِي الْإِسْلَام فِي شَرق الأَرْض وغربها فَإِن قَالَ قَائِل من الْيَهُود أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُم فِي التَّوْرَاة لَا تقبلُوا من نَبِي أَتَاكُم بِغَيْر هَذِه الشرايعة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا سَبِيل إِلَى أَن يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ لَو قَالَ ذَلِك لَكَانَ مُبْطلًا لنبوة نَفسه وَهَذَا كَلَام يَنْبَغِي أَن يتدبر وَذَلِكَ أَنه لَو قَالَ لَهُم لَا تصدقوا من دعَاكُمْ إِلَى غير شريعتي وَإِن جَاءَ بآيَات فَإِنَّهُ يلْزمه إِذا كَانَت الْآيَات لَا توجب تَصْدِيق غَيره إِذا أَتَى بهَا فِي شَيْء دَعَا إِلَيْهِ فَهِيَ غير مُوجبَة تَصْدِيق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا أَتَى بِهِ إِذْ لَا فرق بَين معجزاته ومعجزات غَيره إِذْ بِالْآيَاتِ صحت الشَّرَائِع وَلم تصح الْآيَات بالشرائع لِأَن تَصْدِيق الشَّرِيعَة مُوجبَة لِلْآيَةِ وَالْآيَة مُوجبَة تَصْدِيق الشَّرِيعَة وَمن قَالَ خلاف هَذَا مِمَّن يدين بشريعة وبنبوة فَهُوَ عَظِيم المجاهرة بِالْبَاطِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأَيْضًا فَإِن هَذَا القَوْل الْمَنْسُوب إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كذب مَوْضُوع لَيْسَ فِي التَّوْرَاة شَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا فِيهَا من أَتَاكُم يَدعِي نبوة وَهُوَ كَاذِب فَلَا تُصَدِّقُوهُ فَإِن قُلْتُمْ من أَيْن نعلم كذبه من صدقه فانظروا فَإِذا قَالَ عَن الله شَيْئا وَلم يكن كَمَا قَالَ فَهُوَ كَاذِب هَذَا نَص مَا فِي التَّوْرَاة فصح بِهَذَا أَنه إِذا أخبر عَن الله تَعَالَى بِشَيْء فَكَانَ كَمَا قَالَ فَهُوَ صَادِق وَقد وجدنَا كلما أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَلَبَة الرّوم على كسْرَى وإنذاره بقتل الْكذَّاب الْعَنسِي وَيَوْم ذِي قار وبخلع كسْرَى وَبِغير ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن فِي التَّوْرَاة أَن هَذِه الشَّرِيعَة لَازِمَة لكم فِي الْأَبَد قُلْنَا هَذَا محَال فِي التَّأْوِيل لِأَنَّهُ كَذَلِك أَيْضا فِيهَا أَن هَذِه الْبِلَاد يسكنونها أبدا وَقد رأيناهم لعيان خَرجُوا مِنْهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل فقد قَالَ لكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَبِي بعدِي قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نأيد لَيْسَ هَذَا الْكَلَام مِمَّا ادعيتموه على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لأننا قد علمنَا من أخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يظْهر أحد آيَة بعده أبدا وَلَو جَازَ ظُهُورهَا لوَجَبَ تَصْدِيق من أظهرها وَلَكنَّا قد أيقنا أَنه لَا تظهر آيَة على أحد بعده عَلَيْهِ السَّلَام بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن قَالَ قَائِل وَكَيف تَقولُونَ فِي الدَّجَّال وَأَنْتُم ترَوْنَ أَنه يظْهر لَهُ عجائب فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْمُسلمين فِيهِ على أَقسَام فَأَما ضرار ابْن عمر وَسَائِر الْخَوَارِج فَإِنَّهُم ينفون أَن يكون الدَّجَّال جملَة فَكيف أَن يكون لَهُ آيَة وَأما سَائِر فرق الْمُسلمين فَلَا ينفون ذَلِك والعجائب الْمَذْكُورَة عَنهُ إِنَّمَا جَاءَت بِنَقْل الْآحَاد وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْكَلَام أَن الدَّجَّال إِنَّمَا يَدعِي الربوبية ومدعي الربوبية فِي نفس قَوْله بَيَان كذبه قَالُوا فظهور الْآيَة عَلَيْهِ لَيْسَ مُوجبا لضلال من لَهُ عقل وَأما مدعي النُّبُوَّة فَلَا سَبِيل إِلَى ظُهُور الْآيَات عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يكون ضلالا لكل ذِي عقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما قَوْلنَا فِي هَذَا فَهُوَ أَن الْعَجَائِب الظَّاهِرَة من الدَّجَّال إِنَّمَا هِيَ حيل من نَحْو مَا صنع سحرة فِرْعَوْن وَمن بَاب أَعمال الحلاج وَأَصْحَاب الْعَجَائِب يدل على ذَلِك حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة إِذْ قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مَعَه نهر مَاء ونهر خبز فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَهْون على الله من ذَلِك حَدثنَا يُونُس بن عبد الله بن مغيث حَدثنَا أَحْمد بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار بنْدَار حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان حَدثنَا هِشَام بن حسان الفردوسي حَدثنَا حميد بن هِلَال عَن أبي الدهماء عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سمع من أمتِي الدَّجَّال فلينأ عَنهُ فَإِن الرجل يَأْتِيهِ وَهُوَ يحسبه مُؤمن فيتبعه مِمَّا يرى من الشُّبُهَات قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فصح بِالنَّصِّ أَنه صَاحب شُبُهَات قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَبِهَذَا تتألف الْأَحَادِيث وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث أَن مَا يظْهر الدَّجَّال من نهر مَاء ونار وَقتل إِنْسَان وإحيائه أَن ذَلِك حيل وَلكُل ذَلِك وُجُوه إِذا طلبت وجدت فقد تحيل بِبَعْض الأجساد المعدنية إِذا أذيب أَنه مَاء وتحيل بالنفط الْكَاذِب أَنه نَار وَيقتل إِنْسَان ويغطي وَآخر معد مخبوء فَيظْهر ليرى أَنه قتل ثمَّ أحيي كَمَا فعل الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج فِي الجدي الأبلق وكما فعل الشريعي والنميري بالبغلة وكما فعل زبزن بالزرزور وَأَنا أَدْرِي من يطعم الدَّجَاج الزرنيخ فتخدر وَلَا يشك فِي مَوتهَا ثمَّ يصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فِي حلوقها الزَّيْت فتقوم صحاحاً وَإِنَّمَا كَانَت تكون معْجزَة لَو أَحْيَا عظاماً قد أرمت فَيظْهر نَبَات اللَّحْم عَلَيْهَا فَهَذِهِ كَانَت تكون معْجزَة ظَاهِرَة لَا شكّ فِيهَا وَلَا يقدر غير نَبِي عَلَيْهَا أَلْبَتَّة وَقد رَأينَا لدبر يلقى فِي المَاء حَتَّى لَا يشك أحد أَنَّهَا ميتَة ثمَّ كُنَّا نضعها للشمس فَلَا تلبث أَن تقوم وَتَطير وَقد بلغنَا مثل ذَلِك فِي الذُّبَاب المسترخي فِي المَاء إِذا ذَر عَلَيْهِ سحق الْآجر الْجَدِيد وآيات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا تكون من وَرَاء حَائِط وَلَا فِي مَكَان بِعَيْنِه وَلَا من تَحت ستارة وَلَا تكون إِلَّا بادية مكشوفة وَقد فضحت أَنا حِيلَة أبي مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمحرق فِي الْكَلَام المسموع بِحَضْرَتِهِ وَلَا يرى الْمُتَكَلّم وسمت بعض أَصْحَابه أَن يسمعني ذَلِك فِي مَكَان آخر أَو بِحَيْثُ الفضاء دون بُنيان فَامْتنعَ من ذَلِك فظهرت الْحِيلَة وَإِنَّمَا هِيَ قَصَبَة مثقوبة تُوضَع وَرَاء الْحَائِط على شقّ خَفِي وَيتَكَلَّم الَّذِي طرف القصبة على فِيهِ على حِين غَفلَة مِمَّن فِي الْمَسْجِد كَلِمَات يسيرَة الْكَلِمَتَيْنِ وَالثَّلَاث لَا أَكثر من ذَلِك فَلَا يشك من فِي الْبَيْت مَعَ المحرق الملعون فِي أَن الْكَلَام انْدفع بحضرتهم وَكَانَ الْمُتَكَلّم فِي ذَلِك مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب صَاحبه فَإِن اعْترض معترض بقوله تَعَالَى {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا يخرج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن معنى قَوْله تَعَالَى {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} إِنَّمَا هُوَ على معنى التبكيت لمن قَالَ ذَلِك وَأورد تَعَالَى كَلَامهم وَحذف ألف الِاسْتِفْهَام وَهَذَا مَوْجُود فِي كَلَام الْعَرَب كثيرا وَالثَّانِي أَنه إِنَّمَا عَنى تَعَالَى بذلك الْآيَات المشترطة فِي الرقي إِلَى السَّمَاء وَأَن يكون مَعَه ملك وَمَا أشبه وَهَذَا لَيْسَ على الله تَعَالَى شَرط لأحد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَالْقَوْل الأول هُوَ جَوَابنَا لِأَن الله تَعَالَى لَا شَيْء يمنعهُ عَمَّا يُرِيد وَكَذَلِكَ إِن اعْترض معترض بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من الْأَنْبِيَاء إِلَّا من قد أُوتِيَ مَا على مثله آمن الْبشر وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتهُ وَحيا أُوحِي إِلَيّ وَإِنِّي لأرجو أَن أكون أَكْثَرهم تبعا يَوْم الْقِيَامَة قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِنَّمَا عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل آيَته الْكُبْرَى الثَّابِتَة الْبَاقِيَة أَبَد الآباد الَّتِي هِيَ أول معجزته حِين بعث وَهِي الْقُرْآن لبَقَاء هَذِه الْآيَة على الآباد وَإِنَّمَا جعلهَا عَلَيْهِ السَّلَام بِخِلَاف سَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لِأَن تِلْكَ الْآيَات يَسْتَوِي فِي معرفَة إعجازها الْعَالم وَالْجَاهِل وَأما إعجاز الْقُرْآن فَإِنَّمَا يعرفهُ الْعلمَاء بلغَة الْعَرَب ثمَّ يعرفهُ سَائِر النَّاس بأخبار الْعلمَاء لَهُم بذلك مَعَ مَا فِي التَّوْرَاة من الْإِنْذَار الْبَين برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله تَعَالَى فِيهَا سأقيم لبني إِسْرَائِيل نَبيا من إِخْوَتهم أجعَل على لِسَانه كَلَامي فَمن عَصَاهُ انتقمت مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلم تكن هَذِه الصّفة لغير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإخوة بني إِسْرَائِيل هم بنوا إِسْمَاعِيل وَقَوله فِي السّفر الْخَامِس مِنْهَا جَاءَ الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وسيناء هُوَ مَوضِع مبعث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِلَا شكّ وساعير هُوَ مَوضِع مبعث عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وفاران بِلَا شكّ هِيَ مَكَّة مَوضِع مبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان ذَلِك أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أسكن إِسْمَاعِيل فاران وَلَا خلاف بَين أحد فِي أَنه إِنَّمَا أسْكنهُ مَكَّة فَهَذَا نَص على مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرؤيا الَّتِي فَسرهَا دانيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فِي أَمر الْحجر الَّذِي رأى الْملك فِي نَومه الَّذِي دق الصَّنَم الَّذِي كَانَ بعضه ذَهَبا وبعه فضَّة وَبَعضه نُحَاسا وَبَعضه حديدا وَبَعضه فخارا وخلطه كُله وطحنه وَجعله شَيْئا وَاحِدًا ثمَّ رَبًّا الْحجر حَتَّى مَلأ الأَرْض ففسره دانيال أَنه نَبِي يجمع الْأَجْنَاس ويبلغ ملك أمره ملْء الْآفَاق فَهَل كَانَ نَبِي قطّ غير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع الْأَجْنَاس كلهَا على اختلافها وَاخْتِلَاف لغاتها وأديانها وممالكها فجعلهم جِنْسا وَاحِدًا ولغة وَاحِدَة وَأمة وَاحِدَة ومملكة وَاحِدَة وديناً وَاحِدًا فَإِن الْعَرَب وَالْفرس والنبط والأكراد وَالتّرْك والديلم والجبل والبربر والقبط وَمن أسلم من الرّوم والهند والسودان على كثرتهم كلهم ينطقون بلغَة وَاحِدَة وَبهَا يقرؤن الْقُرْآن وَقد صَار كل من ذكرنَا أمة وَاحِدَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَصحت النُّبُوَّة الْمَذْكُورَة بِلَا أشكال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وكل مَا ذكرنَا فِي هَذَا الْبَاب أَنه يدْخل على النَّصَارَى الَّذين يَقُولُونَ بنبوة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط من الأريوسية والمقدونية والبولقانية سَوَاء سَوَاء مَعَ مَا فِي الْإِنْجِيل من دُعَاء الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله اللَّهُمَّ ابْعَثْ البارقليط ليعلم النَّاس أَن ابْن الْبشر إِنْسَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا غَايَة الْبَيَان لمن عقل لِأَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام علم أَنه سيغلو قومه فِيهِ فَيَقُولُونَ أَنه الله وَأَنه ابْن الله فَدَعَا الله فِي أَن يبْعَث الَّذِي يبين للنَّاس أَنه لَيْسَ إِلَهًا وَلَا ابْن إِلَه وَإِنَّمَا هُوَ إِنْسَان من ولد امْرَأَة من الْبشر فَهَل أُتِي بعده نَبِي يبين هَذَا إِلَّا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا لَا يحِيل بَيَانه على ذِي حس سليم وإنصاف ونسأل الله إيزاع الشُّكْر على مَا وفْق لَهُ من الْهدى فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن الْمَجُوس تصدق بنبوة زرادشت وَقوم من الْيَهُود بنبوة أبي عِيسَى الْأَصْبَهَانِيّ وَقوم من كفرة الغالية يصدقون بنبوة يزيع الحائك والمغيرة بن سعيد وبنان بن سمْعَان التَّمِيمِي وَغَيرهم من كلاب الغالية فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن أَبَا عِيسَى وبنان ويزيعاً وَسَائِر من تَدعِي لَهُ الغالية بنبوة أَو إلهية من خِيَار النَّاس وشرارهم لم تظهر لوَاحِد مِنْهُم آيَة بِوَجْه من الْوُجُوه والآيات لَا تصح إِلَّا بِنَقْل الكواف وكل هَؤُلَاءِ كَانَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أخبر الَّذِي جَاءَت الْبَرَاهِين بصدقه أَنه لَا نَبِي بعده فقد صَحَّ الْبُرْهَان بطلَان مَا ادّعى لهَؤُلَاء من النُّبُوَّة وَأما زرادشت فقد قَالَ كثير من الْمُسلمين بنبوته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَيست النُّبُوَّة بمدفوعة قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن صحت عَنهُ معْجزَة قَالَ الله عز وَجل {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ عز وَجل ورسلاً قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وَقَالُوا إِن الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الْمَجُوس من الأكذوبات بَاطِل مفتري مِنْهُم وبرهان ذَلِك أَن المانية تنْسب إِلَيْهِم مقالتهم وأقوال هَؤُلَاءِ كلهم متضادة لَا سَبِيل إِلَى أَن يَقُول بهَا قَائِل وَاحِد صَادِق وَلَا كَاذِب فِي وَقت وَاحِد وَكَذَا الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام ينْسب إِلَيْهِ الملكانية قَوْلهم فِي التَّثْلِيث وتنسب إِلَيْهِ النسطورية قَوْلهم أَيْضا وَكَذَلِكَ اليعقوبية وتنسب إِلَيْهِ المانية أَيْضا أَو كَذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المزنوقية وَهَذَا برهَان ظَاهر على كذب جَمِيعهم عَلَيْهِمَا بِلَا شكّ وَقد رامت الغالية مثل هَذَا فِي الْقُرْآن وَلَكِن قد تولى الله حفظه وَبِالْجُمْلَةِ فَكل كتاب وَشَرِيعَة كَانَا مقصورين على رجال من أَهلهَا وَكَانَا محظورين على من سواهُمَا فالتبديل والتحريف مَضْمُون فيهمَا وَكتاب الْمَجُوس وشريعتهم إِنَّمَا كَانَ طول مُدَّة دولتهم عِنْد المؤبذ وَعند ثَلَاثَة وَعشْرين هربذاً لكل هربذ سفر قد أفرد بِهِ وَحده لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره من الهرابذة وَلَا من غَيرهم وَلَا يُبَاح بشيءٍ من ذَلِك لأحد سواهُم ثمَّ دخل فِيهِ الخرم بإحراق الْإِسْكَنْدَر لكتابهم أَيَّام غلبته لدارا بن دَارا وهم مقرون بِلَا خلاف مِنْهُم أَنه ذهب مِنْهُ مِقْدَار الثُّلُث ذكر ذَلِك بشير الناسك وَغَيره من عُلَمَائهمْ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاة إِنَّمَا كَانَت طول مُدَّة ملك بني إِسْرَائِيل عِنْد الكوهن الْأَكْبَر الهاروني وَحده لَا يُنكر ذَلِك مِنْهُم إِلَّا كَذَّاب مجاهر وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيل إِنَّمَا هِيَ كتب أَرْبَعَة مُخْتَلفَة من تأليف أَرْبَعَة رجال فَأمكن فِي كل ذَلِك التبديل وَقد نقلت كواف الْمَجُوس الْآيَات المعجزات عَن زرادشت كالصفر الَّذِي أفرغ وَهُوَ مذاب على صَدره فَلم يضرّهُ وقوائم الْفرس الَّتِي غاصت فِي بَطْنه فأخرجها وَغير ذَلِك وَمِمَّنْ قَالَ أَن الْمَجُوس أهل كتاب عَليّ بن أبي طَالب وَحُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور أَصْحَاب أهل الظَّاهِر وَقد بَينا الْبَرَاهِين الْمُوجبَة لصِحَّة هَذَا القَوْل فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الإيصال فِي كتاب الْجِهَاد مِنْهُ وَفِي كتاب الذَّبَائِح مِنْهُ وَفِي كتاب النِّكَاح مِنْهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ويكفى من ذَلِك صِحَة أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة مِنْهُم وَقد حرم الله عز وَجل فِي نَص الْقُرْآن فِي آخر سُورَة نزلت مِنْهُ وَهِي بَرَاءَة أَن تُؤْخَذ الْجِزْيَة من غير كتابي قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما العيسوية من الْيَهُود فَإِنَّهُ يُقَال لَهُم إِذا صَدقْتُمْ الكافة فِي نقل الْقُرْآن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي نقل معجزاته وَصِحَّة نبوته فقد لزمكم الإنقياد لما فِي الْقُرْآن من أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النَّاس كَافَّة بقوله تَعَالَى فِيهِ آمراً لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا وَقَوله تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَقَوله تَعَالَى فِيهِ {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر} إِلَى قَوْله {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} وَمَا فِيهِ من دُعَاء الْيَهُود إِلَى ترك مَا هم عَلَيْهِ وَالرُّجُوع إِلَى شَرِيعَته عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ فَإِن اعْترضُوا بِمَا فِي الْقُرْآن مِمَّا حرم عَلَيْهِم يَعْنِي الْيَهُود وحضهم على الْتِزَام السبت فَإِنَّمَا هُوَ تبكيت لَهُم فِيمَا سلف من أسلافهم الَّذين قفوا هم آثَارهم يبين هَذَا نَص الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني إِسْرَائِيل ليحل لَهُم بعض الَّذِي حرم عَلَيْهِم وَهَذَا نَص جلي على نسخ شريعتهم وبطلانها ثمَّ مَا لم يُنكره أحد من مُؤمن وَلَا كَافِر من أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حَارب يهود بني إِسْرَائِيل من بني قُرَيْظَة وَالنضير وهذل وَبني قنيقاع وقتلهم وسباهم وألزمهم الْجِزْيَة وَسَمَّاهُمْ كفَّارًا إِذْ لم يرجِعوا إِلَى الْإِسْلَام وَقبل إِسْلَام من أسلم مِنْهُم فَلَو لم يكن نسخ دينهم مَا حل لَهُ إجبارهم على تَركه أَو الْجِزْيَة وَالصغَار وَلَا جَازَ لَهُ قبُول ترك مَا ترك مِنْهُم بدين بني إِسْرَائِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون عِنْد العيسويين رَسُولا صَادِقا نَبيا ثمَّ يجور وَيظْلم ويبدل دين الْحق فوضح فَسَاد قَوْلهم وتناقضه بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَكَذَا يُقَال لمن أقرّ بنبوة بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من فرق الصابئين كإدريس وَغَيره مِمَّن لَا يُوقن بِصِحَّة قَوْلهم فِيهِ كعادمون واسقلاببوس وايلن وَغَيرهم وللمجوس المقتصرين على زرادشت فَقَط أخبرونا بِأَيّ شَيْء صحت نبوة من تدعون لَهُ النُّبُوَّة فَلَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا صِحَة مَا أَتَوْ بِهِ من المعجزات فَيُقَال لَهُم فَإِن النَّقْل إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معجزاته أقرب عهدا وَأظْهر صِحَة وَأكْثر عدد ناقلين وَأدْخل فِي الضَّرُورَة وَلَا فرق وَلَا مخلص لَهُم من هَذَا أصلا لِأَنَّهُ نقل وَنقل إِلَّا أَن نقلنا أفشى وَأظْهر وَأقوى انتشاراً ومبدأ هَذَا مَعَ ذهَاب دين الصابئين وانقطاعهم وَرُجُوع نقلهم إِلَى من لَا يقوم بهم حجَّة لقلتهم ولعلهم الْيَوْم فِي جَمِيع الأَرْض لَا يبلغون أَرْبَعِينَ وَأما الْمَجُوس فَإِنَّهُم معترفون مقرون بِأَن كِتَابهمْ الَّذِي فِيهِ دينهم أحرقه الْإِسْكَنْدَر إِذْ قتل دَارا بن دَارا وَأَنه ذهب مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَأكْثر وَأَنه لم يبْق مِنْهُ إِلَّا أقل من الثُّلُث وَأَن الشَّرَائِع كَانَت فِيمَا ذهب فَإذْ هَذَا صفة دينهم فقد بَطل القَوْل بِهِ جملَة لذهاب جمهوره وَأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف أحدا مَا لَا يتكفل بحفظه حَتَّى يبلغ إِلَيْهِ وَفِي كتاب لَهُم اسْمه خذاي بِأَنَّهُ يعظمونه جدا أَن أنوشروان الْملك منع من أَن يتَعَلَّم دينهم فِي شَيْء من الْبِلَاد إِلَّا فِي أزدشيرخرة وَفَشَا من داتجرد فَقَط وَكَانَ قبله لَا يتَعَلَّم إِلَّا باصطخر فَقَط وَكَانَ لَا يُبَاح إِلَّا لقوم خَصَائِص وكتابهم الَّذِي بَقِي بعد مَا أحرق الْإِسْكَنْدَر ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ سفرا فَلهم ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ هربذاً لكل هربذ سفر لَا يتعداه إِلَى غَيره وموبذ موبذ أَن يشرف على جَمِيع تِلْكَ الْأَسْفَار وَمَا كَانَ هَكَذَا فمضمون تبديله وتحريفه وكل نقل هَكَذَا فَهُوَ فَاسد لَا يُوجب الْقطع بِصِحَّتِهِ هَذَا إِلَى مَا فِي كتبهمْ الَّتِي لَا يَصح دينهم إِلَّا بِالْإِيمَان بهَا من الْكَذِب الظَّاهِر كَقَوْلِهِم أَن جرم الْملك كَانَ يركب إِبْلِيس حَيْثُ شَاءَ وَإِن مبدأ النَّاس من بقلة الريباس وَهِي الشرالية وَمن ولادَة بيروان سياوش بن كيفاوش بني مَدِينَة كنكدر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وأسكنها ثَمَانِينَ ألف راجل من أهل البيوتات هم فِيهَا إِلَى الْيَوْم فَإِذا ظهر بهْرَام هماوند على الْبَقَرَة ليرد ملكهم نزلت تِلْكَ الْمَدِينَة إِلَى الأَرْض ونصروه وردوا دينهم وملكهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل كتاب دون فِيهِ الْكَذِب فَهُوَ بَاطِل مَوْضُوع لَيْسَ من عِنْد الله عز وَجل فَظهر فَسَاد دين الْمَجُوس كَالَّذي ظهر من فَسَاد دين الْيَهُود وَالنَّصَارَى سَوَاء سَوَاء وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فصل فِي مناقضات ظَاهِرَة وتكاذيب وَاضِحَة فِي الْكتاب الَّذِي تسميه الْيَهُود التَّوْرَاة وَفِي سَائِر كتبهمْ وَفِي الأناجيل الْأَرْبَعَة يتَيَقَّن بذلك تحريفها وتبديله وَأَنَّهَا غير الَّذِي أنزل الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا فِي الْكتب الْمَذْكُورَة من الْكَذِب الَّذِي لَا يشك كل ذِي مسكة تَمْيِيز فِي أَنه كذب على الله تَعَالَى وعَلى الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وعَلى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى أَحْبَار أوردوها لَا يخفي الْكَذِب فِيهَا على أحد كَمَا لَا يخفى ضوء النَّهَار على ذِي بصر وَقد كُنَّا نعجب من إطباق النَّصَارَى على تِلْكَ الْأَقْوَال الْفَاسِدَة المتناقضة الَّتِي لَا يخفى فَسَادهَا على أحد بِهِ رَمق إِلَى أَن وقفنا على مَا بأيدي الْيَهُود فَرَأَيْنَا أَن سبيلهم وسبيل النَّصَارَى وَاحِدَة كشق الْأُنْمُلَة وَثَبت بذلك عِنْد كل منصف من الْمُخَالفين صِحَة قَوْلنَا أَن كل من خَالف دين الْإِسْلَام ونحلة اللسنة وَمذهب أَصْحَاب الحَدِيث فَإِنَّهُ عَارِف بضلال مَا هم عَلَيْهِ إِلَّا أَنهم بخذلان الله تَعَالَى إيَّاهُم مكابرون لعقولهم مغلبون لأهوائهم وظنونهم على يقينهم تقليداً لأسلافهم وعصبية واستدامة لرياسة دنيوية وَهَكَذَا وجدنَا أَكثر من شاهدنا من رُؤَسَائِهِمْ فنحمد الله كثيرا على مَا هدَانَا لَهُ من الْإِسْلَام ونحلة السّنة وَاتِّبَاع الْآثَار الثَّابِتَة ونسأله ثتبيتنا على ذَلِك وَأَن يجعلنا من الدعاة إِلَيْهِ حَتَّى يَدْعُونَا إِلَى رَحمته ورضوانه عَن لِقَائِه آمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وليعلم كل من قَرَأَ كتَابنَا هَذَا أننا لم نخرج من الْكتب الْمَذْكُورَة شَيْئا يُمكن أَن يخرج على وَجه مَا وَإِن دق وَبعد فالاعتراض بِمثل هَذَا لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ أَيْضا لم نخرج مِنْهُ كلَاما لَا يفهم وَإِن كَانَ ذَلِك مَوْجُودا فِيهَا لِأَن للقائل أَن يَقُول قد أصَاب الله مَا أَرَادَ وَإِنَّمَا أخرجنَا مَا لَا حِيلَة فِيهِ وَلَا وَجه أصلا إِلَّا الدعاوي الكاذبة الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا أصلا لَا مُحْتملا وَلَا خفِيا فصل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أول ذَلِك أَن بأيدي السامرية توراة غير التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي سَائِر الْيَهُود يَزْعمُونَ أَنَّهَا الْمنزلَة ويقطعون أَن الَّتِي بأيدي الْيَهُود محرفة مبدلة وَسَائِر الْيَهُود يَقُولُونَ أَن الَّتِي بأيدي السامرية محرفة مبدلة وَلم إِلَى آخِره وَلم يَقع إِلَيْنَا توراة السامرية لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْخُرُوج عَن فلسطين والأردن أصلا إِلَّا أننا قد أَتَيْنَا ببرهان ضَرُورِيّ على أَن التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي السامرية أَيْضا محرفة مبدلة عِنْدَمَا ذكرنَا فِي آخر هَذِه الْفُصُول أَسمَاء مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فصل فِي أول ورقة من توراة الْيَهُود الَّتِي عِنْد ربانيهم وعانانيهم وعيسوبهم حَيْثُ كَانُوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا على صفة وَاحِدَة لَو رام أَن يزِيد فِيهَا لَفْظَة أَو ينقص أُخْرَى لافتضح عِنْد جَمِيعهم مبلغة ذَلِك إِلَى أَحْبَارهم الَّذين كَانُوا أَيَّام ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الهارونية لَهُم قبل الخراب الثَّانِي بدهر يذكرُونَ أَنَّهَا مبلغة ذَلِك من أُولَئِكَ إِلَى عذراء الْوراق الهاروني فَفِي صدرها قَالَ الله تَعَالَى اصْنَع بِنَاء آدم كصورتنا كشبهنا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ول لم يقل إِلَّا كصورتنا لَكَانَ لَهُ وَجه حسن وَمعنى صَحِيح وَهُوَ أَن نضيف الصُّورَة إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَة الْملك والخلق كَمَا تَقول هَذَا عمل الله وَتقول للقرد والقبيح وَالْحسن هَذِه صُورَة الله أَي تَصْوِير الله وَالصّفة الَّتِي انْفَرد بملكها وخلقها لَكِن قَوْله كشبهنا منع التأويلات وسد المخارج وَقطع السبل وَأوجب شبه آدم لله عز وَجل ولابد ضَرُورَة وَهَذَا يعلم بُطْلَانه ببديهة الْعقل إِذْ الشّبَه والمثل مَعْنَاهُمَا وَاحِد وحاشى لله أَن يكون لَهُ مثل أَو شبه فصل وَبعد ذَلِك قَالَ ونهر يخرج من عدن فيسقي الْجنان وَمن ثمَّ يفْتَرق فَيصير أَرْبَعَة أرؤس اسْم أَحدهَا النّيل وَهُوَ مُحِيط بِجَمِيعِ بِلَاد زويله الَّذِي بِهِ الذَّهَب وَذهب ذَلِك الْبَلَد جيد وَبهَا اللُّؤْلُؤ وحجارة البلور وَاسم الثَّانِي جيحان وَهُوَ مُحِيط بِجَمِيعِ بِلَاد الْحَبَشَة وَاسم الثَّالِث الدجلة وَهُوَ السائر شَرق الْموصل وَاسم الرَّابِع الْفُرَات وَأخذ الله آدم وَوَضعه فِي جنَّات عدن قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْكَلَام من الْكَذِب وُجُوه فَاحِشَة قَاطِعَة بِأَنَّهَا من توليد كَذَّاب مستهزيء أول ذَلِك أخباره أَن هَذِه الْأَرْبَعَة تفترق من النَّهر الَّذِي يخرج من جنَّات عدن الَّتِي أسكن الله فِيهَا آدم إِذْ خلقه ثمَّ أخرجه مِنْهَا إِذْ أكل من الشَّجَرَة الَّتِي نَهَاهُ الله تَعَالَى عَن أكلهَا وكل من لَهُ أدنى معرفَة بالهيئة وبصفة الرّبع الْمَعْمُور من الأَرْض الَّذِي هُوَ فِي سماك الأَرْض أَو من مَشى إِلَى مصر وَالشَّام والموصل يدْرِي أَن هَذَا كُله كذب فاضح وَأَن مخرج النّيل من عين الْجنُوب من خَارج الْمَعْمُور ومصبه قبالة تنيس وقبالة الْإسْكَنْدَريَّة فِي آخر أَعمال مصر فِي الْبَحْر الشَّامي وَأَن مخرج الدجلة والفرات وجيحان من الشمَال فَأَما جيحان فَيخرج من بِلَاد الرّوم ويمر مَا بَين المصيصة وربضها الْمُسَمّى كفرينا حَتَّى يصب فِي الْبَحْر الشَّامي على أَرْبَعَة أَمْيَال من المصيصة وَأما دجلة فمخرجها من أعين بِقرب خلاط من عمل أرمينية بِقرب آمد من ديار بكر وتصب مياهها فِي البطائح الْمَشْهُورَة بِقرب الْبَصْرَة فِي أَرض الْعرَاق متأخمه أَرض الْعَرَب وَأما الْفُرَات فمخرجه من بِلَاد الرّوم على يَوْم من قالى قلا قرب أرمينيه ثمَّ يخرج إِلَى ملطيه ثمَّ يَأْخُذ على أَعمال الرقه إِلَى الْعرَاق وينقسم إِلَى قسمَيْنِ كِلَاهُمَا يَقع فِي دجلة دجلة فَهَذِهِ كذبة شنيعة كَبِيرَة لَا مخلص مِنْهَا وَالله تَعَالَى لَا يكذب وَأُخْرَى وَهِي قَوْله إِن النّيل مُحِيط بِبَلَد زويلة وجيحان مُحِيط بِبَلَد الْحَبَشَة وَهَذِه كذبة شنيعة فَاحِشَة مَا فِي جَمِيع أَرض السودَان الْحَبَشَة وَغير الْحَبَشَة نهر غير النّيل أصلا وَيتَفَرَّع سَبْعَة فروع كلهَا مخرج وَاحِد ثمَّ يجْتَمع فَوق بِلَاد النّوبَة وكذبة ثَالِثَة وَهِي قَوْله أَن بِبَلَد زويلة اللُّؤْلُؤ الْجيد وَهَذَا كذب مَا للؤلؤ بهَا مَكَان أصلا إِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 اللُّؤْلُؤ فِي مغاصاته فِي بَحر فَارس وبحر الْهِنْد وأنهار بِالْهِنْدِ والصين وَهَذِه فضائح لَا خَفَاء بهَا لم يقلها الله تَعَالَى قطّ وَلَا إِنْسَان يهاب الْكَذِب فَإِن قَالَ قَائِل فقد صَحَّ عَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ النّيل والفرات وسيحان وجيحان من أَنهَار الْجنَّة قُلْنَا نعم هَذَا حق لَا شكّ فِيهِ وَمَعْنَاهُ هُوَ على ظَاهره بِلَا تَكْلِيف تَأْوِيل أصلا وَهِي أَسمَاء لأنهار الْجنَّة كالكوثر والسلسبيل فَإِن قيل قد صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة وَرُوِيَ عَنهُ مقبري ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة قُلْنَا هَذَا حق وَهُوَ من أَعْلَام نبوته لِأَنَّهُ أنذر بمَكَان قَبره فَكَانَ كَمَا قَالَ وَذَلِكَ الْمَكَان لفضله وَفضل الصَّلَاة فِيهِ يُؤَدِّي الْعَمَل فِيهِ إِلَى دُخُول الْجنَّة فَهِيَ رَوْضَة من رياضها وَبَاب من أَبْوَابهَا ومعهود اللُّغَة أَن كل شَيْء فَاضل طيب فَإِنَّهُ يُضَاف إِلَى الْجنَّة ونقول لمن بشرنا بِخَبَر حسن هَذَا من الْجنَّة وَقَالَ الشَّاعِر ... رَوَائِح الْجنَّة فِي الشَّبَاب ... وَلَيْسَ كَذَلِك هَذَا الَّذِي فِي توراة الْيَهُود لِأَن واضعها لم يَدعهَا فِي لَيْسَ من كذبه بل بَين أَنه عَنى النّيل النحيط بِأَرْض زويلة بلد الذَّهَب الْجيد ودجلة الَّتِي بشرقي الْموصل وجيحان الْمُحِيط بِبَلَد الْحَبَشَة الَّتِي لم تخلق بعد فَلم يدع لطَالب تَأْوِيل لكَلَامه حِيلَة وَلَا مخرجا وَأَيْضًا فَإِنَّهُم لَا يُمكنهُم أَلْبَتَّة تَخْرِيج مَا فِي توراتهم المكذوبة على مَا وَصفنَا نَحن الْآن فِي نَص توراتهم أَن الْجنَّة الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم لأكله من الشَّجَرَة الَّتِي فِيهَا إِنَّمَا هِيَ شَرْقي عدن فِي الأَرْض لَا فِي السَّمَاء كَمَا نقُول نَحن فثبتت الكذبة لَا مخرج مِنْهَا أصلا وَلَو لم يكن فِي توراتهم إِلَّا هَذِه الكذبة وَحدهَا لكفت فِي بَيَان أَنَّهَا مَوْضُوعَة لم يَأْتِ بهَا مُوسَى قطّ وَلَا هِيَ من عِنْد الله تَعَالَى فَكيف وَلها نَظَائِر ونظائر ونظائر فَإِن قيل فِي الْقُرْآن ذكر سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَلَا يدْرِي مَكَانَهُ وَلَا مكانهم قُلْنَا مَكَانَهُ مَعْرُوف فِي أقْصَى الشمَال فِي آخر الْمَعْمُور مِنْهُ وَقد ذكر أَمر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي كتب الْيَهُود الَّتِي يُؤمنُونَ بهَا ويؤمن بهَا النَّصَارَى وَقد ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج والسد ارسطاطاليس فِي كِتَابه فِي الْحَيَوَان عِنْد كَلَامه على الغرانيق وَقد ذكر سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج بطليموس فِي كِتَابه الْمُسَمّى جغرافيا وَذكر طول بِلَادهمْ وعرضها وَقد بعث إِلَيْهِ الواثق أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام الترجمان فِي جمَاعَة مَعَه حَتَّى وقفُوا عَلَيْهِ ذكر ذَلِك أَحْمد بن الطَّبِيب السَّرخسِيّ وَغَيره وَقد ذكره قدامَة بن جَعْفَر وَالنَّاس فهيهات خبر من خبر وَحَتَّى لَو خَفِي مَكَان يَأْجُوج وَمَأْجُوج والسد فَلم يعرف فِي شَيْء من الْمَعْمُور مَكَانَهُ لما ضرّ ذَلِك خبرنَا شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ يكون مَكَانَهُ حِينَئِذٍ خلف خطّ الاسْتوَاء حَيْثُ يكون ميل الشَّمْس ورجوعها وَبعدهَا كَمَا هُوَ فِي الْجِهَة الشمالية بِحَيْثُ تكون الْآفَاق كبعض آفاقنا المسكونة والهواء كهواء بعض الْبِلَاد الَّتِي يُوجد فِيهَا النَّبَات والتناسل وَاعْلَمُوا أَن كل مَا كَانَ فِي عنصر الْإِمْكَان فَادْخُلْهُ مدْخل فِي عنصر الِامْتِنَاع بِلَا برهَان فَهُوَ كَاذِب مُبْطل جَاهِل أَو متجاهل لَا سِيمَا إِذا أخبر بِهِ من قد قَامَ الْبُرْهَان على صدق خَبره وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي الْمحَال الْمُمْتَنع الَّتِي تكذبه الْحَواس والعيان أَو بديهة الْعقل فَمن جَاءَ بِهَذَا فَإِنَّمَا جَاءَ ببرهان قَاطع على أَنه كَذَّاب مفتر ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء فصل ثمَّ قَالَ وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الله هَذَا آدم قد صَار كواحد منا فِي معرفَة الْخَيْر وَالشَّر والآن كَيْلا يمد يَده وَيَأْخُذ من شَجَرَة الْحَيَاة وَيَأْكُل وَيحيى إِلَى الدَّهْر فطرده الله من جنَّات عدن قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حكايتهم عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ هَذَا آدم قد صَار كواحد منا مُصِيبَة من مصائب الدَّهْر وَمُوجب ضَرُورَة أَنهم آلِهَة أَكثر من وَاحِد وَلَقَد أدّى هَذَا القَوْل الْخَبيث المفتري كثيرا من خَواص الْيَهُود إِلَى الِاعْتِقَاد أَن الَّذِي خلق آدم لم يكن إِلَّا خلقا خلقه الله تَعَالَى قبل آدم وَأكل من الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم فَعرف الْخَيْر وَالشَّر ثمَّ أكل من شَجَرَة الْحَيَاة فَصَارَ إِلَهًا من جملَة الْآلهَة نَعُوذ بِاللَّه من هَذَا الْكفْر الأحمق ونحمده إِذْ هدَانَا للملة الزهراء الْوَاضِحَة الَّتِي تشهد سلامتها من كل دخل بِأَنَّهَا من عِنْد الله تَعَالَى فصل وَبعد ذَلِك وأسكن فِي شَرْقي جنَّة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب بحراسة شَجَرَة الْحَيَاة وَرَأَيْت فِي نُسْخَة أُخْرَى مِنْهَا ووكل بالجنان المشتهر إسْرَافيل وَنصب بَين يَدَيْهِ رمحاً ناريا ليحفظ طريقي شَجَرَة الْحَيَاة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن لم يكن أَحدهمَا خطأ من المترجم وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي كَيفَ هَذَا فصل وَبعد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى كل من قتل قابيل نفاديه إِلَى سَبْعَة وَلَا تناكر بَين جَمِيعهم فِي أَن لامك بن متوشائيل بن محويائيل ابْن عيراد بن حنوك بن قابين هُوَ الَّذِي قتل قابين جد جد أَبِيه وَأَنه لم يقل بِهِ فنسبوا إِلَى الله تَعَالَى الْكَذِب لِأَنَّهُ وعده أَن يفْدِيه إِلَى السَّبْعَة وَلم يفده وَأَيْضًا فَإِن ذكر السَّبْعَة هُنَا حمق لِأَن لامك الَّذِي قَتله هُوَ الْخَامِس من ولد قابين وقابين هُوَ الْخَامِس من آبَاء لامك فَلَا مدْخل للسبعة هَا هُنَا فصل وَقبل هَذَا ذكر هابيل بن آدم وَأَنه راعي غنم ثمَّ قَالَ قبل ذَلِك بِنَحْوِ ورقتين أر لامك الْمَذْكُور آنِفا اتخذ امْرَأتَيْنِ اسْم إِحْدَاهمَا عَادَة وَالثَّانيَِة صلَة وَولدت عَادَة يابال وَهُوَ أول من سكن الأخبية وَملك الْمَاشِيَة وَهَاتَانِ قضيتان تكذب إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى لَا بُد فصل وَبعد ذَلِك قَالَ فَلَمَّا ابْتَدَأَ النَّاس يكثرون على ظهر الأَرْض وَولد لَهُم الْبَنَات فَلَمَّا رأى أَوْلَاد الله بَنَات آدم أَنَّهُنَّ حسان اتَّخذُوا مِنْهُنَّ نسَاء وَقَالَ بعد ذَلِك كَانَ يدْخل بَنو الله إِلَى بَنَات آدم ويولد لَهُم حَرَامًا وهم الْجَبَابِرَة الَّذين على الدَّهْر لَهُم أَسمَاء وَهَذَا حمق ناهيك بِهِ وَكذب عَظِيم إِذْ جعل الله أَوْلَادًا ينْكحُونَ بَنَات آدم وَهَذِه مصاهرة تَعَالَى الله عَنْهَا حَتَّى أَن بعض أسلافهم قَالَ إِنَّمَا عني بذلك الْمَلَائِكَة وَهَذِه كذبة إِلَّا أَنَّهَا دون الْكَذِب فِي ظَاهر اللَّفْظ فصل وَفِي خلال هَذَا قَالَ لَا يدين روحي فِي الْإِنْسَان إِلَى الدَّهْر إِذْ هم منتشرون لزيغانه هُوَ بشر فَتكون أعمارهم مائَة وَعشْرين سنة وَهَذَا كذب فَاحش ومصيبة الْأَبَد لِأَنَّهُ ذكر بعد هَذَا القَوْل أَن سَام بن نوح عَاشَ بعد ذَلِك سِتّمائَة سنة وارفخشاد بن سَام عَاشَ أَرْبَعمِائَة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وشالح بن ارفخشاذ عَاشَ أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وعابر بن شالخ عَاشَ أَرْبَعمِائَة سنة وَسِتِّينَ سنة وفالغ بن عَابِر عَاشَ مِائَتي سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة ورعو بن فالغ عَاشَ مِائَتي سنة وتسعاً وَعشْرين سنة وسروغ بن رعوعاش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 مِائَتي سنة وَثَلَاثِينَ سنة وناحور بن سروغ عَاشَ مائَة ثَمَان وَأَرْبَعين سنة وتارح بن ناحور عَاشَ مِائَتي سنة وَخمسين سنة وَإِبْرَاهِيم بن تارح عَاشَ مائَة سنة وخمساً وَسبعين سنة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَأَرْبَعين سنة ولاوي ين يَعْقُوب عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سبة وَعمْرَان بن فاهث عَاشَ كَذَلِك أَيْضا وفاهث ابْن لاوي عَاشَ مائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَإِن سارح بنت أشر وَمَرْيَم بنت عمرَان وَهَارُون بن عمرَان عَاشَ كل وَاحِد مِنْهُم أَزِيد من مائَة وَعشْرين سنة بسنيهم فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح ولعقول تَتَابَعَت على التَّصْدِيق والتدين بِمثل هَذَا الْإِفْك الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ فصل وَبعد ذَلِك ذكر أَن متوشالح بن حنوك بن مارد عَاشَ تِسْعمائَة سنة وتسعاً وَسِتِّينَ سنة وَأَنه ولد لَهُ لامك وَهُوَ ابْن مائَة سنة وَسبع وَثَمَانِينَ سنة وَأَن لامك الْمَذْكُور إِذْ بلغ مائَة سنة واثنتين وَثَمَانِينَ سنة ولد لَهُ نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا شكّ من أَن متوشالح كَانَ إِذْ ولد لَهُ نوح بن ثَلَاثمِائَة سنة وتسع وَسِتِّينَ سنة فَوَجَبَ من هَذَا ضَرُورَة أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ابْن سِتّمائَة سنة إِذْ مَاتَ متوشالح فاضبطوا هَذَا ثمَّ قَالَ إِن فِي الْيَوْم السَّابِع عشر من الشَّهْر الثَّانِي من سنة سِتّمائَة من عمر نوح اندفعت الْمِيَاه بالطوفان ثمَّ قَالَ أَن فِي الْيَوْم سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا من الشَّهْر الثَّانِي من سنة إِحْدَى وسِتمِائَة لنوح خرج نوح من التابوت يعنيي السَّفِينَة هُوَ وَمن كَانَ مَعَه فَوَجَبَ من هَذَا ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا أَن متوشالح بن حنوك دخل السَّفِينَة وَأَنه فِيهَا مَاتَ قبل خُرُوجهمْ مِنْهَا بشهرين غير ثَلَاثَة أَيَّام وَقد قطع فِيهَا وَبت على أَنه لم يدْخل التابوت أحد من النَّاس إِلَّا نوح وَبَنوهُ الثَّلَاثَة وَامْرَأَة نوح وَثَلَاثَة نسَاء لأولاده وَقد قطع فِيهَا وَبت على أَنه لم ينج من الْغَرق إنسي أصلا وَلَا حَيَوَان فِي غير التابوت وَهَذِه كذبات فَوَاضِح نَعُوذ بِاللَّه من مثلهَا لِأَن فِي نُصُوص توراتهم كَمَا أوردنا أَن متوشالح لم يغرق لِأَنَّهُ لَو غرق لم يسْتَوْف تَمام السّنة الموفية سِتّمائَة سنة لنوح وَفِي نَصهَا أَنه استوفاها وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عِنْدهم مَحْمُود ممدوح لم يسْتَحق الْهَلَاك قطّ وأبطلوا أَن يكون دخل التابوت إِذْ قطعُوا بِأَنَّهُ لم يدخلهَا إنسي إِلَّا نوح وَبَنوهُ الثَّلَاثَة وَنِسَاؤُهُمْ وأبطلوا أَن يتنجوا فِي غير التابوت بقطعهم أَنه لم ينج إنس وَلَا حَيَوَان فِي غير التابوت وَلَا بُد لمتوشالح من أحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة فلاح الْكَذِب البحت فِي نقل توراتهم ضَرُورَة وتيقن كل ذِي عقل أَنَّهَا غير منزلَة من الله تَعَالَى وَلَا جَاءَ بهَا نَبِي أصلا لِأَن الله تَعَالَى لَا يكذب والأنبياء لَا تَأتي بِالْكَذِبِ فصح يَقِينا أَنَّهَا من عمل زنديق جَاهِل أَو مستخف متلاعب بهم ونعوذ بِاللَّه من مثل مقامهم وَفِي هَذَا الْفَصْل كِفَايَة فَكيف وَمَعَهُ أَمْثَاله كَثِيرَة فصل وَبعد ذَلِك أَن نوحًا إِذْ بلغه فعل ابْنه حام أبي كنعان قَالَ مَلْعُون أَبُو كنعان عبد العبيد يكون لإخوته مستعبداً يكون لأخويه يُبَارك الْإِلَه ساماً وَيكون أَبُو كنعان عبدا لَهُم إِحْسَان الله ليافث ويسكن فِي أخبية سَام وَيكون أَبُو كنعان عبدا لَهُم ثمَّ نسي نَفسه المحرف أَو تعاظم اسْتِخْفَافًا بهم فَلم يطلّ لكنه بعد سِتَّة أسطر قَالَ إِذْ ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أَوْلَاد حام فَقَالَ بَنو حام كوش ومصرايم وفوحا وكنعان وَبَنُو كوش وصبان وزويلة ورغاوة ورعمة وسفتخا وَبَنُو رعمة السَّنَد والهند وكوش ولد غرود الي ابْتَدَأَ يكون جبارا فِي الأَرْض الَّذِي كَانَ جَبَّار صيد بَين يَدي الله عز وَجل وَكَانَ أول مَمْلَكَته بابل فَحصل من هَذَا الْخَبَر تَكْذِيب نوح فِي خَبره وَهُوَ بإقرارهم نَبِي مُعظم جدا وَإِذ وصف أَن ولد أبي كنعان صَارُوا ملوكاً على إخْوَة بني كنعان وعَلى بنيهم ثمَّ الْعجب كُله على أَن مَا توجبه توراتهم كَانَ ملك نمْرُود بن كوش بن كنعان بن حام على جَمِيع الأَرْض ونوح حَيّ وسام بن نوح حَيّ لِأَن فِي نَص توراتهم أَن نوحًا عَاشَ إِلَى أَن بلغ إِبْرَاهِيم بن تارح عَلَيْهِ السَّلَام ثَمَانِيَة وَخمسين عَاما وَأَن سَام بن نوح عَاشَ إِلَى أَن بلغ يَعْقُوب وعيصا ابْنا إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام خمْسا وَأَرْبَعين سنة على مَا ذكره من مواليدهم أَبَا فأبا فَمَا لنا نرى خبر نوح معكوساً فَإِن قَالُوا إِن السودَان تملكوا الْيَوْم قُلْنَا وَفِي السودَان ملك عَظِيم جدا وممالك شَتَّى كغانة والحبشة والنوبة والهند والتبت وَالْأَمر بَينهم سَوَاء يملكُونَ طوائف من بني سَام كَمَا يملك بَنو سَام طوائف مِنْهُم وحاش لله أَن يكذب نَبِي فصل وَقَالَت توراتهم أَن نوحًا لما بلغ خَمْسمِائَة سنة ولد لَهُ يافث وسام وَحَام ثمَّ ذكرت أَن نوحًا إِذْ بلغ سِتّمائَة سنة كَانَ الطوفان ولسام يَوْمئِذٍ مائَة سنة وَقَالَت بعد ذَلِك أَن سَام بن نوح لما كَانَ ابْن مائَة سنة ولدار فخشاذ لِسنتَيْنِ بعد الطوفان وَهَذَا كذب فَاحش وتلون سمج وَجَهل مظلم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ نوح إِذْ ولد لَهُ سَام ابْن خَمْسمِائَة سنة وَبعد مائَة سنة كَانَ الطوفان فسام حِينَئِذٍ ابْن مائَة سنة وسنتين وَفِي نَص توراتهم أَنه كَانَ ابْن مائَة سنة وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ حاش لله من مثله فصل وَبعد ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم اعْلَم علما أَنه سَيكون نسلك غَرِيبا فِي بلد لَيْسَ لَهُ ويستعبدونهم ويعذبونهم أَرْبَعمِائَة سنة وَأَيْضًا الْقَوْم الَّذين يعذبونهم يحكم لَهُم وَبعد ذَلِك بشرح عَظِيم وَأَنت تسير لآبائك بِسَلام وتدفن بِشَيْبَة صَالِحَة والجيل الرَّابِع من الْبَنِينَ يرجعُونَ إِلَى هَا هُنَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل على قلته كذبتان فاحشتان شنيعتان منسوبتان إِلَى الله تَعَالَى وحاش لله من الْكَذِب وَالْخَطَأ فأحدهما قَوْله والجيل الرَّابِع من الْبَنِينَ يرجعُونَ إِلَى هَاهُنَا وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ لِأَن الجيل الأول من بني إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام هم إِسْحَاق وَإِخْوَته عَلَيْهِم السَّلَام والجيل الثَّانِي هم يَعْقُوب وعيصا وَبَنُو أعمامهما والجيل الثَّالِث أَوْلَاد يَعْقُوب لصلبه وهم دوبان وشمعون ويهوذا ولاوي وساخار وزابلون ويوسف وبنيامين وداى وهباد وعاذ وَأَشَارَ وَأَوْلَاد عيصا وَمن كَانَ فِي تعدادهما من سَائِر عقب إِبْرَاهِيم والجيل الرَّابِع هم أَوْلَاد هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وهم والجيل الثَّالِث آباؤهم وَيَعْقُوب جدهم هم الداخلون مصر لَا الخارجون مِنْهَا بِنَصّ توراتهم وإجماعهم كلهم بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى االشام بِنَصّ توراتهم وإجماعهم كلهم الجيل السَّادِس من أَبنَاء إِبْرَاهِيم وهم أَوْلَاد الجيل الرَّابِع الْمَذْكُور وَمَا رَجَعَ من الجيل الرَّابِع وَلَا من الجيل الْخَامِس وَلَا وَاحِد إِلَى الشَّام وحاشى لله م ن أَن يكذب فِي خَبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فَإِن قيل إِنَّمَا تعد الأجيال من الجيل المعذب قُلْنَا هَذَا خلاف نَص توراتهم لِأَن نَصهَا الجيل الرَّابِع من الْأَبْنَاء وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لم يعذب أحد من أَوْلَاد يَعْقُوب بل كَانُوا مبرورين وهم الجيل الثَّالِث بِنَصّ توراتهم حرفا حرفا على مَا نورد بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِنَّمَا ابْتَدَأَ التعذيب فِي أَبنَاء يَعْقُوب وهم الداخلون مَعَ آبَائِهِم وهم الجيل الرَّابِع فعد من حَيْثُ شِئْت لست تخرج من شرك الْكَذِب الفاضح وَفِي هَذَا كِفَايَة والكذبة الثَّانِيَة طامة من الطَّامَّات وَهِي قَوْله لإِبْرَاهِيم أَن نسلك سَيكون غَرِيبا فِي بلد لَيْسَ لَهُ ويستعبدونهم ويعذبونهم أَرْبَعمِائَة سنة وَبعد ذَلِك يخرجُون فَهَذِهِ سوءة وعار الدَّهْر لِأَنَّهُ إِذا عذب الأربعمائة سنة من وَقت بدإِ بتعذيب بني إِسْرَائِيل بِمصْر فَإِنَّمَا ذَلِك بعد موت يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن خرج بهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نصا إِذْ فِي سِيَاق توراتهم وَلما مَاتَ يُوسُف وَجمع إخْوَته وَذَلِكَ الجيل كُله كثر بَنو إِسْرَائِيل وتكاثروا وتفووا فملكوا الأَرْض وَولى عِنْد ذَلِك بِمصْر ملك جَدِيد لم يعرف يُوسُف فَقَالَ لأهل مَمْلَكَته إِن بني إِسْرَائِيل قد كَثُرُوا وصاروا أقوى منا فأذلوهم بَيْننَا لِئَلَّا يزدادوا كَثْرَة ويكونوا عوناً لمن رام محاورتنا فَقدم عَلَيْهِم أَصْحَاب صناعته لسخرتهم هَذَا نَص تورتهم شاهدة بِمَا قُلْنَا وَقد ذكر فِي توراتهم إِذْ ذكر من دخل مَعَ يَعْقُوب من وَلَده وَولد وَولد أَن قاهاث بن لاوي بن يَعْقُوب وَالِد عمرَان بن قاهاث وَهُوَ جد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ مِمَّن ولد بِالشَّام وَدخل مصر مَعَ أَبِيه لاوي وجده يَعْقُوب وَذكر فِيهَا أَيْضا أَن جَمِيع عمر قاهاث الْمَذْكُور ابْن لاوي كَانَ مائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وَأَن جَمِيع عمر عمرَان بن قاهاث الْمَذْكُور كَانَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَذكر فِيهَا نصا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ابْن ثَمَانِينَ سنة هَذَا كُله نَص توراتهم حرفا بِحرف بِإِجْمَاع مِنْهُم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم فهبك أَن قاهاث كَانَ إِذْ دَخلهَا ابْن أقل من شهر وَأَن عمرَان ولد لَهُ سنة مَوته وَأَن مُوسَى ولد لعمران سنة مَوته فالمجتمع من هَذَا الْعدَد كُله ثَلَاثمِائَة سنة وَخَمْسُونَ سنة وَهَذِه كَانَت مدتهم بِمصْر من يَوْم دُخُولهَا إِلَى أَن خَرجُوا عَنْهَا على هَذَا الْحساب فَأَيْنَ الأربعمائة سنة فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط سنّ قاهاث إِذْ دخل مصر مَعَ أَبِيه لاوي الْمدَّة الَّتِي كَانَت من ولادَة عمرَان لقاهاث إِلَى موت قاهاث والمدة الَّتِي كَانَت من ولادَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى موت ابْنه عمرَان وَفِي كتب الْيَهُود أَن قاهاث دخل مصر وَله ثَلَاث سِنِين وَأَنه كَانَ إِذْ ولد لَهُ عمرَان ابْن سِتِّينَ سنة وَأَن عمرَان كَانَ إِذْ ولد لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ابْن ثَمَانِينَ سنة فعلى هَذَا لم يكن بَقَاء بني إِسْرَائِيل بِمصْر مذ دخلوها مَعَ يَعْقُوب إِلَى أَن خَرجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى إِلَّا مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَأَيْنَ الأربعمائة عَام فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط من هَذَا الْعدَد الْأَخير مُدَّة حَيَاة يُوسُف مذ دخل إخْوَته وأبوهم وبنوهم مصر إِلَى أَن مَاتَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فطول هَذَا الأمد لم يَكُونُوا مستخدمين وَلَا معذبين وَلَا مستعبدين بل كَانُوا أعزاء مكرمين وَفِي نَص توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ دخل على فِرْعَوْن ابْن ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ كَانَت سنو الْخطب سبع سِنِين وبدأت سنو الْجُوع ودخله يَعْقُوب ونسله مصر بعد سنتَيْن من سني الْجُوع فليوسف حِينَئِذٍ تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَفِي نَص توراتهم أَن يُوسُف كَانَ إِذْ مَاتَ ابْن مائَة سنة وَعشر سِنِين فصح أَن مدتهم مذ دخلُوا مصر إِلَى أَن مَاتَ يُوسُف عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 السَّلَام كَانَت إِحْدَى وَسبعين سنة فَقَط وَلَا بُد فالباقي مائَة سنة وست وَأَرْبَعُونَ سنة يسْقط مِنْهَا وَلَا بُد بِنَصّ توراتهم مُدَّة بَقَاء من بَقِي من إخْوَة يُوسُف بعده وَلم نجد من ذَلِك إِلَّا عمر لاوي فَقَط فَإِنَّهُ على نَص التَّوْرَاة كَانَ يزِيد على يُوسُف ثَلَاثَة أَعْوَام أَو أَرْبَعَة فَعَاشَ بعد يُوسُف ثَلَاثَة وَعشْرين عَاما فَقَط وَلَا بُد من هَذَا الْعدَد فالباقي مائَة سنة وَثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة هَذِه مُدَّة عَذَابهمْ واستخدامهم واستعبادهم على أبعد الْأَعْدَاد وَقد تكون أقل فَأَيْنَ الأربعمائة سنة وَلَعَلَّ وقاح الْوَجْه يَقُول مَا أعد ذَلِك إِلَّا من دُخُول يُوسُف مصر مستعبداً مستخدماً معذباً ثمَّ مسجوناً فَاعْلَم أَنه لَا يزِيد على المائتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما الَّتِي ذكرنَا قبل إِلَّا اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما فَقَط فَذَلِك مِائَتَا عَام وَتِسْعَة وَثَلَاثُونَ عَاما فَأَيْنَ الأربعمائة سنة فَظهر الْكَذِب المفضوح الَّذِي لَا يدْرِي كَيفَ خَفِي عَلَيْهِم جيلاً بعد جيل وَرَأَيْت لنذل مِنْهُم مقلة ظريفة وَهِي انه ذكر هَذِه الْقِصَّة وَقَالَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تعد هَذِه الأربعمائة سنة من حِين خَاطب الله عز وَجل إِبْرَاهِيم بِهَذَا الْكَلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأَرَادَ هَذَا السَّاقِط الْخُرُوج من مزبلة فَوَقع فِي كنيف عذرة لِأَنَّهُ جاهر بِالْبَاطِلِ وتعجل الفضيحة وَنسبَة الْكَذِب إِلَى الله تَعَالَى إِذْ نَص مَا حكوه عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم أَن نسلك يستعبد أَرْبَعمِائَة سنة وَلم يقل لَهُ قطّ من الْآن إِلَى انْقِضَاء استخدامهم أَرْبَعمِائَة سنة وَأَيْضًا فَإِن نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام لإِبْرَاهِيم قبل ولادَة إِسْمَاعِيل هَذَا أَيْضا فَكَانَ إِبْرَاهِيم حِينَئِذٍ ابْن أقل من سِتَّة وَثَمَانِينَ عَاما ثمَّ عَاشَ بعد ذَلِك أَرْبَعَة عشر عَاما وَولد لَهُ إِسْحَاق وعاش إِسْحَاق مئة وَثَمَانِينَ سنة وَمَات إِسْحَاق وليعقوب مائَة وَعِشْرُونَ سنة وَدخل يَعْقُوب مصر وَله مائَة وَثَلَاثُونَ سنة كل هَذَا نُصُوص توراتهم بِلَا اخْتِلَاف مِنْهُم ممات إِسْحَاق قبل دُخُول يَعْقُوب مصر بِعشْرَة أَعْوَام فَمن حِين ادعوا أَن الله تَعَالَى قَالَ هَذَا الْكَلَام لإِبْرَاهِيم إِلَى دُخُول يَعْقُوب مصر مِائَتَا عَام وَأَرْبَعَة أَعْوَام وَمن دُخُول يَعْقُوب مصر إِلَى خُرُوج مُوسَى عَنْهَا كَمَا ذكرنَا مائَة عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فحصلنا على أَرْبَعمِائَة عَام وَأَرْبَعَة وَعشْرين عَاما فَلَا منجا من الْكَذِب إِمَّا بِزِيَادَة أَو نُقْصَان وحاش لله أَن يكذب فِي حِسَاب بدقيقة فَكيف بأعوام وَالله خَالق الْحساب ومعلمه عباده ومعاذ الله أَن يكذب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَو يخطىء فِيمَا أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فوضح يَقِينا لكل من لَهُ أدنى فهم يَقِينا كَمَا أَن أمس قبل الْيَوْم أَنَّهَا لَيست من عِنْد الله تَعَالَى وَلَا من أَخْبَار نَبِي وَلَا من تأليف عَالم يَتَّقِي الْكَذِب وَلَا من عمل من يحسن الْحساب وَلَا يخطيء فبمَا لَا يخطىء فِيهِ صبي يحسن الْجمع والطرح وَالْقِسْمَة وَالتَّسْمِيَة وَلكنهَا بِلَا شكّ من عمل كَافِر مستخف ماجن سخر بهم وتطايب مِنْهُم وَكتب لَهُم مَا سخم الله بِهِ وجوهم عَاجلا فِي الدُّنْيَا بالفضيحة وآجلاً فِي الْآخِرَة بالنَّار وَالْخُلُود فِيهَا أَو من عمل تَيْس أرعن تكلّف إملاء مَا لم يقم بحفظه جَاهِل مَعَ ذَلِك مظلم الْجَهْل بالهيئة وَصفَة الأَرْض وبالحساب وَبِاللَّهِ تَعَالَى وبرسله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم فأملى مَا خرج إِلَى فهمه من خَبِيث وَطيب وَلَقَد كَانَ فِي هَذَا الْفَصْل كِفَايَة لمن نصح نَفسه لَو لم يكن غَيره فَكيف وَمَعَهُ عجائب جمة وَنَحْمَد الله تَعَالَى على نعْمَة الْإِسْلَام كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فصل وَبعد ذَلِك ذكر أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم لنسلك أعطي هَذَا الْبَلَد من نهر مصر النَّهر الْكَبِير إِلَى نهر الْفُرَات وَهَذَا كذب وشهرة من الشَّهْر لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَنى نَبِي إِسْرَائِيل وَهَكَذَا يَزْعمُونَ فَمَا ملكوا قطّ من نهر مصر وَلَا على نَحْو عشرَة أَيَّام مِنْهُ شبْرًا مِمَّا فَوْقه وَذَلِكَ من موقع النّيل إِلَى قرب بَيت الْمُقَدّس وَفِي هَذِه الْمسَافَة الصَّحَارِي الْمَشْهُورَة الممتدة والحضار ثمَّ دفج وغزة وعسقلان وجبال الشراه الَّتِي لم تزل تحاربهم طول مُدَّة دولتهم وتذيقهم الْأَمريْنِ إِلَى انْقِضَاء دولتهم وَلَا ملكوا قطّ من الْفُرَات وَلَا على عشرَة أَيَّام مِنْهُ بل بَين أخر حوز بني إِسْرَائِيل إِلَى أقرب مَكَان من الْفُرَات إِلَيْهِم نَحْو تسعين فرسخاً فِيهَا قنسرين وحمص الَّتِي لم يقربُوا مِنْهَا قطّ ثمَّ دمشق وصور وصيدا الَّتِي لم يزل أَهلهَا يحاربونهم ويسومونهم الْخَسْف طول مُدَّة دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهمْ وحاش لله عز وَجل أَن يخلف وعده فِي قدر وقيقة من سرابة فَكيف فِي تسعين فرسخاً فِي الشمَال وَنَحْوهَا فِي الْجنُوب ثمَّ فوله النَّهر الْكَبِير وَمَا فِي بِلَادهمْ الَّتِي ملكوا نهر يذكر إِلَّا الْأُرْدُن وَحده وَمَا هُوَ بكبير إِنَّمَا مَسَافَة مجْرَاه من بحيرة الْأُرْدُن إِلَى مسقطه فِي الْبحيرَة المنتنة نَحْو سِتِّينَ ميلًا فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا عَنى الله بِهَذَا الْوَعْد بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قُلْنَا وَهَذَا أَيْضا خطأ لِأَن هَذَا الْقدر الْمَذْكُور هَا هُنَا من الأَرْض أقل من جُزْء من مائَة جُزْء مِمَّا ملك الله عز وَجل بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأَيْنَ يَقع مَا بَين مصب النّيل عِنْد تنيس وَبَين الْفُرَات وَمن آخر الأندلس على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط وبلاد البربر كَذَلِك إِلَى آخر السَّنَد وكابل مِمَّا يَلِي الْهِنْد وَمن سَاحل الْيمن إِلَى ثغور أرمينية وأذربيجان فَمَا بَين ذَلِك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَكيف وَهَذِه الدَّعْوَى بَاطِلَة لِأَن ذَلِك الْكَلَام بعضه مَعْطُوف على بعض فالموعودون بِملك ذَلِك الْبَلَد هم المتوعدون بِأَنَّهُم يتملكون ويعذبون فِي الْبَلَد الآخر وَقد أكْرم الله تَعَالَى بني إِسْمَاعِيل وصانهم عَن ذَلِك فوضح الْكَذِب الْفَاحِش فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة وَصَحَّ أَنه لَيْسَ من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من كَلَام نَبِي أصلا بل من تَبْدِيل وغد جَاهِل كالحمار بلادة أَو متلاعب بِالدّينِ وفاسد المعتقد ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم أَنا الله الَّذِي أخرجتك من أتون الكردانيين لأعطيك هَذَا الْبَلَد حوراً فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم يَا رب بِمَاذَا أعرف أَنِّي أرث هَذَا الْبَلَد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حاشى لله أَن يَقُول إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرَبه هَذَا الْكَلَام فَهَذَا كَلَام من لم يَثِق بِخَبَر الله عز وَجل حَتَّى طلب على ذَلِك برهاناً فَإِن قَالَ قَائِل جَاهِل فَفِي الْقُرْآن أَنه قَالَ رب كَيفَ تحي الْمَوْتَى وَأَن زَكَرِيَّا قَالَ لله تَعَالَى إِذْ وعده بِابْن يُسمى يحيى رب اجْعَل لي آيَة قُلْنَا بَين المراجعات الْمَذْكُورَة فرق كَمَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب أما طلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام رُؤْيَة إحْيَاء الْمَوْتَى فَإِنَّمَا طلب ذَلِك لِيَطمَئِن قلبه المنازع لَهُ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 رُؤْيَة الْكَيْفِيَّة فِي ذَلِك فَقَط بَيَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى لَهُ {أَو لم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} فوضح أَن إِبْرَاهِيم لم يطْلب ذَلِك برهاناً على شكّ أزاله عَن نَفسه لَكِن ليرى الْهَيْئَة فَقَط وَأما زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا طلب آيَة تكون لَهُ عِنْد النَّاس لِئَلَّا يكذبوه هَذَا نَص كَلَامه وَالَّذِي ذَكرُوهُ عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام شَاك يطْلب برهاناً يعرف بِهِ صِحَة وعد ربه لَهُ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وحاشى لإِبْرَاهِيم مِنْهُ فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وتجلى الله لإِبْرَاهِيم عِنْد بلوطات ممرأ وَهُوَ جَالس عِنْد بَاب الخباء عِنْد حمي النَّهَار وَرفع عَيْنَيْهِ وَنظر فَإِذا بِثَلَاثَة نفر وقُوف أَمَامه فَنظر وركض لاستقبالهم عِنْد بَاب الخباء وَسجد على الأَرْض وَقَالَ يَا سَيِّدي إِن كنت قد وجدت نعْمَة فِي عَيْنَيْك فَلَا تتجاوز عَبدك ليؤخذ قَلِيل من مَاء واغسلوا أَرْجُلكُم واستندوا تَحت الشَّجَرَة وأقدم لكم كسرة من الْخبز تشتد بهَا قُلُوبكُمْ وَبعد ذَلِك تمضون فَمن أجل ذَلِك مررتم على عبدكم فَقَالُوا اصْنَع كَمَا قلت فأسرع إِبْرَاهِيم إِلَى الخباء إِلَى سارة وَقَالَ لَهَا اصنعي ثَلَاث صيعان من دَقِيق سميذ اعجنيه واصنعي خبز مِلَّة وَحضر إِبْرَاهِيم إِلَى الْبَقر وَأخذ عجلاً رخصا سمنا وَدفعه للغلام واستعجل بإصلاحه وَأخذ سمناً ولبناً والعجل الَّذِي صنعوه وَقدم بَين أَيْديهم وَهُوَ وَاقِف عَلَيْهِم تَحت الشَّجَرَة وَقَالَ كلوا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل آيَات من الْبلَاء شنيعة نَعُوذ بِاللَّه من قَلِيل الضلال وَكَثِيره فَأول ذَلِك إخْبَاره أَن الله تَعَالَى تجلى لإِبْرَاهِيم وَأَنه رأى الثَّلَاثَة نفر فأسرع إِلَيْهِم وَسجد وخاطبهم بالعبودية فَإِن كَانَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة هم الله فَهَذَا هُوَ التَّثْلِيث بِعَيْنِه بِلَا كلفة بل هُوَ أَشد من التَّثْلِيث لِأَنَّهُ إِخْبَار بشخوص ثَلَاثَة وَالنَّصَارَى يهربون من التشخيص وَقد رَأَيْت فِي بعض كتب النَّصَارَى الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْقَضِيَّة فِي إِثْبَات التَّثْلِيث وَهَذَا كَمَا ترى فِي غَايَة الفضيحة فَإِن كَانَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة مَلَائِكَة وَهَكَذَا يَقُولُونَ فَعَلَيْهِم فِي ذَلِك أَيْضا فضائح عَظِيمَة وَكذب فَاحش من وُجُوه أَولهَا من الْمحَال وَالْكذب أَن يخبر بِأَن الله تَعَالَى تجلى لَهُ وَإِنَّمَا تجلى لَهُ ثَلَاثَة من الْمَلَائِكَة وَثَانِيها أَن يُخَاطب أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة بخطاب الْوَاحِد وَهَذَا مِمَّا يزِيد فِي ضلال النَّصَارَى فِي هَذَا الْفَصْل وَهَذَا أَيْضا محَال فِي الْخطاب وَثَالِثهَا سُجُوده للْمَلَائكَة فَإِن من الْبَاطِل أَن يسْجد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخليله لغير الله تَعَالَى ولمخلوق مثله فَهَذِهِ كذبة وَإِن قَالُوا بل الله سجد فَهَذِهِ كذبة وَلَا بُد أَو يكون الله عِنْدهم هم الثَّلَاثَة المتجلون لَا بُد من أحداها وعادت البلية أَشد مَا كَانَت وَرَابِعهَا خطابه لَهُم بِأَنَّهُ عبدهم فَإِن كَانَ الْمُخَاطب بذلك هُوَ الله تَعَالَى وَهُوَ المتجلي لَهُ فقد عَادَتْ البلية وَإِن كَانَ المخاطبون بذلك الْمَلَائِكَة فحاشى لله أَن يُخَاطب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالعبودية غير الله تَعَالَى ومخوقا مثله مَعَ أَن الْمحَال أَن يُخَاطب ثَلَاثَة بخطاب وَاحِد وخامسها قَوْله يُؤْخَذ قَلِيل من مَاء وَيغسل أَرْجُلكُم وأقدم كسرة من الْخبز تشتد بهَا قُلُوبكُمْ فَهَذِهِ الْحَالة لَئِن كَانَ خَاطب بِهَذَا الْخطاب الله تَعَالَى فَهِيَ الَّتِي لَا سوي لَهَا وَلَا بَقِيَّة بعْدهَا وَالَّتِي تملأ الْفَم وَإِن كَانَ خَاطب بذلك الْمَلَائِكَة فَهَذَا أكذب لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجهل أَن الْمَلَائِكَة لَا تشتد قُلُوبهم بِأَكْل كسر الْخبز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فَهَذِهِ على كل حَال كذبة بَارِدَة سمجة فَإِن قَالُوا ظنهم نَاسا قُلْنَا هَذَا أكذب لِأَن فِي أول الْخَبَر يخبر أَن الله تجلى لَهُ وَكَيف يسْجد إِبْرَاهِيم ويتعبد لخاطر طَرِيق حاشى لَهُ من هَذَا الضلال وسادسها إخْبَاره أَنهم أكلُوا الْخبز والشوى وَالسمن وَاللَّبن وحاشى لَهُ أَن يكون هَذَا خَبرا عَن الله تَعَالَى لَا وَلَا عَن الْمَلَائِكَة أَيْن هَذَا الْكَذِب الْبَارِد الفاضح الَّذِي يشبه عقول الْيَهُود المصدقين بِهِ من الْحق الْمُنِير الْوَاضِح عَلَيْهِ ضِيَاء الْيَقِين من قَول الله عز وَجل فِي هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا {وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا سَلاما قَالَ سَلام فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم وأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط} الْآيَات هَيْهَات نور الْحق من ظلمات الْكَذِب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وفيهَا أَيْضا وَجه سَابِع لَيْسَ كهذه الْوُجُوه فِي الشناعة وَهُوَ إقرارهم بِأَن إِبْرَاهِيم أطْعم الْمَلَائِكَة اللَّحْم وَاللَّبن وَالسمن مَعًا والربانيون مِنْهُم يحرمُونَ هَذَا الْيَوْم فَأَقل مَا فِيهِ النّسخ على أَن يكون سَلَامَته من أَطَم الدَّوَاهِي والسلامة وَالله مِنْهُم بعيدَة فصل ثمَّ قَالَ مُتَّصِلا بِهَذَا الْفَصْل وَقَالُوا لَهُ أَيْن سارة زَوجتك فَقَالَ هَا هِيَ ذِي فِي الخباء قَالَ سأرجع إِلَيْك مثل هَذَا الْوَقْت من قَابل وَيكون لَهَا ابْن وَسَارة تسمع فِي الخباء وَهُوَ وَرَاءَهَا وَكَانَ إِبْرَاهِيم وَسَارة شيخين قد طَعنا فِي السن وانْتهى لسارة أَن لَا يكون لَهَا عَادَة النِّسَاء فَضَحكت سارة فِي نَفسهَا قائلة أبعد أَن نليت يصير لي ذَا وسيدي شيخ قَالَ الله لإِبْرَاهِيم لماذا ضحِكت سارة قائلة هَل لي أَن أَلد وَأَنا عَجُوز وَهل يخفى عَن الله أَمْرِي فِي هَذَا الْوَقْت إِذْ قَالَ عز من قَائِل يكون لسارة ابْن فجحددت سارة وَقَالَت لم أضْحك لِأَنَّهَا خَافت وَقَالَ السَّيِّد لَيْسَ كَمَا تَقُولِينَ بل قد ضحِكت فَقَامَ الْقَوْم من ثمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ عَاد الْخَبَر بَين سارة وَإِبْرَاهِيم وَبَين الله عز وَجل وَعَاد الحَدِيث الْمَاضِي ثمَّ فِي هَذَا زِيَادَة أَن الله تَعَالَى قَالَ أَن سارة ضحِكت وَقَالَت سارة لم أضْحك فَقَالَ الله بل قد ضحِكت فَهَذِهِ مُرَاجعَة الْخُصُوم وتعارض الْأَكفاء وحاشى لسارة الفاضلة المنبأة من الله عز وَجل بالبشارة من أَن تكذب الله عز وَجل فِيمَا يَقُول وَتكذب هِيَ فِي ذَلِك فتجحد مَا فعلت فتجمع بَين سوءتين إِحْدَاهمَا كَبِيرَة من الْكَبَائِر قد نزه الله عز وَجل الصَّالِحين عَنْهَا فَكيف الْأَنْبِيَاء وَالْأُخْرَى أدهى وَأمر وَهِي الَّتِي لَا يَفْعَلهَا مُؤمن وَلَو أَنه أفسق أهل الأَرْض لِأَنَّهَا كفر ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَبعد ذَلِك وصف أَن الْملكَيْنِ باتا عِنْد لوط وأكلا عِنْده الْخبز الفطير وَلَو أَن لوطاً سجد لَهما على وَجه الأَرْض وَتعبد لَهما وَقد مضى مثل هَذَا وَأَنه كذب وَأَن الْمَلَائِكَة لَا تَأْكُل فطيراً وَلَا مختمراً وَأَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا يَسْجُدُونَ لغير الله تَعَالَى وَلَا يتعبدون لسواه فصل وَذكر أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لله عز وَجل إِذْ ذكر لَهُ هَلَاك قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لوط فِي كَلَام كثير أَنْت معَاذ من أَن تصنع هَذَا الْأَمر لَا تقتل الصَّالح مَعَ الطالح فَأَنت معَاذ يَا حَاكم جَمِيع الْعَالم وَلم يُنكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ هَذَا القَوْل وَقَالَ بعد ذَلِك أَن الْملكَيْنِ قَالَا للوط أنظر من لَك هُنَا من صهر بنيك وبناتك وكل مَالك فِي الْقرْيَة أخرجهم من هَذَا الْموضع لأَنا مهلكون هَذَا الْموضع وَقَالَ بعد ذَلِك إِن لوطاً كلم أَصْحَابه المتزوجين بَنَاته وَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا من هَذَا الْموضع فَإِن الله مهلكهم وَأَنه صَار عِنْدهم كاللاعب ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة أَمْسكُوا بيد لوط وبيد زَوجته وابنتيه لشفقة الله عَلَيْهِم وأخرجوهم خَارج الْقرْيَة ثمَّ ذكر هَلَاك الْقرْيَة بِكُل مَا فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا تَخْلُو أَصْهَار لوط وَبَنوهُ وَبنَاته الناكحات من أَن يَكُونُوا صالحين أَو طالحين فَإِن كَانُوا صالحين فقد هَلَكُوا مَعَ الطالحين وَبَطل عقد الله تَعَالَى مَعَ إِبْرَاهِيم فِي ذَلِك وحاشى لله من هَذَا وَإِن كَانُوا طالحين فَكيف تَأمر الْمَلَائِكَة بِإِخْرَاج الطالحين وهم كَانُوا مبعوثين لهلاكهم فَلَا بُد من الْكَذِب فِي أحد الْوَجْهَيْنِ وَبِالْجُمْلَةِ فأخبارهم معفونة جدا فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وَأقَام لوط فِي المغارة هُوَ وابنتاه فَقَالَت الْكُبْرَى للصغرى أَبونَا شيخ وَلَيْسَ فِي الأَرْض أحد يأتينا كسبيل النِّسَاء تَعَالَى نسقي أَبَانَا الْخمر ونضاجعه ونستبق مِنْهُ نَسْلًا فسقتا أباهما الْخمر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَأَتَت الْكُبْرَى فضاجعت أَبَاهَا وَلم يعلم بنومها وَلَا بقيامها فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَت الْكُبْرَى للصغرى قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الْخمر هَذِه اللَّيْلَة وضاجعيه أَنْت ونستبقي من أَبينَا نَسْلًا فسقتاه تِلْكَ اللَّيْلَة خمرًا وَأَتَتْ الصُّغْرَى فضاجعته وَلم يعلم بنومها وَلَا بقيامها وحملت ابنتا لوط من أَبِيهِمَا فَولدت الْكُبْرَى ابْنا وسمته مواب وَهُوَ أَبُو الموابين إِلَى الْيَوْم وَولدت الصُّغْرَى ابْنا سمته ابْن عمي وَهُوَ أَبُو العمونيين إِلَى الْيَوْم وَفِي السّفر الْخَامِس من التَّوْرَاة بزعمهم أَن مُوسَى قَالَ لبني إِسْرَائِيل إِن الله تَعَالَى قَالَ لما انتهينا إِلَى صحراء بني مواب قَالَ لي لَا تحارب بني مواب وَلَا تقَاتلهمْ فَإِنِّي لم أجعَل لكم فِيمَا تَحت أَيْديهم سَهْما لِأَنِّي قد ورثت بني لوط أَدّوا وجعلتها مسكنا لَهُم ثمَّ ذكر أَن مُوسَى قَالَ لَهُم إِن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ أَيْضا أَنْت تخلف الْيَوْم حوز بني مواب الْمَدِينَة الَّتِي تَدعِي عَاد وتنزل فِي حوز بني عمون فَلَا تحاربهم وَلَا تقَاتل أحدا مِنْهُم فَإِنِّي لم أجعَل لكم تَحت أَيْديهم سَهْما لأَنهم من بني لوط وَقد ورثتهم تِلْكَ الأَرْض قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول فضائح وسوآت تقشعر من سماعهَا جُلُود الْمُؤمنِينَ بِاللَّه تَعَالَى العارفين حُقُوق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فأولها مَا ذكر عَن بِنْتي لوط عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْلهمَا لَيْسَ أحد فِي الأَرْض يأتينا كسبيل النِّسَاء تعالي نسقي أَبَانَا خمرًا ونضاجعه ونستبق مِنْهُ نَسْلًا فَهَذَا كَلَام أَحمَق فِي غَايَة الككذب وَالْبرد أَتَرَى كَانَ انْقَطع نسل ولد آدم حَتَّى لم يبْق فِي الأَرْض أحد يضاجعها إِن هَذَا لعجب فَكيف والموضع مَعْرُوف إِلَى الْيَوْم لَيْسَ بَين تِلْكَ المغارة الَّتِي كَانَ فِيهَا لوط عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ بنتيه وَبَين قَرْيَة سُكْنى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا فَرسَخ وَاحِد لَا يزِيد وَهُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال فَقَط فَهَذِهِ سوءة وَالثَّانيَِة اطلاق الْكَذِب الْوَاضِع لهَذِهِ الخرافة لَعنه الله هَذِه الطومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 على الله عز وَجل من أَنه أطلق نبيه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَذِه الْفَاحِشَة الْعَظِيمَة من وَطْء ابْنَتَيْهِ وَاحِدَة بعد الْأُخْرَى فَإِن قَالُوا لَا ملامة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ فعل ذَلِك وَهُوَ سَكرَان وَهُوَ لَا يعلم من هما قُلْنَا فَكيف عمل إِذْ رآهما حاملتين وَإِذ رآهما قد ولدتا وَلدين لغير رشدة وَإِذ رآهما تربيان أَوْلَاد الزِّنَا هَذِه فضائح الْأَبَد وتوليد الزَّنَادِقَة المبالغين فِي الاستخفاف بِاللَّه تَعَالَى وبرسله عَلَيْهِم السَّلَام وَالثَّالِثَة إِطْلَاقهم على الله تَعَالَى أَنه نسب أَوْلَاد ذَيْنك الزنيمين فرخي الزِّنَا إِلَى ولادَة لوط عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى ورثهما بلدين كل ورث بني إِسْرَائِيل وَبني عيسو ابْني إِسْحَاق سَوَاء سَوَاء تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا فَإِن قَالُوا كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ قُلْنَا فقد صَحَّ النّسخ الَّذِي تُنْكِرُونَهُ بِلَا كلفة وَقَالَ قبل هَذَا إِن إِبْرَاهِيم إِذْ أَمر الله تَعَالَى بِالْمَسِيرِ من حران إِلَى أَرض كنعان أَخذ مَعَ نَفسه امْرَأَته سارة وَابْن أَخِيه لوط بن هَارُون وَذكروا فِي بعض توراتهم أَنه كَلمته الْمَلَائِكَة وَأَن الله تَعَالَى أرسلهم إِلَيْهِ فصح بإقرارهم أَنه نَبِي الله عز وَجل وهم يَقُولُونَ أَنه بَقِي فِي تِلْكَ المغارة شَرِيدًا طريداً فَقِيرا لَا شَيْء لَهُ يرجع إِلَيْهِ فَكيف يدْخل فِي عقل من لَهُ أقل إِيمَان أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يتْرك ابْن أَخِيه الَّذِي تغرب مَعَه وآمن بِهِ ثمَّ تنبأ مثله يضيع ويسكن فِي مغارة مَعَ ابْنَتَيْهِ فَقِيرا هَالكا وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهُ وَإِبْرَاهِيم على مَا ذكر فِي التَّوْرَاة عَظِيم المَال مفرط الْغنى كثير الْيَسَار من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْعَبِيد وَالْإِمَاء وَالْجمال وَالْبَقر وَالْغنم وَالْحمير وَيَقُولُونَ فِي توراتهم أَنه ركب فِي ثَلَاثمِائَة مقَاتل وَثَمَانِية عشر مُقَاتِلًا لِحَرْب الَّذين سبوا لوطاً وَمَاله حَتَّى استنفذوه وَمَاله فَكيف يضيعه بعد ذَلِك هَذَا التضييع لَيست هَذِه صِفَات الْأَنْبِيَاء وَلَا كَرَامَة وَلَا صِفَات من فِيهِ شيءٌ من الْخَيْر لَكِن صِفَات الْكلاب الَّذين وضعُوا لَهُم هَذِه الخرافات الْبَارِدَة الَّتِي لَا فَائِدَة فِيهَا وَلَا موعظة وَلَا عِبْرَة حَتَّى ضلوا بهَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَفِي موضِعين من توراتهم المبدلة أَن سارة امْرَأَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَخذهَا فِرْعَوْن ملك مصر وَأَخذهَا ملك الخلص أَبُو مَالك مرّة ثَانِيَة وَأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أرى الْملكَيْنِ فِي منامهما مَا أوجب ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر أَن سنّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ انحدر من حران خَمْسَة وَسَبْعُونَ عَاما وَأَن إِسْحَاق ولد لَهُ وَهُوَ ابْن مائَة سنة ولسارة إِذْ ولد تسعون عَاما فصح أَنه كَانَ يزِيد عَلَيْهَا عشر سنسن وَذكر أَن ملك الخلص أَخذهَا بعد أَن ولدت إِسْحَاق وَهِي عَجُوز مُسِنَّة بإقرارها بلسانها إِذْ بشرت بِإسْحَاق فَكيف بعد أَن وَلدته وَقد جَاوَزت تسعين عَاما وَمن الْمحَال أَن تكون فِي هَذَا السن تفتن ملكا وَأَن إِبْرَاهِيم قَالَ فِي كلتا الْمَرَّتَيْنِ هِيَ أُخْتِي وَذكر عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ للْملك هِيَ أُخْتِي بنت أبي لَكِن لَيست من أُمِّي فَصَارَت لي زَوْجَة فنسبوا فِي نَص توراتهم إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه تزوج أُخْته وَقد وقفت على هَذَا الْكَلَام من يعَض من شَاهَدْنَاهُ مِنْهُم وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن يُوسُف الْكَاتِب الْمَعْرُوف بإبن النغرالي فَقَالَ لي إِن نَص اللَّفْظَة فِي التَّوْرَاة أُخْت وَهِي لَفْظَة تقع فِي العبرانية على الْأُخْت وعَلى الْقَرِيبَة فَقلت يمْنَع من صرف هَذِه اللَّفْظَة إِلَى الْقَرِيبَة هَا هُنَا قَوْله لَكِن لَيست من أُمِّي وَإِنَّمَا هِيَ بنت أبي فَوَجَبَ أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أَرَادَ الْأُخْت بنت الْأَدَب وَأَقل مَا فِي هَذَا إِثْبَات النّسخ الَّذِي تفرون مِنْهُ فخلط وَلم يَأْتِ بِشَيْء فصل ثمَّ ذكر موت سارة وَقَالَ تزوج إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام امراة اسْمهَا قطورة وَولدت لَهُ زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبق وشوحا وَأعْطى إِبْرَاهِيم جَمِيع مَاله لإسحاق وَأعْطى بني الْإِمَاء عطايا وأبعدهم عَن إِسْحَاق قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا نَص الْكَلَام مُتَتَابِعًا مُرَتبا وَلم يذكر لَهُ زَوْجَة فِي حَيَاة سارة وَلَا أمة لَهَا ولد إِلَّا هَاجر أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا ذكر لَهُ بعد سارة زَوْجَة وَلَا أمة وَلَا ولدا غير قطورة وبنيها وَفِي كتبهمْ أَن قطورة هَذِه بنت ملك الربذ وَهُوَ مَوضِع عمان الْيَوْم بِقرب البلقاء وَهَذِه أَخْبَار يكذب بَعْضهَا بَعْضًا فصل ثمَّ ذكر أَن رفْقَة بنت بتوئيل بن تارخ زَوْجَة إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت عاقراً قَالَ فشفعه الله وحملت وازدحم الْولدَان فِي بَطنهَا وَقَالَت لَو علمت أَن الْأَمر هَكَذَا كَانَ يكون مَا طلبته وَمَضَت لتلتمس علما من الله عز وَجل فَقَالَ لَهَا الله فِي بَطْنك أمتان وحزبان يفترقان مِنْهُ أَحدهمَا أكبر من الآخر وَالْكَبِير يخْدم الصَّغِير فَلَمَّا كَانَت أَيَّام الْولادَة إِذْ بتوءمين فِي بَطنهَا وَخرج الأول أَحْمَر كُله كفروة من شعر فَسُمي عيسو وَبعد ذَلِك خرج أَخُوهُ وَيَده ممسكة بعقب عيسو فَسَماهُ يَعْقُوب قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا مُؤنَة على هَؤُلَاءِ السفلة فِي أَن ينسبوا الْكَذِب إِلَى الله عز وَجل وحاشى لله أَن يكذب وَلَا خلاف بَينهم فِي أَن عيسو لم يخْدم قطّ يَعْقُوب وَأَن بني عيسو لم تخْدم قطّ بني يَعْقُوب بل فِي التَّوْرَاة نصا أَن يَعْقُوب سجد على الأَرْض سبع مَرَّات لعيسو اذرآه وَأَن يَعْقُوب لم يُخَاطب عيسو إِلَّا بالعبودية والتذلل المفرط وَأَن جَمِيع أَوْلَاد يَعْقُوب حاشا بنيامين الَّذِي لم يكن ولد بعد كلهم سجدوا لعيسو وَأَن يَعْقُوب أهْدى لعيسو مداراة لَهُ خَمْسمِائَة رَأس وَخمسين رَأْسا من إبل وبقر وحمير وضأن ومعز وَأَن يَعْقُوب رَآهَا منَّة عَظِيمَة إِذْ قبلهَا مِنْهُ وَأَن بني عيسو لم تزل أَيْديهم على إقفاء بني إِسْرَائِيل من أول دولتهم إِلَى انقطاعها إِمَّا يتملكون عَلَيْهِم أَو يكونُونَ على السوَاء مَعَهم وَأَن بني إسرئيل لم يملكُوا قطّ أَيَّام دولتهم بني عيسو فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح أَيهَا الْمُسلمُونَ واحمدوا الله على السَّلامَة مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْركُمْ من الضلال والعمى فصل ثمَّ ذكر أَن إِسْحَاق قَالَ لِابْنِهِ عيسو يَا بني قد شخت وَلَا أعلم يَوْم موتِي فَاخْرُج وَصد لي صيدا واصنع لي مِنْهُ طَعَاما كَمَا أحب وائتني بِهِ لآكله كي تبَارك نَفسِي قبل أَن أَمُوت وَإِن رفْقَة أم عيسو وَيَعْقُوب أمرت يَعْقُوب ابْنهَا أَن يَأْخُذ جديين وتصنع هِيَ مِنْهُمَا طَعَاما وَيَأْتِي يَعْقُوب إِلَى إِسْحَاق أَبِيه ليأكله ويبارك عَلَيْهِ وَأَن يَعْقُوب قَالَ لأمه أَن عيسو أخي أشعر وَأَنا أجرد لَعَلَّ أبي أَن يحس بِي وأكون عِنْده كاللاعب وأجلب على نَفسِي لعنة لَا بركَة فَقَالَت لَهُ أمه عَليّ استدفاع لعنتك وَإِن يَعْقُوب فعل مَا أَمرته بِهِ أمه فَأخذت هِيَ ثِيَاب عيسو ابْنهَا الْأَكْبَر وألبستها يَعْقُوب وَجعلت جُلُود الجديين على يَدَيْهِ وعَلى حلقه وأعطته الطَّعَام وَجَاء بِهِ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أَبِيه فَقَالَ لَهُ يَا أبي فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق من أَنْت يَا وَلَدي قَالَ يَعْقُوب أَنا ابْنك عيسو بكرك صنعت جَمِيع مَا قلت لي فاجلس وتأكل من صيدي لتبارك عَليّ وَأَن إِسْحَاق قَالَ ليعقوب تقدم حَتَّى أجلسك يَا بني هَل أَنْت ابْني عيسو أم لَا فَتقدم يَعْقُوب فجسه إِسْحَاق وَقَالَ الصَّوْت صَوت يَعْقُوب وَالْيَدَانِ يدا عيسو وَقَالَ هَل أَنْت هُوَ ابْني عيسو فَقَالَ أَنا فَبَارك عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ فِي بركته تِلْكَ تخدمك الْأُمَم وتخضع لَك الشعوب وَتَكون مولي إخْوَتك وتسجد لَك بَنو أمك ثمَّ ذكر أَن عيسو أَتَى بالصيد إِلَى إِسْحَاق فَلَمَّا عرف إِسْحَاق الْقِصَّة قَالَ لعيسو عَن يَعْقُوب قد صيرته سُلْطَانا وَجعلت جَمِيع إخْوَته عبيدا فَرغب إِلَيْهِ عيسو فِي أَن يباركه أَيْضا فَفعل وَقَالَ فِي بركته هوذا بِلَا دسم الأَرْض يكون مسكنك وَبلا ندى السَّمَاء من فَوق وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد وَلَكِن يكون حينما تجمح أَنَّك تكسر غيرَة عَن عُنُقك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي هَذَا الْفَصْل فضائح وأكذوبات وَأَشْيَاء تشبه الخرافات فَأول ذَلِك إِطْلَاقهم على نَبِي الله يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه خدع أَبَاهُ وغشه وَهَذَا مبعد عَمَّن فِيهِ خير من أَبنَاء النَّاس مَعَ الْكفَّار والأعداء فَكيف من نَبِي مَعَ أَبِيه نَبِي أَيْضا هَذِه سوآت مضاعفات أَيْن ظلمَة هَذَا الْكَذِب من نور الصدْق فِي قَول الله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم} وثانية وَهِي أخبارهم ان بركَة يَعْقُوب إِنَّمَا كَانَت مسروقة مَأْخُوذَة بغش وخديعة وتخابث وحاشى للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام من هَذَا ولعمري أَنَّهَا لطريقة الْيَهُود فَمَا تلقى مِنْهُم إِلَّا الْخَبيث المخادع إِلَّا الشاذ وثالثة وَهِي أخبارهم ان الله تَعَالَى أجْرى حكمه وَأعْطى نعْمَته على طَرِيق الْغِشّ والخديعة وحاش لله من هَذَا ورابعة وَهِي الَّتِي لَا يشك أحد فِي أَن إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ بَارك يَعْقُوب إِذْ خدعه بزعم النذل الَّذِي كتب لَهُم هَذَا الهوس إِنَّمَا قصد بِتِلْكَ الْبركَة عيسو وَله دَعَا لَا ليعقوب فَأَي مَنْفَعَة للخديعة هَهُنَا لَو كَانَ لَهُم عقل وَمَا أشبه هَذِه الْقَضِيَّة إِلَّا بحمق الغالية من الرافضة الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَى عليٍّ فَأَخْطَأَ جِبْرِيل وأتى إِلَى مُحَمَّد وَهَكَذَا بَارك إِسْحَاق على عيسو فأخطأت الْبركَة وَمَضَت إِلَى يَعْقُوب فعلى كلتا الطَّائِفَتَيْنِ لعنة الله فَهَذِهِ وُجُوه الْخبث والغش فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَأما وُجُوه الْكَذِب فكثيرة جدا من ذَلِك نسبتهم الْكَذِب إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ نَبِي الله تَعَالَى وَرَسُوله فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع أَولهَا قَوْله لِأَبِيهِ إِسْحَاق أَنا ابْنك عيسو وبكرك فَهَذِهِ كذبتان فِي نسق لأه لم يكن ابْنه عيسو وَلَا كَانَ بكره وثالثة قَوْله لِأَبِيهِ صنعت جَمِيع مَا قلت لي فاجلس وكل من صيدي فَهَذِهِ كذبتان فِي نسق لِأَنَّهُ لم يكن قَالَ لَهُ شَيْئا وَلَا أطْعمهُ من صَيْده وكذبات أخر وَهِي بطلَان بركَة إِسْحَاق إِذْ قَالَ لَهُ تخدمك الْأُمَم وتخضع الشعوب وَتَكون مولي إخْوَتك وَيسْجد لَك بَنو أمك وَقَوله لعيسو ولأخيك تستعبد وَهَذِه كذبات مُتَوَالِيَات وَالله مَا خدمت الْأُمَم قطّ يَعْقُوب وَلَا بنيه بعده وَلَا خضعت لَهُم الشعوب وَلَا كَانُوا موَالِي إِخْوَتهم وَلَا سجد لَهُم وَلَا لَهُ بنوا أمه بل بنوا بني إِسْرَائِيل خدموا الْأُمَم فِي كل بَلْدَة وَفِي كل أمة وهم خضعوا للشعوب قَدِيما وحديثاًُ فِي أَيَّام دولتهم وَبعدهَا فَإِن قَالُوا سَيكون هَذَا قُلْنَا لَهُم ... قد حصلتم على الصغار يَقِينا والأماني بضائع السخفاء ... هَيْهَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ترجى ربيع أَن ستحيا صغارها بِخَير وَقد أعيا ربيعاً كِبَارهَا ... لَا سِيمَا مَعَ تقضي جَمِيع الآماد الَّتِي كَانُوا ينبئون بِأَنَّهَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يرجع أَمرهم وَاعْلَمُوا أَن كل أمة أَدْبَرت فَإِنَّهُم ينتظرون من العودة ويمنون أنفسهم من الرّجْعَة بِمثل مَا تمنى بِهِ بَنو إِسْرَائِيل أَنْفسهَا ويذكرون فِي ذَلِك مواعيد كمواعيدهم فأملٌ كاملٍ وَلَا فرق كانتظار مجوس الْفرس بهزام هما وندراكب الْبَقَرَة وانتظار الروافض للمهدي وانتظار النَّصَارَى الَّذين ينتظرون فِي السَّحَاب وانتظار الصائبين أَيْضا لقصة أُخْرَى وانتظار غَيرهم للسفياني ... تمن يلذ المستهام بِمثلِهِ وَإِن كَانَ لَا يُغني فتيلاً وَلَا يجدي وغيظ على الْأَيَّام كالنار فِي الحشا وَلكنه غيظ الْأَسير على الْقد ... وَأما قَوْله تكون مولي إخْوَتك وَيسْجد لَك بَنو أمك فلعمري لقد صَحَّ ضد ذَلِك جهاراً إِذْ فِي توراتهم أَن يَعْقُوب كَانَ راعي ابْن عَمه لابان ابْن ناحور بن لامك وخادمه عشْرين سنة وَأَنه بعد ذَلِك سجد هُوَ وَجَمِيع وَلَده حاشا من لم يكن خلق مِنْهُم بعد لِأَخِيهِ عيسو مرَارًا كَثِيرَة وَمَا سجد عيسو قطّ ليعقوب وَلَا ملك قطّ أحد من بني يَعْقُوب بني عيسو وَأَن يَعْقُوب تعبد لعيسو فِي جَمِيع خطابه لَهُ وَمَا تعبد قطّ عيسو ليعقوب وَسَأَلَهُ عيسو عَن أَوْلَاده فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب هم أصاغر من الله بهم على عَبدك وَأَن يَعْقُوب طلب رِضَاء عيسو وَقَالَ لَهُ إِنِّي نظرت إِلَى وَجهك كمن نظر إِلَى بهجة الله فارض عني وَاقْبَلْ مَا أهديت إِلَيْك وَأَن عيسو بالحرا قبل هَدِيَّة يَعْقُوب حينئذٍ فَمَا نرى عيسو وبنيه إِلَّا موَالِي يَعْقُوب وبنيه وَكَذَلِكَ ملك بَنو عيسو بِإِقْرَار توراتهم ميراثهم لساعير وَهِي جبال الشراة وَبَنُو لوط ميراثهم بمواب وعمان قبل أَن يملك بَنو إِسْرَائِيل ميراثهم بفلسطين والأردن بدهر طَوِيل ثمَّ لم يزَالُوا يتغلبون على بني إِسْرَائِيل أَو يساوونهم طول دولة بني إِسْرَائِيل بِإِقْرَار كتبهمْ وَمَا ملك بَنو إِسْرَائِيل قطّ بني عيسو وَلَا بني لوط وَلَا بني إِسْمَاعِيل بإقرارهم وَلَقَد بَقِي بَنو عيسو وَبَنُو لوط بِإِقْرَار كتبهمْ فِي ميراثهم بساعير ومواب وعمان بعد هَلَاك دولة بني إِسْرَائِيل وأخرجهم عَن ميراثهم ثمَّ ملكهم بَنو إِسْمَاعِيل إِلَى الْيَوْم فَمَا نرى تِلْكَ الْبركَة كَانَت إِلَّا معكوسة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَلَكِن حق الْبركَة المسروقة الْمَأْخُوذَة بالخبث فِي زعمهم أَن تخرج معكوسة منكوسة فصل ثمَّ ذكر أَن يَعْقُوب إِذْ مُضِيّ إِلَى خَاله لابان بن بثوال خطب إِلَيْهِ ابْنَته راحيل وَقَالَ لَهُ أخدمك سبع سِنِين فِي راحيل ابْنَتك الصُّغْرَى فَقَالَ لَهُ لابان أُعْطِيك إِيَّاهَا أحسن من أَن أعطيها رجلا آخر أقِم عِنْدِي وخدم يَعْقُوب فِي راحيل سبع سِنِين وَصَارَت عِنْده أَيَّامًا يسيرَة فِي محبته لَهَا وَقَالَ يَعْقُوب للابان أَعْطِنِي زَوْجَتي إِذْ قد كملت أيامي فَأدْخل بهَا وَجمع لابان جَمِيع أهل الْموضع وصنع وَلِيمَة فَلَمَّا كَانَ بالْعَشي أَخذ ليئة ابْنَته وزفها إِلَيْهِ وَدخل بهَا فَلَمَّا كَانَ بالغد وَرَأى أَنَّهَا ليئة قَالَ للابان مَاذَا صنعت أَلَيْسَ فِي راحيل خدمتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فَلم خدعتني فَقَالَ لابان لَا نصْنَع هَكَذَا فِي موضعنا أَن نزوج الصُّغْرَى قبل الْكُبْرَى أكمل أُسْبُوع هَذِه وَأُعْطِيك أَيْضا هَذِه بِخِدْمَة سبع سِنِين أُخْرَى وصنع يَعْقُوب كَذَلِك وأكمل أُسْبُوع ليئة وَأعْطى راحيل ابْنَته لتَكون لَهُ زَوْجَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل آبدة الدَّهْر وَهِي إقرارهم أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام تزوج راحيل فأدخلت عَلَيْهِ غَيرهَا فحصلت ليئة إِلَى جنبه بِلَا نِكَاح وَولد لَهَا مِنْهُ سِتَّة ذُكُور وَابْنَة وَهَذَا هُوَ الزِّنَا بِعَيْنِه أَخذ امْرَأَة لم يَتَزَوَّجهَا بخديعة وَقد أعاذ الله نبيه من هَذِه السوءة وأعاذ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مُوسَى وَهَارُون وَدَاوُد وَسليمَان من أَن يَكُونُوا من مثل هَذِه الْولادَة وَهَذَا يشْهد ضَرُورَة أَنَّهَا من توليد زنديق متلاعب بالديانات فَإِن قَالُوا لَا بُد أَنه قد تزَوجهَا إِذْ علم أَنَّهَا لَيست الَّتِي تزوج قُلْنَا فعلي أَن نسمح لكم بِهَذَا فالنسخ ثَابت وَلَا بُد لِأَن نِكَاح أُخْتَيْنِ مَعًا حرَام فِي توراتكم وَقد قَالَ لي بَعضهم فِي هَذَا لم تكن الشَّرَائِع نازلة من الله تَعَالَى قبل مُوسَى فَقلت هَذَا كذب أَلَيْسَ فِي نَص توراتكم أَن الله تَعَالَى قَالَ لنوح عَلَيْهِ السَّلَام كل دَبِيب حَيّ يكون لكم أكله كخضراء العشب أُعْطِيكُم لَكِن اللَّحْم بدمه لَا تأكلوه وَأما دماؤكم فِي أَنفسكُم فسأطلبها فَهَذِهِ شَرِيعَة إِبَاحَة وَتَحْرِيم قبل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فصل وَبعد ذَلِك ذكر أَن يَعْقُوب رَجَعَ من عِنْد خَاله لابان بنسائه وَأَوْلَاده قَالَ وَلما أصبح أجَاز امرأتيه وجاريته وَأحد عشر من وَلَده المخاضة وَبَقِي وَحده وصارعه رجل إِلَى الصُّبْح فَلَمَّا عجز عَنهُ ضرب حق فَخذه فانخلع حق فَخذ يَعْقُوب فِي مصارعته مَعَه وَقَالَ لَهُ خَلِّنِي لِأَنَّهُ قد طلع الْفجْر قَالَ لست أدعك حَتَّى تبَارك عَليّ فَقَالَ لَهُ كَيفَ اسْمك قَالَ يَعْقُوب قَالَ لَهُ لست تدعى من الْيَوْم يَعْقُوب بل إِسْرَائِيل من أجل أَنَّك كنت قَوِيا على الله فَكيف على النَّاس فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب عرفني بِاسْمِك فَقَالَ لَهُ لَو لم تَسْأَلنِي عَن اسْمِي وَبَارك عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْموضع فَسُمي يَعْقُوب ذَلِك الْموضع فنيئيل وَقَالَ رَأَيْت الله تَعَالَى مُوَاجهَة وسلمت نَفسِي وبزغت لَهُ الشَّمْس بعد أَن جَاوز فنيئيل وَهُوَ يعرج من رجله وَلِهَذَا لَا يَأْكُل بَنو إِسْرَائِيل الْعقب الَّذِي على حق الْفَخْذ إِلَى الْيَوْم لِأَنَّهُ ضرب حق فَخذ يَعْقُوب لمس الله وانقباضه قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل شنعة على كل من سلف يقشعر مِنْهَا جُلُود أهل الْعُقُول وَبِاللَّهِ الْعَظِيم لَوْلَا أَن الله عز وَجل قصّ علينا كفرهم بقَوْلهمْ {يَد الله مغلولة} وبقولهم {إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} لما نطقت ألسنتنا بحكاية هَذِه العظائم لَكنا نحكيه منكرين كَمَا نتلوه فِيمَا نَصه عز وَجل لنا تحذيراً من إفكهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذكر فِي هَذَا الْمَكَان أَن يَعْقُوب صارع الله عز وَجل تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَعَن كل شبه لخلقه فَكيف عَن لعب الصراع الَّذِي لَا يَفْعَله إِلَّا أهل البطالة وَأما أهل الْعُقُول فَلَا يَفْعَلُونَهُ لغير ضَرُورَة ثمَّ لم يكتفوا بِهَذِهِ الشُّهْرَة حَتَّى قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أَن الله عز وَجل عجز عَن أَن يصرع بِنَصّ كَلَام توراتهم وحقق ذَلِك قَوْلهم عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ كنت قَوِيا على الله تَعَالَى فَكيف على النَّاس وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أهل الْبَصَر بالعبرانية أَنه لذَلِك سَمَّاهُ إِسْرَائِيل إبل بلغتهم هُوَ اسْم الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَلَا خلاف فَمَعْنَاه أسر الله تذكيراً بذلك الضَّبْط الَّذِي كَانَ بعد المصارعة إِذْ قَالَ لَهُ دَعْنِي فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب لَا أدعك حَتَّى تبَارك عَليّ وَلَقَد ضربت بِهَذَا الْفَصْل وُجُوه المتعرضين مِنْهُم للجدال فِي كل محفل فثبتوا على أَن نَص التَّوْرَاة أَن يَعْقُوب صارع الوهيم وَقَالَ أَن لفظ الوهيم يعبر بهَا عَن الْملك فَإِنَّمَا صارع ملكا من الْمَلَائِكَة فَقلت لَهُم سِيَاق الْكَلَام يبطل مَا تَقولُونَ ضَرُورَة أَن فِيهِ كنت قَوِيا على الله فَكيف على النَّاس وَفِيه أَن يَعْقُوب قَالَ رَأَيْت الله مُوَاجهَة وسلمت نَفسِي وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يعجب من سَلامَة نَفسه إِذْ رأى الْملك وَلَا يبلغ من مس الْملك لما نَص يَعْقُوب أَن يحرم على بني إِسْرَائِيل أكل عروق الْفَخْذ فِي الْأَبَد من أجل ذَلِك وَفِيه أَنه سمي الْموضع بذلك فنيئيل لِأَنَّهُ قَابل إيل وَهُوَ الله عز وَجل بِلَا احْتِمَال عنْدكُمْ ثمَّ لَو كَانَ ملكا كَمَا تدعون عِنْد المناظرة لَكَانَ أَيْضا من الخطاء تصارع نَبِي وَملك لغير معنى فَهَذِهِ صفة المتحدين فِي العنصر لَا صفة الْمَلَائِكَة والأنبياء فَإِن قيل قد رويتم أَن نَبِيكُم صارع ركَانَة بن عبد يزِيد قُلْنَا نعم لِأَن ركَانَة كَانَ من الْقُوَّة بِحَيْثُ لَا يجد أحدا يقاومه فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَلم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْصُوفا بِالْقُوَّةِ الزَّائِدَة فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَام فَقَالَ لَهُ إِن صرعتني آمَنت بك وَرَأى إِن هَذَا من المعجزات فَأمره عَلَيْهِ السَّلَام بالتأهب لذَلِك ثمَّ صرعه للْوَقْت وَأسلم ركَانَة بعد مُدَّة فَبين الْأَمريْنِ فرق كَمَا بَين الْعقل والحمق وَلكُل مقَام مقَال وَلَكِن إِذا أكل الْمَلَائِكَة عنْدكُمْ كسور الْخبز حَتَّى تشتد بهَا قُلُوبهم والشاي وَاللَّبن وَالسمن والفطائر فَمَا يُنكر بَعضهم للصراع مَعَ النَّاس فِي الطرقات وَهَذِه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم وَصِحَّة الْيَقِين بِأَن توراتهم مبدلة فصل وَفِي الْفَصْل الْمَذْكُور أَن الله تَعَالَى قَالَ ليعقوب لست تدعى من الْيَوْم يَعْقُوب لَكِن إِسْرَائِيل ثمَّ فِي السّفر الثَّانِي من توراتهم قَالَ الله تَعَالَى قل لآل يَعْقُوب وَعرف بني إِسْرَائِيل فقد سَمَّاهُ بعد ذَلِك يَعْقُوب وَهَذِه نِسْبَة الْكَذِب إِلَى الله تَعَالَى فصل ثمَّ قَالَ وَبينا إِسْرَائِيل بذلك الْموضع ضاجع رأوبين ابْن ليئة سَرِيَّة أَبِيه بلهة وَهِي أم دَان ونفثالى وهما أَخَوَاهُ وابنا يَعْقُوب ثمَّ أكد هَذَا بِأَن ذكر فِي قرب آخر السّفر الأول ذكر موت يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ومخاطبته لِبَنِيهِ ابْنا ابْنا وَأَن يَعْقُوب قَالَ لرؤابين ابْنه أَنَّك صعدت على سَرِير أَبِيك ووسخت فرَاشه وَلَيْسَ مِمَّا ابتذلت فِرَاشِي تخلص بعد أَن ذكر فِي توراتهم أَن شكيم بن حمور الحوى أَخذ دينة بنت يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام واضطجع مَعهَا وأذلها ثمَّ بعد ذَلِك خطبهَا إِلَى يَعْقُوب أَبِيهَا إِلَى أَن ذكر قتل لاوي وشمعون لحمور وشكيم ابْنه وَجَمِيع أهل مدينته وإنكار يَعْقُوب على ابنيه فتاهما لَهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ معَاذ الله أَن يخذل الله نبيه وَلَا يعصمه فِي حُرْمَة امْرَأَته وابنتيه من هَذِه الفضائح ثمَّ لَا يُنكر ذَلِك بِأَكْثَرَ من التعزيز الضَّعِيف فَقَط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وَأَوْلَاد يَعْقُوب اثْنَا عشر فأولاد ليئة رؤابين بكر يَعْقُوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون وَأَبْنَاء راحيل يُوسُف وبنيامين وابنا بلهة أمة راحيل دَان ونفثالى وابنا زلفة أمة ليئة جادا وأشير هَؤُلَاءِ بني يَعْقُوب الَّذين ولدُوا لَهُ بفدان ارام قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب ظَاهر لِأَنَّهُ ذكر قبل أَن بنيامين لم يُولد ليعقوب إِلَّا باقراشا بِقرب بَيت لحم على أَرْبَعَة أَمْيَال من بَيت الْمُقَدّس بعد رحيله من فدان ارام بدهر وَالله تَعَالَى لَا يتَعَمَّد الْكَذِب وَلَا ينسى هَذَا النسْيَان فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وَكَانَ إِسْرَائِيل يحب يُوسُف لِأَنَّهُ كَانَ ولد لَهُ فِي شيخوخته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْعلَّة توجب محبَّة بنيامين لِأَنَّهُ ولد لَهُ بعد يُوسُف بازيد من سِتّ سِنِين بِنَصّ توراتهم وتوجب مُشَاركَة يساكر وزبولون فِي الْمحبَّة ليوسف لِأَنَّهُ ذكر قبل هَذَا أَن يَعْقُوب قَالَ للابان خَاله خدمتك عشْرين سنة من ذَلِك أَرْبَعَة عشر سنة لابنتيك وست سِنِين لأدواتك وَذكر أَن بعد سِنِين اعطاء ليئة وَبعد سَبْعَة أَيَّام أعطَاهُ راحيل لم يكن بَينهمَا إِلَّا سَبْعَة أَيَّام وَهُوَ اسبوع ليئة فَقَط وَأَن ليئة ولدت لَهُ روابين ثمَّ شَمْعُون ثمَّ لاوي ثمَّ يهوذا ثمَّ قعدت عَن الْوَلَد وَأَن راحيل أَعْطَتْ بعد ذَلِك يعفوب أمتها بلهة فَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ دانا ثمَّ نفثالى ثمَّ أَعْطَتْ ليئة أمتها زلفة ليعقوب فَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ جاداً ثمَّ أُشير ثمَّ أطلقت لَهُ راحيل مماسة ليئة فِي لقاح أَخَذتهَا مِنْهَا فَولدت لَهُ راحيل يُوسُف ثمَّ بعد ولادَة يُوسُف ابْتَدَأَ يَعْقُوب بمعاملة خَاله لابان على أُجْرَة ذكرهَا لرعاية غنمه فرعاها لَهُ سِتّ سِنِين هَذَا كُله نَص توراتهم فصح أَن يُوسُف كَانَ لَهُ عِنْد تَمام السِّت سِنِين سِتّ سِنِين فَقَط بِلَا شكّ وَإِن جَمِيع أَوْلَاد يَعْقُوب حاشا بنيامين فَإِنَّمَا ولدُوا وَلَا بُد فِي السَّبع سِنِين الَّتِي كَانَت قبل السِّت سِنِين الْمَذْكُورَة بِلَا شكّ وَالْأَوْلَاد سَبْعَة فَفِي كل عشرَة أشهر ولدت ولدا لَا يُمكن أقل من هَذَا فَلَا شكّ فِي أَن زابولون لَا يزِيد على يُوسُف إِلَّا سنة وَاحِدَة فَقَط وَلَا يزِيد عَلَيْهِ يساكر إِلَّا سنتَيْن فَقَط وَأَقل هَذَا على أَن تلغى الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا أَن ليئة قعدت فِيهَا عَن الْوَلَد والمدة الَّتِي اعتزلها فِيهَا يَعْقُوب وَلَا بُد أَن لَهَا مِقْدَارًا مَا فعلى هَذَا فزابلون ويوسف ولدا مَعًا والمدة تضييق عَن هَذِه الْقِسْمَة فَفِي هَذَا الْخَبَر كذب مَقْطُوع بِهِ ضَرُورَة وَلَا بُد وَلَا يجوز قَلِيل الْكَذِب وَلَا كَثِيره على الله تَعَالَى وَلَا على نَبِي من الْأَنْبِيَاء فصح أَنَّهَا مفتعلة مبدلة وَلَو كَانَ لهَذَا الْخَبَر وَجه وَإِن غمض ومخرج وَإِن بعد أَو أمكنت فِيهِ حِيلَة أَو سَاغَ فِيهِ تَأْوِيل مَا ذَكرْنَاهُ ونسأل الله الْعَافِيَة وَفِي توراتهم عِنْد ذكر أَوْلَاد عيسو خبال شَدِيد وتخليط فِي الْأَسْمَاء والوالدات إِلَّا أَنه رُبمَا خرج على وُجُوه بعيدَة ضَعِيفَة فَلم نعتن بإيراده لذَلِك وَلَكِن نبهنا عَلَيْهِ فَالْأَظْهر الْأَغْلَب فِيهِ الْكَذِب وَأَنه إِيرَاد جَاهِل بِتِلْكَ الْقَضِيَّة بِلَا شكّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فصل ثمَّ ذكر بيع إخْوَة يُوسُف ليوسف وَأَن إخْوَته كَانُوا مُجْتَمعين حِينَئِذٍ يرعون أذوادهم ثمَّ قَالَ وَفِي ذَلِك الزَّمَان اعتزل يهوذا عَن إخْوَته وَكَانَ مَعَ رجل من أهل عدلام يَدعِي اسْمه حيرة فَبَصر فِي ذَلِك الْموضع بابنة رجل كنعاني اسْمه شوع فَتَزَوجهَا وضاجعها فَحملت وَولدت ولدا اسْمه عيرًا ثمَّ حملت وَوضعت ثَانِيًا وَسَماهُ أنان ثمَّ حملت وَوضعت وسمته شيلة ثمَّ أَمْسَكت عَن الْوَلَد فزوج يهوذا عيرًا بكر وَلَده امْرَأَة وَكَانَ عيرًا بكر يهذا مذنباً بَين يَدي السَّيِّد وَلذَلِك قتل فَقَالَ يهوذا لِابْنِهِ أونان أَدخل إِلَى امْرَأَة أَخِيك وضاجعها لتحي نَسْله فَلَمَّا علم أَنه لَا ينْسب إِلَيْهِ من ولد لَهُ مِنْهَا دخل إِلَى مرأة أَخِيه وَكَانَ يعْزل عَنْهَا لِئَلَّا يُولد لِأَخِيهِ مِنْهُ وَلذَلِك أهلكه السَّيِّد للفاحشة الَّتِي اطلع عَلَيْهَا مِنْهُ فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ يهوذا لثامار كنته كوني أرملة فِي بَيت أَبِيك إِلَى أَن يكبر ابْني شيلة وَكَانَ يتَوَقَّع أَن يُصِيبهُ من الْمَوْت مَا أصَاب أَخَاهُ إِن ضاجعها فسكنت فِي بَيت أَبِيهَا وَبعد أَيَّام كَثِيرَة توفيت بنت شوع امْرَأَة يهوذا فتصبر يهوذا وتسلى عَنهُ حزنها وَتوجه إِلَى جزار أغنامه مَعَ حيرة صديقه العدلامي إِلَى تمنة وَقيل لثامار إِن خنتك صاعد إِلَى تمنة ليجز أغنامه فَأَلْقَت عَن نَفسهَا ثِيَاب الأرامب وتقنعت وَقَعَدت فِي مجمع الطّرق المسلوكة إِلَى تمنة فعلت ذَلِك مذ كبر شيلة وَلم تزوج مِنْهُ فَلَمَّا رَآهَا يهوذا ظَنّهَا زَانِيَة وَكَانَت غطت وَجههَا لِئَلَّا تعرف فَمَال إِلَيْهَا وَقَالَ ائذني لي فِي مضاجعتك وَكَانَ يجهل أَنَّهَا كنته فَقَالَت لَهُ مَاذَا تُعْطِينِي إِن أمكنتك من مضاجعتي قَالَ لَهَا أبْعث إِلَيْك جدياً من الْغنم فَقَالَت نعم إِن أَعْطَيْتنِي رهنا إِلَى أَن تبْعَث مَا وعدت فَقَالَ لَهَا يهوذا وَمَا أرهنه لَك قَالَت أرهن لي خاتمك وحزامك والعصا الَّتِي بِيَدِك فحبلت من مضاجعة وَاحِدَة ثمَّ انْطَلَقت وَأَلْقَتْ الشكل الَّتِي كَانَت فِيهِ وعادت إِلَى شكل الأرامل وَبعث يهوذا الجدي مَعَ صديقه العدلامي ليَأْخُذ من الْمَرْأَة الرَّهْن الَّذِي وَضعه عِنْدهَا فَسَأَلَ عَنْهَا إِذْ لم يجدهَا من سكان ذَلِك الْموضع فَقَالَ أَيْن الْمَرْأَة الْقَاعِدَة فِي مجمع الطّرق فَقَالُوا لَهُ لم تكن فِي هَذَا الْموضع زَانِيَة فَانْصَرف إِلَى يهوذا فَقَالَ لَهُ لم أَجدهَا وَقَالَ لي سكان ذَلِك الْموضع لم تكن هَهُنَا زَانِيَة فَقَالَ لَهُ يهوذا تَأْخُذ مَا عِنْدهَا مَخَافَة ان تكون ضحكة فَإِنِّي قد أرْسلت الجدي إِلَيْهَا وَأَنت تَقول لم أَجدهَا وَبعد ثَلَاثَة أشهر قيل ليهوذا إِن كنتك ثامار قد زنت وَقد بدا بَطنهَا يظْهر فَقَالَ يهوذا أخرجوها لتحرق فَلَمَّا أخرجت بعثت إِلَى يهوذا إِنَّمَا حبلت من الَّذِي لَهُ هَذَا فاعرف هَذَا الْخَاتم والزنار والعصا فَلَمَّا عرف قَالَ هِيَ أعدل مني إِذْ منعتها شيلة وَلَدي وَلم يضاجحعها بعد ذَلِك فَلَمَّا أدركتها الْولادَة ظهر فِيهَا توأمان فَفِي وَقت خروجهما بدر أَحدهمَا وَأخرج يَده فَربطت الْقَابِلَة فِي يَده خيطاً أرجواناً وَقَالَت هَذَا يخرج أَولا فَأدْخل يَده إِلَى تفسه وَأخرج الْوَلَد الآخر فَقَالَت لَهُ الْقَابِلَة لم افترضت أَخَاك فَسُمي فارصاً وَبعده خرج الَّذِي ربط فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يَده الْخَيط الأرجوان وَسمي زارح تمّ الْفَصْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ثمَّ بعد فُصُول وقصص ذكر أَوْلَاد يَعْقُوب المولودين بالشأم الَّذين دخلُوا مَعَه مصر إِذْ بعث يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فيهم كلهم فَذكر يهوذا وبنيه الثَّلَاثَة الْأَحْيَاء شيلة وفارص وزارح وَذكر لفارص هَذَا نَفسه اثْنَيْنِ وهما حصرون وحامول ابْنا فارص ابْن يهوذا الْمَذْكُور قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَفِي هَذَا الْكَلَام عَار وفضيحة مكذوبة وَكذب فَاحش مفرط الْقبْح فَأَما الْعَار فَالَّذِي ذكر عَن يهوذا من طلبه الزِّنَا بِامْرَأَة لقيها فِي الطَّرِيق على أَن يُعْطِيهَا جدياً ثمَّ جوره فِي الحكم عَلَيْهَا بالحرق فَلَمَّا علم أَنه صَاحب الْخصْلَة أسقط الحكم عَن نَفسه وعنها ثمَّ شنعة أُخْرَى وَهِي قَوْله إِن ونان بن يهوذا لما عرف أَنه لَا ينْسب إِلَيْهِ من يُولد لَهُ من امْرَأَته الَّتِي تزَوجهَا بعد موت أَخِيه جعل يعْزل عَنْهَا وَهَذَا عجب جدا أَن تَلد امْرَأَة رجل من زَوجهَا من لَا ينْسب إِلَيْهِ لَكِن إِلَى غَيره مِمَّن قد مَاتَ قبل أَن يَتَزَوَّجهَا هَذَا فَلَعَلَّ فيهم الْآن ولادات وأنساب فِي كتبهمْ مثل هَذِه فَهَذِهِ وَالله أُمُور سمجة ثمَّ دع يهوذا فَلَيْسَ بنبيا وَلَا يُنكر مِمَّن لَيْسَ نَبيا مثل هَذَا إِنَّمَا الشَّأْن كُله وَالْعجب فِي أَنهم مطبقون بأجمعهم قطعا على أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام بن أشماي بن عونين بن يوغز بن بشاي بن مخشون ابْن عمينا ذاب بن نورام بن حصرون بن فارص الْمَذْكُور ابْن يهوذا فَجعلُوا الرسولين الفاضلين مولودين من تِلْكَ الْولادَة الخبيثة رَاجِعين إِلَى ولادَة الزِّنَا ثمَّ أقبح مَا يكون الزِّنَا رجل مَعَ امْرَأَة وَلَده حاشى لله من هَذَا الْإِفْك المفتري وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم إِذْ قَرّرته على هَذَا الْفَصْل إِن هَذَا كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ فَقلت لَهُ فَلم امْتنع من مضاجعتها بعد ذَلِك وَكَيف يكون مُبَاحا وَهِي لم تعرفه بِنَفسِهَا وَلَا عرفهَا عِنْد تِلْكَ الْمُعَامَلَة الخبيثة بالجدي المسخوط وَالرَّهْن الملعون وَإِنَّمَا وَطئهَا على أَنَّهَا زَانِيَة إِذا اغتلم إِلَيْهَا لَا على أَنَّهَا امْرَأَة الْمَيِّت وَلَده إِلَّا إِن قُلْتُمْ إِن الزِّنَا جملَة كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ فقد قرت عيونكم فَسكت خزيان كالحاً وتالله مَا رَأَيْت أمة تقر بِالنُّبُوَّةِ وتنسب إِلَى الْأَنْبِيَاء مَا ينْسبهُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة فَتَارَة ينسبون إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه تزوج إِلَى أُخْته فَولدت لَهُ إِسْحَق عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى يَعْقُوب أَنه تزوج امْرَأَة فدست إِلَيْهِ أُخْرَى لَيست امْرَأَته فَولدت لَهُ أَوْلَادًا مِنْهُم انتسل مُوسَى وَهَارُون وَسليمَان وَغَيرهم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى روبان بن يَعْقُوب أَنه زنى بربيبته زوج النَّبِي أَبِيه وَأم أَخَوَيْهِ ثمَّ ينسبون إِلَى نبيه يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فسق بهَا كرها وافتضها غَلَبَة ثمَّ ينسبون إِلَى يهوذا مَا ذكرنَا من زِنَاهُ بِامْرَأَة ولديه فحبلت وَولدت من الزِّنَا ولدا مِنْهُ انتسل دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى يُوشَع بن نون أَنه تزوج رحب الزَّانِيَة الْمَشْهُورَة الموقفة نَفسهَا للزِّنَا لكل من دب وهب فِي مَدِينَة أرِيحَا ثمَّ ينسبون إِلَى عمرَان بن فهث بن لاوي أَنه تزوج عمته أُخْت وَالِده وَاسْمهَا يوحانذ ولدت لجده بِمصْر فولد لَهُ مِنْهَا هَارُون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام هَكَذَا ذكر نَسَبهَا فِي قرب آخر السّفر الرَّابِع ثمَّ ينسبون دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه زنى جهاراً بِامْرَأَة رجل من جنده مُحصنَة وَزوجهَا حَيّ وَأَنَّهَا ولدت مِنْهُ من ذَلِك الزِّنَا ابْنا ذكرا ثمَّ مَاتَ ذَلِك الفرخ الطّيب ثمَّ تزَوجهَا وَهِي أم سُلَيْمَان ابْن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى أمثون بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنه فسق بسراري أَبِيه عَلَانيَة أَمَام النَّاس ثمَّ ينسبون إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام العهر وَأَنه تزوج نسَاء لَا يحل لَهُ زواجهن وَأَنه بنى لَهُنَّ بيُوت الْأَوْثَان وَقرب لَهُنَّ القرابين للأوثان مَعَ مَا ذكرنَا قبل وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى من نسبتهم إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِم السَّلَام وَلَكِن أَيْن هَذَا مِمَّا فِي توراتهم من نسبتهم لعب الصراع إِلَى الله تَعَالَى مَعَ يَعْقُوب وَالْكذب المفضوح فِيمَا وعده وَأخْبر بِهِ فعلى من يصدق بِشَيْء من كل هَذَا الْإِفْك لعنة الله وغضبه فَأُعْجِبُوا لعَظيم كفر هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَمَا افتراه الْكَفَرَة أسلافهم الإنتان على الله تَعَالَى وعَلى رسله عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ على كل كتاب حقق فِيهِ شيءٌ من هَذَا وعَلى كَاتبه لعنة الله وغضبه عدد كل شيءٍ خلق الله فأحمدوا الله معاشر الْمُسلمين على مَا هدَاكُمْ لَهُ من الْملَّة الزهراء الَّتِي لم يشبها تَبْدِيل وَلَا تَحْرِيف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما الكذبة الْفَاحِشَة المفضوحة الَّتِي هِيَ من الْمحَال الْمَحْض والافتراء الْمُجَرّد فَهُوَ مَا أذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فتأملوه تروا عجبا ذكر فِي توراتهم نصا أَن يهوذا بن يَعْقُوب كَانَ مَعَ إخْوَته يرعون أذوادهم إِذْ باعوا أَخَاهُم يُوسُف وَأَن يهوذا أَشَارَ عَلَيْهِم بِبيعِهِ وإخراجه من الْجب ليخلصه بذلك من الْمَوْت ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَن يهوذا اعتزل عَن إخْوَته وَصَارَ مَعَ حيرة العدلامي وَرَأى ابْنة رجل كنعاني اسْمه شوع فَتَزَوجهَا وَولدت لَهُ ولد اسْمه عير ثمَّ ولدا آخر اسْمه أونان ثمَّ ولدا آخر اسْمه شيلة كَمَا ذكرنَا آنِفا حرفا حرفا وَذكر بعد ذَلِك أَن عير تزوج امْرَأَة اسْمهَا ثامار وَدخل بهَا وَكَانَ مذنباً وَلذَلِك قَتله الله تَعَالَى فَزَوجهَا من أَخِيه أونان فَكَانَ يعْزل عَنْهَا فَمَاتَ لذَلِك وَبقيت أرملة ليكبر شيلة وَتزَوج مِنْهُ وَأَن شيلة كبر وَلم تزوج مِنْهُ وَقد اعْترف بذلك يهوذا إِذْ قَالَ هِيَ أعدل مني إِذْ منعتها شيلة ابْني وَذكر بعد ذَلِك أَنَّهَا تحيلت حَتَّى زنت بيهوذا نَفسه وَالِد زَوجهَا وحبلت مِنْهُ وَولدت مِنْهُ توءمين فارص وزارح كَمَا ذكرنَا قبل ثمَّ ذكر بعد ذَلِك نسل يَعْقُوب وَأَوْلَاد أَوْلَاده المولودين بِالشَّام ودخلوا مَعَه مصر فَذكر فيهم حصرون وحامول ابْني فارص بن يهوذا فاضبطوا هَذَا وَذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ بلغ سِتّ عشرَة سنة كَانَ يرْعَى ذوداً مَعَ إخْوَته عِنْد أَبِيه وَأَنَّهُمْ باعوه فصح أَنه كَانَ ابْن سبع عشرَة سنة إِذْ باعوه وَهَكَذَا ذكر فِي توراتهم ثمَّ ذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا دخل على فِرْعَوْن وَفسّر لَهُ رُؤْيَاهُ فِي الْبَقَرَات والسنابل وولاه أَمر مصر ابْن ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ ذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ دخل أَبوهُ مصر مَعَ جَمِيع أَهله ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة هَذَا مَنْصُوص فِيهَا بِلَا خلاف من وَاحِد مِنْهُم فصح يَقِينا أَنه لم يكن بَين دُخُول يَعْقُوب مَعَ نَسْله مصر وَبَين بيع يُوسُف إِلَّا اثْنَان وَعِشْرُونَ سنة وَرُبمَا أشهر يسيرَة زَائِدَة لَا أقل وَلَا أَكثر هَذَا حِسَاب ظَاهر لَا يخفى على جَاهِل وَلَا عَالم وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ذكر فِي توراتهم أَن فِي هَذِه الْمدَّة تزوج يهوذا بنت شوع وَولدت لَهُ ولدا ثمَّ ثَانِيًا ثمَّ ثَالِثا وَأَن الْأَكْبَر بلغ فزوج زَوْجَة ثمَّ مَاتَ بِعَدَد دُخُوله بهَا فزوجت بعده من أَخِيه فَكَانَ يعْزل عَنْهَا فَمَاتَ وَبقيت مُدَّة حَتَّى كبر الثَّالِث وَلم تزوج مِنْهُ فزنت بيهوذا وَالِد زَوجهَا فولد لَهُ مِنْهَا توءمان ثمَّ ولد لأحد ذَيْنك التوءمين ابْنَانِ وَهَذَا محَال مُمْتَنع لَا خَفَاء بِهِ لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي طبيعة بني بشر وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فِي الجبلة والبنية بِوَجْه من الْوُجُوه هبك أَن يهوذا اعتزل عَن إخْوَته وَتزَوج بنت شوع بائر بيع يُوسُف بِيَوْم وحبلت زَوجته وَولدت لَهُ الْوَلَد الْأَكْبَر فِي عامها الثَّانِي ثمَّ الثَّانِي فِي عَام آخر ثمَّ الثَّالِث فِي عَام ثَالِث وهبك أَن الْأَكْبَر زوج وَله اثْنَا عشر عَاما من جملَة اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما وَبَقِي مَعهَا مَا بَقِي ثمَّ زوجت منن الثَّانِي وَله اثْنَا عشر عَاما فَبَقيَ يعْزل عَنْهَا لِئَلَّا ينْسب إِلَى أَخِيه من يُولد لَهُ مِنْهَا ثمَّ مَاتَ وَبقيت تنْتَظر أَن يكبر شيلة وَتزَوج مِنْهُ حَتَّى طَال عَلَيْهَا وَرَأَتْ أَنه قد كبر وَلم تزوج مِنْهُ وَهَذَا لَا يكون الْبَتَّةَ فِي أقل من عَام فَهَذِهِ أَرْبَعَة عشر عَاما ثمَّ زنت بيهوذا فَحملت فَولدت فَهَذَا عَام أَو أقل بِيَسِير فَلم يبْق من الِاثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما إِلَّا سَبْعَة أَعْوَام إِلَى ثَمَانِيَة أَعْوَام لَا أَكثر الْبَتَّةَ فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع فِي الْعقل أَن يُوجد لرجل ابْن ثَمَان سنَن أَو سبع سِنِين ولدان مَا رَأَيْت أَجْهَل بِالْحِسَابِ من الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة وحاشى لله أَن يكون هَذَا الْخَبَر الْبَارِد الْكَاذِب عَن الله تَعَالَى أَو عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا عَن إِنْسَان يعقل مَا يَقُول ويستحي من تعمد الْكَذِب الفاضح ونسأل الله الْعَافِيَة فصل وَبعد ذَلِك ذكر عدد بني يَعْقُوب المولودين بالشأم عِنْد خَاله لابان الداخلين مَعَه مصر فَذكر الَّذين ولدت لَهُ ليئة وهم سِتّ ذُكُور وَابْنَة وَاحِدَة وَذكر أَوْلَاد هَؤُلَاءِ السِّتَّة وَسَمَّاهُمْ فَذكر لرأوبين أَرْبَعَة ذُكُور ولشمعون سِتَّة ذُكُور وللاوي ثَلَاثَة ذُكُور وليهوذا ثَلَاثَة ذُكُور وَابْني ابْن لَهُ فهم خَمْسَة وليساخر أَرْبَعَة ذُكُور ولزابلون ثَلَاثَة ذُكُور الْمُجْتَمع من بني ليئة فِي نَص توراتهم بعقب تسميتهم هَؤُلَاءِ بَنو ليئة وَعدد أَوْلَادهَا وبناتها ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ هَكَذَا نَص توراتهم وَهَذَا خطاء فِي الْحساب تَعَالَى الله عَن أَن يخطىء فِي الْحساب أَو أَن يخطىء فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فصح أَنَّهَا من توليد جَاهِل غث أَو من عابث سخر بهم وكشف سواءتهم فصل ثمَّ ذكر بعد هَذَا أَوْلَاد راحيل فَذكر يُوسُف وبنيامين وبنيهما قَالَ وهم أَرْبَعَة عشر وَذكر أَوْلَاد زلفي عَاد وَأَشَارَ وبنيهما قَالَ وهم سِتَّة عشر وَذكر أَوْلَاد بلهة دَان نفتالى وبنيهما قَالَ وهم سَبْعَة ثمَّ وصل ذَلِك بِأَن قَالَ وَعدد نسل يَعْقُوب الَّذين دخلُوا مَعَه مصر سوى نسَاء أَوْلَاده سِتَّة وَسِتُّونَ وابنا يُوسُف اللَّذَان ولدا لَهُ بِمصْر اثْنَان فَجَمِيع الداخلين مصر سَبْعُونَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا خطأ فَاحش لِأَن الْمُجْتَمع من الْأَعْدَاد الْمَذْكُورَة تِسْعَة وَسِتُّونَ فَإِذا سَقَطت مِنْهُم وَلَدي يُوسُف اللَّذَان ولدا لَهُ بِمصْر بَقِي سَبْعَة وَسِتُّونَ وَهُوَ يَقُول سِتَّة وَسِتُّونَ فَهَذِهِ كذبة ثمَّ قَالَ فَجَمِيع الداخلين مَعَه إِلَى مصر سَبْعُونَ فَهَذِهِ كذبة ثَانِيَة وَقد قدمنَا أَن الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة كَانَ ضَعِيف البصارة بِالْحِسَابِ وَلَيْسَت هَذِه صفة الله عز وَجل وَلَا صفة من مَعَه مسكة عقل تردعه عَن الْكَذِب وتعمده على الله تَعَالَى وَعَن تكلّف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مَا لَا يحسن وَلَا يقوم بِهِ وَذكر فِي هَذَا الْفَصْل قصَّة أُخْرَى فِيهَا الِاعْتِرَاض إِلَّا أَنَّهَا تخرج على وَجه مَا فَلذَلِك لم نفرد لَهَا فصل ا وَهِي أَنه ذكر أَوْلَاد بنيامين فَقَالَ بالع وباكر واشبيل واجير ونعمان وابجي وروش ومفيم وحفيم وَارِد ثمَّ ذكر فِي السّفر الرَّابِع من توراتهم فَذكر بالع واشبيل واجير ومفيم وحفيم فَقَط ثمَّ قَالَ وابنا بالع ازد ونعمان ابْني بالع فَإِن لم يكن هَذَا على أَنه لم ينسل من أُولَئِكَ الْعشْرَة إِلَّا خَمْسَة الَّذين ذكرهم فِي الرَّابِع وَإِن ازد ونعمان ابْني بالع هما غير ازد ونعمان ابْني بنيامين وَإِلَّا فَهِيَ كذبة وَقد قُلْنَا إِن كل مَا يُمكن تَخْرِيجه بِوَجْه وَإِن بعد فلسنا نخرجهُ فِي فضائح كِتَابهمْ المكذوب فصل ثمَّ ذكر بركَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام على بنيه وَأَنه وضع يَده الْيُمْنَى على رَأس افرايم ابْن يُوسُف واليسرى على رَأس منسي بن يُوسُف وَإِن ذَلِك شقّ على يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ لَا يحسن هَذَا يَا أَبَت لِأَن هَذَا بكر وَلَدي فَاجْعَلْ يَمِينك عَن رَأسه يَعْنِي منسي فكره ذَلِك يَعْقُوب وَقَالَ علمت يَا بني علمت وستكثر ذُرِّيَّة هَذَا وتعظم وَلَكِن أَخُوهُ الْأَصْغَر يكون أَكثر مِنْهُ نَسْلًا وعدداً يَعْنِي أَن افرايم يكون عدد نَسْله أَكثر من عدد نسل منسي ثمَّ ذكر فِي مصحف يُوشَع أَن بني منسي كَانُوا إِذا دخلُوا الشَّام وَقسمت عَلَيْهِم الأَرْض اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مقَاتل وَسَبْعمائة وَإِن بني أفرايم كَانُوا حِينَئِذٍ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَخَمْسمِائة وَذكر فِي كتاب لَهُم مُعظم عِنْدهم اسْمه سفطيم أَنه ذكر بني إِسْرَائِيل قبل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعَة من مُلُوك بني منسي وَأَرْبَعَة من بني أفرايم وَأَن من جملَة بني منسي الْمَذْكُورين رجلا اسْمه مِفْتَاح بن علفاذ قتل من بني أفرايم اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف مقَاتل حَتَّى كَاد يَسْتَأْصِلهُمْ وَفِي كتاب لَهُم آخر مُعظم عِنْدهم أَيْضا اسْمه ملاخيم أَنه ملك عشرَة أَسْبَاط من بني إِسْرَائِيل بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن ذهب الأسباط الْمَذْكُورين وَسبوا من بني أفرايم ملكَيْنِ كَانَت مدتهما جَمِيعًا سِتَّة وَعشْرين سنة فَقَط وهما باريعام وَابْنه باباط ووليهم من بني منشا خَمْسَة مُلُوك واتصلت دولتهم مائَة عَام وعامين وهم زحربا بن يربعم بن يؤاش بن يَهو ياحاز بن يَهو كلهم ملك بن ملك بن ملك بن ملك بن ملك وَلم يكن فِيمَن ملك الأسباط الْعشْرَة أقوى ملكا من هَؤُلَاءِ المنشانين وَهَذَا ضد قَول يَعْقُوب الَّذِي حكوه عَنهُ وحاشى لله أَن يكذب نَبِي فِيمَا ينذر بِهِ من الله عز وَجل فَإِن قَالُوا إِن يُوشَع بن نون وربور انسه وملحي المورشي النَّبِي كلهم كَانَ من بني أفرايم وَكَانَ بَنو أفرايم إِذْ أخرجُوا من مصر أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل ومائتي مقَاتل وَكَانَ بَنو منشا يَوْمئِذٍ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف مقَاتل ومائتي مقَاتل قُلْنَا لم تَذكرُوا أَن يَعْقُوب قَالَ يكون الشّرف فِي نسل أفرايم إِنَّمَا حكيتم أَنه قَالَ إِن أفرايم يكون أَكثر نَسْلًا وعددا من منشا على التَّأْبِيد والعموم وإيصال الْبركَة لَا على وَقت خَاص قَلِيل ثمَّ يعود الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فَتبْطل الْبركَة وَيصير الْمُبَارك مُدبرا وَالْمُدبر مُبَارَكًا فِي الْأَبَد فصل ثمَّ ذكر عَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لرأوبين فِي ذَلِك الْوَقْت أَنْت أول الْمَوَاهِب مفضل فِي الشّرف فِي الْعِزّ وَلَا تفضل منهملة مَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَلَام يكذب أَوله آخِره ثمَّ ذكر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ليهوذا حِينَئِذٍ لَا تَنْقَطِع من يهوذا المخصرة وَلَا من نَسْله قَائِد حَتَّى يأتيني الْمَبْعُوث الَّذِي هُوَ رَجَاء الْأُمَم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا كذب قد انْقَطَعت من ولد يهوذا المخصرة وانقطعت من نَسْله القواد وَلم يَأْتِ الْمَبْعُوث الَّذِي هُوَ رجاءهم وَكَانَ انْقِطَاع الْملك من ولد يهوذا من عهد بخت نصر مذ أَزِيد من ألف عَام وَخَمْسمِائة عَام إِلَّا مُدَّة يسيرَة وَهِي مُدَّة زرباءيل بن صلثاءيل فَقَط وَقد قررت على هَذَا الْفَصْل أعلمهم وأجدلهم وَهُوَ أشموال بن يُوسُف اللاوي الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن النفرال فِي سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة فَقَالَ لي لم تزل رُؤْس الجواليت ينتسلون من ولد دَاوُود وهم من بني يهوذا وَهِي قيادة وَملك ورياسة فَقلت هَذَا خطأ لِأَن رَأس الجالوت لَا ينفذ أمره على أحد من الْيَهُود وَلَا من غَيرهم وَإِنَّمَا هِيَ تَسْمِيَة لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَا لَهُ قيادة وَلَا بِيَدِهِ مخصرة فَكيف وَبعد احرب بِابْن برام لم يكن من بني يهوذا وَال أصلا مُدَّة من سِتَّة أَعْوَام ثمَّ بعده نَشأ الملقب صدقيا بن يوشا لم يكن مِنْهُم لأحد لَهُ معِين وَلَا من يملك على أحد اثْنَيْنِ وَسبعين عَاما مُتَّصِلَة حَتَّى ولي زرباييل ثمَّ انْقَطع الْوُلَاة مِنْهُم جملَة لَا رَأس جالوت وَلَا غَيره مُدَّة وُلَاة الهارونيين ملكا ملكا مئين من السنين لَيْسَ لأحد من يهوذا فِي ذَلِك أَمر إِلَى دولة الْمُسلمين أَو قبلهَا بِيَسِير فأوقعوا اسْم رَأس الجالوت على رجل من بني دَاوُد إِلَى الْيَوْم إِلَّا أَن بعض المؤرخين القدماء ذكر أَن هردوس وابنيه وَابْن ابْنه اعريفاس بن اعريفاس كَانُوا من بني يهوذا وَالْأَظْهَر أَنهم من الرّوم عِنْد كل مؤرخ فَظهر كذب هَؤُلَاءِ الأنذال بِيَقِين وحاشى لله أَن يكذب نَبِي فصل ثمَّ ذكر أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للاوي وشمعون سأبددهما فِي يَعْقُوب وأفرقهما فِي إِسْرَائِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما لاوي فَكَانَ نَسْله مبدداً فِي بني إِسْرَائِيل كَمَا ذكر وَأما بَنو شَمْعُون فَلَا بل كَانُوا مُجْتَمعين فِي الْبَلَد الَّذِي وَقع لَهُم كَسَائِر الأسباط وَلَا فرق وَلَيْسَ إنذار النُّبُوَّة مِمَّا يكذب فِي قصَّة وَيصدق فِي أُخْرَى هَذِه صِفَات إنذارات الْحساب القاعدين على الطّرق للنِّسَاء وَلمن لَا عقل لَهُ فصل وَقَالَ فِي السّفر الثَّانِي من توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قل لفرعون السَّيِّد يَقُول لإسرائيل بكر وَلَدي وَيَقُول لَك ائْذَنْ لوَلَدي ليخدمني وَإِن كرهت الْآن سأهلك بكر ولدك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا عجب ناهيك بِهِ لَيْت شعري ماذ يُنكرُونَ على النَّصَارَى بعد هَذَا وَهل طرق لِلنَّصَارَى سَبِيل الْكفْر فِي أَن يجْعَلُوا لله ولدا ونهج لَهُم طَرِيق التَّثْلِيث على مَا ذكرنَا قبل هَذَا إِلَّا هَذِه الْكتب الملعونة المبدلة إِلَّا أَن النَّصَارَى لم يدعوا بنوة لله إِلَّا لوَاحِد أَتَى بمعجزات عَظِيمَة وَأما هَذِه الْكتب السخيفة وكل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تدين بهَا فَإِنَّهُم ينسبون بنوةً لله إِلَى جَمِيع بني إِسْرَائِيل وهم أوسخ الْأُمَم وأرذلهم وكفرهم أوحش وجهلهم أفحش فصل ثمَّ ذكر أَن هَارُون ألْقى الْعَصَا بَين يَدي فِرْعَوْن وعبيده فَصَارَت حَيَّة فدعى فِرْعَوْن بالعلماء والسحرة وفعلوا بالرقى الْمصْرِيّ مثل ذَلِك وَلَكِن عَصا مُوسَى ازدرت عصيهم ثمَّ ذكر مُوسَى وَهَارُون فعلا مَا أَمرهمَا السَّيِّد فَرفع الْعَصَا وَضرب بهَا مَاء النَّهر بَين يَدي فِرْعَوْن وعبيده فَعَاد دَمًا وَمَات كل حوت فِيهِ ونتن النَّهر وَلم يجد المصريون سَبِيلا إِلَى الشّرْب مِنْهُ وَصَارَ المَاء فِي جَمِيع أَرض مصر دَمًا فَفعل مثل ذَلِك سحرة مصر برقاهم ثمَّ ذكر أَن هَارُون مد يَده على مياه مصر وَخرجت الضفادع مِنْهَا وغطت أَرض مصر فَفعل السَّحَرَة برقاهم مثل ذَلِك وَأَقْبلُوا بالضفادع على أَرض مصر ثمَّ ذكر أَن هَارُون مد يَده بالعصا وَضرب بهَا غُبَار الأَرْض فتخلق مِنْهَا بعوض فِي الْآدَمِيّين والأنعام وَعَاد جَمِيع الْغُبَار بعوضاً فِي جَمِيع أَرض مصر فَلم يفعل السَّحَرَة مثل ذَلِك برقاهم وراموا اختراع البعوض فَلم يقدروا عَلَيْهِ فَقَالَ السَّحَرَة لفرعون هَذَا من صنع الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الآبدة المصمئلة والصيلم المطبقة وَلَو صَحَّ هَذَا لبطلت نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بل نبوة كل نَبِي وَلَو قدر السَّحَرَة على شيءٍ من جنس مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِي لَكَانَ بَاب السَّحَرَة وَبَاب مدعي النُّبُوَّة وَاحِدًا وَلما انْتفع مُوسَى بازدراء عَصَاهُ لعصييهم وَلَا بعجزهم عَن البعوض وَقد قدرُوا على قلب العصي حيات وعَلى إِعَادَة المَاء دَمًا وعَلى الْمَجِيء بالضفادع وَلما كَانَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِم بنبوته أَكثر من أَنه أعلم بذلك الْعَمَل مِنْهُم فَقَط وَلَو كَانَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الكذابون الملعونون لَكَانَ فِرْعَوْن صَادِقا فِي قَوْله إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر وَلَا مَنْفَعَة لَهُم فِي قَول السَّحَرَة فِي البعوض هَذَا صنع الله لِأَنَّهُ يُقَال لبني إِسْرَائِيل فعلى مُوجب قَول السَّحَرَة لم يكن من صنع الله قلب الْعَصَا حَيَّة وَالْمَاء دَمًا والمجيء بالضفادع بل من غير صنع الله وَهَذِه عَظِيمَة تقشعر مِنْهَا الْجُلُود أَيْن هَذَا الْإِفْك المفترى الْبَارِد من نور الْحق الباهر إِذْ يَقُول الله عز وَجل {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن قَالُوا إِن لنا لأجراً إِن كُنَّا نَحن الغالبين قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ لمن المقربين قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وجاؤوا بِسحر عَظِيم وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ فغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين رب مُوسَى وَهَارُون} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} فَأخْبر عز وَجل أَن الَّذِي عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومسى حق وَأَن عَصَاهُ صَارَت ثعباناً على الْحَقِيقَة بقوله تَعَالَى {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} فصح أَنه تبين ذَلِك لكل من رَآهُ يَقِينا وَأخْبر أَن الَّذِي عمل السَّحَرَة إِنَّمَا هُوَ إفْك وتخييل وَكيد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي تشهد بِهِ الْعُقُول لَا مَا فِي الْكتاب الْمُبدل المحرف فصح أَن فعل السَّحَرَة حِيلَة مموهة لَا حَقِيقَة لَهَا وَهَذَا الَّذِي يُصَحِّحهُ الْبُرْهَان إِذْ لَا يحِيل الطبائع إِلَّا خَالِقهَا شَهَادَة لرسله وأنبيائه وفرقاً بَين الصدْق وَالْكذب لَا قَوْلهم عمل السَّحَرَة مثل مَا عمل مُوسَى فِي وَقت تَكْلِيفه برهانٌ على صدق قَوْله وَعند تحديه لَهُم على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ إِن كَانُوا صَادِقين وَهُوَ كَاذِب فَأتوا بِمثلِهِ فانظروا النتيجة يَرْحَمكُمْ الله هَذِه سُورَة تشهد شَهَادَة قَاطِعَة صَادِقَة بِأَن صانع ذَلِك الْكتاب الملعون المكذوب الَّذِي يسمونه الحماس وَيدعونَ أَنه توراة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ زنديقاً مستخفاً بالباري تَعَالَى وَرُسُله وَكتبه وحاش لمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ وَأَنَّهُمْ إِلَى الْآن يَزْعمُونَ أَن إِحَالَة الطبائع وقلب الْأَجْنَاس عَن صفاتها الذاتية إِلَى أَجنَاس أخر واختراع الْأُمُور فِي المعجزات الْبَيِّنَة يقدر على ذَلِك بالرقي والصناعات وَعَلمُوا أَن من صدق بِهَذَا مُبْطل للنبوة بِلَا مرية إِذْ لَا فرق بَين النَّبِي وَغَيره إِلَّا فِي هَذَا الْبَاب فَإِذا أمكن لغير النَّبِي فَلم يبْق إِلَّا دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَلَقَد شاهدناهم متفقين إِلَى الْيَوْم على أَن رجلا من عُلَمَائهمْ بِبَغْدَاد دخل من بَغْدَاد إِلَى قُرَيْظَة فِي يَوْم وَاحِد وَأنْبت قرنين فِي رَأس رجل من بني الإسكندري كَانَ سَاكِنا بِقرب دَار الْيَهُود عِنْد فندق الحرقة كَانَ يُؤْذِي يهود تِلْكَ الْجِهَة ويسخر مِنْهُم وَهَذِه كذبة وفضيحة لَا نَظِير لَهَا والموضع مَشْهُور عندنَا بقرطبة دَاخل الْمَدِينَة وَبَنُو عبد الْوَاحِد بن يزِيد الإسكندري من بَيته رفيعة مَشْهُورَة أدركنا آخِرهم كَانَت فيهم وزارة وعمالة لَيْسَ فيهم مغمور وَلَا خَفِي إِلَى أَن بادوا مَا عرف قطّ أحد مِنْهُم هَذِه الأحموقة الْمُخْتَلفَة وَالْقَوْم بِالْجُمْلَةِ أكذب الْبَريَّة أسلافهم وأخلافهم وعَلى كَثْرَة مَا شاهدنا مِنْهُم مَا رَأَيْت فيهم قطّ متحرياً للصدق إِلَّا رجلَيْنِ فَقَط فصل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي قصَّة قلب المَاء دَمًا فضيحة أُخْرَى ظَاهِرَة الْكَذِب وَهِي أَن فِي نَص الْكَلَام الَّذِي يزعمونه التَّوْرَاة ثمَّ قَالَ السَّيِّد لمُوسَى قل لهارون مد يدك بالعصا على مياه مصر وأنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها لتعود دَمًا وَتصير مَاء فِي آنِية التُّرَاب والخشب دَمًا فَفعل مُوسَى وَهَارُون كَمَا أَمرهمَا السَّيِّد إِلَى قَوْله وَصَارَ المَاء فِي جَمِيع أَرض مصر دَمًا فَفعل مثل ذَلِك سحرة مصر برقاهم وَاشْتَدَّ قلب فِرْعَوْن وَلم يسمع لَهما على حَال ثمَّ انْصَرف فِرْعَوْن وَدخل بَيته وَلم يُوَجه قلبه إِلَى هَذَا أَيْضا وحفر جَمِيع المصريين حوالي النَّهر ليصيبوا المَاء مِنْهَا لأَنهم لَا يقدرُونَ على شرب المَاء من النَّهر قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا نَص كِتَابهمْ فَأخْبر أَن كل مَاء كَانَ بِمصْر فِي أنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها وأواني الْخشب وَالتُّرَاب وَالْمَاء كُله فِي جَمِيع أَرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مصر صَار دَمًا فَأَي مَاء بَقِي حَتَّى تقلبه السَّحَرَة دَمًا كَمَا فعل مُوسَى وَهَارُون أَبى الله إِلَّا فضيحة الْكَذَّابين وخزيهم فَإِن قَالُوا قلبوا مَاء الْآبَار حَتَّى حفرهَا المصريون حول النَّهر قُلْنَا لَهُم فَكيف عَاشَ النَّاس بِلَا مَاء أصلا أَلَيْسَ هَذِه فضائح مرددة وَهل يخفى إِن هَذَا من توليد ضَعِيف الْعقل أَو زنديق مستخف لَا يُبَالِي بِمَا أَتَى بِهِ من الْكَذِب ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَبعد ذَلِك ذكر الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَقُول لفرعون سَتَكُون يَدي على مكسبك الَّذِي لَك فِي الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شَدِيد وَيظْهر السَّيِّد هَذَا فِي الأَرْض فَفعل السَّيِّد ذَلِك فِي يَوْم آخر وَمَاتَتْ جَمِيع دَوَاب المصريين وَلم يمت لبني إِسْرَائِيل دَابَّة فَاشْتَدَّ قلب فِرْعَوْن وَلم يَأْذَن لَهُم ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَمر الله تَعَالَى مُوسَى بِأَن يَأْخُذ مَا حملت الْكَفّ من رماد الكانون وَيُلْقِيه إِلَى السَّمَاء بَين يَدي فِرْعَوْن ليصير غباراً فِي جَمِيع أَرض مصر فَيكون فِي الْآدَمِيّين والأنعام خراجات ونفاطات فَأخذ رَمَادا من كانون ووقف بَين يَدي فِرْعَوْن ورماه مُوسَى إِلَى السَّمَاء وَصَارَت مِنْهُ نفاطات فِي الْآدَمِيّين والأنعام وَلم تقدر السَّحَرَة على الْوُقُوف عِنْد مُوسَى لما كَانَ أَصَابَهُم من ألم النفاطات وَكَانَ مثل ذَلِك فِي جَمِيع أَرض مصر والسحرة فَشدد الله قلب فِرْعَوْن وَلم يسمع لَهما على حَال مَا عهد السَّيِّد إِلَى مُوسَى وَبعد ذَلِك قَالَ إِن الله أَمر مُوسَى أَن يَقُول لفرعون غَدا هَذَا الْوَقْت أمطر بردا كثيرا جدا لم ينزل مثله على مصر من الْيَوْم الَّذِي أسست فِيهِ إِلَى هَذَا الْوَقْت فَابْعَثْ واجمع أنعامك وكل من تملكه فِي الفدان فَكل مَا أدْركهُ الْبرد فِي الفدان وَلم يدْخل الْبيُوت فَمن خَافَ وَعِيد السَّيِّد من عبيد فِرْعَوْن أَدخل عبيده وأنعامه فِي الْبيُوت وَمن استهان بوعيد السَّيِّد أبقى عبيده وأنعامه فِي الفدان وَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى مد يدك إِلَى السَّمَاء لينزل الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر فَمد مُوسَى يَده بالعصا فَأتى السَّيِّد بالرعد وَالْبرد الْمُخْتَلف على الأَرْض ثمَّ أمطر السَّيِّد الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر مخلوطاً بِنَار وَلم ينزل بعظمة فِي تِلْكَ الأَرْض من حِين سكن ذَلِك الْجِنْس فَأهْلك الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر كل مَا ظهر بِهِ فِي الْفَدادِين من الْآدَمِيّين والأنعام وَجَمِيع عشبهما وَكسر جَمِيع شَجَرهَا وَلم ينزل مِنْهُ شَيْء فِي أَرض قَوس حَيْثُ كَانُوا بَنو إِسْرَائِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ تأملوا هَذَا الْكَذِب الهجين اللائح ذكر أَولا أَن مُوسَى أَتَى بالوباء وَأخْبر عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ لفرعون سأهلك مكسبك الَّذِي فِي الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك فعمم جَمِيع النَّاس مَا أَدخل فِي الْبيُوت وَمَا لم يدْخل يعم جَمِيع الْحَيَوَان صنفا صنفا ثمَّ أخبر أَن جَمِيع دَوَاب المصريين مَاتَ وَلم تمت لبني إِسْرَائِيل وَلَا دَابَّة ثمَّ ذكر أَمر النفاطات ثمَّ ذكر أَمر الْبرد وَأَن مُوسَى أنذر فِرْعَوْن من الله تَعَالَى وَأمره بِإِدْخَال أنعامه فِي الْبيُوت وَأَن مَا أدْرك الْبرد مِنْهَا فِي الفحص يهْلك فليت شعري أَي دَابَّة بقيت لفرعون وَأهل مصر وَقد ذكر أَن الوباء أهلك جَمِيعهَا وَأَيْنَ الْإِبِل وَالْحمير وَالْخَيْل وَالْغنم وَالْبَقر أَلَيْسَ هَذَا عجبا وَلَيْسَ يُمكن أَن يَقُول إِن دَوَاب بني إِسْرَائِيل هَلَكت آخرا إِذْ سلمت أَولا لِأَنَّهُ قد بَين أَنه لم يَقع من الْبرد شيءٌ فِي أَرض قَوس حَيْثُ سُكْنى بني إِسْرَائِيل وَلم يكن بَين آيَة وَآيَة بإقرارهم وَقت يُمكن فِيهِ جلب أنعام إِلَيْهِم من بلد آخر لأه لم يكن بَين آيَة وَآيَة إِلَّا يَوْم أَو يَوْمَانِ أَو قريب من ذَلِك ومصر وَاسِعَة الْأَعْمَال وَلَا تتصل بشيءٍ من العمائر بل بَين جَمِيع انْتِهَاء أقطارها من كل جِهَة وَبَين أقرب العمائر إِلَيْهَا مسيرَة أَيَّام كَثِيرَة كالشام وبلاد الغرب وَأَرْض النّوبَة والسودان وأفريقة فَظهر كذب من عمل ذَلِك الْكتاب الْمُبدل المحرف المفترى الَّذِي يزعمونه التَّوْرَاة وحاش لله من ذَلِك وَالْحَمْد لله على السَّلامَة من مثل عَمَلهم وضلالهم كثيرا فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وَكَانَ مسكن بني إِسْرَائِيل بِمصْر أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ سنة فَلَمَّا انْقَضتْ هَذِه السنون خرج ذَلِك الْيَوْم معسكر السَّيِّد من أَرض مصر قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه فضيحة الدَّهْر وشهرة الْأَبَد قاصمة الظّهْر يَقُول هَا هُنَا إِن مسكن بني إِسْرَائِيل بِمصْر أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثُونَ سنة وَقد ذكر قبل أَن قاهاث بن لاوي دخل مصر مَعَ جده يَعْقُوب وَمَعَ أَبِيه لاوي وَمَعَ سَائِر أَعْمَامه وَبني أَعْمَامه وَإِن عمر قاهاث بن لاوي الْمَذْكُور كَانَ مائَة سنة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ سنة وَأَن عمرَان بن قاهاث بن لاوي الْمَذْكُور كَانَ إِلَّا خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر مَعَ نَفسه ابْن ثَمَانِينَ سنة هَذَا كُله مَنْصُوص كَمَا نذكرهُ فِي الْكتاب الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه التَّوْرَاة فهبك أَن قاهاث دخل مصر ابْن شهر أَو أقل وَأَن عمرَان ابْنه ولد بعد مَوته وَأَن مُوسَى بن عمرَان ولد بعد موت أَبِيه لَيْسَ يجْتَمع من كل ذَلِك إِلَّا ثَلَاثمِائَة عَام وَخَمْسُونَ عَاما فَقَط فَأَيْنَ الثَّمَانُونَ عَاما الْبَاقِيَة من جملَة أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة فَإِن قَالُوا نضيف إِلَى ذَلِك مُدَّة بَقَاء يُوسُف بِمصْر قبل دُخُول أَبِيه وَإِخْوَته قُلْنَا قد بَين فِي التَّوْرَاة أَنه كَانَ إِذْ دَخلهَا ابْن سبع عشرَة سنة وَأَنه كَانَ إِذْ دَخلهَا أَبوهُ وَإِخْوَته ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة فَإِذن كَانَ مقَامه بِمصْر قبل أَبِيه وَإِخْوَته اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة ضمهَا إِلَى ثلثمِائة سنة وَخمسين سنة يقوم من الْجَمِيع بِلَا شكّ ثَلَاثمِائَة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ سنة أَيْن الثماني وَالْخَمْسُونَ الْبَاقِيَة من أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 سنة هَذِه شهرة لَا نَظِير لَهُ وَكذب لَا يخفى على أحد وباطل يقطع بِأَنَّهُ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَعْتَقِدهُ أحد فِي رَأسه شيءٌ من دماغ صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكذب الله تَعَالَى فِي دقيقة وَلَا أَن يكذب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامِدًا وَلَا مخطئاً فِي دقيقة فيقره الله تَعَالَى على ذَلِك فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط من هَذِه الْمدَّة سنّ قاهاث إِذْ ولد لَهُ عمرَان وَسن عمرَان إِذْ ولد لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالصَّحِيح الَّذِي يخرج على نُصُوص كتبهمْ أَن مُدَّة بني إِسْرَائِيل مذ دخل يَعْقُوب وَبَنوهُ مصر إِلَى أَن خَرجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم تكن إِلَّا مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَهَذِهِ كذبة فِي مِائَتي عَام وَثَلَاثَة عشر عَاما وَلَو لم يكن فِي توراتهم إِلَّا هَذِه الكذبة وَحدهَا لكفت فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَة مبدلة من حمَار فِي جَهله أَو مستخف سخر بهم وَلَا بُد فصل وَبعد ذَلِك قَالَ وَعند ذَلِك مجد مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل بِهَذِهِ السُّورَة وَقَالُوا مجد بِنَا السَّيِّد فَإِنَّهُ يعظم ويشرف وَأغْرقَ فِي الْبَحْر الْفرس وراكبه قوتي ومديحي للسَّيِّد وَقد صَار خلاصي هَذَا إلهي أمجده وإله أبي أعظمه السَّيِّد قَاتل كَالرّجلِ الْقَادِر وَفِي السّفر الْخَامِس اعلموا أَن السَّيِّد إِلَهكُم الَّذِي هُوَ نارٌ أكول قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه سوءة من السوءات لتشبيه الله عز وَجل بِالرجلِ الْقَادِر ويخبر بِأَنَّهُ نَار هَذِه مُصِيبَة لَا تجبر وَلَقَد قَالَ بَعضهم أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول عنْدكُمْ {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قلت نعم وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سَأَلَهُ أَبُو ذَر هَل رَأَيْت رَبك فَقَالَ نورٌ أَنى أرَاهُ وَهَذَا بَين ظَاهر أَنه لم يعن النُّور المرئي لَكِن نور لَا يرى فلاح أَن معنى نور السَّمَوَات وَالْأَرْض إِذْ ثَبت أَنه لَيْسَ هُوَ النُّور المرئي الملون أَنه الْهَادِي لأهلهما فَقَط وَأَن النُّور اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى فَقَط وَأما قَوْله تَعَالَى {مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة} إِلَى قَوْله {وَلَو لم تمسسه نَار} فَإِنَّهُ شبه نوره الَّذِي يهدي بِهِ أولياءه بِالْمِصْبَاحِ الَّذِي ذكر فَإِنَّهُ شبه مخلوقاً بمخلوق وَبَيَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى مُتَّصِلا بالْكلَام الْمَذْكُور فِي الْآيَة نَفسهَا {نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء} فصح مَا قُلْنَاهُ يَقِينا من أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عَنى بنوره هداه للْمُؤْمِنين فَقَط وَهَذَا أصح تَشْبِيه يكون لِأَن نور هداه فِي ظلمَة الْكفْر كالمصباح فِي ظلمَة اللَّيْل فصل ثمَّ وصف الْمَنّ النَّازِل عَلَيْهِم من السَّمَاء فَقَالَ وَكَانَ أَبيض شَبِيها بزريعة الكزبر ومذاقه كالسميد المعل ثمَّ قَالَ فِي السّفر الرَّابِع كَانَ الْمَنّ شَبِيها بزريعة الكزبر ولونه إِلَى الصُّفْرَة وَكَانَ طعمه كطعم الْخبز المعجون بالزيت قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا تنَاقض فِي الصّفة واللون والطعم وَإِحْدَى الصفتين تكذب الْأُخْرَى بِلَا شكّ فصل وَبعد ذَلِك قَالَ إِن الله عز وَجل قَالَ لبني إِسْرَائِيل لقد رَأَيْتُمُونِي كلكُمْ من السَّمَاء فَلَا تَتَّخِذُوا معي آلِهَة الْفضة ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك ثمَّ صعد مُوسَى وَهَارُون وناداب وابيهو وَسَبْعُونَ رجلا من الْمَشَايِخ ونظروا إِلَى إِلَه إِسْرَائِيل وَتَحْت رجلَيْهِ كلبنة من زمرد فيروزي وكسماء صَافِيَة وَلم يمد الرب يَده إِلَى خِيَار بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إِسْرَائِيل الَّذين نظرُوا إِلَى الله وأكلوا وَشَرِبُوا وَقَالَ بمقربة من ذَلِك وَكَانَ منظر عَظمَة السَّيِّد كنار آكِلَة فِي قرن الْحِيَل يرَاهُ جمَاعَة من بني إِسْرَائِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا تجسيم لَا شكّ فِيهِ وتشبيه لَا خَفَاء بِهِ وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْل الله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَلَا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَلَا كَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينزل الله تبَارك وَتَعَالَى كل لَيْلَة فِي ثلث اللَّيْل الْبَاقِي إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا لِأَن هَذَا كُله على ظَاهره بِلَا تكلّف تَأْوِيل إِنَّمَا هِيَ أَفعَال يَفْعَلهَا الله عز وَجل تسمى مجيئاً وإتياناً وتنزلاً وَلَا مثل قَوْله تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} {وَيبقى وَجه رَبك} وَسَائِر مَا فِي الْقُرْآن من مثل هَذَا فكله لَيْسَ بِمَعْنى الْجَارِحَة لَكِن على وُجُوه ظَاهِرَة فِي اللُّغَة قد بيناها فِي غير هَذَا الْمَكَان عمدتها إِن كل ذَلِك خبر عَن الله تَعَالَى لَا يرجع بِشَيْء من ذَلِك إِلَى سواهُ أصلا ثمَّ كَيفَ يجْتَمع مَا ذكرنَا عَن توراتهم مَعَ قَوْله فِي السّفر الْخَامِس كلمكم الله من وسط اللهيب فسمعتم صَوته وَلم تروا لَهُ شخصا وَهَاتَانِ قضيتان تكذب كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الْأُخْرَى وَلَا بُد فصل وَبعد ذَلِك قَالَ فَلَمَّا أَطَالَ مُوسَى الْمقَام اجْتمع بَنو إِسْرَائِيل إِلَى هَارُون وَقَالُوا قُم واعمل لنا إِلَهًا يتقدمنا فإننا لَا نَدْرِي مَا أصَاب مُوسَى الرجل الَّذِي أخرجنَا من مصر فَقَالَ لَهُم هَارُون اقلعوا أقراط الذَّهَب عَن آذان نِسَائِكُم وَأَوْلَادكُمْ وبناتكم وائتوني بهَا فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ وأتوه بالأقراط فَلَمَّا قبضهَا هَارُون أفرغها وَعمل لَهُم مِنْهَا عجلاً وَقَالَ هَذَا إِلَهكُم يَا بني إِسْرَائِيل الَّذِي أخرجكم من مصر فَلَمَّا بصر بهَا هَارُون بنى مذبحاً بَين يَدي الْعجل وبرح مسمعاً غَدا عيد السَّيِّد فَلَمَّا قَامُوا صباحاً قربوا لَهُ قرباناً وأهدوا لَهُ هَدَايَا وَقَعَدت الْعَامَّة تَأْكُل وتشرب وَقَامُوا للعب ثمَّ ذكر إقبال مُوسَى وَأَنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تتغنى وَبعد ذَلِك ذكر أَنه قَالَ لهارون مَاذَا فعلت بك هَذِه الْأمة إِذْ جعلتم تذنبون ذَنبا عَظِيما فَقَالَ لَهُ هَارُون لَا تغْضب سَيِّدي فَإنَّك تعرف رَأْي هَذِه الْأمة فِي الشَّرّ قَالُوا لي اعْمَلْ لنا إِلَهًا يتقدمنا لأننا نجهل مَا أصَاب مُوسَى الَّذِي أخرجنَا من مصر فَقلت لَهُم من كَانَ عِنْده مِنْكُم ذهب فليقبل بِهِ إِلَيّ وألقيته فِي النَّار وَخرج لَهُم مِنْهُ هَذَا الْعجل فَلَمَّا رأى مُوسَى الْقَوْم قد تعروا وَكَانَ هَارُون قد عراهم بِجَهَالَة قلبه وصيرهم بَين يَدي أعدائهم عُرَاة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا الْفَصْل عَفا على مَا قبله وطم عَلَيْهِ أَن يكون هَارُون وَهُوَ نَبِي مُرْسل يتَعَمَّد أَن يعْمل لِقَوْمِهِ إِلَهًا يعبدونه من دون الله عز وَجل وينادي عَلَيْهِ غَدا عيد السَّيِّد وَيَبْنِي للعجل مذبحاً ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ثمَّ يجردهم ويكشف استاههم للرقص وللغناء أَمَام الْعجل إِلَّا أَن تكون أَحَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 استاه كشفت إِن هَذَا لعجبٌ نَبِي مُرْسل كَافِر مُشْرك يعْمل لِقَوْمِهِ إِلَهًا من دون الله أَو يكون الْعجل ظهر من غير أَن يتَعَمَّد هَارُون عمله فَهَذِهِ وَالله معْجزَة كمعجزات مُوسَى وَلَا فرق إِلَّا أَن هَذَا هُوَ الضلال والتلبيس والإشكال والتدليس المبعد عَن الله تَعَالَى إِذْ لَو كَانَ هَذَا لما كَانَ مُوسَى أولى بالتصديق من عَابِد الْعجل الملعون أَتَرَى بعد استخفاف النذل الَّذِي عمل لَهُم هَذِه الخرافة بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام اسْتِخْفَافًا حاش لله من هَذَا أَو ترَوْنَ بعد حمق من يُؤمن بِأَن هَذَا من عِنْد مُوسَى رَسُول الله وكليمه عَن الله تَعَالَى حمقاً نحمد الله على الْعَافِيَة أَيْن هَذَا الهوس الْبَارِد وَالْكذب المفترى من نور الْحق الَّذِي يشْهد لَهُ الْعقل بِالصِّحَّةِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله عز وَجل حَقًا إِذْ يَقُول فِي هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا مَا لَا يُمكن سواهُ {وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم عجلاً جسداً لَهُ خوارٌ ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين} وَقَوله عز وَجل {فَكَذَلِك ألْقى السامري فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضراً وَلَا نفعا وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَلا تتبعن أفعصيت أَمْرِي قَالَ يَا ابْن أم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بني إِسْرَائِيل وَلم ترقب قولي} وَقَوله {ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني} فَهَذَا هُوَ الصدْق حَقًا إِنَّمَا عمل لَهُم الْعجل الْكَافِر الضال السامري وَأما هَارُون فنهاهم عَنهُ جهده وَإِنَّهُم عصوه وكادوا يقتلونه وَقد بَين الصُّبْح لذِي عينين ولاح صدق قَوْله تَعَالَى من كذب الآفكين وَأما الخوار فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس مَا لَا يجوز سواهُ وَأَنه إِنَّمَا كَانَ دوِي الرّيح تدخل من قبله وَتخرج من دبره وَهَذَا هُوَ الْحق لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه لَا يكلمهم وَلَو خار من عِنْد نَفسه لَكَانَ ضربا من الْكَلَام ولكانت حَيَاة فِيهِ وَهُوَ محَال إِذْ لَا تكون معْجزَة وَلَا إِحَالَة لغير نَبِي أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي خلال هَذِه الْفُصُول ذكر أَن الله عز وَجل قَالَ لمُوسَى دَعْنِي أغضب عَلَيْهِم وأهلكهم وأقدمك على أمة عَظِيمَة وَأَن مُوسَى رغب إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ تذكر إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَإِسْحَاق عبيدك الَّذين خلقتهمْ بِيَدِك وَقلت لَهُم سأكثر ذريتكم حَتَّى يَكُونُوا كنجوم السَّمَاء وأورثتهم جَمِيع هَذِه الأَرْض الَّتِي وعدتهم بهَا ويملكونها فحن السَّيِّد وَلم يتم مَا كَانَ أَرَادَ إنزاله من الْمَكْرُوه بأمته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل عجائب أَحدهَا إخْبَاره بِأَن الله تَعَالَى لم يتم مَا أَرَادَ إنزاله من الْمَكْرُوه بهم وَكَيف يجوز أَن يُرِيد الله عز وَجل إهلاك قوم قد تقدم وعده لَهُم بِأُمُور وَلم يُتمهَا لَهُم بعد وحاش لله من أَن يُرِيد إخلاف وعده فيريد الْكَذِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَثَانِيها نسبتهم البدآء إِلَى الله عز وَجل وحاش لله من ذَلِك وَالْعجب من إِنْكَار من أنكر مِنْهُم النّسخ بعد هَذَا وَلَا نكرَة فِي النّسخ لِأَنَّهُ فعل من أَفعَال الله أتبعه بِفعل آخر من أَفعاله مِمَّا قد سبق فِي علمه كَونه كَذَلِك وَهَذِه صفة كل مَا فِي الْعَالم من أَفعاله تَعَالَى وَأما البداء فَمن صِفَات من يهم بالشَّيْء ثمَّ يَبْدُو لَهُ غَيره وَهَذِه صفة المخلوقين لَا صفة من لم يزل لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء يَفْعَله فِي المستأنف وَثَالِثهَا قَوْله فِيهَا ويملكونها وَهَذَا كذب ظَاهر مَا ملكوها إِلَّا مُدَّة ثمَّ خَرجُوا عَنْهَا إِلَى الْأَبَد وَالله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يخلف وعده فصل وَبعد هَذَا ذكر أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى اذْهَبْ واصعد من هَذَا الْموضع أَنْت وَأمتك الَّتِي أخرجت من مصر إِلَى الأَرْض الَّتِي وعدت بهَا مقسمًا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب لأورثها نسلهم وَابعث بَين يَديك ملكا لَا خراج الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين تدخل فِي أَرض تفيض لَبَنًا وَعَسَلًا لست أنزل مَعكُمْ لأنكم أمة قساة الرّقاب لِئَلَّا تهْلك بِالطَّرِيقِ فَلَمَّا سَمِعت الْعَامَّة هَذَا الْوَعيد الشَّديد عجبت وَلم تَأْخُذ زينتها فَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى قل لبني إِسْرَائِيل أَنْتُم أمة قد قست رِقَابكُمْ سَأُنْزِلُ عَلَيْكُم مرّة وأهلككم فضعوا زينتكم لأعْلم مَا أفعل بكم وَبعد ذَلِك بفصول قَالَ إِن مُوسَى قَالَ لله تَعَالَى إِن كنت سَيِّدي عني رَاضِيا فَأَنا أَرغب إِلَيْك أَن تذْهب مَعنا وَبعد ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى سأخرج بنفسي بَين يَديك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل كذبتان وتشبيه مُحَقّق أما الكذبتان فأحدهما قَوْله أَنه سيبعث بَين يَدي مُوسَى ملكا لإِخْرَاج الْأَعْدَاء وَأما هُوَ تَعَالَى فَلَيْسَ ينزل مَعَهم ثمَّ نزل مَعَهم وَهَذَا كذب لَا مخلص مِنْهُ تَعَالَى الله عَن هَذَا وحاش لَهُ من أَن يَقُول سأفعل ثمَّ لَا يفعل وَأَن يَقُول لَا أفعل ثمَّ يفعل وَالثَّانيَِة قَوْله إِنِّي سَأُنْزِلُ إِلَيْكُم مرّة وأهلككم ثمَّ لم يفعل حاش لله من هَذَا وَأما التَّشْبِيه الْمُحَقق فإقتناعه من أَن ينزل بِنَفسِهِ واقتصاره على أَن يبْعَث ملكا لنصرتهم ثمَّ أجَاب إِلَى النُّزُول مَعَهم وَهَذَا مَا لَا يسوغ فِيهِ مَا يسوغ فَمن حَدِيث التَّنْزِيل من أَنه فعل بِفِعْلِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا لَكَانَ إرْسَال الْملك أقوى مَا يُوجد فِي الْعَالم فَإذْ قد بَطل فقد صَحَّ أَنه نزُول نقلة وَلَا بُد فصل وَفِي خلال هَذِه الْفُصُول قَالَ وَكَانَ السَّيِّد يكلم مُوسَى مُوَاجهَة فَمَا بِفَم كَمَا يكلم الْمَرْء صديقه وَإِن مُوسَى رغب إِلَى الله تَعَالَى أَن يرَاهُ وَأَن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ سأدخلك فِي حجر وأحفظك بيميني حَتَّى أجتاز ثمَّ أرفع يَدي وتبصر ورائي لِأَنَّك لَا تقدر أَن ترى وَجْهي فَفِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ تَشْبِيه شنيع قَبِيح جدا من إِثْبَات آخر بِخِلَاف الْوَجْه وَهَذَا لَا مخرج مِنْهُ فصل وَفِي السّفر الثَّالِث أَن الْبَارِي تَعَالَى قَالَ لَهُ من ضاجع امْرَأَة عَمه أَو خَاله أَو كشف عَورَة بنته فيحملان جَمِيعًا ذنوبهما ويموتان من غير أَوْلَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ كُنَّا ذكرنَا أننا لَا نخرج عَلَيْهِم من توراتهم كلَاما لَا يفهم مَعْنَاهُ إِذْ للقائل أَن يَقُول قد أصَاب الله بِهِ مَا أَرَادَ لَكِن هَذَا الْمَكَان لم يتَخَلَّف فِيهِ وعدنا لِأَنَّهَا شَرِيعَة مكلفة ملزمة وَمن الْمحَال أَن يُكَلف الله النَّاس عملا لَا يفهمونه وَلَا يعْقلُونَ معنى الْأَمر بِهِ فصل وَفِي السّفر الرَّابِع ذكر أَن عدد بني إِسْرَائِيل الخارجين من مصر القادرين على الْقِتَال خَاصَّة من كَانَ ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا كَانُوا سِتّمائَة ألف مقَاتل وَثَلَاثَة آلَاف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل وَخمسين مقَاتل وَأَنه لَا يدْخل فِي هَذَا الْعدَد من كَانَ لَهُ أقل من سِتّمائَة ألف رجل وَألف رجل وَسَبْعمائة رجل وَثَلَاثُونَ رجلا لم يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَأَن على هَؤُلَاءِ قسمت الأَرْض المغنومة وعَلى النِّسَاء وعَلى من كَانَ دون الْعشْرين أَيْضا وَفِي كتبهمْ أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أحصى فِي أَيَّامه بني إِسْرَائِيل فَوجدَ بني يهوذا خَاصَّة خَمْسمِائَة ألف مقَاتل وَوجد التِّسْعَة الأسباط الْبَاقِيَة حاشى بني لاوي وَبني بنيامين فَلم يحصهما ألف ألف مقَاتل غير ثَلَاثِينَ ألفا سوى النِّسَاء وَسوى من لَا يقدر على الْقِتَال من صبي أَو شيخ أَو مَعْذُور وكل هَؤُلَاءِ إِنَّمَا كَانُوا فِي فلسطين والأردن وَبَعض عمل الْغَوْر فَقَط والبلد الْمَذْكُور بحالته كَمَا كَانَ لم يزدْ بالاتساع وَلَا نقص وَفِي كتبهمْ أَيْضا أَن ابْنا ابْن يربعام بن سُلَيْمَان بن دَاوُد قتل من الْعشْرَة الأسباط من بني إِسْرَائِيل خَمْسمِائَة ألف رجل وَأَن ابْنا قتل اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مقَاتل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ الْبَلَد الْمَذْكُور بَاقٍ لم ينقص وَلَا صغرت أرضه وَحده بإقرارهم فِي الْجنُوب غَزَّة وعسقلان ورحج وطرق من جبال الشراة بلد عيسو وَلَا خلاف بَينهم فِي أَنهم لم يملكُوا قطّ قَرْيَة فَمَا فَوْقهَا من هَذِه الْبِلَاد وَأَنَّهُمْ لم يزالوامن أول دولتهم إِلَى آخرهَا محاربين مرّة لنَبِيّ إِسْرَائِيل ومراراً عَلَيْهِم وحد ذَلِك الْبَلَد فِي الْقرب الْبَحْر الشَّامي وَحده فِي الشمَال صور وصيدا وأعمال دمشق الَّتِي لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنهم لم يملكُوا قطّ مِنْهَا مضرب وتد وَأَنَّهُمْ لم يزَالُوا من أول دولتهم إِلَى آخرهَا محاربين لَهُم فَمرَّة عَلَيْهِم وَمرَّة لَهُم وَفِي أَكثر ذَلِك يملكُونَ بني إِسْرَائِيل ويسومونهم سوء الْعَذَاب وَمرَّة يخرج بَنو إِسْرَائِيل عَن ملكهم فَقَط وحد الْبَلَد الْمَذْكُور فِي الشرق بِلَاد مواب وعمون وَقطعَة من صحراء الْعَرَب الَّتِي هِيَ الفلوات والرمال وَلَا خلاف بَينهم فِي أَن نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى وَبني إِسْرَائِيل إِلَى هُنَا لَا تَحَارَبُوا بني عيسو وَلَا بني مواب وَلَا بني عمون فَإِنِّي لم أورثكم من بِلَادهمْ وَطْأَة قدم فَمَا فَوْقهَا لِأَنِّي قد ورثت بَين عيسو وَبني لوط هَذِه الْبِلَاد كَمَا ورثت بني إِسْرَائِيل تِلْكَ الَّتِي وعدتهم بهَا وَأَنَّهُمْ لم يزَالُوا من أول دولتهم إِلَى آخرهَا يحاربونهم فَمرَّة يملكهم بَنو عمون وَبَنُو مواب وَمرَّة يخرجُون عَن رقهم فَقَط وَطول بِلَاد بني إِسْرَائِيل الْمَذْكُورَة بمساححة الْخُلَفَاء المحققة من عقبَة أنيق وَهِي على أَرْبَعَة وَخمسين ميلًا من دمشق إِلَى طبرية ثَمَانِيَة أَمْيَال وَهِي جبل أفرايم إِلَى الطّور اثْنَي عشر ميلًا إِلَى اللجون اثْنَي عشر ميلًا إِلَى علمين عِنْدهمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يَنْقَطِع عمل الْأُرْدُن ومبدأ عمل فلسطين ميل وَاحِد إِلَى الرملة نَحْو أَرْبَعِينَ ميلًا إِلَى عسقلان ثَمَانِيَة عشر ميلًا وَمَوْضِع الرملة هُوَ كَانَ آخر عمل بني إِسْرَائِيل فَذَلِك ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ميلًا وَعرضه من الْبَحْر الشَّامي إِلَى أول عمل جبل الشراة وَأول عمل مواب وَأول عمل عمان نَحْو ذَلِك أَيْضا وَعمل صَغِير شَرْقي الْأُرْدُن يُسمى الْغَوْر فِيهِ مَدِينَة بيسان يكون أقل من ثَلَاثِينَ ميلًا فِي ثَلَاثِينَ ميلًا وَلَا يزِيد وَكَانَ هَذَا الْعَمَل الَّذِي بشرقي الْأُرْدُن بزعمهم وَقع لبني رؤابين وَبني جادا وَنصف بني منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ يصلح لرعي الْمَوَاشِي وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَصْحَاب بقر وغنم فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْكَذِب المفضوح وَهَذَا الْمحَال الْمُمْتَنع أَن تكون الْمسَافَة الْمَذْكُورَة تقسم أرْضهَا على عدد يكون ابْنا الْعشْرين مِنْهُم فَصَاعِدا خَاصَّة أَزِيد من سِتّمائَة ألف فَأَيْنَ من دون الْعشْرين وَأَيْنَ النِّسَاء وَالْكل بزعمهم أَخذ سَهْمه من الأَرْض الْمَذْكُورَة ليعيش من زَرعهَا وثمرتها وَاعْلَمُوا أَنه لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِي المساحة الْمَذْكُورَة على أَن تكون مساحة كل قَرْيَة ميلًا فِي ميل مزارعها ومشاجرها إِلَّا سِتَّة آلَاف قَرْيَة وَمِائَتَا قَرْيَة هَذَا على أَن يكون جَمِيع الْعَمَل الْمَذْكُور عمراناً مُتَّصِلا لَا مرج فِيهِ وَلَا شجر وَلَا أَرض محجرة لَا تعمر وَلَا أَرض مرملة وَلَا سبخَة ملح كَذَلِك وَهَذَا محَال أَن يكون فعلي هَذَا يَقع لكل قَرْيَة من الرِّجَال الْمَذْكُورين مائَة رجل أَو نَحْو ذَلِك سوى من هُوَ دون الْعشْرين بَينهم وَسوى النِّسَاء وَلَا سَبِيل الْبَتَّةَ على هَذَا أَن يدركوا فِيهَا المعاش وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ لَا سِيمَا إِذْ بلغُوا ألف ألف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل سوى من لَا يُقَاتل وَسوى النِّسَاء أَيْن هَذَا الْكَذِب الْبَارِد من الْحق الْوَاضِح فِي قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن فِرْعَوْن أَنه قَالَ إِذْ تبع بني إِسْرَائِيل {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} هَذَا الَّذِي لَا يجوز غَيره وَلَا يُمكن سواهُ أصلا وكذبة أُخْرَى وَهِي أَنهم ذكرُوا فِي كتاب يُوشَع أَن الْبَلَد الْمَذْكُور كَانَ فِيهِ من المدن فِي سهم بني يهوذا مائَة مَدِينَة وَأَرْبَعَة مدن وَفِي سهم بني شَمْعُون سبع عشرَة مَدِينَة وَفِي سهم بنيامين ثَمَان وَعِشْرُونَ مَدِينَة وَفِي سهم بني زبلون اثْنَي عشر مَدِينَة وَفِي سهم بني نفتالي تسع عشرَة مَدِينَة وَفِي سهم بني دَان ثَمَان عشرَة مَدِينَة فَذَلِك مِائَتَا مَدِينَة وَاثْنَتَانِ وست وَثَلَاثُونَ مَدِينَة قَالَ فِي الْكتاب الْمَذْكُور سوى قراها لَا يحصيها إِلَّا الله عز وَجل وَذكر فِيهِ أَنه وَقع لنصف بني منشا بن يُوسُف بشرقي الْأُرْدُن باشان وعملها وَأَن مدائنهم المحصنة سِتُّونَ مَدِينَة سوى قراها لَا يحصيها إِلَّا الله فالمجتمع من هَذِه المدن الْمَذْكُورَة ثَلَاث مائَة مَدِينَة غير أَربع مدن وَلم يذكر عدد مَدَائِن بني رؤابين وَلَا عدد مَدَائِن بني عادو وَلَا عدد مَدَائِن نصف بني منشا لذِي بغرب الْأُرْدُن وَلَا مَدَائِن بني أفرايم وَهَذِه الأسباط الَّتِي لم تذكر مدنها تقع على مَا توجبه توراتهم فِي الرّبع من جَمِيع بني إِسْرَائِيل يَقع لَهُم على هَذَا الْحساب نَحْو مائَة مَدِينَة إِذا ضمت إِلَى الْعدَد الَّذِي ذكرنَا فتمام الْجَمِيع نَحْو أَرْبَعمِائَة مَدِينَة فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الشُّهْرَة أَن تكون الْبقْعَة الَّتِي قد ذكرنَا مساحتها على قلتهَا وتفاهتها تكون فِيهَا هَذِه المدن وَقد ذكر أَن نصف سبط بني منشا الَّذين وَقَعُوا بشرقي الْأُرْدُن وَوَقع فِي خطهم سِتُّونَ مَدِينَة كَانُوا سِتَّة وَعشْرين ألف رجل مقاتلين كلهم لَيْسَ فيهيم ابْن أقل من عشْرين سنة وَالْعَمَل بَاقٍ إِلَى الْيَوْم لَعَلَّه اثْنَي عشر ميلًا فِي مثلهَا مَا رَأَيْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أقل حَيَاء من الَّذِي كتب لَهُم تِلْكَ الْكتب المرذولة وسخم بهَا وُجُوههم ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل ويتصل بِهَذَا الْفَصْل فصل آخر هُوَ أشنع مِنْهُ فِي شهرة الْكَذِب وشنعة الْمحَال وَظُهُور التوليد وبشاعة الإفتعال وَذكر فِي صدر السّفر الثَّانِي إِذْ ذكر خُرُوج بني إِسْرَائِيل عَن مصر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يعد بني إِسْرَائِيل بعد خُرُوجهمْ من مصر بِسنة وَاحِدَة وَشهر وَاحِد فَقَط فعد جَمِيع قبائلهم فَقَالَ هَؤُلَاءِ أكَابِر الْبيُوت فِي قبائلهم حنوك وفلو وحصرون وكرمي وهم بَنو رؤابين بكر ولد إِسْرَائِيل هَذِه قبائيل رؤابين وَذكر فِي أول السّفر الرَّابِع أَن مقدمهم كَانَ اليصور بن شدّ يئور وَأَن عَددهمْ كَانَ سِتَّة وَأَرْبَعين ألف رجل لم يعد مِنْهُم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق الْحَرْب وَذكر فِي صدر السّفر الثَّانِي فَقَالَ وَبَنُو شَمْعُون يموئيل ويامين وأوهد وياكين وصوحر وشأول بن الكنعانية هَذِه قبائل شَمْعُون وَذكر فِي أول السّفر الرَّابِع أَن مقدمهم كَانَ شلو ميئيل بن صور يشداي وَأَن عَددهمْ كَانَ تِسْعَة وَخمسين ألف رجل لم يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق الْحَرْب وَقَالَ فِي صدر السّفر الثَّانِي هَذِه تَسْمِيَة بني لاوي فِي قبائلهم جرشون وقهاث ومراري وابنا جرشون لبني وشمعي فِي قبائلهما وَبَنُو قهاث عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل وَابْن مراري ومحلى وموشي هَذِه أَنْسَاب بني لاوي فِي قبائلهم فَتزَوج عمرَان يوكابد عمته فَولدت لَهُ مُوسَى وَهَارُون وَبَنُو يصهار قورح ونافج وذكري وَبَنُو قورح أُشير والقانة وابيا ساف وَبَنُو عزيئيل ميشائيل والصافان وستري فَتزَوج هَارُون إِلَى اليشابع بنت عمينا دَاب أُخْت نحشون فَولدت لَهُ ناداب وابيهوا والعازار وايثامار فَتزَوج العازار بن هَارُون فِي بَنَات بني فوطيئيل فَولدت فيخاس وَقَالَ فِي صدر السّفر الرَّابِع فَكلم السَّيِّد مُوسَى فِي مغار سينا وَقَالَ لَهُ عدد بني لاوي فِي بيُوت آبَائِهِم وأهاليهم فَكل ذكر ابْن شهر فَصَاعِدا حسبهم مُوسَى كَمَا عهد إِلَيْهِ السَّيِّد فَوجدَ ولد لاوي على أسمائهم مسمين جرشون وقهاث ومراري وَولد جرشون لبني وشمعي وَولد قهاث عمرام ويصهار وعزيئيل وَولد مراري محلي وموشي وَأَنه عد عَامَّة ذُكُور بني جرشون ابْن شهر فَصَاعِدا فَكَانُوا سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة كَانُوا فِي ساقة الْقبَّة فِي الغرب تَحت أَيدي الياساف بن لايل وَبعد ذَلِك ذكر أَنه حسب ألفي رجل وسِتمِائَة رجل وَثَلَاثِينَ رجلا ثمَّ قَالَ هَذِه نِسْبَة قهاث خرج مِنْهُ رَهْط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فَحسب من كَانَ مِنْهُم ذكرا ابْن شهر فَصَاعِدا فَوَجَدَهُمْ ثَمَانِيَة آلَاف رجل وسِتمِائَة ذكر مقدمهم لصافان بن عزيئيل الْمَذْكُور وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا فِي جنوب الْقبَّة حاشا مُوسَى وَهَارُون وأولادهما فَإِنَّهُم يكونُونَ أَمَام الْقبَّة فِي الشرق وَأَنه حسب من كَانَ مِنْهُم ابْن ثَلَاثِينَ سنة إِلَى ابْن خمسين سنة فَقَط فَوَجَدَهُمْ ألفي رجل وَسَبْعمائة رجل وَخمسين رجلا وَذكر أَنه حسب بني مراري محلي وموشي بني مراري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَمن كَانَ مِنْهُم ابْن شهر فَصَاعِدا من الذُّكُور فَوَجَدَهُمْ سِتَّة آلَاف وَمِائَتَيْنِ مقدمهم صوريئيل ابْن أبيحايل وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا فِي شمال الْقبَّة وَأَنه حسب من كَانَ مِنْهُم ابْن ثَلَاثِينَ سنة فَصَاعِدا إِلَى خمسين سنة فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَة آلَاف رجل ومائتي رجل وَبعد أَن ذكر من كَانَ من بني لاوي ابْن شهر فَصَاعِدا من الذُّكُور كَمَا أوردنا قَالَ فَجَمِيع اللاويين الَّذين حسب مُوسَى وَهَارُون من كل ذكر من ابْن شهر فَصَاعِدا اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا وَأَن السَّيِّد أوحى إِلَى مُوسَى أَحسب بكور ذُكُور ولد إِسْرَائِيل الذُّكُور من ابْن شهر فَصَاعِدا وَتَأْخُذ لي اللاويين عَن بكور جَمِيع ولد إِسْرَائِيل فعد مُوسَى بكور ولد بني إِسْرَائِيل الذُّكُور من ابْن فَصَاعِدا فَوَجَدَهُمْ اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة وَسبعين فَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى خُذ بني لاوي عَن بكور ذُكُور ولد إِسْرَائِيل ليَكُون بَنو لاوي لي وَعَن الْمِائَتَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالسبْعين الزائدين عَن عدد بني لاوي تَأْخُذ عَن كل وَاحِد خَمْسَة أشقال بِوَزْن الهيكل فَأخذ مُوسَى دَرَاهِم الزائدين فبلغت ألفا وثلاثمائة وَخَمْسَة وَسِتِّينَ شقلا وَأَعْطَاهَا لهارون وَولده على مَا عهد عَلَيْهِ السَّيِّد ثمَّ ذكر فِي سفر يُوشَع أَن العازار بن هَارُون بِنَفسِهِ أَتَى إِلَى يُوشَع بن نون إِذْ فتحت الأَرْض المقدسة وَكَلمه فِي أَن يُعْطي بن لاوي مَدَائِن للسُّكْنَى فَفعل وَأَنه وَقع لبني هَارُون خَاصَّة ثَلَاث عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن بن يهوذا وبنيامين وشمعون وَأَنه وَقع لسَائِر بني قاهاث بن لاوي عشر مَدَائِن بني دَان وَبني أفرايم وَنصف سبط منشا الَّذين مَعَ سَائِر الأسباط وَأَنه وَقع لبني جرشون بن لاوي ثَلَاث عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن يساخر وَأَشَارَ ونفتالي وَنصف سبط منشا الَّذِي بشرقي الْأُرْدُن وَأَنه وَقع لبني مراري بن لاوي ثِنْتَيْ عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن بني زابلون وَبني رؤابين وجاد ابْن يَعْقُوب بشرقي الْأُرْدُن فَذَلِك لبني لاوي ثَمَان وَأَرْبَعُونَ مَدِينَة وَذكر فِي السّفر الرَّابِع أَنه أحصى أَيْضا بني جاد ابْن يَعْقُوب الرِّجَال خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب فَوَجَدَهُمْ خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف رجل وَخمسين رجلا مقدمهم الياساف بن رعوئيل وَأَنه أحصى بني يهوذا الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَة وَسبعين ألفا وسِتمِائَة رجل وَقد ذكر قبل وَبعد أَن هَذَا الْعدَد كُله إِنَّمَا هم من ولد شيلة وفارص وزارح بني يهوذا فَقَط مقدمهم نحشون عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون ابْن فارص بن يهوذا بن إسراءيل وَأَنه أحصى بني يساحر الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم نثنائيل بن صوغر وَأَنه أحصى بني زبلون الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ سَبْعَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم الياب بن حيلون وَأَنه حسب بني يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ اثْنَيْنِ وَسبعين ألف رجل وَسَبْعمائة رجل مِنْهُم من ولد أفرايم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يُوسُف أَرْبَعُونَ ألف رجل وَخَمْسمِائة رجل ومقدمهم اليشمع بن عميهود وَمن ولد منشا بن يُوسُف اثْنَان وَثَلَاثُونَ ألف رجل وَمِائَتَا رجل مقدمهم جمليئيل بن فدهصور وَأَنه حسب بني بنيامين الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَكَانُوا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم ابيدن بن جدعوني وَأَنه حسب بني دَان الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا من المبارزين للحرب خَاصَّة فَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ ألف رجل وَسَبْعمائة رجل مقدمهم أخيعزر بن عميشداي وَكلهمْ من ولد حوشيم بن دَان وَأَنه حسب بني أُشير الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا من المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أحدا وَأَرْبَعين ألف رجل وَخَمْسمِائة رجل مقدمهم فجعيئيل ابْن عكران وَأَنه حسب بني نفتالي من كَانَ مِنْهُم من الذُّكُور خَاصَّة ابْن عشْرين فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم أخيرع ابْن عينن وَأَن هَذَا الْحساب كَانَ بعد عَام وَاحِد وَشهر وَاحِد من خُرُوجهمْ من مصر حاشا قسْمَة الْمَدَائِن الْمَذْكُورَة وَأَنَّهَا بعد دُخُولهمْ فلسطين والأردن فَلْيتَأَمَّل كل ذِي تَمْيِيز صَحِيح من الْخَاصَّة والعامة هَذَا الْكَذِب الْفَاحِش الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ والمحال الْمُمْتَنع وَالْجهل المفرط الْمُوجب كل ذَلِك ضَرُورَة أَنَّهَا كتب محرفة مبدلة من تَحْرِيف فَاسق سخر بهم وَأَنَّهَا لَا تمكن أَلْبَتَّة أَن تكون من عِنْد الله وَلَا من عِنْد نَبِي وَلَا من عمل صَادِق اللهجة فَمن ذَلِك أخباره بِأَن رجال بني دَان إِذا خَرجُوا من مصر اثْنَتَيْنِ وَسبعين ألفا وَسَبْعمائة رجل لم يعد فيهم من كَانَ مِنْهُم ابْن أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق البروز للحرب وَلَا النِّسَاء وَأَنَّهُمْ كلهم رَاجِعُون إِلَى حوشيم بن دَان وَحده وَلم يكن لدان بإقرارهم ولد غير حوشيم مَعَ قرب أنسابهم من حوشيم لِأَن فِي نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَن الجيل الرَّابِع من الْأَوْلَاد يرجعُونَ إِلَى الشَّام فاضبطوا هَذَا يظْهر لكم الْكَذِب عَلَانيَة لَا خَفَاء بِهِ وَأَن بني يهوذا كَانُوا أَرْبَعَة وَسبعين ألفا وسِتمِائَة رجل لَيْسَ يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَكلهمْ رَاجِعُون كَمَا ذكرنَا إِلَى ثَلَاثَة أَوْلَاد ليهوذا لم يعقب لَهُ غَيرهم وَفِي الْحَيَاة يَوْمئِذٍ رئيسهم نحشون بن عمينا دَاب بن رام ابْن حصرون بن فارص ابْن يهوذا وَأَن بني يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانُوا اثْنَيْنِ وَسبعين ألف رجل وَسَبْعمائة رجل لَيْسَ يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَكلهمْ رَاجع إِلَى أفرايم ومنشا لم يعقب ليوسف غَيرهمَا وَفِيهِمْ يَوْمئِذٍ فِي الْحَيَاة صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَقد ذكر أَيْضا فِي توراتهم أَوْلَاد أفرايم فَلم يَجْعَل لَهُ إِلَّا ثَلَاثَة ذُكُور وَلم يَجْعَل لمنشا إِلَّا وَلدين وَذكر أَوْلَاد جلعاد الْمَذْكُور بن منشا وَلم يَجْعَل لَهُ إِلَّا سِتَّة ذُكُور فَقَط فاجعلوا لمنشا وأفرايم أقْصَى مَا يُمكن أَن يكون للرجل من الْأَوْلَاد ثمَّ لجلعاد وَإِخْوَته وَبني عَمه مثل ذَلِك ثمَّ لحافر وطبقته مثل ذَلِك وانظروا هَل يُمكن أَن يبلغ ذَلِك ثلث هَذَا الْعدَد وَالْأَمر فِي لد دَان أفحش من سَائِر مَا فِي ولد إخْوَته وَإِن كَانَ الْكَذِب فِي كل ذَلِك فَاحِشا لِأَن الْبضْع وَالسبْعين ألف رجل وَزِيَادَة لم يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 سنة يرجعُونَ إِلَى ثَلَاثَة من ولد يهوذا واثنين من ولد يُوسُف وَأما الِاثْنَان وَسِتُّونَ ألف رجل ونيف لَا يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين سنة فَإِنَّمَا يرجع إِلَى وَاحِد فَقَط لم يكن لدان غَيره بِلَا خلاف مِنْهُم فَكيف إِذا أضيف إِلَى هَذَا الْعدَد من لَهُ أقل من عشْرين سنة من الرِّجَال والأغلب أَنهم قريب من عدد المتجاوزين عشْرين سنة أَو أقل بِيَسِير وَجَمِيع النِّسَاء والأغلب أَنَّهُنَّ فِي عدد الرِّجَال أَو قَرِيبا من ذَلِك فيجتمع من ولد حوشيم ابْن دَان وَحده فِي مُدَّة مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما نَحْو مائَة ألف وَسِتِّينَ ألف إِنْسَان هَذَا الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لم يكن قطّ فِي الْعَالم على حسب بنيته ويجتمع من ولد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام على هَذَا أرحج من مِائَتي ألف إِنْسَان وَمن ولد يهوذا نَحْو ذَلِك وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا أَن الطَّبَقَات من الولادات كَانَت كَثِيرَة جدا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا قَوْله فِي توراتهم أَن الجيل الرَّابِع من الْأَوْلَاد يرجعُونَ إِلَى الشَّام وَالثَّانِي أَن الَّذِي ذكر أنسابهم من بني لاوي وَبني يهوذا وَبني يُوسُف وَبني رؤابين كَانُوا متقاربين فِي التعداد كموسى وَهَارُون وَمَرْيَم بني عمرَان بن قاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل واليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل وقورح واخوانه بَنو يصهار بن قاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل ونحشون واخوانه بَنو عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إِسْرَائِيل وأحار بن كرمي بن سيداي بن شيلة بن يهوذا بن إِسْرَائِيل ودابان وأبيرام ابْنا الْبَاب بن ملوكن بن روبان بن إِسْرَائِيل وإخوتهم وَأَوْلَادهمْ وَأَوْلَاد أَوْلَادهم هَذَا نَص ذكر أنسابهم فِي توارثهم فوضح أَن الْأَمر مُتَقَارب فِي تعدادهم وَظهر بِهَذَا عَظِيم االكذب الْفَاحِش فِي الْأَعْدَاد الَّتِي ذكرُوا وَلَا يُمكنهُم الْبَتَّةَ أَن يَقُولُوا أَنه كَانَ لإسرائيل غير من سمينا من الْأَوْلَاد الاثْنَي عشر وَلَا أَنه كَانَ لأَوْلَاد إِسْرَائِيل الْمَذْكُورين غير من سمينا من الْأَوْلَاد وعددهم أحد وَخَمْسُونَ رجلا فَقَط لبنيامين عشرَة ولجادا سَبْعَة ولشمعون سِتَّة ولرؤابين واشير وليساخر ونفتالي لكل وَاحِد مِنْهُم أَرْبَعَة أَرْبَعَة وليهوذا وللاوي وزبلون لكل وَاحِد مِنْهُم ثَلَاثَة ثَلَاثَة وليوسف اثْنَان ولدان وَوَاحِد فيا للنَّاس كَيفَ يُمكن أَن يتناسل من ولادَة وَاحِد وَخمسين رجلا فَقَط فِي مُدَّة مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَقَط أَزِيد من ألفي ألف إِنْسَان هَذَا غَايَة الْمحَال الْمُمْتَنع لِأَنَّهُ نَص فِي توراتهم أَنه إنتسل مِنْهُم ستماية ألف وَثَلَاثَة آلَاف رجال كلهم لم يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين سنة وَلَعَلَّ من دون الْعشْرين عَاما مِنْهُم يقاربون هَذَا الْعدَد ثمَّ النِّسَاء ولعلهن نَحْو هَذَا الْعدَد فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح وَقد رام بعض من صككت وَجهه من عُلَمَائهمْ بِهَذِهِ الفضيحة أَن يلوذ بِهَذَا الشغب فَقلت دع عَنْك هَذَا التمويه فقد سدت عَلَيْك توراتك كل الْمذَاهب لِأَن فِيهَا بعلمك حَيْثُ ذكر خُرُوجهمْ من مصر وَحَيْثُ ذكر دُخُولهمْ إِلَى الشَّام وَحَيْثُ ذكر قسْمَة الأَرْض عَلَيْهِم فِي سفر يُوشَع ذكر أفخاذ قبائلهم وَتَسْمِيَة أسباطهم اسْما اسْما فَلم يزدْ على من سمينا وَلَا وَاحِدًا فَلَو كَانَ مَا تَقول لكَانَتْ أَيْضا قد كذبت فِي هَذَا الْموضع إِذْ فَلَا بُد فِيهَا من الْكَذِب الْمُتَيَقن كَيْفَمَا تصرفت الْحَال فَسكت خاسئاً فَإِن قيل ألم ينْقل يَعْقُوب إِذْ عرض عَلَيْهِ يُوسُف بنه أفرايم ومنشا فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب افرايم ومنشا يكونَانِ ليي وينسبان إِلَيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَمن ولد لَك بعدهمَا ينسبان إِلَيْك قُلْنَا لَا يَخْلُو يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام من أَن لَا يكون لَهُ ولد غَيرهمَا مِمَّا أعقب خَاصَّة كَمَا نقُول نَحن وَتشهد بِهِ نُصُوص توراتكم وَجَمِيع كتبكم أَو يكون ليوسف ولد أعقب غير أفرايم ومنشا فَلَو كَانَ ذَلِك فكتبكم كلهَا كَاذِبَة أَولهَا عَن آخرهَا من التَّوْرَاة فَمَا وَرَاءَهَا لِأَنَّهُ فِي كل مَكَان ذكر فِيهِ رُتْبَة معسكر الأسباط سبطاً سبطاً وعددهم إِذْ خَرجُوا من مصر وعددهم إِذْ دخلُوا الشَّام وعددهم إِذْ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذَّهَب وعددهم إِذْ وقفُوا على الجبلين للبركة واللعنة وعددهم إِذْ نقشت أَسمَاؤُهُم فِي الفصوص الْمرتبَة على صدر هَارُون فِي أَزِيد من ألف مَوضِع فِي سَائِر كتبهمْ وَلم يذكر ليوسف الإسبطين فَقَط سبط منشا وسبط أفرايم فَبَطل الِاعْتِرَاض بذلك الْكَلَام الْمَذْكُور وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقد علم كل من يُمَيّز من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَن الْكَثْرَة الْخَارِجَة من الْأَوْلَاد لم تُوجد فِي الْعَالم لصعوبة الْأَمر فِي تربية أَطْفَال النَّاس وَلكَون الْإِسْقَاط فِي الْحَوَامِل ولإبطاء حمل الْمَرْأَة بَين بطن وبطن ولكثرة الْمَوْت فِي الْأَطْفَال فَهَذِهِ أَربع عوارض قواطع دون الْكَثْرَة الخارجية فِي الْأَوْلَاد للنَّاس ثمَّ كَون الْإِنَاث فِي الولادات أَيْضا وَلَو طلبنا أَن نعد من عَاشَ لَهُ عشرُون ولدا فَصَاعِدا من الذُّكُور بلغُوا الْحلم فَمَا وجدناهم إِلَّا فِي الندرة ثمَّ فِي الْقَلِيل من الْمُلُوك وَذَوي الْيَسَار المفرط الَّذين تَنْطَلِق ايديهم على الْكثير من النِّسَاء وَالْإِمَاء ثمَّ على الخدام اللواتي هن العون على التربية والكفاية وعَلى كَثْرَة المَال الَّذِي لَا يكون المعاش إِلَّا بِهِ وَأما من لَا يجد إِلَّا الكفاف وفوقه مِمَّا لَا يبلغ الْإِكْثَار من الوفر وَلَا يقدر إِلَّا على الْمَرْأَة والمرأتين وَنَحْو ذَلِك فَلَا يُوجد هَذَا فيهم الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يُمكن ذَلِك أصلا لَهُم لما ذكرنَا آنِفا من القواطع الْمَوَانِع وَقد شاهدنا النَّاس وبلغتنا أَخْبَار أهل الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَكثر بحثنا عَمَّا غَابَ منا ووصلت إِلَيْنَا التواريخ الْكَثِيرَة الْمَجْمُوعَة فِي أَخْبَار من سلف من عرب وعجم فِي كثير من الْأُمَم فَمَا وجدنَا فِي ذَلِك الْمَعْهُود من عدد أَوْلَاد الذُّكُور فِي المكثرين الَّذين يتحدث بهم عِنْد كَثْرَة الْوَلَد إِلَّا من أَرْبَعَة عشر ذكرا فَأَقل وَأما مَا زَاد إِلَى الْعشْرين فنادر جدا هَذِه الْحَال فِي جَمِيع بِلَاد أهل الْإِسْلَام وَالَّذِي بلغنَا عَن ممالك النَّصَارَى إِلَى أَرض الرّوم وممالك الصقالبة وَالتّرْك والهند والسودان قَدِيما وحديثاً وَأما الثَّلَاثُونَ فَأكْثر فَمَا بلغنَا ذَلِك إِلَّا عَن نفر يسير عَمَّن سلف مِنْهُم أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَخَلِيفَة بن أبي السَّعْدِيّ وَأَبُو بكرَة فَإِن هَؤُلَاءِ لم يموتوا حَتَّى مشي بَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم مائَة ذكر من وَلَده وَعمر بن عبد الْملك فَإِنَّهُ كَانَ يركب مَعَه سِتُّونَ رجلا من وَلَده وجعفر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَإِنَّهُ عَاشَ لَهُ أَرْبَعُونَ ذكر من وَلَده سوى أبنائهم وَعبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ ولد لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ذكرا عَاشَ مِنْهُم نَيف وَثَلَاثُونَ ومُوسَى ابْن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب فَإِنَّهُ بلغ لَهُ مِنْهُم مبلغ الرِّجَال وَاحِد وَثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا كلهم وَكَانَ أَبوهُ أَمِيرا على الْيمن مرّة قَائِما وَمرَّة والياً لِلْمَأْمُونِ ووصيف مولى المعتصم التركي كَانَ لَهُ خَمْسَة وَخَمْسُونَ ذكرا بالغون من وَلَده الأدنين وتامرت مولي بني مُنَاد صَاحب طرابلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فَإِنَّهُ كَانَ يركب وَمَعَهُ ثَمَانُون من أَوْلَاده الأدنين إِلَّا أَن هَذَا كَانَ يغتصب كل امْرَأَة أَعْجَبته من أمة أَو حرَّة وَبِوَلَدِهَا وَرجل من مُلُوك البربر من بني دمر معتزلي كَانَ يركب مَعَه مِائَتَا فَارس من وَلَده وَولد وَلَده وَتَمِيم بن زيد بن يعلي بن مُحَمَّد العرني فَإِنَّهُ بلغنَا أَنه كَانَ لَهُ نَيف وَخَمْسُونَ ذكرا بالغون وَكَانَ ملك بني نفر مِمَّن ملك بلادا عظمية وَأَبُو الهار بن زيرى بن منكاد فَكَانَ يركب مَعَه ثَلَاثُونَ ذكرا من وَلَده الأدنين ومرزوق ابْن أشكر بن الثغري بِجِهَة لارده فَكَانَ يركب مَعَه ثَلَاثُونَ فَارِسًا من وَلَده الأدنين وبلغنا عَن ملك من مُلُوك الْهِنْد أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانُون ولدا ذُكُورا بالغون وتذكر الْيَهُود فِي تواريخهم أَن رَئِيسا كَانَ يدبر أَمرهم يُسمى جدعون ابْن بواش من بني منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ سَبْعُونَ ولدا ذُكُورا وَإِن آخر مِنْهُم أَيْضا من سبط منشا يُسمى بَابَيْنِ بن جلعاد كَانَ لَهُ اثْنَان وَثَلَاثُونَ ولدا ذُكُورا وَآخر من مدبريهم اسْمه عبدون بن هِلَال من بني افرايم بن يُوسُف كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ابْنا ذُكُورا بالغون وَآخر من مدبريهم من سبط يهوذا اسْمه افصان من سكان بَيت لحم كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ زَوْجَة وَثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا وَثَلَاثُونَ بِنْتا وتزعم الْفرس أَن جودرز الْملك عَليّ كرمان كَانَ لَهُ تسعون ابْنا ذُكُورا بالغون فَإِذا كَانَت هَذِه الصّفة لم نجدها مُنْذُ نَحْو ثَلَاثَة آلَاف عَام إِلَّا فِي أقل من عشْرين إنْسَانا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا فِي الْأُمَم السالفة والخالفة مِمَّن علت حَاله وامتد عمره وَكَثُرت أَمْوَاله وَعِيَاله فَكيف يَتَأَتَّى من هَذَا الْعدَد مَا لم يسمع بِمثلِهِ قطّ فِي الدَّهْر لَا فِي نَادِر وَلَا فِي شَاذ لبني إِسْرَائِيل كَافَّة بِمصْر وحالهم فِيهَا مَعْرُوفَة مَشْهُورَة لَا يقدر أحد على إنكارها وَهِي أَنهم كَانُوا فِي حَيَاة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فِي كفاف من الْعَيْش أَصْحَاب غنم فَقَط وَلم يَكُونُوا فِي يسَار فائض ثمَّ كَانُوا بعد موت يُوسُف وَإِخْوَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي فاقة عَظِيمَة وَعَذَاب وَنصب وسخرة مُتَّصِلَة وذل راتب وبلاءٍ دائب وتعب زاهق يكَاد يقطع عَن الشِّبَع فَكيف عَن الاتساع فِي الْعِيَال والأشر فِي الاستكثار من الْوَلَد فَهَذِهِ كذبة عَظِيمَة مطبقة فاضحة وثانية وَهِي أَن فِي توراتهم أَنهم كَانُوا ساكنين فِي أَرض قَوس فَقَط وَأَن معاشهم كَانَ من الْمَوَاشِي فَقَط وَذكر فِي توراتهم أَنهم خَرجُوا من مصر خَرجُوا بِجَمِيعِ مَوَاشِيهمْ فاعجبوا أَيهَا السامعون وتفكروا مَا الَّذِي يَكْفِي سِتّمائَة ألف وَثَلَاثَة آلَاف لم يعد فيهم بن أقل من عشْرين سنة سوى النِّسَاء للقوت وَالْكِسْوَة من الْمَوَاشِي ثمَّ اعلموا يَقِينا أَن أَرض مصر كلهَا تضيق عَن مسرح هَذَا الْمِقْدَار من الْمَوَاشِي فَكيف أَرض قَوس وَحدهَا وهم يَقُولُونَ فِي توراتهم أَن إِبْرَاهِيم ولوطاً عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يحمل كَثْرَة مَوَاشِيهمْ أَرض وَاحِدَة وَلَا أمكنهما أَن يسكنا مَعًا فَكيف بمواش تقوم بأزيد من ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف إِنْسَان لقد كَانَ الَّذِي عمل لَهُم هَذِه الْكتب الملعونة المكذوبة ضَعِيف الْعقل وَقَلِيل الفكرة فِيمَا يُطلق بِهِ قلمه فَهَذِهِ كذبة فَاحِشَة ثَانِيَة عَظِيمَة جدا وثالثة أَنه ذكر فِي توراتهم أَنهم كَانُوا كلهم يسخرون فِي عمل الطوب وتالله إِن سِتّمائَة ألف طواب لكثير جدا لَا سِيمَا فِي قَوس وَحدهَا وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا أَنهم كَانُوا مُتَفَرّقين فَإِن توراتهم تَقول غير هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتخبر أَنهم كَانُوا مُجْتَمعين ذكر ذَلِك فِي مَوَاضِع جمة مِنْهَا حَيْثُ أَمرهم بِذبح الخرفان وَمَسّ الْعِنَب بِالدَّمِ وَمِنْهَا حَيْثُ أَبَاحَ لَهُم فِرْعَوْن الْخُرُوج مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانُوا كلهم مُجْتَمعين بمواشيهم يَوْم خُرُوجهمْ وَهَذِه كذبة عَظِيمَة ثَالِثَة لَا خَفَاء بهَا وَالرَّابِعَة أَنه ذكر أَن بني لاوي ثَلَاثَة رجال فَقَط قهاث وجرشون ومراري وَأَن ذُكُور نسل هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فَقَط كَانُوا اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا من الذُّكُور خَاصَّة من بن شهر فَصَاعِدا من جُمْلَتهمْ ثَمَانِيَة آلَاف رجل وَخَمْسمِائة رجل وَثَمَانُونَ رجلا لَيْسَ فيهم بن أقل من ثَلَاثِينَ سنة وَلَا ابْن أَكثر من خمسين سنة ثمَّ ذكر أَوْلَاد مراري فَلم يذكر لَهُ إِلَّا وَلدين محلي وموشي فَقَط وَذكر أَوْلَاد جرشون بن لاوي فَلم يذكر إِلَّا وَلدين لبني وشمعي وَذكر أَوْلَاد قهاث بن لاوي فَلم يذكر إِلَّا أَرْبَعَة فَقَط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فَرجع نسل لاوي كُله إِلَى هَؤُلَاءِ الثَّمَانِية فَقَط ثمَّ لم يجْعَلُوا لتوجيه التَّأْوِيل فِي كذبهمْ مساغاً بل عد أَوْلَاد عمرام بِأَنَّهُم مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَط والعازار وفرصوم ابْني مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَا صغيرين حِينَئِذٍ جدا وَأَرْبَعَة أَوْلَاد لهارون عَلَيْهِ السَّلَام وعد أَوْلَاد يصهار فَذكر قورح وَإِخْوَته وَثَلَاثَة أَوْلَاد لقورح وَبَقِي سَائِر الْعدَد الْمَذْكُور من الألوف وَهِي ثَمَانِيَة آلَاف رجل وسِتمِائَة رجل لَا يعد فيهم بن أقل من شهر من بني قهاث خَاصَّة رَاجعا إِلَى أَوْلَاد حبرون وعزيئيل وأخوي قورح فَقَط هَذَا والصافان بَين عزيئيل حَيّ مقدم طبقته سوى النِّسَاء وَلَعَلَّ عددهن كعدد الرِّجَال وَهَذَا من أَحمَق الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَمن قلَّة الْحيَاء فِي الدرجَة الْعليا وَمن الْكَذِب الْبَحْث فِي الْمُقدمَة وَمن الْمحَال فِي الْمحل الْأَقْصَى وجار مجْرى الخرافات الَّتِي تقال عِنْد السمر بِاللَّيْلِ ولعمري لَو ضل بِتَصْدِيق هَذَا المهوس الْفَاجِر وَاحِد وَاثْنَانِ لَكَانَ عجبا فَكيف أَن يضل بِهِ عَالم عَظِيم وجيل بعد جيل مذ أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة عَام مذ كتب لَهُم عزّر الْوراق هَذَا السخام الَّذِي أضلهم بِهِ وَنَحْمَد الله على عَظِيم نعْمَته علينا كثيرا ونسأله الْعِصْمَة فِي بَاقِي أعمارنا مِمَّا امتحن بِهِ من شَاءَ ضلاله آمين آمين وَالْخَامِسَة قَوْله فِي سفر يُوشَع أَنه وَقع لبني هَارُون ثَلَاث عشرَة مَدِينَة والعازار بن هَارُون حَيّ قَائِم فيا للنَّاس أَفِي الْمحَال أَكثر من أَن يدْخل فِي عقل أحد أَن نسل هَارُون بعد مَوته بِسنة وَأشهر يبلغ عددا لَا يَسعهُ للسُّكْنَى إِلَّا ثَلَاث عشرَة مَدِينَة هَل لهَذَا الْحمق دَوَاء إِلَّا الغل والقيد والمجمعة وَمَا يتبع ذَلِك من الكي وَالسَّوْط ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وكذبة سادسة ظريفة جدا وَهِي انه ذكر فِي توراتهم أَن عدد ذُكُور بني جرشون بن لاوي من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة وَإِن عدد ذُكُور بني قهاث بن لاوي من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف وسِتمِائَة وَإِن عدد ذُكُور بني مراري بن لاوى من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا سِتَّة آلَاف وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَالَ فَجَمِيع الذُّكُور من بني لاوي من ابْن شهر فَصَاعِدا اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا فَكَانَ هَذَا ظريفاً جدا أَو شَيْئا تندى مِنْهُ الاباط وَهل يجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أحد أَن الْأَعْدَاد الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ يجْتَمع مِنْهَا وَاحِدًا وَعشْرين ألفا وَثَلَاث مائَة هَذَا أَمر لَا نَدْرِي كَيفَ وَقع أتراه بلغ المسخم الْوَجْه الَّذِي كتب لَهُم هَذَا الْكتاب الأحمق من الْجَهْل بِالْحِسَابِ هَذَا الْمبلغ إِن هَذَا لعجب وَلَقَد كَانَ الثور أهدي مِنْهُ وَالْحمار ابْنه مِنْهُ بِلَا شكّ أَتَرَى لم يَأْتِ بعده من الْيَهُود مذ أَزِيد من ألف عَام وَخَمْسمِائة عَام من تبين لَهُ أَن هَذَا خطاء وباطل وَلَا يُمكن أَن يَدعِي هُنَا غلط من الْكتاب وَلَا وهم من النَّاسِخ فِي بعض النّسخ لِأَنَّهُ لم يدعنا فِي لبس من ذَلِك وَلَا فِي شكّ من فَسَاد مَا أَتَى بِهِ بل أكد ذَلِك وَبَينه وفضحه وأوضحه بِأَن قَالَ إِن بكور ذُكُور بني إِسْرَائِيل كَانُوا اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة وَسبعين وَإِن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَأْخُذ بني لاوي الذُّكُور عَن بكور ذُكُور بني إِسْرَائِيل وَأَن يَأْخُذ عَن الْمِائَتَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالسبْعين الزائدين من بكور بني إِسْرَائِيل عَن الِاثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا من بني لاوي عَن كل رَأس خَمْسَة أشقال فضَّة فَاجْتمع من ذَلِك ألف شقل وثلثمائة شقل وَخَمْسَة وَسِتُّونَ شقلاً فارتفع الأشكال جملَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وتالله مَا سمعنَا قطّ بأخبث طِينَة وَلَا أفسد جبلة مِمَّن كتب لَهُم هَذَا الضلال إِلَّا من اتبعهُ وَصدق بضلاله فَهَذِهِ سِتّ كذبات فِي نسق لَو لم يكن فِي توراتهم مِنْهَا إِلَّا وَاحِد لَكَانَ برهاناً قَاطعا مُوجبا لليقين بِأَنَّهَا كتاب مَوْضُوع بِلَا شكّ مبدل محرف صَغِير مَكْذُوب فَكيف بِجَمِيعِ مَا أوردنا من ذَلِك ونورد إِن شَاءَ الله ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَيَتْلُو هَذَا كذبة شائعة بشيعة شنيعة وَهِي أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ابْن ابشاي بن عونيذ بن بوعز بن شلومون بن نخشون بن عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن عوينيذ الْمَذْكُور جد دَاوُد أَبَا أَبِيه كَانَت أمه رَوْث العمونية الَّتِي لَهَا كتاب مُفْرد من كتب النُّبُوَّة وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن من خُرُوجهمْ من مصر إِلَى ولَايَة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت سِتّمائَة سنة وست وَسِتِّينَ وَفِي نَص التَّوْرَاة عِنْدهم وَبلا خلاف مِنْهُم أَن مقدم بني يهوذا إِذْ خَرجُوا من مصر كَانَ نحشون بن عمينا دَاب الْمَذْكُور وَأَنه أَخُو امْرَأَة هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي نَص توراتهم أَنهم قَالُوا قَالَ الله تَعَالَى أَنه لَا يدْخل الأَرْض المقدسة من خرج من مصر وَله عشرُون سنة فَصَاعِدا إِلَّا يهوشع بن نون الإفرايمي وكالب ابْن يفنة اليهوذاني فصح ضَرُورَة أَن نحشون مَاتَ فِي التيه وَأَن الدَّاخِل فِي أَرض الشَّام هُوَ ابْنه شلومون فَأَقْسَمُوا الْآن سِتّمائَة وست وَسِتِّينَ على أَربع ولادات فَقَط وَهَذِه ولادَة بوعز بن شلومون الدَّاخِل ثمَّ ولادَة عونيذ بن بوعز بن رَوْث العمونية ثمَّ ولادَة ابشاي بن عونيذ ثمَّ ولادَة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ ابشاسي ثمَّ لَا تخلف كتبهمْ فِي أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ولي وَله ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة عِنْد تَمام الستمائة سنة وست وَسِتِّينَ فَيَنْبَغِي أَن تسْقط سنو دَاوُد إِذْ ولي من الْعدَد الْمَذْكُور يكون الْبَاقِي خَمْسمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَسبعين سنة لثلاث ولادات وَهِي ولادَة أبشاي وولادة عونيذ وولادة بوعز فتأملوا ابْن كم كَانَ وَاحِد مِنْهُم إِذْ ولد لَهُ ابْنه الْمَذْكُور تعلمُوا أَنه كذب مُسْتَحِيل فِي نِسْبَة ذَلِك من أعمارهم يَوْمئِذٍ لِأَن فِي كتبهمْ نصا أَنه لم يَعش أحد بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي بني إِسْرَائِيل مائَة وَثَلَاثِينَ سنة إِلَّا يهوباراع الكوهن الهاروني وَحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بِالضَّرُورَةِ يجب أَن كل وَاحِد مِمَّن ذكرنَا كَانَ لَهُ أَزِيد من مائَة ونيف وَأَرْبَعين إِذْ ولد لَهُ ابْنه الْمَذْكُور وَهَذِه أَقْوَال يكذب بَعْضهَا بَعْضًا فصح ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا أَنَّهَا كلهَا مبدلة مستعملة محرفة مكذوبة ملعونة وَثَبت أَن ديانتهم الْمَأْخُوذَة من هَذِه الْكتب ديانَة فَاسِدَة مكذوبة من عمل الْفُسَّاق ضَرُورَة كالشيء الْمدْرك بالعيان واللمس وَنَحْمَد الله على السَّلامَة فصل ثمَّ وصف قيام بني إِسْرَائِيل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وطلبهم مِنْهُ اللَّحْم للْأَكْل وَذكروا شوقهم إِلَى القرع والقثاء والبصل والكراث والثوم الَّذِي تشبه رَائِحَته فِي الروائح عُقُولهمْ فِي الْعُقُول وَذكروا ضجرهم من الْمَنّ وَالله عز وَجل قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نقُول للعامة تقدسوا غَدا تَأْكُلُوا اللَّحْم هَا أَنا أسمعكم قائلين من ذَا يطعمنا أكل اللَّحْم قد كُنَّا بِخَير بِمصْر ليعطيكم السَّيِّد اللَّحْم فتأكلون لَيْسَ يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا خَمْسَة وَلَا عشرَة حَتَّى تكمل أَيَّام الشَّهْر حَتَّى يخرج على مناخركم ويصيبكم التخم لما تخليتم عَن السَّيِّد الَّذِي هُوَ فِي وسطكم ويبكون قدامه قائلين لماذا أخرجنَا من مصر فَقَالَ مُوسَى لله تَعَالَى هم سِتّمائَة ألف رجل وَأَنت تَقول أَنا أعطيهم اللحوم شهرا طعماً أَتَرَى تكْثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم فيقتاتون بهَا أم تجمع حيتان الْبَحْر مَعًا لتشبعهم فَقَالَ لَهُ الرب أَتَرَى يَد السَّيِّد عاجزة سترى أَن يوافيك كَلَامي أم لَا ثمَّ ذكر أَن الله تَعَالَى أرسل ريحًا فأت بالسماني من خلف الْبَحْر إِلَى بني إِسْرَائِيل فأكلوها وَدخل اللَّحْم بَين أضراسهم وأصابتهم التُّخمَة وَأَخذهم وباء شَدِيد مَاتَ مِنْهُم بِهِ كثير وَإِن هَذَا كَانَ فِي الشَّهْر الثَّانِي من خُرُوجهمْ من مصر قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي اللله عَنهُ ذكر فِي هَذَا الْفَصْل آيَات من الله رب الْعَالمين وَمَا تَأتي لَهُ طامة أَلا تكَاد تنسي مَا قبلهَا فَأول ذَلِك إِخْبَار اللعين الْمُبدل للتوراة بِأَن الله تَعَالَى إِذْ قَالَ لمُوسَى غَدا تَأْكُلُونَ اللَّحْم إِلَى تَمام الشَّهْر قَالَ لَهُ مُوسَى هم سِتّمائَة ألف رجل وَأَنت تَقول أَنا أعطيهم اللحوم طَعَاما شهياً أَتَرَى تكْثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم يقتاتون بهَا أَو تجمع حيتان الْبَحْر مَعًا لتشبعهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حاش لله أَن يُرَاجع رجل لَهُ من الْعقل مسكة ربه عز وَجل هَذِه الْمُرَاجَعَة وَأَن يشك فِي قوته على ذَلِك وعَلى مَا هُوَ أعظم مِنْهُ فَكيف رَسُول نَبِي أَتَرَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام دخله قطّ شكّ فِي أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يكثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم حَتَّى يشبعهم أَو على أَن يَأْتِيهم من حيتان الْبَحْر بِمَا يشبعهم مِنْهُ حاش لله من ذَلِك أتراه خَفِي على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يرْزق جَمِيع بني آدم فِي شَرق الأَرْض وغربها اللَّحْم وَغير اللَّحْم وَأَنه تَعَالَى رَازِق سَائِر الْحَيَوَانَات كلهَا من الطَّائِر والعائم والمنساب والماشي على رجلَيْنِ وَأَرْبع وَأكْثر حَتَّى يستنكر أَن يشْبع شرذمة قَليلَة لَا قدر لَهَا من اللَّحْم حاش لَهُ من ذَلِك فَكيف يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام الأحمق حاش لَهُ من ذَلِك وَقبل ذَلِك بعام وَشهر وَبَعض آخر طلبُوا اللَّحْم فَأَتَاهُم بالسماني والمن وأكلوا ذَلِك بِنَصّ توراتهم أتراه نسي ذَلِك فِي هَذِه الْمدَّة الْيَسِيرَة أَو يظنّ أَنه قدر على الأولى ويعجز عَن الثَّانِيَة حاشا لَهُ من هَذَا الهوس ثمَّ زِيَادَة فِي بَيَان هَذَا الْكَذِب أَن فِي توراتهم إِن بني إِسْرَائِيل إِذْ خَرجُوا من مصر مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مُوسَى خَرجُوا بِجَمِيعِ مَوَاشِيهمْ من الْبَقر وَالْغنم وَأَن أهل بَيت مِنْهُم ذَبَحُوا جدياً أَو خروفاً فِي تللك اللَّيْلَة وَذكر فِي مَوَاضِع مِنْهَا أَنهم أهدوا الكباش والتيوس والخرفان والجديان وَالْبَقر والعجول إِلَى قبَّة الْعَهْد وَذكروا فِي آخرهَا أَن بني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط بني منشا كَانَ مَعَهم غنم كثير وَمن الْبَقر عدد لَا يُحْصى فِي حِين ابْتِدَاء قِتَالهمْ وفتحهم لأرض الشَّام فَأَي عِبْرَة فِي إشباعهم من اللَّحْم وَاللَّحم حَاضر مَعَهم كثير لَا قَلِيل ثَلَاثَة من الْغنم كَانَت تَكْفِي الْوَاحِد مِنْهُم شهرا كَامِلا وثور وَاحِد كَانَ يَكْفِي أَرْبَعَة مِنْهُم شهرا كَامِلا على أَن يَأْكُلُوا اللَّحْم قوتاً حَتَّى يشبعوا بِلَا خبز فَكيف إِذا تأدموا بِهِ فَأَي عجب فِي إشباعهم بِاللَّحْمِ حَتَّى يُرَاجع مُوسَى ربه تَعَالَى بإنكار ذَلِك من قُوَّة ربه عز وَجل فَهَل فِي الْعَالم أَحمَق مِمَّن كتب هَذِه الكذبة الشنيعة الْبَارِدَة السخيفة الممزوجة بالْكفْر اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على تسليمك لنا مِمَّا امتحنتهم بِهِ فَإِن قَالُوا إِن فِي كتابكُمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لزكريا {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى} الْآيَة وَأَن زَكَرِيَّا قَالَ لرَبه تَعَالَى {أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً وَقد بلغت من الْكبر عتياً قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} الْآيَة {قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سوياً} وَفِي كتابكُمْ أَيْضا أَن الْملك قَالَ لِمَرْيَم {أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً قَالَت أَنى يكون لي غُلَام} الْآيَة {قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} الْآيَة قُلْنَا لَيْسَ فِي جَوَاب زَكَرِيَّا وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام اعْتِرَاض على بشرى الْبَارِي عز وَجل لَهما كَمَا فِي كتابكُمْ عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا فِي كَلَام زَكَرِيَّا وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام إِنْكَار على أَن يعطيهما وَلدين وهما عقيم وَبكر إِنَّمَا سَأَلَا أَن يعرفا الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يكون الْوَلَد فَقَط لِأَن إِنِّي فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِلَا خلاف أَن مَعْنَاهَا من أَيْن فصح مَا قُلْنَا من أَنَّهُمَا سألاه أَن يعرفهما الله تَعَالَى من أَيْن يكون لَهما الْوَالِدَان أَو من أَي جِهَة أبنكاح زَكَرِيَّا لامْرَأَة أُخْرَى أم نِكَاح رجل لِمَرْيَم أم من اختراعه تَعَالَى وَقدرته فَإِنَّمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا الْآيَة ليظْهر صدقه عِنْد قومه وَلِئَلَّا يظنّ أَنَّهُمَا أخذاه وادعياه هَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرنَا من الْقُرْآن دون تكلّف تَأْوِيل بِنَقْل لفظ أَو زِيَادَة أَو حذف بِخِلَاف مَا حكيتم عَن مُوسَى من الْكَلَام الَّذِي لَا يحْتَمل التَّكْذِيب فَقَط فصل وَبعد ذَلِك ذكر قيام مَرْيَم وَهَارُون أخي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام معاندين لمُوسَى من أجل امْرَأَته الحبشية قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَكَيف تكون حبشية وَقد قَالَ فِي أول توراتهم أَنَّهَا بنت يثرون المدياني وَهُوَ بِلَا شكّ من ولد مَدين بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فأحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يكذب الآخر فصل ذكر كَمَا ذكرنَا أَن فِي الشَّهْر الثَّانِي من السّنة الثَّانِيَة من خُرُوجهمْ من مصر كَانَ طَلَبهمْ اللَّحْم كَمَا ذكرنَا وَأَنه بعد ذَلِك وَقع لهارون وَمَرْيَم الشغب مَعَ مُوسَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أخيهما عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَأَن مَرْيَم مَرضت وأخرجت من المعسكر سَبْعَة أَيَّام حَتَّى بَرِئت ثمَّ رجعت وَأَن بعد ذَلِك وَجه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الاثْنَي عشر رجلا الَّذين كَانَ من جُمْلَتهمْ هوشع ابْن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني ليروا الأَرْض المقدسة وَذكر أَنهم طافوها فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ رجعُوا وخوفوا بني إِسْرَائِيل حاشا كالب وهوشع وَأَن الله تَعَالَى سخط عَلَيْهِم وأهلكهم وَأوحى إِلَى مُوسَى أما جيفكم فستكون ملقاة فِي المفاز وَيكون أَوْلَادكُم سابحين فِي المفاز أَرْبَعِينَ سنة على عدد الْأَرْبَعين يَوْمًا الَّتِي دوختم فِيهَا الْبَلَد اجْعَل لكم كل يَوْم سنة وتكافئون أَرْبَعِينَ سنة بخطاياكم وَأَنَّهُمْ بقوا فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة فَلَمَّا أَتموا أَمرهم الله عز وَجل بالحركة فتحركوا ثمَّ مَاتَت مَرْيَم أُخْت مُوسَى عَلَيْهَا السَّلَام ثمَّ مَاتَ هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ حَارب مُوسَى عوج وسحون الْملكَيْنِ واحذ بلادهما وَأعْطى بلادهما لبني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط منشا ثمَّ حَارب المدينتين وَقتل ملوكهما ثمَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَاتَ وَله مائَة سنة وَعِشْرُونَ سنة وَفِي صدر توراتهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ خرج عَن مصر كَانَ لَهُ ثَمَانُون سنة هَذَا كُله نَص توراتهم حرفا حرفا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب فَاحش وَقد قُلْنَا أَن الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم كَانَ قَلِيل الْعلم بِالْحِسَابِ ثقيل الْيَد فِيهِ جدا أَو عياراً مَاجِنًا مستخفاً لَا دين لَهُ سخر مِنْهُم بأمثال التيوس وَالْحمير لِأَنَّهُ إِذا أخرج وَله ثَمَانُون سنة وَبَقِي بعد خُرُوجه سنة وشهرا ثمَّ تاهوا أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ قَاتلُوا ملوكاً عدَّة وقتلوهم وَأخذُوا بِلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ فقد اجْتمع من ذَلِك ضَرُورَة زِيَادَة على الْمِائَة وَالْعِشْرين سنة أَكثر من سنة وَلَا بُد والأغلب أَنَّهُمَا سنتَانِ زائدتان فكذب وَلَا بُد فِي سنّ مُوسَى إِذْ مَاتَ أَو كذب الْوَعْد الَّذِي أخبر عَن الله تَعَالَى بتيههم أَرْبَعِينَ سنة حاشا للباري تَعَالَى أَن يكذب أَو أَن يغلط فِي دقيقة أَو أقل وحاشا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مثل ذَلِك وَصَحَّ أَنَّهَا مولودة مَوْضُوعَة فصل ثمَّ ذكر فِي السّفر الْخَامِس فَقَالَ إِن طلع فِيكُم نَبِي وَادّعى أَنه رأى رُؤْيا وأتاكم بِخَبَر مَا يكون وَكَانَ مَا وَصفه ثمَّ قَالَ لكم بعد ذَلِك اتبعُوا أَبنَاء إلهة الْأَجْنَاس فَلَا تسمعوا لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل شنعة من شنع الدَّهْر وتدسيس كَافِر مُبْطل للنبوات كلهَا لِأَنَّهُ أثبت النُّبُوَّة بقوله إِن طلع فِيكُم نَبِي ويصدقه فِي الْأَخْبَار بِمَا يكون ثمَّ أَمرهم بمعصيته إِذا دعاهم إِلَى اتِّبَاع آلِهَة الْأَجْنَاس وَهَذَا تنَاقض فَاحش وَلَئِن جَازَ أَن يكون نَبِي يصدق فِيمَا ينذر بِهِ يدعوا إِلَى الْبَاطِل وَالْكفْر فَلَعَلَّ صَاحب هَذِه الْوَصِيَّة من أهل هَذِه الصّفة وَمَا الَّذِي يؤمننا من ذَلِك وَهل هَا هُنَا يُوجب تَصْدِيقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 واتباعه ويبينه من الْكَاذِبين إِلَّا مَا صَحَّ نبوته من المعجزات فَلَمَّا لَزِمت مَعْصِيَته إِذا أَمر بباطل فَإِن مَعْصِيّة مُوسَى لَازِمَة وَغير جَائِزَة فِي شَيْء مِمَّا أَمر بِهِ إِذْ لَعَلَّه أَمر بباطل إِذْ كَانَ فِي الْمُمكن أَن يكون نَبِي يَأْتِي بالمعجزات يَأْمر بباطل وحاش لله أَن يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام وَالله مَا قَالَه قطّ وَلَقَد كذب عَلَيْهِ الْكذَّاب الْمُبدل للتوراة وَكَذَلِكَ حاش لله أَن يظْهر آيَة على يَدي من يُمكن أَن يكذب أَو يَأْمر بباطل هَذَا هُوَ التلبيس من الله على عباده ومزج الْحق بِالْبَاطِلِ وخلطهما حَتَّى لَا يقوم برهَان على تَحْقِيق حق وَلَا إبِْطَال بَاطِل وَاعْلَمُوا أَن هَذَا الْفَصْل من توراتهم وال فصل الملعون الَّذِي فِيهِ أَن السَّحَرَة عمِلُوا مثل بعض مَا عمل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُمَا مبطلان على الْيَهُود المصدقين بهما نبوة كل نَبِي يقرونَ لَهُ بنبوة قطعا لِأَنَّهُ لَا فرق فيهمَا بَين مُوسَى وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ وَبَين الْكَذَّابين والسحرة وحاش لله من هَذَا وَبِه تَعَالَى نَعُوذ من الخذلان هَذَا مَعَ قَوْله بعد ذَلِك وَأَيّمَا نَبِي أحدث فِيكُم من ذَاته نبوة مِمَّا لم نأمر بِهِ وَلم أَعهد إِلَيْهِ بِهِ أَو تنبأ فِيكُم يَدْعُو للآلهة والأوثان فَاقْتُلُوهُ فَإِن قُلْتُمْ فِي أَنفسكُم من أَيْن يعلم أَنه من عِنْد الله أَو من ذَاته فَهَذَا علمه فِيكُم إِذا أنبأ بِشَيْء وَلم يكن فاعلموا أَنه من ذَاته قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَلَام صَحِيح وَهَذَا مضاد للَّذي قبله من أَنه يُنبئ بالشَّيْء فَيكون كَمَا قَالَ وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَدْعُو إِلَى عبَادَة غير الله وَالْقَوْم مخذولون نقلوا دينهم عَن زنادقة مستخفين لَا مُؤنَة عَلَيْهِم أَن ينسبوا إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْكفْر والضلال وَالْكذب والعمد كَالَّذي ذكرنَا قبل وكنسبتهم إِلَى هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَنه هُوَ الَّذِي عمل الْعجل لبني إِسْرَائِيل وَبنى لَهُ مذبحاً وَقرب لَهُ القربان وجرد استاه قومه للرقص والغناء قُدَّام الْعجل عُرَاة وكما نسبوا إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قرب القرابين للأوثان على الكدي وَأَنه قتل يواب بن صوريا صَبر أَو هُوَ نَبِي مثله وكما نسبوا إِلَى شاول وَهُوَ نَبِي عِنْدهم يوحي إِلَيْهِ قتل النُّفُوس ظلما ونسبوا إِلَى بلعام با عابورا وَهُوَ نَبِي عِنْدهم يوحي الله تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ الْمَلَائِكَة العون على الْكفْر وَأَن مُوسَى وجيشه قَتَلُوهُ ثمَّ نسبوا النُّبُوَّة إِلَى منشابن حزقيا الْملك وَهُوَ بإقرارهم كَافِر مَلْعُون يعبد الْأَوْثَان وَيقتل الْأَنْبِيَاء وينسبون المعجزات إِلَى شمسون الدابي وَهُوَ عِنْدهم فَاسق مَشْهُور بِالْفِسْقِ متعشق للفواسق ملمٌّ بِهن وينسبون المعجزات إِلَى السَّحَرَة فاعجبوا الْعَظِيم بليتهم واحمدوا الله على السَّلامَة واسألوه الْعَافِيَة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فصل ثمَّ قَالَ آخر توراتهم فَتوفي مُوسَى عبد الله بذلك الْموضع فِي أَرض مؤاب مُقَابل بَيت فغور وَلم يعرف آدَمِيّ مَوضِع قَبره إِلَى الْيَوْم وَكَانَ مُوسَى يَوْم توفّي ابْن مائَة وَعشْرين سنة لم ينقص بَصَره وَلَا تحركت أَسْنَانه فنعاه بَنو إِسْرَائِيل فِي أوطنة مؤاب ثَلَاثِينَ يَوْمًا وأكملوا نعيه ثمَّ إِن يشوع بن نون امْتَلَأَ من روح الله إِذْ جعل مُوسَى يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسمع لَهُ بَنو إِسْرَائِيل وفعلوا مَا أَمر الله بِهِ مُوسَى وَلم يخلف مُوسَى فِي بني إِسْرَائِيل نَبِي مثله وَلَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بِكَلِمَة الله مُوَاجهَة فِي جَمِيع عجائبه الَّتِي فعل على يَدَيْهِ بِأَرْض مصر فِي فِرْعَوْن مَعَ عبيده وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَلَا من صنع مَا صنع مُوسَى فِي جمَاعَة بني إِسْرَائِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا آخر توراتهم وتمامها وَهَذَا الْفَصْل شَاهد عدل وبرهان تَامّ وَدَلِيل قَاطع وَحجَّة صَادِقَة فِي أَن توراتهم مبدلة وَأَنَّهَا تَارِيخ مؤلف كتبه لَهُم من تحرض بجهله أَو تعمد بفكره وَأَنَّهَا غير منزلَة من عِنْد الله تَعَالَى إِذْ لَا يُمكن أَن يكون هَذَا الْفَصْل منزلا على مُوسَى فِي حَيَاته فَكَانَ يكون أَخْبَارًا عَنْهُمَا لم يكن بمساق مَا قد كَانَ وَهَذَا هُوَ مَحْض الْكَذِب تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَوله لم يعرف قَبره آدَمِيّ إِلَى الْيَوْم بَيَان لما ذكرنَا كَاف وَأَنه تَارِيخ ألف بعد دهر طَوِيل وَلَا بُد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَا هُنَا انْتهى مَا وجدنَا من التَّوْرَاة للْيَهُود الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الربانيون والعانانيون والعيسويون والصدوقيون مِنْهُم مَعَ النَّصَارَى أَيْضا بِلَا خلاف مِنْهُم فِيهَا من الْكَذِب الظَّاهِر فِي الْأَخْبَار وَفِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى ثمَّ عَن مَلَائكَته ثمَّ عَن رسله عَلَيْهِم السَّلَام من المناقضات الظَّاهِرَة وَالْفَوَاحِش المضافة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَو لم يكن فِيهَا إِلَّا فصل وَاحِد من الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا لَكَانَ مُوجبا وَلَا بُد لكَونهَا مَوْضُوعَة محرفة مبدلة مكذوبة فَكيف وَهِي سَبْعَة وَخَمْسُونَ فصلا من جُمْلَتهَا فُصُول بِجمع الْفَصْل الْوَاحِد مِنْهَا سبع كذبات أَو مناقضات فَأَقل سوى ثَمَانِيَة عشر فصلا يتكاذب فِيهَا نَص توراة الْيَهُود مَعَ نَص تِلْكَ الْأَخْبَار بِأَعْيَانِهَا عِنْد النَّصَارَى وَالْكذب لائح وَلَا بُد فِي إِحْدَى الحكايتين فَمَا ظنكم بِمثل هَذَا الْعدَد من الْكَذِب والمناقضة فِي مِقْدَار توراتهم وَإِنَّمَا هِيَ مِقْدَار مائَة ورقة وَعشرَة أوراق فِي كل صفحة مِنْهَا من ثَلَاثَة وَعشْرين سطراً إِلَى نَحْو ذَلِك بِخَط هوإلى الِانْفِسَاخ أقرب يكون فِي السطر بضع عشرَة كلمة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنحن نصف إِن شَاءَ الله تَعَالَى حَال كَون التَّوْرَاة عِنْد نبى إِسْرَائِيل من أول دولتهم إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى انْقِرَاض دولتهم إِلَى رجوعهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَى أَن كتبهَا لَهُم عزّر الْوراق بِإِجْمَاع من كتبهمْ واتفاق من عُلَمَائهمْ دون خلاف يُوجد من أحد مِنْهُم فِي ذَلِك وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ من ذَلِك نبهنا عَلَيْهِ ليتيقن كل ذِي فهم أَنَّهَا محرفة مبدلة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ دخل بَنو إِسْرَائِيل الْأُرْدُن وفلسطين والغور مَعَ يُوشَع بن نون مُدبر أَمرهم عَلَيْهِ السَّلَام إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ يُوشَع العازار بن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام صَاحب السرادق بِمَا فِيهِ وَعِنْده التَّوْرَاة لَا عِنْد أحد غَيره بإقرارهم فدبر يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم فِي استقامة وألزمهم للدّين إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة مذمات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن مَاتَ يُوشَع ثمَّ دبرهم فيخاس بن العزر بن هَارُون وَهُوَ صَاحب السرادق والكوهن الْأَكْبَر والتوراة عِنْده لَا عِنْد أحد غَيره خمْسا وَعشْرين سنة فِي استقامة والتزام للدّين ثمَّ مَاتَ وَطَائِفَة مِنْهُم عَظِيمَة يَزْعمُونَ أَنه حَيّ إِلَى الْيَوْم وَثَلَاثَة أنفس إِلَيْهِ وهم الياس النَّبِي الهاروني عَلَيْهِ السَّلَام وملكيصيدق بن فالج بن عَامر بن ارفخشاذ بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَالْعَبْد الَّذِي بَعثه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليزوج إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام رفْقَة بنت بتوئيل بن ناخور أخي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا انْقَضتْ الْمدَّة الْمَذْكُورَة لفينحاس بن العزر كفر بَنو إِسْرَائِيل وَارْتَدوا كلهم وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة فملكهم كَذَلِك ملك صور وصيدا مُدَّة ثَمَانِيَة أَعْوَام على الْكفْر ثمَّ دبر أَمرهم عثنيال بن قنار بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أَرْبَعِينَ سنة على الْإِيمَان ثمَّ مَاتَ فَكفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَارْتَدوا وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة فملكهم كَذَلِك عفلون ملك بني مؤاب ثَمَان عشرَة سنة على الْكفْر ثمَّ دبر أَمرهم أهوَ ذبن قارا قيل أَنه من سبط أفرايم وَقيل من سبط بنيامين وَاخْتلف أَيْضا فِي مُدَّة رياسته فَقيل ثَمَانُون سنة وَقيل خمس وَخَمْسُونَ سنة على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ دبرهم سمْعَان بن غاث بن سبط أَشَارَ خمْسا وَعشْرين سنة على الْإِيمَان ثمَّ مَاتَ فَكفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً فملكهم كَذَلِك مراش الكنعاني عشْرين سنة على الْكفْر ثمَّ دبرت أَمرهم دبور النبتية من سبط يهوذا وَكَانَ زَوجهَا رجلا يُسمى السدوث من سبط أفرايم إِلَى أَن مَاتَت وهم على الْإِيمَان فَكَانَ مُدَّة تدبيرها لَهُم أَرْبَعُونَ سنة فَلَمَّا مَاتَت كفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَارْتَدوا وعبدوا الْأَوْثَان جهارا فملكهم عوزبب وزاب ملك بني مَدين سبع سِنِين على الْكفْر ثمَّ دبر أَمرهم جدعون بن بواس من سبط أفرايم وَقيل بل سبط منشا وهم يصفونَ أَنه كَانَ نَبيا وَكَانَ لَهُ وَاحِد وَسَبْعُونَ ابْنا وكورا فملكهم على الْإِيمَان أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ مَاتَ وَولي ابْنه أَبُو ملك ابْن جدعون وَكَانَ فَاسِقًا خَبِيث السِّيرَة فَارْتَد جَمِيع بني إِسْرَائِيل وَكَفرُوا وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً وأعانه أَخْوَاله من أهل نابلس من بني إِسْرَائِيل من سبط يُوسُف بتسعين ديراً من بَيت ماعل الصَّنَم ومضوا مَعَه فَقتل جَمِيع إخْوَته حاشا وَاحِد مِنْهُم أفلت وَبَقِي كَذَلِك ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن قتل ودبرهم بعده مولع بن قوا من سبط يساخر وَلم نجد بَيَانا هَل كَانَ على الْإِيمَان أَو على الْكفْر خمْسا وَعشْرين سنة ثمَّ مَاتَ ثمَّ دبر أَمرهم بعده بَابَيْنِ بن جلعاد من سبط منشا اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ لَهُ اثْنَان وَثَلَاثُونَ ولدا ذُكُورا قد ولي كل وَاحِد مِنْهُم مَدِينَة من مَدَائِن بني إِسْرَائِيل فَارْتَد بَنو إِسْرَائِيل كلهم بعد مَوته وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً وملكهم بَنو عمون ثَلَاث عشرَة سنة مُتَّصِلَة على الْكفْر ثمَّ قَامَ فيهم رجل من سبط منشا اسْمه هيلع بن جلعاد وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنه كَانَ ابْن زَانِيَة وَكَانَ فَاسِقًا خَبِيث السِّيرَة نذر إِن أظفره الله بعدوه أَن يقرب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أول من يلقاه من منزله فَأول من لقِيه ابْنَته وَلم يكن لَهُ ولد غَيرهَا فوفي بنذره وذبحها قرباناً وَكَانَ فِي عصره نَبِي فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَأَنه قتل من بني أفرايم اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف رجل فملكهم سِتّ سِنِين ثمَّ مَاتَ فوليهم بعده أفصات من سبط يهوذا من سكان بَيت لحم وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا فوليهم سبع سِنِين وَقيل سِتّ سِنِين ثمَّ مَاتَ وَالْأَظْهَر من حَاله على مَا توجبه أخبارهم الاسْتقَامَة ووليهم بعده إيلون من سبط زبلون عشر سِنِين إِلَى أَن مَاتَ وَولي بعده عبدون بن هِلَال من سبط أفرايم ثَمَانِي سِنِين على الْإِيمَان وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا ذُكُورا فَلَمَّا مَاتَ ارْتَدَّ بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَكَفرُوا وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً فملكهم الفلسطينيون وهم الكنعانيون وَغَيرهم أَرْبَعِينَ سنة على الْكفْر ثمَّ دبرهم شمشون بن مانوح من سبط داني وَكَانَ مَذْكُورا عِنْدهم بِالْفِسْقِ وَاتِّبَاع الزواني فدبرهم عشْرين سنة وينسبون إِلَيْهِ المعجزات ثمَّ أسر وَمَات فدبر بَنو إِسْرَائِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 بَعضهم بَعْضًا فِي سَلامَة وإيمان أَرْبَعِينَ سنة بِلَا رَئِيس يجمعهُمْ ثمَّ دبرهم الكاهن الهاروني على الْإِيمَان عشْرين سنة إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ دبرهم شمويل بن فتان النَّبِي من سبط أفرايم قيل عشْرين سنة وَقيل أَرْبَعِينَ سنة كل ذَلِك فِي كتبهمْ على الْإِيمَان وَذكروا أَنه كَانَ لَهُ ابْنَانِ قوهال وببايجو أَن فِي الحكم ويظلمان النَّاس وَعند ذَلِك رَغِبُوا إِلَى شمويل أَن يَجْعَل لَهُم ملكا فولى عَلَيْهِم شاول الدّباغ بن قيش بن انيل بن شارون بن بورات بن آسيا بن خس من سبط بنيامين وَهُوَ طالوت فوليهم عشْرين سنة وَهُوَ أول ملك كَانَ لَهُم ويصفونه بِالنُّبُوَّةِ وبالفسق وَالظُّلم والمعاصي مَعًا وَأَنه قتل من بني هَارُون نيفاً وَثَمَانِينَ إنْسَانا وَقتل نِسَاءَهُمْ وأطفالهم لأَنهم أطعموا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خبْزًا فَقَط فاعلموا الْآن أَنه كَانَ مذ دخلُوا الأَرْض المقدسة إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ولَايَة أول ملك لَهُم وَهُوَ شاول الْمَذْكُور سبع ردات فارقوا فِيهَا الْإِيمَان وأعلنوا بِعبَادة الْأَصْنَام فأولها بقوا فِيهَا ثَمَانِيَة أَعْوَام وَالثَّانيَِة ثَمَانِيَة عشر عَاما وَالثَّالِثَة عشْرين عَاما وَالرَّابِعَة سَبْعَة أَعْوَام وَالْخَامِسَة ثَلَاثَة أَعْوَام وَرُبمَا أَكثر وَالسَّادِسَة ثَمَانِيَة عشر عَاما وَالسَّابِعَة أَرْبَعِينَ عَاما فتأملوا أَي كتاب يبْقى مَعَ تمادي الْكفْر ورفض الْإِيمَان هَذِه المدد الطوَال فِي بلد صَغِير مِقْدَار ثَلَاثَة أَيَّام فِي مثلهَا فَقَط لَيْسَ على دينهم وَاتِّبَاع كِتَابهمْ أحد على ظهر الأَرْض غَيرهم ثمَّ مَاتَ شاول الْمَذْكُور مقتولاً وَولى أَمرهم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وهم ينسبون إِلَيْهِ الزِّنَا عَلَانيَة بِأم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنَّهَا ولدت مِنْهُ من الزِّنَا ابْنا مَاتَ قبل ولادَة سُلَيْمَان فعلى من يضيف هَذَا إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ألف ألف لعنة وينسبون إِلَيْهِ أَنه قتل جَمِيع أَوْلَاد شاول لذنب أَبِيهِم حاشا صَغِيرا مقْعدا كَانَ فيهم فَقَط وَكَانَت مدَّته عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ ولي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَقد وصفوه بِمَا ذكرنَا قبل وَذكروا عَنهُ أَن نَفَقَته فَرضهَا على الأسباط لكل سبط شهر من السّنة وَأَن جنده كَانُوا اثْنَي عشر ألف فَارس على الْخَيل وَأَرْبَعين ألفا على الرمك خلافًا لما فِي التَّوْرَاة أَن لَا يكثروا من الْخَيل وَهُوَ الَّذِي بني الهيكل فِي بَيت الْمُقَدّس وَجعل فِيهِ السرادق والمذبح والمنارة الْآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هَارُون فَكَانَت ولَايَته أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام فافترق أَمر بني إِسْرَائِيل فَصَارَ بَنو يهوذ وَبَنُو بنيامين لبني سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فِي بَيت الْمُقَدّس وَصَارَ ملك الأسباط الْعشْرَة الْبَاقِيَة إِلَى ملك آخر مِنْهُم يسكن بنابلس على ثَمَانِيَة عشر ميلًا من بَيت الْمُقَدّس وبقوا كَذَلِك إِلَى ابْتِدَاء إدبار أَمرهم على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَذْكُر بحول الله تَعَالَى وقوته أَسمَاء مُلُوك بني سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وأديانهم ثمَّ نذْكر مُلُوك الأسباط الْعشْرَة وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد ليرى كل وَاحِد كَيفَ كَانَت حَال التَّوْرَاة والديانة فِي أَيَّام دولتهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ولي أثر موت سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ابْنه رحبعام بن سُلَيْمَان وَله سِتّ عشرَة سنة وَكَانَت ولَايَته سَبْعَة عشر عَاما فأعلن الْكفْر طول ولَايَته وَعبد الْأَوْثَان جهاراً هُوَ وَجَمِيع رَعيته وجنده بِلَا خلاف مِنْهُم وَيَقُولُونَ أَن جنده كَانُوا مائَة ألف وَعشْرين ألف مقَاتل وَفِي أَيَّامه غزا ملك مصر فِي سَبْعَة آلَاف فَارس وَخَمْسَة عشر ألف رجل إِلَى بَيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الْمُقَدّس يَأْخُذهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ وهرب رجسام وانتهب ملك مصر الْمَدِينَة وَالْقصر والهيكل وَأخذ كل مَا فِيهَا وَرجع إِلَى مصر سالما غانماً ثمَّ مَاتَ رحبعام على الْكفْر فولي مَكَانَهُ ابْنه أَبَيَا وَله ثَمَان عشرَة سنة فَبَقيَ على الْكفْر هُوَ وجنده ورعيته وعَلى عبَادَة الْأَوْثَان عَلَانيَة وَكَانَت ولَايَته سِتّ سِنِين وَيَقُولُونَ قتل من الأسباط الْعشْرَة فِي حروبه مَعَهم خَمْسمِائَة ألف إِنْسَان ثمَّ ولي بعد مَوته ابْنه اسابن ابيا وَله عشر سِنِين وَكَانَ مُؤمنا فهدم بيُوت الْأَوْثَان وَأظْهر الْإِيمَان وَبَقِي فِي ولَايَته إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة على الْإِيمَان وَذكروا أَن جنده كَانُوا ثَلَاثمِائَة ألف مقَاتل من بني يهوذا واثنين وَخمسين ألفا من بني بنيامين وَمَات وَولي بعده ابْنه يَهو شافاط بن أسا وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة فَكَانَت ولَايَته خمْسا وَعشْرين سنة وَذكروا عَنهُ أَنه كَانَ على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ فولي ابْنه يهورام بن يَهو شافاط وَلم نجد أَمر سيرته وَدينه إِلَّا أَنه كَانَ مؤلفاً الْعِبَادَة والأوثان من مُلُوك سَائِر الأسباط وَولى وَله اثْنَان وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَت ولَايَته ثَمَانِيَة أَعْوَام وَمَات فولي مَكَانَهُ ابْنه أحزياهو وَله اثْنَان وَعِشْرُونَ سنة فأظهر الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام فِي جَمِيع رَعيته وَكَانَت ولَايَته سنة وَقتل فوليت أمه عثلياهو بنت عمري ملك الْعشْرَة الأسباط فتمادت على أَشد مَا يكون من الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتلت الْأَطْفَال وَأمرت بإعلان الزِّنَا فِي الْبَيْت الْمُقَدّس وَجَمِيع عَملهَا وعهدت أَن لَا تمنع امْرَأَة مِمَّن أَرَادَ الزِّنَا مَعهَا وعهدت أَن لَا يُنكر ذَلِك أحد فَبَقيت كَذَلِك سِتّ سِنِين إِلَى أَن قتلت فولي ابْن ابْنهَا يؤاش بن احزياهو وَله سبع سِنِين فاتصلت ولَايَته أَرْبَعِينَ سنة وأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتل زَكَرِيَّا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْحِجَارَةِ ثمَّ قَتله غلمانه فولي بعده ابْنه أمصياهو بن يؤاش وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته فَبَقيَ كَذَلِك إِلَى أَن قتل وَهُوَ على الْكفْر وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة فِي أَيَّامه انتهب مُلُوك الأسباط الْعشْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس وأغاروا على كل مَا فِيهِ مرَّتَيْنِ ثمَّ ولي بعده عزياهو بن أمصياهو وَله سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته فَبَقيَ كَذَلِك إِلَى أَن قتل وَهُوَ على الْكفْر وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة وَفِي أَيَّامه انتهب مُلُوك الأسباط الْعشْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس وأغاروا على كل مَا فِيهِ مرَّتَيْنِ ثمَّ ولي بعده عزيا هُوَ بن أمصياهو وَله سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت ولَايَته اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَهُوَ قتل عاموص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الداوودي فولي بعده ابْنه يوثام ابْن عزيا هُوَ وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة وَلم نجد لَهُ سيرة وَكَانَت ولَايَته سِتّ عشرَة سنة فَمَاتَ فولي مَكَانَهُ ابْنه احاز بن يوثام وَله عشرُون سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَكَانَت ولَايَته سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ فولي بعده ابْنه حزقيا بن أحاز وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة فأظهر الْإِيمَان وَهدم بيُوت الْأَوْثَان وَقتل خدمتهما وَبَقِي على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ هُوَ وَجَمِيع رَعيته وَفِي السّنة السَّابِعَة من ولَايَته انْقَطع ملك الْعشْرَة الأسباط من بني إِسْرَائِيل وَغلب عَلَيْهِم سُلَيْمَان الأعسر ملك الْموصل وسباهم ونقلهم إِلَى أمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وبلاد الجزيرة وَسكن فِي بِلَاد الأسباط الْعشْرَة أهل أمد والجزيرة فأظهروا دين السامرة الَّذين هُنَاكَ إِلَى الْيَوْم ثمَّ مَاتَ حزقيا وَولي بعده ابْنه منشا بن حزقيا وَله ثنتا عشرَة سنة فَفِي السّنة الثَّالِثَة من ملكه أظهر الْكفْر وَبنى بيُوت الْأَوْثَان وَأظْهر عبادتها هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَقتل شعيا النَّبِي قيل نشره بِالْمِنْشَارِ من رَأسه إِلَى مخرجه وَقيل قَتله بِالْحِجَارَةِ وَأحرقهُ بالنَّار وَالْعجب كُله أَنهم يصفونَ فِي بعض كتبهمْ بِأَن الله أوحى إِلَيْهِ مَعَ ملك من الْمَلَائِكَة وَأَن ملك بابل كَانَ أسره وَحمله إِلَى بَلَده وَأدْخلهُ فِي ثَوْر نُحَاس وأوقد النَّار تَحْتَهُ فَدَعَا الله فَأرْسل إِلَيْهِ ملكا فَأخْرجهُ من الثور ورده إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَأَنه تَمَادى مَعَ ذَلِك كُله على كفره حَتَّى مَاتَ وَكَانَت ولَايَته خمْسا وَخمسين فَقولُوا يَا معشر السامعين بلد تعلن فِيهِ عبَادَة الْأَوْثَان وتبني هياكلها وَيقتل من وجد فِيهِ من الْأَنْبِيَاء كَيفَ يجوز أَن يبْقى فِيهِ كتاب الله سالما أم كَيفَ يُمكن هَذَا فَلَمَّا مَاتَ منشا ولي مَكَانَهُ ابْنه آمون بن منشا وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما فَكَانَت ولَايَته سنتَيْن على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ فولي مَكَانَهُ ابْنه يوشيا بن آموز وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين فَفِي السّنة الثَّالِثَة من ملكه أعلن الْإِيمَان وَكسر الصلبان وأحرقها واستأصل هياكلها وَقتل خدامها وَلم يزل على الْإِيمَان إِلَى أَن قتل قَتله ملك مصر وَفِي أَيَّامه أَخذ أرميا النَّبِي السرادق والتابوت وَالنَّار وأخفاها حَيْثُ لَا يدْرِي أحد لعلمه بفوت ذهَاب أَمرهم ثمَّ ولي بعده ابْنه يهويا حوز بن يوشيا وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة فَرد الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان وَأخذ التَّوْرَاة من الكاهن الهاروني وَنشر مِنْهَا أَسمَاء لله حَيْثُ وجدهَا وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وأسره ملك مصر فولي مَكَانَهُ يهويا قيم بن نوشيا أَخُوهُ وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة فأعلن الْكفْر وَبنى بيُوت الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَقطع الدّين جملَة وَأخذ التَّوْرَاة من الهاروني فأحرقها بالنَّار وَقطع أَثَرهَا وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى عشرَة سنة وَمَات فولي مَكَانَهُ ابْنه يهويا كين بن يهويا قيم وتلقب بنخيا وَهُوَ بن ثَمَان عشرَة سنة فَأَقَامَ على الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وأسرة بخْتنصر فولي مَكَانَهُ عَمه متنيا بن يوشيا وتلقب صدقا وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة فَثَبت على الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى عشر سنة وأسره بخْتنصر وَهدم الْبَيْت وَالْمَدينَة واستأصل جَمِيع بني إِسْرَائِيل وأخلى الْبَلَد مِنْهُم وَحَملهمْ إِلَى بِلَاد بابل وَهُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَبني سُلَيْمَان جملَة فَهَذِهِ كَانَت صفة مُلُوك بني سُلَيْمَان بن دَاوُود عَلَيْهِمَا السَّلَام فاعلموا الْآن أَن التَّوْرَاة لم تكن من أول دولتهم إِلَى انْقِضَائِهَا إِلَّا عِنْد الهاروني الكوهن الْأَكْبَر وَحده فِي الهيكل فَقَط وَأما مُلُوك الأسباط الْعشْرَة فَلم يكن فيهم مُؤمن قطّ وَلَا وَاحِد فَمَا فَوْقه بل كَانُوا كلهم معلنين بِعبَادة الْأَوْثَان مخيفين للأنبياء مانعين الْقَصْد إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يكن فيهم نَبِي قطّ إِلَّا مقتولاً أَو هَارِبا مخافاً فَإِن قيل أَلَيْسَ قد قتل الياس جَمِيع أَنْبيَاء بابل لأجل الوثن الَّذِي كَانَ يعبده الْملك والنخلة الَّتِي كَانَت تعبدها بني إِسْرَائِيل وهم ثَمَانمِائَة وَثَمَانُونَ رجلا قُلْنَا إِنَّمَا كَانَ بِإِقْرَار كتبهمْ فِي مشْهد وَاحِد ثمَّ هرب من وقته وطلبته امْرَأَة الْملك لتقتله وَمَا أبصره أحد فَأول مُلُوك الأسباط الْعشْرَة يربعام بن ناباط الافرايمي وليهم إِثْر موت سُلَيْمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم فَعمل من حِينه عجلين من ذهب وَقَالَ هَذَانِ إلاهاكم اللَّذَان خلصاكم من مصر وَبنى لَهما هيكلين وَجعل لَهما سدنة من غير بني لاوي وعبدهما هُوَ وَجَمِيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أهل مَمْلَكَته ومنعهم من الْمسير إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ كَانَ شريعتهم لَا شَرِيعَة لَهُم غير الْقَصْد إِلَيْهِ والقربان فِيهِ فَملك أَرْبعا وَعشْرين سنة ثمَّ مَاتَ وَولي ابْنه ناداب بن يربعام على الْكفْر الْمُعْلن سنتَيْن ثمَّ قَتله هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولى بعشا بن إيلا من بني يساخر على عبَادَة الْأَوْثَان عَلَانيَة أَرْبعا وَعشْرين سنة وَولى وَلَده أيلا بن بعشا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سنتَيْن إِلَى أَن قَامَ عَلَيْهِ رجل من قواده اسْمه زمري فَقتله وَجَمِيع أهل بَيته وَولى زمري سَبْعَة أَيَّام فَقتل وأحرق عَلَيْهِ دَاره وافترق أَمرهم على رجلَيْنِ أَحدهمَا يُسمى تبني بن جينة وَالْآخر عمري فبقيا كَذَلِك اثْنَتَيْ عشرَة عَاما ثمَّ مَاتَ تبني وَانْفَرَدَ بملكهم عمري فَبَقيَ كَذَلِك ثَمَانِيَة أَعْوَام على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ وَولي بعده ابْنه أحاب بن عمري على أَشد مَا يكون من الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِحْدَى وَعشْرين سنة وَفِي أَيَّامه كَانَ الياس النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام هَارِبا عَنهُ فِي الفلوات وَعَن امْرَأَته بنت ملك صيدا وهما يطلبانه للْقَتْل ثمَّ مَاتَ أحاب وَولى ابْنه أحزيا بن أحاب على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان ثَلَاث سِنِين ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ أَخُوهُ يهورام ابْن أحاب على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَفِي أَيَّامه كَانَ اليسع عَلَيْهِ السَّلَام وَولي مَكَانَهُ يَا هُوَ بن نمشي من سبط منشيا فَكَانَ أقلهم كفرا هدم هياكل مَا على الوثن وَقتل سدنته إِلَّا أَنه لم ينقص قطع عبَادَة الْأَوْثَان بل ترك النَّاس عَلَيْهَا وَلم يظْهر الْإِيمَان فولي كَذَلِك ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَمَات وَولي مَكَانَهُ ابْنه يهويا حَاز بن ياهو سبع عشرَة سنة فَبنى بيُوت الْأَوْثَان وأعلن عبادتها هُوَ ورعيته إِلَى أَن مَاتَ وَفِي كتبهمْ أَن أَمر الأسباط الْعشْرَة ضعف فِي أَيَّامه حَتَّى لم يكن مَعَه من الْجند الاخمسون فَارِسًا وَعشرَة آلَاف رجل فَقَط لِأَن ملك دمشق غلب عَلَيْهِم وقتلهم وَولي مَكَانَهُ ابْنه يواش ابْن يهويا حازست عشرَة سنة على أَشد من كفر أَبِيه وَأخذ فِي عبَادَة الوثان وَهُوَ الَّذِي غزا بَيت الْمُقَدّس وأغار عَلَيْهِ وعَلى الهيكل وَأخذ كل مَا فِيهِ وَهدم من سور الْمَدِينَة أَرْبَعمِائَة ذِرَاع وهرب عَنهُ ملك يهوذ ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ ابْنه ياربعام بن يؤاش خمْسا وَأَرْبَعين سنة على مثل كفر أَبِيه وَعبادَة الْأَوْثَان وغزا أَيْضا بَيت الْمُقَدّس وهرب أَمَامه ملكهَا الداوودي فَأتبعهُ فَقتله ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ ابْنه زخريا بن يار بعام بن يؤاش بن يهويا حَاز بن يَا هُوَ بن نمشي سِتَّة أشهر على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولي مَكَانَهُ شلوم ابْن نامس من سبط نفتالي فَملك شهرا وَاحِدًا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان ثمَّ قتل وَولي بعده مياخيم بن قارا من سبط يساخر عشْرين سنة على عبَادَة الْأَوْثَان وَالْكفْر وَمَات وَولي مَكَانَهُ ابْنه محيا بن مياخيم على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سنتَيْن إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولي مَكَانَهُ ناجح بن مَلِيًّا من سبط داني فَملك ثمانياً وَعشْرين سنة على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَفِي أَيَّامه أَجلي تباشر ملك الجزيرة بني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط منشيا من بِلَادهمْ بالغور وَحَملهمْ إِلَى بِلَاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَسكن بِلَادهمْ قوما من بِلَاده ثمَّ ولي مَكَانَهُ هُوَ سيع بن إيلا من سبط جادا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سبع سِنِين إِلَى أَن أسره كَمَا ذكرنَا سُلَيْمَان الأعسر ملك الْموصل وَحمله والتسعة الأسباط وَنصف سبط منشيا إِلَى بِلَاده أسرى وَسكن بِلَادهمْ قوما من أهل بَلَده وهم السامرية إِلَى الْيَوْم وَهُوَ سيع هَذَا آخر مُلُوك الأسباط الْعشْرَة وانقضى أَمرهم فبقايا المنقولين من أمد والجزيرة إِلَى بِلَاد بني إِسْرَائِيل هم الَّذين يُنكرُونَ التَّوْرَاة جملَة وَعِنْدهم توراة أُخْرَى غير هَذِه الَّتِي عِنْد الْيَهُود وَلَا يُؤمنُونَ بِنَبِي بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يَقُولُونَ بِفضل بَيت الْمُقَدّس وَلَا يعرفونه وَيَقُولُونَ أَن الْمَدِينَة المقدسة هِيَ نابلس فَأمر توراة أُولَئِكَ أَضْعَف من توراة هَؤُلَاءِ لأَنهم لَا يرجعُونَ فِيهَا إِلَى نَبِي أصلا وَلَا كَانُوا هُنَالك أَيَّام دولة بني إِسْرَائِيل وَإِنَّمَا عَملهَا لَهُم رؤساهم أَيْضا فقد صَحَّ يَقِينا أَن جَمِيع أَسْبَاط بني إِسْرَائِيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين وَمن كَانَ بَينهم من بني هَارُون بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مُدَّة مِائَتي عَام وَوَاحِد وَسبعين عَاما لم يظْهر فيهم قطّ إِيمَانًا وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا فَمَا فَوْقه وَإِنَّمَا كَانُوا عباد أوثان وَلم يكن قطّ فيهم نَبِي إِلَّا مخاف وَلَا كَانَ للتوراة عِنْدهم لَا ذكر وَلَا رسم وَلَا أثر وَلَا كَانَ عِنْدهم شيءٌ من شرائعها أصلا مضى على ذَلِك جَمِيع عامتهم وَجَمِيع مُلُوكهمْ وهم عشرُون ملكا قد سميناهم إِلَى أَن أوجلوا ودخلوا فِي الْأُمَم وتدينوا بدين الصابئين الَّذين كَانُوا بَينهم متملكين وَانْقطع رسم رميميهم إِلَى الْأَبَد فَلَا يعرف مِنْهُم عين أحد وَظهر يَقِينا أَن بني يهوذا وَبني بنيامين كَانَت مُدَّة ملكهم بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعمِائَة سنة غير أَعْوَام على اخْتِلَاف من كتبهمْ فِي ذَلِك فِي بضعَة عشر عَاما وَقد قُلْنَا أَنَّهَا كتب مدخولة فَاسِدَة ملك هذَيْن السبطين فِي هَذِه الْمدَّة من بني سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام تِسْعَة عشر رجلا وَمن غَيرهم امْرَأَة تَمُّوا بهَا عشْرين ملكا قد سميناهم كلهم آنِفا كَانُوا كفَّارًا معلنين بِعبَادة الْأَوْثَان حاشا خَمْسَة مِنْهُم فَقَط كَانُوا مُؤمنين وَلَا مزِيد وهم اشا بن أساولي إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة وَابْنه يهوشا فاط بن أشاولي خمْسا وَعشْرين سنة فَهَذِهِ سِتَّة وَسِتُّونَ اتَّصل فيهم الْكفْر ظَاهرا وَعبادَة الْأَوْثَان ثمَّ ثَمَانِيَة أَعْوَام ليورام بن يهوشا فاط لم نجد لَهُ حَقِيقَة دين فحملناه على الْإِيمَان لسَبَب أَبِيه ثمَّ اتَّصل الْكفْر ظَاهرا وَعبادَة الْأَوْثَان فِي مُلُوكهمْ وعامتهم مائَة عَام وَسِتِّينَ عَاما مَعَ كفر سَائِر أسباطهم فعمهم الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان فِي أَوَّلهمْ وَآخرهمْ فَأَي كتاب أَو أَي دين يبْقى مَعَ هَذَا ثمَّ ولي حزقياً الْمُؤمن تسعا وَعشْرين سنة ثمَّ اتَّصل الْكفْر بعد فِي عامتهم وملوكهم وَعبادَة الْأَوْثَان سبعا وَخمسين سنة ثمولى يوشا الْمُؤمن الْفَاضِل إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة ثمَّ لم يل بعده إلأأ كَافِر معلن بِعبَادة الْأَوْثَان مُدَّة اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما وَسِتَّة أشهر مِنْهُم من نشر أَسمَاء الله من التَّوْرَاة وَمِنْهُم من أحرقها وَقطع أَثَرهَا وَلم نجد بعد هَؤُلَاءِ ظهر فيهم إِيمَان إِلَّا الْكفْر وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى أَن انْقَطع أَمرهم جملَة بغارة بخْتنصر وَسبوا كلهم وَهدم الْبَيْت واستأصل أَثَره إِلَى غارات كَانَت على مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس وهيكلها الَّذِي لم تكن التَّوْرَاة عِنْد أحد إِلَّا فِيهِ لم يتْرك فِيهَا شَيْء مرّة أغار عَلَيْهِم صَاحب مصر أَيَّام رحبعام بن سُلَيْمَان ومرتين فِي أَيَّام أمصيا هُوَ الْملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 من قبل صَاحب الْعشْرَة الأسباط إِلَى أَن أملهَا عَلَيْهِم من حفظه عزّر الْوراق الهاروني وهم مقرون أَنه وجدهَا عِنْدهم وفيهَا خللٌ كثير فأصلحه وَهَذَا يَكْفِي وَكَانَ كِتَابَة عزّر للتوراة بعد أَزِيد من سبعين سنة من خراب بَيت الْمُقَدّس وكتبهم تدل على أَن عزرا لم يَكْتُبهَا لَهُم وَلم يصلحها إِلَّا بعد نَحْو أَرْبَعِينَ عَاما من رجوعهم إِلَى الْبَيْت بعد السّبْعين عَاما الَّتِي كَانُوا فِيهَا خالين وَلم يكن فيهم حِينَئِذٍ نَبِي أصلا وَلَا الْقبَّة وَلَا التابوت وَاخْتلف فِي النَّار كَانَت عِنْدهم أم لَا وَمن ذَلِك الْوَقْت انتشرت التَّوْرَاة وَنسخت وَظَهَرت ظهوراً ضَعِيفا أَيْضا وَلم تزل تتداولها الْأَيْدِي مَعَ ذَلِك إِلَى أَن جعل أنطاكيوس الْملك الَّذِي بنى أنطاكية وثناً لِلْعِبَادَةِ فِي بَيت الْمُقَدّس وَأخذ بني إِسْرَائِيل بِعِبَادَتِهِ وَقربت الْخَنَازِير على مذبح الْبَيْت ثمَّ تولى أَمرهم قوم من بني هَارُون بعد مئتين من السنين وانقطعت القرابين فَحِينَئِذٍ انتشرت نسخ التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم وأحدث لَهُم أَحْبَارهم صلوَات لم تكن عِنْدهم جعلوها بَدَلا من القرابين وَعمِلُوا لَهُم دينا جَدِيدا ورتبوا لَهُم الْكَنَائِس فِي كل قَرْيَة بِخِلَاف حَالهم طول دولتهم وَبعد هَلَاك دولتهم بأزيد من أَرْبَعمِائَة عَام وأحدثوا لَهُم اجتماعاً فِي كل سبت على مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم بِخِلَاف مَا كَانُوا طول دولتهم فَإِنَّهُ لم يكن لَهُم فِي شَيْء من بِلَادهمْ بَيت عبَادَة وَلَا مجمع ذكر وَتعلم وَلَا مَكَان قرْبَان قربَة الْبَتَّةَ إِلَّا بَيت الْمُقَدّس وَحده وَمَوْضِع السرادق قبل بُنيان بَيت الْمُقَدّس فَقَط وبرهان هَذَا أَن فِي سفر يُوشَع بن نون بإقرارهم أَن بنى رؤا بَين وَبني جادا وَنصف سبط منشأ إِذا رجعُوا بعد فتح بِلَاد الْأُرْدُن وفلسطين إِلَى بِلَادهمْ بشرقي الْأُرْدُن بنوا مذبحاً فهم يُوشَع بن نون وَسَائِر بني إِسْرَائِيل بغزوهم من أجل ذَلِك حَتَّى أرْسلُوا إِلَيْهِ أننا لم نقمه لَا لقربان وَلَا لتقديس أصلا ومعاذ الله أَن نتَّخذ مَوضِع تقديس غير الْمُجْتَمع عَلَيْهِ الَّذِي فِي السرادق وَبَيت الله فَحِينَئِذٍ كف عَنْهُم فَفِي دون هَذَا كِفَايَة لمن عقل فِي أَنَّهَا كتاب مبدل مَكْذُوب مَوْضُوع وَدين مَعْمُول خلاف الدّين الَّذِي يقرونَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُم بِهِ وَمَا يزِيد الشَّيْطَان مِنْهُم أَكثر من هَذَا وَلَا فِي الضلال فَوق هَذَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن فِي التَّوْرَاة الَّتِي ترجمها السبعون شَيخا لبطليموس الْملك بعد ظُهُور التَّوْرَاة وفشوها مُخَالفَة للَّتِي كتبهَا لَهُم عزرا الْوراق وتدعي النَّصَارَى أَن تِلْكَ الَّتِي ترْجم السبعون شَيخا فِي اخْتِلَاف أَسْنَان الْآبَاء بَين آدم ونوح عَلَيْهِمَا السَّلَام الَّتِي من أجل ذَلِك الِاخْتِلَاف تولد بَين تَارِيخ الْيَهُود وتاريخ النَّصَارَى زِيَادَة ألف عَام ونيف على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن كَانَ هُوَ كَذَلِك فقد وضح الْيَقِين وَكذب السبيعن شَيخا وتعمدهم لنقل الْبَاطِل وهم الَّذين عَنْهُم أخذُوا دينهم وأفٍ أفٍ لدين أَخذ عَن مُتَيَقن كذبه وايضاً فَإِن فِي السّفر الْخَامِس من أسفار التَّوْرَاة الَّذِي يسمونه التّكْرَار أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى اصْنَع لَو حِين على حَال الْأَوَّلين واصعد إِلَى الْجَبَل واعمل تابوتاً من خشب لأكتب فِي اللَّوْحَيْنِ الْعشْر كَلِمَات الَّتِي أسمعكم السَّيِّد فِي الْجَبَل من وسط اللهيب عِنْد اجتماعكم إِلَيْهِ وَيرى بهما إِلَيّ فَانْصَرَفت من الْجَبَل وجعلتهما فِي التابوت وهما فِيهِ إِلَى الْيَوْم وَفِي السّفر الْمَذْكُور أَيْضا بعد هَذَا الْفَصْل قَالَ وَمن بعد أَن كتب مُوسَى هَذِه العهود فِي مصحف واستوعبها أَمر نبى لاوي حاملي تَابُوت عهد الرب وَقَالَ لَهُم خُذُوا هَذَا الْمُصحف واجعلوه فِي المذبح وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ تَابُوت عهد الرب إِلَهكُم ليَكُون عَلَيْكُم شَاهدا وَقَالَ قبل ذَلِك فِي السّفر الْمَذْكُور أَيْضا إِذا استجمعتم على تَقْدِيم ملك عَلَيْكُم على حَال مُلُوك الْأَجْنَاس فَلَا تقدمُوا إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 من ارتضاء الرب من عدد إخوتكم وَلَا تقدمُوا أَجْنَبِيّا على أَنفسكُم إِلَى أَن قَالَ فَإِذا قعد على سَرِير ملكه فليكتب من هَذَا التّكْرَار فِي مصحف مَا يُعْطِيهِ الكوهن الْمُتَقَدّم من بني لاوي لما يشاكله وَيكون ذَلِك مَعَه فيقرأه كل يَوْم طول ولَايَته ليخاف الرب إلهه وَيذكر كِتَابه وَعَهده فَهَذَا كُله بَيَان وَاضح بِصِحَّة مَا قُلْنَا من أَن الْعشْر كَلِمَات ومصحف التَّوْرَاة إِنَّمَا كَانَ فِي الهيكل فَقَط تَحت تَابُوت الْعَهْد وَفِي التابوت فَقَط عِنْد الكوهن الْأَكْبَر وَحده لِأَنَّهُ بإجماعهم لم يكن يصل إِلَى ذَلِك الْموضع أحد سواهُ وَفِيه أَيْضا أَنه أَمر أَن يكْتب الكوهن الْمَذْكُور من السّفر الْخَامِس فَقَط شَيْئا يُمكن أَن يقرأه الْملك كل يَوْم وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَّا يَسِيرا جدا ورقة نَحْو أَو ذَلِك مَعَ أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنه لم يلْتَفت إِلَى ذَلِك أَلْبَتَّة بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أحد من مُلُوكهمْ إِلَّا أَرْبَعَة أَو خَمْسَة كَمَا قدمنَا فَقَط من جملَة أَرْبَعِينَ ملكا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ فِي السّفر الْمَذْكُور ثمَّ كتب مُوسَى هَذَا الْكتاب وَيرى بِهِ إِلَى الكهنة من بني لاوي الَّذين كَانُوا يحسنون عهد الرب وَقَالَ لَهُم مُوسَى إِذا اجْتَمَعْتُمْ للتقديس بَين يَدي الرب إِلَهكُم فِي الْموضع الَّذِي تخيره الرب فاقرؤا مَا فِي هَذَا الْمُصحف فِي جمَاعَة بني إِسْرَائِيل عِنْد اجْتِمَاعهم فَقَط يسمعوا مَا يلْزمهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي نَص تورانهم أَنهم كَانُوا لَا يلْزمهُم الْمَجِيء إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَّا ثَلَاث مَرَّات فِي كل سنة فَقَط فَإِنَّمَا أَمر بِنَصّ التَّوْرَاة كَمَا أوردنا أَن يقرأه عَلَيْهِم الكوهن الهاروني عِنْد اجْتِمَاعهم فَقَط فَثَبت أَنَّهَا لم تكن إِلَّا فِي الهيكل فَقَط عِنْد الكوهن الهاروني فَقَط لَا عِنْد أحد سواهُ وَقد أوضحنا قبل أَن الْعشْرَة الأسباط لم يدْخل قطّ بَيت الْمُقَدّس مِنْهُم أحد بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن انْقَطَعُوا وَأَن بني يهوذا وبنيامين لم يجتمعوا لم يجتمعوا إِلَيْهِ إِلَّا فِي عهد الْمُلُوك الْخَمْسَة الْمُؤمنِينَ فَقَط فَظهر بِهَذَا كل مَا قُلْنَا وَصَحَّ تبديلها بِيَقِين وَلَا شكّ فِي أَن تِلْكَ الْمدَّة الطَّوِيلَة الَّتِي هِيَ أَرْبَعمِائَة سنة غير شَيْء قد كَانَ فِي الكهنة الهارونين مَا كَانَ فِي غَيرهم من الْكفْر وَالْفِسْق وَعبادَة الْأَوْثَان كَالَّذي يذكرُونَ عَن ابْني الكوهن عالى الهاروني وَغَيرهمَا مِمَّن يقرؤن فِي كتبهمْ أَنهم خدموا الْأَوْثَان وبيوتها من بني هَارُون وَبني لاوي وَمن هَذِه صفته فَلَا يُؤمن عَلَيْهِ تَغْيِير مَا ينْفَرد بِهِ وَهَذِه كلهَا براهين أَضْوَأ من الشَّمْس على صِحَة تَبْدِيل توراتهم وتحريفها قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِلَّا سُورَة وَاحِدَة ذكر فِي توراتهم أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِأَن تكْتب وَتعلم جَمِيع بني إِسْرَائِيل ليحفظوها ويقوموا بهَا وَلَا يمْتَنع أحد من نسلهم من حفظهَا وَهَذَا نَصهَا حرفا بِحرف اسمعي يَا سموات قولي وَتسمع الأَرْض كَلَامي يكثر كالمطر وبل كالرذاذ كَلَامي وَيكون كالمطر على العشب وكالرذاذ على الخصب لِأَنِّي أنادي باسم الرب فيعظمه الرب الهنا الَّذِي أكمل خليقته واعتدلت أَحْكَامه الله الْأمين الَّذِي لَا يجور الْعدْل القيوم أذْنب لَدَيْهِ غير أوليائه ومحت الْأمة العاصية المستحيلة وَهَذَا شكر للرب يَا أمة جاهلة قيمَة أما هُوَ أبوكم الَّذِي خَلقكُم ومليككم فتذكروا الْقَدِيم وفكروا فِي الْأَجْنَاس وسلوا آباكم فيعلمونكم وأكابركم فيعرفونكم إِذا كَانَ يقسم الْعلي الْأَجْنَاس ويميز بَين بني آدم جعل قسْمَة الْأَجْنَاس على حِسَاب بني إِسْرَائِيل فهم الرب أمته وَيَعْقُوب قسمته وجده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فِي الأَرْض المقفرة وَفِي مَوضِع قَبِيح غير مسلوك فَأَطْلقهُ وَأَقْبل بِهِ وَحفظه كحفظ الشّعْر للعين وأطارهم كَمَا يستطير الْعقَاب بفراخها وتحوم عَلَيْهَا وتبسط جناحها حفظا لَهَا فَأقبل بهم وَحَملهمْ على مَنْكِبَيْه وَحده كَانَ فالرب وَحده كَانَ قائدهم وَلم يكن مَعَه إِلَه غَيره فجعلهم فِي أشرف أرضه ليأكلوا خبزها ويصيبوا عسل حجارتها وزيت جنادلها وَسمن مواشيها وَلبن ضأنها وشحوم خرفانها وكباش بني بِلِسَان وَلُحُوم التيوس ولباب البرودم الْعِنَب وتعاصوا سمنوا ودبروا وأشعوا ثمَّ تخلوا من الله خالقهم وَكَفرُوا بِاللَّه مسلمهم فألجوه لعبادتهم الْأَوْثَان إِلَى أَن سخط عَلَيْهِم ولسجودهم للشَّيْطَان لَا لله ولسجودهم لألهة بالأجناس كَانُوا يجهلونها وَلم يعدها قبلهم آباؤهم فتحلوا من الله الَّذِي ولدهم فنسوا الرب خالقهم فَبَصر الرب بِهَذَا وَغَضب لَهُ إِذْ تخلى بنوه وَبنَاته فَقَالَ اخفي وَجْهي عَنْهُم حَتَّى أعلم آخر أَمرهم فَإِنَّهَا أمة كَافِرَة عاصية وَقد أسخطوني بِعبَادة من لَيْسَ إِلَهًا وأغضبوني بفواحشهم وسأغيرهم على يَدي أمة ضَعِيفَة وأخف بهم على يَدي أمة جاهلة ويتقدم غَضَبي نَار تحرق إِلَى الْهَوَاء فتأتي على الأَرْض بمعاتسته وَتذهب أصُول الْجبَال فأجمع عَلَيْهِم بأسى وأثقبهم بنبلي وأهلكهم جوعا وأجعلهم طعماً للطير وأسلط عَلَيْهِم أَنْيَاب السبَاع وأعصب عَلَيْهِم الْحَيَاة فَإِن برزوا أهلكتهم رماحاً وَإِن تحَصَّنُوا أهلكت الشَّاب مِنْهُم والعذار والطفل وَالشَّيْخ رعْبًا حَتَّى أَقُول أَيْن هم فأقطع من الأَرْض ذكرهم لكني رفهت عَنْهُم لشدَّة حرد أعدائهم لِئَلَّا يزهوا ويقولوا أَيْدِينَا القوية فعلت لَا الرب فَهَذِهِ الْأمة لَا رأى لَهَا وَلَا تَمْيِيز فليتها عرفت وفهمت وأبصرت مَا يُدْرِكهَا فِي آخر أمرهَا كَيفَ يتبع وَاحِد مِنْهُم ألفا ويفر عَن اثْنَيْنِ عشرَة آلَاف أما هَذَا بِأَن رَبهم أسلمهم وربهم أعلق فيهم لَيْسَ إلهنا مثل آلِهَتهم وَصَارَ حكما كرمهم من كرم سدوم وعناقيدهم من أرباض عامورا فعناقيدهم عناقيد المرارة وشرابهم مرَارَة الثعابين وَمن السم الَّذِي لَا دَوَاء لَهُ أما هَذَا فِي علمي ومعروف فِي خزائني لي الانتقام وَأَنا أكافئ فِي وقته فترهق أَرْجُلكُم فَكَانَ قد حَان وَقت خرابهم وَإِلَى ذَلِك تسرع الْأَزْمِنَة سيحكم الرب على أمته وَيرْحَم عبيده إِذا أبصرهم قد ضعفوا وأغلق عَلَيْهِم وذهبوا وَذهب أواخرهم وَقَالَ أَيْن آلِهَتهم الَّتِي يَتَّقُونَ الَّتِي يَتَّقُونَ ويأكلون من قُرْبَانهمْ وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ فليقوموا وليغيثوهم فِي وَقت حَاجتهم فتبصروا تبصروا أَنا وحدي وَلَا إِلَه غَيْرِي أَنا أميت وَأَنا أحيي وَأَنا أمرض وأناأبرئ وَلَا يتَخَلَّص شيئ من يَدي فأرفع إِلَى السَّمَاء يَدي وَأَقُول بحياتي الدائمة لَئِن حددت رُمْحِي كالصاعقة وابتدأت يَمِيني بالجكم لَا كافاني أعدائي وَأهل السنان وَلَا سكرن نبلى دَمًا وَلَا قطعن برمحي لحوما فامدحوا يَا معشر الْأَجْنَاس أمة فَإِنَّهُ سيأخذ بدماء عبيده وينتقم من أعدائهم وَيرْحَم أَرضهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه السُّورَة الَّتِي أبيحت لَهُم وَأمرُوا بحفظها وكتابتها لَا مَا سواهَا بِنَصّ توراتهم بزعمهم وَقد بَينا قبل أَنهم لم يشتغلوا بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لَا بِهَذِهِ السُّورَة وَلَا بغَيْرهَا إِلَّا مُدَّة الْمُلُوك الْخَمْسَة فَقَط لأَنهم قد عبدُوا كلهم الْأَوْثَان وَقتلُوا الْأَنْبِيَاء وأخافوهم وشردوهم هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ كَافِر وَلَا مُؤمن على أَن فِي هَذِه السُّورَة من الفضائح مَا لَا يجوز أَن ينْسب إِلَى الله عز وَجل مثل قَوْله إِن الله تَعَالَى هُوَ أبوهم الَّذِي ولدهم وَأَنَّهُمْ بنوه وَبنَاته حاش لله من هَذَا وَهل طرق لِلنَّصَارَى وَسَهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عَلَيْهِم أَن يجْعَلُوا لله ولدا إِلَّا مَا وجدوا فِي هَذِه الْكتب الملعونة المكذوبة المبدلة بأيدي الْيَهُود وَلَيْسَ فِي الْعجب أَكثر من أَن يجعلهم أنفسهم أَوْلَاد الله تَعَالَى وكل من عرفهم يعرف أَنهم أوضر الْأُمَم بزَّة وأبردهم طلعة وأغثهم مقاطع وأتمهم خبثاً وَأَكْثَرهم غشاً وأجبنهم نفوساً وأشدهم مهانة وأكذبهم لهدة وأضعفهم همة وأرعنهم شمائل بل حاش لله من هَذَا الاختبار الْفَاسِد وَمثل قَوْله فِي هَذِه السُّورَة أَنه تَعَالَى حملهمْ على مَنْكِبَيْه وَمثل قَوْله أَنه قسم الْأَجْنَاس من بني آدم وَجعل قسْمَة الْأَجْنَاس على حِسَاب بني إِسْرَائِيل وجعلهم سَهْمه فَهَذَا كذب ظَاهر حاش لله مِنْهُ لِأَن أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل اثْنَا عشر فعلى هَذَا يجب أَن يكون أَجنَاس بني آدم اثْنَي عشر وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن كَانَ عني من تناسل من بني إِسْرَائِيل فكذب حِينَئِذٍ أشنع وأبشع لِأَن عَددهمْ لَا يسْتَقرّ على قدر وَاحِد بل كل يَوْم يزِيدُونَ وينقصون بِالْولادَةِ وَالْمَوْت هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فَكل هَذِه براهين وَاضِحَة بِأَنَّهَا محرفة مبدلة مكذوبة فَإذْ هِيَ كَذَلِك فَلَا يجوز الْبَتَّةَ فِي عقل أحد أَن يشْهد فِي تَصْحِيح شَرِيعَة وَلَا فِي نقل معْجزَة وَلَا فِي إِثْبَات نبوة بِنَقْل مَكْذُوب مفتري مَوْضُوع هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَقد قُلْنَا أَو نقُول أَن نقل الْيَهُود فَاسد مَدْخُول لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى قوم أتبعوا من أخرجهم من الذل وَالْبَلَاء والسخرة والخدمة فِي عمل الطوب وَذبح أَوْلَادهم عِنْد الْولادَة وَمن حَال لَا يصبر عَلَيْهَا كلب مُطلق وَلَا حمَار مسيب إِلَى الْعِزّ والراحة والعافية والتملك للأموال وَأَن يَكُونُوا آمرين مخدومين آمِنين على أَوْلَادهم وأنفسهم وَلَا يُنكر فِي مثل هَذَا الْحَال أَن يشْهد المخلص للمخلص بِكُل مَا يُرِيد مِنْهُ وَمَعَ هَذَا كُله فَإِن انباءهم لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي أخرجهم من تِلْكَ الْحَالة إِلَى هَذِه الْأُخْرَى وطاعتهم لَهُ كَانَت مدخولة ضَعِيفَة مضطربة وَقد ذكر فِي نَص توراتهم أَنهم إِذْ عمِلُوا الْعجل نادوا هَذَا إِلَه مُوسَى الَّذِي يخلصهم من مصر وَمرَّة أُخْرَى أَرَادوا قَتله وتصايحوا قدم على أَنْفُسنَا قائداً وَنَرْجِع إِلَى مصر وَمَعَ هَذَا كُله قَوْلهم إِن السَّحَرَة عمِلُوا مثل كثير مِمَّا عمل مُوسَى وَإِن كل ذَلِك بَيَان مُمكن بصناعة مَعْرُوفَة وَفِي هَذَا كِفَايَة وهم مقرون بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم أَنه لم يتتبع مُوسَى فِي أمة سواهُم وَلَا نقلت لَهُم معْجزَة وَطَائِفَة غَيرهم وأماالنصارى فَمنهمْ أخذُوا نبوة مُوسَى ومعجزاته وَأما سَائِر الْأُمَم والملل وَالْمَجُوس وَالْفرس وَالصَّابِئِينَ والسريانيين والمانية والسميئة والبراهمة والهند والصين وَالتّرْك فَلَا أصلا وَلَا على أَدِيم الأَرْض مُصدق بنبوة مُوسَى وبالتوراة الَّتِي بِأَيْدِيهِم والأهم وَمن هُوَ شُعْبَة مِنْهُم كالنصارى وَأما نَحن الْمُسلمين فَإِنَّمَا قبلنَا نبوة مُوسَى وَهَارُون وَدَاوُد وَسليمَان والياس واليشع عَلَيْهِم السَّلَام وصدقنا بذلك وآمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بهم وَإِن مُوسَى الَّذِي أنذر بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِحَّة نبوتهم ومعجزاتهم فَقَط وَلَوْلَا إخْبَاره عَلَيْهِ السَّلَام بذلك مَا كَانُوا عندنَا إِلَّا كشموال وإبراث وحداث وحقاي وحبقون وعدوا ويؤال وعاموص وعوبديا ومسيخا وناحوم وصفينا وملاخي وَسَائِر من تَفِر الْيَهُود بنبوته كإقرارهم بنبوة مُوسَى سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق بَين طرق نقلهم لنبوة لجميعهم وَنحن لَا نصدق نقل الْيَهُود فِي شَيْء من ذَلِك بل نقُول إِنَّه قد كَانَ لله تَعَالَى أَنْبيَاء فِي بني إِسْرَائِيل أخبر بذلك الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمنزل على نبيه الصَّادِق الْمُرْسل فَنحْن نقطع بنبوة من سمي لنا مِنْهُم ونقول فِي هَؤُلَاءِ الَّذين لم يسم لنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَسْمَاءَهُم الله عز وَجل أعلم إِن كَانُوا أَنْبيَاء فَنحْن نؤمن بهم وَإِن لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فلسنا نؤمن بهم آمنا بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَهَكَذَا نقر بنبوة صَالح وَهود وَشُعَيْب وَإِسْمَاعِيل وبأنهم رسل الله يَقِينا وَلَا نبالي بإنكار الْيَهُود لنبوتهم وَلَا بجهلهم بهم لِأَن الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام شهد برسالتهم وَأما التَّوْرَاة فَمَا وَافَقنَا قطّ عَلَيْهَا لأننا نَحن نقر بتوراةٍ حقٍ أنزلهَا الله تَعَالَى غلى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبرنَا بذلك فِي كِتَابه النَّاطِق على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّادِق ونقطع بِأَنَّهَا لَيست هَذِه الَّتِي بِأَيْدِيهِم بنصها بل حرف كثير مِنْهُم وَبدل وهم يقرونَ بِهَذِهِ الَّتِي بِأَيْدِيهِم وَلَا يعْرفُونَ الَّتِي نؤمن نَحن بهَا وَكَذَلِكَ لَا نصدق بشريعتهم الَّتِي هم عَلَيْهَا الْآن بل نقطع بِأَنَّهَا محرفة مبدلة مكذوبة وهم لَا يُؤمنُونَ بمُوسَى الَّذِي بشر بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرسالته وبأصحابه فاعلموا أننا لم نوافقهم قطّ على التَّصْدِيق بِشَيْء من دينهم وَلَا مِمَّا هم عَلَيْهِ وَلَا مِمَّا بِأَيْدِيهِم من الْكتاب وَلَا بِالنَّبِيِّ الَّذِي يذكرُونَهُ لما قد أوضحناه من فَسَاد نقلهم ووضوح الْكَذِب فِيهِ وَعُمُوم الدواخل فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا مِمَّا فِي سَائِر الْكتب الَّتِي عِنْدهم الَّتِي يضيفونها إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من الْفساد كَالَّذي ذكرنَا فِي توراتهم وَلَا خلاف فِي أَن اهتبالهم بِالتَّوْرَاةِ كَانَ أَشد وَأكْثر أضعافا مضاعفة من اهتبالهم بِسَائِر كتب أنبياءهم أما كتاب يُوشَع فَإِن فِيهِ براهين قَاطِعَة بِأَنَّهُ أَيْضا تَارِيخ أَلفه لَهُم بعض متأخريهم بِيَقِين وَأَن يُوشَع لم يَكْتُبهُ قطّ وَلَا عرفه وَلَا أنزل عَلَيْهِ فَمن ذَلِك أَن فِيهِ نصا فَلَمَّا انْتهى ذَلِك إِلَى دوسراق ملك بيوس الَّتِي بنى فِيهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد بَيت الْمُقَدّس فعل أمرا ذكره قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يخبر يُوشَع أَن سُلَيْمَان بنى بَيت الْمُقَدّس ويوشع قبل سُلَيْمَان بِنَحْوِ سِتّمائَة سنة وَلم يَأْتِ هَذَا النَّص فِي كتاب يُوشَع الْمَذْكُور على سَبِيل الْإِنْذَار أصلا أئما مساقه بِلَا خلاف مِنْهُم مساق الْأَخْبَار عَمَّا قد مضى وَفِيه قصَّة بشيعة جدا وَهِي أَن عخار بن كرمي بن شذان بن شيلة بن يهوذا بن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام غل من الْمغنم خيطاً أرجواناً وَحقّ ذهب فِيهِ خَمْسُونَ مِثْقَالا وَمِائَتَا دِرْهَم فضَّة فَأمر يُوشَع برجمه ورجم بنيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ورجم بَنَاته حَتَّى يموتوا كلهم بِالْحِجَارَةِ وَأمر بإحراق مواشيه كلهَا وحاش لله أَن يحكم نَبِي بِهَذَا الحكم فيعاقب بأغلظ الْعقُوبَة من لَا ذَنْب لَهُ من ذُرِّيَّة لم تجن شَيْئا بِجِنَايَة أَبِيهِم مَعَ أَن نَص التَّوْرَاة لَا يقتل الْأَب بذنب الابْن وَلَا الابْن بذنب الْأَب فَلَا بُد ضَرُورَة من أَن يَقُولُوا نسخ يُوشَع هَذَا الحكم فيثبتوا النّسخ من نَبِي لشريعة نَبِي قبله وَفِي شَرِيعَة مُوسَى أَيْضا أَو ينسبوا الظُّلم وَخلاف أَمر الله إِلَى يُوشَع فيجعلوه ظَالِما عَاصِيا لله مبدلا أَحْكَامه وَمَا فِيهَا حَظّ الْمُخْتَار مِنْهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَفِيه أَن كل من دخل من بني إِسْرَائِيل الأَرْض المقدسة فَإِنَّهُم كَانُوا مختونين وَفِيه أَبنَاء تِسْعَة وَخمسين عَاما وَأَقل وَإِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يختن مِمَّن ولد بعد خُرُوجه من مصر أحدا هَذَا مَعَ إقرارهم أَن الله تَعَالَى شدد فِي الْخِتَان وَقَالَ من لم يختتن فِي يَوْم أُسْبُوع وِلَادَته فلتنف نَفسه من أمته بِمَعْنى فليقتل فَكيف يضيع مُوسَى هَذِه الشَّرِيعَة الوكيدة حَتَّى يختنهم كلهم يُوشَع بعد موت مُوسَى بدهر وَلَقَد فضحت بِهَذَا وَجه بعض عُلَمَائهمْ فَقَالَ لي كَانُوا فِي التيه فِي حل وارتحال فَقلت لَهُ فَكَانَ مَاذَا فَكيف وَلَيْسَ كَمَا تَقولُونَ بل كَانُوا يبقون الْمدَّة الطَّوِيلَة فِي مَكَان وَاحِد وَفِي نَص كتاب يُوشَع بزعمكم أَنه إِنَّمَا خنهم إِذْ جازوا الْأُرْدُن قبل الشُّرُوع فِي الْحَرْب وَفِي أضيق وَقت وختنهم كلهم حِينَئِذٍ وهم رجال كهول وشبان وَتركُوا الْخِتَان إِذْ لَا مُؤنَة فِي ختانهم أطفالاً تحمله أمه مختوناً كَمَا تحمله غير مختون وَلَا فرق فَسكت مُنْقَطِعًا وَأما الْكتاب الَّذِي يسمونه الزبُور فَفِي المزمور الأول مِنْهُ قَالَ بِي الرب أَنْت ابْني أَنا الْيَوْم وَلدتك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَأَي شَيْء تُنْكِرُونَهُ على النَّصَارَى فِي هَذَا الْبَاب مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة وَفِيه أَيْضا أَنْتُم بَنو الله وَبَنُو الْعلي كلكُمْ وَهَذِه أَطَم من الَّتِي قبلهَا وَمثل مَا عِنْد النَّصَارَى أَو أنتن وَفِيه فِي المزمور الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ عرشك يَا الله فِي الْعَالم وَفِي الْأَبَد قضيب الْعدْل قضيب ملكك أَحْبَبْت الصّلاح وأبغضت الْمَكْرُوه من أجل ذَلِك دهنك إلهك بِزَيْت الْفَرح بَين إشراكك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه سوءة الْأَبَد ومضيعة الدَّهْر وقاصمة الظّهْر وَإِثْبَات إِلَه آخر على الله تَعَالَى دهنه بالزيت إِكْرَاما لَهُ ومجازاة لَهُ على محبته الصّلاح وَإِثْبَات إشراك لله تَعَالَى وَهَذَا دين النَّصَارَى بِلَا مُؤنَة وَلَكِن إِثْبَات إلهٍ دون الله وَقد ظهر عِنْد الْيَهُود هَذَا عَلَانيَة على مَا نذْكر بعد أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَبعده بِيَسِير يُخَاطب الله تَعَالَى وقفت زَوجتك عَن يَمِينك وعقاصها من ذهب أيتها الِابْنَة اسمعي وميلي بإذنيك وأبصري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وآنسي عشيرتك وَبَيت أَبِيك فيهواك الْملك وَهُوَ الرب وَالله فاسجدي لَهُ طَوْعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا شَاءَ الله كَانَ أَنْكَرْنَا الْأَوْلَاد فَأتوا بِالزَّوْجَةِ والأختان تبَارك الله فَمَا نرى لَهُم على النَّصَارَى فضلا أصلا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِيه فِي المزمور الموفي مائَة وَسبعا قَالَ الرب لرَبي اقعد على يَمِيني حَتَّى أجعَل أعداك كرْسِي قَدَمَيْك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَالَّذي قبله فِي الْجُنُون وَالْكفْر وَرب فَوق رب وَرب يقْعد عَن يَمِين رب وَرب يحكم على رب ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِيه فِي المزمور السَّادِس والثمانين مِنْهُ يَقُول روح الْقُدس لصهبون رجل وَرجل ولد فِيهَا وَهِي العلى أسسها الرب الَّذِي خلقهَا يعد عِنْد مكتبة الْأمة إِن هَذَا ولد هُنَاكَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا دين النَّصَارَى الَّذِي يشنعون بِهِ عَلَيْهِم من أَن الله ولد صهيون لَو انْهَدَمت الْجبَال من هَذَا مَا كَانَ عجبا وَفِيه فِي المزمور السَّابِع وَالسبْعين مِنْهُ الرب قَامَ كالمنتبه من نَومه كالجبار الَّذِي يفر بِهِ إِثْر الْخمار كَمَا يقوم الجريش وَفِيه اتَّقوا ربكُم الَّذِي قوته كقوة الجريش قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا سمع فِي الْحمق اللفيف وَلَا فِي الْكفْر السخيف بِمثل هَذَا الْفِعْل مرّة يشبه قيام الله تَعَالَى بالمنتبه من نَومه وَقد علمنَا أَنه لَا يكون الْمَرْء أكسل وَلَا أحْوج إِلَى التمدد وَلَا أثقل حَرَكَة مِنْهُ حِين قِيَامه مِنْهُ وَمرَّة يشبه بجبار ثمل وَمَا عهد للمرء وَقت يكون فِيهِ أنكد وَلَا أثقل عين وَلَا أَخبث نفسا وَلَا آلم صداعاً وَلَا أَضْعَف عويلاً مِنْهُ فِي حَان الْخمار وَمرَّة يمثله بالجريش وَمَا الجريش وَالله مَا هُوَ إِلَّا ثَوْر من الثيران بقرن فِي وسط رَأسه حاش لله من هَذِه النحوس الَّتِي حق من يُؤمن بهَا السَّوْط حَتَّى يعتدل الْعدْل دماغه أَو يحمق بِالْكُلِّ ويقذف النَّاس بِالْحِجَارَةِ وَيسْقط عَنهُ الْخطاب ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء وَفِيه من المزمور الْحَادِي والثمانين قَامَ الله فِي مُجْتَمع الْآلهَة وقف إِلَه الْعِزَّة فِي وَسطهمْ يقْضِي وَهَذِه حَمَاقَة ممزوجة بِكفْر سمج مُجْتَمع الْآلهَة وَقيام الله بَينهم ووقوفه فِي وسط أَصْحَابه مَا شَاءَ الله كَانَ إِلَّا أَن هَذَا أَخبث من قَول النَّصَارَى لِأَن الْآلهَة عِنْد النَّصَارَى من ثَلَاثَة وهم عِنْد هَؤُلَاءِ السفلة الأرذال جمَاعَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِيه من المزمور الثَّامِن والثمانين من ذَا يكون مثل الله فِي جَمِيع بني الله وَبعده يَقُول إِن دَاوُد يدعوني والداً وَأَنا جعلته بكر بني وَبعده إِن عرش دَاوُد يبْقى ملكه سرمداً أبدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه كَالَّتِي قبلهَا صَارَت الْآلهَة قَبيلَة وَبني أَب وَكَانَ فيهم وَاحِد هُوَ سيدهم لَيْسَ فيهم مثله وَالْآخرُونَ فيهم نقص بِلَا شكّ تَعَالَى الله عَن ذَلِك ونحمده كثيرا على نعْمَة الْإِسْلَام مِلَّة التَّوْحِيد الصادقة الَّتِي تشهد الْعُقُول بِصِحَّتِهَا وَصِحَّة كل مَا فِيهَا مَعَ كذب الْوَعْد فِي بَقَاء ملك دَاوُد سرمداً وفيهَا مِمَّا يُوَافق قَول الْمُلْحِدِينَ الدهرية النَّاس كالعشب إِذا خرجت أَرْوَاحهم نسوا وَلَا يعلمُونَ مكانهم وَلَا يفهمون بعد ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِن دين الْيَهُود ليميل إِلَى هَذَا ميلًا شَدِيدا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي توراتهم ذكر الْمعَاد أصلا وَلَا الْجَزَاء بعد الْمَوْت وَهَذَا مَذْهَب الدهرية بِلَا كلفة فقد جمعُوا الدهرية وَالشَّكّ والتشبيه وكل حمق فِي الْعَالم على أَن فِيهِ بِمَا أطلعهم الله على تَبْدِيل مَا شَاءَ رَفعه من كِتَابهمْ وكف أَيْديهم عَمَّا شَاءَ ابقاءه حجَّة لنا عَلَيْهِم ومعجزة لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي المزمور الْحَادِي وَالسِّتِّينَ مِنْهُ أَن الْعَرَب وَبني سبا يؤدون إِلَيْهِ المَال ويتبعونه وَإِن الدَّم يكون لَهُ عِنْده ثمن وَهَذِه صفة الدِّيَة الَّتِي لَيست إِلَّا فِي ديننَا وَفِيه أَيْضا وَيظْهر من الْمَدِينَة هَكَذَا نصا وَهَذَا إنذار بَين برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْكتب الَّتِي يضيفونها إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَهِيَ ثَلَاثَة أَحدهَا يُسمى شارهسير ثمَّ مَعْنَاهُ شعر الْأَشْعَار وَهُوَ على الْحَقِيقَة هوس الأهواس لِأَنَّهُ كَلَام أَحمَق لَا يعقل وَلَا يدْرِي أحد مِنْهُم مُرَاده إِنَّمَا هُوَ مرّة يتغزل بمذكر وَمرَّة يتغزل بمؤنث وَمرَّة يَأْتِي مِنْهُ بلغم لزج بِمَنْزِلَة مَا يَأْتِي بِهِ المصدوع وَالَّذِي فسد دماغه وَقد رَأَيْت بَعضهم يذهب إِلَى أَنه رموز على الكيمياء وَهَذَا وسواس آخر ظريف وَالثَّانِي يُسمى مثلا مَعْنَاهُ الْأَمْثَال فِيهِ مواعظ وَفِيه إِن قَالَ إِن يخلق الله شَيْئا فِي البدء من الْأَبَد أَنا صرت وَمن الْقَدِيم قبل أَن تكون الأَرْض وَقبل أَن تكون النُّجُوم أَنا قد كنت استلمت وَقد كنت ولدت وَلَيْسَ كَانَ خلق الأَرْض بعد وَلَا الْأَنْهَار وَإِذ خلق الله السَّمَوَات قد كنت حَاضرا وَإِذ كَانَ يَجْعَل للنجوم حدا صَحِيحا ويدق بهَا وَكَانَ يوثق السَّمَوَات فِي الْعُلُوّ وَيقدر عُيُون الْمِيَاه وَإِذ كَانَ يحدق على الْبَحْر بنجمه وَيجْعَل للمياه نحى لِئَلَّا تجَاوز جوزها وَإِذ كَانَ يعلق أساسات الأَرْض أَنا مَعَه كنت مهيئاً للْجَمِيع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَل فِي الملحدة أَكثر من هَذَا وَهل يُضَاف هَذَا الْحمق إِلَى رجل معتدل فَكيف إِلَى بني إِسْرَائِيل وَهل هَذَا الْإِشْرَاك صَحِيح وحاش لله أَن يَقُول سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام تالله مَا غبط أهل الْإِلْحَاد بإلحادهم إِلَّا هَذَا وَمثله وَرَأَيْت بَعضهم يخرج هَذَا على أَنه إِنَّمَا أَرَادَ علم الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَا يعجز من لَا حَيَاء لَهُ عَن أَن يقلب كل كَلَام إِلَى مَا اشْتهى بِلَا برهَان وَوصف الْكَلَام عَن مَوْضِعه وَمَعْنَاهُ إِلَى معنى آخر لَا يجوز إِلَّا بِدَلِيل صَحِيح غير مُمْتَنع المُرَاد فِي اللُّغَة وَالثَّالِث يُسمى فوهلث مَعْنَاهُ الْجَوَامِع فِيهِ إِن قَالَ مُخَاطبا لله تَعَالَى اخترني أَمِيرا إِلَى أمتك وحا كَمَا على بنيك وبناتك وَهَذَا كَالَّذي سلف وحاش لله أَن يكون لَهُ بَنَات وبنون لَا سِيمَا مثل بني إِسْرَائِيل فِي كفرهم فِي دينهم وضعفهم فِي دنياهم ورذالتهم فِي أَحْوَالهم النفسية والجسدية وَفِي كتاب حزقيا يَقُول السَّيِّد حَامِد يَدي على بني عيسو وأذهب عَن أَرضهم الْآدَمِيّين والأنعام وأفقرهم وأنتقم مِنْهُم على يَدي أمتِي بني إِسْرَائِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا ميعاد قد ظهر كذبه يَقِينا لِأَن بني إِسْرَائِيل قد بادوا جملَة وَبَنُو عيسو باقون فِي بِلَادهمْ بِنَصّ كتبهمْ ثمَّ بعد ذَلِك باد بَنو عيسو فَمَا على أَدِيم الأَرْض مِنْهُم أحد يعرف أَنه مِنْهُم وَصَارَت بِلَادهمْ للْمُسلمين وسكانها لخم وَغَيرهم من الْعَرَب وَبَطل بذلك أَن يدعوا أَن هَذَا يكون فِي المستأنف وَفِي كتاب لشعيا أَنه رأى الله عزوجل شَيخا أَبيض الرَّأْس واللحية وَهَذَا تَشْبِيه حاشا لنَبِيّ أَن يَقُوله وَفِيه قَالَ الرب من سمع قطّ مثل هَذَا أَنا أعطي غَيْرِي أَن يلد وَلَا أَلد أَنا وَأَنا الَّذِي أرزق غَيْرِي أَنا أكون أَنا بِلَا ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قَالَ أبومحمد رَضِي الله عَنهُ هَذَا أَطَم مَا سمع بِهِ أَن يقيس الله عزوجل نَفسه فِي كَون الْبَنِينَ على خلقه وكل هَذَا أشنع من قَول النَّصَارَى فِي إِضَافَة الشّرك وَالْولد وَالزَّوْجَة إِلَى الله تَعَالَى ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لم نكتب مِمَّا فِي الْكتب الَّتِي يضيفونها إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا طرفا يَسِيرا دَالا على فضيحتها أَيْضا وتبديلها وَقد قُلْنَا أَنهم كَانُوا فِي بلد صَغِير محاط بِهِ ثمَّ لَا نَدْرِي كَيفَ يُمكنهُم اتِّصَال شيءٍ من ذَلِك إِلَى نَبِي من أَنْبِيَائهمْ لَا سِيمَا من لم يكن إِلَّا فِي أَيَّام كفرهم مخافاً ومقتولاً فصح بِلَا شكّ أَنَّهَا من توليد من عمل لَهُم الصَّلَوَات الَّتِي هم عَلَيْهَا والشرائع الَّتِي يقرونَ أَنَّهَا من عمل أَحْبَارهم الثَّابِتَة إِذْ ظهر دينهم وانتشرت بيُوت عِبَادَتهم فَصَارَت لَهُم مجامع يتعلمون فِيهَا دينهم وعلماء يعلمونهم فِي كل بلد بِخِلَاف مَا أوضحنا أَنهم كَانُوا عَلَيْهِ أَيَّام دولتهم الأولى من كَونهم كلهم كفَّارًا أُمِّيين من السنين وكونهم لَا مَسْجِد لَهُم أصلا إِلَّا بَيت الْمُقَدّس وَلَا مجمع بِعلم لَهُم أصلا وَلَا عَالما يعلمهُمْ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا جَامع لشيءٍ من كتبهمْ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَلَو تقصينا مَا فِي كتب أَنْبِيَائهمْ من المناقضات وَالْكذب لكثر ذَلِك جدا وَفِيمَا أوردناه كِفَايَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد اعْترض بَعضهم فِيمَا كَانَ يَدعِي عَلَيْهِم من تَبْدِيل التَّوْرَاة وكتبهم المضافة إِلَى الْأَنْبِيَاء قبل أَن يبين لَهُم أَعْيَان مَا فِيهَا من الْكَذِب البحت فَقَالَ قد كَانَ فِي مُدَّة دولتهم أَنْبيَاء وَبعد دولتهم وَمن الْمحَال أَن يقْرَأ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاء على تبديلها قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فجواب هَذَا القَوْل أَن يُقَال إِن كَانَ يَهُودِيّا كذبت مَا فِي شيءٍ من كتبكم أَنه رَجَعَ إِلَى الْبَيْت مَعَ زربائيل بن صيلئال بن صدقيا الْملك ببني أصلا وَلَا كَانَ مَعَه فِي الْبَيْت نَبِي بإقرارهم أصلا وَكَانَ ذَلِك قبل أَن يَكْتُبهَا لَهُم عزرا الْوراق بدهر وَقبل رجوعهم إِلَى الْبَيْت مَعَ زربائيل بن صيلئال مَاتَ دانيال آحر أَنْبِيَائهمْ فِي أَرض بابل وَأما الْأَنْبِيَاء الَّذين كَانُوا فِي بني إِسْرَائِيل بعد سُلَيْمَان فكلهم كَمَا بَينا إِمَّا مقتول بأشنع الْقَتْل أَو مخاف مطرود منفي لَا يسمع مِنْهُم كلمة إِلَّا خُفْيَة حاشا مُدَّة الْمُلُوك الْمُؤمنِينَ الْخَمْسَة فِي بني يهوذا أَو بني بنيامين حاصة وَذَلِكَ قَلِيل تلاه ظُهُور الْكفْر وَحرق الثوراة وَقتل الْأَنْبِيَاء وَهُوَ كَانَ خَاتِمَة الْأَمر وعَلى هَذَا الْحَال وافاهم انْقِرَاض دولتهم وَأَيْضًا فَلَيْسَ كل نَبِي يبْعَث بتصحيح كتاب من قبله فيطل اعتراضهم بِكَوْن الْأَنْبِيَاء فيهم جملَة وَإِن كَانَ نَصْرَانِيّا يقر بالمسيح وزَكَرِيا وَيحيى عَلَيْهِم السَّلَام قيل لَهُ إِن الْمَسِيح بِلَا شكّ كَانَت عِنْده التَّوْرَاة الْمنزلَة كَمَا أنزلهَا الله تَعَالَى وَكَانَ عِنْده الْإِنْجِيل الْمنزل قَالَ الله تَعَالَى {ويعلمه الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل ورسولاً إِلَى بني إِسْرَائِيل} إِلَّا أَنه عرض فِي النَّقْل عَنهُ بعد رَفعه عَارض أَشد وأفحش من الْعَارِض فِي النَّقْل إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا كَافَّة فِي الْعَالم مُتَّصِلَة إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أصلا وَالنَّقْل إِلَيْهِ رَاجع إِلَى خَمْسَة فَقَط وهم مَتى وباطرة إِبْنِ نونا ويوحنا ابْن سبذاي وَيَعْقُوب ويهوذا أَبنَاء يُوسُف فَقَط ثمَّ لم ينْقل عَن هَؤُلَاءِ إِلَّا ثَلَاثَة فَقَط وَهُوَ لوقا الطَّبِيب الا نكا كى ومارقس الها روني وبولس البنياميني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَهَؤُلَاء كلهم كذابون قد وضح عَلَيْهِم الْكَذِب جهاراً على مَا نوضحه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وكل هَؤُلَاءِ مَعَ مَا صَحَّ من كذبهمْ وتدليسهم فِي الدّين فَإِنَّمَا كَانُوا متسترين بِإِظْهَار دين الْيَهُود وَلُزُوم السبت بِنَصّ كتبهمْ وَيدعونَ إِلَى التَّثْلِيث سرا وَكَانُوا مَعَ ذَلِك مطلوبين حَيْثُ مَا ظفروا بِوَاحِد مِنْهُم ظَاهر اقْتُل فَبَطل الْإِنْجِيل والتوراة بِرَفْع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بطلاناً كلياً وَهَذَا الْجَواب إِنَّمَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ قبل أَن يظْهر من كذب توارتهم وكتبهم مَا قد أظهرنَا وَأما بعد مَا أوضحنا من عَظِيم كذب هَذِه الْكتب بِمَا لَا حِيلَة فِيهِ فاعتراض سَاقِط لِأَن يَقِين الْبَاطِل لَا يُصَحِّحهُ شيءٌ أصلا كَمَا أَن يَقِين الْحق لَا يفْسد شيءٌ أبدا فاعلموا الْآن أَن مَا عورض بِهِ الْحق الْمُتَيَقن ليبطل بِهِ أَو عورض بِهِ دون الْكَذِب الْمُتَيَقن ليصحح بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ سغب وتمويه وإبهام وتحييل فَاسد بِلَا شكّ لِأَن يقينين لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي البنية أَن يتعارضا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قيل فَإِنَّكُم تقرون بِالتَّوْرَاةِ والانجيل وتستشهدون على الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمَا فِيهَا من ذكر صِفَات نَبِيكُم وَقد اسْتشْهد نَبِيكُم بنصها فِي قصَّة الراجم للزاني الْمُحصن وَرُوِيَ أَن عبد الله بن سَلام ضرب يَد عبد الله بن صوريا إِذْ وَضعهَا على آيَة الرَّجْم وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ التَّوْرَاة وَقَالَ آمَنت بِمَا فِيك وَفِي كتابكُمْ {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَفِيه أَيْضا {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفِيه أَيْضا {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} وَفِيه {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَفِيه {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} وَفِيه {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ} قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق كل هَذَا حق حاشا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام آمَنت بِمَا فِيك فَإِنَّهُ بَاطِل لم يَصح قطّ وَكله مُوَافق لقولنا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بتبديلهما وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ حجَّة لمن ادّعى أَنَّهُمَا بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمَا نزلا على مَا نبين الْآن إِن شَاءَ الله تَعَالَى بالبرهان الْوَاضِح قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما إقرارنا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل فَنعم وَأي معنى لتمويهكم بِهَذَا وَنحن لم ننكرهما قطّ بل نكفر من أنكرهما إِنَّمَا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الزبُور على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الْإِنْجِيل على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الصُّحُف على إِبْرَاهِيم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام حَقًا وَأنزل كتبا لم يسم لنا على أَنْبيَاء لم يسموا لنا حَقًا نؤمن بِكُل ذَلِك قَالَ تَعَالَى {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} وَقُلْنَا ونقول إِن كفار بني إِسْرَائِيل بدلُوا التَّوْرَاة وَالزَّبُور فزادوا ونقصوا وَأبقى الله تَعَالَى بَعْضهَا حجَّة عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} {لَا معقب لحكمه} وَبدل كفار النَّصَارَى الْإِنْجِيل كَذَلِك فزادوا ونقصوا وَأبقى الله تَعَالَى بَعْضهَا حجَّة عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فدرس مَا بدلُوا من الْكتب الْمَذْكُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَرَفعه الله تَعَالَى كَمَا درست الصُّحُف وَكتب سَائِر الْأَنْبِيَاء جملَة فَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَا وَقد أوضحنا الْبُرْهَان على صِحَة مَا أوردنا من التبديل وَالْكذب فِي التَّوْرَاة وَالزَّبُور ونورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْإِنْجِيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد فَظهر فَسَاد تمويهم نأننا نقربالتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَلم ينتفعوا بذلك فِي تَصْحِيح مَا بِأَيْدِيهِم من الْكتب المكذوبة المبدلة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما استشهادنا على الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمَا فيهمَا من الْإِنْذَار بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحق وَقد قُلْنَا آنِفا أَن الله تَعَالَى أطلعهم على تَبْدِيل مَا شَاءَ رَفعه من ذَيْنك الْكِتَابَيْنِ كَمَا أطلق أَيْديهم على قتل من أَرَادَ كرامته بذلك من الْأَنْبِيَاء الَّذين قتلوهم بأنواع الْمثل وكف أَيْديهم عَمَّا شَاءَ إبقاءه من ذَيْنك الْكِتَابَيْنِ حجَّة عَلَيْهِم كَمَا كف أَيْديهم الله تَعَالَى عَمَّن أَرَادَ أَيْضا كرامته بالنصر من أنبيائه الَّذين حَال بَين النَّاس وَبَين أذاهم وَقد أغرق الله تَعَالَى قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَقوم فِرْعَوْن نكالالهم وَأغْرقَ آخَرين شَهَادَة لَهُم وأملى لقوم ليزدادوا إِثْمًا وأملى لقوم آخَرين ليزدادوا فضلا هَذَا مَالا يُنكره أحد من أهل الْأَدْيَان جملَة وَكَانَ مَا ذكرنَا زِيَادَة فِي أَعْلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاضِحَة وبراهينه اللائحة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَبَطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عَلَيْهِم بِمَا فِي كتبهمْ المحرفة من ذكر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما استشهاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّوْرَاةِ فِي أَمر رجم الزَّانِي الْمُحصن وَضرب بن سَلام رَضِي الله عَنهُ يَد ابْن صوريا إِذْ جعلهَا على آيَة الرَّجْم فَحق وَهُوَ مِمَّا قُلْنَا آنِفا أَن الله تَعَالَى أبقاه حزيا لَهُم وَحجَّة عَلَيْهِم وَإِنَّمَا يحْتَج عَلَيْهِم بِهَذَا كُله بعد إِثْبَات رسَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبراهين الْوَاضِحَة الباهرة بِالنَّقْلِ الْقَاطِع للْعُذْر على مَا قد بَينا ونبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ نورد مَا أبقاه الله تَعَالَى فِي كتبهمْ المحرفة من ذكره عَلَيْهِ السَّلَام إخزاء لَهُم وتبكيتاً وفضيحة لضلالهم لَا لحَاجَة منا الى ذَلِك اصلاو الْحَمد لله رب الْعَالمين وَأما الْخَبَر بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ التَّوْرَاة وَقَالَ آمَنت بِمَا فِيك فخبر مَكْذُوب مَوْضُوع لم يَأْتِ قطّ من طرق فِيهَا خير ولسنا نستحل الْكَلَام فِي الْبَاطِل لوصح فَهُوَ من التَّكَلُّف الَّذِي نهينَا عَنهُ كَمَا لَا يحل توهين الْحق وَلَا الِاعْتِرَاض فِيهِ وَأما قَول الله عزوجل {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} فَحق لامرية فِيهِ وَهَكَذَا نقُول وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِقَامَتهَا أبدا لرفع مَا أسقطوا مِنْهَا فليسوا على شَيْء إِلَّا بِالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيكونون حِينَئِذٍ مقيمين للتوراة وَالْإِنْجِيل كلهم يُؤمنُونَ حِينَئِذٍ بِمَا أنزل الله مِنْهُمَا وجد أَو عدم ويكذبون بِمَا بدل فيهمَا مِمَّا لم ينزله الله تَعَالَى فيهمَا وَهَذِه هِيَ إقامتهما حَقًا فلاح صدق قَوْلنَا مُوَافقا لنَصّ الْآيَة بِلَا تَأْوِيل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْله تَعَالَى {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} فَنعم إِنَّمَا هُوَ فِي كذب كذبوه ونسبوه إِلَى التَّوْرَاة على جاري عَادَتهم زَائِد على الْكَذِب الَّذِي وَضعه أسلافهم فِي توراتهم فبكتهم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الْكَذِب الْمُحدث بإحضار التَّوْرَاة إِن كَانُوا صَادِقين فَظهر كذبهمْ وَكم عرض لنا هَذَا مَعَ عُلَمَائهمْ فِي مناظراتنا لَهُم قبل أَن نقف على نُصُوص التَّوْرَاة فالقوم لَا مُؤنَة عَلَيْهِم من الْكَذِب حَتَّى الْآن اذا طمعوا بالتخلص من مجلسهم لَا يكون ذَلِك إِلَّا بِالْكَذِبِ وَهَذَا خلق حسيس وعار لَا يرضى بِهِ مصحح ونعوذ بِاللَّه من مثل هَذَا وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فَنعم هَذَا حق على ظَاهره كَمَا هُوَ وَقد قُلْنَا أَن الله تَعَالَى أنزل التَّوْرَاة وَحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا كموسى وَهَارُون وَدَاوُد سُلَيْمَان وَمن كَانَ بَينهم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن كَانَ فِي أزمانهم من الربانبين والأحبار الَّذين لم يَكُونُوا أَنْبيَاء بل كَانُوا حكاماً من قبل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن كَانَ فِي أزمانهم من الربانيين والأحبار قبل حُدُوث التبديل هَذَا نَص قَوْلنَا وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة أَنَّهَا لم تبدل بعد ذَلِك أصلا بِنَصّ وَلَا بِدَلِيل وَأما من ظن لجهله من الْمُسلمين أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْيَهُود بَين اللَّذين زينا وهما مُحْصَنَانِ فقد ظن الْبَاطِل وَقَالَ بِالْكَذِبِ وَتَأَول الْمحَال وَخَالف الْقُرْآن لِأَن الله تَعَالَى قد نهى نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام عَن ذَلِك نصا بقوله {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمناً عَلَيْهِ فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة} وَقَالَ عزوجل {وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك} قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذَا نَص كَلَام الله عزوجل الَّذِي مَا خَالفه فَهُوَ بَاطِل وَأما قَوْله تَعَالَى {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} فَحق على ظَاهره لِأَن الله تَعَالَى أنزل فِيهِ الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتِّبَاع دينه وَلَا يكونُونَ أبدا حاكمين بِمَا أنزل الله تَعَالَى فِيهِ إِلَّا باتبَاعهمْ دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا أَمرهم الله تَعَالَى بالحكم بِمَا أنزل فِي الْإِنْجِيل الَّذِي ينتمون إِلَيْهِ فهم أَهله وَلم يَأْمُرهُم قطّ تَعَالَى بِمَا يُسمى إنجيلاً وَلَيْسَ بإنجيل وَلَا أنزلهُ الله تَعَالَى كَمَا هُوَ قطّ وَالْآيَة مُوَافقَة لقولنا وَلَيْسَ فِيهَا أَن الْإِنْجِيل لم يُبدل لَا بِنَصّ وَلَا بِدَلِيل إِنَّمَا فِيهِ إِلْزَام النَّصَارَى الَّذين يتسمون بِأَهْل الْإِنْجِيل أَن يحكموا بِمَا أنزل الله فِيهِ وهم على خلاف ذَلِك وَأما قَوْله تَعَالَى {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} فَحق كَمَا ذَكرْنَاهُ قبل وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِقَامَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل المنزلين بعد تبديلهما إِلَّا بِالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيكونون حِينَئِذٍ مقيمين للتوراة وَالْإِنْجِيل حَقًا لإيمانهم بالمنزل فيهمَا وجحدهم مَا لم ينزل فيهمَا وَهَذِه هِيَ إقامتهما حَقًا وَأما قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ} فَنعم هَذَا عُمُوم قَامَ الْبُرْهَان على أَنه مَخْصُوص وَأَنه تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ مُصدقا لما مَعكُمْ من الْحق لَا يُمكن غير هَذَا لأننا بِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَن مَعَهم حَقًا وباطلاً وَلَا يجوز تَصْدِيق الْبَاطِل أَلْبَتَّة فصح أَنه إِنَّمَا أنزلهُ تَعَالَى مُصدقا لما مَعَهم من الْحق وَقد قُلْنَا إِن الله تَعَالَى أبقى فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل حَقًا ليَكُون حجَّة عَلَيْهِم وزائد فِي خزيهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل تعلقهم بشيءٍ مِمَّا ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وبلغنا عَن قوم من الْمُسلمين يُنكرُونَ بجهلهم القَوْل بِأَن التَّوْرَاة والانجيل الَّذين بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى محرفان وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذِه قلَّة اهتبالهم بنصوص الْقُرْآن وَالسّنَن أَتَرَى هَؤُلَاءِ مَا سمعُوا قَول الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتمون الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَإِن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَقَوله تَعَالَى {وَإِن مِنْهُم لفريقاً يلوون ألسنتهم بِالْكتاب لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} إِلَى آخر الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير جدا ونقول لمن قَالَ من الْمُسلمين إِن نقلهم نقل تَوَاتر يُوجب الْعلم وَتقوم بِهِ الْحجَّة لَا شكّ فِي أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مَا نقلوه من ذَلِك عَن مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لَا ذكر فِيهِ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصلا وَلَا إنذار بنبوته فَإِن صدقهم هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ فِي بعض نقلهم فَوَاجِب أَن يُصدقهُمْ فِي سائره أَحبُّوا أم كَرهُوا وَإِن كذبوهم فِي بعض نقلهم وصدقوهم فِي بعض فقد تناقضوا وَظَهَرت مكابرتهم وَظَهَرت مكابرتهم وَمن الْبَاطِل أَن يكون نقل واحدٌ جَاءَ مجيئاً وَاحِدًا بعضه حق وَبَعضه بَاطِل فقد تناقضوا وَمَا نَدْرِي كَيفَ يسْتَحل مُسلم إِنْكَار تَحْرِيف التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَهُوَ يسمع كَلَام الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضواناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار} وَلَيْسَ شيءٌ من هَذَا فِيمَا بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِمَّا يدعونَ أَنه التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَلَا بُد لهَؤُلَاء الْجُهَّال من تَصْدِيق رَبهم جلّ وَعز أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى بدلُوا التَّوْرَاة والأنجيل وَألا يرجِعوا إِلَى الْحمق ويكذبوا رَبهم جلّ وَعز ويصدقوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى فيلحقوا بهم وَيكون السُّؤَال عَلَيْهِم كلهم حِينَئِذٍ وَاحِدًا فِيمَا أوصحناه من تَبْدِيل الْكِتَابَيْنِ وَمَا أوردناه مِمَّا فيهمَا من الْكَذِب الْمشَاهد عيَانًا مَا لم يَأْتِ نَص بِأَنَّهُم بدلوهما لعلمنا بتبديلهما يَقِينا كَمَا نعلم مَا نشهده بحواسنا مِمَّا نَص لَا نَص فِيهِ وَقد اجْتمعت الْمُشَاهدَة وَالنَّص حَدثنَا أَبُو سعيد الْجَعْفَرِي حَدثنَا أَبُو بكر الأرفوي مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ حَدثنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل النّحاس حَدثنَا أَحْمد بن شُعَيْب مُحَمَّد بن المثني عَن عُثْمَان بن عمر حَدثنَا عَليّ هُوَ ابْن الْمُبَارك حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن سَلمَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ أهل الْكتاب يقرؤن التَّوْرَاة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الْإِسْلَام بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تصدقوا أهل الْكتاب وَلَا تكذبوهم وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب لعالمين مَا نزل الْقُرْآن وَالسّنة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتصديقه صدقنا بِهِ وَمَا نزل النَّص بتكذيبه أَو ظهر كذبه كذبنَا لَهُ وَمَا لم ينزل نَص بتصديقه أَو تَكْذِيبه وَأمكن أَن يكون حَقًا أَو كذبا لم نصدقهم وَلم نكذبهم وَقُلْنَا مَا أمرنَا رَسُول اله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نقُوله كَمَا قُلْنَا فِي نبوة من لم يتنا باسمه نَص وَالْحَمْد لله رب العالميين حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد حَدثنَا إبراهبم بنأحمد البلجي حَدثنَا العزيزي حَدثنَا البُخَارِيّ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف حَدثنَا ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عتبَة بن مَسْعُود قَالَ ابْن عَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 كَيفَ تسْأَلُون أهل الْكتاب عَن شَيْء وَكِتَابكُمْ الَّذِي أنزل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث تقرؤنه مَحْضا لم يشب وَقد حَدثكُمْ أَن أهل الْكتاب بدلُوا كتاب الله تَعَالَى وغيروه وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم الْكتاب وَقد قَالُوا هُوَ من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا أصح إِسْنَاد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ نفس قَوْلنَا وَمَاله فِي ذَلِك من الصَّحَابَة مُخَالف وَقد روينَا أَيْضا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه أَتَاهُ كَعْب الحبر بسفر وَقَالَ لَهُ هَذِه التَّوْرَاة أفأقرؤها فَقَالَ لَهُ عمر بن الْخطاب إِن كنت تعلم أَنَّهَا الَّتِي أنزل الله على مُوسَى فاقرأها آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار فَهَذَا عمر لم يحققها قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذْكر طرفا يَسِيرا من كثير جدا من كَلَام أَحْبَارهم الَّذين عَنْهُم أخذُوا كِتَابهمْ وَدينهمْ وإليهم يرجعُونَ فِي نقلهم لتوراتهم وَكتب الْأَنْبِيَاء وَجَمِيع شرائعهم ليرى كل ذِي فهم مقدارهم من الْفسق وَالْكذب فيلوح لَهُ أَنهم كَانُوا كَذَّابين مستخفين بِالدّينِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَقَد كَانَ يَكْفِي من هَذَا إقرارهم بِأَنَّهُم عمِلُوا لَهُم هَذِه الصَّلَوَات عوضا مِمَّا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من القرابين وَهَذَا تَبْدِيل الدّين جهاراً قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذكر أَحْبَارهم وَهُوَ فِي كتبهمْ مَشْهُور لَا ينكرونه عِنْد من يعرف كتبهمْ أَن إخْوَة يُوسُف إِذْ باعوا أَخَاهُم طرحوا اللَّعْنَة على كل من بلغ إِلَى أَبِيهِم حَيَاة ابْنه يُوسُف وَلذَلِك لم يُخبرهُ الله عز وَجل بذلك وَلَا أحد من الْمَلَائِكَة فَأُعْجِبُوا لجنون أمة تعتقد أَن الله خَافَ أَن يَقع عَلَيْهِ لعنة قوم باعوا النَّبِي أَخَاهُم وعقوا النَّبِي أباهم أَشد العقوق وكذبوا أعظم الْكَذِب فوَاللَّه لَو لم يكن فِي كتبهمْ إِلَّا هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الْحمق وَهَذَا الْكفْر لكانوا بِهِ أَحمَق الْأُمَم وأكفرهم وأكذبهم فَكيف وَلَهُم مَا قد ذكرنَا وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي بعض كتبهمْ أَن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لله تَعَالَى إِذْ أَرَادَ أَن يسْخط على بني إِسْرَائِيل يَا رب لَا تفعل فلنا عَلَيْك ذمام وَحقّ لِأَن أخي وَأَنا أَقَمْنَا لَك مملكة عَظِيمَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه طامة أُخْرَى حاشا لهارون عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُول هَذَا الْجُنُون أَيْن هَذَا الهوس وَهَذِه الرعونة من الْحق النير إِذْ يَقُول تَعَالَى {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفِي بعض كتبهمْ أَن الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمر الله تَعَالَى مُوسَى أَن يصورهما على التابوت خلف الحجلة فِي السارداق إِنَّمَا كَانَتَا صُورَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَه تَعَالَى الله عَن كفرهم علوا كَبِيرا وَفِي بعض كتبهمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لبني إِسْرَائِيل من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عَيْني وَفِي بعض كتبهمْ أَن عِلّة تردد بني إِسْرَائِيل مَعَ مُوسَى فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة حَتَّى مَاتُوا كلهم إِنَّمَا كَانَت لِأَن فِرْعَوْن كَانَ بنى على طَرِيق مصر إِلَى الشَّام صنماً سَمَّاهُ باعل صفون وَجعله طلسماً لكل من هرب من مصر يحيره وَلَا يقدر على النَّفاذ فَأُعْجِبُوا لمن يُجِيز أَن يكون طلسم فِرْعَوْن يغلب الله تَعَالَى ويجيز بتيه مُوسَى وَمن مَعَه حَتَّى يموتوا فَأَيْنَ كَانَ فِرْعَوْن عَن هَذِه الْقُوَّة إِذْ غرق فِي الْبَحْر وَفِي بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كبتهم أَن دينة بنت يَعْقُوب عَلَيْهَا السَّلَام إِذْ غصبهَا شكيم بن حمور وزنا بهَا حملت وَولدت ابْنة وَأَن عقَابا خطف تِلْكَ الفرخة من الزِّنَا وَحملهَا إِلَى مصر وَوَقعت فِي حجر يُوسُف فرباها وَتَزَوجهَا وَهَذِه تشبه الخرافات الَّتِي يتحدث بهَا النِّسَاء بِاللَّيْلِ إِذا غزلن وَفِي بعض كتبهمْ أَن يَعْقُوب إِنَّمَا قَالَ فِي ابْنه نفثال ايل مُطلق لِأَنَّهُ قطع من قَرْيَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الَّتِي بِقرب بَيت الْمُقَدّس إِلَى منف الَّتِي بِمصْر وَرجع إِلَى قَرْيَة الْخَلِيل فِي سَاعَة من النَّهَار لشدَّة سرعته لَا لِأَن الأَرْض طويت لَهُ وَمِقْدَار ذَلِك مسيرَة نَيف وَعشْرين يَوْمًا وَفِي بعض كتبهمْ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي صِحَّته أَن السَّحَرَة يحيون الْمَوْتَى على الْحَقِيقَة وَأَن هَهُنَا أَسمَاء لله تَعَالَى وَدُعَاء وكلاماً وَمن عرفه من صَالح أَو فَاسق أحَال الطبائع وأتى بالمعجزات وَأَحْيَا الْمَوْتَى وَإِن عجوزاً سَاحِرَة أحيت لشاول الْملك وَهُوَ طالوت شمؤال النَّبِي بعد مَوته فليت شعري إِذا كَانَ هَذَا حَقًا فَمَا يؤمنهم أَن مُوسَى وَسَائِر من يقرونَ بنبوته كَانُوا من أهل هَذِه الصّفة وَلَا سَبِيل إِلَى فرق بَين شَيْء من هَذَا أبدا وَفِي بعض كتبهمْ أَن بعض أَحْبَارهم المعظمين عِنْدهم ذكر لَهُم أَنه رأى طَائِر يطير فِي الْهَوَاء وَأَنه باض بَيْضَة وَقعت على ثَلَاث عشرَة مَدِينَة فهدمتها كلهَا وَفِي بعض كتبهمْ أَن الْمَرْأَة المدنية الَّتِي ذكر فِي التَّوْرَاة الَّتِي زنى بهَا زمري بن خالو من سبط شَمْعُون طعنه فينحاس بن العزار بن هَارُون برمحه فنفذه وَنفذ الْمَرْأَة تَحْتَهُ ثمَّ رفعهما فِي رمحه إِلَى السَّمَاء كَأَنَّهُمَا طائران فِي سفود وَقَالَ هَكَذَا نَفْعل بِمن عصاك قَالَ كَبِير من أَحْبَارهم مُعظم عِنْدهم أَنه كَانَ تكسير عجز تِلْكَ الْمَرْأَة مِقْدَار مزرعة مدى خَرْدَل وَفِي كتبهمْ أَن طول لحية فِرْعَوْن كَانَ سَبْعمِائة ذِرَاع وَهَذِه وَالله مضحكة تسلي الثكالى وَترد الأحزان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ عَن مثل هَؤُلَاءِ فلينقل الدّين وتباً لقوم أخذُوا كتبهمْ وَدينهمْ عَن مثل هَذَا الرقيع الْكذَّاب وأشباهه وَفِي بعض كتبهمْ المعظمة أَن جباية سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي كل سنة كَانَت سِتّمائَة ألف قِنْطَار وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف قِنْطَار من ذهب وهم مقرون أَنه لم يملك قطّ إِلَّا فلسطين والأردن والغور فَقَط وَأَنه لم يملك قطّ رفح وَلَا غَزَّة وَلَا عسقلان وَلَا صور وَلَا صيدا وَلَا دمشق وَلَا عمان وَلَا البلقاء وَلَا مؤاب وَلَا جبال الشراة فَهَذِهِ الجباية الَّتِي لَو جمع كل الذَّهَب الَّذِي بأيدي النَّاس لم يبلغهَا من أَيْن خرجت وَقد قُلْنَا إِن الْأَحْبَار الَّذين عمِلُوا لَهُم هَذِه الخرافات كَانُوا ثفالا فِي الْحساب وَكَانَ الْحيَاء فِي وُجُوههم قَلِيلا جدا وَذكروا أَنه كَانَ لمائدة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي كل سنة أحد عشر ألف ثَوْر وَخَمْسمِائة ثَوْر وَزِيَادَة وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف شَاة سوى الْإِبِل وَالصَّيْد فانظروا مَاذَا يَكْفِي لُحُوم من ذكرنَا من الْخبز وَقد ذكرُوا عددا مبلغه سِتَّة آلَاف مدى فِي الْعَام لمائدته خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن بِلَاد نَبِي إِسْرَائِيل تضيق عَن هَذِه النَّفَقَات هَذَا مَعَ قَوْلهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يهدي كل سنة ثُلثي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الْعدَد من برٍ وَمثله من زَيْت إِلَى ملك صور فليت شعري لأي شَيْء كَانَ يهاديه بذلك هَل ذَلِك إِلَّا لِأَنَّهُ كفؤه وَنَظِيره فِي الْملك وَهَذِه كَلِمَات كذبات ورعونة لَا خَفَاء بهَا وأخبار متناقضة وَذكروا أَنه كَانَت تُوضَع فِي قصر سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كل يَوْم مائَة مائدة ذهب على كل مائَة صفحة ذهب وثلاثمائة طبق ذهب على كل طبق ثَلَاثمِائَة كأس ذهب فاعجبوه لهَذِهِ الكذبات الْبَارِدَة وَاعْلَمُوا أَن الَّذِي عَملهَا كَانَ ثقيل الذِّهْن فِي الْحساب مقصراً فِي علم المساحة لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكون قطر دَائِرَة الصفحة أقل من شبر وَإِن لم تكن كَذَلِك فَهِيَ صحيفَة لَا صَحْفَة طَعَام ملك فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن تكون مساحة كل مائدة من تِلْكَ الموائد عشرَة أشبار فِي مثلهَا لَا أقل سوى حاشيتها وأرجلها وَاعْلَمُوا أَن مائدة من ذهب هَذِه صفتهَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يحركها إِلَّا فيل لِأَن الذَّهَب أرزن الْأَجْسَام وأثقلها وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِي كل مائدة من تِلْكَ الموائد أقل من ثَلَاثَة آلَاف رَطْل ذهب فَمن يرفعها وَمن يَضَعهَا وَمن يغسلهَا وَمن يمسحها وَمن يديرها فَهَذَا الذَّهَب كُله وَهَذِه الأطباق من أَيْن فَإِن قيل أَنْتُم تصدقُونَ بِأَن الله تَعَالَى أَتَاهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَأَن الله سخر لَهُ الرّيح وَالْجِنّ وَالطير وَعلمه منطق الطير والنمل وَأَن الرّيح كَانَت تجْرِي بأَمْره وَأَن الْجِنّ كَانُوا يعْملُونَ لَهُ المحاريب والتماثيل والجفان والقدور قُلْنَا نعم ونكفر من لم يُؤمن بذلك وَبَين الْأَمريْنِ فرق وَاضح وَهُوَ أَن الَّذِي ذكرت مِمَّا نصدق بِهِ نَحن هُوَ من المعجزات الَّتِي نأتي بِمِثْلِهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام دَاخل كُله تَحت الْمُمكن فِي بنية الْعَالم وَالَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ خَارج عَن هَذَا الْبَاب دَاخل فِي حد الْكَذِب والامتناع فِي ينية الْعَالم وَفِي بعض كتبهمْ المعظمة عِنْدهم إِن زارح ملك السودَان غزا بَيت الْمُقَدّس فِي ألف ألف مقَاتل وَأَن أسا بن ابْنا الْملك خرج إِلَيْهِ فِي ثَلَاثمِائَة ألف مقَاتل من بني يهوذا وَخمسين ألف مقَاتل من بني بنيامين فَهزمَ ملك السودَان وَهَذَا كذب فَاحش مُمْتَنع لِأَن من أقرب مَوضِع من بلد السودَان وهم النّوبَة إِلَى مسْقط النّيل فِي الْبَحْر نَحْو مسيرَة ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَمن مسْقط النّيل إِلَى بَيت الْمُقَدّس نَحْو عشرَة أَيَّام صحارى ومفاوز ألف ألف مقَاتل لَا تحملهم إِلَّا الْبِلَاد المعمورة الواسعة وَأما الصحارى الجرد فَلَا ثمَّ فِي مصر جَمِيع أَعمال مصر فَكيف يخطوها إِلَى بَيت الْمُقَدّس هَذَا مُمْتَنع فِي رُتْبَة الجيوش وسيرة الممالك وَمن الْبعيد أَن يكون عِنْد ملك السودَان حَيْثُ يَتَّسِع بلدهم وَيكثر عَددهمْ اسْم بَيت الْمُقَدّس فَكيف أَن يتكلفوا غزوها لبعد تِلْكَ الْبِلَاد عَن النّوبَة وَأما بلد النّوبَة والحبشة والبجاة فصغير الخطة قَلِيل الْعدَد وَإِنَّمَا هِيَ خرافات مكذوبة بَارِدَة وَفِي كتاب لَهُم يُسمى شعر توما من كتاب التلموذ والتلموذ هُوَ معولهم وعمدتهم فِي فقههم وَأَحْكَام دينهم وشريعتهم وهم من أَقْوَال أَحْبَارهم بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم فَفِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن تكسير جبهة خالقهم من أَعْلَاهَا إِلَى أَنفه خَمْسَة آلَاف ذِرَاع حاش لله من الصُّور والمساحات وَالْحُدُود والنهايات وَفِي كتاب آخر من التلموذ يُقَال لَهُ سادرناشيم وَمَعْنَاهُ تَفْسِير أَحْكَام الْحيض أَن فِي رَأس خالقهم تاجا فِيهِ ألف قِنْطَار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ذهب وَفِي اصبعه خَاتم تضيء مِنْهُ الشَّمْس وَالْكَوَاكِب وَأَن الْملك الَّذِي يخْدم ذَلِك التَّاج اسْمه صندلفون تَعَالَى الله عَن هَذِه الحماقات وَمِمَّا أجمع عَلَيْهِ أَحْبَارهم لعنهم الله أَن من شتم الله تَعَالَى وَشتم الْأَنْبِيَاء يُؤَدب وَمن شتم الْأَحْبَار يَمُوت أَي يقتل فاعجبوا لهَذَا وَاعْلَمُوا أَنهم ملحدون لَا دين لَهُم يفضلون أنفسهم على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وعَلى الله عز وَجل وَمن الْأَحْبَار فَعَلَيْهِم مَا يخرج من أسافلهم وَفِيمَا سمعنَا علماءهم يذكرُونَهُ وَلَا يتناكرونه معنى أَن أَحْبَارهم الَّذين أخذُوا عَنْهُم دينهم والتوراة وَكتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام اتَّفقُوا على أَن رشوا بولس البنياميني لَعنه الله وأمروه بِإِظْهَار دين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام اتَّفقُوا على أَن رشوا بولس البنياميني لَعنه الله وأمروه بِإِظْهَار دين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن يضل أتباعهم ويدخلهم إِلَى القَوْل بالإهيته وَقَالُوا لَهُ نَحن نتحمل إثمك فِي هَذَا فَفعل وَبلغ من ذَلِك حَيْثُ قد ظهر وَاعْلَمُوا يَقِينا أَن هَذَا عمل لَا يستسهله ذُو دين أصلا وَلَا يخلوا أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد أُولَئِكَ الْأَحْبَار لعنهم الله من أَن يَكُونُوا على حق أَو على بَاطِل لَا بُد من أَحدهمَا فَإِن كَانُوا عِنْدهم على حق فَكيف استحلوا ضلال قوم محقين وإخراجهم عَن الْهدى وَالدّين إِلَى الضلال الْمُبين هَذَا وَالله لَا يَفْعَله مُؤمن بِاللَّه تَعَالَى أصلا وَإِن كَانُوا عِنْدهم على ضلال وَكفر فحسبهم ذَلِك مِنْهُم وَإِنَّمَا يسْعَى الْمُؤمن ليهدي الْكَافِر أَو الضال وَإِمَّا أَن يُقَوي بصيرته فِي الْكفْر وَيفتح لَهُ فِيهِ أبواباً أَشد وأفحش مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يَفْعَله أَيْضا من يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى قطعا وَلَا يَفْعَله إِلَّا ملحد يُرِيد أَن يسخر بِمن سواهُ فَعَن هَؤُلَاءِ أخذُوا دينهم وَكتب أَنْبِيَائهمْ بإقرارهم فَأُعْجِبُوا لهَذَا وَهَذَا أَمر لَا نبعده عَنْهُم لأَنهم قد راموا ذَلِك فِينَا وَفِي ديننَا فَبعد عَلَيْهِم بُلُوغ إربهم من ذَلِك وَذَلِكَ بِإِسْلَام عبد الله بن سبأ الْمَعْرُوف بِابْن السوء الْيَهُودِيّ الْحِمْيَرِي لَعنه الله ليضل من أمكنه من الْمُسلمين فنهج لطائفة رذلة كَانُوا يتشيعون فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن يَقُولُوا بإلهية عَليّ كَمَا نهج بولس لاتباع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُولُوا بإلهيته وهم الباطنية والغالية إِلَى الْيَوْم وأخفهم كفرا الإمامية على جَمِيعهم لعائن الله تترى وأشنع من هَذَا كُله نقلهم الَّذِي لَا تمانع بَينهم فِيهِ عَن كثير من أَحْبَارهم الْمُتَقَدِّمين الَّذين عَنْهُم أخذُوا دينهم ونقولوا توراتهم وَكتب الْأَنْبِيَاء بِأَن رجلا اسْمه إِسْمَاعِيل كَانَ إِثْر خراب الْبَيْت الْمُقَدّس سمع الله تَعَالَى يَئِن كَمَا تَئِنُّ الْحَمَامَة ويبكي وَهُوَ يَقُول الويل لمن أخرب بَيته وضعضع رُكْنه وَهدم قصره وَمَوْضِع سكينته ويلي على مَا أخرجت من بَيْتِي ويلي على مَا فرقت من بني وبناتي قامتي منكسة حَتَّى أبني بَيْتِي وأرد إِلَيْهِ بني وبناتي قَالَ هَذَا النذل الموسخ ابْن الأنذال إِسْمَاعِيل فَأخذ الله تَعَالَى بثيابي وَقَالَ لي أسمعتني يَا بني يَا إِسْمَاعِيل قلت لَا يَا رب فَقَالَ لي يَا بني إِسْمَاعِيل بَارك عَليّ قَالَ هَذَا الْكَلْب والجيفة المنتنة فباركت عَلَيْهِ ومضيت قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لقد هان من بَالَتْ عَلَيْهِ الثعالب وَالله مَا فِي الموجودات أرذل وَلَا أنتن مِمَّن احْتَاجَ إِلَى بركَة هَذَا الْكَلْب الوضر فَأُعْجِبُوا لعَظيم مَا انتظمت هَذِه الْقِصَّة عَلَيْهِ من وُجُوه الْكفْر الشنيع فَمِنْهَا أخباره عَن الله تَعَالَى أَن يَدْعُو على نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بِالْوَيْلِ مرّة بعد مرّة الويل حَقًا على من يصدق بِهَذِهِ الْقِصَّة وعَلى الملعون الَّذِي أَتَى بهَا وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بالندامة على مَا فعل وَمَا الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الندامة أتراه كَانَ عَاجِزا هَذَا عجب آخر وَإِذا كَانَ نَادِما على ذَلِك فَلم تَمَادى على تبديدهم وإلقاء النَّجس عَلَيْهِم حَتَّى يبلغ ذَلِك إِلَى إِلْقَاء الحكة فِي أدبارهم كَمَا نَص فِي آخر توراتهم مَا فِي الْعَالم صفة أَحمَق من صفة من يتمادى على من ينْدَم عَلَيْهِ هَذِه الندامة وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بالبكاء والأنين وَمِنْهَا وَصفه لرَبه تَعَالَى بِأَنَّهُ لم يدر هَل سَمعه أم لَا حَتَّى سَأَلَهُ عَن ذَلِك ثمَّ أظرف شَيْء إخْبَاره عَن نَفسه بِأَنَّهُ أجَاب بِالْكَذِبِ وَأَن الله تَعَالَى قنع بكذبه وَجَاز عِنْده وَلم يدر أَنه كَاذِب وَمِنْهَا كَونه بَين الخرب وَهِي مأوى المجانين من النَّاس وخساس الْحَيَوَان كالثعالب والقطط الْبَريَّة وَنَحْوهمَا وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بتنكيس الْقَامَة وَمِنْهَا طلبه الْبركَة من ذَلِك المنتن ابْن المنتنة والمنتن وَبِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا بلغ قطّ ملحد وَلَا مستخف هَذِه المبالغ الَّذِي بلغَهَا هَذَا اللعين وَمن يعظمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَلَوْلَا مَا وَصفه الله تَعَالَى من كفرهم وَقَوْلهمْ يَد الله مغلولة وَالله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء مَا انْطلق لنا لِسَان بِشَيْء مِمَّا أوردنا وَلَكِن سهل علينا حِكَايَة كفرهم مَا ذكره الله تَعَالَى لنا من ذَلِك وَلَا أعجب من أَخْبَار هَذَا الْكَلْب لَعنه الله عَن نَفسه بِهَذَا الْخَبَر فَإِن الْيَهُود كلهم يَعْنِي الربانيين مِنْهُم مجمعون على الْغَضَب على الله وعَلى تعييبه وتهوين أمره عز وَجل فَإِنَّهُم يَقُولُونَ لَيْلَة عيد الكبود وَهِي الْعَاشِرَة من تشرين الأول وَهِي أكتوبر يقوم الميططرون وَمعنى هَذِه اللَّفْظَة عِنْدهم الرب الصَّغِير تَعَالَى الله عَن كفرهم قَالَ وَيَقُول وَهُوَ قَائِم ينتف شعره ويبكي قَلِيلا تحليلا ويلي إِذْ خربَتْ بَيْتِي وأيتمت بني وبناتي قامتي منكسة لَا أرفعها حَتَّى أبني بَيْتِي وأرد إِلَيْهِ بني وبناتي ويردد هَذَا الْكَلَام وَاعْلَمُوا أَنهم أفردوا عشرَة أَيَّام من أول أكتوبر يعْبدُونَ فِيهِ رَبًّا آخر غير الله عز وَجل فحصلوا على الشّرك الْمُجَرّد وَاعْلَمُوا أَن الرب الصَّغِير الَّذِي أفردوا لَهُ الْأَيَّام الْمَذْكُورَة يعبدونه فِيهَا من دون الله عز وَجل هُوَ عِنْدهم صندلفون الْملك خَادِم التَّاج الَّذِي فِي رَأس معبودهم وَهَذَا أعظم من شرك النَّصَارَى وَلَقَد وقفت بَعضهم على هَذَا فَقَالَ لي ميططرون ملك من الْمَلَائِكَة فَقلت وَكَيف يَقُول ذَلِك الْملك ويلي على مَا خرجت من بَيْتِي وَفرقت بني وبناتي وَهل فعل هَذَا إِلَّا الله عز وَجل فَإِن قَالُوا تولى ذَلِك الْملك ذَلِك الْفِعْل بِأَمْر الله تَعَالَى قُلْنَا فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع ندامة الْملك على مَا فعله بِأَمْر الله تَعَالَى هَذَا كفر من الْملك لَو فعله فَكيف إِن يحمد ذَلِك مِنْهُ وكل هَذَا إِنَّمَا تحيل مِنْهُم عِنْد صك وُجُوههم بذلك وَإِلَّا فهم فِيهِ قِسْمَانِ قسم يَقُول أَنه الله تَعَالَى نَفسه فيصغرونه ويحقرونه ويعيبونه وَقسم يَقُول أَنه رب آخر دون الله تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَن الْيَهُود يقومُونَ فِي كنائسهم أَرْبَعِينَ لَيْلَة مُتَّصِلَة من إيلول وتشرين الأول وهما ستنبر وأكتوبر فيصيحون ويولولون بمصائب مِنْهَا قَوْلهم لأي شيءٍ تسلمنا يَا الله هَكَذَا وَلنَا الدّين الْقيم والأثر الأول لم يَا الله تنصمم عَنَّا وَأَنت تسمع وتعمى وَأَنت مبصر هَذَا جَزَاء من تقدم إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عبوديتك وَبدر إِلَى الْإِقْرَار بك لم ياالله لَا تعاقب من يكفر النعم وَلَا تجازي بِالْإِحْسَانِ ثمَّ تبخسنا حظنا وتسلمنا لكل مُعْتَد وَتقول إِن أحكامك عدلة فَأُعْجِبُوا لَو غادة هَؤُلَاءِ الأوباش ولرذالة هَؤُلَاءِ الأنذال الممتنين على ربهمم عز وَجل المستخفين بِهِ وبملائكته وبرسله وتالله مَا بخسهم رَبهم حظهم وَمَا حظهم إِلَّا الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْخُلُود فِي النَّار فِي الْآخِرَة وَهُوَ تَعَالَى موفيهم نصِيبهم غير مَنْقُوص واحمدوا الله على عَظِيم منته علينا بِالْإِسْلَامِ الْملَّة الزهراء الَّتِي صححتها الْعُقُول وبالكتاب الْمنزل من عِنْده تَعَالَى بِالنورِ الْمُبين والحقائق الباهرة نسْأَل الله تثبيتنا على مَا منحنا من ذَلِك بمنه إِلَى أَن نَلْقَاهُ مُؤمنين غير مغضوب علينا وَلَا ضَالِّينَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هُنَا انْتهى مَا أخرجناه من توراة الْيَهُود وكتبهم من الْكَذِب الظَّاهِر والمناقضات اللائحة الَّتِي لَا شكّ مَعَه فِي أَنَّهَا كتب مبدلة محرفة مكذوبة وَشَرِيعَة مَوْضُوعَة مستعملة من أكابرهم وَلم يبْق بِأَيْدِيهِم بعد هَذَا شَيْء أصلا وَلَا بَقِي فِي فَسَاد دينهم شُبْهَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِيَّاكُم أَن يجور عَلَيْكُم تمويه من يعارضكم بخرافة أَو كذبة فإننا لَا نصدق فِي ديننَا بِشَيْء أصلا إِلَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن أَو مَا صَحَّ بِإِسْنَاد الثِّقَات ثِقَة عَن ثِقَة حَتَّى يبلغ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَمَا عدا هَذَا فَنحْن نشْهد أَنه بَاطِل وَاعْلَمُوا أننا لم نكتب من فضائحهم إِلَّا قَلِيلا من كثير وَلَكِن فِيمَا كتبناه كِفَايَة قَاطِعَة فِي بَيَان فَسَاد كل مَا هم عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْإِنْجِيل وَكتب النَّصَارَى فَنحْن إِن شَاءَ الله تَعَالَى موردون من الْكَذِب الْمَنْصُوص فِي أَنَاجِيلهمْ وَمن التَّنَاقُض الَّذِي فِيهَا أمرا لَا يشك كل من رَآهُ فِي أَنهم لَا عقول لَهُم وَأَنَّهُمْ مخذولون جملَة وَأما فَسَاد دينهم فَلَا إِشْكَال فِيهِ على من لَهُ مسكة عقل ولسنا نحتاج إِلَى تكلّف برهَان فِي أَن الأناجيل وَسَائِر كتب النَّصَارَى لَيست من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من عِنْد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا احتجنا إِلَى ذَلِك فِي التَّوْرَاة والكتب المنسوبة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الَّتِي عِنْد الْيَهُود لِأَن جُمْهُور الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم منزلَة من عِنْد الله عز وَجل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فاحتجنا إِلَى إِقَامَة الْبُرْهَان على بطلَان دَعوَاهُم فِي ذَلِك وَأما النَّصَارَى فقد كفونا هَذِه المؤونة كلهَا لأَنهم لَا يدعونَ أَن الأناجيل منزلَة من عِنْد الله على الْمَسِيح وَلَا أَن الْمَسِيح أَتَاهُم بهَا بل كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم أيوسيهم وملكيهم ونسطوريهم ويعقوبيهم ومارونيهم وبولقانيهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهَا أَرْبَعَة تواريخ (1) لفها أَرْبَعَة رجال معروفون فِي أزمان مُخْتَلفَة فأولها تَارِيخ لفه مَتى اللاواني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 تلميذ الْمَسِيح بعد تسع سِنِين من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَكتبه بالعبرانية فِي بلد يهوذا بِالشَّام يكون نَحْو ثَمَان وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط وَالْآخر تَارِيخ لفه مارقش الهاروني تلميذ شَمْعُون الصَّفَا بن توما الْمُسَمّى باطرة بعد اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَكتبه باليونانية فِي بلد أنطاكية من بِلَاد الرّوم وَيَقُولُونَ أَن شَمْعُون الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي أَلفه ثمَّ محا اسْمه من أَوله وَنسبه إِلَى تلميذ مارقش يكون أَرْبعا وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط وشمعون الْمَذْكُور تلميذ الْمَسِيح والتالث تَارِيخ أَلفه لوقا الطَّبِيب الْأَنْطَاكِي تلميذ شَمْعُون باطرة أَيْضا كتبه باليونانية فِي بلد أقاية بعد تأليف مارقش الْمَذْكُور يكون من قدر إنجيل مَتى وَالرَّابِع تَارِيخ أَلفه يوحنا ابْن سيذاي تلميذ الْمَسِيح بعد رفع الْمَسِيح ببضع وَسِتِّينَ سنة وَكتبه باليونانية فِي بلد اشينية يكون أَرْبعا وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط ويوحنا هَذَا نَفسه هُوَ ترْجم إنجيل مَتى صَاحبه من العبرانية إِلَى اليونانية ثمَّ لَيْسَ لِلنَّصَارَى كتاب قديم يعظمونه بعد الأناجيل الْأَرْبَعَة إِلَّا فركسيس وَهُوَ كتاب أَلفه لوقا الطَّبِيب الْمَذْكُور فِي أَخْبَار الحواريين وأخبار صَاحبه بولس البنياميني وسيرهم وقتلهم يكون نَحْو خمسين ورقة بِخَط مَجْمُوع وَكتاب الْوَحْي والإعلان أَلفه يوحنا ابْن سيذاي الْمَذْكُور وَهُوَ كتاب فِي غَايَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 السخف والركاكة ذكر فِيهِ مَا رَآهُ فِي الأحلام وَإِذ أسرِي بِهِ وخرافات بَارِدَة والرسائل القانونية وَهِي سبع رسائل فَقَط مِنْهَا ثَلَاث رسائل ليوحنا ابْن سيذاي الْمَذْكُور ورسالتان لباطرة شَمْعُون الْمَذْكُور ورسالة وَاحِدَة ليعنوب بن يُوسُف النجار وَالْأُخْرَى لِأَخِيهِ يهوذا بن يُوسُف تكون كل رِسَالَة من ورقة إِلَى ورقتين فِي غَايَة الْبرد والغثانة ورسائل بولس تلميذ شَمْعُون باطرة وَهِي خمس عشرَة رِسَالَة تكون كلهَا نَحْو أَرْبَعِينَ ورقة مَمْلُوءَة حمقاً ورعونة وَكفرا ثمَّ كل كتاب لَهُم بعد ذَلِك فَلَا خلاف بَينهم فِي أَنه من تأليف الْمُتَأَخِّرين من أساقفتهم وبطارقتهم كمجامع البطارقة والأساقفة الْكِبَار السِّتَّة وَسَائِر مجامعهم الصغار وفقههم فِي أحكامهم الَّذِي عمله ركديد الْملك وَبِه يعْمل نَصَارَى الأندلس ثمَّ لسَائِر النَّصَارَى أَحْكَام أَيْضا عَملهَا لَهُم من شَاءَ الله أَن يعملها من أساقفتهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا كُله أَنه كَمَا قُلْنَا ثمَّ أَخْبَار شهدائهم فَقَط فَجَمِيع نقل النَّصَارَى أَوله عَن آخِره حَيْثُ كَانُوا فَهُوَ رَاجع إِلَى الثَّلَاثَة الَّذين سمينا فَقَط وَهُوَ بولس ومارقش ولوقا وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة لَا ينقلون إِلَّا عَن خَمْسَة فَقَط وهم باطرة وَمَتى ويوحنا وَيَعْقُوب ويهوذا وَلَا مزِيد وكل هَؤُلَاءِ أكذب الْبَريَّة وأخبثهم على مَا نبين بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن بولس حكى فِي الافركسيس وَفِي إِحْدَى رسائله أَنه لم يبْق مَعَ باطرة إِلَّا خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ لقِيه مرّة أُخْرَى بَقِي مَعَه أَيْضا يَسِيرا ثمَّ لقِيه الثَّالِثَة فَأخذ جَمِيعًا وصلبا إِلَى لعنة الله إِلَّا أَن الأناجيل الْأَرْبَعَة والكتب الَّتِي ذكرنَا أَن عَلَيْهَا معتمدهم فَإِنَّهَا عِنْد جَمِيع فرق النَّصَارَى فِي شَرق الأَرْض وغربها على نُسْخَة وَاحِدَة ورتبة وَاحِدَة لَا يُمكن أحد أَن يزِيد فِيهَا كلمة وَاحِدَة وَلَا ينقص مِنْهَا أُخْرَى إِلَّا افتضح عِنْد جَمِيع النَّصَارَى مبلغة كَمَا هِيَ إِلَى مارقش ولوقا ويوحنا لِأَن يوحنا هُوَ الَّذِي نقل إنجيل مَتى عَن مَتى ورسائل بولس مبلغة كَذَلِك إِلَى بولس وَاعْلَمُوا أَن أَمر النَّصَارَى أَضْعَف من أَمر الْيَهُود بِكَثِير لِأَن الْيَهُود كَانَت لَهُم مملكة وَجمع عَظِيم مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَبعده وَكَانَ فيهم أَنْبيَاء كثير ظاهرون آمرون مطاعون كموسى ويوشع وشموال وَدَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا دخلت الدَّاخِلَة فِي التَّوْرَاة بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ ظهر فيهم الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتل الْأَنْبِيَاء وَحرق التَّوْرَاة وَنهب الْبَيْت مرّة بعد مرّة فانصل كفر جَمِيعهم إِلَى أَن تلفت دولتهم على ذَلِك وَأما النَّصَارَى فَلَا خلاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا من غَيرهم فِي أَنه لم يُؤمن بالمسيح فِي حَيَاته إِلَّا مائَة وَعِشْرُونَ رجلا فَقَط هَكَذَا فِي الافركسيس ونسوة مِنْهُم امْرَأَة وَكيل هردوس وَغَيرهَا كن ينفقن عَلَيْهِ أموالهن هَكَذَا فِي نَص إنجيلهم وَإِن كل من آمن بِهِ فَإِنَّهُم كَانُوا مستترين مخافين فِي حَيَاته وَبعده يدعونَ إِلَى دينه سرا وَلَا يكْشف أحد مِنْهُم وَجهه إِلَى الدُّعَاء إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 مِلَّته وَلَا يظْهر دينه وكل من ظفر بِهِ مِنْهُم قتل إِمَّا بِالْحِجَارَةِ كَمَا قتل يَعْقُوب بن يُوسُف النجار واشطين الَّذِي يسمونه بكر الشُّهَدَاء وَغَيره وَإِمَّا صلب كَمَا صلب باطرة وأندرياس أَخُوهُ وشمعون أَخُو يُوسُف النجار وفليش وبولس وَغَيرهم أَو قتلوا بِالسَّيْفِ كَمَا قتل يَعْقُوب أَخُو يوحنا وطومار وبرتلوما ويهوذا بن يُوسُف النجار وَمَتى أَو بالسم كَمَا قتل يوحنا ابْن سيذاي فبقوا على هَذِه الْحَالة لَا يظهرون الْبَتَّةَ وَلَا لَهُم مَكَان يأمنون فِيهِ مُدَّة ثَلَاثمِائَة سنة بعد رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي خلال ذَلِك ذهب الْإِنْجِيل الْمنزل من عِنْد الله عز وَجل إِلَّا فصولا يسيرَة أبقاها الله تَعَالَى حجَّة عَلَيْهِم وخزياً لَهُم فَكَانُوا كَمَا ذكرنَا إِلَى أَن تنصر قسطنطين الْملك فَمن حِينَئِذٍ ظهر النَّصَارَى وكشفوا دينهم واجتمعوا وآمنوا وَكَانَ سَبَب تنصره أَن أمه هلاني كَانَت بنت نَصْرَانِيّ فعشقها أَبوهُ وَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ قسطنطين فربته على النَّصْرَانِيَّة سرا فَلَمَّا مَاتَ أَبوهُ وَولي هُوَ أظهر النَّصْرَانِيَّة بعد أَعْوَام كَثِيرَة من ولَايَته وَمَعَ ذَلِك فَمَا قدر على إظهارها حَتَّى رَحل عَن رُومِية مسيرَة شهر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وبناها وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّمَا كَانَ أديوسيا هُوَ وَابْنه بعده يَقُولَانِ إِن الْمَسِيح عبد مَخْلُوق نَبِي الله تَعَالَى فَقَط وكل دين كَانَ هَكَذَا فمحال أَن يَصح فِيهِ نقل مُتَّصِل لِكَثْرَة الدواخل الْوَاقِعَة فِيمَا لَا يُؤْخَذ الإسرا تَحت السَّيْف لَا يقدر أَهله على حمايته وَلَا على الْمَنْع من تبديله ثمَّ لما ظهر دينهم بتنصر قسطنطين كَمَا ذكرنَا فَشَا فيهم دُخُول ألمانية بَغْتَة وَكَانَ فيهم غير مانية مداسون عَلَيْهِم فأمكنهم بِهَذَا أَن يُدْخِلُوهُمْ من الضلال فِيمَا أَحبُّوا وَلَا تمكنوا الْبَتَّةَ أَن ينْقل أحد عَن شَمْعُون باطرة وَلَا عَن يوحنا وَلَا عَن مَتى وَلَا عَن مارقش وَلَا عَن لوقا وَلَا عَن بولس آيَة ظَاهِرَة وَلَا معْجزَة باهرة لما ذكرنَا من أَنهم كَانُوا مستترين مختفين مظاهرين بدين الْيَهُود من الْتِزَام السبت وَغَيره طول حياتهم إِلَى أَن ظفر بهم فَقتلُوا فَكلما تضيفه النَّصَارَى إِلَى هَؤُلَاءِ من المعجزات فأكذوبات مَوْضُوعَة لَا يعجز عَن ادِّعَاء مثلهَا أحد كَالَّذي تَدعِي الْيَهُود لأحبارهم ورؤس مثانيهم وكالذي تدعيه ألمانية لماني سَوَاء بِسَوَاء وكالذي تدعيه الروافض لمن يعظمون وكالذي تدعيه طوائف من الْمُسلمين لقوم صالحين كإبراهيم بن أدهم وَأبي مُسلم الْخَولَانِيّ وشيبان الرَّاعِي وَغَيرهم وكل هَذَا كذب وإفك وتوليد لِأَن كل من ذكرنَا فَإِنَّمَا نَقله رَاجع إِلَى من لَا يدْرِي وَلَا يقوم بِكَلَامِهِ حجَّة وَلَا صَحَّ برهَان سَمْعِي وَلَا عَقْلِي يصدقهُ وَهَكَذَا كَانَ أَصْحَاب ماني مَعَ ماني إِلَّا أَنه ظهر نَحْو ثَلَاثَة أشهر إِذْ مكر بِهِ بهْرَام بن بهْرَام الْملك وأوهمه أَنه قد آمن بِهِ حَتَّى ظفر بِجَمِيعِ أَصْحَابه فصلب ماني وصلبهم كلهم إِلَى لعنة الله فَكل معْجزَة لم تنقل نقلا يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ كَافَّة عَن كَافَّة حَتَّى يبلغ إِلَى الْمُشَاهدَة فالحجة لَا تقوم بهَا على أحد وَلَا يعجز عَن توليدها من لَا تقوم لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قَالَ أَبُو مُحَمَّد مُعْتَمد النَّصَارَى كُله الَّذِي لَا مُعْتَمد لَهُم غَيره من قَوْلهم بالتثليث وَأَن الْمَسِيح لله وَابْن الله واتحاد اللاهوتية بالناسوتية والتحامه بِهِ إِنَّمَا هُوَ كُله على أَنَاجِيلهمْ وعَلى أَلْفَاظ تعلقوا بهَا مِمَّا فِي كتب الْيَهُود كالزبور وَكتاب أشميا وَكتاب أرميا وكلمات يسيرَة من التَّوْرَاة وَكتاب سُلَيْمَان وَكتاب زخريا وَقد نازعتهم الْيَهُود فِي تأولها فحصلت دَعْوَى مُقَابلَة لدعوى وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وموهوا بِأَن التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء بِأَيْدِيهِم وبأيدي الْيَهُود سَوَاء لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا ليصححوا نقل الْيَهُود لسواد تِلْكَ الْكتب ثمَّ يجْعَلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا الْحجَّة لَهُم فِي دَعوَاهُم وتأويلهم لَيْسَ بِأَيْدِيهِم حجَّة غير هَذَا أصلا وَلَا جملَة سوى هَذِه وَقد أوضحنا بحول الله تَعَالَى وقوته فَسَاد أَعْيَان تِلْكَ الْكتب وأوضحنا أَنَّهَا مفتعلة مبدلة لِكَثْرَة مَا فِيهَا من الْكَذِب وأوضحنا أَيْضا فَسَاد نقلهَا وَانْقِطَاع الطَّرِيق مِنْهُم إِلَى من نسب إِلَيْهِ تِلْكَ الْكتب بِمَا لَا يُمكن أحدا دَفعه الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَبينا آنِفا بحول الله تَعَالَى وقوته فَسَاد نقل النَّصَارَى جملَة وإقرارهم بِأَن أَنا جيلهم لَيست منزلَة وَلكنهَا كتب مؤلفة لرجال ألفوها فَبَطل كل تعلق لَهُم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ نورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى تكذيبهم فِي دَعوَاهُم أَن التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود وَعِنْدهم سَوَاء ونورد مَا يخالفون فِيهِ نَص التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي الْيَهُود حَتَّى يلوح لكل أحد كذب دَعوَاهُم الظَّاهِرَة من تصديقهم لنصوص التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود وَيرى تكذيبهم لنصوصها فَيبْطل بذلك تعلقهم بِمَا فِيهَا وَبِمَا فِي نقل الْيَهُود إِذْ لَا يَصح لأحد الِاحْتِجَاج بتصحيح مَا يكذب ثمَّ نذْكر بعون الله عز وَجل مناقضات الأناجيل وَالْكذب الْفَاحِش المفضوح الْمَوْجُود فِي جَمِيعهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فين تقع الْإِشْكَال فِي ذَلِك جملَة وَيَسْتَوِي فِي معرفَة بطلَان كل مَا بدى الطَّائِفَتَيْنِ كل من اغْترَّ بكتمانهم لما فضحناه منا وَمِنْهُم وَمن الْخَاصَّة والعامة وَمن سَائِر الْملَل أَيْضا وَيصِح عِنْد كل من طالع كلامنا هَذَا أَن الَّذين كتبُوا الأناجيل وألفوها كَانُوا كَذَّابين مجاهرين بِالْكَذِبِ لتكاذيبهم فِيمَا أوردوه فِيهَا من الْأَخْبَار وَأَنَّهُمْ كَانُوا مستخفين مهلكين لمن اغْترَّ بهم الْحَمد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا بِالْإِسْلَامِ السَّالِم من كل غش البريء من كل توليد الْوَارِد من عِنْد الله عز وَجل لَا من عِنْد أحد دونه ذكر مَا تثبته النَّصَارَى بِخِلَاف نَص التَّوْرَاة وتكذيبهم لنصوصها الَّتِي بأيدي الْيَهُود وادعاء بعض عُلَمَاء النَّصَارَى أَنهم اعتمدوا فِي ذَلِك على التَّوْرَاة الَّتِي ترجمها السبعون شَيخا لبطليموس لَا على كتب عزراء الْوراق وَالْيَهُود مُؤمنُونَ بكلتي النسختين وَالْخلاف عِنْد النَّصَارَى مَوْجُود فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي توراة الْيَهُود الَّتِي لَا اخْتِلَاف فِيهَا بَين الربانية والعانانية والعيسوية مِنْهُم لما عَاشَ آدم ثَلَاثِينَ سنة وَمِائَة سنة ولد لَهُ ولد كشبهه وجنسه وسماء شِيث وَعند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 النَّصَارَى بِلَا اخْتِلَاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا من جَمِيع فرقهم لما أَتَى على آدم مِائَتَان وَثَلَاثُونَ سنة ولد لَهُ شِيث وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا لما عَاشَ شِيث خمس سِنِين وَمِائَة سنة ولد أنيوش وَعند لنصارى كلهم لما عَاشَ شِيث ماءتي سنة وَخمْس سِنِين ولد أنيوش وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن أنيوش لما عَاشَ تسعين سنة ولد قينان وَعند النَّصَارَى كلهم أَن أنيوش لما عَاشَ تسعين سنة وَمِائَة سنة ولد قينان وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن قينان لما عَاشَ سبعين سنة ولد مهلال وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن مهلال لما بلغ خمْسا وَسِتِّينَ سنة ولد يارد وَعند النَّصَارَى كلهم أَن مهلال لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة ولد يارد واتفقت الطائفتان فِي عمر يارد إِذْ ولد لَهُ خنوخ وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن خنوخ لما بلغ خمْسا وَسِتِّينَ سنة ولد متوشالخ وَأَن جَمِيع عمر خنوخ كَانَ ثَلَاثمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن خنوخ لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة ولد متوشالخ وَأَن جَمِيع عمر خنوخ كَانَ خَمْسمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا سنّ خنوخ إِذْ ولد لَهُ متوشالخ وَالثَّانيَِة كمية عمر خنوخ واتفقت الطائفتان على عمر متوشالخ إِذْ ولد لَهُ لامخ وعَلى عمر لامخ إِذْ ولد لَهُ نوح وعَلى عمر نوح إِذْ ولد لَهُ سَام وَحَام وَيَافث وعَلى عمر سَام إِذْ ولد لَهُ أرفخشاذ وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن أرفخشاذ لما بلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شالخ وَأَن عمر أرفخشاذ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وخمساً وَثَلَاثِينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن أرفخشاذ لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ قينان وَأَن عمر أرفخشاذ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وَأَن قينان لما بلغ مائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شالخ فَبين الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذَا الْفَصْل وَحده اخْتِلَاف فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع احدها عمر أرفخشاذ جملَة وَالثَّانِي سنّ أرفخشاذ إِذْ ولد لَهُ وَلَده وَالثَّالِث زِيَادَة النَّصَارَى بَين أرفخشاذ وشالخ قينان وَإِسْقَاط الْيَهُود لَهُ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد اليهودكما ذكرنَا أَن شالخ لما بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ عَابِر وَأَن عمر شالخ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن شالخ لما بلغ مائَة وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ عَابِر وَأَن عمر شالخ كُله كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وَسِتِّينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا سنّ شالخ إِذْ ولد لَهُ عَابِر وَالثَّانِي كمية عمر شالخ وَعند الْيَهُود كَمَا ذكرنَا فِي التَّوْرَاة أَن فالغ إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ (1) راغو وَعند النَّصَارَى كلهم أَن فالغ لما بلغ مائَة سنة وَثَلَاثِينَ ولد لَهُ رغو وَفِي توراة الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن راغو لما بلغ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شاروع وَعند النَّصَارَى كلهم أَن راغو لما بلغ مائَة سنة واثنتين وَثَلَاثُونَ ولد لَهُ شاروع وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ذكرنَا أَن شاروع إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ ناحور وَكَانَ عمر شاروع كُله مِائَتي عَام وَثَلَاثِينَ عَاما وَعند النَّصَارَى كلهم أَن شاروع إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة وَمِائَة سنة ولد لَهُ ناحور وَأَن عمر شاروع كُله كَانَ ثَلَاثمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل بَين الطَّائِفَتَيْنِ تكاذب فِي موضِعين أَحدهمَا عمر شاروع جملَة وَالثَّانِي سنّ شاروع إِذْ ولد لَهُ ناحور وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن ناحور لما بلغ تسع وَعشْرين سنة ولد لَهُ نارخ وَأَن عمر ناحور كُله كَانَ مائَة سنة وثمانياً وَأَرْبَعين سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن ناحور لما بلغ تسعا وَسبعين سنة ولد لَهُ تارخ وَأَن عمر ناحور كُله كَانَ مِائَتي عَام وَثَمَانِية أَعْوَام فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا عمر ناحور كُله وَالثَّانِي سنّ ناحور إِذْ ولد لَهُ تارخ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن تارخ كَانَ عمره كُله مِائَتي عَام وَخَمْسَة أَعْوَام وَعند النَّصَارَى كلهم أَن تارخ كَانَ عمره كُله مِائَتي عَام وَثَمَانِية أَعْوَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد فتولد من الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور بَين الطَّائِفَتَيْنِ زِيَادَة عَن ألف عَام وثلاثمائة عَام وَخمسين عَاما عِنْد النَّصَارَى فِي تَارِيخ الدُّنْيَا على مَا هُوَ عِنْد الْيَهُود فِي تاريخها وَهِي تِسْعَة عشر موضعا كَمَا أوردنا فوضح اخْتِلَاف التَّوْرَاة عِنْدهم وَمثل هَذَا من التكاذب لَا يجوز أَن يكون من عِنْد الله عز وَجل أصلا وَلَا من قَول نَبِي الْبَتَّةَ وَلَا من قَول صَادِق عَالم من عرض النَّاس فَبَطل بِهَذَا بِلَا شكّ أَن تكون التَّوْرَاة وَتلك الْكتب منقولة نقلا يُوجب صِحَة الْعلم لَكِن نقلا فَاسِدا مَدْخُولا مضطربا وَلَا بُد لِلنَّصَارَى ضَرُورَة من أحد خَمْسَة أوجه لَا مخرج لَهُم عَن أَحدهَا إِمَّا أَن يصدقُوا نقل الْيَهُود للتوراة وَأَنَّهَا صَحِيحَة عَن مُوسَى عَن الله عز وَجل ولكتبهم وَهَذِه طريقتهم فِي الْحجَّاج والمناظرة فَإِن فعلوا فقد أقرُّوا على أنفسهم وعَلى أسلافهم الَّذين نقلوا عَنْهُم دينهم بِالْكَذِبِ إِذْ خالفوا قَول الله تَعَالَى وَقَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَو يكذبوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا نقل عَن الله عز وَجل وهم لَا يَفْعَلُونَ هَذَا أَو يكذبوا نقل الْيَهُود للتوراة ولكتبهم فَيبْطل تعلقهم بِمَا فِي تِلْكَ الْكتب مِمَّا يَقُولُونَ أَنه إنذار بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام اذلا يجوز لأحد أَن يحْتَج بِمَا لَا يَصح نَقله أَو يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعضهم إِنَّهُم إِنَّمَا عولوا فِيمَا عِنْدهم على تَرْجَمَة السّبْعين شيحا الَّذين ترجموا التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لبطليموس فَإِن قَالُوا هَذَا فَإِنَّهُم لَا يحلونَ ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَكُونُوا صَادِقين فِي ذَلِك أَو يَكُونُوا كاذبين فِي ذَلِك فَإِن كَانُوا كاذبين فِي ذَلِك فقد سقط أَمرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِذْ لم يرجِعوا إِلَّا إِلَى المجاهرة بِالْكَذِبِ وَإِن كَانُوا صَادِقين فِي ذَلِك فقد حصلت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان توراة السّبْعين شَيخا وتوراة عزرا وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع كَونهمَا جَمِيعًا حَقًا من عِنْد الله وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى كلهم مُصدق مُؤمن بِهَاتَيْنِ التوراتين مَعًا سوى توراة السامرية وَلَا بُد ضَرُورَة من ان تكون احدهما حَقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَالْأُخْرَى مكذوبة فَأَيّهمَا كَانَت المكذوبة فقد حصلت الطائفتان على الْإِيمَان بِالْبَاطِلِ ضَرُورَة وَلَا خير فِي أمة تؤمن بِيَقِين الْبَاطِل وَإِن كَانَت توراة السّبْعين شَيخا هِيَ المكذوبة فَلَقَد كَانُوا شُيُوخ سوء كَذَّابين ملعونين إِذْ حرفوا كَلَام الله تَعَالَى وبدلوه وَمن هَذِه صفته فَلَا يحل أَخذ الدّين عَنهُ وَلَا قبُول نَقله وَإِن كَانَت توراة عزرا هِيَ المكذوبة فقد كَانَ كذابا إِذْ حرف كَلَام الله تَعَالَى وَلَا يحل أَخذ شَيْء من الدّين عَن كَذَّاب وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ أَو يكون كِلَاهُمَا كذبا وَهَذَا هُوَ الْحق الْيَقِين الَّذِي لَا شكّ فِيهِ لما قدمنَا مِمَّا فِيهَا من الْكَذِب الفاضح الْمُوجب للْقطع بِأَنَّهَا مبدلة محرفة وَسَقَطت الطائفتان مَعًا وَبَطل دينهم الَّذِي إِنَّمَا مرجعه إِلَى تِلْكَ الْكتب المكذوبة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد فتأملوا هَذَا الْفَصْل وَحده فَفِيهِ كِفَايَة فِي تَيَقّن بطلَان دين الطَّائِفَتَيْنِ فَكيف بِسَائِر مَا أوردنا إِذا استضاف إِلَيْهِ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود وَعند النَّصَارَى اخْتِلَاف آخر اكتفيا مِنْهُ بِهَذَا الْقدر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا بِالْإِسْلَامِ الْمَنْقُول نقل الكواف إِلَى رَسُول الله الْمَعْصُوم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البريء من كل كذب وَمن كل محَال الَّذِي تشهد لَهُ الْعُقُول بِالصِّحَّةِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ذكر مناقضات الأناجيل الْأَرْبَعَة وَالْكذب الظَّاهِر الْمَوْضُوع فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد أول ذَلِك مبدأ الْخلق مبدأ إنجيل مَتى اللاواني الَّذِي هُوَ أول الأناجيل بالتأليف والرتبة فِي أول كلمة مِنْهُ مصحف نِسْبَة يسوع الْمَسِيح ابْن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم ولد إِسْحَاق وَإِسْحَق ولد يَعْقُوب وَيَعْقُوب ولد يهوذا وَإِخْوَته ويهوذا ولد من ثامار فارص وتارخ ثمَّ إِن فارص ولد حضروم وحضروم ولد آرام وآرام ولد عمينا ذاب وعمينا ذاب ولد نحشون الْخَارِج من مصر أَخُو زَوْجَة هَارُون ونحشون ولد شلمون وشلمون ولد لَهُ من راحاب بوعز وبوعز ولد لَهُ من راعوث عوبيذ وعوبيذ ولد لَهُ يشاي ويشاي ولد لَهُ دَاوُد الْملك وَولد دَاوُد الْملك شلمون وشلمون ولد رحبعام ورحبعام ولد أبيو وأبيو ولد أشا وأشا ولد يَهو شافاط ويهو شافاط ولد يهورام ويهورام ولد أحزياهو وأحزياهو ولد يوثام ويوثام ولد أحاز وأحاز ولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أحزيا وأحزيا ولد منشا ومنشا ولد أمون وأمون ولد يوشياهو ويوشياهو ولد يخنبا وَإِخْوَته وَقت الرحلة إِلَى بابل وَبعد ذَلِك ولد ليخنيا صلئيل وصلئيل ولد روبابيل وروبابيل ولد أبيوذ وأبيوذ ولد ألياخيم وألياخيم ولد أَزور وأزور ولد صادوق وصادوق ولد أخيم وأخيم ولد اليوذ واليوذ ولد أليعزار وأليعزار ولد متان ومتان ولد يَعْقُوب وَيَعْقُوب ولد يُوسُف خطيب مَرْيَم الَّتِي ولدت يسوع الَّذِي يدعى مسيحاً فَصَارَ من إِبْرَاهِيم إِلَى دَاوُد أَرْبَعَة عشر أَبَا وَمن دَاوُد إِلَى وَقت الرحلة أَرْبَعَة عشر أَبَا وَمن وَقت الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا فَجَمِيع المواليد من إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَفِي هَذَا الْفَصْل خلاف لما فِي التَّوْرَاة وَكتب الْيَهُود الَّتِي هِيَ عِنْدهم فِي النَّقْل كالتوراة وهما كتاب ملاخيم وَكتاب وبراهياميم فَقَالَ هَاهُنَا تارخ بن يهوذا وَفِي التَّوْرَاة زارح بن يهوذا وَهَذَا اخْتِلَاف فِي الِاسْم وَكذب فِي أحد الْخَبَرَيْنِ والأنبياء لَا يكذبُون وَقَالَ هَا هُنَا أحزياهو بن يهورام وَفِي كتب الْيَهُود أحزيابن يورام وَهَذَا اخْتِلَاف فِي الْأَسْمَاء ووحي الله تَعَالَى لَا يحْتَمل هَذَا فأحد النقلين كَاذِب بِلَا شكّ وَقَالَ هَاهُنَا يومثام بن أحزياهو وَفِي كتب الْيَهُود الْمَذْكُور يوثام بن عزيا بن أمصيا بن أش بن أحزيا فأسقط ثَلَاثَة آبَاء مِمَّا فِي كتب الْيَهُود وَهَذَا عَظِيم جدا فَإِن صدقُوا كتب الْيَهُود وهم مصدقون بهَا فقد كذب مَتى وَجَهل وَإِن صدقُوا مَتى فَإِن كتب الْيَهُود كَاذِبَة لَا بُد من أحد ذَلِك فقد حصلوا على التَّصْدِيق بالشَّيْء وضده مَعًا وَقَالَ هَا هُنَا أحزياهو ابْن حَاز بن يوثام وَفِي كتب الْيَهُود الْمَذْكُورَة حزقيا بن أحاز بن يوثام وهذ اخْتِلَاف فِي الِاسْم وَالْوَحي لَا يحْتَمل هَذَا فأحد النقلين كَاذِب بِلَا شكّ وَقَالَ هَا هُنَا يخنيا بن يوشياهو بن أمون وَفِي كتب الْيَهُود الَّتِي ذكرنَا يخنيا بن الياقيم بن موشيا بن أموز فأسقط مَتى الياقيم وَخَالف فِي اسْم يوشيا بن آمون وهذ عَظِيم كَمَا قدمنَا من كذبهمْ وَلَا بُد إِذْ يصدقون بالشَّيْء والضد لَهُ مَعًا وهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مَتى رَسُول مَعْصُوم أجل عِنْد الله من مُوسَى وَمن سَائِر الْأَنْبِيَاء كلهم وَهُوَ قد قَالَ فِي أول كلمة من إنجيله مصحف نِسْبَة الْمَسِيح بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ لم يَأْتِ إِلَّا بِنسَب يُوسُف النجار زوج مَرْيَم الَّذِي عِنْدهم هُوَ ربيب إلههم زوج أمه فَكيف يَقُول أَنه يذكر نسب الْمَسِيح ثمَّ يَأْتِي بِنِسْبَة يُوسُف النجار والمسيح عِنْد هَذَا التيس البوال لَيْسَ هُوَ ولد يُوسُف أصلا فقد كذب هَذَا القذر كذبا لَا خَفَاء بِهِ وَلَا مدْخل للمسيح فِي هَذَا النّسَب أصلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا أَن يَجْعَلُوهُ ولد يُوسُف النجار وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَلَا نَحن وَلَا جُمْهُور الْيَهُود أما هم فَيَقُولُونَ أَنه ابْن الله من مَرْيَم وَأَنه إِلَه وَابْن إِلَه وَامْرَأَة تَعَالَى الله عَن هَذَا وَأما نَحن فَنَقُول والعيسوية من الْيَهُود مَعنا والأريوسية والبولقانية والمقدونية من النَّصَارَى أَنه عبد آدَمِيّ خلقه الله تَعَالَى فِي بطن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام من غير ذكر وَأما جُمْهُور الْيَهُود لعنهم الله فَيَقُولُونَ أَنه لغير رشدة حاشى لله من ذَلِك بل إِن طَائِفَة قَليلَة من الْيَهُود يَقُولُونَ أَنه ابْن يُوسُف النجار وَمَا نرى مَتى إِلَّا شَاهدا لقَولهم ومحققاً لَهُ وَإِلَّا فَكيف يبْدَأ بِأَنَّهُ يذكر نسب الْمَسِيح إِلَى دَاوُد ثمَّ لَا يذكر إِلَّا يُوسُف النجار إِلَى دَاوُد وَلَو أَنه ذكر نسب أمه مَرْيَم لَكَانَ لقَوْله مخرج ظَاهر لكنه لم يذكر نسب مَرْيَم أصلا ثمَّ لم يستحي النذل من أَن يُحَقّق مَا ابْتَدَأَ بِهِ فَبعد أَن أتم نسب يُوسُف النجار قَالَ من الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا فَجَمِيع المواليد من إِبْرَاهِيم إِلَى المسسيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً فأكد هَذَا الملعون كذبه وَأَن الْمَسِيح ولد يُوسُف وَلَا بُد ضَرُورَة من أَحدهمَا وَإِلَّا فَكيف يكون من الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشرا أَبَا والمسيح لَيْسَ هُوَ ابْنا لأَحَدهم ولاهم آبَاء لَهُ فَكيف يكون من إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً وَلَا مدْخل للمسيح فِي تِلْكَ الولادات إِلَّا كمدخله فِي ولادات أهل الصين وَأهل الْهِنْد وَأهل طلعة وسقر وسقرال وَلَا فرق هَذِه فضائح الدَّهْر وَمَا لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا أنجس الْبَريَّة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ كذب آخر وَجَهل زَائِد وهما قَوْله فَبين إِبْرَاهِيم إِلَى دَاوُد أَرْبَعَة عشرَة أَبَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب إِنَّمَا هم على مَا ذكر ثَلَاثَة عشر إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب ويهوذا وزارح وحضروم وآرام وعمينا ذاب ونحشون وشلمون وبوعز وعوبيذ ويشاي فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة عشر اباً ثمَّ دَاوُد وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يعد دَاوُد فِي آبَاء نَفسه فَيجْعَل أَبَا لنَفسِهِ فَهَذِهِ ملحنة ثمَّ قَالَ وَمن دَاوُد إِلَى الرحلة أَرْبَعَة عشر اباً وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن يخنيا هُوَ الراحل بِنَصّ قَول مَتى وَأَنه لم يُولد لَهُ على قَوْله صلتيئيل إِلَّا بعد الرحلة فهم شلمون ورحبعام وأبيو وآشا ويهو شافاط ويهوررام وأحزياهو ويوثام وأحاز وأحزياهو ومنشا وآمون ويوشياهو ويخنيا وَقد عد دَاوُد قبل فَإِن عده هَا هُنَا فقد حققوا الْكَذِب فِي الْفَصْل الَّذِي قبله وَإِن عده هُنَاكَ فقد كذبُوا فِي هَذَا الْعدَد الثَّانِي أَو جعلُوا يخنيا أَبَا لنَفسِهِ وَهَذَا هوس ثمَّ قَالَ وَمن الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا وَهَذَا فصل جمع كذبتين عظيمتين أحداهما أَنه إِذا عد صلتيئيل ثمَّ من بعده إِلَى يُوسُف النجار فليسوا إِلَّا اثْنَي عشر رجلا فَقَط وهم صلتيئيل وروبابيل وابيوذ والياخيم وآزور وصادوق وأخيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 واليوذ واليعازار وماثان وَيَعْقُوب ويوسف فَإِن عد فيهم يخنيا كَانُوا ثَلَاثَة عشر وَهُوَ يَقُول أَرْبَعَة عشر فاعجبوا لهَذَا الْحمق وَهَذَا الضلال واعجبوا لرعونة من جَازَ هَذَا عَلَيْهِ واعتقده دينا ثمَّ إِن كَانَ عني أَنهم آبَاء الْمَسِيح فيوسف وَالِد الْمَسِيح وكفي بِهَذَا عِنْدهم كفرا فقد كفر مَتى أَو كذب وَجَهل لَا بُد من أحد ذَلِك ثمَّ قَوْله فَمن إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مَوْلُود فَهَذَا كذب فَاحش وَجَهل مفرط لِأَنَّهُ إِذا عد إِبْرَاهِيم وَمن بعده إِلَى يُوسُف وعد يُوسُف أَيْضا فَإِنَّمَا هم أَرْبَعُونَ فَقَط فَإِن عد الْمَسِيح وَجعله ولد يُوسُف لم يَكُونُوا أَيْضا إِلَّا وَاحِدًا وَأَرْبَعين فَقَط فاعجبوا مِمَّن يدين الله تَعَالَى بِهَذَا الْحمق واحمدوه على السَّلامَة هَذَا إِلَى الْكَذِب المفضوح الَّذِي فِي نسب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى نحشون بن عمينا ذاب لِأَن يحشون بِنَصّ توراتهم هُوَ الْخَارِج من مصر وَهُوَ مقدم بني يهوذا وَلم يدْخل بِنَصّ التَّوْرَاة أَرض الْبَيْت الْمُقَدّس لِأَن كل من خرج من مصر ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا مَاتُوا كلهم فِي التيه بِنَصّ التَّوْرَاة فَإِذا عدت الولادات من شلمون بن نحشون الَّذِي دخل أَرض الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وجدوا أَرْبَعَة فَقَط وهم دَاوُد بن يشاي بن عوبيذ بن بوعذ بن شلمون الدَّاخِل مصر الْمَذْكُور وَلَا يَخْتَلِفُونَ يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَعًا أَن من دُخُول شلمون الْمَذْكُور مَعَ يُوشَع وَبني إِسْرَائِيل الأَرْض المقدسة إِلَى مولد دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خَمْسمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَسبعين سنة فَيجب على هَذَا أَن يَقُول أَن شلمون لم يدْخل الأَرْض المقدسة إِلَّا وَهُوَ أقل من سنة وَأَنه لم يُولد لكل وَاحِد مِنْهُم وَلَده الْمَذْكُور إِلَّا وَله مائَة سنة ونيف وَأَرْبَعُونَ سنة وكتبهم تشهد ككتاب ملاخيم وبراهياميم وَغَيرهمَا وتقطع أَنه لم يَعش أحد من بني إِسْرَائِيل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة إِلَّا يهوراع الكوهن الهاروني وَحده فكم هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الافتضاح فِيهِ وَهَذِه الشُّهْرَة الْعَظِيمَة لَا ينفكون من كذبة إِلَّا إِلَى أُخْرَى وَمن سوءة إِلَّا إِلَى سوءة ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء فاعجبوا لما افْتتح بِهِ هَذَا الْكذَّاب كِتَابه وتأليفه مَاذَا جمع هَذَا الْفَصْل على صغره وَأَنه أسطار يسيرَة من الْكَذِب وَالْجهل ... أحسن مَا فِي خَالِد وَجهه فقس على الْغَائِب بِالشَّاهِدِ ... ثمَّ ذكر لوقا الطَّبِيب فِي الْبَاب الثَّالِث مِنْهُ نسب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ أَنه كَانَ يظنّ أَنه ابْن يُوسُف النجار الْمَنْسُوب إِلَى عالى إِلَى ماثان إِلَى لاوي إِلَى ملكي إِلَى يمتاع إِلَى يُوسُف إِلَى متاثيا إِلَى حاموص إِلَى ماحوم إِلَى أشلا إِلَى أنجا إِلَى ماهاث إِلَى منيشا إِلَى شمعي إِلَى مصداق إِلَى يهندع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 إِلَى يوحنا إِلَى ريشا إِلَى زربائيل إِلَى صلتئيل إِلَى ينرى إِلَى ملكي إِلَى أدّى إِلَى أريع إِلَى قرصام إِلَى المودان إِلَى هار إِلَى يشوع إِلَى يونا إِلَى الياخيم إِلَى ملكا اياز إِلَى يمتاع إِلَى متاثا إِلَى ناثان إِلَى دَاوُد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ ذكر نسب دَاوُد كَمَا ذكره مَتى حرفا حرفا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فاعجبوا لهَذِهِ الْمُصِيبَة الْحَالة بهم مَا أفحشها وأوحشها وأقذرها وأوضرها وأرذلها وأنذلها مَتى الْكذَّاب ينْسب الْمَسِيح إِلَى يُوسُف النجار ثمَّ ينْسب يُوسُف إِلَى الْمُلُوك من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَبَا فأباً ولوقا ينْسب يُوسُف النجار إِلَى آبَاء غير الَّذِي ذكرهم مَتى حَتَّى يُخرجهُ إِلَى ناثان بن دَاوُد أخي سُلَيْمَان بن دَاوُد أَو لَا بُد ضَرُورَة من أَن يكون كلا النسبين كذبا فيكذب الملعونان جَمِيعًا وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون كلا النسبتين حَقًا ولوقا عِنْدهم لوق الله صورهم وألاق وجوهم ولقاهم الْبلَاء وَألقى عَلَيْهِم الدمار واللعنة فِي الْجَلالَة فَوق جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَهَذِهِ صفة أَنَاجِيلهمْ فاحمدوا الله تَعَالَى أَيَّاهُ الْمُؤْمِنُونَ على السَّلامَة والعصمة وَقَالَ بعض أكَابِر من سلف مِنْهُم من مضليهم أَن أحد هذَيْن النسبين هُوَ نسب الْولادَة وَالنّسب الآخر نسب إِلَى إِنْسَان تبناه على مَا قد كَانَ فِي قديم زمن بني إِسْرَائِيل من أَن من مَاتَ وَلَا ولد لَهُ وَتزَوج آخر امْرَأَته نسب إِلَى الْمَيِّت من ولدت من هَذَا الْحَيّ فَقُلْنَا لمن عَارَضنَا مِنْهُم بِهَذَا الهوس من لَك بِهَذَا وَأَيْنَ وجدته ألموقا أَو لمتى وَالدَّعْوَى لَا يعجز عَنْهَا أحد وَهِي بَاطِلَة إِلَّا أَن يعضدها برهَان وَبعد هَذَا فَأَي النسبين هُوَ نسب الْولادَة وَأيهمَا هُوَ نسب الْإِضَافَة لَا الْحَقِيقَة فَأَيّهمَا قَالَ قلب عَلَيْهِ قَوْله وَقيل لَهُ هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان فَإِن قَالَ أَن لوقا لم يقل أَن فلَانا ولد فلَانا كَمَا قَالَه مَتى لَكِن قَالَ الْمَنْسُوب إِلَى عالى قُلْنَا وَهَكَذَا قَالَ فِي آبَاء عالى أَبَا فأباً إِلَى دَاوُد ثمَّ إِلَى إِبْرَاهِيم ثمَّ إِلَى نوح ثمَّ إِلَى آدم سَوَاء بسواءٍ فِي اسْم بعد اسْم وَفِي أَب بعد أَب وَلَا فرق افترى نسب دَاوُد إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم إِلَى نوح ونوح إِلَى آدم كَانَ أَيْضا على الْإِضَافَة لَا على الْحَقِيقَة كَمَا قلت فِي نسب يُوسُف إِلَى عالى هَذَا عجب فَإذْ لَا سَبِيل إِلَى تَصْحِيح هَذِه الدَّعْوَى فَهِيَ كذب ووضح الْكَذِب فِي أحد النسبين ضَرُورَة عيَانًا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل مَتى فلحق يسوع يَعْنِي الْمَسِيح بالمفاز وَسَاقه الرّوح إِلَى هُنَالك ولبث فِيهِ ليقيس إِبْلِيس نَفسه فِيهِ فَلَمَّا أَن مضى أَرْبَعِينَ يَوْمًا بليالها جَاع فَوقف إِلَيْهِ الجساس وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فَأمر هَذِه الجنادل تصير لَك خبْزًا فَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يسوع قد صَار مَكْتُوبًا بِأَن عَيْش الْمَرْء لَيْسَ بالخبز وَحده وَلَكِن فِي كل كلمة تخرج من فَم الله تَعَالَى وَبعد هَذَا أقبل إِبْلِيس فِي الْمَدِينَة المقدسة وَهُوَ وَاقِف فِي أَعلَى بنيانها وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فترام من فَوق فَإِنَّهُ قد صَار مَكْتُوبًا بِأَنَّهُ سيبعث مَلَائِكَة يرفدونك ويدفعون عَنْك حَتَّى لَا يُصِيب قدمك مَكْرُوه فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ قه قد صا مَكْتُوبًا أَيْضا أَن لَا يقيس أحد العبيد إلهه ثمَّ عَاد إِلَيْهِ إِبْلِيس وَهُوَ فِي أَعلَى جبل منيف فأطهر لَهُ زِينَة جَمِيع الدُّنْيَا وشرفها وَقَالَ لَهُ إِنِّي سأملكك كل مَا ترى إِن سجدت لي فَقَالَ لَهُ يسوع اذْهَبْ يَا مُنَافِق مقهقراً فقد كتب أَن لَا يعبد أحد غير السَّيِّد إلهه وَلَا يخْدم سواهُ فتأيس عَنهُ إِبْلِيس عِنْد ذَلِك وَتَنَحَّى عَنهُ وَأَقْبَلت الْمَلَائِكَة وتولت خدمته وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا فَانْصَرف يسوع من الْأُرْدُن محشواً من روح الْقُدس وقاده الرّوح إِلَى القفار وَمكث فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وقايسه إِبْلِيس فِيهِ وَلم يَأْكُل شَيْئا فِي تِلْكَ الْأَرْبَعين يَوْمًا فَلَمَّا أكملها جَاع فَقَالَ لَهُ إِبْلِيس إِن كنت ابْن الله فَأمر هَذِه الْحجر أَن يصير خبْزًا فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد صَار مَكْتُوبًا أَنه لَيْسَ عَيْش الْآدَمِيّ فِي الْخبز وَحده إِلَّا فِي كل كلمة لله ثمَّ قَادَهُ إِبْلِيس إِلَى جبل منيف عَال وَعرض عَلَيْهِ وَملك جَمِيع الدُّنْيَا من وقته وَقَالَ لَهُ سأملكك هَذَا السُّلْطَان وأنزلك بعطمته لِأَنِّي قد ملكته وَأَنا أعْطِيه من وَافقنِي فَإِن سجدت لي كَانَ لَك أجمع فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد صَار مَكْتُوبًا أَن تعبد السَّيِّد إلهك وتخدمه وَحده ثمَّ سَاقه إِلَى برشام وصعده وَوَقفه على صَخْرَة الْبَيْت فِي أَعْلَاهُ وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فتسبسب من هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَكْتُوب أَن يبْعَث مَلَائِكَة لحرزك وحملك فِي الأكف حَتَّى لَا تعثر بقدمك فِي حجر وَلَا يصيبك مَكْرُوه فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد كتب أَيْضا أَن لَا تقيس السَّيِّد إلهك قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفضل عجائب لم يسمع بأطم مِنْهَا أَولهَا إِقْرَار الصَّادِق عِنْدهم بِأَن إِبْلِيس قاد الْمَسِيح مرّة إِلَى جبل منيف وانقاد لَهُ وَمضى مَعَه وقاده مرّة أُخْرَى إِلَى أَعلَى صَخْرَة فِي بَيت الْمُقَدّس فَمَا نرَاهُ إِلَّا ينقاد لإبليس حَيْثُ قَادَهُ وَلَا يخلوا من أَن يكون قَادَهُ فانقاد لَهُ مطيقا سَامِعًا فَمَا نرَاهُ نرَاهُ إِلَّا منصرفاً تَحت حكم الشَّيْطَان وَهَذِه وَالله منزلَة رذيلة جدا أَو يكون قَادَهُ كرها فَهَذِهِ منزلَة المصروعين الَّذين يتخبطهم الشَّيْطَان من الْمس حاشى الْأَنْبِيَاء من كلتا الصفتين فَكيف بإله وَابْن إِلَه بزعمهم وَمَا سمع قطّ بأحمق من هَذَا الهوس وَنَحْمَد الله على عَظِيم منته ثمَّ الطامة الْأُخْرَى كَيفَ يطْمع إِبْلِيس عِنْد هَؤُلَاءِ النوكي فِي أَن يسْجد لَهُ خالقه وَفِي أَن يعبده ربه وَفِي أَن يخضع لَهُ من فِيهِ روح اللاهوت أم كَيفَ يَدْعُو إِبْلِيس ربه وإلهه إِلَى أَن يعبده وَالله إِنِّي لأقطع أَن كفر إِبْلِيس وحمقه لم يبلغَا قطّ هَذِه الْمبلغ فَهَذِهِ آبدة الدَّهْر ثمَّ عجب آخر كَيفَ يمني إِبْلِيس رب الدُّنْيَا وخالقها ومالكها ومالكه وإلهنا وإلهه فِي أَن يملكهُ زِينَة الدُّنْيَا فَهَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 كَمَا تَقول عامتنا أعْطه من خبزه كسيرة مَا هَذِه الوساوس الَّتِي لَا لَا ينْطق بهَا إِلَّا لِسَان من حَقه سُكْنى المارستان أَو عيار كَافِر مستخف بِقوم نوكي يوردهم وَلَا يصدرهم مَا شَاءَ الله كَانَ فَإِن قَالُوا إِنَّمَا دَعَا الناسوت وَحده وإياه عَنى إِبْلِيس وَحده قُلْنَا فَإِن اللاهوت والناسوت عنْدكُمْ متحدان بِمَعْنى أَنَّهُمَا صَارا شَيْئا وَاحِدًا والمسيح عنْدكُمْ إِلَه معبود وَقد قُلْتُمْ هَاهُنَا أَن إِبْلِيس قاد الْمَسِيح فانقاد لَهُ الْمَسِيح وَدعَاهُ إِبْلِيس إِلَى عِبَادَته وَالسُّجُود لَهُ ومناه إِبْلِيس بِملك الدُّنْيَا وَقَالَ للمسيح وَقَالَ لَهُ الْمَسِيح أَو قَالَ ليسوع وَقَالَ لَهُ يسوع وعَلى قَوْلكُم أَنه إِنَّمَا خَاطب الناسوت إِنَّمَا دَعَا نصف الْمَسِيح وَنصف يسوع وَإِنَّمَا مني بزينة الدُّنْيَا نصف الْمَسِيح فقد كذب لوقا وَمَتى على كل حَال وَأهل الْكَذِب هما فَكيف هَذَا وَيُوجب أَن إِبْلِيس إِنَّمَا دَعَا اللاهوت لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِن كنت ابْن الله فافعل كَذَا وَلَو لم يكن من هَذَا فِي الأناجيل إِلَّا هَذَا الْفَصْل الأبخر وَحده لكفى فَكيف وَله فِيهَا نَظَائِر جمة وَنَحْمَد الله على السَّلامَة فصل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَذكر فِي الْفَصْل الَّذِي تكلمنا عَلَيْهِ أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام احتشى من روح الْقُدس وَفِي أول بَاب من إنجيل لوقا أَن يحيى بن زَكَرِيَّا احتشى من روح الْقُدس فِي بطن أمه وَأَن أم يحيى احتشت أَيْضا من روح الْقُدس فَمَا نرى للمسيح من روح الْقُدس إِلَّا كَالَّذي ليحيى ولأم يحيى من روح الْقُدس وَلَا فرق فَأَي فضل لَهُ عَلَيْهِمَا فصل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل مَتى فَلَمَّا بلغه حبس يحيى بن زَكَرِيَّا تنحى إِلَى جلجال وتخلا من مَدِينَة ناصرة ورحل وَسكن فِي كفرنا حوم على السَّاحِل فِي زابلون ونفثالى ليتم قَول أشعيا النَّبِي حَيْثُ قَالَ أَرض زابلون ونفثالى وَطَرِيق الْبَحْر خلف الْأُرْدُن وجلجال الْأَجْنَاس وكل من كَانَ بهَا فِي ظلمَة يبصرون نورا عَظِيما وَمن كَانَ سَاكِنا فِي ظلل الْمَوْت بهَا يطلع النُّور عَلَيْهِم وَمن ذَلِك الْموضع ابْتَدَأَ يسوع بِالْوَصِيَّةِ وَقَالَ تُوبُوا فقد تدانى ملكوت السَّمَاء وَبينا هُوَ يمشي على ريف الْبَحْر بَحر جلجال إِذْ بصر بأخوين أَحدهمَا يدعى شَمْعُون الْمُسَمّى باطرة وَالْآخر أندرياس وهما يدخلَانِ شباكهما فِي الْبَحْر وَكَانَا صيادين فَقَالَ لَهما اتبعاني أجعلكما صيادي الْآدَمِيّين فتخليا وقتهما ذَلِك من شباكهما واتبعاه ثمَّ تحرّك من ذَلِك الْموضع وبصر بأخوين أَيْضا وهما يَعْقُوب ويوحنا بن سيذاي فِي مركب مَعَ أَبِيهِمَا يعدَّانِ شباكهما فدعاهما فتخليا ذَلِك الْوَقْت من شباكهما وَمن أَبِيهِمَا ومتاعهما واتبعاه هَذَا نَص كَلَام مَتى فِي إنجيله حرفا حرفا وَفِي أول بَاب من إنجيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 مارقش قَالَ فَبعد أَن بلي يحيى أقبل يسوع إِلَى جلجال ملك الله وَقَالَ إِن الزَّمَان قد تمّ وتدانى ملك الله فتوبوا وتقبلوا الْإِنْجِيل فَلَمَّا خطر جوَار بَحر جلجال نظر إِلَى شَمْعُون وأندرياس وهما يدخلَانِ شبكتهما فِي الْبَحْر وَكَانَا صيادين فَقَالَ لَهما يسوع اتبعاني أجعلكما صيادين للآدميين فتركا ذَلِك الْوَقْت الشبكة واتبعاه ثمَّ تَمَادى قَلِيلا فأبصر يَعْقُوب بن زبدى وأخاه يوحنا وهما فِي الْمركب يهندمان شبكتهما فدعاهما فتركا ولدهما مَعَ العمالين بِأُجْرَة فِي الْمركب واتبعاه هَذَا نَص كَلَام مارقش فِي إنجيله حرفا حرفا وَقَالَ فِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا وبينما الْجَمَاعَات يَوْمًا تزدحم عَلَيْهِ رَغْبَة فِي اسْتِمَاع كَلَام الله وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت وَاقِفًا على ريف بحيرة بشيرات إِذْ بصر بمركبين فِي الْبحيرَة قد نزل عَنْهُمَا أصحابهما لغسل شباكهم فَدخل يسوع أَحدهمَا الَّذِي كَانَ لشمعون وَسَأَلَهُ أَن يتَنَحَّى بِهِ عَن الرِّيف قَلِيلا فَقعدَ فِي الْمركب وَجعل يُوصي الْجَمَاعَات مِنْهُ فَلَمَّا أمسك عَن الْوَصِيَّة قَالَ لشمعون تَنَح عَن العمق والقواجر أفاتكم للصَّيْد فَقَالَ لَهُ شَمْعُون يَا معلم قد عنينا طول اللَّيْل وَلم نصب شَيْئا وَلَكنَّا سنلقي الجرافة بِأَمْرك وقولك فَلَمَّا أَلْقَاهَا قبضت على حيتان كَثِيرَة جليلة فَكَادَتْ تقطع الجرافة من كثرتها فاستعانوا بأصحاب الْمركب الثَّانِي وسألوهم أَن يعينوهم على إخراجهم لَهَا فَاجْتمعُوا عَلَيْهَا وشحنوا مِنْهَا المركبين حَتَّى كادا أَن يغرقا فَلَمَّا بصر بذلك شَمْعُون الَّذِي يدعى باطرة سجد لسيوع وَقَالَ اخْرُج عني يَا سَيِّدي لِأَنِّي إِنْسَان مذنب وَكَانَ قد حَار وكل من كَانَ مَعَه لِكَثْرَة مَا أَصَابُوا من الْحيتَان وحار يَعْقُوب ويوحنا ابْنا زبدى فَقَالَ يسوع لشمعون لَا تخف فَإنَّك ستصطاد من الْيَوْم الْآدَمِيّين فَخَرجُوا إِلَى الرِّيف الآخر مركبهم وتخلوا من جَمِيع مَا كَانَ لَهُم واتبعوه هَذَا نَص كَلَام لوقا فِي إنجيله حرفا حرفا وَفِي أول بَاب من إنجيل يوحنا بن سيذاي قَالَ وَفِي يَوْم آخر كَانَ يحيى بن زَكَرِيَّا المعمدان وَاقِفًا وَمَعَهُ تلميذان من تلاميذه فَبَصر بيسوع مَا شيا فَقَالَ هَذَا خروف الله فَسمع ذَلِك مِنْهُ التلميذان واتبعا يسوع فَالْتَفت إِلَيْهِمَا يسوع إِذْ رآهما يتبعانه وَقَالَ لَهما مَا الَّذِي طلبتما قَالَا لَهُ يَا معلم أَيْن مسكنك فَقَالَ لَهما أَقبلَا فأبصرا فتوجها مَعَه ورأيا مَسْكَنه وباتا عِنْده ذَلِك الْيَوْم وَكَانَا فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة وَكَانَ أحد التلميذين اللَّذين اتبعاه أندرياس أَخُو شَمْعُون الْمُسَمّى باطرى أحد الاثْنَي عشر فلقي أَخَاهُ شَمْعُون وَهُوَ اُحْدُ الَّذين سمعا من يحيى واتبعاه إِذْ نظر إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ وجدنَا الْمَسِيح ثمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 أقبل إِلَيْهِ بِهِ فَلَمَّا بصر بِهِ الْمَسِيح قَالَ لَهُ أَنْت شَمْعُون بن يوثا وَأَنت تسمى صفا وترجمته الْحجر وَهَذَا نَص كَلَام يوحنا فِي إنجيله حرفا حرفا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فاعجبوا لهَذِهِ الفضائح وتأملوها اتّفق مَتى وماقش على أَن أول مَا كَانَت صُحْبَة شَمْعُون باطره وأخيه أندرياش ابْني يوثا للمسيح فَإِنَّهَا كَانَت بعد أَن سجن يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ وجدهما الْمَسِيح وهما يدخلَانِ شبكتهما فِي الْبَحْر للصَّيْد وَقَالَ لوقا أَنه وجدهما أول مَا صحباه إِذْ وجدهما قد نزلا من الْمركب لغسل شباكهما وأنهما كَانَا قد تعبا طول اللَّيْل وَلم يصيدا شَيْئا وَقَالَ يوحنا إِن أول مَا صحباه إِذْ رَآهُ أندرياش أَخُو شَمْعُون باطره وَهُوَ وَاقِف مَعَ يحيى بن زَكَرِيَّا وَأَنه كَانَ تلميذاً ليحيى وَأَن يحيى حِينَئِذٍ كَانَ يعمد للنَّاس فَلَمَّا سمع أندرياش قَول يحيى إِذْ رأى الْمَسِيح هَذَا حُرُوف الله ترك يحيى وَصَحب الْمَسِيح وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة وَبَات عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ مضى إِلَى أَخِيه شَمْعُون باطره وَأخْبرهُ وأتى بِهِ إِلَى الْمَسِيح فصحبه وَهِي أول صحبته لَهُ فبعضهم يَقُول أول صُحْبَة باطره وأخيه أندرياش للمسيح كَانَت بعد سجن يحيى بن زَكَرِيَّا وَهُوَ قَول مَتى ومارقش وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أول صُحْبَة شَمْعُون باطو وأندرياش للمسيح كَانَت قبل أَن يسجن يحيى وَهُوَ قَول يوحنا وَبَعْضهمْ يَقُول أول صُحْبَة باطره وأندرياش للمسيح كَانَت إِذْ وجدهما يدخلَانِ شبكتهما للصَّيْد جميعأً فتركاها وصحباه من حِينَئِذٍ وَهُوَ قَول مَتى ومارقش وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أول صُحْبَة باطرة وأندرياش للمسيح كَانَت إِذْ رَآهُ أندرياش وَهُوَ وَاقِف مَعَ يحيى وَهُوَ تلميذ يحيى يَوْمئِذٍ فَرَأى الْمَسِيح مَاشِيا فَقَالَ يحيى هَذَا خروف الله فَترك أندرياش يحيى وَصَحب الْمَسِيح من حِينَئِذٍ ثمَّ مضى إِلَى أَخِيه شَمْعُون وعرفه أَنه قد وجد الْمَسِيح وأتى بِهِ إِلَيْهِ فصحبه من حِينَئِذٍ وَهُوَ قَول يوحنا فَهَذِهِ أَربع كذبات فِي نسق إِحْدَاهَا فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ ابْتَدَأَ صحبتهما للمسيح فِيهِ وَالْأُخْرَى فِي الْموضع الَّذِي كَانَت أول صحبتهما للمسيح فِيهِ وَالثَّالِثَة فِي رُتْبَة صحبتهما للمسيح امعاً أم أَحدهمَا قبل الثَّانِي وَالرَّابِعَة فِي صفة الْحَال الَّتِي وجدهما عَلَيْهَا أول مَا صحباه وبالضرورة نَدْرِي أَن أحد هَذِه الاختلافات الْأَرْبَعَة كذب بِلَا شكّ وَمثل هَذَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من عِنْد نَبِي وَلَا من عِنْد صَادِق بل من كَذَّاب عيار لَا يُبَالِي بِمَا حدث وَأغْرب شَيْء فِي ذَلِك قَوْلهم أَن يوحنا بن سيذاي هُوَ ترْجم إنجيل مَتى من العبرانية إِلَى اليونانية فَإِذا رأى هَذِه الْقَصَص فِي إنجيل مَتى بِخِلَاف مَا عِنْده فَلَا بُد ضَرُورَة من أَن يكون عرف أَن قَول مَتى كذب أَو عرف أَنه حق لَا بُد من أَحدهمَا ضَرُورَة فَإِن كَانَ قَول مَتى كذبا فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 استجاز يوحنا أَن يُورد الْكَذِب عَن صَاحبه الْمُقَدّس الَّذِي هُوَ عِنْدهم أكبر من مُوسَى وَمن سَائِر الْأَنْبِيَاء وَإِن كَانَ قَول مَتى حَقًا فقد قصد يوحنا لإيراد الْكَذِب فِيمَا أخبر هُوَ بِهِ فِي إنجيله لَا بُد من أَحدهمَا وَلَقَد كَانَت هَذِه وَحدهَا تَكْفِي فِي بَيَان أَن الأناجيل من عمل كَذَّابين ملعونين شَاهَت وُجُوههم وحاقت بهم لعنة الله فصل وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَا تحسبوا أَنِّي جِئْت لنقض التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا أتيت لإتمامها فَإِنِّي الْحق أَقُول لكم إِلَى أَن تبيد السَّمَاء وَالْأَرْض لَا تبيد بَاء وَاحِدَة وَلَا حرف وَاحِد من التَّوْرَاة حَتَّى يتم الْجَمِيع فَمن حلل عهدا من هَذِه العهود الصَّغِيرَة وَحمل النَّاس على تَحْلِيله فسيدعى فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا وَمن أتمه وحض النَّاس على إِتْمَامه فسيدعى فِي ملكوت السَّمَوَات عَظِيما وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى ستحول السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا يحول كَلَامي قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه نُصُوص تَقْتَضِي التأييد وتمنع من النّسخ جملَة ثمَّ لم يمض بعد الْفَصْل الأول الْمَذْكُور إِلَّا أسطار يسيرَة حَتَّى ذكر مَتى أَنه قَالَ لَهُم الْمَسِيح قد قيل من فَارق امْرَأَته فليكتب لَهَا كتاب طَلَاق قَالَ وَأَنا أَقُول لكم من فَارق امْرَأَته إِلَّا لزنا فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَا وَمن تزوج مُطلقَة فَإِنَّهُ يَزْنِي وَهَذَا نقض لحكم التَّوْرَاة الَّذِي ذكر أَنه لم يَأْتِ لنقضها لَكِن لإتمامها ثمَّ يحكون عَن بولس الملعون أَنه نهى عَن الْخِتَان وَهُوَ من أوكد شرائع التَّوْرَاة وَعَن شَمْعُون باطرة المسخوط أَنه أَبَاحَ أكل الْخِنْزِير وكل حَيَوَان وَطَعَام حرمته التوارة ثمَّ هم قد نقضوا شرائع التَّوْرَاة كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا من السبت وأعياد الْيَهُود وَغير ذَلِك وهم مَعَ هَذَا الْعَمَل لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْمَسِيح وَجَمِيع تلاميذه بعده لم يزَالُوا يلتزمون السبت وأعياد الْيَهُود وفصحهم إِلَى أَن مَاتُوا على ذَلِك وَأَن الْمَسِيح إِنَّمَا أَخذ لَيْلَة الفصح وَهُوَ يفصح على سنة الْيَهُود وشريعتهم فَكيف هَذَا فَلَا بُد لَهُم من أَن يضيفوا الْكَذِب إِلَى الْمَسِيح جهاراً إِذْ أخبر أَنه لم يَأْتِ لنقض التَّوْرَاة ثمَّ نقضهَا فصح أَنه أَتَى لما أخبر أَنه لم يَأْتِ لَهُ من نقضهَا وَهَذَا كذب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 لَا مزحل عَنهُ وَلَا بُد لَهُم من أَن يَفروا من أَن الْمَسِيح مسخوط يدعى فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا لَا عَظِيما لِأَنَّهُ هَكَذَا أخبر هُوَ عَمَّن حلل عهدا صَغِيرا من عهودها وَهُوَ قد حل عهوداً كبارًا من عهودها إِذْ حرم الطَّلَاق وَقد أباحته التَّوْرَاة وَنهى عَن الْقصاص الَّذِي جَاءَت بِهِ التَّوْرَاة فَقَالَ قد قيل الْعين بِالْعينِ وَالسّن بِالسِّنِّ وَأَنا أَقُول لَا تكافئوا أحدا بسيئة وَلَكِن من لطم خدك الْأَيْمن فانصب لَهُ الخد الْأَيْسَر قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أَو لَا بُد لَهُم من أَن يشْهدُوا على أنفسهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وسالفهم عَن خالفهم بِمَعْصِيَة الله تَعَالَى وَمُخَالفَة الْمَسِيح وَأَنَّهُمْ يدعونَ فِي ملكوت السَّمَوَات صغَارًا إِذْ نقضوا حكم التَّوْرَاة أَولهَا عَن آخرهَا وَلَا يُمكنهُم هَا هُنَا دَعْوَى النّسخ الْبَتَّةَ لأَنهم حكوا كَمَا أوردنا عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ أَقُول لكم إِلَى أَن تبيد السَّمَاء وَالْأَرْض لَا تبيد بَاء وَاحِدَة وَلَا حرف وَاحِد من التَّوْرَاة حَتَّى يتم الْجَمِيع فَمنع من النّسخ جملَة وَأَن فِي هَذَا لعجباً لَا نَظِير لَهُ وحمق وضلالاً مَا كُنَّا نصدق بِأَن أحدا يدين بِهِ لَوْلَا أَنا شاهدناهم ونسأل الله السَّلامَة ثمَّ ذكر فِي الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ للحواريين الاثْنَي عشر بأجمعهم وَمن جُمْلَتهمْ يهوذا الأسخريوطي الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما كل مَا حرمتموه فِي الأَرْض يكون محرما فِي السَّمَاء وكل مَا حللمتموه فِي الأَرْض يكون محللاً فِي السَّمَاء وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى أَنه قَالَ هَذَا القَوْل لباطره وَحده قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا نَص تنَاقض عَظِيم كَيفَ يكون التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم للحواريين أَو لباطره مَعَ قَوْله أَنه لم يَأْتِ لتبديل التَّوْرَاة لَكِن لإتمامها وَأَنه من نقض من عهودها عهدا صَغِيرا دعِي فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا وَأَن السَّمَاء وَالْأَرْض تبيدان قبل أَن تبيد التَّوْرَاة بَاء وَاحِدَة أَو حرف وَاحِد لَئِن كَانَ صدق فِي هَذَا فَإِن فِي نَص التَّوْرَاة أَن الله تَعَالَى قد لعن من صلب فِي خَشَبَة وهم يَقُولُونَ أَنه صلب فِي خَشَبَة وَلَا شكّ فِي أَن باطرة شَمْعُون أَخا يُوسُف وأندرياش أَخُو باطرة وفليش وبولس صلبوا فِي الْخشب فعلى قَول الْمَسِيح لَا يبيد شَيْء من التَّوْرَاة حَتَّى يتم جَمِيعهَا فَكل هَؤُلَاءِ ملعونون بلعنة الله تَعَالَى فاعجبوا لضلال هَذِه الْفرْقَة المخذولة فَمَا سمع بأطم من هَذِه الفضائح أبدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فصل وَفِي الرَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَنا أَقُول لكم كل من شخط على أَخِيه بِلَا سَبَب فقد اسْتوْجبَ الْقَتْل وَإِن أضرت إِلَيْك عَيْنك الْيُمْنَى فافقأها وأذهبها عَن نَفسك فذهابها عَنْك أحسن من إِدْخَال جسدك الْجَحِيم وَإِن أضرت إِلَيْك يدك الْيُمْنَى فابرأ مِنْهَا فذهابها مِنْك أحسن من إِدْخَال جسدك النَّار قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه شرائع يقرونَ أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم بهَا وكفهم عَنْهَا بِلَا خلاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا يرَوْنَ الْقَضَاء بِشَيْء مِنْهَا فهم على مُخَالفَة الْمَسِيح بإقرارهم وهم لَا يرَوْنَ الْخِتَان والختان كَانَ مِلَّة الْمَسِيح وَكَانَ مختوناً والمسيح وتلاميذه لم يزَالُوا إِلَى أَن مَاتُوا يَصُومُونَ صَوْم الْيَهُود ويفصحون فصحهم ويلتزمون السبت إِلَى أَن مَاتُوا وهم قد بدلُوا هَذَا كُله وَجعلُوا مَكَان السبت الْأَحَد وأحدثوا صوما آخر بعد أَزِيد من مائَة عَام بعد رفع الْمَسِيح فَكفى بِهَذَا كُله ضلالا وَكفرا وَلَيْسَ مِنْهُم أحدا يقدر على إِنْكَار شَيْء من هَذَا فَإِن قَالُوا إِن الْمَسِيح أَمرهم بِاتِّبَاع أكابرهم قُلْنَا لَا عَلَيْكُم أَرَأَيْتُم لَو أَن بطارقتكم الْيَوْم أَجمعُوا على إبِْطَال مَا أحدثه بطارقتكم بعد مائَة عَام من رفع الْمَسِيح وأحدثوا لكم صياما آخر وَيَوْما آخر غير يَوْم الْأَحَد وفصحاً آخر وردوكم إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسِيح من تَعْظِيم السبت وَصَوْم الْيَهُود وفصحهم أَكَانَ يلزمكم اتباعهم فَإِن قَالُوا لَا قُلْنَا وَلم وَأي فرق بَين اتِّبَاع أُولَئِكَ وَقد خالفوا مَا نَص عَلَيْهِ الْمَسِيح والحواريون وَبَين اتِّبَاع هَؤُلَاءِ فِيمَا أحدثوه آنِفا فَإِن قَالُوا إِن أُولَئِكَ لعنُوا وَمنعُوا من تَبْدِيل مَا شرعوا قُلْنَا لَهُم وَأي لعن وَأي منع أعظم من منع الْمَسِيح من تَبْدِيل شَيْء من عهود التَّوْرَاة ثمَّ قد بدله من أطعتموه فِي تبديله لَهُ فقد صَار منع من بعد الْمَسِيح أقوى من منع الْمَسِيح وَإِن قَالُوا نعم كُنَّا نتبعهم أقرُّوا أَن دينهم لَا حَقِيقَة لَهُ وَإنَّهُ إِنَّمَا هُوَ اتِّبَاع مَا شرع أكابرهم من تَبْدِيل مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيُقَال لَهُم أَرَأَيْتُم إِن أحدث بعض بطارقتكم شرائع وأحدث الْآخرُونَ مِنْهُم أخر ولعنت كل طَائِفَة مِنْهُم من عمل بِغَيْر مَا شرعت فَكيف يكون الْحَال فَأَي دين أوسخ وأضل وأفسد من دين من هَذِه صفته وَلَقَد كَانَ لَهُم فِيمَا أوردنا من هَذَا الْفَصْل كِفَايَة فِي بطلَان كل مَا هم عَلَيْهِ وَلَو كَانَ لَهُم مسكة عقل وَحقّ لكل دين مرجعه إِلَى مَتى الشرطي ويوحنا المستخف وماقش الْمُرْتَد ولوقا الزنديق وباطره اللعين وبولس الموسوس الاضلال لَهُم فِي دينهم أَن تكون هَذِه صفته وَالْحَمْد لله على عَظِيم نعْمَته علينا فصل وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم ليكن دعائكم على مَا أصف لكم أَبَانَا السماوي تقدس اسْمك ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك وَقد علم أبوكم أَنكُمْ ستحتاجون إِلَى جَمِيع هَذَا وَفِي آخر الْإِنْجِيل أَنه قَالَ أَنا ذَاهِب إِلَى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم فَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 نرى للمسيح من الْبُنُوَّة لله تَعَالَى إِلَّا مَا لسَائِر النَّاس وَلَا فرق فَمن أَيْن حصره بِأَنَّهُ ابْن الله عز وَجل دون سَائِرهمْ كلهم إِلَّا أَن كذبوه فِي هَذَا القَوْل فليختاروا أحد الْأَمريْنِ وَلَا بُد ثمَّ من أَيْن خصوا كل من سوى الْمَسِيح بِأَن الله تَعَالَى إلهه وَلم يَقُولُوا أَن الله إِلَه الْمَسِيح كَمَا قَالَ هُوَ بِلِسَانِهِ فَلَا بُد ضَرُورَة من الْإِقْرَار بِأَن الله هُوَ إِلَه الْمَسِيح وَأَن سَائِر النَّاس أَبنَاء الله تَعَالَى أَو يكذبوا الْمَسِيح فِي نصف كَلَامه وحسبك بِهَذَا فَسَادًا وضلالاً تَعَالَى الله عَن أَن يكون أَبَا لأحد أَو أَن يكون لَهُ ابْن لَا الْمَسِيح وَلَا غَيره بل هُوَ تَعَالَى إِلَه الْمَسِيح وإله كل من هُوَ غير الْمَسِيح فصل وَكَثِيرًا مَا يحكون فِي جَمِيع الأناجيل فِي غير مَا مَوضِع أَنه إِذا أخبر الْمَسِيح عَن نَفسه سمي نَفسه ابْن الْإِنْسَان وَمن الْمحَال والحمق أَن يكون الْإِلَه ابْن إِنْسَان أَو أَن يكون ابْن إِلَه وَابْن إِنْسَان مَعًا وَأَن يلد إِنْسَان إِلَهًا مَا فِي الْحمق والمحال وَالْكفْر أَكثر من هَذَا وتعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل مَتى فَبينا يسوع يَقُول هَذَا إِذْ أقبل إِلَيْهِ أحد أَشْرَاف ذَلِك الْموضع وَقَالَ لَهُ إِن ابْنَتي توفيت وَأَنا أَرغب إِلَيْك أَن تذْهب إِلَيْهَا وتمسها بِيَدِك لتحيا ثمَّ ذكر أَنه لما دخل بَيت الْقَائِد وَأبْصر بالنوائح والبواكي قَالَ لَهُنَّ اسكتن فَإِن الْجَارِيَة لم تمت وَلكنهَا رَاقِدَة فاستهزأت الْجَمَاعَة بِهِ وَلما خرجت الْجَمَاعَة عَنْهَا دخل عَلَيْهَا وَأخذ بِيَدِهَا ثمَّ أَقَامَهَا حَيَّة وَذكر هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا فِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل لوقا إِلَّا أَنه قَالَ فِيهَا إِن أَبَاهَا قَالَ لَهُ قد أشرفت على الْمَوْت وَأَنه نَهَضَ مَعَه فَلَقِيَهُ رَسُول يُخبرهُ بِأَن الْجَارِيَة قد مَاتَت فَلَا تتعبه وَأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 الْمَسِيح قَالَ لأَبِيهَا لَا تخف وآمن فتحيا فَلَمَّا بلغا الْبَيْت لم يدْخل مَعَ نَفسه فِي الْبَيْت إِلَّا باطرة ويوحنا وَيَعْقُوب وَأَبُو الْجَارِيَة وَكَانَت الْجَمَاعَة تبْكي وتلتدم فَقَالَ لَهُم لَا تبكوا فَإِنَّهَا رَاقِدَة وَلَيْسَت ميتَة فاستهزؤا بِهِ معرفَة بموتها فَأخذ بِيَدِهَا ودعاها وَقَالَ يَا جَارِيَة قومِي فَعَادَت إِلَيْهَا روحها وَقَامَت من وَقتهَا وَأمر أَن تطعم طَعَاما وَجَاء أبواها وَأَمرهمَا أَن لَا يعلمَا أحدا بِمَا فعل وَذكر مثل هَذَا فِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مارقش قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل مصائب جمة أَحدهَا كَانَ يَكْفِي فِي أَنه إنجيل مَوْضُوع مَكْذُوب أَولهَا حكايتهم عَن الْمَسِيح أَنه كذب جهاراً إِذْ قَالَ لَهُم لم تمت إِنَّمَا هِيَ حَيَّة رَاقِدَة لَيست ميتَة فَإِن كَانَ صَادِقا فِي أَنَّهَا لَيست ميتَة فَلم يَأْتِ بِآيَة وَلَا بعجيبة وحاشى لله أَن يكذب نَبِي فَكيف إِلَه وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا أَن الْآيَة هِيَ إبراؤها من الْإِغْمَاء لِأَن فِي نَص إنجيلهم أَنه قَالَ لأَبِيهَا آمن فتحيا ابْنَتك فَلَا بُد من الْكَذِب فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَالثَّانيَِة أَن مَتى ذكر أَن أَبَاهَا جَاءَ إِلَى الْمَسِيح وَهِي قد مَاتَت وَأخْبرهُ بموتها وَدعَاهُ ليحيها ولوقا يَقُول إِن اباها أَتَى إِلَى الْمَسِيح وَهِي مَرِيضَة لم تمت وأتى بِهِ ليبرئها بعد وَأَن الرَّسُول لقِيه فِي الطَّرِيق وَقَالَ لَهُ لَا تتعبه فقد مَاتَت فأحد النذلين كَاذِب بِلَا شكّ فعلَيْهِمَا لعائن الله وَسخطه فَلَا يجوز أَخذ الدّين عَن كَذَّاب وَالثَّالِثَة انْفِرَاد الْمَسِيح عَن النَّاس عِنْد مَجِيئه بِهَذِهِ الْآيَة حاشى أَبَوَيْهَا وَثَلَاثَة من أَصْحَابه ثمَّ استكتامه إيَّاهُم ذَلِك والآيات لَا تطلب لَهَا الخلوات لَا تسترعن النَّاس وَفِي الأناجيل من هَذَا كثير من أَنه لم يقدر فِي بعض الْأَوْقَات على آيَة مرّة بِحَضْرَة بلاطس وَمرَّة بِحَضْرَة الْيَهُود وَأَنه قَالَ لمن طلب مِنْهُ آيَة إِنَّكُم لَا ترَوْنَ آيَة إِلَّا آيَة يُونُس إِذْ بَقِي فِي بطن الْحُوت ثَلَاثًا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَار مسترابة وكذبات مفتعلة وَنقل عَمَّن لَا خير فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح جمع إِلَى نَفسه اثْنَي عشر رجلا من تلاميذه وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانا على الْأَرْوَاح النَّجِسَة أَن ينفوها وَأَن يبرئوا من كل مرض وَهَذِه أَسمَاؤُهُم أَوَّلهمْ شَمْعُون الْمُسَمّى بباطرة وأندرياش أَخُوهُ وَيَعْقُوب بن سيذاي ويوحنا أَخُوهُ وفيلبس وبرثلوما وطوما وَمَتى الجابي وَيَعْقُوب ويهوذا أَخُوهُ وشمعون الكنعاني ويهوذا الأسخربوطي الَّذِي دلّ عَلَيْهِ بعد ذَلِك فَبعث يسوع هَؤُلَاءِ الاثْنَي عشر وَقَالَ لَهُم لَا تسلكوا فِي سَبِيل الْأَجْنَاس وَلَا تدْخلُوا فِي مَدَائِن السامريين وَلَكِن احتضروا إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الضان التالعة من بني إِسْرَائِيل فَفِي هَذَا الْفَصْل طامتان إِحْدَاهمَا قَوْله أَنه أعْطى أُولَئِكَ الاثْنَي عشر وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ كلهم سُلْطَانا على الْأَرْوَاح النَّجِسَة وَأَن يبرئوا من كل مرض وسمى فيهم يهوذا وَلم يدع للإنكار وَجها بل صرح بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ بعد ذَلِك الْيَهُود حَتَّى أَخَذُوهُ وصلبوه بزعمهم وضربوه بالسياط ولطموه واستهزؤا بِهِ وَقد كذبُوا لعنهم الله فَكيف يجوز أَن يقرب الله تَعَالَى وَيُعْطِي السُّلْطَان على الْجِنّ وَالْإِبْرَاء من كل مرض من يدْرِي أَنه هُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَيكفر بعد ذَلِك هَذَا مَعَ قَول يوحنا فِي إنجيله أَن يهوذا الْمَذْكُور كَانَ سَارِقا وَأَنه كَانَ يخطف كل مَا كَانَ يهدى إِلَى المسيحح وَيذْهب بِهِ فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن بِلَا ثَالِث أصلا إِمَّا أَن يكون الْمَسِيح اطلع على مَا اطلع عَلَيْهِ يوحنا من سَرقَة يهوذا وخبث بَاطِنه وَأَعْطَاهُ مَعَ ذَلِك الْآيَات والمعجزات وَجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين النَّاس وَجعل لَهُ أَن يحرم ويحلل فَيكون مَا حرم وحلل محرما ومحللاً فِي السَّمَوَات فَهَذِهِ مُصِيبَة وتوقيع بالكفار وَتَقْدِيم لمن لَا يسْتَحق وسخرية بِالدّينِ وَلَيْسَ هَذِه صفة الْإِلَه وَلَا من فِيهِ خير أَو يكون خَفِي على الْمَسِيح من خبث نِيَّة يهوذا مَا عرف غَيره فَهَذِهِ عَظِيمَة أَن يكون الْإِلَه يجهل مَا خلق فَهَل سمع قطّ بأحمق من هَذِه الْقَصَص وَمِمَّنْ يعتقدها حَقًا وَالثَّانيَِة قَوْله لَا تسلكوا فِي سَبِيل الْأَجْنَاس وَلَا تدْخلُوا مداين السامرين واحتضروا إِلَى الضَّأْن المبددة التالغة من نسل بني إِسْرَائِيل وَأَنه لم يبْعَث إِلَّا إِلَى الضان التالفة من بني إِسْرَائِيل وَهَذَا إِنَّمَا أَمرهم بِأَن يكملوه بعد رَفعه بإقرارهم كلهم أَنه طول كَونه فِي الأَرْض لم يُفَارِقهُ أحد مِنْهُم وَلَا نهضوا داعين إِلَى بلد آخر الْبَتَّةَ فقد خالفوه وعصوه لأَنهم لم يذهبوا إِلَّا إِلَى الْأَجْنَاس فهم عصاة لله عز وَجل فساف بإقرارهم فصل وَفِي هَذَا الْبَاب نَفسه بإقرارهم أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه وَإِذا طلبتم فِي هَذِه الْمَدِينَة فاهربوا إِلَى أُخْرَى أَمِين أَقُول لكم لَا تستوعبون مَدَائِن بني إِسْرَائِيل حَتَّى يَأْتِي ابْن الْإِنْسَان يَعْنِي رُجُوعه إِلَى الدُّنْيَا ظَاهرا بعد رَفعه إِلَى جَمِيع النَّاس وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل مارقش وَفِي أول الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِن من هَؤُلَاءِ الْوُقُوف بعض قوم لَا يذوقون الْمَوْت حَتَّى يرَوا ملك الله مُقبلا بقدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكذب هَذَا القَوْل قد ظهر عَلَانيَة فقد استوعبوا مَدَائِن بني إِسْرَائِيل وَغَيرهَا وَلم يرَوا مَا وعدهم بِهِ من رُجُوعه بِالْقُدْرَةِ عَلَانيَة قبل أَن يَمُوت كل من بِحَضْرَتِهِ يَوْمئِذٍ وحاش لله أَن يكذب نَبِي فَكيف إِلَه فَفِي هَذَا الْفَصْل وَحده كِفَايَة لَو كَانَ ثمَّ عَاقل فِي أَن الَّذين كتبُوا هَذِه الأناجيل كانو كَذَّابين قوم سوء فَإِن قَالُوا فَإِن فِي صَحِيح حديثكم أَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَأَشَارَ إِلَى غُلَام بِحَضْرَتِهِ من بني النجار أَن اسْتكْمل هَذَا عمره أدْرك السَّاعَة فَمَاتَ ذَلِك الْغُلَام فِي حد الصِّبَا وَأَنه كَانَ يَقُول للأعراب إِذا سَأَلُوهُ مَتى تقوم السَّاعَة فيشير إِلَى أَصْغَرهم وَيَقُول أَن يستكمل هَذَا عمره لم يَأْته الْمَوْت حَتَّى تقوم السَّاعَة قُلْنَا هَذَا لفظ غلط فِيهِ قَتَادَة ومعبد بن هِلَال فحدثا بِهِ عَن أنس على ماتوهماه من معنى الحَدِيث وَرَوَاهُ ثَابت بن أسلم الْبنانِيّ عَن أنس كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظِهِ فَقَالَ قَامَت عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ الثقاة أَيْضا عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا رَوَاهُ ثَابت عَن أنس وَقَالَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَن هَذَا لَا يَسْتَوْفِي عمره حَتَّى تقوم سَاعَتكُمْ يَعْنِي وَفَاة أُولَئِكَ المخاطبين لَهُ وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَلَا خلاف فِي أَن ثَابتا الْبنانِيّ أثقف لألفاظ الْأَخْبَار من قَتَادَة ومعبد فَكيف وَقد وافقته أم الْمُؤمنِينَ وَنحن لَا ننكر غلط الروَاة إِذا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَان أَنه خطأ وَقد صَحَّ فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الثَّابِتَة من طَرِيق عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَابْنه وَغَيرهمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يدْرِي مَتى تقوم السَّاعَة أحد إِلَّا الله وَلَو قَالَ النَّصَارَى وَالْيَهُود مثل هَذَا فِي نقلة كتبهمْ مَا عنفناهم وَلَا أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم وجود الْغَلَط فِي نقلهم وَإِنَّمَا ننكر عَلَيْهِم أَن ينسبوا يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى الله تَعَالَى الْكَذِب البحت ويقطعون أَنه من عِنْد الله تَعَالَى وننكر على النَّصَارَى أَن يجْعَلُوا من صَحَّ عَنهُ الْكَذِب مَعْصُوما يَأْخُذُونَ عَنهُ دينهم وَأَن يحققوا كل خبر متناقض وكل قَضِيَّة يكذب بَعْضهَا بَعْضًا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَفِي هَذَا الْبَاب نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لَا تحسبوا أَنِّي جِئْت لَا دخل بَين أهل الأَرْض الصُّلْح لَا السَّيْف وَإِنَّمَا قدمت لأفرق بَين الْمَرْء وَابْنه وَبَين الِابْنَة وَأمّهَا وَبَين الكنة وختنتها وَأَن يعادي الْمَرْء أهل خاصته وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِنَّمَا قدمت لألقي فِي الأَرْض نَارا وَإِنَّمَا أَرَادَ لي إشعالها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 والتعطش فِيهَا جَمِيعهَا وَأَنا بذلك منتصب إِلَى إِتْمَامه أتظنون أَنِّي أتيت لأصلح بَين هَل الأَرْض لَا وَلَكِن لَا فرق بَينهم فَيكون خَمْسَة مفترقين فِي بيب ثَلَاثَة على اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ على ثَلَاثَة الْأَب على الْوَلَد وَالْولد على الْأَب والابنة على الْأُم وَالأُم على الِابْنَة والختنة على الكنة والكنة على الختنة فهذان فصل ان كَمَا ترى وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قا لَهُم لم نبعث لتلف الْأَنْفس لَكِن لسلامتها وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل يوحنا أَن قَالَ من سمع كَلَامي وَلم يحفظه فلست أحكم أَنا عَلَيْهِ فَإِنِّي لم آتٍ لأحكم على الدُّنْيَا وأعقبها لَكِن إِلَى تَبْلِيغ أهل الدُّنْيَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَانِ الفصلان ضد الْفَصْلَيْنِ اللَّذين قبلهمَا وكل وَاحِد من الْمَعْنيين يكذب الآخر صراحاً فَإِن قيل إِنَّه إِنَّمَا أَرَادَ أَنه لم يبْعَث لتلف الْأَنْفس الَّتِي آمَنت بِهِ قُلْنَا قد عَم وَلم يخص وبرهان بطلَان تأويلكم هَذَا من أَنه إِنَّمَا عني أَنه لم يبْعَث لتلف النُّفُوس المؤمنة بِهِ إِنَّمَا هُوَ نَص هَذَا الْفَصْل فِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا هُوَ كَمَا نورده إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ عَن الْمَسِيح أَنه بعث بَين يَدَيْهِ رسلًا وَجعلُوا طريقهم على السامرية ليعدوا لَهُ بهَا فَلم يقتلوه لتوجهه إِلَى برشلام فَلَمَّا رأى ذَلِك يوحنا وَيَعْقُوب قَالَا لَهُ يَا سيدنَا أيوافقك أَن تَدْعُو فتنزل عَلَيْهِم نَارا من السَّمَاء وَتحرق عامتهم كَمَا فعل الياس فَرجع إِلَيْهِم وانتهرهم وَقَالَ الَّذِي أَنْتُم لَهُ أَرْوَاح لم يبْعَث الْإِنْسَان لتلف الْأَنْفس لَكِن لسلامتها ثمَّ توجهوا إِلَى حصن آخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فارتفع الْإِشْكَال وَصَحَّ أَنه لم يعن بالأنفس الَّتِي بعث لسلامتها بعض النُّفُوس دون بعض وَلَكِن عَنى كل نفس كَافِرَة بِهِ ومؤمنة بِهِ لَا كَمَا يسمعُونَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك إِذْ أَرَادَ أَصْحَابه هَلَاك الَّذين لم يقبلوه فَظهر تكاذب الْكَلَام الأول وحاشى لله أَن يكذب الرَّسُول الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لَكِن الْكَذِب بِلَا شكّ من الْفُسَّاق الْأَرْبَعَة الَّذين كتبُوا تِلْكَ الأناجيل المحرفة المبدلة ثمَّ فِي هَذَا الْفَصْل نَص جلي على أَنه مَبْعُوث مَأْمُور فصح أَنه نَبِي كَمَا يَقُول أهل الْحق إِن كَانُوا أصدقوا فِي هَذَا الْفَصْل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ من قبل نَبيا على اسْم نَبِي فَإِنَّهُ يكافأ بِمثل أجر النَّبِي قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب ومحال لِأَنَّهُ لَا تفاضل للنَّاس عِنْد الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة إِلَّا بأجورهم الَّتِي يعطيهم الله تَعَالَى فَقَط لَا بِشَيْء آخر أصلا فَمن كَانَ أجره فَوق أجر غَيره فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ أفضل مِنْهُ وَالْآخر بِلَا شكّ دونه وَمن كَانَ أجره مثل أجر آخر فهما بِلَا شكّ دونه وَمن كَانَ أجره سَوَاء فِي الْفضل هَذَا يعلم ضَرُورَة بالحس فَلَو كَانَ كل من اتبع نَبيا لَهُ مثل أجر النَّبِي لَكَانَ أهل الْإِيمَان كلهم فِي الْآخِرَة سَوَاء لَا فضل لأحد على أحد عِنْد الله تَعَالَى وَهَذَا يعلم أَنه كذب ومحال بِالضَّرُورَةِ وَلَو كَانَ هَذَا لوَجَبَ أَن يكون أجر كل من النَّصَارَى مثل أجر باطر والتلاميذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وبولس ومارقش ولوقا وَلَيْسَ مِنْهُم أحد يَقُول بِهَذَا وَلَا يدْخلهُ فِي الْمُمكن فكلهم مُتَّفق على أَن إلههم كذب وحاشى لله من أَن يكذب نَبِي من أنبيائه أَو رجل صَادِق من أهل الْإِيمَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ وَقد ذكر يحيى بن زَكَرِيَّا أَنا أَقُول لكم أَنه أَكثر من نَبِي وَهُوَ الَّذِي قيل فِيهِ وَأَنا باعث ملكي بَين يَديك ليعد لَك طريقك قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل كذب فِي موضِعين أَحدهمَا قَوْله فِي يحيى أَنه أَكثر من نَبِي وَهَذَا محَال لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو يحيى وَغير يحيى من النَّاس من أَن يكون أوحى إِلَيْهِ أَو لم يوحي إِلَيْهِ وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن كَانَ أوحى إِلَيْهِ فَهُوَ نَبِي وَلَا يُمكن وجود أَكثر من نَبِي فِي النَّاس إِلَّا أَن يكون رَسُولا نَبيا وَيحيى رَسُول الله بإجماعهم وَإِن كَانَ لم يُوح إِلَيْهِ فَهَذِهِ منزلَة يَسْتَوِي فِيهَا الْكَافِر وَالْمُؤمن وَلَا يجوز أَن يكون من لَا يوحي الله إِلَيْهِ مثل من استخلصه الله عز وَجل بِالْوَحْي إِلَيْهِ فَكيف أَن يكون أَكْثَرهَا مِنْهُ والكذبة الثَّانِيَة قَوْله أَن يحيى هُوَ الَّذِي قيل فِيهِ وَأَنا باعث ملكي بَين يَديك لِأَن يحيى على هَذَا القَوْل ملك وَهَذَا كذب بحت لِأَنَّهُ إِنْسَان ابْن رجل وَامْرَأَة عَاشَ إِلَى أَن قتل وَلَيْسَ هَذِه صفة الْملك وَيحيى لم يكن ملكا وَفِي هَذَا الْفَصْل لَكِن بعد هَذَا أَنه قَالَ أَن يحيى آدَمِيّ فَهَذَا القَوْل كذب على كل حَال وحاشا لله أَن يكذب نَبِي لَا وَلَا رجل فَاضل وَصَحَّ أَن مَتى الشرطي النذل هُوَ الَّذِي كذب فَعَلَيهِ مَا على الْكَذَّابين أَمْثَاله فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَمِين أَقُول لكم لم يُولد من الْآدَمِيّين أحد أشرف من يحيى المعمدان وَلَكِن من كَانَ صَغِيرا فِي ملكوت السَّمَاء فَهُوَ أكبر مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد تأملوا هَذَا الْفَصْل تروا مُصِيبَة الدَّهْر فيهم وقرة عُيُون الْأَعْدَاء وَهُوَ لَا يُمكن أَن يَقُوله وَلَا ينْطق بِهِ صبي يُرْجَى فلاحه وَلَا أمة وكعاء إِلَّا أَن تكون مدخولة الْعقل أئبت أَنه لم يُولد فِي الْآدَمِيّين أشرف من يحيى وَإِذا كَانَ كَمَا زعم أَن الصَّغِير فِي ملكوت السَّمَاء أكبر من يحيى فَكل من يدْخل ملكوت السَّمَاء ضَرُورَة فَهُوَ أكبر من يحيى فَوَجَبَ من هَذَا أَن كل مُؤمن من بني آدم فَهُوَ أفضل من يحيى وَأَن يحيى أرذل وأصغر من كل مُؤمن فَمَا هَذَا الهوس وَمَا هَذَا الْكَذِب وَمَا هَذِه الغباوة السمجة فِي الدّين وَكم هَذَا التَّنَاقُض وَالله مَا قَالَ الْمَسِيح قطّ شَيْئا من هَذِه الرعونة وَمَا قَالَهَا إِلَّا الْكذَّاب مَتى ونظراؤه عَلَيْهِم لعنة الله وَلَقَد كَانُوا فِي غَايَة الوقاحة وَالِاسْتِخْفَاف بِالدّينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 فصل وَفِي الْبَاب المكور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم كل كتاب ونبوة فَإِن مُنْتَهَاهَا إِلَى يحيى قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي هَذَا الْفَصْل على صغره كذبتان أَحدهمَا قَوْله قيل أَن يحيى أكبر من نَبِي مَعَ مَا فِي الْإِنْجِيل من أَن يحيى سُئِلَ فَقيل لَهُ أَنَبِي أَنْت قَالَ لَا وَقَالَ هَهُنَا إِن كل نبوة فَإِن مُنْتَهَاهَا إِلَى يحيى فَمرَّة لَيْسَ هُوَ نَبيا وَمرَّة هُوَ نَبِي آخر الْأَنْبِيَاء وَمرَّة هُوَ أكبر من نَبِي تبَارك الله كم هَذَا التَّخْلِيط وَالْكذب الْفَاحِش وَالْأُخْرَى قَوْله فِيهِ إِن كل نبوة فمنتهاها إِلَى يحيى وَلَيْسَ بعد النِّهَايَة شَيْء فَهُوَ على هَذَا آخر الْأَنْبِيَاء وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِنِّي باعث إِلَيْكُم أَنْبيَاء وعلماء ستقتلون مِنْهُم وتصلبون فقد كذب القَوْل بِأَن يحيى آخر الْأَنْبِيَاء ومنتهى النُّبُوَّة إِلَيْهِ وَالنَّصَارَى مقرون بِأَنَّهُ قد كَانَ بعده أَنْبيَاء وَأَن نَبيا أَتَى إِلَى بولس فأنذره بِأَنَّهُ سيصلب ذكر ذَلِك لوقا فِي الافركسيس فقد حصلوا على تَكْذِيب الْمَسِيح فِي قَوْله وَفِي بعض هَذَا كِفَايَة فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَتَاكُم يحيى وَهُوَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب فقلتم هُوَ مَجْنُون ثمَّ أَتَاكُم ابْن الْإِنْسَان يَعْنِي نَفسه يَأْكُل وَيشْرب فقلتم هَذَا صَاحب خوان شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل كذب وَلَا وَخلاف لقَوْل النَّصَارَى أما الْكَذِب فَإِنَّهُ قَالَ هَاهُنَا أَن يحيى كَانَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب حَتَّى قيل فِيهِ أَنه مَجْنُون من أجل ذَلِك وَفِي الْبَاب الأول من إنجيل مارقش أَن يحيى بن زَكَرِيَّا هَذَا كَانَ طَعَامه الْجَرَاد وَالْعَسَل الصحرواي وَهَذَا تنَاقض وَأحد الْخَبَرَيْنِ كذب بِلَا شكّ وَأما خلاف قَول النَّصَارَى فَإِنَّهُ ذكر أَن يحيى كَانَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَأَن الْمَسِيح كَانَ يَأْكُل وَيشْرب وَبلا شكّ إِن من أغناه الله عز وَجل عَن الْأكل وَالشرب من النَّاس فقد أبانه وَرفع دَرَجَته عَمَّن لم يغنه عَن الْأكل وَالشرب مِنْهُم فيحيى أفضل من الْمَسِيح بِلَا شكّ على هَذَا وقصة ثَالِثَة وَهِي اعْتِرَاف الْمَسِيح على نَفسه بِأَنَّهُ يَأْكُل وَيشْرب وَهُوَ عِنْدهم إِلَه فَكيف يَأْكُل الْإِلَه وَيشْرب مَا فِي الهوس أَكثر من هَذَا فَإِن قَالُوا إِن الناسوت مِنْهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْكُل وَيشْرب قُلْنَا وَهَذَا كذب مِنْكُم على كل حَال لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْمَسِيح عنْدكُمْ لاهوتاً وناسوتاً مَعًا فَهُوَ شَيْئَانِ فَإِن كَانَ إِنَّمَا يَأْكُل الناسوت وَحده فَإِنَّمَا أكل الشَّيْء الْوَاحِد من جملَة الشَّيْئَيْنِ وَلم يَأْكُل لآخر فَقولُوا إِذا أكل نصف الْمَسِيح وَشرب نصف الْمَسِيح وَإِلَّا فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 كَذبْتُمْ بِكُل حَال وَكذب أسلافكم فِي قَوْلهم أكل الْمَسِيح ونسبتم إِلَى الْمَسِيح الْكَذِب بِخَبَرِهِ عَن نَفسه أَنه يَأْكُل وَإِنَّمَا يَأْكُل نصفه لَا كُله وَالْقَوْم أنذال بِالْجُمْلَةِ فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَا يعلم غير الْأَب وَلَا يعلم الْأَب غير الْوَلَد قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا عجب جدا لِأَن الْمَسِيح عِنْدهم ابْن الله بِلَا خلاف بَينهم وَالله تَعَالَى عَن كفرهم هُوَ وَالِد الْمَسِيح وَأَبوهُ وَهَكَذَا يُطلق النذل باطرة فِي رسائله المنتنة مَتى ذكر الله فَإِنَّمَا يَقُول قَالَ الله وَالِد رَبنَا الْمَسِيح أمرا كَذَا وَكَذَا ثمَّ هَا هُنَا قَالَ إِن الْمَسِيح قَالَ إِنَّه لَا يعلم الْأَب إِلَّا الابْن وَلَا يعلم الابْن إِلَّا الْأَب فقد وَجب ضَرُورَة أَن التلاميذ وَسَائِر النَّصَارَى لَا يعلمُونَ الله تَعَالَى أصلا وَلَا يعْرفُونَ الْمَسِيح الْبَتَّةَ فهم جهلاء بِاللَّه تَعَالَى وبالابن وَمن جهل الله تَعَالَى وَلم يعرفهُ فَهُوَ كَافِر فهم كفار كلهم أسلافهم وأخلافهم أَو كذب الْمَسِيح فِي هَذَا الْكَلَام أَو كذب النذل مَتى وَلَا بُد وَالله من أَحدهمَا وَقد أعاذ الله تَعَالَى عَبده وَرَسُوله الْمَسِيح من الْكَذِب فَبَقيت الاثنتان وهما وَالَّذِي سمك السَّمَاء حق أَن النَّصَارَى جهال بِاللَّه تَعَالَى وَأَن الشرطي مَتى ملفق جَاهِل فعلى جَمِيعهم مَا يستحون من الله نعم وَفِي هَذَا القَوْل الملعون الَّذِي أضافوه إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام الْقطع بِأَن الْمَلَائِكَة والأنبياء السالفين كلهم لَيْسَ مِنْهُم أحد يعرف الله تَعَالَى فاعجبوا لعَظيم فسق هَذَا الأحمق مَتى وعظيم حَمَاقَة من قَلّدهُ فِي دينه وَنَحْمَد الله على السَّلامَة كثيرا فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن بعض التوراويين قَالَ للمسيح يَا معلم إِنَّا نُرِيد أَن تَأْتِينَا بِآيَة فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح يَا نسل السوء وَيَا نسل الزِّنَا تسأولون آيَة وَلَا ترَوْنَ مِنْهَا آيَة غير آيَة يُونُس النَّبِي فَكَمَا أَن يُونُس النَّبِي كَانَ فِي بطن الْحُوت ثَلَاثَة أَيَّام وَثَلَاث لَيَال كَذَلِك يكون ابْن الْإِنْسَان فِي جَوف الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله لَو لم يكن فِي إنجيلهم إِلَّا هَذَا الْفَصْل الملعون وَحده لكفى فِي بطلَان جَمِيع أَنَاجِيلهمْ وَجَمِيع دينهم فَإِنَّهُ قد جمع عظيمتين إِحْدَاهمَا تَحْقِيق أَنه لم يَأْتِ مخالفيه قطّ بِآيَة وَإِقْرَار الْمَسِيح بذلك بزعمهم وَأَن آيَاته الَّتِي يذكرُونَ إِنَّمَا كَانَت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 خُفْيَة وَفِي السِّرّ بِحَضْرَة النزر الْقَلِيل الَّذين اتَّبعُوهُ وَمثل هَذَا لَا تقوم بِهِ حجَّة على الْمُخَالف أَو تَحْقِيق الْكَذِب على الْمَسِيح فِي أَنه يخبر أَنهم لَا يرَوْنَ آيَة وَهُوَ يُرِيهم الْآيَات لَا بُد من إِحْدَاهمَا وال فصل الثَّانِي وَهُوَ الطامة الْكُبْرَى حكايتهم عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ عَن نَفسه كَمَا بَقِي يُونُس فِي بطن الْحُوت ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها كَذَلِك يبْقى هُوَ فِي جَوف الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها وَهَذِه كذبة شنيعة لَا حِيلَة فِيهَا لأَنهم مجمعون وَفِي جَمِيع أَنَاجِيلهمْ أَنه دفن قرب مغيب الشَّمْس من يَوْم الْجُمُعَة مَعَ دُخُول لَيْلَة السبت وَقَامَ من الْقَبْر قبل الْفجْر من لَيْلَة الْأَحَد فَلم يبْق فِي جَوف الأَرْض إِلَّا لَيْلَة وَبَعض أُخْرَى وَيَوْما ويسيراً من يَوْم ثَان فَقَط وَهَذِه كذبة لَا خَفَاء بهَا فِيمَا أخبر بِهِ الْمَسِيح لَا بُد مِنْهَا أَو كذب أَصْحَاب الأناجيل وهم أهل الْكَذِب وحسبنا الله فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ يشبه ملكوت السَّمَاء بِحَبَّة خَرْدَل أَلْقَاهَا رجل فِي فدانه وَهِي أدق الزراريع كلهَا فَإِذا نَبتَت استعلت على جَمِيع الْبُقُول والزراريع حَتَّى ينزل فِي أَغْصَانهَا طير السَّمَاء ويسكن إِلَيْهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد حاشى للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُول هَذَا الْكَلَام لَكِن النذل الَّذِي قَالَه كَانَ قَلِيل البصارة بالفلاحة وَقد رَأينَا نَبَات الْخَرْدَل ورأينا من رأه فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة فَمَا رَأينَا قطّ ولاأخبرنا من رأى شَيْئا مِنْهُ يُمكن أَن يقف عَلَيْهِ طَائِر وَمثل هَذِه المسامحات لَا تقع لنَبِيّ أصلا فَكيف لله عز وَجل فصل وَفِي آخر الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح رَجَعَ إِلَى بِلَاده وَجعل يُوصي جَمَاعَتهمْ بوصايا يعْجبُونَ مِنْهَا وَكَانُوا يَقُولُونَ من أَيْن أُوتِيَ هَذِه الْعُلُوم وَهَذِه الْقُدْرَة أما هَذَا ابْن الْحداد وَأمه مَرْيَم وَإِخْوَته يَعْقُوب ويوسف وشمعون ويهوذا وأخوته أما هَؤُلَاءِ كلهم عندنَا فَمن أَيْن أُوتِيَ هَذَا وَكَانُوا يَشكونَ فِيهِ فَقَالَ لَهُم يسوع لَيْسَ يعْدم النَّبِي حرمته إِلَّا فِي بَيته وبلده ولتشككهم وكفرهم لم يطلع فِي ذَلِك الْموضع عجايب كَثِيرَة وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مارقش قَالَ وَكَانَت الْجَمَاعَة تسمع مِنْهُ وتعجب مِنْهُ الْعجب الشَّديد من وَصيته وَيَقُولُونَ من أَيْن أُوتِيَ هَذَا وَمَا هَذِه الْحِكْمَة الَّتِي رزقها وَمن أَيْن هَذِه الْأَعَاجِيب الَّتِي ظَهرت على يَدَيْهِ أَلَيْسَ هُوَ ابْن حداد وَابْن مَرْيَم أَخُو يُوسُف وَيَعْقُوب وشمعون ويهوذا أَلَيْسَ أخواته هن هَا هُنَا مَعنا وَكَانَ يَقُول لَهُم يسوع لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يكون نَبِي بِغَيْر حُرْمَة إِلَّا فِي وَطنه وَبَين عشيرته وَفِي أهل بَيته وَلَيْسَ كَانَ يقوى أَن يفعل هُنَالك آيَة لَكِن وضع يَدَيْهِ على مرضى قَلِيل فأبرأهم وَفِي الْبَاب الثَّامِن من إنجيل لوقا فَلَمَّا دخل وَالِد الْمَسِيح الْبَيْت وَبعد هَذَا بِيَسِير قَالَ فَكَانَ يعجب مِنْهُ أَبوهُ وَأمه وَبعده بِيَسِير قَول مَرْيَم أمه لَهُ فقد طَلَبك أَبوك وَأَنا مَعَه وَفِي الْبَاب السَّابِع مِنْهُ أَقبلت إِلَيْهِ أمه وَإِخْوَته وَفِي الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل يوحنا وَبعد هَذَا نزل إِلَى كفرنا حوم وَمَعَهُ أمه وَإِخْوَته وتلاميذه وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا وَكَانَ إخْوَته لَا يُؤمنُونَ بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث طوام نذكرها طامة طامة إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَولهَا اتِّفَاق الأناجيل الْأَرْبَعَة على أَنه كَانَ لَهُ وَالِد مَعْرُوف من النَّاس وإخوة وأخوات سمى الْإِخْوَة بِأَسْمَائِهِمْ وهم أَرْبَعَة رجال سوى الْأَخَوَات وَلَا يعول فِي ذَلِك إِلَّا على إِقْرَار أمه بِأَن لَهُ والداً طلبه مَعهَا وَهُوَ يُوسُف الْحداد أَو النجار فَأَما أمه فقد اتفقنا نَحن وَالْيَهُود وَجُمْهُور النَّصَارَى على أَنَّهَا حملت بِهِ حمل النِّسَاء وولدته كَمَا تَلد النِّسَاء أَوْلَادهنَّ إِلَّا طَائِفَة من النَّصَارَى قَالَت لم تحمل بِهِ وَلَكِن دخل من أذنها وَخرج من فرجهَا فِي الْوَقْت كَالْمَاءِ فِي الْمِيزَاب وَلَكِن بَقِي علينا أَن نَعْرِف كَيفَ تَقول أمه عَلَيْهَا السَّلَام عَن النجار أَو الْحداد أَنه أَبوهُ ووالده فَإِن قَالُوا إِن زوج الْأُم يُسمى فِي اللُّغَة أَبَا قُلْنَا هبكم أَن هَذَا كَذَلِك كَيفَ الْعَمَل فِي هَؤُلَاءِ الَّذين اتّفقت الأناجيل على أَنهم إخْوَته وأخواته وَإِنَّمَا هم أَوْلَاد يُوسُف النجار أَو الْحداد وَمَا وجد قطّ فِي اللُّغَة العبرانية أَن ولد الربيب من غير الْأُم يُسمى أَخا إِلَّا أَن يَقُولُوا إِن مَرْيَم ولدتهم من النجار فقد قَالَ هَذَا طَائِفَة من قدمائهم مِنْهُم يليان مطران طليطلة وَنحن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة أَن يكون لآله معبود أم أَو خَال أَو خَاله أَو ابْن خَالَة أَو ربيب أَو أَخ أَو أُخْت وتباً لعقول يدْخل هَذَا فِيهَا من أَن لله تَعَالَى ربيباً هُوَ زوج أمه وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا أَرَادَ كتاب الْإِنْجِيل أَنهم إخْوَته فِي الْإِيمَان وَالدّين لِأَن يوحنا قد رفع الْإِشْكَال فِي ذَلِك وَقَالَ وَمَعَهُ إخْوَته وتلاميذه فجعلهم طبقتين وَقَالَ أَيْضا إِن إخْوَته كَانُوا لَا يُؤمنُونَ بِهِ وتالله لَوْلَا أَنا شاهدنا النَّصَارَى مَا صدقنا أَن من يلْعَب بقذره وَمَا يخرج من سفله يصدق بِشَيْء من هَذَا الْحمق وَلَكِن تبَارك من أرانا بِهَذَا أَنه لَا ينْتَفع أحد ببصره وَلَا بسمعه وَلَا بتمييزه إِلَّا أَن يهديه خَالق الْهدى والضلال نسْأَل الله الَّذِي هدَانَا لملة الْإِسْلَام الْبَيْضَاء الْوَاضِحَة السليمة من كل مَا ينافره الْعقل أَن لَا يضلنا بعد إِذْ هدَانَا حَتَّى نَلْقَاهُ على مِلَّة الْحق ونحلة الْحق وَمذهب الْحق ناجين من خلل الْكفْر وَنحل الضلال ومذاهب الْخَطَأ وَفِي كل مَا أوردناه بَيَان وَاضح فِي أَن الَّذين ألفوا الأناجيل كَانُوا عيارين مستخفين بِمن أضلوه متلاعبين بِالدّينِ والطامة الثَّانِيَة إقرارهم بِأَن الْمَسِيح لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 يقوى فِي ذَلِك الْمَكَان على آيَة وَلَو كَانَ لَهُم عقل لعلموا أَن هَذِه لَيست صفة آله يفعل مَا يَشَاء بل صفة عبد مَخْلُوق مُدبر لَا يملك من أمره شَيْئا كَمَا قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَالثَّالِثَة إقرارهم أَن الْمَسِيح سمعهم ينسبونه إِلَى ولادَة الْحداد وَأَنه أَبوهُ وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم فقد حققوا عَلَيْهِ أحد شَيْئَيْنِ لَا ثَالِث لَهما الْبَتَّةَ إِمَّا أَنه سمع الْحق من ذَلِك فَلم يُنكره وَفِي هَذَا مَا فِيهِ من خلاف قَوْلهم جملَة وَإِمَّا أَنه سمع الْبَاطِل وَالْكذب فَأقر عَلَيْهِ وَلم يُنكره وَهَذِه صفة سوء وتلبيس فِي الدّين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذِه الْفُصُول مِمَّا لم يُطلق الله تَعَالَى أَيْديهم على تبديله من الْحق قَوْله لَا يعْدم النَّبِي حرمته إِلَّا فِي وَطنه وَأهل بَيته فيا عقول الْأَطْفَال وَيَا أدمغة الإوز لَو عقلتم أما كَانَ يكفيكم أَن تَقولُوا فِيهِ مَا قَالَ فِي نَفسه وَمَا شهد العيان بصدقه وَصِحَّته فِيهِ وتتركوا الرعونة الَّتِي لم تقدروا مُنْذُ ألف عَام على بَيَان مَا تعتقدونه مِنْهَا بقلوبكم وَلَا قدرتكم على الْعبارَة عَنْهَا بألسنتكم وَكلما رمتم وَجها من وُجُوه النوك انفتق عَلَيْكُم بَاب مِنْهُ لَا قبل لكم بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة إِلَيْك أَبْرَأ بمفاتيح السَّمَوَات فَكل مَا حرمته فِي الأَرْض يكون محرما فِي السَّمَوَات وكل مَا أحللته على الأَرْض يكون حَلَالا فِي السَّمَوَات وَبعد هَذَا الْكَلَام بأَرْبعَة أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة نَفسه مُتَّصِلا بالْكلَام الْمَذْكُور تَبِعنِي يَا مُخَالف وَلَا تعارضني فَإنَّك جَاهِل بمرضاة الله وَإِنَّمَا تَدْرِي مرضاة الْآدَمِيّين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل على قلته وَأَنه قَلِيل ومنتن كبعض مَا يُشبههُ مِمَّا نكره ذكره سؤتان عظيمتان إِحْدَاهمَا أَنه برْء إِلَى باطرة النذل بمفاتيح السَّمَوَات وولاه خطة الألوهية الَّتِي لَا تجوز لغير الله تَعَالَى وَحده لَا شريك لَهُ من أَن كل مَا حرمه فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وكل مَا حلله فِي الأَرْض كَانَ حَلَال فِي السَّمَوَات وَالثَّانيَِة أَنه إِثْر بَرَاءَته إِلَيْهِ بمفاتيح السَّمَوَات وتوليته خطة الربوبية إِمَّا شَرِيكا لله تَعَالَى فِي التَّحْرِيم والتحليل وَإِمَّا مُنْفَردا دونه عز وَجل بِهَذِهِ الصّفة قَالَ لَهُ فِي الْوَقْت أَنه مُخَالف معَارض لَهُ جَاهِل بمرضاة الله عز وَجل لَا يدْرِي إِلَّا مرضاة الْآدَمِيّين فوَاللَّه لَئِن كَانَ صدق فِي الْآخِرَة لقد خرق فِي الأولى إِذْ ولي مَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا لله تَعَالَى جَاهِلا بمرضاة الله مُخَالفا لَهُ لَا يدْرِي إِلَّا رِضَاء النَّاس وَأَن هَذِه لسوءة الْأَبَد إِذْ من هَذِه صفته لَا يصلح أَن يبرأ إِلَيْهِ بمفاتيح كنيف أَو بَيت زبل وَلَئِن كَانَ صدق وَأصَاب فِي الأولى لقد كذب فِي الثَّانِيَة وَوَاللَّه مَا قَالَ الْمَسِيح قطّ شَيْئا مِمَّا ذكرُوا عَنهُ فِي الأولى لِأَنَّهَا مقَالَة كَافِر شَرّ خلق الله عز وَجل وَمَا يبعد أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قَالَ لَهُ الْكَلَام الثَّانِي فَهُوَ وَالله كَلَام حق يشْهد بِهِ الْمُنَافِق على اللعين باطرة شاه وَجهه وَعَلِيهِ سخط الله وغضبه ثمَّ عجب ثَالِث أننا قد ذكرنَا قبل أر فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح أشرك مَعَ باطرة فِي هَذِه الخطة الَّتِي أفرده بهَا هَا هُنَا سَائِر الاثْنَي عشر تلميذاً وَفِي جُمْلَتهمْ السَّارِق الْكَافِر الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما أَخذهَا مِنْهُم وَأَنه قَالَ لجميعهم مَا حرمتموه فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وَمَا حللمتموه فِي الأَرْض كَانَ حَلَالا فِي السَّمَاء فيا لَيْت شعري كَيفَ يكون الْحَال إِن اخْتلفُوا فِيمَا ولاهم من ذَلِك فأحل بَعضهم شَيْئا وَحرمه آخر مِنْهُم كَيفَ يكون الْحَال فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض لقد يَقع أهلهما مَعَ هَؤُلَاءِ السفلة فِي شغل وَفِي حُرْمَة وَحل مَعًا فَإِن قيل لَا يجوز أَن يَخْتَلِفُوا قُلْنَا سُبْحَانَ الله وَأي خلاف أعظم من تَحْلِيل يهوذا إِسْلَامه إِلَى الْيَهُود وَأَخذه ثَلَاثِينَ درهما رشوة على ذَلِك إِلَّا أَن كَانَ عَزله عَن خطة الإلهية بعد أَن ولاه إِيَّاهَا فلعمري إِن من قدر أَن يوليها أَنه لقادر على الْعَزْل عَنْهَا ولعمري لقد رذلت هَذِه الْمنزلَة عِنْد هَؤُلَاءِ الأرذال حَقًا إِذْ يَليهَا السراق وَمن لَا خير فِيهِ ثمَّ يعزلون عَنْهَا بِلَا مؤونة تَعَالَى الله وَالله لَو دكت الْجبَال وَالْأَرْض دكاً وخرت السَّمَوَات الْعلَا وصعق كل ذِي روح عِنْد سَماع كفر هَؤُلَاءِ الخساس لما كَانَ ذَلِك بكبير وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا يَخْلُو هَذَا القَوْل من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَنه أَرَادَ أَن باطرة والتلاميذ المولين هَذِه الخطة لَا يحللون شَيْئا وَلَا يحرمُونَ إِلَّا بِوَحْي من الله عز وَجل فَإِن كَانَ هَذَا فقد كذب فِي قَوْله الَّذِي ذكرنَا قبل أَن كل نبوة فمنتهاها إِلَى يحيى بن زَكَرِيَّا لِأَن هَؤُلَاءِ أَنْبيَاء على هَذَا القَوْل وَإِمَّا أَنه أَرَادَ أَنه جعل لباطرة وَأَصْحَابه ابْتِدَاء الحكم فِي التَّحْرِيم والتحليل من عِنْد أنفسهم بِلَا وَحي من الله تَعَالَى فَيجب على هَذَا أَنهم مَتى حرمُوا شَيْئا حرمه الله تَعَالَى اتبَاعا لتحريمهم وَمَتى حللوا شَيْئا حلله الله تَعَالَى اتبَاعا لتحليلهم فلئن كَانَ هَكَذَا فَإِنَّهَا لخطة خسف ونرى باطرة النذل وَأَصْحَابه الأوغاد قد صَارُوا حكاماً على الله تَعَالَى وَلَقَد صَار عز وَجل تَابعا لَهُم وحاشى لله تَعَالَى من هَذَا كُله وَمَا نرى باطرة المنتن وَأَصْحَابه الرذلة حصلوا من مَفَاتِيح السَّمَوَات وَمن خطة الألهية إِلَّا على حلق اللحى بالنتف وعَلى ضرب الظُّهُور بالسياط والصلب أما باطرة فدبره إِلَى فَوق وَرَأسه إِلَى أَسْفَل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد ليعلم كل مُسلم أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يسمونهم النَّصَارَى ويزعمون أَنهم كَانُوا حواريين للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام كباطرة وَمَتى الشرطي ويوحنا وَيَعْقُوب ويهوذا الاخساء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 لم يَكُونُوا قطّ مُؤمنين فَكيف حواريين بل كَانُوا كَذَّابين مستخفين بِاللَّه تَعَالَى أما مقرين بالالهية الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام معتقدين لذَلِك غالين فِيهِ كغلو السبئية وَسَائِر فرق الغالية فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ وكقول الخطابية بالالهية أبي الْخطاب وَأَصْحَاب الحلاج بإلهية الحلاج وَسَائِر كفار الباطنية عَلَيْهِم اللَّعْنَة من الله وَالْغَضَب وَإِمَّا مدسوسين من قبل الْيَهُود كَمَا تزْعم الْيَهُود لإفساد ديث أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وإضلالهم كانتصاب عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي وَالْمُخْتَار ابْن أبي عبيد وَأبي عبد الله العجاني وَأبي زَكَرِيَّا الْخياط وَعلي النجار وَعلي بن الْفضل الجندي وَسَائِر دعاة القرامطة والمشارقة لإضلال شيعَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فوصلوا من ذَلِك إِلَى حَيْثُ عرف وَسلم الله من ذَلِك من لم يكن من الشِّيعَة وَأما الحواريون الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم فَأُولَئِك أَوْلِيَاء الله حَقًا ندين لله عز وَجل بحبهم وَلَا نَدْرِي أسمائهم لِأَن الله تَعَالَى لم يسمهم لنا إِلَّا إننا نبت ونوقن ونقطع بِأَن باطرة الْكذَّاب وَمَتى الشرطي ويوحنا المستخف ويهوذا وَيَعْقُوب النذلين ومارقس الْفَاسِق ولوقا الْفَاجِر وبولس الْجَاهِل مَا كَانُوا قطّ من الحواريون لَكِن من الطَّائِفَة الَّتِي قَالَ الله فِيهَا وكفرت طَائِفَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي آخر الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى وَأعلم يسوع من ذَلِك الْوَقْت تلاميذه بِمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَفْعَله من دُخُول برشلام وَحمل الْعَذَاب من أكَابِر أَهلهَا وعلمائهم وقتلهم لَهُ وقيامه فِي الثَّالِث فخلابه باطرة وَقَالَ لَهُ تعفى عَن هَذَا يَا سَيِّدي وَلَا يصيبك مِنْهُ شَيْء وَفِي الْبَاب السَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه سيبلى ابْن الْإِنْسَان فِي أَيدي النَّاس وَيقتل ويحيا فِي الثَّالِث يَعْنِي نَفسه فحزنزا لذَلِك حزنا شَدِيدا وَفِي أول الْبَاب الثَّامِن من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه إِن ابْن الْإِنْسَان سيبلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فِي أَيدي الْآدَمِيّين فيقتلونه فَإِذا قتل يقوم فِي الْيَوْم الثَّالِث وَأما هم فَلم يفهموا مُرَاده بِهَذَا الْكَلَام وَفِي قرب آخر الْبَاب الثَّامِن من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ للاثني عشر تلميذاً أَنا متصعد إِلَى برشلام ونكمل كل مَا نبأت بِهِ الْأَنْبِيَاء عَن ابْن الْإِنْسَان ويسيرون بِهِ إِلَى الْأَجْنَاس يستهزؤن بِهِ ويجلدونه ويبصقون فِيهِ وَبعد جلدهمْ إِيَّاه يقتلونه ويحيا فِي الْيَوْم الثَّالِث فَلم يفهموا عَنهُ مِمَّا ألقِي إِلَيْهِم شَيْئا وَكَانَ هَذَا عِنْدهم معقداً لَا يفهمونه قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث كذبات من طوام الْكَذِب أَحدهَا اتِّفَاق الأناجيل الْمَذْكُورَة كَمَا أوردنا على أَن الْمَسِيح أخْبرهُم عَن نَفسه أَنه يقتل وَجَمِيع الأناجيل الْأَرْبَعَة متفقة عِنْد ذكرهم لصلبه على أَنه مَاتَ على الْخَشَبَة حتف أَنفه وَلم يقتل أصلا إِلَّا أَن فِي بَعْضهَا أَنه طعنه بعد مَوته أحد الشَّرْط بِرُمْح فِي جنبه فَخرج من الطعنة دم وَمَاء وَفِي هَذَا إِثْبَات الْكَذِب على الْمَسِيح لاتفاقهم كَمَا أوردنا على أَنه أخْبرهُم بِأَنَّهُ يقتل واتفاقهم كلهم على أَنه لم يقتل وَهَذِه سوءة جدا وحاشى لله أَن يكذب نَبِي أَو ينذر بباطل هَذِه عَلامَة الْكَذَّابين لَا عَلامَة أهل الصدْق وَثَانِيها اتِّفَاق الأناجيل الْمَذْكُورَة كَمَا أوردنا على أَنه قَالَ وَيقوم فِي الثَّالِث ثمَّ اتّفقت الأناجيل كلهَا على أَنه لم يحيى وَلَا قَامَ إِلَّا فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ دفن فِي آخر يَوْم الْجُمُعَة مَعَ دُخُول لَيْلَة السبت وحسبك أَنهم ذكرُوا أَنه لم يحنط استعجالاً لِئَلَّا تدخل عَلَيْهِم لَيْلَة السبت وَأَنه أَقَامَ لَيْلَة الْأَحَد قبل الْفجْر وَهَذِه كذبة فَاحِشَة نسبوها إِلَى الْمَسِيح وحاشى لَهُ من مثلهَا وكذبة ثَالِثَة وَهِي إِخْبَار مَتى أَنهم فَهموا مُرَاده بِهَذَا القَوْل وَأَنَّهُمْ حزنوا حزنا شَدِيدا لذَلِك وَأَن باطرة قَالَ لَهُ تعفى عَن هَذَا يَا سَيِّدي وَلَا يصيبك مِنْهُ شَيْء وإخبار مارقس ولوقا أَنهم لم يفهموا مُرَاده بِهَذَا الْكَلَام وَهَذَا تكاذب فَاحش لَا يجوز أَن يَقع من صَادِقين فَكيف من معصومين فلاح يَقِينا عَظِيم الْكَذِب من الَّذين وضعُوا هَذِه الأناجيل وَأَنَّهُمْ كَانُوا فساقاً لَا خير فيهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصل وَفِي الْبَاب السَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَئِن كَانَ لكم إِيمَان على قدر حَبَّة الْخَرْدَل لتقولن للجبل ارحل من هُنَا فيرحل وَلَا يتعاصى عَلَيْكُم شَيْء وَقَبله مُتَّصِلا بِهِ أَن تلاميذه عجزوا عَن إِبْرَاء رجل بِهِ جن وَأَن الْمَسِيح أَبرَأَهُ وَأَن تلاميذه قَالُوا لَهُ لم عجزنا نَحن عَن إبرائه قَالَ لتشككم وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح دَعَا على شَجَرَة تين خضراء فيبست من وَقتهَا فَعجب التلاميذ فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح أَمِين أَقُول لكم لَئِن آمنتم وَلم تَشكوا لَيْسَ تَفْعَلُونَ هَذَا فِي التينة وَحدهَا لَكِن مَتى قُلْتُمْ هَذَا لجبل انقلع وانطرح فِي الْبَحْر تمّ لكم وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه من آمن بِي سيفعل الأفاعيل الَّتِي أَفعَلهَا أَنا وسيفعل أعظم مِنْهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث طوام من الْكَذِب عَظِيمَة لَا يخلوا لتلاميذ الْمَذْكُورين ثمَّ هَؤُلَاءِ الأشقياء بعدهمْ إِلَى الْيَوْم من أَن يَكُونُوا مُؤمنين بالمسيح أَو غير مُؤمنين وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن كَانُوا مُؤمنين فقد كذب الْمَسِيح فِيمَا وعدهم بِهِ فِي هَذِه الْفُصُول جهاراً وحاشى لَهُ من الْكَذِب وَمَا مِنْهُم أحد قطّ قدر أَن تأتمر لَهُ ورقة فَكيف على قلع جبل وإلقائه فِي الْبَحْر وَإِن كَانُوا غير مُؤمنين بِهِ فهم بإقرارهم هَذَا كفار وَلَا خير فِي كَافِر وَلَا يجوز أَن يصدق كَافِر وَلَا أَن يُؤْخَذ الدّين عَن كَافِر وَلَا بُد لَهُم من أَن يجيبوا إِذْ سألناهم أَفِي قُلُوبكُمْ مِقْدَار حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان أم لَا وتؤمنون بالمسيح أم لَا فَإِن قَالُوا نعم نَحن مُؤمنُونَ بِهِ وَالْإِيمَان فِي قُلُوبنَا قُلْنَا كذب الْمَسِيح بَقينَا فِيمَا أخبر بِهِ من أَن من فِي قلبه مِقْدَار حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان يَأْمر الْجَبَل بِأَن ينقلع فينقلع وَالله مَا مِنْكُم أحد يقدر على تيبيس شَجَرَة بدعائه وَلَا على قلع جبل من مَوْضِعه وَإِن قَالُوا لَيْسَ فِي قُلُوبنَا قدر حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان وَلَا نَحن مُؤمنُونَ بِهِ قُلْنَا صَدقْتُمْ وَالله حَقًا انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون صدق الله عز وَجل وأنبياؤه وَكذب مَتى وباطرة ويوحنا ومارقش ولوقا وَسَائِر النَّصَارَى وَهُوَ الكذابون وَلَقَد قلت هَذَا لبَعض عُلَمَائهمْ فَقَالَ لي إِنَّمَا عَنى شَجَرَة الْخَرْدَل الَّتِي تعلو على جَمِيع الزراريع حَتَّى يسكن الطير فِيهَا فَقلت لَهُ لم يقل فِي الأناجيل مثل شجر الْخَرْدَل إِنَّمَا قَالَ مثل حَبَّة الْخَرْدَل وَقد وصفهَا الْمَسِيح بإقرارهم بِأَنَّهَا أدق الزراريع وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر وَأما الشاك فَإِنَّهُ مَتى دخل الْإِيمَان شكّ بَطل وَحصل صَاحبه فِي الْكفْر فَكيف وَلم يدعنا الْمَسِيح بإقرارهم فِي شكّ من هَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد بل زَعَمُوا أَنه قَالَ لَهُم لتشككم لَئِن كَانَ لكم إِيمَان قدر حَبَّة الْخَرْدَل لتقولن للجبل وَقَالَ فِي إنجيل يوحنا كَمَا أوردنا لَئِن آمنتم وَلم تَشكوا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِيَقِين بِهَذِهِ النُّصُوص التَّصْدِيق الَّذِي هُوَ خلاف الشَّك لَا غَايَة الْعَمَل الصَّالح وَقَالَ كَمَا أوردنا فِي إنجيل يوحنا من آمن بِي سيفعل الأفاعيل الَّتِي أفعل أَنا فَعَن هَذَا الْإِيمَان بِهِ سألناكم أَفِي قُلُوبكُمْ هُوَ أم لَا فَقولُوا مَا بدا لكم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما أَنا فَلَو سَمِعت هَذَا القَوْل مِمَّن يَدعِي النُّبُوَّة لما ترددت فِي الْيَقِين بِأَنَّهُ كَذَّاب وَوَاللَّه مَا قَالَهَا الْمَسِيح قطّ وَلَا اخترع هَذَا الْكَذِب إِلَّا أُولَئِكَ السفلة مَتى ويوحنا وأمثالهم وَالْعجب كُله إِقْرَار مَتى فِي الْفَصْل الْمَذْكُور كَمَا أوردنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُ ولأصحابه أَنهم إِنَّمَا عجزوا عَن إِبْرَاء الْمَجْنُون لشكهم فَشهد عَلَيْهِم بِالشَّكِّ وَأَنه لَو كَانَ لَهُم إِيمَان لم يعْجزُوا عَن ذَلِك فَلَا يَخْلُو الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا حكوا عَنهُ من الْكَذِب أَن يكون كَاذِبًا أَو صَادِقا فَإِن كَانَ كَاذِبًا فَهَذِهِ صفة سوء والكاذب لَا يكون نَبيا فَكيف إِلَهًا وَإِن كَانَ صَادِقا فَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الَّذين أخذُوا عَنْهُم دينهم ويسمونهم تلاميذ وَأَنَّهُمْ فَوق الْأَنْبِيَاء كفار شكاك فَكيف يَأْخُذُونَ دينهم عَن كفار شكاك لَا مخرج لَهُم من أَحدهمَا وَلَو لم تكن إِلَّا هَذِه فِي أَنَاجِيلهمْ كلهَا لكفت فِي إِبْطَالهَا وَإِبْطَال جَمِيع مَا هم عَلَيْهِ من دينهم المنتن ثمَّ الْعجب كُله كَيفَ يشْهد عَلَيْهِم بِالشَّكِّ وهم يحكون أَنه قد ولاهم خطة الالهية وولاهم رُتْبَة الربوبية فِي أَن كلما حرمُوهُ فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وَكلما حللوه فِي الأَرْض كَانَ حَلَالا فِي السَّمَوَات فَكيف يجْتَمع هَذَا مَعَ هَذَا وَهل يَأْتِي بِهَذَا التَّنَاقُض من دماغه سَالم أَو فِيهِ آفَة يسيرَة بل هَذَا وَالله توليد أفاك كَاذِب واختراع عيار متلاعب ونعوذ بِاللَّه عز وَجل من الخذلان فصل فِي قرب آخر الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه إِذا اجْتمع اثْنَان مِنْكُم على أَمر فَلَيْسَ يسألان شَيْئا على الأَرْض إِلَّا أجابهم إِلَيْهِ أبي السماوي وَحَيْثُ اجْتمع اثْنَان أَو ثَلَاثَة على اسْمِي فَأَنا متوسطهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل ظريف جدا وَكذب لَا يمطل ظُهُوره وَلَا يَخْلُو أَن يكون عني بِهَذِهِ المخاطبة تلاميذه خَاصَّة أَو كل من آمن بِهِ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فَهُوَ كذب ظَاهر وَمَا يشك أحد فِي أَن تلاميذه سَأَلُوا أَن يُجِيبهُمْ من دَعوه إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ من دينهم وَأَن يتَخَلَّص من فتن من أَصْحَابه فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا من ذَلِك الَّذِي سَمَّاهُ أَبَاهُ السماوي فَإِن قيل لم يسْأَلُون قطّ شَيْئا من ذَلِك قُلْنَا هَذِه طامة أُخْرَى لَئِن كَانَ هَذَا فهم غاشون للنَّاس غير مريدين لصلاحهم بل ساعون فِي هلاكهم هَيْهَات هَذِه منزلَة مَا أَعْطَاهَا الله تَعَالَى قطّ أحدا من خلقه صدق الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أخبرنَا أَن ربه تَعَالَى قَالَ لَهُ سواءٌ عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لن يغْفر الله لَهُم وَأخْبرنَا عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دَعَا أَن يَجْعَل بأسنا بَيْننَا بعده فَلم يجبهُ الله تَعَالَى إِلَى ذَلِك هَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا مزِيد فِيهِ وَالْقَوْل الَّذِي صَحبه الصدْق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لم يفخر بِمَا لم يُعْط قطّ وَلَا أنزل نَفسه فَوق قدرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم وَإِن أَسَاءَ إِلَيْك أَخُوك الْمُؤمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فَعَاتَبَهُ وَحدك فِيمَا بَيْنك وَبَينه فَإِن سمع مِنْك فقد ربحته وَإِن لم يسمع فَخذ إِلَى نَفسك رجلا أَو رجلَيْنِ لكيما تثبت كل كلمة بِشَهَادَة شَاهِدين أَو ثَلَاثَة فَإِن لم يسمع فَاعْلَم بِخَبَرِهِ الْجَمَاعَة فَإِن لم يسمع من الْجَمَاعَة فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة الْمَجُوسِيّ والمستخرج ثمَّ بعده بأسطار يسيرَة قَالَ وَعند ذَلِك تداني إِلَيْهِ باطرة وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي فَإِن أَسَاءَ إِلَيّ أخي أتأمرني أَن أَغفر لَهُ سبعا فَقَالَ لَهُ يسوع لست أَقُول لَك سبعا وَلَكِن سبعين فِي سَبْعَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه ضد قَوْله فِي الثَّالِثَة فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة الْمَجُوسِيّ والمستخرج وَلَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَينهمَا فصل وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل مَتى إِن أم ابْني سبدى أَقبلت إِلَيْهِ مَعَ ولديها فحنت ورغبت إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا مَا تريدين فَقَالَت أحب أَن تقعد ابْني هذَيْن أَحدهمَا عَن يَمِينك وَالْآخر عَن شمالك فِي ملكك فَقَالَ يسوع تجهلان السُّؤَال أتصبران على شرب الكأس الَّتِي اشرب فَقَالَا نصبر فَقَالَ لَهما ستشربان بكأسي وَلَيْسَ إِلَى تجليسكما عَن يَمِيني وشمالي إِلَّا لمن وهب ذَلِك إِلَى أبي قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل بَيَان أَنه لَيْسَ إِلَيْهِ من الْأَمر شَيْء وَأَنه غير الْأَب كَمَا يَقُولُونَ بِخِلَاف دينهم فَإذْ هُوَ غير الْأَب وَكِلَاهُمَا إِلَه فهما إلهان اثْنَان متغايران أَحدهمَا قوي وَالْآخر ضَعِيف لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ لَيْسَ لَهُ قدرَة على تقريب أحد إِلَّا من وهب لَهُ ذَلِك الَّذِي يسمونه أَبَا وليت شعري كَيفَ يجْتَمع مَا ينسبون إِلَيْهِ هَهُنَا من الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِ أَن يجلس أحد عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله وَإِنَّمَا هُوَ بيد الله تَعَالَى مَعَ مَا ينسبون إِلَيْهِ من أَنه قدر على إِعْطَاء مَفَاتِيح السَّمَوَات وَالْأَرْض لأنذل من وجد وَهُوَ باطرة وَأَنه يفعل كل مَا يَفْعَله الْأَب وَأَن الله تَعَالَى قد تَبرأ إِلَيْهِ من الحكم وَأَن الله تَعَالَى لَيْسَ يحكم بعد على أحد وَسَائِر تِلْكَ الفضائح الْمهْلكَة مَعَ تكاذبها وتدافعها وشهادتها بِأَنَّهَا لَيست من عِنْد الله وَلَا من عِنْد نَبِي أصلا لَكِن توليد كَذَّاب كَافِر ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى فصل وَفِي الْبَاب الْحَادِي وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى فَلَمَّا تداني الْمَسِيح من برشلام وَكَانَ فِي مَوضِع يُقَال لَهُ بَيت فاجي جوَار جبل الزَّيْتُون بعث رجلَيْنِ من تلاميذه وَقَالَ لَهما امضيا إِلَى الْحصن الَّذِي يقابلكما وستجدان فِيهِ حمارة مربوطة بفلوها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فحلا عَنْهُمَا وأقبلا إِلَيّ بهما فَإِن تعرضكما أحد فقولا إِن السَّيِّد يُرِيدهُمَا فيدعكما من وقته وَكَانَ ذَلِك ليتم بِهِ قَول النَّبِي الْقَائِل قُولُوا لِابْنِهِ صهيون سيأتيك ملكك متواضعاً على حمارة وَابْن أتان فَتوجه التلميذان وفعلا كَمَا أَمرهمَا بِهِ وَأَقْبل بالحمارة وفولها وألقيا ثيابهما عَلَيْهِمَا وأجلساه من فَوْقهمَا وَفِي الْبَاب التَّاسِع من آخر إنجيل مارقش فَلَمَّا بلغ الْمَسِيح بَيت فاجي عِنْد جبل الزَّيْتُون أرسل اثْنَيْنِ من تلاميذه وَقَالَ لَهما اذْهَبَا إِلَى الْحصن الَّذِي بحيالكما فَإِذا دخلتما ستجدان فَلَو مربوطا لم يركبه بعد أحد من الْآدَمِيّين حلاه واقبلا بِهِ إِلَيّ فَإِن قَالَ لَكمَا أحد مَا هَذَا الَّذِي تفعلان فقولا لَهُ إِن السَّيِّد الْمَسِيح يحْتَاج إِلَيْهِ فيخليه لَكمَا فَانْطَلقَا ووجدا الفلو مربوطاً قبالة رحبة الْبَاب فِي زقاقين فحلاه فقالى لَهما بعض الْوُقُوف هُنَالك مَا لَكمَا تحلان الفلو فَقَالَا لَهُ كَالَّذي أَمرهمَا يسوع فَتَرَكُوهُ لَهما وساقا الفلو إِلَى يسوع فحملا عَلَيْهِ ثيابهما وَركب من فَوق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فهاتان قضيتان كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تكذب الْأُخْرَى مَتى يَقُول ركب حمارة وفلوها ومارقش يَقُول ركب فلواً وَالْعجب كُله من اسشتهادهم لذَلِك بقول النَّبِي يَأْتِيك ملكك رَاكِبًا على حمارة وَابْن أتان وَمَا كَانَ الْمَسِيح قطّ ملك برشلام فَهَذِهِ كذبة أُخْرَى وأظرف شَيْء إسشهادهم لصِحَّة أمره بركوبه حمارة أثراه لم يدْخل قطّ برشلام إِنْسَان على حمارة سواهُ هَذِه وَالله مضحكة من مضاحك السخفاء وَلَقَد أَخْبرنِي الْحُسَيْن ابْن بَقِي صاحبنا نور الله وَجهه أَنه وقف عَالما من عُلَمَائهمْ على هَذَا الْفَصْل قَالَ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِه رمز والحمارة هِيَ التَّوْرَاة قَالَ فأضحكني قَوْله وَقلت لَهُ فالإنجيل هُوَ الفلو قَالَ فَسكت وَعلم أَنه أَتَى بِمَا يُوجب السخرية مِنْهُ فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى أَن يسوع قَالَ لَهُم إِذا قَامَ النَّاس من الْأَمْوَات لَا يَتَزَوَّجُونَ وَلَا يتناكحون لكِنهمْ يكونُونَ كأمثال مَلَائِكَة الله فِي السَّمَاء وَفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الْبَاب السَّادِس وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى وَأَيْضًا فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أَخذه لَا شربت بعْدهَا من نسل الزرجون حَتَّى أشربها مَعكُمْ جَدِيدَة فِي ملكوت الله وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ للحواريين الاثْنَي عشر أَنْتُم الَّذين صَبَرْتُمْ معي فِي جَمِيع مصائبي فَإِنِّي ألخص لكم الْوَصِيَّة على مَا لخصها لي أبي لتطعموا وتشربوا على مائدتي فِي ملكوتي وتجلسوا على عروش حاكمين على اثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي الْفَصْل الأول أَن النَّاس فِي الْآخِرَة لَا يتناكحون وَفِي الْفُصُول الثَّلَاثَة بعده أَن فِي الْجنَّة أكلا وشرباً للخبز وَالْخمر على الموائد وَالنَّصَارَى يُنكرُونَ كل هَذَا وَلَا مؤونة عَلَيْهِم فِي تكذيبهم للمسيح مَعَ إقرارهم بعبادتهم لَهُ وَأَنه رَبهم لَا سِيمَا وَفِي الْفَصْل الأول أَن النَّاس فِي الْجنَّة كالملائكة وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي يصدقون بهَا أَن الْمَلَائِكَة أكلت عِنْد لوط وَعند إِبْرَاهِيم الفطاير وَاللَّحم وَاللَّبن وَالسمن وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة يَأْكُلُون وَالنَّاس فِي الْجنَّة مثلهم فَالنَّاس فِي الْجنَّة يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ بِلَا شكّ بِمُوجب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَلَا سِيمَا وَقد أخبروا أَن الْمَسِيح بعد أَن مَاتَ وَرجع إِلَى الدُّنْيَا وَلَقي تلاميذه طلب مِنْهُم مَا يَأْكُل فَأتوهُ بحوت مشوي فَأكل مَعَهم وَشرب شراب عسل بعد مَوته فَإِذا كَانَ الْإِلَه يَأْكُل الْحيتَان المشوية وَيشْرب عَلَيْهَا الْعَسَل فَأَي فكرة فِي شرب النَّاس وأكلهم فِي الْجنَّة وَإِذا كَانَ الله تَعَالَى عِنْدهم اتخذ ولدا من امْرَأَة اصطفاها فَأَي عجب فِي اتِّخَاذ النَّاس النِّسَاء فِي الْجنَّة وَهَذَا هُوَ طبعهم الَّذِي بناهم الله عَلَيْهِ إِلَّا أَن فِي رعونة هَؤُلَاءِ النوكي لعبرة لمن اعْتبر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَعجب آخر وَهُوَ وعده الاثْنَي عشر تلميذاً بِأَنَّهُم يَقْعُدُونَ على عروش حاكمين على الاثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل فَيُوجب ضَرُورَة كَون يهوذا الأسخريوطى فيهم وَلَا يجوز أَن يُخَاطب بِهَذَا أَصْحَابه دونه لِأَنَّهُ قد أوضح أَنهم اثْنَا عشر على اثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل فَوَجَبَ ضن ورة كَونه فيهم وَهُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما فَلَا بُد من أَنه لم يُذنب فِي ذَلِك وَهَذَا كذب لِأَنَّهُ قد قَالَ فِي مَكَان آخر ويل لذَلِك الْإِنْسَان الَّذِي كَانَ أحب إِلَيْهِ لَو لم يخلق أَو كذب الْمَسِيح فِي هَذَا الْوَعْد الْمَذْكُور لَا بُد من أَحدهمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح كاشف عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَقَالَ مَا تَقولُونَ فِي الْمَسِيح وَابْن من هُوَ قَالُوا هُوَ ابْن دَاوُد فَقَالَ لَهُم كَيفَ يُسَمِّيه دَاوُد بِالروحِ إِلَهًا حَيْثُ كتب قَالَ الله لالهي اقعد على يَمِيني حَتَّى أجعَل من أعدائك كرسيا بقدميك فَإِن كَانَ دَاوُد يَدعُوهُ إِلَهًا فَكيف يكون هُوَ وَلَده فَلم يقدر مِنْهُم أحد على مُرَاجعَته قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْحق من قَول الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَلَقَد أنكرها عَلَيْهِ السَّلَام الْمُنكر حَقًا وَالْعجب أَن هَؤُلَاءِ الأنذال المنتمين إِلَى أَتْبَاعه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الِاحْتِجَاج بِهَذَا الْفَصْل الْمَذْكُور وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام قد أنكر أَن يكون الْمَسِيح ابْن دَاوُد وهم يسمونه فِي الأناجيل كلهَا بِأَنَّهُ ابْن دَاوُد فاعجبوا فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه أَنْتُم إخْوَان وَلَا تنتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض فَإِن أَبَاكُم السماوي وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل فضيحتان عظيمتنان احدهما إخْبَاره أَن الله تَعَالَى هُوَ أَبُو التلاميذ فتراهم مثله سَوَاء بِسَوَاء فَلم خصّه النَّصَارَى بِأَن يَقُولُوا أَنه ابْن الله دون أَن يَقُولُوا عَن تلاميذه مَتى ذكروهم أَنهم أَبنَاء الله تَعَالَى الله عَن هَذَا الْكفْر وَعَن أَن يكون أَبَا أَو ابْنا وَالْأُخْرَى قَوْله لَهُم لَا تنتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض وَالنَّصَارَى والأناجيل يطلقون أَن شَمْعُون بن يوثا وَيَعْقُوب ويوحنا ابْنا سَيِّدي ويهوذا وَيَعْقُوب ابْنا يُوسُف فقد أقرُّوا بثباتهم على مَعْصِيّة الْمَسِيح إِذْ نَهَاهُم أَن ينتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض وهم ملازمون مُخَالفَة أمره فِي ذَلِك متدينون بعصيانه فصل وَفِي الْبَاب الرَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح أنذر تلاميذه بِمَا يكون فِي آخر الزَّمَان من الزلازل وَالْبَلَاء وَقَالَ لَهُم فَادعوا أَن لَا يكون هروبكم فِي شتاء وَلَا فِي سبت قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا بَيَان وَاضح بلزومهم حفظ السبت إِلَى انْقِضَاء أَمرهم وَإِلَى حُلُول الزلازل بهم وهم على خلاف ذَلِك هَذِه أمة لَا عقول لَهُم فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم سيثور مسحاء كذبة وأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 كذبة ويعطون الْعَجَائِب الْعَظِيمَة والآيات حَتَّى يغلط من يظنّ بِهِ الصّلاح وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مارقش سيقوم مسيحون كذابون وأنبياء كذابون ويأتون بِالْآيَاتِ والبدائع ليخدعوا إِن أمكن أَيْضا المختارين قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل مَعَ الْفَصْل الْأَخير الَّذِي فِي توراة الْيَهُود فِي السّفر الْخَامِس الَّذِي نَصه إِن طلع فِيكُم نَبِي وَادّعى أَنه رأى رُؤْيا وأتاكم بِخَبَر مَا يكون وَكَانَ مَا وَصفه ثمَّ قَالَ لكم بعد اتبعُوا إلهة الْأَجْنَاس فَلَا تسمعوا لَهُ مَعَ الْفَصْل الَّذِي فِيهِ من التَّوْرَاة إِن السَّحَرَة عمِلُوا مثل مَا عمل مُوسَى فِي قلب الْعَصَا حَيَّة وإحالة المَاء دَمًا والمجيء بالضفادع كَاف فِي إبِْطَال مَا أَتَى بِهِ مُوسَى والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام وكل نَبِي يقرونَ بنبوته لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يَأْتِي نَبِي كَاذِب بالمعجزات وَأمكن أَن يكذب النَّبِي الصَّادِق فِيمَا ينذر بِهِ وَأمكن أَن يعْمل السَّحَرَة مثل شَيْء من آيَات نَبِي فقد امتزج الْحق بِالْبَاطِلِ وَلم يكن إِلَى تَمْيِيز أَحدهمَا من الآخر طَرِيق أصلا وَهَذَا إِفْسَاد الْحَقَائِق وَإِبْطَال مُوجب الْحق وَتَكْذيب الْحَواس وَإِذا أمكن عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَا ذَكرْنَاهُ مِمَّا فِي توراتهم وَأَنَاجِيلهمْ فَمَا الَّذِي يؤمنهم من أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام والمسيح وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ إِنَّمَا كَانُوا سحرة وكاذبين شَهِدنَا بِاللَّه شَهَادَة الْحق أَن هَذِه الْفُصُول الْمَذْكُورَة من عمل برهمي مكذب بِالنُّبُوَّةِ جملَة أَو مَا فِي مكذب بنبوة الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يَقُولَا قطّ شَيْئا مِمَّا فِي هَذِه الْفُصُول الخبيثة الملعونة وَأما نَحن فَلَا نجيز الْبَتَّةَ أَن يكذب نَبِي وَلَا أَن يَأْتِي غير نَبِي بمعجزة وَلَا سَاحر وَلَا كَذَّاب وَلَا صَالح الصِّنَاعَة فَإِن قيل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن الدَّجَّال يَأْتِي بالمعجزات قُلْنَا حاش لله من هَذَا وَمَا الدَّجَّال إِلَّا صَاحب عجائب كَأبي الْعَجَائِب وَلَا فرق إِنَّمَا هُوَ محيل يتحيل بحيل مَعْرُوفَة كل من عرفهَا عمل مثل عمله وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة سَأَلَهُ هَل مَعَ الدَّجَّال نهر مَاء وخبز وَنَحْو ذَلِك فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَهْون على الله من ذَلِك وَصَحَّ أَيْضا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن الدَّجَّال صَاحب شبه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ وَأما ذَلِك الْيَوْم وَذَلِكَ الْوَقْت لَا يدْرِي أحد بهما لَا الْمَلَائِكَة وَلَا أحد غير الْأَب وَحده وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مارقش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 أَن الْمَسِيح قَالَ السَّمَوَات وَالْأَرْض تذْهب وكلامي لَا يبيد أبدا وَأما ذَلِك الْيَوْم وَتلك السَّاعَة فَلَا يدْرِي أحد بهما وَلَا الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء وَلَا ابْن الْإِنْسَان مَا عد الْأَب قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل يُوجب ضَرُورَة أَن الْمَسِيح هُوَ غير الله تَعَالَى لِأَنَّهُ أخبر إِن هَا هُنَا شَيْئا يُعلمهُ الله تَعَالَى وَلَا يُعلمهُ هُوَ وَإِذا كَانَ بِنَصّ إنجيلهم الابْن لَا يعلم مَتى السَّاعَة وَالْأَب يعلم مَتى هِيَ فبالضرورة القاطعة نعلم أَن الابْن غير الْأَب وَإِذا كَانَ كَذَلِك فهما اثْنَان متغايران أَحدهمَا يجهل مَا لَا يجهله الآخر وَهَذَا الشّرك الَّذِي عَلَيْهِ يحومون وَهَذَا مَا يُبطلهُ الْعقل أَن يكون إلهان أَحدهمَا نَاقص فصح ضَرُورَة أَن من هُوَ غير الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق مربوب وَبَطل هوسهم وتخليطهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أَو يكذبوا الْمَسِيح فِي هَذَا الْفَصْل وَلَا بُد فصل وَفِي الْبَاب السَّادِس وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة لَيْلَة أَخذ أَمِين أَقُول لَك ستجحدني هَذِه اللَّيْلَة قبل صرخة الديك ثَلَاثًا فَقَالَ باطرة لَا يكون هَذَا وَلَو بلغت الْقَتْل وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة أَمِين أَقُول لَك إِنَّك أَنْت الْيَوْم فِي هَذِه اللَّيْلَة قبل أَن يرفع الديك صَوته مرَّتَيْنِ ستجحدني ثَلَاثًا فَكَانَ باطرة يُعِيد القَوْل حَتَّى لَو أمكنني أَن أَمُوت مَعَك لست أجحدك وَفِي الْبَاب الثَّانِي وَالْعِشْرين من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة أَنا أعلمك أَنه لَا يصْرخ الديك هَذِه اللَّيْلَة حَتَّى تجحدني ثَلَاثًا وَأَنَّك لم تعرفنِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَمِين أَقُول لَك لَا يصْرخ الديك اللَّيْلَة حَتَّى تجحدني ثَلَاثًا فاتفق مَتى ومرقس ولوقا ويوحنا على أَنه قَالَ لَهُ أَنَّك تجحدني ثَلَاث مَرَّات قبل أَن يصْرخ الديك وَهَكَذَا وصف كل وَاحِد مِنْهُم عَن باطرة أَنه هَكَذَا فعل أَمَام الْغُلَام وَالْأمة وَالْقَوْم الَّذين كَانُوا يصطلون على النَّار وَقَالَ مارقش أَنه قَالَ لَهُ قبل أَن يصْرخ الديك مرَّتَيْنِ تجحدني ثَلَاث مَرَّات وَهَكَذَا وصف مارقش عَن باطرة وَأَنه فعل ليلتئذٍ فَإِن خادمه الكوهن قَالَت لَهُ أَنْت من أَصْحَاب يسوع فَجحد ثمَّ صرخَ الديك ثمَّ قَالَت للحاضرين الواقفين هُنَالك هَذَا من أُولَئِكَ فَجحد ثَانِيَة ثمَّ قَالَ لَهُ الواقفون هُنَالك حَقًا أَنْت مِنْهُم فَجحد ثَالِثَة أَيْضا ثمَّ صرخَ الديك ثَانِيَة فعلى قَول مارقش كذب مَتى ولوقا ويوحنا لِأَن الديك صرخَ قبل أَن يجحده ثَلَاث مَرَّات أَو كذب الْمَسِيح فِي إخْبَاره بذلك إِن كَانَ هَؤُلَاءِ صدقُوا لَا بُد من أَحدهمَا وعَلى قَول مَتى ولوقا ويوحنا كذب مارقش أَيْضا كَذَلِك لِأَن الديك صرخَ قبل أَن يجحده ثَلَاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 مَرَّات أَو كذب الْمَسِيح وَلَا بُد من أَحدهمَا وَالْكذب وَاقع فِي أحد الْخَبَرَيْنِ وَلَا بُد ثمَّ طامة أُخْرَى وَهِي اتِّفَاق مَتى ومارقش على أَن الْمَسِيح أخبر باطرة بِأَنَّهُ سيجحده تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَن باطرة رد خَبره وَقَالَ لَهُ لَا يكون هَذَا فلولا أَن الْمَسِيح كَانَ عِنْد باطرة مِمَّن يكذب فِي خَبره مَا كذبه مُوَاجهَة مرّة بعد مرّة أَو كفر باطرة إِذْ كذب ربه أَو نَبيا لَا بُد من أَحدهمَا فَإِن كَانَ كفر باطرة فَكيف يُعْطي مَفَاتِيح السَّمَوَات لمرتد كَافِر مكذب لله تَعَالَى أَو لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء جهاراً أم كَيفَ تولي مرتبَة التَّحْرِيم والتحليل من يكذب الله تَعَالَى أَو نبيه أَو كَيفَ يُؤْخَذ الدّين عَمَّن كذب ربه أَو كذب خبر نَبِي عَن الله تَعَالَى جهاراً فِي آخر سَاعَة كَانَ فِيهَا مَعَه وَختم بذلك عمله مَا سمعنَا بأوسخ عقولاً من أمة هَذِه صفة دينهم وكتابهم وأئمتهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِي الْبَاب السَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا الْمَسِيح أَخذ لحملها سخرة سيمون وَفِي الْبَاب الْخَامِس عشر من إنجيل مارقش أَن تِلْكَ الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهِ يسوع أَخذ لحملها سيمون القيرواني وَالِد الكسندرس وروفس وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا أَنه سخر لحمل تِلْكَ الْخَشَبَة شَمْعُون القيرواني وَفِي الْبَاب التَّاسِع عشر من إنجيل يوحنا أَن يسوع نَفسه هُوَ الَّذِي حملت عَلَيْهِ الْخَشَبَة الَّتِي صلب فِيهَا وَهَذَا خلاف مَا حكى أَصْحَابه وَلَقَد قررت بعض عُلَمَائهمْ على هَذَا فَقَالَ لي كَانَت طَوِيلَة جدا فحملها هُوَ وشمعون الْمَذْكُور فَقلت لَهُ وَمن أَيْن لَك هَذَا وَأَيْنَ وجدته وَسِيَاق أَخْبَار مُؤَلَّفِي الْإِنْجِيل لَا تدل على هَذَا وَلَو قلت أَنه مُمكن أَن يسخر كل وَاحِد مِنْهُمَا لحملها بعض الطَّرِيق لَكَانَ أَدخل فِي سِيَاق الْخَبَر فصل وَفِي الْبَاب السَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَنه صلب مَعَه مَعَه لصان أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَكَانَا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤسهما ويقولان يَا من يهدم الْبَيْت ويبنيه فِي ثَلَاث سلم نَفسك إِن كنت ابْن الله فَانْزِل عَن الصلب وَفِي الْبَاب الْخَامِس عشر من إنجيل مارقش أَنه صلب مَعَه لصان أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله واللذان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 صلبا مَعَه كَانَا يستعجزانه وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا وَكَانَ أحد اللصين المصلوبين مَعَه يسبه وَيَقُول إِن كنت أَنْت الْمَسِيح فَسلم نَفسك وَسلمنَا فَأَجَابَهُ الآخر وكشر عَلَيْهِ وَقَالَ أما تخَاف الله وَأَنت فِي آخر عمرك وَفِي هَذِه الْعقُوبَة أما نَحن فكوفئنا بِمَا استوجبنا وَهَذَا لَا ذَنْب لَهُ ثمَّ قَالَ ليسوع يَا سَيِّدي اذْكُرْنِي إِذا نلْت ملكوتك فَقَالَ لَهُ يسوع أَمِين أَقُول لَك الْيَوْم تكون معي فِي الْجنَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِحْدَى القضيتين كذب بِلَا شكّ لِأَن مَتى ومارقش أخبر بِأَن اللصين جَمِيعًا كَانَا يسبانه ولوقا يخبر بِأَن أَحدهمَا كَانَ يغبه وَالْآخر كَانَ يُنكر على الَّذِي يسبه ويؤمن بِهِ والصادق لَا يكذب فِي مثل هَذَا وَلَيْسَ يُمكن هَا هُنَا إِن يَدعِي أَن أحد اللصين سبه فِي وَقت وآمن بِهِ فِي آخر لِأَن سِيَاق خبر لوقا يمْنَع من ذَلِك ويخبر أَنه أنكر على صَاحبه سبه إِنْكَار من لم يساعده قطّ على ذَلِك وَكلهمْ مُتَّفق على أَن كَلَام اللصين وهم ثَلَاثَتهمْ مصلوبون على الْخشب فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن لوقا كذب أَو كذب من أخبرهُ أَو أَن مَتى كذب وَكذب مارقش أَو الَّذِي أخبرهُ وَلَا بُد فصل وَفِي آخر إنجيل مَتى بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وإنزاله برغبة يُوسُف الراماوي العريف وَدَفنه فِي قبر جَدِيد محفور فِي صَخْرَة وغطاه بصخرة عَظِيمَة وَفِي آخر إنجيل مارقش بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وإنزاله برغبة يُوسُف الراماوي العريف وَدَفنه فِي قبر عشَاء الْجُمُعَة والسبت دَاخل وَفِي آخر إنجيل لوقا بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وَأَن يُوسُف الراماوي أَتَى أول اللَّيْل فَرغب فِيهِ فَأَجَابَهُ بلاطش إِلَى إنزاله فأنزله وَجعله فِي قبر جَدِيد وَفِي آخر إنجيل يوحنا بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وَأَن يوحنا الراماوي رغب فِيهِ وأنزله فِي قبر فِي بُسْتَان ثمَّ قَالَ مَتى وَعند الْعشَاء لَيْلَة السبت الَّتِي تصح فِي يَوْم الْأَحَد اقبلت مَرْيَم المجدلانية وَمَرْيَم الْأُخْرَى لمعاينة الْقَبْر فتزلزل بهما الْموضع زَلْزَلَة عَظِيمَة ثمَّ نزل ملك السَّيِّد من السَّمَاء وَأَقْبل وَرفع الصَّخْرَة وَقعد عَلَيْهَا وَكَانَ منظره كمنظر الْبَرْق وثيابه أنصع بَيَاضًا من الثَّلج فَمن خَوفه صقع الحرس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وصاروا كالأموات فَقَالَ الْملك للمرأتين لَا تخافا قد علمت أنكما أردتما يسوع المصلوب لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا لِأَنَّهُ قد حيى وَقد تقدمكم إِلَى جلجال كَمَا قَالَ فانظروا إِلَى الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ السَّيِّد مُضْطَجعا وانهضا إِلَى تلاميذه وقولا لَهُم أَنه قد حيى وَهَا هُوَ يسبقكم إِلَى جلجال وَفِيه تَرَوْنَهُ فنهضتا مسرعتين بفرح عَظِيم وأقبلتا إِلَى التلاميذ وأخبرتاهم الْخَبَر فتلقاهما يسوع وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُمَا فوقفتا وترامتا إِلَى رجلَيْهِ وسجدتا لَهُ فَقَالَ لَهما يسوع لَا تخافا واذهبا أعلما إخْوَانِي ليتوجهوا إِلَى جلجال وَفِيه يرونني فَأقبل بعض الحرس إِلَى الْمَدِينَة وَأعلم قواد القسيسين بِمَا أَصَابَهُم فرشوهم بِمَال عَظِيم ليقول الحرس إِن تلاميذه طرقوهم لَيْلًا وسرقوه وذهبوا بِهِ وهم رقود فَفَعَلُوا وانتشر الْخَبَر فِي الْيَهُود إِلَى الْيَوْم وَتوجه الْأَحَد عشر تلميذاً إِلَى جلجال إِلَى الْجَبَل الَّذِي كَانَ دلهم عَلَيْهِ يسوع فَلَمَّا بصروا بِهِ خنعوا لَهُ وَبَعْضهمْ شكوا فِيهِ وَقَالَ مارقش فَلَمَّا خلا يَوْم السبت اشترت مَرْيَم المجدلانية وَمَرْيَم أم يَعْقُوب وشلوما حنوطاً ليانين بِهِ ويدهنه فأقبلن يَوْم الْأَحَد بكرَة جدا إِلَى الْقَبْر وبلغن هُنَالك وَقد طلعت الشَّمْس وَهن يقلن من يحول لنا الْحجر عَن الْقَبْر فنظرن فَإِذا بِالْحجرِ قد حول فدخلن فِي الْقَبْر فأبصرن فَتى جَالِسا عَن الْيَمين متغطياً بِثَوْب أَبيض فَقَالَ لَهُنَّ لَا تفزعن فَإِن يسوع الناصري الْمَطْلُوب قد قَامَ وَلَيْسَ هُوَ هَا هُنَا فانطلقن وقلن لتلاميذه ولباطرة أَنه قد حيى وَقد تقدمكم إِلَى جلجال وهنالك تلقونه فَقَامَ بكرَة يَوْم الْأَحَد وتراءى لِمَرْيَم المجدلانية فمضت وأعلمت الَّذين كَانُوا مَعَه فَلم يصدقوها وَبعد هَذَا تظاهر لاثْنَيْنِ مِنْهُم وهما مسافران إِلَى قَرْيَة فِي صفة أُخْرَى فأخبرا سَائِرهمْ فَلم يصدقُوا أَيْضا وَآخر الْأَمر بَيْنَمَا الْأَحَد عشر تلميذاً متكئين إِذْ تظاهر لَهُم ووبخ كفرهم وقسوة قُلُوبهم وَقَالَ لوقا فَلَمَّا انفجر الصُّبْح يَوْم الْأَحَد بكرَة جدا أقبل النسْوَة إِلَى الْقَبْر يحملن حنوطاً فوجدن الْحجر مقلوعاً عَن الْقَبْر فدخلن فِيهِ فَلم يجدن السَّيِّد فِيهِ فتحيرن فَوقف إلَيْهِنَّ رجلَانِ فِي ثِيَاب بيض فَقَالَا لَهُنَّ لَا تَطْلُبن حَيا بَين أموات قد قَامَ لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا فانصرفن وأعلمن الْأَحَد عشر تلميذاً وَمن كَانَ مَعَهم فَلم يصدقوهن فَقَامَ باطرة مسرعاً إِلَى الْقَبْر فَرَأى الْكَفَن وَحده فَعجب وَانْصَرف ثمَّ ترَاءى الْمَسِيح لِرجلَيْنِ مِنْهُم كَانَا ناهضين إِلَى حصن يُقَال لَهُ أماوس على سَبْعَة أَمْيَال وَنصف من اوراشلم فَلم يعرفاه حَتَّى ارْتَفع عَنْهُمَا وَغَابَ فانصرفا فِي الْوَقْت إِلَى أورشليم وَوجد الْأَحَد عشر تلميذاً مُجْتَمعين مَعَ أَصْحَابهم فأخبراهم بالْخبر فَبَيْنَمَا هم يَخُوضُونَ فِي هَذَا وقف يسوع فِي وَسطهمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم أَنا هُوَ فَلَا تخافوا فجزعوا وظنوه شَيْطَانا فَقَالَ لَهُم لم فزعتم أبصروا قدمي ويدي أَنا هُوَ فَإِن الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ لحم وَلَا عِظَام ثمَّ قَالَ أعندكم شَيْء يُؤْكَل فَأتوهُ بِقِطْعَة حوت مشوي وشربة عسل فَأكل وبرىء إِلَيْهِم بالبقية ثمَّ أوصاهم وارتفع عَنْهُم وَقَالَ يوحنا فَفِي يَوْم الْأَحَد اقبلت مَرْيَم صباحاً والظلمات لم تنجل بعد إِلَى الْقَبْر فرأت الصَّخْرَة مقلوعة عَن الْقَبْر فَرَجَعت إِلَى شَمْعُون باطرة وَإِلَى التلميذ الآخر يَعْنِي يوحنا بِهَذَا نَفسه وَقَالَت لَهما نزع سَيِّدي من الْقَبْر وَلَا أَدْرِي أَيْن وضعوه فَنَهَضَ باطرة والتلميذ الآخر إِلَى الْقَبْر فوجدا الأكفان مَوْضُوعَة ثمَّ رجعُوا فوقفت مَرْيَم باكية إِلَى الْقَبْر فرأت ملكَيْنِ منتصبين فَقَالَا لَهَا من تريدين فظنت أَنه البستاني فَقَالَت لَهُ يَا سَيِّدي إِن كنت أَنْت أَخَذته فَقل لي أَيْن وَضعته فَقَالَ لَهَا يَا مَرْيَم فالتفتت وَقَالَت معلمي فَقَالَ لَهَا يسوع لَا تمسيني لم أصعد بعد إِلَى أبي اذهبي إِلَى إخوتي وَقَوْلِي لَهُم إِنِّي صاعد إِلَى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم قَالَت فَأَخْبَرتهمْ ثمَّ بَيْنَمَا التلاميذ مجتمعون أقبل يسوع ووقف فِي وَسطهمْ وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَعرض عَلَيْهِم يَدَيْهِ وجنبه ثمَّ ذكر أَن طوما أحد الاثْنَي عشر تلميذاً لم يكن حَاضرا فيهم فِي هَذَا الظُّهُور فَلَمَّا أَتَى وَأَخْبرُوهُ فَقَالَ لَئِن لم أبْصر فِي يَدَيْهِ الصاق المسامير وَلم أَدخل اصبعي فِي مَوضِع المسامير فِي جنبه لَا آمَنت فَلَمَّا كَانَ بعد ثَمَانِيَة أَيَّام اجْتَمعُوا كلهم والأبواب مغلقة فَأقبل يسوع ووقف وَسطهمْ وَقَالَ لطوما أَدخل اصبعك وَأبْصر كفي وهات يدك وأدخلها إِلَى جَنْبي وَلَا تكن كَافِرًا بل كن مُؤمنا فَقَالَ لَهُ طوما سَيِّدي وإلهي ثمَّ ترَاءى عِنْد بحيرة طبرية لشمعون باطرة وطوما ونثنائيل وَابْني سَيِّدي واثنين من التلاميذ سواهُم وهم يصيدون فِي مركب فِي الْبَحْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فاعجبوا لهَذِهِ الْقِصَّة وَمَا فِيهَا من الْكَذِب والشنع يَقُول مَتى إِن مَرْيَم وَمَرْيَم أتتا إِلَى الْقَبْر عشَاء لَيْلَة السبت الَّتِي تصبح فِي يَوْم الْأَحَد فوجدتاه قد قَامَ وَيَقُول مارقش إِن مَرْيَم وَمَرْيَم وَغَيرهمَا أتين إِلَى الْقَبْر بعد طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد فوجدنه قد قَامَ والظلمة لم تنْحَل بعد فَهَذِهِ كذبات مِنْهُم فِي وَقت بلوغهن إِلَى الْقَبْر وفيمن جَاءَ إِلَى الْقَبْر أمريم وَحدهَا أم مَرْيَم وَمَرْيَم أُخْرَى مَعهَا أم كلتاهما ومعهما نسْوَة أخر وَيَقُول مَتى إِن مَرْيَم وَمَرْيَم رأتا الْملك إِذْ نزل من السَّمَاء وَرفع الصَّخْرَة بحضرتهما بزلزلة عَظِيمَة وصعق الحرس وَقَالَ الْملك للمرأتين لَا تخافا إِنَّه قد قَامَ وَيَقُول مارقش إِن النسْوَة وجدن الصَّخْرَة قد قلعت بعد وَأَنه وقف إلَيْهِنَّ رجلَانِ مبيضان فاخبراهن بقيامه وَيَقُول يوحنا أَن مَرْيَم وَحدهَا أَتَت وَوجدت الصَّخْرَة قد قلعت وَلم تَرَ أحدا وَرجعت حائرة فَأخْبرت شَمْعُون ويوحنا حاكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الْقِصَّة فنهضا مَعًا إِلَى الْقَبْر فَلم يجدا فِيهِ أحدا وانصرفا فالتفتت هِيَ فَإِذا بالمسيح نَفسه وَاقِفًا وَسلم عَلَيْهَا وأخبرها بقيامه فَهَذَا كذب آخر فِي وَقت قلع الصَّخْرَة وَهل وجد عِنْد الْقَبْر ملك وَاحِد أَو ملكان اثْنَان أم لم يُوجد فِيهِ أحد أصلا وَيَقُول مَتى إِن الْمَرْأَتَيْنِ أتتاهم بوصيته فصدقوهما وَأَنَّهُمْ نهضوا كلهم إِلَى جلجال وهنالك اجْتَمعُوا مَعَه وَيَقُول مارقش أَنه ترَاءى لِمَرْيَم وَأَخْبَرتهمْ وَلم يصدقوها ثمَّ ترَاءى لاثْنَيْنِ فأخبراهم فَلم يصدقوهما ثمَّ نزل عَلَيْهِم كلهم وَيَقُول لوقا إِنَّهُم لم يصدقُوا النِّسَاء وَأَن باطرة نَهَضَ إِلَى الْقَبْر وَلم يجد شَيْئا وَلَا رأى أحدا وَأَنه نزل بَينهم بأورشليم فَرَأَوْا حينئذٍ وَأكل مَعَهم الْحُوت المشوي وَهَذِه صفة من لم يَقْصِدهُ إِلَيْهِم إِلَّا الْجُوع وَطلب الْأكل وَيَقُول يوحنا أَنه ترَاءى لعشرة مِنْهُم حاشى طوما ترَاءى لَهُم ولطوما قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمثل هَذَا الِاخْتِلَاف فِي قصَّة وَاحِدَة عَن مقَام وَاحِد كذب لَا شكّ فِيهِ لَا يُمكن أَن يَقع من معصومين فصح أَنهم كذابون لَا يتحرون الصدْق فِيمَا حدثوا بِهِ وَمَا كتبوه ثمَّ فِي هَذِه الْقِصَّة قَول مارقش عَن الْمَسِيح أَنه بعد مَوته قبح كفر تلاميذه وقسوة قُلُوبهم فَإِذا شهد الْمَسِيح على تلاميذه بعد رَفعه بالْكفْر وقسوة الْقُلُوب فَكيف يجوز أَخذ الدّين عَنْهُم أم كَيفَ يجوز أَن يُعْطي الْإِلَه مَفَاتِيح السَّمَوَات ويولي منزلَة التَّحْرِيم والتحليل كَافِرًا قاسي الْقلب فَكل هَذَا برهَان وَاضح على أَن أَنَاجِيلهمْ كتب مفتراة من عمل كَذَّابين كفار ثمَّ فِي الْقِصَّة أَن مَرْيَم والتلاميذ كلهم كَانُوا يلتزمون بعد الْمَسِيح صِيَانة السبت وتعظيمه وَترك الْعَمَل فِيهِ وَكَذَلِكَ آخر حمل الحنوط إِلَيْهِ حِين دخل يَوْم الْأَحَد فقد صَحَّ يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ المخاذيل لَيْسُوا على دين الْمَسِيح وَلَا على مَا مضى عَلَيْهِ تلاميذه بل على دين آخر فسحقاً لَهُم وبعداً وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا معشر الْإِسْلَام فصل وَفِي الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لتلاميذه أَن دُخُول الْجمل فِي سم الْخياط أيسر من دُخُول المثري فِي ملكوت الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا قطع من كَلَامه بِأَن كل غَنِي فَإِنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة أبدا وَفِي اتِّبَاعه أَغْنِيَاء كثير وَمَا رَأينَا قطّ أمة أحرص على جمع المَال من الدَّرَاهِم وَغير ذَلِك وادخاره وَمنعه دون أَن ينتفعوا مِنْهُ بِشَيْء وَلَا أَن يتصدقوا مِنْهُ بِشَيْء من الأصاقفة والقسيسين والرهبان فِي كل دير وكل كَنِيسَة فِي كل بلد وكل وَقت فعلى مُوجب كَلَام إلاههم أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط فَهَذَا وَالله حق وَأَنا على ذَلِك من الشَّاهِدين فصل وَفِي الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن باطرة قَالَ ليسوع الْمَسِيح هَا نَحن قد خلينا الْجَمِيع واتبعناك فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ أَمِين أَقُول لكم لَيْسَ من أحد ترك بَيْتا أَو إخْوَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وأخوات أووالدا ووالدة أَو امْرَأَة أَو أَوْلَاد أَو فدادين لأجلي أَو لَا يعْطى مائَة ضعف مثله الْآن فِي هَذَا الزَّمَان من الْبيُوت والأخوة وَالْأَخَوَات والأمهات وَالْأَوْلَاد والفدادين مَعَ التَّبعَات وَفِي الْعَالم الْآتِي الْحَيَاة الدائمة قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا موعد كَاذِب مَضْمُون لَا يُمكن الْوَفَاء بِهِ وهبك أَنهم يخرجُون هَذَا على أَنه يعوض هَذَا من أهل دينه أَوْلَادًا وإخوة وأخوات وَأُمَّهَات كَيفَ الْحِيلَة فِي وعده من آمن بِهِ وَترك مَاله أَن يعوض عَن الفدان الَّذِي يتْركهُ مائَة فدان وَعَن الْبَيْت مائَة بَيت الْآن عَاجلا فِي الدُّنْيَا سوى مَاله فِي الْآخِرَة وَهَذَا كَمَا ترى فصل وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن رجلا قَالَ للمسيح أَيهَا الْمعلم الصَّالح فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح لم تَقول لي صَالح الله هُوَ الصَّالح وَحده وَفِي التَّاسِع من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا الرَّاعِي الصَّالح فَمرَّة ينكران يكون صَالحا وَأَن لَا صَالحا إِلَّا الله وَمرَّة يَقُول أَنه صَالح وكل هَذَا كذب عَلَيْهِ من توليد هَؤُلَاءِ الأنذال فصل فِي آخر إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه اذْهَبُوا إِلَى جَمِيع الدُّنْيَا وبشروا جَمِيع الْخَلَائق بالإنجيل فَمن آمن وَاعْتمد يكون سالما وَمن لم يُؤمن يُعَاقب وَهَذِه الْآيَات تصْحَب الَّذين يُؤمنُونَ وَهِي سِيمَاهُمْ على أسمى ينفون الْجِنّ ويتكلمون باللغات الجديدة ويقلعون الثعابين وَإِن شربوا شربة قتالة لن تَضُرهُمْ ويضعون أَيْديهم على المرضى فينقهون قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل أعجوبتان من الْكَذِب إِحْدَاهمَا قَوْله بشروا بالإنجيل فَدلَّ هَذَا على إنجيل أَتَاهُم بِهِ الْمَسِيح وَلَيْسَ هُوَ عِنْدهم الْآن وَإِنَّمَا عِنْدهم أناجيل أَرْبَعَة مُتَغَايِرَة من تأليف أَرْبَعَة رجال معروفين لَيْسَ مِنْهَا إنجيل الا ألف بعد رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بأعوام كَثِيرَة ودهر طَوِيل فصح أَن ذَلِك الْإِنْجِيل الَّذِي أخبر الْمَسِيح بِأَنَّهُ أَتَاهُم بِهِ وَأمرهمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ قد ذهب عَنْهُم لأَنهم لَا يعرفونه أصلا هَذَا مَا لَا يُمكن سواهُ والفصل الثَّانِي قَوْلهم أَنه وعد كل من آمن بِدُعَاء التلاميذ فَإِنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ بلغات لم يعرفوها وَأَنَّهُمْ ينفون الْجِنّ عَن المجانين وَأَنَّهُمْ يضعون أَيْديهم على المرضى فينقهون وَأَنَّهُمْ يقلعون الثعابين وَإِن شربوا شربة قتالة لَا تَضُرهُمْ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا وعد ظَاهر الْكَذِب جهاراً مَا مِنْهُم أحد يتَكَلَّم بلغَة لم يعلمهَا وَلَا مِنْهُم أحد يَنْفِي جنياً وَلَا مِنْهُم أحد يضع يَده على مَرِيض فَيبرأ وَلَا مِنْهُم أحد يقْلع ثعباناً وَلَا مِنْهُم أحد يسْقِي السم فَلَا يُؤْذِيه وهم معترفون بِأَن يوحنا صَاحب الْإِنْجِيل قتل بالسم وحاشى لله أَن يَأْتِي نَبِي بمواعيد خاسئة كَاذِبَة فَكيف إِلَه فاعلموا أَن الأنذال الَّذين كتبُوا هَذِه الأناجيل كَانَ أسهل شَيْء عَلَيْهِم نِسْبَة الْكَذِب إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فصل وَبعد هَذَا الْفَصْل مُتَّصِلا بِهِ والرب لما أَن تكلم بِهَذَا قبض إِلَى السَّمَاء وَجلسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 عَن يَمِين الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا شرك أَحمَق رب يقبض أَن هَذَا الْعجب وَرب يجلس عَن يَمِين الله هَذَانِ ربان وإلهان الْوَاحِد أجل من الثَّانِي لِأَن المقعود عَن يَمِينه أَسْنَى مرتبَة من المقعد على الْيَمين بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَفِي أول إنجيل لوقا أَن نَفرا قبلنَا راموا وصف الْأَشْيَاء الَّتِي كملت فِينَا كَالَّذي دلنا عَلَيْهِ معشر الَّذين عاينوا الْأَمر وَكَانُوا حَملَة الحَدِيث فَرَأَيْت أَن أقفوا آثَارهم من أَوله على التجويد وأكتبه لَك أَيهَا الْكَرِيم لِأَن تفهم حق الْكَلَام الَّذِي عَلمته واطلعت عَلَيْهِ وَأَنت بِهِ ماهر هَذَا يبين أَن الأناجيل تواريخ مؤلفة كَمَا ترى بِنَصّ كَلَام لوقا فصل وَفِي أول إنجيل لوقا الَّذِي هُوَ تَارِيخه الْمُؤلف فِي أَخْبَار الْمَسِيح قَالَ لوقا كَانَ بعد هردوس وَالِي بلد يهود كوهن يَدعِي زَكَرِيَّا من دولة أبجا وَزَوجته من بَنَات هَارُون تسمى اليشبات ثمَّ ذكر كلا مَا فِيهِ مَجِيء جِبْرَائِيل الْملك عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام أم الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه قَالَ لَهَا فِي جملَة كَلَام كثير وَقد حبلت اليشبات قرينتك على تقدمها فِي السن وعقرها فَأخْبر أَن اليشبات هارونية وَأَنَّهَا قريبَة لِمَرْيَم فعلى هَذَا فمريم أَيْضا هارونية وَالنَّصَارَى كلهم متفقون على مَا فِي جَمِيع الأناجيل من إِن الْمَسِيح هُوَ ابْن دَاوُد من نسل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْهَا يورثه الله ملك أَبِيه دَاوُد وَأَن الْعمي والمباطين والمرضى والمجانين وَالْجِنّ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ يَا بن دَاوُد فَلَا يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم وَلَا يخْتَلف النَّصَارَى وَالْيَهُود فِي أَن الْمَسِيح المنتظر هُوَ من ولد دَاوُد والمسيح مَعَ هَذَا كُله قد أنكر فِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى كَمَا أوردنا قبل أَن يكون الْمَسِيح من ولد دَاوُد فَكيف هَذَا الِاخْتِلَاط والتلون وَمَعَ هَذَا كُله فَلَا نرى على مَا ذكرنَا أَن تنسبه النَّصَارَى إِلَّا إِلَى أَنه ولد يُوسُف النجار الداوودي الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه كَانَ زوج مَرْيَم وَهَذِه طامة وسوءة لَا يدارى لَهَا وَجه أَن ينسبوه إِلَى رجل لم يلده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وَأَقل مَا فِي هَذَا الْكَذِب الَّذِي هُوَ فِي الدُّنْيَا عَار وبرهان على الضلال وَفِي الْآخِرَة نَار ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَفِي الْبَاب الثَّانِي من إنجيل لوقا فَلَمَّا دخل أَبُو الْمَسِيح بِهِ الْبَيْت ليقربا عَنهُ مَا أمرا بِهِ أَخذه شَمْعُون فِي يَدَيْهِ وَبعد ذَلِك فِي الْبَاب الْمَذْكُور وَكَانَ أَبَوَاهُ مُخْتَلفين إِلَى أورشلام كل سنة أَيَّام الفصح فَلَمَّا بلغ ثِنْتَيْ عشرَة سنة وَصعد إِلَى أورشلام على حَال سنتهما فِي يَوْم الْعِيد وَهَبَطَ عِنْد انقراضه بَقِي يسوع فِي أورشلام وَجَهل ذَلِك أَبَوَاهُ وظناه فِي الطَّرِيق مُقبلا فسارا يومهم وهما يطلبانه عِنْد الْأَقَارِب والإخوان فَلَمَّا لم يجداه انصرفا إِلَى أورشلام طَالِبين لَهُ فوجداه فِي الثَّالِث قَاعِدا مَعَ الْعلمَاء فِي الْبَيْت وَهُوَ يسمع مِنْهُم ويكاشفهم فَكَانَ يعجب مِنْهُ كل من سَمعه وَمن يرَاهُ من حسن حَدِيثه وَحسن مُرَاجعَته فَقَالَت لَهُ أمه لم أشخصتنا يَا بني وَقد طَلَبك أَبوك وَأَنا مَعَه محزونين فَقَالَ لَهما لم طلبتماني أتجهلان أَنه يجب عَليّ مُلَازمَة أَمر أبي فَلم يفهما عَنهُ جَوَابه فَانْطَلق مَعَهُمَا إِلَى ناصرة وَكَانَ يطوع لَهما قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَيفَ يُطلق لوقا وَهُوَ عِنْدهم أجل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُوسُف النجار وَالِد الْمَسِيح فِي غير مَوضِع ويكرر ذَلِك كَأَنَّهُ يحدث بِحَدِيث مَعْهُود أم كَيفَ تَقول مَرْيَم لابنها طَلَبك أَبوك تَعْنِي زَوجهَا بزعمكم وَكَيف يكون أَبَاهُ وَلَا أَب لَهُ وَإِنَّمَا يُطلق هَذَا الْإِطْلَاق مني الربيب فِيمَن يعرف أَبوهُ فَيُقَال لَهُ أَبوك عَن ربيبه بِمَعْنى كافله لِأَنَّهُ لَا إِشْكَال فِيهِ وَأما من لَا أَب لَهُ من بني آدم فإطلاق الْأُبُوَّة فِيهِ على زوج أمه إِشْكَال وتلبيس وتطريق إِلَى الْبلَاء أم كَيفَ تبقى مَرْيَم الْعَذْرَاء مَعَ زَوجهَا بزعمهم فض الله أَفْوَاههم أَزِيد من ثَلَاث عشرَة سنة كَمَا يبقي الرجل مَعَ امْرَأَته يغلقان عَلَيْهِمَا بَابا وَاحِدًا أم كَيفَ يَصح مَعَ هَذَا عِنْد هَؤُلَاءِ أَنه مَوْلُود من غير ذكر أَيْن هَذَا الزُّور المفتري من النُّور المقتفي قَول الله حَقًا فِي وحيه النَّاطِق إِلَى رَسُوله الصَّادِق الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه حَيْثُ قَالَ {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سوياً قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغياً قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين ولنجعله آيَة للنَّاس وَرَحْمَة منا وَكَانَ أمرا مقضياً فَحَملته فانتبذت بِهِ مَكَانا قصياً فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسياً منسياً} إِلَى قَوْله {قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوءٍ وَمَا كَانَت أمك بغياً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْحق الْوَاضِح الَّذِي يصدق بعضه بَعْضًا لَا الْكَذِب المتناقض وَهَذَا الَّذِي لَا يُمكن سواهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَهَا زوج لم يُنكر أحد وِلَادَتهَا وَلَو لم يقم برهَان بِكَلَامِهِ فِي المهد لما جَازَ عندنَا وَلَا عِنْد أحد من النَّاس أَنَّهَا حملت بِهِ من غير ذَلِك ولكان ذَلِك دَعْوَى كَاذِبَة لَا يجوز أَن يصدقها أحد لَا سِيمَا مَعَ زعمهم أَنَّهَا سكنت مَعَ زَوجهَا أَزِيد من ثَلَاثَة عشر عَاما فِي بَيت وَاحِد يهديان عِنْد وِلَادَته مَا يهدي الأبوان من الْيَهُود بِحكم التَّوْرَاة عَن ابنيهما وَتقول لَهُ أمه هَذَا أَبوك وَفعل أَبوك ثمَّ أَطَم من هَذَا إقرارهم بِأَن لَهُ أَرْبَعَة إخْوَة ذُكُور شَمْعُون ويهوذا وَيَعْقُوب ويوسف وأخوات ثمَّ لَا يذكرُونَ للنجار امْرَأَة غير مَرْيَم تكون هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد للنجار من تِلْكَ الْمَرْأَة وَهَذِه فضيحة الدَّهْر وقاصمة الظّهْر وَمُطلق السّنة الْقَائِلين أَنَّهَا أَتَت بِهِ من زوج أَو من عهر وحاشا لله من ذَلِك يصحح هَذَا كُله أَنهم مدسوسون من عِنْد الْيَهُود لإفساد مذاهبهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فصل وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا وَكَانَت الْعَامَّة تشهد لَهُ وتعجب لقَوْله وَمَا كَانَ يوصيهم بِهِ وَكَانَت تَقول أما هَذَا ابْن يُوسُف النجار فَقَالَ لَهُم نعم قد علمت أَنكُمْ ستقولون لي يَا طَبِيب داو نَفسك وَافْعل فِي موضعك كَمَا بلغنَا أَنَّك فعلته بِكفْر ناحوم أَمِين أَقُول لكم أَنه لَا يقبل أحد من الْأَنْبِيَاء فِي مَوْضِعه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل ثَلَاث عظائم أَحدهَا قَوْلهم لَهُ أما هَذَا ابْن يُوسُف فَقَالَ نعم فَهَذَا تَحْقِيق أَنه ولد النجار وحاشى لله من ذَلِك وَالثَّانيَِة اعترافه واتفاقهم على أَنه لم يَأْتِ بِآيَة بِحَضْرَة الْجَمَاعَة وَإِنَّمَا ذكر أَنه أَتَى بِالْآيَاتِ فِي القفار وَالثَّالِثَة وَهِي الْحق قَوْله لَهُم أَنه نَبِي وَهَذَا الَّذِي أفلت من تبديلهم وأبقاه الله عز وَجل حجَّة عَلَيْهِم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فصل وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ من قَالَ شَيْئا فِي ابْن الْإِنْسَان يغْفر لَهُ وَمن سبّ روح الْقُدس لَا يغْفر لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا إبِْطَال لقَولهم كَاف لِأَن ابْن الْإِنْسَان عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ روح الْقُدس نَفسه وَنَصّ كَلَام الْمَسِيح هَاهُنَا يبين أَنَّهُمَا شيئآن متغايران أَحدهمَا يغْفر لمن سبه وَالْآخر لَا يغْفر لمن سبه وَهَذَا بَيَان رَافع للإشكال جملَة فَإِن كَانَ الْمَسِيح هُوَ ابْن الْإِنْسَان فَلَيْسَ هُوَ روح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الْقُدس أصلا بِنَصّ كَلَامه وَإِن كَانَ هُوَ روح الْقُدس فَلَيْسَ هُوَ ابْن الْإِنْسَان كَذَلِك أَيْضا وَلَئِن كَانَ ابْن الْإِنْسَان هُوَ روح الْقُدس فقد كذب الْمَسِيح إِذْ فرق بَينهمَا فَجعل أَحدهمَا يغْفر لمن سبه وَالْآخر لَا يغْفر لمن سبه وَفِي هَذَا كِفَايَة فصل وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا فَلَمَّا بلغُوا إِلَى الْموضع الَّذِي يَدعِي الأجرد صلبوه فِيهِ وصلبوا مَعَه السارقين العائثين عَن يَمِينه وشماله فَقَالَ يسوع يَا أبتاه اغْفِر لَهُم لأَنهم يجهلون مَا يصنعون وَلَا يَدْرُونَ فعلهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل شنعتان عظيمتان على النَّصَارَى كافيتان فِي وساخة دينهم وَبَيَان فَسَاد كل مَا هم عَلَيْهِ جهاراً أَولهَا أَن نسألهم فَنَقُول لَهُم الْمَسِيح إِلَه عنْدكُمْ أم لَا فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَإلَى من دَعَا وَرفع طلبته فَإِن كَانَ دَعَا غَيره فَهُوَ إِلَه يَدْعُو إِلَهًا آخر وَهَذَا شرك وتغاير بَين الْآلهَة وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَإِن كَانَ دَعَا نَفسه فَهَذَا هوس إِنَّمَا حكمه أَن يَقُول قد غفرت لكم وَهُوَ يصرحون فِي الأناجيل بِأَنَّهُ يغْفر ذنُوب من شَاءَ فَأَيْنَ كَانَ عَن هَذِه الصّفة إِذْ دَعَا إِلَهًا غَيره وَالثَّانيَِة أَن يُقَال لَهُم هَل أجيبت دَعوته هَذِه أم لَا فَإِن قَالُوا لم تجب دَعوته قُلْنَا فَلَيْسَ فِي الخزي أَكثر من إِلَه يَدْعُو فَلَا يُسْتَجَاب لَهُ وَلَا فِي النحس فَوق هَذَا وعَلى هَذَا فَمَا بِيَدِهِ من الربوبية إِلَّا كذنب ثَوْر شارد فِي جدور كَمَا بيد سَائِر المخلوقين يَدْعُو فيجاب مرّة وَلَا يُجَاب مرّة وَإِن قَالُوا بل أجيبت دَعوته قُلْنَا لَهُم فاعلموا أَنكُمْ وأسلافكم كلكُمْ فِي سبكم الْيَهُود الَّذين صلبوه ظَالِمُونَ لَهُم وَكَيف يسْتَحلُّونَ سبّ قوم قد غفر لَهُم إلههم وَأسْقط عَنْهُم الْمَلَامَة فِي صلبهم لَهُ أما لكم عقول تعرفُون بهَا مِقْدَار مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الضلال الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالم أحد على مثله بل كل ضَلَالَة فَهِيَ دونه فَإِن قيل وَمَا أنكرتم من هَذَا وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى دَعَا الْكفَّار إِلَى الْإِيمَان فَلم يُجِيبُوهُ قُلْنَا نعم فَكَانُوا عصاة وَالله تَعَالَى لم يرد كَون الْإِيمَان مِنْهُم إِنَّمَا أَمرهم أَمر تعجيز فأخبرونا أَنْتُم من هُوَ الْمَدْعُو لَهُم ليغفر لَهُم فنجيبه أَو نعصيه وَلَا مخلص من هَذَا فصل وَفِي آخر إنجيل لوقا أَنه بعد صلبه ترَاءى لِرجلَيْنِ من تلاميذه وهما لَا يعرفانه فَقَالَ لَهما مَا هَذَا الَّذِي تخوضان فِيهِ وتحزنان لَهُ فَقَالَ أَحدهمَا وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّي كلوباش أَنْت وَحدك غَرِيب بيرشلام إِذْ تجْهَل مَا كَانَ بهَا هَذِه الْأَيَّام فَقَالَ لَهما وَمَا ذَلِك فَقَالَا لَهُ من خبر يسوع الناصري الَّذِي كَانَ نَبيا مقتدراً فِي أَفعاله وَكَلَامه عِنْد الله وَعند النَّاس وَكَيف اجْتمع قواد القسيسين على قَتله وصلبه إِلَى آخر كَلَامهمَا وَأَنه قَالَ لَهما يَا جهال وَيَا من عجزت عَن فهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 مقَالَة الْأَنْبِيَاء قُلُوبهم أما كَانَ هَذَا وَاجِبا أَن يلقاه الْمَسِيح وَبعد ذَلِك يبلغ إِلَى عَظمته قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابه يَقُولُونَ أَنه كَانَ نَبيا عِنْد الله وَعند النَّاس وَهُوَ يسمع بزعمهم وَلَا يُنكر ذَلِك فَهَلا قَالُوا فِيهِ هَكَذَا لقد طمس الشَّيْطَان أبصار قُلُوبهم ولوي ألسنتهم عَن أَن يَقُولُوا ذَلِك وَلَا مرّة فِي الدَّهْر بل يكذبونه أَشد التَّكْذِيب وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فصل وَفِي إنجيل مَتى ومارقش ولوقا أَنه قبل أَخذه سجد ودعا وَقَالَ يَا أبي كل شَيْء عنْدك مُمكن فاعفني من هَذِه الكأس لَكِن لَا أسأَل إرادتي لَكِن إرادتك زَاد لوقا فِي إنجيله قَالَ فتراءى لَهُ ملك السَّيِّد معزيا لَهُ فَأطَال صلَاته حَتَّى سَالَ الْعرق مِنْهُ وتساقطت نقطه كتساقط نقط الدَّم إِذا انسكب فِي الأَرْض وَفِي إنجيل مَتى ومارقش أَنه صَاح بِأَعْلَى صَوته وَهُوَ مصلوب إلهي إلهي لم اسلمتني ثمَّ فاضت نَفسه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فيا للنَّاس أهذه صفة إِلَه وَهل يحْتَاج الْإِلَه إِلَى ملك يعزيه وَهل يَدْعُو الْإِلَه فِي أَن يصرف عَنهُ كأس الْمنية وإله يعرق من صعوبة الْحَال إِذا أَيقَن بِالْمَوْتِ وإله يُسلمهُ إِلَه أَفِي الْحمق شَيْء يفوق هَذَا فَإِن قَالُوا لنا إِنَّمَا هَذَا كُله خبر عَن الطبيعة الناسوتية قُلْنَا لَهُم أَنْتُم تَقولُونَ فِي كل هَذَا فعل الْمَسِيح وَقَالَ الْمَسِيح والمسيح عنْدكُمْ طبيعتان ناسوتية ولاهوتية وَعند اليعقوبية مِنْكُم طبيعة وَاحِدَة وكلكم تَقولُونَ أَن اللاهوت اتَّحد بالناسوت فَأنْتم كَذبْتُمْ وَأَنْتُم طرقتم إِلَى هَذَا وَأَنْتُم أضفتم كل هَذَا إِلَى اللاهوت وَإِنَّمَا كَانَ الْحق على أصلكم هَذَا الملعون أَن تَقولُوا فعل نصف الْمَسِيح وَقَالَ نصف الْمَسِيح فعلى كل حَال فعلى كل حَال قد كَذبْتُمْ وسخفتم فِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل فصل وَفِي أول إنجيل يوحنا وَهُوَ أعظم الأناجيل كفرا وأشدها تناقضاً وأتمها رعونة فَأول كلمة فِيهِ فِي البدء كَانَت الْكَلِمَة والكلمة كَانَت عِنْد الله وَالله كَانَ الْكَلِمَة بهَا خلقت الْأَشْيَاء وَمن دونهَا لم يخلق شَيْء فَالَّذِي خلق فَهُوَ حَيَاة فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع بأعظم سخفاً وَأتم تناقضاً من هَذَا الْكَلَام كَيفَ تكون الْكَلِمَة هِيَ الله وَتَكون عِنْد الله فَالله إِذا كَانَ عِنْد نَفسه ثمَّ قَوْله أَن الَّذِي خلق بِالْكَلِمَةِ هُوَ حَيَاة فِيهَا فعلى هَذَا حَيَاة الله مخلوقة فَروح الْقُدس على نَص كَلَام هَذَا الرجل مَخْلُوق لِأَن روح الْقُدس عِنْد جَمِيعهم هُوَ حَيَاة الله وَهَذَا خلاف قَول جَمِيع النَّصَارَى لِأَن الْحَيَاة الَّتِي فِي الْكَلِمَة مخلوقة بِنَصّ كَلَام يوحنا وَالله بِنَصّ كَلَام يوحنا هُوَ الْكَلِمَة وَهَذَا هدم لملة النَّصَارَى من قرب أَطَم من هَذَا كُله إِذْ كَانَت حَيَاة الْكَلِمَة مخلوقة والكلمة هِيَ الله فَالله حَامِل لأعراض مخلوقة فِيهِ فاعجبوا ثمَّ اعجبوا وَبعد هَذَا الْفَصْل على مَا نورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى والكلمة كَانَت بشرا مَعَ قَوْله الْكَلِمَة هِيَ الله فَالله بشر على نَص كَلَام هَذَا النذل يوحنا عَلَيْهِ من الله اللعائن المتواترة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 فصل وَبعد ذَلِك ذكر الْمَسِيح فَقَالَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَبِه خلقت الدُّنْيَا وَلم يعرفهُ أهل الدُّنْيَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا من الْحمق المزور كَيفَ يكون فِي الدُّنْيَا وَبِه خلقت الدُّنْيَا لَئِن كَانَ إِلَهًا كَمَا يَقُولُونَ فَهُوَ خلق الدُّنْيَا وَلَا يجوز أَن تخلق بِهِ وَإِن كَانَ إِنَّمَا بِهِ خلقت الدُّنْيَا وَلم يخلقها هُوَ فَلَيْسَ هُوَ إلاهاً وَلَا خَالِقهَا وَإِنَّمَا هُوَ آلَة من الْآلَات خلقت الدُّنْيَا بِهِ وحاشى لله أَن يخلق بِآلَة لَكِن كَمَا قَالَ فِي وحيه النَّاطِق إِلَى رَسُوله الصَّادِق الَّذِي لَا يتناقض كَلَامه وَلَا يتعارض اخباره {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَأَيْنَ يجْتَمع قَوْله هَاهُنَا إِن بِهِ خلقت الدُّنْيَا مَعَ الْكَذِب الَّذِي يضيفونه إِلَى الْمَسِيح من أَنه قَالَ بزعمهم أَنا أخلق وَأبي يخلق وَإِن لم أعمل كَمَا يعْمل أبي فَلَا تصدقوني حاشى لله من أَن يَقُول نَبِي هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الْحمق إِذا كَانَ يكونَانِ إِلَهَيْنِ متغايرين اثْنَيْنِ كل وَاحِد مِنْهُمَا غير الآخر وكل وَاحِد مِنْهُمَا يخلق كَمَا يخلق الْأُخْرَى ثمَّ مرّة هُوَ إِلَه يخلق وَمرَّة آلَة يخلق بِهِ أَلا هَذَا هُوَ الضلال الْمُبين والخبال المتين فصل وَبعد ذَلِك قَالَ فَمن يقلهُ مِنْهُم وآمن باسمه أَعْطَاهُم سُلْطَانا أَن يَكُونُوا أَوْلَاد الله أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الَّذين لم يتوالدوا من دم وَلَا من شَهْوَة اللَّحْم وَلَا باءة رجل لَكِن تَوَالَدُوا من الله فالتحمت الْكَلِمَة والكلمة كَانَت بشرا وسكنت فِينَا ورأينا عظمتها كعظمة ولد الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْفَصْل من الْكفْر مَا لَو انْهَدَمت الْجبَال مِنْهُ لَكَانَ غير نَكِير نسْأَل الله الْعَافِيَة أَيهَا النَّاس فتأملوا قَول هَذَا النذل أَن الْمُؤمنِينَ بالمسيح هم أَوْلَاد الله فالنصارى إِذا كلهم أَوْلَاد الله فَأَي منزلَة للمسيح عَلَيْهِم إِذْ هُوَ ولد الله وهم أَوْلَاد الله ثمَّ اعجبوا لقَوْل هَذَا المستخف المستهزئ بالسفلة الَّذين قلدوا دينهم مثله إِن الْمُؤمنِينَ بالمسيح لم يتوالدوا من دم وَلَا من شَهْوَة لحم وَلَا باءة الرجل لَكِن تَوَالَدُوا من الله هَكَذَا هم هَكَذَا فَكيف تولد يوحنا من سيذاي وَامْرَأَته الْأَحْيَاء مَا هَذَا إِلَّا من عَظِيم المجاهرة بِالْبَاطِلِ وَالْكذب فَإِن قَالُوا هَذَا مجَاز قُلْنَا مجَاز فِي مَاذَا بل هُوَ الْكَذِب البحت الْبَارِد والحمق وَهَذَا نَفسه قُلْتُمْ عَن الْمَسِيح فَمَا الْفرق بَين الْقَوْلَيْنِ وَلَعَلَّ ذَلِك أَيْضا مجَازًا كَمَا هُوَ مجَاز مَا رَأينَا قطّ أَحمَق من هَؤُلَاءِ وَلَا أوقح من خدودهم ثمَّ اعجبوا لقَوْله فالتحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فَكيف تصير الْكَلِمَة لَحْمًا وَقد قَالَ إِنَّهَا هِيَ الله فَالله إِذا صَار لَحْمًا ودماً وَسكن فِي أُولَئِكَ الأقذار وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فصل ثمَّ قَالَ إِثْر هَذَا إِن الله لم يره أحد قطّ مَا عدا مَا وصف عَنهُ الْوَلَد الَّذِي هُوَ فِي حجر أَبِيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا عجب آخر قد قَالَ آنِفا إِن الْكَلِمَة هِيَ لله وَأَنَّهَا التحمت وَصَارَت لَحْمًا ودما وسكنت فيهم فَالله عز وَجل على قَوْلهم صَار لَحْمًا وَسكن فيهم فَكيف لم يره أحد ثمَّ قَوْله إِلَّا مَا وصف عَنهُ الْوَلَد الْفَرد الَّذِي هُوَ فِي حجر أَبِيه فَوَجَبَ من هَذَا أَن الْوَلَد هُوَ غير الْأَب لِأَن من الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الله فِي حجر نَفسه فصح ضَرُورَة أَن الابْن عِنْدهم على نُصُوص الأناجيل هُوَ غير الْأَب وهم لَا يثبتون على هَذَا بل مرّة هُوَ وَالْأَب عِنْدهم شَيْء وَاحِد وكل هَذَا مَنْصُوص فِي أَنَاجِيلهمْ وكل قَضِيَّة مِنْهَا تكذب الْأُخْرَى فَكلهَا كذب بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَفِي الْبَاب الأول من إنجيل يوحنا إِذْ ذكر شهاه يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ بعث إِلَيْهِ الْيَهُود من برشلام الكهنة واللاوانيين وكاشفوه عَن نَفسه فَأقر وَلم يجْحَد وَقَالَ لَهُم لست أَنا الْمَسِيح قَالُوا أيراك الياس قَالَ لَا قَالُوا فَأَنت نَبِي قَالَ لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَيفَ يكون هَذَا مَعَ قَول الْمَسِيح فِي إنجيل مَتى ومارقش كَمَا أوردنا قبل أَن كل نبوة وكل كتاب فمنتهاها إِلَى يحيى وَقَوله فِيهِ أَنه أَكثر من نَبِي فَمرَّة هُوَ نَبِي وانتهت إِلَيْهِ كل نبوة وَمرَّة هُوَ أَكثر من نَبِي وَمرَّة يَقُول هُوَ عَن نَفسه أَنه لَيْسَ نَبيا فَلَا بُد ضَرُورَة من الْكَذِب فِي إِحْدَى هَذِه الْأَقْوَال وحاشى لله أَن يكذب الْمَسِيح وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام لَكِن كذب وَالله النذلان مَتى الشرطي ويوحنا الْعيار فصل وَبعده فِي الْبَاب نَفسه قَالَ وَيَوْما آخر رأى يحيى الْمَسِيح مُقبلا إِلَيْهِ فَقَالَ هَذَا صَار خروف الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه طامة أُخْرَى بَيْنَمَا كَانَ كلمة الله وَابْن الله وإلهاً يخلق صَار خروف الله وحاشى لله أَن يُضَاف إِلَيْهِ خروف إِلَّا على سَبِيل الْخلق وَالْملك إِنَّمَا يُضَاف الخروف إِلَى من يَتَّخِذهُ للْأَكْل أَو الذّبْح أَو لمن يربيه للعجلة أَو لصبي يلْعَب بِهِ ويصبغه بالحنا وَتَعَالَى الله عز وَجل عَن كل هَذَا فصح أَنَّهَا من عمل عيار مستخف ونعوذ بِاللَّه من الضلال فصل وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب نَفسه أَن يحيى بن زَكَرِيَّا قَالَ عَن عِيسَى شهِدت بِأَن هَذَا سليل الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد شهِدت أَنا بنفسي وعقلي وجسدي بِشَهَادَة الله التَّامَّة أَن هَذِه كذبة كذبهَا اللعين يوحنا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَابْن رَسُوله يحيى بن زَكَرِيَّا وَأَن الله تَعَالَى وَجل عَن أَن يكون لَهُ سليل وأعجب شَيْء نسبتهم إِلَى يحيى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي الْمَسِيح هَذَا خروف الله هَذَا سليل الله وَإِنَّمَا الخروف سليل النعجة والكبش اللَّهُمَّ الْعَن هَؤُلَاءِ الأنتان فَمَا سمعنَا بأعظم اسْتِخْفَافًا بِاللَّه تَعَالَى وبرسله عَلَيْهِم السَّلَام مِنْهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل يوحنا أَن يحيى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ عَن الْمَسِيح قد رَضِي الْأَب عَن الْوَلَد وبرىء إِلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل يوحنا أَيْضا وَلِهَذَا كَانَت الْيَهُود تُرِيدُ قَتله لِأَنَّهُ لَيْسَ كَانَ يفْسخ عَلَيْهِم سنة السبت فَقَط لكنه كَانَ يَدعِي الله أَبَا وَيُسَوِّي نَفسه بِهِ وَبعده بِيَسِير أَن الْمَسِيح قَالَ كَمَا يحيي الْأَب الْمَوْتَى ويقيمهم كَذَلِك يحيي الابْن من وَافقه وَمَا يحكم الْأَب على أحد لِأَنَّهُ يرد الحكم إِلَى سليله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه الطامة أنست كل طامة سلفت وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه كَيفَ ينْطَلق لِسَان أحد بِهَذَا الْكفْر الْفَاحِش الفظيع من أَن الله تَعَالَى قد اعتزل الحكم فَلَا يحكم على أحد لِأَنَّهُ برىء بالحكم وبجميع الْأَشْيَاء إِلَى وَلَده حاش لله من هَذَا إِنَّمَا عهدنا هَذَا من فعل الْمُلُوك إِذا شاخوا وضعفوا وَأَرَادُوا الِانْفِرَاد لراحاتهم ولذاتهم وترتيب الْأَمر لأولادهم لِئَلَّا ينازعهم الْأَمر بعدهمْ غَيرهم فَحِينَئِذٍ يسلمُونَ الْأَمر إِلَيْهِم فِي الظَّاهِر وَأما فِي الْبَاطِن فَلَا هَذَا كفر مَا قَدرنَا أحد أَن ينْطَلق بِهِ لِسَانه حَتَّى سمعناه من قبل هَذَا الْكَافِر يوحنا لَعنه الله وَالْحَمْد لله على عَظِيم نعْمَته علينا كثيرا فصل وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ فَكَمَا احتوى الْأَب الْحَيَاة فِي ذَاته كَذَلِك ملك وَلَده الاحتواء على الْحَيَاة فِي ذَاته وَأَعْطَاهُ سُلْطَانا وَملكه الْحُكُومَة وَالسُّلْطَان والحياة كَمَا هِيَ للْأَب لِأَنَّهُ ابْن الْإِنْسَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع قطّ بأسخف من هَذِه الْمقَالة إِذْ أخبر أَن من أجل إِن الْمَسِيح هُوَ ابْن الْإِنْسَان ساواه الله بِنَفسِهِ وَهَذَا كُله يُوجب أَنه غير الله وَلَا بُد لِأَن الْمُعْطِي المملك هُوَ غير الْمُعْطِي المملك بِلَا شكّ فصل وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ وَلَا أقوى أَن أفعل من ذاتي شَيْئا لَكِن أحكم بِمَا اسْمَع وحكمي عدل لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي إِلَّا إِرَادَة أبي الَّذِي بَعَثَنِي فَإِن كنت أشهد لنَفْسي فَإِن شهادتي غير مَقْبُولَة وَلَكِن غَيْرِي يشْهد لي وَفِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ إِنَّمَا نزلت من السَّمَاء لأتم إِرَادَة أبي الَّذِي بَعَثَنِي لَا إرادتي وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَنه قَالَ الْمَسِيح لَيْسَ علمي لي لَكِن للَّذي بَعَثَنِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لَو أجبتموني لعرجتم بمسيري إِلَى الْأَب لِأَن الْأَب أكبر مني قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل فِي الْعُبُودِيَّة والتذلل بِالْحَقِّ لله تَعَالَى أَكثر من هَذَا وَكَيف يجْتَمع هَذ الْكَلَام مَعَ الَّذِي قبله بأسطار من من أَنه مسَاوٍ لله وَأَن الله لَا يحكم بعد على أحد لَكِن يبرأ بالحكم كُله إِلَى وَلَده أما فِي هَذِه المناقضات السخيفة عِبْرَة لمن اعْتبر ثمَّ عجب آخر قَوْله هَاهُنَا إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي غير مَقْبُولَة ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب السَّابِع من إنجيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 يوحنا إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي حق فاعجبوا لهَذَا الِاخْتِلَاط وَهَكَذَا ذكر فِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَن جمَاعَة من تلاميذه لما سمعُوا هَذِه الْأَقْوَال المختلطة ارْتَدُّوا وفارقوه كَمَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل وَفِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَنه لما أطْعم الْخَمْسَة آلَاف إِنْسَان من خمس خبز وحوتين وَفضل من شبعهم اثْنَتَا عشرَة سلة من خبز قَالَ الْجَمَاعَة هَذَا النَّبِي حَقًا فيا للعجب هلا قَالُوا فِيهِ مثل هَذَا القَوْل وَلَو مرّة وَاحِدَة فصل ثمَّ ذكر فِي السَّادِس الْمَذْكُور أَنه أَتَى بِكَلَام كثير لَا يعقل من جملَته أَنه قَالَ لَهُم أَمِين أَقُول لكم لَئِن لم تَأْكُلُوا لحم ابْن الْإِنْسَان وتشربوا دَمه لن تنالوا الْحَيَاة الدائمة فِيكُم فَمن أكل لحمي وَشرب دمي ينَال الْحَيَاة الدائمة وَأَنا أقيمه يَوْم الْقِيَامَة فلحمي هُوَ طَعَام صَادِق وَدمِي شراب صَادِق فَمن أكل لحمي وَشرب دمي كَانَ فِي وَكنت فِيهِ ثمَّ ذكر يوحنا أَنه قَالَ جمَاعَة من التلاميذ هَذَا كَلَام شاق وَمن أجل ذَلِك ارْتَدَّ جمَاعَة من التلاميذ وذهبوا عَنهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الْكَلَام وسواس صَحِيح لَا يَقُوله إِلَّا مختلط وَقد أعاذ الله نبيه مِنْهُ فصل وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَن إخْوَة يسوع قَالُوا اذْهَبْ إِلَى بلد يهوذا وَأخرج من هَاهُنَا تلاميذك عجايبك الَّتِي تطلع فَلَيْسَ يختفي أحد بِفعل يُرِيد أَن يطلع عَلَيْهِ فَإِذا كنت تُرِيدُ لتعاين هَذَا فَاطلع عَليّ نَفسك أهل الدُّنْيَا وَكَانُوا إخْوَته لَا يُؤمنُونَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي هَذَا أَنه كَانَ يختفي بمعجزاته كَمَا نرى فصل وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَنه أَتَى إِلَى الْمَسِيح بِامْرَأَة قد زنت فَلم يُوجب عَلَيْهَا شَيْئا وأطلقها قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم على خلاف هَذَا فقد زوروا الْمَسِيح وجوروه أَو فليشهدوا على أنفسهم بالجور وَالظُّلم فصل وَفِي آخر الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا لَا أحكم على أحد وَإِن حكمت فحكمي عدل لِأَنِّي لست وحيداً وَلَكِنِّي أَنا وَأبي الَّذِي بَعَثَنِي وَقيل فِي توراتكم أَن شَهَادَة رجلَيْنِ مَقْبُولَة فَإِنِّي أؤدي الشَّهَادَة عَن نَفسِي وَيشْهد لي الَّذِي بَعَثَنِي قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَيْت شعري كَيفَ يجْتَمع هَذَا الْفَصْل مَعَ الَّذِي أوردنا فِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل يوحنا أَيْضا من أَن الله تَعَالَى لَا يحكم بعد على أحد لِأَنَّهُ قد برأَ بالحكم كُله إِلَى وَلَده الْمَسِيح فصل وَفِي الْبَاب الثَّامِن من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَنا رجل أتيت إِلَيْكُم الْحق الَّذِي سمعته عَن الله فَهَذَا إِقْرَاره بِأَنَّهُ رجل يُؤَدِّي مَا سمع فَقَط مَعَ استشهادهم فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى بقول شعيا النَّبِي فِي الْمَسِيح من أَن الله تَعَالَى قَالَ فِيهِ هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي تخيرته فصح أَنه نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَعبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فصل وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل يوحنا أَن الْيَهُود قَالُوا الْمَسِيح لسنا نرجمك لعمل صَالح إِلَّا للشتيمة ولادعائك الربوبية وَأَنت إِنْسَان فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح أما قد كتب فِي كتابكُمْ الزبُور حَيْثُ يَقُول أما قُلْتُمْ آلِهَة وَبَنُو الْعلي كلكُمْ فَإِن كَانَ سمى الله الَّذِي كَلمهمْ آلِهَة وَلَا سَبِيل إِلَى تَحْرِيف الْكتاب وتبديله فَلم تَقولُونَ فِيمَن بَارك الله عَلَيْهِ وَبَعثه إِلَى الدُّنْيَا أَنه شتم إِذا قلت أَنِّي ابْن الله إِن كنت لَا أفعل أَفعَال أبي فَلَا تصدقوني إِلَى قَوْله لِتَعْلَمُوا أَنِّي فِي الْأَب وَالْأَب فِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَن بلش الْحوَاري قَالَ للمسيح يَا سيدنَا أرنا الْأَب وَيَكْفِينَا فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح طول هَذَا الزَّمَان كنت مَعكُمْ وَلم تعرفوني يَا بلش من رَآنِي فقد رأى الْأَب فَكيف تَقول أَنْت أرنا الْأَب أَلَيْسَ تؤمن أَنِّي أَنا فِي الْأَب وَأَن الْأَب هُوَ فِي فَكيف هَذَا مَعَ قَول يوحنا الَّذِي ذكرنَا فِي أول إنجيله أَن الْأَب لم يره أحد قطّ فصل وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه أَنا فِي أبي وَأَنْتُم فِي وَأَنا فِيكُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِذا كَانَ هُوَ فِي الْأَب وَالْأَب فِيهِ وَهُوَ فِي التلاميذ والتلاميذ فِيهِ فالأب فِي التلاميذ والتلاميذ فِي الْأَب ضَرُورَة فَأَي مزية لَهُ عَلَيْهِم وَهل هُوَ وهم إِلَّا سَوَاء فِي كَونه وكونهم فِي الله وَكَون الله فيهم وَفِيه ثمَّ هَذَا الْكَلَام لَا يعقل وَلَا يفهم مِنْهُ إِلَّا الاستخفاف وَالْكفْر فَقَط لِأَنَّهُ إِن كَانَ فيهم بِذَاتِهِ فقد صَارُوا لَهُ مَكَانا وَصَارَ تَعَالَى محدوداً وَهَذِه صفة الْمُحدث وَإِن كَانَ فيهم بتدبيره فَهَكَذَا يدبر فِي كل حَيّ وميت وكل جماد وكل عرض وَلَا فرق وَلَا فَضِيلَة فِي هَذَا أصلا فصل وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لست أسميكم بعد عبيد الْآن العَبْد لَا يدْرِي مَا يصنع سَيّده قد سميتكم إخْوَانًا وَفِي آخر الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا من الله خرجت وَمن الْأَب انبثقت فَفِي أحد هذَيْن الْفَصْلَيْنِ أَن التلاميذ قد أعتقوا من عبودية الْبَارِي وَأَنَّهُمْ إخوانه وَهُوَ خرج من الله وَمِنْه انبثق فهم كَذَلِك أَيْضا فَأَي مزية لَهُ عَلَيْهِم مَعَ سخف هَذَا الْكَلَام وَأَنه لَا يدْرِي هَذَا الانبثاق معنى أصلا والانبثاق لَا يكون إِلَّا من الْأَجْسَام ضَرُورَة فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل يوحنا فِي أَوله أَن الْمَسِيح قَالَ رَافعا عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا أبتاه قد آن الْوَقْت فشرف ولدك لكيما يشرفك ولدك ويعده بِيَسِير أَن الْمَسِيح قَالَ لله أَنا شرفتك على الأَرْض قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه مُصِيبَة الدَّهْر لم يقنعوا للمسيح بنبوة الله حَتَّى وصفوه بمساواته لله تَعَالَى ثمَّ لم يقنعوا بمساواته لله تَعَالَى حَتَّى قَالُوا أَن الله تَعَالَى قد أنزل لَهُ عَن الحكم وَلَيْسَ يحكم على أحد وَأَنه قد برِئ بِالْملكِ وَالْحكم كُله إِلَى الْمَسِيح ثمَّ لم يقنعوا لَهُ بالعزلة والخمول حَتَّى جعلُوا الْمَسِيح يشرف الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 تَعَالَى يَا للنَّاس هَل سَمِعْتُمْ بأعظم من هَذَا الْكفْر وَالله وَالله قطعا مَا قَالَ هَذَا الْكَلَام قطّ مُؤمن بِاللَّه أصلا وَمَا كَانُوا إِلَّا دهرية مستخفين رقعاء فَعَلَيْهِم أَضْعَاف كل لعنة لعنها الله تَعَالَى من سواهُم من الْكَفَرَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا أميت نَفسِي وَأَنا أحييها فليت شعري كَيفَ يُمكن ان يحي نَفسه وَهُوَ ميت قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ سَبْعُونَ فصلا فِي أَنَاجِيلهمْ من كذب بحت ومناقضة لَا حِيلَة فِيهَا وَمِنْهَا فُصُول يجمع الْفَصْل مِنْهَا ثَلَاث كذبات فاقل على قلَّة مِقْدَار أَنَاجِيلهمْ وَجُمْلَة أَمرهم فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه مرّة بِنَصّ أَنَاجِيلهمْ ابْن الله وَمرَّة هُوَ ابْن يُوسُف وَابْن دَاوُد وَابْن الْإِنْسَان وَمرَّة هُوَ إِلَه يخلق ويرزق وَمرَّة هُوَ خروف الله وَمرَّة هُوَ فِي الله وَالله فِيهِ وَمرَّة هُوَ فِي تلاميذه فِيهِ وَمرَّة هُوَ علم الله وَقدرته وَمرَّة لَا يحكم على أحد وَلَا ينفذ إِرَادَته وَمرَّة هُوَ نَبِي وَغُلَام الله وَمرَّة أسلمه الله إِلَى أعدائه وَمرَّة قد انْعَزل الله لَهُ عَن الْملك وتولاه هُوَ وَصَارَ يشرف الله تَعَالَى وَيُعْطِي مَفَاتِيح السَّمَوَات لباطرة ويولي أَصْحَابه خطة التَّحْرِيم ولتحليل فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمرَّة يجوع وَيطْلب مَا يَأْكُل ويعطش وَيشْرب ويعرق من الْخَوْف ويلعن الشَّجَرَة إِذا لم يجد فِيهَا تيناً يَأْكُلهُ ويفشل ويركب حِمَاره وَيُؤْخَذ ويلطم وَجهه وَيضْرب رَأسه بالقصبة ويزق فِي وَجهه وَيضْرب ظَهره بالسياط ويميته الشَّرْط ويتهكمون بِهِ ويسقي الْخلّ فِي الحنظل ويصلب بَين سارقين ويسمر يَدَاهُ وَمَات فِي السَّاعَة وَدفن ثمَّ يحيى بعد الْمَوْت وَلم يكن لَهُ هم إِذْ حيى بعد الْمَوْت وَاجْتمعَ بِأَصْحَابِهِ إِلَّا طلب مَا يَأْكُل فأطعموه الْخبز والحوت المشوي وسقوه الْعَسَل ثمَّ انْطلق إِلَى شغله هَذَا كُله نَص أَنَاجِيلهمْ وهم قد اقتصروا فِي دينهم من هَذَا كُله على أَنه آلَة معبود فَقَط وهم ينفون من إِلَه مَعَ الله وَأَنَاجِيلهمْ وأماناتهم توجب أَن الْمَسِيح آلَة آخر غير الله بل يقْعد عَن يَمِين الله وَأَنه أكبر مِنْهُ وَهُوَ يخلق كَمَا يخلق وَيحيى كَمَا يحي الله والضرورة توجب أَنهم قَائِلُونَ بآلهين وَلَا بُد متغايرين ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ذكر بعض مَا فِي كتبهمْ غير الأناجيل من الْكَذِب وَالْكفْر والهوس قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ يوحنا بن سيذاي فِي إِحْدَى رسائله الثَّلَاث يَا أحبائي نَحن الْآن أَوْلَاد الله وَلم يظْهر بعد مَا نَحن كائنون وَقد نعلم أَنه إِذا ظهر سَيكون أَمْثَالًا لَهُ لأننا نرَاهُ كَمَا هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَفِي الْكفْر أعظم من كفر هَذَا الْكذَّاب أَنهم أَوْلَاد الله وَأَنَّهُمْ سيكونون مثل الله إِذا ظهر وَقَالَ هَذَا الْمعِين فِي كتاب الْوَحْي والإعلان أَنه رأى الله عز وَجل شَيخا أَبيض الرَّأْس واللحية وَرجلَاهُ من لاطون والمسيح يقْرَأ بَين يَدَيْهِ فِي كتاب من ذهب وَالْمَلَائِكَة يَقُولُونَ هَذَا خروف الرب والأسواق قَائِمَة بَين يَدَيْهِ الْقَمْح كَذَا وَكَذَا قَفِيزا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 بِدِينَار وَالْخمر كَذَا وَكَذَا قسطاً بِدِينَار وَالزَّيْت كَذَا وَكَذَا قسطاً بِدِينَار فَهَل هَذَا إِلَّا هزل وعيارة وتماجن وتطايب وَقَالَ شَمْعُون فِي إِحْدَى رسائله يَوْمئِذٍ يَأْتِي الرب كمجيء اللص فلعمري لقد شبه ربه تشبها هُوَ أولى بِهِ وَلَا مُؤنَة على هذَيْن الكلين وعَلى يهوذا وَيَعْقُوب اللعينين فِي رسائلهم الفارغة من كل خير الْبَارِدَة المملوءة من كل كفر وهوس أَن يَقُولُوا قَالَ الله وَالِد رَبنَا الْمَسِيح وَفعل الله وَالِد سيدنَا الْمَسِيح كَأَنَّهُمْ وَالله إِنَّمَا يخبرون عَن نسب من الْأَنْسَاب وولادة من الولادات وَقَالَ بولس اللعين فِي إِحْدَى رسائله وَهِي الَّتِي إِلَى أهل غلاربه فِي الْبَاب السَّادِس نشْهد لكل إِنْسَان يختن أَنه يلْزمه أَن يحفظ شرايع التَّوْرَاة كلهَا وَقَالَ أَيْضا قبل ذَلِك إِن اختتنتم فَإِن الْمَسِيح لَا ينفعكم فاعجبوا لهَذَا وَاعْلَمُوا أَنه قد ألزمهم دينين أما من كَانَ مختوناً فَإِن شرايع التَّوْرَاة كلهَا تلْزمهُ وَلَا يَنْفَعهُ الْمَسِيح وَأما من كَانَ غير مختون فالمسيح بنفعه وَلَا يلْزمه شراءع التَّوْرَاة وَهُوَ وَسَائِر التلاميذ كَانُوا بِإِجْمَاع من النَّصَارَى مختونين كلهم فَوَجَبَ أَن الْمَسِيح لَا ينفهم وَأَن شرائع الْيَهُود كلهَا لَهُم لَازِمَة وَأكْثر من بَين أظهر الْمُسلمين مِنْهُم الْيَوْم مختونون وَإِن كَانَ بولس صَادِقا فَإِن الْمَسِيح لَا يَنْفَعهُمْ وَأَن شرائع التَّوْرَاة كلهَا لَهُم لَازِمَة وَإِن كَانَ بولس كَاذِبًا فِي ذَلِك فَكيف يَأْخُذُونَ دينهم عَن الْكذَّاب وَلَا بُد من إِحْدَاهمَا وَقَالَ أَيْضا فِي إِحْدَى رسائله أَن يوحنا بن سيذاي وَيَعْقُوب بن يُوسُف النجار وباطرة أَمرُوهُ أَن يكون هُوَ يَدْعُو إِلَى ترك الْخِتَان وَيَكُونُونَ هم يدعونَ إِلَى الْخِتَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا غير طَرِيق التَّحْقِيق فِي الدُّعَاء إِلَى الدّين وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَة حِيلَة وإضلال مينية لَا حَقِيقَة لَهَا وَقَالَ بولس إِن يَعْقُوب ابْن يُوسُف النجار كَانَ مرائياً يتحفظ من مداخلة الْأَجْنَاس بِحَضْرَة الْيَهُود وَأَن بولس واجهه بذلك فِي أنطاكية وعنفه على ذَلِك أفيجوز أَخذ الدّين عَن مراء مُدَلّس وَقَالَ هَذَا اللعين بولس أَيْضا فِي إِحْدَى رسائله أَن يسوع بَيْنَمَا كَانَ فِي صُورَة الله لم يغتنم أَن يكون مُسَاوِيا لله بل أذلّ نَفسه وَلبس صُورَة عبد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع قطّ بأوحش من هَذَا الْكفْر وأحمق من هَذَا الْكَلَام أَو أسخف من هَذَا الِاخْتِيَار وَهل يتذلل الْإِنْسَان وَيحمل كل بلَاء فِي الدُّنْيَا إِلَّا ليصل إِلَى رضى الله تَعَالَى فَقَط فليت شعري هَل بعد الْوُصُول إِلَى مُسَاوَاة الله تَعَالَى عِنْد هَؤُلَاءِ الأقذار منزلَة تبتغي فيرفضها الْمَسِيح لينال أَعلَى مِنْهَا اللَّهُمَّ قد ذكرنَا تِلْكَ الْمنزلَة وَهِي الَّتِي وصفهَا يوحنا اللعين فِي إنجيله من أَن الله تَعَالَى عَن كفرهم اعتزل عَن الْملك وَالْحكم وولاهما الْمَسِيح وتبرأ إِلَيْهِ بِكُل شَيْء ثمَّ إِن الْمَسِيح شرفه الله تَعَالَى عَن ذَلِك اللَّهُمَّ الْعَن عقولاً يجوز فِيهَا هَذَا الْحمق وَقَالَ هَذَا النذل فِي بعض رسائله إِنِّي كنت أَتَمَنَّى أَن أكون محروماً من الْمَسِيح قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَيْت شعري من ضغطه وَمَا الْمَانِع لَهُ من أَن يكفر بالمسيح فَيبلغ مناه وَيصير محروماً مِنْهُ وَوَاللَّه أَنه لمرحوم مِنْهُ بِلَا شكّ وَقَالَ هَذَا النذل بولس أَيْضا فِي بعض رسائله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الخسيسة الْيَهُود يطْلبُونَ الْآيَات واليونانيون يطْلبُونَ الْحِكْمَة وَنحن نشرع أَن الْمَسِيح صلب وَهَذَا القَوْل عِنْد الْيَهُود فتْنَة وَعند الْأَجْنَاس جهل وَنقص وَعند المختنين من الْيَهُود واليونانيين أَن الْمَسِيح علم الله وَقدرته لِأَن مَا كَانَ جهلا عِنْد الله هُوَ أحكم مَا يكون عِنْد النَّاس وَمَا هُوَ ضَعِيف عِنْد الله هُوَ أقوى مَا يكون عِنْد النَّاس قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل فِي بَيَان قحة هَذَا النذل وسخريته لمن اتبعهُ وَتَحْقِيق مَا تدعيه الْيَهُود من أَن أسلافهم دسوا هَذَا الرذل بولس لإضلال أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر من هَذَا القَوْل فِي إِبْطَاله الْآيَات وَالْحكم وَقَوله إِن أحكم مَا يكون عِنْد النَّاس هُوَ الْجَهْل عِنْد الله فمحصول هَذَا الْكَلَام اتْرُكُوا الْعقل وموجبه واطلبوا الْحمق وتدينوا بِهِ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَقَالَ بولس أَيْضا فِي بعض رسائله إِنَّه لَا تبقى دَعْوَة كَاذِبَة فِي الدّين أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ عِنْدهم لعنهم الله أصدق من مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن كَانَ صَادِقا فَمَا يحْتَاج مَعَهم إِلَى برهَان فِي صِحَة دين الْإِسْلَام ونبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى هَذَا فَإِن لهَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعمِائَة عَام ونيفاً وَخمسين عَاما ظَاهِرَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فيلزمهم أَن يرجِعوا إِلَى الْحق أَو يكذبوا بولس بشيرهم وَقَالَ بعض من يعظمونه من أسلافهم وَهُوَ يوحنا فَم الذَّهَب بطريارك الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي كتاب لَهُ مَعْرُوف عِنْدهم أَن الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم وبسببها أخرج من الْجنَّة كَانَت شَجَرَة تين وَأَن الله تَعَالَى أنزل تِلْكَ الشَّجَرَة بِعَينهَا إِلَى الأَرْض وَهِي الَّتِي دَعَا الْمَسِيح عَلَيْهَا فيبست إِذْ طلب فِيهَا تيناً يَأْكُلهُ فَلم يجده وَهِي نَفسهَا الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا قَالَ وبرهان ذَلِك أَنَّك لَا تَجِد غاراً إِلَّا وعَلى فَمه شَجَرَة تين نابتة فاعجبوا لهَذَا الْهزْل والعيارة والمجون والبرهان البديع وَاعْلَمُوا أَنهم بأجمعهم متفقون على أَن يصوروا فِي كنائسهم صُورَة يَقُولُونَ هِيَ صُورَة الْبَارِي عز وَجل وَعلا وَأُخْرَى صُورَة الْمَسِيح وَأُخْرَى صُورَة مَرْيَم وَصُورَة باطرة وَصُورَة بولس والصليب وَصُورَة جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل وَصُورَة إسْرَافيل ثمَّ يَسْجُدُونَ للصورة سُجُود عبَادَة وَيَصُومُونَ لَهَا تديناً وَهَذَا هُوَ عبَادَة الْأَوْثَان بِلَا شكّ والشرك الْمَحْض وهم يُنكرُونَ عبَادَة الْأَوْثَان ثمَّ يعبدونها عَلَانيَة وحجتهم فِي هَذَا حجَّة عبَادَة نفسا وَهِي أَنهم يَتَقَرَّبُون بذلك إِلَى أَصْحَاب تِلْكَ الصُّور لَا إِلَى الصُّور بِأَعْيَانِهَا وَاعْلَمُوا أَنهم لم يزَالُوا بعد الْمَسِيح بأزيد من مائَة عَام يَصُومُونَ فِي شهر كانون الآخر إِثْر عيد الحجيج أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُتَّصِلَة ثمَّ يفطرون ثمَّ يعيدون الفصح مَعَ الْيَهُود اقْتِدَاء بالمسيح إِلَى أَن أبطل ذَلِك عَلَيْهِم خَمْسَة من البطاركة أَجمعُوا على ذَلِك ونقلوا صِيَامهمْ وفصحهم إِلَى مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم فَكيف ترَوْنَ هَذَا الدّين وَلعب أَهله بِهِ وحكمهم بِأَن مَا مضى عَلَيْهِ الْمَسِيح والحواريون ضلال وَكفر وَلَا يَخْتَلِفُونَ أصلا فِي أَن شرائعهم كلهَا إِنَّمَا هِيَ من عمل أساقفتهم وملوكهم عَلَانيَة فَهَل تطيب نفس من بِهِ مسكة عقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 على أَن يبْقى سَاعَة على دين هَذِه صفته فَكيف أَن يلقى الله تَعَالَى على دين يقر بِلِسَانِهِ وَيعلم بِقَلْبِه أَنه لَيْسَ من عِنْد الله تَعَالَى وَلَا مِمَّا أَتَى بِهِ نَبِي ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَمن عَظِيم هوسهم وَقَوْلهمْ كلهم أَن الْمَسِيح أَتَى ليَأْخُذ بجراحته آلامنا وبكلومه ذنوبنا وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة السخف لَيْت شعري أَي ألم أَخذ بجراحته أم كَيفَ تُؤْخَذ ذنُوب النَّاس بكلوم الْمَسِيح مَا نراهم إِلَّا يألمون ويذنبون كَمَا يألم غَيرهم وَلَا فرق وَمن فضائحهم دَعوَاهُم أَن هلاني وَالِدَة قسطنطين أول من تنصر من مُلُوك الرّوم وَذَلِكَ بعد أَزِيد من ثلاثماية عَام من رفع الْمَسِيح وجدت الْخَشَبَة الَّتِي صلب فِيهَا الْمَسِيح والشوك الَّذِي جعل على رَأسه وَالدَّم الَّذِي طَار من جنبه والمسامير الَّتِي ضربت فِي يَده فليت شعري أَيْن وجدوا هَذَا السخام كُله وَأهل ذَلِك الدّين كُله مطرودون مقتولون حَيْثُ وجدوا وَالْمَدينَة خَالِيَة أَزِيد من مِائَتي عَام لَا أنيس بهَا ثمَّ من لَهُم بِأَنَّهَا تِلْكَ وَأَيْنَ يبْقى أثر الدَّم ومسامير وَشَوْك وخشبة تِلْكَ الْمدَّة الْعَظِيمَة فِي الْبِلَاد الخالية المقفرة وَلَا شكّ فِي أَنه إِذْ صلب كَمَا يَقُولُونَ كَانَ أَصْحَابه مختفين وأعداؤه لَا يلتفتون إِلَى أمره أَيكُون فِي السخف أعظم من هَذَا وَمَا عُقُولهمْ إِلَّا كعقول من يصدق بالعنقاء وَبِكُل مَا لَا يُمكن وَاعْلَمُوا أَن كل مَا يَدعُونَهُ لباطرة ويوحنا ومرقش وبولس من المعجزات فَإِنَّهَا أكذوبات مَوْضُوعَة لِأَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لم يَكُونُوا من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام ومذ تنصر بولس إِلَّا مطلوبين مشردين مضروبين كالزنادقة مستترين وَقد ذكر بولس عَن نَفسه أَن الْيَهُود ضربوه خمس مَرَّات بالقضبان كل مرّة تسعا وَثَلَاثِينَ جلدَة وَأَنه رجم بِالْحِجَارَةِ فِي جمع عَظِيم وتدلى من سُورَة دمشق فِي قفة خوف الْقَتْل وَمَعَ ذَلِك تظاهروا بدين الْيَهُود إِلَى أَن صلبوا وَقتلُوا إِلَى لعنة الله وَلَا يجوز أَن تصح معْجزَة إِلَّا بِنَقْل كَافَّة عَن مثلهَا مِمَّن شَاهد ذَلِك ظَاهرا وَلَكِن دَعْوَى النَّصَارَى ذَلِك لمن ذكرنَا ولغيرهم من أسلافهم معْجزَة كدعوى المانية لماني بِسَوَاء فَإِنَّهُ لم يزل مسترا إِلَّا شهوراً يسيرَة إِذْ اختدعه بهْرَام بن بهْرَام الْملك حَتَّى ظفر بِهِ وبأصحابه فَقَتلهُمْ كلهم وكدعوى الْيَهُود لأحبارهم السالفين ولرؤس السبت المعجزات بالصناعات وكدعوى أَصْحَاب الحلاج للحلاج وكدعوى طوائف من الْمُسلمين مثل ذَلِك من المعجزات لشيبان الرَّاعِي ولإبراهيم بن أدهم وَلأبي مُسلم الْخَولَانِيّ ولعَبْد الله ابْن الْمُبَارك رَحْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم من الصَّالِحين وكل ذَلِك كذب وتوليد من لَا خير فِيهِ وإحالة على أَشْيَاء مغيبة لَا يعجز عَن ادِّعَاء مثلهَا أحد وكل طَائِفَة مِمَّن ذكرنَا تعَارض دَعْوَاهَا بِدَعْوَى سَائِر الطوائف وَلَا سيبل إِلَى الْفرق بَين شَيْء من هَذِه الدعاوي وَقد قُلْنَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ وجود معْجزَة إِلَّا لنَبِيّ فَقَط ثمَّ لَا تصح إِلَّا بِنَقْل يقطع الْعذر وَيُوجب الْعلم للْكَافِرِ وَالْمُؤمن إِلَّا من كَابر حسه وغالط نَفسه وَقَالَ هَذَا سحر فَقَط وَكَذَلِكَ مَا اغْترَّ بِهِ كثير من جهالهم مِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 رَأَوْا من عظم اجْتِهَاد رهبانهم أَصْحَاب الصوامع والديارات والمطوس عَلَيْهِم أَبْوَاب الْبيُوت فليعلموا أَنه لَيْسَ عِنْدهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة إِلَّا جُزْء من أَجزَاء كَثِيرَة مِمَّا عِنْد المنانية وَشدَّة اجتهادهم وَالَّذِي عِنْد الصابئين من ذَلِك أعظم فَإِنَّهُ يبلغ الْأَمر بهم إِلَى أَن يخصي الْوَاحِد نَفسه ويسمل عَيْني نَفسه اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَة وَالَّذِي عِنْد الهنود أَكثر من هَذَا كُله فَإِنَّهُم لَا يزالون يحرقون أنفسهم فِي النَّار تقرباً إِلَى البد وَلَا يزالون يرْمونَ أنفسهم من أعالي الْجبَال كَذَلِك فَأَيْنَ اجتهادٍ من اجْتِهَاد وَعباد الْهِنْد لَا يَمْشُونَ إِلَّا عُرَاة وَلَا يلتبسون من الدُّنْيَا بِشَيْء أصلا فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا لَو عقلوا وَلم ير قطّ أَشد جريمة من جَاهِل مقلد لَا سِيمَا إِذا اتّفق أَن يكون سوداوياً ضَعِيفا وَإِن شِئْت فَتَأمل أساقفة النَّصَارَى وقسيسيهم وجتالقتهم تجدهم جفلة أفسق الْخلق وأزناهم وأجمعهم لِلْمَالِ لَا سَبِيل إِلَى أَن تَجِد مِنْهُم وَاحِدًا بِخِلَاف هَذَا وَكَذَلِكَ إِن اغتروا بصبر أوائلهم للْقَتْل على دينهم حَتَّى عمِلُوا لَهُم الشائنات إِلَى الْيَوْم فَإِن ذَلِك لَا يتَجَزَّأ من صَبر المنانية على الْقَتْل فِي الثَّبَات على دينهم وَمن صَبر دعاة القرامطة على الْقَتْل أَيْضا وكل هَذَا لَا يتعلل بِهِ إِلَّا جَاهِل سخيف مقلد متهالك وَإِنَّمَا الْحمق فِيمَا أوجبته براهين الْعُقُول الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى فِينَا لتمييز الْحق من الْبَاطِل ونبا بهَا عَن البهايم فَقَط ثمَّ فِي الِاعْتِدَال والاقتصار على مَا جَاءَ بِهِ صَاحب الشَّرِيعَة الَّتِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهَا عَن الله عز وَجل وجماع ذَلِك مَا جرى عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وَبعده عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبَقِي لَهما اعتراضان نذكرهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَحدهمَا إِن قَالُوا قَالَ الله عز وَجل فِي كتابكُمْ حِكَايَة عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين وَقَالَ تَعَالَى أَيْضا مُخَاطبا للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} قُلْنَا نعم هَذَا خبر حق ووعد صدق وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى عَن الْمُؤمنِينَ وَلم يسمهم وَلَا شكّ فِي أَن من ثَبت عَلَيْهِ الْكَذِب من باطرة ويوحنا وَمَتى ويهوذا وَيَعْقُوب لَيْسُوا مِنْهُم لكِنهمْ من الْكفَّار المدعين لَهُ الربوبية كذبا وَكفرا وَأما الموعودون بالنصر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْمُؤْمِنُونَ بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام فهم نَحن الْمُسلمُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ حَقًا وبنبوته ورسالته لَا من كفر بِهِ وَقَالَ أَنه كَذَّاب وَقَالَ أَنه إِلَه أَو ابْن إِلَه تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَالثَّانِي إِن قَالُوا إِن فِي كتابكُمْ {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَفِيه {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر} فَهَلا قُلْتُمْ فِيمَا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل كَمَا تَقولُونَ فِيمَا فِي كتابكُمْ قُلْنَا بَين الْأَمريْنِ فرق بَين كَمَا بَين قطبي الْفلك وَذَلِكَ أَن الَّذِي فِي الْقُرْآن ظَاهر لَا يحْتَاج فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إِلَى تَأْوِيل إِنَّمَا معنى وَجَاء رَبك ويأتيهم الله هُوَ أَمر مَعْلُوم فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن مشهود فِيهَا تَقول جَاءَ الْملك وأتانا الْملك وَإِنَّمَا أَتَى جَيْشه وسطوته وَأمره فَلَيْسَ فِيمَا تلوتم أَمر يُنكر وَلَيْسَ كَذَلِك مَا كتبنَا فِي توراتكم وأناجيلكم من التكاذب والتناقض وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد واعترضوا أَيْضا بِأَن قَالُوا كَيفَ تحققون نقلكم لكتابكم وَأَنْتُم مُخْتَلفُونَ أَشد الِاخْتِلَاف فِي قراءتكم لَهُ وبعضكم يزِيد حروفاً كَثِيرَة وبعضكم يُسْقِطهَا فَهَذَا بَاب وَأَيْضًا فَإِنَّكُم تروون بأسانيد عنْدكُمْ فِي غَايَة الصِّحَّة أَن طوائف من أَصْحَاب نَبِيكُم عَلَيْهِ السَّلَام وَمن تابعيهم الَّذين تعظمون وتأخذون دينكُمْ عَنْهُم قرؤا الْقُرْآن بِأَلْفَاظ زَائِدَة ومبدلة لَا تستحلون أَنْتُم الْقِرَاءَة بهَا وَإِن مصحف عبد الله بن مَسْعُود خلاف مصحفكم وَأَيْضًا فَإِن طوائف من علمائكم الَّذين تعظمون وتأخذون عَنْهُم دينكُمْ يَقُولُونَ إِن عُثْمَان بن عَفَّان أبطل قراءات كَثِيرَة صَحِيحَة وأسقطها إِذْ كتب الْمُصحف الَّذِي جمعكم عَلَيْهِ وعَلى حرف وَاحِد من الأحرف السَّبْعَة الَّتِي أنزل بهَا الْقُرْآن عنْدكُمْ وَأَيْضًا فَإِن الروافض يَزْعمُونَ أَن أَصْحَاب نَبِيكُم بدلُوا الْقُرْآن وأسقطوا مِنْهُ وَزَادُوا فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل هَذَا لَا مُتَعَلق لَهُم بِشَيْء مِنْهُ على مَا نبين بِمَا لَا إِشْكَال فِيهِ على أحد من النَّاس وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أما قَوْلهم إننا مُخْتَلفُونَ فِي قِرَاءَة كتَابنَا فبعضنا يزِيد حروفاً وبعضنا يُسْقِطهَا فَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافا بل هُوَ اتِّفَاق منا صَحِيح لِأَن تِلْكَ الْحُرُوف وَتلك الْقرَاءَات كلهَا مبلغ بِنَقْل الكواف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا نزلت كلهَا عَلَيْهِ فَأَي تِلْكَ الْقرَاءَات قَرَأنَا فَهِيَ صَحِيحَة وَهِي محصورة كلهَا مضبوطة مَعْلُومَة لَا زِيَادَة فِيهَا وَلَا نقص فَبَطل التَّعَلُّق بِهَذَا الْفَصْل وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَأما قَوْلهم أَنه قد روى بأسانيد صِحَاح عَن طَائِفَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن التَّابِعين الَّذين نعظم ونأخذ ديننَا عَنْهُم قرءوا فِي الْقُرْآن قراءات لَا نستحل نَحن الْقِرَاءَة بهَا فَهَذَا حق وَنحن وَإِن بلغنَا الْغَايَة فِي تَعْظِيم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورضوان الله عَلَيْهِم وتقربنا إِلَى الله عز وَجل بمحبتهم فلسنا نبعد عَنْهُم الْوَهم وَالْخَطَأ وَلَا نقلدهم فِي شَيْء مِمَّا قَالُوهُ إِنَّمَا نَأْخُذ عَنْهُم مَا أخبرونا بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا هُوَ عِنْدهم بِالْمُشَاهَدَةِ وَالسَّمَاع لما ثَبت من عدالتهم وثقتهم وَصدقهمْ وَأما عصمتهم من الْخَطَأ فِيمَا قَالُوهُ برأى وبظن فَلَا نقُول بذلك وَلَو أَنكُمْ أَنْتُم فَعلْتُمْ كَذَلِك بأحباركم وأساقفتكم الَّذين بَيْنكُم وَبَين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَا عنفنا كم بل كُنْتُم على صَوَاب وَهدى متبعين للحق الْمنزل مجانبين للخطأ المهمل لَكِن لم تَفعلُوا هَكَذَا بل قلدتموهم فِي كل مَا شرعوه لكم فهلكتم فِي الدُّنْيَا والاخرة وَتلك الْقرَاءَات الَّتِي ذكرْتُمْ إِنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَة على الصاحب أَو التَّابِع فَهِيَ ضَرُورَة وهم من الصاحب وَالوهم لَا يعري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 مِنْهُ أحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَو وهم مِمَّن دونه فِي ذَلِك وَأما قَوْلهم أَن مصحف عبد الله ابْن مَسْعُود خلاف مصحفنا فَبَاطِل وَكذب وإفك مصحف عبد الله بن مَسْعُود إِنَّمَا فِيهِ قِرَاءَته بِلَا شكّ وقراءته هِيَ قِرَاءَة عَاصِم الْمَشْهُورَة عِنْد جَمِيع أهل الْإِسْلَام فِي شَرق الدُّنْيَا وغربها نَقْرَأ بهَا كَمَا ذكرنَا وبغيرها قد صَحَّ أَنه كُله منزل من عِنْد الله تَعَالَى فَبَطل تعلقهم بِهَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم إِن طَائِفَة من عُلَمَائِنَا الَّذين أَخذنَا عَنْهُم ديننَا ذكرُوا إِن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ إِذْ كتب الْمُصحف الَّذِي جمع النَّاس عَلَيْهِ أسقط سِتَّة أحرف من الأحرف الْمنزلَة وَاقْتصر على حرف مِنْهَا فَهُوَ مِمَّا قُلْنَا وَهُوَ ظن ظَنّه ذَلِك الْقَائِل أَخطَأ فِيهِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بل كل هَذَا بَاطِل ببرهان كَالشَّمْسِ وَهُوَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يَك إِلَّا وجزيرة الْعَرَب كلهَا مَمْلُوءَة بِالْمُسْلِمين والمصاحف والمساجد والقراء يعلمُونَ الصّبيان وَالنِّسَاء وكل من دب وهب واليمن كلهَا وَهِي فِي أَيَّامه مدن وقرى الْبَحْرين كَذَلِك وعمان كَذَلِك وَهِي بِلَاد وَاسِعَة مدن وقرى وملكها عَظِيم وَمَكَّة والطائف وَالْمَدينَة وَالشَّام كلهَا كَذَلِك والجزيرة كَذَلِك ومصر كلهَا كَذَلِك والكوفة وَالْبَصْرَة كَذَلِك فِي كل هَذِه الْبِلَاد من الْمَصَاحِف والقراء مَا لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَحده فَلَو رام عُثْمَان مَا ذكرُوا مَا قدر على ذَلِك أصلا وَأما قَوْلهم أَنه جمع النَّاس على مصحف فَبَاطِل مَا كَانَ يقدر على ذَلِك لما ذكرنَا وَلَا ذهب عُثْمَان قطّ إِلَى جمع النَّاس على مصحف كتبه إِنَّمَا خشِي رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْتِي فَاسق يسْعَى فِي كيد الدّين أَو أَن يهم وهم من أهل الْخَيْر فيبدل شَيْئا من الْمُصحف يفعل ذَلِك عمدا وَهَذَا وهما فَيكون اخْتِلَاف يُؤَدِّي إِلَى الضلال فَكتب مصاحف مجتمعاً عَلَيْهَا وَبعث إِلَى كل أفق مُصحفا لكَي إِن وهم واهم أَو بدل مبدل رَجَعَ إِلَى الْمُصحف الْمُجْتَمع عَلَيْهِ فانكشف الْحق وَبَطل الكيد وَالوهم فَقَط وَأما قَول من قَالَ أبطل الأحرف السِّتَّة فقد كذب من قَالَ ذَلِك وَلَو فعل عُثْمَان ذَلِك أَو أَرَادَهُ لخرج عَن الْإِسْلَام وَلما مطل سَاعَة بل الأحرف السَّبْعَة كلهَا مَوْجُودَة عندنَا قَائِمَة كَمَا كَانَت مثبوتة فِي الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة المأثورة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم فِي دَعْوَى الروافض تَبْدِيل الْقرَاءَات فَإِن الروافض لَيْسُوا من الْمُسلمين إِنَّمَا هِيَ فرق حدث أَولهَا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخمْس وَعشْرين سنة وَكَانَ مبدؤها إِجَابَة من خذله الله تَعَالَى لدَعْوَة من كَاد الْإِسْلَام وَهِي طَائِفَة تجْرِي مجْرى الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الْكَذِب وَالْكفْر وَهِي طوائف أَشَّدهم غلواً يَقُولُونَ بإلهية عَليّ بن أبي طَالب والآلهية جمَاعَة مَعَه وَأَقلهمْ غلواً يَقُولُونَ إِن الشَّمْس ردَّتْ على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ فقوم هَذَا أقل مَرَاتِبهمْ فِي الْكَذِب أيستشنع مِنْهُم كذب يأْتونَ بِهِ وكل من يزجره عَن الْكَذِب ديانَة أَو نزاهة نفس أمكنه أَن يكذب مَا شَاءَ وكل دَعْوَى بِلَا برهَان فَلَيْسَ يسْتَدلّ بهَا عَاقل سَوَاء كَانَت لَهُ أَو عَلَيْهِ وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نأتي بالبرهان الْوَاضِح الفاضح لكذب الروافض فِيمَا افتعلوه من ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِسْلَام قد انْتَشَر وَظهر فِي جَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من مُنْقَطع الْبَحْر الْمَعْرُوف ببحر القلزم ماراً إِلَى سواحل الْيمن كلهَا إِلَى بَحر فَارس إِلَى مُنْقَطِعَة ماراً إِلَى الْفُرَات ثمَّ على ضفة الْفُرَات إِلَى مُنْقَطع الشَّام إِلَى بَحر القلزم وَفِي هَذِه الجزيرة من المدن والقرى مَا لَا يعرف عدده إِلَّا الله عز وَجل كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مُضر وَرَبِيعَة وقضاعة والطائف وَمَكَّة كلهم قد أسلم وبنوا الْمَسَاجِد لَيْسَ مِنْهَا مَدِينَة وَلَا قَرْيَة وَلَا حلَّة لأعراب إِلَّا قد قَرَأَ فِيهَا الْقُرْآن فِي الصَّلَوَات وَعلمه الصّبيان وَالرِّجَال وَالنِّسَاء وَكتب وَمَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون كَذَلِك لَيْسَ بَينهم اخْتِلَاف فِي شَيْء أصلا بل كلهم أمة وَاحِدَة وَدين وَاحِد ومقالة وَاحِدَة ثمَّ ولي أَبُو بكر سنتَيْن وَسِتَّة أشهر فغزى فَارس وَالروم وَفتح الْيَمَامَة وزادت قِرَاءَة النَّاس لِلْقُرْآنِ وَجمع النَّاس الْمَصَاحِف كَأبي عمر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد وَأبي زيد وَابْن مَسْعُود وَسَائِر النَّاس فِي الْبِلَاد فَلم يبْق بلد إِلَّا وَفِيه الْمَصَاحِف ثمَّ مَاتَ رَضِي الله عَنهُ والمسلمون كَمَا كَانُوا لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي شَيْء اصر أمة وَاحِدَة ومقالة وَاحِدَة إِلَّا مَا حدث فِي آخر حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسسلم وَأول خلَافَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ من ظُهُور الْأسود الْعَنسِي فِي جِهَة صنعاء ومسيلمة فِي الْيَمَامَة يدعيان النُّبُوَّة وهما فِي ذَلِك مقران بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معلنان بذلك وَمن انقسام الْعَرَب وَمن بِالْيمن من غَيرهم أَرْبَعَة أَقسَام إِثْر مَوته عَلَيْهِ السَّلَام فطائفة ثبتَتْ على مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْإِسْلَام لم تبدل ولزمت طَاعَة أبي بكر وهم الْجُمْهُور وَالْأَكْثَر وَطَائِفَة بقيت على الْإِسْلَام أَيْضا إِلَّا أَنهم قَالُوا نُقِيم الصَّلَاة وشرايع الْإِسْلَام إِلَّا أَنا لَا نُؤَدِّي الزَّكَاة إِلَى أبي بكر وَلَا نعطي طَاعَة لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ هَؤُلَاءِ كثيرا إِلَّا أَنهم دون من ثَبت على الطَّاعَة وَيبين هَذَا قَوْله الحطيئة الْعَبْسِي ... أَطعْنَا رَسُول الله إِذْ كَانَ بَيْننَا ... فيالهفانا مَا بَال دين أبي بكر أيورثها بكرا إِذا مَاتَ بعده ... فَتلك لعمر الله قاصمة الظّهْر وَإِن الَّتِي طالبتم فمنعتم ... لكالتمر أَو أحلى لذِي من التَّمْر ... يَعْنِي الزَّكَاة ثمَّ ذكر الْقَبَائِل الثَّابِتَة على الطَّاعَة فَقَالَ ... فباست بني سعد واسناه طيٌ ... وباست بني دودان حاشي بَين النَّضر ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَكِن وَالله باستاه بني نضر وباست الحطيئة حلت الدائرة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَطَائِفَة ثَالِثَة أعلنت بالْكفْر وَالرِّدَّة كأصحاب طليحة وسجاح وَسَائِر من ارْتَدَّ وهم قَلِيل بِالْإِضَافَة إِلَى من ذكرنَا إِلَّا أَن فِي كل قَبيلَة من الْمُؤمنِينَ من يُقَاوم الْمُرْتَدين فقد كَانَ بِالْيَمَامَةِ تمامة بن أَثَال الحتفي فِي طوايف من الْمُسلمين محاربين لمُسَيْلمَة وَفِي قوم الْأسود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 أَيْضا كَذَلِك وَفِي بني تَمِيم وَبني أَسد الْجُمْهُور من الْمُسلمين وَطَائِفَة رَابِعَة توقفت فَلم تدخل فِي أحد من الطوائف الْمَذْكُورَة وبقوا يتربصون لمن تكون الْغَلَبَة كمالك بن نُوَيْرَة وَغَيره فَأخْرج إِلَيْهِم أَبُو بكر الْبعُوث فَقتل مُسَيْلمَة وَقد كَانَ فَيْرُوز وذاذوية الفارسيان الفاضلان رَضِي الله عَنْهُمَا قتلا الْأسود الْعَنسِي فَلم يمض عَام وَاحِد حَتَّى رَاجع الْجَمِيع الْإِسْلَام أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَأسْلمت سجَاح وطليحة وَغَيرهم وَإِنَّمَا كَانَت نزغة من الشَّيْطَان كنار اشتعلت فأطفأها الله للْوَقْت ثمَّ مَاتَ أَبُو بكر وَولي عمر ففتحت بِلَاد الْفرس طولا وعرضاً وَفتحت الشَّام كلهَا والجزيرة ومصر كلهَا وَلم يبْق إِلَّا وبنيت فِيهِ الْمَسَاجِد وَنسخت فِيهِ الْمَصَاحِف وَقَرَأَ الْأَئِمَّة الْقُرْآن وَعلمه الصّبيان فِي الْمكَاتب شرفا وغرباً وَبَقِي كَذَلِك عشرَة أَعْوَام وأشهراً والمؤمنون كلهم لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي شَيْء بل مِلَّة وَاحِدَة ومقالة وَاحِدَة وَإِن لم يكن عِنْد الْمُسلمين إِذْ مَاتَ عمر مائَة ألف مصحف من مصر إِلَى الْعرَاق إِلَى الشَّام إِلَى الْيمن فَمَا بَين ذَلِك فَلم يكن أقل ثمَّ ولي عُثْمَان فزادت الْفتُوح واتسع الْأَمر فَلَو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الْإِسْلَام مَا قدر وَبَقِي كَذَلِك اثْنَي عشر عَاما حَتَّى مَاتَ وبموته حصل الِاخْتِلَاف وَابْتِدَاء أَمر الروافض وَاعْلَمُوا أَنه لَو رام الْيَوْم أحد أَن يزِيد فِي شعر النَّابِغَة أَو شعر زُهَيْر كلمة أَو ينقص أُخْرَى مَا قدر لِأَنَّهُ كَانَ يفتضح الْوَقْت وتخالفه النّسخ المثبوتة فَكيف الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف وَهِي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودَان إِلَى آخر السَّنَد وكابل وخراسان وَالتّرْك والصقالبة وبلاد الْهِنْد فَمَا بَين ذَلِك فَظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بِالْكَذِبِ وَمِمَّا يبين كذب الروافض فِي ذَلِك أَن عَليّ بن أبي طَالب الَّذِي هُوَ عِنْد أَكْثَرهم إِلَه خَالق وَعند بَعضهم نَبِي نَاطِق وَعند سَائِرهمْ إِمَام مَعْصُوم مَفْرُوضَة طَاعَته ولي الْأَمر وَملك فَبَقيَ خَمْسَة أَعْوَام وَتِسْعَة أشهر خَليفَة مُطَاعًا ظَاهر الْأَمر سَاكِنا بِالْكُوفَةِ مَالِكًا للدنيا حاشى الشَّام ومصر إِلَى الْفُرَات وَالْقُرْآن يقْرَأ فِي الْمَسَاجِد فِي كل مَكَان وَهُوَ يؤم النَّاس بِهِ والمصاحف مَعَه وَبَين يَدَيْهِ فَلَو رأى فِيهِ تبديلاً كَمَا تَقول الرافضة وَكَانَ يقرهم على ذَلِك ثمَّ إِلَى ابْنه الْحسن هُوَ عِنْدهم كأبيه فَجرى على ذَلِك فَكيف يسوغ لهَؤُلَاء النوكي أَن يَقُولُوا أَن فِي الْمُصحف حرفا زَائِدا أَو نَاقِصا أَو مبدلاً مَعَ هَذَا وَلَقَد كَانَ جِهَاد من حرف الْقُرْآن وَبدل الْإِسْلَام أوكد عَلَيْهِ من قتال أهل الشَّام الَّذين إِنَّمَا خالفوه فِي رَأْي يسير رَأَوْهُ ورأي خلَافَة فَقَط فلاح كذب الرافضة ببرهان لَا محيد عَنهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذْكر صفة وُجُوه النَّقْل الَّذِي عِنْد الْمُسلمين لكتابهم وَدينهمْ لما نقلوه عَن أئمتهم حَتَّى يقف عَلَيْهِ الْمُؤمن وَالْكَافِر والعالم وَالْجَاهِل عيَانًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فيعرفون أَيْن نقل سَائِر الْأَدْيَان من نقلهم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقل الْمُسلمين لكل مَا ذكرنَا يَنْقَسِم أقساماً سِتَّة أَولهَا شَيْء يَنْقُلهُ أهل الْمشرق وَالْمغْرب عَن أمثالهم جيلاً جيلاً لَا يخْتَلف فِيهِ مُؤمن وَلَا كَافِر منصف غير معاند للمشاهد وَهُوَ الْقُرْآن الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف فِي شَرق الأَرْض وغربها لَا يَشكونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب أُتِي بِهِ وَأخْبر أَن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 عز وَجل أوحى بِهِ إِلَيْهِ وَأَن من اتبعهُ أَخذه عَنهُ كَذَلِك ثمَّ أَخذ عَن أُولَئِكَ حَتَّى بلغ إِلَيْنَا وَمن ذَلِك الصَّلَوَات الْخمس فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا يشك أحد أَنه صلاهَا بِأَصْحَابِهِ كل يَوْم وَلَيْلَة فِي أَوْقَاتهَا الْمَعْهُودَة وصلاها كَذَلِك كل من اتبعهُ على دينه حَيْثُ كَانُوا كل يَوْم هَكَذَا إِلَى الْيَوْم لَا يشك أحد فِي أَن أهل السَّنَد يصلونها كَمَا يُصليهَا أهل الأندلس وَأَن أهل الأرمنية يصلونها كَمَا يُصليهَا أهل الْيمن وكصيام شهر رَمَضَان فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف كَافِر وَلَا مُؤمن وَلَا يشك أحد فِي أَنه صَامَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصامه مَعَه كل من اتبعهُ فِي كل بلد كل عَام ثمَّ كَذَلِك جيلاً جيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا وكالحج فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا يشك أحد فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حج مَعَ أَصْحَابه وَأقَام الْمَنَاسِك ثمَّ حج الْمُسلمُونَ من كل أفق من إِلَّا فاق كل عَام فِي شهر وَاحِد مَعْرُوف إِلَى الْيَوْم وكجملة الزَّكَاة وكسائر الشَّرَائِع الَّتِي فِي الْقُرْآن من تَحْرِيم القرائب وَالْميتَة وَالْخِنْزِير وَسَائِر شرائع الْإِسْلَام وكآياته من شقّ الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود الَّتِي تمنى الْمَوْت وَسَائِر مَا هُوَ فِي نَص الْقُرْآن مقروء ومنقول وَلَيْسَ عَن الْيَهُود وَلَا عِنْد النَّصَارَى فِي هَذَا النَّقْل شَيْء أصلا لِأَن نقلهم لشريعة السبت وَسَائِر شرائعهم إِنَّمَا يرجعُونَ فِيهَا إِلَى التَّوْرَاة وَيقطع نقل ذَلِك وَنقل التَّوْرَاة إطباقهم على أَن أوائلهم كفرُوا بأجمعهم وبرؤا من دين مُوسَى وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة دهوراً طوَالًا وَمن الْمحَال أَن يكون ملك كَافِر عَابِد أوثان هُوَ وَأمته كلهَا مَعَه كَذَلِك يقتلُون الْأَنْبِيَاء ويخنقونهم وَيقْتلُونَ من دعى إِلَى الله تَعَالَى يشتغلون بِسَبَب أَو بشريعة مُضَافَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ تَعَالَى عَن هَذَا الْكَذِب الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَيقطع بالنصارى عَن مثل هَذَا عدم نقلهم إِلَّا عَن خَمْسَة رجال فَقَط وَقد وضح الْكَذِب عَلَيْهِم إِلَى مَا أوضحنا من الْكَذِب الَّذِي فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل القَاضِي بتبديلهما بِلَا شكّ وَالثَّانِي شء نقلته الكافة عَن مثلهَا حَتَّى يبلغ الْأَمر كَذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ككثير من آيَاته ومعجزاته الَّتِي ظَهرت يَوْم الخَنْدَق وَفِي تَبُوك بِحَضْرَة الْجَيْش وككثير من مَنَاسِك الْحَج وكزكاة التَّمْر وَالْبر وَالشعِير وَالْوَرق وَالْإِبِل وَالذَّهَب وَالْبَقر وَالْغنم ومعاملته أهل خَيْبَر وَغير ذَلِك مِمَّا يخفى على الْعَامَّة وَإِنَّمَا يعرفهُ كواف أهل الْعلم فَقَط وَلَيْسَ عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى من هَذَا لنقل شَيْء أصلا لِأَنَّهُ يقطع بهم دونه وَمَا قطع بهم دون النَّقْل الَّذِي ذكرنَا قبل من أطباقهم على الْكفْر الدهور الطوَال وَعدم إِيصَال الكافة إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالثَّالِث مَا نَقله الثِّقَة عَن الثِّقَة كَذَلِك حَتَّى يبلغ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخبر كل وَاحِد مِنْهُم باسم الَّذِي أخبرهُ وَنسبه وَكلهمْ مَعْرُوف الْحَال وَالْعين وَالْعَدَالَة وَالزَّمَان وَالْمَكَان على أَن أَكثر مَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيء فَإِنَّهُ مَنْقُول نقل الكواف إِمَّا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَإِمَّا إِلَى الصاحب وَإِمَّا إِلَى التَّابِع وَإِمَّا إِلَى أَمَام أَخذ عَن التَّابِع يعرف ذَلِك من كَانَ من أهل الْمعرفَة بِهَذَا الشَّأْن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَذَا نقل خص الله تَعَالَى بِهِ المسملين دون سَائِر أهل الْملَل كلهَا وبناه عِنْدهم غضاً جَدِيدا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 قديم الدهور مد أَرْبَعمِائَة عَام وَخمسين عَاما فِي الْمشرق وَالْمغْرب والجنوب وَالشمَال يرحل فِي طلبه من لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا خالقهم إِلَى الْآفَاق الْبَعِيدَة ويواظب على تَقْيِيده من كَانَ النَّاقِد قَرِيبا مِنْهُ قد تولى الله تَعَالَى حفظه عَلَيْهِم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَا تفوتهم ذلة فِي كلمة فَمَا فَوْقهَا فِي شيءٍ من النَّقْل إِن وَقعت لأَحَدهم وَلَا يُمكن فَاسق أَن يقحم فِيهِ كلمة مَوْضُوعَة وَللَّه تَعَالَى الشُّكْر وَهَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الَّتِي نَأْخُذ ديننَا مِنْهَا وَلَا نتعداها إِلَى غَيرهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَالرَّابِع شَيْء نَقله أهل الْمشرق وَالْمغْرب أَو الكافة أَو الْوَاحِد الثِّقَة عَن أمثالهم إِلَى أَن يبلغ من لَيْسَ بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَاحِد فَأكْثر فَسكت ذَلِك المبلوغ إِلَيْهِ عَمَّن أخبرهُ بِتِلْكَ الشَّرِيعَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يعرف من هُوَ فَهَذَا نوع يَأْخُذ بِهِ كثير من الْمُسلمين ولسنا نَأْخُذ بِهِ الْبَتَّةَ وَلَا نضيفه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لم نَعْرِف من حدث بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد يكون غير ثِقَة وَيعلم مِنْهُ غير الَّذِي رُوِيَ عَنهُ مَا لم يعرف مِنْهُ الَّذِي رُوِيَ عَنهُ وَمن هَذَا النَّوْع كثير من نقل الْيَهُود بل هُوَ أَعلَى مَا عِنْدهم إِلَّا أَنهم لَا يقربون فِيهِ من مُوسَى كقربنا فِيهِ من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل يقفون وَلَا بُد حَيْثُ بَينهم وَبَين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَزِيد من ثَلَاثِينَ عصراً فِي أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة عَام وَإِنَّمَا يبلغون بِالنَّقْلِ إِلَى هِلَال وشماني ومرعقيما وأمثالهم وأظن أَن لَهُم مَسْأَلَة وَاحِدَة فَقَط يروونها عَن حبر من أَحْبَارهم عَن نَبِي من متأخري أَنْبِيَائهمْ أَخذهَا عَنهُ مشافهة فِي نِكَاح الرجل ابْنَته إِذا مَاتَ عَنْهَا أَخُوهُ وَأما النَّصَارَى فَلَيْسَ عِنْدهم من صفة هَذَا النَّقْل إِلَّا تَحْرِيم الطَّلَاق وَحده فَقَط على أَن مخرجه من كَذَّاب قد صَحَّ كذبه وَالْخَامِس شَيْء نقل كَمَا ذكرنَا إِمَّا بِنَقْل أهل الْمشرق وَالْمغْرب أَو كَافَّة عَن كَافَّة أَو ثِقَة عَن ثِقَة حَتَّى يبلغ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن فِي الطَّرِيق رجلا مجروحاً بكذب أَو غَفلَة أَو مَجْهُول الْحَال فَهَذَا أَيْضا يَقُول بِهِ بعض الْمُسلمين وَلَا يحل عندنَا القَوْل بِهِ وَلَا تَصْدِيقه وَلَا الْأَخْذ بِشَيْء مِنْهُ وَهَذِه صفة نقل الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا أضافوه إِلَى أَنْبِيَائهمْ لِأَنَّهُ يقطع بِأَنَّهُم كفار بِلَا شكّ وَلَا مرية وَالسَّادِس نقلٌ نقل بِأحد الْوُجُوه الَّتِي قدمنَا إِمَّا بِنَقْل من بَين الْمشرق وَالْمغْرب أَو بالكافة أَو بالثقة عَن الثِّقَة حَتَّى يبلغ ذَلِك إِلَى صَاحب أَو تَابع أَو إِمَام دونهمَا أَنه قَالَ كَذَا أَو حكم بِكَذَا غير مُضَاف ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَفعل أبي بكر فِي سبي أهل الرِّدَّة وكصلاة الْجُمُعَة صدر النَّهَار وكضرب عمر الْخراج وإضعافه الْقيمَة على رَقِيق حَاطِب وَغير ذَلِك كثير جدا فَمن الْمُسلمين من يَأْخُذ بِهَذَا وَمِنْهُم من لَا يَأْخُذ بِهِ وَنحن لَا نَأْخُذ بِهِ أصلا لِأَنَّهُ لَا حجَّة فِي فعل أحد دون من أمرنَا الله تَعَالَى باتباعه وأرسله إِلَيْنَا بِبَيَان دينه وَلَا يَخْلُو فَاضل من وهم وَلَا حجَّة فِيمَن يهم وَلَا يَأْتِي الْوَحْي بِبَيَان وهمه وَهَذَا الصِّنْف من النَّقْل هُوَ صفة جَمِيع نقل الْيَهُود لشرائعهم الَّتِي هم عَلَيْهَا الْآن مِمَّا لَيْسَ فِي التَّوْرَاة وَهُوَ صفة جَمِيع نقل النَّصَارَى حاشى تَحْرِيم الطَّلَاق إِلَّا أَن الْيَهُود لَا يُمكنهُم أَن يبلغُوا فِي ذَلِك إِلَى صَاحب نَبِي أصلا وَلَا إِلَى تَابع لَهُ وَأَعْلَى من يقف عِنْده النَّصَارَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 شَمْعُون ثمَّ بولس ثمَّ أساقفهم عصراً عصراً هَذَا أَمر لَا يقدر أحد مِنْهُم على إِنْكَاره وَلَا إِنْكَار شَيْء مِنْهُ إِلَّا أَن يَدعِي أحد مِنْهُم كذبا عِنْد من يطْمع فِي تجويزه عَلَيْهِ مِمَّن يظنّ بِهِ جهلا بِمَا عِنْده فَقَط وَأما إِذا قررهم على ذَلِك من يَدْرُونَ أَنه يعرف كتبهمْ فَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِنْكَاره اصلاً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنقل الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من إِعْلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالإنذار بالغيوب وشق الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وَالنَّصَارَى إِلَى المباهلة وَجَمِيع الْعَرَب إِلَى الْمَجِيء بِمثل الْقُرْآن وبتوبيخهم بِالْعَجزِ عَنهُ وبتوبيخ الْيَهُود بِأَنَّهُم لَا يتمنون الْمَوْت وقصة الطير الأبابيل ورميها أَصْحَاب الْفِيل بحجارة من سجيل وَكثير من الشَّرَائِع وَكثير من السّنَن فَإِنَّهُ نقل كل ذَلِك الْيَمَانِيّ والمضري والربيعي والقضاعي وَكلهمْ أَعدَاء متباينون متحاربون يقتل بَعضهم بَعْضًا لَيْسَ هُنَاكَ شيءٌ يَدعُوهُم إِلَى الْمُسَامحَة فِي نقلهم لَهُ ثمَّ نَقله عَن هَؤُلَاءِ من بَين الْمشرق وَالْمغْرب وَكَانَت الْعَرَب بِلَا خلاف قوما لقاحاً لَا يملكهم أحد كمضر وَرَبِيعَة وإياد وقضاعة أَو ملوكاً فِي بِلَادهمْ يتوارثون الْملك كَابِرًا عَن كَابر كملوك الْيمن وعمان وَشهر بن بارام ملك صفا وَالْمُنْذر بن سَاوَى ملك الْبَحْرين وَالنَّجَاشِي ملك الْحَبَشَة وجعفر وعياذا بني الجلندي ملكي عمان فانقادوا كلهم لظُهُور الْحق وبهوره وآمنوا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَوْعًا وهم آلَاف آلَاف وصاروا إخْوَة كبني أَب وَأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عَن ملكه مِنْهُم إِلَى رسله طَوْعًا بِلَا خوف غَزْو وَلَا إِعْطَاء مَال وَلَا يطْمع فِي عز بل كلهم أقوى جَيْشًا من جَيْشه وَأكْثر مَالا وسلاحا مِنْهُ وأوسع بَلَدا من بَلَده كذي الكلاع وَكَانَ ملكا متوجاً ابْن مُلُوك متوجين تسْجد لَهُ جَمِيع رَعيته يركب أَمَامه ألف عبد من عبيده سوى بني عَمه من حمير وَذي طليم وَذي زود وَذي مران وَذي عَمْرو وَغَيرهم كلهم مُلُوك متوجون فِي بِلَادهمْ هَذَا كُله أَمر لَا يجهله أحد من حَملَة الْأَخْبَار بل هُوَ مَنْقُول كنقل كَون بِلَادهمْ فِي موَاضعهَا وَهَكَذَا كَانَ إِسْلَام جَمِيع الْعَرَب أَوَّلهمْ كالأوس والخزرج ثمَّ سَائِرهمْ قَبيلَة قَبيلَة لما ثَبت عِنْدهم من آيَاته وبهرهم من معجزاته وَمَا اتبعهُ الْأَوْس والخزرج إِلَّا وَهُوَ فريد طريد قد نابذه قومه حسدا لَهُ إِذا كَانَ فَقِيرا لَا مَال لَهُ يَتِيما لَا أَب وَلَا أَخ وَلَا ابْن أَخ وَلَا ولد أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب نَشأ فِي بِلَاد الْجَهْل يرْعَى غنم قومه بِأُجْرَة يتقوت بهَا فَعلمه الله تَعَالَى الْحِكْمَة دون معلم وَعَصَمَهُ من كل من أَرَادَهُ بِلَا حرس وَلَا حَاجِب وَلَا بواب وَلَا قصر يمْتَنع فِيهِ على كَثْرَة من أَرَادَ قَتله من شجعان الْعَرَب وفتاكهم كعامر بن الطُّفَيْل واربد بن جزءٍ وغورث بن الْحَارِث وَغَيرهم مَعَ إِقْرَار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة وَالْأسود وَهُوَ مكذب لَهُم فَهَل بعد هَذَا برهَان أَو بعد هَذِه الْكِفَايَة من الله تَعَالَى كِفَايَة وَهُوَ لَا يَبْغِي دينا وَلَا يمني بهَا من اتبعهُ بل أنذر الْأَنْصَار بالأثرة عَلَيْهِم بعده وتابعوه على الصَّبْر على ذَلِك قَامَ لَهُ أَصْحَابه على قدم فَمَنعهُمْ وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِم وأعلمهم أَن الْقيام لله تَعَالَى لَا لخلقه وَرَضوا بِالسُّجُود لَهُ فاستعظم ذَلِك وَأنْكرهُ إِلَّا لله وَحده وَلَا شكّ فِي أَن هَذِه لَيست صفة طَالب دنيا قطّ أصلا وَلَا صفة رَاغِب فِي غَلَبَة وَلَا بعد صَوت بل هَذِه حَقِيقَة النُّبُوَّة الْخَالِصَة لمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 كَانَ لَهُ أدنى فهم فَهَذَا هُوَ الْحق لَا مَا تدعيه النَّصَارَى من الْكَذِب البحت فِي أَن الْمُلُوك دخلُوا دينهم طَوْعًا وَقد كذبُوا فِي ذَلِك لِأَن أول ملك تنصر قسطنطين باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد نَحْو ثَلَاثمِائَة عَام من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَأَي معْجزَة صحت عِنْده بعد هَذِه الْمدَّة وَإِنَّمَا نصرته أمه لِأَنَّهَا كَانَت نَصْرَانِيَّة بنت نَصْرَانِيّ تعشقها أَبوهُ فَتَزَوجهَا هَذَا أَمر لَا تناكر بَين النَّصَارَى فِيهِ والنشأة لَا خَفَاء بِمَا تؤثره فِي الْإِنْسَان وَأما من اتبع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم اتَّبعُوهُ إِذْ بَلغهُمْ خَبره فِي حَيَاته عَلَيْهِ السَّلَام للآيات الَّتِي كَانَت لَهُ بِحَضْرَة جَمِيع أَصْحَابه كإعجاز الْقُرْآن وانشقاق الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وإخبارهم بعجزهم عَن ذَلِك وَأَنَّهُمْ لَا يتمنونه أصلا والإنذار بالغيوب ونبعان عين تَبُوك فَهِيَ كَذَلِك إِلَى الْيَوْم ونبعان المَاء من بَين أَصَابِعه بِحَضْرَة الْعَسْكَر وإطعامه النَّفر الْكثير من طَعَام يسير مرَارًا جمة بِحَضْرَة الجموع وإخباره يَأْكُل الأرضة كل مَا فِي الصَّحِيفَة الْمَكْتُوبَة على بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب حاشى أَسمَاء الله تَعَالَى فَقَط وأنظاره بمصارع أهل بدر بِحَضْرَة الْجَيْش موضعا موضعا ولنور الْوَاقِع فِي سَوط الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسي وحنين الْجذع بِحَضْرَة جَمِيعهم وَدفع أَرْبَد عَنهُ قَضَاء غُرَمَاء جَابر من تمر يسير مَشى بجنبه وتزويد عمر وَأَرْبَعمِائَة رَاكب من تمر يسير بَقِي بجنبه ورميه هُوَ إِذن بِتُرَاب عَم عيونهم وَخُرُوجه بِحَضْرَة مائَة من قُرَيْش وهم لَا يرونه وَدخُول الْغَار وهم عَلَيْهِ لَا يرونه وَفتح الْبَاب فِي حجر صلد فِي جنب الْغَار لم يكن فِيهِ قطّ وَلَو كَانَ هُنَالك يَوْمئِذٍ لما أمكنه الاختفاء فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الْبَابَيْنِ إِلَّا أقل من ثَمَانِيَة أَذْرع وَهُوَ ظَاهر إِلَى الْيَوْم كل عَام وكل حِين يزوره أهل الأَرْض من الْمُسلمين وَلَو رام الْبَاب الثَّانِي فِي ذَلِك الْحجر أهل الأَرْض مَا قدرُوا على إزاحته سالما عَن مَكَانَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك الْبَاب هُنَالك يَوْمئِذٍ لرآه الطالبون لَهُ بِلَا مؤونة لأَنهم لم يَكُونُوا إِلَّا جموع قُرَيْش لَعَلَّهُم ميثون كَثِيرَة وآثار رَأسه الْمُقَدّس فِي ذَلِك الْحجر وآثار كَتفيهِ ومعصمه وَظَاهر يَده بَاقٍ إِلَى الْيَوْم فعل الله تَعَالَى مَنْقُول نقل الكواف جيلاً عَن جيل وَرمي الْجمار الَّذِي ترميه مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله تَعَالَى كل عَام ثمَّ لَا يزِيد حجمه فِي ذَلِك الْموضع وَرمى الله تَعَالَى جَيش أَبْرَهَة صَاحب الْفِيل إِذْ غزا مَكَّة عَام مولده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحِجَارَةِ الْمُنكرَة بأيدي طير مُنكرَة وَنزلت فِي ذَلِك سُورَة من الْقُرْآن متلوة إِلَى الْيَوْم وَكَانَ ذَلِك ببركته عَلَيْهِ السَّلَام وإنذاراته وشكوى الْبَعِير إِلَيْهِ وإبراء عَيْني عَليّ من الرمد بِحَضْرَة الْجَمَاعَات فِي سَاعَة وسوخ قَوَائِم فرس سراقَة إِذْ تبعه ودور الشَّاة الَّتِي لَا لبن لَهَا مرَارًا وتسبيح الطَّعَام وَكَلَام الذِّئْب ومجيئه وَقَوله للْحكم إِذْ حُكيَ مشيته كن كَذَلِك فَلم يزل يرتعش إِلَى أَن مَاتَ وعائه للمطر قاتي للْوَقْت وَفِي الصحو فانجلى للْوَقْت وَظُهُور جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مرَّتَيْنِ مرّة فِي صُورَة دحْيَة ثمَّ أَتَى دحْيَة بِحَضْرَة النَّاس وَأُخْرَى فِي صُورَة رجل لم يعرفهُ أحد وَلَا رُؤِيَ بعْدهَا وَقَوله إِذْ خطب بنت ابْن عَوْف بن الْحَارِث ابْن عَوْف بن أبي حارسة الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ أَبوهَا أَن بهَا بَيَاضًا فَقَالَ لتكن كَذَلِك فبرصت فِي الْوَقْت وَهِي أم شبيب بن البرصاء الشَّاعِر الْمَشْهُور غير هَذَا كثير جدا مَعَ مَا ذكرنَا من أَن أول من تنصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 من الْمُلُوك قسطنطين بعد نَحْو ثَلَاثمِائَة سنة من رفع الْمَسِيح فو الله مَا قدر على إِظْهَار النصراينة حَتَّى رَحل عَن رُومِية مسيرَة شهر وَبني برنطية وَهِي قسطنطينية ثمَّ أجبر النَّاس على النصراينة بِالسَّيْفِ وَالعطَاء وَكَانَ من عهوده المحفوظة أَن لَا يولي ولَايَة إِلَّا من تنصر من النَّاس سراع إِلَى الدُّنْيَا نافرون عَن الْأَدْنَى وَكَانَ مَعَ هَذَا كُله على مَذْهَب أريوس لَا على التَّثْلِيث وَلَكِن هَذَا من دَعْوَى النَّصَارَى وكذبهم مُضَاف إِلَى مَا يَدعُونَهُ من أَنهم بعد هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة وَبعد خراب بَيت الْمُقَدّس مرّة بعد أُخْرَى وبقائه خراباً لَا سَاكن فِيهِ نَحْو مِائَتي عَام وَسبعين عَاما وجدوا الشوك وضع الَّذِي على رَأس الْمَسِيح بزعمهم والمسامير الَّتِي ضربت فِي يَدَيْهِ وَالدَّم الَّذِي طَار من جنبه والخشبة الَّتِي صلب عَلَيْهَا فَلَا أَدْرِي مِمَّن الْعجب أممن اخترع مثل هَذِه الكذبة الغثة المفضوحة أم مِمَّن قبلهَا وَصدق بهَا ودان باعتقادها وصلب وَجهه للْحَدِيث بهَا لَيْت شعري أَيْن بَقِي ذَلِك الشوك وَذَلِكَ الدله سَالِمين وَتلك المسامير وَتلك الْخَشَبَة طول تِلْكَ الْمدَّة وَأهل ذَلِك مطرودون مقتولون كَقَتل من تستر بالزندقة الْيَوْم وَتلك الْمَدِينَة خراب الدهور الطوَال لَا يسكنهَا أحد إِلَّا السبَاع والوحش وَقد شاهدنا ملوكاً جلت لَهُم الأتباع ولأولاد الشيع والأقارب صلبوا فَمَا مَضَت مُدَّة يسيرَة حَتَّى لم يبْقى لتِلْك الْخشب أثر فَكيف أَمر لَا طَالب لَهُ وبدول قد انْقَطَعت وبلاد قد أقفرت وخلت ونسيت أَخْبَارهَا وَهَذِه الْبردَة الَّتِي كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقصعة وَالسيف على أَن الدولة مُتَّصِلَة لم تتخرم مُنْذُ حِينَئِذٍ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قد دخلت الدَّاخِلَة فِي الْقَصعَة وَالسيف حَتَّى لَا يَقِين عندنَا مِنْهُمَا الْيَوْم وَلَوْلَا تداول الْخُلَفَاء للباس الْبردَة أبدا الآبد فينقل أمرهَا جيلاً بعد جيل والمنبر كَذَلِك لما قَطعنَا عَلَيْهِمَا وَلَكِن التداول لَهما أمة بعد أمة وهما قائمان ظاهران للنَّاس هُوَ أوجب الْيَقِين بهما وَرفع الشَّك فيهمَا وَكَذَلِكَ كل مَا جرى هَذَا المجرى ثمَّ لم يلبث دين النَّصَارَى أَن مَاتَ قسطنطين أول من تنصر من مُلُوك الدُّنْيَا ثمَّ مَاتَ ابْنه قسطنطين وَولي ملك تِلْكَ النصراينة وَرجع إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ ولي رجل من أقَارِب قسطنطين فَرجع إِلَى النصراينة وَأما ديانَة الْيَهُود فَمَا صفت فِيهَا نَبَات بني إِسْرَائِيل ومُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيّ بَين أظهرهم وَمَا زَالُوا مائلين إِلَى إِظْهَار عبَادَة الْأَوْثَان ثمَّ تكذيبهم كلهم بالشريعة الَّتِي أَتَاهُم بهَا بعد مَوته عَلَيْهِ السَّلَام طبقَة بعد طبقَة إِلَى انْقِطَاع دولتهم فَكيف إِن يتبعهُ غَيرهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ لمن تدبره حسي لَا محيد عَنهُ وَهُوَ أَنه لَا خلاف بَين أحد من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْملَل فِي أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا بِمصْر فِي أَشد عَذَاب يُمكن أَن يكون من ذبح أَوْلَادهم تسخيرهم فِي عمل الطوب بِالضَّرْبِ الْعَظِيم والذل الَّذِي لَا يصبر عَلَيْهِ كلب مُطلق فَأَتَاهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَدعُوهُم إِلَى فِرَاق هَذَا الْأسر الَّذِي قتل النَّفس أخف مِنْهُ وَإِلَى الْحُرِّيَّة وَالْملك وَالْغَلَبَة والأمن مَضْمُون مِمَّن هُوَ فِي أقل من تِلْكَ الْحَال أَن يُسَارع إِلَى كل من يطْمع على يَدَيْهِ بالفرج وَأَن يستجيب لَهُ إِلَى كل مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَإِن أَكثر من فِي هَذَا الْبلَاء يستخير عبَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 من أخرجه مِنْهُ لَا سِيمَا إِلَى الْعِزّ وَالْحُرْمَة وَكَانُوا أَيْضا أهل عَسْكَر مُجْتَمع وَبني عمر يُمكنهُم التواطؤ ثمَّ كَانُوا أهل بلد صَغِير جدا قد تكنفهم الْأَعْدَاء من كل جَانب وَأما عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا اتبعهُ إِلَّا نَحْو اثْنَي عشر رجلا معروفين وَنسَاء قَلِيل وَعدد لَا يبلغ جَمِيعهم وَفِي جُمْلَتهمْ الاثنا عشر إِلَّا مائَة وَعشْرين فَقَط هَكَذَا فِي نَص إنجيلهم وَكَانُوا مشردين مطرودين غير ظَاهِرين وَلَا يقوم بِمثل هَؤُلَاءِ ضَرُورَة يَقِين الْعلم وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يخْتَلف أحد فِي مشرق الأَرْض وغربها أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى إِلَى قوم لقاح لَا يقرونَ بِملك وَلَا يطيعون لأحد وَلَا ينقادون لرئيس نَشأ على هَذَا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم مُنْذُ أُلُوف من الأعوام قد سرى الْفَخر والعز والنخوة وَالْكبر وَالظُّلم والأنفة فِي طباعهم وهم أعداد عَظِيمَة قد ملؤا جَزِيرَة الْعَرَب وَهِي نَحْو شَهْرَيْن فِي شَهْرَيْن قد صَارَت طباعهم طباع السبَاع وهم أُلُوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بَعضهم لبَعض أبدا فَدَعَاهُمْ بِلَا مَال وَلَا اتِّبَاع بل خذله قومه إِلَى أَن ينحطوا من ذَلِك الْعِزّ إِلَى غرم الزَّكَاة وَمن الْحُرِّيَّة وَالظُّلم إِلَى جري الْأَحْكَام عَلَيْهِم وَمن طول الْأَيْدِي بقتل من أَحبُّوا وَأخذ مَال من أَحبُّوا إِلَى الْقصاص من النَّفس وَمن قطع الْأَعْضَاء وَمن اللَّطْمَة من أجل من فيهم لأَقل علج غَرِيب دخل فيهم وَإِلَى إِسْقَاط الأنفة وَالْفَخْر إِلَى ضرب الظُّهُور بالسياط أَو بالنعال إِن شربوا خمرًا أَو قذفوا إنْسَانا وَإِلَى الضَّرْب بِالسَّوْطِ وَالرَّجم بِالْحِجَارَةِ إِلَى أَن يموتوا إِن زنوا فانقاد أَكْثَرهم لكل ذَلِك طَوْعًا بِلَا طمع وَلَا غَلَبَة وَلَا خوف مَا مِنْهُم أحد أَخذ بِغَلَبَة إِلَّا مَكَّة وخيبر فَقَط وَمَا غزا قطّ غَزْوَة يُقَاتل فِيهَا إِلَّا تسع غزوات بَعْضهَا عَلَيْهِ وَبَعضهَا لَهُ فصح ضَرُورَة أَنهم إِنَّمَا آمنُوا بِهِ طَوْعًا لَا كرها وتبدلت طبعائهم بقدرة الله تَعَالَى من الظُّلم إِلَى الْعدْل وَمن الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الْفسق وَالْقَسْوَة إِلَى الْعدْل الْعَظِيم الَّذِي لم يبلغهُ أكَابِر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم طلب الثأر وَصَحب الرجل مِنْهُم قَاتل ابْنه وَأَبِيهِ وأعدى النَّاس لَهُ صُحْبَة الْأُخوة المتحابين دون خوف يجمعهُمْ وَلَا رياسة ينفردون بهَا دون من أسلم من غَيرهم وَلَا مَال يتعجلونه فقد علم النَّاس كَيفَ كَانَت سيرة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَيف كَانَت طَاعَة الْعَرَب لَهما بِلَا رزق وَلَا عَطاء وَلَا غَلَبَة فَهَل هَذَا إِلَّا بِغَلَبَة من الله تَعَالَى على نُفُوسهم وقره عز وَجل لطباعهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم} ثمَّ بَقِي عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك بَين أظهرهم بِلَا حارس وَلَا ديوَان جند وَلَا بَيت مَال محروساً مَعْصُوما وَهَكَذَا نقلت آيَاته ومعجزاته فَإِنَّمَا يَصح من أَعْلَام الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين مَا نقل عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِصِحَّة الطَّرِيق إِلَيْهِ وارتفاع دواعي الْكَذِب والعصبية جملَة عَن اتِّبَاعه فِيهِ فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنهم بدنيا وَلَا وعدهم بِملك وَهَذَا لَا يُنكره أحد من النَّاس وَأَيْضًا فَإِن سيرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن تدبرها تَقْتَضِي تَصْدِيقه ضَرُورَة وَتشهد لَهُ بِأَنَّهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا فَلَو لم تكن لَهُ معْجزَة غير سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكفى وَذَلِكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَشأ كَمَا قُلْنَا فِي بِلَاد الْجَهْل لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلَا خرج عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 تِلْكَ الْبِلَاد قطّ إِلَّا خرجتين أَحدهمَا إِلَى الشَّام وَهُوَ صبي مَعَ عَمه إِلَى أول أَرض الشَّام وَرجع وَالْأُخْرَى أَيْضا إِلَى أول الشَّام وَلم يطلّ بهَا الْبَقَاء وَلَا فَارق قومه قطّ ثمَّ أوطأ الله تَعَالَى رِقَاب الْعَرَب كلهَا فَلم تغير نَفسه وَلَا حَالَتْ سيرته إِلَى أَن مَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة فِي شعير لقوت أَهله أصواع لَيست بالكثيرة وَلم يبت قطّ فِي ملكه دِينَار وَلَا دِرْهَم وَكَانَ يَأْكُل على الأَرْض مَا وجد ويخصف نَعله بِيَدِهِ ويرقع ثَوْبه ويؤثر على نَفسه وَقتل رجل من أفاضل أَصْحَابه مثل فَقده يهد عَسْكَر اقْتُل بَين أظهر أعدائه من الْيَهُود فَلم يتسبب إِلَى أَذَى أعدائه بذلك إِذْ لم يُوجب الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك وَلَا توصل بذلك إِلَى دِمَائِهِمْ وَلَا إِلَى ذمّ وَاحِد مِنْهُم وَلَا إِلَى أَمْوَالهم بل فدَاه من عِنْد نَفسه بِمِائَة نَاقَة وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال مُحْتَاج إِلَى بعير وَاحِد يتقوى بِهِ وَهَذَا أَمر لَا تسمح بِهِ نفس ملك من مُلُوك الأَرْض وَأهل الدُّنْيَا من أَصْحَاب بيُوت الْأَمْوَال بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَيْضا ظَاهر السِّيرَة والسياسة فصح يَقِينا بِلَا شكّ أَنه إِنَّمَا كَانَ مُتبعا مَا أَمر بِهِ ربه عز وَجل كَانَ ذَلِك مضراً بِهِ فِي دُنْيَاهُ غَايَة الْإِضْرَار أَو كَانَ غير مُضر بِهِ وَهَذَا عجب لمن تدبره ثمَّ حَضرته الْمنية وأيقن بِالْمَوْتِ وَله عَم أَخُو أَبِيه هُوَ أحب النَّاس إِلَيْهِ وَابْن عَم هُوَ من أخص النَّاس بِهِ وَهُوَ أَيْضا زوج ابْنَته الَّتِي لَا ولد لَهُ غَيرهَا وَله مِنْهَا أبان ذكران وكلا الرجلَيْن الْمَذْكُورين عَمه وَابْن عَمه عِنْده من الْفضل وَالدّين والسياسة فِي الدُّنْيَا والبأس والحلم وخلال الْخَيْر مَا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقا بسياسة الْعَالم كُله فَلم يحابهما وهما من أَشد النَّاس عناء عَنهُ ومحبة فِيهِ وَهُوَ من أحب النَّاس فيهمَا إِذْ كَانَ غَيرهمَا مُتَقَدما لَهما فِي الْفضل وَإِن كَانَا بعيد النّسَب مِنْهُ بل فوض الْأَمر إِلَيْهِ قَاصِدا إِلَى مر الْحق وَاتِّبَاع مَا أَمر بِهِ وَلم يُورث ورثته ابْنَته ونساءه وَعَمه فلسًا فَمَا فَوْقه وهم كلهم أحب النَّاس إِلَيْهِ وأطوعهم لَهُ وَهَذِه أُمُور لمن تأملها كَافِيَة مغنية فِي أَنه إِنَّمَا تصرف بِأَمْر الله تَعَالَى لَا بسياسة وَلَا بهوى فوضح بِمَا ذكرنَا وَالله الْحَمد كثيرا أَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق وَأَن شَرِيعَته الَّتِي أَتَى بهَا هِيَ الَّتِي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إِلَى تصديقها وَالْقطع على أَنَّهَا الْحق الَّذِي لَا حق سواهُ وَأَنَّهَا دين الله تَعَالَى الَّذِي لَا دين لَهُ فِي الْعَالم غَيره وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عدد خلقه ورضاء نَفسه وزنة عَرْشه ومداد كَلِمَاته على مَا وفقنا إِلَيْهِ من الْملَّة الإسلامية ثمَّ على مَا يسرنَا عَلَيْهِ من النحلة الجماعية السّنيَّة ثمَّ على مَا هدَانَا لَهُ من التدين وَالْعَمَل بِظَاهِر الْقُرْآن وبظاهر السّنَن الثَّابِتَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن باعثه عز وَجل وَلم يجعلنا مِمَّن يُقَلّد أسلافه وأحباره دون برهَان قَاطع وَحجَّة قاهرة وَلَا مِمَّن يتبع الْأَهْوَاء المضلة الْمُخَالفَة لقَوْله وَقَول نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا مِمَّن يحكم بِرَأْيهِ وظنه دون هدى من الله وَرَسُوله اللَّهُمَّ كَمَا ابتدأتنا بِهَذِهِ النِّعْمَة الجليلة فأتمها علينا وأصحابنا إِيَّاهَا وَلَا تخَالف بهَا عَنَّا حَتَّى تقبضنا إِلَيْك وَنحن متمسكون بهَا فنلقاك بهَا غير مبدلين وَلَا مغيرين اللَّهُمَّ آمين رب الْعَالمين وصل اللَّهُمَّ على مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك وخليلك وَخَاتم أنبيائك خَاصَّة وعَلى أنبيائك عَامَّة وعَلى ملائكتك كَافَّة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ذكر فُصُول يعْتَرض بهَا جهلة الْمُلْحِدِينَ على ضعفة الْمُسلمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّا لما تدبرنا أَمر طائفتين مِمَّن شاهدنا فِي زَمَاننَا هَذَا ووجدناهما قد تفاقم الدَّاء بهما فَأَما إِحْدَاهمَا فقد جلت الْمُصِيبَة فِيهَا وَبهَا وهم قوم افتتحوا عنفوان فهمهم وابتدؤا دُخُولهمْ إِلَى المعارف بِطَلَب علم الْعدَد وابروته وطبائعه ثمَّ تدرجوا إِلَى تَعْدِيل الْكَوَاكِب وهيئة الأفلاك وَكَيْفِيَّة قطع الشَّمْس وَالْقَمَر والدراري الْخَمْسَة وتقاطع فلكي النيرين وَالْكَلَام فِي الأجرام العلوية وَفِي الْكَوَاكِب الثَّابِتَة وانتقالها وإبعاد كل ذَلِك وإعظامه وَفِيمَا دون ذَلِك من الطَّيِّبَات وعوارض الجو ومطالعة شَيْء من كتب الْأَوَائِل وحدودها الَّتِي نصبت فِي الْكَلَام وَمَا مازج بعض مَا ذكرنَا من آراء الفلاسفة فِي الْقَضَاء بالنجوم وَأَنَّهَا ناطقة مُدبرَة وَكَذَلِكَ الْفلك فَأَشْرَفت هَذِه الطَّائِفَة من أَكْثَرهَا مَا طالعت مِمَّا ذكرنَا على أَشْيَاء صِحَاح براهينها ضَرُورِيَّة لائحة وَلم يكن مَعهَا من قُوَّة الْمِنَّة وجودة القريحة وصفاء النّظر مَا تعلم بِهِ إِن من أصَاب فِي عشرَة آلَاف مَسْأَلَة مثلا فَجَائِز أَن يُخطئ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لَعَلَّهَا أسهل من الْمسَائِل الَّتِي أصَاب فِيهَا فَلم تفرق هَذِه الطَّائِفَة بَين مَا صَحَّ مِمَّا طلعوه بِحجَّة برهانية وَبَين مَا فِي أثْنَاء ذَلِك وتضاعيفه مِمَّا لم يَأْتِ عَلَيْهِ من ذكره من الْأَوَائِل إِلَّا بإقناع أَو بشغب وَرُبمَا بتقليد لَيْسَ مَعَه شَيْء مِمَّا ذكرنَا فحملوا كل مَا أشرفوا عَلَيْهِ محملًا وَاحِدًا وقبلوه قبولاً مستويا فسرى فيهم الْعجب وتداخلهم الزهو وظنوا أَنهم قد حصلوا على مباينة الْعَالم فِي ذَلِك وللشيطان موالج خُفْيَة ومداخل لَطِيفَة كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فتوصل إِلَيْهِم من بَاب غامض نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهُوَ أَنهم كَمَا ذكرنَا أصفار من كل شَيْء من عُلُوم الدّيانَة الَّتِي هِيَ الْغَرَض الْمَقْصُود من من كل ذِي لب بدوي وَالَّتِي هِيَ نتيجة الْعُلُوم الَّتِي طالعوا لَو عقلوا سبلها ومقاصدها فَلم يعبؤا بِآيَة من كتاب الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ جَامع علو الْأَوَّلين والآخرين وَالَّذِي لم يفرط فِيهِ من شَيْء وَالَّذِي من فهمه كَفاهُ وَلَا بِسنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي هِيَ بَيَان الْحق وَنور الْأَلْبَاب وَلم تلق هَذِه الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة من حَملَة الدّين إِلَّا أَقْوَامًا لَا عناية عِنْدهم بِشَيْء مِمَّا قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا عنيت من الشَّرِيعَة بِأحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا بِأَلْفَاظ ينقلون ظَاهرهَا وَلَا يعْرفُونَ مَعَانِيهَا وَلَا يهتمون بفهمها وَإِمَّا بمسائل من الْأَحْكَام لَا يشتغلون بديلها ومنبعثها وَإِنَّمَا حسبهم مِنْهَا مَا أَقَامُوا بِهِ جاههم وحالهم وَأما بخرافات منقولة عَن كل ضَعِيف وَكَذَّاب وساقط لم يهتموا قطّ بِمَعْرِِفَة صَحِيح مِنْهَا من سقيم وَلَا مُرْسل من مُسْند وَلَا مَا نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا نقل عَن كَعْب الْأَحْبَار أَو وهب بن مُنَبّه عَن أهل الْكتاب فَنَظَرت الطَّائِفَة الأولى من هَذِه الْآخِرَة بِعَين الاستهجان والاحتقار والاستهجان فَتمكن الشَّيْطَان مِنْهُم وَحل فيهم حَيْثُ أحب فهلكوا وَضَلُّوا واعتقدوا أَن دين الله تَعَالَى لَا يَصح مِنْهُ شَيْء وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل فاعتقدوا أَكْثَرهم الْإِلْحَاد والتطعيل وسلك بَعضهم طَرِيق الاستخفاف والإهمال وإطراح ثقل الشَّرَائِع وَاسْتِعْمَال الْفَرَائِض والعبادات وآثروا الراحات وركوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 اللَّذَّات من أَنْوَاع الْفَوَاحِش الْمُحرمَات من الْخُمُور وَالزِّنَا واللواطة والبغاء وَترك الصَّلَوَات وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَالْحج وَالْغسْل وقصدوا كسب المَال كَيفَ تيَسّر وظلم الْعباد وَاسْتِعْمَال الأهزال وَترك الْجد وَالتَّحْقِيق وَتَدين الْأَقَل مِنْهُم بتعظيم الْكَوَاكِب فأسفت نفس الْمُسلم الناصح لهَذِهِ الْملَّة وَأَهْلهَا على هَلَاك هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين وخروجهم عَن جملَة الْمُؤمنِينَ بعد أَن غذوا بلبان الْإِسْلَام ونشؤا فِي حجور أَهله نسْأَل الله الْعِصْمَة من الضلال لنا ولأبنائنا وَلكُل إِخْوَاننَا من الْمُسلمين ونسأله تدارك من زلت قدمه وهوت نَقله أَنه على كل شَيْء قدير وَأما الطَّائِفَة الثَّانِيَة فهم قوم ابتدؤا الطّلب لحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزِيدُوا على طلب علو الْإِسْنَاد وَجمع الغرائب دون أَن يهتموا بِشَيْء مِمَّا كتبُوا أَو يعملوا بِهِ وَإِنَّمَا تَحملُوهُ حملا لَا يزِيدُونَ على قِرَاءَته دون تدبر مَعَانِيه وَدون أَن يعلمُوا أَنهم المخاطبون بِهِ وَأَنه لم يَأْتِ هملاً وَلَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبَثا بل أمرنَا بالتفقه فِيهِ وَالْعَمَل بِهِ بل أَكثر هَذِه الطَّائِفَة لَا يعْمل عِنْدهم إِلَّا مَا جَاءَ من طَرِيق مقَاتل بن سُلَيْمَان وَالضَّحَّاك بن مُزَاحم وَتَفْسِير الْكَلْبِيّ وَتلك الطَّبَقَة وَكتب البذي الَّتِي إِنَّمَا هِيَ خرافات مَوْضُوعَات وأكذوبات مفتعلات وَلَدهَا الزَّنَادِقَة تدليساً على الْإِسْلَام وَأَهله فأطلقت هَذِه الطَّائِفَة كل اخْتِلَاط لَا يَصح من أَن الأَرْض على حوت والحوت على قرن ثَوْر والثور على صَخْرَة والصخرة على عاتق ملك وَالْملك على الظلمَة والظلمة على مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل وَهَذَا يُوجب أَن جرم الْعَالم غير متناه وَهَذَا هُوَ الْكفْر بِعَيْنِه فنافرت هَذِه الطَّبَقَة الَّتِي ذكرنَا كل برهَان وَلم يكن عِنْدهَا أَكثر من قَوْلهم نهينَا عَن الْجِدَال فليت شعري من نَهَاهُم عَنهُ وَالله عز وَجل يَقُول فِي كِتَابه الْمنزل على نبيه الْمُرْسل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَأخْبر تَعَالَى عَن قوم نوح أَنهم قَالُوا {يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا} وَقد نَص تَعَالَى فِي غير مَوضِع من كِتَابه على أصُول الْبَرَاهِين وَقد نبهنا عَلَيْهَا فِي غير مَا مَوضِع من كتَابنَا هَذَا وحض تَعَالَى على التفكير فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا يَصح الِاعْتِبَار فِي خلقهما إِلَّا بِمَعْرِِفَة هيآتهما وانتقال الْكَوَاكِب فِي أفلاكهما وَاخْتِلَاف حركاتها فِي التَّغْرِيب والتشريق وأفلاك تداويرها وتعارض تِلْكَ الأدوار على رُتْبَة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ معرفَة الدَّوَائِر والمنطقة والميل والاستواء وَكَذَلِكَ معرفَة الطبائع وامتزاج العناصر الْأَرْبَعَة وعوارضها وتركيب أَعْضَاء الْحَيَوَان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه واتصال أَعْضَائِهِ بَعْضهَا بِبَعْض وَقواهُ المركبة فَمن أشرف على ذَلِك وَعلمه رَأْي عَظِيم الْقُدْرَة وتيقن أَن كل ذَلِك صَنْعَة ظَاهِرَة وَإِرَادَة خَالق مُخْتَار لِأَن اخْتِلَاف تِلْكَ الحركات يضْطَر إِلَى الْمعرفَة بِأَن شَيْئا مِنْهَا لَا يقوم بِنَفسِهِ دون مُمْسك مُدبر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَا خَالق سواهُ وَلَا مُدبر حاشاه وَلَا فَاعل مخترع إِلَّا هُوَ ثمَّ زَاد قوم مِنْهُم فَأتوا بالأفيكة الَّتِي تقشعر مِنْهَا الذوائب وَهِي إِن أطْلقُوا أَن الدّين لَا يُؤْخَذ بِحجَّة فأقروا عُيُون الْمُلْحِدِينَ وشهدوا أَن الدّين لَا يثبت إِلَّا بالدعاوى وَالْغَلَبَة وَهَذَا خلاف قَوْله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَوله تَعَالَى {فانفذوا لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} هَذَا قَول الله عز وَجل وَمَا جَاءَ بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَسلم وَفِي ذَلِك الْكِفَايَة والغنا عَن قَول كل قَائِل بعده وَقد حَاج ابْن عَبَّاس الْخَوَارِج وَمَا علمنَا أحدا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم نهى عَن الِاحْتِجَاج فَلَا معنى لرأي من جَاءَ بعدهمْ فَكَانَ كَلَام هَذِه الطَّائِفَة مغرياً للطائفة الأولى بكفرها ومغطا لَهُم لشركهم إِذْ لم يرَوا فِي خصومهم فِي الْأَغْلَب إِلَّا من هَذِه صفته ثمَّ زَادَت هَذِه الطَّائِفَة الثَّانِيَة غلواً فِي الْجُنُون فعابوا كتبنَا لَا علم لَهُم بهَا وَلَا طالعوها وَلَا رَأَوْا مِنْهَا كلمة وَلَا قراؤها وَلَا أخْبرهُم عَن مَا فِيهَا ثِقَة كالكتب الَّتِي فِيهَا هَيْئَة الأفلاك ومجاري النُّجُوم والكتب الَّتِي جمعهَا أرسطاطاليس فِي حُدُود الْكَلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْكتب كلهَا كتب سَالِمَة مفيدة دَالَّة على تَوْحِيد الله عز وَجل وَقدرته عَظِيمَة الْمَنْفَعَة فِي انتقاد جَمِيع الْعُلُوم وَعظم مَنْفَعَة الْكتب الَّتِي ذكرنَا فِي الْحُدُود فَفِي مسَائِل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بهَا يعْتَرف كَيفَ التَّوَصُّل إِلَى الاستنباط وَكَيف تُؤْخَذ الْأَلْفَاظ على مقتضاها وَكَيف يعرف الْخَاص من الْعَام والمجمل من الْمُفَسّر وَبِنَاء الْأَلْفَاظ بَعْضهَا على بعض وَكَيف تَقْدِيم الْمُقدمَات وإنتاج النتائج وَمَا يَصح من ذَلِك صِحَة ضَرُورِيَّة أبدا وَمَا يَصح مرّة وَمَا يبطل أُخْرَى وَمَا لَا يَصح الْبَتَّةَ وَضرب الْحُدُود الَّتِي من شَذَّ عَنْهَا كَانَ خَارِجا عَن أَصله وَدَلِيل الْخطاب وَدَلِيل الاستقراء وَغير ذَلِك مِمَّا لَا غناء بالفقيه الْمُجْتَهد لنَفسِهِ وَلأَهل مِلَّته عَنهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَمَّا رَأينَا عَظِيم المحنة فِيمَا تولد فِي الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرنَا رَأينَا من عَظِيم الْأجر وَأفضل الْعَمَل بَيَان هَذَا الْبَاب الْمُشكل بحول الله تَعَالَى وَقدرته وتأييده فَنَقُول وَبِه عز وَجل نتأيد ونستعين إِن كل مَا صَحَّ ببرهان أَي شَيْء كَانَ فَهُوَ فِي الْقُرْآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْصُوص مسطور يُعلمهُ كل من أحكم النّظر وأيده الله تَعَالَى بفهم وَأما كل مَا عدا ذَلِك مِمَّا لَا يَصح ببرهان وَإِنَّمَا هُوَ إقناع أَو شغب فالقرآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ خاليان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد ومعاذ الله أَن يَأْتِي كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَلَام نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يُبطلهُ عيان أَو برهَان إِنَّمَا ينْسب هَذَا إِلَى الْقُرْآن وَالسّنة من لَا يُؤمن بهما وَيسْعَى فِي إبطالهما {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ولسنا من تَفْسِير الْكَلْبِيّ الْكذَّاب وَمن جرى مجْرَاه فِي شَيْء وَلَا نَحن من نقل المتهمين فِي شَأْن إِنَّمَا نحتج بِمَا نَقله الْأَئِمَّة الثقاة الْأَثْبَات من رُؤَسَاء الْمُحدثين مُسْندًا فَمن فتش الحَدِيث الصَّحِيح وجد فِيهِ كل مَا قُلْنَاهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِنَّمَا الْبَاطِل مَا ادَّعَتْهُ الطَّائِفَة الأولى من نطق الْكَوَاكِب وتدبيرها وَهَذَا كفر لَا حجَّة عِنْدهم على مَا قَالُوهُ مِنْهُ أَكثر من أَن المحتج لَهُم قَالَ لما كُنَّا نعقل وَكَانَت الْكَوَاكِب تدبرنا كَانَت أولى بِالْعقلِ منا وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْكَوَاكِب وَإِن كَانَ لَهَا تَأْثِير فِي الْعَالم ظَاهر فَلَيْسَ تأثيرها تَأْثِير ملك وَاخْتِيَار يدل على ذَلِك مَا قد ذَكرْنَاهُ فِي كتَابنَا هَذَا من الدَّلَائِل على أَن الْكَوَاكِب مضطرة لَا مختارة وَإِنَّمَا تأثيرها كتأثير النَّار بالإحراق وَالْمَاء بالتبريد والسم بإفساد المزاج وَالطَّعَام بالتغذية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 والفلفل بحذو الْإِنْسَان والإهليلج بِالْقَبْضِ للفم وَمَا جرى هَكَذَا من سَائِر مَا فِي الْعَالم وكل ذَلِك غير نَاطِق وَالْكَوَاكِب والأفلاك جَارِيَة هَذَا المجرى لِأَن تأثيرها وَاحِد لَا يخْتَلف وحركتها حَرَكَة وَاحِدَة لَا تخْتَلف وَلَيْسَ كَذَلِك المختارة وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم وَقد عارضته بِهَذَا أَن الْمُخْتَار الْفَاضِل يلْزم أفضل الحركات فَلَا يتعداها وَتلك الْحَرَكَة الدورية هِيَ أفضل الحركات فَقلت لَهُ وَمَا دليلك على أَن تِلْكَ الْحَرَكَة أفضل الحركات وَمن أَيْن صَارَت الْحَرَكَة من شَرق إِلَى غرب أَو من غرب إِلَى شَرق أفضل من الْحَرَكَة من جنوب إِلَى شمال وَمن شمال إِلَى جنوب وَكَيف يكون عنْدكُمْ أفضل الحركات والأفلاك الثَّمَانِية تنْتَقل من غرب إِلَى شَرق وَالتَّاسِع من شَرق إِلَى غرب فَأَي هَاتين الحركتين قُلْتُمْ أَنَّهَا أفضل عنْدكُمْ وَقد اختا الآخر الْحَرَكَة الَّتِي لَيست أفضل فَظهر فَسَاد هَذَا القَوْل بِيَقِين وَهَذِه دعاوي مُجَرّدَة بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فقد سقط وَلَا فرق بَيْنك وَبَين من قَالَ بل الْحَرَكَة علو أفضل أَو على خطّ مُسْتَقِيم سائرة وراجعة وَنحن نجد تِلْكَ الأجرام تسفل فِي بعض ممراتها وتشرف فِي بعض وَتسقط فِي بعض على قَوْلكُم وتوافق بزعمكم بِروح نحس مظْلمَة وَأُخْرَى نيرة سعيدة وَبَعض الأفلاك يقطع من غرب إِلَى شَرق وَهُوَ حَرَكَة جَمِيعهَا إِلَّا الْأَعْلَى مِنْهَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّك من شَرق إِلَى غرب فَلَيْسَتْ هَذِه أفضل الحركات فَبَطل قَوْلهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ مَا ذكره من ذكر ذَلِك مِنْهُم من الكرور عِنْد انْتِهَاء آلَاف من الأعوام ذكروها وانتصاب الْكَوَاكِب الثَّابِتَة على نصبٍ مَا من قطعهَا لفلكها فَهَذَا أَيْضا كذب مُجَرّد وَدَعوى سَاقِطَة لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا يعجز عَن مثلهَا أحد وَلم يَأْتُوا على شيءٍ من ذَلِك بشغب وَلَا بإقناع فَكيف ببرهان وَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد لبَعض قدماء الصائبين فَمثل هَذِه الحماقات والخرافات هِيَ الَّذِي دَفعته الشَّرِيعَة الإسلامية وأبطلته وَأما مَا قَامَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين فَهُوَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة مَوْجُود نَصه واستدلالاً ضَرُورِيًّا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين مطلب بَيَان كروية الأَرْض قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حِين نَأْخُذ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ذكر بعض مَا اعْترضُوا بِهِ وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الْبَرَاهِين قد صحت بِأَن الأَرْض كروية والعامة تَقول غير ذَلِك وجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين الْمُسْتَحقّين لاسم الْإِمَامَة بِالْعلمِ رَضِي الله عَنْهُم لم ينكروا تكوير الأَرْض وَلَا يحفظ لأحد مِنْهُم فِي دَفعه كلمة بل الْبَرَاهِين من الْقُرْآن وَالسّنة قد جَاءَت بتكويرها قَالَ الله عز وَجل {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} وَهَذَا أوضح بَيَان فِي تكوير بَعْضهَا على بعض مَأْخُوذ من كور الْعِمَامَة وَهُوَ إدارتها وَهَذَا نَص على تكوير الأَرْض ودوران الشَّمْس كَذَلِك وَهِي الَّتِي مِنْهَا يكون ضوء النَّهَار بإشراقها وظلمة اللَّيْل بمغيبها وَهِي آيَة النَّهَار بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة} فَيُقَال لمن أنكر مَا جهل من ذَلِك من الْعَامَّة ألبس إِنَّمَا افْترض الله عز وَجل علينا أَن نصلي الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس فَلَا بُد من نعم فَيسْأَلُونَ عَن معنى زَوَال الشَّمْس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فَلَا بُد من أَنه إِنَّمَا هُوَ انْتِقَال الشَّمْس عَن مُقَابلَة من قَابل بِوَجْهِهِ القرص واستقبل بِوَجْهِهِ وَأَنْفه وسط الْمسَافَة الَّتِي بَين مَوضِع طُلُوع الشَّمْس وَبَين مَوضِع غُرُوبهَا فِي كل زمَان وكل مَكَان وَأَخذهَا إِلَى جِهَة حَاجِبه الَّذِي يَلِي مَوضِع غرُوب الشَّمْس وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي أول النّصْف الثَّانِي من النَّهَار وَقد علمنَا أَن المداين من معمور الأَرْض آخذة على أديمها من مشرق إِلَى مغرب وَمن جنوب إِلَى شمال فَيلْزم من قَالَ أَن الأَرْض منتصبة إِلَّا على غير مكورة أَن كل من كَانَ سَاكِنا فِي أول الْمشرق أَن يُصَلِّي الظّهْر فِي أول النَّهَار ضَرُورَة وَلَا بُد إِثْر صَلَاة الصُّبْح بِيَسِير لِأَن الشَّمْس بِلَا شكّ تَزُول عَن مُقَابلَة مَا بَين حاجبي كل وَاحِد مِنْهُم فِي أول النَّهَار ضَرُورَة وَلَا بُد أَن كَانَ الْأَمر على مَا تَقولُونَ وَلَا يحل لمُسلم أَن يَقُول إِن صَلَاة الظّهْر تجوز أَن تصلى قبل نصف النَّهَار ويلزمهم أَيْضا أَن من كَانَ سَاكِنا فِي آخر الْمغرب إِن الشَّمْس لَا تَزُول عَن مُقَابلَة مَا بَين حاجبي كل وَاحِد مِنْهُم إِلَّا فِي آخر النَّهَار فَلَا يصلونَ الظّهْر إِلَّا فِي وَقت لَا يَتَّسِع لصَلَاة الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَهَذَا خَارج عَن حكم دين الْإِسْلَام وَأما من قَالَ بتكويرها فَإِن كل من على ظهر الأَرْض لَا يُصَلِّي الظّهْر إِلَّا إِثْر انتصاف نَهَاره أبدا على كل حَال وَفِي كل زمَان وَفِي كل مَكَان وَهَذَا بَين لَا خَفَاء فِيهِ وَقَالَ عز وَجل {سبع سماوات طباقاً} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق} وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان من قبل كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر بعض الدراري لبَعض على أَنَّهَا سبع سموات وعَلى أَنَّهَا طرائق وَقَوله تَعَالَى طرائق يَقْتَضِي متطرقاً فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَهَذَا نَص مَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَان من انطباق بَعْضهَا على بعض وإحاطة الْكُرْسِيّ بالسموات السَّبع وبالأرض وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن وَقَالَ تَعَالَى الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى وَأخْبر هَذَانِ النصان بِأَن مَا على الْعَرْش هُوَ منتهي الْخلق وَنِهَايَة الْعلم وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظاً من كل شَيْطَان مارد} وَهَذَا هُوَ نَص مَا قَامَ الْبُرْهَان عَلَيْهِ من أَن الْكَوَاكِب المرمي بهَا هِيَ دون سَمَاء الدُّنْيَا لِأَنَّهَا لَو كَانَت فِي السَّمَاء لَكَانَ الشَّيَاطِين يصلونَ إِلَى السَّمَاء أَو كَانَت هِيَ تخرج عَن السَّمَاء وَإِلَّا فَكَانَت تِلْكَ الشهب لَا تصل إِلَيْهِم إِلَّا بذلك وَقد صَحَّ أَنهم ممنوعون من السَّمَاء بالرجوم فصح أَن الرجوم دون السَّمَاء وَأَيْضًا فَإِن تِلْكَ الرجوم لَيست نجوماً مَعْرُوفَة أصلا وَإِنَّمَا هِيَ شهب ونيازك من نَار تتكوكب وتشتعل وتطفأ وَلَا نَار فِي السَّمَوَات أصلا فَلم نجد الِاخْتِلَاف إِلَّا فِي الْأَسْمَاء لاخْتِلَاف اللُّغَات وَقد اعْترض القَاضِي مُنْذر بن سعيد فِي هَذَا فَجعل الأفلاك غير السَّمَوَات قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا برهَان على مَا ذكر إِلَّا أَنه قَالَ إِن السَّمَوَات هِيَ فَوق الأَرْض فَلَو كَانَت السَّمَوَات مُحِيطَة بِالْأَرْضِ لَكَانَ بعض السَّمَوَات تَحت الأَرْض وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن التحت والفوق من بَاب الْإِضَافَة لَا يُقَال فِي شَيْء تَحت إِلَّا وَهُوَ فَوق لشَيْء آخر حاشى مَرْكَز الأَرْض فَإِنَّهُ تَحت مُطلق لَا تَحت لَهُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ كل مَا قيل فِيهِ أَنه فَوق فَهُوَ أَيْضا تَحت لشَيْء آخر حاشى الصفحة الْعليا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الْفلك إِلَّا على الْمَقْسُوم بقسمة البروج فَهِيَ فَوق لَا فَوق لَهَا الْبَتَّةَ فالأرض على هَذَا الْبُرْهَان الشَّاهِد هِيَ مَكَان التحت فِي السَّمَوَات ضَرُورَة فَمن حَيْثُ كَانَت السَّمَاء فَهِيَ فَوق الأَرْض وَمن حَيْثُ قابلتها الأَرْض فَهِيَ تَحت السَّمَاء وَلَا بُد وَحَيْثُ مَا كَانَ ابْن آدم فرأسه إِلَى السَّمَاء وَرجلَاهُ إِلَى الأَرْض وَقد قَالَ الله عز وَجل {ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سماوات طباقاً وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا} وَقَالَ تَعَالَى {جعل فِي السَّمَاء بروجاً وَجعل فِيهَا سِرَاجًا وقمراً منيراً} فَأخْبر الله تَعَالَى أَخْبَار لَا يردهُ إِلَّا كَافِر بِأَن الْقَمَر فِي السَّمَاء وَأَن الشَّمْس أَيْضا فِي السَّمَاء ثمَّ قد قَامَ الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ الْمشَاهد بالعيان على دورانها حول الأَرْض من مشرق إِلَى مغرب ثمَّ من مغرب إِلَى مشرق فَلَو كَانَ على مَا يظنّ أهل الْجَهْل لكَانَتْ الشَّمْس وَالْقَمَر إِذْ دَارا بِالْأَرْضِ وصارا فِيمَا يُقَابل صفحة الأَرْض الَّتِي لسنا عَلَيْهَا قد خرجا عَن السَّمَاء وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى فصح بِهَذَا أَنه لَا يجوز أَن يقارق الشَّمْس وَالْقَمَر السَّمَوَات وَلَا أَن يخرجَا عَنْهَا لِأَنَّهُمَا كَيفَ دَارا فهما فِي السَّمَوَات فصح ضَرُورَة أَن السَّمَوَات مُطَابقَة طباقاً على الأَرْض وَأَيْضًا فقد نَص تَعَالَى كَمَا ذكرنَا على أَن الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم فِي السَّمَوَات ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وكلٌ فِي فلك يسبحون} وبالضرورة علمنَا أَنه لَا يُمكن أَن يكون جرم فِي وَقت وَاحِد فِي مكانين فَلَو كَانَت السَّمَوَات غير الأفلاك وَكَانَت الشَّمْس وَالْقَمَر بِنَصّ الْقُرْآن فِي السَّمَوَات وَفِي الْفلك لكانا فِي مكانيين فِي وَقت غير متداخلين وَاحِد وَهَذَا محَال مُمْتَنع وَلَا ينْسب القَوْل بالمحال إِلَى الله عز وَجل إِلَّا أعمى الْقلب فصح أَن الشَّمْس فِي مَكَان وَاحِد وَهُوَ سَمَاء وَهُوَ فلك وَهَكَذَا القَوْل فِي الْقَمَر وَفِي النُّجُوم وَقَوله تَعَالَى وكلٌ فِي فلك يسبحون نَص جلي على الاستدارة لِأَنَّهُ أخبر تَعَالَى أَن الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم سابحة فِي الْفلك وَلم يخبر تَعَالَى أَن لَهَا سكوناً فَلَو لم تستدر لكَانَتْ على أباد الدهور بل فِي الْأَيَّام الْيَسِيرَة تغيب عَنَّا حَتَّى لَا نرَاهَا أبدا لَو مشت على طَرِيق وَاحِد وَخط وَاحِد مُسْتَقِيم أَو معوج غير مستدير لَكنا أمامها أبدا وَهَذَا بَاطِل فصح بِمَا نرَاهُ من كرورها من شَرق إِلَى عرب وَغرب إِلَى شَرق أَنَّهَا دَائِرَة ضَرُورَة وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن قَول الله تَعَالَى {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقرٍ لَهَا} فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مستقرها تَحت الْعَرْش وَصدق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهَا أبدا تَحت الْعَرْش إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد علمنَا أَن مُسْتَقر الشَّيْء هُوَ مَوْضِعه الَّذِي يلْزم فِيهِ وَلَا يخرج عَنهُ وَإِن مَشى فِيهِ من جَانب إِلَى جَانب حَدثنَا أَحْمد بن عمر بن أنس العذري ثَنَا عبد الله بن أَحْمد الْهَرَوِيّ حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حمويه السَّرخسِيّ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن خُزَيْمٌ ثَنَا عبد بن حميد حَدثنِي سُلَيْمَان بن حَرْب الواسحي ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن اياسي بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ قَالَ السَّمَاء مقببة هَكَذَا على الأَرْض وَبِه إِلَى عبد بن حميد ثَنَا يحيى بن عبد الحميد عَن يَعْقُوب عَن جَعْفَر هُوَ ابْن أبي وحشية عَن سعيد بن حبير قَالَ جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ أَرَأَيْت قَول الله عز وَجل {سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ} قَالَ ابْن عَبَّاس هن ملتويات بَعضهنَّ على بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 حَدثنَا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي ثَنَا مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي حَدثنَا أَبُو يحيى زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي الْبَصْرِيّ قَالَ أَنبأَنَا عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن الْمثنى وَسَلَمَة بن صبيب قَالُوا كلهم ثَنَا وهب بن جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْحَاق يحدث عَن يَعْقُوب ين عتبَة وَجبير بن مُحَمَّد بن جنير بن مطعم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله جهدت الْأَنْفس وَضاع الْعِيَال ونهكت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْأَنْعَام فاستسق الله لنا فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للأعرابي وَيحك تَدْرِي مَا الله إِن عَرْشه على سمواته وأرضه هَكَذَا وَقَالَ بأصابعه مثل الْقبَّة وَوصف لَهُم ابْن جرير بِيَدِهِ وأمال كَفه وأصابعه الْيُمْنَى وَقَالَ هَكَذَا حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن نَبَات ثَنَا أَحْمد بن عون الله وَأحمد بن عبد الْبَصِير قَالَا جَمِيعًا أَنبأَنَا قَاسم بن اصبع ثَنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الخثني ثَنَا مُحَمَّد بن بشار بنْدَار ثَنَا عبد الصَّمد الْوَارِث التنوري ثَنَا شُعْبَة عَن الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان ابْن مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كل فِي فلك يسبحون فلك كفلك المغزل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا أَيْضا قَول لله عز وَجل عَن ذِي القرنين وجدهَا تغرب فِي عين حمئة وقريء أَيْضا حامية قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق بِلَا شكّ وَذُو القرنين هُوَ كَانَ فِي الْعين الحمئة الحامية حمئة من حماتها حامية من استحرارها كَمَا تَقول رَأَيْتُك فِي الْبَحْر تُرِيدُ أَنَّك إِذْ رَأَيْته كنت أَنْت فِي الْبَحْر وبرهان هَذَا أَن مغرب الشَّمْس لَا يجهل مِقْدَار عَظِيم مساحته إِلَّا جَاهِل وَمِقْدَار مَا بَين أول مغْرِبهَا الشتوي إِذا كَانَت من آخر رَأس الجدي إِلَى آخر مغْرِبهَا الصيفي إِذا كَانَت من رَأس السرطان مرئيٌّ مشَاهد ومقداره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ دَرَجَة من الْفلك وَهُوَ يوازي من الأَرْض كلهَا بالبرهان الهندسي أقل من مِقْدَار السُّدس يكون من الأميال نَحْو ثَلَاثَة آلَاف ميل ونيف وَهَذِه المساحة لَا يَقع عَلَيْهَا فِي اللُّغَة اسْم عين الْبَتَّةَ لَا سِيمَا أَن تكون عينا حمئة حامية وباللغة الْعَرَبيَّة خوطبنا فَلَمَّا تَيَقنا أَنَّهَا عين بِإِخْبَار الله عز وَجل الصَّادِق الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه علمنَا يَقِينا أَن ذَا القرنين انْتهى بِهِ السّير فِي الْجِهَة الَّتِي مَشى فِيهَا من المغارب إِلَى الْعين الْمَذْكُورَة وَانْقطع لَهُ إِمْكَان الْمَشْي بعْدهَا لاعتراض الْبحار لَهُ هُنَالك وَقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن ذَا القرنين وَغَيره من النَّاس لَيْسَ يشغل من الأَرْض إِلَّا مِقْدَار مساحة جِسْمه فَقَط قَائِما أَو قَاعِدا أَو مُضْطَجعا وَمن هَذِه صفته فَلَا يجوز لَهُ أَن يُحِيط بَصَره من الأَرْض بِمِقْدَار مَكَان المغارب كلهَا لَو كَانَ مغيبها فِي عين من الأَرْض كَمَا يظنّ أهل الْجَهْل وَلَا بُد من أَن يلقى خطّ بَصَره من حدبة الأَرْض أَو من نثر من أنشازها مَا يمْنَع الْخط من التَّمَادِي إِلَى أَن يَقُول قَائِل إِن تِلْكَ الْعين هِيَ الْبَحْر فَلَا يجوز أَن يُسمى الْبَحْر فِي اللُّغَة عينا حمئة وَلَا حامية وَقد أخبر الله عز وَجل أَن الشَّمْس تسبح فِي الْفلك وَأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ من الْفلك سراج وَقَول الله تَعَالَى هُوَ الصدْق الَّذِي لَا يجوز أَن يخْتَلف وَلَا يتناقض فَلَو غَابَتْ فِي عين فِي الأَرْض كَمَا يظنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أهل الْجَهْل أَو فِي الْبَحْر لكَانَتْ الشَّمْس قد زَالَت عَن السَّمَاء وَخرجت عَن الْفلك وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمُخَالف لكَلَام الله عز وَجل حَقًا نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك فصح يَقِينا بِلَا شكّ أَن ذَا القرنين كَانَ هُوَ فِي الْعين الحمئة الحامية حِين انْتهى من آخر فِي الْبر وَفِي المغارب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَا سِيمَا مَعَ مَا قَامَ الْبُرْهَان عَلَيْهِ من أَن جرم الشَّمْس أكبر من جرم الأَرْض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبرهان آخر قَاطع وَهُوَ قَول الله عز وَجل {وجدهَا تغرب فِي عين حامية} وقري {حمئة} وَوجد عِنْدهَا قوما فصح ضَرُورَة أَنه وجد الْقَوْم عِنْد الْعين لَا عِنْد الشَّمْس وَقَالَ الله عز وَجل {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقد صَحَّ الْإِجْمَاع وَالنَّص على أَن أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم فِي الْجنَّة إِلَّا فِي قَول من لَا يعد من جملَة أهل الْإِسْلَام مِمَّن يَقُول بِفنَاء الْأَرْوَاح وَأَنَّهَا أَعْرَاض وَكَذَلِكَ أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رَآهُمْ لَيْلَة أسرِي بِهِ فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء آدم فِي سَمَاء الدُّنْيَا وَعِيسَى وَيحيى فِي الثَّانِيَة ويوسف فِي الثَّالِثَة وَإِدْرِيس فِي الرَّابِعَة وَهَارُون فِي الْخَامِسَة ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة صلى الله على جَمِيعهم وَسلم فصح ضَرُورَة أَن السَّمَوَات هِيَ الجنات وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء طير أَخْضَر تعلق فِي ثمار الْجنَّة وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يَظُنّهُ مُسلم أَن تكون أَرْوَاح الشُّهَدَاء طيور خضر فِي الْجنَّة وأرواح الْأَنْبِيَاء فِي غير الْجنَّة إِذْ هم أولى بِكُل فضل وَلَا مَكَان أفضل من الْجنَّة حَدثنَا أَحْمد ابْن عمر بن أنس العذري حَدثنَا أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَنا أَحْمد بن عَبْدَانِ الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي بالأهواز أَنا مُحَمَّد بن سهل الْمقري حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مؤلف الصَّحِيح أَنا أَبُو عَاصِم النَّبِيل أَنا عبد الله بن أُميَّة بن عبد الله بن خَالِد بن أسيد أَنا مُحَمَّد بن جُبَير عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبَحْر من جَهَنَّم أحَاط بِهِ سرادقها حَدثنَا يُونُس بن عبد الله ابْن مغيث أَنا أَحْمد بن عبد الله بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا أَحْمد بن خَالِد أَنا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي حَدثنَا مُحَمَّد ابْن بشار حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عُثْمَان بن غياث عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس عَن كَعْب قَالَ وَالْبَحْر الْمَسْجُور يسجر فَيكون جَهَنَّم حَدثنَا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي أَنا عبد الله بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَسدي أَنا أَحْمد ابْن خَالِد حَدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز أَنا الْحجَّاج بن الْمنْهَال السّلمِيّ أَنا مهْدي بن مَيْمُون عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أبي يَعْقُوب الضَّبِّيّ عَن بشر هُوَ ابْن سعاف قَالَ كُنَّا مَعَ عبد الله بن سَلام يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ وَإِن الْجنَّة فِي السَّمَاء وَالنَّار فِي الأَرْض وَذكر كلَاما كثيرا وَبِه إِلَى الْحجَّاج بن الْمنْهَال حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن دَاوُد عَن سعيد بن الْمسيب أَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ ليهودي أَيْن جَهَنَّم قَالَ فِي الْبَحْر قَالَ عَليّ بن أبي طَالب مَا أَظُنهُ إِلَّا قد صدق حَدثنَا الْمُهلب الْأَسدي حَدثنَا ابْن عَبَّاس حَدثنَا بن مسرور حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 حَدثنَا عبد الله ابْن وهب عَن شبيب بن سعيد عَن الْمنْهَال عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن بن مَسْعُود قَالَ الأَرْض كلهَا يَوْمئِذٍ نَار وَالْجنَّة من وَرَائِهَا وأولياء الله فِي ظلّ عرش الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} فَبين الله تَعَالَى أَن الشَّمْس أَبْطَأَ من الْقَمَر وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان بالرصد أَن الشَّمْس تقطع السَّمَاء فِي سنة وَالْقَمَر يقطعهَا فِي ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ نَص تَعَالَى على أَن اللَّيْل لَا يسْبق النَّهَار فَبين تَعَالَى بِهَذَا الحكم الْحَرَكَة الثَّانِيَة الَّتِي للفلك الْكُلِّي وَهِي الَّتِي تتمّ فِي كل يَوْم وَلَيْلَة دورة وتتساوى فِيهَا جَمِيع الدراري وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَقَالَ تَعَالَى {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب} وَأخْبر تَعَالَى أَن أَرْوَاح الْكَافرين {لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة} فصح أَن من فتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء دخل الْجنَّة وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم وَأَن لَهَا نفسين نفسا فِي الشتَاء ونفساً فِي الصَّيف وَإِن ذَلِك أَشد مَا نجد من الْحر وَالْبرد وَإِن نارنا هَذِه أبرد من نَار جَهَنَّم بتسع وَسِتِّينَ دَرَجَة وَهَكَذَا نشاهد من فعل الصَّوَاعِق فَإِنَّهَا تبلغ من الإحراق والأذى فِي مِقْدَار اللمحة مَا لَا تبلغه نارنا فِي المدد الطوَال وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر أهل الْجنَّة دُخُولا فِيهَا بعد خُرُوجه من النَّار يعْطى مثل الدُّنْيَا عشر مَرَّات روينَاهُ من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ مُسْندًا وَصَحَّ أَيْضا مُسْندًا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة كاصبع فِي اليم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي نِسْبَة الْمسَافَة لَا فِي نِسْبَة الْمدَّة لِأَن مُدَّة الْآخِرَة لَا نِهَايَة لَهَا وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا ينْسب مِنْهُ شَيْء الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْأَوْجه وَلَا هُوَ أَيْضا نِسْبَة من السرُور واللذة وَلَا من الْحزن وَالْبَلَاء فَإِن سرُور الدُّنْيَا مشوب بألم ومتناه منقض وسرور الْآخِرَة وحزنها خالصان غير متناهيين وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان من قبل رويتنا لنصب السَّمَاء أبدا على أَنه لَا نِسْبَة للْأَرْض عِنْد السَّمَاء وَلَا قدر وَقَالَ عز وَجل {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وجني الجنتين دَان} وَذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن للجنة ثمانة أَبْوَاب وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فاسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن فصح يَقِينا أَنَّهُمَا جنتان أَحدهمَا كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْأُخْرَى عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض وَقَوله تَعَالَى {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} إِنَّمَا هُوَ خبر عَن الْجَمِيع أَن لَهُم هَاتين الجنتين فالتي عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ السَّمَوَات السَّبع لِأَن عرض الشَّيْء مِنْهُ بِلَا شكّ وكل جرم كرْسِي فَإِن جَمِيع إبعاده عرُوض فَقَط وَذكرت الأَرْض هُنَا لدخولها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 فِي جملَة مساحة السَّمَوَات ولإحاطة السَّمَوَات بهَا وَالَّتِي عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض هِيَ الْكُرْسِيّ الْمُحِيط بالسموات وَالْأَرْض قَالَ الله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فصح ان عرضه كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض مُضَافا بعض ذَلِك إِلَى بعض فصح أَن لَهَا ثَمَانِيَة أَبْوَاب فِي كل سَمَاء بَاب وَفِي الْكُرْسِيّ بَاب وَصَحَّ أَن الْعَرْش فَوق أعلا الْجنَّة وَهُوَ مَحل الْمَلَائِكَة وموضعها لَيْسَ من الْجنَّة فِي شَيْء بل هُوَ فَوْقهَا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} بَيَان جلي على أَن الْعَرْش جرما آخر فِيهِ الْمَلَائِكَة وَقد ذكر أَن الْبُرْهَان يقوم بذلك من أحكم النّظر فِي الْهَيْئَة وَهَذِه نُصُوص ظَاهِرَة جلية دون تكلّف تَأْوِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَوله تَعَالَى كعرض السَّمَاء ذكر لجنس السَّمَوَات لِأَن السَّمَوَات اسْم للْجِنْس يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمثل هَذَا كثير مِمَّا إِذا تدبره المتدبر دلّ على صِحَة مَا قُلْنَاهُ من أَن كل مَا ثَبت ببرهان فَهُوَ مَنْصُوص فِي الْقُرْآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مطلب بَيَان كذب من ادّعى لمُدَّة الدُّنْيَا عددا مَعْلُوما قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما اخْتِلَاف النَّاس فِي التَّارِيخ فَإِن الْيَهُود يَقُولُونَ للدنيا أَرْبَعَة آلَاف سنة ونيف وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ للدنيا خَمْسَة آلَاف سنة وَأما نَحن فَلَا نقطع على عدد مَعْرُوف عندنَا وَأما من ادّعى فِي ذَلِك سَبْعَة آلَاف سنة أَو أَكثر أَو أقل فقد كذب وَقَالَ مَا لم يَأْتِ قطّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ لَفْظَة تصح بل صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام خِلَافه بل نقطع على أَن للدنيا أمرا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَنْتُم فِي الْأُمَم قبلكُمْ إِلَّا كالشعرة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود أَو كالشعرة السَّوْدَاء فِي الثور الْأَبْيَض هَذَا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام ثَابت وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا عين الْحق وَلَا يسامح بِشَيْء من الْبَاطِل وَهَذِه نِسْبَة من تدبرها وَعرف مِقْدَار أعداد أهل الْإِسْلَام وَنسبَة مَا بِأَيْدِيهِم من معمور الأَرْض وَأَنه إِلَّا كثر علم أَن للدنيا عددا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله الْخَالِق تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعثت أَنا والساعة كهاتين وَضم اصبعيه المقدستين السبابَة وَالْوُسْطَى وَقد جَاءَ النَّص بِأَن السَّاعَة لَا يعلم مَتى تكون إِلَّا الله عز وَجل لَا أحد سواهُ فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني شدَّة الْقرب لَا فضل طول الْوُسْطَى على السبابَة إِذْ لَو أَرَادَ فضل ذَلِك لأخذت نِسْبَة مَا بَين الاصبعين وَنسب ذَلِك من طول الْوُسْطَى فَكَانَ يعلم بذلك مَتى تقوم السَّاعَة وَهَذَا بَاطِل وَأَيْضًا فَكَانَ تكون نسبته عَلَيْهِ السَّلَام إيانا إِلَى من قبلنَا بِأَنَّهُ كالشعرة فِي الثور كذبا ومعاذ الله من ذَلِك فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ شدَّة الْقرب وَله عَلَيْهِ السَّلَام مذ بعث أَرْبَعمِائَة عَام ونيف وَالله أعلم بِمِقْدَار مَا بَقِي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 عمر الدُّنْيَا فَإِذا كَانَ هَذَا الْعدَد الْعَظِيم لَا نِسْبَة لَهُ عِنْد مَا سلف لقلته وتفاهته بِالْإِضَافَة إِلَى مَا مضى فَهَذَا الَّذِي قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام من أننا فِيمَن مضى كالشعرة فِي الثور أَو الرَّقْمَة فِي ذِرَاع الْحمار قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد رَأَيْت بِخَط الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الناصري رَحمَه الله قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي أَنه رأى بِالْهِنْدِ بداله اثْنَان وَسَبْعُونَ ألف سنة وَقد وجد مَحْمُود بن سبكتكين بِالْهِنْدِ مَدِينَة يؤرخونها بأربعمائة ألف سنة قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِلَّا أَن لكل لَك ذَلِك أَولا ومبدأ وَلَا بُد من نِهَايَة لم يكن شَيْء من الْعَالم مَوْجُودا قبلهَا وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد وَمِمَّا اعْترض بِهِ بَعضهم إِن قَالَ أَنْتُم تَقولُونَ أَن أهل الْجنَّة يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ وَيلبسُونَ ويطأون النِّسَاء وَأَن هُنَاكَ جرارى أَبْكَارًا خَلقهنَّ لَهُم وَذَلِكَ الْمَكَان لَا فَسَاد فِيهِ وَلَا اسْتِحَالَة وَلَا مزاج وَهَذِه أَشْيَاء كوائن فواسد فَكيف الْأَمر قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَن هَاهُنَا ثَلَاثَة أجوبة أَحدهَا برهَان ضَرُورِيّ سَمْعِي وَالثَّانِي برهَان نَظَرِي مشَاهد وَالثَّالِث إقناعي خَارج على أصُول الْمعَارض لنا فَالْأول وَهُوَ الَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ وَهُوَ أَن الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ قد قدمْنَاهُ على أَن الله عز وَجل خلق الْأَشْيَاء وابتدعها مخترعاً لَهَا لَا من شَيْء وَلَا على أصل مُتَقَدم وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَيْسَ شَيْء متوهم أَو مسئول يتَعَذَّر من قدرَة الْخَالِق عز وَجل إِذْ كل مَا شَاءَ تكوينه كَونه وَلَا فرق بَين خلقه عز وَجل كل ذَلِك فِي هَذِه الدَّار وَبَين خلقه كَذَلِك فِي الدَّار الْآخِرَة وَقد أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قَامَت الْبَرَاهِين الضرورية على أَن الله عز وَجل بَعثه إِلَيْنَا ووسطه للتبليغ عَنهُ وعَلى صدقه فَمَا أخبر بِهِ أَن الْأكل وَالشرب واللباس والوطيء هُنَالك وَكَانَ هَذَا الْخَبَر الَّذِي اُخْبُرْنَا بِهِ الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام دَاخِلا فِي حد الْمُمكن لَا فِي الْمُمْتَنع ثمَّ لما أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحَّ الْوَاجِب علمنَا بِهِ ضَرُورَة فَبَان أَنه فِي حد وَأما الْجَواب الثَّانِي فَهُوَ أَن الله عز وَجل خلق أَنْفُسنَا ورتب جواهرها وطباعها الذاتية رُتْبَة لَا تستحيل الْبَتَّةَ على التذاذ المطاعم والمشارب والروائح الطّيبَة والمناظر الْحَسَنَة والأصوات المطربة والملابس المعجبة على حسب مُوَافقَة كل ذَلِك لجوهر أَنْفُسنَا هَذَا مَالا مدفع فِيهِ وَلَا شكّ فِي أَن النُّفُوس هِيَ الملتذة بِكُل مَا ذكرنَا وَأَن الْحَواس الجسدية هِيَ المنافذ الموصلة لهَذِهِ الملاذ إِلَى النُّفُوس وَكَذَلِكَ المكاره كلهَا وَأما الْجَسَد فَلَا حس لَهُ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ طبيعة جَوْهَر أَنْفُسنَا الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى وجودهَا دونهَا إِذا جمع الله يَوْم الْقِيَامَة بَين أَنْفُسنَا وَبَين الأجساد المركبة لَهَا وعادت كَمَا كَانَت جوزيت هُنَالك ونعمت بملاذها وَبِمَا تستدعيه طباعها الَّتِي لم تُوجد قطّ إِلَّا كَذَلِك وَلَا لَهَا لَذَّة سواهَا إِلَّا أَن الطَّعَام الَّذِي هُنَالك غير مَعَاني ينار وَلَا ذُو آفَات وَلَا مُسْتَحِيل قذراً ودماً وَلَا ذبح هُنَالك وَلَا آلام وَلَا تغير وَلَا موت وَلَا فَسَاد وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَا يصدعون عَنْهَا وَلَا ينزفون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَتلك الملابس غير محوكة بنسج وَلَا فانية وَلَا متغيرة وَلَا تقبل الْبلَاء وَتلك الأجساد لَا كدر فِيهَا وَلَا خلط وَلَا دم وَلَا أَذَى وَتلك النُّفُوس لَا رذيلة فِيهَا من غل وَلَا حسد وَلَا حرص قَالَ الله تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا} وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المخرجين من النَّار أَنهم يطرحون فِي نهر على بَاب الْجنَّة فَإِذا نقوا وهذبوا هَذَا نَص لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ بعد التنقية أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم حِينَئِذٍ يصيرون إِلَى الْجنَّة فصح أَن الملاذ من هَذِه الْأَشْيَاء والمتناولات تصل إِلَى النُّفُوس هُنَالك على حسب اخْتِلَاف وجود النَّفس لَهَا وتغاير أَنْوَاع التذاذها بهَا وأوقعت عَلَيْهَا الْأَسْمَاء لإفهامها الْمَعْنى المُرَاد وَقد روينَا عَن ابْن عَبَّاس مَا حدّثنَاهُ يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن مَسْعُود حَدثنَا قَاسم بن أصْبع حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْعَبْسِي حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح أَنبأَنَا الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الْجنَّة مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاء وَهَذَا سَنَد فِي غَايَة الصِّحَّة وَهُوَ أول حَدِيث فِي قِطْعَة وَكِيع الْمَشْهُورَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الوطىء فَهُوَ هُنَالك كَمَا هُوَ عندنَا هَهُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُؤنَة وَلَا اسْتِحَالَة وَإِنَّمَا هُوَ التذاذ النَّفس بمداخلة بعض الْجَسَد الْمُضَاف إِلَيْهَا لجسد آخر فَقَط وَأما الْجَواب الثَّالِث الإقناعي وَهُوَ مُوَافق لأصولهم ولسنا نعتمد عَلَيْهِ فَهُوَ قدماء الْهِنْد قد ذكرُوا فِي كَلَامهم فِي الأفلاك والبروج ووجوه الْمطَالع أَنه يطلع مَعَ كل وَجه من وُجُوه البروج صور وصفوها وَذكروا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم الْأَدْنَى صُورَة إِلَّا وَهِي فِي الْعَالم الأعلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِيجَاب مِنْهُم أَن هُنَالك ملابس ومشارب ومطاعم ووطئا وأنهارا وأشجارا أَو غير ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وعارضني يَوْمًا نَصْرَانِيّ كَانَ قَاضِيا على نَصَارَى قرطبة فِي هَذَا وَكَانَ يتَكَرَّر على مجلسي فَقلت لَهُ أَو لَيْسَ فِيمَا عنْدكُمْ فِي الْإِنْجِيل أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أكل مَعَهم الفصح وفيهَا أَخذ بزعمهم وَقد سقاهم كأساً من خمر وَقَالَ إِنِّي لَا أشربها مَعكُمْ أبدا حَتَّى تشربوها معي فِي الملكوت عَن يَمِين الله تَعَالَى وَقَالَ فِي قصَّة الْفَقِير الْمُسَمّى العاذار الَّذِي كَانَ مطرحاً على بَاب الْغَنِيّ تلحس الْكلاب جراح قروحه وَأَن ذَلِك الْغَنِيّ نظر إِلَيْهِ فِي الْجنَّة مُتكئا فِي حجر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فناداه وَهُوَ فِي النَّار يَا أبي يَا إِبْرَاهِيم ابْعَثْ إِلَى العاذار بِشَيْء من مَاء يبل بِهِ لساني وَهَذَا نَص على أَن فِي الْجنَّة شرابًا من مَاء وخمر فَسكت النَّصْرَانِي وَانْقطع والتوراة الَّتِي بأيدي الْيَهُود فَلَيْسَ ذكر مَا لنعيم الْآخِرَة أصلا وَلَا لجزاء بعد الْمَوْت الْبَتَّةَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي أكل أهل النَّار وشربهم سَوَاء بِسَوَاء كَمَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْأَرْض أَيْضا سبع طباق منطبقة بَعْضهَا على بعض كإطباق السَّمَوَات لإخبار خالقنا بذلك وَلَيْسَ ذَلِك قبل الْخَبَر فِي حد الْمُمْتَنع بل فِي حد الْمُمكن وَذكر قوم قَول الله تَعَالَى {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات} فَقُلْنَا قَول الله هَذَا حَقًا وَقد قَالَ عز وَجل {وَفتحت السَّمَاء فَكَانَت أبوابا} قَالَ عز وَجل {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ وَتَكون الْجبَال كالعهن} وَقَالَ تَعَالَى {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكةً وَاحِدَة فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية وَالْملك على أرجائها} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا السَّمَاء انشقت} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا الأَرْض مدت وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا السَّمَاء انفطرت وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت وَإِذا الْبحار فجرت} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا الشَّمْس كورت وَإِذا النُّجُوم انكدرت وَإِذا الْجبَال سيرت} وَقَالَ تَعَالَى {أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقاً ففتقناهما} وَقَالَ تَعَالَى {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعلين} وَقَالَ تَعَالَى وَذكر أهل الْجنَّة {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ} فَكل كَلَامه تَعَالَى حق لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعضه دون بعض فصح يَقِينا أَن تَبْدِيل السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيل أحوالها لَا إعدامها لَكِن إخلاؤها من الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والنجوم وتفتيحها أبواباً وَكَونهَا كَالْمهْلِ وتشققها ووهيها وانفطارها وتدكدك الأَرْض وَالْجِبَال وَكَونهَا كالعهن المنفوش وتسييرها وتسجير الْبحار فَقَط وَبِهَذَا تتألف الْآيَات كلهَا وَلَا يجوز عَن هَذَا أصلا وَمن اقْتصر على آيَة التبديل كذب كل مَا ذكرنَا وَهَذَا كفر مِمَّن فعله وَمن جمعهَا كلهَا فقد آمن بجميعها وَصدق الله تَعَالَى فِي كل مَا قَالَ وَهنا يُوجب مَا قُلْنَاهُ ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد أكملنا وَالْحَمْد لله كثير الْكَلَام على الْملَل الْمُخَالفَة لدين الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ دين الله تَعَالَى على عباده الَّذِي لَا دين لَهُ فِي الأَرْض غَيره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وأوضحنا بعون الله تَعَالَى وتأييده الْبَرَاهِين الضرورية على إِثْبَات الْأَشْيَاء ووجودها ثمَّ على حدوثها كلهَا جواهرها وأعراضها بعد إِن لم تكن ثمَّ على أَن لَهَا مُحدثا وَاحِدًا مُخْتَارًا لم يزل وَحده لَا شَيْء مَعَه وَأَنه فعل لَا لعِلَّة وَترك لَا لعِلَّة بل كَمَا شَاءَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ثمَّ على صِحَة النبوات ثمَّ على صِحَة نبوة مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مِلَّته هِيَ الْحق وكل مِلَّة سواهَا بَاطِل وَأَنه آخر الْأَنْبِيَاء وملته آخر الْملَل فنبدأ الْآن بعون الله تَعَالَى وتأييده فِي ذكر نحل الْمُسلمين وافتراقهم فِيهَا وَبَيَان الْحق فِي كل وَبِاللَّهِ نستعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ إِذْ قد أكملنا بعون الله الْكَلَام فِي الْملَل فلنبدأ بحول الله عز وَجل فِي ذكر الله عز وَجل نحل أهل الْإِسْلَام وافتراقهم فِيهَا وإيراد مَا شغب بِهِ من شغب مِنْهُم فِيمَا غلط فِيهِ من نحلته وإيراد الْبَرَاهِين الضرورية على إِيضَاح نحلة الْحق من تِلْكَ النَّحْل كَمَا فعلنَا فِي الْملَل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فرق المقرين بِملَّة الْإِسْلَام خَمْسَة وهم أهل السّنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج ثمَّ افْتَرَقت كل فرقة من هَذِه على فرق وَأكْثر افْتِرَاق أهل السّنة فِي الْفتيا ونبذ يسيرَة من الاعتقادات سننبه عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ سَائِر الْفرق الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرنَا فَفِيهَا مَا يُخَالف أهل السّنة الْخلاف الْبعيد وَفِيهِمْ مَا يخالفهم الْخلاف الْقَرِيب فأقرب فرق المرجئة إِلَى أهل السّنة من ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة الْفَقِيه إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَالْقلب مَعًا وَأَن الْأَعْمَال إِنَّمَا هِيَ شرائع الْإِيمَان وفرائضه فَقَط وأبعدهم أَصْحَاب جهم بن صَفْوَان والأشعري وَمُحَمّد بن كرام السجسْتانِي فَإِن جهماً والأشعري يَقُولُونَ أَن الْإِيمَان عقد بِالْقَلْبِ فَقَط وَإِن أظهر الْكفْر والتثليث بِلِسَانِهِ وَعبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الصَّلِيب فِي دَار الْإِسْلَام بِلَا تقية وَمُحَمّد بن كرام يَقُول هُوَ القَوْل بِاللِّسَانِ وَإِن اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه وَأقرب فرق الْمُعْتَزلَة إِلَى أهل السّنة أَصْحَاب الْحُسَيْن بن مُحَمَّد النجار وَبشر ابْن غياث المريسي ثمَّ أَصْحَاب ضرار بن عَمْرو وأبعدهم أَصْحَاب أبي الهزيل وَأقرب مَذَاهِب الشِّيعَة إِلَى أهل السّنة المنتمون إِلَى أَصْحَاب الْحسن بن صَالح بن حَيّ الهمزاني الْفَقِيه الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة فِي ولد عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالثَّابِت عَن الْحسن بن صَالح رَحمَه الله هُوَ قَوْلنَا أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع قُرَيْش وَتَوَلَّى جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا أَنه كَانَ يفضل عليا على جَمِيعهم وأبعدهم الإمامية وَأقرب فرق الْخَوَارِج إِلَى أهل السّنة أَصْحَاب عبد الله بن يزِيد الأباضي الفزازي الْكُوفِي وأبعدهم الْأزَارِقَة وَأما أَصْحَاب أَحْمد بن حابط وَأحمد بن مالوس وَالْفضل الْحَرَّانِي والغالية من الروافض والمتصوفة والبيطحية أَصْحَاب أبي إِسْمَاعِيل البطيحي وَمن فَارق الْإِجْمَاع من العجاردة وَغَيرهم فليسوا من أهل الْإِسْلَام بل كفار بِإِجْمَاع الْأمة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ذكر مَا اعتمدت عَلَيْهِ كل فرقة من هَذِه الْفرق مِمَّا اخْتصّت بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما المرجئة فعمدتهم الَّتِي يتمسكون بهَا الْكَلَام فِي الْإِيمَان وَالْكفْر مَا هما وَالتَّسْمِيَة بهما والوعيد وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلفت غَيرهم وَأما الْمُعْتَزلَة فعمدتهم الَّتِي يتمسكون بهَا الْكَلَام فِي التَّوْحِيد وَمَا يُوصف بِهِ الله تَعَالَى ثمَّ يزِيد بَعضهم الْكَلَام فِي الْقدر وَالتَّسْمِيَة بِالْفِسْقِ أَو الْإِيمَان والوعيد وَقد يُشَارك الْمُعْتَزلَة فِي الْكَلَام فِيمَا يُوصف الله تَعَالَى بِهِ جهم بن صَفْوَان وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان والأشعرية وَغَيرهم من المرجئية وَهِشَام بن الحكم وَشَيْطَان الطاق واسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر الْكُوفِي وَدَاوُد الْحوَاري وَهَؤُلَاء كلهم شيعَة إِلَّا أننا اختصصنا الْمُعْتَزلَة بِهَذَا الأَصْل لِأَن كل من تكلم فِي هَذَا الأَصْل فَهُوَ غير خَارج عَن قَول أهل السّنة أَو قَول الْمُعْتَزلَة حاشا هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين من المرجئة والشيعة فَإِنَّهُم انفردوا بأقوال خَارِجَة عَن قَول أهل السّنة والمعتزلة وَأما الشِّيعَة فعمدة كَلَامهم فِي الْإِمَامَة والمفاضلة بَين أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلف غَيرهم وَأما الْخَوَارِج فعمدة مَذْهَبهم الْكَلَام فِي الْإِيمَان وَالْكفْر مَا هما وَالتَّسْمِيَة بهما والوعد والإمامة وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلف غَيرهم وَإِنَّمَا خصصنا هَذِه الطوائف بِهَذِهِ الْمعَانِي لِأَن من قَالَ إِن أَعمال الْجَسَد إِيمَان فَإِن الْإِيمَان يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية وَإِن مُؤمنا يكفر بِشَيْء من أَعمال الذُّنُوب وَإِن مُؤمنا بِقَلْبِه وبلسانه يخلد فِي النَّار فَلَيْسَ مرجئياً وَمن وافقهم على أَقْوَالهم هَا هُنَا وَخَالفهُم فِيمَا عدا ذَلِك من كل مَا اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيهِ فَهُوَ مرجيء وَمن خَالف الْمُعْتَزلَة فِي خلق الْقُرْآن والرؤية والتشبيه وَالْقدر وَأَن صَاحب الْكَبِيرَة لَا مُؤمن وَلَا كَافِر لَكِن فَاسق فَلَيْسَ مِنْهُم وَمن وافقهم فِيمَا ذكرنَا فَهُوَ مِنْهُم وَإِن خالفهم فِيمَا سوى مَا ذكرنَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَمن وَافق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الشِّيعَة فِي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحقهم بِالْإِمَامَةِ وَولده من بعده فَهُوَ شيعي وَإِن خالفهم فِيمَا عدا ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ فَإِن خالفهم فِيمَا ذكرنَا فَلَيْسَ شِيعِيًّا وَمن وَافق الْخَوَارِج من إِنْكَار التَّحْكِيم وتكفير أَصْحَاب الْكَبَائِر وَالْقَوْل بِالْخرُوجِ على أَئِمَّة الْجور وَإِن أَصْحَاب الْكَبَائِر مخلدون فِي النَّار وَأَن الْإِمَامَة جَائِزَة فِي غير قُرَيْش فَهُوَ خارجي وَإِن خالفهم فِيمَا عدا ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ خالفهم فِيمَا ذكرنَا فَلَيْسَ خارجياً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأهل السّنة الَّذين نذكرهم أهل الْحق وَمن عداهم فَأهل الْبِدْعَة فَإِنَّهُم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وكل من سلك نهجهم من خِيَار التَّابِعين رَحْمَة الله عَلَيْهِم ثمَّ أَصْحَاب الحَدِيث وَمن اتبعهم من الْفُقَهَاء جيلاً فجيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو من اقْتدى بهم من الْعَوام فِي شَرق الأَرْض وغربها رَحْمَة الله عَلَيْهِم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تسمى باسم الْإِسْلَام من أجمع جَمِيع فرق الْإِسْلَام على أَنه لَيْسَ مُسلما مثل طوائف من الْخَوَارِج غلوا فَقَالُوا إِن الصَّلَاة رَكْعَة بِالْغَدَاةِ وركعة بالْعَشي فَقَط وَآخَرُونَ استحلوا نِكَاح بَنَات الْبَنِينَ وَبَنَات الْبَنَات وَبَنَات بني الْإِخْوَة وَبَنَات بني الْأَخَوَات وَقَالُوا إِن سُورَة يُوسُف لَيست من الْقُرْآن وَآخَرُونَ مِنْهُم قَالُوا يحد الزَّانِي وَالسَّارِق ثمَّ يستتابون من الْكفْر فَإِن تَابُوا وَإِلَّا قتلوا وَطَوَائِف كَانُوا من الْمُعْتَزلَة ثمَّ غلوا فَقَالُوا بتناسم الْأَرْوَاح وَآخَرُونَ مِنْهُم قَالُوا إِن شَحم الْخِنْزِير ودماغه حَلَال وَطَوَائِف من المرجئية قَالُوا إِن إِبْلِيس لم يسْأَل الله قطّ النظرة وَلَا أقرّ بِأَن خلقه من نَار وَخلق آدم من تُرَاب وَآخَرُونَ قَالُوا إِن النُّبُوَّة تكتسب بِالْعَمَلِ الصَّالح وَآخَرُونَ كَانُوا من أهل السّنة فغلوا فَقَالُوا قد يكون فِي الصَّالِحين من هُوَ أفضل من الْأَنْبِيَاء وَمن الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن من عرف الله حق مَعْرفَته فقد سَقَطت عَنْهُم الْأَعْمَال والشرائع وَقَالَ بَعضهم بحلول الْبَارِي تَعَالَى فِي أجسام خلقه كالحلاج وَغَيره وَطَوَائِف كَانُوا من الشِّيعَة ثمَّ غلوا فَقَالَ بَعضهم بحلول الْبَارِي تَعَالَى فِي أجسام خلقه كالحلاج وَغَيره وَطَوَائِف كَانُوا من الشِّيعَة ثمَّ غلوا فَقَالَ بَعضهم بالآلهية عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَالْأَئِمَّة بعده وَمِنْهُم من قَالَ بنبوته وبتناسخ الْأَرْوَاح كالسيد الْحِمْيَرِي الشَّاعِر وَغَيره وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بآلهية أبي الْخطاب مُحَمَّد بن أبي زَيْنَب مولى بني أَسد وَقَالَت طَائِفَة بنبوة الْمُغيرَة بن أبي سعيد مولي نَبِي بجلة وبنبوة أبي مَنْصُور الْعجلِيّ وبزيع الحايك وَبَيَان ابْن سمْعَان التَّمِيمِي وَغَيرهم وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم برجعة عَليّ إِلَى الدُّنْيَا وامتنعوا من القَوْل بِظَاهِر الْقُرْآن وَقَالُوا إِن لظاهره تأويلات فَمِنْهَا أَن قَالُوا السَّمَاء مُحَمَّد وَالْأَرْض أَصْحَابه وَأَن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة أَنَّهَا هِيَ فُلَانَة يَعْنِي أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَقَالُوا الْعدْل وَالْإِحْسَان هُوَ عَليّ والخبث والطاغوت فلَان وَفُلَان يعنون أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالُوا الصَّلَاة هِيَ دُعَاء الإِمَام وَالزَّكَاة هِيَ مَا يُعْطي الإِمَام وَالْحج الْقَصْد إِلَى الإِمَام وَفِيهِمْ خناقون ورضاخون وكل هَذِه الْفرق لَا تتَعَلَّق بِحجَّة أصلا وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بِأَيْدِيهِم إِلَّا دَعْوَى الإلهام والقحة والمجاهرة بِالْكَذِبِ وَلَا يلتفتون إِلَى مناظرة وَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم أَن يُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من ادّعى أَنه ألهم بطلَان قَوْلكُم وَلَا سَبِيل إِلَى الانفكاك من هَذَا وَأَيْضًا فَإِن جَمِيع فرق الْإِسْلَام متبرئة مِنْهُم مكفرة لَهُم مجمعون على أَنهم على غير الْإِسْلَام نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْأَصْل فِي أَكثر خُرُوج هَذِه الطوائف عَن ديانَة الْإِسْلَام أَن الْفرس كَانُوا من سَعَة الْملك وعلو الْيَد على جَمِيع الْأُمَم وجلالة الخطير فِي أنفسهم حَتَّى أَنهم كَانُوا يسمون أنفسهم الْأَحْرَار وَالْأَبْنَاء وَكَانُوا يعدون سَائِر النَّاس عبيد لَهُم فَلَمَّا امتحنوا بِزَوَال الدولة عَنْهُم على أَيدي الْعَرَب وَكَانَت الْعَرَب أقل الْأُمَم عِنْد الْفرس خطراً تعاظمهم الْأَمر وتضاعفت لديهم الْمُصِيبَة وراموا كيد الْإِسْلَام بالمحاربة فِي أَوْقَات شَتَّى فَفِي كل ذَلِك يظْهر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحق وَكَانَ من قائمتهم ستقادة واستاسيس وَالْمقنع وبابك وَغَيرهم وَقيل هَؤُلَاءِ رام ذَلِك عمار الملقب بخداش وابو سلم السراج فَرَأَوْا أَن كَيده على الْحِيلَة أنجع فأظهر قوم مِنْهُم الْإِسْلَام واستمالوا أهل النشيع بِإِظْهَار محبَّة أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسشناع ظلم عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ سلكوا بهم مسالك شَتَّى حَتَّى أخرجوهم عَن الْإِسْلَام فقوم مِنْهُم أدخلوهم إِلَى القَوْل بِأَن رجلا ينْتَظر يدعى الْمهْدي عِنْده حَقِيقِيَّة الدّين إِذْ لَا يجوز أَن يُؤْخَذ الدّين من هَؤُلَاءِ الْكفَّار إِذْ نسبوا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْكفْر وَقوم خَرجُوا إِلَى نبوة من ادعوا إِلَه النُّبُوَّة وَقوم سلكوا بهم المسلك الَّذِي ذكرنَا من القَوْل بالحلول وَسُقُوط الشَّرَائِع وَآخَرُونَ تلاعبوا فأوجبوا عَلَيْهِم خمسين صَلَاة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وَآخَرُونَ قَالُوا بل هِيَ سبع عشر صَلَاة فِي كل صَلَاة خَمْسَة عشر رَكْعَة وَهَذَا قَول عبد الله بن عَمْرو بن الْحَرْث الْكِنْدِيّ قبل أَن يصير خارجياً صغرياً وَقد سلك هَذَا المسلك أَيْضا عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي الْيَهُودِيّ فَإِنَّهُ لَعنه الله أظهر الْإِسْلَام لكيد أَهله فَهُوَ كَانَ أصل إثارة النَّاس على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وأحرق عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهُم طوائف أعْلنُوا بالإلهية وَمن هَذِه الْأُصُول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة وهما طَائِفَتَانِ مجاهرتان بترك الْإِسْلَام جملَة قائلتان بالمجوسية الْمَحْضَة ثمَّ مَذْهَب مردك الموبذ الَّذِي كَانَ على عهد أنوشروان بن قيمًا ملك الْفرس وَكَانَ يَقُول بِوُجُوب تأسي النَّاس فِي النِّسَاء وَالْأَمْوَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا بلغ النَّاس إِلَى هذَيْن الشعبين أَخْرجُوهُ عَن الْإِسْلَام كَيفَ شاؤا إِذْ هَذَا هُوَ غرضهم فَقَط فَالله الله عباد الله اتَّقوا الله فِي أَنفسكُم وَلَا يَغُرنكُمْ اهل الْكفْر والإلحاد من موه كَلَامه بِغَيْر برهَان لَكِن بتمويهات وَوعظ على خلاف مَا أَتَاكُم بِهِ كتاب ربكُم وَكَلَام نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا خير فِيمَا سواهُمَا وَاعْلَمُوا أَن دين الله تَعَالَى ظَاهر لَا بَاطِن فِيهِ وجهر لَا سر تَحْتَهُ كُله برهَان لَا مُسَامَحَة فِيهِ واتهموا كل من يدعونَ أَن يتبع بِلَا برهَان وكل من ادّعى للديانة سرا وَبَاطنا فَهِيَ دعاوي ومخارق وَاعْلَمُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتم من الشَّرِيعَة كلمة فَمَا فَوْقهَا وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أطلع أخص النَّاس بِهِ من زَوْجَة أَو ابْنة أَو عَم أَو ابْن عَم أَو صَاحب على شَيْء من الشَّرِيعَة كتمه عَن الْأَحْمَر وَالْأسود ورعاة الْغنم وَلَا كَانَ عِنْده عَلَيْهِ السَّلَام السِّرّ وَلَا رمز وَلَا بَاطِن غير مَا دعِي النَّاس كلهم إِلَيْهِ وَلَو كتمهم شَيْئا لما بلغ كَمَا أَمر وَمن قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِر فإياكم وكل قَول لم يبين سَبيله وَلَا وضح دَلِيله وَلَا تعوجاً عَن مَا مضى عَلَيْهِ نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أوضحنا شنع جَمِيع هَذِه الْفرق فِي كتاب لنا لطيف اسْمه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أَقْوَال أهل الْبدع من الْفرق الْأَرْبَع الْمُعْتَزلَة والمرجئية والخوارج والشيع ثمَّ أضفناه إِلَى آخر كلامنا فِي النَّحْل من كتَابنَا هَذَا وَجُمْلَة الْخَيْر كُله أَن تلزموا مَا نَص عَلَيْهِ ربكُم تَعَالَى فِي الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين لم يفرط فِيهِ من شَيْء تبياناً لكل شَيْء وَمَا صَحَّ عَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِوَايَة الثقاة من أَئِمَّة أَصْحَاب الحَدِيث رَضِي الله عَنْهُم مُسْند إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام فهما طريقتان يوصلانكم إِلَى رضى ربكُم عز وَجل وَنحن نبتديء من هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْمعَانِي الَّتِي هِيَ عُمْدَة مَا افترق الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَهِي التَّوْحِيد وَالْقدر وَالْإِيمَان والوعيد والإمامة والمفاضلة ثمَّ أَشْيَاء تسميها المتكلمون اللطائف ونورد كل مَا احْتَجُّوا بِهِ ونبين بالبراهين الضرورية أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَجه الْحق من كل ذَلِك كَمَا فعلنَا فِيمَا خلا بعون الله تَعَالَى لنا وتأييده وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَأول ذَلِك الْكَلَام فِي التَّوْحِيد وَنفي التَّشْبِيه قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب طَائِفَة إِلَى القَوْل بِأَن الله تَعَالَى جسم وحجتهم فِي ذَلِك أَنه لَا يقوم فِي الْمَعْقُول إِلَّا جسم أَو عرض فَلَمَّا بَطل أَن يكون تَعَالَى عرضا ثَبت أَنه جسم وَقَالُوا إِن الْفِعْل لَا يَصح إِلَّا من جسم والباري تَعَالَى فَاعل فَوَجَبَ أَنه جسم وَاحْتَجُّوا بآيَات من الْقُرْآن فِيهَا ذكر الْيَد وَالْيَدَيْنِ وَالْأَيْدِي وَالْعين وَالْوَجْه وَالْجنب وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاء رَبك ويأتيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وتجليه تَعَالَى وبأحاديث للجبل فِيهَا ذكر الْقدَم وَالْيَمِين وَالرجل والأصابع والتنزل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلِجَمِيعِ هَذِه النُّصُوص وُجُوه ظَاهِرَة بَيِّنَة خَارِجَة على خلاف مَا ظنوه وتأولوه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَانِ الاستدلالان فاسدان أما قَوْلهم أَنه لَا يقوم فِي الْمَعْقُول إِلَّا جسم أَو عرض فَإِنَّهَا قسْمَة نَاقِصَة وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَنه لَا يُوجد فِي الْعَالم إِلَّا جسم أَو عرض وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي بطبيعته وجود مُحدث لَهُ فالبضرورة لعلم أَنه لَو كَانَ محدثها جسماً أَو عرضا لَكَانَ يَقْتَضِي فَاعِلا فعله وَلَا بُد فَوَجَبَ بِالضَّرُورَةِ أَن فَاعل الْجِسْم وَالْعرض لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَهَذَا برهَان يضْطَر إِلَيْهِ كل ذِي حس بضرورة الْعقل وَلَا بُد وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى عَن إلحادهم جسماً لاقتضى ذَلِك ضَرُورَة أَن يكون لَهُ زمَان وَمَكَان هما غَيره وَهَذَا إبِْطَال التَّوْحِيد وَإِيجَاب الشّرك مَعَه تَعَالَى لشيئين سواهُ وَإِيجَاب أَشْيَاء مَعَه غير مخلوقة وَهَذَا كفر وَقد تقدم إفسادنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 لهَذَا القَوْل وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يعقل الْبَتَّةَ جسم إِلَّا مؤلف طَوِيل عريض عميق ونظارهم وَهُوَ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا فَإِن قَالُوهُ لَزِمَهُم أَن لَهُ مؤلفاً جَامعا مخترعاً فَاعِلا فَإِن منعُوا من ذَلِك لَزِمَهُم أَن لَا يوجبوا لما فِي الْعَالم من التَّأْلِيف لَا مؤلفاً وَلَا جَامعا إِذْ الْمُؤلف كُله كَيْفَمَا وجد يَقْتَضِي مؤلفاً ضَرُورَة فَإِن قَالُوا هُوَ جسم غير مؤلف قيل لَهُم هَذَا هُوَ الَّذِي لَا يعقل حَقًا وَلَا يتشكل فِي النَّفس الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا لَا فرق بَين فولنا شَيْء وَبَين قَوْلنَا جسم قيل لَهُم هَذِه دَعْوَى كَاذِبَة على اللُّغَة الَّتِي بهَا يَتَكَلَّمُونَ وَأَيْضًا فَهُوَ بَاطِل لِأَن الْحَقِيقَة أَنه لَو كَانَ الشَّيْء والجسم بِمَعْنى وَاحِد لَكَانَ الْعرض جسماً لِأَنَّهُ شَيْء وَهَذَا بَاطِل يتَعَيَّن والحقيقة هِيَ أَنه لَا فرق بَين قَوْلنَا شَيْء وَقَوْلنَا مَوْجُود وَحقّ وَحَقِيقَة ومثبت فَهَذِهِ كلهَا أَسمَاء مترادفة على معنى وَاحِد لَا يخْتَلف وَلَيْسَ مِنْهَا اسْم يَقْتَضِي صفة أَكثر من أَن الْمُسَمّى بذلك حق وَلَا مزِيد وَأما لَفْظَة جسم فَإِنَّهَا فِي اللُّغَة عبارَة عَن الطَّوِيل العريض العميق الْمُحْتَمل للْقِسْمَة ذِي الْجِهَات السِّت الَّتِي هِيَ فَوق وَتَحْت ووراء وأمام وَيَمِين وشمال وَرُبمَا عدم وَاحِدَة مِنْهَا وَهِي الفوق هذاحكم هَذِه الْأَسْمَاء فِي اللُّغَة الَّتِي هَذِه الْأَسْمَاء مِنْهَا فَمن أَرَادَ أَن يُوقع شَيْئا مِنْهَا على غير موضوعها فِي اللُّغَة فَهُوَ مَجْنُون وقاح وَهُوَ كمن أَرَادَ أَن يُسَمِّي الْحق بَاطِلا وَالْبَاطِل حَقًا وَأَرَادَ أَن يُسَمِّي الذَّهَب خشباً وَهَذَا غَايَة الْجَهْل والسخف إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِنَقْل اسْم مِنْهَا عَن مَوْضُوعه إِلَى معنى آخر فَيُوقف عِنْده وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يلْزم كل مناظر يُرِيد معرفَة الْحَقَائِق أَو التَّعْرِيف بهَا أَن يُحَقّق الْمعَانِي الَّتِي يَقع عَلَيْهَا الِاسْم ثمَّ يخبر بعد بهَا أرعنها بِالْوَاجِبِ وَأما مزج الْأَشْيَاء وقلبها عَن موضوعاتها فِي اللُّغَة فَهَذَا فعل السوفسطائية الوقحاء الْجُهَّال الغابنين لعقولهم وأنفسهم فَإِن قَالُوا لنا إِنَّكُم تَقولُونَ إِن الله عز وَجل حَيّ لَا كالأحياء وَعَلِيم لَا كالعلماء وقادر لَا كالقادرين وَشَيْء لَا كالأشياء فَلم منعتم القَوْل بِأَنَّهُ جسم لَا كالأجسام قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَوْلَا النَّص الْوَارِد بتسميه تَعَالَى بِأَنَّهُ حَيّ وقدير وَعَلِيم مَا سميناه بِشَيْء من ذَلِك لَكِن الْوُقُوف عِنْد النَّص فرض وَلم يَأْتِ نَص بتسميته تَعَالَى جسماً وَلَا قَامَ الْبُرْهَان بتسميته جسماً بل الْبُرْهَان مَانع من تَسْمِيَته بذلك تَعَالَى وَلَو أَتَانَا نَص بتسميته تَعَالَى جسماً لوَجَبَ علينا القَوْل بذلك وَكُنَّا حِينَئِذٍ نقُول أَنه لَا كالأجسام كَمَا قُلْنَا فِي عليم وقدير وَحي وَلَا فرق وَأما لَفْظَة شَيْء فالنص أَيْضا جَاءَ بهَا والبرهان أوجبهَا على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَنه تَعَالَى نورا وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يَخْلُو النُّور من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون جسماً وَإِمَّا أَن يكون عرضا وَأيهمَا كَانَ فقد قَامَ الْبُرْهَان أَنه تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَأما قَوْله تَعَالَى الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هدى الله بتنوير النُّفُوس إِلَى نور الله تَعَالَى فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وبرهان ذَلِك أَن الله عز وَجل أَدخل الأَرْض فِي جملَة مَا أخبر أَنه نور لَهُ فَلَو كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 الْأَمر على أَنه النُّور المضيء الْمَعْهُود لما خبأ الضياء سَاعَة من ليل أَو نَهَار الْبَتَّةَ فَلَمَّا رَأينَا الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك علمنَا أَنه بِخِلَاف مَا ظنوه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيبْطل قَول من وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ جسم وَقَول من وَصفه بحركة تَعَالَى الله عَن ذَلِك إِن الضَّرُورَة توجب أَن كل متحرك فذو حَرَكَة وَأَن الْحَرَكَة لمتحرك بهَا وَهَذَا من بَاب الْإِضَافَة وَالصُّورَة فِي المتصور لمتصور وَهَذَا أَيْضا من بَاب الْإِضَافَة فَلَو كَانَ كل مُصَور متصوراً وكل محرك متحركا كالوجب وجوب أَفعَال لأوائل لَهَا وَهَذَا قد أبطلناه فِيمَا خلا من كتَابنَا بعون الله تَعَالَى لنا وتأييده إيانا فَوَجَبَ ضَرُورَة وجود محرك لَيْسَ متحركاً ومصور لَيْسَ متصوراً ضَرُورَة وَلَا بُد وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى محرك المتحركات ومصور المصورات لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وكل جسم فَهُوَ ذُو صُورَة وكل ذِي حَرَكَة فَهُوَ ذُو عرض مَحْمُول فِيهِ فصح أَنه تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا متحركاً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فقد قدمنَا أَن الْحَرَكَة والسكون مُدَّة والمدة زمَان وَقد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا أَن الزَّمَان مُحدث فالحركة محدثة وَكَذَلِكَ السّكُون والباري تَعَالَى لَا يلْحقهُ الْحَدث إِذْ لَو لحقه مُحدثا لحقه مُحدثا فالباري تَعَالَى غير متحرك وَلَا سَاكن ولفضا فَإِن الْجِسْم إِنَّمَا يفعل آثاراً فِي الْجِسْم فَقَط وَلَا يفعل الْأَجْسَام فالباري إِذن تَعَالَى على قَول المجسمة إِنَّمَا هُوَ فَاعل آثَار فِي الْأَجْسَام فَقَط لَا فَاعل أجسام الْعَالم تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا فَإِن قَالُوا فَإِنَّكُم تسمونه فَاعِلا وتسمون أَنفسكُم فاعلين وَهَذَا تَشْبِيه قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يُوجب لَك تَشْبِيها لِأَن التَّشْبِيه إِنَّمَا يكون بِالْمَعْنَى الْمَوْجُود فِي كلا المشتبهين لَا بالأسماء وَهَذِه التَّسْمِيَة إِنَّمَا هِيَ اشْتِرَاك فِي الْعبارَة فَقَط لِأَن الْفَاعِل من متحرك بِاخْتِيَار أَو باضطرار أَو عَارِف أَو شَاك أَو مُرِيد أَو كَانَ بِاخْتِيَار أَو ضمير أَو اضطرار كَذَلِك فَكل فَاعل منا فمتحرك وَذُو ضمير وكل متحرك فذو حَرَكَة تحركه وأعراض الضمائر انفعالات فَكل متحرك فَهُوَ منفعل وكل منفعل فلفاعل ضَرُورَة وَأما الْبَارِي تَعَالَى ففاعل بِاخْتِيَار واختراع لَا بحركة وَلَا بضمير فَهَذَا اخْتِلَاف لَا اشْتِبَاه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَكَذَلِكَ الْعرض لَيْسَ جسماً والجسم لَيْسَ عرضا والباري تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا فهذان الحكمان لَا يوجبان اشتباهاً أصلا بل هَذَا عين الِاخْتِلَاف لَكِن الِاشْتِبَاه إِنَّمَا يكون بِإِثْبَات معنى فِي المشتبهين بِهِ اشتبها وَلَو أوجب مَا ذكرنَا اشتباهاً لوَجَبَ أَن يكون لشبه الْجِسْم فِي الجسمية لِأَنَّهُ لَيْسَ عرضا وَإِن يكون لشبه الْعرض فِي العرضية لِأَنَّهُ لَيْسَ جسماً فَكَانَ يكون جسماً فَكَانَ يكون جسماً لَا جسماً عرضا لَا عرضا مَعًا وَهَذَا محَال فصح أَن بِالنَّفْيِ لَا يجب الِاشْتِبَاه أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن قَالَ أَن الله تَعَالَى جسم لَا كالأجسام فَلَيْسَ مشتبهاً لكنه الْحَد فِي أَسمَاء الله تَعَالَى إِذْ سَمَّاهُ عز وَجل بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه وَأما من قَالَ أَنه تَعَالَى كالأجسام فَهُوَ ملحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى ومشبه مَعَ ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما إِطْلَاق لفظ الصِّفَات لله تَعَالَى عز وَجل فمحال لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى لم ينص قطّ فِي كَلَامه الْمنزل على لَفْظَة الصِّفَات وَلَا على لفظ الصّفة وَلَا حفظ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن لله تَعَالَى صفة أَو صِفَات نعم وَلَا جَاءَ قطّ ذَلِك عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَا عَن أحد من خِيَار التَّابِعين وَلَا عَن أحد من خِيَار تَابِعِيّ التَّابِعين وَمن كَانَ هَكَذَا فَلَا يحل لأحد أَن ينْطق بِهِ وَلَو قُلْنَا أَن الْإِجْمَاع قد تَيَقّن على ترك هَذِه اللَّفْظَة لصدقنا فَلَا يجوز القَوْل بِلَفْظ الصِّفَات وَلَا اعْتِقَاده بل هِيَ بِدعَة مُنكرَة فال الله تَعَالَى أَن هِيَ الْأَسْمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا اخترع لفظ الصِّفَات الْمُعْتَزلَة وَهِشَام ونظراؤه من رُؤَسَاء الرافضة وسلك سبيلهم قوم من أَصْحَاب الْكَلَام سلكوا غير مَسْلَك السّلف الصَّالح لَيْسَ فيهم أُسْوَة وَلَا قدرَة وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه وَرُبمَا أطلق هَذِه اللَّفْظَة من متأخري الْأَئِمَّة من القهاء من لم يُحَقّق النّظر فِيهَا فَهِيَ وهلة من فَاضل وذلة عَالم وَإِنَّمَا الْحق فِي الدّين مَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى نصا أَو عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك أَو صَحَّ إِجْمَاع الْأمة كلهَا عَلَيْهِ وَمَا عدا هَذَا فضلال وكل محدثة بِدعَة فَإِن اعْترضُوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي روينَاهُ من طَرِيق عبد الله بن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن أبي الرَّجَاء مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أمه عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي الرجل الَّذِي كَانَ يقْرَأ قل هُوَ الله أحد فِي كل رَكْعَة مَعَ سُورَة أُخْرَى وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يسْأَل عَن ذَلِك فَقَالَ هِيَ صفة الرَّحْمَن فَأَنا أحبها فَأخْبرهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يُحِبهُ فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذِه اللَّفْظَة انْفَرد بهَا سعيد بن أبي هِلَال وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ قد ذكره بالتخطيط يحيى وَأحمد بن حَنْبَل وَأَيْضًا فَإِن احتجاج خصومنا بِهَذَا لَا يصوغ على أصولهم لِأَنَّهُ خبر وَاحِد لَا يُوجب عِنْدهم الْعلم وَأَيْضًا فَلَو صَحَّ لما كَانَ مُخَالفا لقولنا لأننا إِنَّمَا أَنْكَرْنَا قَول من قَالَ إِن أَسمَاء الله تَعَالَى مُشْتَقَّة من صِفَات ذَاته فَأطلق لذَلِك على الْعلم وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة وَالْكَلَام أَنَّهَا صِفَات وعَلى من أطلق إِرَادَة وسمعاً وبصراً وحياة وَأطلق أَنَّهَا صِفَات فَهَذَا الَّذِي أنكرناه غَايَة الْإِنْكَار وَلَيْسَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَلَا فِي غَيره شَيْء من هَذَا أصلا وَإِنَّمَا فِيهِ أَن قل هُوَ الله أحد خَاصَّة صفة الرَّحْمَن وَلم ننكر هَذَا نَحن بل هُوَ خلاف لقَولهم وَحجَّة عَلَيْهِم لأَنهم لَا يخصون قل هُوَ الله أحد بذلك دون سَائِر الْقُرْآن وَدون الْكَلَام وَالْعلم وَغير ذَلِك وَفِي هَذَا الْخَبَر تَخْصِيص لقَوْله قل هُوَ الله أحد وَحدهَا بذلك وَقل هُوَ الله أحد خبر عَن الله تَعَالَى بِمَا هُوَ الْحق فَنحْن نقُول فِيهَا هِيَ صفة الرَّحْمَن لِمَعْنى أَنَّهَا خبر عَنهُ تَعَالَى حق فَظهر أَن هَذَا الْخَبَر حجَّة عَلَيْهِم لنا وَأَيْضًا فَمن أعجب الْبَاطِل أَن يحْتَج بِهَذَا الْخَبَر فِيمَا لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فِيهِ مِنْهُ شيءٌ من يُخَالِفهُ ويعصيه فِي الحكم الَّذِي ورد فِيهِ من اسْتِحْسَان قِرَاءَة قل هُوَ الله أحد فِي كل رَكْعَة مَعَ سُورَة أُخْرَى فلهذه الفضائح فلتعجب أهل الْعُقُول وَأما الصّفة الَّتِي يطلقونهم فَإِنَّمَا هِيَ فِي اللُّغَة وَاقعَة على عرض فِي جَوْهَر لَا على غير ذَلِك أصلا وَقد قَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} فَأنْكر تَعَالَى إِطْلَاق الصِّفَات جملَة فَبَطل تمويه من موه بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور ليستحل بذلك مَا لَا يحل من إِطْلَاق لَفْظَة الصِّفَات حَيْثُ لم يَأْتِ بإطلاقها فِيهِ نَص وَلَا إِجْمَاع أصلا وَلَا أثر عَن السّلف وَالْعجب من اقتصارهم على لَفْظَة الصِّفَات ومنعهم من القَوْل بِأَنَّهَا نعوت وسمات وَلَا فرق بَين هَذِه الْأَلْفَاظ لَا فِي لُغَة وَلَا فِي معنى وَلَا فِي نَص وَلَا فِي إِجْمَاع القَوْل فِي الْمَكَان والاستواء قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كل مَكَان وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون} قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَول الله تَعَالَى يجب حمله على ظَاهره مَا لم يمْنَع من حمله على ظَاهره نَص آخر أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة حس وَقد علمنَا أَن كل مَا كَانَ فِي مَكَان فَإِنَّهُ شاغل لذَلِك الْمَكَان وَمَالِي لَهُ ومتشكل بشكل الْمَكَان وَالْمَكَان متشكل بشكله وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ ضَرُورَة وَعلمنَا أَن مَا كَانَ فِي مَكَان فَإِنَّهُ متناه بتناهي مَكَانَهُ وَهُوَ ذُو جِهَات سِتّ أَو خمس متناهية فِي مَكَانَهُ وَهَذِه كلهَا صِفَات الْجِسْم فَلَمَّا صَحَّ مَا ذكرنَا علمنَا أَن قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} إِنَّمَا هُوَ التَّدْبِير لذَلِك والإحاطة بِهِ فَقَط ضَرُورَة لانْتِفَاء مَا عدا ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم فِي كل مَكَان خطأ لِأَنَّهُ يلْزم بِمُوجب هَذَا القَوْل أَنه يمْلَأ الْأَمَاكِن كلهَا وَأَن يكون مَا فِي الْأَمَاكِن فِيهِ الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَهَذَا محَال فَإِن قَالُوا هُوَ فِيهَا بِخِلَاف كَون المتمكن فِي الْمَكَان قيل لَهُم هَذَا لَا يعقل وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل وَقد قُلْنَا أَنه لَا يجوز إِطْلَاق اسْم على غير مَوْضُوعه فِي اللُّغَة إِلَّا أَن يَأْتِي بِهِ نَص فيقف عِنْده وندري حِينَئِذٍ أَنه مَنْقُول إِلَى ذَلِك الْمَعْنى الآخر وَإِلَّا فَلَا فَإذْ قد صَحَّ مَا قد ذكرنَا فَلَا يجوز أَن يُطلق القَوْل بِأَن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان لَا على تَأْوِيل وَلَا غَيره لِأَنَّهُ حكم بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْكِنَة لَكِن يُطلق القَوْل بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعنا فِي كل مَكَان وَيكون قَوْلنَا حينئذٍ فِي كل مَكَان إِنَّمَا هُوَ من صلَة الضَّمِير الَّذِي هُوَ النُّون وَالْألف اللَّذَان فِي مَعنا لَا مِمَّا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ معنى قَوْله {هُوَ مَعَهم أَيْن مَا كَانُوا} وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم وَذهب قوم إِلَى أَن الله تَعَالَى فِي مَكَان دون مَكَان وَقَوْلهمْ هَذَا يفْسد بِمَا ذكرنَا آنِفا وَلَا فرق وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقوله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تَأَول الْمُسلمُونَ فِي هَذِه الْآيَة تأويلات أَرْبَعَة أَحدهَا قَول المجسمة وَقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أبنا بحول الله فَسَاده وَالْآخر قالته الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ استولى وأنشدوا قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لما كَانَ الْعَرْش أولى بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ من سَائِر الْمَخْلُوقَات ولجاز لنا أَن نقُول الرَّحْمَن على الأَرْض اسْتَوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مستولٍ عَلَيْهَا وعَلى كل مَا خلق وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَصَارَ هَذَا القَوْل دَعْوَى مُجَرّدَة بِلَا دَلِيل فَسقط وَقَالَ بعض أَصْحَاب بن كلاب أَن الاسْتوَاء صفة ذَات وَمَعْنَاهُ نفي الاعوجاج قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل فِي غَايَة الْفساد لوجوه أَحدهَا أَنه تَعَالَى لم يسم نَفسه مستوياً وَلَا يحل لأحد أَن يسم الله تَعَالَى بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه لِأَن من فعل ذَلِك فقد ألحد فِي أَسْمَائِهِ حُدُود الله أَي مَال عَن الْحق وَقد حد الله تَعَالَى فِي تَسْمِيَته حدوداً فَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَثَانِيها أَن الْأمة مجمعة على أَنه لَا يَدْعُو أحد فَيَقُول يَا مستوي ارْحَمْنِي وَلَا يُسَمِّي ابْنه عبد المستوي وَثَالِثهَا أَنه لَيْسَ كل مَا نفي عَن الله عز وَجل وَجب أَن يُوقع عَلَيْهِ ضِدّه لأننا ننفي عَن الله تَعَالَى السّكُون وَلَا يحل أَن يُسمى الله متحركاً وننفي عَنهُ الْحَرَكَة وَلَا يجوز أَن يُسمى سَاكِنا وننفي عَنهُ الْجِسْم وَلَا يجوز أَن يُسمى سَاكِنا وَنفي عَنهُ النّوم وَلَا يجوز أَن يُسمى يقظاناً وَلَا منتبهاً وَلَا أَن يُسمى لنفي الانحناء عَنهُ مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ كل صفة لم يَأْتِ بهَا النَّص فَكَذَلِك الاسْتوَاء والاعوجاج منفيان عَنهُ مَعًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك لِأَن كل ذَلِك من صِفَات الْأَجْسَام وَمن جملَة الْإِعْرَاض وَالله قد تَعَالَى عَن الْأَعْرَاض وَرَابِعهَا أَنه يلْزم من قَالَ بِهَذَا القَوْل الْفَاسِد أَن يكون الْعَرْش لم يزل تَعَالَى الله عَن ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى علق الاسْتوَاء بالعرش فَلَو كَانَ الاسْتوَاء لم يزل لَكَانَ الْعَرْش لم يزل وَهَذَا كفر وخامسها أَنه لَو كَانَ الاسْتوَاء هَهُنَا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذَلِك إِلَى الْعَرْش معنى ولكان كلَاما فَاسِدا لاوجه لَهُ فَإِن اعْترضُوا فَقَالُوا إِنَّكُم تسمونه سميعاً بَصيرًا وَأَنه لم يزل كَذَلِك فيلزمكم على هَذَا أَن المسموعات والمبصرات لم تزل قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد هَذَا لَا يلْزمنَا لأننا لَا نسمي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَنَقُول قَالَ الله تَعَالَى السَّمِيع الْبَصِير فَقُلْنَا بذلك أَنه لم يزل وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير بِذَاتِهِ كَمَا هُوَ وَلَا نقُول لَا يسمع وَلَا يبصر فنزيد على مَا أَتَى بِهِ النَّص شَيْئا وَنحن نقُول أَنه تَعَالَى لم يزل سمعيا للمسموعات بَصيرًا بالمبصرات يرى المرئيات وَيسمع المسموعات وَمعنى هَذَا كُله أَنه عَالم بِكُل ذَلِك كَمَا قَالَ الله تَعَالَى إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى وَهَذَا كُله معنى الْعلم الَّذِي لَا يَقْتَضِي وجود المعلومات لم تزل لَكِن يعلم مَا يكون أَنه سَيكون على حَقِيقَته وَيعلم مَا هُوَ كَمَا هُوَ وَيعلم مَا قد كَانَ كَمَا قد كَانَ وَهَذَا نجده حسا ومشاهدة وضرورة لأننا فِيمَا بَيْننَا قد نعلم أَن زيدا سيموت وَمَوته لم يَقع وَلَيْسَ هَكَذَا قَوْلهم فِي الاسْتوَاء لِأَنَّهُ مُرْتَبِط بالعرش فَإِن قَالُوا لنا فَإِذن معنى سميع بَصِير هُوَ بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 معنى عليم فَقولُوا أَنه تَعَالَى يبصر المسموعات وَيسمع المرئيات قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَا يمْنَع من هَذَا وَلَا ننكره بل هُوَ صَحِيح لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ أسمع وَأرى فَهَذَا إِطْلَاق لَهُ على كل شَيْء على عُمُومه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْقَوْل الرَّابِع فِي معنى الاسْتوَاء هُوَ أَن معنى قَوْله تَعَالَى على الْعَرْش اسْتَوَى أَنه فعل فعله فِي الْعَرْش وَهُوَ انْتِهَاء خلقه إِلَيْهِ فَلَيْسَ بعد الْعَرْش شَيْء وَيبين ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر الجنات وَقَالَ فسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن فصح أَنه لَيْسَ وَرَاء الْعَرْش خلق وَأَنه نِهَايَة جرم الْمَخْلُوقَات الَّذِي لَيْسَ خَلفه خلاء وَلَا ملاء وَمن أنكر أَن يكون للْعَالم نِهَايَة من المساحة وَالزَّمَان وَالْمَكَان فقد لحق بقول الدهرية وَفَارق الْإِسْلَام والاستواء فِي اللُّغَة يَقع على الِانْتِهَاء قَالَ الله تَعَالَى {وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلماً} أَي فَمَا انْتهى إِلَى الْقُوَّة وَالْخَيْر وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} أَي أَن خلقه وَفعله انْتهى إِلَى السَّمَاء بعد أَن رتب الأَرْض على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا هُوَ الْحق وَبِه نقُول لصِحَّة الْبُرْهَان بِهِ وَبطلَان مَا عداهُ فَأَما القَوْل الثَّالِث فِي الْمَكَان فَهُوَ أَن الله تَعَالَى لَا فِي مَكَان وَلَا فِي زمَان أصلا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من أهل السّنة وَبِه نقُول وَهُوَ الَّذِي لَا يجوز غَيره لبُطْلَان كل مَا عداهُ وَلقَوْله تَعَالَى {أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط} فَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَنه تَعَالَى لَا فِي مَكَان إِذْ لَو كَانَ فِي الْمَكَان لَكَانَ الْمَكَان محيطاً بِهِ من جِهَة مَا أَو من جِهَات وَهَذَا مُنْتَفٍ عَن الْبَارِي تَعَالَى بِنَصّ الْآيَة المذكروة وَالْمَكَان شَيْء بِلَا شكّ فَلَا يجوز أَن يكون شَيْء فِي مَكَان وَيكون هُوَ محيطاً بمكانه هَذَا محَال فِي الْعقل يعلم امْتِنَاعه ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي مَكَان إِلَّا مَا كَانَ جسماً أَو عرضا فِي جسم هَذَا الَّذِي لَا يجوز سواهُ وَلَا يتنكل فِي الْعقل وَالوهم غَيره الْبَتَّةَ وَإِذا انْتَفَى أَن يكون الله عز وَجل جسما أَو عرضا فقد انْتَفَى أَن يكون فِي مَكَان أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} فَقَوله الْحق نؤمن بِهِ يَقِينا وَالله أعلم بمراده فِي هَذَا القَوْل وَلَعَلَّه عَنى عز وَجل السَّمَوَات السَّبع والكرسي فَهَذِهِ ثَمَانِيَة أجرام هِيَ يَوْمئِذٍ والآن بَيْننَا وَبَين الْعَرْش ولعلهم أَيْضا ثَمَانِيَة مَلَائِكَة وَالله أعلم نقُول مَا قَالَ رَبنَا تَعَالَى ونقطع أَنه حق يَقِين على ظَاهره وَهُوَ أعلم بِمَعْنَاهُ وَمرَاده وَأما الخرافات فلسنا مِنْهَا فِي شَيْء وَلَا يَصح فِي هَذَا خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكنَّا نقُول هَذِه غيوب لَا دَلِيل لنا على المُرَاد بهَا لَكنا نقُول {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} وكل مَا قَالَه الله تَعَالَى فَحق لَيْسَ مِنْهُ شَيْء منافياً للمعقول بل هُوَ كُله قبل أَن يخبرنا الله تَعَالَى فِي حد الْإِمْكَان عندنَا ثمَّ إِذا أخبر بِهِ عز وَجل صَار وَاجِبا حَقًا يَقِينا وَقد قَالَ تَعَالَى {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} فصح يَقِينا أَن للعرش حَملَة وهم الْمَلَائِكَة المنقادون لأَمره تَعَالَى كَمَا نقُول أَنا أحمل هَذَا الْأَمر أَي أقوم بِهِ وأتولاه وَقد قَالَ تَعَالَى أَنهم يَفْعَلُونَ مَا يؤمرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وَأَنَّهُمْ يتنزلون بِالْأَمر وَأما الْحَامِل للْكُلّ والممسك للْكُلّ فَهُوَ الله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده} الْكَلَام فِي الْعلم قَالَ الله عز وَجل {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} فَأخْبر تَعَالَى أَنه لَهُ علما ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي علم الله تَعَالَى فَقَالَ جُمْهُور الْمُعْتَزلَة إِطْلَاق الْعلم لله عز وَجل إِنَّمَا هُوَ مجَاز لَا حَقِيقَة وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه تَعَالَى لَا يجهل وَقَالَ سَائِر النَّاس أَن الله تَعَالَى علما حَقِيقَة لَا مجَاز ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ جهم بن صَفْوَان وَهِشَام بن الحكم وَمُحَمّد بن عبد الله ابْن سيرة وأصحابهم أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وَهُوَ مُحدث مَخْلُوق سمعنَا ذَلِك مِمَّن جالسنا مِنْهُم وناظرناهم عَلَيْهِ وَقَالَت طوائف من أهل السّنة علم الله تَعَالَى غير مَخْلُوق لم يزل وَلَيْسَ هُوَ الله وَلَا هُوَ غير الله وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ فِي أحد قوليه لَا يُقَال هُوَ الله وَلَا هُوَ غير الله وَقَالَ فِي قَول لَهُ آخر وَافقه عَلَيْهِ الباقلاني وَجُمْهُور أَصْحَابه أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله وَخلاف الله وَأَنه مَعَ ذَلِك غير مَخْلُوق لم يزل وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف وَأَصْحَابه علم الله لم يزل وَهُوَ الله وَقَالَت طوائف من أهل السّنة علم الله لم يزل وَهُوَ غير مَخْلُوق وَلَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا نقُول هُوَ الله وَكَانَ هِشَام ابْن عمر القوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة لَا يُطلق القَوْل بِأَن الله لم يزل عَالما بالأشياء قبل كَونهَا لَيْسَ لِأَنَّهُ لَا يعلم مَا يكون قبل أَن يكون بل كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لم يزل عَالما بِأَنَّهُ سَتَكُون الْأَشْيَاء إِذا كَانَت قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما من أنكر أَن يكون لله تَعَالَى علم فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يَخْلُو لَو كَانَ الله تَعَالَى علم من أَن يكون غَيره أَو يكون هُوَ هُوَ فَإِن كَانَ غَيره فَلَا يَخْلُو من أَن يكون مخلوقا أَو لم يزل وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فَهُوَ فَاسد فَإِن كَانَ هُوَ الله فَالله علم وَهَذَا فَاسد قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما نفس قَوْلهم فِي أَن لَيْسَ لله تَعَالَى علم فمخالف لِلْقُرْآنِ وَمَا خَالف الْقُرْآن فَبَاطِل وَلَا يحل لأحد أَن يُنكر مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه لَهُ علما فَمن أنكرهُ فقد اعْترض على الله تَعَالَى وَأما اعتراضاتهم الَّتِي ذكرنَا ففاسدة كلهَا وسنوضح فَسَادهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي إفسادنا لقَوْل الْجَهْمِية والأشعرية لِأَن هَذِه الاعتراضات هِيَ اعتراضات هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج جهم بن صَفْوَان بِأَن قَالَ لَو كَانَ علم الله تَعَالَى لم يزل لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَن لَا يكون هُوَ الله وَهُوَ غَيره فَإِن كَانَ علم الله غير الله وَهُوَ لم يزل فَهَذَا تشريك لله تَعَالَى وايجاب الأزلية لغيره تَعَالَى مَعَه وَهَذَا كفر وَإِن كَانَ هُوَ الله فَالله علم وَهَذَا إلحاد وَقَالَ نسْأَل من أنكر أَن يكون علم الله تَعَالَى هُوَ غَيره فَنَقُول أخبرونا إِذا قُلْنَا الله ثمَّ قُلْنَا إِنَّه عليم فَهَل فهمتم من قَوْلنَا عليم شَيْئا زايداً غير مَا فهمتم من قَوْلنَا الله أم لَا فَإِن قُلْتُمْ لَا أحلتم وَإِن قُلْتُمْ نعم أثبتم معنى آخر هُوَ غير الله وَهُوَ علمه وَهَكَذَا قَالُوا فِي قدير وَقَوي وَفِي سَائِر مَا دعوا فِيهِ الصِّفَات وَقَالَ أَيْضا إننا نقُول أَن الله تَعَالَى عَالم بِنَفسِهِ وَلَا نقُول أَنه قَادر على نَفسه فصح أَن علمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 تَعَالَى هُوَ غير قدرته وَإِذا هُوَ غَيرهَا فهما غير الله تَعَالَى وَقد يعلم الله تَعَالَى قَادِرًا من لَا يُعلمهُ عَالما ويعلمه عَالما من لَا يُعلمهُ قَادِرًا فصح أَن كل ذَلِك معَان مُتَغَايِرَة وَاحْتج بِهَذَا كُله أَيْضا من رأى أَنه علم الله تَعَالَى لم يزل وَأَنه مَعَ ذَلِك غير الله تَعَالَى وَأَنه غير قدرته أَيْضا وَاحْتج بآيَات من الْقُرْآن مثل قَوْله تَعَالَى {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ} وَمثل هَذِه قَالَ أَبُو مُحَمَّد من قَالَ بحدوث الْعلم فَإِنَّهُ قَول عَظِيم جدا لِأَنَّهُ نَص بِأَن الله تَعَالَى لم يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما وَإِذا ثَبت أَن الله تَعَالَى يعلم الْآن الْأَشْيَاء فقد انْتَفَى عَنهُ الْجَهْل بهَا يَقِينا فَلَو كَانَ يَوْمًا من الدَّهْر لَا يعلم شَيْئا مِمَّا سَيكون فقد ثَبت لَهُ الْجَهْل بِهِ وَلَا بُد من هَذَا ضَرُورَة وَإِثْبَات الْجَهْل لله تَعَالَى كفر بِلَا خلاف لِأَنَّهُ وَصفه تَعَالَى بِالنَّقْصِ وَوَصفه يَقْتَضِي لَهُ الْحُدُوث وَلَا بُد وَهَذَا بَاطِل مِمَّا قدمنَا من انْتِفَاء جَمِيع صِفَات الْحُدُوث عَن الْفَاعِل تَعَالَى وَلَيْسَ هَذَا من بَاب نفي الضدين عَنهُ كنفينا عَنهُ تَعَالَى الْحَرَكَة والسكون لِأَن نفي جَمِيع الضدين مَوْجُود عَمَّا لَيْسَ فِيهِ أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا وَأما إِذا ثَبت للموصوف بعض نوع من الصِّفَات وانتفى عَنهُ بعض ذَلِك النَّوْع فَلَا بُد هَهُنَا ضَرُورَة من إِثْبَات ضِدّه مِثَال ذَلِك الْحجر انْتَفَى عَنهُ الْعلم وَالْجهل وَأما الْإِنْسَان إِذا ثَبت لَهُ الْعلم بِشَيْء وانتفى عَنهُ الْعلم بِشَيْء آخر فقد وَجب ضَرُورَة إِثْبَات الْجَهْل لَهُ بِمَا لم يُعلمهُ وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فَإِذا قد صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِب النّظر فِي إِفْسَاد احتجاجهم فَأَما قَوْلهم لَو كَانَ علم الله لم يزل وَهُوَ غير الله تَعَالَى لَكَانَ ذَلِك شركا فَهُوَ قَول صَحِيح وَاعْتِرَاض لَا يرد وَأما قَوْلهم لَو كَانَ هُوَ الله لَكَانَ الله علما فَهَذَا لَا يلْزم على مَا نبين بعد هَذَا إِن شَاءَ الله وَجُمْلَة ذَلِك أننا لَا نسمي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلم يسم نَفسه علما وَلَا قدرَة فَلَا يحل لأحد أَن يسمه بذلك وَأما قَوْله هَل يفهم من قَول الْقَائِل الله كَالَّذي يفهم من قَوْله عَالم فَقَط أَو يفهم من قَوْله عَالم معنى غير مَا يفهم من قَوْله الله فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أننا لَا نفهم من قَوْلنَا قدير وعالم إِذا أردنَا بذلك الله تَعَالَى إِلَّا مَا نفهم من قَوْلنَا الله فَقَط لِأَن كل ذَلِك أَسمَاء أَعْلَام لَا مُشْتَقَّة من صفة أصلا لَكِن إِذا قُلْنَا هُوَ الله تَعَالَى بِكُل شَيْء عليم وَيعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الْغَيْب فَإِنَّمَا يفهم من كل ذَلِك أَن هَهُنَا لَهُ تَعَالَى مَعْلُومَات وَأَنه لايخفى عَلَيْهِ شَيْء وَلَا يفهم مِنْهُ الْبَتَّةَ أَن لَهُ علما هُوَ غَيره وَهَكَذَا نقُول فِي يقدر وَفِي غير ذَلِك كُله وَأما قَوْلهم أننا نقُول أَنه تَعَالَى عَالم بِنَفسِهِ وَلَا نقُول أَنه قَادر على نَفسه فقد كذب من قَالَ ذَلِك وإفك بل كل ذَلِك سَوَاء وَهُوَ تَعَالَى قَادر على نَفسه كَمَا هُوَ عَالم بهَا وَلَا فرق بَين ذَلِك وَقد سقط عَن هَذَا السُّؤَال جملَة وَقد تكلمنا على تَفْصِيل هَذَا السُّؤَال بعد هَذَا ويلزمهم ضَرُورَة إِذْ قَالُوا أَنه تَعَالَى غير قَادر على نَفسه أَنه عَاجز عَن نَفسه وَإِطْلَاق هَذَا كفر صَرِيح وَأما قَوْلهم أَنه قد يعلم الله تَعَالَى قَادِرًا من لَا يُعلمهُ عَالما ويعلمه عَالما من لَا يُعلمهُ قَادِرًا فَلَا حجَّة فِي ذَلِك لِأَن جهل من جهل الْحق لَيْسَ بِحجَّة على الْحق وَقد نجد من يعلم الله عز وَجل ويعتقد فِيهِ أَنه عز وَجل جسم فَلَيْسَتْ الظنون حجَّة فِي إبِْطَال حق وَلَا فِي تَحْقِيق بَاطِل فصح أَن علم الله تَعَالَى حق وَقدرته حق وقوته حق وكل ذَلِك لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا الْعلم غير الْقُدْرَة وَلَا الْقُدْرَة غير الْعلم إِذْ لم يَأْتِ دَلِيل بِغَيْر هَذَا لَا من عقل وَلَا من سمع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وحهم بن صَفْوَان سمرقندي يكنى أَبَا مُحرز مولى لبني راسب من الأزد وَكَانَ كالبا لِلْحَارِثِ ابْن شُرَيْح التَّمِيمِي أَيَّام قِيَامه بخراسان وظفر مُسلم بن أحوز التَّمِيمِي بجهم فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَضرب عُنُقه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمعنى كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من الْآيَات الَّتِي ذكرُوا هُوَ مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى بحوله عز وَجل هُوَ أَنه لما أخبرنَا الله عز وَجل بِأَن أهل النَّار لَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَأخْبرنَا عز وَجل بِأَنَّهُ يعلم مَتى تقوم السَّاعَة وَأخْبرنَا مَا تَقول أهل الْجنَّة وَأهل النَّار قبل أَن يَقُولُوا أَو سَائِر مَا فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصادقة عَمَّا لم يكن بعد علمنَا بذلك إِن علمه تَعَالَى بالأشياء كلهَا مقدم لوجودها ولكونها ضَرُورَة وَعلمنَا أَن كَلَامه عز وَجل لَا يتناقض وَلَا يتدافع وَأَن المُرَاد بقوله تَعَالَى حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَسَائِر مَا فِي الْقُرْآن من مثل هَذَا إِنَّمَا هُوَ على ظَاهره دون تكلّف تَأْوِيل بل على الْمَعْهُود بَيْننَا كَقَوْلِه تَعَالَى {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} فَمَا هُوَ كُله على حسب إِدْرَاك لمخاطب وَمعنى ذَلِك أَي حَتَّى نعلم من يُجَاهد مِنْكُم مُجَاهدًا ونعلم من يصير مِنْكُم صَابِرًا وَهَذَا لَا يكون إِلَّا فِي حِين جهادهم وَحين صبرهم وَأما قبل أَن يجاهدوا ويصبروا فَإِنَّمَا علمهمْ غير مجاهدين وَغير صابرين وَأَنَّهُمْ سيجاهدون ويصبرون فَإِذا جاهدوا علمهمْ حينئذٍ مجاهدين وَإِنَّمَا الزَّمَان فِي كل هَذَا للعلوم وَأما علمه تَعَالَى فَفِي غير زمَان وَلَيْسَ هَهُنَا تبدل علم وَإِنَّمَا يتبدل الْمَعْلُوم فَقَط وَالْعلم بِكُل ذَلِك لم يزل غير متبدل فَإِن قَالُوا مَتى علم الله زيدا مَيتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 فَإِن قُلْتُمْ لم يزل يُعلمهُ مَيتا وَجب أَن زيدا لم يزل مَيتا وَهَذَا محَال وَإِن قُلْتُمْ لم يُعلمهُ مَيتا حَتَّى مَاتَ فَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلكُم فَالْجَوَاب عَن هَذَا أننا لَا نقُول شَيْئا مِمَّا ذكر ولكننا نقُول أَن الله عز حجل لم يزل يعلم أَنه سيخلف زيدا وَأَنه سيعيش كَذَا وَكَذَا وَأَنه سيموت فِي وَقت كَذَا فَعلم الله تَعَالَى بِكُل ذَلِك وَاحِد لَا يتبدل وَلَا يَسْتَحِيل وَلَا زَاد فِيهِ تبدل الْأَحْوَال الَّتِي للمعلوم شَيْئا وَلَا نقص مِنْهُ عدمهَا شَيْئا وَلَا أحدث لَهُ حُدُوث ذَلِك علما لم يكن وَإِنَّمَا تغاير المعلومات لَا الْعلم وَلَا الْعَلِيم وَلَا الْقُدْرَة وَلَا الْقَدِير وَالْفرق بَين القَوْل مَتى علم الله زيدا مَيتا وَبَين القَوْل مَتى علمت زيدا مَيتا فرق بَين وَهُوَ أَن علمي بِأَن زيدا مَاتَ هُوَ عرض حدث فِي النَّفس بحدوث موت زيد وَهُوَ غير علمي بِأَن زيدا حَيّ وَأَنه سيموت لِأَن علمي بِأَن زيدا سيموت إِنَّمَا هُوَ علم بِأَنَّهُ ستحدث حَال مقتضية لمَوْته يَوْمًا مَا لَا علمنَا بِوُجُود الْمَوْت وَعلمِي بِأَن زيدا ميت علم بِوُجُود الْمَوْت فَهُوَ غير الْعلم الأول وَكِلَاهُمَا عرض مَخْلُوق فِي النَّفس وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير الله عز وَجل وَلَو كَانَ علم الله مُحدثا لوَجَبَ ضَرُورَة أَن يكون على حكم سَائِر المحدثات وبضرورة الْعقل نعلم أَن الْعلم كَيْفيَّة عرض وَالْعرض لَا يقوم الْبَتَّةَ إِلَّا فِي جسم ومحال أَن يكون الْعلم مَحْمُولا فِي غير الْعَالم بِهِ فَكَانَ يجب من هَذَا القَوْل بالتجسيم وَهَذَا قَول قد بَطل بِمَا قدمنَا من الْبَرَاهِين على وجوب حُدُوث كل جسم وَعرض فَإِن قَالَ قَائِل علم الله تَعَالَى عرض حَادث فِي الْمَعْلُوم قَائِم بِهِ لَا بالباري عز وَجل وَلَا بِنَفسِهِ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بِنَصّ الْقُرْآن علمنَا أَن الله عز وَجل عِنْده علم السَّاعَة وَعلم مَا لَا يكون أبدا إِن لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون إِذْ يَقُول تَعَالَى {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} وَلقَوْله تَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلَام {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} وَأخْبر تَعَالَى أَنهم مغرقون فَلَو كَانَ علم الله تَعَالَى عرضا قَائِما فِي الْمَعْلُوم والمعلوم الَّذِي هُوَ السَّاعَة غير مَوْجُود بعد وَالْعلم مَوْجُود بِيَقِين فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد أَمريْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون الْمَعْلُوم مَوْجُودا لوُجُود الْعلم بِهِ وَهَذَا بَاطِل بضرورة الْحس لِأَن الْمَعْلُوم الَّذِي ذكرنَا مَعْدُوم فَيكون مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حِين وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة أَو يكون الْعلم الْمَوْجُود قَائِما بِمَعْلُوم مَعْدُوم فَيكون عرض مَوْجُود مَحْمُولا فِي حَامِل مَعْدُوما وَهَذَا تَخْلِيط ومحال فَاسد الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ أهل ملتنا المقرين بِالْقُرْآنِ وَأما سَائِر الْملَل فَلَيْسَ نكلمهم فِي هَذَا لِأَنَّهَا نتيجة مُقَدمَات سوالف وَلَا يجوز الْكَلَام فِي النتيجة إِلَّا بعد إِثْبَات الْمُقدمَات فَإِن ثَبت الْمُقدمَات ثبتَتْ النتيجة والبرهان لَا يُعَارضهُ برهَان فَكل مَا ثَبت ببرهان فعورض بِشَيْء فَإِنَّمَا هُوَ شغب بِلَا شكّ وَإِن لم تصح الْمُقدمَات فالنتيجة بَاطِلَة دون تكلّف دَلِيل ومقدمات مَا ذكرنَا هِيَ إِثْبَات التَّوْحِيد وحدوث الْعَالم وَنقل الكواف لنبوة مُحَمَّد صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الله عَلَيْهِ وَسلم وللقرآن فَإِن ذكرُوا الْآيَات الَّتِي فِي الْقُرْآن مثل {لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} لَعَلَّكُمْ تؤمنون {لَعَلَّكُمْ تشكرون} {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّمَا هِيَ كلهَا بِمَعْنى لَام الْعَاقِبَة أَي ليتذكر ولتؤمنوا وليشكروا وليتذكروا وليخشى على ظَاهر الْأَمر عندنَا من إِمْكَان كل ذَلِك منا كَمَا قَالَ عز وَجل {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقَالَ عز وَجل {ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} فَهَذَا أَيْضا على الْإِمْكَان مِمَّن عَاشَ وَالْأول على الْمُمكن من النَّاس عِنْد الْخطاب وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن بِلَفْظَة أَو فَإِنَّمَا هُوَ على أحد وَجْهَيْن أما على الشَّك من المخاطبين لَا من الله تَعَالَى وَأما بِمَعْنى التَّخْيِير فِي الْكل كَقَوْل الْقَائِل جَالس الْحسن أَو ابْن سِرين برهَان ذَلِك وُرُود النَّص بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يضل وَلَا ينسى وَأَنه قد علم أَن فِرْعَوْن لَا يُؤمن حَتَّى يرى الْعَذَاب وكما قَالَ تَعَالَى أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص كلهَا فَلم يبْق لأهل القَوْل بحدوث الْعلم إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى خلق شَيْئا مَا كَانَ حَامِلا لعلمه بالساعة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من السخف مَا هُوَ من الْعلم لِأَن علم الْعَالم لَا يقوم بِغَيْرِهِ وَلَا يحملهُ سواهُ هَذَا أَمر يعلم بِالضَّرُورَةِ والحس فَمن ادّعى دَعْوَى لَا يَأْتِي عَلَيْهَا بِدَلِيل فَهِيَ بَاطِلَة فَكيف إِذا أبطلها الْحس وضرورة الْعقل وَيبين مَا قُلْنَا نصا قَوْله تَعَالَى حاكياً عَن نبيه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لبني إِسْرَائِيل {عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} هَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أَكثر نفيراً إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة ليسوؤوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة وليتبروا مَا علوا تتبيراً عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا} فَهَذَا نَص قَوْلنَا أَنه قد علم تَعَالَى مَا يَفْعَلُونَ وَأخْبر بذلك ثمَّ مَعَ هَذَا أخرج الْخطاب بالمعهود عندنَا بِلَفْظ عِيسَى وفينظر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد صَحَّ مَا كرنا فقد ثَبت ضَرُورَة إِن قَول الْقَائِل مَتى علم الله زيدا مَيتا سُؤال فَاسد بِالضَّرُورَةِ لِأَن مَتى سُؤال عَن زمَان وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَقد مضى الْبُرْهَان على أَن الله تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان وَلَا فِي مَكَان وَإِنَّمَا الزَّمَان وَالْمَكَان للمعلوم فَقَط بِمَا بَينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} فَقَالَ إِن من للتَّبْعِيض وَلَا يَتَبَعَّض إِلَّا مُحدث مَخْلُوق وَلَا يحاط إِلَّا بمخلوق مُحدث وَقد نَص الله تَعَالَى أَنه يحاط بِمَا شَاءَ من علمه فَوَجَبَ أَن علمه مَخْلُوق لِأَنَّهُ محاط بِبَعْضِه وَهُوَ متبعض فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 التَّوْفِيق أَن كَلَام الله تَعَالَى وَاجِب أَن يحمل على ظَاهره وَلَا يُحَال عَن ظَاهره الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة حس على أَن شَيْئا مِنْهُ لَيْسَ على ظَاهره وَأَنه قد نقل عَن ظَاهره إِلَى معنى آخر فالانقياد وَاجِب علينا لما أوجبه ذَلِك النَّص وَالْإِجْمَاع أَو الضَّرُورَة لِأَن كَلَام الله تَعَالَى وإخباره وأوامره لَا تخْتَلف وَالْإِجْمَاع لَا يَأْتِي إِلَّا بِحَق وَالله تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق وكل مَا أبْطلهُ برهَان ضَرُورِيّ فَلَيْسَ بِحَق فَإِن هَذَا كَمَا قُلْنَا وَقد ثَبت ضَرُورَة أَن علم الله تَعَالَى لَيْسَ عرضا وَلَا جسماً أصلا لَا مَحْمُولا فِيهِ وَلَا فِي غَيره وَلَا هُوَ شَيْء غير الْبَارِي عز وَجل فبالضرورة نعلم أَن معنى قَوْله عز وَجل وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِنَّمَا المُرَاد الْعلم الْمَخْلُوق الَّذِي أعطَاهُ عباده وَهُوَ عرض فِي الْعَالمين مَحْمُول فيهم وَهُوَ مُضَاف إِلَى الله عز وَجل بِمَعْنى الْملك وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا قَالَ الله عز وَجل {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يُرِيد تَعَالَى مَا خلق من الْعُلُوم وبثها فِي عباده كَمَا قَالَ الْخضر لمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنِّي على علم من علم الله لَا تعلمه أَنْت وَأَنت على علم من علم الله لَا أعلمهُ أَنا وَمَا نقص علمي وعلمك من علم الله إِلَّا كَمَا نقص هَذَا العصفور من الْبَحْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ إِضَافَة الْملك وكما قَالَ تَعَالَى فِي عِيسَى أَنه روح الله وَهَذَا كُله إِضَافَة الْملك فها معنى قَوْله تَعَالَى وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وَقد نفى الله تَعَالَى الْإِحَاطَة من الْخلق بِهِ فَقَالَ عز وَجل وَلَا يحيطون بِهِ علما قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيخرج أَيْضا على ظَاهره أحسن خُرُوج دون تَأْوِيل ولاتكلف فَيكون معنى قَوْله تَعَالَى وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ أَي من الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وَهَذَا حق لَا شكّ فِيهِ لأننا لَا نحيط من الْعلم بِهِ تَعَالَى إِلَّا بِمَا علمنَا فَقَط قَالَ تَعَالَى وَلَا يحيطون بِهِ علما فَيكون معنى من علمه أَي من مَعْرفَته فَإِن قَالُوا فَمَا معنى دعائكم الله فِي الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة وَهل يَخْلُو أَن يكون سبق علمه بِالرَّحْمَةِ فَأَي معنى للدُّعَاء فيمالا بُد مِنْهُ وَهل هُوَ إِلَّا كمن دعِي فِي طُلُوع الشَّمْس غَدا أَو فِي أَن يَجْعَل إنْسَانا إنْسَانا أَو فِي أَن تكون الأَرْض أَرضًا وَإِن كَانَ سبق فِي علمه تَعَالَى حلاف ذَلِك فَأَي معنى فِي الدُّعَاء فِيمَا لَا يكون وَهل هُوَ إِلَّا كمن دعى فِي أَن لَا تقوم السَّاعَة أَو فِي أَن لَا يكون النَّاس نَاسا فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الدُّعَاء عمل أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ لَا على أَنه يرد قدرا وَلَا أَنه يكون من أَجله مَالا يكون لَكِن الله تَعَالَى قد جعل فِي سَابق علمه الدُّعَاء الَّذِي سبق فِي علمه قبُوله يكون سَببا لما سبق فِي علمه كَونه كَمَا جعل فِي سَابق علمه الغذا بِالطَّعَامِ وَالشرَاب سَببا لبلوغ الْأَجَل الَّذِي سبق فِي علمه الْبلُوغ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْمَال وَقد نَص تَعَالَى على أَنه تَعَالَى يعلم آجال الْعباد قَالَ تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَمَعَ ذَلِك فقد جعل تَعَالَى الْأكل وَالشرب سَببا إِلَى اسْتِيفَاء ذَلِك الْمِقْدَار وكل ذَلِك سَابق فِي علمه عز وَجل وَالدُّعَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 هَكَذَا وَكَذَلِكَ التَّدَاوِي على سَبِيل الطِّبّ وَلَا فرق وَقد أخبرنَا تَعَالَى أَنه يُصَلِّي على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمرنا مَعَ ذَلِك بِالدُّعَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى قل رب احكم بِالْحَقِّ فَأمرنَا بِالدُّعَاءِ بذلك وَقد علمنَا أَنه تَعَالَى لَا يحكم إِلَّا بِالْحَقِّ فصح مَا قُلْنَا من أَن الدُّعَاء عمل أمرنَا بِهِ فَنحْن نعمله حَيْثُ أمرنَا عز وَجل بِهِ وَلَا نعمله حَيْثُ لم نؤمر بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِذا قد بَطل بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وَهُوَ مَخْلُوق فلنتكلم بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله وَهُوَ مَخْلُوق فلنتكلم بعون الله تَعَالَى وتأييده على قَوْله من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وخلافه وَأَنه لم يزل مَعَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا قَول لَا يحْتَاج فِي رده إِلَى أَكثر من أَنه شرك مُجَرّد وَإِبْطَال للتوحيد لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَعَ الله تَعَالَى شَيْء غَيره لم يزل مَعَه فقد بَطل أَن يكون الله تَعَالَى كَانَ وَحده بل قد صَار لَهُ شريك فِي أَنه لم يزل وَهَذَا كفر مُجَرّد ونصرانية مَحْضَة مَعَ أَنَّهَا دَعْوَى سَاقِطَة بِلَا دَلِيل أصلا وَمَا قَالَ بِهَذَا أحد قطّ من أهل الْإِسْلَام قبل هَذِه الْفرْقَة المحدثة بعد الثلاثمائة عَام فَهُوَ خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَترك للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَقد قلت لبَعْضهِم إِذْ قُلْتُمْ أَنه لم يزل مَعَ الله تَعَالَى شَيْء آخر هُوَ غَيره وخلافه وَلم يزل مَعَه فلماذا أنكرتم على النَّصَارَى فِي قَوْلهَا أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة فَقَالَ لي مُصَرحًا مَا أَنْكَرْنَا على النَّصَارَى إِلَّا اقتصارهم على الثَّلَاثَة فَقَط وَلم يجْعَلُوا مَعَه تَعَالَى أَكثر من ذَلِك فَأَمْسَكت عَنهُ إِن صرح بِأَن قَوْلهم أَدخل فِي الشّرك من قَول النَّصَارَى وَقَوْلهمْ هَذَا رد لقَوْل الله عز وَجل قل هُوَ الله أحد فَلَو كَانَ مَعَ الله غير الله لم يكن الله أحد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا كُنَّا نصدق من أَن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام يَأْتِي بِهَذَا أَنا شاهدناهم وناظرناهم ورأينا ذَلِك صراخا فِي كتبهمْ ككتاب السمناني قَاضِي الْموصل فِي عصرنا هَذَا وَهُوَ من أكابرهم وَفِي كتاب الْمجَالِس للأشعري وَفِي كتب لَهُم أخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْعجب مَعَ هَذَا كُله تَصْرِيح الباقلاني وَابْن فورك فِي كتبهما فِي الْأُصُول وَغَيرهَا بِأَن علم الله تَعَالَى وَاقع مَعَ علمنَا تَحت حد وَاحِد وَهَذِه حَمَاقَة ممزوجة بهوس إِذْ جعلُوا مَا لم يزل محدوداً بِمَنْزِلَة المحدثات وكل مَا أدخلْنَاهُ على المنانية وَالنَّصَارَى وَمن يبطل التَّوْحِيد فَهُوَ دَاخل على هَذِه الْفرْقَة حرفا بِحرف فأغنانا أَن نحيل على ذَلِك عَن تكراره ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا مَعَ قَوْلهم إِن التغاير لَا يكون إِلَّا فِيمَا جَازَ أَن يُوجد أَحدهمَا دون الآخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه غَايَة السخافة لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان عَلَيْهَا لَا من قُرْآن وَلَا سنة وَلَا مَعْقُول وَلَا لُغَة أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل ويلزمهم على هَذَا أَن الْخلق لَيْسُوا غير الْخَالِق تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُوجد الْخلق دون الْخَالِق فَإِن قَالُوا جَائِز أَن يُوجد الْخَالِق دون الْخلق قُلْنَا نعم فَمن أَيْن لكم أَن أحد التغاير هُوَ أَنه لَا يجوز أَن يُوجد أَحدهمَا أَيهمَا كَانَ دون الآخر وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ ويلزمهم لُزُوما لَا ينفكون عَنهُ إِن الْإِعْرَاض لَيست غير الْجَوَاهِر لِأَنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ وَلَا يُمكن وَلَا يتَوَهَّم وجود أَحدهمَا دون الآخر جملَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وحد التغاير الصَّحِيح هُوَ مَا شهِدت لَهُ اللُّغَة وضرورة الْحس وَالْعقل وَهُوَ أَن كل مسميين جَازَ أَن يخبر عَن أَحدهمَا بِخَبَر من لَا يخبر بِهِ عَن الآخر فهما غير أَن لَا بُد من هَذَا وَبِالْجُمْلَةِ مَا لم يكن غير الشَّيْء نَفسه فَهُوَ غَيره وَمَا لم يكن غير الشَّيْء فَهُوَ نَفسه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد بَطل بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله ثمَّ جعله مخلوقا أَو جعله لم يزل فلنقل سَائِر الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله عز وَجل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ الله تَعَالَى وَلَا هُوَ غَيره لكنه صفة ذَات لم يزل فَكَلَام فَاسد محَال متناقض يبطل بعضه بَعْضًا لأَنهم إِذْ قَالُوا علم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ لله فقد أوجبوا بِهَذَا القَوْل ضَرُورَة أَنه غَيره ثمَّ إِذْ قَالُوا وَلَا هُوَ غَيره فقد أبطلوا الغيرية وأوجبوا بِهَذَا القَوْل ضَرُورَة أَنه هُوَ فصح أَنه سَوَاء قَول الْقَائِل هُوَ هُوَ ولاغيره وَقَول الْقَائِل هُوَ هُوَ وَهُوَ غَيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فَإِن معنى هَاتين القضيتين وَاحِد لايختلف وكلا العبارتين بَاطِل مُنَاقض لَا يعقل نفي وَإِثْبَات مَعًا وَهَذَا تَخْلِيط الممرورين نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَالْعجب من احتجاج بَعضهم فِي هَذَا الْبَاطِل بِأَن قَالَ إِن الطول لَيْسَ هُوَ الطَّوِيل وَلَا هُوَ غَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من أَطَم مَا يكون من الْجَهْل والمكابرة إِذْ لَا يدْرِي هَذَا الْقَائِل أَن الطَّوِيل جَوْهَر جسم قَائِم بِنَفسِهِ حَامِل لطوله ولسائر أعراضه وَإِن الطَّوِيل عرض من الْأَعْرَاض مَحْمُول فِي الطَّوِيل غير قَائِم بِنَفسِهِ فَمن جهل أَن الْمَحْمُول غير الْحَامِل وَأَن الْقَائِم بِنَفسِهِ هُوَ غير مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ فَهُوَ عديم حس وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يعلم قبل أَن يهدر وَنحن نريه الطين الطَّوِيل يَدُور فَيذْهب الطول والتربيع وَيَأْتِي التدوير وَالَّذِي كَانَ طَويلا بَاقٍ بحسه فَهَل يخفى على سَالم التَّمْيِيز أَن الذَّاهِب غير الْآتِي وَأَن الفاني غير الْبَاقِي فبالضرورة نعلم أَن الطول غير الطَّوِيل ثمَّ نقُول لمن تعلق بِهَذِهِ الْعبارَة الْفَاسِدَة أخبرونا هَل يَخْلُو كل اسْمَيْنِ متغايرين من أحد وَجْهَيْن ضَرُورَة لَا ثَالِث لَهَا الْبَتَّةَ أما أَن يكون الاسمان واقعين مَعًا على شَيْء وَاحِد يعبر بذينك الاسمين على ذَلِك الشَّيْء الَّذِي علق عَلَيْهِ وَأما أَن يكون الاسمان واقعين مَعًا على شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ يعبر بِكُل اسْم مِنْهُمَا على حِدته عَن الشَّيْء الَّذِي علق عَلَيْهِ ذَلِك الِاسْم هَذَانِ وَجْهَان لَا بُد من أَحدهمَا ضَرُورَة لكل اسْمَيْنِ وَأي هذَيْن كَانَ فَهُوَ مُبْطل لتخليط من قَالَ لَا هُوَ هُوَ وَلَا غَيره وَقد زَاد بَعضهم فِي الشعوذة والسفسطة وإفساد الْحَقَائِق فَأتى بِدَعْوَى فَاسِدَة وَذَلِكَ أَن قَالَ لَا يكون الشَّيْء غير الشَّيْء إِلَّا إِذا أمكن أَن ينْفَرد أَحدهمَا عَن الآخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة بِلَا دَلِيل فَلَو لم يكن إِلَّا هَذَا لسقط هَذَا التمويه فَكيف وَهِي قَضِيَّة فَاسِدَة لِأَنَّهَا توجب أَن كُلية الْإِعْرَاض لَيست غير كُلية الْجَوَاهِر لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى انْفِرَاد الْجَوَاهِر عَن الْإِعْرَاض وَلَا انْفِرَاد الْإِعْرَاض عَن الْجَوَاهِر فَكفى فَسَادًا بِكُل هذيان أدّى إِلَى مثل هَذَا التَّخْلِيط قَالَ أَبُو مُحَمَّد حد التغاير فِي الغيرين هُوَ أَن كل شَيْء أخبر عَنهُ بِخَبَر مَا لَا يكون ذَلِك الْوَقْت خَبرا عَن الشَّيْء الآخر فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ غير مَا لَا يُشَارِكهُ فِي ذَلِك الْخَبَر وَلَيْسَ فِي كل مَا يعلم وَيُوجد شَيْئَانِ يخلوان من هَذَا الْوَصْف بِوَجْه من الْوُجُوه وَهَذَا مُقْتَضى لَفْظَة الْغَيْر فِي اللُّغَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعَ أَن هَذَا أَمر يعلم بضرورة الْحس وَالْعقل وحد الهوية هُوَ أَن كل مَا لم يكن غير الشَّيْء فَهُوَ هُوَ بِعَيْنِه إِذْ لَيْسَ بَين الهوية والغيرية وسيطة يَعْقِلهَا أحد الْبَتَّةَ فَمَا خرج عَن أَحدهمَا دخل فِي الآخر وَلَا بُد وَأَيْضًا فَكل اسْمَيْنِ مُخْتَلفين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 لَا يخبر عَن مُسَمّى أَحدهمَا بِشَيْء إِلَّا كَانَ ذَلِك الْخَبَر خَبرا عَن مُسَمّى الِاسْم الآخر وَلَا بُد أبدا فمسماهما وَاحِد بِلَا شكّ فَإِذا قد صَحَّ فَسَاد هَذَا القَوْل فلنقل بعون الله تَعَالَى أَنه لم يزدْ فِي هَذِه الْعبارَة على أَن قَالَ لَا يُقَال فِي هَذَا شَيْء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ لِأَنَّهُ لَا بُد ضَرُورَة من أحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ فَسقط هَذَا القَوْل أَيْضا إِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَان الْحَقِيقَة وَأما قَول أبي الْهُذيْل أَن علم الله هُوَ الله فَإِنَّهُ تَسْمِيَة مِنْهُ للباري تَعَالَى باستدلال وَلَا يجوز أَن يخبر عَن الله تَعَالَى وَلَا أَن يُسمى باستدلال الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ بِخِلَاف كل مَا خلق فَلَا دَلِيل يُوجب تَسْمِيَته بِشَيْء من الْأَسْمَاء الَّتِي يُسمى بهَا شَيْء من خلقه وَلَا أَن يُوصف بِصفة يُوصف بهَا شَيْء من خلقه وَلَا أَن يخبر عَنهُ بِمَا يخبر بِهِ عَن شَيْء من خلقه إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِشَيْء من ذَلِك فَيُوقف عِنْده فَمن وَصفه تَعَالَى بِصفة يُوصف بهَا شَيْء من خلقه أَو سَمَّاهُ باسم يُسَمِّي بِهِ شَيْء من خلقه اسْتِدْلَال لَا على ذَلِك بِمَا وجد فِي خلقه فقد شبهه تَعَالَى بخلقه وألحد فِي أَسْمَائِهِ وافترى الْكَذِب وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى وَلَا أَن يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه أَو أخبر بِهِ عَن نَفسه فِي كِتَابه أَو على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو صَحَّ بِهِ إِجْمَاع جَمِيع أهل الْإِسْلَام الْمُتَيَقن وَلَا مزِيد وَحَتَّى وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا فَلَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ تَعَالَى اللَّفْظ وَقد علمنَا يَقِينا أَن الله عز وَجل بني السَّمَاء قَالَ تَعَالَى {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} وَلَا يجوز أَن يُسمى بِنَاء وَأَنه تَعَالَى خلق أصباغ النَّبَات وَالْحَيَوَان وَأَنه تَعَالَى قَالَ {صبغة الله} وَلَا يجوز أَن يُسمى صباغاً وَهَكَذَا كل شَيْء لم يسم بِهِ نَفسه وَلَيْسَ يجب أَن يُسمى الله تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ علمه وَإِن صَحَّ يَقِينا أَن لَهُ علما لَيْسَ هُوَ غَيره لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد صَحَّ أَن ذَات الله تَعَالَى لَيست غَيره وَأَن وَجهه لَيْسَ غَيره وَأَن نَفسه لَيست غَيره وَأَن هَذِه الْأَسْمَاء لَا يعبر بهَا إِلَّا عَنهُ تَعَالَى لَا عَن شَيْء غَيره تَعَالَى الْبَتَّةَ وَلَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى ذَات وَلَا أَنه وَجه وَلَا أَنه نفس وَلَا أَنه علم وَلَا أَنه قدرَة وَلَا أَنه قُوَّة لما ذكرنَا من امْتنَاع أَن يُسمى عَالم بِهِ نَفسه عَن رجل وَأما علم لمخلوقين فَهُوَ شَيْء غَيرهم بِلَا شكّ لِأَنَّهُ يذهب ويعاقبه جهل والباري تَعَالَى لَا يُشبههُ غَيره فِي شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء الْبَتَّةَ بل هُوَ تَعَالَى خلاف خلقه فِي كل وَجه فَوَجَبَ أَن علمه تَعَالَى لَيْسَ غَيره وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ لنا قَائِل إِذْ الْعلم عنْدكُمْ لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَأَن قدرته لَيست غَيره وَأَن قوته لَيست غَيره تَعَالَى فَأنْتم إِذا تَعْبدُونَ الْعلم وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة فجوابنا فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إننا إِنَّمَا نعْبد الله تَعَالَى بِالْعَمَلِ الَّذِي أمرنَا بِهِ لَا بِمَا سواهُ وَلَا نَدْعُوهُ إِلَّا كَمَا أمرنَا تَعَالَى قَالَ عز وَجل {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فَنحْن لَا نعْبد إِلَّا الله كَمَا أمرنَا وَلَا نقُول أننا نعْبد الْعلم لِأَن الله تَعَالَى لم يُطلق لنا أَن نطلق هَذَا اللَّفْظ وَلَا أَن نعتقده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ثمَّ نسألهم عَمَّا سألونا عَنهُ بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم أَنْتُم تقرون أَن وَجه الله وَعين الله وَيَد الله وَنَفس الله لَيْسَ شَيْء من ذَلِك غير الله تَعَالَى بل ذَلِك عنْدكُمْ هُوَ الله فَأنْتم إِذا تَعْبدُونَ الْوَجْه وَالْيَد وَالْعين والذات فَإِن قَالُوا نعم قُلْنَا لَهُم فَقولُوا فِي دعائكم يَا يَد الله ارحمينا وَيَا عين الله ارضي عَنَّا وَيَا ذَات الله اغفري لنا إياك نعْبد وَقُولُوا نَحن خلق وَجه الله وَعبيد عين الله فَإِن جسروا على ذَلِك فَنحْن لَا نجيز الْإِقْدَام على مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلَا نتعدى حُدُوده فَإِن شهدُوا فَلَا نشْهد مَعَهم {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَالَّذِي ألزمونا من هَذَا فَهُوَ لَازم لَهُم لِأَنَّهُ سُؤال رضوه وصححوه وَمن رَضِي شَيْئا لزمَه وَنحن لم نرض هَذَا السُّؤَال وَلَا صححناه فَلَا يلْزمنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي سميع بَصِير وَفِي قديم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأجْمع الْمُسلمُونَ على القَوْل بِمَا جَاءَ بِهِ نَص الْقُرْآن من أَن الله تَعَالَى سميع بَصِير ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة من أهل السّنة والأشعرية وجعفر بن حَرْب من الْمُعْتَزلَة وَهِشَام ابْن الحكم وَجَمِيع المجسمة نقطع أَن الله سميع بسمع بَصِير ببصر وَذَهَبت طوائف من أهل السّنة مِنْهُم الشَّافِعِي وَدَاوُد بن عَليّ وَعبد الْعَزِيز بن مُسلم الْكِنَانِي رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم إِلَى أَن الله تَعَالَى سميع بَصِير وَلَا نقُول بسمع وَلَا يبصر لِأَن الله تَعَالَى لم يقلهُ وَلَكِن سميع بِذَاتِهِ وبصير بِذَاتِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبِهَذَا نقُول وَلَا يجوز إِطْلَاق سمع وَلَا بصر حَيْثُ لم يَأْتِ بِهِ نَص لما ذكرنَا آنِفا من أَنه لَا يجوز أَن يخبر عَنهُ تَعَالَى مَا لم يخبر عَن نَفسه وَاحْتج من أطلق على الله تَعَالَى السّمع وَالْبَصَر بِأَن قَالَ لَا يعقل السَّمِيع إِلَّا بسمع وَلَا يعقل الْبَصِير إِلَّا ببصر وَلَا يجوز أَن يُسمى بَصِير إِلَّا من لَهُ بصر وَلَا يُسمى سميعاً إِلَّا من لَهُ سمع وَاحْتَجُّوا أَيْضا فِي هَذَا وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من أَن الصِّفَات مُتَغَايِرَة بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى يسمع المبصرات وَلَا أَنه يبصر المسموعات من الْأَصْوَات وَقَالُوا هَذَا لَا يعقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ شغبي فاسدٌ أما قَوْلهم لَا يعقل السَّمِيع إِلَّا بسمع وَلَا يعقل الْبَصِير إِلَّا ببصر فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما فِيمَا بَيْننَا فَنعم وَكَذَلِكَ أصلا لم نجد قطّ فِي شَيْء من الْعَالم الَّذِي نَحن فِيهِ سميعاً إِلَّا بسمع وَلَا وجد فِيهِ بَصيرًا إِلَّا ببصر فَإِنَّهُ لم يُوجد قطّ أَيْضا فِيهِ سميع إِلَّا بجارحة يسمع بهَا وَلَا وجد قطّ فِيهِ عَالم إِلَّا بضمير فلزمهم أَن يجرو على الله تَعَالَى هَذِه الْأَوْصَاف وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وهم لَا يَقُولَن هَذَا وَلَا يستجيزونه وَأما المجسمة فَإِنَّهُم أطْلقُوا هَذِه وجوزوه وَقد مضى نقض قَوْلهم بعون الله وتأييده وَيلْزم الطَّائِفَتَيْنِ كلتيهما إِذا قطعُوا بِاللَّه تَعَالَى سمعا وبصراً لِأَنَّهُ سميع بَصِير وَلَا يُمكن أَن يكون سميع بَصِير إِلَّا إِذا سمع وبصر لَا سِيمَا وَقد صَحَّ النَّص بِأَن لَهُ تَعَالَى عينا وَأَعْيُنًا أَن يَقُولُوا أَنه ذُو حدقة وناظر وطباق فِي الْعين وَذُو أشفار وأهداب لأننا نشاهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فِي الْعَالم وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن تكون عين الَّذِي عين يرى بهَا ويبصر إِلَّا هَكَذَا وَإِلَّا فَهِيَ عين ذَات عاهة أَو كعيون بعض الْحَيَوَان الَّتِي لَا يطبقها وَكَذَلِكَ لَا يكون فِي الْمَعْهُود وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون سميع فِي الْعَالم إِلَّا بِإِذن ذَات صماخ فيلزمهم أَن يثبتوا هَذَا كُله وَإِلَّا فقد أبطلوا استدلالهم وزودوا استشهادهم بالمعهود والمعقول فَإِن أطْلقُوا هَذَا كُله تركُوا مَذْهَبهم وَخَرجُوا إِلَى أقبح قَول المجسمة وَقد ذكرنَا فَسَاد قَوْلهم قبل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِذا جوزوا أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى سميعاً بَصيرًا بِغَيْر جارحة وَهَذَا خلاف مَا عهدوا فِي الْعَالم وجوزا أَن يكون لَهُ تَعَالَى عين بِلَا حدقة وَلَا نَاظر وَلَا إطباق وَلَا أهداب وَلَا أشفار وَهَذَا أَيْضا خلاف مَا عهدوا فِي الْعَالم فَلَا ينكروا قَول من قَالَ إِنَّه سميع لَا بسمع بَصِير لَا ببصر وَإِن كَانَ ذَلِك خلاف مَا عهدوا واما عهدوا فِي الْعَالم على أَن بَين الْقَوْلَيْنِ فرقا حرَام وَاضحا وَهُوَ أننا نَحن لم نلتزم أَن نحل تَسْمِيَته عز وَجل قِيَاسا على مَا عهدنا بل ذَلِك حرامٌ لَا يجوز وَلَا يحل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء يُشبههُ عز وَجل فيقاس عَلَيْهِ قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَقُلْنَا نعم إِنَّه سميع بَصِير لَا كشيء من البصراء وَلَا السامعين مِمَّا فِي الْعَالم وكل سميع وبصير فِي الْعَالم فَهُوَ ذُو سمع وبصر فَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن فَهُوَ سميع كَمَا قَالَ لَا يسمع كالسامعين وبصير كَمَا قَالَ لَا يبصر كالمبصرين لَا يُسَمِّي رَبنَا تَعَالَى إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلَا يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه فَقَط كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَقُلْنَا نعم هُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَلم يقل تَعَالَى إِن لَهُ سمعا وبصرا فَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِن لَهُ سمعا وبصراً فَيكون قَائِلا على الله تَعَالَى بِلَا علم وَهَذَا لَا يحل وَبِاللَّهِ تَعَالَى نعتصم وَأما خصومنا فَإِنَّهُم أطْلقُوا أَنه لَا يكون إِلَّا كَمَا عهدوا من كل سميع وبصير فِي أَنه ذُو سمع وبصر فيلزمهم ضَرُورَة أَن لَا يكون إِلَّا كَمَا عهدوا من كل سميع وبصير فِي أَنه ذُو جارحة يسمع بهَا ويبصر بهَا وَلَا بُد وَلَوْلَا تِلْكَ الْجَارِحَة مَا سمي أحد من الْعَالم سميعاً وَلَا بَصيرًا وَلَا أبْصر أحد شَيْئا فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذِه الْآيَة أعظم حجَّة عَلَيْكُم لِأَن الله تَعَالَى نَص فِيهَا على أَنهم لم يرَوا بعيونهم مَا يتعظون بِهِ وَلَا سمعُوا بآذانهم مَا يقبلونه من الْهدى فَلَمَّا كَانَت الْعُيُون والآذان لَا ينْتَفع بهَا اسْتحق الذَّم والنكال فلولا أَن الْعين وَالْأُذن بهما يكون السّمع وَالْبَصَر ضَرُورَة وَلَا بُد لَا بِشَيْء دونهمَا مَا اسْتحق الذَّم من رزق أذنا وعيناً سالمتين فَلم يسمع بهما ويبصر مَا يَهْتَدِي بِهِ بعون الله عز وَجل لَهُ وَمَا كَانَ يكون معنى لذكر الله عز وَجل الْعين وَالْأُذن فِي السّمع وَالْبَصَر بهَا لَو جَازَ أَن يكون سمع وبصر دونهمَا فَبَطل قَوْلهم بِالْقُرْآنِ ضَرُورَة وبالحس وبديهة الْعقل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 أما مان وموهوا بِهِ من قَوْلهم أَنه لَوْلَا أَنه لَهُ سمعا وبصرا لجَاز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى يسمع الألوان وَيرى الْأَصْوَات فَهَذَا كَلَام لَا يُطلق فِي كل شَيْء على عُمُومه لأننا إِنَّمَا خوطبنا بلغَة الْعَرَب فَلَا يجوز أَن نستعمل غَيرهَا فِيمَا خوطبنا بِهِ وَالَّذِي ذكرْتُمْ من رِوَايَة الْأَصْوَات وَسَمَاع الألوان لَا يُطلق فِي اللُّغَة الَّتِي خوطبنا فِيمَا بَيْننَا فَلَيْسَ لنا أَن ندخل فِي اللُّغَة مَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا أَن يَأْتِي بذلك نَص فنقلبه على اللُّغَة ثمَّ نقُول أَنه لَو قَالَ قَائِل أَنه تَعَالَى سميع للألوان بَصِير بالأصوات بِمَعْنى عَالم بهَا لَكَانَ ذَلِك جَائِزا وَلما منع من ذَلِك برهَان فَنحْن نقُول سَمِعت الله عز وَجل يَقُول كَذَا وَكَذَا ورأينا الله تَعَالَى يَقُول كَذَا وَكَذَا وَيَأْمُر بِكَذَا وَيفْعل كَذَا بِمَعْنى علمنَا فَهَذَا لَا يُنكره أحد وَلَا فرق بَين هَذَا وَبَين مَا سَأَلُوا عَنهُ وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شيءٍ بَصِير} وَهَذَا عُمُوم لكل شَيْء كَمَا قُلْنَا فَلَا يجوز أَن يخص بِهِ شَيْء دون شَيْء إِلَّا بِنَصّ آخر أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة وَلَا سَبِيل إِلَى شَيْء من هَذَا فصح مَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {يعلم السِّرّ وأخفى} فصح أَنِّي بَصيرًا وسميعاً وعليماً بِمَعْنى وَاحِد ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّه تَعَالَى بِإِجْمَاع منا ومنكم هُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَهُوَ أحد غير متكئن وَلَا نقُول أَنه السَّمِيع للألوان الْبَصِير بالأصوات إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا وَلَيْسَ ذَلِك يُوجب أَن السَّمِيع غير الْبَصِير فَالَّذِي أردتم إِلْزَامه ساقطه وَإِنَّمَا اخْتلفت معلوماته وَإِنَّمَا هُوَ تَعَالَى وَاحِد وَعلمه بهَا كلهَا وَاحِد يعلمهَا كلهَا بِذَاتِهِ لَا يعلم هُوَ غَيره الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل أتقولون أَن الله عز وَجل لم يزل سميعاً بَصيرًا قُلْنَا نعم لم يزل الله تَعَالَى سميعاً بَصيرًا عفوا غَفُورًا عَزِيزًا قَدِيرًا رحِيما وَهَذَا كُله مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن لَكَانَ الله كَمَا جَاءَ كَانَ الله سميعاً بَصيرًا وَنَحْو ذَلِك لِأَن قَوْله كَانَ إِخْبَار عَمَّا لم يزل إِذا أخبر بذلك عَن نَفسه لَا عَمَّن سواهُ فَإِن قَالُوا أتقولون لم يزل الله خَالِقًا خلاقاً رازقاً قُلْنَا لَا نقُول هَذَا لِأَن الله تَعَالَى لم ينص على أَنه كَانَ خَالِقًا خلاقاً رازقاً لَكنا نقُول لم يزل الخلاق الرَّزَّاق وَلم يزل الله تَعَالَى لَا يخلق وَلَا يرْزق ثمَّ خلق ورزق من خلق وَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَنَّهَا أَسمَاء أَعْلَام لَا مشتقه لِأَنَّهُ لَو كَانَ خَالق ورازق مشتقين من خلق ورزق لَكَانَ لم يزل ذَا خلق يخلقه وَيَرْزقهُ فَإِن قيل فَإِن السَّمِيع والبصير والرحمن والرحيم وَالْعَفو وَالْملك كل ذَلِك يَقْتَضِي مسموعاً ومبصراً ومرحوماً ومغفوراً لَهُ وعفوا عَنهُ عَدو مَمْلُوكا قُلْنَا الْمَعْنى فِي سميع وبصير عَن الله تَعَالَى هُوَ الْمَعْنى فِي عليم وَلَا فرق وَلَيْسَ مَا يظنّ أهل الْعلم من أَن لَهُ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 سمعا وبصراً مختصين بالمسموع والمبصر تَشْبِيها بخلقه سوى عَمه لِأَن الله تَعَالَى لم ينص على ذَلِك فلزمنا أَن نقُوله وَلَا يجوز أَن يخبر عَن الله بِغَيْر مَا أخبر عَن نَفسه لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله من السامعين بَصِير فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله من السامعين بَصِير لَا كمثله شَيْء من البصراء فَإِن قَالَ قَائِل أتقولون أَن الله عز وَجل لم يزل يسمع وَيرى ويدر قُلْنَا نعم لِأَن الله عز وَجل قَالَ {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} وَقَالَ تَعَالَى {وَالله يسمع تحاوركما} وَصَحَّ الْإِجْمَاع بقول سمع الله لمن حَمده وَصَحَّ النَّص فَمَا أذن الله لشَيْء اذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ فَنَقُول إِن يسمع وَيرى وأسمع وَأرى وَيدْرك كل ذَلِك بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ معنى يعلم وَلَا فرق وَأما الاذن لنَبِيّ حسن الصَّوْت فَهِيَ من الاذن بِمَعْنى الْقبُول كَمَا يَأْذَن الْحَاجِب لمأذون لَهُ فِي الدُّخُول وَلَيْسَ من الْأذن الَّتِي هِيَ الْجَارِحَة وَلَو كَانَ كَمَا تظنون لَكَانَ يبصره للمبصرات وسَمعه للمسموعات مُحدثا ولكان غير سميع حَتَّى سمع وَغير بَصِير حَتَّى أبْصر وَلم يدْرك وحاشا لَهُ تَعَالَى من هَذَا فَكل هَذَا بِمَعْنى الْعلم وَلَا مزِيد فَإِن قيل فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} قُلْنَا نعم وَخلق الله تَعَالَى فعل لَهُ مُحدث واختياره تَعَالَى هُوَ خلقه لَا غَيره وَلَيْسَ هَذَا من يسمع ويبصر وَيرى وَيدْرك فِي شَيْء لِأَن معنى كل هَذَا وَمعنى الْعلم سَوَاء وَلَا يجوز أَن يكون معنى يخلق ويختار معنى الْعلم وَأما الْعَفو والغفور والرحيم والحليم وَالْملك فَلَا يَقْتَضِي شَيْء من هَذَا وجود مَرْحُوم مَعَه وَلَا مَعْفُو عَنهُ مغْفُور لَهُ مَعَه وَلَا مَمْلُوك محلوم عَنهُ مَعَه بل هُوَ تَعَالَى رَحِيم بِذَاتِهِ عَفْو بِذَاتِهِ غَفُور بِذَاتِهِ ملك بِذَاتِهِ مَعَ النَّص الْوَارِد بِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ كَذَلِك وَهِي أَسمَاء أَعْلَام لَهُ عز وَجل فَإِن ذكرُوا الحَدِيث الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَينهم وَبَين أَن يروه الاداء الْكِبْرِيَاء على وَجهه لَو كشفه لأحرقت سبحات وَجهه مَا انْتهى إِلَيْهِ بَصَره فَفِي هَذَا الْخَبَر إبِْطَال لقَولهم لِأَن فِيهِ أَن الْبَصَر مِنْهُ ذُو نِهَايَة وكل ذِي نِهَايَة مَحْدُود مُحدث وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا لَكِن مَعْنَاهُ أَن الْبَصَر قد يسْتَعْمل فِي اللُّغَة بِمَعْنى الْحِفْظ قَالَ النَّابِغَة ... رَأَيْتُك ترعاني بِعَين بَصِيرَة وتبعث حراساً عَليّ وناظرا ... فَمَعْنَى هَذَا الْخَبَر لَو كشف تَعَالَى السّتْر الَّذِي جعل دون سطوته لأحرقت عَظمته مَا انْتهى إِلَيْهِ حفظه ورعايته من خلقه وَكَذَلِكَ قَول عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا الْحَمد لله الَّذِي وسع سَمعه الْأَصْوَات إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى أَن علمه وسع كل ذَلِك يعلم السِّرّ وأخفى ثمَّ نزيد بَيَانا بعون الله تَعَالَى فَنَقُول إِن قَوْلكُم لَا يعقل سميع إِلَّا بسمع وَلَا بَصِير إِلَّا ببصر فَإِن كل هَذَا صَحِيحا يُوجب أَن يُقَال إِن لله سمعا وبصراً فَإِنَّهُ لَا يعقل من لَهُ مكر إِلَّا وَهُوَ ماكر وَلَا من كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 من الماكرين إِلَّا وَهُوَ ماكر وَلَا يعقل أحد مِمَّن يستهزئ إِلَّا وَهُوَ مستهزئ وَلَا يعقل أحد مِمَّن يكيد إِلَّا وَهُوَ كياد وَلَا يعقل من لَهُ كيد ومكر إِلَّا وَهُوَ كياد ومكار وَلَا يكون خَادع إِلَّا يُسمى الخادع الخداع وَذُو خدائع وَلَا يعقل من نسي إِلَّا وَهُوَ ناسٍ وَذُو نِسْيَان هَذَا هُوَ الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى أَن يُوجد فِي الْعَالم خِلَافه وَقد قَالَ تَعَالَى {وأكيد كيداً} وَقَالَ تَعَالَى {الله يستهزئ بهم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ خادعهم} وَقَالَ تَعَالَى {أفأمنوا مكر الله} وَقَالَ تَعَالَى {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} وَقَالَ تَعَالَى {قبلهم فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {نسوا الله فنسيهم} وَقَالَ تَعَالَى {سخر الله مِنْهُم} فيلزمهم إِذا سمعُوا رَبهم تَعَالَى ووصفوا من طَرِيق استدلالهم قياسهم وَمَا شاهدوه فِي الْحَاضِر عِنْدهم أَن يسموه مَاكِرًا فيقولوا يَا ماكر ارحمنا ويسموا بَينهم عبد الماكر وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الكياد والمستهزئ وَالْخداع وَالنَّاسِي والساخر وَإِلَّا فقد تناقضوا وتلاعبوا بِصِفَات رَبهم تَعَالَى وبدينهم فَإِن قَالُوا إِن هَذِه الصِّفَات ذمٌ وعيب وَإِنَّمَا نصفه تَعَالَى بِصِفَات الْمَدْح لَزِمَهُم مصيبتان عظيمتان أَحدهمَا إِطْلَاقهم أَن الله عز وَجل أخبر عَن نَفسه فِي هَذِه الْآيَات بِصِفَات الذَّم وَالْعَيْب وَهَذَا كفر وَالثَّانيَِة أَن يصفوا رَبهم بِكُل صفة مدح وَحمد فِيمَا بَينهم وَإِن لم يَأْتِ بهَا نَص وَإِلَّا فقد تناقضوا وَقصرُوا فيصفوه بِأَنَّهُ عَاقل وَأَنه شُجَاع جلد سخي حسن الْأَخْلَاق نزيه النَّفس تَامّ الْمُرُوءَة كَامِل الْفَضَائِل ذُو هَيْئَة نبيل نعم الْمَرْء ويقولوا أَنه تياه قِيَاسا على أَنه تَعَالَى جَبَّار متكبر ويقولوا أَنه مستكبر فَهُوَ والمتكبر فِي اللُّغَة سَوَاء وَذُو تيه وَعجب وَذي هُوَ وَلَا فرق بَين هَذَا وَبَين الْمَكْر والكبرياء فِيمَا بَيْننَا فَإِن فعلوا هَذَا خَرجُوا عَن الْإِسْلَام بِالْإِجْمَاع إِلَّا أَن يعذروا بِشدَّة الْجَهْل وظلمته وعماه وَأَن يَفروا عَن ذَلِك تركُوا مَا قد دانوا بِهِ من تَسْمِيَة الله تَعَالَى وَوَصفه بِأَن لَهُ سمعا وبصراً وَسَائِر مَا وصفوه تَعَالَى بِهِ بآرائهم الْفَاسِدَة مِمَّا لم يَأْتِ بِهِ نصٌ كَقَوْلِهِم قديم ومتكلم ومريد وَأَن لَهُ إِرَادَة لم تزل وَسَائِر مَا اجترؤا عَلَيْهِ بِغَيْر برهَان من الله عز وَجل وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الصِّفَات الَّتِي منعُوا مِنْهَا لِأَنَّهَا بزعمهم صِفَات ذمّ فَإِن السّمع وَالْبَصَر والحياة أَيْضا صِفَات نقص لِأَنَّهَا أَعْرَاض دَالَّة على الْحُدُوث فِيمَن هِيَ فِيهِ فَإِن قَالُوا لَيست لله تَعَالَى كَذَلِك قيل لَهُم وَلَا تِلْكَ الصِّفَات أَيْضا إِذا أطلقتموها عَلَيْهِ أَيْضا صِفَات ذمّ وَلَا فرق وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم إِنَّمَا قُلْنَا أَن الله تَعَالَى يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى وَهُوَ خادعهم على معنى أَنه تَعَالَى يقارضهم على هَذِه الْأَفْعَال مِنْهُم بجزاء يُسمى بأسمائها فَقلت لَهُم نعم هَكَذَا نقُول وَلم ننازعك فِي هَذَا فتستريح إِلَيْهِ بل قُلْنَا لكم سموهُ تَعَالَى مستهزئاً وكياداً وخداعاً وماكراً وناسياً وساخراً على معنى أَنه مقارض لَهُم على هَذِه الْأَفْعَال مِنْهُم بجزاء يُسمى بأسمائها كَمَا قُلْتُمْ فِي يكيد ويستهزئ وينسى وَهُوَ خادعهم سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَقد قُلْتُمْ إِن الْأَفْعَال توجب لفاعلها أَسمَاء فعلهَا فَسكت خاسئاً وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَبِهَذَا وَبِمَا ذكرنَا يُعَارض كل من قَالَ إننا سمينا الله تَعَالَى عَالما لنفي الْجَهْل وقادراً لنفي الْعَجز ومتكلماً لنفي الخرس وَحيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 لنفي الْمَوْت فَإِنَّهُم لَا ينفكون من هَذَا الْبَتَّةَ وَأما نَحن فلولا النَّص الْوَارِد بعليم وقدير وعالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وقادر على أَن يخلق مثلهم والحي لما جَازَ أَن يُسمى الله تَعَالَى بِشَيْء من هَذَا أصلا وَلَا يجوز أَن يُقَال حَيّ بحياة الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون حَيّ بِلَا حَيَاة قُلْنَا لَهُم وَكَيف يكون حَيّ غير حساس وَلَا متحرك بِإِرَادَة وَلَا سَاكن بِإِرَادَة هَذَا مَالا يعقل الْبَتَّةَ وَلَا يعرف وَلَا يتَوَهَّم وهم يجرونَ عَلَيْهِ تَعَالَى الْحس وَلَا الْحَرَكَة وَلَا السّكُون فَإِن قَالُوا إِن تسميتنا إِيَّاه حكيماً يُغني عَن عَاقل وكريماً يُغني عَن سخي وجباراً متكبراً يُغني عَن متجبر ومستكبر وتياه وزاه وقوياً يُغني عَن شُجَاع وَجلد قُلْنَا هَذَا ترك مِنْكُم لما أصلتموه من إِطْلَاق السّمع وَالْبَصَر والحياة والإرادة وَأَنه مُتَكَلم واحتجاجكم بِأَن من كَانَ سميعا فَلَا بُد لَهُ من سمع وَمن كَانَ بَصيرًا فَلَا بُد لَهُ من بصر وَمن كَانَ حَيا فَلَا بُد لَهُ من حَيَاة وَمن كَانَ مرِيدا فَلَا بُد لَهُ من إِرَادَة وَمن كَانَ لَهُ كَلَام فَهُوَ مُتَكَلم فأطلقتم كل هَذَا على الله عز وَجل بِلَا برهَان فَإِن نَاب عنْدكُمْ مَا ورد بِهِ النَّص من حَكِيم وَقَوي وكريم ومتكبر وجبار عَن عَاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر وتياه وزاه فَلم تجيزوا أَن تسموا الْبَارِي عز وَجل بشيءٍ من هَذَا فَكَذَلِك فَقولُوا كَمَا قُلْنَا نَحن أَن سمعيا وبصيراً وَحيا وَله كَلَام وَيُرِيد يُغني عَن تَجْوِيز ذكر السّمع وَالْبَصَر والإرادة ومتكلم وَلَا فرق هَذَا على أَن قَوْلكُم إِن قَوِيا يُغني عَن شُجَاع خطأ فَرب قويٌّ غير شُجَاع وشجاع غير قوي وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ الرَّحْمَن يُغني عَن رَحِيم والخالق يُغني عَن الْبَارِي وَعَن المصور فَإِن قَالُوا لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعض مَا أُتِي بِهِ النَّص وَلَا يجوز التَّعَدِّي إِلَى مَا لم يَأْتِ بِهِ النَّص قُلْنَا لَهُم قد اهْتَدَيْتُمْ ووفقتم لرشدكم ولقيتم ربكُم تَعَالَى بِحجَّة ظَاهِرَة فِي أَنكُمْ لم تتعدوا حُدُوده وَلَا ألحدتم فِي أَسْمَائِهِ وَلَا حالفتم مَا أَمركُم بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعَ أَن الَّذِي ألزمناهم هُوَ ألزم لَهُم مِمَّا التزموه لِأَن بِالضَّرُورَةِ نعلم نَحن وهم أَن الْفِعْل لَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَا بُد لَهُ ضَرُورَة من أَن يُضَاف إِلَى فَاعله فَلَا بُد أَيْضا من إِضَافَة الْفَاعِل إِلَيْهِ على معنى وَصفَة بِأَن فعله هَذَا مَا لَا يقوم فِي الْعقل وجود شئ فِي الْعَالم بِخِلَاف هَذِه الرُّتْبَة وَقد وجدنَا فِي الْعَالم أَشْيَاء كَثِيرَة لَا تحْتَاج إِلَى وصفهَا بِصفة لتنفي عَنْهَا ضد تِلْكَ الصّفة كالسماء وَالْأَرْض لَا يجوز أَن يُوصف مِنْهَا شئ بالبصر لنفي الْعمي وَلَا بالعمي لنفي الْبَصَر فَإِذا لم نضطر إِلَى ذَلِك فِي وصف الْأَشْيَاء فِيمَا بَيْننَا بَطل قياسهم الْبَارِي تَعَالَى على بعض مَا فِي الْعَالم وَكَانَ إِطْلَاق شئ من جَمِيع الصِّفَات على خَالق الصِّفَات والموصوفين أبعد وَأَشد امتناعاً إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَنقرَ بذلك وندري أَنه حق وَلَا نتعداه إِلَى مَا سواهُ فَلَا يستحي من الْتزم إِذا وجد أَشْيَاء من الْعَالم تُوصَف بِالْحَيَاةِ لنفي الْمَوْت وبالبصر لنفي الْعمي وَلم يجر على قِيَاسه هَذَا الْفَاسِد من أَن يَأْتِي بتسميته مستهزئاً وكياداً وَقد قَالَ تَعَالَى أَنه يستهزئ ويكيد فَهَلا إِذْ وَفقه الله تَعَالَى للإمساك عَن تصريف الْفِعْل هَاهُنَا جري على ذَلِك التَّوْفِيق فَلم يزدْ على نَص الله تَعَالَى من سميع وبصير وَحي شَيْئا أصلا وَلَكِن التَّنَاقُض سهل من لم يعتصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 بِكِتَاب الله عز وَجل وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَاسْتعْمل رَأْيه وَقِيَاسه فِي دينه وَفِيمَا يجريه على الله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من الضلال والخذلان وَبِهَذَا يبطل إِلْزَام من أَرَادَ من الْمُعْتَزلَة إلزامنا أَن نسمي الله تَعَالَى مسياه لخلقه السَّيِّئَات وشرير الشرور لخلقه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد شغب بَعضهم فِيمَا ادعوهُ من أَن كل صفة أضافوها إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ غير سَائِر صِفَاته بِأَن الله تَعَالَى مَوْصُوف بِأَنَّهُ يعلم نَفسه وَلَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على نَفسه قَالُوا فَلَو كَانَ الْعلم وَالْقُدْرَة وَاحِدًا لجريا فِي الأطلاق وَاحِدًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد بَينا بطلَان هَذَا فِي كلامنا قبل بعون الله عز وَجل ونزيد بعون الله عز وَجل بَيَانا فَنَقُول وَبِه نتأيد التغاير إِنَّمَا يَقع فِي المعلومات والمقدورات لَا فِي الْقَادِر وَلَا فِي الْعَالم وَلَا شكّ عندنَا وَعِنْدهم فِي أَن الْعلم والقدير وَاحِد وَهُوَ تَعَالَى عليم بِنَفسِهِ وَلَا يُقَال عِنْدهم قدير على نَفسه فَإِذا لم يُوجب هَذَا الحكم أَن يكون الْقَدِير غير الْعَلِيم فَهُوَ غير مُوجب أَن يكون الْعلم غير الْقُدْرَة بِلَا شكّ ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن علم الله تَعَالَى بحياة زيد قبل مَوته وبإيمانه قبل كفره هَل هُوَ الْعلم بِكُفْرِهِ وَمَوته أَو هُوَ غير الْعلم بذلك فَإِن قَالُوا إِن الْعلم بِمَوْت زيد هُوَ غير الْعلم بحياته وَعلمه بإيمانه هُوَ غير علمه بِكُفْرِهِ لَزِمَهُم تغاير الْعلم وَالْقَوْل بحدوثه وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَإِن قَالُوا علمه تَعَالَى بِإِيمَان زيد هُوَ علمه بِكُفْرِهِ وَعلمه بحياة زيد هُوَ علمه بِمَوْتِهِ قيل فَإِذا تغاير الْمَعْلُوم تَحت الْعلم لَا يُوجب تغاير الْعلم فِي ذَاته عنْدكُمْ فَمن أَيْن أوحيتم أَن تغاير الْمَعْلُوم والمقدور مُوجب لتغاير الْعلم وَالْقُدْرَة والحقيقة من كل ذَلِك أَنه لَا حَقِيقَة أصلا إِلَّا الْخَالِق تَعَالَى وخلقه وَأَن كل مَا لم ينص الله تَعَالَى عَلَيْهِ من وَصفه لنَفسِهِ وَمن أَسْمَائِهِ فَلَا يحل لأحد أَن يخبر عَنهُ تَعَالَى وَإِن كل مَا نَص الله عز وَجل عَلَيْهِ من أَسْمَائِهِ وَمَا أخبر بِهِ تَعَالَى عَن نَفسه فَهُوَ حق ندين الله تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ ونعلم أَن المُرَاد بِكُل ذَلِك هُوَ الله لَا شريك لَهُ وَأَنَّهَا كلهَا أَسمَاء يعبر بهَا عَنهُ تَعَالَى وَلَا يرجع مِنْهَا شئ إِلَى غير الله تَعَالَى الْبَتَّةَ تَعَالَى الله أَن يكون مَعَه شئ آخر غَيره وَأقر بَعضهم بحضرتي أَن مَعَ الله تَعَالَى سَبْعَة عشر شَيْئا مُتَغَايِرَة كلهَا قديم لم تزل وَكلهَا غير الله تَعَالَى وَرَأَيْت فِي كتاب لبَعْضهِم أَنَّهَا خَمْسَة عشر تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَذكروا أَن تِلْكَ الْأَشْيَاء هِيَ السّمع وَالْبَصَر وَالْعين وَالْيَد وَالْوَجْه وَالْكَلَام وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة والعزة وَالرَّحْمَة وَالْأَمر وَالْعدْل والحياة والصدق قَالَ أَبُو مُحَمَّد لقد قصروا من طَرِيق النَّص وَمن طَرِيق الْعقل أَيْضا عَن أصولهم فَأَيْنَ هم عَن النَّفس والجلال وَالْإِكْرَام والجبروت والكبرياء وَالْيَدَيْنِ والأعين وَالْأَيْدِي والقدم وَالْحَمْد وَالْقُوَّة فَهَذِهِ كلهَا مَنْصُوص عَلَيْهَا كَالْعلمِ والقدوة وَأَيْنَ هم عَن الْحلم من حَلِيم وَالْكَرم من كريم وَالْعَظَمَة من عَظِيم وَالتَّوْبَة من تواب وَالْهِبَة من وهاب والقرب من قريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 واللطف من لطيف وَالسعَة من وَاسع وَالشُّكْر من شَاكر وَالْمجد من مجيد والود من ودود وَالْقِيَام من قيوم وَهَذَا كثير جدا ويتجاوز أَضْعَاف الْأَعْدَاد الَّتِي اقتصروا عَلَيْهَا بتحكيمهم بالضلال والإلحاد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل وَقد زَاد بَعضهم فِيمَا ادعوهُ من صِفَات الذَّات الأستوى والتكليم والقدم والبقاء وَرَأَيْت للأشعري فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالموجز أَن الله تَعَالَى إِذْ قَالَ إِنَّك بأعيننا إِنَّمَا أَرَادَ عينين وَبِالْجُمْلَةِ فَكل من لم يخف الله عز وَجل فِيمَا يَقُول وَلم يستحي من الْبَاطِل لم يبال بِمَا يَقُول وَقد قُلْنَا أَنه لم يَأْتِ نَص بِلَفْظ الصّفة قطّ بِوَجْه من الْوُجُوه لَكِن الله تَعَالَى أخبرنَا بِأَن لَهُ علما وَقُوَّة وكلاماً وقدرة فَقُلْنَا هَذَا كُله حق لَا يرجع مِنْهُ شَيْء إِلَى غير الله تَعَالَى أصلا وَبِه تَعَالَى نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ إِنَّمَا سمي الله تَعَالَى عليماً لِأَنَّهُ لَهُ علما وحكيماً لِأَن لَهُ حِكْمَة وَهَكَذَا فِي سَائِر أَسْمَائِهِ وَادّعى أَن الضَّرُورَة توجب أَنه لَا يُسمى عَالما إِلَّا من لَهُ علم وَهَكَذَا فِي سَائِر الصِّفَات إِذا قسم الْغَائِب بزعمكم تُرِيدُونَ الله عز وَجل على الْحَاضِر مِنْكُم فبالضرورة نَدْرِي أَنه لَا علم عندنَا إِلَّا مَا كَانَ فِي ضمير ذِي خواطر وفكر تعرف بِهِ الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِن وصفتم ربكُم تَعَالَى بذلك الْحَد تمّ وَلَا خلاف فِي هَذَا من أحد وتركتم أقوالكم وَإِن منعتم من ذَلِك تركْتُم أصلكم فِي اشتقاق أَسْمَائِهِ تَعَالَى من صِفَات فِيهِ وَأَيْضًا فَإِن عليماً وحكيماً ورحيماً وقديراً وَسَائِر مَا جرى هَذَا المجرى لَا يُسمى فِي اللُّغَة إِلَّا نعوتاً وأوصافاً وَلَا تسمى أَسمَاء الْبَتَّةَ وَأما إِذا سمي الْإِنْسَان حَلِيمًا أَو حكيماً أَو رحِيما أَو حَيا وَكَانَ ذَلِك اسْما لَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَسمَاء أَعْلَام غير مُشْتَقَّة بِلَا خلاف من أحد وكل هَذِه فَإِنَّمَا هِيَ لله عز وَجل أَسمَاء بِنَصّ الْقُرْآن وَنَصّ السّنة وَالْإِجْمَاع من جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أياً مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة إِلَّا وَاحِدًا من أحصاها دخل الْجنَّة إِنَّه وتر يحب الْوتر وَلم يخْتَلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنَّهَا أَسمَاء لله تَعَالَى وَلَا فِي أَنَّهَا لَا يُقَال أَنَّهَا نعوت لَهُ عز وَجل وَلَا أَوْصَاف الله وَلَو وجد فِي الْمُتَأَخِّرين من يَقُول ذَلِك لَكَانَ قولا بَاطِلا وَمُخَالفَة لقَوْل الله تَعَالَى وَلَا حجَّة لأحد فِي الدّين دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا لَا شكّ فِيمَا قُلْنَا فَلَيْسَتْ مُشْتَقَّة من صفة أصلا وَيُقَال لَهُم إِذا قُلْتُمْ إِنَّهَا مُشْتَقَّة فَقولُوا لنا من اشتقها فَإِن قَالُوا أَن الله تَعَالَى اشتقها لنَفسِهِ قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ القَوْل على الله تَعَالَى بِالْكَذِبِ الَّذِي لم يخبر بِهِ عَن نَفسه وقفوتم فِي ذَلِك مَا لم يأتكم بِهِ علم وَإِن قَالُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشتقها قُلْنَا كَذبْتُمْ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وَلَقَد سمى الله بهَا نَفسه قبل أَن يخلق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوحِي بهَا إِلَيْهِ فَقَط فصح يَقِينا أَن القَوْل بِأَنَّهَا مُشْتَقَّة فِرْيَة على الله تَعَالَى وَكذب عَلَيْهِ ونعوذ بِاللَّه من ذَلِك وَصَحَّ بِهَذَا الْبُرْهَان الْوَاضِح أَنه لَا يدل حِينَئِذٍ عليم على علم وَلَا قدير على قدرَة وَلَا حَيّ على حَيَاة وَهَكَذَا فِي سَائِر ذَلِك وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة والعزة بنصوص أخر يجب الطَّاعَة لَهَا وَالْقَوْل بهَا وَوجدنَا الْمُتَأَخِّرين من الأشعرية كالباقلاني وَابْن فورك وَغَيرهمَا قَالُوا إِن هَذِه الْأَسْمَاء لَيست لله تَعَالَى وَلكنهَا تسميات لَهُ وَأَنه لَيْسَ لله إِلَّا اسْم وَاحِد لكنه قَول إلحاد ومعارضة لله عز وَجل بالتكذيب بِالْآيَاتِ الَّتِي تلونا وَمُخَالفَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا نَص عَلَيْهِ من عدد الْأَسْمَاء وهتك لإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام عَامهمْ وخاصهم قبل أَن تحدث هَذِه الْفرْقَة وَمِمَّا حَدثهُ أهل الْإِسْلَام فِي أَسمَاء الله عز وَجل الْقَدِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا يجوز الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لم يَصح بِهِ نَص الْبَتَّةَ وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه وَقد قَالَ تَعَالَى وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم فصح أَن الْقَدِيم من صِفَات المخلوقين فَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بذلك وَإِنَّمَا يعرف الْقَدِيم فِي اللُّغَة من القدمية الزمانية أَي إِن هَذَا الشَّيْء أقدم من هَذَا بِمدَّة محصورة وَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل وَقد أغْنى الله عز وَجل عَن هَذِه التَّسْمِيَة بِلَفْظَة أول فَهَذَا هُوَ الِاسْم الَّذِي لَا يُشَارِكهُ تَعَالَى فِيهِ غَيره وَهُوَ معنى أَنه لم يزل وَقد قُلْنَا بالبرهان أَن الله تَعَالَى لَا يجوز أَن يُسمى بالاستدلال وَلَا فرق بَين من قَالَ أَنه يُسَمِّي ربه جسماً إِثْبَاتًا للوجود ونفياً للعدم وَبَين من سَمَّاهُ قَدِيما إِثْبَاتًا لِأَنَّهُ لم يزل ونفياً للحدوث لِأَن كلا اللفظتين لم يَأْتِ بِهِ نَص فَإِن قَالَ من سَمَّاهُ جسماً ألحد لِأَنَّهُ جعله كالأجسام قيل لَهُ وَمن سَمَّاهُ قَدِيما قد ألحد فِي أَسْمَائِهِ لِأَنَّهُ جعله كالقدماء فَإِن قَالَ لَيْسَ فِي الْعَالم قدماء أكذبه الْقُرْآن بِمَا ذكرنَا وأكذبته اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن إِذْ يَقُول كل قَائِل فِي اللُّغَة هَذَا الشَّيْء أقدم من هَذَا وَهَذَا أَمر قديم وزمان قديم وَشَيخ قديم وَبِنَاء قديم وَهَكَذَا فِي كل شَيْء وَأما نفي خلق الْإِيمَان فَهَذَا أعجب مَا أَتَوا بِهِ وَهل الْإِيمَان إِلَّا فعل الْمُؤمن الظَّاهِر مِنْهُ يزِيد وَينْقص وَيذْهب الْبَتَّةَ وَهُوَ خلق الله تَعَالَى وَهَذِه صِفَات الْحُدُوث نَفسهَا فَإِن قَالُوا إِن الله هُوَ الْمُؤمن قُلْنَا لَهُم نعم هُوَ الْمُؤمن الْمُهَيْمِن المصور فأسماؤه بذلك أَعْلَام لَا مُشْتَقَّة من صِفَات مَحْمُولَة فِيهِ عز وَجل تَعَالَى الله عَن ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ مُسَمّى لَهُ عز وَجل لفعل فعله فَهَذَا ظَاهر كالخالق والمصور فَإِن قُلْتُمْ فِي هَذَا أَيْضا أَنَّهَا صِفَات لم تزل لزمكم أَنه تَعَالَى المصور بتصوير لم يزل وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر الْمُجَرّد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم إِن قَوْلنَا سميع بَصِير يسمع بَصِير ببصر حَيّ بحياة لَا يُوجب تشابهاً وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 يكون الشئ شبها للشيئ إِلَّا إِذا نَاب منا بِهِ وسد مسده قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة السخافة لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان لَا من شَرِيعَة وَلَا من طبيعة وَمَا اخْتلفت قطّ اللُّغَات والطبائع والأمم فِي أَن النِّسْبَة بَين المشبهات إِنَّمَا هُوَ بصفاتها فِي الْأَجْسَام وبذوابها فِي الْإِعْرَاض وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} فليت شعري هَل قَالَ ذُو مسكة من عقل أَن الْحمير وَالْكلاب والخنافس تنوب منابنا أَو تسدنا وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَنهم قَالُوا إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ فَهَل قَالَ قطّ مُسلم أَن الْكفَّار ينوبنا عَن الْأَنْبِيَاء ويسدون مسدهم وَقَالَ تَعَالَى كأنهن الْيَاقُوت والمرجان فَهَل قَالَ ذُو مسكة من عقل إِن الْيَاقُوت يَنُوب مناب الْحور الْعين ويسد مسدهن وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير جدا وَفِي كَلَام كل أمة وَالْعجب أَنهم بعد أَن أَتَوا بِهَذِهِ الْعَظِيمَة نسوا نفسهم فَجعلُوا التشابه فِي بعض الْأَحْوَال يُوجب شرع الشَّرَائِع قِيَاسا وَهَذَا دين لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فهم أبدا فِي الشَّيْء وضده وَالْبناء وَالْهدم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحَقِيقَة التَّمَاثُل والتشابه هُوَ أَن كل جسمين اشتبها فَإِنَّمَا يشتبهان بِصفة مَحْمُولَة فيهمَا وكل عرضين فَإِنَّمَا يشتبهان بوقوعهما تَحت نوع وَاحِد كالحمرة والحمرة أَو الْحمرَة والخضرة وَهَذَا أَمر يدْرك بالعيان وَأول الْحس وَالْعقل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْحَيَاة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا أَن الدَّلِيل أوجب أَن الْبَارِي تَعَالَى حَيّ لِأَن أَفعَال الْحِكْمَة لَا تقع إِلَّا من الْحَيّ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يعقل إِلَّا حَيّ أَو ميت قُلْنَا إِمْكَان وُقُوع الْفِعْل من الْمَيِّت صَحَّ وُقُوعه من الْحَيّ وَلَا بُد ثمَّ انقسم هَؤُلَاءِ قسمَيْنِ فطائفة قَالَت هُوَ تَعَالَى حَيّ لَا بحياة وَطَائِفَة قَالَت بل هُوَ تَعَالَى حَيّ بحياة واحتجت أَنه لَا يعقل أحد حَيا إِلَّا بحياة وَلم يكن الْحَيّ حَيا إِلَّا لِأَن لَهُ حَيَاة وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن حَيا قَالُوا وَلَو جَازَ أَن يكون حَيّ لَا بحياة لجَاز أَن يكون حَيَاة لَا بحي وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى لم يكن الْحَيّ حَيا لِأَن لَهُ حَيَاة لَكِن لِأَنَّهُ فَاعل فَقَط عَالم قَادر وَلَا يكون الْعَالم الْقَادِر الْفَاعِل إِلَّا حَيا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقَوْلَيْنِ فِي غَايَة الْفساد لِاتِّفَاق الطَّائِفَتَيْنِ على أَن سموا رَبهم تَعَالَى حَيا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال إِمَّا لنفي الْمَوْت والجمادية عَنهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ فَاعل قَادر عَالم وَلَا يكون الْفَاعِل الْقَادِر الْعَالم إِلَّا حَيا يلْزمهُم أَن يطردوا استدلالهم هَذَا وَإِلَّا فهم متناقضون وَإِذا طردوا استدلالهم هَذَا لَزِمَهُم وَلَا بُد أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى جسم لأَنهم لم يعقلوا قطّ فَاعِلا وَلَا حكيماً وَلَا عَالما وَلَا قَادِرًا إِلَّا جسماً فَإِذا لم يكن هَذَا دَلِيلا على أَنه جسم فَلَيْسَ دَلِيلا على أَنه حَيّ وَأَيْضًا فَإِن اتِّفَاقهم على مَا ذكرنَا مُوجب على الطَّائِفَة الأولى أَن يطردوا أَيْضا استدلالهم وَإِلَّا فَهُوَ فَاسد فَنَقُول أَنه لَا يكون الْقَادِر الْعَالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 فِيمَا بَيْننَا إِلَّا ذَا حَيَاة وَلَا يكون حَيا إِلَّا بحياة لَا يعقل غير هَذَا أصلا وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من عكس قَوْلكُم فَقَالَ إِذا كَانَ الْحَيّ لَا يجب أَن يُقَال إِن لَهُ حَيَاة من أجل أَنه حَيّ وَلَا أَنه إِذا كَانَ حَيا وَجب أَن يكون لَهُ حَيَاة وَلَا أَنه سمى الْحَيّ حَيا لِأَن لَهُ حَيَاة فَكَذَلِك لم يجب أَن يكون الْفَاعِل فَاعِلا لِأَنَّهُ حَيّ لَكِن لِأَن لَهُ فعلا فَقَط وَلَا وَجب أَن يكون الْفِعْل فَاعِلا لِأَنَّهُ عَالم قَادر لَكِن لِأَن لَهُ فعلا وَكَذَلِكَ الْمُؤلف لم يسم مؤلفاً لِأَن فِيهِ تأليفاً وَلَا سمي الْحَكِيم حكيما لإحكامه الْفِعْل وَلَا وَجب الْمُؤلف أَن يكون مُحدثا للتأليف الَّذِي فِيهِ على أَن من قَالَ بعض هَذِه القضايا فَهُوَ أصح قولا مِمَّن قَالَ أَن يكون الْحَيّ حَيا لَا يَقْتَضِي بذلك الِاسْتِدْلَال أَن يكون لَهُ حَيَاة لأننا لم نجد قطّ حَيا إِلَّا بحياة وَلَا توهمنا ذَلِك إِلَّا بِالْعقلِ وَلَا يتشكل فِي الْعقل الْبَتَّةَ وَلَا يدْخل فِي الْمُمكن بِدَلِيل وَقد وجدنَا العنكبوت والنحل والخطاف تحكم أفعالها وبنائها بالطين وبالشمع مسدساً على رُتْبَة وَاحِدَة وبالنسج ثمَّ لَا يجوز أَن يُسمى شئ مِنْهَا حكيماً فَإِن قَالَ إِنَّمَا أَقُول أَنه حَيّ اسْتِدْلَالا بِأَنَّهُ لَا يَمُوت فَقَط كَانَ قد أَتَى بأسخف قَول وَذَلِكَ يلْزمه أَن يَقُول أننا لسنا أَحيَاء لأننا نموت وَأَنه لَا حَيّ فِي الْعَالم لِأَن من قَول هَذَا الْقَائِل أَن الْمَلَائِكَة تَمُوت فَلَيْسَ فِي الْعَالم حَيّ على قَوْله وَقد أَتَى بَعضهم بهذيان ظريف فَقَالَ قد وجدنَا شَيْئا فِيهِ حَيَاة وَلَيْسَ حَيا هُوَ يَد الْإِنْسَان وَرجله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لمن هَذَا مِقْدَاره من الْجَهْل أَن يتَعَلَّم قبل أَن يتَكَلَّم أما علم لجَاهِل أَن الْحَيَاة إِنَّمَا هِيَ للنَّفس لَا للجسد وَأَن الْحَيّ إِنَّمَا هِيَ النَّفس لَا الْجَسَد أما سمع قَول الله عز وَجل {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} وليت شعري لَو عكس عَلَيْهِ هَذَا السخف فَقيل لَهُ بل يَد الْإِنْسَان حَيَّة وَلَا حَيَاة فِيهَا بِمَاذَا كَانَ ينْفَصل من هَذَا الْجُنُون المطابق لجنونه ثمَّ إِذْ قد بَطل قَول هَؤُلَاءِ فَنَقُول بحول الله تَعَالَى وقوته للطائفة الْأُخْرَى الَّتِي قَالَت أَنه تَعَالَى حَيّ بحياة اسْتِدْلَالا بِالشَّاهِدِ مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من قَالَ هُوَ تَعَالَى جسم لِأَن الْأَفْعَال لَا تقع إِلَّا من جسم وَعرض فَلَمَّا بَطل إِمْكَان الْفِعْل من الْعرض صَحَّ وُقُوعه من الْجِسْم فَقَط وَلَا بُد وَلما صَحَّ أَن الْعَالم لَا يكون إِلَّا جسماً ذَا ضمير صَحَّ أَنه تَعَالَى جسم ذُو ضمير وَلما صَحَّ أَنه قَادر والقادر لَا يكون إِلَّا جسماً صَحَّ أَنه جسم فَبِأَي شَيْء راموا الِانْفِصَال بِهِ عكس عَلَيْهِم مثله سَوَاء بِسَوَاء فِي استدلالهم وَمَا التزموه لَزِمَهُم فَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى أخبر أَنه حَيّ وَلم يخبر أَنه جسم قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَإِن الله تَعَالَى لم يخبر بِأَن لَهُ حَيَاة فَإِن قَالُوا إِن الْحَيّ يَقْتَضِي أَن لَهُ حَيَاة قُلْنَا لَهُم والحي يَقْتَضِي أَنه جسم وَهَكَذَا أبدا فَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى قَالَ {وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت} فَوَجَبَ أَن يكون حَيا بحياة قيل لَهُم وَإِن وَجب هَذَا فَقَالَ تَعَالَى لَا نَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم فَقولُوا أَنه تَعَالَى يقظان فَإِن قَالُوا لم ينص تَعَالَى على أَنه يقظان قيل لَهُم وَلَا نَص تَعَالَى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أَن لَهُ حَيَاة فَإِن قَالُوا الْحَيّ يَقْتَضِي حَيَاة قيل لَهُم وَمن لَيْسَ نَائِما وَلَا وَسنَان فَهُوَ يقظان وَلَا فرق وَيُقَال لَهُم أخبرونا مَاذَا نفيتم عَنهُ تَعَالَى بِإِيجَاب الْحَيَاة لَهُ أنفيتم عَنهُ بذلك الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة أم موتا غير مَعْهُود ومواتية غير معهودة وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا نَفينَا عَنهُ الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة قُلْنَا لَهُم إِن الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة لَا ينتفيان الْبَتَّةَ إِلَّا لحياة الْمَعْهُودَة الَّتِي هِيَ الْحس وَالْحَرَكَة والسكون الإراديان وَهَذَا خلاف قَوْلكُم وَلَو قلتموه لأبطلنا قَوْلكُم بِمَا أبطلنا بِهِ قَول المجسمة وَإِن قَالُوا مَا نَفينَا عَنهُ تَعَالَى إِلَّا موتا غير مَعْهُود ومواتية غير معهودة قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا قَامَ بِهِ دَلِيل وَلَا يجوز أَن يَنْتَفِي مَا ذكرْتُمْ بحياة يقتضيها اسْم الْحَيّ الْمَعْقُول وَهَكَذَا نقُول فِي قَوْلهم سميناه تَعَالَى سميعاً لنفي الصمم وبصيراً لنفي الْعَمى ومتكلماً لنفي الخرس فنسألهم هَل نفيتم بذلك كُله الخرس الْمَعْهُود والصمم الْمَعْهُود والعمى الْمَعْهُود أم صمماً لَا يعْهَد وعمى غير الْمَعْهُود وخرساً غير الْمَعْهُود فَإِن قَالُوا نَفينَا الْمَعْهُود من كل ذَلِك قُلْنَا إِن الصمم الْمَعْهُود لَا يَنْفِي إِلَّا بِالسَّمْعِ الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ بِإِذن سَالِمَة والعمى الْمَعْهُود لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالبصر الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ حدقة سَالِمَة والخرس الْمَعْهُود لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالْكلَام الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ صَوت من لِسَان وحنك وشفتين فَإِن قَالُوا بل نَفينَا من كل ذَلِك غير الْمَعْهُود قُلْنَا هَذَا لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يَصح بِهِ دَلِيل وَلَا يَنْتَفِي بِمَا أردتم نَفْيه بِهِ وَأَيْضًا فَإِن الْبَارِي تَعَالَى لَو كَانَ حَيا بحياة لم يزل وَهِي غَيره لوَجَبَ ضَرُورَة أَن يكون تَعَالَى مؤلفاً مركبا من ذَاته وحياته وَسَائِر صِفَاته ولكان كثير إِلَّا وَاحِدًا وَهَذَا إبِْطَال الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم إِنَّمَا خاطبنا الله بِمَا نعقل ودعواهم أَن فِي بديهة الْعُقُول أَن الْفَاعِل لَا يكون إِلَّا عَالما بِعلم هُوَ غَيره حَيا بحياة هِيَ غَيره قَادِرًا بقدرة هِيَ غَيره متكلماً بِكَلَام هُوَ غَيره سميعاً بسمع هُوَ غَيره بَصيرًا ببصر هُوَ غَيره فَإنَّا نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتايدان هَذِه الْقَضِيَّة كَمَا ذكرُوا مَا لم برهَان على خلاف ذَلِك ثمَّ نسألهم هَل عقلتم قسط أَو توهمتم نَارا محرقة تنْبت فِي الشّجر المثمر وَهَذِه صفة جَهَنَّم الَّتِي إِن أنكرتموها كَفرْتُمْ وَهل عقلتم قطّ طيراً حَيا يُؤْكَل دون أَن يَمُوت أَو يعاني بِنَار وَهَذِه صفة الْجنَّة الَّتِي إِن أنكرتموها كَفرْتُمْ وَمثل هَذَا كثير وَإِنَّمَا الْحق أَن لَا نخرج عَمَّا عهدناه وَمَا عَقَلْنَاهُ إِلَّا أَن يَأْتِي برهَان فَإِن قنعوا بِهَذَا الْقدر من الدَّعْوَى فليقنعوا بِمثل هَذَا من المجسمة إِذْ قَالُوا إِنَّمَا خاطبنا الله تَعَالَى بِمَا نفهم ونعقل لَا بِمَا لَا يعقل وَقد أخبرنَا الله تَعَالَى أَن لَهُ عينا ويداً ووجهاً وَأَنه ينزل وَيَجِيء فِي ظلل من الْغَمَام قَالُوا فَكل هَذَا مَحْمُول على مَا عقلنا من أَنَّهَا جوارح وحركات وَأَنَّهَا جسم وأقنعوا بِهِ مِنْهُم أَيْضا إِذْ قَالُوا ببديهة الْعقل وأوله عرفنَا وَوَجَب أَنه لَا يكون الْفَاعِل إِلَّا جسماً فِي مَكَان وبضرورة الْعقل علمنَا أَنه لَا شَيْء إِلَّا بجسم أَو عرض وَمَا لم يكن كَذَلِك فَهُوَ عدم وَإِن مَا لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عرضا فَهُوَ جسم والباري تَعَالَى لَيْسَ عرضا فَهُوَ جسم وَلَا بُد وأقنعوا بِمثل هَذَا من الْمُعْتَزلَة إِذْ قَالُوا فِي إبِْطَال الرُّؤْيَة بضرورة الْعقل عرفنَا أَنه لَا يرى إِلَّا جسم ملون وَمَا كَانَ فِي حيّز وَإِذ قَالُوا بضرورته وبديهته علمنَا أَن كل من فعل شَيْئا فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ وينسب إِلَيْهِ فَلَو أَنه تَعَالَى خلق الشَّرّ وَالظُّلم المنسب إِلَيْهِ وَوصف بهما واقنعوا بِهَذَا من الدهرية إِذْ قَالُوا بضرورة الْعقل علمنَا أَنه لَا يكون شَيْئا إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكل طَائِفَة من هَذِه الطوائف تَدعِي الْبَاطِل على الْعُقُول والحقيقة فِي هَذَا هُوَ أَن كل من ادّعى فِي شَيْء مَا أَنه يعرف ببديهة الْعقل وضرورته وأوله أَن ينظر فِي تِلْكَ الدَّعْوَى فَإِن كَانَت مِمَّا ترجع إِلَى الْحَواس الْمُشَاهدَة فَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَة فَاسِدَة لِأَن الْعُقُول توجب أَشْيَاء لَا تشكل فِي الْحَواس كالألوان الَّتِي لَا يتوهمها الْأَعْمَى وَلَا يتشكلها بحاسة وَهُوَ موقن بهَا بضرورة عقله لصِحَّة الْخَبَر وتواتره عَلَيْهِ بوجودها وكالصوت الَّذِي لَا يتوهمه الْبَتَّةَ وَلَا يشكله من ولد أَصمّ أصلع وَهُوَ موقن بعقله بِصِحَّة الْأَصْوَات لتواتر الْخَبَر عَلَيْهِ بِصِحَّتِهَا وَإِن كَانَت تِلْكَ الدَّعْوَى ترجع إِلَى مُجَرّد الْعقل دون توَسط لحواس فَهِيَ دَعْوَى صَادِقَة وَهَذِه الدعاوي الَّتِي ذكرنَا عَن الأشعرية والمجسمة والمعتزلة والدهرية فَإِنَّمَا غلطوا فِيهَا لأَنهم نسبوا إِلَى أول الْعقل مَا أدركوه بحواسهم وَقد قُلْنَا أَن الْعقل يُوجب وَلَا بُد معرفَة أَشْيَاء لَا تدْرك بالحواس وَلَا سِيمَا دَعْوَى الدهرية فَإِنَّهَا تعَارض ممثلها من أَن بضرورة الْعقل وأوله علمنَا أَنه لَا يُمكن وجود جسم وَعرض فِي زمَان لَا أول لَهُ وَهَذَا هُوَ الْحق لَا دَعوَاهُم الَّتِي عولوا فِيهَا على مَا شاهدوا بحواسهم فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُم إِذا سميتموه حَيا لنفي الْمَوْت والمواتية عَنهُ تَعَالَى وقادراً لنفي الْعَجز وعالماً لنفي الْجَهْل فيلزمكم وَلَا بُد أَن تسموه حساساً لنفي الخدر عَنهُ وسماماً لنفي الْجِسْم عَنهُ ومتحركاً لنفي السّكُون والجمادية عَنهُ وعاقلاً لنفي ضد الْعقل عَنهُ وشجاعاً لنفي الْجُبْن عَنهُ فَإِن امْتَنعُوا من ذَلِك كَانُوا قد ناقضوا فِي استدلالهم فِي تسميتهم إِيَّاه حَيا عَالما قَادِرًا جواداً فَإِن قَالُوا أَنه لَا يجوز أَن يُسَمِّي بشئ مِمَّا ذكرنَا لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ نَص قيل لَهُم وَكَذَلِكَ لم يَأْتِ نَص بِأَن لَهُ تَعَالَى حِين وَلَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا سمي حَيا عَالما قَادِرًا لنفي أضداد هَذِه الصِّفَات عَنهُ لَكِن لما جَاءَ النَّص بِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَمِّي الْحَيّ الْعَالم الْقَدِير سميناه بذلك وَلَوْلَا النَّص مَا جَازَ لأحد أَن يُسمى الله تَعَالَى بشئ من ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يكون مشبهاً لَهُ بخلقه لَا سِيمَا وَلَفْظَة الْحَيّ تقع فِي اللُّغَة على الْعَالم الْمُمَيز بالحقائق قَالَ تَعَالَى {لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين} فَأَرَادَ بالحي هَاهُنَا الْعلم الْمُمَيز بِالْإِيمَان الْمقر بِهِ وَأَيْضًا مِنْهُم يدعونَ أَنهم يُنكرُونَ التَّشْبِيه ثمَّ يركبونه أتم ركُوب فَيَقُولُونَ لما لم يكن الفعال عندنَا إِلَّا حَيا عَالما قَادِرًا وَجب أَن يكون الْبَارِي الْفَاعِل للأشياء حَيا عَالما وَهَذَا نَص قياسهم لَهُ على الْمَخْلُوقَات وتشبيهه تَعَالَى بهم وَلَا يجوز عِنْد الْقَائِلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بِالْقِيَاسِ أَن يُقَاس الشَّيْء إِلَّا على نَظِيره وَأما أَن يُقَاس الشَّيْء على خِلَافه من كل جِهَة وعَلى مَا لَا يُشبههُ فِي شَيْء الْبَتَّةَ فَهَذَا مَا لَا يجوز أصلا عِنْد أحد فَكيف وَالْقِيَاس كُله بَاطِل لَا يجوز وَأَيْضًا فَإِن الْحَيَاة الَّتِي لَا يعرف أحد بِالْعقلِ حَيَاة غَيرهَا إِنَّمَا هِيَ الْحس وَالْبركَة الإرادية وَلَا يعرف أحد الْحَيّ إِلَّا بالإحساس المتحرك بِإِرَادَة وَهَذَا أَمر يعرف بِالضَّرُورَةِ فَمن أنكر ذَلِك فقد أنكر الْحس والمشاهدة والضرورة وَخرج عَن أَن يكلم فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم إِن الْموَات قد يَتَحَرَّك فَلم يزدْ على أَن أبان عَن قُوَّة جَهله لِأَنَّهُ إِنَّمَا قُلْنَا الْحَرَكَة الإرادية فَإِذا لم يفرق هَذَا الْجَاهِل بَين الْحَرَكَة الإرادية والاضطرارية فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يتَعَلَّم قبل أَن يتَكَلَّم وكل حَرَكَة ظَهرت من غير حَيّ فَلَيْسَتْ حَرَكَة إرادية لَهُ لَكِنَّهَا تَحْرِيك المحرك لَهُ إِمَّا الْبَارِي تَعَالَى وَإِمَّا من دونه وَمِمَّا يبطل قَوْلهم ضَرُورَة أَنه إِنَّمَا سمي تَعَالَى حَيا لِأَنَّهُ عَالم فَأَرَادَ وجودنا أَحيَاء كَثِيرَة لَيْسُوا عُلَمَاء وَلَا قَادِرين كالأطفال حِين ولادتهم وكالنائم المستقل وكالمخدور من المجانين وكضعاف الدُّود والصوداب وَمَا لَا ينْتَقل عَن مَحَله كالوصل وَغَيره وكالمريض من سَائِر الْحَيَوَان فَهَذِهِ كلهَا أَحيَاء لَيْسَ شَيْء مِنْهَا عَالما وَلَا قَادِرًا فصح ضَرُورَة أَنه لَا معنى للحياة يرتبط بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة لمن الْحق فِي ذَلِك أَن بعض الْأَحْيَاء عَالم قَادر وَلَيْسَ كل حَيّ عَالما قَادِرًا وَلَا سَبِيل إِلَى وجود حَيّ غير حساس وَلَا متحرك بِإِرَادَة فَإِن ذكرُوا الْمَعْنى عَلَيْهِ فَذَلِك عَائِد عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَيْسَ عَالما وَلَا قَادِرًا وَأما الْحس فَفِيهِ بِالضَّرُورَةِ وَلَو جش جشاً قَوِيا لتألم ولأخبر بذلك عِنْد انتباهه وَكَذَلِكَ الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية باقيان لَا بُد فِي بعض أَعْضَاء المخدور والمغمى عَلَيْهِ وَلَا بُد وَقد بَينا الْوَاجِب فِي هَذَا وَهُوَ أَنه لَا يُسمى الله عز وَجل وَلَا نخبر عَنهُ من طَرِيق الِاسْتِدْلَال باسم يُشَارِكهُ فِيهِ شَيْء من خلقه وَلَا بِخَبَر يُشَارِكهُ فِيهِ شَيْء من خلقه وَلَكنَّا نقُول أَنه تَعَالَى لَا يجهل شَيْئا أصلا وَهَذِه صفة لَا يَسْتَحِقهَا أحد دونه تَعَالَى ونقول لَا يغْفل الْبَتَّةَ وَلَا يضل وَلَا يسهو وَلَا ينَام وَلَا يتحير وَلَا ينْحل وَلَا يخفى عَلَيْهِ متوهم وَلَا يعجز عَن مسئول عَنهُ وَلَا ينسى وكل هَذَا فَلَا يسْتَحقّهُ مَخْلُوق دونه تَعَالَى أصلا ثمَّ نفر بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا جَاءَ لَا نزيد وَلَا ننقص مِنْهُ وَلَا نحيله فنؤمن بِأَنَّهُ بِخِلَاف الْمَعْهُود فِيمَا يَقع عَلَيْهِ ذَلِك اللَّفْظ من خلقه وَأما لفظ الصّفة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَفِي جَمِيع اللُّغَات فَإِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن معنى مَحْمُول فِي الْمَوْصُوف بهَا لَا معنى للصفة غير هَذَا الْبَتَّةَ وَهَذَا أَمر لَا يجوز إِضَافَته إِلَى الله تَعَالَى الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِشَيْء أخبر الله تَعَالَى بِهِ عَن نَفسه فَيُؤمن بِهِ وندري حِينَئِذٍ أَنه اسْم علم لَا مُشْتَقّ من صفة أصلا وَأَنه خبر عَنهُ تَعَالَى لَا يُرَاد بِهِ غَيره عز وَجل وَلَا يرجع مِنْهُ إِلَى سواهُ الْبَتَّةَ وَالْعجب كل الْعجب لَهُم يسمون الله حَيا لأَنهم لم يَجدوا الْفِعْل يَقع إِلَّا من حَيّ ثمَّ يَقُولُونَ أَنه لَا كالأحياء فعادوا إِلَى دليلهم فأفسدوه لأَنهم إِذا أوجبوا وُقُوع الْفِعْل من حَيّ لَيْسَ كالأحياء الَّذين لَا تقع الْأَفْعَال إِلَّا مِنْهُم فقد أبطلوا أَن يكون ظُهُور الْأَفْعَال دَلِيلا على أَنَّهَا من حَيّ كَمَا عهدوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وَقد علمنَا يَقِينا أَن الْقُدْرَة من كل قَادر فِي الْعَالم فَإِنَّمَا هِيَ عرض فِيهِ وَأَن الْحَيَاة فِي الْحَيّ الْمَعْهُود بضرورة الْعقل عرض فِيهِ أَيْضا وَإِن الْعلم فِي كل عَالم فِي الْعَالم كَذَلِك وَقد وافقونا على أَن الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك فَإذْ قد بَطل أَن يكون هَذَا مَوْصُوفا بِصفة الْقَادِر فِيمَا بَيْننَا والعالم منا الَّتِي لولاها لم يكن الْعَالم عَالما والقادر قَادِرًا فَإِن الْفِعْل فِيمَا بَيْننَا لَا يَقع إِلَّا من أهل تِلْكَ الصّفة فقد بَطل ضَرُورَة أَن يُسمى الْبَارِي تَعَالَى بإسم قَادِرًا وعالم أَو حَيّ اسْتِدْلَالا بِأَن الْفِعْل فِيمَا بَيْننَا لَا يَقع إِلَّا من عَالم قَادر وَإِذ قد جوزوا وجود علم لَيْسَ عرضا وحياة لَيست عرضا وَهَذَا أَمر غير مَعْقُول أصلا فَلَا ينكروا وجود حَيّ لَا بحياة وَسميع لَا بسمع وبصير لَا ببصر وكل هَذَا خُرُوج عَن الْمَعْهُود وَلَا فرق وَإِنَّمَا يستجاز الْخُرُوج عَن الْمَعْهُود إِذا جَاءَ بِهِ نَص من الْخَالِق عز وَجل أَو قَامَ بِهِ برهَان ضَرُورِيّ وَإِلَّا فَلَا وَلم يَأْتِ نَص قطّ بِلَفْظ الْحَيَاة وَلَا الْإِرَادَة وَلَا السّمع وَلَا الْبَصَر وَاحْتج بَعضهم فِي مُعَارضَة من قَالَ إِن الْحَيّ لَا يكون إِلَّا حساساً متحركاً بِإِرَادَة لأننا لم نشاهد قطّ حَيا إِلَّا حساساً متحركاً بِإِرَادَة فَقَالَ هَذَا الْمُعْتَرض إِن من اتّفق لَهُ أَن لَا يرى نباتاً إِلَّا أَخْضَر وَلَا أَخْضَر إِلَّا نباتاً فَقطع بِأَن كل أَخْضَر فَهُوَ نَبَات فقد أَخطَأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأول مَا يُقَال لَهُ قل هَذَا لنَفسك فِي استدلالك بأنك لم تَرَ قطّ فعالاً إِلَّا حَيا عَالما قَادِرًا وَلَا فرق ثمَّ نعود بعون الله تَعَالَى إِلَى بَيَان مَا شغبوا بِهِ مِمَّا لَا يعْرفُونَ الْفرق بَينه وَبَين مَا يَقع عَلَيْهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْأَعْرَاض تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا ذاتي لَا يتَوَهَّم بُطْلَانه بِبُطْلَان حامله كالحس وَالْحَرَكَة الإرادية للحي وَكَذَلِكَ احْتِمَال الْمَوْت للْإنْسَان مَعَ امكانية التَّمْيِيز للعلوم وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات وَمَا أشبه هَذَا وَمن هَذِه الْأَعْرَاض تقوم فُصُول الْأَشْيَاء وحدودها الَّتِي تفرق بَينهَا وَبَين غَيرهَا من الْأَنْوَاع الَّتِي تقع مَعهَا تَحت جنس وَاحِد فَهَذَا الْقسم مَقْطُوع على وجوده فِي كل مَا وَقع اسْم حامله عَلَيْهِ وَالْقسم الثَّانِي غَيْرِي وَهُوَ مَا يتَوَهَّم بُطْلَانه وَلَا يبطل بذلك مَا هُوَ فِيهِ كاجترار الْبَعِير وحلاوة الْعَسَل وَسَوَاد الْغُرَاب فَإِن وجد عسل مر وَقد وَجَدْنَاهُ لم يبطل بذلك أَن يكون عسلاً وَكَذَلِكَ لَو وجد غراب أَبيض وَقد وجد لم يبطل بذلك أَن يكون غراباً فَمثل هَذَا الْقسم لَا يقطع على أَنه مَوْجُود وَلَا بُد أبدا فَهَذَا الْفرق بَين مَا شغب بِهِ من النَّبَات لِأَنَّهُ إِن توهم النَّبَات أَحْمَر أَو أصفر لم يبطل أَن يُسمى نباتاً وَلكنه إِن توهم أَن يكون النَّبَات غير نَام من الأَرْض وَلَا متغذ برطوباتها منجذباً بَحر الْهَوَاء ورطوبته فَإِنَّهُ لَا يكون نباتاً أصلا وَأَيْضًا فقد قَالَ بَعضهم أَنه قد يعرفهُ الْبَارِي حَيا من لَا يعرفهُ حساساً متحركاً بِإِرَادَة قيل لَهُ وَقد يعرفهُ حَيا من لَا يعرف أَن لَهُ حَيَاة وَقد يعرفهُ جسماً من لَا يعرفهُ مؤلفاً وَلَا مُحدثا وَلَيْسَ توهم الْجُهَّال لما توهموه من الحماقات حجَّة على أهل الْعُقُول والعلوم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن كل صفة فِي الْعَالم فَهِيَ ضَرُورَة وَلَا بُد عرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 بَين الطَّرفَيْنِ أَو أحد أذينك الطَّرفَيْنِ وَإِمَّا ذَات ضد فحاملها بِالضَّرُورَةِ قَابل للأضداد فَلَا عَالم فِي الْعَالم إِلَّا وَالْجهل مِنْهُ متوهم وَلَا قَادر فِي الْعَالم إِلَّا وَالْعجز مِنْهُ متوهم وَلَا حَيّ فِي الْعَالم إِلَّا والسكون وَالْحَرَكَة والحس والحذر متوهمات كلهَا مِنْهُ وَقد علمنَا أَن الله تَعَالَى أرْحم الرَّاحِمِينَ حَقًا لَا مجَاز من أنكر هَذَا فَهُوَ كَافِر حَلَال دَمه وَمَاله وَهُوَ تَعَالَى يَبْتَلِي الْأَطْفَال بالجدري واواكل وَالْجِنّ والذبحة والأوجاع حَتَّى يموتوا وبالجوع حَتَّى يموتوا كَذَلِك ويفجع الْآبَاء بالأبناء وَكَذَلِكَ الْأُمَّهَات والأحباء بَعضهم بِبَعْض حَتَّى يهْلكُوا ثكلاً ووجداً وَكَذَلِكَ الطير بألاودها وَلَيْسَت هَذِه صفة الرَّحْمَة بَيْننَا فصح يَقِينا أَنَّهَا أَسمَاء الله تَعَالَى سمى الله تَعَالَى بهَا نَفسه غير مُشْتَقَّة من صفة مَحْمُولَة فِيهِ تَعَالَى حاشا لَهُ من ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن الْعَالم الْقَادِر الْحَيّ الأول الرَّحِيم بِخِلَاف هَذَا قيل لَهُم صَدقْتُمْ وَهَذَا إبِْطَال مِنْكُم لاستدلالكم بِالشَّاهِدِ بَيْنكُم على تَسْمِيَة الْبَارِي وَصِفَاته قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما وَصفنَا الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ الْوَاحِد الأول الْحق الْخَالِق من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فَإِنَّهُ لَا يلْزمنَا فِي ذَلِك شَيْء مِمَّا ألزمناه خصومنا لِأَنَّهُ قد قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ خَالق مَا سواهُ وَلَيْسَ فِي الْعَالم خَالق الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد قَامَ الْبُرْهَان على أَنه تَعَالَى وَاحِد لَا وَاحِد فِي الْعَالم غَيره الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وكل مَا فِي الْعَالم فمتكثر بِاحْتِمَال الْقِسْمَة والتحري وَقد قَامَ الْبُرْهَان على أَنه تَعَالَى الأول وَالْأول فِي الْعَالم الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه كل مَا فِي الْعَالم يُنَافِي الأمل وَقَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ تَعَالَى الْحق بِذَاتِهِ وَإِن كل مَا فِي الْعَالم فَإِنَّمَا هُوَ مُحَقّق لَهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ حَقًا بالباري جلّ وَعز لولاه لم يكن حَقًا فَهَذَا هُوَ الْبُرْهَان الصَّحِيح الثَّابِت الَّذِي لَا يُعَارض ببرهان الْبَتَّةَ وَهَذَا هُوَ نفي التَّشْبِيه ثمَّ إننا ننفي عَن الْبَارِي تَعَالَى جَمِيع صِفَات الْعَالم فَنَقُول أَنه تَعَالَى لَا يجهل أصلا وَلَا يغْفل الْبَتَّةَ وَلَا يسهو وَلَا ينَام وَلَا يحس وَلَا يخفى عَلَيْهِ متوهم وَلَا يعجز عَن مسئول عَنهُ لأننا قد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا هَذَا إِن الله تَعَالَى بِخِلَاف خلقه من كل وَجه فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب نفي كل مَا يُوصف بِهِ شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم عَنهُ تَعَالَى على الْعُمُوم وَأما إِثْبَات الْوَصْف أَو التَّسْمِيَة لَهُ تَعَالَى فَلَا يجوز إِلَّا بِنَصّ ونخبر عَنهُ تَعَالَى بأفعاله عز وَجل فَنَقُول أَنه تَعَالَى مُحي الْمَوْتَى ومميت الْأَحْيَاء إِلَّا أَن لَا يثبت إِجْمَاع فِي إِبَاحَة شَيْء من ذَلِك وَلَوْلَا الْإِجْمَاع على إِبَاحَة إِطْلَاق بعض ذَلِك هَا هُنَا لما أجزناه ونقول أَنه تَعَالَى بِكُل شَيْء عليم لم يزل كَذَلِك وَالْمعْنَى فِي هَذَا أَنه لم يزل يعلم أَنه سيخلق الْأَشْيَاء على حسب هَيْئَة كل مَخْلُوق مِنْهَا لَا على أَن الْأَشْيَاء لم تزل مَوْجُودَة فِي علمه معَاذ الله من هَذَا وَلَكِن نقُول لم يزل تَعَالَى يعلم أَنه سيحدث كل مَا يكون شَيْئا إِذا أحدثه على مَا يكون عَلَيْهِ إِذا كَانَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونجمع إِن شَاءَ الله تَعَالَى هَا هُنَا بَيَان الرَّد على من أقدم أَن يُسمى الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 بِغَيْر نَص لَكِن بِمَا دله عَلَيْهِ عقله وظنه أَنه حسن ومدح أَو اسْتِدْلَالا بِمَا سمى بِهِ تَعَالَى نَفسه أَو تصريفاً من ذَلِك أَو قِيَاسا على مَا شَاهد من خلقه فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى سمى نَفسه الرَّحْمَن الرَّحِيم فسمه أَنْت الرَّقِيق من رقة النَّفس الَّتِي هِيَ الرَّحْمَة فَإِن قَالَ الرَّحِيم يُغني عَن ذَلِك قيل لَهُ نقصت أصلك لِأَن الْحَيّ يُغني عَن هَذَا عَن أَن يُقَال لَهُ حَيَاة وَأَيْضًا فَإِن الرَّحْمَن يُغني عَن الرَّحِيم فَإِن قَالَ قد ورد النَّص بِهِ قيل لَهُ صدقت وَلَا تتعد مَا جَاءَ بِهِ النَّص وامنع مَا سواهُ وسمى نَفسه الْعَلِيم فسمه الدَّارِيّ الحبر الْفَهم الذكي الْعَارِف النَّبِيل فَكل هَذَا مدح وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَة بِمَعْنى عليم وَلَا فرق وسمى نَفسه الْكَرِيم فسمه السخي والجواد وسمى نَفسه الْحَكِيم فسمه النَّاقِد الْعَاقِل وسمى نَفسه الْعَظِيم فسمه الفخم الضخم وسمى نَفسه الْحَلِيم فسمه الْمُحْتَمل الصابر الصبور الصبار وَأخْبر أَنه قريب فسمه الداني المجاور الْمُبَاشر وسمى نَفسه الْوَاسِع فسمه الرحب العريض وسمى نَفسه الْعَزِيز فسمه الرئيس وَأخْبر أَنه شَاكر وشكور فسمه الحامد الحماد وسمى نَفسه القهار فسمه الظافر وسمى نَفسه الآخر فسمه الثَّانِي والتالي والخاتم وسمى نَفسه الظَّاهِر فسمه الْعَارِف والداري وسمى نَفسه الْكَبِير فسمه الرئيس والمتقدم وسمى نَفسه الْقَدِير فسمه المطيق والمستطيع وسمى نَفسه الْعلي فسمه العالي والرفيع والسامي وسمى نَفسه الْبَصِير فسمه المعاين وسمى نَفسه الْجَبَّار فسمه المتجبر الزاهي التياه وسمى نَفسه المتكبر فسمه المستكبر المتعاظم المتنحي وسمى نَفسه الْبر الزاكي المتواصل وسمى نَفسه المتعالي فسمه المتعظم المترفع وسمى نَفسه الْغَنِيّ فسمه الْمُوسر الملي المكثر الوافر وسمى نَفسه الْوَلِيّ فسمه الصّديق المصادق الْوَالِي الحبيب وسمى نَفسه الْقوي فسمه الْجلد النجد الشجاع الجليد الشَّديد الباطش وسمى نَفسه الْحَيّ وَأخْبر أَن لَهُ نفسا فسمه المتحرك الحساس واقطع لَهُ روحاً بِمَعْنى النَّفس وسمى نَفسه السَّمِيع الْبَصِير فسمه الشمام الذواق وسمى نَفسه الْمجِيد فسمه الشريف الْمَاجِد وسمى نَفسه الحميد فسمه المحمد الْمَحْمُود والممدوح وسمى نَفسه الْوَدُود فسمه الواد الْمُحب الحبيب الوديد وسمى نَفسه الصَّمد فسمه المصمت وسمى نَفسه الْحق فسمه الصَّحِيح الثَّابِت وسمى نَفسه اللَّطِيف فسمه الْخَفِيف وَذكر تَعَالَى أَن لَهُ مكراً وكيداً فَقل إِن لَهُ دهاء ونكراً وحساً تحليلا وخدائع فَهَذَا كُله فِي اللُّغَة وَفِيمَا بَيْننَا سَوَاء وسمى نَفسه الْمُبين فسمه الْوَاضِح الْبَين اللائح البادي وسمى نَفسه الْمُؤمن فسمه الْمُسلم الْمُصدق وسمى نَفسه الْبَاطِن فسمه الْخَفي الْغَائِب المتغيب وسمى نَفسه الْملك والمليك فسمه السُّلْطَان وَصَحَّ بِالسنةِ أَنه يُسمى جميلاً فسمه الصبيح الْحسن قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن أَبى من كل هَذَا نقص أَصله وَكَذَلِكَ إِن قَالَ إِن بعض ذَلِك يُغني عَن بعض لزمَه إِسْقَاط الْحَيَاة لِأَن الْحَيّ يُغني عَن ذكر الْحَيَاة على هَذَا الأَصْل وَلَزِمَه أَن لَا يَقُول أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 مُتَكَلم لِأَن الْكَلَام مغن عَن ذَلِك وَلَزِمَه أَيْضا إِسْقَاط السّمع وَالْبَصَر لِأَنَّهُ اسْتغنى بالسميع والبصير وَلَزِمَه أَيْضا إِسْقَاط مَا جَاءَ بِهِ النَّص إِذا كَانَ بعضه يُغني عَن بعض وَالْملك يُغني عَن مليك أَو أحد يُغني عَن وَاحِد وجبار يُغني عَن متكبر وخالق يُغني عَن الْبَارِي وَهَكَذَا يُسمى الله عز وَجل الْقَدِيم وَلَا الحنان وَلَا المنان وَلَا الْفَرد وَلَا الدايم وَلَا الْبَاقِي وَلَا الخالد الْعَالم وَلَا الداني وَلَا الرَّائِي وَلَا السَّامع وَلَا المعتلي وَلَا العالي وَلَا المتبارك وَلَا الطَّالِب وَلَا الْغَالِب وَلَا الضار وَلَا النافع وَلَا الْمدْرك وَلَا المبدىء وَلَا المعيد وَلَا النَّاطِق وَلَا الْقَادِر وَلَا الْوَارِث وَلَا الْبَاعِث وَلَا القاهر وَلَا الْجَلِيل وَلَا الْمُعْطِي وَلَا الْمُنعم وَلَا المحسن وَلَا الحكم وَلَا الْحَاكِم وَلَا الْوَاهِب وَلَا الْغفار وَلَا المضل وَلَا الْهَادِي وَلَا الْعدْل وَلَا الرضي وَلَا الصَّادِق وَلَا المتطول وَلَا المتفضل وَلَا المنان وَلَا الْخَبِير وَلَا الْحَافِظ وَلَا البديع وَلَا إِلَّا لَهُ وَلَا الْمُجْمل وَلَا المحي وَلَا المميت وَلَا الْمنصف وَلَا بِشَيْء لم يسم بِهِ نَفسه أصلا وَإِن كَانَ فِي غَايَة الْمَدْح عندنَا أَو كَانَ متصرفاً من أَفعاله تَعَالَى إِلَى أَن نخبر عَنهُ بِكُل هَذَا الَّذِي ذكرنَا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا نذْكر مَعَ الْوَصْف حِينَئِذٍ والإخبار عَن فعله تَعَالَى فَهَذَا جَائِز حِينَئِذٍ فَيجوز أَن يُقَال عَالم الخفيات عَالم بِكُل شَيْء عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة غَالب على امْرَهْ غَالب على كل من طَغى وَنَحْو هَذَا الْقَادِر على مَا يَشَاء القاهر للملوك وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا الْمُعْطِي لكل مَا بِأَيْدِينَا الْوَاهِب لنا كل مَا عندنَا الْمُنعم على خلقه المحسن إِلَى أوليائه الْحَاكِم بِالْحَقِّ المبدي لخلقه المعيد لَهُ المضل لأعدائه الْهَادِي لأوليائه الْعدْل فِي حكمه الصَّادِق فِي قَوْله الراضي عَمَّن أطاعه الغضبان على من عَصَاهُ الساخط على أعدائه الكاره لما نهى عَنهُ بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَه الْخلق مُحي الْأَحْيَاء والموتى مميت الْأَحْيَاء والموتى الْمنصف مِمَّن ظلم باني الدُّنْيَا وداحيها ومسويها وَنَحْو هَذَا لِأَن كل هَذَا إِخْبَار عَن فعله تَعَالَى وَهَذَا مُبَاح لنا بِالْإِجْمَاع وَهُوَ من تَعْظِيمه تَعَالَى وَمن دُعَائِهِ عز وَجل وَلَيْسَ لنا أَن نُسَمِّيه إِلَّا بِنَصّ وَكَذَلِكَ نقُول إِن لله تَعَالَى كيداً ومكراً وكبرياء وَلَيْسَ هَذَا من الْمَدْح فِيمَا بَيْننَا بل هُوَ فِيمَا بَيْننَا ذمّ وَلَا يحل أَن نقُول إِن لله تَعَالَى عقلا وشجاعا وعفة ودهاء وفهماً وذكاء وَهَذَا غَايَة الْمَدْح فِيمَا بَيْننَا فَبَطل أَن يُرَاعِي فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى مَا هُوَ مدح عندنَا أَو مَا هُوَ ذمّ عندنَا بل النَّص فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان على هَذَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِدَة من أحصاها دخل الْجنَّة فَلَو كَانَت هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي منعنَا مِنْهَا جَائِزا أَن تطلق لكَانَتْ أَسمَاء الله تَعَالَى أَكثر من مائَة ونيف وَهَذَا بَاطِل لِأَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة غير وَاحِد مَانع من أَن يكون لَهُ أَكثر من ذَلِك وَلَو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 جَازَ ذَلِك لَكَانَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كذبا وَهَذَا كفر مِمَّن أجَازه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} فأسماؤه بِلَا شكّ كَمَا هِيَ دَاخِلَة فِيمَا علمه آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَتَخْصِيص كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحل فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَمن هُوَ الَّذِي اشتقها من الصِّفَات فَإِن قَالُوا هُوَ اشتقها كذبُوا على الله تَعَالَى جهاراً إِذْ أخبروا عَنهُ بِمَا لم يخبر بِهِ تَعَالَى عَن نَفسه وَهَذَا عَظِيم نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهَذِه كلهَا براهين كَافِيَة لمن عقل وَبِاللَّهِ تعال التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْكَلَام فِي الْوَجْه وَالْيَد وَالْعين وَالْجنب والقدم والتنزل والعزة وَالرَّحْمَة وَالْأَمر وَالنَّفس والذات وَالْقُوَّة وَالْقُدْرَة والأصابع قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله عز وَجل {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} فَذَهَبت المجسمة إِلَى الِاحْتِجَاج بِهَذَا فِي مَذْهَبهم وَقَالَ الْآخرُونَ وَجه الله تَعَالَى إِنَّمَا يُرَاد بِهِ الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهِ لما قدمنَا من إبِْطَال القَوْل بالتجسيم وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل وَجه الله هُوَ الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يُطلق لِأَنَّهُ تَسْمِيَة وَتَسْمِيَة الله تَعَالَى لَا يجوز إِلَّا بِنَصّ وَلَكنَّا نقُول وَجه الله لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا نرْجِع مِنْهُ إِلَى شَيْء سوى لله تَعَالَى برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى حاكياً عَمَّن رَضِي قَوْله {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} فصح يَقِينا أَنهم لم يقصدوا غير الله تَعَالَى وَقَوله عز وَجل {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} إِنَّمَا مَعْنَاهُ ثمَّ الله تَعَالَى بِعِلْمِهِ وقبوله لمن توجه إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} وَقَالَ تَعَالَى {لما خلقت بيَدي} وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّا عملت أَيْدِينَا أنعاماً} وَقَالَ {بل يَدَاهُ مبسوطتان} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يمبن الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فَذَهَبت المجسمة إِلَى مَا ذكرنَا مِمَّا قد سلف من بطلَان قَوْلهم فِيهِ وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْيَد النِّعْمَة وَهُوَ أَيْضا لَا معنى لَهُ لِأَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ إِن المُرَاد بقول الله تَعَالَى أَيْدِينَا إِنَّمَا مَعْنَاهُ اليدان وَإِن ذكر الْأَعْين إِنَّمَا مَعْنَاهُ عينان وَهَذَا بَاطِل مدْخل فِي قَول المجسمة بل نقُول إِن هَذَا إِخْبَار عَن الله تَعَالَى لَا يرجع من ذكر الْيَد إِلَى شَيْء سواهُ تَعَالَى ونقر إِن لله تَعَالَى كَمَا قَالَ يدا ويدين وأيدي وَعين وَأَعْيُنًا كَمَا قَالَ عز وَجل {ولتصنع على عَيْني} وَقَالَ تَعَالَى {فَإنَّك بأعيننا} وَلَا يجوز لأحد أَن يصف الله عز وَجل بل لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عينين لِأَن النَّص لم يَأْتِ بذلك ونقول إِن المُرَاد بِكُل مَا ذكرنَا الله عز وَجل لَا شَيْء غَيره وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن قَول قَائِل قَالَ يَا حسرنا على مَا فرطت فِي جنب الله وَهَذَا مَعْنَاهُ فِيمَا يقْصد بِهِ إِلَى الله عز وَفِي حنب عِبَادَته وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلنَا يَدَيْهِ يَمِين وَعَن يَمِين الرَّحْمَن فَهُوَ مثل قَوْله {وَمَا ملكت أَيْمَانكُم} يُرِيد وَمَا ملكتم وَلما كَانَت الْيَمين فِي لُغَة الْعَرَب يُرَاد بهَا الْحَظ للأفضل كَمَا قَالَ الشماخ ... إِذا مَارِيَة رفعت لمحمدٍ تلقاها عرابه بِالْيَمِينِ ... يُرِيد أَن يتلقاها بالسعي إِلَّا على كَانَ قَوْله وكلتا يَدَيْهِ يَمِين أَي كل مَا يكون مِنْهُ تَعَالَى من الْفَصْل فَهُوَ إِلَّا عَليّ وَكَذَلِكَ صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن جَهَنَّم لَا تملأ حَتَّى يضع فِيهَا قدمه وَصَحَّ أَيْضا فِي الحَدِيث حَتَّى يضع فِيهَا رجله وَمعنى هَذَا مَا قد بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث آخر صَحِيح أخبر فِيهِ أَن الله تَعَالَى بعد يَوْم الْقِيَامَة يخلق خلقا يدخلهم الْجنَّة وَأَنه يَقُول للجنة وَالنَّار لكل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَمَعْنَى الْقدَم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} يُرِيد سالف صدق مَعْنَاهُ الْأمة الَّتِي تقدم فِي علمه تَعَالَى أَنه يمْلَأ بهَا جَهَنَّم وَمعنى رجله نَحْو ذَلِك لِأَن الرجل الْجَمَاعَة فِي اللُّغَة أَي يضع فِيهَا الْجَمَاعَة الَّتِي قد سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه يمْلَأ جَهَنَّم بهَا وَكَذَلِكَ الحَدِيث الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن قلب الْمُؤمن بَين اصبعين من أَصَابِع الله عز وَجل أَي بَين تدبيرين ونعمتين من تَدْبِير الله عز وَجل ونعمه إِمَّا كِفَايَة تسرهُ وَإِمَّا بلَاء يأجره عَلَيْهِ وبالأصح فِي اللُّغَة النِّعْمَة وقلب كل أحد بَين توفيق الله وجلاله وَكِلَاهُمَا حكمه عز وَجل وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يَبْدُو لَهُ مُؤمن يَوْم الْقِيَامَة فِي غير الصُّورَة الَّتِي عرفوها وَهَذَا ظَاهر بَين وَهُوَ أَنهم يرَوْنَ صُورَة الْحَال من الهول والمخافة غير الَّتِي يظنون فِي الدُّنْيَا وبرهان صِحَة هَذَا القَوْل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور غير الَّذِي عرفتموه بهَا وبالضرورة نعلم أننا لم نعلم لله عز وَجل فِي الدُّنْيَا صُورَة أصلا فصح مَا ذَكرْنَاهُ يَقِينا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الحَدِيث الثَّابِت خلق الله آدم على صورته فَهَذِهِ إِضَافَة ملكٍ يُرِيد الصُّورَة الَّتِي تخيره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليَكُون آدم مصورا عَلَيْهَا وكل فَاضل فِي طبقته فَإِنَّهُ ينْسب إِلَى الله عز وَجل كَمَا يَقُول بَيت الله تَعَالَى عَن الْكَعْبَة والبيوت كلهَا بيُوت الله تَعَالَى وَلَكِن لَا يُطلق على شَيْء مِنْهَا هَذَا الِاسْم كَمَا يطبق على الْمَسْجِد الْحَرَام وكما نقُول فِي جِبْرِيل وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام روح لله والأرواح كلهَا لله عز وَجل ملك لَهُ وكالقول فِي نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ لله والنوق كلهَا لله عزوجل فعلى هَذَا الْمَعْنى قيل على صُورَة الرَّحْمَن والصور كلهَا لله تَعَالَى هِيَ ملك لَهُ وَخلق لَهُ وَقد رَأَيْت لِابْنِ فورك وعيره من لَا أشعرية فِي الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث أَنهم قَالُوا فِي معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله خلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ على صفة الرَّحْمَن من الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار واجتماع صِفَات الْكَمَال فِيهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته كَمَا أسجدهم لنَفسِهِ وَجعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله كل ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا نَص كَلَام أبي جَعْفَر السَّمْعَانِيّ عَن شُيُوخه حرفا حرفا وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا مرية فِيهِ لِأَنَّهُ سوى (1) بَين الله عز وَجل وآدَم فِي الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار واجتماع صِفَات الْكَمَال فيهمَا وَالله يَقُول لَيْسَ كمثله شَيْء ثمَّ لم يقنعوا بهَا حَتَّى جعلُوا سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم كسجودهم لله عز وَجل وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن سجودهم لله تَعَالَى سُجُود عبَادَة ولآدم سُجُود تَحِيَّة وإكرام وَمن قَالَ إِن الْمَلَائِكَة عبدت آدم كَمَا عبدت الله عز وَجل فقد اشرك ثمَّ زَاد فِي الْأَمر وَالنَّهْي لآدَم على ذُريَّته كَمَا هُوَ الله تَعَالَى وَهَذَا شرك لَا خَفَاء بِهِ وَلَوَدِدْنَا أَن نَعْرِف مَا هِيَ صِفَات الْكَمَال الَّتِي ذكر هَذَا الْإِنْسَان أَنَّهَا اجْتمعت فِي آدم كَمَا اجْتمعت فِي الله عز وَجل أَن هَذَا الْإِلْحَاد وَالِاسْتِخْفَاف بِاللَّه تَعَالَى لَا نَدْرِي كَيفَ تكلم وأنطق لِسَانه من يعرف أَن الله تَعَالَى لم يكن لَهُ كفوا أحد وَوَاللَّه إِن صِفَات الْكَمَال فِي الْمَلَائِكَة لأكْثر مِنْهَا فِي آدم وَإِن صِفَات الِاثْنَيْنِ الَّتِي شاركوا فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام كصفات الْجِنّ وَلَا فرق بَين الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُوَّة والتناسل وَغير ذَلِك فَالْكل على هَذَا على صُورَة الله تَعَالَى هَذَا القَوْل الملعون قائلة ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَكَذَلِكَ مَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يَوْم الْقِيَامَة أَن الله عز جلّ يكْشف عَن سَاق فَيَخِرُّونَ سجدا فَهَذَا كَمَا قَالَ الله عز وَجل فِي الْقُرْآن يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن شدَّة الْأَمر وَهُوَ الْمَوْقُوف كَمَا تَقول الْعَرَب قد شمرت الْحَرْب عَن سَاقهَا قَالَ جرير ... الْأَدَب سامي الطّرف من آل مَازِن ... إِذا شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا ... وَالْعجب مِمَّن يُنكر هَذِه الْأَخْبَار الصاح وَإِنَّمَا جات بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن نصا وَلَكِن من ضَاقَ علمه أنكر مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَقد عَابَ الله هَذَا فَقَالَ بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله وَاخْتلف النَّاس فِي الْأَمر وَالرَّحْمَة والعزة فَقَالَ قوم هِيَ صِفَات ذَات لم تزل وَقَالَ آخَرُونَ لم يزل الله تَعَالَى الله الْعَزِيز لرحمن الرَّحِيم بِذَاتِهِ وَأما الرَّحْمَة وَالْأَمر فمخلوقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالرُّجُوع عِنْد الِاخْتِلَاف إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْقُرْآن وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَفَعَلْنَا فَوَجَدنَا الله تَعَالَى يَقُول {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} وَالْمَفْعُول مَخْلُوق بِلَا خلاف وَقَالَ تَعَالَى {وَالله غَالب على أمره} وَبلا شكّ فِي أَن المغلوب عَلَيْهِ مَخْلُوق وَأَنه غير الْغَالِب عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} وَهَذَا بَيَان جلي لَا إِشْكَال فِيهِ على أَن الْأَمر مُحدث وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ فصح بِيَقِين أَن أَمر الله تَعَالَى مُحدث مَخْلُوق وَقَالَ الأشعرية لم يزل الله تَعَالَى آمُر الْكل من أمره بِمَا يَأْمُرهُ بِهِ إِذا وجد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل مُتَيَقن لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ الله تَعَالَى لم يزل آمراً لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يزل آمرنا بِأَن لَا نصلي إِلَى بَيت الْمُقَدّس لَكِن إِلَى الْكَعْبَة فَيكون آمُر بِالْفِعْلِ للشَّيْء وَالتّرْك لَهُ مَعًا وَهَذَا تَخْلِيط جلّ الله تَعَالَى عَنهُ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلْزمهُم فِي نهي الله تَعَالَى عَمَّا نهى عَنهُ أَنه لم يزل لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أمره تَعَالَى وَبَين نَهْيه فَإِن قَالُوا بل نَهْيه مُحدث وَأمره قديم قُلْنَا لَهُم مَا قَوْلكُم فِيمَن عكس عَلَيْكُم فَقَالَ بل نَهْيه لم يزل وَإِمَّا أمره فمحدث وكلا الْقَوْلَيْنِ تَخْلِيط وَأَيْضًا فَإِنَّهُم مقرون بِأَن الْقَدِيم لَا يتَغَيَّر وَلَا يبطل وَقد صَحَّ أمره تَعَالَى لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ قد بَطل الْأَمر بذلك وَعدم وَانْقطع فَلَو كَانَ أمره تَعَالَى لم يزل لوَجَبَ أَن لَا يبطل وَلَا يعْدم وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه وَإِن قَالُوا إِن أمره تَعَالَى لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس بَاقٍ أبدا لم يسْقط وَلَا نسخ وَلَا بَطل وَلَا أَحَالهُ تَعَالَى بِأَمْر آخر كفرُوا بِلَا خلاف وَالَّذِي يدْخل على هَذَا القَوْل الْفَاسِد أَكثر من هَذَا وَقَالَ تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} فَلَو كَانَ الْأَمر غير مَخْلُوق وَلم يزل لَكَانَ الرّوح كَذَلِك لِأَنَّهُ مِنْهُ ومعاذ الله من هَذَا وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن أَرْوَاحهم مخلوقة وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَهِي معذبة فِي النَّار أَو منعمة فِي الْجنَّة وَقَالَ {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليهوسلم سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح قَالَ أَبُو مُحَمَّد والمربوب مَخْلُوق بِلَا شكّ فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} ورام بِهَذَا إِثْبَات أَن الْخلق غير الْأَمر فَلَا حجَّة لَهُ فِي هَذَا لِأَن الله عز وَجل قَالَ {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} فقد فرق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة بَين الْخلق والتسوية وَالتَّعْدِيل والتصوير وَلَا خلاف فِي أَن كل هَذَا خلق مَخْلُوق وَقَالَ تَعَالَى {خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فعطف تَعَالَى الرزق وَالْأَمَانَة والإحياء على الْخلق بِلَفْظَة ثمَّ فَلَو كل عطف الْأَمر على الْخلق دَلِيلا على أَن الْأَمر غير الْخلق لوَجَبَ وَلَا بُد أَن يكون الرزق وَالْأَمَانَة والإحياء والتصوير كلهَا غير الْخلق وَغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 مخلوقات وَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم فَبَطل استدلالهم على أَن الْأَمر غير مَخْلُوق لعطفه على الْخلق وَقد عطف تَعَالَى جِبْرِيل على الْمَلَائِكَة فَلَيْسَ الْعَطف على الشَّيْء مخرجا لَهُ عَنهُ إِذا قَامَ برهَان على أَنه دَاخل فِيهِ وَقد قَامَ برهَان النَّص بِأَن أَمر لله تَعَالَى مَخْلُوق وَأَنه قدر مَقْدُور مفعول وَأما إِذا لم يَأْتِ برهَان يدْخل الْمَعْطُوف فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَهُوَ غَيره بِلَا شكّ هَذَا حكم اللُّغَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْعِزَّة فقد قَالَ الله تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد والمربوب مَخْلُوق بِلَا شكّ وَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى {فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} بِمُوجب أَن الْعِزَّة لن تزل لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا} وَلَيْسَ هَذَانِ النصان بِلَا خلاف موجبين أَن الشَّفَاعَة غير مَخْلُوق إِلَّا إِن هَا هُنَا عزة لَيست غير الله تَعَالَى فَهِيَ غير مخلوقة وَهِي الَّتِي صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حلف بهَا فَقَالَ وَعزَّتك فِي حَدِيث خلق الْجنَّة وَالنَّار قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبَاطِل أَن يحلف جِبْرِيل بِغَيْر الله عز وَجل وَأما الرَّحْمَة فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق مائَة رَحْمَة فقسم فِي عباده رَحْمَة وَاحِدَة فِيهَا يتراحمون وَرفع التِّسْعَة وَتِسْعين ليَوْم الْقِيَامَة يرحم بهَا عباده أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا رفع للإشكال جملَة فِي أَن الرَّحْمَة مخلوقة وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن إِدْخَال الله عز وَجل الْجنَّة من أدخلهُ فِيهَا برحمته تَعَالَى وَأَن بعثته مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة لمن آمن بِهِ وكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ وَأما الْقُدْرَة وَالْقُوَّة فقد قَالَ عز وَجل {أولم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة} وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن خَالِد الهمذاني حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْبَلْخِي حَدثنَا الْفربرِي حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا معن بن عِيسَى حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الموال سَمِعت مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر يحدث عبد الله بن الْحسن قَالَ أَخْبرنِي جَابر بن عبد الله قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم أَصْحَابه الاستخارة فَذكر الحَدِيث وَفِيه اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل فِي الْقُدْرَة وَالْقُوَّة كالقول فِي الْعلم سَوَاء بِسَوَاء فِي اخْتِلَاف النَّاس على تِلْكَ الْأَقْوَال وَتلك الْحجَّاج وَلَا فرق وَقَوْلنَا فِي هَذَا هُوَ مَا قُلْنَاهُ هُنَالك من أَن الْقُدْرَة وَالْقُوَّة لله تَعَالَى حَقًا وليستا غير الله تَعَالَى وَلَا يُقَال هما الله تَعَالَى وَقَالَ تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَقَالَ تَعَالَى {ويحذركم الله نَفسه} فَنَفْس الله تَعَالَى إِخْبَار عَنهُ لَا عَن شَيْء غَيره أصلا فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يَقُول لرَبه تَعَالَى {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب} قُلْنَا هَذَا على ظَاهره وعَلى الْحَقِيقَة لِأَن كل غيب فَهُوَ مَعْلُوم فِي علم الله الْعَلِيم بِكُل شَيْء فَجرى الْكَلَام على مَا يتخاطب بِهِ النَّاس مِمَّا لَا يتوصلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 إِلَى الْعبارَة عَمَّا يُرِيدُونَ إِلَّا بِهِ وَهَذَا مَعْهُود من القَوْل أَن يَقُول الْقَائِل نفس الشَّيْء وَحَقِيقَته يُرَاد بذلك الشَّيْء لَا مَا سواهُ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الذَّات وَلَا فرق فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ وَلَا أعلم مَا عنْدك وَمَا فِي عَلَيْك وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر أَن الله تَعَالَى ينزل كل لَيْلَة إِذا بَقِي ثلث اللَّيْل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فعل يَفْعَله الله تَعَالَى فِي سَمَاء الدُّنْيَا من الْفَتْح لقبُول الدُّعَاء وَإِن تِلْكَ السَّاعَة من مظان الْقبُول والإجابة وَالْمَغْفِرَة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وَهَذَا مَعْهُود فِي اللُّغَة تَقول نزل فلَان عَن حَقه بِمَعْنى وهبه لي وتطول بِهِ عَليّ وَمن الْبُرْهَان على أَنه صفة فعل لَا صفة ذَات أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علق التنزل الْمَذْكُور بِوَقْت محدد فصح أَنه فعل مُحدث فِي ذَلِك مفعول حينئذٍ وَقد علمنَا أَن مَا لم يزل فَلَيْسَ مُتَعَلقا بِزَمَان الْبَتَّةَ وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور مَا ذَلِك الْفِعْل وَهُوَ أَنه ذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يَأْمر مَالِكًا يُنَادي فِي ذَلِك الْوَقْت بذلك وَأَيْضًا فَإِن ثلث اللَّيْل مُخْتَلف فِي الْبِلَاد باخْتلَاف الْمطَالع والمغارب يعلم ذَلِك ضَرُورَة من بحث عَنهُ فصح ضَرُورَة أَنه فعل يَفْعَله رَبنَا تَعَالَى فِي ذَلِك الْوَقْت لأهل كل أفق وَأما من جعل ذَلِك نقلة فقد قدمنَا بطلَان قَوْله فِي إبِْطَال القَوْل بالجسم بعون الله وتأييده وَلَو انْتقل تَعَالَى لَكَانَ محدوداً مخلوقاً مؤلفاً شاغلاً لمَكَان وَهَذِه صفة المخلوقين تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَقد حمد الله إِبْرَاهِيم خَلِيله وَرَسُوله وَعَبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بَين لِقَوْمِهِ بنقلة الْقَمَر أَنه لَيْسَ رَبًّا فَقَالَ {فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين} وكل منتقل عَن مَكَان فَهُوَ آفل عَنهُ تَعَالَى الله عَن هَذَا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَقَوله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر} فَهَذَا كُله على مَا بَينا من أَن الْمَجِيء والإتيان يَوْم الْقِيَامَة فعل يَفْعَله الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْيَوْم يُسمى ذَلِك الْفِعْل مجيئاً وإتياناً وَقد روينَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله أَنه قَالَ وَجَاء رَبك إِنَّمَا مَعْنَاهُ وَجَاء أَمر رَبك قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا تعقل الصّفة وَالصِّفَات فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل بهَا الْقُرْآن وَفِي سَائِر اللُّغَات وَفِي وجود الْعقل وَفِي ضَرُورَة الْحس إِلَّا أعراضاً مَحْمُولَة فِي الموصوفين فَإِذا جوزوها غير أَعْرَاض بِخِلَاف الْمَعْهُود فقد تحكموا بِلَا دَلِيل إِذْ إِنَّمَا يُصَار إِلَى مثل هَذَا فِيمَا ورد بِهِ نَص وَلم يرد قطّ نَص بِلَفْظ الصِّفَات وَلَا بِلَفْظ الصّفة فَمن الْمحَال أَن يُؤْتى بِلَفْظ لَا نَص فِيهِ يعبر بِهِ عَن خلاف الْمَعْهُود وَقَالَ تَعَالَى {للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} فَلَو ذكرُوا الْأَمْثَال مَكَان الصِّفَات لذكر الله تَعَالَى لَفْظَة الْمثل لَكَانَ أولى ثمَّ قد بَين الله تَعَالَى غَايَة الْبَيَان فَقَالَ فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال وَقد أخبر الله تَعَالَى بِأَن لَهُ الْمثل الْأَعْلَى فصح ضَرُورَة أَنه لَا يضْرب لَهُ مثل إِلَّا مَا أخبر بِهِ تَعَالَى فَقَط وَلَا يحل أَن يُزَاد على ذَلِك سيء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي المائية قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب طوائف من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا مائية لَهُ وَذهب أهل السّنة وَضِرَار بن عَمْرو إِلَى إِن لله تَعَالَى مائية قَالَ ضرار لَا يعلمهَا غَيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن لَهُ مائية هِيَ أنيته نَفسهَا وَأَنه لَا جَوَاب لمن سَأَلَ مَا هُوَ الْبَارِي إِلَّا مَا أجَاب بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ سَأَلَهُ فرعونة وَمَا رب الْعَالمين ونقول أَنه لَا جَوَاب هَا هُنَا لَا فِي علم الله تَعَالَى وَلَا عندنَا إِلَّا مَا أجَاب بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الله تَعَالَى حمد ذَلِك مِنْهُ وَصدق فِيهِ وَلَو لم يكن جَوَابا صَحِيحا تَاما لَا نقص فِيهِ لما حَمده الله وَاحْتج من أنكر المائية بِأَن قَالَ لَا تَخْلُو المائية من أَن تكون هِيَ الله أَو تكون غَيره فَإِن كَانَت غَيره والمائية لم يزل فَلم يزل مَعَ الله تَعَالَى غَيره وَهَذَا شرك وَكفر قَالُوا وَإِن كَانَت هُوَ هِيَ وَكُنَّا لَا نعلمها فقد صرنا لَا نعلم الله عز وَجل وَهَذَا إِقْرَار بأننا نجهله وَالْجهل بِاللَّه تَعَالَى كفر بِهِ وَقَالُوا لَو أمكن أَن تكون لَهُ مائية لكَانَتْ لَهُ كيفة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من جهلهم بحدود الْكَلَام وبمواقع الْأَسْمَاء على المسميات إِذْ مائية الشَّيْء إِنَّمَا هِيَ الْجَواب فِي سُؤال السَّائِل بِمَا هُوَ وَهَذَا سُؤال عَن حَقِيقَة الشَّيْء وذاته فَمن أبطل المائية فقد أبطل حَقِيقَة الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ بِمَا هُوَ لَكِن أول مَرَاتِب الْإِثْبَات فِيمَا بَيْننَا هِيَ الْآنِية وَهِي إِثْبَات وجود الشَّيْء فَقَط وَهَذَا أَمر قد علمناه وأحطنا بِهِ وَلَا يَتَبَعَّض الْعلم بذلك فَيعلم بعضه ويجهل بعضه ثمَّ يَتْلُو الْآنِية الَّتِي هِيَ جَوَاب السَّائِل فَهَل فِيمَا بَيْننَا السُّؤَال بِمَا هُوَ وَأما فِي الْبَارِي تَعَالَى فالسؤال بِمَا هُوَ هُوَ السُّؤَال بهل وَهُوَ وَالْجَوَاب فِي كليهمَا وَاحِد فَنَقُول هُوَ حق وَاحِد أول خَالق لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَإِنَّمَا اخْتلفت الْآنِية والمائية فِي غير الله تَعَالَى لاخْتِلَاف الْأَعْرَاض فِي الْمَسْئُول عَنهُ وَلَيْسَ الله تَعَالَى كَذَلِك وَلَا هُوَ حَامِل أعراضاً أصلا هَاهُنَا نقف وَلَا نعلم أَكثر وَلَا هَاهُنَا أَيْضا شَيْء غير هَذَا إِلَّا مَا علمنَا رَبنَا تَعَالَى من سَائِر أَسْمَائِهِ كالعليم والقدير وَالْمُؤمن والمهيمن وَسَائِر أَسْمَائِهِ وَقد أخبر تَعَالَى على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد قَالَ تَعَالَى {وَلَا يحيطون بِهِ علما} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام صَحِيح على ظَاهره إِذْ كل مَا أحَاط بِهِ الْعلم فَهُوَ متناه مَحْدُود وَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل وواجب فِي غَيره لوُقُوع الْعدَد المحاط بِهِ فِي إِعْرَاض كل مَا دونه تَعَالَى وَلَا يحاط بِمَا لَا حُدُود لَهُ وَلَا عدد لَهُ فصح يَقِينا أننا نعلم الله عز وَجل حَقًا وَلَا نحيط بِهِ علما كَمَا قَالَ تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد فالآنية فِي الله تَعَالَى هِيَ المائية الَّتِي أنكرها أهل الْجَهْل بحقائق الْأُمُور وَبِالْقُرْآنِ وبالسنن نحمد الله عز وَجل على مَا من بِهِ علينا من تيسير الإتباع كِتَابه وتدبره وَطلب سنَن نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْوُقُوف عِنْدهمَا ومعرفتهما بِأَن الْعقل لَا يحكم بِهِ على خالقه لَكِن يفهم بِهِ أوامره تَعَالَى ويميز بِهِ حقائق مَا خلق فَقَط وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَأما قَوْلهم لَو كَانَت لَهُ مائية لكَانَتْ لَهُ كَيْفيَّة فَكَلَام قوم جهال بالحقائق وَقد بَينا وَبَان لكل ذِي عقل أَن السُّؤَال بِمَا هُوَ الشَّيْء غير السُّؤَال يكيف هُوَ الشَّيْء وَأَن المسؤل عَنهُ بِإِحْدَى اللفظتين المذكورتين غير المسؤل عَنهُ بِالْأُخْرَى وَأَن الْجَواب عَن إِحْدَاهمَا غير الْجَواب عَن الْأُخْرَى وَبَيَان ذَلِك أَن السُّؤَال بِمَا هُوَ إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَن ذَاته واسْمه وَأَن السُّؤَال بكيف هُوَ إِنَّمَا سُؤال عَن حَاله وأعراضه وَهَذَا لَا يجوز أَن يُوصف بِهِ الْبَارِي تَعَالَى فلاح الْفرق ظَاهرا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 مسَائِل فِي السخط وَالرِّضَا وَالْعدْل والصدق وَالْملك والخلق والجود والإرادة والسخاء وَالْكَرم وَمَا يخبر عَنهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَكَيف يَصح السُّؤَال فِي ذَلِك كُله قَالَ أَبُو مُحَمَّد نقُول لم يزل الله تَعَالَى عَالما بِأَنَّهُ سيسخط على الْكفَّار وسيرضى على الْمُؤمنِينَ وسيعذب بالنَّار من عَصَاهُ وسينعم بِالْجنَّةِ من أطاعه وسيعدل إِذا حكم وسيصدق إِذا أخبر وَلم يزل عَالما بِأَنَّهُ سيخلق مَا يخلق وَأَنه رب مَا يخلق من الْعَالمين وَمَالك كل شَيْء وَيَوْم الدّين وَأَن لَهُ ملك كل مَا يخلق لِأَن كل مَا ذكرنَا يَقْتَضِي وجود كل مَا علق بِهِ وكل مَا علق بِهِ مُحدث لم يكن ثمَّ كَانَ وَلم يزل تَعَالَى عليماً بِكُل ذَلِك وَأَنه سَيكون كل مَا يكون على مَا هُوَ كَائِن عَلَيْهِ إِذا كَونه وَأما الْإِرَادَة فقد أثبتها قوم من صِفَات الذَّات وَقَالُوا لم تزل الْإِرَادَة وَلم يزل الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ لبرهانين ضرورين أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى لم ينص على أَنه مُرِيد وَلَا على أَن لَهُ إِرَادَة وَقد قدمنَا الْبُرْهَان فِيمَا سلف من كتَابنَا على أَنه لَا يجوز أَن يشتق لله أَسمَاء وَلَا صِفَات وأوردنا من ذَلِك أَنه لَا يُقَال أَنه تَعَالَى متبارك وَيُقَال تبَارك الله وَلَا يُقَال أَنه مستهزئ وَيُقَال الله يستهزئ بهم وَلَا أَنه عافل وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى بَاقٍ وَلَا دَائِم وَلَا ثَابت وَلَا سخي وَلَا جواد لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يسم بِهِ نَفسه لَكِن يُقَال المتعالي كَمَا قَالَ تَعَالَى وَيُقَال هُوَ الْكَرِيم الْغَنِيّ وَلَا يُقَال الْمُوسر وَيُقَال هُوَ الْقوي وَلَا يُقَال الْجلد وَيُقَال لم يزل وَلَا زَالَ هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَلَا يُقَال هُوَ الْخَفي وَلَا الْغَائِب وَلَا البارز وَلَا المشتهر وَيُقَال هُوَ الْغَالِب على أمره وَلَا يُقَال هُوَ الظافر والمعني فِي كل مَا ذكرنَا من اللُّغَة وَاحِد فَمن أطلق عَلَيْهِ تَعَالَى بعض هَذِه الصِّفَات والأسماء وَمنع من بَعْضهَا فقد ألحد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل وأقدم إقداماً عَظِيما نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن الْإِرَادَة من الله تَعَالَى (1) لَو كَانَت لم تزل لَكَانَ المُرَاد لم يزل بِنَصّ الْقُرْآن لأ الله عز وَجل قَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَأخْبر تَعَالَى أَنه إِذا أَرَادَ الشَّيْء كَانَ وَأجْمع الْمُسلمُونَ على تصويب قَول من قَالَ مَا شَاءَ الله كَانَ والمشيئة هِيَ الْإِرَادَة فصح بِمَا ذكرنَا صِحَة لَا شكّ فِيهَا أَن الْوَاجِب أَن يُقَال أَرَادَ الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِذا أَرَادَ شَيْئا} ونقول أَنه تَعَالَى يُرِيد مَا أَرَادَ وَلَا يُرِيد مَا لم يرد كَمَا قَالَ تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم} {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً} فَنحْن نقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى أَرَادَ وَيُرِيد وَلم يرد وَلَا يُرِيد وَلَا نقُول أَن لَهُ إِرَادَة وَلَا أَنه مُرِيد لِأَنَّهُ لم يَأْتِ نَص من الله تَعَالَى بذلك وَلَا من رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا جَاءَ قطّ من أحد من السّلف رَضِي الله عَنْهُم وَإِنَّمَا أطلق هَذَا الْإِطْلَاق الْفَاحِش قوم من الْخَوَالِف المسمين بالمتكلمين الْخَوْف عَلَيْهِم أقوى من رَجَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 السَّلامَة لَهُم لَا قدم صدق لَهُم فِي الاسلام وَلَا فِي الْوَرع وَلَا فِي الِاجْتِهَاد فِي الْخَيْر وَلَا فِي الْعلم بِالْقُرْآنِ وَلَا بسنن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِمَا أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا بِمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَلَا بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلَا بحدود الْكَلَام وحقائق مائيات الْمَخْلُوقَات وكيفياتها فهم يتبعُون مَا ترآى لَهُم ويقتحمون المهالك بِلَا هدى من الله عز وَجل نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} فنص تَعَالَى على أَن من لم يرد مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى كِتَابه وَإِلَى كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى إِجْمَاع الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أجميعن وَلَا من سلك سبيلهم بعدهمْ فَلم يعلم مَا استنبطه بظنه ورأيه وَلَيْسَ ننكر الْحَاجة على الْقَصْد إِلَى تَبْيِين الْحق وتبيينه بل هَذَا هُوَ الْعَمَل الْفضل الْحسن وَإِنَّمَا ننكر الْإِقْدَام فِي الدّين بِغَيْر برهَان من قُرْآن أَو سنة أَو إِجْمَاع بعد أَن أوجبه برهَان الْحس وَأول بديهة الْعقل والنتائج الثَّابِتَة من مقدماته الصَّحِيحَة من صِحَة التَّوْحِيد والنبوة فَإِذا ثبتا بِمَا ذكرنَا فضرورة الْعقل توجب الْوُقُوف عِنْد جَمِيع مَا قَالَه الرَّسُول الَّذِي بَعثه الله تَعَالَى إِلَيْنَا وأمرنا بِطَاعَتِهِ وَأَن لَا يعْتَرض عَلَيْهِ بالظنون الكاذبة والآراء الْفَاسِدَة والقياسات السخيفة والتقليد المهلك فَإِن قَالَ قَائِل وَمَا الَّذِي يمْنَع من أَن نقُول لم يزل الله مرِيدا لما أَرَادَ كَونه إِذا كَونه قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق يمْنَع من ذَلِك أَن الله عز وَجل أخبر نصا بِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ شَيْئا كَونه فَكَانَ فَلَو كَانَ تَعَالَى لم يزل مرِيدا لَكَانَ لم يزل مَا يُرِيد وَهَذَا إلحاد وَيُقَال لَهُم أَيْضا وَمَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من عكس قَوْلكُم فَقَالَ لم يزل الله تَعَالَى غير مُرِيد لِأَن يخلق حَتَّى خلق وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن قَائِلا يَقُول أَن الْخلق هُوَ المُرَاد كَونه من الله تَعَالَى فَهُوَ مُرَاد الله تَعَالَى وَهُوَ الْإِرَادَة نَفسهَا وَأَنه لَا إِرَادَة لَهُ إِلَّا مَا خلق لما أَنْكَرْنَا ذَلِك وَإِنَّمَا ننكر قَول من يَجْعَل الْإِرَادَة صفة ذَات لم تزل لِأَنَّهُ يصف الله تَعَالَى بِمَا لم يصف الله تَعَالَى بِهِ نَفسه وَقَول من يَجْعَلهَا صفة فعل وَأَنَّهَا غير الْخلق لِأَنَّهُ يلْزمه أَن تِلْكَ الْإِرَادَة إِمَّا مُرَادة مخلوقة وَإِمَّا غير مُرَادة وَلَا مخلوقة فَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة مخلوقة قيل لَهُ أَهِي مُرَادة بِإِرَادَة هِيَ غَيرهَا ومخلوقة بِخلق هُوَ غَيرهَا أم لَا بِإِرَادَة وَلَا بِخلق فَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة بِلَا إِرَادَة أَتَى بالمحال الَّذِي يُبطلهُ الْعقل وَلم يَأْتِ بِهِ نَص فَيلْزمهُ الْوُقُوف عِنْده وَكَذَلِكَ قَوْله مخلوقة بِغَيْر خلق وَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة بِإِرَادَة هِيَ غَيرهَا ومخلوقة بِخلق هُوَ غَيرهَا لزمَه فِي إِرَادَة الْإِرَادَة وَخلق خلقهَا مَا ألزمناه فِي الْإِرَادَة وَفِي خلقهَا وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود محدثات لَا نِهَايَة لعددها وَهَذَا هُوَ قَول الدهرية الَّذِي أبْطلهُ الله تَعَالَى بضرورة الْعقل وَالنَّص على مَا بَينا فِي صدر كتَابنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ إِن الْإِرَادَة لَيست مُرَادة وَلَا مخلوقة أَتَى بقول يُبطلهُ ضَرُورَة الْعقل لِأَن القَوْل بِإِرَادَة غير مُرَادة محَال غير مَوْجُودَة لَا بحس فِيمَا بَيْننَا وَلَا بِدَلِيل فِيمَا غَابَ عَنَّا فَهُوَ قَول بِمُجَرَّد الدَّعْوَى فَهُوَ بَاطِل ضَرُورَة وَكَذَلِكَ يلْزمه إِن قَالَ أَنَّهَا محدثة غير مخلوقة مَا يلْزم من قَالَ إِن الْعَالم مُحدث لَا مُحدث لَهُ وَقد تقدم بطلَان هَذَا القَوْل بالبراهين الضرورية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما تَسْمِيَة الله عز وَجل جواداً سخياً أَو صفته تَعَالَى بِأَن لَهُ تَعَالَى جوداً وسخاءً فَلَا يحل ذَلِك الْبَتَّةَ وَلَو أَن الْمُعْتَزلَة المقدمين على تَسْمِيَة رَبهم جواداً يكون لَهُم علم بلغَة الْعَرَب أَو يحقيقة الْأَسْمَاء ووقوعها على المسميات أَو بمعاني الْأَسْمَاء وَالصِّفَات مَا أقدموا على هَذِه الْعَظِيمَة وَلَا وَقَعُوا فِي الائتساء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 بالكفار الْقَائِلين أَن عِلّة خلق الله تَعَالَى لما خلق إِنَّمَا هِيَ جودة حَتَّى أوقعهم ذَلِك فِي القَوْل بِأَن الْعَالم لم يزل وَلَكِن الْمُعْتَزلَة معذورون بِالْجَهْلِ عزرا يبعدهم عَن الْكفْر وَلَا يخرجهم عَن الْإِيمَان لَا عرزا يسْقط عَنْهُم الْمَلَامَة لِأَن التَّعَلُّم لَهُم معروض مُمكن وَلَكِن لَا هادي لمن أضلّ الله تَعَالَى ونعوذ الله من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْمَانِع من ذَلِك وَجْهَان أَحدهمَا أَنه تَعَالَى لم يسم بذلك وَلَا رصف بِهِ نَفسه وَلَا يحل لأحد أَن يتَعَدَّى حُدُود الله لَا سِيمَا فِيمَا لَا دَلِيل فِيهِ إِلَّا النَّص فَقَط وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْجُود والسخاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَبهَا نتفاهم مرادنا إِنَّمَا هما لفظان واقعان على بذل الْفضل عَن الْحَاجة لَا يعبر بِلَفْظ الْجُود والسخاء إِلَّا عَن هَذَا الْمَعْنى وَهَذَا الْمَعْنى مبعد عَن الله عز وَجل لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء فَيكون لَهُ فضل يبذله فيسمى ببذله لَهُ سخيا وجودا ويوصف من أجل بذله بجود وسخاءٍ أَو يكون بِمَنْعه بَخِيلًا أَو شحيحاً أَو مَوْصُوفا ببخل أَو شح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يخْتَلف اثْنَان من كل من فِي الْعَالم فِي أَن أمره لَهُ مَاء عذب حَاضر لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَطَعَام عَظِيم فَاضل لَا حَاجَة بِهِ إِلَيْهِ وَرَأى رجلا من عرض النَّاس أَو عبدا من عبيده يَمُوت جوعا وعطشاً فَلم يسقه وَلَا أطْعمهُ فَإِنَّهُ فِي غَايَة الْبُخْل وَالشح وَالْقَسْوَة وَالظُّلم وَالله تَعَالَى يرى كثيرا من عباده وَأَطْفَالًا من أطفالهم لَا ذَنْب لَهُم وهم يموتون جوعا وعطشاً وَعِنْده مخادع السَّمَاوَات وخزائن الأَرْض وَلَا يرحمهم بِنُقْطَة مَاء وَلَا لقْمَة طَعَام حَتَّى يموتوا كَذَلِك وَلَا يُوصف من أجل ذَلِك بشح وَلَا بخل وَلَا ظلم وَلَا قسوة بل هُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ والرحيم الْكَرِيم وَالَّذِي لَا يظلم وَلَا يجور كَمَا سمى نَفسه فَبَطل قياسهم الْفَاسِد فِي الصِّفَات الْغَائِب عِنْدهم على الشَّاهِد وَبَطل أَن يُوصف الله عز وَجل بشيءٍ من ذَلِك وَلَيْسَ لأحد أَن يحِيل الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بإحالة شيءٍ من ذَلِك فَيُوقف عِنْده وَمن تعدى هَذَا الحكم فَإِنَّهُ مُبْطل للتفاهم كُله نعم وللحقائق بأسرها إِلَّا أَنه لَا يعجز أحد عَن أَن يُسَمِّي الْبَاطِل حَقًا وَالْحق بَاطِلا وَأَن يحِيل الْأَسْمَاء كلهَا عَن موَاضعهَا وَهَذَا خُرُوج عَن الشَّرَائِع والمعقول ولكننا نقُول أَنه كريم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا يبعد عَنَّا أَن تسمى نعم الله على عباده كرماً وَأَن الله تَعَالَى كَرِيمًا نستحسن إِطْلَاق ذَلِك ونسميها أَيْضا فضلا قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك فضل الله} وَقد ثَبت النَّص بِأَن لَهُ تَعَالَى كرماً وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن خَالِد أَنا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد أَنبأَنَا الْفربرِي أَنا البُخَارِيّ قَالَ لي خَليفَة بن خياط أَنا يزِيد بن زُرَيْع أَنا سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك وَعَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان سَمِعت أبي يحدث عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يزَال يلقى فِيهَا وَتقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين قدمه فيزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَتقول قد قد بعزتك وكرمك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد اضْطربَ النَّاس فِي السؤل عَن أَشْيَاء ذكروها وسألوا هَل يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهَا أم لَا واضطربوا أَيْضا فِي الْجَواب عَن ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن مينوم بحول الله وقوته وَجه تَحْقِيق السُّؤَال عَن ذَلِك وَتَحْقِيق الْجَواب فِيهِ دون تَخْلِيط وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن السُّؤَال إِذا حقق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 بِلَفْظ يفهم السَّائِل مِنْهُ مُرَاد نَفسه وَيفهم المسؤل مُرَاد السَّائِل عَنهُ فَهُوَ سُؤال صَحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ لَازم وَمن أجَاب عَنهُ بِأَن هَذَا سُؤال فَاسد وَأَنه محَال فَإِنَّمَا هُوَ جَاهِل بِالْجَوَابِ مُنْقَطع متسلل عَنهُ وَأما السُّؤَال الَّذِي يفْسد بعضه بَعْضًا وَينْقص آخِره أَوله فَهُوَ سُؤال فَاسد لم يُحَقّق بعد وَمَا لم يُحَقّق السُّؤَال عَنهُ فَلم يسائل عَنهُ وَمَا لم يسْأَل عَنهُ فَلَا يلْزم عَنهُ جَوَاب على مثله فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان فِي هَذَا الْمَعْنى لَا يشد عَنْهُمَا شَيْء مِنْهُ إِلَّا أَنه لَا بُد من جَوَاب بَيَان حوالته لَا على تَحْقِيقه وَلَا على تشكله وَلَا على توهمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نحد المسؤل عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب بِحَدّ جامح بحول الله تَعَالَى وقوته فيرتفع الْإِشْكَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نتأيد أَن الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب إِن كَانَ إِنَّمَا سَأَلَ السَّائِل عَن الْقُدْرَة على إِحْدَاث فعل مُبْتَدأ أَو على إعدام فعل مُبْتَدأ فالمسئول عَنهُ مَقْدُور عَلَيْهِ وَلَا تحاشى شَيْئا وَالسُّؤَال صَحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ بنعم لَازم وَإِن كَانَ المسؤل عَنهُ مَا لَا ابْتِدَاء لَهُ فالسؤال عَن تَغْيِيره أَو إحداثه أَو عدامه سُؤال متفاسد لَا يُمكن السَّائِل عَنهُ فهم معنى سُؤَاله وَلَا تَحْقِيق سُؤَاله وَمَا كَانَ هَكَذَا لَا يلْزم الْجَواب عَنهُ على تَحْقِيقه وَلَا على تشكله لِأَن الْجَواب عَن التشكل لَا يكون إِلَّا عَن سُؤال وَلَيْسَ هَا هُنَا سُؤال أصلا ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن من الْوَاجِب أَن نبين بحول الله تَعَالَى وقوته مَا الْمحَال وعَلى أَي معنى تقع هَذِه اللَّفْظَة وعماذا يعبر بهَا عَنهُ فَإِن من قَامَ بِشَيْء وَلم يعرف تَحْقِيق مَعْنَاهُ فَهُوَ فِي غَمَرَات من الْجَهْل فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن الْمحَال يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام لَا خَامِس لَهَا أَحدهَا محَال بِالْإِضَافَة وَالثَّانِي محَال فِي الْوُجُود وَالثَّالِث محَال فِيمَا بَيْننَا فِي بنية الْعقل عندنَا وَالرَّابِع محَال مُطلق فالمحال بِالْإِضَافَة مثل نَبَات اللِّحْيَة لِابْنِ ثَلَاث سِنِين وإحباله امْرَأَة وَكَلَام الأبله الغبي فِي دقائق الْمنطق وصوغه الشّعْر العجيب وَمَا أشبه هَذَا فَهَذِهِ الْمعَانِي مَوْجُودَة فِي الْعَالم مِمَّن هِيَ مُمكنَة مِنْهُ ممتنعة من غَيرهم وَأما الْمحَال فِي الْوُجُود فكا نقلاب الجماد حَيَوَانا وَالْحَيَوَان جماداً أَو حَيَوَانا آخر وكنطق الْحجر واختراع الْأَجْسَام وَمَا أشبه هَذَا فَإِن هَذَا كُله لَيْسَ مُمكنا عندنَا الْبَتَّةَ وَلَا مَوْجُودا وَلكنه متوهم فِي الْعقل متشكل فِي النَّفس كَيفَ كَانَ يكون لَو كَانَ وبهذين الْقسمَيْنِ تَأتي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي معجزاتهم الدَّالَّة على صدقهم فِي النُّبُوَّة وَأما الْمحَال فِيمَا بَيْننَا فِي بنية الْعقل فكون الْمَرْء قَائِما قَاعِدا مَعًا فِي حِين وَاحِد وكسؤال السَّائِل هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يَجْعَل الْمَرْء قَاعِدا لَا قَاعِدا مَعًا وَسَائِر مَا لَا يتشكل فِي الْعقل فِيمَا يَقع فِيهِ التَّأْثِير لَو أمكن فِيمَا دون الْبَارِي عز وَجل فَهَذِهِ الْوُجُوه الثَّلَاثَة من سَأَلَ عَنْهَا أيقدر الله تَعَالَى عَلَيْهَا فَهُوَ سُؤال صَحِيح مَفْهُوم مَعْرُوف وَجهه يلْزم الْجَواب عَنهُ بنعم إِن الله قَادر على ذَلِك كُله إِلَّا أَن الْمحَال فِي بنية الْعقل فِيمَا بَيْننَا لَا يكون الْبَتَّةَ فِي هَذَا الْعَالم لَا معْجزَة لنَبِيّ وَلَا بِغَيْر ذَلِك الْبَتَّةَ هَذَا وَاقع فِي النَّفس بِالضَّرُورَةِ وَلَا يبعد أَن يكون الله تَعَالَى يفعل هَذَا فِي عَالم لَهُ آخر وَأما الْمحَال الْمُطلق فَهُوَ كل سُؤال أوجب على ذَات الْبَارِي تغييراً فَهَذَا هُوَ الْمحَال لعَينه الَّذِي ينْقض بعضه بَعْضًا وَيفْسد آخِره أَوله وَهَذَا النَّوْع لم يزل محالاً فِي علم الله تَعَالَى وَلَا هُوَ مُمكن فهمه لَا حد وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ سؤالاً وَلَا سَأَلَ سائله عَن معنى أصلا وَإِذا لم يسْأَل فَلَا يَقْتَضِي جَوَابا على تَحْقِيقه أَو توهمه لَكِن يَقْتَضِي جَوَابا بنعم أَو لَا لِئَلَّا ينْسب بذلك إِلَى وصقه تَعَالَى بِعَدَمِ الْقُدْرَة الَّذِي هُوَ الْعَجز بِوَجْه أصلا وَإِن كُنَّا موقنين بضرورة الْعقل بِأَن الله تَعَالَى لم يَفْعَله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 قطّ وَلَا يَفْعَله أبدا وَهَذَا مثل من سَأَلَ أيقدر الله تَعَالَى على نَفسه أَو على أَن يجهل أَو على أَن يعجز أَو على أَن يحدث مثله أَو على إِحْدَاث مَالا أول لَهُ فَهَذِهِ سُؤَالَات تفْسد بَعْضهَا بَعْضًا تشبه كَلَام الممرورين والمجانين وَكَلَام من لَا يفهم وَهَذَا النَّوْع لم يزل الله تَعَالَى يُعلمهُ محالاً مُمْتَنعا بَاطِلا قبل حُدُوث الْعقل وَبعد حُدُوثه أبدا وَأما الْمحَال فِي الْعقل وَهُوَ الْقسم الثَّالِث الَّذِي ذكرنَا قبل فَإِن الْعقل مَخْلُوق مُحدث خلقه الله تَعَالَى بعد أَن لم يكن وَإِنَّمَا هُوَ قُوَّة من قوى النَّفس عرض مَحْمُول فِيهَا أحدثه الله تَعَالَى وأحدث رتبه على مَا هِيَ عَلَيْهِ مُخْتَارًا لذَلِك تَعَالَى وبضرورة الْعقل نعلم أَن من اخترع شَيْئا لم يكن قطّ لَا على مِثَال سلف وَلَا عَن ضَرُورَة أوجبت عَلَيْهِ اختراعه لَكِن اخْتَار أَن يَفْعَله فَإِنَّهُ قَادر على ترك اختراعه قَادر على اختراع غَيره مثله أَو خِلَافه وَلَا فرق بَين قدرته على بعض ذَلِك وَبَين قدرته على سائره فَكل مَا خلقه الله تَعَالَى محالاً فِي الْعقل فَقَط فَإِنَّمَا كَانَ محالاً مذ جعله الله تَعَالَى محالاً وَحين أحدث صُورَة الْعقل لَا قبل ذَلِك فَلَو شَاءَ تَعَالَى أَن لَا يَجعله محالاً لما كَانَ محالاً وَكَذَلِكَ من سَأَلَ هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يَجْعَل شَيْئا مَوْجُودا مَعْدُوما مَعًا فِي وَقت وَاحِد أَو جسماً فِي مكانين أَو جسمين فِي مَكَان وكل مَا أشبه هَذَا فَهُوَ سُؤال صَحِيح وَالله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك لَو شَاءَ أَن يكونه لكَونه وَمن الْبُرْهَان على ذَلِك مَا نرَاهُ فِي منامنا مِمَّا لَا شكّ فِيهِ أَنه محَال فِي حل الْيَقَظَة مُمْتَنع يَقِينا ونراه فِي منامنا مُمكنا محسوساً مرئياً ببصر النَّفس مسموعاً بسمعها فبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس أَن الَّذِي حعل الْمحَال مُمكنا فِي النّوم كَانَ قَادِرًا على أَن يوجده مُمكنا فِي الْيَقَظَة وَكَذَلِكَ من سَأَلَ هَل الله تَعَالَى قَادر على أَن يتَّخذ ولدا فَالْجَوَاب أَنه تَعَالَى قَادر على ذَلِك (1) وَقد نَص عز وَجل على ذَلِك فِي الْقُرْآن قَالَ الله تَعَالَى {لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء} وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن لم يُطلق أَن الله عز وَجل يقدر على ذَلِك وَحسن قَوْله بِأَن قَالَ لَا يُوصف الله بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك فقد قطع بِأَن الله عز وَجل لَا يقدر إِذْ لَا وَاسِطَة فِيمَن يُوصف بِالْقُدْرَةِ على شَيْء مَا ثمَّ وصف فِي شَيْء آخر بِأَنَّهُ لَا يقدر عَلَيْهِ فقد خرج من أَنه لَا يقدر عَلَيْهِ وَإِذا وَجب أَن لَا يقدر فقد ثَبت أَنه عَاجز ضَرُورَة عَمَّا لَا يقدر عَلَيْهِ وَلَا بُد وَمن وصف الله تَعَالَى بِالْعَجزِ فقد كفر وَأَيْضًا فَإِن من قَالَ لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال فقد جعل قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متناهية وَجعل قوته عز وَجل مُنْقَطِعَة محدودة وملزومة بذلك ضَرُورَة أَن قوته تَعَالَى متناهية عرض وَأَنه تَعَالَى فَاعل بطبيعة فِيهِ متناهية وَهَذَا تَحْدِيد للباري عز وَجل وَكفر بِهِ مُجَرّد وادخال لَهُ فِي جملَة المخلوقين وَمعنى قَوْلنَا إِن لله تَعَالَى يقدر على الْمَعْدُوم وعَلى الْمحَال إِنَّمَا هُوَ مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ أَن سُؤال السَّائِل عَن الْمحَال وَعَن الْمَعْدُوم هُوَ بِلَا شكّ سُؤال مَوْجُود مسموع ملفوظ بِهِ فجوابنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 هُوَ أَنا حققنا أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلق لذَلِك اللَّفْظ معنى يوجده وَهَذَا جَوَاب صَحِيح مَعْقُول وَهَذَا قَوْلنَا وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا القَوْل وَقَول على الأسواري الَّذِي يَقُول أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا علم أَنه يَفْعَله جمله وَأما من خَالَفنَا وَخَالف الأسواري فَلَا بُد لَهُ من الرُّجُوع إِلَى قَوْلنَا أَو الْوُقُوع فِي قَول الأسواري وَإِن زعم لِأَنَّهُ مَتى مَا وصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على شَيْء لم يَفْعَله من إِبْرَاء مَرِيض أَو خلق شَيْء أَو تَحْرِيك شَيْء سَاكن فَإِنَّهُ قدر وَصفه بِالْقُدْرَةِ على إِحَالَة علمه وَتَكْذيب حكمه وَهَذَا هُوَ الْمحَال فقد قَالَ بقولنَا وَلَا بُد أَو يَقُول الأسواري وَلَا بُد وأمل كل سُؤال أدّى إِلَى القَوْل فِي ذَاته عز وَجل فإننا نقُول ن كل مَا سَأَلَ عَنهُ سَائل لَا نحاشي شَيْئا فَإِن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ غير عَاجز عَنهُ إِلَّا أَن من السؤالات سُؤَالَات لَا يسْتَحل سماعهَا وَلَا يسْتَحل النُّطْق بهَا وَلَا يحل الْجُلُوس حَيْثُ يلفظ بهَا وَهِي كل مَا فِيهَا كفر بالباري تَعَالَى واستخفاف بِهِ أَو بِنَبِي من أنبيائه أَو بِملك من مَلَائكَته أَو بِآيَة من آيَاته عز وَجل قَالَ عز وَجل {إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} وَقَالَ عز وَجل {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن سَائِلًا سالنا هَل الله قَادر على أَن يمسخ هَذَا الْكَافِر قردا وكلبا لقلنا نعم وَلَو أَنه أَرَادَ أَن يسألنا هَذَا السُّؤَال فِيمَن يلْزمنَا تعظيه من ملك أَو نَبِي أَو صَاحب نَبِي أَو مُسلم فَاضل لم يحل لنا الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ وَلَكنَّا قد أجبناه جَوَابا كَافِيا لِأَن الله تَعَالَى قَادر على كل مَا يسْأَل عَنهُ لَا نحاشي شَيْئا فَمن تَمَادى بعد هَذَا الْجَواب الْكَافِي فَإِنَّمَا غَرَضه التشنيع فَقَط والتمويه وَهَذَانِ من دَلَائِل الْعَجز عَن المناظرة والانقطاع وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب على أَقسَام فمبدؤها قَول من قَالَ لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على غير مَا يفعل وَهُوَ قَول على الأسواري أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَاعْلَمُوا أَنه لَا بُد لكل من منع من أَن يقدر الله تَعَالَى على محَال أَو على شَيْء بِمَا يسال عَنهُ السَّائِل فَلَا بُد ضَرُورَة من الْمصير إِلَى هَذَا القَوْل أَو ظُهُور تناقضه وتفاسد قَوْله وَخُرُوجه إِلَى الْمحَال البحت الَّذِي فر عَنهُ بِزَعْمِهِ على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قَالَت طَائِفَة بِمَعْنى هَذَا القَوْل إِلَّا أَنَّهَا استشنعت عبارَة الأسواري فَقَالَت إِن الله تَعَالَى قَادر على كل شَيْء وَلَكِن إِن سَأَلنَا سَائل فَقَالَ أيقدر الله تعاى على أَمر كَذَا مَعَ تقدم علمه بِأَنَّهُ لَا يكون قَالُوا فَالْجَوَاب أَنه تَعَالَى لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لإخفاء لأَنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شَيْء وَاحِد وَهُوَ الْبَاطِل بِلَا خَفَاء وَقَالَت طَائِفَة إِن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل إِلَّا أَنه لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على أصلح مِمَّا فعل بعباده وَهُوَ قَول جُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَقَالَت طَائِفَة إِن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل إِلَّا أَنه لَا يقدر على الظُّلم وَلَا على الْجور وَلَا على اتِّخَاذ الْوَلَد وَلَا على إِظْهَار معْجزَة على يَد كَذَّاب وَلَا على شَيْء من الْمحَال وَلَا على نسخ التَّوْحِيد وَهَذَا قَول النظام وَأَصْحَابه والأشعرية وَإِن كَانُوا مُخْتَلفين فِي مائية الظُّلم وَقَالَت طَائِفَة أَن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل وعَلى الْجور وَالظُّلم وَالْكذب إِلَّا أَنه لَا يقدر على الْمحَال مثل أَن يَجْعَل الشَّيْء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 مَعْدُوما مَوْجُودا مَعًا وَقَائِمًا قَاعِدا مَعًا أَو فِي مكانين مَعًا وَهَذَا قَول الْبَلْخِي وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام كلهم وَمن سلف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ قبل أَن تحدث هَذِه الضلالات وَهَذَا الْإِقْدَام الشنيع الَّذِي لَوْلَا ضلال من ضل بِهِ مَا انْطَلَقت ألسنتنا بِهِ وَلَا سمحت أَيْدِينَا بكتابته وَلَكنَّا نحكيه حِكَايَة الله ضلال من ضل فَقَالَ الْمَسِيح ابْن الله والعزيز إِبْنِ الْوَلِيد وَيَد الله مغلولة وَالله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء وَإِذ قَالَ للْإنْسَان اكفر وكما أنذر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن النَّاس لَا يزالون يتساءلون فِيمَا بَينهم حَتَّى يَقُولُوا هَذَا الله خلق الْخلق فَمن خلق الله فَقَوْل أهل الْإِسْلَام عامتهم وخاصتهم قبل مَا ذكرنَا هُوَ أَن الله تَعَالَى فعال لما يَشَاء وعَلى كل شَيْء قدير وَبِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وكل مسئول عَنهُ وَإِن بلغ الْغَايَة من الْمحَال فهم أَو لم يفهم فَالله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ لي بَعضهم أَن الْقُرْآن نما جَاءَ بِأَن الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَنحن لَا ننكر هَذَا وَإِنَّمَا نمْنَع من أَن يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على مَا لَا يَشَاء وبالقدرة على مَا لَيْسَ بِشَيْء فَقلت لَهُ قد قَالَ الله تَعَالَى يرْزق من يَشَاء وَيقدر فَعم عز وَجل وَلم يخص فَلَا يحل لأحد تَخْصِيص قدرته تَعَالَى أصلا وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} وَقَالَ تَعَالَى {نَحن بمسبوقين على أَن نبدل أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم بلَى} وَقَالَ تَعَالَى عَن نوح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جناتٍ وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} قَالَ تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} وَقَالَ تَعَالَى {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَهَذَا نَص على أَن يفعل خلاف مَا سبق علمه من هدى من علم أَن لَا يهديه وَمن تَعْذِيب من علم أَنه لَا يعذب أبدا وتبديل أَزوَاج قد علم أَنه لَا يبدلهن أبدا وكل هَذَا نَص على قدرته على إبِْطَال علمه الَّذِي لم يزل وعَلى تَكْذِيب قَوْله الَّذِي لَا يكذب أبدا وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير فَمن أعجب قولا وَأتم ضَلَالَة مِمَّن يُوجب بقوله إِن الله تَعَالَى كذب وَأَنه تَعَالَى مَعَ ذَلِك غير قَادر على الْكَذِب مَعَ قَوْله تَعَالَى {عِنْد مليك مقتدر} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الْعَلِيم الْقَدِير} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّه كَانَ عليماً قَدِيرًا} فَأطلق تَعَالَى لنَفسِهِ الْقُدْرَة وَعم وَلم يخص فَلَا يجوز تَخْصِيص قدرته بوحه من الْوُجُوه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا يؤمنكم إِذْ هُوَ تَعَالَى قَادر على الظُّلم وَالْكذب والمحال من أَن يكون قد فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَتبْطل الْحَقَائِق كلهَا وَلَا تصح وَيكون كل مَا أخبرنَا بِهِ كذبا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجوابنا فِي هَذَا هُوَ أَن الَّذِي أمننا من ذَلِك ضَرُورَة الْمعرفَة الَّتِي قد وصفهَا الله تَعَالَى فِي نفوسنا كمعرفتنا أَن ثَلَاثَة أَكثر من اثْنَيْنِ وَأم الْمُمَيز مُمَيّز والأحمق أَحمَق وَأَن النَّحْل لَا يحمل زيتوناً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَأَن الْحمير لَا تحمل جمالاً وَأَن البغال لَا تَتَكَلَّم فِي النَّحْو وَالشعر والفلسفة وَسَائِر مَا اسْتَقر فِي النُّفُوس علمه ضَرُورَة وَإِلَّا فليخبرونا مَا الَّذِي أَمنهم مَا ذكرنَا وَلَعَلَّه قد كَانَ أَو سَيكون وَلَا فرق فَإذْ قد صَحَّ إطباق كل من يقر بِاللَّه من جَمِيع الْملَل أَن هَذَا الْعَالم لَيْسَ فِي بنيته كَون الْمحَال الْمَذْكُور فِيهِ مَعَ مُوَافَقَته أَكثر الْمُخَالفين لنا على أَن هَذَا كُله فَإِن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ وَلَكِن لَا يَفْعَله فَالَّذِي أَمنهم من أَنه تَعَالَى يَفْعَله هُوَ الَّذِي أمننا من أَن نَفْعل مَا قَالُوا لنا فِيهِ لَعَلَّه قد فعله أَو سيفعله وَلَا فرق وَإِن هَذَا الْعَالم لَيْسَ فِي بنيته كَون الْمحَال الْمَذْكُور فِيهِ وَأَنه تَعَالَى لَا يجور وَلَا يكذب وبالضرورة الْمُوجبَة علمنَا القَوْل بحدوث الْعَالم وَبِأَن لَهُ صانعاً لَا يُشبههُ لم يزل وَبَان مَا ظهر من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَمن عِنْده تَعَالَى وَأَن تِلْكَ المعجزات مُوجبَة تصديقهم وهم أخبرونا أَن الله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يظلم وَأَنه تَعَالَى قد أخبرنَا بِأَنَّهُ قد تمت كَلِمَاته صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته وَأَنه تَعَالَى قَادر وَلَيْسَ كل مَا يقدر عَلَيْهِ يَفْعَله فَإِن كَانَ السَّائِل من هَذَا متديناً بدين الْإِسْلَام أَو النَّصَارَى أَو الْيَهُود أَو الْمَجُوس أَو الصابئين أَو البراهمة أَو كل من يدين بِأَن الله حق فَإِنَّهُم مجمعون على أَنه تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يظلم وكل من نفى الْخَالِق فَلَيْسَ فيهم أحد يَقُول أَنه يظلم أَو يكذب فقد صَحَّ إطباق جَمِيع سكان الأَرْض قَدِيما وحديثاً لَا نحاشي أحدا على أَن الله تَعَالَى لَا يظلم وَلَا يكذب فَلَو لم يَكُونُوا مضطرين إِلَى القَوْل بِهَذَا لوجد فيهم وَلَو وَاحِد يَقُول بِخِلَاف ذَلِك وَمن الْمحَال أَن تَجْتَمِع طبائعهم كلهم على هَذَا إِلَّا لضَرُورَة وَضعهَا الله عز وَجل فِي نُفُوسهم كضرورتهم إِلَى معرفَة مَا أدركوه بحواسهم وبداية عُقُولهمْ وَأَيْضًا فَنَقُول لمن سَأَلَ هَذَا السُّؤَال أيمكن أَن يكون إِنْسَان فِي النَّاس قد توسوس وأوهمته ظنونه الكاذبة وتخيله الْفَاسِد وهوسه أَن الْأَشْيَاء على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِن النَّاس على خلاف مَا هم عَلَيْهِ وَيتَصَوَّر عِنْده هَذَا الظَّن الْفَاسِد أَنه حق لَا يشك فِيهِ أم لَيْسَ يُمكن أَن يكون هَذَا فِي الْعَالم فَإِن قَالُوا لَا يُمكن أَن يكون هَذَا الْعَالم أَتَوا بالمحال البحت وكابروا وَإِن قَالُوا بل هُوَ مُمكن مَوْجُود فِي النَّاس كثير من هَذِه صفته قيل لَهُم فَمَا يؤمنكم من أَن تَكُونُوا بِهَذِهِ الصّفة ونقول لمن يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم مِنْهُم أيقدر الله تَعَالَى على أَن يحِيل حواسك كَمَا فعل بِصَاحِب الصَّفْرَاء الَّذِي يجد الْعَسَل مرا كالعلقم وبصاحب ابْتِدَاء المَاء النَّازِل فِي عَيْنَيْهِ فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لما وَكَمن فِي سَمعه آفَة فَهُوَ يسمع طنيناً لَا حَقِيقَة لَهُ أم لَا يقدر فَإِن قَالُوا يقدر لَهُ فَمَا يُؤمنك من أَنَّك بِهَذِهِ الصّفة فَإِن قَالَ أَن كل من يحضرني يُخْبِرنِي بِأَن لست من أهل هَذِه الصّفة قيل لَهُ وَهَكَذَا يظنّ ذَلِك الموسوس وَلَا فرق فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَقُول إِنِّي أرى أَنِّي بِخِلَاف هَذِه الصّفة ضَرُورَة علما يَقِينا قُلْنَا لَهُ بِمثل هَذَا سَوَاء بِسَوَاء أمنا أَن يكون الله يظلم أَو يكذب أَو يحِيل طبيعة لغير نَبِي يفعل الْمحَال مَعَ قدرته على ذَلِك وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لجَمِيع هَذِه الْفرق حاشا من قَالَ بقول عَليّ الأسواري هَل شنعتم عَليّ الأسواري لِأَنَّهُ إِذا وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يقدر على غير مَا فعل فقد وَصفه تَعَالَى بِالْعَجزِ وَلَا بُد فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم فَإِن هَذَا نَفسه لَازم لكم فِي قَوْلكُم بِأَنَّهُ لَا يقدر على الظُّلم وَالْكذب وَلَا على الْمحَال وَلَا على نَفسه أَولا أصلح مِمَّا فعل بعباده ضَرُورَة لَا ينفكون من ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ إِن هَذَا لَا يلْزمنَا قيل لكم وَلَا يعجز عَليّ الأسواري عَن أَن يَقُول أَيْضا أَن هَذَا لَا يلْزَمنِي وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ وَيُقَال لَهُم إِذا أخبر الله عز وَجل أَنه سيقيم السَّاعَة وسيميت زايدا يَوْم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 كَذَا يقدر أَن لَا يميته فِي ذَلِك الْيَوْم وعَلى أَن يميته قبل ذَلِك الْيَوْم أم لَا فَإِن قَالُوا لَا لَحِقُوا بقول الأسواري وَإِن قَالُوا نعم أقرُّوا أَنه يقدر على تَكْذِيب قَوْله وَهَذَا هُوَ الْقُدْرَة على الْكَذِب الَّتِي أبطلوا وَنِسَائِهِمْ أَيْضا إِذْ أمرنَا الله تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَمِنْه مَا قد علم أَنه لَا يُجيب الدَّاعِي بِهِ هَل أمرنَا بِالدُّعَاءِ من ذَلِك فِيمَا لَا يَسْتَطِيع وَلَا يقدر عَلَيْهِ أم فِيمَا يقدر عَلَيْهِ فَإِن قَالُوا فِيمَا لَا يقدر عَلَيْهِ لَحِقُوا بالأسواري وأوجبوا على الله تَعَالَى القَوْل بالمحال إِذْ زَعَمُوا أَنه أمرنَا بِأَن نرغب إِلَيْهِ فِي أَن يفعل مَا لَا يقدر عَلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَإِن قَالُوا بل فِيمَا يقدر عَلَيْهِ أقرُّوا أَنه يقدر على إبِْطَال علمه وَالَّذِي يدْخل هَذَا الَّذِي هُوَ الْكفْر الْمُجَرّد من إبِْطَال دَلَائِل التَّوْحِيد وَإِبْطَال حُدُوثه الْعَالم وَخلاف الْإِجْمَاع غير قَلِيل فَإِن قَالَ عَليّ الأسواري لَا يلْزَمنِي إِثْبَات الْعَجز بِنَفْي الْقُدْرَة بل أنفي عَنهُ الْأَمريْنِ جَمِيعًا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُم أَن نفيكم عَنهُ تَعَالَى الْحَرَكَة لَا يلْزمه السّكُون وَنفي السّكُون لَا يلْزمه الْحَرَكَة كَمَا تنفون عَنهُ الضدين جَمِيعًا من الشجَاعَة والجبن وَسَائِر الصِّفَات الَّتِي نفيتموها وأضدادها قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذَا تمويه ضَعِيف لأننا نَحن فِي نفي هَذِه الصِّفَات عَنهُ تَعَالَى جارون على سنَن وَاحِد فِي نفي جَمِيع صِفَات المخلوقين عَنهُ كلهَا وَأَنْتُم قد أثبتم لَهُ قدرَة على أَشْيَاء ونفيتم عَنهُ قدرَة على غَيرهَا فَوَجَبَ ضَرُورَة إِثْبَات الْعَجز عَنهُ فِي الْأَشْيَاء الَّتِي وصفتموه بِعَدَمِ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَأما نَحن فَلَو وصفناه بالشجاعة فِي شَيْء أَو بالحركة فِي وَجه مَا أَو وصفناه بِالْعقلِ فِي شَيْء مَا ثمَّ نَفينَا عَنهُ الصِّفَات فِي وَجه آخر للزمنا حَيْثُ وصفناه بِشَيْء مِنْهَا نفي ضدها وللزمنا حَيْثُ نَفينَا عَنهُ ضدها أَن نثبتها لَهُ وَلَا بُد كَمَا فعلنَا فِي الرَّحْمَة والسخط فإننا إِذا وصفناه بِالرَّحْمَةِ لأبي بكر الصّديق فقد نَفينَا عَنهُ عز وَجل السخط عَلَيْهِ وَإِذا نَفينَا عَنهُ الرَّحْمَة لأبي جهل فقد أثبتنا لَهُ بذلك السخط عَلَيْهِ وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ فَإِن موه مموه فَقَالَ ألستم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى لَا يعلم الْحَيّ مَيتا فَهَل تثبتون لَهُ بِنَفْي الْعلم هَا هُنَا الْجَهْل قُلْنَا لَهُ وَهَذَا أَيْضا تمويه آخر بل أَوجَبْنَا لَهُ بذلك الْعلم حَقًا لأننا إِذا نَفينَا عَنهُ الْعلم مَا الْأَشْيَاء فقد أثبتنا لَهُ تَعَالَى الْعلم بِحَقِيقَة مَا الْأَشْيَاء وَهل هَا هُنَا شَيْء يجهل أصلا وَإِنَّمَا الْجَهْل بِشَيْء حق الْجَاهِل بِهِ فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قُلْنَا لمن ناظرنا مِنْهُم أَنكُمْ تنسبون لله تَعَالَى علما لم يزل فأخبرونا هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يُمِيت الْيَوْم من علم أَنه لَا يميته إِلَّا غَدا وَهل يقدر ربكُم على أَن يزِيل الْآن بنية عَن مَكَان قد علم أَنَّهَا لَا تَزُول عَنهُ إِلَّا غَدا وعَلى رَحْمَة من مَاتَ مُشْركًا مَعَ قَوْله تَعَالَى إِنَّه لَا يرحمه أصلا أم لَا يقدر على ذَلِك فَقَالَ لنا مِنْهُم قَائِل أَن الله تَعَالَى قَادر على ذَلِك فَقُلْنَا لَهُ قد أقررتم أَنه يقدر على إحاطة علمه الَّذِي لم يزل وعَلى تَكْذِيب كَلَامه وَهَذَا إبِْطَال قَوْلكُم صراحاً وَقَالَ مِنْهُم قَائِلُونَ أَنه تَعَالَى قَادر على ذَلِك وَلَو فعله لَكَانَ قد سبق فِي علمه أَنه سَيكون كَمَا فعل فَقُلْنَا لَهُم لم نسألكم إِلَّا هَل يقدر على ذَلِك مَعَ تقدم علمه أَنه لَا يكون فضجروا هَا هُنَا وانقطعوا ولجأ بَعضهم إِلَى الْقطع بقول على الأسواري فِي أَنه لَا يقدر على ذَلِك فَقُلْنَا لَهُم إِذا كَانَ تَعَالَى لَا يقدر على شَيْء غير مَا فعل وَلَا على نقل بنية عَن موضعهَا فَهُوَ إِذا مُضْطَر مجبر أَو ذُو طبيعة جَارِيَة على سنَن وَاحِد نعم وَيلْزم الأسواري وَمن قَالَ بقوله إِن استطاعة الله لَيست قبل فعله الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ فعله وَلَا بُد لِأَنَّهُ لَو كَانَ مستطيعاً قبل الْفِعْل لَكَانَ قَادِرًا على أَن يفعل فِي الْوَقْت الَّذِي علم أَنه لَا يفعل فِيهِ وَهَذَا خلاف قَوْله نصا وَهُوَ يَقُول إِن الْإِنْسَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 مستطيع قبل الْفِعْل فَهُوَ أتم طَاقَة وقدرة من الله تَعَالَى وَيلْزمهُ أَيْضا القَوْل بحدوث قدرَة الله تَعَالَى وَلَا بُد إِذْ لَو كَانَت قدرته لم تزل لَكَانَ قَادِرًا على الْفِعْل قبل أَن يفعل وَلَا بُد وَهَذَا خلاف قَوْله وَهَذَا كفر مُجَرّد إِذْ يَقُول إِن الْإِنْسَان قَادر على غير مَا علم الله تَعَالَى أَن يَفْعَله وَالله تَعَالَى لَا يقدر على ذَلِك فَإِن هَؤُلَاءِ جمعُوا إِلَى تعجيز رَبهم القَوْل بِأَنَّهُم أقوى مِنْهُ وَهَذَا على أَشد مَا يكون من الْكفْر والشرك والحماقة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكلهمْ يَقُول بِهَذَا الْمَعْنى لِأَن جَمِيعهم يَقُول إِن كل مَخْلُوق فَهُوَ قَادر على كل مَا يَفْعَله من اتِّخَاذ ولد وحركة وَسُكُون وَغير ذَلِك وَأَن الْبَارِي لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك وَهَذَا كفر وَحش جدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسألناهم أَيْضا فَقُلْنَا لَهُم أتقرون أَن الله تَعَالَى لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق أم تَقولُونَ أَنه لم يزل غير قَادر على أَن يخلق ثمَّ قدر فَقَوْل كل من لَقينَا مِنْهُم وَقَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام أَن الله عز وَجل لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم وَجَمِيع أهل الْإِسْلَام منكرون على من قَالَ من أهل الْإِلْحَاد أَن الله تَعَالَى لم يزل خَالِقًا قاطعون بِأَن لم يزل يخلق محَال متفاسد قَالَ أَبُو مُحَمَّد صدقُوا فِي ذَلِك إِلَّا أَنهم إِذْ أقرُّوا أَن قَول من قَالَ أَنه لم يزل يخلق محَال وأقروا أَنه لم يزل قَادِرًا على ذَلِك فقد أفروا بِصِحَّة قَوْلنَا وَأَنه تَعَالَى قَادر على الْمحَال وَلَا بُد من هَذَا وَالْكفْر وَالْقَوْل بِأَنَّهُ تَعَالَى لم يزل غير قَادر وَالْحَمْد لله على هداه لنا إِلَى الْحق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسألناهم أَيْضا فَقُلْنَا لَهُم هَل يجوز عنْدكُمْ أَن يَدعِي الله تَعَالَى فِي أَن يفعل مَا لَا يقدر على سواهُ أَو فِي أَن لَا يفعل مَا لَا يقدر على فعله فَإِن قَالُوا نعم أَتَوا بالمحال وَإِن قَالُوا لَا يجوز ذَلِك قيل لَهُم فقد أمرنَا الله تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول رب احكم بِالْحَقِّ وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وَهُوَ عنْدكُمْ لَا يقدر على الحكم بِغَيْر الْحق وَلَا أَن يحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عجائب الدُّنْيَا أَنهم يسمعُونَ الله تَعَالَى يَقُول {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} و {أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة} و {إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} و {إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} و {يَد الله مغلولة} و {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر} وَلَا يشك مُسلم فِي أَن هَذَا كُله كذب فَأَي حَمَاقَة أشنع من قَول من قَالَ إِن الله قَادر على أَن يَقُول كل ذَلِك حاكياً وَلَا يقدر أَن يَقُوله من غير أَن يَقُول مَا قيل هَذِه الْأَقْوَال من إضافتها إِلَى غَيره وَهَذَا قَول يَعْنِي ذكره وسخافته عَن تكلّف الرَّد عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ سألناهم فَقُلْنَا لَهُم من أَيْن علمْتُم أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على الْكَذِب أَو الْمحَال أَو الظُّلم أَو غير مَا فعل فَلم تكن لَهُم حجَّة أصلا إِلَى أَن قَالُوا لَو قدر على شَيْء من ذَلِك لما أمنا أَن يكون فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَقُلْنَا لَهُم وَمن أَيْن أمنتم أَن يكون قد فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَلم تكن لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا أَن قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يقدر على فعله قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَحصل من هَذَا أَن حجتهم أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الظُّلم وَالْكذب والمحال وَغير مَا فعل أَنه لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك فاستدلوا على قَوْلهم بذلك القَوْل نَفسه وَهَذِه سفسطة تَامَّة وحماقة ظَاهِرَة وَجَهل قوي لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ إِلَّا سخيف الْعقل ضَعِيف الدّين فَلَا ضَرُورَة من أَن يرجِعوا إِلَى قَوْلنَا فِي أَنه بِالضَّرُورَةِ علمنَا أَنه تَعَالَى لَا يفعل شَيْئا من ذَلِك كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 علمناأن زريعة الْعِنَب لَا يخرج مِنْهَا الْجَوْز وَأَن مَاء الْفرس لَا يتَوَلَّد مِنْهَا جمل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَإِن برهاننا على صِحَة قَوْلنَا أَن الْبُرْهَان قد قَامَ على أَنه تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه فِي شَيْء من الْأَشْيَاء والخلق عاجزون عَن شَيْء كثير من الْأُمُور وَالْعجز من صفة المخلوقين فَهُوَ منفي عَن الله عز وَجل حَملَة وَلَيْسَ فِي الْخلق قَادر بِذَاتِهِ على كل مسئول عَنهُ فَوَجَبَ أَن الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الَّذِي يقدر على كل مسئول عَنهُ وَكَذَلِكَ الْكَذِب وَالظُّلم من صِفَات المخلوقين فَوَجَبَ يَقِينا أَنَّهُمَا منفيان عَن الْبَارِي تَعَالَى فَهَذَا هُوَ الَّذِي أمننا من أَن يظلم أَو يكذب أَو يفعل غير مَا علم أَنه يَفْعَله وَإِن كَانَ تَعَالَى قَادِرًا على ذَلِك وَقُلْنَا لَهُم أَيْضا إِذا كَانَ عز وَجل لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على إبِْطَال علمه فَكَانَ لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على إماتته الْيَوْم من علم أَنه لَا يميته إِلَّا غَدا لِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَلَو كَانَ لَهُ على ذَلِك قدرَة لوصف بهَا فَإِذا جَاءَ غَد فأماته فَلهُ قدرَة على إماتته حينئذٍ فقد حدثت لَهُ قدرَة بعد إِن لم تكن وَهَذَا يُوجب أَن قدرته تَعَالَى حَادِثَة (1) وَهَذَا خلاف قَوْلهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا أَيْضا محَال آخر وَهُوَ أَنه إِذا حدثت لَهُ قدرَة بعد إِن لم تكن فَمن أحدثها لَهُ أهوَ أحدثها لنَفسِهِ أم غَيره أحدثها لَهُ أم حدثت بِلَا مُحدث فَإِن قَالُوا هوأحدثها لنَفسِهِ سئلوا بِلَا قدرَة وأحدث لنَفسِهِ الْقُدْرَة أم بقدرة أُخْرَى فَإِن قَالُوا أحدث لنَفسِهِ قدرَة بِلَا قدرَة أَتَوْ بالمحال وَإِن قَالُوا بل بقدرة اثبتوا قدرَة لم تزل بِخِلَاف قَوْلهم وَإِن قَالُوا غَيره أحدثها لَهُ أَو حدثت بِلَا مُحدث لَحِقُوا بقول الدهرية وَكَفرُوا وَفِي قَوْلهم هَذَا من خلاف الْمَعْقُول وَخلاف الْقُرْآن وَخلاف الْبُرْهَان مَا يضيق بِهِ نفوس الْمُؤمنِينَ وَالْحَمْد لله على معافاته لنا مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَقَالُوا لَو فعل تَعَالَى كل ذَلِك كَيفَ كَانَ يُسمى فَقُلْنَا هَذَا سُؤال سخيف عَمَّا لَا يكون أبدا وَهُوَ كمن سَأَلَ لَو طَار الْإِنْسَان كم ريشة كَانَت تكون لَهُ وماأشبه هَذَا من الحماقة الْمَأْمُون كَونهَا ونسمية الْبَارِي تَعَالَى إِلَيْهِ لَا إِلَيْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف إِن لما يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ كلا وآخرا كَمَا لَهُ أول فَلَو خرج آخِره إِلَى الْفِعْل وَلَا يخرج لم يكن الله تَعَالَى قَادِرًا على شَيْء أصلا وَلَا على فعل شيءٍ بِوَجْه من الْوُجُوه وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الكعبي مَا نعلم أحدا يعْتَقد هَذَا الْيَوْم إِلَّا يحي بن بشر الأرجاني وَادّعى أَن أَبَا الْهُذيْل تَابَ عَن هَذَا القَوْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ لِأَنَّهُ يجوز على ربه تَعَالَى الْكَوْن فِي صفة الجماد أَو الْمَحْذُور المفلوج مَعَ صِحَة الْإِجْمَاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 على خلاف هَذَا القَوْل الْفَاسِد مَعَ خِلَافه لِلْقُرْآنِ ولموجب الْعقل وبديهته كَذَا عِنْده وَأَظنهُ لقد شبهه تَعَالَى بالمخلوقين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الأسواري فَجعل ربه تَعَالَى مُضْطَرّا بِمَنْزِلَة الجماد وَلَا فرق لَا قدرَة لَهُ على غير مَا فعل وَهَذِه حَال دون حَال البق والبراغيث وَأما أَبُو الْهُذيْل فَجعل قدرَة ربه تَعَالَى متناهية بِمَنْزِلَة المختارين من خلقه وَهَذَا من التَّشْبِيه حَقًا وَأما النظام والأشعرية فَكَذَلِك أَيْضا وَجعلُوا قدرَة رَبهم تَعَالَى متناهية يقدر على شَيْء وَلَا يقدر على آخر وَهَذِه صفة أهل النَّقْص وَأما سَائِر الْمُعْتَزلَة فوصفوه تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لما يقدر عَلَيْهِ من الشَّرّ وَأَن قدرته على الْخَيْر متانهية وَهَذِه صفة شَرّ وطبيعة خبيثة جدا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا إِلَّا بشر بن الْمُعْتَمِر فَقَوله فِي هَذَا كَقَوْل أهل الْحق وَهُوَ أَن لَا تتناهى قدرته أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْكَلَام فِي الرُّؤْيَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الْمُعْتَزلَة وجهم بن صَفْوَان إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا يرى فِي الْآخِرَة وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن مُجَاهِد وعذره فِي ذَلِك أَن الْخَبَر لم يبلغ إِلَيْهِ وروينا هَذَا القَوْل أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة وَقد رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَالْحسن إِيجَاب الرُّؤْيَة لَهُ تَعَالَى وَذَهَبت المجسمة إِلَى أَن الله تَعَالَى يرى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَذهب جُمْهُور أهل السّنة والمرجئة وَضِرَار بن عَمْرو من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة وَلَا يرى فِي الدُّنْيَا أصلا وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد النجار هُوَ جَائِز وَلم يقطع بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَول المجسمة ففاسد بِمَا تقدم من كلامنا فِي هَذَا الْكتاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وعمدة من أنكر أَن الرُّؤْيَا الْمَعْهُودَة عندنَا لَا تقع إِلَّا على الألوان لَا على مَا عَداهَا الْبَتَّةَ وَهَذَا مبعد عَن الْبَارِي عز وَجل وَقد احْتج من أنكر الرُّؤْيَة علينا بِهَذِهِ الْحجَّة بِعَينهَا وَهَذَا سوء وضع مِنْهُم لأننا لم نقل قطّ يتجويز هَذِه الرُّؤْيَة على الْبَارِي عز وَجل وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة بِقُوَّة غير هَذِه الْقُوَّة الْمَوْضُوعَة فِي الْعين الْآن لَكِن بِقُوَّة موهوبة من الله تَعَالَى وَقد سَمَّاهَا بعض الْقَائِلين بِهَذَا القَوْل الحاسة السَّادِسَة وَبَيَان ذَلِك أننا نعلم الله عز وَجل بقلوبنا علما صَحِيحا هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فَيَضَع الله تَعَالَى فِي الْأَبْصَار قُوَّة تشاهد بهَا الله وَترى بهَا كَالَّتِي وضع فِي الدُّنْيَا فِي الْقلب وكالتي وَضعهَا الله عز وَجل فِي أذن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى شَاهد الله وسَمعه مكلماً لَهُ واحتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله عز وَجل {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا نفى الْإِدْرَاك والإدراك عندنَا فِي اللُّغَة معنى زَائِد على النّظر والرؤية وَهُوَ معنى الْإِحَاطَة وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنى فِي النّظر والرؤية فالإدراك منفي عَن الله تَعَالَى على كل حَال فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهدين} فَفرق الله عز وَجل بَين الْإِدْرَاك والرؤية فرقا جلياً لِأَنَّهُ تَعَالَى أثبت الرُّؤْيَة بقوله {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ} وَأخْبر تَعَالَى أَنه رأى بَعضهم بَعْضًا فَصحت مِنْهُم الرُّؤْيَا لبني إِسْرَائِيل وَنفى الله الْإِدْرَاك بقول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَهُم {كلا إِن معي رَبِّي سيهدين} فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه رأى أَصْحَاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 فِرْعَوْن بني إِسْرَائِيل وَلم يدركوهم وَلَا شكّ فِي أَن مَا نَفَاهُ الله تَعَالَى عز وَجل فَهُوَ غير الَّذِي أثْبته فالإدراك غير الرُّؤْيَة وَالْحجّة لقولنا هُوَ قَول الله تَعَالَى {وُجُوه يومئذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} وَاعْترض بعض الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي فَقَالَ إِن إِلَى هَا هُنَا لَيست حرف جر لَكِنَّهَا اسْم وَهِي وَاحِدَة الآلاء وَهِي النعم فَهِيَ فِي مَوضِع مفعول وَمَعْنَاهُ نعم رَبهَا منتظرة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بعيد لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى أخبر أَن تِلْكَ الْوُجُوه قد حصلت لَهَا النضرة وَهِي النِّعْمَة وَالنعْمَة نعْمَة فَإِذا حصلت لَهَا النِّعْمَة فبعيد أَن ينْتَظر مَا قد حصل لَهَا وَإِنَّمَا ينْتَظر مَا لم يَقع بعد وَالثَّانِي تَوَاتر الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَيَان أَن المُرَاد بِالنّظرِ هُوَ الرُّؤْيَة لَا مَا تَأَوَّلَه المتأولون وَقَالَ بَعضهم إِن مَعْنَاهَا إِلَى ثَوَاب رَبهَا ناظرة أَي منتظرة قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا فَاسد جدا لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي اللُّغَة نظرت إِلَى فلَان بِمَعْنى انتظرته قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحمل الْكَلَام على ظَاهره الَّذِي وضع لَهُ فِي اللُّغَة فرض لَا يجوز تعديه إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع لِأَن من فعل غير ذَلِك أفسد الْحَقَائِق كلهَا والشرائع كلهَا والمعقول كُله فَإِن قَالَ قَائِل إِن حمل اللَّفْظ على الْمَعْهُود أولى من حمله على غير الْمَعْهُود قيل لَهُ الأولى فِي ذَلِك حمل الْأُمُور على معهودها فِي اللُّغَة مَا لم يمْنَع من ذَلِك نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة لم يَأْتِ نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا ضَرُورَة تمنع مَا ذكرنَا فِي معنى النّظر وَقد وافقتنا الْمُعْتَزلَة على أَنه لَا عَالم عندنَا إِلَّا بضمير وَأَنه لَا فعال إِلَّا بمعاناة وَلَا رَحِيم إِلَّا برقة قلب ثمَّ أَجمعُوا على أَن الله تَعَالَى عَالم بِكُل مَا يكون بِلَا ضمير وَأَنه عز وَجل فعال بِلَا معاناة وَرَحِيم بِلَا رقة فَأَي فرق بَين تجويزهم مَا ذكرنَا وَبَين تجويزهم رُؤْيَة ونظراً بِقُوَّة غير الْقُوَّة الْمَعْهُودَة لَوْلَا الخذلان وَمُخَالفَة الْقُرْآن وَالسّنَن نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقد قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة أخبرونا إِذا رُؤِيَ الْبَارِي أكله يرى أم بعضه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال تعلموه من الْمُلْحِدِينَ إِذْ سألونا نَحن والمعتزلة فَقَالُوا إِذا علمْتُم الْبَارِي تَعَالَى أكله تعلمونه أم بعضه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال فَاسد مغالط بِهِ لأَنهم أثبتوا كلا وبعضاً حَيْثُ لَا كل وَلَا بعض وَالْكل وَالْبَعْض لَا يقعان إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة والباري تَعَالَى خَالق النِّهَايَة والمتناهى فَهُوَ عز وَجل لَا متناه وَلَا نِهَايَة فَلَا كل لَهُ وَلَا بعض قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْآيَة الْمَذْكُورَة وَالْأَحَادِيث الصِّحَاح مأثورة فِي رُؤْيَة الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة مُوجبَة الْقبُول لتظاهرها وتباع ديا الناقلين لَهَا ورؤية الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة كَرَامَة للْمُؤْمِنين لَا أحرمنا الله ذَلِك بفضله ومحال أَن تكون هَذِه الرُّؤْيَة رُؤْيَة الْقلب لِأَن جَمِيع العارفين بِهِ تَعَالَى يرونه فِي الدُّنْيَا بقلوبهم وَكَذَلِكَ الْكفَّار فِي الْآخِرَة بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا أخبر تَعَالَى بِالرُّؤْيَةِ عَن الْوَجْه قيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعْرُوف فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خوطبنا أَن تنْسب الرُّؤْيَة إِلَى الْوَجْه وَالْمرَاد بهَا الْعين قَالَ بعض الْأَعْرَاب ... أنافس من ناجاك مِقْدَار لَفْظَة ... وتعتاد نَفسِي أَن نأت عَنْك معينها وَإِن وُجُوهًا يصطحبن بنظرة ... إِلَيْك لمحسود عَلَيْك عيونها ... الْكَلَام فِي الْقُرْآن وَهُوَ القَوْل فِي كَلَام الله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 قَالَ أَبُو مُحَمَّد واختلفو فِي كَلَام الله عز وَجل بعد أَن أجمع أهل الْإِسْلَام كلهم أَن لله تَعَالَى كلَاما وعَلى أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ سَائِر الْكتب الْمنزلَة كالتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور والصحف فَكل هَذَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ بَين أحد من أهل الْإِسْلَام ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَلَام الله تَعَالَى صفة فعل مَخْلُوق وَقَالُوا أَن الله عز وَجل كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه فِي الشَّجَرَة وَقَالَ أهل السّنة أَن كَلَام الله عز وَجل هُوَ علمه لم يزل وَأَنه غير مَخْلُوق وَهُوَ قَول الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره رَحِمهم الله وَقَالَت الأشعرية كَلَام الله تَعَالَى صفة ذَات لم تزل غير مخلوقة وَهُوَ غير الله تَعَالَى وَخلاف الله تَعَالَى وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى وَأَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أهل السّنة بحجج مِنْهَا أَن قَالُوا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَو كَانَ غير الله لَكَانَ لَا يخلوا من أَن يكون جسماً أَو عرضا فَلَو كَانَ جسماً لَكَانَ فِي مَكَان وَاحِد وَلَو كَانَ ذَلِك لَكنا لم يبلغ إِلَيْنَا كَلَام الله عز وَجل وَلَا كَانَ يكون مجموعاً عندنَا فِي كل بلد كَذَلِك وَهَذَا كفر وَلَو كَانَ عرضا لاقتضى حَامِلا ولكان كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ عندنَا هُوَ غير كَلَامه الَّذِي عِنْد غَيرنَا وَهَذَا محَال ولكان أَيْضا يغنى بغناء حامله وَهَذَا لَا يَقُولُونَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالُوا وَلَو سمع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام الله تَعَالَى من غير الله تَعَالَى لما كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك فضل علينا لأننا نسْمع كَلَام الله عز وَجل من غَيره فصح أَن لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مزية على من سواهُ وهوأنه عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله بِخِلَاف من سواهُ وَأَيْضًا فقد قَامَت الدَّلَائِل على أَن الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء فِي خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا بِمَعْنى من الْمعَانِي فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا وَكَانَ مخلوقاً وَجب ضَرُورَة أَن يكون كَلَام الله تَعَالَى لَيْسَ مخلوقاً وَلَيْسَ غير الله تَعَالَى كَمَا قُلْنَا فِي الْعلم سَوَاء بِسَوَاء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الأشعرية فيلزمهم فِي قَوْلهم إِن كَلَام الله غير الله مَا ألزمناهم فِي الْعلم وَفِي الْقُدْرَة سواهُ سَوَاء مِمَّا قد تقصيناه قبل هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد فخلاف مُجَرّد لله تَعَالَى وَلِجَمِيعِ أهل الْإِسْلَام لِأَن الله عز وَجل يَقُول {قل لَو كَانَ الْبَحْر مداداً لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي} {وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفدت كَلِمَات الله} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا ضلال أضلّ وَلَا حَيَاء أعدم وَلَا مجاهرة أَطَم وَلَا تَكْذِيب لله أعظم مِمَّن سمع هَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا يشك مُسلم أَنه خبر الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه بِأَن لله كَلِمَات لَا تنفد ثمَّ يَقُول هُوَ من رَأْيه الخسيس أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد (1) فَإِن ادعوا أَنهم فروا من أَن يكثروا مَعَ الله أكذبهم قَوْلهم إِن هَا هُنَا خَمْسَة عشر شَيْئا كلهَا مُتَغَايِرَة وَكلهَا غير الله وَخلاف الله وَكلهَا لم تزل مَعَ الله تَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علو كَبِيرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَت أَيْضا هَذِه الطَّائِفَة المنتمية إِلَى الأشعرية أَن كَلَام الله تَعَالَى عز وَجل لم ينزل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نزل عَلَيْهِ بِشَيْء آخر هُوَ عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى وَأَن الَّذِي نَقْرَأ فِي الْمَصَاحِف وَيكْتب فِيهَا لَيْسَ شَيْء مِنْهَا كَلَام الله وَأَن كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى لَا يزايل الْبَارِي وَلَا يقوم بِغَيْرِهِ وَلَا يحل فِي الْأَمَاكِن وَلَا ينْتَقل وَلَا هُوَ حُرُوف موصلة وَلَا بعضه خير من بعض وَلَا أفضل وَلَا أعظم من بعض وَقَالُوا لم يزل الله تَعَالَى قَائِلا لِجَهَنَّم {هَل امْتَلَأت} وقائلاً للْكفَّار {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَلم يزل تَعَالَى قَائِلا لكل مَا أَرَادَ تكوينه كن قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر مُجَرّد بِلَا تَأْوِيل وَذَلِكَ أننا نسألهم عَن الْقُرْآن أهوَ كَلَام الله أم لَا فَإِن قَالَ لَيْسَ هُوَ كَلَام الله كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا بل هُوَ كَلَام الله سألناهم عَن الْقُرْآن أهوَ الَّذِي يُتْلَى فِي الْمَسَاجِد وَيكْتب فِي الْمَصَاحِف ويحفظ فِي الصُّدُور أم لَا فَإِن قَالُوا لَا كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا نعم تركُوا قَوْلهم الْفَاسِد وقروا أَن كَلَام الله تَعَالَى فِي الْمَصَاحِف ومسموع من الْقُرَّاء ومحفوظ فِي الصُّدُور كَمَا يَقُول جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ قوم فِي اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ ونسبوا إِلَى أهل السّنة أَنهم يَقُولُونَ أَن الصَّوْت غير مَخْلُوق والخط غير مَخْلُوق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل وَمَا قَالَ قطّ مُسلم أَن الصَّوْت الَّذِي هُوَ الْهَوَاء غير مَخْلُوق وَأَن الْخط غير مَخْلُوق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هُوَ مَا قَالَه الله عز وَجل وَنَبِينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نزيد على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أَن قَول الْقَائِل الْقُرْآن وَقَوله كَلَام الله كِلَاهُمَا معنى وَاحِد واللفظان مُخْتَلِفَانِ وَالْقُرْآن هُوَ كَلَام الله عز وَجل على الْحَقِيقَة بِلَا مجَاز ونكفر من لم يقل ذَلِك ونقول أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزل بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَام الله تَعَالَى على الْحَقِيقَة على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين} ثمَّ نقُول أَن قَوْلنَا الْقُرْآن وَقَوْلنَا كَلَام الله لفظ مُشْتَرك يعبر بِهِ عَن خَمْسَة أَشْيَاء فنسمي الصَّوْت المسموع الملفوظ بِهِ قُرْآنًا ونقول أَنه كَلَام الله تَعَالَى على الْحَقِيقَة وبرهان ذَلِك هُوَ قَول الله عز وَجل {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَقَوله تَعَالَى {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه} وَقَوله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} وَأنكر على الْكفَّار وَصدق مؤمني الْجِنّ فِي قَوْلهم {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد} فصح أَن المسموع وَهُوَ الصَّوْت الملفوظ بِهِ هُوَ الْقُرْآن حَقِيقَة وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة من خَالف هَذَا فقد عاند الْقُرْآن وَيُسمى الْمَفْهُوم من ذَلِك الصَّوْت قُرْآنًا وَكَلَام الله على الْحَقِيقَة فَإِذا فسرنا الزَّكَاة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن وَالصَّلَاة وَالْحج وَغير ذَلِك قُلْنَا فِي كل هَذَا كَلَام الله هُوَ الْقُرْآن ونسمي الْمُصحف كُله قُرْآنًا وَكَلَام الله وبرهاننا على ذَلِك قَول الله عز وَجل {إِنَّه لقرآن كريم فِي كتابٍ مَكْنُون} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْحَرْب لِئَلَّا يَنَالهُ الْعَدو وَقَوله تَعَالَى {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة رَسُول من الله يَتْلُو صحفاً مطهرة فِيهَا كتب قيمَة} وَكتاب الله تَعَالَى هُوَ الْقُرْآن بِإِجْمَاع الْأمة فقد سمى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصحف قُرْآنًا وَالْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى بِإِجْمَاع الْأمة فالمصحف كَلَام الله تَعَالَى برهاننا على ذَلِك قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمر بتعاهد الْقُرْآن وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّه أَشد تفصياً من صُدُور الرِّجَال من النعم من عقلهَا وَقَالَ الله تَعَالَى {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} فَالَّذِي فِي الصُّدُور هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ كَلَام الله على الْحَقِيقَة لَا مجَازًا ونقول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن آيَة الْكُرْسِيّ أعظم آيَة فِي الْقُرْآن وَأَن أم الْقُرْآن فَاتِحَة الْكتاب لم ينزل فِي الْقُرْآن وَلَا فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل مثلهَا وَأَن {قل هُوَ الله أحد} تعدل ثلث الْقُرْآن وَقَالَ الله عز وَجل {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَإِن قَالُوا إِنَّمَا يتفاضل الْأجر على قِرَاءَة ذَلِك قُلْنَا لَهُم نعم وَلَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا يكون التَّفَاضُل فِي شَيْء مِمَّا يكون فِيهِ التَّفَاضُل إِلَّا فِي الصِّفَات الَّتِي هِيَ أَعْرَاض فِي الْمَوْصُوف بهَا وَأما فِي الذوات فَلَا ونقول أَيْضا أَن الْقُرْآن هُوَ كَلَام الله تَعَالَى وَهُوَ علمه وَلَيْسَ شَيْئا غير الْبَارِي تَعَالَى برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضي بَينهم} وَقَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} وباليقين يدْرِي كل ذِي فهم أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عني سَابق علمه الَّذِي سلف بِمَا ينفذهُ ويقضيه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ خَمْسَة معَان يعبر عَن كل معنى مِنْهَا بِأَنَّهُ قُرْآن وَأَنه كَلَام الله ويخبر عَن كل وَاحِد مِنْهَا إِخْبَارًا صَحِيحا بِأَنَّهُ الْقُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة للَّذين أجمع عَلَيْهِمَا جَمِيع الْأمة وَأما الصَّوْت فَهُوَ هَوَاء مندفع من الْحلق والصدر والحك وَاللِّسَان والأسنان والشفتين إِلَى آذان السامعين وَهُوَ حُرُوف الهجاء والهواء وحروف الهجاء والهواء كل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا خلاف قَالَ الله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَاللِّسَان الْعَرَبِيّ ولسان كل قوم هِيَ لغتهم وَاللِّسَان واللغات كل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ والمعاني الْمعبر عَنْهَا بالْكلَام الْمُؤلف من الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة إِنَّمَا هِيَ الله تَعَالَى وَالْمَلَائِكَة والنبيون وسموات وأرضون وَمَا فيهمَا من الْأَشْيَاء وَصَلَاة وَزَكَاة وَذكر أُمَم خَالِيَة وَالْجنَّة وَالنَّار وَسَائِر الطَّاعَات وَسَائِر أَعمال الدّين وكل ذَلِك مَخْلُوق حاشا لله وَحده لَا شريك لَهُ خَالق كل مَا دونه وَأما الْمُصحف فَإِنَّمَا هُوَ ورق من جُلُود الْحَيَوَان ومركب مِنْهَا من مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وَمَاء وكل ذَلِك مَخْلُوق وَكَذَلِكَ حَرَكَة الْيَد فِي حطه وحركة اللِّسَان فِي قِرَاءَته واستقرار كل ذَلِك فِي النُّفُوس هَذِه كلهَا أَعْرَاض مخلوقة وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ كلمة لله وَهُوَ مَخْلُوق بِلَا شكّ قَالَ الله تَعَالَى {بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمه الْمَسِيح} وَأما علم الله تَعَالَى فَلم يزل وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآن وَهُوَ غير مَخْلُوق لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى أصلا وَمن قَالَ أَن شَيْئا غير الله تَعَالَى لم يزل مَعَ الله عز وَجل فقد جعل لله عز وَجل شَرِيكا ونقول أَن لله عز وَجل كلَاما حَقِيقَة وَأَنه تَعَالَى كلم مُوسَى وَمن كلم من الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا يجوز أَن يُقَال الْبَتَّةَ أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم لِأَنَّهُ لم يسم بذلك نَفسه وَمن قَالَ أَن الله تَعَالَى مُكَلم مُوسَى لم يُنكره لِأَنَّهُ يخبر عَن فعله تَعَالَى الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا قُلْنَا إِن لله تَعَالَى كلَاما لنفي الخرس عَنهُ لما ذكرنَا قبل من أَنه إِن كَانَ يَعْنِي الخرس الْمَعْهُود فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالْكلَام الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ حَرَكَة اللِّسَان والشفتين وَإِن كَانَ إِنَّمَا يَنْفِي خرساً غير مَعْهُود فَهَذَا لَا يعقل أصلا وَلَا يفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وَأَيْضًا فَيلْزمهُ أَن يُسَمِّيه تَعَالَى شماماً لنفي الخشم عَنهُ ومتحركاً لنفي الخدر وَهَذَا كُله إلحاد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل لَكِن لما قَالَ الله تَعَالَى أَن لَهُ كلا مَا قُلْنَاهُ وأقررنا بِهِ وَلَو لم يقلهُ عز وَجل لم يحل لأحد أَن بقوله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلما كَانَ اسْم الْقُرْآن يَقع على خَمْسَة أَشْيَاء وقوعاً مستوياً صَحِيحا مِنْهَا أَرْبَعَة مخلوقة وَوَاحِد غير مَخْلُوق لم يجز الْبَتَّةَ لأحد أَن يَقُول إِن الْقُرْآن مَخْلُوق وَلَا أَن يُقَال إِن كَلَام الله مَخْلُوق لِأَن قَائِل هَذَا كَاذِب إِذْ أوقع صفة الْخلق على مَا لَا يَقع عَلَيْهِ مِمَّا يَقع عَلَيْهِ اسْم قُرْآن وَاسم كَلَام الله عز وَجل وَوَجَب ضَرُورَة أَن يُقَال أَن الْقُرْآن لَا خَالق لَهُ وَلَا مَخْلُوق وَأَن كَلَام الله تَعَالَى لَا خَالق وَلَا مَخْلُوق لِأَن الْأَرْبَعَة المسميات مِنْهُ لَيست خالقة وَلَا يجوز أَن نطلق على الْقُرْآن وَلَا على كَلَام الله تَعَالَى اسْم خَالق وَلِأَن الْمَعْنى الْخَامِس غير مَخْلُوق وَلَا يجوز أَن تُوضَع صفة الْبَعْض على الْكل الَّذِي لَا تعمه تِلْكَ الصّفة بل وَاجِب أَن يُطلق نفي تِلْكَ الصّفة الَّتِي للْبَعْض على الْكل وكذاك لَو قَالَ قَائِل أَن الْأَشْيَاء كلهَا مخلوقة أَو قَالَ للحق مَخْلُوق أَو قَالَ كل مَوْجُود مَخْلُوق لقَالَ الْبَاطِل لِأَن الله تَعَالَى شَيْء مَوْجُود حق لَيْسَ مخلوقاً لَكِن إِذا قَالَ الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء جَازَ ذَلِك لِأَنَّهُ قد أخرج بِذكر الله تَعَالَى أَن الْمَخْلُوق فِي كَلَامه الأشكال وَمِثَال ذَلِك فِيمَا بَيْننَا أَن ثيابًا خَمْسَة الْأَرْبَعَة مِنْهَا حمر وَالْخَامِس غير أَحْمَر لَكَانَ من قَالَ هَذِه الثِّيَاب حمر كَاذِبًا ولكان من قَالَ هَذِه الثِّيَاب لَيست حمراً صَادِقا وَكَذَلِكَ من قَالَ الْإِنْسَان طَبِيب يَعْنِي كل إِنْسَان لَكَانَ كَاذِبًا وَلَو قَالَ لَيْسَ الْإِنْسَان طَبِيبا يَعْنِي كل إِنْسَان لَكَانَ صَادِقا وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُطلق أَن الْحق مَخْلُوق وَلَا أَن الْعلم مَخْلُوق لِأَن اسْم الْحق يَقع على الله تَعَالَى وعَلى كل مَوْجُود وَاسم الْعلم يَقع على كل علم وعَلى علم الله عز وَجل وَهُوَ غير مَخْلُوق لَكِن يُقَال الْحق غير مَخْلُوق وَالْعلم غير مَخْلُوق هَكَذَا جملَة وَإِذا بَين فَقيل كل حق دون الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق وكل علم دون الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق فَهُوَ كَلَام صَحِيح وَهَكَذَا أَلا يجوز أَن يُقَال أَن كَلَام الله مَخْلُوق وَلَا أَن الْقُرْآن مَخْلُوق وَلَكِن يُقَال علم الله غير مَخْلُوق وَكَلَام الله غير مَخْلُوق وَالْقُرْآن غير مَخْلُوق وَلَو أَن قَائِلا قَالَ إِن الله مَخْلُوق وَهُوَ يَعْنِي صَوته المسموع أَو الْألف وَاللَّام وَالْهَاء أَو الحبر الَّذِي كتبت هَذِه الْكَلِمَة بِهِ لَكَانَ فِي ظَاهر قَوْله عِنْد جَمِيع الْأمة كَافِرًا مَا لم يبين فَيَقُول صوتي أَو هَذَا الْخط مَخْلُوق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ حَقِيقَة الْبَيَان فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّذِي لم نتعهد فِيهِ مَا قَالَه الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأجمعت الْأمة كلهَا على جملَته وأوجبته الضَّرُورَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن سَأَلَ سَائل عَن اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ قُلْنَا لَهُ سؤالك هَذَا يَقْتَضِي أَن اللَّفْظ المسموع هُوَ غير الْقُرْآن وَهَذَا بَاطِل بل اللَّفْظ المسموع هُوَ الْقُرْآن نَفسه وَهُوَ كَلَام الله عز وَجل نَفسه كَمَا قَالَ تَعَالَى {حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَكَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق لما ذكرنَا وَأما من أفرد السُّؤَال عَن الصَّوْت وحروف الهجا والحبر فَكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول أَن الله تَعَالَى قد قَالَ مَا أخبرنَا أَنه قَالَه وَأَنه تَعَالَى لم يقل بعد مَا أخبرنَا أَنه سَيَقُولُ فِي المستأنف وَلَكِن سيقوله وَمن تعدى هَذَا فقد كذب الله جهلا وَأما من قَالَ أَن الله تَعَالَى لم يزل قَائِلا كن لكل مَا كَونه أَو يُرِيد تكوينه فَإِن هَذَا قَول فَاحش مُوجب أَن الْعَالم لم يزل لِأَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه تَعَالَى {إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فصح أَن كل مكون فَهُوَ كَائِن إِثْر قَول الله تَعَالَى لَهُ كن بِلَا مهلة فَلَو كَانَ الله تَعَالَى لم يزل قَائِلا كن لَكَانَ كل مكون لم يزل وَهَذَا قَول من قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَله مُدبر خَالق لم يزل وَهَكَذَا كفر مُجَرّد نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَقَول الله تَعَالَى هُوَ غير تكليمه لِأَن تكليم الله تَعَالَى من كلم فَضِيلَة عَظِيمَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله تَعَالَى {مِنْهُم من كلم الله} وَأما قَوْله فقد يكون سخطاً قَالَ تَعَالَى أَنه قَالَ لأهل النَّار {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَقَالَ لإبليس {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} قَالَ اخْرُج مِنْهَا وَلَا يجوز أَن يُقَال إِبْلِيس كليم الله وَلَا أَن أهل النَّار كلماء الله فَقَوْل الله عز وَجل مُحدث بِالنَّصِّ وبرهان ذَلِك أَيْضا قَول الله تَعَالَى {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَإِيمَانهمْ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} ثمَّ قَالَ تَعَالَى أَنه قَالَ لَهُم {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَقَالَ تَعَالَى أَنهم قَالُوا {رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا فآتهم عذَابا ضعفا من النَّار قَالَ لكل ضعف وَلَكِن لَا تعلمُونَ} فنص تَعَالَى على أَنه لَا يكلمهم وَأَنه يَقُول لَهُم فَثَبت يَقِينا أَن قَول الله تَعَالَى هُوَ غير كَلَامه وَغير تكليمه لَكِن يَقُول كل كَلَام وتكليم فهما قَول وَلَيْسَ كل قَول مِنْهُ تَعَالَى كلَاما وَلَا تكليماً بِنَصّ الْقُرْآن ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه كلم مُوسَى وكلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَثَبت يَقِينا أَنه كلم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْإِسْرَاء وَقَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله} فَخص تَعَالَى بتكليمه بَعضهم دون بعض كَمَا ترى وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا فيوحى بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} فَفِي هَذِه الْآيَات وَالْحَمْد لله أكبر نَص على تَصْحِيح كل مَا قُلْنَاهُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَأخْبرنَا تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَنه لَا يتَكَلَّم بشر إِلَّا بِأحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة فَقَط فَنَظَرْنَا فِيهَا فوجدناه تَعَالَى قد سمى مَا تَأْتِينَا بِهِ الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً انْتقل مِنْهُ للبشر فصح بذلك أَن الَّذِي أتتنا بِهِ رسله عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ كَلَام الله وَأَنه تَعَالَى قد كلمنا بوحيه الَّذِي أتتنا بِهِ رسله عَلَيْهِم السَّلَام وأننا قد سمعنَا كَلَام الله عز وَجل الَّذِي هُوَ الْقُرْآن الموحى إِلَى النَّبِي بِلَا شكّ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ووجدناه تَعَالَى قد سمى وحيه إِلَى أنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً لَهُم ووجدناه عز وَجل قد ذكر وَجها ثَالِثا وَهُوَ التكليم الَّذِي يكون من وَرَاء حجاب وَهُوَ الَّذِي فضل بِهِ بعض النَّبِيين على بعض وَهُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ تكليم الله عز وَجل دون صلَة كَمَا كلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة} وَأما القسمان الْأَوَّلَانِ فَإِنَّمَا يُطلق عَلَيْهِمَا تكليم الله عز وَجل بصلَة لَا مُجَردا فَنَقُول كلم الله جَمِيع الْأَنْبِيَاء بِالْوَحْي إِلَيْهِم ونقول فِي الْقسم الثَّانِي كلمنا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على لِسَان نبيه عَلَيْهِ السَّلَام بوحيه إِلَيْهِ ونقول قَالَ لنا الله عز وَجل {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ونقول أخبرنَا الله تَعَالَى عَن مُوسَى وَعَن الْجنَّة وَالنَّار فِي الْقُرْآن وَفِيمَا أوحى الله إِلَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ قَائِل حَدثنَا الله تَعَالَى عَن الْأُمَم السالفة وَعَن الْجنَّة وَالنَّار فِي الْقُرْآن على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ قولا صَحِيحا لَا مدفع لَهُ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَمن أصدق من الله حَدِيثا} وَكَذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 يَقُول قصّ الله علينا أَخْبَار الْأُمَم فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} ونقول سمعنَا كَلَام الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على التَّحْقِيق لَا مجَازًا وَفضل علينا الْمَلَائِكَة والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فِي هَذَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ تكليمهم بِالْوَحْي إِلَيْهِم فِي النّوم واليقظة دون وسيطة وبتوسط الْملك أَيْضا وَفضل جَمِيع الْمَلَائِكَة وَبَعض الرُّسُل على جَمِيعهم عَلَيْهِم السَّلَام بِالْوَجْهِ الثَّالِث الَّذِي هُوَ تكليم فِي الْيَقَظَة من وَرَاء حجاب دون وسيطة ملك لَكِن بِكَلَام مسموع بالآذان مَعْلُوم بِالْقَلْبِ زَائِد على الْوَحْي الَّذِي هُوَ مَعْلُوم بِالْقَلْبِ فَقَط أَو مسموع من الْملك عَن الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي خص بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّجَرَة وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْإِسْرَاء من المستوى الَّذِي سمع فِيهِ صريف الإفلام وَسَائِر من كلم الله تَعَالَى كَذَلِك من النَّبِيين وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل} وَلَا يجوز أَن يكون شَيْء من هَذَا بِصَوْت أصلا لِأَنَّهُ كَانَ يكون حِينَئِذٍ يُفِيد بوسيطة مُكَلم غير الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك الصَّوْت بِمَنْزِلَة الرَّعْد الْحَادِث فِي الجو والقرع الْحَادِث فِي الْأَجْسَام وَالْوَحي أَعلَى من هَذِه منزلَة والتكليم من وَرَاء حجاب أَعلَى من سَائِر الْوَحْي بِنَصّ الْقُرْآن لِأَن الله تَعَالَى سمى ذَلِك تَفْضِيلًا كَمَا تلونا وكل مَا ذكرنَا وَأَن كَانَ يُسمى تكليماً فالتكليم الْمُطلق أَعلَى فِي الْفَضِيلَة من التكليم الْموصل كَمَا أَن كل روح فَهُوَ روح الله تَعَالَى على الْملك لَكِن إِذا قُلْنَا روح الله على الْإِطْلَاق يَعْنِي بذلك جِبْرِيل أَو عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام كَانَ ذَلِك فَضِيلَة عَظِيمَة لَهما قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا قَرَأنَا الْقُرْآن قُلْنَا كلامنا هَذَا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا يحل حِينَئِذٍ لأحد أَن يَقُول لَيْسَ كَلَامي هَذَا كَلَام الله تَعَالَى وَقد أنكر الله عز وَجل هَذَا على من قَالَه إِذْ يَقُول تَعَالَى {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا أَنه فكر وَقدر فَقتل كَيفَ قدر} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر أَن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر سأصليه سقر} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ يَقُول أَحَدنَا ديني دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا عمل عملا أوجبته سنة قَالَ عَمَلي هَذَا عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يحل لأحد من الْمُسلمين أَن يَقُول ديني غير دين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ ذَلِك لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَن يَقُول إِذا عمل عملا جَاءَت بِهِ السّنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا غير عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَه لأدب ولكان كَاذِبًا وَكَذَلِكَ يَقُول أَحَدنَا ديني هُوَ دين الله عز وَجل يُرِيد الَّذِي أَمر بِهِ عز وَجل وَلَو قَالَ ديني غير دين الله عز وَجل لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ وَكَذَلِكَ يَقُول إِذا حدث أَحَدنَا حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحِيحا كَلَام هَذَا هُوَ نفس كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ إِن كَلَامي هَذَا هُوَ غير كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ كَاذِبًا وَهَذِه أَسمَاء وأوجبتها مِلَّة الله عز وَجل وَأجْمع عَلَيْهَا أهل الْإِسْلَام وَلم يخف علينا وَلَا على من سلف من الْمُسلمين أَن حَرَكَة لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير حَرَكَة ألسنتنا وَكَذَلِكَ حَرَكَة أجسامنا فِي الْعَمَل وَكَذَلِكَ مَا تُوصَف بِهِ النُّفُوس من الْعلم وَلَكِن التَّسْمِيَة فِي الشَّرِيعَة لَيست إِلَيْنَا إِنَّمَا هِيَ لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَالف هَذَا كَانَ كمن قَالَ فِرْعَوْن وَأَبُو جهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 مُؤْمِنَانِ ومُوسَى وَمُحَمّد كَافِرَانِ فَإِذا قيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ أَو لَيْسَ أَبُو جهل وَفرْعَوْن مُؤمنين بالْكفْر وَمُحَمّد ومُوسَى كَافِرَانِ بالطاغوت فَهَذَا وَإِن كَانَ لكَلَامه مخرج فَهُوَ عِنْد أهل الْإِسْلَام كَافِر لتعديه مَا أوجبته الشَّرِيعَة من التَّسْمِيَة وَقد شهِدت الْعُقُول بِوُجُوب الْوُقُوف عِنْد مَا أوجبه الله تَعَالَى فِي دينه فَمن عد عَن ذَلِك وَزعم أَنه اتبع دَلِيل عقله فِي خلاف ذَلِك فَليعلم أَنه فَارق قَضِيَّة الْعقل الصادقة الْمُوجبَة للوقوف عِنْد حكم الشَّرِيعَة وَخَالف الْمُؤمنِينَ وَاتبع غير سبيلهم قَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ بَعضهم فَإِذا سمعنَا نَحن كَلَام الله تَعَالَى وسَمعه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأَي فرق بَينه وبيننا قُلْنَا أعظم الْفرق وَهُوَ أَن مُوسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام سمعُوا الله تَعَالَى يكلمهم وَنحن سمعنَا كَلَام الله تَعَالَى من غَيره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإبن مَسْعُود إِذْ أمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَقَالَ لَهُ ابْن مَسْعُود يَا رَسُول الله اقْرَأ عَلَيْك وَعَلَيْك أنزل قَالَ إِنِّي أحب أَن أسمعهُ من غَيْرِي فصح يَقِينا أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى نَفسه فَسَمعهُ من غَيره وَقَالُوا فَكَلَام الله تَعَالَى إِذا يحل فِينَا قُلْنَا هَذَا تهويل بَارِد وَنعم إِذا سمى الله تَعَالَى كلامنا إِذا قَرَأنَا كلَاما لَهُ تَعَالَى فَنحْن نقُول بذلك ونقول أَن كَلَام الله فِي صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر فِي مَصَاحِفنَا ونبرأ مِمَّن أنكر ذَلِك بقوله الْفَاسِد الْمخْرج لَهُ عَن الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان الْكَلَام فِي إعجاز الْقُرْآن قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد ذكرنَا قيام الْبُرْهَان عَن أَن الْقُرْآن معجز قد أعجز الله عَن مثله نظمه جَمِيع الْعَرَب وَغَيرهم من الْإِنْس وَالْجِنّ بتعجيز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل من ذكرنَا عَن أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وتبكيتهم بذلك فِي محافلهم وَهَذَا أَمر لَا يُنكره أحد مُؤمن وَلَا كَافِر وَأجْمع الْمُسلمُونَ على ذَلِك ثمَّ اخْتلف أهل الْكَلَام فِي خَمْسَة أنحاء من هَذِه المسالة فالنحو الأول قَول رُوِيَ عَن الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ أَن المعجز الَّذِي تحدى النَّاس بالمجيء بِمثلِهِ هُوَ الَّذِي لم يزل مَعَ الله تَعَالَى وَلم يُفَارِقهُ قطّ وَلَا نزل إِلَيْنَا وَلَا سمعناه وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة النُّقْصَان والبطلان إِذا من الْمحَال أَن يُكَلف أحد أَن يَجِيء بِمثل لما لم يعرفهُ قطّ وَلَا سَمعه وَأَيْضًا فَيلْزمهُ وَلَا بديل هُوَ نفس قَوْله أَنه إِذا لم يكن المعجز إِلَّا ذَلِك فَإِن المسموع المتلو عندنَا لَيْسَ معجزاً بل مَقْدُورًا على مثله وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خلاف فِيهِ لأحد فَإِنَّهُ خلاف لِلْقُرْآنِ لِأَن الله تَعَالَى ألزمهم بِسُورَة أَو عشر سور مِنْهُ وَذَلِكَ الْكَلَام الَّذِي هُوَ عِنْد الْأَشْعَرِيّ هُوَ المعجز لَيْسَ لَهُ سوراً وَلَا كثيرا بل هُوَ وَاحِد فَسقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَله قَول كَقَوْل جَمِيع الْمُسلمين إِن هَذَا المتلو هُوَ المعجز والنحو الثَّانِي هَل الإعجاز متماد أم قد ارْتَفع بِتمَام قيام الْحجَّة بِهِ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بعض أهل الْكَلَام أَن الْحجَّة قد قَامَت بعجز جَمِيع الْعَرَب عَن معارضته وَلَو عورض الْآن لم تبطل بذلك الْحجَّة الَّتِي قد صحت كَمَا أَن عصى مُوسَى إِذْ قَامَت حجَّته بانقلابها حَيَّة لم يضرّهُ وَلَا أسقط حجَّته عودهَا عَصا كَمَا كَانَت وَكَذَلِكَ خُرُوج يَده بَيْضَاء من جيبه ثمَّ عودهَا كَمَا كَانَت وَكَذَلِكَ سَائِر الْآيَات وَقَالَ جُمْهُور أهل الْإِسْلَام أَن الإعجاز بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْآيَة بذلك بَاقِيَة أبدا كَمَا كَانَت قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل القَوْل بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَص قَول الله تَعَالَى إِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 يَقُول {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيراً} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا نَص جرى على أَنه لَا يأْتونَ بِمثلِهِ بِلَفْظ الِاسْتِقْبَال فصح يَقِينا أَن ذَلِك على التأييد وَفِي المستأنف أبدا وَمن ادّعى أَن المُرَاد بذلك الْمَاضِي فقد كذب لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تحال اللُّغَة فينقل لفظ الْمُسْتَقْبل إِلَى معنى الْمَاضِي إِلَّا بِنَصّ أخر جلي وَارِد بذلك أَو بِإِجْمَاع مُتَيَقن أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره أَو ضَرُورَة وَلَا سَبِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى شَيْء من هَذِه الْوُجُوه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا} عُمُوم لكل إنس وجن أبدا لَا يجوز تَخْصِيص شَيْء من ذَلِك أصلا بِغَيْر ضَرُورَة وَلَا إِجْمَاع قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن قَالَ بِالْوَقْفِ وَأَنه لَيْسَ للْعُمُوم صِيغَة وَلَا للظَّاهِر فَلَا حجَّة هَا هُنَا تقوم لَهُ على الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة فصح أَن إعجاز الْقُرْآن بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين والنحو الثَّالِث مَا المعجز مِنْهُ أنظمه أم مَا فِي نَصه من الْإِنْذَار بالغيوب فَقَالَ بعض أهل الْكَلَام أَن نظمه لَيْسَ معجزاً وَإِنَّمَا إعجازه مَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام بل كلا الْأَمريْنِ معجزاً وَإِنَّمَا إعجازه مَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام بل كلا الْأَمريْنِ معجز نظمه وَمَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي مَا خَالفه فَهُوَ ضلال وبرهان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} فنص تَعَالَى على أَنهم لَا يأْتونَ بِمثل سُورَة من سوره واكثر سوره لَيْسَ فِيهَا أَخْبَار بِغَيْب فَكَأَن من جعل المعجز الْأَخْبَار الَّذِي فِيهِ بالغيوب مُخَالفا لما نَص الله تَعَالَى على أَنه معجز من الْقُرْآن فَسَقَطت هَذِه الْأَقَاوِيل الْفَاسِدَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين والنحو الرَّابِع مَا وَجه إعجازه فَقَالَت طَائِفَة وَجه إعجازه كَونه فِي أَعلَى مَرَاتِب البلاغة وَقَالَت طوائف إِنَّمَا وَجه إعجازه أَن الله منع الْخلق من الْقُدْرَة على معارضته فَقَط فَأَما الطَّائِفَة الَّتِي قَالَت إِنَّمَا إعجازه لِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة فَإِنَّهُم شغبوا فِي ذَلِك بِأَن ذكرُوا آيَات مِنْهُ مثل قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَنَحْو هَذَا وموه بَعضهم بِأَن قَالَ لَو كَانَ كَمَا تَقولُونَ من أَن الله تَعَالَى منع من معارضته فَقَط لوَجَبَ أَن يكون أغث مَا يُمكن أَن يكون من الْكَلَام فَكَانَت تكون الْحجَّة بذلك أبلغ قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم لَهُم شغباً غير هذَيْن وَكِلَاهُمَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أما قَوْلهم لَو كَانَ كَمَا قُلْنَا لوَجَبَ أَن يكون أغث مَا يُمكن أَن يكون من الْكَلَام فَكَانَت تكون الْحجَّة أبلغ فَهَذَا هُوَ الْكَلَام الغث حَقًا لوجوه أَحدهَا أَنه قَول بِلَا برهَان لِأَنَّهُ يعكس عَلَيْهِ قَوْله بِنَفسِهِ فَيُقَال لَهُ بل لَو كَانَ إعجازه لكَونه فِي أَعلَى درج البلاغة لَكَانَ لَا حجَّة فِيهِ لِأَن هَذَا يكون فِي كل من كَانَ فِي أَعلَى طبقَة وَأما آيَات الْأَنْبِيَاء فخارجة عَن الْمَعْهُود فَهَذَا أقوى من شغبهم وَثَانِيها أَنه لَا يسْأَل الله تَعَالَى عَمَّا يفعل وَلَا يُقَال لَهُ لم عجزت بِهَذَا النّظم دون غَيره وَلم أرْسلت هَذَا الرَّسُول دون غَيره وَلم قبت عَصا مُوسَى حَيَّة دون أَن تقلبها أسداً وَهَذَا كُله حمق مِمَّن جَاءَ بِهِ لم يُوجِبهُ قطّ عقل وَحسب الْآيَة أَن تكون خَارِجَة عَن الْمَعْهُود فَقَط وَثَالِثهَا أَنهم حِين طردوا سُؤَالهمْ رَبهم بِهَذَا السُّؤَال الْفَاسِد لَزِمَهُم أَن يَقُولُوا هلا كَانَ هَذَا الإعجاز فِي كَلَام بِجمع اللُّغَات فيستوي فِي معرفَة إعجازه الْعَرَب والعجم لِأَن الْعَجم لَا يعْرفُونَ إعجاز الْقُرْآن إِلَّا بأخبار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الْعَرَب فَقَط فَبَطل هَذَا الشغب الغث وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما ذكرهم {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَمَا كَانَ نَحْوهَا من الْآيَات فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا وَيُقَال لَهُم إِن كَانَ كَمَا تَقولُونَ ومعاذ الله من ذَلِك فَإِنَّمَا المعجز مِنْهُ على قَوْلكُم هَذِه الْآيَات خَاصَّة وَأما سائره فَلَا وَهَذَا كفر لَا يَقُوله مُسلم فَإِن قَالُوا جَمِيع الْقُرْآن مثل هَذَا الْآيَات فِي الإعجاز قيل لَهُم فَلم خصصتم بِالذكر هَذِه الْآيَات دون غَيرهَا إِذا وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا إِيهَام لأهل الْجَهْل أَن من الْقُرْآن معجزاً وَغير معجز ثمَّ نقُول لَهُم قَول الله تَعَالَى {وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبورا} أمعجزا هُوَ على شروطكم فِي كَونه فِي أَعلَى درج البلاغة أم لَيْسَ معجزاً فَإِن قَالُوا لَيْسَ معجزاً كفرُوا وَإِن قَالُوا أَنه معجز صدقُوا وسئلوا هَل على شروطكم فِي أَعلَى درج البلاغة فَإِن قَالُوا نعم كابروا وَكفوا مؤنتهم لِأَنَّهَا أَسمَاء رجال فَقَط لَيْسَ على شروطهم فِي البلاغة وَأَيْضًا فَلَو كَانَ إعجاز الْقُرْآن لِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة لَكَانَ بِمَنْزِلَة كَلَام الْحسن وَسَهل بن هَارُون والجاحظ وَشعر أمرئ الْقَيْس ومعاذ الله من هَذَا لِأَن كل مَا يسْبق فِي طبقته لم يُؤمن أَن يَأْتِي من يماثله ضَرُورَة فَلَا بُد لَهُم من هَذِه الخطة أَو من الْمصير إِلَى قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى منع من معارضته فَقَط وَأَيْضًا فَلَو كَانَ إعجازه من أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة الْمَعْهُودَة لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْآيَة وَلما هُوَ أقل من آيَة وَهَذَا ينْقض قَوْلهم أَن المعجز مِنْهُ ثَلَاث آيَات لَا أقل فَإِن قَالُوا فَقولُوا أَنْتُم هَل الْقُرْآن مَوْصُوف بِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة أم لَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كُنْتُم تُرِيدُونَ أَن الله قد بلغ بِهِ مَا أَرَادَ فَنعم هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنى فِي الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء أبلغ مِنْهَا وَإِن كُنْتُم تُرِيدُونَ هَل هُوَ فِي أَعلَى درج البلاغة فِي كَلَام المخلوقين فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من نوع كَلَام المخلوقين لَا من أَعْلَاهُ وَلَا من أدناه وَلَا من أوسطه وبرهان هَذَا أَن إنْسَانا لَو أَدخل فِي رِسَالَة لَهُ أَو خطْبَة أَو تأليف أَو موعظة حُرُوف الهجاء الْمُقطعَة لَكَانَ خَارِجا عَن البلاغة الْمَعْهُودَة جملَة بِلَا شكّ فصح أَنه لَيْسَ من نوع بلاغة النَّاس أصلا وَأَن الله تَعَالَى منع الْخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جَمِيع كَلَام الْخلق برهَان ذَلِك أَن الله حكى عَن قوم من أهل النَّار أَنهم يَقُولُونَ إِذا سئلوا عَن سَبَب دُخُولهمْ النَّار {لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} وَحكى تَعَالَى عَن كَافِر قَالَ {إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر أَن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر} وَحكى عَن آخَرين أَنهم قَالُوا {لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا من الأَرْض ينبوعاً أَو تكون لَك جنَّة من نخيل وعنب فتفجر الْأَنْهَار خلالها تفجيراً أَو تسْقط السَّمَاء كَمَا زعمت علينا كسفاً أَو تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلاًً أَو يكون لَك بَيت من زخرف أَو ترقي فِي السَّمَاء وَلنْ نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتابا نقرؤه} فَكَانَ هَذَا كُله إِذْ قَالَه غير الله عز وَجل غير معجز بِلَا خلاف إِذْ لم يقل أحد من أهل الْإِسْلَام أَن كَلَام غير الله تَعَالَى معجز لَكِن لما قَالَه الله تَعَالَى وَجعله كلَاما لَهُ أصاره معجزاً وَمنع من مماثلته وَهَذَا برهَان كافٍ لَا يحْتَاج إِلَى غَيره وَالْحَمْد لله والنحو الْخَامِس مَا مِقْدَار المعجز مِنْهُ فَقَالَت الأشعرية وَمن وافقهم أَن المعجز إِنَّمَا هُوَ مِقْدَار أقل سُورَة مِنْهُ وَهُوَ إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فَصَاعِدا وَإِن مَا دون ذَلِك لَيْسَ معجزاً وَاحْتَجُّوا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ذَلِك بقول الله تَعَالَى {قل فَأتوا بِسُورَة مثله} قَالُوا وَلم يتحد تَعَالَى بِأَقَلّ من ذَلِك وَذهب سَائِر أهل الْإِسْلَام إِلَى أَن الْقُرْآن كُله قَلِيله وَكَثِيره معجز وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يجوز خِلَافه وَلَا حجَّة لَهُم فِي قَوْله تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يقل إِن مَا دون السُّورَة لَيْسَ معجزاً بل قد قَالَ تَعَالَى على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن كل شَيْء من الْقُرْآن قُرْآن فَكل شَيْء من الْقُرْآن معجز ثمَّ تعارضهم فِي تحديدهم المعجز بِسُورَة فَصَاعِدا فَنَقُول أخبرونا مَاذَا تعنون بقولكم أَن المعجز مِقْدَار سُورَة أسورة كَامِلَة لَا أقل أم مِقْدَار الْكَوْثَر فِي الْآيَات أم مقدارها فِي الْكَلِمَات أم مقدارها فِي الْحُرُوف وَلَا سَبِيل إِلَى وَجه خَامِس فَإِن قَالُوا المعجز سُورَة تَامَّة لَا أقل لَزِمَهُم أَن سُورَة الْبَقَرَة حاشا آيَة وَاحِدَة أَو كلمة وَاحِدَة من آخرهَا أَو من أَولهَا لَيست معْجزَة وَهَكَذَا كل سُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ إِذْ جعلُوا كل سُورَة فِي الْقُرْآن سوى كلمة من أَولهَا أَو من وَسطهَا أَو من آخرهَا لمقدور على مثلهَا وَإِن قَالُوا بل مقدارها من الْآيَات لَزِمَهُم أَن آيَة الدّين لَيست معْجزَة لِأَنَّهَا لَيست ثَلَاث آيَات ولزمهم مَعَ ذَلِك أَن وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر معجز كآية الْكُرْسِيّ وآيتان إِلَيْهَا لِأَنَّهَا ثَلَاث آيَات وَهَذَا غير قَوْلهم ومكابرة أَيْضا أَن تكون هَذِه الْكَلِمَات معْجزَة حاشا كلمة غير معْجزَة ولزمهم أَيْضا أَن وَالضُّحَى وَالْفَجْر وَالْعصر هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث فَقَط معجزات لِأَنَّهُنَّ ثَلَاث آيَات فَإِن قَالُوا هن متفرقات غير متصلات لَزِمَهُم إِسْقَاط الإعجاز عَن ألف آيَة مُتَفَرِّقَة وَإِمْكَان الْمَجِيء بِمِثْلِهَا وَمن جعل هَذَا مُمكنا فقد كَابر العيان وَخرج عَن الْإِسْلَام وأبطل الإعجاز عَن الْقُرْآن وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن نصح نَفسه ولزمهم أَيْضا أَن {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} لَيْسَ معجزاً وَهَذَا نقض لقَولهم فِي أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة وَكَذَلِكَ كل ثَلَاث آيَات غير كلمة وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَعَن الْمَعْقُول وَإِن قَالُوا بل فِي عدد الْكَلِمَات أَو قَالُوا عدد الْحُرُوف لَزِمَهُم شَيْئَانِ مسقطان لقَولهم أَحدهمَا إبِْطَال احتجاجهم بقوله تَعَالَى {بِسُورَة من مثله} لأَنهم جعلُوا معجزاً مَا لَيْسَ سُورَة وَلم يقل تَعَالَى بِمِقْدَار فلاح تمويههم وَالثَّانِي أَن سُورَة الْكَوْثَر عشر كَلِمَات اثْنَان وَأَرْبَعُونَ حرفا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان} اثْنَتَا عشرَة كلمة اثْنَان وَسَبْعُونَ حرفا وَإِن اقتصرنا على الْأَسْمَاء فَقَط كَانَت عشرَة كَلِمَات اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ حرفا فَهَذَا أَكثر كَلِمَات وحروفاً من سُورَة الْكَوْثَر فَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا معجزاً عنْدكُمْ وَيكون {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} غير معجز فَإِن قَالُوا إِن هَذَا غير معجز تركُوا قَوْلهم فِي إعجاز مِقْدَار أقل سُورَة فِي عدد الْكَلِمَات وَعدد الْحُرُوف وَإِن قَالُوا بل هُوَ معجز تركُوا قَوْلهم فِي أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة ويلزمهم أَيْضا أننا إِن أسقطنا من هَذِه الْأَسْمَاء اسْمَيْنِ وَمن سُورَة الْكَوْثَر كَلِمَات أَن لَا يكون شَيْء من ذَلِك معجزا فَظهر سُقُوط كَلَامهم وتخليطه وفساده وَأَيْضًا فَإِذا كَانَت الْآيَة مِنْهُ أَو الْآيَتَانِ غير معْجزَة وَكَانَت مَقْدُورًا على مثلهَا وَإِذا كَانَ ذَلِك فكله مَقْدُور على مثله وَهَذَا كفر فَإِن قَالُوا إِذا اجْتمعت ثَلَاث آيَات صَارَت غير مَقْدُور عَلَيْهَا قيل لَهُم هَذَا غير قَوْلكُم إِن إعجازه إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق البلاغة لِأَن طَرِيق البلاغة فِي الْآيَة كَهُوَ فِي الثَّلَاث وَلَا فرق وَالْحق من هَذَا هُوَ مَا قَالَه الله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} وَإِن كل كلمة قَائِمَة الْمَعْنى يعلم إِذا تليت أَنَّهَا من الْقُرْآن فَإِنَّهَا معْجزَة لَا يقدر أحد على الْمَجِيء بِمِثْلِهَا أبدا لِأَن الله تَعَالَى حَال بَين النَّاس وَبَين ذَلِك كمن قَالَ إِن آيَة النُّبُوَّة أَن الله تَعَالَى يُطلقنِي على الْمَشْي فِي هَذِه الطَّرِيق الْوَاضِحَة ثمَّ لَا يمشي فِيهَا أحد غَيْرِي أبدا أَو مُدَّة يسميها فَهَذَا أعظم مَا يكون من الْآيَات وَإِن الْكَلِمَة الْمَذْكُورَة أَنَّهَا مَتى ذكرت فِي خبر على أَنَّهَا لَيست قُرْآنًا فَهِيَ غير معْجزَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّص وَالَّذِي عجز عَنهُ أهل الأَرْض مذ أربعماية عَام وَأَرْبَعين عَاما وَنحن نجد فِي الْقُرْآن إِدْخَال معنى بَين مَعْنيين لَيْسَ بَينهمَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا وَمَا بَين ذَلِك} وَلَيْسَ هَذَا من بلاغة النَّاس فِي ورد وَلَا فِي صدر وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْكَلَام فِي الْقُدْرَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْإِنْسَان مجبر على أَفعاله وَأَنه لَا استطاعة لَهُ أصلا وَهُوَ قَول جهم بن صَفْوَان وَطَائِفَة من الْأزَارِقَة وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى أَن الْإِنْسَان لَيْسَ مجبراً وأثبتوا لَهُ قُوَّة واستطاعة بهَا يفعل مَا اخْتَار فعله ثمَّ افْتَرَقت هَذِه الطَّائِفَة على فرْقَتَيْن فَقَالَت إِحْدَاهمَا الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَلَا يتقدمه الْبَتَّةَ وَهَذَا قَول طوائف من أهل الْكَلَام وَمن وافقهم كالنجار والأشعري وَمُحَمّد بن عِيسَى برعوت الْكَاتِب وَبشر بن غياث المريسي وَأبي عبد الرَّحْمَن العطوي وَجَمَاعَة من المرجئة والخوارج وَهِشَام بن الحكم وَسليمَان بن جرير وأصحابهما وَقَالَت الْأُخْرَى أَن الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل هِيَ قبل الْفِعْل مَوْجُودَة فِي الْإِنْسَان وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمرَان وَصَالح فِيهِ وَالنَّاسِي وَجَمَاعَة من الْخَوَارِج والشيعة ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ على فرق فَقَالَت طَائِفَة إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل وَمَعَ الْفِعْل أَيْضا للْفِعْل ولتركه وَهُوَ قَول بشر بن الْمُعْتَمِر الْبَغْدَادِيّ وَضِرَار بن عَمْرو والكوفي وَعبد الله بن غطفان وَمعمر بن عمر والعطار الْبَصْرِيّ وَغَيرهم من الْمُعْتَزلَة وَقَالَ أَبُو الهزيل مُحَمَّد بن الهزيل الْعَبْدي الْبَصْرِيّ العلاف لَا تكون الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل الْبَتَّةَ وَلَا تكون إِلَّا قبله وَلَا بُد وتفنى مَعَ أول وجود الْفِعْل وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن سيار النظام وَعلي الإسواري وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم لَيست الِاسْتِطَاعَة شَيْئا غير نفس المستطيع وَكَذَلِكَ أَيْضا قَالُوا فِي الْعَجز أَنه لَيْسَ شَيْئا غير الْعَاجِز إِلَّا النظام فَإِنَّهُ قَالَ هُوَ آفَة دخلت على المستطيع قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما من قَالَ بالإجبار فَإِنَّهُم احْتَجُّوا فَقَالُوا لما كَانَ الله تَعَالَى فعالاً وَكَانَ لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَجب أَن لَا يكون أحد فعالاً غَيره وَقَالُوا أَيْضا معى إِضَافَة الْفِعْل إِلَى الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقول مَاتَ زيد وَإِنَّمَا أَمَاتَهُ الله تَعَالَى وَقَامَ الْبناء وَإِنَّمَا أَقَامَهُ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَخطأ هَذِه الْمقَالة ظَاهر بالحس وَالنَّص وباللغة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَبهَا نتفاهم فَأَما النَّص فَإِن الله عز وَجل قَالَ فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهملوا الصَّالِحَات فنص تَعَالَى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وَأما الْحس فَإِن بالحواس وبضرورة الْعقل وببديهة علمنَا يَقِينا علما لَا يخالج فِيهِ الشَّك أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 بَين الصَّحِيح الْجَوَارِح وَبَين من لَا صِحَة بجوارحه فرقا لائحاً لجوارحه لِأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح يفعل الْقيام وَالْقعُود وَسَائِر الحركات مُخْتَارًا لَهَا دون مَانع وَالَّذِي لَا صِحَة لجوارحه لَو رام ذَلِك جهده لم يَفْعَله أصلا وَلَا بَيَان أبين من هَذَا الْفرق والمجبر فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي يَقع الْفِعْل مِنْهُ بِخِلَاف اخْتِيَاره وقصده فَأَما من وَقع فعله بِاخْتِيَارِهِ وقصده فَلَا يُسمى فِي اللُّغَة مجبراً وَإِجْمَاع الْأمة كلهَا على لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه مُبْطل قَول الْمُجبرَة وَوَجَب أَن لنا حولا وَقُوَّة وَلَكِن لم يكن لنا ذَلِك إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى وَلَو كَانَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْجَهْمِية لَكَانَ القَوْل لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ قَول تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} فنص تَعَالَى على أَن لنا مَشِيئَة إِلَّا أَنَّهَا لَا تكون منا إِلَّا أَن يَشَاء الله كَونهَا وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عرف عناصر الْأَشْيَاء من الْوَاجِب والممتنع والممكن أَيقَن بِالْفرقِ بَين صَحِيح الْجَوَارِح وَغير صَحِيحا لِأَن الْحَرَكَة الاختيارية بِأول الْحس هِيَ غير الاضطرارية وَإِن الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من ذِي الْجَوَارِح المؤوفة مُمْتَنع وَهُوَ من ذِي الْجَوَارِح الصَّحِيحَة مُمكن وإننا بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن المقعد لَو رام الْقيام جهده لما أمكنه ونقطع يَقِينا أَنه لَا يقوم وَأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح لَا نَدْرِي إِذا رَأَيْنَاهُ قَاعِدا أيقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذَلِك مِنْهُ مُمكن وَإِمَّا من طَرِيق اللُّغَة فَإِن الْإِجْبَار وَالْإِكْرَاه والاضطرار وَالْغَلَبَة أَسمَاء مترادفة وَكلهَا وَاقع على معنى وَاحِد لَا يخْتَلف وُقُوع الْفِعْل مِمَّن لَا يؤثره وَلَا يختاره وَلَا يتَوَهَّم مِنْهُ خلَافَة الْبَتَّةَ وَأما من آثر مَا يظْهر مِنْهُ من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إِلَيْهِ هَوَاهُ فَلَا يَقع عَلَيْهِ اسْم إِجْبَار وَلَا اضطرار لكنه مُخْتَار وَالْفِعْل مِنْهُ مُرَاد متعمد مَقْصُود وَنَحْو هَذِه الْعبارَات عَن هَذَا الْمَعْنى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي نتفاهم بهَا فَإِن قَالَ قَائِل فَلم أَبَيْتُم هَا هُنَا من إِطْلَاق لَفْظَة الِاضْطِرَار وأطلقتموها فِي المعارف فقلتم أَنَّهَا باضطرار وكل ذَلِك عنْدكُمْ خلق الله تَعَالَى فِي الْإِنْسَان فَالْجَوَاب أَن بَين الْأَمريْنِ فرقا بَينا وَهُوَ أَن الْفَاعِل متوهم مِنْهُ ترك فعله وممكن ذَلِك مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِك مَا عرفه يَقِينا ببرهان لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم الْبَتَّةَ انْصِرَافه عَنهُ وَلَا يُمكنهُ ذَلِك أصلا فصح أَنه مُضْطَر إِلَيْهَا وَأَيْضًا فقد أثنى الله عز وَجل على قوم دَعوه فَقَالُوا {وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَقد علمنَا أَن الطَّاقَة والاستطاعة وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة أَلْفَاظ مترادفة كلهَا وَاقع على معنى وَاحِد وَهَذِه صفة من يُمكن عَنهُ الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ أَو تَركه بِاخْتِيَارِهِ وَلَا شكّ فِي أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين دعوا هَذَا الدُّعَاء قد كلفوا شيا من الطَّاعَات والأعمال وَاجْتنَاب الْمعاصِي فلولا إِن هَا هُنَا أَشْيَاء لَهُم بهَا طَاقَة لَكَانَ هَذَا الدُّعَاء حمقاً لأَنهم كَانُوا يصيرون داعين الله عز وَجل فِي أَن لَا يكلفهم مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ وهم لَا طَاقَة لَهُم بِشَيْء من الْأَشْيَاء فَيصير دعاؤهم فِي أَن لَا يكلفوا مَا قد كلفوه وَهَذَا محَال من الْكَلَام وَالله تَعَالَى لَا يثني على الْمحَال فصح بِهَذَا إِن هَا هُنَا طَاقَة مَوْجُودَة على الْأَفْعَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بِأَن الله تَعَالَى لما كَانَ فعالاً وَجب أَن لَا يكون فعال غَيره فخطأ من القَوْل لوجوه أَحدهَا أَن النَّص قد ورد بِأَن للْإنْسَان أفعالاً وأعمالاً قَالَ تَعَالَى {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَأثْبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 الله لَهُم الْفِعْل وَكَذَلِكَ نقُول إِن الْإِنْسَان يصنع لِأَن النَّص قد جَاءَ بذلك وَلَوْلَا النَّص مَا أطلقنا شَيْئا من هَذَا وَكَذَلِكَ لما قَالَ الله تَعَالَى {وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون} علمنَا أَن للْإنْسَان اخْتِيَارا لِأَن أهل الدُّنْيَا وَأهل الْجنَّة سَوَاء فِي أَنه تَعَالَى خَالق أَعمال الْجَمِيع على أَن الله تبَارك وَتَعَالَى قَالَ {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} فَعلمنَا أَن الِاخْتِيَار الَّذِي هُوَ فعل الله تَعَالَى وَهُوَ منفي عَن سواهُ هُوَ غير الِاخْتِيَار الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى خلقه ووصفهم بِهِ وَوجدنَا هَذَا أَيْضا حسا لِأَن الاخنبار الَّذِي توَحد الله تَعَالَى بِهِ هُوَ أَن يفعل مَا يَشَاء كَيفَ شَاءَ وَإِذا شَاءَ وَلَيْسَت هَذِه صفة شَيْء من خلقه وَأما الِاخْتِيَار الَّذِي أَضَافَهُ الله تَعَالَى إِلَى خلقه فَهُوَ مَا خلق فيهم من الْميل إِلَى شَيْء مَا والإيثار لَهُ على غَيره فَقَط وَهنا غَايَة الْبَيَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمِنْهَا أَن الِاشْتِرَاك فِي الْأَسْمَاء لَا يَقع من أَجله التشابه أَلا ترى انك تَقول الله الْحَيّ وَالْإِنْسَان حَيّ وَالْإِنْسَان حَلِيم كريم عليم وَالله تَعَالَى حَكِيم كريم عليم فَلَيْسَ هَذَا يُوجب اشتباهاً بِلَا خلاف وَإِنَّمَا يَقع الِاشْتِبَاه بِالصِّفَاتِ الْمَوْجُودَة فِي الموصوفين وَالْفرق بَين الْفِعْل الْوَاقِع من الله عز وَجل وَالْفِعْل الْوَاقِع منا هُوَ أَن الله تَعَالَى اخترعه وَجعله جسماً أَو عرضا أَو حَرَكَة أَو سكوناً أَو معرفَة أَو إِرَادَة أَو كَرَاهِيَة وَفعل عز وَجل كل ذَلِك فِينَا بِغَيْر معاناة مِنْهُ وَفعل تَعَالَى لغيره عِلّة وَأما نَحن فَإِنَّمَا كَانَ فعلا لنا لِأَنَّهُ عز وَجل خلقه فِينَا وَخلق اختيارنا لَهُ وأظهره عز وَجل فِينَا مَحْمُولا لِاكْتِسَابِ مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة وَلم نخترعه نَحن وَأما من قَالَ بالاستطاعة قبل الْفِعْل فعمدة حجتهم أَن قَالُوا لَا يَخْلُو الْكَافِر من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون مَأْمُورا بِالْإِيمَان أَو لَا يكون مَأْمُورا بِهِ فَإِن قُلْتُمْ أَنه غير مَأْمُور بِالْإِيمَان فَهَذَا كفر مُجَرّد وَخلاف لِلْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاع وَإِن قُلْتُمْ هُوَ مَأْمُور بِإِيمَان وَهَكَذَا تَقولُونَ فَلَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون أَمر وَهُوَ يَسْتَطِيع مَا أَمر بِهِ فَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلكُم أَو يكون أَمر وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع مَا أَمر بِهِ فقد نسبتم إِلَى الله عز وَجل تَكْلِيف مَا لَا يُسْتَطَاع ولزمكم أَن تجيزوا تَكْلِيف الْأَعْمَى أَن يرى والمقعد أَن يجْرِي أَو يطلع إِلَى السَّمَاء وَهَذَا كُله جور وظلم والجور وَالظُّلم منفيان عَن الله عز وَجل وَقَالُوا إِذْ لَا يفعل الْمَرْء فعلا إِلَّا بإستطاعة موهوبة من الله عز وَجل وَلَا تَخْلُو تِلْكَ الِاسْتِطَاعَة من أَن يكون الْمَرْء أعطيها وَالْفِعْل مَوْجُود أَو أعطيها وَالْفِعْل غير مَوْجُود فَإِن كَانَ أعطيها وَالْفِعْل مَوْجُود فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَيْهَا إِذْ قد وجد الْفِعْل مِنْهُ الَّذِي يحْتَاج إِلَى الِاسْتِطَاعَة ليَكُون ذَلِك الْفِعْل بهَا وَإِن كَانَ أعطيها وَالْفِعْل غير مَوْجُود فَهَذَا قَوْلنَا إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل قَالُوا وَالله تَعَالَى يَقُول {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قَالُوا فَلَو لم تتقدم الِاسْتِطَاعَة الْفِعْل لَكَانَ الْحَج لَا يلْزم أحدا قبل ان يحجّ وَقَالَ تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} فَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة للصَّوْم لَا تتقدم الصَّوْم مَا لَزِمت أحدا الْكَفَّارَة بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} فصح أَن استطاعة الْخُرُوج مَوْجُودَة مَعَ عدم الْخُرُوج وَقَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَلَهُم أَيْضا فِي خلق الْأَفْعَال اعْتِرَاض نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 بَاب مَا الِاسْتِطَاعَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن الْكَلَام على حكم لَفْظَة قبل تَحْقِيق مَعْنَاهَا وَمَعْرِفَة المُرَاد بهَا وَعَن أَي شَيْء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حَقِيقَتهَا فَيَنْبَغِي أَولا أَن نوقف على معنى الِاسْتِطَاعَة فَإِذا تكلمنا عَلَيْهِ وقررناه بحول الله تَعَالَى وقوته سهل الإشراف على صَوَاب هَذِه الْأَقْوَال من خطئها بعون الله تَعَالَى وتأييده فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع قَول فِي غَايَة الْفساد وَلَو كَانَ لقائله أقل علم باللغة الْعَرَبيَّة ثمَّ بحقائق الْأَسْمَاء والمسميات ثمَّ بماهية الْجَوَاهِر والأعراض لم يقل هَذَا السخف أما اللُّغَة فَإِن الِاسْتِطَاعَة إِنَّمَا هِيَ مصدر اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيع استطاعة والمصدر هُوَ فعل الْفَاعِل وَصفته كالضرب الَّذِي هُوَ فعل الضَّارِب والحمرة الَّتِي هِيَ صفة الْأَحْمَر والاحمرار الَّذِي هُوَ صفة المحمر وَمَا أشبه هَذَا وَالصّفة وَالْفِعْل عرضان بِلَا شكّ فِي الْفَاعِل منا وَفِي الْمَوْصُوف والمصادر هِيَ أَحْدَاث المسمين بالأسماء بِإِجْمَاع من أهل كل لِسَان فَإِذا كَانَت الِاسْتِطَاعَة فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتكلم نَحن وهم إِنَّمَا هِيَ صفة فِي المستطيع فبالضرورة نعلم أَن الصّفة هِيَ غير الْمَوْصُوف لِأَن الصِّفَات تتعاقب عَلَيْهِ فتمضي صفة وَتَأْتِي أُخْرَى فَلَو كَانَت الصّفة هِيَ الْمَوْصُوف لَكَانَ الْمَاضِي من هَذِه الصِّفَات هُوَ الْمَوْصُوف الْبَاقِي وَلَا سَبِيل إِلَى غير هَذَا الْبَتَّةَ فَإذْ لَا شكّ فِي أَن الْمَاضِي هُوَ غير الْبَاقِي فالصفات هِيَ غير الْمَوْصُوف بهَا وَمَا عدا هَذَا فَهُوَ من الْمحَال والتخليط فَإِن قَالُوا أَن الِاسْتِطَاعَة لَيست مصدر إستطاعة وَلَا صفة المستطيع كابروا وَأتوا بلغَة جَدِيدَة غير اللُّغَة الَّذِي نزل بهَا الْقُرْآن وَالَّتِي لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِيهَا نتنازع إِنَّمَا هِيَ كلمة من تِلْكَ اللُّغَة وَمن أحَال شَيْئا من الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة عَن وضوعها فِي اللُّغَة بِغَيْر نَص محيل لَهَا وَلَا بِإِجْمَاع من أهل الشَّرِيعَة فقد فَارق حكم أهل الْعُقُول وَالْحيَاء وَصَارَ فِي نِصَاب من لَا يتَكَلَّم مَعَه وَلَا يعجز أحد أَن يَقُول الصَّلَاة لَيست مَا تعنون بهَا وَإِنَّمَا هِيَ أَمر كَذَا وَالْمَاء هُوَ الْخمر وَفِي هَذَا بطلَان الْحَقَائِق كلهَا وَأَيْضًا فإننا نجد الْمَرْء مستطيعاً ثمَّ نرَاهُ غير مستطيع لخدر عرض فِي أَعْضَائِهِ أَو لتكتيف وَضبط أَو لإغماء وَهُوَ بِعَيْنِه قَائِم لم ينتقص مِنْهُ شَيْء فصح بِالضَّرُورَةِ أَن الَّذِي عدم من الِاسْتِطَاعَة هُوَ غير المستطيع الَّذِي كَانَ وَلم يعْدم هَذَا أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ والحس وَبِهَذَا أيقنا أَن الِاسْتِطَاعَة عرض من الْأَعْرَاض تقبل الأشد والأضعف فَنَقُول استطاعة أَشد من استطاعة واستطاعة أَضْعَف من استطاعة وَأَيْضًا فَأن الِاسْتِطَاعَة لَهَا ضد وَهُوَ الْعَجز والأضداد لَا تكون إِلَّا أعراضاً تقتسم طرفِي الْبعد كالخضرة وَالْبَيَاض وَالْعلم وَالْجهل وَالذكر وَالنِّسْيَان وَمَا أشبه هَذَا وَهَذَا كُله أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يُنكره إِلَّا أعمى الْقلب والحواس ومعاند مكابر للضَّرُورَة والمستطيع جَوْهَر والجوهر لَا ضد لَهُ فصح بِالضَّرُورَةِ إِن الِاسْتِطَاعَة هِيَ غير المستطيع بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع لَكَانَ الْعَجز أَيْضا هُوَ الْعَاجِز وَالْعَاجِز هُوَ المستطيع بالْأَمْس فعلى هَذَا يجب أَن الْعَجز هُوَ المستطيع فَإِن تَمَادَوْا على هَذَا لَزِمَهُم أَن الْعَجز عَن الْأَمر هُوَ الِاسْتِطَاعَة عَلَيْهِ وَهَذَا محَال ظَاهر فَإِن قَالُوا إِن الْعَجز غير المستطيع وَهُوَ آفَة دخلت على المستطيع سئلوا عَن الْفرق الَّذِي من أَجله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 قَالُوا أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع وَمنعُوا أَن يكون الْعَجز هُوَ الْعَاجِز وَلَا سَبِيل إِلَى وجود فرق فِي ذَلِك وَبِهَذَا نَفسه يبطل قَول من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ بعض المستطيع سَوَاء بِسَوَاء لِأَن الْعرض لَا يكون بَعْضًا للجسم وَأما من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة كل مَا توصل بِهِ إِلَى الْفِعْل كالإبرة والدلو وَالْحَبل وَمَا أشبه ذَلِك فَقَوْل فَاسد تبطله الْمُشَاهدَة لِأَنَّهُ قد تُوجد هَذِه الْآلَات وتعدم صِحَة الْجَوَارِح لَا يُمكن الْفِعْل فَإِن قَالُوا قد تعدم هَذِه الْآلَات وتوجد صِحَة الْجَوَارِح وَلَا يُمكن الْفِعْل قُلْنَا صَدقْتُمْ وبوجود هَذِه الْآلَات تمّ الْفِعْل إِلَّا أَن لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِي مَعْنَاهَا نتنازع هِيَ لَفْظَة قد وضعت فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتفاهم ونعبر عَن مرادنا على عرض فِي المستطيع فَلَيْسَ لأحد أَن يصرف هَذِه اللَّفْظَة عَن موضوعها فِي اللُّغَة بِرَأْيهِ من غير نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَو جَازَ هَذَا لبطلت الْحَقَائِق وَلم يَصح تفاهم أبدا وَقد علمنَا يَقِينا أَن لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة لم تقع قطّ فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتفاهم على حَبل وَلَا على مهماز وَلَا على إبرة فَإِن قَالُوا قد صَحَّ عَن أَئِمَّة اللِّسَان كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِن الِاسْتِطَاعَة زَاد وراحلة قيل لَهُم نعم وَقد صَحَّ هَذَا وَلَا خلاف بَين أحد لَهُ فهم باللغة أَنَّهُمَا عنيا بذلك الْقُوَّة على وجود زَاد وراحلة وبرهان ذَلِك أَن الزَّاد والرواحل كثير فِي الْعَالم وَلَيْسَ كَونهمَا عنيا فِي الْعَالم مُوجبا عِنْدهمَا فرض الْحَج على مَا لَا يجدهما فصح ضَرُورَة أَنَّهُمَا عنيا بذلك الْقُوَّة على إِحْضَار زَاد وراحلة وَالْقُوَّة على ذَلِك عرض كَمَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا القَوْل أَيْضا أَن ذكرُوا قَول الله عز وَجل {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} لِأَن هَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا أَن الْقُوَّة عرض ورباط الْخَيل عرض فَسقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإذْ قد سَقَطت هَذِه الْأَقْوَال كلهَا وَصَحَّ أَن الِاسْتِطَاعَة عرض من الْأَعْرَاض فَوَاجِب علينا معرفَة مَا تِلْكَ الْأَعْرَاض فَنَظَرْنَا ذَلِك بعون الله عز وَجل وتأييده فَوَجَدنَا بِالضَّرُورَةِ الْفِعْل لَا يَقع بِاخْتِيَار إِلَّا من صَحِيح الْجَوَارِح الَّتِي يكون بهَا ذَلِك الْفِعْل فصح يَقِينا أَن سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع استطاعة ثمَّ نَظرنَا سَالم الْجَوَارِح لَا يفعل مُخْتَارًا إِلَّا حَتَّى يستضيف إِلَى ذَلِك إِرَادَة الْفِعْل فَعلمنَا أَن الْإِرَادَة أَيْضا محركة للاستطاعة وَلَا نقُول أَن الْإِرَادَة استطاعة لِأَن كل عَاجز عَن الْحَرَكَة فَهُوَ مُرِيد لَهَا وَهُوَ غير مستطيع وَقد علمنَا ضَرُورَة أَن الْعَاجِز عَن الْفِعْل فَلَيْسَ فِيهِ استطاعة للْفِعْل لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يُمكن أَيْضا أَن تكون الْإِرَادَة بعض الِاسْتِطَاعَة لِأَنَّهُ كَانَ يلْزم من ذَلِك أَن فِي تعاجز المريد استطاعة مَا لِأَن بعض الِاسْتِطَاعَة استطاعة وَبَعض الْعَجز عجز ومحال أَن يكون فِي الْعَاجِز عَن الْفِعْل استطاعة لَهُ الْبَتَّةَ فالاستطاعة لَيست عَجزا فَمن اسْتَطَاعَ على شَيْء وَعجز عَن أَكثر مِنْهُ فَفِيهِ استطاعة على مَا يَسْتَطِيع عَلَيْهِ هِيَ غير الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِيهِ على مَا اسْتَطَاعَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نَظرنَا فَوَجَدنَا السَّالِم الْجَوَارِح المريد للْفِعْل قد يَعْتَرِضهُ دون الْفِعْل مَانع لَا يقدر مَعَه على الْفِعْل أصلا فَعلمنَا أَن هَاهُنَا شَيْئا آخر بِهِ تتمّ الإستطاعة وَلَا بُد وَبِه يُوجد الْفِعْل فَعلمنَا ضَرُورَة أَن هَذَا الشَّيْء إِذْ هُوَ تَمام الِاسْتِطَاعَة وَلَا تصح الِاسْتِطَاعَة إِلَّا بِهِ فَهُوَ بِالْيَقِينِ قُوَّة إِذْ الِاسْتِطَاعَة قُوَّة وَأَن ذَلِك الشَّيْء قُوَّة بِلَا شكّ فقد علمنَا أَنه مَا أَتَى بِهِ من عِنْد الله تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مؤتي القوى إِذْ لَا يُمكن ذَلِك لأحد دونه عز وَجل فصح ضَرُورَة أَن الِاسْتِطَاعَة صِحَة الْجَوَارِح مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ قبل الْفِعْل وَقُوَّة أُخْرَى من عِنْد الله عز وَجل وَهَذَا الْوَجْه مَعَ الْفِعْل باجتماعهما يكون الْفِعْل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان على صِحَة هَذَا القَوْل إِجْمَاع الْأمة كلهَا على سُؤال الله تَعَالَى التَّوْفِيق والاستعاذة بِهِ من الخذلان فالقوة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى على العَبْد فيفعل بهَا الْخَيْر تسمى بِالْإِجْمَاع تَوْفِيقًا وعصمة وتأييداً وَالْقُوَّة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى فيفعل العَبْد بهَا الشَّرّ تسمى بِالْإِجْمَاع خذلاناً وَالْقُوَّة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى على العَبْد فيفعل بهَا مَا لَيْسَ طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة تسمى عوناً أَو قُوَّة أَو حولا وَتبين من صِحَة هَذَا صِحَة قَول الْمُسلمين لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَالْقُوَّة لَا تكون لأحد الْبَتَّةَ فعل إِلَّا بهَا فصح أَنه لَا حول وَلَا قُوَّة لأحد إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَكَذَلِكَ يُسمى تيسيراً قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ميسر لما خلق لَهُ وَقد وَافَقنَا جَمِيع الْمُعْتَزلَة على أَن الِاسْتِطَاعَة فعل الله عز وَجل وَأَنه لَا يفعل أحد خيرا وَلَا شرا إِلَّا بِقُوَّة أعطَاهُ الله تَعَالَى إِيَّاهَا إِلَّا أَنهم قَالُوا يصلح بهَا الْخَيْر وَالشَّر مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجملة القَوْل فِي هَذَا بِأَن عناصر الْأَخْبَار ثَلَاثَة وَهُوَ مُمْتَنع أَو وَاجِب أَو مُمكن بَينهمَا هَذَا أمرٌ بضرورة الْحس والتمييز فَإِذا الْأَمر كَذَلِك فَإِن عدمت صِحَة الْجَوَارِح كَانَ لَهُ مَانع إِلَى الْفِعْل وَأما الصَّحِيح الْجَوَارِح الْمُرْتَفع الْمَوَانِع فقد يكون مِنْهُ الْفِعْل وَقد لَا يكون فَهَذِهِ هِيَ الِاسْتِطَاعَة الْمَوْجُودَة قبل الْفِعْل برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن الْقَائِلين {لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} فأكذبهم الله فِي إنكارهم استطاعة الْخُرُوج قبل الْخُرُوج وَقَوله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} فَلَو لم تكن هُنَا استطاعة قبل فعل الْمَرْء الْحَج لما لزم الْحَج إِلَّا من حج فَقَط وَلما كَانَ أحد عَاصِيا بترك الْحَج لِأَنَّهُ أَن لم يكن مستطيعاً لِلْحَجِّ حَتَّى يحجّ فَلَا حج عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مُخَاطب بِالْحَجِّ وَقَوله تَعَالَى {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل أَن يتماسا فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} فَلَو لم يكن على الْمظَاهر الْعَائِد لقَوْله إستطاعة على الصّيام قبل أَن يَصُوم لما كَانَ مُخَاطبا بِوُجُوب الصَّوْم عَلَيْهِ إِذا لم يجد الرَّقَبَة أصلا ولكان حكمه مَعَ عدم الرَّقَبَة وجوب الْإِطْعَام فَقَط وَهَذَا بَاطِل وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن بَايعه فَمن لم يسْتَطع فقاعداً فَمن لم يسْتَطع فعلى جنب وَهَذَا إِجْمَاع مُتَيَقن لَا شكّ فِيهِ فَلَو لم يكن النَّاس مستطعين للْقِيَام قبل الْقيام لما كَانَ أحد مَأْمُور بِالصَّلَاةِ قبل أَن يُصليهَا كَذَلِك ولكان مَعْذُورًا أَن صلى قَاعِدا وعَلى جنب بِكُل وَجه لِأَنَّهُ إِذا صلى كَذَلِك لم يكن مستطيعاً للْقِيَام وَهَذَا بَاطِل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِشَيْء فأتو بِهِ مَا اسْتَطَعْتُم فَلَو لم يكن هَا هُنَا استطاعة لشَيْء مِمَّا أمرنَا بِهِ أَن نفعله لما لزمنا شَيْء مِمَّا أمرنَا بِهِ مِمَّا لم نفعله وَلَكنَّا غير عصاة بِالتّرْكِ لأننا لم نكلف بِالنَّصِّ إِلَّا مَا استطعنا وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتستطيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن قَالَ فَلَو لم يكن أحد مستطيعاً للصَّوْم إِلَّا حَتَّى يَصُوم لَكَانَ هَذَا السُّؤَال مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام محالا وحاشا لَهُ من ذَلِك وَمِمَّا يتَبَيَّن صِحَة هَذَا وَأَن المُرَاد فِي كل مَا ذكرنَا صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع قَول الله تَعَالَى {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وهم سَالِمُونَ} فنص تَعَالَى على أَن فِي عدم السَّلامَة بطلَان الِاسْتِطَاعَة وَأَن وجود السَّلامَة بِخِلَاف ذَلِك فصح ان سَلامَة الْجَوَارِح استطاعة وَإِذا صَحَّ هَذَا فبيقين نَدْرِي أَن سَلامَة الْجَوَارِح يكون بهَا الْفِعْل وضده وَالْعَمَل وَتَركه وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة لِأَن كل هَذَا يكون بِصِحَّة الْجَوَارِح فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 سَلامَة الْجَوَارِح عرض وَالْعرض لَا يبْقى وَقْتَيْنِ قيل لَهُ هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان والآيات الْمَذْكُورَات مبطلة لهَذِهِ الدَّعْوَى وموجبة أَن هَذِه الِاسْتِطَاعَة من سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع مَوْجُودَة قبل الْفِعْل ثمَّ لَو كَانَ مَا ذكرْتُمْ مَا كَانَ فِيهِ دفع لما قَالَه عز وَجل من ذَلِك ثمَّ وجدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} وَقَالَ تَعَالَى حاكيا قَول الْخضر لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} وَقَالَ {ذَلِك تَأْوِيل مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا} وَعلمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض وَلَا يخْتَلف قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فتيقنا أَن الِاسْتِطَاعَة الَّتِي أثبتها الله تَعَالَى قبل الْفِعْل هِيَ غير الِاسْتِطَاعَة الت نفاها مَعَ الْفِعْل وَلَا يجوز غير ذَلِك الْبَتَّةَ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالاستطاعة كَمَا قُلْنَا شَيْئَانِ أَحدهمَا قبل الْفِعْل وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَالثَّانِي لَا يكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَهُوَ الْقُوَّة الْوَارِدَة من الله تَعَالَى بالعون والخذلان وَهُوَ خلق الله تَعَالَى للْفِعْل فِيمَن ظهر مِنْهُ وَسمي من أجل ذَلِك فَاعِلا لما ظهر مِنْهُ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى وجود معنى غير هَذَا الْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْكَلَام فِي الِاسْتِطَاعَة بِمَا جَاءَت بِهِ نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع وضرورة الْحس وبديهة الْعقل فعلى هَذَا التَّقْسِيم دينا الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فَإِذا نَفينَا وجود الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل فَإِنَّمَا نعني بذلك الِاسْتِطَاعَة الَّتِي بهَا يَقع الْفِعْل وَيُوجد وَاجِبا وَلَا بُد وَهِي خلق الله تَعَالَى للْفِعْل فِي فَاعله وَإِذا أثبتنا الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل فَإِنَّمَا نعني بهَا صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع الَّتِي يكون الْفِعْل بهَا مُمكنا مُتَوَهمًا لَا وَاجِبا وَلَا مُمْتَنعا وَبهَا يكون الْمَرْء مُخَاطبا مُكَلّفا مَأْمُورا مَنْهِيّا وَبعد مهما يسْقط عَنهُ الْخطاب والتكليف وبصير الْفِعْل مِنْهُ مُمْتَنعا وَيكون عَاجِزا عَن الْفِعْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد تبين مَا الِاسْتِطَاعَة فَنَقُول بعون الله عز وَجل فِيمَا اعترضت بِهِ الْمُعْتَزلَة الْمُوجبَة للاستطاعة جملَة قبل الْفِعْل وَلَا بُد فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنهم قَالُوا أخبرونا عَن الْكَافِر الْمَأْمُور بِالْإِيمَان أهوَ مَأْمُور بِمَا لَا يَسْتَطِيع أم بِمَا يَسْتَطِيع فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إننا قد بَينا آنِفا أَن صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع استطاعة وحامل هَذِه الصّفة مستطيع بِظَاهِر حَاله من هَذَا الْوَجْه وَغير مستطيع مَا لم يفعل الله عز وَجل فِيهِ مَا بِهِ يكون تَمام استطاعته وَوُجُود الْفِعْل فَهُوَ مستطيع من وَجه غير مستطيع من وَجه آخر وَهَذَا مَعَ أَنه نَص الْقُرْآن كَمَا أوردنا فَهُوَ أَيْضا مشَاهد كالبناء الْمجِيد فَهُوَ مستطيع بِظَاهِر حَاله ومعرفته بِالْبِنَاءِ غير مستطيع للآلات الَّتِي لَا يُوجد الْبناء إِلَّا بهَا وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْأَعْمَال وَأَيْضًا فقد يكون الْمَرْء عَاصِيا لله تَعَالَى فِي وَجه مُطيعًا لَهُ فِي آخر مُؤمنا بِاللَّه كَافِرًا بالطاغوت فَإِن قَالُوا فقد نسبتم لله تَكْلِيف مَا لَا يُسْتَطَاع قُلْنَا هَذَا بَاطِل مَا نسبنا إِلَيْهِ تَعَالَى إِلَّا مَا أخبر بِهِ عَن نَفسه أَنه لَا يُكَلف أحدا إِلَّا مَا يَسْتَطِيع بسلامة جوارحه وَقد يكلفه مَا لَا يَسْتَطِيع فِي علم الله تَعَالَى لَان الِاسْتِطَاعَة الَّتِي بهَا يكون الْفِعْل لَيست فِيهِ بعد وَلَا يجوز أَن يُطلق على الله تَعَالَى أحد الْقسمَيْنِ دون الآخر وَأما قَوْلهم أَن هَذَا كتكليف المقعد الجري أَو الْأَعْمَى النّظر وَإِدْرَاك الألوان والارتفاع إِلَى السَّمَاء فَإِن هَذَا بَاطِل لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسَ فيهم شَيْء من قسمى الِاسْتِطَاعَة فَلَا استطاعة لَهُم أصلا وَأما الصَّحِيح الْجَوَارِح فَفِيهِ أحد قسمى الِاسْتِطَاعَة وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وَلَوْلَا أَن الله عز وَجل آمننا بقوله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 لَكَانَ غير مُنكر أَن يُكَلف الله تَعَالَى الْأَعْمَى إِدْرَاك الألوان والمقعد الجري والطلوع إِلَى السَّمَاء ثمَّ يعذبهم عِنْد عدم ذَلِك مِنْهُم وَللَّه تَعَالَى أَن يعذب من شَاءَ دون ان يكلفه وَأَن ينعم من شَاءَ دون ان يكلفه كَمَا رزق من شَاءَ الْعقل وَحرمه الجماد وَالْحِجَارَة وَسَائِر الْحَيَوَان وَجعل عِيسَى بن مَرْيَم نَبيا فِي المهد حِين وِلَادَته وَشد على قلب فِرْعَوْن فَلم يُؤمن قَالَ تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَلَيْسَ فِي بداية الْعُقُول حسن وَلَا قَبِيح لعَينه الْبَتَّةَ وَقَالَت الْمُعْتَزلَة مَتى أعطي الْإِنْسَان الِاسْتِطَاعَة أقبل وجود الْفِعْل فَإِن كَانَ قبل وجود الْفِعْل قَالُوا فَهَذَا قَوْلنَا وَإِن كَانَ حِين وجود الْفِعْل فَمَا حاجتنا إِلَيْهَا فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الِاسْتِطَاعَة قِسْمَانِ كَمَا قُلْنَا فأحدهما قبل الْفِعْل وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَالثَّانِي مَعَ الْفِعْل وَهُوَ خلق الله للْفِعْل فِي فَاعله ولولاهما لم يَقع الْفِعْل كَمَا قَالَ الله عز وَجل وَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إِلَّا قبل الْفِعْل وَلَا بُد وَلَا تكون مَعَ الْفِعْل أصلا كَمَا زعم أَبُو الهزيل لَكَانَ الْفَاعِل إِذا فعل عديم الِاسْتِطَاعَة وفاعلاً فعلا لَا استطاعة لَهُ على فعله حِين فعله وَإِذ لَا استطاعة لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاجز عَنهُ فَهُوَ فَاعل عَاجز عَمَّا يفعل مَعًا وَهَذَا تنَاقض ومحال ظَاهر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَهُم الزامات سخيفة هِيَ لَازِمَة لَهُم كَمَا تلْزم غَيرهم سَوَاء بِسَوَاء مِنْهَا قَوْلهم مَتى أحرقت النَّار الْعود أَفِي حَال سَلَامَته أم وَهُوَ غير محترق فَإِن كَانَت أحرقته فِي حَال سَلَامَته فَهُوَ إِذا محرق غير محرق وَإِن كَانَت أحرقته وَهُوَ محرق فَمَا الَّذِي فعلت فِيهِ وكسؤالهم مَتى كسر الْمَرْء الْعود أكسره وَهُوَ صَحِيح فَهُوَ إِذا مكسور صَحِيح أَو كَسره وَهُوَ مكسور فَمَا الَّذِي أحدث فِيهِ وكسؤالهم مَتى أعتق الْمَرْء عَبده فِي حَال رقّه فَهُوَ حر عبد مَعًا أَو فِي حَال عتقه فَأَي معنى لعتقه إِيَّاه وَمَتى طلق الْمَرْء زَوجته أطلقها وَهِي غير مُطلقَة فَهِيَ مُطلقَة لَا مُطلقَة مَعًا أم طَلقهَا وَهِي مُطلقَة فَمَا الَّذِي أثر فِيهَا طَلَاقه وَمَتى مَاتَ الْمَرْء فِي حَيَاته مَاتَ أم وَهُوَ ميت وَمثل هَذَا كثير قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة وَالْحق فيهاأن تَفْرِيق النَّار إزاء مَا عملت فِيهِ هُوَ الْمُسَمّى إحراقا وَلَيْسَ للإحراق شَيْء غير ذَلِك فَقَوْلهم هَل أحرقت وَهُوَ محرق تَخْلِيط لِأَن فِيهِ أَيهَا مَا أَن الإحراق غير الإحراق وَهَذِه سخافة وَكَذَلِكَ كسر الْعود إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجه عَن حَال الصِّحَّة وَالْكَسْر نَفسه هُوَ حَال الْعود حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ إِخْرَاج العَبْد من الرّقّ إِلَى عتقه هُوَ عتقه وَلَا مزِيد لَيست لَهُ حَال أُخْرَى وَكَذَلِكَ خُرُوج الْمَرْأَة من الزَّوْجِيَّة إِلَى الطَّلَاق هُوَ تطليقها نَفسه وَكَذَلِكَ فِرَاق الرّوح للجسد وَهُوَ الإماتة وَالْمَوْت نَفسه وَلَا مزِيد وَلَيْسَت هَا هُنَا حَال أُخْرَى وَقع الْفِعْل فِيهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي أَن إتْمَام الِاسْتِطَاعَة لَا يكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل لَا قبله قَالَ أَبُو مُحَمَّد يُقَال لمن قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة كلهَا لَيست إِلَّا قبل الْفِعْل وَأَنَّهَا قبل الْفِعْل بِتَمَامِهَا وَتَكون أَيْضا مَعَ الْفِعْل أخبرونا عَن الْكَافِر هَل يقدر قبل أَن يُؤمن فِي حَال كفره على الْإِيمَان قدرَة تَامَّة أم لَا وَعَن تَارِك الصَّلَاة هَل يقدر قدرَة تَامَّة على الصَّلَاة فِي حَال تَركه وَعَن الزَّانِي هَل يقدر فِي حَال زِنَاهُ على ترك الزِّنَا بِأَن لَا يكون مِنْهُ زنا أصلا أم لَا وَبِالْجُمْلَةِ فإلا وَأمر كلهَا إِنَّمَا هِيَ امْرَهْ بحركة أوَامِر بِسُكُون أوَامِر باعتقاد إِثْبَات شَيْء مَا أَو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 أَمر باعتقاد إبِْطَال شَيْء مَا وَهَذَا كُله يجمعه فعل أَو ترك فأخبرونا هَل يقدر السَّاكِن الْمَأْمُور بالحركة على الْحَرَكَة حَال السّكُون أَو يقدر المتحرك الْمَأْمُور بِالسُّكُونِ على السّكُون فِي حَال الْحَرَكَة وَعَن مُعْتَقد إبِْطَال شَيْء مَا وَهُوَ مَأْمُور باعتقاد إثْبَاته هَل يقدر فِي حَال اعْتِقَاده إِبْطَاله على اعْتِقَاد إثْبَاته أم لَا وَعَن مُعْتَقد إِثْبَات شَيْء مَا وَهُوَ مَأْمُور باعتقاد إِبْطَاله هَل يقدر فِي حَال اعْتِقَاده إثْبَاته على اعْتِقَاد إِبْطَاله أم لَا وَعَن الْمَأْمُور بِالتّرْكِ وَهُوَ فَاعل مَا أَمر يتْركهُ أيقدر على تَركه فِي حَال فعله فَيكون فَاعِلا لشَيْء تَارِكًا لذَلِك الشَّيْء مَعًا أم لَا فَإِن قَالُوا نعم هُوَ قَادر على ذَلِك كابروا العيان وخالفوا الْمَعْقُول والحس وأجازوا كل طَاعَة من كَون الْمَرْء قَاعِدا قَائِما مَعًا ومؤمناً بِاللَّه كَافِرًا بِهِ مَعًا وَهَذَا أعظم مَا يكون من الْمحَال الْمُمْتَنع وَإِن قَالُوا أَنه لَا يقدر قدرَة تَامَّة يكون بهَا الْفَاعِل لشَيْء هُوَ فَاعل لخلافه قَالُوا الْحق وَرَجَعُوا إِلَى أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد استطاعة تَامَّة يَقع بهَا الْفِعْل إِلَّا حَتَّى يَفْعَله وكل جَوَاب أجابوا بِهِ هَا هُنَا فَإِنَّمَا هُوَ إِيهَام وَلَو أذو مدافعة بِالروحِ لِأَنَّهُ إِلْزَام ضَرُورِيّ حسي مُتَيَقن لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا لسنا نقُول أَنه يقدر على أَن يجمع بَين الْفِعْلَيْنِ المتضادين مَعًا ولكننا قُلْنَا أَنه قَادر على أَن يتْرك مَا هُوَ فِيهِ وَيفْعل مَا أَمر بِهِ قيل لَهُم هَذَا هُوَ نَفسه الَّذِي أردنَا مِنْكُم وَهُوَ أَنه لَا يقدر قدرَة تَامَّة وَلَا يَسْتَطِيع استطاعة تَامَّة على فعل مَا دَامَ فَاعِلا لما يمانعه فَإِذا ترك كل ذَلِك وَشرع فِيمَا أَمر بِهِ فَحِينَئِذٍ تمت قدرته واستطاعته لَا بُد من ذَلِك وَهَذَا هُوَ نفس مَا موهوا بِهِ فِي سُؤَالهمْ لنا هَل أَمر الله تَعَالَى العَبْد بِمَا يَسْتَطِيع قبل أَن يَفْعَله أم بِمَا لَا يَسْتَطِيع حَتَّى يَفْعَله وَهَذَا لَهُم لَازم لأَنهم شنعوه وعظموه وأنكروه وَنحن لَا ننكره وَلَا نرى ذَلِك إلزاماً صَحِيحا فقبحه عَائِد عَلَيْهِم وَإِنَّمَا يلزمم الشَّيْء من يُصَحِّحهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أجَاب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عبد الله بن أَحْمد الكعبي الْبَلْخِي أحد رُؤَسَاء الْأَصْلَح من العتزلة بِأَن قَالَ إننا لَا نَخْتَلِف فِي أَن الله عز وَجل قَادر على تسكين المتحرك وتحريك السَّاكِن وَلَيْسَ يُوصف بِالْقُدْرَةِ على أَن يَجعله سَاكِنا متحركاً مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْجَاهِل الملحد فِيمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ بل الله تَعَالَى قَادر على أَن يَجْعَل الشَّيْء سَاكِنا متحركاً مَعًا فِي وَقت وَاحِد من وَجه وَاحِد وَلَكِن كَلَام الْبَلْخِي هَذَا لَازم لمن الْتزم هَذِه الْكَفَرَة الصلعاء (1) من أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال وَيُقَال لَهُم لم لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك لِأَن لَهُ قدرَة على ذَلِك وَلَا يُوصف بهَا أم لِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَلَا محيد لَهُم عَن هَذَا وَهَذِه طَائِفَة جعلت قدرَة الله تَعَالَى متناهية بل قطعُوا قطعا بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يقدر على الشَّيْء حَتَّى يَفْعَله وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال للمعتزلة أَيْضا أَنْتُم مقرون أَيْضا مَعنا بِأَن الله تَعَالَى لم يزل عليماً بِأَن كل كَائِن فَإِنَّهُ سَيكون على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذا كَانَ وَلم يزل الله تَعَالَى يعلم أَن فلَانا سيطا فُلَانَة فِي وَقت كَذَا فَتحمل مِنْهُ بِولد يخلقه الله تَعَالَى من منيهما الْخَارِج مِنْهُمَا عِنْد جمَاعه إِيَّاهَا وَأَنه يعِيش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 ثَمَانِينَ سنة وَيملك وَيفْعل ويصنع فَإِذا قُلْتُمْ أَن ذَلِك الفلان يقدر قدرَة تَامَّة على ترك ذَلِك الْوَطْء الَّذِي لم يزل الله تَعَالَى يعلم أَنه سَيكون وَأَنه يخلق ذَلِك الْوَلَد مِنْهُ فقد قطعْتُمْ بِأَنَّهُ قَادر على أَن يمْنَع الله من خلق مَا قد علم أَنه سيخلقه وَأَنه قَادر قدرَة تَامَّة على إبِْطَال علم الله عز وَجل وَهَذَا كفر مِمَّن أجَازه فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّكُم أَنْتُم تطلقون أَن الْمَرْء مستطيع قبل الْفِعْل لصِحَّة جوارحه فَهَذَا يلزمكم قُلْنَا هَذَا لَا يلْزمنَا لأننا لم نطلق أَن لَهُ قدرَة تَامَّة على ذَلِك أصلا بل قُلْنَا أَنه لَا يقدر على ذَلِك قدرَة تَامَّة الْبَتَّةَ وَمعنى قَوْلنَا أَنه مستطيع بِصِحَّة جوارحه أَي أَنه متوهم مِنْهُ ذَلِك لَو كَانَ وَنحن لم نطلق الِاسْتِطَاعَة إِلَّا على هَذَا الْوَجْه حَيْثُ أطلقها الله عز وَجل فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك وَلَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على فسخ علمه الَّذِي لم يزل قُلْنَا وَهَذَا أَيْضا مِمَّا تكلمنا فِيهِ آنِفا بل الله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك بِخِلَاف خلقه على مَا قد مضى كلامنا فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله تَعَالَى على مَا قُلْنَا بقوله عز وَجل {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} إِلَى قَوْله {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} فأكذبهم الله تَعَالَى فِي نفيهم عَن أنفسهم الِاسْتِطَاعَة الَّتِي هِيَ صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع ثمَّ نَص تَعَالَى على أَنه قَالَ اقعدوا مَعَ القاعدين وَهَذَا أَمر تكوين لَا أَمر بالقعود لِأَنَّهُ تَعَالَى ساخط عَلَيْهِم لقعودهم وَقد نَص تَعَالَى على أَنه {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فقد ثَبت يَقِينا أَنهم مستطيعون بِظَاهِر الْأَمر بِالصِّحَّةِ فِي الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَإِن الله تَعَالَى كَون فيهم قعودهم فَبَطل أَن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الَّذِي ظهر مِنْهُم وَقَالَ عزو جلّ {من يهد الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً} فَبين عز وَجل بَيَانا جلياً أَن من أعطَاهُ الْهدى اهْتَدَى وَمن أضلّهُ فَلَا يَهْتَدِي فصح يَقِينا أَن بِوُقُوع الْهدى لَهُ من الله تَعَالَى وَهُوَ التَّوْفِيق يفعل العَبْد مَا يكون بِهِ مهتدياً وَأَن بِوُقُوع الأضلال من الله تَعَالَى وَهُوَ الخذلان وَخلق ضلال العَبْد يفعل الْمَرْء مَا يكون بِهِ ضَالًّا فَإِن قَالَ قَائِل معنى هَذَا من سَمَّاهُ الله مهتدياً وَمن سَمَّاهُ ضَالًّا قيل لَهُ هَذَا بَاطِل لِأَن الله تَعَالَى نَص على أَن من أضلّهُ الله فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً فَلَو أَرَادَ الله تَسْمِيَته كَمَا زعمتم لَكَانَ هَذَا القَوْل مِنْهُ عز وَجل كذبا لِأَن كل ضال فَلهُ أَوْلِيَاء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا الله من الْكَذِب فَبَطل تأويلهم الْفَاسِد وَصَحَّ قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله تَعَالَى مخبرا عَن الْخضر الَّذِي آتَاهُ الله تَعَالَى الْعلم وَالْحكمَة والنبوة حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وفتاه {فوجدا عبدا من عبادنَا آتيناه رَحمَه من عندنَا وعلمناه من لدنا علما} وَقَالَ تَعَالَى مخبرا عَنهُ ومصدقاً عَنهُ {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} فصح أَن كل مَا قَالَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَمن وَحي الله عز وَجل ثمَّ أخبر عز وَجل بِأَن الْخضر قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} فَلم يُنكر الله تَعَالَى كَلَامه ذَلِك وَلَا أنكرهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَكِن أَجَابَهُ بقوله {ستجدني إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أعصى لَك أمرا} فَلم يقل لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي مستطيع للصبر بل صدق قَوْله فِي ذَلِك إِذْ أقره وَلم يُنكره وَرَجا أَن يجد الله لَهُ استطاعه على الصَّبْر فيصبر وَلم يُوجِبهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا لنَفسِهِ إِلَّا أَن يَشَاء الله تَعَالَى ثمَّ كرر عَلَيْهِ الْخضر بعد ذَلِك مَرَّات أَنه غير مستطيع للصبر إِذْ لم يصبر فَلم يُنكر ذَلِك مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذِهِ شَهَادَة ثَلَاثَة أَنْبيَاء مُحَمَّد ومُوسَى وَالْخضر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكبر من شَهَادَتهم شَهَادَة الله عز وَجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 بتصديقهم فِي ذَلِك إِذْ قد نَصه الله تَعَالَى علينا غير مُنكر لَهُ بل مُصدقا لَهُم وَهَذَا لَا يردهُ إِلَّا مخذول وَقَالَ عز وَجل {وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ للْكَافِرِينَ عرضا الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} فنص تَعَالَى نصا جلياً على أَنهم كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السّمع الَّذِي أمروا بِهِ وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِك كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكر الله عزو جلّ وَمَعَ ذَلِك استحقوا على ذَلِك جَهَنَّم وَكَانُوا فِي ظَاهر الْأَمر مستطيعون بِصِحَّة جوارحهم وَهَذَا نَص قَوْلنَا بِلَا تكلّف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحوراً انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} فنفى الله عز وَجل عَنْهُم استطاعة شَيْء من السبل غير سَبِيل الضلال وَحده وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} فنص تَعَالَى على أَن من لم يَأْذَن لَهُ فِي الْإِيمَان لم يُؤمن وَإِن من أذن لَهُ فِي الْإِيمَان آمن وَهَذَا الْأذن هُوَ التَّوْفِيق الَّذِي ذكرنَا فَيكون بِهِ الْإِيمَان وَلَا بُد وَعدم الْأذن هُوَ الخذلان الَّذِي ذكرنَا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام ومصدقاً لَهُ إِذْ يَقُول {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن} فنص تَعَالَى على أَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لم يعنه بِصَرْف الكيد عَنهُ صبا وَجَهل وَأَنه تَعَالَى صرف الكيد عَنهُ فَسلم وَهَذَا نَص جلي على أَنه إِذا وَفقه اعْتصمَ واهتدى وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم خَلِيله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومصدقاً لَهُ {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَهَذَا نَص على أَن من أعطَاهُ الله عز وَجل قُوَّة الْإِيمَان آمن واهتدى وَأَن من مَنعه تِلْكَ الْقُوَّة كَانَ من الضَّالّين وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} فنص تَعَالَى على أَنه أمره بِالصبرِ ثمَّ اخبره أَنه لَا صَبر لَهُ إِلَّا بعون الله تَعَالَى فَإِذا أَعَانَهُ بِالصبرِ صَبر وَقَالَ تَعَالَى {إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل} وَهَذَا نَص جلي على أَن من أضلّهُ الله تَعَالَى بالخذلان لَهُ فَلَا يكون مهتدياً وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} فَهَذَا نَص لَا إِشْكَال فِيهِ على أَن الله عز وَجل مَنعهم أَن يفقهوه فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى أَنه يفعل ذَلِك بالذين لَا يُؤمنُونَ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَو صَحَّ لَك هَذَا التَّأْوِيل لَكَانَ حجَّة عَلَيْك لِأَنَّهُ تَعَالَى قد مَنعهم للتوفيق وسلط عَلَيْهِم الخذلان وأضلهم وطبع على قُلُوبهم فاجعله كَيفَ شِئْت فَكيف وَلَيْسَ ذَلِك على مَا تأولت وَلَكِن الْآيَات ظواهرها وعَلى مَا يَقْتَضِيهِ لَفظهَا دون تكلّف هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أضلهم صَارُوا ضَالِّينَ فاسقين حِين أضلهم لَا قبل أَن يضلهم وَكَذَلِكَ إِنَّمَا صَارُوا لَا يُؤمنُونَ حِين جعل بَينهم وَبَينه حِجَابا وَحين جعل على قُلُوبهم أكنة وَفِي آذانهم الوقر لَا قبل ذَلِك وَإِنَّمَا صَارا كَافِرين حِين طبع على قُلُوبهم لَا قبل ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا} فنص تَعَالَى على أَنه لَوْلَا أَن ثَبت نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتوفيق لركن إِلَيْهِم فَإِنَّمَا يثبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين ثبته الله عز وَجل لَا قبل ذَلِك وَلَو لم يُعْطه التثبيت وخذله لركن إِلَيْهِم وضل وَاسْتحق الْعَذَاب على ذَلِك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات فتباً لكل مخذول يظنّ فِي نَفسه الخسيسة أَنه مستغن عَمَّا افْتقر إِلَيْهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من توفيق الله وتثبيته وَإنَّهُ قد استوفى من الْهدى مَالا مزِيد عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَيْسَ عِنْد ربه أفضل مِمَّا أعطَاهُ بعد وَلَا أَكثر وَقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 أمرنَا عز وَجل أَن نقُول {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} فنص تَعَالَى على أمرنَا بِطَلَب العون مِنْهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَو لم يكن هَا هُنَا عون خَاص من آتَاهُ الله إِيَّاه اهْتَدَى وَمن حرمه إِيَّاه اهْتَدَى وَمن حرمه إِيَّاه وخذله ضل لما كَانَ لهَذَا الدُّعَاء معنى لِأَن النَّاس كلهم كَانُوا يكونُونَ معانين منعماً عَلَيْهِم مهديين وَهَذَا بِخِلَاف النَّص الْمَذْكُور وَقَالَ تَعَالَى {ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} فنص تَعَالَى على أَنه ختم على قُلُوب الْكَافرين وَإِن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بَينهم وَبَين قَول الْحق فَمن هُوَ الْجَاعِل هَذِه الغشاوة على سمعهم وعَلى أَبْصَارهم إِلَّا الَّذِي ختم على قُلُوبهم عز وَجل وَهَذَا هُوَ الخذلان الَّذِي ذكرنَا ونعوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهَذَا نَص على أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِيمَان مَا دَامَ ذَلِك الْخَتْم على قُلُوبهم والغشاوة على أَبْصَارهم وأسماعهم فَلَو أزالها تَعَالَى لآمنوا أَلا أَن يعْجزُوا رَبهم عز وَجل عَن إِزَالَة ذَلِك فَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا} فنص تَعَالَى كَمَا ترى على أَنه من لم يتفضل عَلَيْهِ وَلم يرحمه اتبع الشَّيْطَان ضَرُورَة فصح ان التَّوْفِيق بِهِ يكون الْإِيمَان وَإِن الخذلان بِهِ يكون الْكفْر والعصيان وَهُوَ اتِّبَاع الشَّيْطَان وَمعنى قَوْله تَعَالَى أَلا قَلِيلا على ظَاهره وَهُوَ اسْتثِْنَاء من الْمُنعم عَلَيْهِم المرحومين الَّذين لم يتبعوا الشَّيْطَان برحمة الله تَعَالَى لَهُم أَي لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشَّيْطَان إِذْ رحمكم أَنْتُم فَلم تَتبعُوهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} وَهَذَا نَص مَا قُلْنَا أَن من أضلّهُ الله تَعَالَى لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْهدى وَأَن الضلال وَقع مَعَ الإضلال من الله تَعَالَى للْكَافِرِ وَالْفَاسِق وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده} فَأخْبر تَعَالَى أَن عِنْده هدى يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده فَيكون مهتدياً وَهَذَا تَخْصِيص ظَاهر كَمَا ترى وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وَإِن الله تَعَالَى قد نَص قَائِلا لنا أَن من أَرَادَ هَذَا شرح صَدره لِلْإِسْلَامِ فَآمن بِلَا شكّ وَإِن من أَرَادَ ضلاله وَلم يرد هداه ضيق صَدره وأحرجه حَتَّى يكون كمريد الصعُود إِلَى السَّمَاء فَهَذَا لَا يُؤمن الْبَتَّةَ وَلَا يَسْتَطِيع وَهُوَ فِي ظَاهره مستطيع بِصِحَّة جوارحه قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن الضال لمن ضل بعد مَا ذكرنَا من النُّصُوص الَّتِي لَا تحْتَمل تَأْوِيلا وَمن شَهَادَة خَمْسَة من الْأَنْبِيَاء إِبْرَاهِيم ومُوسَى ويوسف وَالْخضر وَمُحَمّد عَلَيْهِم السَّلَام بِأَنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ فعلا لشَيْء من الْخَيْر إِلَّا بِتَوْفِيق الله تَعَالَى لَهُم وَإِنَّهُم إِن لم يوفقهم ضلوا جَمِيعًا مَعَ مَا أوردنا من الْبَرَاهِين الضرورية الْمَعْرُوفَة بالحس وبديهة الْعقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عرف تراكيب الْأَخْلَاق المحمودة والمذمومة علم أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد غير مَا يفعل مِمَّا خلقه الله عز وَجل فِيهِ فتجد الْحَافِظ لَا يقدر على تَأَخّر الْحِفْظ والبليد لَا يقدر على الْحِفْظ والفهيم لَا يقدر على الغباوة والغبي لَا يَسْتَطِيع ذكاء الْفَهم والحسود لَا يقدر على ترك الْحَسَد والنزيه النَّفس لَا يقدر على الْحَسَد والحريص لَا يقدر على ترك الْحِرْص والبخيل لَا يقدر على الْبَذْل والجبان لَا يقدر على الشجَاعَة والكذاب لَا يقدر على ضبط نَفسه عَن الْكَذِب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 كَذَلِك يوجدون من طفوليتهم والسيء الْخلق لَا يقدر على الْحلم والحي لَا يقدر على القحة والوقح لَا يقدر على الْحيَاء والعي لَا يقدر على الْبَيَان والطيوش لَا يقدر على الصَّبْر والغضوب لَا يقدر على الْحلم والصبور لَا يقدر على الطيش والحليم لَا يقدر على الْغَضَب والعزيز النَّفس لَا يقدر على المهانة والمهين لَا يقدر على عزة النَّفس وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فصح أَنه لَا يقدر أحد إِلَّا على مَا يفعل بِمَا يتم الله تَعَالَى فيهم الْقُوَّة على فعله وَإِن كَانَ خلاف ذَلِك مُتَوَهمًا مِنْهُم بِصِحَّة البنية وَعدم الْمَانِع قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْمَلَائِكَة والحور الْعين وَالْجِنّ وَجَمِيع الْحَيَوَان كُله فِي الِاسْتِطَاعَة سَوَاء كَمَا ذكرنَا وَلَا فرق بَين شَيْء فِي ذَلِك كُله وَكلهمْ قد خلق الله عز وَجل فيهم الِاسْتِطَاعَة الظَّاهِرَة بِصِحَّة الْجَوَارِح وَلَا يكون مِنْهُم فعل إِلَّا بعون وَارِد من الله تَعَالَى إِذا ورد كَانَ الْفِعْل مَعَه وَلَا بُد قد خلق الله عز وَجل فيهم اخْتِيَارا وَإِرَادَة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غَيرهَا وَالْمَلَائِكَة وحور الْعين معصومون لم يخلق الله تَعَالَى فيهم مَعْصِيّة أصلا لَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَأما الَّذِي يقدر على كل مَا يفعل ومالا يفعل وَلم يزل قَادِرًا على كل مَا يخْطر بِالْقَلْبِ فَهُوَ وَاحِد لَا شريك لَهُ وَهُوَ الله عز وَجل لَيْسَ كمثله شَيْء وَلم يكن لَهُ كفوا أحد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْهدى والتوفيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد احتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله عز وَجل {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بَصيرًا إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً إِنَّا اعتدنا للْكَافِرِينَ سلاسل وأغلالاً وسعيراً} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حق وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين هجى بعض النَّاس لَا كلهم وَقَالَ تَعَالَى {إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل} وَهِي قِرَاءَة مَشْهُورَة عَن عَاصِم بِفَتْح الْيَاء من يهدي وَكسر الدَّال فَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من لم يهده وَقَالَ تَعَالَى {من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين أضلّ فَلم يهدهم وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين هدى غير الَّذِي أضلّ وَمثل هَذَا كثير وكل ذَلِك كَلَام الله عز وَجل وَكله حق لَا يتعارض وَلَا يبطل بعضه بَعْضًا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح يَقِينا أَن كل مَا أوردنا من الْآيَات فَكلهَا مُتَّفق لَا مُخْتَلف فَنَظَرْنَا فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة فَوَجَدْنَاهَا ظَاهِرَة لائحة وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أخبر أَنه هدى ثَمُود فَلم يهتدوا وَهدى النَّاس كلهم السَّبِيل ثمَّ هم بعد إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً وَأخْبر تَعَالَى فِي الْآيَات الْأُخَر أَنه هدى قوما فاهتدوا وَلم يهد آخَرين فَلم يهتدوا فَعلمنَا ضَرُورَة أَن الْهدى الَّذِي أعطَاهُ الله عز وَجل جَمِيع النَّاس هُوَ غير الَّذِي أعطَاهُ بَعضهم وَمنعه بَعضهم فَلم يعطهم إِيَّاه هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 أَمر مَعْلُوم بضرورة الْعقل وبديهته فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد لَاحَ الْأَمر وَهُوَ أَن الْهدى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة وَهِي الَّتِي يَقع الِاسْم مِنْهَا على مسمين مُخْتَلفين بنوعهما فَصَاعِدا فالهدى يكون بِمَعْنى الدّلَالَة تَقول هديت فلَانا الطَّرِيق بِمَعْنى أربته إِيَّاه ووقفته عَلَيْهِ وأعلمته إِيَّاه سَوَاء سلكه أَو تَركه وَتقول فلَان هاد بِالطَّرِيقِ أَي دَلِيل فِيهِ فَهَذَا الْهدى الَّذِي هداه الله ثَمُود وَجَمِيع الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْأنس كافرهم ومؤمنهم لِأَنَّهُ تَعَالَى دلهم على الطَّاعَات والمعاصي وعرفهم مَا يسْخط مِمَّا يُرْضِي فَهَذَا معنى وَيكون الْهدى بِمَعْنى التَّوْفِيق والعون على الْخَيْر والتيسير لَهُ وخلقه لقبُول الْخَيْر فِي النُّفُوس فَهَذَا هُوَ الَّذِي أعطَاهُ الله عز وَجل الْمَلَائِكَة كلهم والمهتدين من الْإِنْس وَالْجِنّ وَمنعه الْكفَّار من الطَّائِفَتَيْنِ والفاسقين فِيمَا فسقوا فِيهِ وَلَو أَعْطَاهُم إِيَّاه تَعَالَى لما كفرُوا وَلَا فسقوا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمِمَّا يبين هَذَا قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة {إِنَّا هديناه السَّبِيل} فَبين تَعَالَى أَن الَّذِي هدَاهُم لَهُ فَهُوَ الطَّرِيق فَقَط وَكَذَلِكَ أَيْضا قَوْله تَعَالَى {ألم نجْعَل لَهُ عينين وَلِسَانًا وشفتين وهديناه النجدين} فَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَهَذَا بِلَا شكّ غير مَا هدى جَمِيعهم عَلَيْهِ من الدّلَالَة والتبيين للحق من الْبَاطِل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَوله تَعَالَى {أَن الَّذين كفرُوا وظلموا لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا نَص جلي على مَا قُلْنَا وَبَيَان أَن الدّلَالَة لَهُم على طَرِيق جَهَنَّم يحملون فِيهِ إِلَيْهَا هدى لَهُم إِلَى تِلْكَ الطَّرِيق وَنفى عَنْهُم تَعَالَى فِي الْآخِرَة كل هدى إِلَى شَيْء من الطّرق إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم ونعوذ بِاللَّه من الضلال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بعض من يتعسف القَوْل بِلَا علم أَن قَول الله عز وَجل {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل} وَقَوله تَعَالَى {وهديناه النجدين} إِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى بِكُل ذَلِك الْمُؤمنِينَ خَاصَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا تَخْصِيص الْآيَات بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَالثَّانِي أَن نَص الْآيَات يمْنَع من التَّخْصِيص وَلَا بُد وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} فَرد تَعَالَى الضَّمِير فاستحبوا الْعَمى على الْهدى إِلَى المهديين أنفسهم فصح أَن الَّذين هُدُوا لم يهتدوا وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} وَقَالَ لَهُ تَعَالَى {وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} فصح يَقِينا أَن الْهدى الْوَاجِب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الدّلَالَة وَتَعْلِيم الدّين وَهُوَ غير الْهدى الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ لله تَعَالَى وَحده فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله عز وَجل {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَلَيْسَ هَذَا على مَا أَظُنهُ من لَا ينعم النّظر من أَن الله وَحده لَو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظَاهر الْآيَة مُبْطل لهَذَا الظَّن لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فصح يَقِينا أَن من علم الله تَعَالَى فِيهِ خيرا أسمعهُ وَثَبت أَن فِيهِ خيرا ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فصح يَقِينا أَنه أَرَادَ بِلَا شكّ أَنه لَو أسمعهم لتولوا عَن الْكفْر وهم معرضون عَنهُ لَا يجوز غير هَذَا أصلا لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَن إسماعه لَا يكون إِلَّا لمن علم فِيهِ خيرا وَمن الْمحَال الْبَاطِل أَن يكون من علم الله تَعَالَى فِيهِ خيرا يتَوَلَّى عَن الْخَيْر ويعرض عَنهُ فَبَطل مَا حرفوه بظنونهم من كَلَام الله عز وَجل وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} فَإِنَّهُ تَعَالَى قسم من هدى السَّبِيل قسمَيْنِ كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أَيْضا هدى السَّبِيل فَبَطل مَا توهموه من الْبَاطِل وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَصَحَّ مَا قُلْنَا الْكَلَام فِي الإضلال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تلونا من كَلَام الله تَعَالَى فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا وَالْبَاب الَّذِي فبله مُتَّصِلا بِهِ نصوصا كَثِيرَة بِأَن الله تَعَالَى أضلّ من شَاءَ من خلقه وَجعل صُدُورهمْ ضيقَة حرجة فَإِن اعْترضُوا بقول الله تَعَالَى عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْوُجُوه أَحدهَا أَنه قَول كفار قد قَالُوا الْكَذِب وَحكى الله تَعَالَى حِينَئِذٍ {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} فَإِن أَبَوا إِلَّا الِاحْتِجَاج بقول الْكفَّار فليجعلوه إِلَى جنب قَول إِبْلِيس {رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض} وَالْوَجْه الثَّانِي أننا لَا ننكر إضلال الْمُجْرمين وإضلال إِبْلِيس لَهُم وَلكنه إضلال آخر لَيْسَ إضلال الله تَعَالَى لَهُم وَالثَّالِث أَنه لَا عذر لأحد فِي أَن الله تَعَالَى أضلّهُ وَلَا لوم على الْخَالِق تَعَالَى فِي ذَلِك وَأما من أضلّ آخر من دون الله تَعَالَى فَهُوَ ملوم وَقد فسر الله تَعَالَى إضلاله لمن يضل كَيفَ هُوَ وَفسّر تَعَالَى ذَلِك الإضلال تَفْسِيرا أغنانا بِهِ عَن تَفْسِير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجاحظ والناشي وَمَا هُنَالك من الْأَحْزَاب وَمن تَبِعَهُمْ من الْجُهَّال فَبين تَعَالَى فِي نَص الْقُرْآن أَن إضلاله لمن أضلّ من عباده إِنَّمَا هُوَ أَن يضيق صَدره عَن قبُول الْإِيمَان وَأَن يحرجه حَتَّى لَا يرغب فِي تفهمه والجنوح إِلَيْهِ وَلَا يصبر عَلَيْهِ ويوعر عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْحق حَتَّى يكون كَأَنَّهُ يتَكَلَّف فِي ذَلِك الصعُود إِلَى السَّمَاء وَفسّر ذَلِك أَيْضا عز وَجل فِي آيه أُخْرَى قد تلوناها آنِفا بِأَنَّهُ يَجْعَل أكنه على قُلُوب الْكَافرين يحول بَين قُلُوبهم وَبَين تفهم الْقُرْآن والإصاغة لبيانه وهداه وَإِن يفقهوه وَإنَّهُ جعل تَعَالَى بَينهم وَبَين قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِجَابا مَانِعا لَهُم من الْهدى وَفَسرهُ أَيْضا تَعَالَى بِأَنَّهُ ختم على قُلُوبهم وطبع عَلَيْهَا فامتنعوا بذلك من وُصُول الْهدى إِلَيْهَا وَفسّر تَعَالَى إضلال من دونه فَقَالَ تَعَالَى أَنه جعلهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَفسّر تَعَالَى أَيْضا الْقُوَّة الَّتِي أَعْطَاهَا الْمُؤمنِينَ وحرمها الْكَافرين بِأَنَّهَا تثبيت على قبُول الْحق وَأَنه تَعَالَى يشْرَح صُدُورهمْ لفهم الْحق واعتقاده وَالْعَمَل بِهِ وَأَنه صرف لكيد الشَّيْطَان ولفتنته عَنْهُم نسْأَل الله أَن يمدنا بِهَذِهِ الْعَطِيَّة وَأَن يصرف عَنَّا الإضلال بمنه وَإِن لَا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فقد خَابَ وخسر من ظن فِي نَفسه أَنه قد اسْتكْمل القوى حَتَّى اسْتغنى عَن أَن يزِيدهُ الله تَعَالَى تَوْفِيقًا وعصمة وَلم يحْتَج إِلَى خالقه فِي أَن يصرف عَنهُ فتنته وَلَا كَيده لَا سِيمَا من جعل نَفسه أقوى على ذَلِك من خالقه تَعَالَى وَلم يَجْعَل عِنْد خالقه قوه يصرف بهَا عَنهُ كيد الشَّيْطَان نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا امتحنهم بِهِ ونبرأ إِلَى الله خالقنا تَعَالَى من الْحول وَالْقُوَّة كلهَا إِلَّا مَا أَتَانَا مِنْهَا متفضلاً علينا وَأما كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من إضلال الشَّيَاطِين للنَّاس وإنسائهم إيَّاهُم ذكر الله تَعَالَى وتزينهم لَهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 ووسوستهم وَفعل بعض النَّاس ذَلِك بِبَعْض فَصَحِيح كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن دون تكلّف وَهَذَا كُله إِلْقَاء لما ذكرنَا فِي قُلُوب النَّاس وَهُوَ من الله تَعَالَى خلق لكل ذَلِك فِي الْقُلُوب وخالق لأفعال هَؤُلَاءِ المضلين من الْجِنّ وَالْإِنْس وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {حسداً من عِنْد أنفسهم} لِأَنَّهُ فعل أضيف إِلَى النَّفس لظُهُوره مِنْهَا وَهُوَ خلق الله تَعَالَى فِيهَا فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} فَهُوَ كَمَا قَالَ الله عز وَجل وَهُوَ حجَّة على الْمُعْتَزلَة لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَنه لَا يضل قوما حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ وَمَا يلْزمهُم وَصدق الله عز وَجل لِأَن الْمَرْء قبل أَن يَأْتِيهِ خبر الرَّسُول غير ضال بِشَيْء مِمَّا يفعل اصلاً فَإِنَّمَا سمي الله تَعَالَى فعله فِي العَبْد إضلالاً بعد بُلُوغ الْبَيَان إِلَيْهِ لَا قبل ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصح بِهَذِهِ الْآيَة أَنه تَعَالَى يضلهم بعد ان يبين لَهُم وَقد فسر بَعضهم الإضلال بِأَنَّهُ منع اللطف الَّذِي يَقع بِهِ الْإِيمَان فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونصوص الْقُرْآن تزيد على هَذَا الْمَعْنى زِيَادَة لَا شكّ فِيهَا وتوجب أَن الإضلال معنى زَائِد أعطَاهُ الله للْكفَّار والعصاة وَهُوَ مَا ذكرنَا من تضييق الصُّدُور وتحريجها والختم على الْقُلُوب والطبع عَلَيْهَا وأكنانها عَن أَن يفقهوا الْحق فَإِن قَالُوا إِن هَذَا فعل النُّفُوس كلهَا إِن لم يمدها الله تَعَالَى بِتَوْفِيق قُلْنَا لَهُم من خلقهَا هَذِه الْخلقَة الْمفْسدَة فَإِن لم يؤيدها بالتوفيق فَإِن قَالُوا الله تَعَالَى هُوَ خلقهَا كَذَلِك أقرُّوا بِأَن الله تَعَالَى أَعْطَاهَا هَذِه البلية وَركب فِيهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة فَإِن فروا إِلَى قَول معمر والجاحظ أَن هَذَا كُله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وَقُلْنَا لَهُم فَمن خلق النَّفس وَخلق فِيهَا هَذِه الطبيعة الْمُوجبَة لهَذِهِ الأفاعيل فَإِن قَالُوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقرُّوا بِأَن الله أَعْطَاهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة لَهَا إِن لم يمدها بلطف وتوفيق وَكَذَلِكَ إِن قَالُوا إِن النَّفس هِيَ فعلت الطبيعة الْمُوجبَة لهَذِهِ المهالك كَانُوا مَعَ خُرُوجهمْ من الْإِسْلَام بِهَذَا القَوْل محيلين أَيْضا محالاً ظَاهرا لِأَن النَّفس لَو فعلت هِيَ طبيعتها لكَانَتْ إِمَّا مختارة لفعلها وَإِمَّا مضطرة إِلَى فعلهَا على مَا هِيَ عَلَيْهَا فَإِن كَانَت مختارة فقد يجب أَن تقع طبيعتها مرَارًا بِخِلَاف مَا لَا تُوجد إِلَّا عَلَيْهِ وَإِن كَانَت مضطرة فَمن خلقهَا مضطرة إِلَى هَذَا الْفِعْل فَلَا بُد من أَنه الله تَعَالَى فَرَجَعُوا ضَرُورَة إِلَى أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة الَّتِي بهَا كَانَت الْمعْصِيَة مَعَ أَنه لم يقل أحد من الْمُسلمين أَن النَّفس أحدثت طبيعتها مَعَ أَنه أَيْضا قَول يُبطلهُ الْحس والمشاهدة وضرورة الْعقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما القائلو بالأصلح من الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم انْقَطَعُوا هَا هُنَا وَقَالُوا لَا نَدْرِي مَا معنى الإضلال وَلَا معنى الْخَتْم على قُلُوبهم وَلَا الطَّبْع عَلَيْهَا وَقَالَ بَعضهم معنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى سماهم ضَالِّينَ وَحكم انهم ضالون وَقَالَ بَعضهم معنى أضلهم أتلفهم كَمَا تَقول ضللت بَعِيري وَهَذِه كلهَا دعاوي بِلَا برهَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم نجد لَهُم تَأْوِيلا أصلا فِي قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الضلال حَقًا وَهُوَ أَن يحملهم اللجاج والعمى فِي لُزُوم أصل قد ظهر فَسَاده وتقليد من لَا خير فِيهِ من أسلافهم على أَن يدعوا أَنهم لَا يعْرفُونَ مَا معنى الإضلال والختم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 والطبع والأكنة على الْقُلُوب وَقد فسر الله كل ذَلِك تَفْسِيرا جلياً وَأَيْضًا فَإِنَّهَا أَلْفَاظ عَرَبِيَّة مَعْرُوفَة الْمعَانِي فِي اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن فَلَا يحل لأحد صرف لَفْظَة مَعْرُوفَة الْمَعْنى فِي اللُّغَة عَن مَعْنَاهَا الَّذِي وضعت لَهُ فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن إِلَى معنى غير مَا وضعت لَهُ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص قُرْآن أَو كَلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو إِجْمَاع من عُلَمَاء الْأمة كلهَا على أَنَّهَا مصروفة عَن ذَلِك الْمَعْنى إِلَى غَيره أَو يُوجب صرفهَا ضَرُورَة حس أَو بديهة عقل فَيُوقف حِينَئِذٍ عِنْدَمَا جَاءَ من ذَلِك وَلم يَأْتِ فِي هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي أضلهم الله تَعَالَى فِيهَا وَخَيرهمْ الشَّيْطَان عَن فهمها نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا ضَرُورَة بِأَنَّهَا مصروفة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة بل قد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ميسر لما خلق لَهُ فَبين عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْهدى والتوفيق هُوَ تيسير الله تَعَالَى للخير الَّذِي لَهُ خلقه وَأَن الخذلان تيسيره الْفَاسِق للشر الَّذِي لَهُ خلقه وَهَذَا مُوَافق للغة وَالْقُرْآن والبراهين الضرورية الْعَقْلِيَّة وَلما عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة المحدثون من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ وَعَامة الْمُسلمين حاشا من أضلّهُ الله على علم من أَتبَاع العيارين الْخُلَفَاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونبين هَذَا أَيْضا بَيَانا طبيعياً ضَرُورِيًّا لَا خَفَاء بِهِ بعون الله تَعَالَى وتأييده على من لَهُ أدنى بصر بِالنَّفسِ وأخلاقها وقدرة الله تَعَالَى فِي اختراعها فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله عز وَجل خلق نفس الْإِنْسَان مُمَيزَة عَاقِلَة عارفة بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فهمه بِمَا تخاطب بِهِ وَجعلهَا مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وَخلق فِيهَا قوتين متعاديتين متضادتين فِي التَّأْثِير وهما التَّمْيِيز والهوى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تُرِيدُ الْغَلَبَة على آثَار النَّفس فالتمييز هُوَ الَّذِي خص نفس الْإِنْسَان وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة دون الْحَيَوَان الَّذِي لَا يُكَلف وَالَّذِي لَيْسَ ناطقاً والهوى هُوَ الَّذِي يشاركها فِيهِ نفوس الْجِنّ وَالْحَيَوَان الَّذِي لَيْسَ ناطقاً من حب اللَّذَّات وَالْغَلَبَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْقُوَّة فِي كل الْحَيَوَان حاشا الْمَلَائِكَة فَإِنَّمَا فِيهَا قُوَّة التَّمْيِيز فَقَط وَلذَلِك لم يَقع مِنْهَا مَعْصِيّة أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِذا عصم الله النَّفس غلب التَّمْيِيز بِقُوَّة من عِنْده هِيَ لَهُ مدد وَعون فجرت أَفعَال النَّفس على مَا رتب الله عز وَجل فِي تمييزها من فعل الطَّاعَات وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسمى الْعقل وَإِذا خذل جلّ وَعز النَّفس أمد الْهوى بِقُوَّة هِيَ الإضلال فجرت أَفعَال النَّفس على مَا رتب الله عز وَجل فِي هَواهَا من الشَّهَوَات وَحب الْغَلَبَة والحرص وَالْبَغي والحسد وَسَائِر الْأَخْلَاق الرذلة والمعاصي وَقد قَامَت الْبَرَاهِين على أَن النَّفس مخلوقة وَكَذَلِكَ جَمِيع قواها المنتجة عو قوتيها الأولتين التَّمْيِيز والهوى كل ذَلِك مَخْلُوق مركب فِي النَّفس مُرَتّب على مَا هُوَ عَلَيْهِ فِيهَا كل جَار على طَبِيعَته الْمَخْلُوق لجري كيفياته بهَا على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِذا قد صَحَّ أَن كل ذَلِك خلق الله تَعَالَى فَلَا مغلب لبَعض ذَلِك على بعض إِلَّا خَالق الْكل وَحده لَا شريك لَهُ وَقد نَص الله تَعَالَى على ذمّ النَّفس جملَة إِلَّا من رَحمهَا الله تَعَالَى وعصمها قَالَ جلّ وَعز {أَن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي} فَأخْبر عز وَجل بِنَصّ مَا قُلْنَا فصح أَن المرحومة المستثناة لَا تَأمر بِسوء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ الله تَعَالَى {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} وذم الله تَعَالَى الْهوى فِي غير مَا مَوضِع من كِتَابه وَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الْكَلَام فِي الْقَضَاء وَالْقدر قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب بعض النَّاس لِكَثْرَة اسْتِعْمَال الْمُسلمين هَاتين اللفظتين إِلَى أَن ظنُّوا أَن فيهمَا معنى الْإِكْرَاه والإجبار وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا وَإِنَّمَا معنى الْقَضَاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبهَا نتخاطب ونتفاهم مرادنا أَنه الحكم فَقَط وَلذَلِك يَقُولُونَ القَاضِي بِمَعْنى الْحَاكِم وَقضى الله عز وَجل بِكَذَا أَي حكم بِهِ وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَمر قَالَ تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا خلاف أَنه تَعَالَى أَمر أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أخبر قَالَ الله تَعَالَى {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر إِن دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مصبحين} بِمَعْنى أخبرناه أَن دابرهم مَقْطُوع بالصباح وَقَالَ تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} أَي أخبرناهم بذلك وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَرَادَ وَهُوَ قريب من معنى حكم قَالَ الله تَعَالَى {إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَمعنى ذَلِك حكم بِكَوْنِهِ فكونه وَمعنى الْقدر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة التَّرْتِيب وَالْحَد الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الشَّيْء تَقول قدرت الْبناء تَقْديرا إِذا رتبته وحددته قَالَ تَعَالَى {وَقدر فِيهَا أقواتها} بِمَعْنى رتب أقواتها وحددها وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} يُرِيد تَعَالَى برتية وحد فَمَعْنَى قضى وَقدر حكم ورتب وَمعنى الْقَضَاء وَالْقدر حكم الله تَعَالَى فِي شَيْء بِحَمْدِهِ أَو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كَذَا وَإِلَى وَقت كَذَا فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْبَدَل قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ بعض الْقَائِلين بالاستطاعة مَعَ الْفِعْل إِذا سُئِلَ هَل يَسْتَطِيع الْكَافِر مَا أَمر بِهِ من الْإِيمَان أم لَا يستطيعه فَأجَاب أَن الْكَافِر مستطيع للْإيمَان على الْبَدَل بِمَعْنى أَن لَا يتمادى فِي الْكفْر لَكِن يقطعهُ ويبدل مِنْهُ الْإِيمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي يجب أَن يُجيب بِهِ هُوَ الْجَواب الَّذِي بَينا صِحَّته بحول الله تَعَالَى وقوته فِي كلامنا فِي الِاسْتِطَاعَة وَهُوَ ان تَقول هُوَ مستطيع فِي ظَاهر الْأَمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للْجمع بَين الْإِيمَان وَالْكفْر مَا دَامَ كَافِرًا وَمَا دَامَ لَا يؤتيه الله جلّ وَعز العون فَإِذا آتَاهُ إِيَّاه تمت الإستطاعة وَفعل وَلَا بُد فَإِن قيل فَهُوَ مُكَلّف مَأْمُور قُلْنَا نعم فَإِن قيل أهوَ عَاجز عَمَّا هُوَ مَأْمُور بِهِ ومكلف أَن يَفْعَله قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هُوَ غير عَاجز بِظَاهِر بنيته لِسَلَامَةِ جوارحه وارتفاع الْمَوَانِع وَهُوَ عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده مَا لم ينزل الله تَعَالَى لَهُ العون فَيتم ارْتِفَاع الْعَجز عَنهُ وَيُوجد الْفِعْل وَلَا بُد وَتقول أَن الْعَجز فِي اللُّغَة إِنَّمَا يَقع على الْمَمْنُوع بِآفَة على الْجَوَارِح أَو بمانع ظَاهر إِلَى الْحَواس والمأمور بِالْفِعْلِ لَيْسَ فِي ظَاهر أمره عَاجِزا إِذْ لَا آفَة فِي جوارحه وَلَا مَانع لَهُ ظَاهرا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده وَبَين الْفِعْل وَتَركه وَعَن فعل مَا لم يؤته الله عوناً عَلَيْهِ وَعَن تَكْذِيب علم الله تَعَالَى الَّذِي لم يزل بِأَنَّهُ لم يفعل إِلَّا مَا سبق علمه تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْحَقِيقَة الْجَواب فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قيل فَهُوَ ختار لما يفعل قُلْنَا نعم اخْتِيَارا صَحِيحا لَا مجَازًا لِأَنَّهُ مُرِيد لكَونه مِنْهُ محب لَهُ مُؤثر على تَركه وَهَذَا معنى لَفْظَة الِاخْتِيَار على الْحَقِيقَة وَلَيْسَ مُضْطَرّا وَلَا مجبراً وَلَا مكْرها لِأَن هَذِه أَلْفَاظ فِي اللُّغَة لَا تقع إِلَّا على الكاره لما يكون مِنْهُ فِي هَذِه الْحَال وَقد يكون الْمَرْء مُضْطَرّا مُخْتَارًا مكْرها فِي حَالَة وَاحِدَة كإنسان فِي رجله أَكلَة لَا دَوَاء لَهُ إِلَّا بقطعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 فيأمر أعوانه مُخْتَارًا لأَمره إيَّاهُم بقطعها وبحسمها بالنَّار بعد الْقطع وَيَأْمُرهُمْ بإمساكه وَضَبطه وَأَن لَا يلتفتوا إِلَى صياحه وَلَا إِلَى أمره لَهُم بِتَرْكِهِ إِذا أحس الْأَلَم ويتوعدهم على التَّقْصِير فِي ذَلِك بِالضَّرْبِ والنكال الشَّديد فيفعلون بِهِ ذَلِك فَهُوَ مُخْتَار لقطع رجله إِذْ لَو كره ذَلِك كَرَاهَة تَامَّة لم يكرههُ أحد على ذَلِك وَهُوَ بِلَا شكّ كَارِه لقطعها مُضْطَر إِلَيْهِ إِذْ لَو وجد سَبِيلا بِوَجْه من الْوُجُوه دون الْمَوْت إِلَى ترك قطعهَا وَلم يقطعهَا وَهُوَ مجبر مكره بالضبط من أعوانه حَتَّى يتم الْقطع والحسم إِذْ لَو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يُمكن من قطعهَا الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يُنكر الجاهلون أَن يكون أحد يُوجد مُخْتَارًا من وَجه مكْرها من وَجه آخر عَاجِزا من وَجه مستطيعا من آخر قَادِرًا من وَجه مَمْنُوعًا من آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد الْكَلَام فِي خلق الله عز وَجل لأفعال خلقه قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلفُوا فِي خلق الله تَعَالَى لأفعال عباده فَذهب أهل السّنة كلهم وكل من قَالَ بالاستطاعة مَعَ الْفِعْل كالمريسي وَابْن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وَطَوَائِف من الْخَوَارِج والمرجئة والشيعة إِلَى ان جَمِيع أَفعَال الْعباد مخلوقة خلقهَا الله عز وَجل فِي الفاعلين لَهَا وَوَافَقَهُمْ على هَذَا مُوَافقَة صَحِيحَة من الْمُعْتَزلَة ضرار بن عَمْرو وَصَاحبه أَبُو يحيى حَفْص الْفَرد وَذهب سَائِر الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم على ذَلِك من المرجئة والخوارج والشيعة إِلَى أَن أَفعَال الْعباد محدثة فعلهَا فاعلوها وَلم يخلقها الله عز وَجل على تَخْلِيط مِنْهُم فِي مائية أَفعَال النَّفس إِلَّا بشر بن الْمُعْتَمِر عطف فَقَالَ إِلَّا أَنه لَيْسَ شَيْء من أَفعَال الْعباد إِلَّا وَللَّه تَعَالَى فِيهِ فعل من طَرِيق الِاسْم وَالْحكم يُرِيد بذلك أَنه لَيْسَ للنَّاس فعل إِلَّا وَللَّه تَعَالَى فِيهِ حكم بِأَنَّهُ صَوَاب أَو خطأ ونسميه بِأَنَّهُ حسن أَو قَبِيح طَاعَة أَو مَعْصِيّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أدّى هَذَا القَوْل الْفَاحِش الملعون رجلا من كبار الْمُعْتَزلَة وَهُوَ عباد بن سلمَان تلميذ هِشَام بن عَمْرو الفوطي إِلَى أَن قَالَ أَن الله تَعَالَى لم يخلق الْكفَّار لأَنهم نَاس وَكفر مَعًا لَكِن خلق أجسامهم دون كفرهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيلْزمهُ مثل هَذَا نَفسه فِي الْمُؤمنِينَ وَفِي جَمِيع الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُؤمن وَكَافِر وَالْمُؤمن إِنْسَان وإيمانه أَو ملك وإيمانه أَو جني وإيمانه وكفره فعلى قَول هَذَا البائس السخيف لَا يجوز أَن يُقَال إِن لله تَعَالَى خلق من النَّاس وَلَا الْجِنّ وَلَا الْمَلَائِكَة سعيد بل يكون القَوْل بِهَذَا كذبا وحسبك بِهَذَا القَوْل خلافًا لِلْقُرْآنِ وللمسلمين وَقَالَ معمر والجاحظ أَن أَفعَال الْعباد كلهَا لَا فعل لَهُم فِيهَا وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِم مجَازًا لظهورها مِنْهُم وَإِنَّهَا فعل الطبيعة حاشا الْإِرَادَة فَقَط فَإِنَّهُ لَا فعل للْإنْسَان غَيرهَا الْبَتَّةَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن تدبر هَذَا القَوْل علم أَنه أقبح من قَول جهم وَجَمِيع الْمُجبرَة لأَنهم جعلُوا أَفعَال الْعباد طبيعة اضطرارية كَفعل النَّار للإحراق بطبعها وَفعل الثَّلج للتبريد بطبعه وَفعل السقمونيا فِي إحدارها الصَّفْرَاء بطبعها وَهَذِه صفة الْأَمْوَات لَا صفة الْأَحْيَاء المختارين وَإِذا لم يبْق على قَول هذَيْن الرجلَيْن للْإنْسَان فعل إِلَّا الْإِرَادَة فقد وجدنَا الْإِرَادَة لَا يقدر الْإِنْسَان على صرفهَا وَلَا إحالتها وَلَا على تبديلها بِوَجْه من الْوُجُوه وَإِنَّمَا يظْهر من الْمَرْء تَبْدِيل حركاته وسكونه وَأما إِرَادَته فَلَا حِيلَة لَهُ فِيهَا وَنحن نجد كل قوي الْآلَة من الرِّجَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 يحب وَطْء كل جميلَة يسْتَمْتع بهَا لَوْلَا التَّقْوَى وَيُحب النّوم عَن الصَّلَاة فِي اللَّيَالِي الْقَاهِرَة والهواجر الحارة وَيُحب الْأكل فِي أَيَّام الصَّوْم وَيُحب إمْسَاك مَاله عَن الزَّكَاة وَإِنَّمَا يَأْتِي خلاف مَا يُرِيد مغالبة لإرادته وقهراً لَهَا وَأما صرفا لَهَا فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ فقد تمّ الْإِخْبَار صَحِيحا على قَول هذَيْن الرجلَيْن وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد والبرهان على صِحَة قَول من قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق أَعمال الْعباد كلهَا نُصُوص من الْقُرْآن وبراهين ضَرُورِيَّة منتجة من بديهة الْعقل والحس لَا يغيب عَنْهَا إِلَّا جَاهِل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَمن النُّصُوص قَول الله عز وَجل {هَل من خَالق غير الله} قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كَاف لمن عقل وَاتَّقَى الله وَقد قَالَ لي بَعضهم إِنَّمَا أنكر الله تَعَالَى أَن يكون هَاهُنَا خَالق غَيره يرزقنا كَمَا فِي نَص الْآيَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَجَوَاب هَذَا أَنه لَيْسَ كَمَا ظن هَذَا الْقَائِل بل الْقَضِيَّة قد تمت فِي قَوْله غير الله ثمَّ ابْتَدَأَ عز وَجل بتعديد نعمه علينا فَأخْبرنَا أَنه يرزقنا من السَّمَاء وَالْأَرْض وَقَالَ تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَهَذَا برهَان جلي على أَن الدّين مَخْلُوق لله عز وَجل وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضراً وَلَا نفعا وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمِنْهُم من يعبد الْمَسِيح وَقَالَت الْمَلَائِكَة وَصَدقُوا بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ فصح أَن كل مَا عبدوه وَمِنْهُم الْمَسِيح وَالْجِنّ لَا يخلقون شَيْئا وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضراً وَلَا نفعا فَثَبت يَقِينا أَنهم مصرفون مدبرون وَأَن أفعالهم مخلوقة لغَيرهم وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا نَص جلي على إبِْطَال أَن يخلق أحد دون الله تَعَالَى شَيْئا لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَاهُنَا أحد غَيره تَعَالَى يخلق لَكَانَ من يخلق مَوْجُودا جِنْسا فِي حيّز وَمن لَا يخلق جِنْسا آخر وَكَانَ الشّبَه بَين من يخلق مَوْجُودا وَكَانَ من لَا يخلق لَا يشبه من يخلق وَهَذَا إلحاد عَظِيم فصح بِنَصّ هَذِه الْآيَة أَن الله تَعَالَى هُوَ يخلق وَحده وكل من عداهُ لَا يخلق شَيْئا فَلَيْسَ أحد مثله تَعَالَى فَلَيْسَ من يخلق وَهُوَ الله تَعَالَى كمن لَا يخلق وَهُوَ كل من سواهُ وَقَالَ تَعَالَى {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} وَهَذَا نَص جلي من كذبه كفر وَقد علمنَا أَنه تَعَالَى لم يَأْمر بِتِلْكَ الوجهات كلهَا بل فِيهَا كفر قد نهى الله عز وَجل عَنهُ فَلم يبْق إِذْ هُوَ مولي كل وجهة إِلَّا أَنه خَالق كل وجهة لَا أحدا من النَّاس وَهَذَا كَاف لمن عقل ونصح نَفسه وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} وَهَذَا إِيجَاب لِأَن الله تَعَالَى خلق كل مَا فِي الْعَالم وَإِن كل من دونه لَا يخلق شَيْئا أصلا وَلَو كَانَ هَهُنَا خَالق لشَيْء من الْأَشْيَاء غير الله تَعَالَى لَكَانَ جَوَاب هَؤُلَاءِ المقررين جَوَابا قَاطعا ولقالوا لَهُ نعم نريك أفعالنا خلقهَا من دُونك وَنعم هَاهُنَا خالقون كثير وهم نَحن لأفعالنا وَقَوله عز وَجل {أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء} وَهَذَا بَيَان وَاضح لَا خَفَاء بِهِ لِأَن الْخلق كُله جَوَاهِر وإعراض وَلَا شكّ فِي أَنه لَا يفعل الْجَوَاهِر أحد دون الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يَفْعَله الله عز وَجل وَحده فَلم تبْق إِلَّا الْأَعْرَاض فَلَو كَانَ الله عز وَجل خَالِقًا لبَعض الْأَعْرَاض وَيكون النَّاس خالقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 لبعضها لكانوا شُرَكَاء فِي الْخلق ولكانوا قد خلقُوا كخلقة خلق إعْرَاضًا وخلقوا إعْرَاضًا وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى ورد لِلْقُرْآنِ مُجَردا فصح أَنه لَا يخلق شَيْئا غير الله عز وَجل وَحده والخلق هُوَ الاختراع فَالله مخترع أفعالنا كَسَائِر الْأَعْرَاض وَلَا فرق فَإِن نفورا خلق الله تَعَالَى لجَمِيع الْأَعْرَاض لَزِمَهُم أَن يَقُولُوا أَنَّهَا أَفعَال لغير فَاعل أَو أَنَّهَا فعل لمن ظَهرت مِنْهُ من الأجرام الجمادية وَغَيرهَا فَإِن قَالُوا هِيَ أَفعَال لغير فَاعل فَهَذَا قَول أهل الدَّهْر نصا ويكلمون حِينَئِذٍ بِمَا يكلم بِهِ أهل الدَّهْر وَإِن قَالُوا إِنَّهَا أَفعَال الإجرام كَانُوا قد جعلُوا الجمادات فاعلة مخترعة وَهَذَا بَاطِل محَال وَهُوَ أَيْضا غير قَوْلهم فالطبيعة لَا تفعل شَيْئا مخترعة لَهُ وَإِنَّمَا الْفَاعِل لما ظهر مِنْهَا خَالق الطبيعة الْمظهر مِنْهَا مَا ظهر فَهُوَ خَالق الْكل وَلَا بُد وَللَّه الْحَمد وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} أَنه خلقنَا وَخلق العيدان والمعادن الَّتِي تعْمل وَهَذَا نَص جلي على أَنه تَعَالَى خلق أَعمالنَا وَقد فسر بَعضهم قَوْله تَعَالَى وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ مِنْهَا الْأَوْثَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام سخيف دلّ على جهل قَائِله وعناده وانقطاعه لِأَنَّهُ لَا يَقُول أحد فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خوطبنا فِي الْقُرْآن وَبهَا نتفاهم فِيمَا بَيْننَا أَن الْإِنْسَان يعْمل الْعود أَو الْحجر هَذَا مَا لَا يجوز فِي اللُّغَة أصلا وَلَا فِي الْمَعْقُول وَإِنَّمَا يسْتَعْمل ذَلِك مَوْصُولا فَنَقُول عملت هَذَا الْعود صنماً وَهَذَا الْحجر وثناً فَإِنَّمَا بَين تَعَالَى خلقه الصنمية الَّتِي هِيَ شكل الصَّنَم وَنَصّ تَعَالَى على ذَلِك بقوله تَعَالَى {أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} فَإِنَّمَا عَملنَا النحت بِنَصّ الْآيَة وبضرورة الْمُشَاهدَة فَهِيَ الَّتِي عَملنَا وَهِي الَّتِي أخبرنَا تَعَالَى أَنه خلقهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكر عَن كَبِير مِنْهُم وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله الإسكافي أَنه كَانَ يَقُول أَن الله تَعَالَى لم يخلق العيدان وَلَا الطنابير وَلَا المزامير وَلَقَد يلْزم الْمُعْتَزلَة أَن توافقه على هَذَا لِأَن الْخَشَبَة لَا تسمى عودا وَلَا طنبورا وَلَو حلف إِنْسَان لَا يَشْتَرِي طنبوراً فَاشْترى خشباً لم يَحْنَث وَكَذَلِكَ لَو حلف أَن لَا يَشْتَرِي خشباً فَاشْترى طنبوراً لم يَحْنَث وَلَا يَقع فِي اللُّغَة على الطنبور اسْم خَشَبَة وَقَالَ تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَهِيَ مخلوقة بِنَصّ الْقُرْآن وَقد قَالَ بَعضهم إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} فَكَانَت أَعمال النَّاس مخلوقة فِي تِلْكَ الْأَيَّام قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم ينف الله عز وَجل ان يخلق شَيْئا بعد السِّتَّة أَيَّام بل قد قَالَ عز وَجل {يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَكَانَ هَذَا كُله فِي غير تِلْكَ السِّتَّة الْأَيَّام فَإذْ قد جَاءَ النَّص بِأَن الله تَعَالَى يخلق بعد تِلْكَ الْأَيَّام أبدا وَلَا يزَال يخلق بعد ناشئة الدُّنْيَا ثمَّ لَا يزَال يخلق نعيم أهل الْجنَّة وَعَذَاب أهل النَّار أبدا بِلَا نِهَايَة إِلَّا أَن عُمُوم خلقه تَعَالَى لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاقٍ على كل مَوْجُود وَقَالَ بَعضهم لَا نقُول أَن أَعمالنَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لِأَنَّهَا غير مماسة للسماء وَالْأَرْض قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عين التَّخْلِيط لِأَن الله تَعَالَى لم يشْتَرط المماسة فِي ذَلِك وَقد قَالَ تَعَالَى {والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} فصح ان السَّحَاب لَيست مماسة للسماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وَلَا للْأَرْض فَهِيَ إِذا على قَول هَذَا الْجَاهِل غير مخلوقة وَيلْزمهُ أَيْضا أَن يَقُول بقول معمر والجاحظ فِي أَن الله تَعَالَى لم يخلق الألوان وَلَا الطعوم وَلَا الروائح وَلَا الْمَوْت وَلَا الْحَيَاة لَان كل هَذَا غير مماس للسماء وَلَا للْأَرْض قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَول معمر والجاحظ أَن كل هَذَا فعل الطبيعة فغباوه شَدِيد وَجَهل بالطبيعة وَمعنى لفظ الطبيعة إِنَّمَا هِيَ قُوَّة الشَّيْء تجْرِي بهَا كيفياته على مَا هِيَ عَلَيْهِ وبالضرورة نعلم أَن تِلْكَ الْقُوَّة عرض لَا يعقل وكل مَا كَانَ مِمَّا لَا اخْتِيَار لَهُ من جسم أَو عرض كالحجارة وَسَائِر الجمادات فَمن نسب إِلَى مَا يظْهر مِنْهَا أَنَّهَا أفعالها مخترعه لَهَا فَهُوَ فِي غَايَة الْجَهْل وبالضرورة نعلم أَن تِلْكَ الْأَفْعَال خلق غَيرهَا فِيهَا وَلَا خَالق هَاهُنَا إِلَّا خَالق الْكل وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن بلغ هَهُنَا فقد كفانا الله تَعَالَى شَأْنه لمجاهرته بِالْجَهْلِ الْعَظِيم وَالْكفْر الْمُجَرّد فِي مُوَافَقَته أهل الدَّهْر وتكذيبه الْقُرْآن إِذْ يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقَوله تَعَالَى {يسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل} فَأخْبر تَعَالَى أَن تفاضلها فِي الطعوم من فعله عز وَجل نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وأقحمهم فِيهِ وَقَالَ معمر معنى قَوْله تَعَالَى {خلق الْمَوْت والحياة} إِنَّمَا مَعْنَاهُ الإماتة والإحياء قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَمَا زَاد على أَنه أبدى تَمام جَهله بِوَجْهَيْنِ بينين أَحدهمَا إحالته النَّص من كَلَام ربه تَعَالَى بِلَا دَلِيل وَالثَّانِي أَنه لم يزل عَمَّا لزمَه لِأَن الْمَوْت والحياة هما الأمانه والإحياء بِلَا شكّ لِأَن الْحَيَاة والإحياء هُوَ جمع النَّفس مَعَ الْجَسَد الْمركب الأرضي وَالْمَوْت والإماتة شَيْء وَاحِد وَهُوَ التَّفْرِيق بَين النَّفس والجسد الْمَذْكُور فَقَط فَإِذا كَانَ جمع النَّفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تَعَالَى فقد صَحَّ أَن الْمَوْت والحياة مخلوقان لَهُ تَعَالَى يَقِينا وَبَطل تمويه هَذَا الْمَجْنُون قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن النُّصُوص القاطعة فِي هَذَا قَول الله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} فلجأ بَعضهم إِلَى دَعْوَى الْخُصُوص وَذكروا قَول الله تَعَالَى {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا فاصبحوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} وَقَوله تَعَالَى {وَأُوتِيت من كل شَيْء} وَقَوله {فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن قَوْله تَعَالَى {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} بَيَان جلي على أَنَّهَا إِنَّمَا دمرت كل شَيْء أمرهَا الله تَعَالَى بتدميره لَا مَا لم يأمرها فَهُوَ عُمُوم لكل شَيْء أمرهَا بِهِ وَقَوله تَعَالَى {وَأُوتِيت من كل شَيْء} فَمن للتَّبْعِيض فَمن آتَاهُ الله شَيْئا من الْأَشْيَاء فقد آتَاهُ من كل شَيْء لِأَنَّهُ قد آتَاهُ بعض الْأَشْيَاء وَأما قَوْله تَعَالَى ففتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء فَحق وَنحن لاندري كَيْفيَّة ذَلِك الْفَتْح إِلَّا أننا نَدْرِي أَن الله تَعَالَى صدق فِيمَا قَالَ وَأَنه تَعَالَى إِنَّمَا آتَاهُم بعض الْأَشْيَاء الَّتِي فتح عَلَيْهِم أَبْوَابهَا ثمَّ لَو صَحَّ برهَان فِي بعض هَذَا الْعُمُوم أَنه لَيْسَ على ظَاهره وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لما وَجب من ذَلِك أَن يحمل كل عُمُوم على خلاف ظَاهره بل كل عُمُوم فعلى ظَاهره حَتَّى يقوم برهَان بِأَنَّهُ مَخْصُوص أَو أَنه مَنْسُوخ فَيُوقف عِنْده وَلَا يتَعَدَّى بالتخصيص وبالنسخ إِلَى مَا لم يقم برهَان بِأَنَّهُ مَنْسُوخ أَو مَخْصُوص وَلَو كَانَ غير هَذَا لما صحت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 حَقِيقَة فِي شَيْء من أَخْبَار الله تَعَالَى وَلَا صحت شَرِيعَة أبدا لِأَنَّهُ لَا يعجز أحد فِي أَمر من أوَامِر الله تَعَالَى وَفِي كل خبر من أخباره عز وَجل أَن يحملهُ على غير ظَاهره وعَلى بعض مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومه وَهَذَا عين السفسطة وَالْكفْر والحماقة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَلم يقم برهَان على تَخْصِيص قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص الله على أَنه برأَ المصائب كلهَا فَهُوَ باريء لَهَا والباريء هُوَ الْخَالِق نَفسه بِلَا شكّ فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء إِذْ هُوَ خَالق كل مَا أصَاب فِي الأَرْض وَفِي النُّفُوس ثمَّ زَاد تَعَالَى بَيَانا بِرَفْع الأشكال جملَة بقوله تَعَالَى {لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} فَبين تَعَالَى أَن مَا أصَاب الْأَمْوَال والنفوس من المصائب فَهُوَ خَالِقهَا وَقد تكون تِلْكَ المصائب أَفعَال الظَّالِمين بِإِتْلَاف الْأَمْوَال وأذى النُّفُوس فنص تَعَالَى على أَن كل ذَلِك خلق لَهُ تَعَالَى وَبِه عز وَجل التَّوْفِيق وَإِمَّا من طَرِيق النّظر فَإِن الْحَرَكَة نوع وَاحِد وَكلما يُقَال على جملَة النَّوْع فَهُوَ يُقَال مقول على أشخاص ذَلِك النَّوْع وَلَا بُد فَإِن كَانَ النَّوْع لمخلوقا فأشاصه مخلوقة وَأَيْضًا فَلَو كَانَ فِي الْعَالم شَيْء غير مَخْلُوق لله عز وَجل لَكَانَ من قَالَ الْعَالم مَخْلُوق والأشياء مخلوقة وَمَا دون الله تَعَالَى مَخْلُوق كَاذِب لِأَن فِي كل ذَلِك عِنْدهم مَا لَيْسَ بمخلوق ولكان من قَالَ الْعَالم غير مَخْلُوق وَلم يخلق الله تَعَالَى الْأَشْيَاء صَادِقا ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى من كل قَول أدّى إِلَى هَذَا ونسألهم هَل لله تَعَالَى إِلَه الْعَالم وَرب كل شَيْء أم لَا فَإِن قَالُوا نعم سئلوا أعموماً أم خُصُوصا فَإِن قَالُوا بل عُمُوما صدقُوا ولزمهم ترك قَوْلهم إِذْ من الْمحَال أَن يكون تَعَالَى إِلَهًا لما لم يخلق وَإِن قَالُوا بل خُصُوصا قيل لَهُم فَفِي الْعَالم إِذا مَا لَيْسَ الله إِلَهًا لَهُ ومالا رب لَهُ وَإِن كَانَ هَذَا فَإِن من قَالَ أَن الله تَعَالَى رب الْعَالمين كَاذِب وَكَانَ من قَالَ لَيْسَ الله إِلَهًا للْعَالمين وَلَا بِرَبّ للْعَالمين صَادِقا وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَتَكْذيب لله تَعَالَى فِي قَوْله أَنه رب الْعَالمين وخالق كل شَيْء وَقد وافقونا على أَن الله تَعَالَى خَالق حركات المختارين من سَائِر الْحَيَوَان غير الْمَلَائِكَة وَالْإِنْس وَالْجِنّ وبالضرورة نَدْرِي الحركات الاختيارية كلهَا نوع وَاحِد فَمن الْمحَال الْبَاطِل أَن يكون بعض النَّوْع مخلوقاً وَبَعضه غير مَخْلُوق قَالَ أَبُو مُحَمَّد واعترضوا بأَشْيَاء من الْقُرْآن وَهِي أَنهم قَالُوا قَالَ الله عز وَجل {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} وَقَالَ تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} وَقَوله تَعَالَى {وتخلقون إفكاً} وَقَوله تَعَالَى {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} وَقَوله {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} وَقَوله {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} واعترضوا بأَشْيَاء من طَرِيق النّظر وَهِي أَن قَالُوا إِن كَانَ الله تَعَالَى خلق أَعمال الْعباد فَهُوَ إِذا يغْضب مِمَّا خلق وَيكرهُ مَا فعل ويسخط فعله وَلَا يرضى مَا فعل وَلَا مَا دبر وَقَالُوا أَيْضا كل من فعل شَيْئا فَهُوَ مُسَمّى بِهِ ومنسوب إِلَيْهِ لَا يعقل غير ذَلِك فَلَو خلق الله الخطاء وَالْكذب وَالظُّلم وَالْكفْر لنسب كل ذَلِك إِلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالُوا أَيْضا لَا يعقل فعل وَاحِد من فاعلين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 هَذَا فعله كُله أَو هَذَا فعله كُله وَقَالُوا أَيْضا أَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى خلق الْفِعْل وَإِن العَبْد اكْتَسبهُ فأخبرونا عَن هَذَا الِاكْتِسَاب الَّذِي انْفَرد بِهِ العَبْد أهوَ خلق أم هُوَ غَيره فَإِن قُلْتُمْ هُوَ خلق الله لزمكم أَنه تَعَالَى اكْتَسبهُ وَأَنه مكتسب لَهُ إِذا لكسب هُوَ الْخلق وَإِن قُلْتُمْ أَن الْكسْب هُوَ غير الْخلق وَلَيْسَ خلقا لله تَعَالَى تركْتُم قَوْلكُم وَرَجَعْتُمْ إِلَى قَوْلنَا وَقَالُوا أَيْضا إِذا كَانَت أفعالكم مخلوقه لله تَعَالَى وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنكُمْ مستطيعون على فعلهَا وعَلى تَركهَا فقد أوجبتم أَنكُمْ مستطيعون على أَن لَا يخلق الله تَعَالَى بعض خلقه وَقَالُوا أَيْضا إِذا كَانَ فعلكم خلقا لله تَعَالَى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على مَا خلق وَقَالُوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرِّضَا بِمَا خلق فَإِن كَانَ الظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب مِمَّا خلق فَفرض علينا الرِّضَا بالْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه عُمْدَة اعتراضاتهم الَّتِي لَا يشذ عَنْهَا شَيْء من تفريعاتهم وكل مَا ذكرُوا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى بعونه وتأييده وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين أما قَول الله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا لِأَن أول الْآيَة فِي قوم كتبُوا كتابا وَقَالُوا هَذَا من عِنْد الله فأكذبهم الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَاخْبَرْ أَنه لَيْسَ منزلا من عِنْده وَلَا مِمَّا أَمر بِهِ عز وَجل وَلم يقل هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِن هَذَا الْكتاب مَخْلُوق فأكذبهم الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى إِن ذَلِك الْكتاب لَيْسَ مخلوقاً لله تَعَالَى فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة جملَة وَلَا شكّ عِنْد الْمُعْتَزلَة وَعِنْدنَا فِي أَن ذَلِك الْكتاب مَخْلُوق لله تَعَالَى لِأَنَّهُ قرطاس أَو أَدِيم ومداد وكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ وَأما قَوْله تبَارك وَتَعَالَى الله أحسن الْخَالِقِينَ فقد علمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض وَلَا يتدانع وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا فقد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى أنكر على الْكَافرين فَقَالَ تَعَالَى {أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ الْوَاحِد القهار} فَهَذِهِ الْآيَة بيّنت مَا تعلق بِهِ الْمُعْتَزلَة وَذَلِكَ أَن قوما جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فجعلوهم خالقين فَأنْكر الله تَعَالَى ذَلِك فعلى هَذَا خرج قَوْله تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى {يكيدون كيداً وأكيد كيداً} وَقَالَ {ومكروا ومكر الله} وَيبين بطلَان ظنون الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة قَول الله تَعَالَى {وَيَوْم يناديهم أَيْن شركائي قَالُوا آذناك مَا منا من شَهِيد} أفيكون مُسلما من أوجب لله تَعَالَى شُرَكَاء من أجل قَول الله تَعَالَى للْكفَّار الَّذين جعلُوا لَهُ شُرَكَاء أَيْن شركائي وَلَا شكّ فِي أَن هَذَا الْخطاب إِنَّمَا خرج جَوَابا عَن إيجابهم لَهُ الشُّرَكَاء تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَقد علمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى كُله هُوَ على حكم ذَلِك المعذب لنَفسِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّه الْعَزِيز الْكَرِيم وَقد علمنَا بضرورة الْعقل وَالنَّص أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى شُرَكَاء وَأَنه لَا خَالق غَيره عز وَجل وَأَنه خَالق كل شَيْء فِي الْعَالم من عرض أَو جَوْهَر وَبِهَذَا خرج قَوْله تَعَالَى {أحسن الْخَالِقِينَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} فَلَو أمكن أَن يكون فِي الْعَالم خَالق غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا لما أنكر ذَلِك عز وَجل إِذْ هُوَ عز وَجل لَا يُنكر وجود الموجودات وَإِنَّمَا يُنكر الْبَاطِل فصح ضَرُورَة لَا شكّ فِيهَا أَنه لَا خَالق غير الله تَعَالَى فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَيْسَ فِي قَول الله تَعَالَى {أحسن الْخَالِقِينَ} إِثْبَات لِأَن فِي الْعَالم خَالِقًا غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْله {وتخلقون إفكاً} وَقَوله تَعَالَى عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 أَنه قَالَ {إِنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير} وَقَول زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ وأراك تخلق مَا فريت وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري فقد قُلْنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يخْتَلف وَقد قَالَ تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} وبيقين علم كل ذِي عقل أَن من جملَة أُولَئِكَ الْآلهَة الَّذين اتخذهم الْكفَّار الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ والمسيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَقَالَ الله تَعَالَى حاكياً عَن الْمَلَائِكَة أَنهم قَالُوا عَن الْكفَّار {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} فقد صَحَّ يَقِينا بِنَصّ هَذِه الْآيَة أَن الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ والمسيح عَلَيْهِ السَّلَام لَا يخلقون شَيْئا أصلا وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن جَمِيع الْإِنْس فِي فعلهم كمن ذكرنَا أَن كاوا هَؤُلَاءِ يخلفون أفعالهم فسائر النَّاس يخلقون أفعالهم وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يخلقون شَيْئا من أفعالهم فسائر النَّاس لَا يخلقون شَيْئا من أفعالهم فَإِن ذَلِك وَكَلَام الله عزوجل لَا يخْتَلف فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإذْ الْخلق الَّذِي أثْبته الله عز وَجل للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي الطير وللكفار فِي الْإِفْك هُوَ غير الْخلق الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُم وَعَن جَمِيع الْخلق لَا يجوز الْبَتَّةَ غير هَذَا فَإذْ هَذَا هُوَ الْحق بِيَقِين فالخلق الَّذِي أوجبه الله تَعَالَى لنَفسِهِ ونفاه عَن غَيره هُوَ الاختراع والإبداع وإحداث الشَّيْء من لَا شَيْء بِمَعْنى من عدم إِلَى وجود وَأما الْخلق الَّذِي أوجبه الله تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ ظُهُور الْفِعْل مِنْهُم فَقَط وانفرادهم بِهِ وَالله تَعَالَى خالقه فيهم وبرهان ذَلِك أَن الْعَرَب تسمي الْكَذِب اختلاقاً وَالْقَوْل الْكَاذِب مُخْتَلفا وَذَلِكَ القَوْل بِلَا شكّ إِنَّمَا هُوَ لفظ وَمعنى وَاللَّفْظ مركب من حُرُوف الهجاء وَقد كَانَ كل ذَلِك مَوْجُود النَّوْع قبل وجود أشخاص هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين وَهَذَا كَقَوْلِه عز وَجل {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} فبيقين يدْرِي كل ذِي حس يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى وَبِالْقُرْآنِ إِن الزَّرْع وَالْقَتْل وَالرَّمْي الَّذِي نَفَاهُ عَن النَّاس وَعَن الْمُؤمنِينَ وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ غير الزَّرْع وَالْقَتْل وَالرَّمْي الَّذِي أَضَافَهُ إِلَيْهِم لَا يُمكنهُ الْبَتَّةَ غير ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق فَإذْ ذَلِك قَالَ الَّذِي نَفَاهُ عَمَّن ذكرنَا هُوَ خلق كل شَيْء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إِلَى وجود وَالَّذِي أوجب لَهُم مِنْهُ ظُهُوره فيهم وَنسبَة ذَلِك كُله إِلَيْهِم كَذَلِك فَقَط وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقَول زُهَيْر وأراك تخلق مَا فريت لَا يشك من لَهُ أقل فهم بِالْعَرَبِيَّةِ أَنه لم يعن الإبداع وَلَا إِخْرَاج الْخلق من عدم إِلَى وجود وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّفاذ فِي الْأُمُور فَقَط فقد وضح أَن لَفْظَة الْخلق مُشْتَركَة تقع على مَعْنيين أَحدهمَا لله تَعَالَى لَا لأحد دونه وَهُوَ الإبداع من عدم إِلَى وجود وَالثَّانِي الْكَذِب فِيمَا لم يكن أَو ظُهُور فعل لم يتَقَدَّم لغيره أَو نَفاذ فِيمَا حاول وَهَذَا كُله مَوْجُود من الْحَيَوَان وَللَّه تَعَالَى خَالق كل ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص كلهَا وَأما قَوْله تَعَالَى {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} فَهُوَ عَلَيْهِم لَا لَهُم لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَن بصنعه أتقن كل شَيْء وَهَذَا على عُمُومه وَظَاهره فَالله تَعَالَى صانع كل شَيْء وإتقانه لَهُ أَن خلقه جوهراً أَو عرضا جاريين على رُتْبَة وَاحِدَة أبدا وَهَذَا عين الإتقان وَأما قَوْله تَعَالَى {أحسن كل شَيْء خلقه} فَإِنَّهُمَا قراءتان مشهورتان من قراآت الْمُسلمين إِحْدَاهمَا {احسن كل شَيْء خلقه} بِإِسْكَان اللَّام فَيكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 خلقه بَدَلا من كل شَيْء بدل الْبَيَان فَهَذِهِ الْقِرَاءَة حجَّة عَلَيْهِم لِأَن مَعْنَاهَا أَن الله تَعَالَى أحسن خلقه لكل شَيْء وَصدق الله عزو جلّ وَهَكَذَا نقُول أَن خلق الله تَعَالَى لكل شَيْء حسن وَالله تَعَالَى محسن فِي كل شَيْء وَالْقِرَاءَة الْأُخْرَى خلقه بفته اللَّام وَهَذَا أَيْضا لَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِيجَاب لِأَن هَا هُنَا شَيْئا لم يخلق الله عز وَجل وَمن ادّعى أَن هَذَا فِي اقْتِضَاء الْآيَة فقد كذب وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظَة الْآيَة أَن كل شَيْء فَالله خلقه كَمَا فِي سَائِر الْآيَات وَالله تَعَالَى أحْسنه إِذْ خلقه وَهَذَا قَوْلنَا وَكَذَا نقُول أَن لإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا إِلَّا الْحَرَكَة أَو السّكُون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هَذِه كيفيات وأعراض حسن خلقهَا من الله عز وَجل قد حسن رتبتها وإيقاعها فِي النُّفُوس والأجساد وَإِنَّمَا قبح مَا قبح من ذَلِك من الْإِنْسَان لِأَن الله تَعَالَى سمى وُقُوع ذَلِك أَو بَعْضهَا مِمَّن وَقعت مِنْهُ قبيحاً وسمى بعض ذَلِك حسنا كَمَا كَانَت الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس حَرَكَة حَسَنَة إِيمَانًا ثمَّ سَمَّاهَا تَعَالَى قبيحة كفرا وَهَذِه تِلْكَ الْحَرَكَة نَفسهَا فصح أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء حسن لعَينه وَلَا شَيْء قَبِيح لعَينه لَكِن مَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى حسنا فَهُوَ حسن وفاعله محسن قَالَ الله تَعَالَى {أَن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم} وَقَالَ تَعَالَى {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} وَمَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى قبيحاً فَهُوَ حَرَكَة قبيحة وَقد سمى الله تَعَالَى خلقه لكل شَيْء فِي الْعَالم حسنا فَهُوَ كُله من الله تَعَالَى حسن وسمى مَا وَقع من ذَلِك من عباده كَمَا شَاءَ فبعض ذَلِك قبحه فَهُوَ قَبِيح وَبَعض ذَلِك حسنه فَهُوَ حسن وَبعد ذَلِك قبحه ثمَّ حسنه فَكَانَ قبيحاً ثمَّ حسنا وَبَعض ذَلِك حسنه ثمَّ قبحه فَكَانَ حسنا ثمَّ قبح كَمَا صَارَت الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة حَسَنَة بعد ان كَانَت قبيحة كَذَلِك جَمِيع أَفعَال النَّاس الَّتِي خلقهَا الله تَعَالَى فيهم كَالْوَطْءِ قبل النِّكَاح وَبعده وكسبي من نقض الذِّمَّة وَسَائِر الشَّرِيعَة كلهَا وَقد اتّفقت الْمُعْتَزلَة مَعنا على أَن خلق الله تَعَالَى للخمر والخنازير وَالْحِجَارَة المعبودة من دونه حسن بِلَا شكّ وَهُوَ سَمَّاهُ قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وَهَكَذَا القَوْل فِي خلقه للأعراض فِي عباده وَلَا فرق وَكَذَلِكَ وَافَقنَا أَكْثَرهم على أَنه تَعَالَى خلق فَسَاد الدِّمَاغ وَالْجُنُون الْمُتَوَلد مِنْهُ والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة وكل هَذَا من خلق الله تَعَالَى لَهُ حسن وَكله فِيمَا بَيْننَا قَبِيح رَدِيء جدا يستعاذ بِاللَّه مِنْهُ وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه خلق المصائب كلهَا فَقَالَ عزو جلّ {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير} فنص تَعَالَى على أَنه برأَ المصائب كلهَا وبرأ هُوَ خلق بِلَا خلاف من أحد وَلَا فرق بَين إلزامهم إيانا أَن الله تَعَالَى أحسن الْكفْر وَالظُّلم والجور وَالْكذب والقبائح إِذْ خلق كل ذَلِك وَبَين إقرارهم مَعنا أَن الله تَعَالَى قد أحسن الْخمر والخنازير وَالدَّم وَالْميتَة والعذرة وإبليس وكل مَا قَالَ إِنَّا إِلَه من دون الله تَعَالَى والأوثان المعبودة من دون الله تَعَالَى والمصايب كلهَا والأمراض والعاهات إِذْ خلق كل ذَلِك فَأَي شَيْء قَالُوهُ فِي هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ قَوْلنَا فِي خلق الله تَعَالَى للكفر بِهِ ولشتمه وَالظُّلم وَالْكذب وَلَا فرق كل ذَلِك قد أحسن الله خلقه إِذْ حَرَكَة أَو سكوناً أَو ضميراً فِي النَّفس وسمى ظُهُوره من العَبْد قبيحاً مَوْصُوفا بِهِ الْإِنْسَان وَأما قَوْله تَعَالَى {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا أَيْضا لِأَن التَّفَاوُت الْمَعْهُود هُوَ مانافر النُّفُوس أَو خرج عَن الْمَعْهُود فَنحْن نسمي الصُّورَة المضطربة بِأَن فِيهَا تَفَاوتا فَلَيْسَ ذَا التَّفَاوُت الَّذِي نَفَاهُ الله تَعَالَى عَن خلقه فَإذْ لَيْسَ هُوَ هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس تَفَاوتا فَلم يبْق إِلَّا أَن التَّفَاوُت الَّذِي نَفَاهُ الله تَعَالَى عَمَّا خلق هُوَ شَيْء غير مَوْجُود فِيهِ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَو وجد فِي خلق الله تَعَالَى تَفَاوتا لكذب قَول الله عزو جلّ {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} وَلَا يكذب الله تَعَالَى إِلَّا كَافِر فَبَطل ظن الْمُعْتَزلَة إِن الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب والجور تفَاوت لِأَن كل ذَلِك مَوْجُود فِي خلق الله عز وَجل مرئي فِيهِ مشَاهد بالعيان فِيهِ فَبَطل احتجاجهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا هَذَا التَّفَاوُت الَّذِي أخبر الله عز وَجل أَنه لَا يرى فِي خلقه قيل لَهُم نعم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هُوَ اسْم لَا يَقع على مُسَمّى مَوْجُود فِي الْعَالم أصلا بل هُوَ مَعْدُوم جملَة إِذْ لَو كَانَ شَيْئا مَوْجُودا فِي الْعَالم لوجد التَّفَاوُت فِي خلق الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى قد أكذب هَذَا وَأخْبر أَنه لَا يرى فِي خلقه ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْعَالم كُله مَا دون الله تَعَالَى وَهُوَ كُله مَخْلُوق لله تَعَالَى أجسامه وأعراضه كلهَا لَا تحاشي شَيْئا مِنْهَا ثمَّ إِذا نظر النَّاظر فِي تَقْسِيم أَنْوَاع أعراضه وأنواع أجسامه جرت الْقِسْمَة جَريا مستوياً فِي تَفْصِيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لَهَا وفصولها المفرقة بَينهَا على رُتْبَة وَاحِدَة وهيئة وَاحِدَة إِلَى أَن يبلغ إِلَى الْأَشْخَاص الَّتِي تلِي أَنْوَاع الْأَنْوَاع لَا تفَاوت فِي شَيْء من ذَلِك الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا تخَالف فِي شَيْء مِنْهُ أصلا وَمن وقف على هَذَا علم أَن الصُّورَة المستقبحة عندنَا وَالصُّورَة المستحسنة عندنَا وَاقِعَتَانِ مَعًا تَحت نوع الشكل والتخطيط ثمَّ تَحت نوع الْكَيْفِيَّة ثمَّ تَحت اسْم الْعرض وقوعاً مستوياً لَا تفاضل فِيهِ وَلَا تفَاوت فِي هَذَا بِوَجْه من التَّقْسِيم وَكَذَلِكَ أَيْضا نعلم أَن الْكفْر وَالْإِيمَان بِالْقَلْبِ واقعان تَحت نوع الِاعْتِقَاد ثمَّ تَحت فعل النَّفس ثمَّ تَحت الْكَيْفِيَّة وَالْعرض وقوعاً مستوياً لَا تفاضل فِيهِ وَلَا تفَاوت من هَذَا الْوَجْه من التَّقْسِيم وَكَذَلِكَ أَيْضا نعلم أَن الْإِيمَان وَالْكفْر بِاللِّسَانِ واقعان تَحت نوع فرع الْهَوَاء بآلات الْكَلَام ثمَّ تَحت نوع الْحَرَكَة وَتَحْت نوع الْكَيْفِيَّة وَتَحْت اسْم الْعرض وقوعاً حَقًا مستوياً لَا تفَاوت فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف وَهَكَذَا القَوْل فِي الظُّلم والإنصاف وَفِي الْعدْل والجور وَفِي الصدْق وَالْكذب وَفِي الزِّنَا وَالْوَطْء الْحَلَال وَكَذَلِكَ كل مَا فِي الْعَالم حَتَّى يرجع جَمِيع الموجودات إِلَى الرؤس الأول الَّتِي لَيْسَ فَوْقهَا رَأس يجمعها إِلَّا كَونهَا مخلوقة لله تَعَالَى وَهِي الْجَوْهَر والكم والكيف وَالْإِضَافَة على مَا بَينا فِي كتاب التَّقْرِيب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فانتقى التَّفَاوُت عَن كل مَا خلق الله تَعَالَى وعادت الْآيَة الْمَذْكُورَة حجَّة على الْمُعْتَزلَة ضَرُورَة لَا منفك لَهُم عَنْهَا وَهِي أَنه لَو كَانَ وجود الْكفْر وَالْكذب وَالظُّلم تَفَاوتا كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ التَّفَاوُت مَوْجُودا فِي خلق الرَّحْمَن وَقد كذب الله تَعَالَى ذَلِك وَنفى أَن يرى فِي خلقه تفَاوت وَأما اعتراضهم من طَرِيق النّظر بِأَن قَالُوا أَنه تَعَالَى إِن كَانَ خلق الْكفْر والمعاصي فَهُوَ إِذا يغْضب مِمَّا فعل ويغضب مِمَّا خلق وَلَا يرضى مَا صنع ويسخط مَا فعل وَيكرهُ مَا يفعل وَإنَّهُ يغْضب ويسخط من تَدْبيره وَتَقْدِيره فَهَذَا تمويه ضَعِيف وَنحن لَا ننكر ذَلِك إِذْ أخبرنَا الله عز وَجل بذلك وَهُوَ تَعَالَى قد أخبرنَا أَنه يسْخط الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وَلَا يرضاه وَأَنه يكره كل ذَلِك ويغضب مِنْهُ فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيم لقَوْل الله تَعَالَى نعم نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال نَفسه فَنَقُول لَهُم أَلَيْسَ الله خلق إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَالْخمر وَالْكفَّار فَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم أيرضى عز وَجل عَن هَؤُلَاءِ كلهم أم ساخط لَهُم فَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم أيرضى عز وَجل عَن هَؤُلَاءِ كلهم أم هُوَ ساخط لَهُم فَلَا بُد من أَنه ساخط لَهُم كَارِه لَهُم غَضْبَان عَلَيْهِم غير رَاض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 عَنْهُم فَنَقُول لَهُم هَذَا نفس ماأنكرتم من أَنه تَعَالَى سخط تَدْبيره وَغَضب من فعله وَكره مَا خلق ولعنه فَإِن قَالُوا لم يكره عين الْكَافِر وَلَا سخط شخص إِبْلِيس وَلَا كره عين الْخمر لم نسلم لَهُم ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَنه تَعَالَى لعن إِبْلِيس وَالْكفَّار وَإِنَّهُم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تَعَالَى مغضوب عَلَيْهِم وَكَذَا الْخمر والأوثان وَقَالَ {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} وَقد سمى الله تَعَالَى كل ذَلِك رجسا ثمَّ أَمر بعد ذَلِك باجتنابه وأضاف كل ذَلِك إِلَى عمل الشَّيْطَان وَلَا خلاف فِي أَنه عز وَجل خَالق كل ذَلِك فَهُوَ خلق الرجس بِالنَّصِّ وَلَا فرق فِي الْمَعْقُول بَين خلق الرجس وَخلق الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وَقَوله تَعَالَى {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} فعلى قَول هَؤُلَاءِ المخاذيل أَنه تَعَالَى يغْضب مِمَّا ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بِلَا شكّ ضَرُورَة فقد صَحَّ عَلَيْهِم مَا شنعوا بِهِ من أَنه يغْضب من فعله أَيْضا فَيُقَال لَهُم هَل الله تَعَالَى قَادر على منع الظَّالِم من الْمَظْلُوم وعَلى منع الَّذين قتلوا رسل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَن يحول بَين الْكَافِر وكفره وَأَن يميته قبل أَن يبلغ وَبَين الزَّانِي وزناه بإضعاف جارحته أَو بِشَيْء يشْغلهُ بِهِ أَو تيسير إِنْسَان يطلّ عَلَيْهِمَا أم هُوَ عَاجز عَن ذَلِك كُله قَادر على شَيْء مِنْهُ وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا هُوَ غير قَادر على شَيْء من ذَلِك عجزوا رَبهم وَكَفرُوا وَبَطلَت أداتهم على إِحْدَاث الْعَالم إِذا أضعفوا قدرته عَن هَذَا الْيَسِير السهل وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على ذَلِك كُله فقد أقرُّوا أَيْضا على أَنه تَعَالَى رأى الْمُنكر وَالْكفْر وَالزِّنَا وَالظُّلم فأقره وَلم يُغَيِّرهُ وَأطلق أَيدي الْكفَّار على قتل رسله وضربهم وَمَعَ إِقْرَاره لكل ذَلِك فَلم يَكْتَفِي بِكُل ذَلِك إِلَّا حَتَّى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مَانع وَهَذَا على قَوْلهم أَنه رضَا مِنْهُ تَعَالَى بالْكفْر واختياراً مِنْهُ تَعَالَى لكل ذَلِك وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأما أَنه يغْضب مِمَّا أقرّ ويسخط مِمَّا أعَان عَلَيْهِ وَيكرهُ مَا فعل من إقرارهم على كل ذَلِك وَهَذَا هُوَ الَّذِي شنعوا بِهِ لَا بُد من أحد الْوَجْهَيْنِ ضَرُورَة وَكِلَاهُمَا خلاف قَوْلهم إِلَّا أَن هَذَا لَازم لَهُم على أصولهم وَلَا يلْزمنَا نَحن شَيْء مِنْهُ لأننا لَا نقبح إِلَّا مَا قبح الله تَعَالَى وَلَا نحسن إِلَّا مَا حسن الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا إِنَّمَا أقره لينتقم مِنْهُ وَإِنَّمَا يكون سفهاً وعبثا لواقره أبدا قيل لَهُم أَي فرق بَين إِقْرَاره تَعَالَى الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب سَاعَة وَبَين إبقائه إِيَّاه سَاعَة بعد سَاعَة وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة أَو بنهاية فِي الْحسن والقبح وَإِلَّا فعرفونا الأمد الَّذِي يكون إِقْرَار الْكفْر وَالْكذب وَالظُّلم إِلَيْهِ حِكْمَة وحسناً وَإِذا تجاوزه صَار عَبَثا وعيباً وسفهاً فَإِن تكلفوا أَن يحدوا فِي ذَلِك حدا أَتَوا بالجنون والسخف وَالْكذب وَالدَّعْوَى الَّتِي لَا يعجز عَنْهَا أحد وَإِن قَالُوا لَا نَدْرِي وردوا الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى الله عزو جلّ صدقُوا وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا أَن كل مَا فعله الله تَعَالَى من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وتعذيبه عَلَيْهَا وخلقه الْكفْر وَالظُّلم فِي الْكَافِر والظالم وَإِقْرَاره كل ذَلِك ثمَّ تعذيبهما عَلَيْهِ وخلقه الْكفْر وغضبه مِنْهُ وَسخطه إِيَّاه كل ذَلِك من الله تَعَالَى حِكْمَة وَعدل وَحقّ وَمِمَّنْ دونه تَعَالَى سفه وظلم وباطل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وَأما قَوْلهم أَن من فعل شَيْئا وَجب أَن ينْسب إِلَيْهِ ويسمي بِهِ نَفسه وَأَنه لَا يعقل وَلَا يُوجد غير هَذَا وإيجابهم بِهَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يُسمى الله تَعَالَى ظَالِما لِأَنَّهُ خلق الظُّلم وَكَذَلِكَ من الْكفْر وَالْكذب فَهَذَا ينْتَقض عَلَيْهِم من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن هَذَا تَشْبِيه مَحْض لأَنهم يُرِيدُونَ أَن يحكموا على الْبَارِي تَعَالَى بالحكم الْمَوْجُود الْجَارِي على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 خلقه وَيُقَال لَهُم إِذْ لم تَجدوا فَاعِلا فِي الشَّاهِد إِلَّا جسماً وَلَا عَالما إِلَّا بِعلم هُوَ غَيره وَلَا حَيا إِلَّا بحياة هِيَ عرض فِيهِ وَلَا مخبرا عَنهُ إِلَّا جسماً أَو عرضا وَمَا لم يكن كَذَلِك فَهُوَ مَعْدُوم وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يعقل ثمَّ رَأَيْتُمْ الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك كُله وَلم تحكموا عَلَيْهِ بالحكم فِيمَا وجدْتُم فقد وَجب ضَرُورَة أَن لَا يحكم عَلَيْهِ تَعَالَى بالحكم علينا فِي أَن يُسمى من أَفعاله وَلَا فِي أَن ينْسب إِلَيْهِ كَمَا ينْسب إِلَيْنَا بِلَا خلاف ذَلِك بالبرهان الضَّرُورِيّ وَهُوَ أَن الله عز وَجل خلق كل مَا خلق من ذَلِك مخترعاً لَهُ كَيْفيَّة مركبة فِي غَيره فَهَكَذَا هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيمَا خلق وَأما فعل عباده لما فعلوا فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه ظهر ذَلِك الْفِعْل عرضا مَحْمُولا فِي فَاعله لِأَنَّهُ إِمَّا حَرَكَة فِي متحرك وَأما سُكُون فِي سَاكن أَو اعْتِقَاد فِي مُعْتَقد أَو فكر فِي متفكر أَو إِرَادَة فِي مُرِيد وَلَا مزِيد فَبين الْأَمريْنِ بون بَائِن لَا يخفى على من لَهُ أقل فهم وَأما الْمَدْح والذم واشتقاق اسْم الْفَاعِل من فعله فَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا لَكِن الْحق هُوَ أَنه لَا يسْتَحق أحد مدحاً وَلَا ذماً إِلَّا من مدحه الله تَعَالَى أَو ذمه وَقد أمرنَا الله تَعَالَى بِحَمْدِهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ فَهُوَ عز وَجل مَحْمُود على كل مَا فعله مَحْبُوب لذَلِك وَأما من دونه تَعَالَى فَمن حمد الله تَعَالَى فعله الَّذِي أظهره فِيهِ فَهُوَ ممدوح مَحْمُود وَمن ذمّ عز وَجل فعله الَّذِي أظهره فِيهِ فَهُوَ مَذْمُوم وَلَا مزِيد وبرهان هَذَا إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام على أَنه لَا يسْتَحق الْحَمد والمدح إِلَّا من أطَاع الله عز وَجل وَلَا يسْتَحق الذَّم إِلَّا من عَصَاهُ وَقد يكون الْمَرْء مُطيعًا مَحْمُودًا الْيَوْم ممدوحاً بِفِعْلِهِ إِن فعله الْيَوْم وكافراً مذموماً بِهِ إِن فعله غَدا كَالْحَجِّ فِي أشهر الْحَج وَفِي غير أشهر الْحَج ولصوم يَوْم الْفطر والأضحى وَصَوْم رَمَضَان وكالصلاة فِي الْوَقْت وَقبل الْوَقْت وَبعد الْوَقْت وكسائر الشَّرَائِع كلهَا وَقد وجدنَا فَاعِلا للكذب قَائِلا لَهُ وفاعلاً للكفر قَائِلا بِهِ وهما غير مذمومين وَلَا يُسمى وَاحِد مِنْهُمَا كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وهما الحاكي وَالْمكْره فَبَطل مَا ظنت الْمُعْتَزلَة من انه كل من فعل الْكَذِب فَهُوَ كَاذِب وَمن فعل الْكفْر فَهُوَ كَافِر وَمن فعل الظُّلم فَهُوَ ظَالِم وَصَحَّ أَنه لَا يكون كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا ظَالِما إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى كَافِرًا وكاذباً وظالماً وَإنَّهُ لَا كفر وَلَا ظلم وَلَا كذب إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله كفرا وكذباً وظلماً وَصَحَّ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا محيد عَنْهَا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء مَحْمُود ممدوح لعَينه وَلَا مَذْمُوم لعَينه وَلَا كفر لعَينه وَلَا ظلم لعَينه وَأما مَا لَا يَقع عَلَيْهِ اسْم طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَلَا حكمهَا وَهُوَ الله تَعَالَى فَلَا يجوز أَن يُوقع عَلَيْهِ مدح وَلَا حمد وَلَا ذمّ إِلَّا بِنَصّ من قبله فنحمده كَمَا امرنا أَن نقُول الْحَمد لله رب الْعَالمين وَأما من دونه مِمَّن لَا طَاعَة تلْزمهُ وَلَا مَعْصِيّة كالحيوان من غير الْمَلَائِكَة وكالحور الْعين وَالْإِنْس وَالْجِنّ وكالجمادات فَلَا يسْتَحق حمداً وَلَا ذماً لِأَن الله لم يَأْمر بذلك فِيهَا فَإِن وجد لَهُ تَعَالَى أَمر بمدح شَيْء مِنْهَا أَو ذمه وَجب الْوُقُوف عِنْد أمره تَعَالَى كأمره تَعَالَى بمدح الْكَعْبَة وَالْمَدينَة وَالْحجر الْأسود وَشهر رَمَضَان وَالصَّلَاة وَغير ذَلِك وكأمره تَعَالَى بذم الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْميتَة والكنيسة وَالْكفْر وَالْكذب وَمَا أشبه ذَلِك وَأما مَا عدا هذَيْن الْقسمَيْنِ فَلَا حمد وَلَا ذمّ واما اشتقاق اسْم الْفَاعِل من فعله فَكَذَلِك أَيْضا وَلَا فرق وَلَيْسَ لأحد أَن يُسَمِّي شَيْئا إِلَّا بِمَا أَبَاحَهُ الله تَعَالَى فِي الشَّرِيعَة أَو فِي اللُّغَة الَّتِي أمرنَا بالتخاطب بهَا وَقد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى أخبرنَا بِأَن لَهُ كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نَسيَه وَهَذَا لَا تَدْفَعهُ الْمُعْتَزلَة وَلَو دَفعته لكفرت لردها نَص الْقُرْآن وهم مجمعون مَعنا على أَنه لَا يُسمى باسم مُشْتَقّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 من ذَلِك فَلَا يُقَال ماكر من أجل أَن لَهُ مكرا ولاأنه كياد من أجل أَنه يكيد وَأَن لَهُ كيداً وَلَا يُسمى مستهزئاً من أجل أَنه يستهزئ بهم فقد أبطل مَا أصلوه من أَن كل فعل فَإِنَّهُ يُسمى مِنْهُ وينسب إِلَيْهِ وَلَا يشغب هَا هُنَا مشغب مَعَ من لَا يحسن المناظرة فَيَقُول إِنَّمَا قُلْنَا أَنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على الْمُعَارضَة بذلك فَإنَّا نقُول لَهُ صدقت وَلم نخالفك فِي هَذَا لَكِن ألزمناك أَن تسميه تَعَالَى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى الْمُعَارضَة كَمَا تَقول فَإِن أَبى من ذَلِك وَقَالَ أَن الله تَعَالَى لم يسم بِشَيْء من ذَلِك نَفسه فقد رَجَعَ إِلَى الْحق ووافقنا فِي أَن الله تَعَالَى لَا يُسمى ظَالِما وَلَا كَافِرًا وَلَا كَاذِبًا من أجل خلقه الظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يسم بذلك نَفسه وَإِن أنكر ذَلِك تنَاقض وَظهر بطلَان مذْهبه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد وافقونا على أَن الله تَعَالَى خلق الْخمر وحبل النِّسَاء وَلَا يجوز أَن يُسمى خماراً وَلَا محبلاً وَأَنه تَعَالَى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وَسَائِر الألوان وَلَا يُسمى صباغاً وَأَنه تَعَالَى بنى السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَا يُسمى بِنَاء وَأَنه تَعَالَى سقانا الْغَيْث ومياه الأَرْض وَلَا يُسمى سقاء وَلَا ساقياً وَأَنه تَعَالَى خلق الْخمر والخنازير وإبليس ومردة الشَّيَاطِين وَكَذَلِكَ كل سوء وسيء وخبيث ورجس وَشر وَلَا يُسمى من أجل ذَلِك مسيئاً وَلَا شريراً فَأَي فرق بَين هَذَا كُله وَبَين أَن يخلق الشَّرّ وَالظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب ومعاصي عباده وَلَا يُسمى بذلك مسيئاً وَلَا ظَالِما ولاكافرا وَلَا كَاذِبًا وَلَا شريراً وَلَا فَاحِشا وَالْحَمْد لله على مَا من بِهِ من الْهدى والتوفيق وَهُوَ المستزاد من فَضله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَيُقَال لَهُم أَيْضا أَنْتُم تقرون بِأَنَّهُ خلق الْقُوَّة الَّتِي بهَا يكون الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وهيأها لِعِبَادِهِ وَلَا يسمونه من أجل ذَلِك يغريا على الْكفْر وَلَا معينا للْكَافِرِ فِي كفره وَلَا مسبباً للكفر وَلَا واهباً للكفر وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ الَّذِي عبتم وأنكرتم يُقَال لَهُم أَيْضا أخبر عَن تعذيبه أهل جَهَنَّم فِي النيرَان أمحسن هُوَ بذلك إِلَيْهِم أم مسيء فَإِن قَالُوا بل محسن إِلَيْهِم قَالُوا الْبَاطِل وخالفوا أصلهم وسألناهم أَن يسْأَلُوا الله عز وَجل لأَنْفُسِهِمْ ذَلِك الْإِحْسَان نَفسه وَإِن قَالُوا أَنه مسيء إِلَيْهِم كفرُوا بِهِ وَإِن قَالُوا لَيْسَ مسيئا إِلَيْهِم قُلْنَا لَهُم فهم فِي إساءة أَو فِي إِحْسَان فَإِن قَالُوا لَيْسُوا فِي إساءة كابروا العيان وَإِن قَالُوا بل هم فِي إساءة قُلْنَا لَهُم هَذَا الَّذِي أنكرتم أَن يكون مِنْهُ تَعَالَى إِلَيْهِم حَال هِيَ غَايَة الْإِسَاءَة وَلَا يُسمى بذلك مسيئاً وَأما نَحن فَنَقُول لَهُم إِنَّهُم فِي غَايَة المساءة والإساءة والسخط إِلَيْهِم وَعَلَيْهِم وَلَيْسَ السخط إحساناً إِلَى المسخوط عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ اللَّعْنَة للملعون وَإنَّهُ تَعَالَى محسن على الْإِطْلَاق وَلَا نقُول أَنه مسيء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا قُلْنَاهُ من انه لَا يجوز أَنه يُسمى الله تَعَالَى إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلَا يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه وَلَا مزِيد فَإِن قَالُوا إِذا جوزتم أَن يفعل الله تَعَالَى فعلا مَا هُوَ ظلم بَيْننَا وَلَا يكون بذلك ظَالِما فجوزنا أَن نخبر بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ وَلَا يكون بذلك كَاذِبًا وَإِن لَا يعلم مَا يكون وَلَا يكون بذلك جَاهِلا وَإِن لَا يقدر على الشَّيْء وَلَا يكون بذلك عَاجِزا قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا محَال من وَجْهَيْن أَحدهمَا أننا قد أوصحنا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم ظلم لعَينه وَلَا بِذَاتِهِ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الظُّلم بِالْإِضَافَة فَيكون قتل زيد إِذا نهي الله عَنهُ ظلما وَقَتله إِذا أَمر الله بقتْله عدلا وَأما الْكَذِب فَهُوَ كذب لعَينه وبذاته فَكل من اخبر بِخَبَر بِخِلَاف مَا هُوَ فَهُوَ كَاذِب إِلَّا أَنه لَا يكون ذَلِك إِثْمًا وَلَا مذموماً إِلَّا حَيْثُ أوجب الله تَعَالَى فِيهِ الْإِثْم والذم فَقَط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْجَهْل وَالْعجز أَنَّهُمَا جعل لعَينه وَعجز لعَينه فَكل من لم يعلم شَيْئا فَهُوَ جَاهِل بِهِ وَلَا بُد وكل من لم يقدر على شَيْء فَهُوَ عَاجز عَنهُ وَلَا بُد وَالْوَجْه الثَّانِي ان بِالضَّرُورَةِ الَّتِي بهَا علمنَا من نواة التَّمْر لَا يخرج مِنْهَا زيتونة وَإِن الْفرس لَا ينْتج جملا بهَا عرفنَا ان الله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يعجز وَلَا يجهل لِأَن كل هَذِه من صِفَات المخلوقين عَنهُ تَعَالَى منفية إِلَّا مَا جَاءَ نَص بِأَن يُطلق الِاسْم خَاصَّة من أسمائها عَلَيْهِ تَعَالَى فيقف عِنْده وَأَيْضًا فَإِن أَكثر الْمُعْتَزلَة يُحَقّق قدرَة الْبَارِي تَعَالَى على الظُّلم وَالْكذب وَلَا يجيزون وقوعهما مِنْهُ تَعَالَى وَلَيْسَ وَصفهم إِيَّاه عز وَجل بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك بِمُوجب إِمْكَان وُقُوعه مِنْهُ تَعَالَى فَلَا ينكروا علينا أَن نقُول إِن الله عز وَجل فعل أفعالاً هِيَ مِنْهُ تَعَالَى عدل وَحِكْمَة وَهِي منا ظلم وعبث وَلَيْسَ يلْزمنَا مَعَ ذَلِك أَن نقُول انه يَقُول الْكَذِب ويجهل فَبَطل هَذَا الْإِلْزَام وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فإننا لم نقل أَنه تَعَالَى يظلم وَلَا يكون ظَالِما وَلَا قُلْنَا أَنه يكفر وَلَا يُسمى كَافِرًا وَلَا قُلْنَا أَنه يكذب وَيُسمى كَاذِبًا فيلزمنا مَا أَرَادوا وإلزامنا إِيَّاه وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه خلق الظُّلم وَالْكذب وَالْكفْر وَالشَّر وَالْحَرَكَة والطول وَالْعرض والسكون إعْرَاضًا فِي خلقه فَوَجَبَ أَن يُسمى خَالِقًا لكل ذَلِك كَمَا خلق الْجُوع والعطش والشبع والري وَالسمن والهزال واللغات وَلم يجر أَن يُسمى ظَالِما وَلَا كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا شريراً كَمَا لم يجز عندنَا وَعِنْدهم أَن يُسمى من أجل خلقه لكل مَا ذَكرْنَاهُ متحركاً وَلَا سَاكِنا وَلَا طَويلا وَلَا عريضاً وَلَا عطشان وَلَا رَيَّان وَلَا جائعاً وَلَا شابعاً وَلَا سميناً وَلَا هزيلاً وَلَا لغوياً وَهَكَذَا كل مَا خلق الله تبَارك وَتَعَالَى فَإِنَّمَا يخبر عَنهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالق لَهُ فَقَط وَلَا يُوصف بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا إِلَّا من خلقه الله تَعَالَى عرضا فِيهِ واما قَوْلهم لَا يفعل فعل من فاعلين هَذَا فعله كُله وَهَذَا فعله فَإِن هَذَا تحكم ونقصان من الْقِسْمَة أوقعهم فِيهَا جهلهم وتناقضهم وَقَوْلهمْ إِنَّمَا يسْتَدلّ بِالشَّاهِدِ على الغايب وَهَذَا قَول قد أفسدناه فِي كتَابنَا فِي الْأَحْكَام فِي أصُول الْأَحْكَام بِحَمْد الله تَعَالَى ونبين هَا هُنَا فَسَاده بإيجاز فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه لَيْسَ عَن الْعقل الَّذِي هُوَ التَّمْيِيز شَيْء غَائِب أصلا وَإِنَّمَا يغيب بعض الْأَشْيَاء من الْحَواس وكل مَا فِي الْعَالم فَهُوَ مشاهده فِي الْعقل الْمَذْكُور لِأَن الْعَالم كُله جَوْهَر حَامِل وَعرض مَحْمُول فِيهِ وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي خَالِقًا أَو لَا وَاحِدًا لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه فِي وَجه من الْوُجُوه فَإِن كَانُوا يعنون بالغائب الْبَارِي عز وَجل فقد لزمَه تشبيهه بخلقه إِذْ حكمُوا بتشبيه الْغَائِب بالحاضر وَفِي هَذَا كِفَايَة بل مَا دلّ الشَّاهِد كُله إِلَّا أَن الله تَعَالَى بِخِلَاف كل من خلق من جَمِيع الْوُجُوه وحاشا الله أَن يكون جلّ وَعز غَائِبا بل هُوَ شَاهد بِالْعقلِ كَمَا نشاهد بالحواس كل حَاضر وَلَا فرق بَين صِحَة معرفتنا عز وَجل بِالْمُشَاهَدَةِ بضرورة الْعقل وَبَين صِحَة معرفتنا لسَائِر مَا نشاهده ثمَّ نرْجِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى إنكارهم فعلا وَاحِدًا من فاعلين فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّمَا امْتنع ذَلِك فِيمَا بَيْننَا فِي الْأَكْثَر لَا على الْعُمُوم لما شَاهَدْنَاهُ من أَنه لَا تكون حَرَكَة وَاحِدَة فِي الْأَغْلَب لمتحركين وَلَا اعْتِقَاد وَاحِد لمعتقدين وَلَا إِرَادَة وَاحِدَة لمريدين وَلَا فكرة وَاحِدَة لمفتكرين وَلَكِن لَو أَخذ اثْنَان سَيْفا وَاحِدًا أَو رمحاً وَاحِدًا فضربا بِهِ إنْسَانا فقطعاه أَو طعناه بِهِ لكَانَتْ حَرَكَة وَاحِدَة غير منقسمة لمتحركين بهَا وفعلاً وَاحِدًا غير منقسم لفاعلين هَذَا أَمر يُشَاهد بالحس والضرورة وَهَذَا مَنْصُوص فِي الْقُرْآن من أنكرهُ كفر وَهُوَ أَن الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة عِنْد الْمُسلمين {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} وليهب لَك غُلَاما زكيا كلا الْقِرَاءَتَيْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 بِنَقْل الكواف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قُرِئت بِالْهَمْز فَهُوَ إِخْبَار جِبْرِيل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرّوح الْأمين إِنَّه هُوَ الْوَاهِب لَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا قُرِئت بِالْيَاءِ فَهُوَ من إِخْبَار جِبْرِيل عَن الله عز وَجل بِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْوَاهِب لَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذَا فعل من فاعلين نسب إِلَى الله عز وَجل الْهِبَة لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِق لتِلْك الْهِبَة ونسبت الْهِبَة أَيْضا إِلَى جِبْرِيل لِأَنَّهُ مِنْهُ ظَهرت إِذْ أَتَى بهَا وَكَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} فَأخْبر تَعَالَى أَنه رمى وَأَن نبيه رمى فَأثْبت تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّمْي ونفاه عَنهُ مَعًا وبالضرورة نَدْرِي أَن كَلَام الله عز وَجل لَا يتناقض فَعلمنَا أَن الرَّمْي الَّذِي نَفَاهُ الله عز وَجل عَن نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ غير الرَّمْي الَّذِي أثْبته لَهُ لَا يظنّ غير هَذَا مُسلم الْبَتَّةَ فصح ضَرُورَة أَن نِسْبَة الرَّمْي إِلَى الله عز وَجل لِأَنَّهُ خلقه وَهُوَ تَعَالَى خَالق الْحَرَكَة الَّتِي هِيَ الرَّمْي وممض الرَّمية وخالق مسير الرَّمْي وَهَذَا هُوَ الْمَنْفِيّ عَن الرَّامِي وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحَّ أَن الرَّمْي للَّذي أثْبته الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ظُهُور حَرَكَة الرَّمْي مِنْهُ فَقَط وَهَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا دون تكلّف وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} وَالْقَوْل فِي هَذَا كالقول فِي الرَّمْي وَلَا فرق وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {زينا لكل أمة عَمَلهم} وَقَوله تَعَالَى {وزين لَهُم الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ} ضررة أَن تَزْيِين الله لكل أمة عَملهَا إِنَّمَا هُوَ خلقه لمحبة أَعْمَالهم فِي نُفُوسهم وَأَن تَزْيِين الشَّيْطَان لَهُم أَعْمَالهم إِنَّمَا هُوَ بِظُهُور الدُّعَاء إِلَيْهَا وبوسوسة وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيراً بِإِذن الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} أفليس هَذَا فعلا من فاعلين من الله تَعَالَى وَمن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بِنَصّ الْآيَة وَهل خَالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إِلَّا الله وَقد أخبر عِيسَى إِذْ يخلق وَيُبرئ فَهُوَ فعل من فاعلين بِلَا شكّ وَقَالَ عز وَجل مخبرا عَن نَفسه أَنه يحيي وَيُمِيت وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَن نَفسه وأحي الْمَوْتَى بِإِذن الله فبالضرورة نعلم أَن الْمَيِّت الَّذِي أَحْيَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالطير الَّذِي خلق ينص الْقُرْآن فَإِن الله تَعَالَى أَحْيَاهُ وخلقه وَعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَحْيَاهُ وخلقه بِنَصّ الْقُرْآن فَهَذَا كُله فعل من فاعلين بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم} وَقد علمنَا يَقِينا أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أحلّهُم فِيهَا بِلَا شكّ لَكِن لما ظهر مِنْهُم السَّبَب الَّذِي حلوا بِهِ دَار الْبَوَار أضيف ذَلِك إِلَيْهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن إِبْلِيس {كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة} وَقد علمنَا أَن الله تَعَالَى هُوَ أخرجهُمَا وَأخرج إِبْلِيس مَعَهُمَا وَلَكِن لما ظهر من إِبْلِيس السَّبَب فِي خروجهما أضيف ذَلِك إِلَيْهِ وكما قَالَ تَعَالَى {لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} فَنَقُول أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجنَا من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَقد علمنَا أَن الْمخْرج لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَلنَا هُوَ الله تَعَالَى لَكِن لما ظهر السَّبَب فِي ذَلِك مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أضيف الْفِعْل إِلَيْهِ فَهَذَا كُله لَا يُوجب الشّركَة بَينهم وَبَين الله تَعَالَى كَمَا تموه الْمُعْتَزلَة وكل هَذَا فعل من فاعلين وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَفْعَال الظَّاهِرَة من النَّاس وَلَا فرق وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} وَقَالَ تَعَالَى {وأملي لَهُم أَن كيدي متين} وَقَالَ تَعَالَى {الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملى لَهُم} فَعلمنَا ضَرُورَة أَن إملاء الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ تَركه إيَّاهُم دون تَعْجِيل عِقَاب بل بسط لَهُم من الدُّنْيَا وَمد لَهُم من الْعُمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 مَا كَانَ لَهُم عوناً على الْكفْر والمعاصي وَعلمنَا أَن إملاء الشَّيْطَان إِنَّمَا هُوَ بالوسوسة وإنساء الْعقَاب والحض لَهُم على الْمعاصِي وَقَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} فَهَذَا فعل من فاعلين ضَرُورَة نسب إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ اخترعه وخلقه وَإِنَّمَا نسب إِلَيْنَا لأننا تحركنا فِي زرعه فظهرت الْحَرَكَة المخلوقة فِينَا فَهَذِهِ كلهَا أَفعَال خلقهَا الله تَعَالَى وأظهرها فِي عباده فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَتَحْقِيق هَذَا القَوْل فِي الْأَفْعَال هُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق كل مَا خلق قسمَيْنِ فَقَط جوهراً حَامِلا وعرضاً مَحْمُولا ناطقاً وَغير نَاطِق فَغير الْحَيّ هُوَ الجماد كُله والناطق هُوَ الْمَلَائِكَة وحور الْعين وَالْجِنّ وَالْإِنْس فَقَط غير النَّاطِق هُوَ كل مَا عدا ذَلِك من الْحَيَوَان ثمَّ خلق تَعَالَى فِي الجمادات وَفِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَفِي الْحَيّ النَّاطِق حَرَكَة وسكوناً وتأثيراً قد ذَكرْنَاهُ آنِفا فالفلك يَتَحَرَّك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن وَالنَّار تحرق والثلج يبرد وَهَكَذَا فِي كل شَيْء بِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وَجَمِيع اللُّغَات قَالَ تَعَالَى {تلفح وُجُوههم النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبداً رابياً} وَقَالَ تَعَالَى {فإمَّا الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره} {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس} وَمثل هَذَا كثير جدا وَبِهَذَا جَاءَت اللُّغَات فِي نِسْبَة الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فِي الجمادات إِلَيْهَا لظهورها فِيهَا فَقَط لَا يخْتَلف لُغَة فِي ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام رب أَنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} فَأخْبر أَن الْأَصْنَام تضل وَقَالَ تَعَالَى {تَذْرُوهُ الرِّيَاح} وَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى والأعراض أَيْضا تفعل كَمَا ذكرنَا قَالَ عز وَجل {وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} فالظن يردى وَالْعَمَل يرفع وَلم تخْتَلف أمة فِي صِحَة القَوْل أعجبني عمل فلَان وسرني خلق فلَان وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد وجدنَا الْحر يحلل ويصعد وَالْبرد يجمد وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد بَيناهُ وَالْكل خلق الله عز وَجل وَأما حَرَكَة الْحَيّ غير النَّاطِق والحي النَّاطِق وسكونهما وتأثيرهما فَظَاهر أَيْضا ثمَّ خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَفِي الْحَيّ النَّاطِق قصدا ومشيئة لم يخلق ذَلِك فِي الجماد كإرادة الْحَيَوَان الرَّعْي وَتَركه وَالْمَشْي وَتَركه وَالْأكل وَتَركه وَمَا أشبه هَذَا ثمَّ خلق تَعَالَى فِي الْحَيّ النَّاطِق تمييزاً لم يخلقه فِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَلَا فِي الجماد وَهُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والمعارف هَذَا كُله أَمر مشَاهد وكل ذَلِك خلق الله تَعَالَى فِيمَا خلقه فِيهِ وَنسب الْفِعْل فِي كل ذَلِك إِلَى من أظهره الله تَعَالَى مِنْهُ فَقَط فخلق تَعَالَى كَمَا ذكرنَا فِي الْحَيّ النَّاطِق الْفِعْل وَالِاخْتِيَار والتمييز وَخلق فِي الْحَيّ غيرالناطق الْفِعْل وَالِاخْتِيَار فَقَط وَخلق فِي الجماد الْفِعْل فَقَط وَهُوَ الْحَرَكَة والسكون والتأثير كَمَا ذكرنَا وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فرق بَين من كَابر وجاهر فَأنْكر فعل المطبوع بطبعه وَقَالَ لَيْسَ هُوَ فعله بل هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيهِ فَقَط وَبَين آخر جاهر وكابر فَأنْكر فعل الْمُخْتَار بِاخْتِيَارِهِ وَقَالَ لَيْسَ هُوَ فعله بل هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيهِ فَقَط وكلا الْأَمريْنِ محسوس بالحس مَعْلُوم بِأول الْعقل وضرورته أَنه فعل لما ظهر مِنْهُ وَمَعْلُوم كل ذَلِك بالبرهان الضَّرُورِيّ أَنه خلق الله تَعَالَى فِي المطبوع وَفِي الْمُخْتَار فَإِن فروا إِلَى القَوْل بِأَن الله تَعَالَى لم يخلق فعل الْمُخْتَار وَأَنه فعل الْمُخْتَار فَقَط قُلْنَا قد بَينا بطلَان هَذَا قبل وَلَكِن نعارضكم هَا هُنَا بِأَن مِنْكُم من يَقُول بِأَن الله تَعَالَى أَيْضا لم يخلق فعل المطبوع وَأَنه فعل المطبوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فَقَط كمعمر وَغَيره من كبار الْمُعْتَزلَة فَإِن قَالُوا أَخطَأ من قَالَ هَذَا وَكفر قُلْنَا لَهُم وَأَخْطَأ أَيْضا وَكفر من قَالَ أَن أَفعَال الْمُخْتَار لم يخلقها الله تَعَالَى وَلَا فرق فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى هُوَ خَالق الطبيعة والمطبوع الَّذين ينسبون الْفِعْل إِلَيْهِمَا فَهُوَ خَالق ذَلِك الْفِعْل قُلْنَا لَهُم وَالله عز وَجل أَيْضا هُوَ خَالق الْمُخْتَار وخالق اخْتِيَاره وخالق قوته وهم الَّذين ينسبون الْفِعْل إِلَيْهِم فَهُوَ عز وَجل خَالق ذَلِك الْفِعْل وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا من إِضَافَة التَّأْثِير وَجَمِيع الْأَفْعَال إِلَى كل من ظَهرت مِنْهُ من جماد أَو عرض أَو حَيّ أَو نَاطِق أَو غير نَاطِق فَهُوَ الَّذِي تشهد بِهِ الشَّرِيعَة وَبِه جَاءَ الْقُرْآن وَالسّنَن كلهَا وَبِه تشهد الْبَيِّنَة لِأَنَّهُ أَمر محسوس مشَاهد وَبِه تشهد جَمِيع اللُّغَات من جَمِيع أهل الأَرْض قاطبة لَا نقُول لُغَة الْعَرَب فَقَط بل كل لُغَة لَا نحاشي شَيْئا مِنْهَا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا شَيْء أصح مِنْهُ فَإِن قَالُوا تسمون الجماد وَالْعرض كسبا قُلْنَا لَا لأَنا لَا نتعدى مَا جَاءَت بِهِ اللُّغَة من أحَال اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِرَأْيهِ فقد دخل فِي جملَة من قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَلحق بالسوفسطائية فِي أبطالهم التفاهم وَلَو جَاءَت اللُّغَة بذلك لقلناه كَمَا نقُول أَن الله عز وَجل فَاعل ذَلِك وَلَا نُسَمِّيه كاسباً فَإِن قيل أتقولون أَن الجمادات وَالْعرض عَامل قُلْنَا نعم لِأَن اللُّغَة جَاءَت بذلك وَبِه نقُول الْحَدِيد يعْمل وَالْحر يعْمل فِي الْأَجْسَام وَهَكَذَا فِي غير ذَلِك فَإِن قيل أتقولون للجماد وَالْعرض استطاعة وَقُوَّة وطاقة وقدرة قُلْنَا إِنَّمَا نتبع اللُّغَة فَقَط فَنَقُول إِن الجمادات والأعراض قوى يظْهر بهَا مَا خلق الله تَعَالَى فِيهَا من الْأَفْعَال وفيهَا طَاقَة لَهَا وَلَا نقُول فِيهَا قدرَة وَلَا نمْنَع من أَن نقُول فِيهَا طَاقَة قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} فَنَقُول الْحَدِيد ذُو بَأْس شَدِيد وَذُو قُوَّة عَظِيمَة وَذُو طَاقَة وَقد قُلْنَا لكم لَا نتعدى فِي التَّسْمِيَة والعبارة جملَة مَا جَاءَت بِهِ اللُّغَة وَلَا نتعدى فِي تَسْمِيَة الله تَعَالَى وَالْخَبَر عَنهُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَنَصّ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ بِهِ الْبُرْهَان وَمَا عداهُ فَبَاطِل وضلال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما اعتراضهم بهل الْخلق هُوَ الْكسْب أَو غَيره فَنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنَا وَجَمِيع أَعمالنَا وأفعالنا لذَلِك هُوَ خلق الله عز وَجل فِينَا كَمَا ذكرنَا لِأَن كل ذَلِك شَيْء وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} ولكننا لَا نتعدى باسم الْكسْب حَيْثُ أوقعه الله تَعَالَى مخبرا لنا بأننا نجزي بِمَا كسبت أَيْدِينَا وَبِمَا كسبنا فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَلَا يحل أَن يُقَال أَنه كسب لله تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يقلهُ وَلَا أذن فِي قَوْله وَلَا يحل أَن يُقَال أَنَّهَا خلق لنا لِأَن الله تَعَالَى لم يقلهُ وَلَا أذن فِي قَوْله لَكِن نقُول هِيَ خلق لله كَمَا نَص على أَنه خَالق كل شَيْء ونقول هِيَ كسب لنا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَلَا نُسَمِّيه فِي الشَّرِيعَة وَلَا فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله عز وَجل لِأَن الله خَالق الْأَلْسِنَة الناطقة بالأسماء وخالق الْأَسْمَاء وخالق المسميات حاشاه تَعَالَى وخالق الْهَوَاء الَّذِي يَنْقَسِم على حُرُوف الهجاء فتتركب مِنْهَا الْأَسْمَاء فَإِذا كَانَت الْأَسْمَاء مخلوقة لله والمسميات دونه تَعَالَى مخلوقة لله عز وَجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وَجل فَلَيْسَ لأحد إِيقَاع اسْم على مُسَمّى لم يوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة أَو أَبَاحَ إِيقَاعه عَلَيْهِ بإباحته الْكَلَام باللغة الَّتِي أمرنَا الله عز وَجل بالتفاهم بهَا وَبِأَن نتعلم بهَا ديننَا ونعلمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 بهَا وَقد نَص تَعَالَى على هَذَا القَوْل مُنْكرا على قوم أوقعوا اسْما على مسميات لم يَأْذَن الله تَعَالَى بهَا وَلَا بإيقاعها عَلَيْهِ {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} فَأخْبر عز وَجل أَن من أوقع اسْما على مُسَمّى لم يَأْتِ بِهِ نَص بإيجابه أَو بِالْإِذْنِ فِيهِ بالشريعة أَو بجملة اللُّغَة فَإِنَّمَا يتبع الظَّن وَالظَّن أكذب الحَدِيث وَإِنَّمَا يتبع هَوَاهُ وَقد حرم الله تَعَالَى اتِّبَاع الْهوى وَأخْبر تَعَالَى أَن الْهدى قد جَاءَ من عِنْده وَقَالَ تَعَالَى {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} فَلَيْسَ لأحد أَن يتَعَدَّى الْقُرْآن وَالسّنة اللَّذين هما هدى الله عز وَجل وَبِه التَّوْفِيق فصح ضَرُورَة أَنه لَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَن أفعالنا خلق لنا وَلَا أَنَّهَا كسب لله عز وَجل وَلَكِن الْحق الَّذِي لَا يجوز خِلَافه هُوَ أَنَّهَا خلق لله تَعَالَى كسب لنا كَمَا جَاءَ فِي هدى الله الَّذِي هُوَ الْقُرْآن وَقد بَينا أَيْضا أَن الْخلق هُوَ الإبداع والاختراع وَلَيْسَ هَذَا لنا أصلا فأفعالنا لَيست خلقا لنا وَالْكَسْب إِنَّمَا هُوَ استضافة الشَّيْء إِلَى جاعله أَو جَامعه بِمَشِيئَة لَهُ وَلَيْسَ يُوصف الله تَعَالَى بِهَذَا فِي أفعالنا فَلَا يجوز أَن يُقَال هِيَ كسب لَهُ تَعَالَى وَبِه نتأيد وَأَيْضًا فقد وافقونا كلهم على تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق للأجسام وَكلهمْ حاشا معمر أَو عَمْرو بن بَحر الجاحظ موافقون لنا على تَسْمِيَة البارئ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق للأعراس كلهَا حاشا أَفعَال المختارين وَكلهمْ وَمعمر والجاحظ أَيْضا موافقون لنا على تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق الإماتة والأحياء وَكلهمْ موافقون لنا على أَنه تَعَالَى إِنَّمَا سمي خَالِقًا لكل مَا خلق لإبداعه إِيَّاه وَكم يكن قبل ذَلِك فَإِذا ثَبت بالبرهان اختراعه تَعَالَى لسَائِر الْأَعْرَاض الَّتِي خالفونا فِيهَا وَجب أَن يُسمى خلقا لَهُ عز وَجل وَيُسمى هُوَ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا وَأما اعتراضهم بِأَنَّهُ إِذا كَانَت أفعالنا خلقا لله تَعَالَى وَكَانَ مُتَوَهمًا منا ومستطاعاً عَلَيْهِ فِي ظَاهر امرنا بسلامة جوارحنا أَن لَا تكون تِلْكَ الْأَفْعَال فقد ادعينا أننا مستطيعون فِي ظَاهر الْأَمر بسلامة الْجَوَارِح وَأَنه متوهم منا منع الله من أَن يخلقها وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَازم للمعتزلة على الْحَقِيقَة لَا لنا لأَنهم الْقَائِلُونَ أَنهم يقدرُونَ ويستطيعون على الْحَقِيقَة على ترك أفعالهم وعَلى ترك الْوَطْء الَّذِي قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَن يخلق مِنْهُ الْوَلَد وعَلى ترك الضَّرْب الَّذِي قد علم الله أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَنه يكون مِنْهُ الْمَوْت وانقضاء الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده وعَلى ترك الْحَرْث وَالزَّرْع الَّذِي قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَن يكون مِنْهُ النَّبَات الَّذِي تكون مِنْهُ الأقوات والمعاش فيلزمهم وَلَا بُد أَنهم قادرون على منع الله تَعَالَى مِمَّا قد علم وَقَالَ أَنه سيفعل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن بلغ هَهُنَا فَلَا بُد إِن يرجع إِمَّا تَائِبًا محسناً إِلَى نَفسه أَو خاسئاً غاوياً مُقَلدًا مُنْقَطِعًا أَو يتمادى على طرد قَوْله فيكفر وَلَا بُد مَعَ خِلَافه لضَرُورَة الْحس والمشاهدة وضرورة الْعقل وَالْقُرْآن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما نَحن فجوابنا هَا هُنَا أننا لم نستطع قطّ على فعل مَا لم يعلم الله أننا سنفعله وَلَا على ترك مَا علم أننا نفعله وَلَا على فسخ علم الله تَعَالَى أصلا وَلَا على تَكْذِيبه عز وَجل فِي فعل مَا أَمر تَعَالَى بِهِ وَإِن كُنَّا فِي ظَاهر الْأَمر نطلق مَا أطلق الله تَعَالَى من الِاسْتِطَاعَة الَّتِي لَا يكون بهَا إِلَّا مَا علم الله تَعَالَى أَنه يكون وَلَا مزِيد وَهِي استطاعة بِإِضَافَة لَا استطاعة على الْإِطْلَاق لَكِن نقُول هُوَ مستطيع بِصِحَّة جوارحه أَي أَنه متوهم كَون الْفِعْل مِنْهُ فَقَط فَإِن قَالُوا أفأمركم الله تَعَالَى بِأَن تكذبوا قَوْله وتبطلوا علمه إِذْ أَمركُم بِفعل مَا علم أَنه لَا تفعلونه قُلْنَا عِنْد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 تَحْقِيق الْأَمر فَإِن أمره عز وَجل لمن علم أَنه لَا يفعل مَا أَمر بِهِ أَمر تعجيز كَقَوْلِه {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديداً} وَكَقَوْلِه {من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء ثمَّ ليقطع فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تحيرت الْمُعْتَزلَة هَا هُنَا حَتَّى قَالَ بَعضهم لَو لم يقتل زيد لعاش وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل لَو لم يقتل لمات وشغب الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَو لم يقتل لعاش بقول الله عز وَجل {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سره أَن ينسأ فِي أَجله فَليصل رَحمَه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ بِظَاهِرِهِ حجَّة عَلَيْهِم لِأَن النَّقْص فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ من بَاب الْإِضَافَة وبالضرورة علمنَا أَن من عمر مائَة عَام وَعمر آخر ثَمَانِينَ سنة فَإِن الَّذِي عمر ثَمَانِينَ نقص من عدد عمر الآخر عشْرين عَاما فَهَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَة ومقتضاها على الْحَقِيقَة لَا مَا يَظُنّهُ من لَا عقل لَهُ من أَن الله تَعَالَى جَار تَحت أَحْكَام عباده إِن ضربوا زيدا أَمَاتَهُ وَإِن لم يضربوه لم يمته وَمن أَن علمه غير مُحَقّق فَرُبمَا أعاش زيدا ماية سنة وَرُبمَا أعاشه أقل وَهَذَا هُوَ البداء بِعَيْنِه ومعاذ الله تَعَالَى من هَذَا القَوْل بل الْخلق كُله مصرف تَحت أَمر الله عز وَجل وَعلمه فَلَا يقدر أحد على تعدِي مَا علم الله تَعَالَى أَنه يكون وَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا مَا سبق فِي علمه أَن يكون وَالْقَتْل نوع من أَنْوَاع الْمَوْت فَمن سَأَلَ عَن الْمَقْتُول لَو لم يقتل لَكَانَ يَمُوت أَو يعِيش فسؤاله سخيف لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْأَل لَو لم يمت هَذَا الْمَيِّت أَكَانَ يَمُوت أَو كَانَ لايموت وَهَذِه حَمَاقَة جدا لِأَن الْقَتْل عِلّة لمَوْت الْمَقْتُول كَمَا أَن الْحمى القاتلة والبطن الْقَاتِل وَسَائِر الْأَمْرَاض القاتلة علل للْمَوْت الْحَادِث عَنْهَا وَلَا فرق وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سره أَن ينسأ فِي أَجله فَليصل رَحمَه فَصَحِيح مُوَافق لِلْقُرْآنِ وَلما توجبه الْمُشَاهدَة وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن الله عز وَجل لم يزل يعلم أَن زيدا سيصل رَحمَه وَأَن ذَلِك سَبَب إِلَى أَن يبلغ من الْعُمر كَذَا وَكَذَا وَكَذَا كل حَيّ فِي الدُّنْيَا لِأَن من علم الله تَعَالَى أَن سيعمره كَذَا وَكَذَا من الدَّهْر فَإِنَّهُ تَعَالَى قد علم وَقدر أَنه سيتغذى بِالطَّعَامِ وَالشرَاب ويتنفس بالهواء وَيسلم من الْآفَات القاتلة تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي لَا بُد من استيفائها والمسبب وَالسَّبَب كل ذَلِك قد سبق فِي علم الله عز وَجل كَمَا هُوَ لَا يُبدل قَالَ تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} وَلَو كَانَ على غير هَذَا لوَجَبَ البداء ضَرُورَة ولكان غير عليم بِمَا يكون متشككاً فِيهِ لَا يكون أم لَا يكون جَاهِلا بِهِ جملَة وَهَذِه صفة المخلوقين لَا صفة الْخَالِق وَهَذَا كفر مِمَّن قَالَ بِهِ وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنَصّ الْقُرْآن يشْهد بِصِحَّة مَا قُلْنَا قَالَ الله تَعَالَى عز وَجل {لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم} وَقَالَ تَعَالَى {قل لن ينفعكم الْفِرَار أَن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل} وَقَالَ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} وَقَالَ تَعَالَى مُنكر القَوْل قوم جرت الْمُعْتَزلَة فِي ميدانهم {الَّذين قَالُوا لإخوانهم وقعدوا لَو أطاعونا مَا قتلوا قل فادرؤوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه نُصُوص لَا يبعد من ردهَا بعد ان سَمعهَا عَن الْكفْر نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وموه بَعضهم بِأَن ذكر قَول الله تَعَالَى {ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم لِأَنَّهُ تَعَالَى نَص على أَنه قضى أَََجَلًا وَلم يقل لشَيْء دون شَيْء لَكِن على الْجُمْلَة ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَأجل مُسَمّى عِنْده} فَهَذَا الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده هُوَ الَّذِي قضى بِلَا شكّ إِذْ لَو كَانَ غَيره لَكَانَ أَحدهمَا لَيْسَ أَََجَلًا إِذا أمكن التَّقْصِير عَنهُ أَو مجاوزته وَلَكِن الْبَارِي تَعَالَى مُبْطلًا إِذْ سَمَّاهُ أَََجَلًا وَهَذَا كفر لَا يَقُوله مُسلم وَأجل الشَّيْء هُوَ معياده الَّذِي لَا يتعداه وَإِلَّا فَلَيْسَ يُسمى أَََجَلًا الْبَتَّةَ وَلم يقل تَعَالَى إِن الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده هُوَ غير الْأَجَل الَّذِي قضى فأجل كل شَيْء منقضى أمره بِالضَّرُورَةِ نعلم ذَلِك وَيبين ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} قَالَ {وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا} وَقد أخبرنَا تَعَالَى بذلك أَيْضا فَقَالَ {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا} فتظاهرت الْآيَات كلهَا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ قَوْلنَا وبتكذيب من قَالَ غير ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الأرزاق فَإِن الله تَعَالَى أخبرنَا فَقَالَ {الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وخلقناكم أَزْوَاجًا} فَكل مَال حَلَال فَإِنَّمَا نقُول أَنه تَعَالَى رزقنا إِيَّاه وكل امْرَأَة حَلَال فَإنَّا نقُول إِن الله تَعَالَى زَوجْنَا إِيَّاهَا أَو ملكنا إِيَّاهَا وَأما من أَخذ مَالا بِغَيْر حق أَو امْرَأَة بِغَيْر حق فَلَا يجوز أَن نقُول انه تَعَالَى رزقنا إِيَّاه وَلَا أَن الله تَعَالَى ملكنا إِيَّاه وَلَا أَن الله أَعْطَانَا إِيَّاه وَلَا أَن الله تَعَالَى زَوجْنَا إِيَّاهَا وَلَا أَن الله تَعَالَى ملكنا إِيَّاهَا وَلَا أَنْكَحنَا إِيَّاهَا لِأَن الله تَعَالَى لم يُطلق لنا أَن نقُول ذَلِك وَقد قُلْنَا إِن الله تَعَالَى لَهُ التَّسْمِيَة لَا لنا لَكِن نقُول إِن الله ابتلانا بِهَذَا المَال وبهذه الْمَرْأَة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وَخلق تملكنا إيَّاهُمَا ونكاهما لنا واستعمالنا إيَّاهُمَا وَلَا نقُول أَنه أطعمنَا الْحَرَام وَلَا أَبَاحَ لنا الْحَرَام وَلَا وهب لنا الْحَرَام وَلَا آتَانَا الْحَرَام كَمَا ذكرنَا من التَّسْمِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَلَيْسَ إِذا كَانَت أفعالكم لكم وَللَّه تَعَالَى فقد وَجب أَنكُمْ شركاؤه فِيهَا فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا من أبرد ماموهوا بِهِ وَهُوَ عايد عَلَيْهِم لأَنهم يَقُولُونَ أَنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وَهِي بعض الْأَعْرَاض وَأَن الله تَعَالَى يفعل سَائِر الْأَعْرَاض ويخلقها ويخترعها فَهَذَا هُوَ عين الْإِشْرَاك والتشبيه فِي حَقِيقَة الْمَعْنى وَهُوَ الاختراع تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَأما نَحن فَلَا يلْزمنَا إِيجَاب الشّركَة لله تَعَالَى فِيمَا قُلْنَا لِأَن الْإِشْرَاك لَا يجب بَين المستركين إِلَّا باتفاقهما فِيمَا اشْتَركَا فِيهِ وبرهان ذَلِك أَن أَمْوَالنَا ملك لنا وَملك لله عز وَجل بِإِجْمَاع منا وَمِنْهُم وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب أَن تكون شركاؤه فِيهَا لاخْتِلَاف جِهَات الْملك لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَالك لَهَا لِأَنَّهَا مخلوقة لَهُ تَعَالَى وَهُوَ مصرفنا فِيهَا وناقلها عَنَّا وناقلنا عَنْهَا كَيفَ شَاءَ الله تَعَالَى وَهِي ملكنا لِأَنَّهَا كسب وملزمون إحكامها ومباح لنا التَّصَرُّف فِيهَا بالوجوه الَّتِي أَبَاحَهَا الله تَعَالَى لنا وَأَيْضًا فَنحْن عالمون بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَالله تَعَالَى عَالم بذلك وَلَيْسَ ذَلِك مُوجبا لِأَن نَكُون شركاءه فِي ذَلِك الْعلم لاخْتِلَاف الْأَمر فِي ذَلِك لِأَن علمنَا عرض مَحْمُول فِينَا وَهُوَ غَيرنَا وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ غَيره وَمثل هَذَا كثير جدا لَا يُحْصى فِي دهر طَوِيل بل لَا يُحْصِيه مفصلا إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 فَكيف لم يجب الِاشْتِرَاك الْبَتَّةَ بَين الله تَعَالَى وبيننا عِنْدهم فِي هَذِه الْوُجُوه كلهَا وَوَجَب أَن يكون شركاؤه فِي شَيْء لَيْسَ للاشتراك الْبَتَّةَ فِيهِ مدْخل وَهُوَ خلقه تَعَالَى لأفعال لنا هُوَ فَاعل لَهَا بِمَعْنى مخترع لَهَا وَنحن فاعلون لَهَا بِمَعْنى ظُهُورهَا مَحْمُولَة فِينَا وَهَذَا خلاف فعل الله تَعَالَى لَهَا وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا بِأَن الْأَفْعَال لله تَعَالَى من جِهَة الْخلق وَهِي لنا من جِهَة الْكسْب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تذاكرت هَذَا مَعَ شيخ طرابلسي يكنى أَبَا الْحسن معتزلي فَقَالَ لي وللأفعال جِهَات وَزَاد بَعضهم فَقَالَ أَو لَيست أعراضاً وَالْعرض لَا يحمل الْعرض وَالصّفة لَا تحمل الصّفة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جهل من قَائِله وَقَضِيَّة فَاسِدَة من أهذار الْمُتَكَلِّمين ومشاغبهم وَقَول يردهُ الْقُرْآن والمعقول وَالْإِجْمَاع من جَمِيع اللُّغَات والمشاهدة فَأَما الْقُرْآن فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {عَذَاب عَظِيم} و {عَذَاب أَلِيم} {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} وَقَالَ تَعَالَى {وأنبتها نباتاً حسنا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} وَقَالَ تَعَالَى {ومكروا مكراً كبارًا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن كيدكن عَظِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وجاؤوا بِسحر عَظِيم} وَقَالَ تَعَالَى {صفراء فَاقِع لَوْنهَا} وَقَالَ تَعَالَى {قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم} وَقَالَ تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} وَقَالَ تَعَالَى {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} وَقَالَ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله} وَقَالَ تَعَالَى {تلفح وُجُوههم النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {فأخذتكم الصاعقة} وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّا تنْبت الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار} وَقَالَ تَعَالَى {فَيخرج مِنْهُ المَاء} وَقَالَ تَعَالَى {فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبداً رابياً} {فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فوصف الله تَعَالَى الْعَذَاب بالعظم بالإيلام وَبِأَن فِيهِ أكبر وَأدنى وَوصف النَّبَات بالْحسنِ وَكيد الشَّيْطَان بالضعف وَكيد النِّسَاء بالعظم وَالْمَكْر بِالْكبرِ وَالسحر بالعظم واللون بالفقوع وَذكر أَن الْبغضَاء تبدو وَأَن الْكَلَام الطّيب يصعد إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة ترفع الْكَلَام الطّيب وَأَن الظَّن يردي وَأَن الْعَمَل الرَّدِيء يسْخط الله تَعَالَى وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَن يجمع إِلَّا فِي جُزْء ضخم فَكيف يساعد امْرأ مُسلما لِسَانه على إِنْكَار شَيْء من هَذَا بعد شَهَادَة الله عز وَجل بِمَا ذكرنَا وَأما إِجْمَاع اللُّغَات فَكل لُغَة لَا يُنكر أحد فِيهَا القَوْل بِصُورَة حَسَنَة وَصُورَة قبيحة وَحُمرَة مشرقة وَحُمرَة مضيئة وَحُمرَة كدرة وَلَا يخْتَلف أحد من أهل الأَرْض فِي أَن يَقُول صف لي عمل فلَان وَهَذَا مَوْصُوف وَصفَة عمل كَذَا وَكَذَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوا بِعَيْنِه وَهُوَ أَكثر من أَن يُحْصى وَأما الْحس وَالْعقل والمعقول فبيقين يدْرِي كل ذِي فهم أَن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هَذِه خَاصَّة الْكَيْفِيَّة الَّتِي تُوجد فِي غَيرهَا وكل هَذَا عرض يحمل عرضا وَصفَة تحمل صفة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد عارضني بَعضهم فِي هَذَا فَقَالَ لَو أَن الْعرض يحمل الْعرض لحمل ذَلِك الْعرض عرضا آخر وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود أَعْرَاض لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا بَاطِل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقلت أَن المشاهدات لَا تدفع بِهَذِهِ الدَّعْوَى الْفَاسِدَة وَهَذَا الَّذِي ذكرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 لَا يلْزم لأننا لم نقل كل عرض فَوَاجِب أَن يحمل أبدا لكننا نقُول أَن من الْأَعْرَاض مَا يحمل الْأَعْرَاض كَالَّذي ذكرنَا وَمِنْهَا مَا لايحمل الْأَعْرَاض وكل ذَلِك جَار على مَا رتبه الله عز وَجل وعَلى مَا خلقه وكل ذَلِك لَهُ نِهَايَة تقف عِنْدهَا وَلَا يزِيد وَنحن إِذا وجد فِيمَا بَيْننَا جسم يزِيد على جسم آخر زِيَادَة مَا فِي طوله أَو عرضه فَلَيْسَ يجب من ذَلِك أَن الزِّيَادَة مَوْجُودَة إِلَى مَالا نِهَايَة لَهُ لَكِن تَنْتَهِي الزِّيَادَة إِلَى حَيْثُ رتبها الله عز وَجل وتقف وَإِنَّمَا الْعلم كُله معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَقَط ونقول لَهُم أتخالف حمرَة التفاحة حمرَة الخوخة أم لَا فَلَا بُد لَهُم من أَن يَقُولُوا بِأَنَّهَا قد تخالفها فِي صفة مَا إِلَّا ان ينكروا العيان فَنَقُول لَهُم أتخالف الْحمرَة والصفرة أم لَا فَلَا بُد أَيْضا من نعم فَنَقُول لَهُم أخلاف الْحمرَة للحمرة هُوَ خلاف الْحمرَة للصفرة أم لَا فَلَا بُد من لَا وَلَو قَالُوا نعم للزمهم أَن الصُّفْرَة هِيَ الْحمرَة إِذْ كَانَت الصُّفْرَة لَا تخالفها الْحمرَة إِلَّا بِمَا تخَالف فِيهِ الْحمرَة الْحمرَة الْأُخْرَى والخضرة فَإِذا فِي الْحمرَة والصفرة صفتان بهما يَخْتَلِفَانِ غير الصّفة الَّتِي بهَا تخَالف الْحمرَة الْحمرَة الْأُخْرَى والخضرة فقد صَحَّ يَقِينا أَن الصّفة قد تحمل الصّفة وَأَن الْعرض قد يحمل الْعرض بضرورة الْمُشَاهدَة على حسب مَا رتبه الله تَعَالَى وكل ذَلِك ذُو نِهَايَة وَلَا بُد وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذِه الْمعَانِي وتناهيها هُوَ أَن الْعَالم كُله جَوْهَر حَامِل وَعرض مَحْمُول وَلَا مزِيد والجوهر أَجنَاس وأنواع وَالْعرض أَجنَاس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذَكرنَاهَا فِي كتاب التَّقْرِيب عمدتها أَن الْأَجْنَاس أقل عددا من الْأَنْوَاع المنقسمة تحتهَا بِلَا شكّ والأنواع أَكثر عددا من الْأَجْنَاس إِذْ لَا بُد من ان يكون تَحت كل جنس نَوْعَانِ أَو أَكثر من نَوْعَيْنِ وَالْكَثْرَة والقلة لَا يقعان ضَرُورَة إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة من مبدئه ومنتهاه لِأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يُمكن أَن يكون شَيْء أَكثر مِنْهُ وَلَا أقل مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيا لَهُ لِأَن هَذَا يُوجب النِّهَايَة وَلَا بُد فالعالم إِذا ذُو نِهَايَة لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئا غير الْأَجْنَاس والأنواع الَّتِي للجواهر والأعراض فَقَط والمعاني إِنَّمَا هِيَ للأشياء الْمعبر عَنْهَا بالألفاظ فَقَط فَإذْ هَذَا كَمَا ذكرنَا فَإِنَّمَا نقيس الْأَشْيَاء بصفاتها الَّتِي تقوم مِنْهَا حُدُودهَا مثل أَن نقُول مَا الْإِنْسَان فَنَقُول جسم ملون وَنَفس فِيهِ تمكن أَن تكون متصرفة فِي الْعُلُوم والصناعات يقبل الْحَيَاة وَالْمَوْت فَيُقَال مَا الْجِسْم وَمَا النَّفس وَمَا اللَّوْن وَمَا الصناعات وَمَا الْعُلُوم وَمَا الْحَيَاة وَمَا الْمَوْت فَإِذا فسرت جَمِيع هَذِه الْأَلْفَاظ ورسمت كل مَا يَقع عَلَيْهِ وَفعلت كَذَلِك فِي جَمِيع الْأَجْنَاس والأنواع فقد انْتَهَت الْمعَانِي وانقطعت وَلَا سَبِيل إِلَى التَّمَادِي بِلَا نِهَايَة أصلا لِأَن كل مَا ينطبق بِهِ أَو يعقل فَإِنَّهُ لَا يعدو الْأَجْنَاس والأنواع الْبَتَّةَ والأنواع والأجناس محصورة كَمَا بَينا وكل مَا خرج من الْأَشْخَاص إِلَى حد الْفِعْل فقد حصره الْعدَد لِأَنَّهُ ذُو مبدأ وكل مَا حصره الْعدَد فمتناه ضَرُورَة فَجَمِيع الْمعَانِي من الْأَعْرَاض وَغَيرهَا محصورة بِمَا ذكرنَا من الْبُرْهَان الصَّحِيح الَّذِي ذكرنَا أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا خرج إِلَى الْوُجُود فِي الدَّهْر مذ كَانَ الْعَالم من جنس أَو عرض فَهُوَ كُله مَحْصُور عدده متناه أمده ذُو غَايَة فِي ذَاته فِي مبدئه ومنتهاه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد نعجز نَحن عَن عد شُعُور أجسامنا ونوقن أَنَّهَا ذَات عدد متناه بِلَا شكّ فَلَيْسَ قُصُور قَوْلنَا عَن إحصاء عدد مَا فِي الْعَالم بمعترض على وجوب وجود النِّهَايَة فِي جَمِيع أشخاص جواهره وأعراضه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم إِذا كَانَ فعلنَا خلقا لله عز وَجل ثمَّ عذبنا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا عذبنا على خلقه فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا لَا يلْزم وَلَو لزمنا للزمهم إِذا كَانَ تَعَالَى يعذبنا على إرادتنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وحركتنا الواقعتين منا أَن يعذبنا على كل حَرَكَة لنا أَو على كل إِرَادَة لنا بل على كل حَرَكَة فِي الْعَالم وعَلى كل إِرَادَة فَإِن قَالُوا لَا يعذبنا إِلَّا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بِخِلَاف أمره عز وَجل وَكَذَلِكَ نقُول نَحن أَنه لَا يعذبنا إِلَّا على خلقه فِينَا الَّذِي هُوَ ظَاهر منا بِخِلَاف أمره وَهُوَ مَنْسُوب إِلَيْنَا ومكتسب لنا لإيثارنا إِيَّاه الْمَخْلُوق فِينَا فَقَط لَا على كل مَا خلق فِينَا أَو فِي غَيرنَا وَلَا فرق وَلَو أخبرنَا تَعَالَى أَنه يعذبنا على مَا خلق فِي غَيرنَا لقلنا بِهِ ولصدقناه كَمَا نقر أَنه يعذب أَقْوَامًا على مَا لم يفعلوه قطّ وَلَا أمروا بِهِ لَكِن على مَا يَفْعَله غَيرهم مِمَّن جَاءَ بعدهمْ بِأَلف عَام لِأَن أُولَئِكَ كَانُوا أول من فعل مثل ذَلِك الْفِعْل قَالَ الله تَعَالَى {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مَعَ أثقالهم} وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن أحد ابْني آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {ليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم أَلا سَاءَ مَا يزرون} وَلَيْسَ هَذَا مُعَارضا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء} بل كلا الْآيَتَيْنِ متفقة مَعَ الْأُخْرَى لِأَن الْخَطَايَا الَّتِي نفى الله عز وَجل أَن يحملهَا أحد عَن أحد هِيَ بِمَعْنى أَن يحط حمل هَذَا لَهَا من عَذَاب الْعَامِل بهَا شَيْئا فَهَذَا لَا يكون لِأَن الله عز وَجل نَفَاهُ وَأما الْحمل لمثل عِقَاب الْعَامِل للخطيئة مضاعفاً زَائِدا إِلَى عِقَابه غير حاط من عِقَاب الآخر شَيْئا فَهُوَ وَاجِب مَوْجُود وَكَذَلِكَ أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من سنّ سنة فِي الْإِسْلَام سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ مثل وزر من عمل بهَا أبدا لَا يحط ذَلِك من أوزار العاملين لَهَا شَيْئا وَلَو أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يعذبنا على فعل غَيرنَا دون أَن نسنه وَإنَّهُ يعذبنا على غير فعل فَعَلْنَاهُ أَو على الطَّاعَة لَكَانَ كل ذَلِك حَقًا وعدلاً ولوجب التَّسْلِيم لَهُ وَلَكِن الله تَعَالَى وَله الْحَمد قد أمننا من ذَلِك بقوله تَعَالَى {لَا يضركم من ضل إِذا أهتديتم} ولحكمه تَعَالَى أننا لَا نجزي إِلَّا بِمَا عَملنَا أَو كُنَّا مبتدئين لَهُ فَآمَنا ذَلِك وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَقد أيقنا أَيْضا أَنه تَعَالَى يأجرنا على مَا خلق فِينَا من الْمَرَض والمصائب وعَلى فعل غَيرنَا الَّذِي لَا أثر لنا فِيهِ كضرب غَيرنَا لنا ظلما وتعذيبهم لنا وعَلى قتل الْقَاتِل لمن قتل ظلما وَلَيْسَ هَا هُنَا من الْمَقْتُول صَبر وَلَا عمل أصلا فَإِنَّمَا أجر على فعل غَيره مُجَردا إِذا أحدثه فِيهِ وَكَذَلِكَ من أَخذ غَيره مَاله والمأخوذ مَاله لَا يعلم بذلك إِلَى أَن مَاتَ فَأَي فرق بَين أَن يأجرنا على فعل غَيرنَا وعَلى فعله تَعَالَى فِي إحراق مَال من لم يعْمل باحتراق مَاله وَبَين أَن يعذبنا على ذَلِك لَو شَاءَ عز وَجل وَأما قَوْلهم فرض الله عز وَجل الرِّضَا بِمَا قضى وَبِمَا خلق فَإِن كَانَ الْكفْر وَالزِّنَا وَالظُّلم مِمَّا خلق فَفرض علينا الرِّضَا بذلك فجوابنا إِن الله عز وَجل لم يلْزمنَا قطّ الرِّضَا بِمَا خلق وَقضى بِكُل مَا ذكر بل فرض الرِّضَا بِمَا قضى علينا من مُصِيبَة فِي نفس أَو فِي مَال مظهر تمويههم بِهَذِهِ الشُّبْهَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} فَالْجَوَاب أَن يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن هَذِه الْآيَة أعظم حجَّة على أَصْحَاب أَلا صلح وهم جُمْهُور الْمُعْتَزلَة فِي ثَلَاثَة أوجه وَهِي حجَّة على جَمِيع الْمُعْتَزلَة فِي وَجْهَيْن لِأَن فِي هَذِه الْآيَة أَن مَا أصَاب الْإِنْسَان من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَهُ من سَيِّئَة فَمن نَفسه وهم كلهم لَا يفرقون بَين الْأَمريْنِ بل الْحسن والقبيح من أَفعَال الْمَرْء كل ذَلِك عِنْدهم من نفس الْمَرْء لَا خلق الله تَعَالَى فِي شَيْء من فعله لَا حَسَنَة وَلَا قبيحة فَهَذِهِ الْآيَة مبطلة لقَوْل جَمِيعهم فِي هَذَا الْبَاب وَالْوَجْه الثَّانِي إِنَّهُم كلهم قَائِلُونَ أَنه لَا يفعل الْمَرْء حسنا وَلَا قبيحاً الْبَتَّةَ إِلَّا بِقُوَّة موهوبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 من الله تَعَالَى مكنة بهَا من فعل الْخَيْر وَالشَّر وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة تمكيناً مستوياً وَهِي الِاسْتِطَاعَة على اخْتلَافهمْ فِيهَا فهم متفقون على أَن الْبَارِي تَعَالَى خَالِقهَا وواهبها كَانَت نفس المستطيع أَو بَعْضهَا أوعر ضافية وَفِي هَذِه الْآيَة فرق بَين الْحسن والسيء كَمَا ترى وَأما الْوَجْه الثَّالِث الَّذِي خَالف فِيهِ الْقَائِلُونَ بالأصلح خَاصَّة هَذِه الْآيَة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى لم يُؤَيّد فَاعل الْحَسَنَة بِشَيْء من عِنْده تَعَالَى وَلم يُؤثر فَاعل السَّيئَة وَالْآيَة مخبرة بِخِلَاف ذَلِك فَصَارَت الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم ظَاهِرَة مبطلة لقَولهم وَأما قَوْلنَا نَحن فِيهَا فَهُوَ مَا قَالَه الله عز وَجل إِذْ يَقُول مُتَّصِلا بِهَذِهِ الْآيَة دون فصل {قل كل من عِنْد الله فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} ثمَّ قَالَ تَعَالَى بأثر ذَلِك بعد كَلَام يسير {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح بِمَا ذكرنَا أَن كل هَذَا الْكَلَام مُتَّفق لَا مُخْتَلف فَقدم الله تَعَالَى إِن كل شَيْء من عِنْده فصح بِالنَّصِّ أَنه تَعَالَى خَالق الْخَيْر وَالشَّر وخالق كل مَا أصَاب الْإِنْسَان ثمَّ أخبر تَعَالَى أَن مَا أَصَابَنَا من حَسَنَة فَمن عِنْده وَهَذَا هُوَ الْحق لِأَنَّهُ لَا يجب لنا تَعَالَى عَلَيْهِ شَيْء فالحسنات الْوَاقِعَة منا فضل مُجَرّد مِنْهُ لَا شَيْء لنا فِيهِ وإحسان مِنْهُ إِلَيْنَا لن نستحقه قطّ عَلَيْهِ وَأخْبر عز وَجل أَن مَا أَصَابَنَا من مُصِيبَة فَمن أَنْفُسنَا بعد أَن قَالَ إِن الْكل من عِنْد الله تَعَالَى فصح أننا مستحقون بالنكال لظُهُور السَّيئَة منا وإننا عاصون بذلك كَمَا حكم علينا تَعَالَى فَحكمه الْحق وَالْعدْل وَلَا مزِيد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا فَإِذا كَانَ الله خالقكم وخالق أفعالكم فَأنْتم والجمادات سَوَاء قُلْنَا كلا لِأَن الله تَعَالَى خلق فِينَا علما نَعْرِف بِهِ أَنْفُسنَا الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَخلق فِينَا مَشِيئَة لكل مَا خلق فِينَا يُسمى فعلا لنا فخلق فِيهِ اسْتِحْسَان مَا يستحسنه واستقباح مَا يستقبحه وَخلق تَصرفا فِي الصناعات والعلوم وَلم يخلق فِي الجمادات شَيْئا من ذَلِك فَنحْن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أَو كَارِهُون متصرفون علما بِخِلَاف الجمادات فَإِن قيل فَأنْتم مالكون لأموركم مفوض إِلَيْكُم أَعمالكُم مخترعون لأفعالكم قُلْنَا لَا لِأَن الْملك والاختراع لَيْسَ هُوَ لأحد غير الله تَعَالَى إِذْ الْكل مِمَّا فِي الْعَالم مخترع لَهُ وَملك لَهُ عز وَجل والتفويض فِيهِ معنى من الِاسْتِغْنَاء وَلَا غَنِي بِأحد عَن الله عز وَجل وَبِه نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد أبطلنا بحول الله تَعَالَى وقوته كل مَا شغب بِهِ الْمُعْتَزلَة فِي أَن أَفعَال الْعباد غير مخلوقة لله تَعَالَى فلنأت ببرهان ضَرُورِيّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى على صِحَة القَوْل بِأَنَّهَا مخلوقه لله تَعَالَى فَنَقُول وَبِه عز وَجل نتأيد أَن الْعَالم كُله مَا دون الله تَعَالَى يَنْقَسِم قسمَيْنِ جَوْهَر وَعرض لَا ثَالِث لَهما ثمَّ يَنْقَسِم الْجَوْهَر إِلَى أَجنَاس وأنواع وَلكُل نوع مِنْهَا فصل يتَمَيَّز بِهِ مِمَّا سواهُ من الْأَنْوَاع الَّتِي يجمعها وإياه جنس وَاحِد وبالضرورة نعلم أَن مَا لزم الْجِنْس الْأَعْلَى لزم كل مَا تَحْتَهُ إِذْ محَال أَن تكون نَار غير حارة أَو هَوَاء راسب بطبعه أَو إِنْسَان صهال بطبعه وَمَا أشبه هَذَا ثمَّ بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن الْإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا إِلَّا الْحَرَكَة والسكون والفكر والإرادة وَهَذِه كلهَا كيفيات يجمعها مَعَ اللَّوْن والطعم والمحبة والأشكال جنس الْكَيْفِيَّة فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون بعض مَا تَحت النَّوْع الْوَاحِد وَالْجِنْس الْوَاحِد مخلوقاً وَبَعضه غير مَخْلُوق وَهَذَا أَمر يُعلمهُ بَاطِلا من لَهُ أدنى علم بحدود الْعَالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذَلِك مَعَ كل حَرَكَة فِي الْعَالم وكل سُكُون فِي الْعَالم نوع من الْحَرَكَة وَنَوع من السّكُون ثمَّ يَنْقَسِم كل ذَلِك قسمَيْنِ وَلَا مُرِيد حَرَكَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذَلِك حَرَكَة تحد بِحَدّ الْحَرَكَة وَسُكُون يحد بِحَدّ السّكُون وَمن الْمحَال أَن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تَعَالَى وَبَعضهَا غير مَخْلُوق وَكَذَلِكَ السّكُون أَيْضا فَإِن لجؤا إِلَى قَول معمر فِي أَن هَذِه الْأَعْرَاض كلهَا فعل مَا ظَهرت فِيهِ بطباع ذَلِك الشَّيْء سهل أَمرهم بعون الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَنهم إِذا أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ تَعَالَى خَالق مَا ظهر مِنْهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رتب كَونه وظهوره على مَا هُوَ عَلَيْهِ رُتْبَة لَا يُوجد بِخِلَافِهَا وَهَذَا هُوَ الْخلق بِعَيْنِه وَلَكنهُمْ قوم لَا يعلمُونَ كالمتكسع فِي الظُّلُمَات وكما قَالَ تَعَالَى {كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا} نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن نوع الحركات مَوْجُود قبل خلق النَّاس فَمن الْمحَال الْبَين أَن يخلق الْمَرْء مَا قد كَانَ نَوعه مَوْجُودا قبله وَأَيْضًا فَإِن عمدتهم فِي الِاحْتِجَاج على الْقَائِلين بِأَن الْعَالم لم يزل إِنَّمَا هِيَ مُقَارنَة الْأَعْرَاض للجواهر وَظُهُور الحركات مُلَازمَة للمتحرك بهَا فَإِذا كَانَ ذَلِك دَلِيلا باهراً على حُدُوث الْجَوَاهِر وَأَن الله تَعَالَى خلقهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون ذَلِك دَلِيلا باهراً أَيْضا على حُدُوث الْأَعْرَاض وَأَن الله تَعَالَى خلقهَا لَوْلَا ضعف عقول الْقَدَرِيَّة وَقلة علمهمْ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا امتحنهم بِهِ ونسأله التَّوْفِيق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق} فَأثْبت تَعَالَى أَن من خلق شَيْئا فَهُوَ لَهُ إِلَه فيلزمهم بِالضَّرُورَةِ إِنَّهُم آلِهَة لأفعالهم الَّتِي خلقوها وَهَذَا كفر مُجَرّد إِن طردوه وَإِلَّا لَزِمَهُم الِانْقِطَاع وَترك قَوْلهم الْفَاسِد وَأَيْضًا فَإِن من خلق شَيْئا لم يعنه غَيره عَلَيْهِ لَكِن انْفَرد بخلقه فبالضرورة يعلم أَنه يصرف مَا خلق كَمَا يَفْعَله إِذا شَاءَ ويتركه إِذا شَاءَ ويفعله حسنا إِذا شَاءَ وقبيحاً إِذا شَاءَ فَإذْ هم خلقُوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إِلَى أبصارنا حَتَّى نرَاهَا أَو نلمسها أَو ليزيدوا فِي قدرهَا وليخالفوها عَن رتبتها فَإِن قَالُوا لَا نقدر على ذَلِك فليعلموا انهم كاذبون فِي دعاويهم خلقهَا لأَنْفُسِهِمْ فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نفعلها كَمَا قوانا الله على فعلهَا فليعلمون أَن الله تَعَالَى إِذا هُوَ المقوي على فعل الْخَيْر وَالشَّر فَإِن بِهِ عز وَجل كَانَ الْخَيْر وَالشَّر وَإِذ لَوْلَا هُوَ لم يكن خير وَلَا شَرّ وَبِه كَانَا فَهُوَ كَونهمَا وأعان عَلَيْهِمَا وأظهرهما واخترعهما وَهَذَا معنى خلقه تَعَالَى لَهما وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان أَن الله تَعَالَى خَالق أَفعَال خلقه قَوْله تَعَالَى حاكياً عَن سحرة فِرْعَوْن مُصدقا لَهُم ومثنيا عَلَيْهِم فِي قَوْلهم {رَبنَا أفرغ علينا صبرا} فصح أَنه خَالق مَا يفرغه من الصَّبْر الَّذِي لَو لم يفرغه على الصابر لم يكن لَهُ صَبر وَأَيْضًا فَإِن جنس الحركات كلهَا والسكون كُله والمعارف كلهَا جنس وَاحِد وكل مَا قيل على الْكل قيل على جَمِيع أَجْزَائِهِ وعَلى كل بعض من أَبْعَاضه فنسألهم عَن حركات الْحَيَوَان غير النَّاطِق وسكونه ومعرفته بِمَا يعرف من مضاره ومنافعه فِي أكله وشربه وَغير ذَلِك أكل ذَلِك مَخْلُوق لله تَعَالَى أم هُوَ غير مَخْلُوق فَإِن قَالُوا كل ذَلِك مَخْلُوق كَانُوا قد نقضوا هَذِه الْمُقدمَات الَّتِي يشْهد الْعقل والحس بتصديقها وَظهر فَسَاد قَوْلهم فِي التَّفْرِيق بَين معرفتنا وَمَعْرِفَة سَائِر الْحَيَوَان بِمَا عرفه وَبَين حركاتنا وَبَين حركات سَائِر الْحَيَوَان وَبَين سكوننا وسكونه وَهَذِه مُكَابَرَة ظَاهِرَة وَدَعوى بِلَا برهَان وَإِن قَالُوا بل كل ذَلِك غير مَخْلُوق ألزمناهم مثل ذَلِك فِي سَائِر الْأَعْضَاء كلهَا فَإِن تناقضوا كفونا أنفسهم وَإِن تَمَادَوْا لَزِمَهُم أَنه تَعَالَى لم يخلق شَيْئا من الْأَعْرَاض وَهَذَا إلحاد ظَاهر وَإِبْطَال لِلْخلقِ وَكفى بِهَذَا إضلالاً ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَيَكْفِي من هَذَا أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الْأَعْرَاض تجْرِي على صِفَات الْفَاعِل وَنحن نجد الْحَكِيم لَا يقدر على الطيش وَالْبذَاء وَإِن الطياش البذي لَا يقدر على الْحيَاء وَالصَّبْر والسيء الْخلق لَا يقدر على الْحلم والحليم لَا يقدر على النرق والسخي لَا يقدر على الْمَنْع والشحيح لَا يقدر على الْجُود وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} فصح أَن من النَّاس موقى شح نَفسه مفلحاً وَغير موقي وَلَا مُفْلِح وَكَذَلِكَ الزكي لَا يقدر على البلادة والبليد لَا يقدر على الزكا والحافظ لَا يقدر على النسْيَان وَالنَّاسِي لَا يقدر على ثبات الْحِفْظ والشجاع لَا يقدر على الْجُبْن والجبان لَا يقدر على الشجَاعَة هَكَذَا فِي جَمِيع الْأَخْلَاق الَّتِي عَنْهَا تكون الْأَفْعَال فصح ان ذَلِك خلق لله تَعَالَى لَا يقدر الْمَرْء على إحاطة شَيْء من ذَلِك أصلا حَتَّى أَن مخرج صَوت أَحَدنَا وَصفَة كَلَامه لَا يقدر الْبَتَّةَ على صرفه كَمَا خلق عَلَيْهِ من الجهارة والخفاء أَو الطّيب والسماحة وَكَذَلِكَ خطه لَا يُمكنهُ صرفه عَمَّا رتبه الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَو جهد وَهَكَذَا جَمِيع حركات الْمَرْء حَتَّى وَقع قَدَمَيْهِ ومشيه فَلَو كَانَ هُوَ خَالق كل ذَلِك لصرفه كَمَا يَشَاء فَإِذا لَيْسَ فِيهِ قُوَّة على صرف شَيْء من ذَلِك عَن هَيئته فقد ثَبت ضَرُورَة أَنه خلق الله تَعَالَى فِيمَن نسب فِي اللُّغَة إِلَى أَنه فَاعله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَكْثَرت الْمُعْتَزلَة فِي التولد وتحيرت فِيهِ حيرة شَدِيدَة فَقَالَت طَائِفَة مَا يتَوَلَّد عَن فعل الْمَرْء مثل الْقَتْل والألم الْمُتَوَلد عَن رمي السهْم وَمَا أشبه ذَلِك فَإِنَّهُ فعل الله عز وَجل وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ فعل الطبيعة وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ فعل الَّذِي فعل الْفِعْل الَّذِي عَنهُ تولد وَقَالَ بَعضهم هُوَ فعل لَا فَاعل لَهُ وَقَالَ جَمِيع أهل الْحق أَنه فعل الله عز وَجل وخلقه فالبرهان فِي ذَلِك هُوَ الْبُرْهَان الَّذِي ذكرنَا فِي خلق الْأَفْعَال من أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي التَّعْدِيل والتجوير قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله هَذَا الْبَاب هُوَ أصل ضَلَالَة الْمُعْتَزلَة نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك على أننا رَأينَا مِنْهُم من لَا يرضى عَن قَوْلهم فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذَلِكَ أَن جمهورهم قَالُوا وجدنَا من فعل الْجور فِي الشَّاهِد كَانَ جائراً وَمن فعل الظُّلم كَانَ ظَالِما وَمن أعَان فَاعِلا على فعله ثمَّ عاقبه عَلَيْهِ كَانَ جائراً عابثاً قَالُوا وَالْعدْل من صِفَات الله تَعَالَى وَالظُّلم والجور منفيان عَنهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم} وَقَالَ تَعَالَى {لَا ظلم الْيَوْم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد علم الْمُسلمُونَ أَن الله تَعَالَى عدل لَا يجور وَلَا يظلم وَمن وَصفه عز وَجل بالظلم والجور فَهُوَ كَافِر وَلَكِن لَيْسَ هَذَا على مَا ظَنّه الْجُهَّال من أَن عُقُولهمْ حاكمة على الله تَعَالَى فِي أَن لَا يحسن مِنْهُ إِلَّا مَا حسنت عُقُولهمْ وَأَنه يقبح مِنْهُ تَعَالَى مَا قبحت عُقُولهمْ وَهَذَا هُوَ تَشْبِيه مُجَرّد لله تَعَالَى بخلقه إِذْ حكمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يحسن مِنْهُ مَا حسن منا ويقبح مِنْهُ مَا قبح منا وَيحكم عَلَيْهِ فِي الْعقل بِمَا يحكم علينا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَذْهَب يلْزم كل من قَالَ لما كَانَ الْحَيّ فِي الشَّاهِد لَا يكون إِلَّا بحياة وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى حَيا بحياة وَلَيْسَ بَين الْقَوْلَيْنِ فرق وَكِلَاهُمَا لَازم لمن الْتزم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 أَحدهمَا وَكِلَاهُمَا إضلال وَخطأ وَإِنَّمَا الْحق هُوَ أَن كل مَا فعله الله عز وَجل أَي شَيْء كَانَ فَهُوَ مِنْهُ عز وَجل حق وَعدل وَحِكْمَة وَإِن كَانَ بعض ذَلِك منا جوراً وسفهاً وكل مَا لم يَفْعَله الله عز وَجل فَهُوَ الظُّلم وَالْبَاطِل والعبث والتفاوت وَأما أجراؤهم الحكم على الْبَارِي تَعَالَى بِمثل مَا يحكم بِهِ بَعْضنَا على بعض فضلال بَين وَقَول سبق لَهُ أصل عِنْد الدهرية وَعند المنانية وَعند البراهمة وَهُوَ أَن الدهرية قَالَت لما وجدنَا الْحَلِيم فِيمَا بَيْننَا لَا يفعل إِلَّا لاجتلاب مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة وَوجدنَا من فعله مَا لَا فَائِدَة فِيهِ فَهُوَ عابث هَذَا الَّذِي لَا يعقل غَيره قَالُوا وَلما وجدنَا فِي الْعَالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انْتَفَى بذلك أَن يكون لَهُ فَاعل حَكِيم وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم مثل هَذَا سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنهم زادوا فَقَالُوا علمنَا بذلك أَن للْعَالم فَاعِلا سَفِيها غير الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ النَّفس وَأَن الْبَارِي الْحَكِيم خَلاهَا تفعل ذَلِك ليريها فَسَاد مَا تخيلته فَإِذا استبان ذَلِك لَهَا أفْسدهُ الْبَارِي الْحَكِيم تَعَالَى حِينَئِذٍ وأبطله وَلم تعد النَّفس إِلَى فعل شَيْء بعْدهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأبطال هَذَا القَوْل يثبت بِمَا يبطل بِهِ قَول الْمُعْتَزلَة سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَقَالَت المنانية بِمثل مَا قَالَت بِهِ الدهرية سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنَّهَا قَالَت وَمن خلق خلقا ثمَّ خلق من يضل ذَلِك الْخلق فَهُوَ ظَالِم عابث وَمن خلق خلقا ثمَّ سلط بَعضهم على بعض وأغرى بَين طالع خلقه فَهُوَ ظَالِم عابث قَالُوا فَعلمنَا أَن خَالق الشَّرّ وفاعله هُوَ غير خَالق الْخَيْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا نَص قَول الْمُعْتَزلَة إِلَّا أَنَّهَا زَادَت قبحاً بِأَن قَالَت أَن الله تَعَالَى لم يخلق من أَفعَال الْعباد لَا خيرا وَلَا شرا وَأَن خَالق الْأَفْعَال الْحَسَنَة والقبيحة هُوَ غير الله تَعَالَى لَكِن كل وَاحِد يخلق فعل نَفسه ثمَّ زَادَت تناقضاً فَقَالَت أَن خَالق عنصر الشَّرّ هُوَ إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وَفعله كل شَرّ وخالق طباعهم على تضادها هُوَ الله تَعَالَى وَقَالَت البراهمة أَن من الْعَبَث وَخلاف الْحِكْمَة وَمن الْجور الْبَين أَن يعرض الله تَعَالَى عباده لما يعلم انهم يعطبون عِنْده ويستحقون الْعَذَاب أَن وَقَعُوا فِيهِ يُرِيدُونَ بذلك إبِْطَال الرسَالَة والنبوات كلهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبالضرورة نعلم انه لَا فرق بَين خلق الشَّرّ وَبَين خلق الْقُوَّة الَّتِي لَا يكون الشَّرّ إِلَّا بهَا وَلَا بَين ذَلِك وَبَين خلق من علم الله عز وَجل أَنه لَا يفعل إِلَّا الشَّرّ وَبَين خلق إِبْلِيس وأنظاره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وتسليطه على إغواء الْعباد وإضلالهم وتقويته على ذَلِك وَتَركه يضلهم إِلَّا من عصم الله مِنْهُم فَإِن قَالُوا إِن خلق الله تَعَالَى إِبْلِيس وقوى الشَّرّ وفاعل الشَّرّ خير وَعدل وَحسن صدقُوا وَتركُوا أصلهم الْفَاسِد ولزمهم الرُّجُوع إِلَى الْحق فِي أَن خلقه تَعَالَى للشر وَالْخَيْر وَلِجَمِيعِ أَفعَال عباده وتعذيبه من شَاءَ مِنْهُم مِمَّن لم يهده وإضلاله من أضلّ وهداه من هدى كل ذَلِك حق وَعدل وَحسن وَإِن أحكامنا غير جَارِيَة عَلَيْهِ لَكِن أَحْكَامه جَارِيَة علينا وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يخفى إِلَّا على من أضلّهُ الله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من إضلاله لنا وَلَا فرق بَين شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْعقل الْبَتَّةَ وبرهان ضَرُورِيّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد يُقَال لمن قَالَ لَا يجوز أَن يفعل الله تَعَالَى إِلَّا مَا هُوَ حسن فِي الْعقل منا وَلَا أَن يخلق وَيفْعل مَا هُوَ قَبِيح فِي الْعقل فِيمَا بَينا منا يَا هَؤُلَاءِ إِنَّكُم أَخَذْتُم الْأَمر من عِنْد أَنفسكُم ثمَّ عكستموه فَعظم غلطكم وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَنْتُم مقرون بِأَن الله تَعَالَى لم يزل وَاحِدًا وَحده لَيْسَ مَعَه خلق أصلا وَلَا شَيْء مَوْجُود لَا جسم وَلَا عرض وَلَا جَوْهَر وَلَا عقل وَلَا مَعْقُول وَلَا سفه وَلَا غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 ذَلِك ثمَّ أقررتم بِلَا خلاف مِنْكُم انه خلق النُّفُوس وأحدثها بعد ان لم تكن وَخلق لَهَا الْعُقُول وركبها فِي النُّفُوس بعد إِن لم تكن الْعُقُول الْبَتَّةَ أَن لَا تحدثُوا على الْبَارِي تَعَالَى حكما لَازِما لَهُ من قبل بعض خلقه فَلَيْسَ فِي الْجُنُون أفحش من هَذَا الْبَتَّةَ ثمَّ أخبرونا إِذا كَانَ الله وَحده لَا شَيْء مَوْجُود مَعَه فَفِي أَي شَيْء كَانَت صُورَة الْحسن حَسَنَة وَصُورَة الْقَبِيح قبيحة وَلَيْسَ هُنَالك عقل أصلا يكون فِيهِ الْحسن حسنا والقبيح قبيحاً وَلَا كَانَت هُنَالك نفس عَاقِلَة أَو غير عَاقِلَة فيقبح عِنْدهَا الْقَبِيح وَيحسن الْحسن فَأَي شَيْء قَالَ تَحْسِين الْحسن وتقبيح الْقَبِيح وهما عرضان لَا بُد لَهما من حَامِل وَلَا حَامِل أصلا وَلَا مَحْمُول وَلَا شَيْء حسن وَلَا شَيْء قَبِيح حَتَّى أحدث الله تَعَالَى النُّفُوس وَركب فِيهَا الْعُقُول المخلوقة وقبح فِيهَا على قَوْلكُم مَا قبح وَحسن فِيهَا على قَوْلكُم مَا حسن فَإذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يكون مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي الْأَزَل شَيْء مَوْجُود أصلا قَبِيح وَلَا حسن وَلَا عقل يقبح فِيهِ شَيْء أَو يحسن فقد وَجب يَقِينا أَن لَا يمْتَنع من قدرَة الله تَعَالَى وَفعله شَيْء يحدثه لقبح فِيهِ وَوَجَب أَن لَا يلْزمه تَعَالَى شَيْء لحسنه إِذْ لَا قبح وَلَا حسن الْبَتَّةَ فِيمَا لم يزل فبالضرورة وَجب أَن مَا هُوَ الْآن عندنَا قَبِيح فَإِنَّهُ لم يقبح بِلَا أول بل كَانَ لقبحه أول لم يكن مَوْجُودا قبله فَكيف أَن يكون قبيحاً قبله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْحسن وَلَا فرق وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع جملَة أَن يكون مُمكنا أَن يفعل الْبَارِي تَعَالَى حِينَئِذٍ شَيْئا ثمَّ يمْتَنع مِنْهُ فعله بعد ذَلِك لِأَن هَذَا يُوجب إِمَّا تبدل طبيعة وَالله تَعَالَى منزه عَن ذَلِك وَأما حُدُوث حكم عَلَيْهِ فَيكون تَعَالَى متعبداً وَهَذَا هُوَ الْكفْر السخيف نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ فَإِن قَالُوا لم يزل الْقَبِيح قبيحاً فِي علم الله عز وَجل وَلم يزل الْحسن حسنا فِي علمه تَعَالَى قُلْنَا لَهُم هبكم أَن هَذَا كَمَا قُلْتُمْ فَعَلَيْكُم فِي هَذَا حكمان مبطلان لقولكم الْفَاسِد أَحدهمَا أَنكُمْ جعلتم الحكم فِي ذَلِك لما فِي الْمَعْقُول لَا لما سبق فِي علم الله عز وَجل فَلم تجْعَلُوا الْمَنْع من فعل مَا هوقبيح عنْدكُمْ أَلا لِأَن الْعُقُول قبحته فأحطتم فِي هَذَا وَالثَّانِي أَنه تَعَالَى أَيْضا لم يزل يعلم أَن الَّذِي يَمُوت مُؤمنا فَإِنَّهُ لَا يكفر وَلم يزل تَعَالَى يعلم أَن الَّذِي يَمُوت كَافِرًا لَا يُؤمن فَلم جوزتم قدرته على إِحَالَة مَا علم من ذَلِك وتبديله وَلم تجوزوا قدرته تَعَالَى على إِحَالَة مَا علم حسنا إِلَى الْقبْح وإحالة مَا علم قبيحاً إِلَى الْحسن وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ أصلا فَإِذا ثَبت ضَرُورَة أَنه لَا قَبِيح لعَينه وَلَا حسن لعَينه الْبَتَّةَ وانه لَا قَبِيح إِلَّا مَا حكم الله تَعَالَى بِأَنَّهُ قَبِيح وَلَا حسن إِلَّا مَا حكم بِأَنَّهُ حسن وَلَا مزِيد وَأَيْضًا فَإِن دعواكم أَن الْقَبِيح لم يزل قبيحاً فِي علم الله تَعَالَى مَا دليلكم على هَذَا بل لَعَلَّه تَعَالَى لم يزل عليماً بِأَن أَمر كَذَا يكون حسنا بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ يقبحه قيصير قبيحاً إِذا قبحه لَا قبل ذَلِك كَمَا فعل تَعَالَى بِجَمِيعِ الْملَل المنسوخة وَهَذَا أصح من قَوْلكُم لظُهُور براهين هَذَا القَوْل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَلم يزل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليماً أَن عقد الْكفْر وَالْقَوْل بِهِ قَبِيح من العَبْد إِذا فعلهمَا مُعْتَقدًا لَهما لِأَن الله قبحهما لَا لِأَنَّهُمَا حَرَكَة أَو عرض فِي النَّفس وَهَذَا هُوَ الْحق لظُهُور براهين هَذَا أَيْضا لَا لِأَن ذَلِك قَبِيح لعَينه وَيُقَال لَهُم أَيْضا أخبرونا من حسن الْحسن فِي الْعُقُول وَمن قبح الْقبْح فِي الْعُقُول فَإِن قَالُوا الله عز وَجل قُلْنَا لَهُم أَفَكَانَ الله تَعَالَى قَادر على عكس تِلْكَ الرُّتْبَة إِذْ رتبها على أَن يرتبها بِخِلَاف مَا رتبها عَلَيْهِ فَيحسن فِيهَا الْقَبِيح ويقبح فِيهَا الْحسن فَإِن قَالُوا نعم أوجبوا أَنه لم يقبح شَيْء إِلَّا بعد ان حكم الله تَعَالَى بقبحه وَلم يحسن شَيْء إِلَّا بعد ان حكم الله تَعَالَى بحسنه وَأَنه كَانَ لَهُ تَعَالَى أَن يفعل بِخِلَاف مَا فعل وَله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 ذَلِك الْآن وأبداً وَبَطل أَن يكون تَعَالَى متعبداً لنَفسِهِ وموجباً عَلَيْهِ مَا يكون ظَالِما مذموماً إِن خَالفه وَإِن قَالُوا لَا يُوصف تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى ولزمهم القَوْل بِمثل قَول عَليّ الأسواري من أَنه تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا فعل فَحكم هَذَا الردي الدّين وَالْعقل بِأَنَّهُ أقدر من ربه تَعَالَى وَأقوى لانه عد نَفسه الخسيسة يقدر على مَا فعل وعَلى مَا لم يفعل وربه تَعَالَى لَا يقدر الاعلى مَا فعل وَلَو علم الْمَجْنُون أَنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إِلَى مَا يَبْدُو مِنْهَا وَلَا يُمكن أَن يظْهر مِنْهَا غير مَا يظْهر لسخنت عينه ولطال عويله على عَظِيم مصيبته نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَمن عظم مَا حل بالقدرية المتنطعين بِالْجَهْلِ والعمى وَالْحَمْد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيرا كَمَا هُوَ أَهله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لَهُم هكم شنعتم فِي قَبِيح انه قَبِيح فَلم نفيتم عَن الله عز وَجل خلق الْخَيْر كُله وَخلق الْحسن كُله فقلتم لم يخلق الله تَعَالَى الْإِيمَان وَلَا الْإِسْلَام وَلَا الصَّلَاة وَلَا الزَّكَاة وَلَا النِّيَّة الْحَسَنَة وَلَا اعْتِقَاد الْخَيْر وَلَا إيتَاء الزَّكَاة وَلَا الصَّدَقَة ولاالبر لِأَن خلق هَذَا قَبِيح أم كَيفَ الْأَمر فبأن تمويهكم بِذكر خلق الشَّرّ وَأَنْتُم قد اسْتَوَى عنْدكُمْ الْخَيْر وَالشَّر فِي أَن الله تَعَالَى لم يخلق شَيْئا من ذَلِك كُله فدعو التمويه الضَّعِيف قَالَ أَبُو مُحَمَّد وقرأت فِي مسَائِل لأبي هَاشم عبد السَّلَام ابْن أبي عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجائي رَئِيس الْمُعْتَزلَة وَابْن رئيسهم كلَاما لم يردد فِيهِ كثيرا دون حَيَاء وَلَا رَقَبَة يجب على الله أَن بِفعل كَذَا كَأَنَّهُ الْمَجْنُون يخبر عَن نَفسه أَو عَن رجل من عرض النَّاس فليت شعري أما كَانَ لَهُ عقل أَو حس يسائل بِهِ نَفسه فَيَقُول لَيْت شعري من أوجب على الله تَعَالَى هَذَا الَّذِي قضى بووجوبه عَلَيْهِ وَلَا بُد لكل وجوب وَإِيجَاب من مُوجب ضَرُورَة وَإِلَّا كَانَ يكون فعلا لَا فَاعل لَهُ وَهَذَا كفر مِمَّا أجَازه فَمن هَذَا الْمُوجب على الله تَعَالَى حكما مَا وَهَذَا لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون أوجبه تَعَالَى عَلَيْهِ بعض خلقه أما الْعقل وَأما الْعَاقِل فَإِن كَانَ هَذَا فقد رفع الْقَلَم عَنهُ وأف لكل عقل يقوم فِيهِ أَنه حَاكم على خالقه ومحدثه بعد أَن لم يكن ومرتبه على مَا هُوَ عَلَيْهِ ومصرفه على مَا يَشَاء وَإِمَّا أَن يكون تَعَالَى أوجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يزل غير مُوجب لَهُ على نَفسه فَإِن قَالَ بِهَذَا قيل لَهُ فقد كَانَ غير وَاجِب عَلَيْهِ حَتَّى أوجبه فَإذْ هُوَ كَذَلِك فقد كَانَ مُبَاحا لَهُ أَن يعذب من لم يقدره على ترك مَا عذبه عَلَيْهِ وعَلى خلاف سَائِر مَا ذكرت أَنه أوجبه على نَفسه وَإِذا وَجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يكن وَاجِبا عَلَيْهِ فممكن لَهُ أَن يسْقط ذَلِك الْوُجُوب عَن نَفسه وَإِمَّا أَن يكون تَعَالَى لم يزل مُوجبا ذَلِك على نَفسه فَإِن قَالَ بِهَذَا لَزِمته عظيمتان مخرجتان لَهُ عَن الْإِسْلَام وَعَن جَمِيع الشَّرَائِع وهما أَن الْبَارِي تَعَالَى لم يزل فَاعِلا وَلم يزل فعله مَعَه لِأَن الْإِيجَاب فعل وَمن لم يزل مُوجبا فَلم يزل فَاعِلا وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر نَفسه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يمانع بَين جَمِيع الْمُعْتَزلَة فِي إِطْلَاق هَذَا الْجُنُون من أَنه يجب على الله أَن يفعل كَذَا وَيلْزمهُ ان يفعل كَذَا فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْكفْر الْمَحْض وَبِهَذَا يلوح بطلَان مَا يتأولونه فِي قَول الله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} وَقَوله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام حق الْعباد على الله أَن لَا يعذبهم يَعْنِي إِذا قَالُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَحقّ على الله أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال يَعْنِي عَن شَارِب الْخمر وَإِن كل هَذَا إِنَّمَا هُوَ أَن الله تَعَالَى قضى بذلك وَجعله حتما وَاجِبا وَكَونه حَقًا فَوَجَبَ ذَلِك مِنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 تَعَالَى لَا عَلَيْهِ فأبدلت من منَ على وحروف الْجَرّ يُبدل بَعْضهَا من بعض ثمَّ نقُول لَهُم من خلق إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وَالْخمر والخنازير وَالْحِجَارَة المعبودة وَالْميسر والأصنام والأزلام وَمَا أهل لغير الله بِهِ وَمَا ذبح على النصب فَمن قَوْلهم وَقَول كل مُسلم أَن الله تَعَالَى خَالق هَذَا كُله فلنسألهم أَشَيْء حسن هُوَ كل ذَلِك أم رِجْس وقبيح وَشر فَإِن قَالُوا بل رِجْس وقبيح ونجس وَشر وَفسق صدقُوا وأقروا أَنه تَعَالَى خلق الأنجاس والرجس وَالشَّر وَالْفِسْق وَمَا لَيْسَ حسنا فَإِن قَالُوا بل هِيَ حسان فِي إِضَافَة خلقهَا إِلَى الله تَعَالَى وَهِي رِجْس ونجس وَشر وَفسق تَسْمِيَة الله تَعَالَى لَهَا بذلك قُلْنَا صَدقْتُمْ وَهَكَذَا نقُول أَن الْكفْر والمعاصي هِيَ فِي أَنَّهَا أَعْرَاض وحركات خلق لله تَعَالَى حسن من خلق الله تَعَالَى كل ذَلِك وَهِي من العصاة بإضافتها إِلَيْهِم قبايح ورجس وَقَالَ عز وَجل {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} فليخبرونا بِأَيّ ذَنْب كَانَ من هَذِه الْأَشْيَاء وَجب أَن يسخطها الله تَعَالَى وَأَن يرجسها وَيجْعَل غَيرهَا طَيّبَات هَل هَا هُنَا إِلَّا أَنه تَعَالَى فعل مَا يَشَاء وَأي فرق بَين أَن يسْخط مَا شَاءَ فيلعنه مِمَّا لَا يعقل ويرضى عَمَّا شَاءَ من ذَلِك فيعلي قدره وَيَأْمُر بتعظيمه كناقة صَالح وَالْبَيْت الْحَرَام وَبَين أَن يفعل ذَلِك أَيْضا فِيمَن يعقل فَيقرب بَعْضًا كَمَا شَاءَ وَيبعد بَعْضًا كَمَا شَاءَ وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى وجود الْفرق فِيهِ أبدا ثمَّ نسألهم هَل حابى الله تَعَالَى من خلقه فِي أَرض الْإِسْلَام بِحَيْثُ لَا يلقى إِلَّا دَاعيا إِلَى الدّين ومحسنا لَهُ على من خلقه فِي أَرض الزنج والصين وَالروم بِحَيْثُ لَا يسمع إِلَّا ذاماً لدين الْمُسلمين مُبْطلًا لَهُ وصاداً عَنهُ وَهل رَأَوْا فظا وسمعوا بِمن خرج من هَذِه الْبِلَاد طَالبا لصِحَّة الْبُرْهَان على الدّين فَمن أنكر هَذَا كَابر العيان والحس وَمن أذعن لَهَا ترك قَول الْمُعْتَزلَة الْفَاسِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل الصَّحِيح هُوَ أَن الْعقل الصَّحِيح يعرف بِصِحَّتِهِ ضَرُورَة أَن الله تَعَالَى حَاكم على كل مَا دونه وَأَنه تَعَالَى غير مَحْكُوم عَلَيْهِ وَأَن كل مَا سواهُ تَعَالَى فمخلوق لَهُ عز وَجل سوآء كَانَ جوهراً حَامِلا أَو عرضا مَحْمُولا لَا خَالق سواهُ وَأَنه يعذب من يَشَاء أَن يعذبه وَيرْحَم من يَشَاء أَن يرحمه وَأَنه لَا يلْزم أحدا إِلَّا مَا ألزمهُ الله عز وَجل وَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح الله وَلَا حسن إِلَّا مَا حسن الله وَأَنه لَا يلْزم لأحد على الله تَعَالَى حق وَلَا حجَّة وَللَّه تَعَالَى على كل من دونه وَمَا دونه الْحق الْوَاجِب وَالْحجّة الْبَالِغَة لَو عذب المطيعين وَالْمَلَائِكَة والأنبياء فِي النَّار مخلدين لَكَانَ ذَلِك لَهُ ولكان عدلا وَحقا مِنْهُ وَلَو نعم إِبْلِيس وَالْكفَّار فِي الْجنَّة مخلدين كَانَ ذَلِك لَهُ وَكَانَ حَقًا وعدلاً مِنْهُ وَإِن كل ذَلِك إِذْ أَبَاهُ الله تَعَالَى وَأخْبر أَنه لَا يَفْعَله صَار بَاطِلا وجوراً وظلماً وَأَنه لَا يَهْتَدِي أحد إِلَّا من هداه الله عز وَجل وَلَا يضل أحد إِلَّا أضلّهُ الله عز وَجل وَلَا يكون فِي الْعَالم إِلَّا مَا أَرَادَ الله عز وَجل كَونه من خيرا أَو شَرّ وَغير ذَلِك وَمَا لم يرد عز وَجل كَونه فَلَا يكون الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَنحن نجد الْحَيَوَان لَا يُسمى عدوان بَعْضهَا على بعض قبيحاً وَلَا ظلما وَلَا يلام على ذَلِك وَلَا يلام على من ربى شَيْئا مِنْهَا على الْعدوان عَلَيْهَا فَلَو كَانَ هَذَا النَّوْع قبيحاً لعَينه وظلماً لعَينه لقبح مَتى وجد فَلَمَّا لم يكن كَذَلِك صَحَّ أَنه لَا يقبح شَيْء لعَينه الْبَتَّةَ لَكِن إِذا قبحه الله عز وَجل فَقَط فَإذْ قد بَطل قَوْلهم بالبرهان الْكُلِّي الْجَامِع لأصلهم الْفَاسِد فلنقل بحول الله تَعَالَى وقوته إبِْطَال أَجزَاء مسائلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين فَأول ذَلِك أَن نسألهم فَنَقُول عرفونا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 مَا هَذَا الْقَبِيح فِي الْعقل أَعلَى الْإِطْلَاق فَقَالَ قَائِلُونَ من زعمائهم مِنْهُم الْحَارِث بن عَليّ الْوراق الْبَغْدَادِيّ وَعبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الكعبي الْبَلْخِي وَغَيرهمَا أَن كل شَيْء حسن بِوَجْه مَا قلت يمْتَنع وُقُوع مثله من الله تَعَالَى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون حسنا إِذْ لَيْسَ قبيحاً الْبَتَّةَ على كل حَال وَأما مَا كَانَ قبيحاً على كل حَال فَلَا يحسن الْبَتَّةَ فَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل أبدا قَالُوا وَمن الْقَبِيح على كل حَال أَن تفعل بغيرك مَا لَا تُرِيدُ أَن يفعل بك وتكليف مَا لَا يُطَاق ثمَّ التعذيب عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَظن هَؤُلَاءِ المبطلون إِذْ أَتَوا بِهَذِهِ الحماقة أَنهم أغربوا وقرطسوا وهم بِالْحَقِيقَةِ قد هذوا وهدروا وَهَذَا عين الخطاء وَإِنَّمَا قبح بعض هَذَا النَّوْع إِذْ قبحه الله عز وَجل وَحسن بعضه إِذْ حسنه الله عز وَجل وَالْعجب من مباهتتهم فِي دَعوَاهُم أَن الْمُحَابَاة فِيمَا بَيْننَا ظلم وَلَا نَدْرِي فِي أَي شَرِيعَة أم فِي أَي عقل وجدوا أَن الْمُحَابَاة ظلم وَأَن الله تَعَالَى قد أَبَاحَهَا إِلَّا حَيْثُ شَاءَ وَذَلِكَ أَن للرِّجَال أَن ينْكح امْرَأتَيْنِ وَثَلَاثًا وأربعاً من الزَّوْجَات وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح حسن وَأَن يطَأ من إمائه أَي عدد أحب وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح حسن وَلَا يحل للْمَرْأَة أَن تنْكح غير وَاحِد وَلَا يكون عَبدهَا وَهَذَا مِنْهُ حسن وبالضرورة نَدْرِي أَن فِي قلوبهن من الْغيرَة كَمَا فِي قُلُوبنَا وَهَذَا مَحْظُور فِي شَرِيعَة غَيرنَا والنفار مِنْهُ مَوْجُود فِي بعض الْحَيَوَان بالطبع وَالْحر الْمُسلم ملكه أَن يستعبد أَخَاهُ الْمُسلم وَلَعَلَّه عِنْد الله تَعَالَى خير من سَيّده فِي دينه وَفِي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه وَلَا يجوز أَن يستعبده هوأحد لَا عَبده ذَلِك وَلَا غَيره وَهَذَا مِنْهُ حسن وَقد أحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَفسِهِ المقدسة ماأكرمه الله تَعَالَى بِهِ من أَن لاينكح أحد من بعده من نِسَائِهِ أمهاتنا رضوَان الله عَلَيْهِنَّ وَأحب هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام نِكَاح من نكح من النِّسَاء بعد أَزوَاجهنَّ وكل ذَلِك حسن جميل صَوَاب وَلَو أحب ذَلِك غَيره كَانَ مُخطئ الْإِرَادَة قبيحاً ظَالِما وَمثل هَذَا أَن تتبع كثير جدا إِذْ هُوَ فَاش فِي الْعَالم وَفِي أَكثر الشَّرِيعَة فَبَطل هَذَا القَوْل الْفَاسِد مِنْهُم وَقد نَص الله تَعَالَى على إِبَاحَة مَا لَيْسَ عدلا عِنْد الْمُعْتَزلَة بل على الْإِطْلَاق وعَلى الْمُحَابَاة حَيْثُ شَاءَ وكل ذَلِك عدل مِنْهُ قَالَ عز وَجل {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} فأباح تَعَالَى لنا أَن لَا نعدل بَين مَا ملكت أَيْمَاننَا وأباح لنا مُحَابَاة من شِئْنَا مِنْهُنَّ فصح أَن لَا عدل إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عدلا فَقَط وَإِن كل شَيْء فعله الله فَهُوَ الْعدْل فَقَط لَا عدل سوى ذَلِك وَكَذَلِكَ وجدنَا الله تَعَالَى قد أعْطى الابْن الذّكر من الْمِيرَاث حظين وَإِن كَانَ غَنِيا مكتسباً وَأعْطى الْبِنْت حظاً وَاحِدًا وَإِن كَانَت صَغِيرَة فقيرة فَبَطل قَول الْمُعْتَزلَة وَصَحَّ أَن الله تَعَالَى يحابي من يَشَاء وَيمْنَع من يَشَاء وَإِن هَذَا هُوَ الْعدْل لَا مَا تظنه الْمُعْتَزلَة عدلا بجهلها وَضعف عقولها وَأما تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق والتعذيب عَلَيْهِ فَإِنَّمَا قبح ذَلِك فِيمَا بَيْننَا لِأَن الله تَعَالَى حرم ذَلِك علينا فَقَط وَقد علمت الْمُعْتَزلَة كَثْرَة عدد من يخالفهم فِي أَن هَذَا لَا يقبح من الله تَعَالَى الَّذِي لَا آمُر فَوْقه وَلَا يلْزمه حكم عقولنا وَمَا دَعوَاهُم على مخالفيهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنهم خالفوا قَضِيَّة الْعقل ببديهته إِلَّا كدعوى المجسم عَلَيْهِم أَنهم خالفوا قَضِيَّة الْعقل ببديهته إِذْ أَجَازُوا وجود الْفِعْل مِمَّا لَيْسَ جسماً وَإِذ أجَاز واحيا بِلَا حَيَاة وعالماً لَا بِعلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلتا الدعويين على الْعُقُول كَاذِبَة وَقد بَينا فِيمَا سلف من كتَابنَا هَذَا غلط من ادّعى فِي الْعقل مَا لَيْسَ فِيهِ وَبينا أَن الْعقل لَا يحكم بِهِ على الله الَّذِي خلق الْعقل ورتبه على ماهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 بِهِ وَلَا مزِيد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة أَن من الْقَبِيح بِكُل حَال والمحظور فِي الْعقل بِكُل وَجه كفر نعْمَة الْمُنعم وعقوق الْأَب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْخَطَأ لِأَن الْعَاقِل الْمُمَيز بالأمور إِذا تدبرها علم يَقِينا أَنه لَا منعم على أحد إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الَّذِي أوجده من عدم ثمَّ جعل لَهُ الْحَواس والتمييز وسخر لَهُ مَا فِي الأَرْض وَكَثِيرًا مِمَّا فِي السَّمَاء وخوله المَال وَإِن كل منعم دون الله عز وَجل فَإِن كَانَ منعماً بِمَال فَإِنَّمَا أعْطى من مَال الله عز وَجل فالنعمة لله عز وَجل دونه وَإِن كَانَ ممرضاً أَو معتقاً أَو خَائفًا من مَكْرُوه فَإِنَّمَا صرف فِي ذَلِك كلما وهبه الله عز وَجل من الْكَلَام وَالْقُوَّة والحواس والأعضاء وَإِنَّمَا تصرف بِكُل ذَلِك فِي ملك الله عز وَجل وَفِيمَا هُوَ تَعَالَى أولى بِهِ مِنْهُ فالنعمة لله عز وَجل دونه فَالله تَعَالَى هُوَ ولي كل نعْمَة فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فَلَا منعم إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى منعماً وَلَا يجب شكر منعم إِلَّا بعد أَن يُوجب الله تَعَالَى شكره فَحِينَئِذٍ يجب وَإِلَّا فَلَا وَيكون حِينَئِذٍ من لم يشكره عَاصِيا فَاسِقًا أَتَى كَبِيرَة لخلاف أمرالله تَعَالَى بذلك فَقَط وَلَا فرق بَين تولدنا من مني أبوينا وَبَين تولدنا من التُّرَاب وَالْأَرْض وَلَا خلاف فِي أَنه لَا يلْزمنَا بر التُّرَاب وَلَا لَهُ علينا حق لَيْسَ ذَلِك إِلَّا لِأَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل لَهُ علينا حَقًا وَقد يرضع الصَّغِير شَاة فَلَا يجب لَهَا عَلَيْهِ حق لِأَن الله تَعَالَى لم يَجعله لَهَا وَجعله لِلْأَبَوَيْنِ وَإِن كَانَا كَافِرين مجنونين وَلم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عَنَّا بلذاتهما لَيْسَ هَهُنَا إِلَّا أَمر الله تَعَالَى فَقَط وبرهان آخر أَن امْرأ لَو زنى بِامْرَأَة عَالما بِتَحْرِيم ذَلِك أَو غير ذَلِك عَالم إِلَّا أَنه مِمَّن لَا يلْحق بِهِ الْوَلَد الْمَخْلُوق من نطفته النَّازِلَة من ذَلِك الْوَطْء فَإِن بره لَا يلْزم ذَلِك الْوَلَد أصلا وَيلْزمهُ بر أمه لَان الله تَعَالَى أمره بذلك لَهَا وَلم يَأْمُرهُ بذلك فِي الَّذِي تولد من نطفته فَقَط وَلَا فرق فِي الْعقل بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي ذَلِك وَلَا فرق فِي الْمَعْقُول وَفِي الْولادَة تولد الْجَنِين من نُطْفَة الْوَاطِئ لأمه بَين أَوْلَاد الزِّنَا وَأَوْلَاد الرشدة لَكِن لما ألزم الله تَعَالَى أَوْلَاد الرشدة المتولدين عَن عقد نِكَاح أَو ملك يَمِين فاسدين أَو صَحِيحَيْنِ برآماتهم وشكرهم وَجعل عقوقهم من الْكَبَائِر لزمنا ذَلِك وَلما لم يلْزم ذَلِك أَوْلَاد الزَّانِيَة لم يلْزمهُم وَقد علمنَا نَحن وهم يَقِينا أَن رجلَيْنِ مُسلمين لَو خرجا فِي سفر فَأَغَارَ أَحدهمَا على قَرْيَة من قرى دَار الْحَرْب فَقتل كل رجل بَالغ فِيهَا وَأخذ جَمِيع أَمْوَالهم وسبى ذَرَارِيهمْ ثمَّ خمس ذَلِك بِحكم الإِمَام الْعدْل وَوَقع فِي حَظه أَطْفَال قد تولى هُوَ قتل آبَائِهِم وسبى أمهاتهم ووقعن أَيْضا بِالْقِسْمَةِ الصَّحِيحَة فِي حِصَّته فنكحهن وَصرف أَوْلَادهنَّ فِي كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده وَلم يكلفهم من ذَلِك إِلَّا مَا يُطِيقُونَ وكساهم وَأنْفق عَلَيْهِم بِالْمَعْرُوفِ كَمَا أَمر الله تَعَالَى فَإِن حَقه وَاجِب عَلَيْهِم بِلَا خلاف وَلَو أعتقهم فَإِنَّهُ منعم عَلَيْهِم وشكره فرض عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ لَو فعل ذَلِك بِمن اشْتَرَاهُ وهومسلم بعد وأغار الثَّانِي على قَرْيَة للْمُسلمين فَأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فَقَط وَلم يقتل أحدا وَلَا سبى لَهُم حُرْمَة فربى الصّبيان أحسن تربية وَكَانُوا فِي قَرْيَة شقاء وَجهد وتعب وشظف عَيْش وَسُوء حَال فرفه مَعَايشهمْ وعلمهم الْعلم وَالْإِسْلَام وخولهم المَال ثمَّ أعتقهم فَلَا خلاف فِي أَنه لَا حق لَهُ عَلَيْهِم وَإِن ذمه وعداوته فرض عَلَيْهِم وَإنَّهُ لَو وطئ امْرَأَة مِنْهُنَّ وَهُوَ مُحصن وَكَانَ أحدهم قد ولي حكما للزمه شدخ رَأسه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوت أَفلا يتَبَيَّن لكل ذِي عقل من أهل الْإِسْلَام إِنَّه لَا محسن وَلَا منعم إِلَّا الله تَعَالَى وَحده لَا شريك لَهُ إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى محسناً أَو منعماً وَلَا شكر لَازِما لأحد على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 أحد إِلَّا من ألزمهُ الله تَعَالَى شكره وَلَا حق لأحد على أحد إِلَّا من جعل الله تَعَالَى لَهُ حَقًا فَيجب كل ذَلِك إِذْ أوجبه الله تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا وَقد أَجمعُوا مَعنا على أَن من أَفَاضَ إِحْسَان الدُّنْيَا على إِنْسَان أفاضه بِوَجْه حرمه الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يلْزمه شكره وَإِن من أحسن إِلَى آخر غَايَة الْإِحْسَان فشكره بِأَن اعانه فِي دُنْيَاهُ بِمَا لَا يجوز فِي الدّين فَإِنَّهُ مسيء إِلَيْهِ ظَالِم فصح يَقِينا أَنه لَا يجب شَيْء وَلَا يحسن شَيْء وَلَا يقبح شَيْء إِلَّا مَا أوجبه الله تَعَالَى فِي الدّين أَو حسنه الله فِي الدّين أَو قبحه الله فِي الدّين فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَقَالَ بَعضهم الْكَذِب قَبِيح على كل حَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَقد أَجمعُوا مَعنا على بطلَان هَذَا القَوْل وعَلى تَحْسِين الْكَذِب فِي مَوَاضِع خَمْسَة إِذْ حسنه الله تَعَالَى وَذَلِكَ نَحْو إِنْسَان مُسلم مستتر من أَمَام ظَالِم يَظْلمه ويطلبه فَسَأَلَ ذَلِك الظَّالِم هَذَا الَّذِي استتر عِنْده الْمَطْلُوب وَسَأَلَ أَيْضا كل من عِنْده خَبره وَعَن مَاله فَلَا خلاف بَين أحد من الْمُسلمين فِي أَنه أَن صدقه ودله على مَوْضِعه وعَلى مَا لَهُ فَإِنَّهُ عَاص لله عز وَجل فَاسق ظَالِم فَاعل فعلا قبيحاً وَإنَّهُ لَو كذبه وَقَالَ لَهُ لَا أَدْرِي مَكَانَهُ وَلَا مَكَان مَاله فَإِنَّهُ مأجور محسن فَاعله فعلا حسنا وَكَذَلِكَ كذب الرجل لامْرَأَته فِيمَا يستجر بِهِ مودتها وَحسن صحبتهَا وَالْكذب فِي حَرْب الْمُشْركين فِيمَا يُوجد بِهِ السَّبِيل إِلَى إهلاكهم وتخليص الْمُسلمين مِنْهُم فصح أَنه إِنَّمَا قبح الْكَذِب حَيْثُ قبحه الله عز وَجل وَلَوْلَا ذَلِك مَا كَانَ قبيحاً بِالْعقلِ أصلا إِذْ مَا وَجب بضرورة الْعقل فمحال أَن يَسْتَحِيل فِي هَذَا الْعَالم الْبَتَّةَ عَمَّا رتبه الله عز وَجل فِي وجود الْعقل إِيَّاه كَذَلِك فصح كذبهمْ على الْعُقُول وَقَالَ بَعضهم الظُّلم قَبِيح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ ونسألهم مَا معنى الظُّلم فَلَا يَجدونَ إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه قتل النَّاس وَأخذ أَمْوَالهم وآذاهم وَقتل الْمَرْء نَفسه أَو التشويه بهَا أَو إِبَاحَة حرمه للنَّاس ينكحونهن وكل هَذَا فَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ قبيحاً لعَينه وَقد أَبَاحَ الله عز وَجل أَخذ أَمْوَال قوم بخراسان من أجل ابْن عمهم قتل بالأندلس رجلا خطأ لم يرد قَتله لَكِن رمى صيدا مُبَاحا لَهُ أَو رمى كَافِرًا فِي الْحَرْب فصادف الْمُسلم السهْم وَهُوَ خَارج من خلف جبل فَمَاتَ ووجدناه تَعَالَى قد أَبَاحَ دم من زنى وَهُوَ مُحصن وَلم يطَأ امْرَأَة قطّ إِلَّا زَوْجَة لَهُ عجوزاً شعرهَا سَوْدَاء وَطئهَا مرّة ثمَّ مَاتَت وَلَا يجد من أَن ينْكح وَلَا من أَن يتسرى وَهُوَ شَاب مُحْتَاج إِلَى النِّسَاء وَحرم دم شيخ زنى وَله ماية جَارِيَة كَالنُّجُومِ حسنا إِلَّا أَنه لم يكن لَهُ قطّ زَوْجَة وَأما قتل الْمَرْء نَفسه فقد حسن الله تَعَالَى تَعْرِيض الْمَرْء نَفسه للْقَتْل فِي سَبِيل الله عز وَجل وصدمة الجموع الَّتِي يُوقن أَنه مقتول فِي فعله ذَلِك وَقد أَمر عز وَجل من قبلنَا بقتل نَفسه قَالَ تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم فَتَابَ عَلَيْكُم} وَلَو أمرنَا عز وَجل بِمثل ذَلِك لَكَانَ حسنا كَمَا كَانَ حسنا أمره عز وَجل بذلك بني إِسْرَائِيل وَأما التشويه بِالنَّفسِ فَإِن الْخِتَان وَالْإِحْرَام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود لَوْلَا أَمر الله تَعَالَى بذلك وتحسينه إِيَّاه لَكَانَ لَا معنى لَهُ ولكان على أصولهم تشويهاً وَدَلِيل ذَلِك أَن أَمر أَمن النَّاس لَو قَامَ ثمَّ وضع رَأسه فِي الأَرْض فِي غير صَلَاة بِحَضْرَة النَّاس لَكَانَ عابثاً بِلَا شكّ مَقْطُوعًا عَلَيْهِ بالهوس وَكَذَلِكَ لَو تجرد الْمَرْء من ثِيَابه أَمَام الجموع فِي غير حج وَلَا عمْرَة وكشف رَأسه وَرمى بالحصى وَطَاف بِبَيْت مهر وَلَا مستديراً بِهِ لَكَانَ مَجْنُونا بِلَا شكّ لَا سِيمَا أَن امْتنع من قبل قملة وَمن فلى رَأسه وَمن قصّ أَظْفَاره وشاربه لَكِن لما أَمر الله عز وَجل بِمَا أَمر بِهِ من ذَلِك كَانَ فرضا وَاجِبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وحسناً وَكَانَ تَركه قبيحا وإنكاره كفرا وَأما إِبَاحَة الْمَرْء حرمه للنِّكَاح فَهَذَا أعجب مَا أَتَوا بِهِ أما علمُوا أَن الله تَعَالَى خلى بَين عَبده وإمائه يفجر بَعضهم بِبَعْض وَهُوَ قَادر على مَنعهم من ذَلِك فَلم بِفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذَلِك بِإِقْرَار الْمُعْتَزلَة فَهَذَا من الله حسن وَمن عباده قَبِيح لِأَن الله قبحه وَلَا مزِيد وَلَو حسنه تَعَالَى لحسن أما شاهدوا انكاح الرِّجَال بناتهممن رجال ثمَّ يُطلق الرجل مِنْهُم الْمَرْأَة فَمن آخر ثمَّ آخر وَهَكَذَا مَا أمكنهم وَكَذَلِكَ إِن مَاتَ عَنْهَا فَأَي فرق فِي الْعُقُول بَين إِبَاحَة وَطئهَا بِلَفْظ زَوجتك أَو أنكحتك وَبَين حظر وَطئهَا بِالْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ بِلَفْظَة قُم فطاها فَهَل هَا هُنَا قَبِيح إِلَّا مَا قبحه الله عز وَجل أَو حسن إِلَّا مَا حسن الله عز وَجل وَقَالَ بَعضهم الْكفْر قَبِيح على كل حَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَمَا قبح الْكفْر إِلَّا لِأَن الله قبحه وَنهى عَنهُ وَلَوْلَا ذَلِك مَا قبح وَقد أَبَاحَ الله عز وَجل كلمة الْكفْر عِنْد التقية وأباح بهَا الدَّم فِي غير التقية وَلَو أَن امْرأ اعْتقد أَن الْخمر حرَام قبل أَن ينزل تَحْرِيمهَا لَكَانَ كَافِرًا أَو لَكَانَ ذَلِك مِنْهُ كفرا إِن كَانَ عَالما بِإِبَاحَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ صَار ذَلِك الْكفْر إِيمَانًا وَصَارَ الْآن من اعْتقد تحليلها كَافِرًا وَصَارَ اعْتِقَاد تحليلها كفر أفْصح أَن لَا كفر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل كفرا وَلَا إِيمَانًا إِلَّا مَا سَمَّاهُ إِيمَانًا وَأَن الْكفْر لَا يقبح إِلَّا بعد أَن قبحه الله عز وَجل وَلَا يحسن الْإِيمَان إِلَّا بعد ان حسنه الله عز وَجل فَبَطل كل مَا قَالُوهُ فِي الْجور وَالْكفْر وَالظُّلم وَصَحَّ أَنه لَا ظلم إِلَّا مَا نهى الله عَنهُ وَلَا جور إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِك وَلَا عدل إِلَّا مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ أَو إِبَاحَة أَي شَيْء كَانَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِذا هَذَا كَمَا ذكرنَا فقد صَحَّ أَنه لَا ظلم فِي شَيْء من فعل الْبَارِي تَعَالَى وَلَو أَنه تَعَالَى عذب من لم يقدره على مَا أَمر بِهِ من طَاعَته لما كَانَ ذَلِك ظلما إِذْ لم يسمه تَعَالَى ظلما وَكَذَلِكَ لَيْسَ ظلماٍ خلقه تَعَالَى للأفعال الَّتِي هِيَ من عباده عز وَجل كفر وظلم وجور لِأَنَّهُ لَا آمُر عَلَيْهِ تَعَالَى وَلَا ناهياً بل الْأَمر أمره وَالْملك ملكه وَقَالُوا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق ثمَّ التعذيب عَلَيْهِ قَبِيح فِي الْعُقُول جملَة لَا يحسن بِوَجْه من الْوُجُوه فِيمَا بَيْننَا فَلَا يحسن من الْبَارِي تَعَالَى أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد نسي هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَا لَا يجب أَن ينسى وَيُقَال لَهُم أَلَيْسَ قَول الْقَائِل فِيمَا بَيْننَا اعبدوني أسجدوا إِلَى قبحاً لَا يحسن بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا على حَال من الْأَحْوَال فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم أَو لَيْسَ هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى حسنا وَحقا فَلَا بُد من نعم فَإِن قَالُوا إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لأننا لَا نستحقه قيل لَهُم وَكَذَلِكَ إِنَّمَا قبح منا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق والتعذيب عَلَيْهِ لأننا لَا نستحق هَذِه الصّفة وَأي شَيْء أَتَوا بِهِ من الْفرق فَهُوَ رَاجع عَلَيْهِم فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا فرق وَكَذَلِكَ الممتن بإحسانه الْجَبَّار المتكبر ذُو الْكِبْرِيَاء قَبِيح فِيمَا بَيْننَا على كل حَال وَهُوَ من الله تَعَالَى حسن وَحقّ وَقد سمى نَفسه الْجَبَّار النتكبر وَأخْبر أَن لَهُ كبرياء وَهُوَ تَعَالَى يمن بإحسانه فَإِن قَالُوا حسن ذَلِك مِنْهُ لِأَن الْكل خلقه قيل لَهُم وَكَذَلِكَ حسن مِنْهُ تَكْلِيف من لَا يَسْتَطِيع ثمَّ تعذيبه لِأَن الْكل خلقه وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْننَا من عذب حَيَوَانا بالتف وَالضَّرْب ثمَّ أحسن علفه ورفهه فَهُوَ قَبِيح على كل وَجه وفاعله عابث وهم يَقُولُونَ أَن الْبَارِي تَعَالَى أَبَاحَ ذَلِك فِي الْحَيَوَان من أكلهَا وذبحها ثمَّ يعوضها على ذَلِك وَهَذَا مِنْهُ عز وَجل حسن أَلا أَن يلجؤا إِلَى أَنه تَعَالَى لَا يقدر على تعويض الْحَيَوَان إِلَّا بعد إيلامها وتعذيبها فَهَذَا أقبح قَول وأبينه كذبا وأوضحه نخبة وأتمة كفر أَو ذمه للباري تَعَالَى وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فَإِن قَالُوا إِن إيلام الْحَيَوَان قد يحسن فِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 بَيْننَا مثل أَن يسْقِي الْإِنْسَان من يحب مَاء الْأَدْوِيَة الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إِلَى مَنَافِع لَوْلَا هَذَا الْمَكْرُوه لم يكن ليصل إِلَيْهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه لم ينفكوا بِهِ مِمَّا سَأَلَهُمْ عَنهُ أَصْحَابنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَنحن لم نسألهم عَمَّن لَا يقدر على نَفعه إِلَّا بعد الْأَذَى الَّذِي هُوَ أقل من النَّفْع الَّذِي يصل إِلَيْهِ بعد ذَلِك الْأَذَى إِنَّمَا سألناهم عَمَّن يقدر على نَفعه دون أَن يبتديه بالأذى ثمَّ لَا يَنْفَعهُ إِلَّا حَتَّى يُؤْذِيه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ تَكْلِيف من يدْرِي الْمَرْء أَنه لَا يطيقه وَأَنه إِذا لم يطقه عذبه قَبِيح فِيمَا بَيْننَا فَقَالَ قَائِل مِنْهُم إِن هَذَا قد يحسن فِيمَا بَيْننَا وَذَلِكَ أَن يكون الْمَرْء يُرِيد أَن يُقرر عِنْد صديقه مَعْصِيّة عَبده لَهُ فيأمره وَهُوَ يدْرِي أَنه لَا يطيعه فَإِن نَهْيه لَهُ حسن قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَلَا فرق وَلم نسألهم عَمَّن لم يقدر على تَعْرِيف صديقه مَعْصِيّة غُلَامه لَهُ إِلَّا بتكليفه أَمَامه مَا لَا يطيعه فِيهِ وَلَا عَمَّن لَا يقدر على منع العَاصِي لَهُ بِأَكْثَرَ من النَّهْي وَإِنَّمَا نسألهم عَمَّن لَا مَنْفَعَة لَهُ فِي أَن يعلم زيدا مَعْصِيّة غُلَامه لَهُ وَعَمن يقدر على أَن يعرف زيدا بذلك ويقرره عِنْده بِغَيْر أَن يَأْمر من لَا يطيعه وَعَمن يقدر على مَنعه من الْمعْصِيَة فَلَا يفعل ذَلِك أَلا أَن يعْجزُوا رَبهم كَمَا ذكرنَا فَهَذَا مَعَ أَنه كفر فَهُوَ أَيْضا كذب ظَاهر لِأَنَّهُ تَعَالَى قد أخبر عَن أهل النَّار أَنهم لَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ فتقرر هَذَا عندنَا تقرراً لَو رَأينَا ذَلِك عيَانًا مَا زادنا علما بِصِحَّتِهِ وَكَذَلِكَ قد شاهدنا قوما آخَرين أَرَادوا ضروباً من الْمعاصِي فحال الله تَعَالَى بَينهم وَبَينهَا بضروب من ألحوايل وَأطلق آخَرين وَلم يحل بَينهم وَبَينهَا بل قوي الدَّوَاعِي لَهَا وَرفع الْمَوَانِع عَنْهَا جملَة حَتَّى ارتكبوها فلاح كذب الْمُعْتَزلَة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تَعَالَى وَشدَّة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وَقُوَّة جهلهم وتناقضهم نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ بعد هَذَا كُله فَأَي مَنْفَعَة لنا فِي تعريفنا أَن فِرْعَوْن يَعْصِي وَلَا يُؤمن وَمَا الَّذِي ضرّ الْأَطْفَال إِذا مَاتُوا قبل أَن يعرفوا من أطَاع وَمن عصى ونسألهم أَيْضا عَمَّن أعْطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذَلِك يصلح للْجِهَاد ولقطع الطَّرِيق والتلصص وَهُوَ يدْرِي أَنه لَا يسْتَعْمل شَيْئا من ذَلِك فِي الْجِهَاد إِلَّا فِي قطع الطَّرِيق والتلصص وَعَمن مكن آخر من خمر وَامْرَأَة عاهرة وبغاء وأخلى لَهُ منزلا مَعَ كل ذَلِك أَلَيْسَ عابثاً ظَالِما بِلَا خلاف فَلَا بُد من نعم وَنحن وهم نعلم أَن الله عز وَجل وهب لجَمِيع النَّاس القوى الَّتِي بهَا عصوا وَهُوَ يدْرِي أَنهم يعصونه بهَا وَخلق الْخمر وبثها بَين أَيْديهم وَلم يحل بَينهم وَبَينهَا وَلَيْسَ ظَالِما وَلَا عابثاً فَإِن عجزوه تَعَالَى إِلَى عَن الْمَنْع من ذَلِك بلغو العاية من الْكفْر فَإِن عجز نَفسه منا عَن منع الْخمر من شاربها وَهُوَ يقدر على ذَلِك لفي غَايَة الضعْف والمهانة أَو مُرِيد لكَون ذَلِك كَمَا شَاءَ لَا معقب لحكمه وَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فانقطعوا عِنْد هَذِه وَلم يكن لَهُم جَوَاب إِلَّا أَن بَعضهم قَالَ إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عَن التعويض وَلِأَن ذَلِك مَحْظُور وَهَذَا مَحْظُور علينا وَلَو أَن امْرأ لَهُ منا عبيد وَقد صَحَّ عِنْده بأخبار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم لَا يُؤمنُونَ أبدا فَإِن كسوتهم وإطعامهم مُبَاح لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عَلَيْهِم لَا لَهُم وَإِقْرَار مِنْهُم بِأَنَّهُ إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لِأَنَّهُ محرم علينا وَكَذَلِكَ كسْوَة العبيد الَّذين يُوقن أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَإِنَّمَا حسن ذَلِك لأننا مأمورون بِالْإِحْسَانِ إِلَى العبيد وَإِن كَانُوا كفَّارًا وَلَو فعلنَا ذَلِك بِأَهْل دَار الْحَرْب لَكنا عصاة لأننا نهينَا عَن ذَلِك لَيْسَ هَا هُنَا شَيْء يقبح وَلَا يحسن إِلَّا مَا أَمر الله تَعَالَى فَقَط وَأما قَوْلهم أَن ذَلِك قبح منا لجهلنا بالمصالح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 فليقنعوا بهذافمن أجابهم بِهَذَا بِعَيْنِه فِي الْفرق بَين حسن تَكْلِيف الله تَعَالَى مَا لَا يُطَاق وتعذيبه عَلَيْهِ مِنْهُ وقبح ذَلِك منا وَإنَّهُ إِنَّمَا قبح منا لجهلنا بالمصالح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فكلا الجوابين عندنَا فَاسد وَلَا مصلحَة فِيمَا أدّى إِلَى النَّار وَالْخُلُود فِيهَا بِلَا نِهَايَة وَلَكنَّا نقُول قبح منا مَا نَهَانَا الله عَنهُ وَحسن منا ماأمرنا بِهِ وكل مَا فعله رَبنَا تَعَالَى الَّذِي لَا آمُر فَوْقه فَهُوَ عدل وَحسن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وسألهم أَصْحَابنَا فَقَالُوا إِن الْمَعْهُود بَيْننَا أَن الْحَكِيم لَا يفعل إِلَّا لاجتلاب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة وَمن فعل لغير ذَلِك فَهُوَ سَفِيه والباري تَعَالَى يفعل لغير اجتلاب مَنْفَعَة وَلَا لدفع مضرَّة وَهُوَ حَكِيم فَقَالَت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة أَن الْبَارِي تَعَالَى يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع إِلَى عباده وَدفع المضار عَنْهُم وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم لم يكن الْحَكِيم فِيمَا بَيْننَا حكيماً لِأَنَّهُ يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع وَدفع المضار لِأَنَّهُ قد يفعل ذَلِك كل ملتذ وكل متشف وَإِن لم يكن حكيما وَإِنَّمَا سمي الْحَكِيم حكيما لإحكامه عمله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْحَيَوَان مَا يحكم عمله مثل الخطاف وَالْعَنْكَبُوت والنحل ودود القز وَلَا يُسمى بِشَيْء من ذَلِك حكيما وَلَكِن إِنَّمَا سمي الْحَكِيم حكيما على الْحَقِيقَة لالتزامه الْفَضَائِل واجتنابه الرزائل فَهَذَا هُوَ الْعقل وَالْحكمَة الْمُسَمّى فَاعله حكيماً عَاقِلا وَهَكَذَا هُوَ فِي الشَّرِيعَة لِأَن جَمِيع الْفَضَائِل إِنَّمَا هِيَ طاعات الله عز وَجل والرذائل إِنَّمَا هِيَ مَعَاصيه فَلَا حَكِيم إلامن أطَاع لله عز وَجل واجتنب مَعَاصيه وَعمل مَا أمره ربه عز وَجل وَلَيْسَ من أجل هَذَا يُسمى الْبَارِي حكيماً إِنَّمَا سمي حكيماً لِأَنَّهُ سمى نَفسه حكيماً فَقَط وَلَو لم يسم نَفسه حكيماً مَا سميناه حكيماً كَمَا لم نسمه عَاقِلا إِذْ لم يسم بذلك ثمَّ نقُول لَهُم وَأما قَوْلكُم إِنَّمَا سمي الله حكيماً لفعله الْحِكْمَة فَأنْتم مقرون أَنه أعْطى الْكفَّار قُوَّة الْكفْر وَلَا يُسمى مَعَ ذَلِك مقوياً على الْكفْر وَأما من قَالَ مِنْهُم أَنه تَعَالَى يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع إِلَى عباده وَدفع المضار عَنْهُم فَكَلَام فَاسد إِذا قيل على عُمُومه لِأَن كل مستضر يَفْعَله فِي دُنْيَاهُ وأخراه لم يصرف الله تَعَالَى عَنهُ تِلْكَ الْمضرَّة وَقد كَانَ قَادِرًا على صرفهَا عَنهُ إِلَّا أَن يعجزوه عَن ذَلِك فيكفروا وسألهم أَصْحَابنَا فَقَالُوا إِذا كَانَ الله عز وَجل لَا يفعل إِلَّا مَا هُوَ عدل بَيْننَا فَلم حلق من يدْرِي أَنه يكفر بِهِ وَأَنه سيخلده بَين أطباق النيرَان أبدا فَأَجَابُوا عَن هَذَا بأجوبة فَمن أظرفها أَن كثيرا مِنْهُم قَالُوا لَو لم يخلق من يكفر بِهِ ويخلده فِي نَار جَهَنَّم لما اسْتحق الْعَذَاب أحد وَلَا دخل النَّار أحدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وتكفي من الدّلَالَة على ضعف عقل هَذَا الْجَاهِل هَذَا الْجَواب ونقول لَهُ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي وَهل الْخَيْر كُله على مَا بَيْننَا إِلَّا أَن لَا يعذب أحد بالنَّار وَهل الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وَالْعدْل الَّذِي لَا عدل عندنَا سواهُ إِلَّا نجاة النَّاس كلهم من الْأَذَى واجتماعهم فِي النَّعيم الدَّائِم وَلَكِن الْمُعْتَزلَة قوم لَا يعْقلُونَ وَأجَاب بَعضهم فِي هَذَا بِأَن قَالَ لَو كَانَ هَذَا السّلم الْجَمِيع من اللوم ولكان لَا شَيْء أوضع وَلَا أخس من الْعقل لِأَن الَّذِي لَا عقل لَهُ سَالم من الْعَذَاب واللوم والأمم كلهَا مجمعة على فضل الْعقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَو عرف هَذَا الْجَاهِل معنى الْعقل لم يجب بهذاا لسخف لِأَن الْعقل على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَال الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي وَمَا عدا هَذَا فَلَيْسَ عقلا بل هُوَ سخيف وحمق قَالَ الله عز وَجل حِكَايَة عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} ثمَّ صدقهم الله عز وَجل فِي هَذَا فَقَالَ {فَاعْتَرفُوا بذنبهم فسحقاً لأَصْحَاب السعير} فَصدق الله من عَصَاهُ أَنه لَا يعقل ثمَّ نقُول لَهُم نعم لَا منزلَة أخس وَلَا أوضع وَلَا أسقط من منزلَة وموهبة أدَّت إِلَى الخلود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 فِي النيرَان عقلا كَانَت أَو غير عقل قَوْلكُم فِي الْعقل لَو كَانَ كَون الْإِنْسَان حشرة أَو دودة أَو كَلْبا كَانَ أحظى لَهُ وَأسلم وَأفضل عَاجلا وآجلاً وَأحب إِلَى كل ذِي عقل صَحِيح وتمييز غير مَدْخُول وَإِذا كَانَ عِنْد هَؤُلَاءِ الْقَوْم الْعقل الْمَوْهُوب وبالأعلى صَاحبه وسبباً إِلَى تَكْلِيفه أموراً لم يَأْتِ بهَا فَاسْتحقَّ النَّار فَلَا شكّ عِنْد كل ذِي حس سليم فِي أَن عَدمه خير من وجوده فَإِن قَالُوا أَن التَّكْلِيف لم يُوجب عَلَيْهِ دُخُول النَّار قُلْنَا نعم وَلكنه كَانَ سَببا إِلَى ذَلِك وَلَوْلَا التَّكْلِيف لم يدْخل النَّار أصلا وَقد شهد الله عز وَجل بِصِحَّة هَذَا القَوْل شَهَادَة وَلَا تخفى على مُسلم وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوماً جهولا} فَحَمدَ الله تَعَالَى أباءة الْجَمَاعَات من قبُول التَّمْيِيز الَّذِي بِهِ وَقع التَّكْلِيف وَتحمل أَمَانَة الشَّرَائِع وذم عز وَجل اخْتِيَار الْإِنْسَان لتحملها وَسمي ذَلِك مِنْهُ ظلما وجهلاً وجوراً وَهَذَا مَعْرُوف فِي بنية الْعقل وَالتَّمَيُّز أَن السَّلامَة الْمَضْمُونَة لَا يعدل بهَا التَّغْرِير الْمُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك أَو إِلَى النَّعيم وَقَالَ بَعضهم خلق الله عز وَجل من يكفر وَمن يعلم أَنه يخلد فِي النَّار ليعظ بذلك الْمَلَائِكَة وحو رالعين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خبط لَا عهد لنا بِمثلِهِ وَهَذَا غَايَة السخف والعبث وَالظُّلم فَأَما الْعَبَث فَإِن فِي الْعُقُول منا أَن من عذب وَاحِدًا ليعظ بِهِ آخر فغاية الْعَبَث والسخف وَأما الْجور فَأَي جور أعظم فِيمَا بَيْننَا من أَن يخلق قوما قد علم أَنه يعذبهم ليعظ بهم آخَرين من خلقه مخلدين فِي النَّعيم فَهَلا عذب الْمَلَائِكَة وحور الْعين ليعظ بهم الْجِنّ وَالْإِنْس وَهل هَذَا على أصولهم إِلَّا غَايَة الْمُحَابَاة وَالظُّلم والعبث تَعَالَى الله عَن ذَلِك يفعل مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وسألهم أَصْحَابنَا عَن إيلام الله عز وَجل الصغار وَالْحَيَوَان وإباحته تَعَالَى ذَبحهَا فوجموا عِنْد هَذِه وَقَالَ بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى يعوضهم على ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْعَبَث فِيمَا بَيْننَا وَلَا شَيْء أتم فِي الْعَبَث وَالظُّلم مِمَّن يعذب صَغِيرا ليحسن بعد ذَلِك إِلَيْهِ فَقَالُوا أَن تعويضه بعد الْعَذَاب بالجدري والأمراض أتم وألذ من تنعيمه دون تَعْذِيب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا عَلَيْهِم جوابان أَحدهمَا أَن يَقُول لَهُم أَكَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يُوفي الْأَطْفَال وَالْحَيَوَان ذَلِك النَّعيم دون إيلام أَو كَانَ غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا كَانَ غير قَادر جمعُوا مَعَ الْكفْر الْجُنُون لَان ضَرُورَة الْعقل يعلم بهَا انه إِذا قدر على أَن يعطيهم مِقْدَارًا مَا من النَّعيم بعد الإيلام فَلَا شكّ فِي أَنه قَادر على ذَلِك الْمِقْدَار نَفسه دون إيلام يتقدمه لَيْسَ فِي الْعقل غير هَذَا أصلا إِذْ لَيْسَ هَا هُنَا منزلَة زَائِدَة فِي الْقُدْرَة وَلَا فعلان مُخْتَلِفَانِ وَإِنَّمَا هُوَ عَطاء وَاحِد فِي كلا الْوَجْهَيْنِ وَإِن قَالُوا أَنه قَادر على ذَلِك فقد وَجب الْعَبَث على أصولهم إِذْ كَانَ قَادِرًا على أَن يعطيهم دون إيلام مَا لم يعطهم إِلَّا بعد غَايَة الإيلام وَالْجَوَاب الثَّانِي أَن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم فِي خير دون إيلام وَهَذِه مُحَابَاة وظلم للمؤلم مِنْهُم فَقَالُوا إِن المؤلم لم يَزْدَدْ فِي نعيمه لأجل إيلامه فَقُلْنَا لَهُم فَهَذِهِ مُحَابَاة بِزِيَادَة النَّعيم للمؤلم فَهَلا آلم الْجَمِيع ليسوى بَينهم فِي النَّعيم أَو هلا يُسَوِّي بَينهم فِي النَّعيم بِأَن لَا يؤلم مِنْهُم أحدا وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ الْبَتَّةَ وَقَالَ بَعضهم فعل ذَلِك ليعظ بهم غَيرهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْجور بَيْننَا وَلَا عَبث أعظم من أَن يعذب إنْسَانا لَا ذَنْب لَهُ ليوعظ بذلك آخَرُونَ مذنبون وَغير مذنبين وَالله تَعَالَى قد أنكر هَذَا بقوله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} فقد انْتَفَى عَن الله عز وَجل هَذَا الظُّلم حَقًا وَلَقَد كَانَ على أصولهم الْفَاسِدَة تعذيبه الطغاة وإيلامه الْبُغَاة ليعظ بذلك غَيرهم أَدخل فِي الْعدْل وَالْحكمَة من أَن يؤلم طفْلا أَو حَيَوَانا لَا ذَنْب لَهما ليعظ بذلك آخَرين بل لَعَلَّ هَذَا الْوَجْه قد صَار سَبِيلا إِلَى كفر كثير من النَّاس وَأجَاب بَعضهم فِي ذَلِك بِأَن قَالَ إِنَّمَا فعل ذَلِك عز وَجل بالأطفال ليؤجر آبَاءَهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالَّذي قبله فِي الْجور سَوَاء بِسَوَاء إِن يُؤْذى من لَا ذَنْب لَهُ ليأجر بذلك مذنباً أَو غير مذنب حاشا لله من هَذَا إِلَّا أَن فِي هَذَا مزية من التَّنَاقُض لِأَن هَذَا التَّعْلِيل ينْقض عَلَيْهِم فِي أَوْلَاد الْكفَّار وَأَوْلَاد الزِّنَا مِمَّن قد مَاتَت أمه وَفِي الْيَتَامَى من آبَائِهِم وأمهاتهم وَرب طِفْل قد قتل الْكفَّار أَو الْفُسَّاق أَبَاهُ وَأمه وَترك هُوَ بدار مضيعة حَتَّى مَاتَ هزلا أَو أَكلته السبَاع فليت شعري من وعظ بِهَذَا أَو من أوجز بِهِ مَعَ أَن هَذَا مِمَّا لم يجدوه يحسن بَيْننَا الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه يَعْنِي أَن نؤذي إِنْسَان لَا نب لَهُ لينْتَفع بذلك آخَرُونَ وهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى فعل هَذَا فَكَانَ حسنا وَحِكْمَة ولجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ إِن الله عز وَجل فِي هَذَا سرا من الْحِكْمَة وَالْعدْل يُوقن بِهِ وَإِن كُنَّا لَا نعلم لما هُوَ وَلَا كَيفَ هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ قد بلغُوا هَا هُنَا فقد قرب أَمرهم بعون الله تَعَالَى وَهُوَ أَنه يلْزمهُم تَصْدِيق من يَقُول لَهُم وَللَّه تَعَالَى فِي تَكْلِيف من لَا يَسْتَطِيع ثمَّ تعذيبه عَلَيْهِ سر من الْحِكْمَة يُوقن بِهِ وَلَا نعلمهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَلَا نقُول بِهَذَا بل نقُول إِنَّه لَا سر هَاهُنَا أصلا بل كل ذَلِك كَمَا هُوَ عدل من الله عز وَجل لَا من غَيره وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون قَالَ أَبُو مُحَمَّد ولجأت طَائِفَتَانِ مِنْهُم إِلَى أَمريْن أَحدهمَا قَول بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن يزِيد فَإِنَّهُ قَالَ أَن الْأَطْفَال لَا يألمون أَلْبَتَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا نَدْرِي لَعَلَّه يَقُول مثل ذَلِك فِي الْحَيَوَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا انْقِطَاع سمج ولجاج فِي الْبَاطِل قَبِيح وَدفع للعيان والحس وكل أحد منا قد كَانَ صَغِيرا ويوقن أننا كُنَّا نألم الْأَلَم الشَّديد الَّذِي لَا طَاقَة لنا بِالصبرِ عَلَيْهِ وَالثَّانيَِة أَحْمد بن حابظ الْبَصْرِيّ وَالْفضل الْحَرْبِيّ وَكِلَاهُمَا من تلاميذ النظام فَإِنَّهُمَا قَالَا أَن أَرْوَاح الْأَطْفَال وأرواح الْحَيَوَان كَانَت فِي أجساد قوم عصاة فعوقبت بِأَن ركبت فِي أجساد الْأَطْفَال وَالْحَيَوَان لتؤلم عُقُوبَة لَهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن هرب عَن الإذعان للحق أَو عَن الْإِقْرَار بالانقطاع إِلَى الْكفْر وَالْخُرُوج عَن الْإِسْلَام فقد بلغ إِلَى حَالَة مَا كُنَّا نُرِيد ان يبلغهَا لَكِن إِذا آثر الْكفْر فَإلَى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ من يَتَّقِي مُخَالفَة الْإِسْلَام فَأَما أهل الْكفْر فقد تمّ وَالله الْحَمد إبطالنا لقَولهم وَقد أبطلنا قَول أَصْحَاب التناسخ فِي صدر كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد لله فأغنى عَن إِعَادَته وَإِذا بلغ خصمنا إِلَى مُكَابَرَة الْحس أَو إِلَى مُفَارقَة الْإِسْلَام فقد انْقَطع وَظهر بَاطِل قَوْله وَللَّه تَعَالَى الْحَمد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن لجؤا إِلَى قَول معمر والجاحظ وَقَالُوا أَن آلام الْأَطْفَال هِيَ فعل الطبيعة لَا فعل الله تَعَالَى لم يتخلصوا بذلك من الِانْقِطَاع بل نقُول لَهُم هَل الله عز وَجل قَادر على مُعَارضَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 هَذِه الطبيعة الْمُقطعَة لحم هَذَا الصَّبِي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية لَهُ ووجع الْحَصَاة واحتباس الْبَوْل أَو الْغَائِط أَو انطلاق الْبَطن حَتَّى يَمُوت والعدو القاسي الْقلب يرحمه ويتقطع لَهُ لعَظيم مَا يرى بِهِ من التضرر والأوجاع بِقُوَّة من عِنْده تَعَالَى يفرج بهَا عَن هَذَا الطِّفْل الْمِسْكِين المعذب أم هُوَ تَعَالَى غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا هُوَ غير قَادر على ذَلِك فَمَا فِي الْعَالم أعجز مِمَّن تغلبه طبيعة هُوَ خلقهَا وطبعها ووضعها فِيمَن هِيَ فِيهِ وَرُبمَا غلها طَبِيب ضَعِيف من خلقه بعقار ضَعِيف من خلقه فَهَل فِي الْجُنُون وَالْكفْر أَكثر من هَذَا القَوْل أَن يكون هُوَ خلق الطبيعة ووضعها فِيمَن هِيَ فِيهِ ثمَّ لَا يقدر على كف عَملهَا الَّذِي هُوَ وَضعه فِيهَا وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على صرف الطبيعة وكفها وَلم يفعل دخل فِي نفس مَا أنكر وَأقر على ربه على أَصله الْفَاسِد بالظلم والعبث وبالضرورة نَدْرِي أَن من رأى طفْلا فِي نَار أَو مَاء وَهُوَ قَادر على استنقاذة بِلَا مُؤنَة وَلم يفعل فَهُوَ عابث ظَالِم وَلَكِن الله تَعَالَى يفعل ذَلِك وَهُوَ الحكم الْعدْل فِي حكمه لَا العابث وَلَا الظَّالِم وَهَذَا هُوَ الَّذِي أعظموا من أَن يكون قَادر على هدي الْكفَّار وَلَا يفعل ولجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ لَو عَاشَ هَذَا الطِّفْل لَكَانَ طاغياً قُلْنَا لَهُم لم نسئلكم بعد عَمَّن مَاتَ طفْلا إِنَّمَا سألناكم عَن إيلامه قبل بُلُوغه ثمَّ نجيبهم عَن قَوْلهم فِيمَن مَاتَ من الْأَطْفَال أَنه لَو عَاشَ لَكَانَ طاغياً فَنَقُول لَهُم هَذَا أَشد فِي الظُّلم أَن يعذبه على مَا لم يفعل بعد قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد وجدنَا الله عز وَجل قد حرم ذبح بعض الْحَيَوَان وَأكله وأباح ذبح بعضه وَأوجب ذبح بعضه إِذا نذر النَّاذِر بذَبْحه قرباناً فَنَقُول للمعتزلة اخبرونا مَا كَانَ ذَنْب الَّذِي أُبِيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنَّار وَأكله وَمَا كَانَ ذَنْب الَّذِي حرم كل ذَلِك فِيهِ حَتَّى حرم الْعِوَض الَّذِي تَدعُونَهُ وَمَا كَانَ بخت الَّذِي حرم إيلامه ووجدناه عز وَجل قد أَبَاحَ ذبح صغَار الْحَيَوَان مَعَ مَا يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كَالْإِبِلِ وَالْبَقر فَأَي فرق بَين ذبحنا لمصالحنا أَو لتعوض هِيَ وَبَين مَا حرم من ذبح أطفالنا وصغار أَوْلَاد أَعْدَائِنَا لمصالحنا أَو ليعوضوا فَإِن طردوا دَعوَاهُم فِي الْمصلحَة لرَبهم أَن كل من لَهُ مصلحَة فِي قتل غَيره كَانَ لَهُ قَتله فَإِن قَالُوا لَا يجوز ذَلِك الاحيث أَبَاحَهُ الله عز وَجل تركُوا قَوْلهم ووفقوا للحق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى قد حرم قتل قوم مُشْرِكين يجْعَلُونَ لَهُ الصاحبة وَالْولد ويهود ومجوس إِذا أعطونا دِينَارا أَو أَرْبَعَة دَنَانِير فِي الْعَام وهم يكفرون بِاللَّه تَعَالَى وأباح قتل مُسلم فَاضل قد تَابَ وَأصْلح لزنا سلف مِنْهُ وَهُوَ مُحصن وَلم يبح لنا اسْتِبْقَاء مُشْركي الْعَرَب من عباد الْأَوْثَان إِلَّا بِأَن يسلمُوا وَلَا بُد فَأَي فرق بَين هَؤُلَاءِ الْكفَّار وَبَين الْكفَّار الَّذين افْترض علينا إبقاؤهم لذهب نَأْخُذهُ مِنْهُم فِي الْعَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا لنا هَل فِي أَفعَال الله تَعَالَى عَبث وضلال وَنقص ومذموم فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِمَّا أَن يكون فِي أَفعاله تَعَالَى عَبث يُوصف بِهِ أَو عيب مُضَاف إِلَيْهِ أَو ضلال يُوصف بِهِ أَو نقص ينْسب إِلَيْهِ أَو جور مِنْهُ أَو ظلم مِنْهُ أَو مَذْمُوم مِنْهُ فَلَا يكون ذَلِك أصلا بل كل أَفعاله عدل وَحِكْمَة وَخير وصواب وَكلهَا حسن مِنْهُ تَعَالَى ومحمود مِنْهُ وَلَكِن فِيهَا عيب على من ظهر مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل وعبث مِنْهُ وضلال مِنْهُ وظلم مِنْهُ ومذموم مِنْهُ ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم هَل فِي أَفعاله تَعَالَى سخف وجنون وحمق وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وَسَوَاد الْوَجْه فَإِن قَالُوا لَا أكذبهم الله عز وَجل بقوله تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَمَوْت الْأَنْبِيَاء وَفرْعَوْن وإبليس وكل ذَلِك مَخْلُوق وَإِن قَالُوا أَن الله تَعَالَى خَالق كل ذَلِك وَلَكِن لَا يُضَاف شئ مِنْهُ إِلَى الله عز وَجل على الْوَجْه المذموم وَلَكِن على الْوَجْه الْمَحْمُود قُلْنَا هَذَا قَوْلنَا فِيمَا سألتمونا عَنهُ وَلَا فرق فَإِن قَالُوا أَتَرْضَوْنَ بِأَفْعَال الله عز وَجل وقضائه قُلْنَا نعم بِمَعْنى أننا مُسلمُونَ لفعله وقضائه وَمن الرضى بِفِعْلِهِ وقضائه أَن نكره مَا كره إِلَيْنَا قَالَ تَعَالَى {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان} ثمَّ نسألهم عَن هَذَا بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم أَتَرْضَوْنَ بِفعل الله تَعَالَى وقضائه فَإِن قَالُوا نعم لَزِمَهُم الرضى بقتل من قتل من الْأَنْبِيَاء وَالْخُمُور والأنصاب والأزلام وبإبليس ويلزمهم أَن يرضى مِنْهُم بالخلود فِي النَّار من خلد فِيهَا وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَسَأَلَ بعض أَصْحَابنَا بعض العتزلة فَقَالَ إِذا كَانَ عنْدكُمْ إِنَّمَا خلق الله تَعَالَى الْكفَّار وَهُوَ يعلم انهم لَا يُؤمنُونَ وَأَنه سيعذبهم بَين أطباق النيرَان أبدا ليعط بهم الْمَلَائِكَة وحور الْعين فقد كَانَ يَكْفِي من ذَلِك خلق وَاحِد مِنْهُم فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَزلَة ان الْمُؤمنِينَ الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة وَالْمَلَائِكَة وحور الْعين وَجَمِيع من لاعذاب عَلَيْهِ وَمن الْأَطْفَال أَكثر من الْكفَّار بِكَثِير جدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم يخرج بِهَذَا الْمَوْت مِمَّا ألزمهُ السَّائِل لِأَن الموعظة كَانَت تتمّ بِخلق وَاحِد هَذَا لَو كَانَ يخلق من يعذب ليوعظ بِهِ آخر وَجه فِي الْحِكْمَة بَيْننَا وَأَيْضًا فلولا ذكره الْمَلَائِكَة لَكَانَ كَاذِبًا فِي ظَنّه إِن عدد الداخلين فِي الْجنَّة من النَّاس أَكثر من الداخلين النَّار لِأَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لِأَن الله عز وَجل يَقُول {فَأبى أَكثر النَّاس إِلَّا كفورا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله} وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم} فليت شعري فِي أَي حِكْمَة وجدوا فِيمَا بَينهم أَو بَيْننَا أَو فِي أَي عدل خلق من يكون أَكْثَرهم مخلدين فِي جَهَنَّم على أصُول هَؤُلَاءِ الْجُهَّال وَأما نَحن فَإِنَّهُ لَو عذب أهل السَّمَوَات كلهم وَجَمِيع من عمر الأَرْض لَكَانَ عدلا مِنْهُ وَحقا مِنْهُ وَحِكْمَة مِنْهُ وَلَو لم يخلق النَّار وَأدْخل كل من خلق الْجنَّة لَكَانَ حَقًا مِنْهُ وعدلاً وَحِكْمَة مِنْهُ لَا عدل وَلَا حِكْمَة وَلَا حق إِلَّا مَا فعل وَمَا أَمر بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ولجأ قوم مِنْهُم إِلَى أَن قَالُوا إِن الله تَعَالَى لم يعلم من يكفر وَمن يُؤمن وأقروا أَنه لَو علم من يَمُوت كَافِرًا لَكَانَ خلقه لَهُ جوراً وظلماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَؤُلَاء أَيْضا مَعَ عَظِيم مَا أَتَوا بِهِ من الْكفْر فِي تجهيل رَبهم تَعَالَى فَلم يتخلصوا مِمَّا ألزمهم أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْحِكْمَة خلق من لَا يدْرِي أيموت كَافِر أفيعذبه أم لَا وَهَذَا هُوَ التَّغْرِير بِمن خلق وتعريضهم للهلكة على جَهله وَهَذَا لَيْسَ من الْحِكْمَة وَلَا من الْعدْل فِيمَا بَيْننَا لمن يُمكنهُ أَن لَا يغرر وَقد كَانَ الْبَارِي تَعَالَى قَادِرًا على أَن لَا يخلق كَمَا قد كَانَ لم يزل لَا يخلق ثمَّ خلق إِلَّا أَن يلجأ إِلَى أَنه تَعَالَى لَا يقدر على أَن لَا يخلق فيجعلوه مُضْطَرّا ذَا طبيعة غالبة وَهَذَا كفر مُجَرّد مَحْض ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا قَرَأت الْمُعْتَزلَة أَن أَطْفَال بني آدم كلهم أَوْلَاد الْمُشْركين وَأَوْلَاد الْمُسلمين فِي الْجنَّة دون عَذَاب وَلَا تَقْرِير تَكْلِيف فقد نسوا قَوْلهم الْفَاسِد أَن الْعقل أفضل من عَدمه بل مَا نرى السَّلامَة على قَوْلهم وضمانها والحصول على النَّعيم الدَّائِم فِي الْآخِرَة بِلَا تَقْرِير إِلَّا فِي عدم الْعقل فَكيف فارقوا هَذَا الِاسْتِدْلَال وَأما نَحن فَنَقُول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 إِن من أسعده الله تَعَالَى من الْمَلَائِكَة فَلم يعرضهم لشئ من الْفِتَن أَعلَى حَالا من كل خلق غَيرهم ثمَّ بعدهمْ الَّذين عصم الله تَعَالَى من النَّبِيين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وأمنهم من الْمعاصِي ثمَّ من سبقت لَهُم من الله تَعَالَى الْحسنى من مؤمني الْجِنّ وَالْإِنْس الَّذين لَا يدْخلُونَ النَّار والحور الْعين اللَّاتِي خُلِقْنَ لأهل الْجنَّة على أَن لهَؤُلَاء الْمَذْكُورين حاشا الْحور الْعين حَالَة من الْخَوْف طول بقائهم فِي الدُّنْيَا يَوْم الْحَشْر فِي هول المطلع وشنعة ذَلِك الْموقف الَّذِي لَا يقي بِهِ شئ إِلَّا السَّلامَة مِنْهُ وَلَا يهنأ مَعَه عَيْش حَتَّى يخلص مِنْهُ وَقد تمنى كثير من الصَّالِحين الْعُقَلَاء الْفُضَلَاء أَن لَو كَانُوا نسياً منسياً فِي الدُّنْيَا وَلَا يعرضُوا لما عرضوا لَهُ على أَنهم قد آمنُوا بِالضَّمَانِ التَّام الَّذِي لَا ينجس وَلَقَد أَصَابُوا فِي ذَلِك إِذْ السَّلامَة لَا يعد لَهَا شئ الا عِنْد الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن الثَّوَاب وَالنَّعِيم بعد الضَّرْب بالسياط والضغط بأنواع الْعَذَاب والتعريض لكل بلية أطيب وألذ وَأفضل من النَّعيم السَّالِم من أَن يتقدمه بلَاء ثمَّ الْأَطْفَال الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة دون تَكْلِيف وَلَا عَذَاب وَمن بلغ وَلَا تَمْيِيز لَهُ ثمَّ منزلَة من دخل النَّار ثمَّ أخرج مِنْهَا بعد أَن دخل فِيهَا على مَا فيهامن الْبلَاء نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَأما من يخلد فِي النَّار فَكل ذِي حس سليم توقن نَفسه يَقِين ضَرُورَة أَن الْكَلْب والدود والقرد وَجَمِيع الحشرات أحسن حَالا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْهُ وَأَعْلَى مرتبَة وَأتم سَعْدا وَأفضل صفة وَأكْرم عناية من عِنْد البارى تَعَالَى وَيَكْفِي من هَذَا أَخْبَار الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} فنص تَعَالَى على أَن حَال الجمادية أحسن مِنْهُ حَالَة فاعجبوا للمعتزلة الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى أعْطى من يتَمَنَّى يَوْم الْقِيَامَة أَن يكون تُرَابا أفضل عَطِيَّة عِنْده وَلم يتْرك فِي قدرته أصلح مِمَّا عمل بِهِ وَأَن خلقه لَهُ كَانَ خيرا لَهُ من أَن لَا يخلقه وَنحن نَعُوذ بِاللَّه لأنفسنا من أَن يعْمل بِنَا مَا عمل بهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عجائبهم قَوْلهم أَن الله تَعَالَى لم يخلق شَيْئا لَا يعْتَبر بِهِ أحد من الْمُكَلّفين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول لَهُم مَا دليلكم على هَذَا وَقد علمنَا بضرورة الْحس أَن لله تَعَالَى فِي قعور الْبحار وأعماق الأَرْض أَشْيَاء كَثِيرَة لم يرهَا إِنْسَان قطّ فَلم يبْق إِلَّا أَن يَدْعُو عوض الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ فِي عمق الْجبَال وقعور البحور فَهَذِهِ دَعْوَى مفتقرة إِلَى دَلِيل وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلَة قَالَ عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَأَيْضًا فمما تبطل بِهِ دَعْوَى هَؤُلَاءِ الْقَائِلين بِغَيْر علم على الله أَن الله تَعَالَى إِذا خلق زيدا لَهُ من الطول كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ لَو خلقه على أقل من ذَلِك الطول بإصبع لَكَانَ الِاعْتِبَار بخلقه سَوَاء كَمَا هُوَ الْآن وَلَا مزِيد وَهَكَذَا كل مِقْدَار من الْمَقَادِير فَإِن ادعوا أَن الزِّيَادَة فِي الْعدَد زِيَادَة فِي الْعبْرَة لَزِمَهُم أَن يلزموا رَبهم تَعَالَى أَن يزِيد فِي مِقْدَار طول كل مَا خلق لِأَنَّهُ كَانَ زِيَادَة فِي الِاعْتِبَار وَإِلَّا فقد قصر وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ سهم لَا يُحْصِيه إِلَّا الَّذِي خلقهمْ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم مقرون أَن الْعُقُول معطاة من عِنْد الله عز وَجل فنسألهم أفاضل بَين عباده فِيمَا أَعْطَاهُم من الْعُقُول أم لَا فَإِن قَالُوا الأكابر والحس ولزمهم مَعَ ذَلِك أَن عقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتميزه وعقل عِيسَى وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَأَيوب وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتميزهم وعقل مَرْيَم بنت عمرَان وتمييزها بل تَمْيِيز جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَسَائِر الْمَلَائِكَة ثمَّ تَمْيِيز أبي بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وعقولهم وتمييز أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَبَنَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ورضوان الله على جَمِيع من ذكرنَا وعقولهن ثمَّ تميز سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وعقولهم لَيْسَ شئ من ذَلِك أفضل من الْعقل والتمييز المعطيين لهَذَا المخنث اللغاء الرقان ولهذه الزَّانِيَة الخليقة المتبرجة السحاقة وَلِهَذَا الشَّيْخ الَّذِي يلْعَب مَعَ الصّبيان بالكعاب فِي الخابات ويعجفهم إِذا قدر وَمن بلغ هَذَا الْمبلغ وساوى بَين من أعْطى الله عز وَجل كل من ذكرنَا من الْعقل والتمييز فقد كفى خَصمه مُؤْنَته وَإِن قَالُوا بل الله تَعَالَى فَاضل بَين عباده فِيمَا أَعْطَاهُم من الْعقل والتمييز قيل لَهُم صَدقْتُمْ وَهَذَا هُوَ المحباة والجور على أصولكم وَلَا مُحَابَاة على الْحَقِيقَة أَكثر من هَذَا وَهِي عندنَا حق وَعدل مِنْهُ تَعَالَى لَا يسْأَل عَمَّا يفعل ولعمري أَن فيهم لعجبا إِذْ يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى لم يُعْط أحدا من خلقه إِلَّا مَا أعْطى سَائِرهمْ فَهَلا إِن كَانُوا صَادِقين سَاوَى جَمِيعهم إِبْرَاهِيم النظام وَأَبا لهذيل العلاف وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجبائي فِي دقة نظرهم وقوتهم على الْجِدَال إِذْ كلهم فِيمَا منحهم الله عز وَجل من ذَلِك سَوَاء فَإذْ لَا شكّ فِي عجزهم عَن بُلُوغ ذَلِك فَلَا شكّ فِي أَن كل أحد لَا يقدر أَن يزِيد فِيمَا منحه الله تَعَالَى بِهِ وَلَيْسَ يُمكنهُم أصلا أَن يدعواها هُنَا أَنهم كلهم قادرن على ذكاء الدّهن وحدة النّظر وَقُوَّة الفطنة وجودة الْحِفْظ والبتة لدقيق الْحجَّة وَإِن لم يظْهر وكما ادعوا ذَلِك فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَصحت الْمُحَابَاة من الله تَعَالَى يَقِينا عيَانًا لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قروا أَن الْعُقُول والذكاء وَقبُول الْعلم ذكاء الخاطر ودقة الْفَهم غير موهوبة من الله تَعَالَى عز وَجل قُلْنَا لَهُم فَمن خلقهَا فَإِن قَالُوا هِيَ فعل الطبيعة قُلْنَا لَهُم وَمن خلق الطبيعة الَّتِي فعلت الْعُقُول وكل ذَلِك بذلتها متفاضلة فَمن قَوْلهم أَن الله تَعَالَى خلقهَا فَيُقَال لَهُم فَهُوَ مُوجب الْمُحَابَاة إِذْ رتب الطبيعة رُتْبَة الْمُحَابَاة وَلَا بُد وَإِن قَالُوا لم تخلق الطبيعة وَلَا الْعُقُول لَحِقُوا بالدهرية وصاروا إِلَى مَا لم يرد لَهُم الْمصير إِلَيْهِ وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبالضرورة نَدْرِي أَن من كَانَ تميزه أتم كَانَ اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وَهَذَا هُوَ الْمُحَابَاة الَّتِي أنكروها وسموها ظلما وجوراً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمهما أمكنهم من الدفاع والقحة فِي شَيْء فَإِنَّهُ لَا يُمكنهُم اعْتِرَاض أصلا فِي أَن فضل الله تَعَالَى على الْمَسِيح ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وعَلى يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ جعل عِيسَى نَبيا ناطقاً عَاقِلا فِي المهد رَسُولا حِين سُقُوطه من بطن أمه وَإِذ أَتَى يحيالحكم صَبيا أتم وأعلا وَأكْثر من فَضله على من ولد فِي أقاصي بِلَاد الْخَزّ والزنج حَيْثُ لم يستمع قطّ ذكر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مُتبعا أقبح الذّكر من التَّكْذِيب وانه كَانَ متخيلاً وَأكْثر من فَضله بِلَا شكّ على فِرْعَوْن إِذْ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ {رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالاً فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم قَالَ قد أجيبت دعوتكما} قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن من ضل بعد هَذَا لضال وَإِن من قَالَ أَن فضل الله عز وَجل وعطاءه لمُوسَى وَعِيسَى وَيحيى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعصمته لَهُم كفضله وعطائه على فِرْعَوْن وملئه وعصمته لَهُم الَّذين نَص عز وَجل على أَنه شدّ على قُلُوبهم شداً مَنعهم الْإِيمَان حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم فَلَا يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم حِينَئِذٍ لضعيف الْعقل قَلِيل الْعلم مهلهل الْيَقِين وَلَا أبين من هَذِه الْآيَة فِي تَفْضِيل الله عز وَجل بعض خلقه على بعض خلقه واختصاص بَعضهم بِالْهدى وَالرَّحْمَة دون بعض ومحاباته من شَاءَ مِنْهُم واضلالهم من ضل مِنْهُم وَأَيْضًا فَإِنَّهُم لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 يَسْتَطِيعُونَ ان الله عز وَجل فضل بني آدم على كثير مِمَّن خلق قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} وَهُوَ الْمُحَابَاة بِعَينهَا الَّتِي هِيَ عِنْد الْمُعْتَزلَة جور وظلم فَيُقَال لَهُم على أصلكم الْفَاسِد هلا رزق الله الْعقل سَائِر الْحَيَوَان فيعرضهم بذلك للمراتب السّنيَّة الَّتِي عرض لَهَا بني آدم وهلا سَاوَى بَين الْحَيَوَان وبيننا فِي أَن لَا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فَهَل هَذَا إِلَّا مُحَابَاة مُجَرّدَة وَفعل لما يَشَاء لَا معقب لحكمه لَا يسْأَل عَمَّا يفعل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكر بَعضهم أَن الله تَعَالَى قبح فِي عقول بني آدم أكل مَا يعطيهم وَأكل أَمْوَال غَيرهم وَلم يقبح ذَلِك فِي عقول الْحَيَوَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأقر هَذَا الْجَاهِل لِأَن الله تَعَالَى هُوَ المقبح والمحسن فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح الله وَلَا محسن إِلَّا مَا حسن وَهَذَا قَوْلنَا وَلم يقبح الله تَعَالَى قطّ خلقه لما خلق وَإِنَّمَا قبح منا كَون ذَلِك الَّذِي خلق من الْمعاصِي فِينَا فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَإِن الْأَمر لَا بَين من ذَلِك ألم تروا أَن الله خلق الْحَيَوَان فَجعل بعضه أفضل من بعض بِلَا عمل أصلا ففضل نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر النوق نعم وعَلى نُوق الْأَنْبِيَاء الَّذين هم أفضل من صَالح وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا أَنه تَعَالَى إِنَّمَا فَضلهَا تَفْضِيلًا لصالح عَلَيْهِ السَّلَام وَجعل تَعَالَى الْكَلْب مَضْرُوبا بِهِ الْمثل فِي الخساسة والرزالة وَجعل القردة والخنازير معذبا بعض من عَصَاهُ بتصويره فِي صورتهَا فلولا أَن صورتهَا عَذَاب ونكال مَا جعل الْقلب فِي صورتهَا أَشد مَا يكون من عَذَاب الدُّنْيَا ونكالها وَجعل بعض الْحَيَوَان متقرباً إِلَى الله عز وَجل بذَبْحه وَبَعضه محرما ذبحه وَبَعضه مَأْوَاه الرياض وَالْأَشْجَار وَالْخضر وَبَعضه مَأْوَاه الحشوش والرداع والدبر وَبَعضه قَوِيا وَبَعضه ضَعِيفا مُنْتَفعا بِهِ فِي الأودية وَبَعضه سما قَاتلا وَبَعضه قَوِيا على الْخَلَاص مِمَّن أَرَادَ بطير انه وعدوه أَو قوته وَبَعضه مهينا لَا مخلص عِنْده وَبَعضه خيلاً فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر يُجَاهد عَلَيْهَا الْعَدو وَبَعضه سباعاً ضارية مسلطة فِي سَائِر الْحَيَوَان ذاعرة لَهَا قاتلة لَهَا آكِلَة لَهَا وَجعل سَائِر الْحَيَوَان لَا ينقصر مِنْهَا وَبَعضهَا حَيَاة عَادِية مهلكة وَبَعضه مَأْكُولا على كل حَال فَأَي ذَنْب كَانَ لبعضه حَتَّى سلط عَلَيْهِ غَيره فَأَكله وَقَتله وأبيح ذبحه وَقَتله وَإِن لم يُؤْكَل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وَسَائِر الْهَوَام وَنهى عَن قتل النَّحْل وَعَن قتل الصَّيْد فِي الْحَرَمَيْنِ والأحرام وأباحه فِي غير الْحَرَمَيْنِ والأحرام فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى يعوض مَا أَبَاحَ ذبحه وَقَتله مِنْهَا قيل لَهُ فَهَلا أَبَاحَ ذَلِك فِيمَا حرم قَتله ليعوضه أَيْضا وَهَذِه مُحَابَاة لَا شكّ فِيهَا مَعَ أَنه فِي الْمَعْهُود من الْمَعْقُول عين الْعَبَث إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى لَا يقدر على نعيمها إِلَّا بِتَقْدِيم الْأَذَى فَإِنَّهُم لَا ينفكون بِهَذَا من الْمُحَابَاة لَهَا على من لم يبح ذَلِك فِيهَا من سَائِر الْحَيَوَان مَعَ أَنه تعجيز لله عز وَجل وَيُقَال لَهُم مالذي عَجزه عَن ذَلِك وأقدره على تنعيم من تقدم لَهُ الْأَذَى فِي الدُّنْيَا أطبيعة فِيهِ جَارِيَة على بنيتها أم فَوْقه وَأهب لَهُ تِلْكَ الْقُدْرَة وَلَا بُد من أحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ كِلَاهُمَا كفر مُجَرّد وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم يبطل بتنعيم الله عز وَجل الْأَطْفَال الَّذين ولدُوا أَحيَاء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لَهُم وَلَا تَعْذِيب فَهَلا فعل بِجَمِيعِ الْحَيَوَان كَذَلِك على أصولكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَأَيْضًا فقد كَانَ عز وَجل قَادِرًا على ان يَجْعَل غذاءنا فِي غير الْحَيَوَان لَكِن فِي النَّبَات وَالثِّمَار كعيش كثير من النَّاس فِي الدُّنْيَا لَا يَأْكُلُون لَحْمًا فَمَا ضرهم ذَلِك فِي عيشهم شَيْئا فَهَل هَاهُنَا إِلَّا ان الله تَعَالَى لَا يجوز الحكم على أَفعاله بِمَا يحكم بِهِ على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وَهُوَ تَعَالَى آمرنا لَا مَأْمُور وَلَا مَنْهِيّ فَكل مَا فعل فَهُوَ عدل وَحِكْمَة وَحقّ وكل مَا فَعَلْنَاهُ فَإِنَّهُ وَافق أمره عز وَجل كَانَ عدلا وَحقا وَإِن خَالف أمره عز وَجل كَانَ جوراً وظلماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْحَيَوَان فَإِن قَوْلنَا فِيهِ هُوَ نَص مَا قَالَه الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول عز وَجل {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ عز وَجل {وَإِذا الوحوش حشرت} فَنحْن موقنون أَن الوحوش كلهَا وَجَمِيع الدَّوَابّ وَالطير تحْشر كلهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وَلما شَاءَ عز وَجل وَأما نَحن فَلَا نَدْرِي لماذا وَالله أعلم بِكُل شَيْء وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يقْتَصّ يَوْمئِذٍ للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فَنحْن نقر بِهَذَا وَبِأَنَّهُ يقْتَصّ يَوْمئِذٍ للشاة الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء وَلَا نَدْرِي مَا يفعل الله بهما بعد ذَلِك إِلَّا أَنا نَدْرِي يَقِينا أَنَّهَا لَا تعذب بالنَّار لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وبيقين نَدْرِي أَن هَذِه الصّفة لَيست إِلَّا فِي الْجِنّ وَالْإِنْس خَاصَّة وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا الله تَعَالَى وَقد أيقنا ان سَائِر الْحَيَوَان الَّذِي فِي هَذَا الْعَالم مَا عدا الْمَلَائِكَة والحور وَالْإِنْس وَالْجِنّ فَإِنَّهُ غير متعبد بِشَرِيعَتِهِ وَأما الْجنَّة فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة وَالْحَيَوَان حاشى من ذكرنَا لَا يَقع عَلَيْهِم اسْم مُسلمين لِأَن الْمُسلم هُوَ المتعبد بِالْإِسْلَامِ وَالْحَيَوَان الْمَذْكُور غير متعبد بشرع فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن أَطْفَال الْمُسلمين وَأَطْفَال الْمُشْركين كلهم فِي الْجنَّة فَهَل يَقع على هَؤُلَاءِ اسْم مُسلمين فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقُول نعم كلهم مُسلمُونَ بلاشك لقَوْل الله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَقَوله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَرُوِيَ على الْملَّة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ أَو يشركانه وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله عز وَجل إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء كلهم فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين عَن دينهم فصح لَهُم كلهم اسْم الْإِسْلَام وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد نَص عَلَيْهِ السَّلَام على أَنه رأى كل من مَاتَ طفْلا من أَوْلَاد الْمُشْركين وَغَيرهم فِي رَوْضَة مَعَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما المجانين وَمن مَاتَ فِي الفترة وَلم تبلغه دَعْوَة نَبِي وَمن إدركه الاسلام وَقد هرم أَو أَصمّ لَا يسمع فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تبْعَث لَهُم يَوْم الْقِيَامَة نَار موقدة ويؤمرون بِدُخُولِهَا فَمن دَخلهَا كَانَت عَلَيْهِ برد أَو دخل الْجنَّة أَو كلا مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَنحْن نؤمن بِهَذَا ونقر بِهِ وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ بلغ الْكَلَام هَا هُنَا فلنصله إِن شَاءَ الله تَعَالَى راغبين فِي الْأجر من الله عز وَجل على بَيَان الْحق فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن الله تَعَالَى قد نَص كَمَا ذكرنَا أَنه آخذ من بني آدم من ظُهُورهمْ ذرياتهم وَهَذَا نَص جلي على أَنه عز وَجل خلق أَنْفُسنَا كلهَا من عهد آدم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الأجساد حِينَئِذٍ بِلَا شكّ كَانَت تُرَابا وَمَاء وَأَيْضًا فَإِن الْمُكَلف الْمُخَاطب إِنَّمَا هُوَ النَّفس لَا الْجَسَد فصح يَقِينا أَن نفوس كل من يكون من بني آدم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَانَت مَوْجُودَة مخلوقة حِين خلق آدم بِلَا شكّ وَلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 يقل الله عز وَجل أَنه أفنانا بعد ذَلِك وَنَصّ تَعَالَى على أَنه خلق الأَرْض وَالْمَاء حِينَئِذٍ بقوله تَعَالَى {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} وَقَوله تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} وَأخْبر عز وَجل إِنَّه خلقنَا من طين والطين هُوَ التُّرَاب وَإِنَّمَا خلق تَعَالَى من ذَلِك أجسامنا فصح أَن عنصر أجسامنا مَخْلُوق مُنْذُ أول خلقه تَعَالَى السَّمَوَات وَأَن أَرْوَاحنَا وَهِي أَنْفُسنَا مخلوقة مُنْذُ أَخذ الله تَعَالَى عَلَيْهَا الْعَهْد وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} وَثمّ توجب فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن التعقيب بمهلة ثمَّ يصور الله تَعَالَى من الطين أجسامنا من اللَّحْم وَالدَّم وَالْعِظَام بِأَن يحِيل أَعْرَاض التُّرَاب وَالْمَاء وصفاتهما فَتَصِير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بهَا فتستحيل فِينَا لَحْمًا وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فَقَط وَكَذَلِكَ تعود أجسامنا بعد الْمَوْت تُرَابا وَلَا بُد وتصعد رطوباتها المائية وَأما جمع الله تَعَالَى الْأَنْفس إِلَى الأجساد فَهِيَ الْحَيَاة الأولى بعد افتراقها الَّذِي هُوَ الْمَوْت الأول فَتبقى كَذَلِك فِي عَالم الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ عَالم الِابْتِلَاء مَا شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ ينقلنا بِالْمَوْتِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِرَاق الْأَنْفس للأجساد ثَانِيَة إِلَى البرزخ الَّذِي تقيم فِيهِ الْأَنْفس إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وتعود أجسامنا تُرَابا كَمَا قُلْنَا ثمَّ يجمع الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة بَين أنفسناوأجسادنا الَّتِي كَانَت بعد أَن يُعِيدهَا وينشرها من الْقُبُور وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي اسْتَقَرَّتْ أجزاؤها فِيهَا لَا يعلمهَا غَيره وَلَا يحصيها سواهُ عز وَجل لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَذِهِ الْحَيَاة الثَّانِيَة الَّتِي لَا تبيد أبدا ويخلد الْإِنْس وَالْجِنّ مؤمنهم فِي الْجنَّة بِلَا نِهَايَة وكافرهم فِي النَّار بِلَا نِهَايَة وَأما الْمَلَائِكَة وحور الْعين فكلهم فِي الْجنَّة خلقُوا من النُّور وفيهَا يبقون أبدا بِلَا نِهَايَة وَلم ينقلوا عَنْهَا قطولا ينقلون هَذَا كُله نَص قَول الله عز وَجل إِذْ يَقُول {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} وَإِذ يَقُول الله تَعَالَى مُصدقا لِلْقَائِلين {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فَلَا يشذ عَن هَذَا أحد إِلَّا من أبانه الله تَعَالَى بمعجزة ظَهرت فِيهِ كمن أَحْيَاهُ الله عز وَجل آيَة لنَبِيّ كالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام وكالذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم فَهَؤُلَاءِ وَالَّذِي أَمَاتَهُ الله مائَة عَام ثمَّ أَحْيَاهُ كلهم مَاتُوا ثَلَاث موتات وحيوا ثَلَاث مَرَّات وَأما من ظن أَن الصعقة الَّتِي تكون يَوْم الْقِيَامَة موت فقد أَخطَأ بعض الْقُرْآن الَّذِي ذكرنَا لِأَنَّهَا كَانَت تكون حِينَئِذٍ لكل أحد ثَلَاث موتات وَثَلَاث إحياآت وَهَذَا كذب وباطل وَخلاف لِلْقُرْآنِ وَقد بَين عز وَجل هَذَا نصا فَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَفَزعَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله} فَبين تَعَالَى أَن تِلْكَ الصعقة إِنَّمَا هِيَ فزع لَا موت وَبَين ذَلِك بقوله تَعَالَى فِي سُورَة الزمر {وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا وَوضع الْكتاب وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} الْآيَة فَبين تَعَالَى أَن تِلْكَ الصعقة مُسْتَثْنى مِنْهَا من شَاءَ الله عز وَجل وَفسّر بهَا الْآيَة الَّتِي ذكرنَا قبل وبينت أَنَّهَا فزعة لَا موتَة وَكَذَلِكَ فَسرهَا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَنَّهُ أول من يقوم فَيرى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما فَلَا يدْرِي أَكَانَ مِمَّن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطّور فسماها إفاقة وَلَو كَانَت موتَة مَا سَمَّاهَا إفاقة بل إحْيَاء فَكَذَلِك كَانَت صعقة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَوْم الطّور فزعة لَا موتا قَالَ تَعَالَى {وخر مُوسَى صعقاً فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا ذكرنَا أَن الدّور سبع وَهِي عالمون كل عَالم مِنْهَا قَائِم بِذَاتِهِ فأولها دَار الِابْتِدَاء وعالمه وَهُوَ الَّذِي خلق عز وَجل فِيهِ الْأَنْفس جملَة وَاحِدَة وَأخذ عَلَيْهَا الْعَهْد هَكَذَا نَص تَعَالَى على أَنَّهَا الْأَنْفس بقوله عز وَجل {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم} وَهِي دَار وَاحِدَة لأَنهم كلهم فِيهَا مُسلمُونَ وَهِي دَار طَوِيلَة على آخر النُّفُوس جدا إِلَّا على أول المخلوقين فَهِيَ قَصِيرَة عَلَيْهِم جدا وَثَانِيها وَهِي دَار الِابْتِلَاء وعالمه وَهِي الَّتِي نَحن فِيهَا وَهِي الَّتِي يُرْسل الله تَعَالَى النُّفُوس إِلَيْهَا من عَالم الِابْتِدَاء فتقيم فِيهِ فِي أجسادها متعبدة مَا أَقَامَت حَتَّى تُفَارِقهُ جيلاً بعد جيل حَتَّى تستوفي جَمِيع الْأَنْفس المخلوقة بسكناها الْمُوفق لَهَا فِيهِ ثمَّ ينقضى هَذَا الْعلم وَهِي دَار قَصِيرَة جدا على كل نفس فِي ذَاتهَا لِأَن مُدَّة عمر الْإِنْسَان فِيهَا قَلِيل وَلَو عمر ألف عَام فَكيف بأعمار جُمْهُور النَّاس الَّتِي هِيَ من سَاعَة إِلَى حُدُود الْمِائَة عَام ثمَّ داران اثْنَتَانِ للبرزخ وهما اللَّتَان ترجع إِلَيْهِمَا النُّفُوس عِنْد خُرُوجهَا من هَذَا الْعَالم وفراقها أجسادها وهما عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا نَص على ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر أَنه رأى لَيْلَة أسر بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام آدم فِي سَمَّاهُ الدُّنْيَا وَعَن يَمِينه أسوده وَعَن يسَاره أسوده فَسَأَلَ عَنْهَا فَأخْبر أَنَّهَا نسم بنيه وَأَن الَّذين عَن يَمِينه أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَالَّذين عَن يسَاره أَرْوَاح أهل الشَّقَاء وَقد نَص الله تَعَالَى على هَذَا أَيْضا فَقَالَ تَعَالَى {وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة عَلَيْهِم نَار مؤصدة} قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَكَذَا نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء بِلَا شكّ فَمن الْبَاطِل أَن يفوز الشُّهَدَاء بِفضل يحرمه الْأَنْبِيَاء وهم المقربون الَّذين ذكر الله تَعَالَى أَنهم فِي الْجنَّة إِذْ يَقُول تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم} فهاتان داران قائمان لم يدْخل أهلهما بعد لَا جنَّة وَلَا نَارا بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة وَقَالَ تَعَالَى {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدواً وعشياً وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الْكفَّار أَنهم يَقُولُونَ يَوْم الْبَعْث {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} فصح أَنهم لم يعذبوا فِي النَّار بعد وَهَكَذَا جَاءَت الْأَخْبَار كلهَا بِأَن الْجَمِيع يَوْم الْقِيَامَة يصيرون إِلَى الْجنَّة وَإِلَى النَّار لَا قبل ذَلِك حاشى الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء فَقَط وَلَا يُنكر خُرُوجهمْ من الْجنَّة لحضور الْحساب فقد دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجنَّة ثمَّ خرج عَنْهَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى} وهما داران طويلتان على أول النُّفُوس جدا حاشى آخر المخلوقين فَهِيَ قَصِيرَة عَلَيْهِم جدا وَإِنَّمَا استقصرها الْكفَّار كَمَا قَالَ عز وَجل فِي الْقُرْآن لأَنهم انتقلوا عَنْهَا إِلَى عَذَاب النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا فاستقلوا تِلْكَ الْمدَّة وَإِن كَانَت طَوِيلَة حَتَّى ظَنّهَا بَعضهم لشدَّة مَا صَارُوا إِلَيْهِ يَوْمًا أَو بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يَوْم وَقَالَ بَعضهم إِن لبثتم إِلَّا عشرا ثمَّ الدَّار الْخَامِسَة هِيَ عَالم الْبَعْث وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ عَالم الْحساب ومقداره خَمْسُونَ ألف سنة قَالَ تَعَالَى {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلاً أَنهم يرونه بَعيدا ونراه قَرِيبا يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ وَتَكون الْجبَال كالعهن وَلَا يسْأَل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لَو يفتدي من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه} فصح أَنه يَوْم الْقِيَامَة وَبِهَذَا أَيْضا جَاءَت الْأَخْبَار الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْأَيَّام الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا أَن الْيَوْم مِنْهَا ألف سنة فَهِيَ آخر قَالَ تَعَالَى {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} فَهِيَ أَيَّام أخر بِنَصّ الْقُرْآن وَلَا يحل إِحَالَة نَص عَن ظَاهره بِغَيْر نَص آخر أَو إِجْمَاع بِيَقِين أَو ضَرُورَة حس ثمَّ الدَّار السَّادِسَة وَالسَّابِعَة داران للجزاء وهما الْجنَّة وَالنَّار وهما داران لَا آخر لَهما وَلَا فنَاء لَهما وَلَا لمن فيهمَا نَعُوذ بِاللَّه من سخطه الْمُوجب للنار ونسأله الرضى مِنْهُ الْمُوجب للجنة وَمَا تَوْفِيقًا إِلَّا بِاللَّه الرَّحِيم الْكَرِيم وَأما من قَالَ أَن قَوْله تَعَالَى فِي يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ مِقْدَار خمسين ألف سنة لَو تولى ذَلِك الْحساب غَيره فَهُوَ مكذب لرَبه تَعَالَى مُخَالف لِلْقُرْآنِ وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طول ذَلِك الْيَوْم وبضرورة الْعقل نَدْرِي أَنه لَو كلف جَمِيع أهل الأَرْض محاسبة أهل حصروا وَاحِد فِيمَا أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذَلِك مَا قَامُوا بِهِ فِي ألف ألف عَام فَبَطل هَذَا القَوْل الْكَاذِب بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ قد بَينا بطلَان قَول الْمُعْتَزلَة فِي تحكمهم على رَبهم وإيجابهم عَلَيْهِ مَا أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إِيَّاه بِأَنْفسِهِم فِيمَا يحسن مِنْهُم ويقبح وتجويزهم إِيَّاه فِيمَا فعل وَقضى وَقدر فلنبين بحول الله وقوته أَنهم المجورون لَهُ على الْحَقِيقَة لَا نَحن ثمَّ نذْكر مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ مُصدقا لقولنا ومكذباً لقَولهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد أَن من الْمحَال الْبَين أَن يَقُول الْمُعْتَزلَة أننا نجور الله تَعَالَى وَنحن نقُول أَنه لَا يجور الْبَتَّةَ وَلَا جَار قطّ وَإِن كل مَا فعل أَو يفعل أَي شئ كَانَ فَهُوَ الْعدْل وَالْحق وَالْحكمَة على الْحَقِيقَة لَا شكّ فِي ذَلِك وَأَنه لَا جور إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل جوراً وَهُوَ مَا ظهر فِي عصاة عباده من الْجِنّ وَالْإِنْس مِمَّا خَالف أمره تَعَالَى وَهُوَ خالقه فيهم كَمَا شَاءَ فَكيف يكون مجور إِلَيْهِ عز وَجل من هَذِه هِيَ مقَالَته وَإِنَّمَا المجور لرَبه تَعَالَى من يَقُول فِيمَا أخبر الله عز وَجل أَنه خلقه هَذَا جور وظلم فَإِن قَابل هَذَا القَوْل لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَنه مكذب لرَبه عز وَجل فِي إخْبَاره فِي الْقُرْآن أَنه برأَ المصائب كلهَا وخلقها وَأَنه تَعَالَى خلقنَا وَمَا نعمل وَأَنه خلق كل شئ بِقدر محرف لكَلَام ربه تَعَالَى الَّذِي هُوَ غَايَة الْبَيَان عَن موَاضعه مبدل لَهُ بَعْدَمَا سَمعه وَقد نَص الله تَعَالَى فِيمَن يحرف الْكَلم عَن موَاضعه ويبدله بعد مَا سَمعه مَا نَص فَهَذَا خطه كفران التزامها وَالثَّانيَِة وَهِي تَصْدِيق الله عز وَجل فِي إخْبَاره بذلك وتجويزه فِي فعله لَا بُد لَهُ من ذَلِك وَهَذِه أَيْضا خطة كفران التزامها أَو الِانْقِطَاع والتناقض والثبات على اعْتِقَاد الْبَاطِل بِلَا حجَّة تقليداً للعيارين الشطار الْفُسَّاق كالنظام والعلاف وَبشر نخاس الرَّقِيق وَمعمر الْمُتَّهم عِنْدهم فِي دينه وثمامة الخليع الْمَشْهُور بالقبايح والجاحظ وَهُوَ من عرف هزلا وعيارة وإنهما لَا وَهَذِه أسلم الْوُجُوه لَهُم ونعوذ بِاللَّه من مثلهَا ثمَّ هم بعد هَذَا صنفان أَصْحَاب الْأَصْلَح وَأَصْحَاب اللطف فَأَما أَصْحَاب اللطف فَإِن أَصْحَاب الْأَصْلَح يصفونهم بِأَنَّهُم مجورون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 لله مجهلون لَهُ وَأَصْحَاب الْأَصْلَح يصفهم أَصْحَاب اللطف بِأَنَّهُم معجزون لله تَعَالَى مشبهون لَهُ بخلقه فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه يفعل مَا يَشَاء بِخِلَاف مَا قَالَت الْمُعْتَزلَة فَقَالَ عز وَجل {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وأمرنا عز وَجل أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصراً كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه غَايَة الْبَيَان فِي أَنه عز وَجل لَهُ أَن يكلفنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وَأَنه لَو شَاءَ ذَلِك لَكَانَ من حَقه وَلَو لم يكن لَهُ ذَلِك لما أمرنَا بِالدُّعَاءِ فِي أَن لَا يحملنا ذَلِك ولكان الدُّعَاء بذلك كالدعاء فِي أَن يكون إِلَهًا خَالِقًا على أصولهم وَنَصّ تَعَالَى كَمَا تلونا على أَنه قد حمل من كَانَ قبلنَا الإصر وَهُوَ الثّقل الَّذِي لَا يُطَاق وأمرنا أَن نَدْعُوهُ بِأَن لَا يحمل ذَلِك علينا وَأَيْضًا فقد أمرنَا تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَن نَدْعُوهُ فِي أَن لَا يؤاخذنا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا وَهَذَا هُوَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق نَفسه لِأَن النسْيَان لَا يقدر أحد على الْخَلَاص مِنْهُ وَلَا يتَوَهَّم التحفظ مِنْهُ وَلَا يُمكن أحدا دَفعه عَن نَفسه فلولا أَن لَهُ تَعَالَى أَن يُؤَاخذ بِالنِّسْيَانِ من شَاءَ من عباده لما أمرنَا بِالدُّعَاءِ فِي النجَاة مِنْهُ وَقد وجدنَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام مؤاخذين بِالنِّسْيَانِ مِنْهُم أَبونَا آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي} يُرِيد نسيانه عَدَاوَة إِبْلِيس لَهُ الَّذِي حذره الله تَعَالَى مِنْهَا ثمَّ آخذه على ذَلِك وَأخرجه من الْجنَّة ثمَّ تَابَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُله على أصُول الْمُعْتَزلَة جور وظلم تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالَ عز وَجل وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا وَلَو فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره فصح يَقِينا أَن ترك الشّرك من الْمُشْركين مُمْتَنع لِامْتِنَاع مَشِيئَة الله تَعَالَى لتَركه وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} ومشيئة الله هِيَ تَفْسِير إِذن الله وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} فَهَذَا نَص جلي على أَنه لَا يُمكن أحد أَن يُؤمن إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل لَهُ فِي الْإِيمَان فصح يَقِينا أَن كل من آمن فَلم يُؤمن إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل وَأَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يُؤمن وَإِن كل من لم يُؤمن فَلم يَأْذَن الله تَعَالَى لَهُ فِي الْإِيمَان وَلَا شَاءَ أَن يكون مِنْهُ الْإِيمَان هَذَا نَص هَاتين الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يحتملان تَأْوِيلا غَيره أصلا وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَنه تَعَالَى عَنى الْإِكْرَاه على الْإِيمَان لِأَن نَص الْآيَتَيْنِ مَانع من هَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن كل من آمن فَإِنَّمَا آمن بِإِذن الله عز وَجل وَإِن من لم يُؤمن فَإِن الله تَعَالَى لم يَشَاء أَن يُؤمن فيلزمهم على هَذَا أَن كل مُؤمن فِي الْعَالم فمكره على الْإِيمَان وَهَذَا شَرّ من قَول الْجَهْمِية وَأَشد فَإِن قَالُوا أَن إِذن الله تَعَالَى هَا هُنَا إِنَّمَا هُوَ أمره لَزِمَهُم ضَرُورَة أحد وَجْهَيْن لَا بُد مِنْهُمَا إماأن يَقُولُوا أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر الْكفَّار بِالْإِيمَان لِأَن النَّص قد جَاءَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَو أذن لَهُم لآمنوا وَإِمَّا أَن يَقُولُوا أَن كل من فِي الْعَالم فهم مُؤمنُونَ لأَنهم عِنْدهم مَأْذُون لَهُم فِي الْإِيمَان إِذا كَانَ الْإِذْن هُوَ الْأَمر وكلا الْقَوْلَيْنِ كفر مُجَرّد ومكابرة للعيان ونعوذ بِاللَّه من الضلال قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْإِذْن هَا هُنَا ومشيئته تَعَالَى هُوَ خلق الله تَعَالَى للْإيمَان فِيمَن آمن وَقَوله لإيمانه كن فَيكون وَعدم إِذْنه تَعَالَى وَعدم مَشِيئَته للْإيمَان هُوَ أَن لَا يخلق فِي الْمَرْء الْإِيمَان فَلَا يُؤمن لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ إِذْ قد صَحَّ أَن الْإِذْن هَا هُنَا لَيْسَ هُوَ الْأَمر وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 فَأخْبر تَعَالَى أَنه هدى بَعضهم دون بعض وَهَذَا عِنْد الْمُعْتَزلَة جور وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فنص على انه خلقهمْ ليدخلهم النَّار نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَأمر تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} فنص تَعَالَى على زيغ قُلُوب من لم يهدهم من الَّذين زاغوا إِذْ أزاغ الله قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ} فَقطع تَعَالَى على أَن كَلِمَاته قد حقت على الْفَاسِقين انهم لَا يُؤمنُونَ فَمن الَّذِي حقق عَلَيْهِم أَن لايؤمنوا إِلَّا هُوَ عز وَجل وَهَذَا جور عِنْد الْمُعْتَزلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل آيَة ذَكرنَاهَا فِي بَاب الِاسْتِطَاعَة مِنْهُنَّ حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وكل آيَة نتلوها إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي بَاب إِثْبَات أَن الله عز وَجل أَرَادَ كَون الْكفْر وَالْفِسْق بعد هَذَا الْبَاب مَنْهِيّ أَيْضا حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وَكَذَلِكَ كل آيَة نتلوها إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي إبِْطَال قَول من قَالَ لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى شَيْء أصلح مِمَّا أعطَاهُ الله أَبَا جهل وَفرْعَوْن وَأَبا لَهب مِمَّا يَسْتَدْعِي إِلَى الْإِيمَان فَإِنَّهَا حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا رَبك بلام للعبيد وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه قَادر على أَن يسمعهم والإسماع هَاهُنَا الْهدى بِلَا شكّ لِأَن آذانهم كَانَت صحاحاً وَمعنى قَوْله تَعَالَى {وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ لتولوا عَن الْكفْر وهم معرضون عَنهُ لَا يجوز غير هَذَا لِأَنَّهُ محَال أَن يهْدِيهم الله وَقد علم من قُلُوبهم خيرا فَلَا يهتدوا وَهَذَا تنَاقض قد تنزه كَلَامه عز وَجل عَنهُ فصح أَنه كَمَا ذكرنَا يَقِينا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسائرها حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ بل هُوَ حجَّة لنا عَلَيْهِم وَهُوَ نَص قَوْلنَا أَنه خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بِالْحَقِّ وأفعال الْعباد بَين السَّمَاء وَالْأَرْض بِلَا شكّ فَالله تَعَالَى خلقهَا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ اختراعه لَهَا وكل مَا فعل تَعَالَى حق وإضلاله من أضلّ حق لَهُ وَمِنْه تَعَالَى وهداه من هدى حق مِنْهُ تَعَالَى ومحاباته من حابى بِالنُّبُوَّةِ وبالطاعة حق مِنْهُ وَنحن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى من كل من قَالَ أَن الله تَعَالَى خلق شَيْئا بِغَيْر الْحق أَو أَنه تَعَالَى خلق شَيْئا لاعباً أَو أَنه تَعَالَى ظلم أحدا بل فعله عدل وَصَلَاح وَلَقَد ظهر لكل ذِي فهم أننا قَائِلُونَ بِهَذِهِ الْآيَات على نَصهَا وظاهرها فَأَي حجَّة لَهُم علينا فِي هَذِه النُّصُوص لَو عقلوا وَأما الْمُعْتَزلَة فَيَقُولُونَ أَنه تَعَالَى لم يخلق كثيرا مِمَّا بَين السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا سِيمَا عباد بن سُلَيْمَان مِنْهُم تلميذ هِشَام بن عَمْرو الفوطي الْقَائِل أَن الله تَعَالَى لم يخلق الجدب وَلَا الْجُوع وَلَا الْأَمْرَاض وَلَا الْكفَّار وَلَا الْفُسَّاق وَمُحَمّد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جَعْفَر بن حَرْب الْقَائِل أَن الله تَعَالَى لم يخلق العيدان وَلَا المزامير وَلَا الطنابير وكل ذَلِك لَيْسَ يخلق من خلق الله تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وهم يَقُولُونَ أَن الله عز وَجل لَو حابى أحدا لَكَانَ ظَالِما لغيره وَقد صَحَّ أَن الله تَعَالَى حابى مُوسَى وَإِبْرَاهِيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَيحيى ومحمداً صلوَات الله عَلَيْهِم دون غَيرهم وَدون أبي لَهب وَأبي جهل وَفرْعَوْن وَالَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه فعلى قَول الْمُعْتَزلَة يجب أَن الله تَعَالَى ظلم هَؤُلَاءِ الَّذين حابى غَيرهم عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ إِلَّا بترك قَوْلهم الْفَاسِد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَهَكَذَا نقُول مَا خلقهمْ الله تَعَالَى إِلَّا ليكونوا لَهُ عباداً مصرفين بِحكمِهِ فيهم منقادين لتدبيره إيَّاهُم وَهَذِه حَقِيقَة الْعِبَادَة وَالطَّاعَة أَيْضا عبَادَة وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن الْقَائِلين {أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ} وَقد علم كل أحد ان قوم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يعبدوا قطّ فِرْعَوْن عبَادَة تدين لَكِن عبدوه عبَادَة تذلل فَكَانُوا لَهُ عبيدا فهم لَهُ عَابِدُونَ وَكَذَلِكَ قَول الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} وَقد علم كل أحد أَنهم لم يعبدوا الْجِنّ عبَادَة تدين لَكِن عبدوهم عبَادَة تصرف لأمرهم وإغوائهم فَكَانُوا لَهُم بذلك عبيدا فصح القَوْل بِأَنَّهُم يَعْبُدُونَهُمْ وَهَذَا بَين وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا معنى هَذِه الْآيَة أَنه تَعَالَى خلقهمْ ليأمرهم بِعِبَادَتِهِ ولسنا نقُول بِهَذَا لِأَن فيهم من لم يَأْمُرهُ الله تَعَالَى قطّ بِعِبَادَتِهِ كالأطفال والمجانين فَصَارَ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِلَا برهَان وَالَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ الْمشَاهد الْمُتَيَقن الْعَام لكل وَاحِد مِنْهُم واما ظن الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة فَبَاطِل يكذبهُ إِجْمَاعهم مَعنا أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن كثيرا مِنْهُم لَا يعبدونه فَكيف يجوز أَن يخبر أَنه خلقهمْ لأمر قد علم أَنه لَا يكون مِنْهُم إِلَّا أَن يصيروا إِلَى قَول من يَقُول انه تَعَالَى لَا يعلم الشَّيْء حَتَّى يكون فَيتم كفر من لَجأ إِلَى هَذَا وَلَا يخلصون مَعَ ذَلِك من نِسْبَة الْعَبَث إِلَى الْخَالِق تَعَالَى إِذْ غرر من خلق فِيمَا لَا يدْرِي أيعطبون فِيهِ أم يفوزون وتحيرت الْمُعْتَزلَة الْقَائِلُونَ بالأصلح وبإبطال الْمُحَابَاة فِي وَجه الْعدْل فِي سِتَّة عشر بَابا وَهِي الْعدْل فِي إدامة الْعَذَاب الْعدْل فِي إيلام الْحَيَوَان الْعدْل فِي تَبْلِيغ من فِي الْمَعْلُوم أَنه يكفر الْعدْل فِي الْمَخْلُوق الْعدْل فِي الْمَخْلُوق الْعدْل فِي إِعْطَاء الِاسْتِطَاعَة الْعدْل فِي الْإِرَادَة الْعدْل فِي الْبَدَل الْعدْل فِي الْأَمر الْعدْل فِي عَذَاب الْأَطْفَال الْعدْل فِي اسْتِحْقَاق الْعَذَاب الْعدْل فِي الْمعرفَة الْعدْل فِي اخْتِلَاف أَحْوَال المخلوقين الْعدْل فِي اللطف الْعدْل فِي الْأَصْلَح الْعدْل فِي نسخ الشَّرَائِع الْعدْل فِي النُّبُوَّة الْكَلَام فِي هَل شَاءَ الله عز وَجل كَون الْكفْر وَالْفِسْق وإراده تَعَالَى من الْكَافِر وَالْفَاسِق أم لم يَشَاء ذَلِك وَلَا أَرَادَ كَونه قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَت الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى لم يَشَاء أَن يكفر الْكَافِر وَلَا أَن يفسق الْفَاسِق وَلَا ان يشْتم تَعَالَى وَلَا أَن يقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} وَقَالُوا من فعل مَا أَرَادَ الله فَهُوَ مأجور محسن فَإِن كَانَ الله تَعَالَى أَرَادَ ان يكفر الْكَافِر وَأَن يفسق الْفَاسِق فقد فعلا جَمِيعًا مَا أَرَادَ الله تَعَالَى مِنْهُمَا فهما محسنان مأجوران وَذهب أهل السّنة أَن لَفْظَة شَاءَ وَأَرَادَ لَفْظَة مُشْتَركَة تقع على مَعْنيين أَحدهمَا الرضى وَالِاسْتِحْسَان فَهَذَا مَنْهِيّ عَن الله تَعَالَى انه أَرَادَهُ أَو شاءه فِي كل مَا نهى عَنهُ وَالثَّانِي أَن يُقَال أَرَادَ وَشاء بِمَعْنى أَرَادَ كَونه وَشاء وجوده فَهَذَا هُوَ الَّذِي نخبر بِهِ عَنهُ الله عز وَجل فِي كل مَوْجُود فِي الْعَالم من خير أَو شَرّ فسلكت الْمُعْتَزلَة سَبِيل السفسطة فِي التَّعَلُّق بالألفاظ الْمُشْتَركَة الْوَاقِعَة على مَعْنيين فَصَاعِدا والتمويه الَّذِي يضمحل إِذا فتش ويفتضح إِذا بحث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 عَنهُ وَهَذِه سَبِيل الْجُهَّال الَّذين لَا حِيلَة بأيدهم إِلَّا المخرفة وَقَالَ أهل السّنة لَيْسَ من فعل مَا أَرَادَ الله تَعَالَى وَمَا شَاءَ الله كَانَ محسناً وَإِنَّمَا المحسن من فعل بِمَا أمره الله تَعَالَى بِهِ ورضيه مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم فَنَقُول لَهُم أخبرونا أَكَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على منع الْكفَّار من الْكفْر وَالْفَاسِق من الْفسق وعَلى منع من شَتمه من النُّطْق بِهِ وَمن إمراره على خاطره وعَلى الْمَنْع من قتل من قتل من أنبيائه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أم كَانَ عَاجِزا عَن الْمَنْع من ذَلِك فَإِن قَالُوا لم يكن قَادِرًا على الْمَنْع من شَيْء من ذَلِك فقد أثبتوا لَهُ معنى الْعَجز ضَرُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد وَإِبْطَال لإلهيته تَعَالَى وَقطع عَلَيْهِ بالضعف وَالنَّقْص وتناهي الْقُوَّة وَانْقِطَاع الْقُدْرَة مَعَ التَّنَاقُض الْفَاحِش لأَنهم مقرون أَنه تَعَالَى هُوَ أَعْطَاهُم الْقُوَّة الَّتِي بهَا كَانَ الْكفْر وَالْفِسْق وَشَتمه تَعَالَى وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمن الْمحَال الْمَحْض أَن يكون تَعَالَى لَا يقدر على أَن لَا يعطيهم الَّذِي أَعْطَاهُم وَهَذِه صفة الْمُضْطَر الْمُجبر وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على مَنعهم من كل ذَلِك أفروا ضَرُورَة أَنه مُرِيد لبقائهم على الْكفْر وَأَنه المبقي للْكَافِرِ وللكفر وحالف الزَّمَان الَّذِي امْتَدَّ فِيهِ الْكَافِر على كفره وَالْفَاسِق على فسقه وَهَذَا نَفسه هُوَ قَوْلنَا أَنه أَرَادَ كَون الْكفْر وَالْفِسْق والشتم لَهُ وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلم يرض عَن شَيْء من ذَلِك بل سخطه تَعَالَى وَغَضب على فَاعله وَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَانَ الله تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَهُوَ إِذن يغْضب مِمَّا أَرَادَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقر أَنه تَعَالَى يغْضب على فَاعل مَا أَرَادَ كَونه مِنْهُ ثمَّ نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم فاذ هَذَا عنْدكُمْ مُنكر وَأَنْتُم مقرون بِأَنَّهُ قَادر على الْمَنْع مِنْهُ فَهُوَ عنْدكُمْ يغْضب مِمَّا أقرّ ويسخط مَا يقره وَلَا يُغَيِّرهُ وَيثبت مَا لَا يرضى وَهَذَا هُوَ الَّذِي شنعوا فِيهِ وَلَا يقدرُونَ على دَفعه والشاعة عَلَيْهِم رَاجِعَة لأَنهم أَنْكَرُوا مَا لَزِمَهُم وبالضرورة نَدْرِي أَن من قدر على الْمَنْع من شَيْء فَلم يفعل وَلَا منع مِنْهُ فقد أَرَادَ وجود كَونه وَلَو لم يرد كَونه لغيره ولمنع مِنْهُ وَلما تَركه يفعل فَإِن قَالُوا أَنه حَكِيم وخلاهم دون منع لسر من الْحِكْمَة لَهُ فِي ذَلِك قيل لَهُم فاقنعوا بِمثل هَذَا الْجَواب مِمَّن قَالَ لكم أَنه أَرَادَ كَونه لِأَنَّهُ حَكِيم كريم عَزِيز وَله فِي ذَلِك سر من الْحِكْمَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَنَقُول أَنه تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك وَلَا سر هَاهُنَا وَإِن كل مَا فعل فَهُوَ حِكْمَة وَحقّ وَأَن قَوْلهم هَذَا هَادِم لمقدمتهم الْفَاسِدَة أَنه يقبح من الْبَارِي تَعَالَى مَا يقبح منا وَفِيمَا بَيْننَا وَمَا علم قطّ ذُو عقل أَن من خلى من عدوه منطلق الْيَد على وليه وَأحب النَّاس إِلَيْهِ يقْتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينْطَلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طَوْعًا وَكرها وَالسَّيِّد حَاضر يرى وَيسمع وَهُوَ قَادر على الْمَنْع من ذَلِك فَلَا يفعل بل لَا يقنع بتركهم إِلَّا حَتَّى يُعْطي عدوه الْقُوَّة على كل ذَلِك والآلات الْمعينَة لَهُ ويمده بالقوى شَيْئا بعد شَيْء فَلَيْسَ حكيماً وَلَا حَلِيمًا وَلكنه عابث ظَالِم جَائِر فيلزمهم على أصلهم الْفَاسِد أَن يحكموا على الله تَعَالَى بِكُل هَذَا لأَنهم معترفون بِأَنَّهُ تَعَالَى فعل كل هَذَا وَهَذَا لَا يلْزمنَا لأننا نقُول إِن الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَأَن كل مَا فعل مِمَّا ذكرنَا وَغَيره فَهُوَ كُله مِنْهُ تَعَالَى حِكْمَة وَحقّ وَعدل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَبَطل بضرورة الْمُشَاهدَة قَوْلهم إِن الله تَعَالَى لم يرد كَون الْكفْر أَو كَون الْفسق أَو كَون شَتمه تَعَالَى وَقتل أنبيائه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 لم يرد كَونه لمنع من ذَلِك كَمَا منع من كَون كل مَا لم يرد أَن يكون قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيَكْفِي من هَذَا كُله اجْتِمَاع الْأمة على قَول مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَهَذَا على عُمُومه مُوجب أَن كل مَا فِي الْعَالم كَانَ أَو يكون أَي شَيْء كَانَ فقد شاءه الله تَعَالَى وكل مَا لم يكن وَلَا يكون فَلم يشأه الله تَعَالَى نصا لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَنه أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} فنص تَعَالَى نصا جلياً على أَنه لَا يَشَاء أحد استقامة على طَاعَته تَعَالَى إِلَّا أَن شَاءَ الله تَعَالَى أَن يَسْتَقِيم فَلَو صَحَّ قَول الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى شَاءَ أَن يَسْتَقِيم كل ملكف لَكَانَ بِنَصّ الْقُرْآن كل مُكَلّف مُسْتَقِيم لِأَن الله تَعَالَى عِنْدهم قد شَاءَ ذَلِك وَهَذَا تَكْذِيب مُجَرّد لله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من مثله فصح يَقِينا لَا مدْخل للشَّكّ فِي صِحَّته أَنه تَعَالَى شَاءَ خلاف الاسْتقَامَة مِنْهُم وَلم يَشَأْ أَن يستقيموا بِنَصّ الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة غَايَة فِي الْبَيَان فِي أَن الله تَعَالَى جعل عدَّة مَلَائِكَة النَّار فتْنَة للَّذين كفرُوا وليقولوا مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا فَأخْبر تَعَالَى أَنه أَرَادَ أَن يفتن الَّذين كفرُوا وَأَن يضلهم فيضلوا وَأَنه تَعَالَى قصد إضلالهم وَحكم بذلك كَمَا قصد هدى الْمُؤمنِينَ وأراده وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجمياً لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته أأعجمي وعربي قل هُوَ للَّذين آمنُوا هدى وشفاء وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمي} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص تَعَالَى على أَنه أنزل الْقُرْآن هدى للْمُؤْمِنين وَعمي للْكفَّار وبيقين نَدْرِي أَنه تَعَالَى إِذا نزل الْقُرْآن أَرَادَ أَن يَقُول كَمَا قَالَ تَعَالَى عمي للْكفَّار وَهدى للْمُؤْمِنين وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} هَكَذَا هِيَ الْآيَة كلهَا مَوْصُولَة بَعْضهَا بِبَعْض فنص تَعَالَى على أَنه لَو شَاءَ لأمن النَّاس وَالْجِنّ وهم أهل الأَرْض كلهم وَلَو فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله عز وَجل ليفهمنا حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى لم يَشَأْ أَن يُؤمن كل من فِي الأَرْض وَإِذ لَا شكّ فِي ذَلِك فباليقين نَدْرِي أَنه شَاءَ مِنْهُم خلاف الْإِيمَان وَهُوَ الْكفْر وَالْفِسْق لَا بُد وَلَو كَانَ الله تَعَالَى أذن للْكَافِرِينَ فِي الْإِيمَان على قَول الْمُعْتَزلَة لَكَانَ كل من فِي الأَرْض قد آمن لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَنه لَا يُؤمن أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذَا أَمر من الْمُعْتَزلَة يكذبهُ العيان فصح أَن الْمُعْتَزلَة كذبت وَأَن الله تَعَالَى صدق وَأَنه لم يَأْذَن قطّ لمن مَاتَ كَافِرًا فِي الْإِيمَان وَأَن من عمي عَن هَذِه لأعمى الْقلب وَكَيف لَا يكون أعمى الْقلب من أعمى الله قلبه عَن الْهدى وبالضرورة نَدْرِي أَن قَول الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} حق وَإِن من لم يَأْذَن الله تَعَالَى لَهُ فِي الْإِيمَان فَإِنَّهُ تَعَالَى لم يَشَأْ أَن يُؤمن وَإِذا لم يَشَأْ أَن يُؤمن فبلا شكّ أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يكفر هَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى {ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا إِن يَشَاء الله} فَبين تَعَالَى أتم بَيَان على أَن الْآيَات لَا تغني شَيْئا وَلَا النّذر وهم الرُّسُل وَإنَّهُ لَا يُؤمن شَيْء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 من ذَلِك إِلَّا من شَاءَ الله عز وَجل أَن يُؤمن فصح يَقِينا أَنه لَا يُؤمن إِلَّا من شَاءَ الله إيمَانه وَلَا يكفر إِلَّا من شَاءَ الله كفره فَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن} فبالضرورة نعلم أَن من صبا وَجَهل فَإِن الله تَعَالَى لم يصرف عَنهُ الكيد الَّذِي صرفه برحمته عَمَّن لم يصب وَلم يجهل وَإِذ صرفه تَعَالَى عَن بعض وَلم يصرفهُ عَن بعض فقد أَرَادَ تَعَالَى إضلال من حبا وَجَهل وَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} فليت شعري إِذْ قَالَ تَعَالَى أَنه جعل قُلُوب الْكَافرين فِي أكنة ان يفقهوا الْقُرْآن وَجعل الوقر فِي آذانهم أتراه أَرَادَ أَن يفقهوه أَو أَرَادَ أَن لَا يفقهوه وَكَيف يسوغ فِي عقل أحد أَن يخبر تَعَالَى أَنه فعل عز وَجل شَيْئا لم يرد أَن يَفْعَله وَلَا أَرَادَ كَونه وَلَا شَاءَ إيجاده وَهَذَا تَخْلِيط لَا يتشكل فِي عقل كل ذِي مسكة من عقل فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الوقر فِي آذانهم وَكَون الأكنة على قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} فنص تَعَالَى على أَنه لم يرد أَن يجعلنا أمة وَاحِدَة وَلَكِن شَاءَ أَن يضل قوما وَيهْدِي قوما فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ إضلال من ضل وَقَالَ تَعَالَى مثنياً على قوم ومصدقاً لَهُم فِي قَوْلهم {قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} فَقَالَ النَّبِيُّونَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام واتباعهم قَول الْحق الَّذِي شهد الله عز وَجل بتصديقه أَنهم إِنَّمَا خلصوا من الْكفْر بِأَن الله تَعَالَى نجاهم مِنْهُ وَلم ينج الْكَافرين مِنْهُ وَأَن الله تَعَالَى إِن شَاءَ ان يعودوا فِي الْكفْر عَادوا فِيهِ فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ ذَلِك مِمَّن عَاد فِي الْكفْر وَقد قَالَت الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة معنى هَذَا إِلَّا ان يَأْمُرنَا الله بتعظيم الْأَصْنَام كَمَا أمرنَا بتعظيم الْحجر الْأسود والكعبة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد لِأَن الله تَعَالَى لَو أمرنَا بذلك لم يكن عوداً فِي مِلَّة الْكفْر بل كَانَ يكون ثَابتا على الْإِيمَان وتزايداً فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} فليت شعري إِذْ زادهم الله مَرضا أتراه لم يَشَاء وَلَا أَرَادَ مَا فعل من زِيَادَة الْمَرَض فِي قُلُوبهم وَهُوَ الشَّك وَالْكفْر وَكَيف يفعل الله مَالا يُرِيد أَن يفعل وَهل هَذَا إِلَّا إلحاد مُجَرّد مِمَّن قَالَه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد} فنص تَعَالَى على أَنه لَو شَاءَ لم يقتتلوا فَوَجَبَ ضَرُورَة أَنه شَاءَ وَأَرَادَ أَن يقتتلوا وَفِي اقتتال المقتتلين ضلال بِلَا شكّ فقد شَاءَ الله تَعَالَى كَون الضلال ووجوده بِنَصّ كَلَامه تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} فنص تَعَالَى على انه أَرَادَ فتْنَة المفتتنين وهم الْكفَّار وكفرهم الَّذين لم يملك لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الله شَيْئا فَهَذَا نَص على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الْكفْر من الْكفَّار وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَنه تَعَالَى لم يرد أَن يطهر قُلُوبهم وبالضرورة نَدْرِي أَن من لم يرد الله أَن يطهر قلبه فقد أَرَادَ فَسَاد دينه الَّذِي هُوَ ضد طَهَارَة الْقلب وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الله تَعَالَى لم يرد هدى الْجَمِيع وَإِذا لم يرد هدَاهُم فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 أَرَادَ كَون كفرهم الَّذِي هُوَ ضد الْهدى وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَنه تَعَالَى لم يَشَأْ هدى الْكفَّار لَكِن حق قَوْله بِأَنَّهُم لَا بُد من أَن يكفروا فَيَكُونُوا من أهل جَهَنَّم وَقَالَ تَعَالَى {من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم} فَأخْبر تَعَالَى أَنه شَاءَ أَن يضل من أضلّهُ وَشاء ان يهدي من جعله على صِرَاط مُسْتَقِيم وهم بِلَا شكّ غير الَّذين لم يجعلهم على صِرَاط مُسْتَقِيم وَأَرَادَ فتنتهم وَأَن لَا يطهر قُلُوبهم وَأَن يَكُونُوا من أَصْحَاب النَّار نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَشهد الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن من لم يهده الله تَعَالَى ضل وَصَحَّ أَن من ضل فَلم يهده الله عز وَجل وَمن لم يهده الله وَهُوَ قَادر على هداه فقد أَرَادَ ضلاله وإضلاله وَلم يرد هداه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} فصح يقينالا إِشْكَال فِيهِ أَن الله تَعَالَى شَاءَ ان يشركوا اذنص على أَنه لَو شَاءَ أَن لَا يشركوا مَا أشركوا أَو قَالَ تَعَالَى {يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} وَهَذَا نَص على أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يفعلوه إِذْ أخبر أَنه لَو شَاءَ أَن لَا يفعلوه مَا فَعَلُوهُ وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} فنص تَعَالَى على أَنه لَو لم يَشَأْ أَن يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا مَا أوحوه وَلَو شَاءَ أَن لَا يلبس بَعضهم دين بعض وَأَن لَا يقتلُوا اولادهم مَا لبس عَلَيْهِم دينهم وَلَا قتلوا اولادهم فصح ضَرُورَة أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يلبس دين من الْتبس دينه وَأَرَادَ كَون قَتلهمْ أَوْلَادهم وَأَن يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم} فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى سلط أَيدي الْكفَّار على من قَتَلُوهُ من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فنص على أَنه يُرِيد هدى قوم فيهديهم ويشرح صُدُورهمْ للْإيمَان وَيُرِيد ضلال آخَرين فيضلهم بِأَن يضيق صُدُورهمْ ويحرجها فكأنهم كلفوا الصعُود إِلَى السَّمَاء فيكفروا وَقَالَ تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} فنص تَعَالَى على أَن من صَبر فصبره لَيْسَ إِلَّا بِاللَّه فصح أَن من صَبر فَإِن الله أَتَاهُ الصَّبْر وَمن لم يصبر فان الله عزوجل لم يؤته الصَّبْر وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تنازعوا} فنهانا عَن الِاخْتِلَاف وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك وَلذَلِك خلقهمْ} فنص تَعَالَى أَنه خلقهمْ للِاخْتِلَاف إِلَّا من رحم الله مِنْهُم وَلَو شَاءَ لم يَخْتَلِفُوا فصح يَقِينا أَن الله خلقهمْ لما نَهَاهُم عَنهُ من الِاخْتِلَاف وَأَرَادَ كَون الِاخْتِلَاف مِنْهُم وَقَالَ عزوجل {تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شَيْء قدير} وَقَالَ تَعَالَى {بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة} فنص تَعَالَى على أَنه أغرى الْكفَّار وسلب الْمُؤمنِينَ فِي الْملك وَأَنه بعث أُولَئِكَ الَّذين دخلُوا الْمَسْجِد ودخوله مسخط لله تَعَالَى بلاشك فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى خلق كل ذَلِك وَأَرَادَ كَونه وَقَالَ عزوجل {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن أَتَاهُ الله الْملك} فَهَذَا نَص جلي على أَن الله اتي ذَلِك الْكَافِر فصح يَقِينا أَن الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 تَعَالَى فعل تَمْلِيكه وَملكه على أهل الْإِيمَان وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن ذَلِك يسْخط الله عزوجل ويغضبه وَلَا يرضاه وَهُوَ نفس الَّذِي أنكرته الْمُعْتَزلَة وشنعت بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم عَمَّا مَضَت الدُّنْيَا عَلَيْهِ مذ كَانَت من أَولهَا إِلَى يَوْمنَا هَذَا من النَّصْر النَّازِل على مُلُوك أهل الشّرك والملوك الجورة والظلمة وَالْغَلَبَة المعطاة لَهُم على من ناوأهم من أهل الْإِسْلَام وَأهل الْفضل واحترام من أَرَادَهُم بِالْمَوْتِ أَو باضطراب الْكَلِمَة ويانى النَّصْر لَهُم بِوُجُوه الظفر الَّذِي لَا شكّ فِي أَنه الله تَعَالَى فَاعله من أَمَاتَهُ أعدائهم من أهل الْفضل وتأييدهم عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم فِي أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَونه وَقَالَ عزوجل {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} فنص تَعَالَى نصاجليا لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَنه كره أَن يخرجُوا فِي الْجِهَاد الَّذِي افْترض عَلَيْهِم الْخُرُوج فِيهِ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كره تَعَالَى كَون مَا أَرَادَ وَنَصّ على أَنه ثبطهم عَن الْخُرُوج فِي الْجِهَاد ثمَّ عذبهم على التثبيط الَّذِي أخبر تَعَالَى أَنه فعله وَنَصّ تَعَالَى على أَنه قَالَ اقعدوا مَعَ القاعدين وَهَذَا يَقِين لَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام لِأَن الله تَعَالَى لم يَأْمُرهُم بالقعود عَن الْجِهَاد مَعَ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل لعنهم وَسخط عَلَيْهِم إِذْ قعدوا فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَهُوَ ضَرُورَة أَمر تكوين فصح ان الله تَعَالَى خلق قعودهم الْمُغْضب لَهُ الْمُوجب لسخطه وَإِذا نَص تَعَالَى على أَمر فَلَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْهِ وَقَالَ عزوجل {فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} وَهَذَا نَص جلي على أَنه عزوجل أَرَادَ أَن يموتوا وَهُوَ كافرون وَأَنه تَعَالَى أَرَادَ كفرهم وَالْقَاف من تزهق مَفْتُوحَة بِلَا خلاف من أحد من الْقُرَّاء معطوفة على مَا اراد الله عزوجل من أَن يعذبهم بهَا فِي الدُّنْيَا وَالْوَاو تدخل الْمَعْطُوف فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِلَا خلاف من أحد فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل فان الله عزوجل قَالَ فِي الَّذين قعدوا عَن الْخُرُوج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} فَلهَذَا ثبطهم قُلْنَا لَا عَلَيْكُم أكانوا مأمورين بِالْخرُوجِ مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام متوعدين بالنَّار إِن قعدوا لغير عذرأم كانو غير مأمورين بذلك فَإذْ لَا شكّ فِي أَنهم كَانُوا مأمورين فقد ثبطهم الله عزوجل عَمَّا أَمرهم بِهِ وعذبهم على ذَلِك وَخلق قعودهم عَمَّا أَمرهم بِهِ ثمَّ نقُول لَهُم أَكَانَ تَعَالَى قَادِرًا على ان يكف عَن أهل الْإِسْلَام خبالهم وفتنتهم لَو خَرجُوا مَعَهم أم لَا فَإِن قَالُوا لم يكن قَادِرًا على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى وَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى كَانَ قَادِرًا على ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق وأقروا أَن الله تَعَالَى ثبطهم وَكره كَون مَا افْترض عَلَيْهِم وَخلق قعودهم الَّذِي عذبهم عَلَيْهِ وَلَا مُهِمّ عَلَيْهِ كَمَا شَاءَ لَا معقب لحكمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ جَاءَت النُّصُوص كَمَا ذكرنَا متظاهرة لَا تحْتَمل تَأْوِيلا بِأَنَّهُ عزوجل أَرَادَ ضلال من ضل وَشاء كفر من كفر فقد علمنَا ضَرُورَة أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض فَلَمَّا اخبر عزوجل أَنه لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر فبالضرورة علمنَا أَن الَّذِي نفى عز وَجل هُوَ غير الَّذِي اثْبتْ فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فَالَّذِي نفى تَعَالَى هُوَ الرضى بالْكفْر وَالَّذِي أثبت هُوَ الْإِرَادَة لكَونه والشيئة لوُجُوده وهما مَعْنيانِ متغايران بِنَصّ الْقُرْآن وَحكم اللُّغَة فَإِن أَبَت الْمُعْتَزلَة من قبُول كَلَام رَبهم وَكَلَام نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام إِبْرَاهِيم ويوسف وَشُعَيْب وَسَائِر الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِم وَسلم وأبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 أَيْضا من قبُول اللُّغَة وَمَا أوجبته الْبَرَاهِين الضرورية مِمَّا شهِدت بِهِ الْحَواس والعقول من الله تَعَالَى لَو لم يرد كَون مَا هُوَ مَوْجُود كَائِن لمنع مِنْهُ وَقد قَالَ تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيباً كَانُوا هم الخاسرين} فَشهد الله تَعَالَى بتكذيبهم واستعاضته من ذَلِك بأصول المنانية أَن الْحَكِيم لَا يُرِيد كَون الظُّلم وَلَا يخلقه فلبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ وَلَقَد لَجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ إِن لله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات معنى وَمُرَاد لَا نعلمهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تجاهل ظَاهر وراجع لنا عَلَيْهِم سواهُ بِسَوَاء فِي خلق الله تَعَالَى أَفعَال عباده ثمَّ يعذبهم عَلَيْهَا وَلَا فرق فَكيف وَهَذَا كُله لَا معنى لَهُ بل الْآيَات كلهَا حق على ظَاهرهَا لَا يحل صرفهَا عَنهُ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} وَقَالَ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ تَعَالَى {تبياناً لكل شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فَأخْبر تَعَالَى أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَنه لَا يفهمهُ أحد وَأَنه لَيْسَ بَيَانا نَعُوذ بِاللَّه من مُخَالفَة الله عز وَجل وَمُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا فرق بَين مَا تلونا من الْآيَات فِي أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون الْكفْر والضلال وَبَين قَوْله تَعَالَى {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {إِن الله يفعل مَا يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {يجتبي من رسله من يَشَاء} وَقَوله {يرْزق من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {يخْتَص برحمته من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {فعال لما يُرِيد} فَهَذَا الْعُمُوم جَامع لمعاني هَذِه الْآيَات وَنَصّ الْقُرْآن وَإِجْمَاع لأمة على أَن الله عز وَجل حكم بِأَن من حلف فَقَالَ إِن شَاءَ الله أَو إِلَّا أَن يَشَاء الله على أَي شَيْء حلف فَإِنَّهُ إِن فعل مَا حلف عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَله فَلَا حنث عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة تلْزمهُ لِأَن الله تَعَالَى لَو شَاءَ لَا نفذه وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل وَقَالُوا {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لِأَن الله عز وَجل لَا يتناقض كَلَامه بل يصدق بعضه بَعْضًا وَقد أخبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ أَن يُؤمنُوا لآمنوا وَأَنه لَو لم يَشَاء أَن يشركوا مَا أشركوا وَأَنه شَاءَ إضلالهم وَأَنه لَا يُرِيد أَن يطهر قُلُوبهم فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكذب الله عز وَجل قَوْله الَّذِي أخبر بِهِ وَصدقه فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن فِي الْآيَة الَّتِي ذكرُوا بَيَان نقض اعتراضهم بهَا بأوضح برهَان وَهُوَ أَنه لم يقل تَعَالَى أَنهم كذبُوا فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} فَكَانَ يكون لَهُم حِينَئِذٍ فِي الْآيَة مُتَعَلق وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم عِنْدهم لَكِن تخرصاً لَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة معنى غير هَذَا أصلا وَهَذَا حق وَهُوَ قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى لم يُنكر قطّ فِيهَا وَلَا فِي غَيرهَا معنى قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم بل صدقه فِي الْآيَات الْأُخَر وَإِنَّمَا أنكر عز وَجل أَن قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم لَكِن بالتخرص وَقد أكذب الله عز وَجل من قَالَ الْحق الَّذِي لَا حق أَحَق مِنْهُ إِذْ قَالَه غير مُعْتَقد لَهُ قَالَ عز وَجل {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَمَّا قَالُوا أصدق الْكَلَام وَهُوَ الشَّهَادَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ رَسُول غير معتقدين لذَلِك سماهم الله تَعَالَى كاذبين وَهَكَذَا فعل عز وَجل فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 لما قَالُوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُوَ الْحق غير عَالمين بِصِحَّتِهِ أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم أَن يقولوه متخرصين وبرهان هَذَا قَول الله تَعَالَى أثر هَذِه الْآيَة نَفسهَا {أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله فهم بِهِ مستمسكون بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} فَبين تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم من كتاب أَتَاهُم وَأَن الَّذين قَالُوا معتقدين لَهُ إِنَّمَا هُوَ أَنهم اهتدوا بِاتِّبَاع آثَار آبَائِهِم فَهَذَا هُوَ الَّذِي عقدوا عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم لَا قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم فَبَطل أَن يكون لَهُم فِي الْآيَة مُتَعَلق أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن سكتوا هَا هُنَا لم يهنهم التمويه وَقُلْنَا لَهُم صلوا الْقِرَاءَة وَأَتمُّوا معنى الْآيَة فَإِن بعد قَوْله تَعَالَى {فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} مُتَّصِلا بِهِ {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فآخر الْآيَة يبين أَولهَا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَيْضا لم يكذبهم فِيمَا قَالُوهُ من ذَلِك بل حكى عز وَجل أَنهم قَالُوا {لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} وَلم يكذبهم فِي ذَلِك أصلا بل حكى هَذَا القَوْل عَنْهُم كَمَا حكى تَعَالَى أَيْضا قَوْلهم {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} وَلَو أنكر عزو جلّ قَوْلهم ذَلِك لأكذبهم فَإذْ لم يكذبهم فَلَقَد صدقهم فِي ذَلِك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ قل تَعَالَوْا اتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا تلونا جَمِيع الْآيَات على نسقها فِي الْقُرْآن واتصالها خوف أَن يعترضوا بِالْآيَةِ ويسكتوا عِنْد قَوْله يخرصون فكثيراً مَا احتجنا إِلَى بَيَان مثل هَذَا من الِاقْتِصَار على بعض الْآيَة دون بَعْضهَا من تمويه من لَا يَتَّقِي الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة من أعظم حجَّة على الْقَدَرِيَّة لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يُنكر عَلَيْهِم قَوْلهم {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} وَلَو أنكرهُ لكذبهم فِيهِ وَإِنَّمَا أنكر تَعَالَى قَوْلهم ذَلِك بِغَيْر علم وَإِن وافقوا الصدْق وَالْحق كَمَا قدمنَا آنِفا وَقد بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِم ذَلِك بقوله عز وَجل فِي الْآيَة نَفسهَا {إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون} ثمَّ لم يدعنا تَعَالَى فِي لبس من ذَلِك بل وَاتبع ذَلِك نسقاً وَاحِدًا بِأَن قَالَ {فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} نصدقهم عز وَجل فِي قَوْلهم إِنَّه لَو شَاءَ مَا أشركوا وَلَا آباؤهم وَلَا حرمُوا مَا حرمُوا وَأخْبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ لهداهم فاهتدوا وَبَين تَعَالَى أَن لَهُ الْحجَّة عَلَيْهِم فِي ذَلِك وَلَا حجَّة لأحد عَلَيْهِ تَعَالَى وَأنكر عز وَجل أَن اخْرُجُوا ذَلِك فَخرج الْعذر لأَنْفُسِهِمْ أَو فَخرج الِاحْتِجَاج على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا تفعل الْمُعْتَزلَة ثمَّ بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر أَيْضا تكذيبهم رسله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 بقوله تَعَالَى {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم} بِالذَّالِ الْمُشَدّدَة بِلَا خلاف من الْقُرَّاء ودعواهم أَن الله تَعَالَى حرم مَا ادعوا تَحْرِيمه وهم كاذبون بقوله تَعَالَى {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا} فوضح بِكُل مَا ذكرنَا بطلَان قَول الْمُعْتَزلَة الْجُهَّال وَبِأَن صِحَة قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون كل مَا فِي الْعَالم من إِيمَان وشرك وَهدى وضلال وَإِن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون ذَلِك كُله وَكَيف يُمكن أَن يُنكر تَعَالَى قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَقد أخبرنَا عز وَجل بِهَذَا نصا فِي قَوْله فِي السُّورَة نَفسهَا {اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ واعرض عَن الْمُشْركين وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} فلاح يَقِينا صدق مَا قُلْنَا من انه تَعَالَى لم يكذبهم فِي قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء وَهَذَا مثل مَا ذكره الله تَعَالَى من قَوْلهم {أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} فَلم يُورد الله عز وَجل قَوْلهم هَذَا تَكْذِيبًا بل صدقُوا فِي ذَلِك بِلَا شكّ وَلَو شَاءَ الله لأطعم الْفُقَرَاء والمجاويع وَمَا أرى الْمُعْتَزلَة تنكر هَذَا وَإِنَّمَا أورد الله تَعَالَى قَوْلهم هَذَا لاحتجاجهم بِهِ فِي الِامْتِنَاع من الصَّدَقَة وإطعام الجائع وَبِهَذَا نَفسه احتجت الْمُعْتَزلَة على رَبهَا إِذْ قَالَت يكلفنا مَالا يقدرنا عَلَيْهِ ثمَّ يعذبنا بعد ذَلِك على مَا أَرَادَ كَونه منا فسلكوا مَسْلَك الْقَائِلين لم كلفنا الله عز وَجل إطْعَام هَذَا الجائع وَلَو أَرَادَ إطعامه لأطعمه قَالَ أَبُو مُحَمَّد تَبًّا لمن عَارض أَمر ربه وَاحْتج عَلَيْهِ بل لله الْحجَّة الْبَالِغَة وَلَو شَاءَ لأطعم من ألزمنا إطعامه وَلَو شَاءَ لهدى الْكَافرين فآمنوا وَلكنه تَعَالَى لم يرد ذَلِك بل أَرَادَ أَن يعذب من لَا يطعم الْمِسْكِين وَمن أضلّهُ من الْكَافرين لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَالَت الْمُعْتَزلَة معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض} وَسَائِر الْآيَات الَّتِي تلوتهم إِنَّمَا هُوَ لَو شَاءَ عز وَجل لاضطرهم إِلَى الْإِيمَان فآمنوا مضطرين فَكَانُوا لَا يسْتَحقُّونَ الْجَزَاء بِالْجنَّةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَأْوِيل جمعُوا فِيهِ بلايا جمة أَولهَا أَنه قَول بِلَا برهَان وَدَعوى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط وَيُقَال لَهُم مَا صفة الْإِيمَان الضَّرُورِيّ الَّذِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ وَمَا صفة الْإِيمَان غير الضَّرُورِيّ الَّذِي يسْتَحق بِهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على فرق أصلا إِلَّا أَن يَقُولُوا هُوَ مثل مَا قَالَ الله عز وَجل إِذْ يَقُول تَعَالَى {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} وَمثل قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح إِن كُنْتُم صَادِقين قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم وَلَا هم ينظرُونَ} وَمثل حَالَة المحتضر عِنْد المعاينة الَّتِي لَا يقبل فِيهَا إيمَانه وكما قيل لفرعون {الْآن وَقد عصيت قبل} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُم كل هَذِه الْآيَات حق وَقد شاهدت الْمَلَائِكَة تِلْكَ الْآيَات وَتلك الْأَحْوَال وَلم يبطل بذلك قبُول إِيمَانهم فَهَلا على أصولكم صَار إِيمَانهم إِيمَان اضطرار لَا يسْتَحقُّونَ عَلَيْهِ جَزَاء فِي الْجنَّة أم صَار جزاؤهم عَلَيْهِ أفضل من جَزَاء كل مُؤمن دونهم وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن إِيمَان الْمُؤمنِينَ إِذْ صَحَّ عِنْدهم صدق النَّبِي بمشاهدة المعجزات من شقّ الْقَمَر وإطعام النَّفر الْكثير من الطَّعَام الْيَسِير ونبعان المَاء الغزير من بَين الْأَصَابِع وشق الْبَحْر وإحياء الْمَوْتَى وأوضح كل ذَلِك مِمَّا يصير فِيهِ من بلغه كمن شَاهده وَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فرق فِي صِحَة الْيَقِين لكَونه هَل إِيمَانهم إِلَّا ايمان يَقِين قدصح عِنْدهم وَأَنه حق وَلم يتخالجهم فِيهِ شكّ فَإِن علمهمْ بِهِ كعلمهم أَن ثَلَاثَة أَكثر من اثْنَيْنِ وكعلمهم مَا شاهدوه بحواسهم فِي أَنه كُله حق وعلموه ضَرُورَة أم إِيمَانهم ذَلِك لَيْسَ يَقِينا مَقْطُوعًا بِصِحَّة مَا آمنُوا بِهِ عِنْده كقطعهم على صِحَة مَا علموه بحواسهم وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا بل هُوَ الْآن يَقِين قد صَحَّ علمهمْ بِأَنَّهُ حق لَا مدْخل للشَّكّ فِيهِ عِنْدهم كتيقنهم صِحَة مَا علموه بمشاهدة حواسهم قُلْنَا لَهُم نعم هَذَا هُوَ الْإِيمَان الاضطراري بِعَيْنِه والاففرقوا وَهَذَا الَّذِي موهتم بِأَنَّهُ لَا يسْتَحق عَلَيْهِ من الْجَزَاء كَالَّذي يسْتَحق على غَيره وَبِكُل تمويهكم بِحَمْد الله تَعَالَى إِذْ قُلْتُمْ ان معنى قَوْله تَعَالَى {لجمعهم على الْهدى} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض} إِنَّه كَانَ يضطرهم إِلَى الْإِيمَان فَإِن قَالُوا بل لَيْسَ إِيمَان الْمُؤمنِينَ هَكَذَا وَلَا علمهمْ بِصِحَّة التَّوْحِيد والنبوة على يَقِين وضرورة قيل لَهُم قد أوجبتم أَن الْمُؤمنِينَ على شكّ فِي إِيمَانهم وعَلى عدم يَقِين فِي اعْتِقَادهم وَلَيْسَ هَذَا إِيمَانًا بل كفر مُجَرّد مِمَّن كَانَ دينه هَكَذَا فَإِن كَانَ هَذَا صفة إِيمَان الْمُعْتَزلَة فهم أعلم بِأَنْفسِهِم وَأما نَحن فايماننا وَللَّه الْحَمد إِيمَان ضَرُورِيّ لَا مدْخل للشَّكّ فِيهِ كعلمنا أَن ثَلَاثَة أكبر من اثْنَيْنِ وَأَن كل بِنَاء فمبني وكل من أَتَى بمعجزة فمحق فِي نبوته وَلَا نبالي إِن كَانَ ابْتِدَاء علمنَا اسْتِدْلَالا أم مدْركا بالحواس إِذْ كَانَت نتيجة كل ذَلِك سَوَاء فِي تَيَقّن صِحَة الشَّيْء المعتقدو بِاللَّه تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نسألهم عَن الَّذين يرَوْنَ بعض آيَات رَبنَا يَوْم لَا ينفع نفسا إيمَانهَا أَكَانَ الله تَعَالَى قادا على ان ينفهم بذلك الْإِيمَان ويجزيهم عَلَيْهِ جزاءه لسَائِر الْمُؤمنِينَ أم هُوَ تَعَالَى غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق وَالتَّسْلِيم لله عز وَجل وَإنَّهُ تَعَالَى منع من شَاءَ وَأعْطى من شَاءَ وَأَنه تَعَالَى أبطل إِيمَان بعض من آمن عِنْد رُؤْيَة آيَة من آيَاته وَلم يبطل إِيمَان من آمن عِنْد رُؤْيَة آيَة أُخْرَى وَكلهَا سَوَاء فِي بَاب الإعجاز وَهَذَا هُوَ الْمُحَابَاة والمحضة والجور الْبَين عِنْد الْمُعْتَزلَة فَإِن عجزوا رَبهم تَعَالَى عَن ذَلِك أحالوا وَكَفرُوا وجعلوه تَعَالَى مُضْطَرّا مطبوعاً مَحْكُومًا عَلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد قَالَ عز وَجل {فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين} فَهَؤُلَاءِ قوم يُونُس لما رأواالعذاب آمنُوا فَقبل الله عز وَجل مِنْهُم إِيمَانهم وآمن فِرْعَوْن وَسَائِر الْأُمَم المعذبة لما رَأَوْا الْعَذَاب فَلم يقبل الله عز وَجل مِنْهُم فَفعل الله تَعَالَى مَا شَاءَ لَا معقب لحكمه فَظهر فَسَاد قَوْلهم فِي أَن الْإِيمَان الاضطراري لَا يسْتَحق عَلَيْهِ جَزَاء جملَة وَصَحَّ أَن الله تَعَالَى يقبل إِيمَان من شَاءَ وَلَا يقبل إِيمَان من شَاءَ وَلَا مزِيد ثمَّ يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هبكم لَو صَحَّ لكم هَذَا الْبَاطِل الغث الَّذِي هديتم بِهِ من أَن معنى قَوْله تَعَالَى {لجمعهم على الْهدى} إِنَّمَا هُوَ لاضطرهم إِلَى الْإِيمَان فأخبرونا لَو كَانَ ذَلِك فَأَي ضَرَر كَانَ يكون فِي ذَلِك على النَّاس وَالْجِنّ بل كَانَ يكون فِي ذَلِك الْخَيْر كُله وماذا ضرّ الْأَطْفَال إِذْ لم يكن لَهُم إِيمَان اخْتِيَاري كَمَا تَزْعُمُونَ وَقد حصلوا على أفضل الْمَوَاهِب من السَّلامَة من النَّار بِالْجُمْلَةِ وَمن هول المطلع وصعوبة الْحساب وفظاعة تِلْكَ المواقف كلهَا وَدخل الْجنَّة جَمِيعهم بِسَلام آمِنين منعمين لم يرَوا فَزعًا رَآهُ غَيرهم وَأَيْضًا فَإِن دَعوَاهُم هَذِه الَّتِي كذبُوا فِيهَا على الله عز وَجل إِذْ وصفوا عَن مُرَاد الله تَعَالَى مَا لم يقلهُ تَعَالَى فقد خالفوا فِيهَا الْقُرْآن واللغة لِأَن اسْم الْهدى وَالْإِيمَان لَا يقعان الْبَتَّةَ على معنى غير الْمَعْنى الْمَعْهُود فِي الْقُرْآن واللغة وهما طاعات الله عز وَجل وَالْعَمَل بهَا وَالْقَوْل بهَا والتصديق بجميعها الْمُوجب كل ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن رَضِي الله عز وَجل وجنته وَلَا يُسمى الجماد وَالْحَيَوَان غيرالناطق وَلَا الْمَجْنُون وَلَا الطِّفْل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 مُؤمنا وَلَا مهتدياً الاعلى معنى جرى أَحْكَام الْإِيمَان على الْمَجْنُون والطفل خَاصَّة وبرهان مَا قُلْنَا قَول الله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} فصح أَن الْهدى الَّذِي لَو أَرَادَ الله تَعَالَى جمع النَّاس عَلَيْهِ هُوَ المنقذ من النَّار وَالَّذِي لَا يمْلَأ جَهَنَّم من أَهله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} فصح أَن الْإِيمَان جملَة شَيْء وَاحِد وَهُوَ المنقذ من النَّار الْمُوجب للجنة وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {من يهد الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً} وَيَقُول {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} وَيَقُول تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} فَهَذِهِ الْآيَات مَبْنِيَّة على أَن الْهدى الْمَذْكُور هُوَ الِاخْتِيَارِيّ عِنْد الْمُعْتَزلَة لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُول لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى لم يرد قطّ بقوله لجمعهم على الْهدى ولآمن من فِي الأَرْض إِيمَانًا فِيهِ إِكْرَاه فَبَطل هذرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالُوا لنا فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى كَون الْكفْر والضلال فأريدوا مَا أَرَادَ الله تَعَالَى من ذَلِك قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَيْسَ لنا أَن نَفْعل مَا لم نؤمر بِهِ أَولا يحل لنا أَن نُرِيد مَا لم يَأْمُرنَا الله تَعَالَى بإرادته وَإِنَّمَا علينا مَا أمرنَا بِهِ فنكره مَا أمرنَا بكراهيته ونحب مَا أمرنَا بمحبته ونريد مَا أمرنَا بإرادته ثمَّ نسألهم هَل أَرَادَ الله تَعَالَى إمراض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أمرضه وَمَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أَمَاتَهُ وَمَوْت إِبْرَاهِيم ابْنه إِذْ أَمَاتَهُ أَو لم يرد الله شَيْئا من ذَلِك فَلَا بُد من أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَيلْزم أَن يُرِيدُوا موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومرضه وَمَوْت ابْنه إِبْرَاهِيم لِأَن الله تَعَالَى أَرَادَ كل ذَلِك فَإِن أجابوا إِلَى ذَلِك ألحدوا بِلَا خلاف وعصوا الله وَرَسُوله وَإِن أَبَوا من ذَلِك بَطل مَا أَرَادوا إلزامنا إِيَّاه إِلَّا أَنه لَازم الْهم على أصولهم الْفَاسِدَة لَا لنا لأَنهم صححوا هَذِه الْمَسْأَلَة وَنحن لم نصححها وَمن صحّح شَيْئا لزمَه ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لسنا ننكر فِي حَال مَا يُبَاح لنا فِيهِ إِرَادَة الْكفْر من بعض النَّاس فقد أثنى الله عز وَجل على ابْن آدم فِي قَوْله لِأَخِيهِ {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} فَهَذَا ابْن آدم الْفَاضِل قد أَرَادَ أَن يكون أَخُوهُ من أَصْحَاب النَّار وَأَن يبوء بإثمه مَعَ إِثْم نَفسه وَقد صوب الله عز وَجل قَول مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم قَالَ قد أجيبت دعوتكما} فَهَذَا مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام قد أَرَادَا وأحبا أَن لَا يُؤمن فِرْعَوْن وَأَن يَمُوت كَافِرًا إِلَى النَّار وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه دَعَا على عتبَة بن أبي وَقاص أَن يَمُوت كَافِرًا إِلَى النَّار فَكَانَ كَذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وأصدق الله عز وَجل أَنا عَن نَفسِي الَّتِي هُوَ أعلم بِمَا فِيهَا مني أَن الله تَعَالَى يعلم أَنِّي لأسر بِمَوْت عقبَة بن أبي معيط كَافِرًا وَكَذَلِكَ أَمر أبي لَهب لأذاهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولتتم كلمة الْعَذَاب عَلَيْهِمَا وَأَن الْمَرْء ليسر بِمَوْت من استبلغ فِي أَذَاهُ ظلما بِأَن يَمُوت على أقبح طَريقَة وَقد روينَا هَذَا عَن بعض الصَّالِحين فِي بعض الظلمَة وَلَا حرج على من ائتسى بِمُحَمد وبموسى وبأفضل ابْني آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وليت شعري أَي فرق بَين لعن الْكَافِر والظالم وَالدُّعَاء عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فِي النَّار وَبَين الدُّعَاء عَلَيْهِ بِأَن يَمُوت غير متوب عَلَيْهِ والمسرة بكلا الْأَمريْنِ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَالَ عز وَجل {وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى سلط الْكفَّار على من سلطهم من الْأَنْبِيَاء وعَلى أهل بِئْر مَعُونَة وَيَوْم أحد ونصرهم أملاه لَهُم وابتلاه للْمُؤْمِنين وَإِلَّا فَيُقَال لمن أنكر هَذَا أتراه تَعَالَى كَانَ عَاجِزا عَن مَنعهم فَإِن قَالُوا نعم كفرُوا وناقضوا لِأَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه كف أَيدي الْكفَّار عَن الْمُؤمنِينَ إذشاء وسلط أَيْديهم على الْمُؤمنِينَ وَلم يكفها إذشاء (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ بعض شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن إِسْلَام الله تَعَالَى من أسلم من الْأَنْبِيَاء إِلَى أعدائه فَقَتَلُوهُمْ وجرحوهم وَإِسْلَام من أسلم من الصّبيان إِلَى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الْفَاحِشَة إِذا كَانَ ليعوضهم أفضل الثَّوَاب فَلَيْسَ خذلاناً فَقُلْنَا دَعونَا من لَفْظَة الخذلان فلسنا نجيزها لِأَن الله تَعَالَى لم يذكرهَا فِي هَذَا الْبَاب لَكنا نقُول لكم إِذا كَانَ قتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أعظم مَا يكون من الْكفْر وَالظُّلم وَكَانَ الله عز وَجل بقولكم قد أسلم أنبياءه صلوَات الله عَلَيْهِم إِلَى أعدائهم ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أَن الله عز وَجل أَرَادَ إسْلَامهمْ إِلَى أعدائهم وَإِذا أَرَادَ الله عز وَجل ذَلِك بإقراركم فقد أَرَادَ بإقراركم كَون أعظم مَا يكون من الْكفْر وَشاء وُقُوع أعظم الضلال وَرَضي ذَلِك لأنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام على الْوَجْه الَّذِي تَقولُونَ كاينا مَا كَانَ وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَأَيْضًا فَنَقُول لهَذَا الْقَائِل إِذا كَانَ إِسْلَام الْأَنْبِيَاء إِلَى أَعدَاء الله عز وَجل يَقْتُلُونَهُمْ لَيْسَ ظلما وعبثا على توجيهكم المناقض لَا صولكم فِي أَنه أدّى إِلَى أجزل الْجَزَاء فَلَيْسَ خذلاناً وَكَذَلِكَ إِسْلَام الْمُسلم إِلَى عدوه يحضه ويرتكب فِيهِ الْفَاحِشَة فَهُوَ على أصولكم خير وَعدل فيلزمكم أَن تَتَمَنَّوْا ذَلِك وَأَن تسروا بِمَا نيل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي ذَلِك وَأَن تدعوا فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا خلاف قَوْلكُم وَخلاف إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَلَا يلْزمنَا نَحن ذَلِك لأننا لَا نسر إِلَّا بِمَا أمرنَا الله تَعَالَى بالسرور بِهِ وَلَا نتمنى إِلَّا مَا قد أَبَاحَ لنا تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فِيهِ وكل فعله عز وَجل وَأَن كَانَ عدلا مِنْهُ وَخيرا فقد افْترض تَعَالَى علينا أَن ننكر من ذَلِك مَا سَمَّاهُ من غير ظلم وَأَن نبرأ مِنْهُ وَلَا نتمناه لمُسلم فَإِنَّمَا نتبع مَا جَاءَت بِهِ النُّصُوص فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ قَائِل من الْمُعْتَزلَة إِذا حملتم قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمى} فَمَا يدريكم لَعَلَّه عَلَيْكُم عمى قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه لَا يكون عمى إِلَّا على الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَنحن مُؤمنُونَ وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فقد أمنا ذَلِك وَقد ذمّ الله تَعَالَى قوما حملُوا الْقُرْآن على غير ظَاهره فَقَالَ تَعَالَى {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} فَهَذِهِ صفتكم على الْحَقِيقَة الْمَوْجُودَة فِيكُم حسا فَمن حمل الْقُرْآن على مَا خُوطِبَ بِهِ من اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَاتبع بَيَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالقرآن لَهُ هدى وشفاء وَمن بدل كَلمه عَن موَاضعه وَادّعى فِيهِ دعاوى بِرَأْيهِ وكهانات بَطْنه وأسرار وَأعْرض عَن بَيَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبين عَن الله تَعَالَى بأَمْره وَمَال إِلَى قَول المنانية فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْقُرْآن عمى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن نَوَادِر الْمُعْتَزلَة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أَنهم قَالُوا أَن الشَّهَادَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 الَّتِي غبط الله تَعَالَى بهَا الشُّهَدَاء وَأوجب لَهُم بهَا أفضل الْجَزَاء وتمناها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وفضلاء الْمُسلمين لَيْسَ هِيَ قتل الْكَافِر لِلْمُؤمنِ وَلَا قتل الظَّالِم للْمُسلمِ البريء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجنون الْمُعْتَزلَة وجهلهم وإهذارهم ووساوسهم لَا قِيَاس عَلَيْهَا وَحقّ لمن اسْتغنى عَن الله عز وَجل وَقَالَ أَنه يقدر على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ ربه تَعَالَى وَقَالَ أَن عقله كعقول الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سَوَاء بِسَوَاء إِن يَخْذُلهُ الله عز وَجل مثل هَذَا الخذلان نَعُوذ بِاللَّه من خذلانه ونسئله الْعِصْمَة فَلَا عَاصِم سواهُ أما سمعُوا قَول الله عز وَجل {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء} ثمَّ إِنَّهُم فسروا الشَّهَادَة بعقولهم فَقَالُوا إِنَّمَا الشَّهَادَة الصَّبْر على الْجراح المؤدية إِلَى الْقَتْل والعزم على التَّقَدُّم إِلَى الْحَرْب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْكَلَام من الْجُنُون ثَلَاثَة أضْرب أَحدهمَا أَنه كَلَام مُبْتَدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الْخَيْر جملَة وَالثَّانِي أَنه لَو وضح مَا ذكرُوا لكَانَتْ الشَّهَادَة فِي الْحَيَاة لَا بِالْمَوْتِ لِأَن الصَّبْر على الْجراح والعزم على التَّقَدُّم لَا يكونَانِ إِلَّا فِي الْحَيَاة وَالشَّهَادَة فِي سَبِيل الله لَا تكون بِنَصّ الْقُرْآن وصحيح الْأَخْبَار وَإِجْمَاع الْأمة إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالثَّالِث أَن الَّذِي مِنْهُ هربوا فِيهِ وَقَعُوا بِعَيْنِه وَهُوَ أَن الشَّهَادَة الَّتِي تمنى الْمُسلمُونَ بهَا أَن كَانَت الْعَزْم على التَّقَدُّم إِلَى الْحَرْب وَالصَّبْر على الْجراح المودية إِلَى الْقَتْل فقد حصل تمني قتل الْكفَّار للْمُسلمين وتمني أَن يجرحوا الْمُسلمين جراحاً تُؤدِّي إِلَى الْقَتْل وتمني ثبات الْكفَّار على الْكفْر حَتَّى يجرحوا أهل الْإِسْلَام جراحاً قاتلة وَحرب الْكفَّار للْمُسلمين وثباتهم لَهُم وجراحهم إيَّاهُم معاص وَكفر بِلَا شكّ فقد حصلوا على تمني الْمعاصِي وَهُوَ الَّذِي بِهِ شنعوا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل كل مَا شنعت بِهِ الْمُعْتَزلَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْكَلَام فِي اللطف والأصلح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وضل جُمْهُور الْمُعْتَزلَة فِي فصل من الْقدر ضلالا بَعيدا فَقَالُوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عَمْرو وحفصاً الْفَرد وَبشر بن الْمُعْتَمِر ويسيراً مِمَّن اتبعهم أَنه لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى شَيْء أصلح مِمَّا أعطَاهُ جَمِيع النَّاس كافرهم ومؤمنهم وَلَا عِنْده هدي أهْدى مِمَّا قد هدى بِهِ الْكَافِر وَالْمُؤمن هَذَا مستويا وَأَنه لَيْسَ يقدر على شَيْء هُوَ أصلح مِمَّا فعل بالكفار وَالْمُؤمنِينَ ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ جمهورهم أَنه تَعَالَى قَادر على أَمْثَال مَا فعل من الصّلاح بِلَا نِهَايَة وَقَالَ الْأَقَل مِنْهُم وهم عباد وَمن وَافقه هَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتْرك الله تَعَالَى شَيْئا يقدر عَلَيْهِ من الصّلاح من أجل فعله لصلاح مَا وحجتهم فِي هَذَا الْكفْر الَّذِي أَتَوا بِهِ أَنه لَو كَانَ عِنْده أصلح أَو أفضل مِمَّا فعل بِالنَّاسِ ومنعهم إِيَّاه لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما لَهُم وَلَو أعْطى شَيْئا من فَضله بعض النَّاس دون بعض لَكَانَ محابياً ظَالِما والمحاباة جور وَلَو كَانَ عِنْده مَا يُؤمن بِهِ الْكفَّار إِذْ أَعْطَاهُم إِيَّاه ثمَّ مَنعهم إِيَّاه لَكَانَ ظَالِما لَهُم غَايَة الظُّلم قَالُوا وَقد علمنَا أَن إنْسَانا لَو ملك أَمْوَالًا عَظِيمَة تفضل عَنهُ وَلَا يحْتَاج إِلَيْهَا فقصده جَار فَقير لَهُ تحل لَهُ الصَّدَقَة فَسَأَلَهُ درهما يحي بِهِ نَفسه وَهُوَ يعلم فقره إِلَيْهِ وَيعلم أَنه يتدارك بِهِ رمقه فَمَنعه لَا لِمَعْنى فَإِنَّهُ بخيل قَالُوا فَلَو علم أَنه إِذْ أعطَاهُ الدِّرْهَم سهلت عَلَيْهِ أَفعَال كلفه إِيَّاهَا فَمَنعه من ذَلِك لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما فَلَو علم أَنه لَا يصل إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 مَا كلفه إِلَّا بذلك الدِّرْهَم فَمَنعه لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما سَفِيها فَهَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ لَا حجَّة لَهُم غير هَذِه الْبَتَّةَ وَذهب ضرار بن عَمْرو وَحَفْص الْفَرد وَبشر بن الْمُعْتَمِر وَمن وافقهم وهم قَلِيل مِنْهُم إِلَى أَن عِنْد الله عز وَجل ألطافاً كَثِيرَة لَا نِهَايَة لَهَا لَو أَعْطَاهَا الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا اختياريا يسْتَحقُّونَ بِهِ الثَّوَاب بِالْجنَّةِ وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو هَذَا وَلم يحققه أَبُو عَليّ الجبائي وَابْنه أَبُو هَاشم وَكَانَ بشر بن الْمُعْتَمِر يكفر من قَالَ بالأصلح والمعتزلة الْيَوْم تَدعِي أَن بشرا تَابَ عَن القَوْل باللطف وَرجع إِلَى القَوْل بالأصلح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحجَّة هَؤُلَاءِ أَنه تَعَالَى قد فعل بهم مَا يُؤمنُونَ عِنْده وَلَو شاؤا فَلَيْسَ لَهُم عَلَيْهِ غير ذَلِك وَلَا يلْزمه أَكثر من ذَلِك فعارضهم أَصْحَاب الْأَصْلَح بِأَن قَالُوا أَن الِاخْتِيَار هُوَ مَا يُمكن فعله وَيُمكن تَركه فَلَو كَانَ الْكفَّار عِنْد إتْيَان الله تَعَالَى بِتِلْكَ الألطاف يختارون الْإِيمَان لأمكن أَن يفعلوه وَأَن لَا يفعلوه أَيْضا فَعَادَت الْحَال إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنهم كَانُوا يُؤمنُونَ وَلَا بُد فَهَذَا إِ ضطرار من الله تَعَالَى لَهُم إِلَى الْإِيمَان لَا اخْتِيَار قَالُوا وَنحن لَا ننكر هَذَا بل الله تَعَالَى قَادر على أَن يضطرهم إِلَى الْإِيمَان كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل} قَالُوا فَالَّذِي فعل تَعَالَى بهم أفضل وَأصْلح قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا لَازم لمن لم يقل أَن أَفعَال الْعباد مخلوقه لله تَعَالَى لُزُوما لَا ينفكون عَنهُ وَأما نَحن فَلَا يلْزمنَا وَإِنَّمَا سألناهم هَل الله تَعَالَى قَادر على أَن يَأْتِي الْكفَّار بألطاف يكون مِنْهُم الْإِيمَان عِنْدهَا بِاخْتِيَار وَلَا بُد ويثيبهم على ذَلِك أتم ثَوَاب يثيبه عبدا من عباده أم لَا فَقَالُوا لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَأَن أَصْحَاب الْأَصْلَح غيب عَن الْعَالم أَو كَأَنَّهُمْ إِذا حَضَرُوا فِيهِ سلبت عُقُولهمْ وطمست حواسهم وَصدق الله فقد نبه على مثل هَذَا إِذْ يَقُول تَعَالَى {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} أَتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَا شاهدوا أَن الله عز وَجل منع الْأَمْوَال قوما وَأَعْطَاهَا آخَرين ونبأ قوما وأرسلهم إِلَى عباده وَخلق قوما آخَرين فِي أقاصي أَرض الزنج يعْبدُونَ الْأَوْثَان وأمات قوما من أوليائه وَمن أعدائه عطشاً وَعِنْده مجادح السَّمَوَات وَسَقَى آخَرين المَاء العذب أما هَذِه مُحَابَاة ظَاهِرَة فَإِن قَالُوا إِن كل مَا فعل من ذَلِك فَهُوَ أصلح بِمن فعله بِهِ سألناهم عَن إماتته تَعَالَى الْكفَّار وهم يصيرون إِلَى النَّار وإعطائه تَعَالَى قوما مَالا ورياسة فبطروا وأهلكوا وَكَانُوا مَعَ الْقلَّة والخمول صالحين وأفقر أَقْوَامًا فسرقوا وَقتلُوا كَانُوا فِي حَال الْغنى صالحين وَأَصَح أَقْوَامًا وجمل صورهم فَكَانَ ذَلِك سَببا لكَون الْمعاصِي مِنْهُم وتركوها إِذْ أسنوا وأمرض أَقْوَامًا فتركوا الصَّلَاة عمدا وضجروا وثربوا وَتَكَلَّمُوا بِمَا هُوَ الْكفْر أَو قريب مِنْهُ وَكَانُوا فِي صحتهم شاكرين لله يصلونَ وَيَصُومُونَ أَهَذا الَّذِي فعل الله بهم كَانَ أصلح لَهُم فَإِن قَالُوا نعم كابروا المحسوس وَإِن قَالُوا لَو عاشوا لزادوا قُلْنَا لَهُم فَإِنَّمَا كَانَ أصلح لَهُم أَن يخترمنهم الله عز وَجل قبل الْبلُوغ أَو أَن يُطِيل أعمارهم فِي الْكفْر ويملكهم الجيوش فيهلكوا بهَا أَرض الْإِسْلَام وَيُقَوِّي أَجْسَادهم وأذهانهم فيضل بهم جمَاعَة كَمَا فعل لسَعِيد الفيومي الْيَهُودِيّ وأباريطا اليعقوبي النَّصْرَانِي والمحققين بالْكلَام من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمنانية والدهرية أما كَانَ أصلح لَهُم وَلمن ضل مِنْهُم أَن يميتهم صغَارًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فانقطعوا فلجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ لَعَلَّه قد سبق فِي علم الله تَعَالَى أَنه لَو أماتهم صغَارًا لكفر خلق من الْمُؤمنِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْجَواب من السخافة وُجُوه جمة أَولهَا أَنه دَعْوَى بِالدَّلِيلِ وَالثَّانِي أَنهم لَا ينفكون بِهِ مِمَّا ألزمناهم ونقول لَهُم كَانَ الله عز وَجل قَادِرًا على أَن يميتهم وَلَا يُوجب مَوْتهمْ كفر أحد فَإِن قَالُوا لأعجزوا رَبهم تَعَالَى وَإِن قَالُوا بل كَانَ قَادِرًا على ذَلِك ألزموه الْجور وَالظُّلم على أصولهم وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ وَالثَّالِث أَنه مَا يسمع فِي الْعَالم أسخف من قَول من قَالَ أَن إنْسَانا مُؤمنا يكفر من أجل صَغِير مَاتَ فَهَذَا أَمر مَا شوهد قطّ فِي الْعَالم وَلَا توهم وَلَا يدْخل فِي الْإِمْكَان وَلَا فِي الْعقل وَكم طِفْل يَمُوت كل يَوْم مذ خلق الله تَعَالَى الدُّنْيَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَهَل كفر أحد قطّ من أجل موت ذَلِك الطِّفْل وَإِنَّمَا عهدنا النَّاس يكفرون عِنْدَمَا يَقع لَهُم من الْغَضَب الَّذِي يخلقه الله عز وَجل فِي طبائعهم وبالعصبية الَّتِي آتَاهُم الله عز وَجل أَسبَابهَا وبالملك الَّذِي أَتَاهُم الله إِيَّاه إِذا عارضهم فِيهِ عَارض وَالرَّابِع أَنه لَيْسَ فِي الْجور وَلَا فِي الْعَبَث وَلَا فِي الظُّلم وَلَا فِي الْمُحَابَاة أعظم من أَن يبقي طفْلا حَتَّى يكفر فَيسْتَحق الخلود فِي النَّار وَلَا يميته طفْلا فينجوا من النَّار من أجل صَلَاح قوم لَوْلَا كفر هَذَا المنحوس لكفر أُولَئِكَ وَمَا فِي الظُّلم والمحاباة أقبح من هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا كمن وقف إنْسَانا للْقَتْل فَأخذ هُوَ آخر من عرض الطَّرِيق فَقتله مَكَانَهُ كَأَنَّهُ يظْهر فَسَاد هَذَا القَوْل السخيف الملعون قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم قد يخرج من صلبه مُؤمن قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد يَمُوت الْكَافِر عَن غير عقب وَقد يلد الْكَافِر كفَّارًا أضرّ على الْإِسْلَام مِنْهُ وَمَعَ هَذَا فَكل مَا ذكرنَا يلْزم أَيْضا فِي هَذَا الْجَواب السخيف وَأَيْضًا فقد يخرج من صلب الْمُؤمن كَافِر طاغ وظالم بَاغ يفْسد الْحَرْث والنسل ويثير الظُّلم وَيُمِيت الْحق ويؤسس القتالات والمنكرات حَتَّى يضل بهَا خلق كثير حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا حق وَسنة فَأَي وَجه لخلق هَؤُلَاءِ على أصُول الْمُعْتَزلَة الضلال نعم وَأي معنى وَأي صَلَاح فِي خلق إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وإعطائهم الْقُوَّة على إضلال النَّاس من الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وبالضرورة نعلم أَن من نصب المصايد للنَّاس فِي الطرقات وَطرح الشوك فِي ممشاهم فَإِنَّهُ عائب سَفِيه فِيمَا بَيْننَا وَالله تَعَالَى خلق كل مَا ذكرنَا بإقرارهم وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم ثمَّ وَجَدْنَاهُ تَعَالَى قد شهد للَّذين بَايعُوا تَحت الشَّجَرَة بِأَنَّهُ علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم ثمَّ أمات مِنْهُم من ولي مِنْهُم أُمُور الْمُسلمين سَرِيعا ووهن قوي بَعضهم وَملك عَلَيْهِم زياداً وَالْحجاج وبغاة الْخَوَارِج فَأَي مصلحَة فِي هَذَا للحجاج ولقطري أَو لسَائِر الْمُسلمين لَو عقلت الْمُعْتَزلَة وَلَكِن الْحق هُوَ قَوْلنَا وَهُوَ أَن كل ذَلِك عدل من الله وَحقّ وَحِكْمَة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج الْمُسَلط ولقطري ونظايرهما أَرَادَ الله تَعَالَى بذلك هلاكهم فِي الْآخِرَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ نسألهم مَاذَا تَقولُونَ إِذا أَمر الله عز وَجل بجلد الْحرَّة فِي الزناماية وبجلد الْأمة نصف ذَلِك أَلَيْسَ هَذَا مُحَابَاة للْأمة وَإِذ خول الله عز وَجل قوما مَا أَمْوَالًا جمة فعاثوا فِيهَا وَحرم آخَرين أما هَذَا عين الْمُحَابَاة والجور على أصلهم الْفَاسِد فِيمَن منع جَاره الْفَقِير إِلَّا أَن يطردوا قَوْلهم فيصيروا إِلَى قَول من ذكر أَن الْوَاجِب يواسي النَّاس فِي الْأَمْوَال وَالنِّسَاء على السوَاء وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن الْقَوْم يدعونَ نفي التَّشْبِيه ويكفرن من شبه الله تَعَالَى بخلقه ثمَّ لَا نعلم أحد أَشد تَشْبِيها لله تَعَالَى بخلقه مِنْهُ قيلزمونه الحكم ويحرون عَلَيْهِ الْأَمر وَالنَّهْي ويشبهونه بخلقه تَعَالَى فِيمَا يحسن مِنْهُ ويقبح ثمَّ نقضوا أصولهم إِذْ من قَوْلهم أَن مَا صلح بَيْننَا بِوَجْه من الْوُجُوه فلسنا نعبده عَن الْبَارِي تَعَالَى وَنحن نجد فِيمَا بَيْننَا من يحابي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 أحد عبيده على الآخر فَيجْعَل أحدهم مشرفاً على مَاله وَعِيَاله وحاضناً لوَلَده ويرتضيه لذَلِك من صغره بِأَن يُعلمهُ الْكتاب والحساب وَيجْعَل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذَلِك من صغره وَكَذَلِكَ الْإِمَاء فَيجْعَل إِحْدَاهُنَّ مَحل إزَاره ومطلباً لوَلَده وَيجْعَل الثَّانِيَة خَادِمًا لهَذِهِ فِي الطَّبْخ وَالْغسْل وَهَذَا عدل بِإِجْمَاع الْمُسلمين كلهم فَلم أَنْكَرُوا أَن يحابى الْبَارِي عز وَجل من شَاءَ من عباده بِمَا أحب من التَّفْضِيل ووجدوا فِي الشَّاهِد من يُعْطي المحاويج من مَاله فيعطي أحدهم مَا يُغْنِيه ويخرجه من الْفقر وَذَلِكَ نَحْو ألف دِينَار ثمَّ يُعْطي آخر مثله ألف دِينَار ويزيده ألف دِينَار فَإِنَّهُ وَإِن حابى فمحسن غير ملوم فَلم منعُوا رَبهم من ذَلِك وجوره إِذا فعله وَهُوَ تَعَالَى بِلَا شكّ أتم ملكا لكل مَا فِي الْعَالم من أَحَدنَا لما خوله عز وَجل من الْأَمْلَاك وَنَقَضُوا أصلهم فِي أَن مَا حسن فِي الشَّاهِد بِوَجْه من الْوُجُوه لم يمنعوا وُقُوعه من الْبَارِي عز وَجل ووجدوا فِي الشَّاهِد من يدّخر أَمْوَالًا عَظِيمَة فَيُؤَدِّي جَمِيع الْحُقُوق اللَّازِمَة لَهُ حَتَّى لَا يبْقى بِحَضْرَتِهِ مُحْتَاج ثمَّ يمْنَع سَائِر ذَلِك فَلَا يُسمى بَخِيلًا فلأي شَيْء منعُوا رَبهم عز وَجل من مثل ذَلِك وجوروه وبخلوه إِذا لم يُعْط أفضل مَا عِنْده وَهَذَا كُله بَين لَا إِشْكَال فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم عَن قَول لَهُم عَجِيب وَهُوَ أَنهم أَجَازُوا أَن يخلق الله عز وَجل أَضْعَف الْأَشْيَاء ثمَّ لَا يكون قَادر على أَضْعَف مِنْهُ فَهَكَذَا هُوَ قَادر فَاعل أصلح الْأَشْيَاء ثمَّ لَا يكون قَادر على أصلح مِنْهُ وعَلى أَصْغَر الْأَشْيَاء وَهُوَ الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَلَا يقدر على أَصْغَر مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا إِيجَاب مِنْهُم لتناهي قدرَة الله عز وَجل وتعجيز لَهُ تَعَالَى وَإِيجَاب لحدوثه وَإِبْطَال إلهيته إِذْ التناهي فِي الْقُوَّة صفة الْمُحدث الْمَخْلُوق لَا صفة الْخَالِق الَّذِي لم يزل وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَإِجْمَاع الْمُسلمين وتشبيه الله تَعَالَى بخله فِي تناهي قدرتهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلكنه لَازم لكل من قَالَ بالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وبالقياس لُزُوما صَحِيحا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ ونعوذ بِاللَّه من هَذِه المقالات الْمهْلكَة بل نقُول أَن الله تَعَالَى كل مَا خلق شَيْئا صَغِيرا أَو ضَعِيفا أَو كَبِيرا أَو قَوِيا أَو مصلحَة فَإِنَّهُ أبدا بِلَا نِهَايَة قَادر على خلق أَصْغَر مِنْهُ وأضعف وَأقوى وَأصْلح قَالَ أَبُو مجمد ونسألهم أيقدر الله تَعَالَى على مَا لَو فعله لكفر النَّاس كلهم فَإِن قَالُوا لَا لَحِقُوا بعلي الأسواري وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا وَلَو قَالُوهُ لأكذبهم الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة} وَإِن قَالُوا نعم هُوَ قَادر على ذَلِك قُلْنَا لَهُم فقد قطعْتُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى يقدر على الشَّرّ وَلَا يقدر على الْخَيْر هَذِه مُصِيبَة على أصولهم ولزمهم أَيْضا فَسَاد أصلهم فِي قَوْلهم أَن من يقدر على شَيْء قدر على ضِدّه لأَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى يقدر على مَا يكفر النَّاس كلهم عِنْده وَلَا يقدر على مَا يُؤمن جَمِيعهم عِنْده قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسأل من قَالَ مِنْهُم أَنه تَعَالَى يقدر على مثل مَا فعل من الصّلاح بِلَا نِهَايَة لَا على أَكثر من ذَلِك فَنَقُول لَهُم أَن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الْبَارِي عز وَجل لِأَن بضرورة الْحس نَدْرِي أَنه إِذا استضافت الْمصَالح بَعْضهَا إِلَى بعض كَانَت أصلح من انْفِرَاد كل مصلحَة عَن الْأُخْرَى فَإِذا هُوَ قَادر عنْدكُمْ على ذَلِك وَلم يَفْعَله بعباده فقد لزمَه مَا ألزمتموه لَو كَانَ قَادِرًا على أصلح مِمَّا فعل وَلم يَفْعَله فَقَالُوا هَذَا كالدواء وَالطَّعَام وَالشرَاب لكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ذَلِك مِقْدَار يصلح بِهِ من أعْطِيه فَإِذا استضافت إِلَيْهِ أَمْثَاله كَانَ ضرورا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَلم يقل قطّ ذُو عقل وَمَعْرِفَة بحقائق الْأُمُور إِن غفار كَذَا مصلحَة جملَة وعَلى كل حَال وَلَا أَن الْأكل مصلحَة أبدا وعَلى الْجُمْلَة وَلَا أَن الشَّرَاب مصلحَة بِكُل وَجه أبدا وَإِنَّمَا الْحق أَن مِقْدَارًا من الدَّوَاء مصلحَة لعِلَّة كَذَا فَقَط فَإِن زَاد أَو نقص أَو تعدى بِهِ تِلْكَ الْعلَّة كَانَ ضَرَرا وَكَذَلِكَ الطَّعَام وَالشرَاب هما مصلحَة فِي حَال مَا وبقدر مَا فَمَا راد أَو تعدى بِهِ وقته كَانَ ضَرَرا وَمَا نقص عَن الْكِفَايَة كَانَ ضَرَرا لَيْسَ إِطْلَاق اسْم الصّلاح فِي شَيْء من ذَلِك أولى من إِطْلَاق اسْم الضَّرَر لِأَن كلا الْأَمريْنِ مَوْجُود فِي ذَلِك كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ الصّلاح من الله عز وَجل للْعَبد وَالْهدى لَهُ وَالْخَيْر من قبله عز وَجل كَذَلِك بل على الْإِطْلَاق وَالْجُمْلَة وعَلى كل حَال بل كلما زَاد الصّلاح وكثروا زَاد الْهدى وَكبر وَزَاد الْخَيْر وَكبر فَهُوَ أفضل فَإِن قَالُوا نجد الصَّلَاة وَالصِّيَام إِثْمًا فِي وَقت مَا وَأَجرا فِي آخر قُلْنَا مَا كَانَ من هَذَا مَنْهِيّا عَنهُ فَلَيْسَ صلاحاً الْبَتَّةَ وَلَا هُوَ هدى وَلَا خير بل هُوَ إِثْم وخذلان وضلال وَلَيْسَ فِي هَذَا كلمناكم لَكِن فِيمَا هُوَ صَلَاح حَقِيقَة وَهدى حَقِيقَة وَخير حَقِيقَة وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ أَصْحَاب الْأَصْلَح مِنْهُم أَن من علم الله تَعَالَى أَنه يُؤمن من الْأَطْفَال إِن عَاشَ أَو يسلم من الْكفَّار إِن عَاشَ أَو يَتُوب من الْفُسَّاق إِن عَاشَ فَإِنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يميته الله قبل ذَلِك قَالُوا وَكَذَلِكَ من علم الله تَعَالَى أَنه إِن عَاشَ فعل خيرا فَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يميته الله قبل فعله قَالُوا وَلَا يُمِيت الله تَعَالَى أحدا إِلَّا وَهُوَ يدْرِي أَنه إِن أبقاه طرفَة عين فَمَا زَاد فَإِنَّهُ لَا يفعل شَيْئا من الْخَيْر أصلا بل يكفر أَو يفسق وَلَا بُد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من طوامهم الَّتِي جمعت الْكفْر والسحق وَلم ينفكوا بهَا فَمَا فروا عَنهُ من تجوير الْبَارِي تَعَالَى بزعمهم وَأما الْكفْر فَإِنَّهُ يلْزمهُم أَن إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو بلغ لكفر أَو فسق وليت شعري إِذْ هَذَا عِنْدهم كَمَا زَعَمُوا فَلم أمات بَعضهم أثر وِلَادَته ثمَّ آخر بعد سَاعَة ثمَّ يَوْم ثمَّ يَوْمَيْنِ وَهَكَذَا شهرا بعد شهر وعاماً بعد عَام إِلَى أَن أمات بَعضهم قبل بُلُوغه بِيَسِير وَكلهمْ عِنْدهم سَوَاء فِي أَنهم لَو عاشوا لكفروا أَو فسقوا كلهم وَإِذ عَنى بهم هَذِه الْعِنَايَة فَلم أبقى من الْأَطْفَال من درى أَنه يكفر ويفسق وَنعم ويؤتيهم القوى والتدقيق فِي الْفَهم كالفيومي سعيد بن يُوسُف والمعمس دَاوُد بن قزوان وَإِبْرَاهِيم الْبَغْدَادِيّ وَأبي كثير الطَّبَرَانِيّ متكلمي الْيَهُود وَأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النَّصَارَى وقردان بخت المثاني حَتَّى أَضَلُّوا كثيرا بشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم وَلَا سَبِيل إِلَى وجود فرق أصلا وَهَذَا مُحَابَاة وجور على أصولهم ثمَّ نجده تَعَالَى قد عذب بعض هَؤُلَاءِ الْأَطْفَال باليتم وَالْقمل والعرى وَالْبرد والجوع وَسُوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حَتَّى يموتوا كَذَلِك وَبَعْضهمْ مرفه مخدوم منعم حَتَّى يَمُوت كَذَلِك وَلَعَلَّهُمَا الْأَب وَأم وَكَذَلِكَ يلْزمهُم أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم نعم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَسَائِر الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن كل وَاحِد مِنْهُم لَو عَاشَ طرفَة عين على الْوَقْت الَّذِي مَاتَ فِيهِ لكفر أَو فسق ولزمهم مثل هَذَا فِي جِبْرِيل ومكائيل وَحَملَة الْعَرْش عَلَيْهِم السَّلَام إِن كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّهُم يموتون فَإِن تَمَادَوْا على هَذَا كفرُوا وَقد صرح بَعضهم بذلك جهارا وَإِن أَبَوا تناقضوا ولزمهم أَن الله تَعَالَى يُمِيت من يدْرِي أَنه يزْدَاد خيرا ويبقي من يدْرِي أَنه يكفر وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 عِنْدهم على أصولهم عين الظُّلم والعبث قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأجَاب بَعضهم فِي هَذَا السُّؤَال بِأَن قَالَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امتحنه الله عز وَجل قبل مَوته بِمَا بلغ ثَوَابه على طَاعَته فِيهِ مبلغ ثَوَابه على كل طَاعَة تكون منا لَو عَاشَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جُنُون ناهيك بِهِ لوجوه أَولهَا أَنه مُحَابَاة مُجَرّدَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام على غَيره وهلا فعل ذَلِك بِغَيْرِهِ وَعجل راحتهم من الدُّنْيَا ونكدها وَثَانِيها أَن هَذَا القَوْل كذب بحت وَذَلِكَ أَن المحن فِي الْعَالم مَعْرُوفَة وَهِي إِمَّا فِي الْجِسْم بالعلل وَأما فِي المَال بِالْإِتْلَافِ وَأما فِي النُّفُوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة وَالْقطع دون الأمل لَا محنة فِي الْعَالم تخرج عَن هَذِه الْوُجُوه إِلَّا المحنة فِي الدّين فَقَط نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك فَأَما المحنة فِي الْجِسْم فكذبوا وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا سليم الْأَعْضَاء سويها معافى من مثل محنة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر أهل الْبلَاء نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَأما فِي المَال فَمَا شغله الله عز وَجل مِنْهُ بِمَا يَقْتَضِي محنته فِي فضوله وَلَا أحوجه إِلَى أحد بل أَقَامَهُ على حد الْغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الْفضل فِيمَا يقربهُ من ربه عز وَجل وَأما النَّفس فَأَي محنة لمن قَالَ الله عز وَجل لَهُ {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} وَلمن رفع ذكره وَضمن لَهُ إِظْهَار دينه على الدّين كُله وَلَو كره أعداؤه وَجعل شائنه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عَدو فَأَي خوف وَأي هوان يتوقعه عَلَيْهِ السَّلَام وَأما أَهله وأحبته فاحترم بَعضهم فَأَجره فيهم كإبراهيم ابْنه وَخَدِيجَة وَحَمْزَة وجعفر وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم ورقية بَنَاته رَضِي الله عَنْهُم وَأقر عينه بِبَقَاء بَعضهم وصلاحه كعائشة وَسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَفَاطِمَة ابْنَته وَعلي وَالْعَبَّاس وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأَوْلَاد الْعَبَّاس وَعبد الله بن جَعْفَر وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث رَضِي الله عَن جَمِيعهم فَأَي محنة هَاهُنَا أَلَيْسَ قد أعاذ الله تَعَالَى من مثل محنة حبيب بن عدي سميَّة أم عمار رَضِي الله عَنْهُم أَلَيْسَ من قتل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن أنشر بِالْمِنْشَارِ وأحرق بالنيران أعظم محنة وَمن خَالفه قومه فَلم يتبعهُ مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير وعذب الْجُمْهُور كهود وَصَالح وَلُوط وَشُعَيْب وَغَيرهم اعظم محنة وَهل هَذِه إِلَّا مُكَابَرَة وحماقة وقحة وَأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وَجل على الْجِنّ وَالْإِنْس طَاعَته وأكرمه برسالته وأمنه من كل النَّاس وأكب عدوه لوجهه وَغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَهل هَذِه إِلَّا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مُجَرّدَة لَهُ على جَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ وَهل اسْتحق عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا قطّ على ربه تَعَالَى حَتَّى ابْتَدَأَ بِهَذِهِ النِّعْمَة الجليلة وَقد تَحنث قبله زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعزي الْعَدوي وَقيس بن سَاعِدَة الأبادي وَغَيرهمَا فَمَا أكْرمُوا بِشَيْء من هَذَا وَلَكِن نوك الْمُعْتَزلَة لَيْسَ عَلَيْهِ قِيَاس (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمِمَّا سئلوا عَنهُ أَن قيل لَهُم أَلَيْسَ قد علم الله أَن فِرْعَوْن وَالْكفَّار إِن أعاشهم كفرُوا فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم أبقاهم حَتَّى كفرُوا واخترم على قَوْلهم من علم أَنه إِن عَاشَ كفر وَهَذَا تَخْلِيط لَا يعقل ونقول لَهُم أَيْضا أَيّمَا كَانَ أصلح للْجَمِيع لَا سِيمَا لأهل النَّار خَاصَّة أَن يخترعنا الله تَعَالَى كلنا فِي الْجنَّة كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين أم مَا فعل بِنَا من خلقنَا فِي الدُّنْيَا والتعريض للبلاء فِيهَا وللخلود فِي النَّار (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فلحوا عِنْد هَذِه فَقَالَ بَعضهم لم يخلق الْجنَّة بعد فَقُلْنَا لَهُم هبكم أَن الْأَمر كَمَا قُلْتُمْ فَإِنَّمَا كَانَ أصلح للْجَمِيع أَن يعجل الله عز وَجل خلقهَا ثمَّ يخلقنا فِيهَا أَو يُؤَخر خلقنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 حَتَّى يخلقها ثمَّ يخلقنا مِنْهَا أم خلقه لنا حَيْثُ خلقنَا فَإِن عجزوا رَبهم جَعَلُوهُ ذَا طبيعة متناهي الْقُدْرَة ومشبها لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضَعِيفا وَهَذَا كفر مُجَرّد وَنفي السُّؤَال أَيْضا مَعَ ذَلِك يحسبه فِي أَن يجعلنا كالملائكة وَأَن يجعلنا كلنا أَنْبيَاء كَمَا فعل بِعِيسَى وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ جهلنا بِوَجْه الْمصلحَة فِي ذَلِك مِمَّا يخرج هَذَا الْأَمر عَن الْحِكْمَة فَقُلْنَا لَهُم فاقنعوا بِمثل هَذَا بِعَيْنِه فَمن قَالَ لكم لَيْسَ جهلنا بِوَجْه الْمصلحَة وَالْحكمَة فِي خلق الله تَعَالَى لأفعال عباده وَفِي تَكْلِيفه الْكَافِر وَالْفَاسِق مَالا يُطيق ثمَّ يعذبهما على ذَلِك مِمَّا يُخرجهُ عَن الْحِكْمَة وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما نَحن فَلَا نرضى بِهَذَا بل مَا جهلنا ذَلِك لَكِن نقطع على أَن كل مَا فعله الله تَعَالَى فَهُوَ عين الْحِكْمَة وَالْعدْل وَإِن من أَرَادَ إِجْرَاء أَفعاله تَعَالَى على الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وَالْعدْل الْمَعْهُود بَيْننَا فقد ألحدوا حظارضل وَشبه الله عز وَجل بخلقه لِأَن الْحِكْمَة وَالْعدْل بَيْننَا إِنَّمَا هما طَاعَة الله عز وَجل فَقَط لاحكمة وَلَا عدل غير ذَلِك إِلَّا مَا امرنا بِهِ أَي شَيْء كَانَ فَقَط وَأما الله تَعَالَى فَلَا طَاعَة لأحد عَلَيْهِ فَبَطل أَن تكون أَفعاله جَارِيَة على أَحْكَام العبيد المأمورين المربوبين المسؤلين عَمَّا يَفْعَلُونَ لَكِن أَفعاله تَعَالَى جَارِيَة على الْعِزَّة وَالْقُدْرَة والجبروت والكبرياء وَالتَّسْلِيم لَهُ وَأَن لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَلَا مزِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقد خَابَ من خَالف مَا قَالَ الله عز وَجل وَمَعَ هَذَا كُله فَلم يتخلصوا من رُجُوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على رَبهم تَعَالَى عَن ذَلِك وَقَالَ متكلموهم لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم نعلم مِقْدَار النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك وَكُنَّا أَيْضا نَكُون غير مستحقين لذَلِك النَّعيم بِعَمَل عَمِلْنَاهُ وإدخالنا الْجنَّة بعد استحقاقنا لَهُم أتم فِي النِّعْمَة وأبلغ فِي اللَّذَّة وَأَيْضًا فَلَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم يكن بُد من التوعد على مَا حظر علينا وَلَيْسَت الْجنَّة دَار توعد وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قد علم أَن بَعضهم كَانَ يكفر فَيجب عَلَيْهِ الْخُرُوج من الْجنَّة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا قدرُوا عَلَيْهِ من السخف وَهَذَا كُله عَائِد عَلَيْهِم بحول الله تَعَالَى وقوته وعونه لنا فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما قَوْلهم لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم نعلم مِقْدَار النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك فإننا نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَكَانَ الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلقنا فِيهَا ويخلق فِينَا قُوَّة وطبيعة نعلم بهَا قدر النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك أَكثر من علمنَا بذلك بعد دخولنا فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة أَو كعلمنا ذَلِك أم كَانَ غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا كَانَ غير قَادر على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى وَجعلُوا قوته متناهية يقدر على أمرنَا وَلَا يقدر على غَيره وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لعرض دَاخل أَو لبنية متناهية الْقُوَّة وَهَذَا كفر مُجَرّد وَإِن قَالُوا كَانَ الله قَادِرًا على ذَلِك أقرُّوا بِأَنَّهُ عز وَجل لم يفعل بهم أصلح مَا عِنْده وَأَن عِنْده أصلح مِمَّا فعل بهم وَأَيْضًا فَإِن كَانُوا أَرَادوا بذلك أَن اللَّذَّة تعقب الْبلَاء والتعب أَشد سُرُورًا وأبلغ لَزِمَهُم أَن يبطلوا نعم الْجنَّة جملَة لِأَنَّهُ لَيْسَ نعيمها الْبَتَّةَ مشوباً بألم وَلَا تَعب وكل ألم بعد الْعَهْد بِهِ فَإِنَّهُ ينسى كَمَا قَالَ الْقَائِل ... كَانَ الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى وَلم يفْتَقر يَوْمًا إِذا مَا تمولا ... فَلَزِمَ على هَذَا الأَصْل أَن يحدد الله تَعَالَى لأهل الْجنَّة آلا مَا فِيهَا ليتجدد لَهُم بذلك وجود اللَّذَّة وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام ويلزمهم أَيْضا أَن يدْخل النَّبِيين وَالصَّالِحِينَ النَّار ثمَّ يخرجهم مِنْهَا إِلَى الْجنَّة فتضاعف اللَّذَّة وَالسُّرُور أضعافاً بذلك وَيُقَال لَهُم كُنَّا نَكُون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 كالملائكة والحور الْعين فَإِن كَانُوا عَالمين بِمِقْدَار مَا هم فِيهِ من نعيم وَلَذَّة فَكُنَّا نَحن كَذَلِك وَإِن كَانُوا غير عَالمين بِمِقْدَار مَا هم فِيهِ من اللَّذَّة وَالنَّعِيم فَهَلا أَعْطَاهُم هَذِه الْمصلحَة ولأي شَيْء مَنعهم هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي أَعْطَاهَا لنا وهم أهل طَاعَته الَّتِي لم تشب بِمَعْصِيَة فَإِن قَالُوا إِن الْمَلَائِكَة وحور الْعين قد شاهدوا عَذَاب الْكفَّار فِي النَّار فَقَامَ لَهُم مقَام التَّرْهِيب قُلْنَا لَهُم وَهل الْمُحَابَاة والجور إِلَّا أَن يعرض قوما للمعاطب ويبقيهم حَتَّى يكفروا فيخلدوا فِي النَّار ليوعظ بهم قوم آخَرُونَ خلقُوا فِي الْجنَّة والرفاهية سرمداً أبدا لَا بُد وَهل عين الظُّلم إِلَّا هَذَا فِيمَا بَيْننَا على أصُول الْمُعْتَزلَة وَكَمن يَقُول من الطغاة قتل الثُّلُث فِي صَلَاح الثُّلثَيْنِ صَلَاح وَهل فِي الشَّاهِد عَبث وسفه أعظم من عَبث من يَقُول لآخر هَات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع فِي قفاك وأنتف سبالك وأمشيك فِي طَرِيق ذَات شوك دون رَاحَة فِي ذَلِك وَلَا مَنْفَعَة وَلَكِن لأعطيك بعد ذَلِك ملكا عَظِيما ولعلك فِي خلال ضربي إياك أَن تتضرر فَتَقَع فِي بِئْر مُنْتِنَة لَا يخرج مِنْهَا أبدا فَأَي مصلحَة عِنْد ذِي عقل فِي هَذَا الْحَال لَا سِيمَا وَهُوَ قَادر على أَن يُعْطِيهِ ذَلِك الْملك دون أَن يعرضه لشَيْء من هَذَا الْبلَاء فَهَذِهِ صفة الله عز وَجل عِنْد الْمُعْتَزلَة لَا يسْتَحقُّونَ من أَن يصفوا أنفسهم بِأَن يصفوا الله تَعَالَى بِالْعَدْلِ وَالْحكمَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما نَحن فَنَقُول لَو أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يفعل هَذَا كُله بِعَيْنِه مَا أنكرناه ولعلمنا أَنه مِنْهُ تَعَالَى حق وَعدل وَحِكْمَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْعجب أَن يكون الله تَعَالَى يخلقنا يَوْم الْقِيَامَة خلقا لَا نجوع فِيهِ أبدا وَلَا نعطش وَلَا نبول وَلَا نمرض وَلَا نموت وَينْزع مَا فِي صدورنا من غل ثمَّ لَا يقدر على أَن يخلقنا فِيهَا وَلَا على أَن يخلقنا خلقا نلتذ مَعَه بأبتدائنا فِيهَا كالتذاذنا بِدُخُولِهَا بعد طول النكد فَهَل يفرق بَين شيءمن هَذَا إِلَّا من لَا عقل لَهُ أَو مستخف بالباري تَعَالَى وبالدي وَأما قَوْلهم لَو خلقنَا الله تَعَالَى فِي الْجنَّة لَكنا غير مستحقين لذَلِك النَّعيم فَإنَّا نقُول لَهُم أخبرونا عَن الْأَعْمَال الَّتِي استحققتم بهَا الْجنَّة عِنْد أَنفسكُم أفبضرورة الْعقل علمْتُم أَن من عَملهَا فقد اسْتحق الْجنَّة دينا وَاجِبا على ربه تَعَالَى أم لم تعلمُوا ذَلِك وَلَا وَجب ذَلِك إِلَّا حَتَّى أعلمنَا الله عز وَجل أَنه يفعل وَجعل الْجنَّة جَزَاء على هَذِه الْأَعْمَال فَإِن قَالُوا بِالْعقلِ عرفنَا اسْتِحْقَاق الْجنَّة على هَذِه الْأَعْمَال كابروا وكذبوا على الْعقل وَكَفرُوا لأَنهم بِهَذَا القَوْل يوجبون الِاسْتِغْنَاء عَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ولزمهم أَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل الْجنَّة جَزَاء على هَذِه الْأَعْمَال لَكِن وَجب ذَلِك عَلَيْهِ حتما لَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا بِأَنَّهُ لَو شَاءَ غير ذَلِك لَكَانَ لَهُ وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأَيْضًا فَإِن شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السبت وَتَحْرِيم الشحوم وَغير ذَلِك قد كَانَ الْجنَّة جَزَاء على الْعَمَل بهَا ثمَّ صَارَت الْآن جَهَنَّم جَزَاء على الْعَمَل بهَا فَهَل هَا هُنَا إِلَّا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ ذَلِك فَقَط وَلَو لم يرد ذَلِك لم يجب من ذَلِك شَيْء فَإِن قَالُوا بل مَا علمنَا اسْتِحْقَاق الْجنَّة بذلك إِلَّا بِخَبَر الله تَعَالَى أَنه حكم بذلك فَقَط قيل لَهُم فقد كَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يخبرنا أَنه جعل الْجنَّة حَقًا لنا يخْتَر عَنَّا فِيهَا كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين وَأَيْضًا فقد كذبُوا فِي دَعوَاهُم اسْتِحْقَاق الْجنَّة بأعمالهم فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا من أحد ينجيه عمله أَو يدْخلهُ الْجنَّة عمله قيل لَا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فبضرورة الْعقل نَدْرِي أَن مَا زَاد على الْمُمَاثلَة فِي الْجَزَاء فِيمَا بَيْننَا فَإِنَّهُ تفضل مُجَرّد فِي الْإِحْسَان وجور فِي الْإِسَاءَة هَذَا حكم الْمَعْهُود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 فِي الْعقل فعل أصُول الْمُعْتَزلَة يلْزمهُم أَن بَقَاء أَحَدنَا فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار أَكثر من إحسانه أَو إساءته جَزَاء على مَا سلف مِنْهُ فضل مُجَرّد وعقاب زايد على مِقْدَار الجرم وَقد فعله الله عز وَجل بِلَا شكّ وَهُوَ عدل وَحِكْمَة وَحقّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَن دُخُول الْجنَّة على وَجه الْجَزَاء على الْعَمَل أَعلَى دَرَجَة أَسْنَى رُتْبَة من دُخُولهَا بالتفضل الْمُجَرّد فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا خطأ مَحْض لَا نناقد علمنَا أَن هَذَا الحكم إِنَّمَا يَقع بَين الْأَكفاء والمتماثلين وَأما الله تَعَالَى فَلَيْسَ لَهُ كفوا أحد وَمن كَانَ عبدا لآخر فَإِن إقبال السَّيِّد عَلَيْهِ بالتفضل عَلَيْهِ الْمُجَرّد والاختصاص والمحاباة أَسْنَى لَهُ وَأَعْلَى وأشرف لرتبته وَأَرْفَع لدرجته من أَن لَا يُعْطِيهِ شَيْئا بِمِقْدَار مَا يسْتَحقّهُ لخدمته ويستخبره إِيَّاه هَذَا مَا يُنكره إِلَّا معاند فَكيف وَلَيْسَ لأحد على الله حق وَحِينَئِذٍ كل مَا وهبه الله تَعَالَى لأحد بَين أنبيائه وَمَلَائِكَته عَلَيْهِم السَّلَام وكل مَا أخبر تَعَالَى أَنه أوجبه وَكتبه على نَفسه وَجعله حَقًا لِعِبَادِهِ فَكل ذَلِك تفضل مُجَرّد من الله عز وَجل واختصاص مبدأ لَو لم ينعم بِهِ عز وَجل لم يجب عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ لَا يَقُول غير هَذَا إِلَّا مَدْخُول الدّين فَاسد الْعقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم يقرونَ أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم جَمِيعهم السَّلَام وَصَدقُوا فِي هَذَا ثمَّ نقضوا هَذَا الأَصْل بأصلهم هَذَا السخيف من قَوْلهم أَن من دخل الْجنَّة بعد التَّعْرِيض للبلاء فَهُوَ أفضل من ابْتِدَاء النِّعْمَة والتقريب فَنحْن على قَوْلهم أفضل من الْمَلَائِكَة على جَمِيعهم السَّلَام وَقد قَالُوا أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْأَنْبِيَاء فعلى هَذَا التَّقْرِيب أَن يكون نَحن أفضل من الْمَلَائِكَة بِدَرَجَة وَأفضل من النَّبِيين بدرجتين وَهَذَا كفر مُجَرّد وتناقض ظَاهر وَأما قَوْلهم أننا لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم يكن بُد من التوعد والتحذر فإننا نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق حَتَّى لَو كَانَ مَا يَقُولُونَ لما منع من ذَلِك أَن يخلقوا فِي الْجنَّة ثمَّ يطلعوا مِنْهَا فيروا النَّار ويعاينوا وحشتها وَهُوَ لَهَا وقبحها ونفار النُّفُوس عَنْهَا كَالَّذي يعرض لنا عِنْد الِاطِّلَاع على الغيران العقيمة الْمظْلمَة وَإِن كُنَّا قطّ لم نقع فِيهَا وَلَا شاهدنا من وَقع فِيهَا أبل ذَلِك كَانَ يكون أبلغ فِي التحذير من وصفهَا دون رُؤْيَة لَكِن كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين فَيكون ذَلِك أدعى لَهُم إِلَى الشُّكْر وَالْحَمْد والاغتباط بمكانهم وَاجْتنَاب مَا نهو عَنهُ خوف مُفَارقَة مَا قد حصلوا عَلَيْهِ ثمَّ نقُول لَهُم أَيْضا قُولُوا هَذَا فهم بعد دُخُولهمْ الْجنَّة أمباح لَهُم الْكفْر والشتم وَالضَّرْب فِيمَا بَينهم أم مَحْظُور عَلَيْهِم لَزِمَهُم تمادي التوعد والتحذير هُنَالك قُلْنَا نَكُون لَو اخترعنا فِيهَا على الْحَال الَّتِي تكون فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة وَلَا فرق وَكَانَ يكون أصلح لجميعنا بِلَا شكّ فَإِن قَالُوا قد سبقت الطَّاعَة فِي الدُّنْيَا قيل لَهُم وَكَذَلِكَ كَانَت تسبق مِنْهُم فِي الْجنَّة كالملائكة سَوَاء بِسَوَاء وهم لَا يَقُولُونَ أَن الْمعاصِي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مُبَاح لَهُم فِي الْجنَّة وَلَا يَقُولُونَ هَذَا أحد فَيحْتَاج إِلَى كسر هَذَا القَوْل فَإِن لجؤا إِلَى قَول أبي الْهُذيْل أَن أهل الْجنَّة مضطرون لَا مختارون قيل لَهُم وَكُنَّا نَكُون فِيهَا كَذَلِك أَيْضا كَمَا نَكُون يَوْم الْقِيَامَة فِيهَا فَهَذَا أَكَانَ أصلح للْجَمِيع بِلَا شكّ وَهَذَا مَا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَن الله علم أَن بَعضهم يكفر وَلَا بُد فَيجب عَلَيْهِ الْخُرُوج من الْجنَّة قُلْنَا لَهُم أيقدر الله على خلاف مَا علم أم لَا فَإِن قَالُوا نعم يقدر وَلَكِن لَا يفعل أقرُّوا أَنه فعل من ترك ابتدائنا فِي الْجنَّة إِمْضَاء لما سبق فِي علمه غير مَا كَانَ أصلح لنا بِلَا شكّ وَرَجَعُوا إِلَى الْحق الَّذِي هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 قَوْلنَا أَنه تَعَالَى فعل مَا سبق فِي علمه من تَكْلِيف مَالا يُطَاق وَمن خلقه تَعَالَى الْكفْر وَالظُّلم وإنعامه على من شَاءَ وَحده لَا شريك لَهُ وَتركُوا قَوْلهم فِي الْأَصْلَح وَإِن قَالُوا لَا يقدر على غير مَا علم أَن يَفْعَله جَعَلُوهُ محيراً مُضْطَرّا عَاجِزا متناهي الْقُوَّة ضَعِيف الْقُدْرَة مُحدثا فِي أَسْوَأ حَالَة مِنْهُم وَهَكَذَا كفر وَخلاف لِلْقُرْآنِ ولإجماع الْمُسلمين نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم أَي مصلحَة للحشرات وَالْكلاب والبق والدود فِي خلقهَا حشرات وَلم يخلقها نَاسا مكلفين معرضين لدُخُول الْجنَّة فَإِن قَالُوا لَو جعلهَا نَاسا لكفروا قيل لَهُم فقد جعل الْكفَّار نَاسا فَكَفرُوا فَهَلا نظر لَهُم كَمَا نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لِئَلَّا يكفروا فَكَانَ أصلح لَهُم على قَوْلكُم وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم فَنَقُول لَهُم إِذا قُلْتُمْ أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على لطف لَو أَتَى بِهِ الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ مَعَه الْجنَّة لكنه قَادر على أَن لَا يضطرهم إِلَى الْإِيمَان أخبرونا عَن إيمَانكُمْ الَّذِي تستحقون بِهِ الثَّوَاب هَل يشوبه عنْدكُمْ شكّ أم يُمكن بِوَجْه من الْوُجُوه أَن يكون عنْدكُمْ بَاطِلا فَإِن قَالُوا نعم يشوبه شكّ وَيُمكن أَن يكون بَاطِلا أقرُّوا على أنفسهم بالْكفْر وكفونا مؤنتهم وَإِن قَالُوا لَا يشوبه شكّ وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون بَاطِلا قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ الِاضْطِرَار بِعَيْنِه لَيست الضَّرُورَة فِي الْعلم شَيْئا غير هَذَا إِنَّمَا هُوَ معرفَة لَا يشوبها شكّ لَا يُمكن اخْتِلَاف مَا عرف بهَا فَهَذَا هُوَ علم الضَّرُورَة نَفسه وَمَا عدا هَذَا فَهُوَ ظن وَشك فَإِن قَالُوا إِن الِاضْطِرَار مَا علم بالحواس أَو بِأول الْعقل وَمَا عداهُ فَهُوَ مَا عرف بالاستدلال قُلْنَا هَذِه دَعْوَى فَاسِدَة لِأَنَّهَا بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وتقسيمنا هُوَ الْحق الَّذِي يعرف ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم أَيّمَا كَانَ أصلح للْعَالم أَن يكون برياً من السبَاع والأفاعي وَالدَّوَاب العادية أَو أَن يكون فِيهِ كَمَا هِيَ مسلطة على النَّاس وعَلى سَائِر الْحَيَوَان وعَلى الْأَطْفَال فَإِن قَالُوا خلق الله الأفاعي وَالسِّبَاع كخلق الْحفر والحرث ومزجرة للْكفَّار قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من ظريف الْجُنُون وَلَقَد ضل بخلقتها جمع من المخذولين مِمَّن جرى مجْرى الْمُعْتَزلَة فِي أَن يتعقبوا على الله عز وَجل فعله كالمنانية وَالْمَجُوس اللَّذين جعلُوا إِلَهًا خَالِقًا غير الْحَكِيم الْعدْل ثمَّ نقُول للمعتزلة إِن كَانَت كَمَا تَقولُونَ مصلحَة فَكَانَ الاستكثار من الْمصلحَة أصلح وأبلغ فِي الزّجر والتحريف وكل هَذِه الدعاوي مِنْهُم حماقات ومكابرات بِلَا برهَان لَيست أجوبتهم فِيهَا بأصلح من أجوبة المنانية وَالْمَجُوس وَأَصْحَاب التناسخ بل كلهَا جَارِيَة فِي ميدان وَاحِد من أَنَّهَا كلهَا دَعْوَى فَاسِدَة بِلَا برهَان بل الْبُرْهَان ينقضها وَكلهَا رَاجِعَة إِلَى أصل وَاحِد وَهُوَ تَعْلِيل أَفعَال الله عز وَجل الَّذِي لَا عِلّة لَهَا أصلا وَالْحكم عَلَيْهِ بِمثل الحكم على خلقه فيمَ يحسن مِنْهُ ويقبح تَعَالَى الله عَن ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لأَصْحَاب الْأَصْلَح خَاصَّة مَا معنى دعائكم فِي الْعِصْمَة وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى قد عصم الْكفَّار كَمَا عصم الْمُؤمنِينَ فَلم يعتصموا وَمَا معنى دعائكم فِي الْإِعَادَة من الخذلان وَفِي الرَّغْبَة فِي التَّوْفِيق وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لَيْسَ عِنْده أفضل مِمَّا قد أعطاكموه وَلَا فِي قدرته زِيَادَة على مَا قد فعله بكم وَأي معنى لدعائكم فِي التَّوْبَة وَأَنْتُم تقطعون على أَنه لَا يقدر على أَن يعينكم فِي ذَلِك بِمِقْدَار شَعْرَة زَائِدَة على مَا قد أعطاكموه فَهَل دعاؤكم فِي ذَلِك الإضلال وهزل وهزء كمن دَعَا إِلَى الله أَن يَجعله من بني آدم أَو أَن يَجْعَل النَّبِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 نَبيا وَالْحجر حجرا وَهل بَين الْأَمريْنِ فرق فَإِن الدُّعَاء عمل أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ فَقيل لَهُم إِن أوامره تَعَالَى من جملَة أَفعاله بِلَا شكّ وأفعاله عنْدكُمْ تجْرِي على مَا يحسن فِي الْعقل ويقبح فِيهِ فِي الْمَعْهُود وَفِيمَا بَيْننَا وعَلى الْحِكْمَة عنْدكُمْ وَقد علمنَا أَنه لَا يحسن فِي الشَّاهِد بِوَجْه من الْوُجُوه أَن يَأْمر أحدا يرغب إِلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِيَدِهِ وَلَا فِيمَا قد أعطَاهُ إِيَّاه وكلا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ عَبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أَن الله تَعَالَى حكم بِهَذَا وَفعله وَهُوَ أمره لَهُم بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ أما فِيمَا لَا تُوصَف عِنْدهم بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَأما فِيمَا قد أَعْطَاهُم إِيَّاه وَهُوَ عِنْدهم عدل وَحِكْمَة فنقضوا أصلهم الْفَاسِد بِلَا شكّ وَأما نَحن فإننا نقُول أَن الدُّعَاء عمل أمرنَا الله عز وَجل بِهِ فِيمَا يقدر عَلَيْهِ ثمَّ إِن شَاءَ أَعْطَانَا وَإِن شَاءَ منعنَا إِيَّاه لَا معقب لحكمه وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِن فِي ابْتِدَاء الله عز وَجل كِتَابه الْمنزل إِلَيْنَا بقوله تَعَالَى آمراً لنا أَن نقُوله رَاضِيا منا أَن نقُوله {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} ثمَّ خَتمه تَعَالَى كِتَابه آمراً لنا أَن نقُوله رَاضِيا بقوله {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} لَا بَين بَيَان فِي تَكْذِيب الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى أصلح مِمَّا فعل وَإنَّهُ غير قَادر على كف وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَلَا على هدي الْكفَّار هدى يسْتَحقُّونَ بِهِ الثَّوَاب كَمَا وعد المهتدين لِأَنَّهُ عز وَجل نَص على أَنه هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهُ العون لنا وَالْهدى إِلَى صِرَاط من خصّه بِالنعْمَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى وضل فولا أَنه تَعَالَى قَادِرًا على الْهدى الْمَذْكُور وَإِن عِنْده عونا على ذَلِك لَا يؤتيه إِلَّا من شَاءَ دون من لم يَشَأْ وَإنَّهُ تَعَالَى أنعم على قوم بِالْهدى وَلم ينعم بِهِ على آخَرين لما أمرنَا أَن نَسْأَلهُ من ذَلِك مَا لَيْسَ يقدر عَلَيْهِ أَو مَا قد أعطَاهُ إِيَّاه وَنَصّ تَعَالَى على أَنه قَادر على صرف وَسْوَسَة الشَّيْطَان فلولا أَنه تَعَالَى يصرفهَا عَمَّن يَشَاء لما أمرنَا عز وَجل أَن نستعيذ مِمَّا لَا يقدر على الإعاذة مِنْهُ أَو مِمَّا قد أعاذنا بعد مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا مخلص لَهُم من هَذَا أصلا ثمَّ نسألهم أَي مصلحَة للعصاة فِي أَن جعل بعض حركاتهم وسكونهم كَبَائِر يسْتَحقُّونَ عَلَيْهَا النَّار وَجعل بعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة وَلَقَد كَانَ أصلح أَن يَجْعَلهَا كلهَا صغائر مغفورة وَلَقَد أصلح أَن يَجْعَلهَا كلهَا صغائر مغفورة فَإِن قَالُوا هَذَا أزْجر عَن الْمعاصِي وَأصْلح قيل لَهُم فَهَلا إِذْ هُوَ كَمَا تَقولُونَ جعلهَا جَمِيعهَا كَبَائِر زاجرة فَهُوَ أبلغ فِي الزّجر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن آيَات كَثِيرَة لَا يحْتَمل تَأْوِيلا بتكذيب المعجزين لرَبهم تَعَالَى وَلَيْسَ يُمكنهُم وجود آيَة وَلَا سنة يتعلقون بهَا أصلا فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} أفلم يكن عِنْده أصلح من فتْنَة يضل بهَا بعض خلقه حاشى لله من هَذَا الْكفْر والتعجيز وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن الَّذين أثنى عَلَيْهِم من مؤمني الْجِنّ انهم قَالُوا {وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَصدقهمْ الله عز وَجل فِي ذَلِك إِذْ لَو أنكرهُ لما أوردهُ مثنياً عَلَيْهِم بذلك وَهَذَا فِي غَايَة الْبَيَان الَّذِي قد هلك من خَالفه وَبَطل بِهِ قَول الضلال الْمُلْحِدِينَ الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى أَرَادَ رشد فِرْعَوْن وإبليس وَأَنه لَيْسَ عِنْده أصلح وَلَا يقدر لَهما على هدى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أصلا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فليت شعري أَي مصلحَة لَهُم فِي أَن يذرأهم لِجَهَنَّم نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه الْمصلحَة وَقَالَ تَعَالَى {وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته} فصح أَنه تَعَالَى هُوَ الَّذِي يقي السَّيِّئَات وَأَن الَّذِي رَحمَه هُوَ الَّذِي وَقَاه السَّيِّئَات لِأَن من لم يقه السَّيِّئَات فَلم يرحمه وَبلا شكّ أَن من وَقَاه السَّيِّئَات فقد فعل بِهِ أصلح مِمَّا فعل بِمن لم يقه إِيَّاهَا هَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} وَلَا يشك من لدماغه أقل سَلامَة أَو فِي وَجهه من برد الْحيَاء شَيْء فِي إِن هَذَا كَانَ أصلح بالكفار من إدخالهم النَّار بِأَن لَا يؤتهم ذَلِك الْهدى وَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ من دُخُولهمْ الْجنَّة بِغَيْر اسْتِحْقَاق وَقَالَ تَعَالَى {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم} فليت شعري أَيْن فعله تَعَالَى بهؤلاء نسْأَل الله أَن يجعلنا مِنْهُم من فعله بالذين قَالَ فيهم أَنه ختم على قُلُوبهم وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَجعل صُدُورهمْ ضيقَة حرجة إِن من سَاوَى بَين الْأَمريْنِ وَقَالَ أَن الله تَعَالَى لم يُعْط هَؤُلَاءِ إِلَّا مَا أعْطى هَؤُلَاءِ وَلَا أعْطى من الْهدى والاختصاص مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَيحيى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا مَا أعْطى إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَأَبا جهل وَأَبا لَهب وَالَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمتقيلين وَالشّرط والبغائيين والعوهر وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد بل سوى فِي التَّوْفِيق بَين جَمِيعهم وَلم يقدر لَهُم على مزِيد من الصّلاح لقَلِيل الْحيَاء عديم الدّين وَمَا جَوَابه إِلَّا قَوْله تَعَالَى {إِن رَبك لبالمرصاد} وَقَالَ عز وَجل {كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فأيما كَانَ أصلح للْكفَّار المخلدين فِي النَّار أَن يَكُونُوا مَعَ الْمُؤمنِينَ أمة وَاحِدَة لَا عَذَاب عَلَيْهِم أم بعثة الرُّسُل إِلَيْهِم وَهُوَ عز وَجل يدْرِي أَنهم لَا يُؤمنُونَ فَيكون ذَلِك سَببا إِلَى تخليدهم فِي جَهَنَّم وَقَالَ تَعَالَى {وأملي لَهُم أَن كيدي متين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا إِنَّمَا نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَلَهُم عَذَاب مهين} وَقَالَ تَعَالَى {أيحسبون إِنَّمَا نمدهم بِهِ من مَال وبنين نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الله عز وَجل أَرَادَ بهم وَفعل بهم مَا فِيهِ فَسَاد أديانهم وهلاكهم الَّذِي هُوَ ضد الصّلاح وَإِلَّا فَأَي مصلحَة لَهُم فِي أَن يستدرجوا إِلَى الْبِلَاد من حَيْثُ لَا يعلمُونَ وَفِي الْإِمْلَاء لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَنَصّ تَعَالَى إِن كل ذَلِك الَّذِي فعله لَيْسَ مسارعة لَهُم فِي الْخَيْر فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ الهلكى جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميراً} فَهَل بعد هَذَا بَيَان فِي أَن الله عز وَجل أَرَادَ هلاكهم ودمارهم وَلم يرد صَلَاحهمْ فَأمر مُتْرَفِيهَا بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً فأيما كَانَ أصلح لَهُم أَن لَا يؤمروا فيسلموا أَو أَن يؤمروا وَهُوَ تَعَالَى يدْرِي أَنهم لَا يأتمرون فَيدْخلُونَ النَّار فَإِن قَالُوا فاحملوا قَوْله تَعَالَى أمرنَا مُتْرَفِيهَا على ظَاهره قُلْنَا نعم هَكَذَا نقُول وَلم يقل تَعَالَى أَنه أَمرهم بِالْفِسْقِ وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى أمرناهم فَقَط وَقد نَص تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 على أَنه لَا يَأْمر بالفحشاء فصح قَوْلنَا أَيْضا وَقَالَ عز وَجل {وَأَن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} فنص تَعَالَى على أَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو توَلّوا لَا يدل قوما غَيرهم لَا يكونُونَ أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ خيرا مِنْهُم فقد صَحَّ أَنه عز وَجل قَادر على أَن يخلق أصلح مِنْهُم وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا لقادرون على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} وَفِي هَذَا كِفَايَة وَقَالَ تَعَالَى {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَهَل فِي الْبَيَان أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يفعل أصلح مِمَّا فعل وَإِن عِنْده تَعَالَى أصلح مِمَّا أعْطى خلقه أبين أَو أوضح أَو أصح من إخْبَاره تَعَالَى أَنه قَادر على أَن يُبدل نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ أحب النَّاس إِلَيْهِ خيرا من الْأزْوَاج اللواتي أعطَاهُ واللواتي هن خير النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل قَول الْبَقر الشاذة أَصْحَاب الْأَصْلَح فِي أَنه تَعَالَى لَا يقدر على أصلح مَا فعل بعباده قَالَ أَبُو مُحَمَّد نسْأَل الله الْعَافِيَة مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ ونسأله الْهدى الَّذِي حرمهم إِيَّاه وَكَانَ قَادِرًا على أَن يتفضل عَلَيْهِم بِهِ فَلم يرد وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل من منع قدرَة الله عز وَجل عَن شَيْء مِمَّا ذكرنَا فَلَا شكّ فِي كفره لِأَنَّهُ عجز ربه تَعَالَى وَخَالف جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا إِذا كَانَ عِنْده أصلح مِمَّا فعل بِنَا وَلم يؤتنا إِيَّاه وَلَيْسَ بَخِيلًا وَخلق أَفعَال عباده وعذبهم عَلَيْهَا وَلم يكن ظَالِما فَلَا تنكروا على من قَالَ أَنه جسم وَلَا يشبه خلقه وَأَنه يَقُول غير الْحق وَلَا يكون كَاذِبًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّه تَعَالَى لم يقل أَنه جسم وَلَو قَالَه لقلناه وَلم يكن ذَلِك تَشْبِيها لَهُ بخلقه وَلم يقل تَعَالَى أَن يَقُول غير الْحق بل قد أبطل ذَلِك وَقطع بِأَن قَوْله الْحق فَمن قَالَ على الله مَا لم يقلهُ فَهُوَ ملحد كَاذِب على الله عز وَجل وَقد قَالَ تَعَالَى أَنه خلق كل شَيْء وخلقنا وَمَا نعمل وَأَنه لَو شَاءَ لهدى كل كَافِر وَأَنه غير ظَالِم وَلَا بخيل وَلَا مُمْسك فَقُلْنَا مَا قَالَ من كل ذَلِك وَلم نقل مَا لم يقل وَقُلْنَا مَا قَامَ بِهِ الْبُرْهَان الْعقلِيّ من أَنه تَعَالَى خَالق كل مَوْجُود دونه وَأَنه تَعَالَى قَادر على كل من يسْأَل عَنهُ وَأَنه لَا يُوصف بِشَيْء من صِفَات الْعباد لَا ظلم وَلَا بخل وَلَا غير ذَلِك وَلم نقل مَا قد قَامَ الْبُرْهَان الْعقلِيّ على أَنه بَاطِل من أَنه جسم أَو أَنه يَقُول غير الْحق وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْأَصْلَح وَهُوَ ابْن بدد الغزال تلميذ مُحَمَّد بن شبيب تلميذ النظام بلَى إِن عِنْد الله ألطافاً لَو أَتَى بهَا الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ مَعَه الثَّوَاب إِلَّا أَن الثَّوَاب الَّذِي يستحقونه على مَا فعل بهم أعظم وَأجل فَلهَذَا مَنعهم تِلْكَ الألطاف قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه ضَعِيف لأننا إِنَّمَا سألناهم هَل يقدر الله تَعَالَى على ألطاف إِذا أَتَى بهَا أهل الْكفْر آمنُوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ بِهِ مثل هَذَا الثَّوَاب الَّذِي يُؤْتِيهم على الْإِيمَان الْيَوْم أَو أَكثر من ذَلِك الثَّوَاب فَلَا بُد لَهُ من ترك قَوْله أَو يعجز ربه تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسأل جَمِيع أَصْحَاب الْأَصْلَح فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أخبرونا عَن كل من شَاهد براهين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مِمَّن لم لَا يُؤمن بِهِ وَصحت عِنْده بِنَقْل التَّوَاتُر هَل صَحَّ ذَلِك عِنْدهم صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَنَّهَا شَوَاهِد مُوجبَة صدق نبوتهم أم لم يَصح ذَلِك عِنْدهم إِلَّا بغالب الظَّن وبصفة أَنَّهَا مِمَّا يُمكن أَن يكون تخييلاً أَو سحرًا أَو نفلا مَدْخُولا وَلَا بُد من أحد الْوَجْهَيْنِ فَإِن قَالُوا بل صَحَّ ذَلِك عِنْدهم صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا وَثَبت ذَلِك فِي عُقُولهمْ بِلَا شكّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ الِاضْطِرَار نَفسه الَّذِي لَا اضطرار فِي الْعَالم غَيره وَهَذِه صفة كل من ثَبت عِنْده شَيْء ثباتاً متيقناً كمن يتَيَقَّن بالْخبر الْمُوجب للْعلم موت فلَان وَكَون صفّين والجمل وكسائر مَا لم يُشَاهد الْمَرْء بحواسه فَالْكل على هَذَا مضطرون إِلَى الْإِيمَان لَا مختارون لَهُ وَإِن قَالُوا لم يَصح عِنْدهم شَيْء من ذَلِك هَذِه الصِّحَّة قُلْنَا لَهُم فَمَا قَامَت عَلَيْهِم حجَّة النُّبُوَّة قطّ وَلَا صحت لله تَعَالَى عَلَيْهِم حجَّة وَمن كَانَ هَكَذَا فاختياره للْإيمَان إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَاب وتقليد وَاتِّبَاع لما مَالَتْ إِلَيْهِ نَفسه وَغلب ظَنّه فَقَط وَفِي هَذَا بطلَان جَمِيع الشَّرَائِع وَسُقُوط حجَّة الله تَعَالَى وَهَذَا كفر مُجَرّد الْكَلَام فِي هَل لله تَعَالَى نعْمَة على الْكفَّار أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف المتكلمون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَن نعم الله تَعَالَى على الْكفَّار فِي الدّين وَالدُّنْيَا كنعمه على الْمُؤمنِينَ وَلَا فرق وَهَذَا قَول فَاسد قد نقضناه آنِفا وَللَّه الْحَمد وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى إِن الله تَعَالَى لَا نعْمَة لَهُ على كَافِر أصلا لَا فِي دين وَلَا دنيا وَقَالَت طَائِفَة لَهُ تَعَالَى عَلَيْهِم نعم فِي الدُّنْيَا فَأَما فِي الدّين فَلَا نعْمَة لَهُ عَلَيْهِم فِيهِ أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله عز وَجل {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَوَجَدنَا الله عز وَجل يَقُول {الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصراً إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِي جعل لكم الأَرْض قراراً وَالسَّمَاء بِنَاء وصوركم فَأحْسن صوركُمْ ورزقكم من الطَّيِّبَات ذَلِكُم الله ربكُم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا عُمُوم بِالْخِطَابِ بإنعام الله تَعَالَى على كل من خلق الله تَعَالَى وَعُمُوم لمن يشْكر من النَّاس وَالْكفَّار من جملَة مَا خلق الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَأما أهل الْإِسْلَام فكلهم شَاكر لله تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ ثمَّ يتفاضلون فِي الشُّكْر وَلَيْسَ أحد من الْخلق يبلغ كل مَا عَلَيْهِ من شكر الله تَعَالَى فصح أَن نعم الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا على الْكفَّار كهي على الْمُؤمنِينَ وَرُبمَا أَكثر فِي بَعضهم فِي بعض الْأَوْقَات قَالَ تَعَالَى {بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} وَهَذَا نَص جلي على نعم الله تَعَالَى على الْكفَّار وَأَنَّهُمْ بدلوها كفرا فَلَا يحل لأحد أَن يُعَارض كَلَام ربه تَعَالَى بِرَأْيهِ الْفَاسِد وَأما نعْمَة الله فِي الدّين فَإِن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِم الرُّسُل هادين لَهُم إِلَى مَا يرضى الله تَعَالَى وَهَذِه نعْمَة عَامَّة بِلَا شكّ فَلَمَّا كفرُوا وجحدوا نعم الله تَعَالَى فِي ذَلِك أعقبهم الْبلَاء وَزَوَال النِّعْمَة كَمَا قَالَ عز وَجل {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل = كتاب الْإِيمَان وَالْكفْر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي مَاهِيَّة الْإِيمَان فَذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ معرفَة الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَقَط وَإِن أظهر الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَسَائِر أَنْوَاع الْكفْر بِلِسَانِهِ وعبادته فَإِذا عرف الله تَعَالَى بِقَلْبِه فَهُوَ مُسلم من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول أبي مُحرز الجهم بن صَفْوَان وَأبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الْحسن الْأَشْعَرِيّ الْبَصْرِيّ وأصحابهما وَذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ إِقْرَار بِاللِّسَانِ بِاللَّه تَعَالَى وَأَن اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه فَإِذا فعل ذَلِك فَهُوَ مُؤمن من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَصْحَابه ذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ مَعًا فَإِذا عرف الْمَرْء الدّين بِقَلْبِه وَأقر بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُسلم كَامِل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَإِن الْأَعْمَال لَا تسمى إِيمَانًا وَلكنهَا شرائع الْإِيمَان وَهَذَا قَول أبي حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت الْفَقِيه وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء ذهب سَائِر الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث والمعتزلة والشيعة وَجَمِيع الْخَوَارِج إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ بِالدّينِ وَالْإِقْرَار بِهِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالجوارح وَأَن كل طَاعَة وَعمل خير فرضا كَانَ أَو نَافِلَة فَهِيَ إِيمَان وكل مَا ازْدَادَ الْإِنْسَان خيرا ازْدَادَ إيمَانه وَكلما عصى نقص إيمَانه وَقَالَ مُحَمَّد بن زِيَاد الحريري الْكُوفِي من آمن بِاللَّه عز وَجل وَكذب برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ مُؤمنا على الْإِطْلَاق وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَلكنه مُؤمن كَافِر لِأَنَّهُ آمن بِاللَّه تَعَالَى فَهُوَ مُؤمن وَكَافِر بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فحجة الْجَهْمِية والكرامية والأشعرية وَمن ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة حجَّة وَاحِدَة وَهِي أَنهم قَالُوا إِنَّمَا أنزل الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين وبلغة الْعَرَب خاطبنا الله تَعَالَى وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِيمَان فِي اللُّغَة هُوَ التَّصْدِيق فَقَط وَالْعَمَل بالجوارح لَا يُسمى فِي اللُّغَة تَصْدِيقًا فَلَيْسَ إِيمَانًا قَالُوا وَالْإِيمَان هُوَ التَّوْحِيد والأعمال لَا تسمى توحيداً فَلَيْسَتْ إِيمَانًا قَالُوا وَلَو كَانَت الْأَعْمَال توحيداً وإيماناً لَكَانَ من ضيع شَيْئا منا قد ضيع الْإِيمَان وَفَارق الْإِيمَان فَوَجَبَ أَن لَا يكون مُؤمنا قَالُوا وَهَذِه الْحجَّة إِنَّمَا تلْزم أَصْحَاب الحَدِيث خَاصَّة لَا تلْزم الْخَوَارِج وَلَا الْمُعْتَزلَة لأَنهم يَقُولُونَ بذهاب الْإِيمَان جملَة بإضاعة الْأَعْمَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا لَهُم حجَّة غير مَا ذكرنَا وكل مَا ذكرُوا فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ أصلا لما نذكرهُ إِن شَاءَ الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق فِي اللُّغَة فَهَذَا حجَّة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تَاما كَافِيا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى غَيره وَذَلِكَ قَوْلهم أَن الْإِيمَان فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن هُوَ التَّصْدِيق فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا على الْإِطْلَاق وَمَا سمي قطّ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ دون التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ إِيمَانًا فِي لُغَة الْعَرَب وَمَا قَالَ قطّ عَرَبِيّ أَن من صدق شَيْئا بِقَلْبِه فأعلن التَّكْذِيب بِهِ بِقَلْبِه وبلسانه فَإِنَّهُ لَا يُسمى مُصدقا بِهِ أصلا وَلَا مُؤمنا بِهِ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ مَا سمي قطّ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ دون التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ إِيمَانًا فِي لُغَة الْعَرَب أصلا على الْإِطْلَاق وَلَا يُسمى تَصْدِيقًا فِي لُغَة الْعَرَب وَلَا إِيمَانًا مُطلقًا إِلَّا من صدق بالشَّيْء بِقَلْبِه وَلسَانه مَعًا فَبَطل تعلق الْجَهْمِية والأشعرية باللغة جملَة ثمَّ نقُول لمن ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة فِي أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَالْقلب مَعًا وَتعلق فِي ذَلِك باللغة إِن تعلقكم باللغة لَا حجَّة لكم فِيهِ أصلا لِأَن اللُّغَة يجب فِيهَا ضَرُورَة أَن كل من صدق بِشَيْء فَإِنَّهُ مُؤمن بِهِ وَأَنْتُم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكُمْ توقعون اسْم الْإِيمَان وَلَا تطلقونه على كل من صدق بِشَيْء مَا وَلَا تطلقونه إِلَّا على صفة محدودة دون سَائِر الصِّفَات وَهِي من صدق بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن والبعث وَالْجنَّة وَالنَّار وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك مِمَّا قد أَجمعت الْأمة على أَنه لَا يكون مُؤمنا من لم يصدق بِهِ وَهَذَا خلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 اللُّغَة مُجَرّد فَإِن قَالُوا أَن الشَّرِيعَة أوجبت علينا هَذَا قُلْنَا صَدقْتُمْ فَلَا تتعلقوا باللغة حَيْثُ جَاءَت الشَّرِيعَة بِنَقْل اسْم مِنْهَا عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة كَمَا فَعلْتُمْ آنِفا سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ صَحِيحا لوَجَبَ أَن يُطلق اسْم الْإِيمَان لكل من صدق بِشَيْء مَا ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية الْمَسِيح وبإلاهية الْأَوْثَان مُؤمنين لأَنهم مصدقون بِمَا صدقُوا بِهِ وَهَذَا لَا يَقُوله أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام بل قَالَه كَافِر عِنْد جَمِيعهم وَنَصّ الْقُرْآن يكفر من قَالَ بِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} فَهَذَا الله عز وَجل شهد بِأَن قوما يُؤمنُونَ بِبَعْض الرُّسُل وَبِاللَّهِ تَعَالَى ويكفرون بِبَعْض فَلم يجز مَعَ ذَلِك أَن يُطلق عَلَيْهِم اسْم الْإِيمَان أصلا با أوجب لَهُم اسْم الْكفْر بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَول مُحَمَّد بن زِيَاد الحريري لَازم لهَذِهِ الطوائف كلهَا لَا ينفكون عَنهُ على مُقْتَضى اللُّغَة وموجبها وَهُوَ قَول لم يخْتَلف مسلمان فِي أَنه كفر مُجَرّد وَأَنه خلاف لِلْقُرْآنِ كَمَا ذكرنَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل تعلق هَذِه الطوائف باللغة جملَة وَأما قَوْلهم أَنه لَو كَانَ الْعَمَل يُسمى إِيمَانًا لَكَانَ من ضيع مِنْهُ شَيْئا فقد أضاع الْإِيمَان وَوَجَب أَن لَا يكون مُؤمنا فَإِنِّي قلت لبَعْضهِم وَقد ألزمني هَذَا الْإِلْزَام كلَاما تَفْسِيره وَبسطه إننا لَا نسمي فِي الشَّرِيعَة اسْما إِلَّا بِأَن يَأْمُرنَا الله تَعَالَى أَن نُسَمِّيه أَو يُبِيح لنا الله بِالنَّصِّ أَن نُسَمِّيه لأننا لَا نَدْرِي من أَرَادَ الله عز وَجل منا إِلَّا بِوَحْي وَارِد من عِنْده علينا وَمَعَ هَذَا فَإِن الله عز وَجل يَقُول مُنْكرا لمن سمي فِي الشَّرِيعَة شَيْئا بِغَيْر إِذْنه عز وَجل {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} وَقَالَ تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} فصح أَنه لَا تَسْمِيَة مُبَاحَة لملك وَلَا لأنسي دون الله تَعَالَى وَمن خَالف هَذَا فقد افترى على الله عز وَجل الْكَذِب وَخَالف الْقُرْآن فَنحْن لَا نسمي مُؤمنا إِلَّا من سَمَّاهُ الله عز وَجل مُؤمنا وَلَا نسقط الْإِيمَان بعد وُجُوبه إِلَّا عَمَّن أسْقطه الله عز وَجل عَنهُ وَوجدنَا بعض الْأَعْمَال الَّتِي سَمَّاهَا الله عز وَجل إِيمَانًا لم يسْقط الله عز وَجل اسْم الْإِيمَان عَن تاركها فَلم يجز لنا أَن نسقطه عَنهُ لذَلِك لَكِن نقُول انه ضيع بعض الْإِيمَان وَلم يضيع كُله كَمَا جَاءَ النَّص على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا سقط كل مَا موهت بِهِ هَذِه الطوائف كلهَا وَلم يبْق لَهُم حجَّة أصلا فلنقل بعون الله عز وَجل وتأييده فِي بسط حجَّة القَوْل الصَّحِيح الَّذِي هُوَ قَول جُمْهُور أهل الْإِسْلَام وَمذهب الْجَمَاعَة وَأهل السّنة وَأَصْحَاب الْآثَار من أَن الْإِيمَان عقد وَقَول وَعمل وَفِي بسط مَا أجملناه مِمَّا نقدنا بِهِ قَول المرجئة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد أصل الْإِيمَان كَمَا قُلْنَا فِي اللُّغَة التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وباللسان مَعًا بِأَيّ شَيْء صدق الْمُصدق لَا شَيْء دون شَيْء الْبَتَّةَ إِلَّا أَن الله عز وَجل على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقع لَفْظَة الْإِيمَان على العقد بِالْقَلْبِ لِأَشْيَاء محدودة مَخْصُوصَة مَعْرُوفَة على على العقد لكل شَيْء وأوقعها أَيْضا تَعَالَى على الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاء خَاصَّة لَا بِمَا سواهَا وأوقعها أَيْضا على أَعمال الْجَوَارِح لكل مَا هُوَ طَاعَة لَهُ تَعَالَى فَقَط فَلَا يحل لأحد خلاف الله تَعَالَى فِيمَا أنزلهُ وَحكم بِهِ وَهُوَ تَعَالَى خَالق اللُّغَة وَأَهْلهَا فَهُوَ أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على مَا يَشَاء وَلَا عجب أعجب مِمَّن أوجد لأمريء الْقَيْس أَو لزهير أَو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 لجرير أَو الحطيئة والطرماح أَو لأعرابي أسدي بن سلمي أَو تميمي أَو من سَائِر أَبنَاء الْعَرَب بوال على عَقِبَيْهِ لفظا فِي شعر أَو نثر جملَة فِي اللُّغَة وَقطع بِهِ وَلم يعْتَرض فِيهِ ثمَّ إِذا وجد لله تَعَالَى خَالق اللُّغَات وَأَهْلهَا كلَاما لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا جعله حجَّة وَجعل يصرفهُ عَن وَجهه ويحرفه عَن موَاضعه ويتحيل فِي إحالته عَمَّا أوقعه الله عَلَيْهِ وَإِذا وجد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلَاما فعل بِهِ مثل ذَلِك وتالله لقد كَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم قبل أَن يُكرمهُ الله تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ وَأَيَّام كَونه فَتى بِمَكَّة بِلَا شكّ عِنْد كل ذِي مسكة من عقل أعلم بلغَة قومه وأفصح فِيهَا وَأولى بِأَن يكون مَا نطق بِهِ من ذَلِك حجَّة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فَكيف بعد أَن اختصه الله تَعَالَى للنذارة واجتباه للوساطة بَينه وَبَين خلقه وأجى على لِسَانه كَلَامه وَضمن حفظه وَحفظ مَا يَأْتِي بِهِ فَأَي ضلال أضلّ مِمَّن يسمع لبيد بن ربيعَة بن مَالك بن جَعْفَر بن كلاب يَقُول ... فعلت فروع إِلَّا يهقان وأطفلت ... لجلهتين ظباؤها ونعامها ... فَجعله حجَّة وَأَبُو زِيَاد الْكلابِي يَقُول مَا عرفت الْعَرَب قطّ إِلَّا يهقان وَإِنَّمَا هُوَ اللهق بَيت مَعْرُوف وَيسمع قَول ابْن أَحْمَر كناه نقلق عَن مأموسة الْحجر وعلماء اللُّغَة يَقُولُونَ أَنه لم يعرف قطّ لأحد من الْعَرَب أَنه سمى النَّار مأموسى إِلَّا ابْن أَحْمَر فَيَجْعَلهُ حجَّة ويجيز قَول من قَالَ من الْأَعْرَاب هَذَا حجر من خرب وَسَائِر الشواذ من مَعْهُود اللُّغَة مِمَّا يكثر لَو تكلفنا ذكره ونحتج بِكُل ذَلِك ثمَّ يمْتَنع من إِيقَاع اسْم الْإِيمَان على مَا أوقعه عَلَيْهِ الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد بن عبد الله الْقرشِي المسترضع فِي بني سعد بن بكر ويكابر فِي ذَلِك بِكُل بَاطِل وَبِكُل حَمَاقَة وَبِكُل دفع للمشاهدة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَمن الأيات الَّتِي أوقع الله تَعَالَى فِيهَا اسْم الْإِيمَان على أَعمال الدّيانَة قَوْله عز وَجل {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد والتصديق بالشَّيْء أَي شَيْء كَانَ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَكَذَلِكَ التَّصْدِيق بِالتَّوْحِيدِ والنبوة لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو كل مُعْتَقد بِقَلْبِه أَو مقرّ بِلِسَانِهِ بِأَيّ شَيْء أقرّ أَو أَي شَيْء اعْتقد من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا أما أَن يصدق بِمَا اعْتقد وَأقر وَأما أَن يكذب بِمَا اعْتقد وَأما منزلَة بَينهمَا وَهِي الشَّك فَمن الْمحَال أَن يكون إِنْسَان مُكَذبا بِمَا يصدق بِهِ وَمن الْمحَال أَن يشك أحد فِيمَا يصدق بِهِ فَلم يبْق إِلَّا أَنه مُصدق بِمَا اعْتقد بِلَا شكّ وَلَا يجوز أَن يكون تَصْدِيق وَاحِد أَكثر من تَصْدِيق آخر لِأَن أحد التصديقين إِذا دَخلته دَاخِلَة فبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَنه قد خرج عَن التَّصْدِيق وَلَا بُد وَحصل فِي الشَّك لِأَن معنى التَّصْدِيق إِنَّمَا هُوَ أَن يَقع ويوقن بِصِحَّة وجود مَا صدق بِهِ وَلَا سَبِيل إِلَى التَّفَاضُل فِي هَذِه الصّفة فَإِن لم يقطع وَلَا أَيقَن بِصِحَّتِهِ فقد شكّ فِيهِ فَلَيْسَ مُصدقا بِهِ وَإِذا لم يكن مُصدقا بِهِ فَلَيْسَ مُؤمنا بِهِ فصح أَن الزِّيَادَة الَّتِي ذكر الله عز وَجل فِي الْإِيمَان لَيست فِي التَّصْدِيق أصلا وَلَا فِي الِاعْتِقَاد الْبَتَّةَ فَهِيَ ضَرُورَة فِي غير التَّصْدِيق وَلَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا الْأَعْمَال فَقَط فصح يَقِينا أَن أَعمال الْبر إِيمَان بِنَصّ الْقُرْآن وَكَذَلِكَ قَول الله عز وَجل {فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا} فَإِن قَالَ قَائِل معنى زِيَادَة الْإِيمَان هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ لما نزلت تِلْكَ الْآيَة صدقُوا بهَا فَزَادَهُم بنزولها إِيمَانًا تَصْدِيقًا بِشَيْء وَارِد لم يكن عِنْدهم قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا محَال لِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 قد اعْتقد الْمُسلمُونَ فِي أول إسْلَامهمْ أَنهم مصدقون بِكُل مَا يَأْتِيهم بِهِ نَبِيّهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي المستأنف فَلم يزدهم نزُول الْآيَة تَصْدِيقًا لم يَكُونُوا اعتقدوه فصح أَن الْإِيمَان الَّذِي زادتهم الْآيَات إِنَّمَا هوألعمل بهَا الَّذِي لم يَكُونُوا عملوه وَلَا عرفوه وَلَا صدقُوا بِهِ قطّ وَلَا كَانَ جَائِزا لَهُم أَن يعتقدوه ويعملوا بِهِ بل كَانَ فرضا عَلَيْهِم تَركه والتكذيب بِوُجُوبِهِ وَالزِّيَادَة لَا تكون إِلَّا فِي كمية عدد لَا فِيمَا سواهُ وَلَا عدد للاعتقاد وَلَا كمية وَإِنَّمَا الكمية وَالْعدَد فِي الْأَعْمَال والأقوال فَقَط فَإِن قَالُوا أَن تلاوتهم لَهَا زِيَادَة إِيمَان قُلْنَا صَدقْتُمْ وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا والتلاوة عمل بجارحة اللِّسَان لَيْسَ إِقْرَارا بالمعتقد وَلكنه من نوع الذّكر بالتسبيح والتهليل وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} وَلم يزل أهل الْإِسْلَام قبل الْجَهْمِية والأشعرية والكرامية وَسَائِر المرجئة مُجْمِعِينَ على أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عَنى بذلك صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس قبل أَن ينْسَخ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَة وَقَالَ عز وَجل {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} فنص تَعَالَى على أَن عبَادَة الله تَعَالَى فِي حَال إخلاص الدّين لَهُ تَعَالَى وَأقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة الواردتين فِي الشَّرِيعَة كُله دين الْقيمَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} فنص تَعَالَى على أَن الدّين هُوَ الْإِسْلَام وَنَصّ قبل على أَن الْعِبَادَات كلهَا وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة هِيَ الدّين فأنتج ذَلِك يَقِينا أَن الْعِبَادَات هِيَ الدّين وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام فالعبادات كلهَا هن الْإِسْلَام وَقَالَ عز وَجل {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} فَهَذَا نَص جلي على أَن الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان وَقد وَجب قبل بِمَا ذكرنَا أَن أَعمال الْبر كلهَا هِيَ الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان فأعمال الْبر كلهَا إِيمَان وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنص تَعَالَى وَأقسم بفسه أَن لَا يكون مُؤمنا إِلَّا بتحكيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل ماعن ثمَّ يسلم بِقَلْبِه وَلَا يجد فِي نَفسه حرجاً مِمَّا قضى فصح أَن التَّحْكِيم شَيْء غير التَّسْلِيم بِالْقَلْبِ وَأَنه هُوَ الْإِيمَان الَّذِي لَا إِيمَان لمن لم يَأْتِ بِهِ فصح يَقِينا أَن الْإِيمَان اسْم وَاقع على الْأَعْمَال فِي كل مَا فِي الشَّرِيعَة وَقَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} فصح أَن لَا يكون التَّصْدِيق مُطلقًا إِيمَانًا إِلَّا حَتَّى يستضيف إِلَيْهِ مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَمِمَّا يتَبَيَّن أَن الْكفْر يكون بالْكلَام قَول الله تَعَالَى {وَدخل جنته وَهُوَ ظَالِم لنَفسِهِ قَالَ مَا أَظن أَن تبيد هَذِه أبدا وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة وَلَئِن رددت إِلَى رَبِّي لأجدن خيرا مِنْهَا منقلباً قَالَ لَهُ صَاحبه وَهُوَ يحاوره أكفرت بِالَّذِي خلقك من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ سواك رجلا} إِلَى قَوْله {يَا لَيْتَني لم أشرك بربي أحدا} فَأثْبت الله لَهُ الشّرك وَالْكفْر مَعَ إِقْرَاره بربه تَعَالَى إِذْ شكّ فِي الْبَعْث وَقَالَ تَعَالَى {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} فصح أَن من آمن بِبَعْض الدّين وَكفر بِشَيْء مِنْهُ فَهُوَ كَافِر مَعَ صِحَة تَصْدِيقه لما صدق من ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأكْثر الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا مَوْضُوعَة من عِنْد الله تَعَالَى على مسميات لم يعرفهَا الْعَرَب قطّ هَذَا أَمر لَا يجهله أحد من أهل الأَرْض فَمن يدْرِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة ويدري الْأَسْمَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الشَّرْعِيَّة كَالصَّلَاةِ فَإِن مَوْضُوع هَذِه اللَّفْظَة فِي لُغَة الْعَرَب الدُّعَاء فَقَط فأوقعها الله عز وَجل على حركات محدودة مَعْدُودَة من قيام مَوْصُوف إِلَى جِهَة مَوْصُوفَة لَا تتعدى وركوع كَذَلِك وَسُجُود كَذَلِك وقعود كَذَلِك وَذكر كَذَلِك وَقِرَاءَة كَذَلِك وَذكر كَذَلِك فِي أَوْقَات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس مَحْدُود مَتى لم تكن على ذَلِك بطلت وَلم تكن صَلَاة وَمَا عرفت الْعَرَب قطّ شَيْئا من هَذَا كُله فضلا عَن أَن تسميه حَتَّى أَتَانَا بِهَذَا كُله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ بَعضهم أَن فِي الصَّلَاة دُعَاء فَلم يخرج الِاسْم بذلك عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن من أَتَى بِعَدَد الرَّكْعَات وَقَرَأَ أم الْقُرْآن وقرآناً مَعهَا فِي كل رَكْعَة وأتى بعد بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود وَالْجُلُوس وَالْقِيَام وَالتَّشَهُّد وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم بتسليمتين فقد صلى كَمَا أَمر وَإِن لم يدع بِشَيْء أصلا وَفِي الْفُقَهَاء من يَقُول أَن من صلى خلف الإِمَام فَلم يقْرَأ أصلا وَلَا تشهد وَلَا دَعَا أصلا فقد صلى كَمَا أَمر وَأَيْضًا فَإِن ذَلِك الدُّعَاء فِي الصَّلَاة لَا يخْتَلف أحد من الْأمة فِي أَنه لَيْسَ شَيْئا وَلَا يُسمى صَلَاة أصلا عِنْد أحد من أهل الْإِسْلَام فعلى كل قد أوقع الله عز وَجل اسْم الصَّلَاة على أَعمال غير الدُّعَاء وَلَا بُد وعَلى دُعَاء مَحْدُود لم تعرفه الْعَرَب قطّ وَلَا عرفت إِيقَاع الصَّلَاة على دُعَاء بِعَيْنِه دون سَائِر الدُّعَاء وَمِنْهَا الزَّكَاة وَهِي مَوْضُوع فِي اللُّغَة للنماء وَالزِّيَادَة فأوقعها الله تَعَالَى على إِعْطَاء مَال مَحْدُود مَعْدُود من جملَة أَمْوَال مَا مَوْصُوفَة محدودة مَعْدُودَة مُعينَة دون سَائِر الْأَمْوَال لقوم محدودين فِي أَوْقَات محدودة فَإِن هُوَ تعدى شَيْئا من ذَلِك لم يَقع على فعله اسْم زَكَاة وَلم تعرف الْعَرَب قطّ هَذِه الصِّفَات وَالصِّيَام فِي لُغَة الْعَرَب الْوُقُوف تَقول صَامَ النَّهَار إِذا طَال حَتَّى صَار كَأَنَّهُ وَاقِف لطوله قَالَ امْرُؤ الْقَيْس إِذا صَامَ النَّهَار وهجرا وَقَالَ آخر وَهُوَ النَّابِغَة الذبياني ... خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة تَحت العجاج وخيل تعلك اللجما ... فأوقع الله تَعَالَى اسْم الصّيام على الِامْتِنَاع من الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع وتعمد الْقَيْء من وَقت مَحْدُود وَهُوَ تبين الْفجْر الثَّانِي إِلَى غرُوب الشَّمْس فِي أَوْقَات من السّنة محدودة فَإِن تعدى ذَلِك لم يسم صياما وَهَذَا أَمر لم تعرفه الْعَرَب قطّ فَظهر فَسَاد قَول من قَالَ أَن الْأَسْمَاء لَا تنْتَقل فِي الشَّرِيعَة عَن موضوعها فِي اللُّغَة وَصَحَّ أَن قَوْلهم هَذَا مجاهرة سمجة قبيحة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد وضح وجود الزِّيَادَة فِي الْإِيمَان بِخِلَاف قَول من قَالَ أَنه التَّصْدِيق فبالضرورة نَدْرِي أَن الزِّيَادَة تَقْتَضِي النَّقْص ضَرُورَة وَلَا بُد لِأَن معنى الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ عدد مُضَاف إِلَى عدد وَإِذا كَانَ ذَلِك فَذَلِك الْعدَد الْمُضَاف إِلَيْهِ هُوَ بِيَقِين نَاقص عِنْد عدم الزِّيَادَة فِيهِ وَقد جَاءَ النَّص بِذكر النَّقْص وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَشْهُور الْمَنْقُول نقل الكواف أَنه قَالَ للنِّسَاء مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين أسلب للرجل الحازم مِنْكُن قُلْنَ يَا رَسُول الله وَمَا نُقْصَان ديننَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَلَيْسَ تقيم الْمَرْأَة الْعدَد من الْأَيَّام والليالي لَا تَصُوم وَلَا تصلي فَهَذَا نُقْصَان دينهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو نقص من التَّصْدِيق شَيْء لبطل عَن أَن يكون تَصْدِيقًا لِأَن التَّصْدِيق لَا يَتَبَعَّض أصلا ولصار شكا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وهم مقرون بِأَن امْرأ لَو لم يصدق بِآيَة من الْقُرْآن أَو بِسُورَة مِنْهُ وَصدق بسائره لبطل إيمَانه فصح أَن التَّصْدِيق لَا يَتَبَعَّض أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله عز وَجل على أَن الْيَهُود يعْرفُونَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَأَنَّهُمْ يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وَأخْبر تَعَالَى عَن الْكفَّار فَقَالَ {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} فَأخْبر تَعَالَى أَنهم يعْرفُونَ صدقه وَلَا يكذبونه وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وهم كفار بِلَا خلاف من أحد من الْأمة وَمن أنكر كفرهم فَلَا خلاف من أحد من الْأمة فِي كفره وَخُرُوجه عَن الْإِسْلَام وَنَصّ تَعَالَى عَن إِبْلِيس أَنه عَارِف بِاللَّه تَعَالَى وبملائكته وبرسله وبالبعث وَأَنه قَالَ {رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَالَ {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} وَقَالَ {خلقتني من نَار وخلقته من طين} وَكَيف لَا يكون مُصدقا بِكُل ذَلِك وَهُوَ قد شَاهد ابْتِدَاء خلق الله تَعَالَى لآدَم وخاطبه الله تَعَالَى خطابا كثيرا أَو سَأَلَهُ مَا مَنعك أَن تسْجد وَأمره بِالْخرُوجِ من الْجنَّة وَأخْبرهُ أَنه منظر إِلَى يَوْم الدّين وَأَنه مَمْنُوع من إغواء من سبقت لَهُ الْهِدَايَة وَهُوَ مَعَ ذَلِك كُله كَافِر بِلَا خلاف أما بقوله عَن آدم أَنا خير مِنْهُ وَأما بامتناعه للسُّجُود لَا يشك أحد فِي ذَلِك وَلَو كَانَ الْإِيمَان هُوَ بالتصديق وَالْإِقْرَار فَقَط لَكَانَ جَمِيع المخلدين فِي النَّار مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْكفَّار مُؤمنين لأَنهم كلهم مصدقون بِكُل مَا كذبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مقرون بِكُل ذَلِك لَكَانَ إِبْلِيس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الدُّنْيَا مُؤمنين ضَرُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه وَإِنَّمَا كفر أهل النَّار بمنعهم من الْأَعْمَال قَالَ تَعَالَى {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فلجأ هَؤُلَاءِ المخاذيل إِلَى أَن قَالُوا إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لم يعرفوا قطّ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَمعنى قَول الله تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} أَي أَنهم يميزون صورته ويعرفون أَن هَذَا الرجل هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي فَقَط وَأَن معنى قَوْله تَعَالَى {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} إِنَّمَا هُوَ أَنهم يَجدونَ سواداً فِي بَيَاض لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ وَلَا يفهمون مَعْنَاهُ وَإِن إِبْلِيس لم يقل شَيْئا مِمَّا ذكر الله عز وَجل عَنهُ انه قَالَ مجداً بل قَالَه هازلا وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَيْضا أَنه لَيْسَ على ظهر الأَرْض وَلَا كَانَ قطّ كَافِر يدْرِي أَن الله حق وَأَن فِرْعَوْن قطّ لم يتَبَيَّن لَهُ أَن مُوسَى نَبِي بِالْآيَاتِ الَّتِي عمل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا إِذا كَانَ الْكَافِر يصدق أَن الله حق والتصديق إِيمَان فِي اللُّغَة فَهُوَ مُؤمن إِذا أوفيه إِيمَان لَيْسَ بِهِ مُؤمنا وكلا الْقَوْلَيْنِ محَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه نُصُوص أَقْوَالهم الَّتِي رأيناها فِي كتبهمْ وسمعناهم مِنْهُم وَكَانَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ لهَذَا الْكفْر الْمُجَرّد أَن قَالُوا أَن الله عز وَجل سمى كل من ذكرنَا كفَّارًا ومشركين فَدلَّ ذَلِك على أَنه علم أَن فِي قُلُوبهم كفرا وشركاً وجحداً وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَن شِئْتُم الله عز وَجل وشئتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ كفرا لكنه دَلِيل على أَن فِي قلبه كفرا قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَوْلهم فِي أَخْبَار الله تَعَالَى عَن الْيَهُود أَنهم يعْرفُونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَعَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَنهم يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَبَاطِل بحت ومجاهرة لَا حَيَاء مَعهَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَمَا ذكرُوا لما كَانَ فِي ذَلِك حجَّة لله تَعَالَى عَلَيْهِم وَأي معنى أَو أَي فَائِدَة فِي أَن يجيزوا صورته ويعرفوا انه مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب فَقَط أَو فِي أَن يَجدوا كتابا لَا يفقهُونَ مَعْنَاهُ فَكيف وَنَصّ الْآيَة نَفسهَا مكذبة لَهُم لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُول {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَأَن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} فنص تَعَالَى أَنهم يعلمُونَ الْحق فِي نبوته وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وَإِنَّمَا أورد تَعَالَى معرفتهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محتجاً عَلَيْهِم بذلك لَا أَنه أَتَى من ذَلِك بِكَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ واما قَوْلهم فِي إِبْلِيس فَكَلَام دَاخل فِي الاستخفاف بِاللَّه عز وَجل وَبِالْقُرْآنِ لَا وَجه لَهُ غير هَذَا إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع فِي الْعقل وَفِي الْإِمْكَان غَايَة الِامْتِنَاع أَن يكون إِبْلِيس يُوَافق فِي هزله عين الْحَقِيقَة فِي أَن الله تَعَالَى كرم آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه تَعَالَى أمره بِالسُّجُود فَامْتنعَ وَفِي أَن الله تَعَالَى خلق آدم من طين وخلقه من نَار وَفِي أخباره آدم أَن الله تَعَالَى نَهَاهُ عَن الشَّجَرَة وَفِي دُخُوله الْجنَّة وَخُرُوجه عَنْهَا إِذا خرجه الله تَعَالَى وَفِي سُؤَاله الله تَعَالَى النظرة وَفِي ذكره يَوْم يبْعَث الْعباد وَفِي أخباره أَن الله تَعَالَى أغواه وَفِي تهديده ذُرِّيَّة آدم قبل أَن يَكُونُوا وَقد شَاهد الْمَلَائِكَة وَالْجنَّة وَابْتِدَاء خلق آدم وَلَا سَبِيل إِلَى مُوَافقَة هازل مَعْنيين صَحِيحَيْنِ لَا يعلمهَا فَكيف بِهَذِهِ الْأُمُور الْعَظِيمَة وَأُخْرَى أَن الله تَعَالَى حاشى لَهُ من أَن يُجيب هازلاً بِمَا يَقْتَضِيهِ معنى هزله فَإِنَّهُ تَعَالَى أمره بِالسُّجُود ثمَّ سَأَلَهُ عَمَّا مَنعه من السُّجُود ثمَّ أَجَابَهُ إِلَى النظرة الَّتِي سَأَلَ ثمَّ أخرجه عَن الْجنَّة وَأخْبرهُ أَنه يعْصم مِنْهُ من شَاءَ من ذُرِّيَّة آدم وَهَذِه كلهَا معَان من دافعها خرج عَن الْإِسْلَام لتكذيبه الْقُرْآن وَفَارق الْمَعْقُول لتجويزه هَذِه المحالات وَلحق بالمجانين الوقحاء وَأما قَوْلهم أَن أَخْبَار الله تَعَالَى بِأَن هَؤُلَاءِ كلهم كفار دَلِيلا على أَن فِي قُلُوبهم كفرا وَأَن شتم الله تَعَالَى لَيْسَ كفر وَلكنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا وَإِن كَانَ كَافِرًا لم يعرف الله تَعَالَى قطّ فَهَذِهِ مِنْهُم دعاوي كَاذِبَة مفتراة لَا دَلِيل لَهُم عَلَيْهَا وَلَا برهَان لَا من نَص وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من حجَّة عقل أصلا وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قِيَاس وَلَا من قَول أحد من السّلف قبل اللعين جهم بن صَفْوَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وإفك وزور فَسقط قَوْلهم هَذَا من قرب وَللَّه الْحَمد رب الْعَالمين فَكيف والبرهان قَائِم بِإِبْطَال هَذِه الدَّعْوَى من الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فَأَما الْقُرْآن فَإِن الله عز وَجل يَقُول {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} فَأخْبر تَعَالَى بِأَنَّهُم يصدقون بِاللَّه تَعَالَى وهم مَعَ ذَلِك مشركون وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه شَهَادَة من الله مكذبة لقَوْل هَؤُلَاءِ الضلال لَا يردهَا مُسلم أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبلغنا عَن بَعضهم أَنه قَالَ فِي قَول الله تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} إِن هَذَا إِنْكَار من الله تَعَالَى لصِحَّة معرفتهم بنبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَذَلِكَ لِأَن الرِّجَال لَا يعْرفُونَ صِحَة أبنائهم على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ ظن مِنْهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر وتحريف للكلم عَن موَاضعه وَيرد مَا شِئْت مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأول ذَلِك أَن هَذَا الْخطاب من الله تَعَالَى عُمُوم للرِّجَال وَالنِّسَاء من الَّذين أُوتُوا الْكتاب لَا يجوز أَن يخص بِهِ الرِّجَال دون النِّسَاء فَيكون من فعل ذَلِك مفترياً على الله تَعَالَى وبيقين يدْرِي كل مُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النِّسَاء كَمَا بعث إِلَى الرِّجَال وَالْخطاب بِلَفْظ الْجمع الْمُذكر يدْخل فِيهِ بِلَا خلاف من أهل اللُّغَة النِّسَاء وَالرِّجَال وَقد علمنَا أَن النِّسَاء يعرفن أبناءهن على الْحَقِيقَة بِيَقِين وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ أَن الله تَعَالَى لم يقل كَمَا يعْرفُونَ من خلقنَا من نطفتهم فَكَانَ يسوغ لهَذَا الْجَاهِل حِينَئِذٍ هَذَا التمويه الْبَارِد باستكراه أَيْضا وَإِنَّمَا قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 قَالَ تَعَالَى كَمَا يعْرفُونَ أبنائهم فأضاف تَعَالَى النُّبُوَّة إِلَيْهِم فَمن لم يقل أَنهم أَبْنَاءَهُم بعد أَن جعلهم الله أَبْنَاءَهُم فقد كذب الله تَعَالَى وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ كل من خلق من نُطْفَة الرجل يكون ابْنه فولد الزِّنَا مَخْلُوق من نُطْفَة إِنْسَان لَيْسَ هُوَ أَبَاهُ فِي حكم الدّيانَة أصلا وَإِنَّمَا أَبْنَاؤُنَا من جعلهم الله أبناءنا فَقَط كَمَا أَن الله تَعَالَى جعل أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ مِنْهُنَّ أمهاتنا وَإِن لم يلدننا وَنحن أبناؤهن وَإِن لم نخرج من بطونهن فَمن أنكر هَذَا فَنحْن نصدقه لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مُؤمنا فلسن أمهاته وَلَا هُوَ ابْن لَهُنَّ وَالْوَجْه الثَّالِث هُوَ أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أورد الْآيَة مبكتاً للَّذين أُوتُوا الْكتاب لَا معتذرا عَنْهُم لَكِن مخبرا بِأَنَّهُم يعْرفُونَ صِحَة نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآياته وَبِمَا وجدوا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل معرفَة قَاطِعَة لَا شكّ فِيهَا كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم ثمَّ أتبع ذَلِك تَعَالَى بِأَنَّهُم يكتمون الْحق وهم عالمون بِهِ فَبَطل هذر هَذَا الْجَاهِل المخذول وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ عز وَجل {لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من الغي} فنص تَعَالَى على أَن الرشد قد تبين من الغي عُمُوما وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى لن يضروا الله شَيْئا} وَهَذَا نَص جلي من خَالفه كفر فِي أَن الْكفَّار قد تبين لَهُم الْحق وَالْهدى فِي التَّوْحِيد والنبوة وَقد تبين لَهُ الْحق فبيقين يدْرِي كل ذِي حس سليم أَنه مُصدق بِلَا شكّ بِقَلْبِه وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة قَالُوا هَذَا سحر مُبين وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَيْضا نَص جلي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَن الْكفَّار جَحَدُوا بألسنتهم الْآيَات الَّتِي أَتَى بهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام واستيقنوا بقلوبهم أَنَّهَا حق وَلم يجحدوا قطّ أَنَّهَا كَانَت وَإِنَّمَا جَحَدُوا أَنَّهَا من عِنْد الله فصح أَن الَّذِي استيقنوا مِنْهَا هُوَ الَّذِي جَحَدُوا وَهَذَا يبطل قَول من قَالَ من هَذِه الطَّائِفَة أَنهم إِنَّمَا استيقنوا كَونهَا وَهِي عِنْدهم حيل لَا حقائق إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى كذبا تَعَالَى الله عَن ذَلِك لأَنهم لم يجحدوا كَونهَا وَإِنَّمَا جَحَدُوا أَنَّهَا من عِنْد الله وَهَذَا الَّذِي جَحَدُوا هُوَ الَّذِي استيقنوا بِنَصّ الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لفرعون {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض بصائر} فَمن قَالَ أَن فِرْعَوْن لم يعلم أَن الله تَعَالَى حق وَلَا علم أَن معجزات مُوسَى حق من عِنْد الله تَعَالَى فقد كذب ربه تَعَالَى وَهَذَا كفر مُجَرّد وَقد شغب بَعضهم بِأَن هَذِه الْآي قُرِئت لقد علمت بِضَم التَّاء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقِرَاءَتَيْن حق من عِنْد الله تَعَالَى لَا يجوز أَن يرد مِنْهُمَا شَيْء فَنعم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام علم ذَلِك وَفرْعَوْن علم ذَلِك فَهَذِهِ نُصُوص الْقُرْآن وَأما من طَرِيق الْمَعْقُول والمشاهدة وَالنَّظَر فَإنَّا نقُول لَهُم هَل قَامَت حجَّة الله تَعَالَى على الْكفَّار كَمَا قَامَت على الْمُؤمنِينَ بتبين براهينه عز وَجل لَهُم أم لم تقم حجَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِم قطّ إِذْ لم يتَبَيَّن الْحق قطّ لكَافِر فَإِن قَالُوا أَن حجَّة الله تَعَالَى لم تقم قطّ على كَافِر إِذْ لم يتَبَيَّن الْحق للْكفَّار كفرُوا بِلَا خلاف من أحد وعذروا الْكفَّار وخالفوا الْإِجْمَاع وَإِن أقرُّوا أَن حجَّة الله تَعَالَى قد قَامَت على الْكفَّار بِأَن الْحق تبين لَهُم صدقُوا وَرَجَعُوا إِلَى الْحق وَإِلَى قَول أهل الْإِسْلَام وبرهان آخر أَن كَانَ أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمَا سمعهم أحد إِلَّا مقرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 بِاللَّه تَعَالَى وبنبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن الله تَعَالَى حرم على الْيَهُود الْعَمَل فِي السبت والتحوم فَمن الْبَاطِل أَن يتواطؤا كلهم فِي شَرق الأَرْض وغربها على إعلان مَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافه بِلَا سَبَب دَاع إِلَى ذَلِك وبرهان آخر وَهُوَ أَنا قد شاهدنا من النَّصَارَى وَالْيَهُود طوائف لَا يحصي عَددهمْ أَسْلمُوا وَحسن إسْلَامهمْ وَكلهمْ أَوَّلهمْ عَن آخِرهم يخبر من استخبره مَتى بقوا أَنهم فِي إسْلَامهمْ يعْرفُونَ أَن الله تَعَالَى حق وَأَن نبوة مُوسَى وَهَارُون حق كَمَا كَانُوا يعْرفُونَ ذَلِك فِي أَيَّام كفرهم وَلَا فرق وَمن أنكر هَذَا فقد كَابر عقله وحسه وَلحق بِمن لَا يسْتَحق أَن يكلم وبرهان آخر وَهُوَ انهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن نقل التَّوَاتُر يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ فَوَجَبَ من هذَيْن الْحكمَيْنِ أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين نقل إِلَيْهِم مَا أَتَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام من المعجزات نقل التَّوَاتُر قد وَقع لَهُم بِهِ الْعلم الضَّرُورِيّ بِصِحَّة نبوته من أجلهَا وَهَذَا لَا محيد لَهُم عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم إِن شِئْتُم الله تَعَالَى كفرا وَكَذَلِكَ شتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ دَعْوَى لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ} فنص تَعَالَى على أَن من الْكَلَام مَا هُوَ كفر وَقَالَ تَعَالَى {إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} فنص تَعَالَى أَن من الْكَلَام فِي آيَات الله تَعَالَى مَا هُوَ كفر بِعَيْنِه مسموع وَقَالَ تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ أَن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة} فنص تَعَالَى على أَن الِاسْتِهْزَاء بِاللَّه تَعَالَى أَو بآياته أَو برَسُول من رسله كفر فَخرج عَن الْإِيمَان وَلم يقل تَعَالَى فِي ذَلِك أَنِّي علمت أَن فِي قُلُوبكُمْ كفرا بل جعلهم كفَّارًا بِنَفس الِاسْتِهْزَاء وَمن ادّعى غير هَذَا فقد قَول الله تَعَالَى مَا لم يقل وَكذب على الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر يضل بِهِ الَّذين كفرُوا يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبحكم اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن أَن الزِّيَادَة فِي الشَّيْء لَا تكون الْبَتَّةَ إِلَّا مِنْهُ لَا من غَيره فصح أَن النسيء كفر وَهُوَ عمل من الْأَعْمَال وَهُوَ تَحْلِيل مَا حرم الله تَعَالَى فَمن أحل مَا حرم الله تَعَالَى وَهُوَ عَالم بِأَن الله تَعَالَى حرمه فَهُوَ كَافِر بذلك الْفِعْل نَفسه وكل من حرم مَا أحل الله تَعَالَى فقد أحل مَا حرم الله عز وَجل لِأَن الله تَعَالَى حرم على النَّاس أَن يحرموا مَا أحل الله وَأما خلاف الْإِجْمَاع فَإِن جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَن أعلن جحد الله تَعَالَى أَو جحد رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مَحْكُوم لَهُ بِحكم الْكفْر قطعا أما الْقَتْل واما أَخذ الْجِزْيَة وَسَائِر أَحْكَام الْكفْر وَمَا شكّ قطّ أحد فِي هَل هم فِي بَاطِن أَمرهم منؤمنين أم لَا وَلَا فَكروا فِي هَذَا وَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من أَصْحَابه وَلَا أحد مِمَّن بعدهمْ وَأما قَوْلهم أَن الْكفَّار إِذا كَانُوا مُصدقين بِاللَّه تَعَالَى وَنبيه بقلوبهم بقلوبهم والتصديق فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن هُوَ الْإِيمَان ففيهم بِلَا شكّ إِيمَان فَالْوَاجِب أَن يَكُونُوا بإيمَانهمْ ذَلِك مُؤمنين أَو أَن يكون فيهم إِيمَان لَيْسُوا بِكَوْنِهِ فيهم مُؤمنين ولابد من أحد الْأَمريْنِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه فَاسد لِأَن التَّسْمِيَة كَمَا قد منا الله تَعَالَى لَا لأحد دونه وَقد أوضحنا الْبَرَاهِين على أَن الله تَعَالَى نقل اسْم الْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة إِلَى معنى آخر وَحرم فِي الدّيانَة إِيقَاع اسْم الْإِيمَان على التَّصْدِيق الْمُطلق وَلَوْلَا نقل الله تَعَالَى للفظة الْإِيمَان كَمَا ذكرنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 لوَجَبَ أَن يُسمى كل كَافِر على وَجه الأَرْض مُؤمنا وَأَن يخبر عَنْهُم بِأَن فيهم إِيمَانًا لأَنهم مُؤمنُونَ وَلَا بُد بأَشْيَاء كَثِيرَة مِمَّا فِي الْعَالم يصدقون بهَا هَذَا لَا يُنكره ذُو مسكة من عقل فَلَمَّا صَحَّ إجماعنا وإجماعهم وَإِجْمَاع كل من ينتمي إِلَى الْإِسْلَام على انهم وَإِن صدقُوا بأَشْيَاء كَثِيرَة فَإِنَّهُ لَا يحل لأحد أَن يسميهم مُؤمنين على الْإِطْلَاق وَلَا أَن يَقُول أَن لَهُم إِيمَانًا مُطلقًا أصلا لم يجز لأحد أَن يَقُول فِي الْكَافِر الْمُصدق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن الله تَعَالَى حق والمصدق بِقَلْبِه أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَنه مُؤمن وَلَا أَن فِيهِ إِيمَانًا أصلا إِلَّا حَتَّى يَأْتِي بِمَا نقل الله تَعَالَى إِلَيْهِ اسْم الْإِيمَان من التَّصْدِيق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَأَنه بَرِيء من كل دين غير دينه ثمَّ يتمادى بِإِقْرَارِهِ على مَا لَا يتم إِيمَان إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِهِ حَتَّى يَمُوت لَكنا نقُول أَن فِي الْكَافِر تَصْدِيقًا بِاللَّه تَعَالَى هُوَ بِهِ مُصدق بِاللَّه تَعَالَى وَلَيْسَ بذلك مُؤمنا وَلَا فِيهِ إِيمَان كَمَا أمرنَا الله تَعَالَى لَا كَمَا أَمر جهم والأشعري قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل هَذَا القَوْل الْمُتَّفق على تَكْفِير قَائِله وَقد نَص على تكفيرهم أَبُو عبيد الْقَاسِم فِي كِتَابه الْمَعْرُوف برسالة الْإِيمَان وَغَيره وَلنَا كتاب كَبِير نقضنا فِيهِ شبه أهل هَذِه الْمقَالة الْفَاسِدَة كتبناه على رجل مِنْهُم يُسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وكل من بعدهمْ قد صَحَّ إِجْمَاعهم على أَن من أعلن بِلِسَانِهِ بِشَهَادَة الْإِسْلَام فَإِنَّهُ عِنْدهم مُسلم مَحْكُوم لَهُ بِحكم الْإِسْلَام وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّوْدَاء أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ أَبُو طَالب قل كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ إِمَّا بِالْإِجْمَاع الْمَذْكُور فَصَحِيح وَإِنَّمَا حكمنَا لَهُم بِحكم الْإِيمَان فِي الظَّاهِر وَلم نقطع على أَنه عِنْد الله تَعَالَى مُؤمن وَهَكَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويؤمنوا بِمَا أرْسلت بِهِ فَإِذا فعلوا عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّوْدَاء أَنَّهَا مُؤمنَة فَظَاهر الْأَمر كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ قَالَ لَهُ خَالِد بن الْوَلِيد رب مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قلبه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس وَأما قَوْله لِعَمِّهِ أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله فَنعم يحاج بهَا على ظَاهر الْأَمر وحسابه على الله تَعَالَى فَبَطل كل مَا موهوا بِهِ ثمَّ نبين بطلَان قَوْلهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَنه يبين بطلَان قَول هَؤُلَاءِ قَول الله عز وَجل {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا وَلَهُم عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون} وَقَوله عز وَجل {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم} وَقَوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا إِنَّمَا هَذِه الْآيَة بِمَعْنى أَن هَذِه الْأَفْعَال تدل على أَن فِي الْقلب إِيمَانًا قُلْنَا لَهُم لَو كَانَ مَا قُلْتُمْ لوَجَبَ وَلَا بُد أَن يكون ترك من ترك شَيْئا من هَذِه الْأَفْعَال دَلِيلا على أَنه لَيْسَ فِي قلبه إِيمَان وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ هَذَا أصلا مَعَ أَن هَذَا صرف لِلْآيَةِ عَن وَجههَا وَهَذَا لَا يجوز إِلَّا ببرهان وَقَوْلهمْ هَذَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا} فَأثْبت عز وَجل لَهُم الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق ثمَّ أسقط عَنَّا ولايتهم إِذْ لم يهاجروا فَأبْطل إِيمَانهم الْمُطلق ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} فصح يَقِينا أَن هَذِه الْأَعْمَال إِيمَان حق وَعدمهَا لَيْسَ إِيمَانًا وَهَذَا غَايَة الْبَيَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} فنص عز وَجل فِي هَذِه الْآيَة على أَن من آمن بِلِسَانِهِ وَلم يعْتَقد الْإِيمَان بِقَلْبِه فَإِنَّهُ كَافِر ثمَّ أخبرنَا تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ من هم وَأَنَّهُمْ الَّذين آمنُوا وأيقنوا بألسنتهم وَقُلُوبهمْ مَعًا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَأخْبر تَعَالَى أَن هَؤُلَاءِ هم الصادقون قَالَ أَبُو مُحَمَّد ويلزمهم أَن الْمُنَافِقين مُؤمنُونَ لإقراهم بِالْإِيمَان بألسنتهم وَهَذَا قَول مخرج عَن الْإِسْلَام وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ اتَّخذُوا إِيمَانهم جنَّة فصدوا عَن سَبِيل الله أَنهم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا فطبع على قُلُوبهم} فَقطع الله تَعَالَى عَلَيْهِم بالْكفْر كَمَا ترى لأَنهم أبطنوا الْكفْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان آخر وَهُوَ أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب لأحكم لَهُ عِنْد الله عز وَجل لِأَن أَحَدنَا يلفظ بالْكفْر حاكياً وقارئاً لَهُ فِي الْقُرْآن فَلَا يكون بذلك كَافِرًا حَتَّى يقر أَنه عقده قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن احْتج بِهَذَا أهل الْمقَالة الأولى وَقَالُوا هَذَا يشْهد بِأَن الإعلان بالْكفْر لَيْسَ كفرا قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لَيست لنا وَإِنَّمَا هِيَ لله تَعَالَى فَلَمَّا أمرنَا تَعَالَى بِتِلَاوَة الْقُرْآن وَقد حكى لنا فِيهِ قَول أهل الْكفْر وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر خرج القاريء لِلْقُرْآنِ بذلك عَن الْكفْر إِلَى رضى الله عز وَجل وَالْإِيمَان بحكايته مَا نَص الله تَعَالَى بأَدَاء الشَّهَادَة بِالْحَقِّ فَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} خرج الشَّاهِد الْمخبر عَن الْكَافِر بِكُفْرِهِ عَن أَن يكون بذلك كَافِر إِلَى رضى الله عز وَجل وَالْإِيمَان وَلما قَالَ تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} أخرج من ثَبت إكراهه عَن أَن يكون بِإِظْهَار الْكفْر كَافِر إِلَى رخصَة الله تَعَالَى والثبات على الْإِيمَان وَبَقِي من أظهر الْكفْر لَا قارياً وَلَا شَاهدا وَلَا حاكياً وَلَا مكْرها على وجوب الْكفْر لَهُ بِإِجْمَاع الْأمة على الحكم لَهُ بِحكم الْكفْر وبحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وبنص الْقُرْآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 على من قَالَ كلمة الْكفْر أَنه كَافِر وَلَيْسَ قَول الله عز وَجل وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا على مَا ظنوه من اعْتِقَاد الْكفْر فَقَط بل كل من نطق بالْكلَام الَّذِي يحكم لقائله عِنْد أهل الْإِسْلَام بِحكم الْكفْر لَا قارياً وَلَا شَاهدا وَلَا حاكياً وَلَا مكْرها فقد شرح بالْكفْر صَدرا بِمَعْنى أَنه شرح صَدره لقبُول الْكفْر الْمحرم على أهل الْإِسْلَام وعَلى أهل الْكفْر أَن يقولوه وَسَوَاء اعتقده أَو لم يَعْتَقِدهُ لِأَن هَذَا الْعَمَل من إعلان الْكفْر على غير الْوُجُوه الْمُبَاحَة فِي إِيرَاده وَهُوَ شرح الصَّدْر بِهِ فَبَطل تمويههم بِهَذِهِ الْآيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبرهان آخر وَهُوَ قَول الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} فنص الله تَعَالَى على الْإِيمَان أَنه شَيْء قبل نفي الارتياب وَنفي الارتياب لَا يكون ضَرُورَة إِلَّا بِالْقَلْبِ وَحده فصح أَن الْإِيمَان إِذْ هُوَ قبل نفي الارتياب شَيْء آخر غير نفي الارتياب وَالَّذِي قبل نفي الارتياب هُوَ القَوْل بِاللِّسَانِ ثمَّ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْجهَاد مَعَ ذَلِك بِالْبدنِ وَالنَّفس وَالْمَال فَلَا يتم الْإِيمَان بِنَصّ كَلَام الله عز وَجل إِلَّا بِهَذِهِ الْأَقْسَام كلهَا فَبَطل بِهَذَا النَّص قَول من زعم أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده أَو القَوْل بِاللِّسَانِ وَحده أَو كِلَاهُمَا فَقَط دون الْعَمَل بِالْبدنِ وبرهان آخر وَهُوَ أَن نقُول لَهُم أخبرونا عَن أهل النَّار المخلدين فِيهَا الَّذين مَاتُوا على الْكفْر أهم حِين كَونهم فِي النَّار عارفون بقلوبهم صِحَة التَّوْحِيد والنبوة الَّذِي بجحدهم لكل ذَلِك ادخُلُوا النَّار وَهل هم حيئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لَا وَلَا بُد من أَحدهمَا فَإِن قَالُوا هم عارفون بِكُل ذَلِك مقرون بِهِ بألسنتهم وَقُلُوبهمْ قُلْنَا أهم مُؤمنُونَ أم غير مُؤمنين فَإِن قَالُوا هم غير مُؤمنين قُلْنَا قد تركْتُم قَوْلكُم أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ أَو الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَقَط أَو كِلَاهُمَا فَقَط فَإِن قَالُوا هَذَا حكم الْآخِرَة قُلْنَا لَهُم فَإِذا جوزتم نقل الْأَسْمَاء عَن موضوعها فِي اللُّغَة فِي الْآخِرَة فَمن أَيْن منعتم من ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَلم تجوزوه لله عز وَجل فِيهَا وَلَيْسَ فِي الحماقة أَكثر من هَذَا وَإِن قَالُوا بل هم مُؤمنُونَ قُلْنَا لَهُم فَالنَّار إِذن أعدت للْمُؤْمِنين لَا للْكَافِرِينَ وَهِي دَار الْمُؤمنِينَ وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام الْمُتَّقِينَ وَإِن قَالُوا بل هم غير عارفين بِالتَّوْحِيدِ وَلَا بِصِحَّة النُّبُوَّة فِي حَال كَونهم فِي النَّار أكذبهم نُصُوص الْقُرْآن وكذبوا رَبهم عز وَجل فِي إخْبَاره أَنهم عارفون بِكُل ذَلِك هاتفون بِهِ بألسنتهم راغبون فِي الرّجْعَة وَإِلَّا قَالَه نادمون على مَا سلف مِنْهُم وكذبوا نُصُوص الْمَعْقُول وجاهروا بالمحال إِذْ جعلُوا من شَاهد الْقِيَامَة والحساب وَالْجَزَاء غير عَارِف بِصِحَّة ذَلِك فصح بِهَذَا أَن لَا إِيمَان وَلَا كفر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى إِيمَانًا وَكفرا وشركاً فَقَط وَلَا مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا مُشْرك إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى بِشَيْء من ذَلِك أما فِي الْقُرْآن وَأما على لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ أَن الْإِيمَان هُوَ العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون الْعَمَل بالجوارح فَلَا نكفر من قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة وَإِن كَانَت خطأ وبدعة وَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا أخبرونا عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وبريء من كل دين حاشا الْإِسْلَام وَصدق بِكُل مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واعتقد ذَلِك بِقَلْبِه وَمَات إِثْر ذَلِك أمؤمن هُوَ أم لَا فَإِن جَوَابنَا أَنه مُؤمن بِلَا شكّ عِنْد الله عز وَجل وَعِنْدنَا قَالُوا فأخبرونا أناقص الْإِيمَان هُوَ أم كَامِل الْإِيمَان قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ أَنه كَامِل الْإِيمَان فَهَذَا قَوْلنَا وَإِن قُلْتُمْ أَنه نَاقص الْإِيمَان سألناكم مَاذَا نَقصه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 من الْإِيمَان وماذا مَعَه مَعَ الْإِيمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه مُؤمن نَاقص الْإِيمَان بِالْإِضَافَة إِلَى من لَهُ إِيمَان زَائِد بأعمال لم يعملها وَهَذَا وكل وَاحِد فَهُوَ نَاقص الْإِيمَان بِالْإِضَافَة إِلَى من هُوَ أفضل أعمالاً مِنْهُ حَتَّى يبلغ الْأَمر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي لَا أحد أتم إِيمَانًا مِنْهُ بِمَعْنى أحسن أعمالاً مِنْهُ وَأما قَوْله مَا الَّذِي نَقصه من الْإِيمَان فَإِنَّهُ نَقصه الْأَعْمَال الَّتِي عَملهَا غَيره وَالَّتِي رَبنَا عز وَجل أعلم بمقاديرها قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمِمَّا يبين أَن اسْم الْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة مَنْقُول عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة وَإِن الْكفْر أَيْضا كَذَلِك فَإِن الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية وَسمي الزراع كَافِرًا لتغطيته الْحبّ وَسمي اللَّيْل كَافِرًا لتغطيته كل شَيْء قَالَ الله عز وَجل {فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع} وَقَالَ تَعَالَى {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} يَعْنِي الزراع وَقَالَ لبيد بن ربيعَة يَمِينهَا أَلْقَت زَكَاة فِي كَافِر يَعْنِي اللَّيْل ثمَّ نقل الله تَعَالَى اسْم الْكفْر فِي الشَّرِيعَة إِلَى جحد الربوبية وَجحد نبوة نَبِي من الْأَنْبِيَاء صحت نبوته فِي الْقُرْآن أَو جحد شَيْء مِمَّا أَتَى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا صَحَّ عِنْد جاحده بِنَقْل الكافة أَو عمل شَيْء قَامَ الْبُرْهَان بِأَن الْعَمَل بِهِ كفر مِمَّا قد بَيناهُ فِي كتاب الإيصال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَو أَن إنْسَانا قَالَ أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَافِر وكل من تبعه كَافِر وَسكت وَهُوَ يُرِيد كافرون بالطاغوت كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وَلما اخْتلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن قَائِل هَذَا مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَن إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَأَبا جهل مُؤمنُونَ لما اخْتلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن قَائِل هَذَا مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر وَهُوَ يُرِيد مُؤمنُونَ بدين الْكفْر فصح عِنْد كل ذِي مسكة من يتحيز أَن اسْم الْإِيمَان وَالْكفْر منقولان فِي الشَّرِيعَة عَن موضوعهما فِي اللُّغَة بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَأَنه لَا يجوز إِيقَاع اسْم الْإِيمَان الْمُطلق على معنى التَّصْدِيق بِأَيّ شَيْء صدق بِهِ الْمَرْء وَلَا يجوز إِيقَاع اسْم الْكفْر على معنى التغطية لأي شَيْء غطاه الْمَرْء لَكِن على مَا أوقع الله تَعَالَى عَلَيْهِ اسْم الْإِيمَان وَاسم الْكفْر وَلَا مزِيد وَثَبت يَقِينا أَن مَا عدا هَذَا ضلال مُخَالف لِلْقُرْآنِ وللسنن ولإجماع أهل الْإِسْلَام أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبَقِي حكم التَّصْدِيق على حَاله فِي اللُّغَة لَا يخْتَلف فِي ذَلِك إنسي وَلَا جني وَلَا كَافِر وَلَا مُؤمن فَكل من صدق بِشَيْء فَهُوَ مُصدق بِهِ فَمن صدق بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يصدق بِمَا لَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بِهِ فَهُوَ مُصدق بِاللَّه تَعَالَى أَو بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ مُؤمنا وَلَا مُسلما لكنه كَافِر مُشْرك لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين اعترافات للمرجئية الطَّبَقَات الثَّلَاث الْمَذْكُورَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ الْكفْر ضد الْإِيمَان قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِطْلَاق هَذَا القَوْل خطأ لِأَن الْإِيمَان اسْم مُشْتَرك يَقع على معَان شَتَّى كَمَا ذكرنَا فَمن تِلْكَ الْمعَانِي شَيْء يكون الْكفْر ضداً لَهُ وَمِنْهَا مَا يكون الْفسق ضداً لَهُ لَا الْكفْر وَمِنْهَا مَا يكون التّرْك ضداً لَهُ لَا الْكفْر وَلَا الْفسق فَأَما الْإِيمَان الَّذِي يكون الْكفْر ضداً لَهُ فَهُوَ العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَإِن الْكفْر ضد لهَذَا الْإِيمَان وَأما الْإِيمَان الَّذِي يكون الْفسق ضداً لَهُ لَا الْكفْر فَهُوَ مَا كَانَ من الْأَعْمَال فرضا فَإِن تَركه ضد للْعَمَل وَهُوَ فسق لَا كفر وَأما الْإِيمَان الَّذِي يكون التّرْك لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ضداً فَهُوَ كل مَا كَانَ من الْأَعْمَال تَطَوّعا فَإِن تَركه ضد الْعَمَل بِهِ وَلَيْسَ فسقاً وَلَا كفرا برهَان ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ من وُرُود النُّصُوص بِتَسْمِيَة الله عز وَجل أَعمال الْبر كلهَا إِيمَانًا وتسميته تَعَالَى مَا سمي كفرا وَمَا سمي فسقاً وَمَا سمي مَعْصِيّة وَمَا سمي إِبَاحَة لَا مَعْصِيّة وَلَا كفرا وَلَا إِيمَانًا وَقد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لأحد غَيره فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم أَلَيْسَ جحد الله عز وَجل بِالْقَلْبِ فَقَط لَا بِاللِّسَانِ كفرا فَلَا بُد من نعم قَالَ فَيجب على هَذَا أَن يكون التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَحده إِيمَانًا فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا كَانَ يَصح لكم لَو كَانَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده أَو بِاللِّسَانِ وَحده إِيمَانًا وَقد أوضحنا آنِفا أَنه لَيْسَ شَيْء من ذَلِك على انْفِرَاده إِيمَانًا وَأَنه لَيْسَ إِيمَانًا إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل إِيمَانًا وَلَيْسَ الْكفْر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل كفرا فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل من أهل الطَّائِفَة الثَّالِثَة أَلَيْسَ جحد الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ وباللسان هُوَ الْكفْر كُله فَكَذَلِك يجب أَن يكون الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى بِاللِّسَانِ وَالْقلب هُوَ الْإِيمَان كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد لَيْسَ شَيْء مِمَّا قُلْتُمْ بل الْجحْد لشَيْء مِمَّا صَحَّ الْبُرْهَان أَنه لَا إِيمَان إِلَّا بتصديقه كفر والنطق بِشَيْء من كل مَا قَامَ الْبُرْهَان أَن النُّطْق بِهِ كفر كفر وَالْعَمَل بِشَيْء مِمَّا قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ كفر كفر فالكفر يزِيد وَكلما زَاد فِيهِ فَهُوَ كفر وَالْكفْر ينقص وَكله مَعَ ذَلِك مَا بَقِي مِنْهُ وَمَا نقص فكله كفر وَبَعض الْكفْر أعظم وَأَشد وأشنع من بعض وَكله كفر وَقد أخبر تَعَالَى عَن بعض الْكفْر أَنه تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هداً وَقَالَ عز وَجل {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ثمَّ قَالَ {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} فَأخْبر تَعَالَى أَن قوما يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب فَإذْ كل هَذَا قَول الله عز وَجل وَقَوله الْحق فالجزاء على قدر الْكفْر بِالنَّصِّ وَبَعض الْجَزَاء أَشد من بعض بالنصوص ضَرُورَة وَالْإِيمَان أَيْضا يتفاضل بنصوص صِحَاح وَردت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجَزَاء عَلَيْهِ فِي الْجنَّة بتفاضل بِلَا خلاف فَإِن قَالَ من الطبقتين الأوليتين أَلَيْسَ من قَوْلكُم من عرف الله عز وَجل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقر بهما بِقَلْبِه فَقَط إِلَّا أَنه مُنكر بِلِسَانِهِ لكل ذَلِك أَو لبعضه فَإِنَّهُ كَافِر وَكَذَلِكَ من قَوْلكُم أَن من أقرّ بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلِسَانِهِ فَقَط إِلَّا أَنه مُنكر بِقَلْبِه لكل ذَلِك أَو لبعضه فَإِنَّهُ كَافِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا نعم هَكَذَا نقُول قَالُوا فقد وَجب من قَوْلكُم إِذا كَانَ بِمَا ذكرنَا كَافِرًا أَن يكون فعله ذَلِك كفرا وَلَا بُد إِذْ لَا يكون كَافِرًا إِلَّا بِكُفْرِهِ فَيجب على قَوْلكُم أَن الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقَلْبِ كفر وَلَا بُد وَيكون الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى أَيْضا وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللِّسَانِ أَيْضا كفر وَلَا بُد وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنَّهُمَا إيما فقد وَجب على قَوْلكُم أَن يَكُونَا كفرا إِيمَانًا وفاعلهما كَافِرًا مُؤمنا مَعًا وَهَذَا كَمَا ترَوْنَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا شغب ضَعِيف وإلزام كَاذِب سموهُ لأننا لم نقل قطّ أَن من اعْتقد وَصدق بِقَلْبِه فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأنكر بِلِسَانِهِ ذَلِك أَو بعضه فَإِن اعْتِقَاده لتصديق ذَلِك كفر وَلَا أَنه كَانَ بذلك كَافِرًا وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه كفر بترك إِقْرَاره بذلك بِلِسَانِهِ فَهَذَا هُوَ الْكفْر وَبِه صَار كَافِرًا وَبِه أَبَاحَ الله تَعَالَى دَمه أَو أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُ بإجماعكم مَعنا وَإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وَكَانَ تَصْدِيقه بِقَلْبِه فَقَط بِكُل ذَلِك لَغوا محبطا كَأَنَّهُ لم يكن لَيْسَ إِيمَانًا وَلَا كفرا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة قَالَ تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وبالضرورة يدْرِي كل مُسلم أَن من حَبط عمله وَبَطل فقد سقط حكمه وتأثيره وَلم يبْق لَهُ رسم وَكَذَلِكَ لم نقل أَن من أقرّ بِلِسَانِهِ وَحده بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجحد بِقَلْبِه أَن إِقْرَاره بذلك بِلِسَانِهِ كفر وَلَا أَنه كَانَ بِهِ كَافِرًا لكنه كَانَ كَافِرًا بجحده بِقَلْبِه لما جحد من ذَلِك وجحده لذَلِك هُوَ الْكفْر وَكَانَ إِقْرَاره بِكُل ذَلِك بِلِسَانِهِ لَغوا محبطاً كَمَا ذكرنَا لَا إِيمَانًا وَلَا كفرا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَسقط هَذَا الْإِيهَام الْفَاسِد فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم أَلَيْسَ بعض الْإِيمَان إِيمَانًا وَبَعض الْكفْر كفرا وَأَرَادَ أَن يلْزمنَا من هَذَا أَن العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالجوارح إِذا كَانَ ذَلِك إِيمَانًا فإبعاضه إِذا إنفردت إِيمَانًا أَو أَن نقُول أَن إبعاض الْإِيمَان لَيست إِيمَانًا فيموه بِهَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إننا نقُول ونصرح أَنه لَيْسَ بعض الْإِيمَان إِيمَانًا أصلا بل الْإِيمَان متركب من أَشْيَاء إِذا اجْتمعت صَارَت إِيمَان كالبلق لَيْسَ السوَاد وَحده بلقاً وَلَا الْبيَاض وَحده بلقاً فَإِذا اجْتمعَا صَارا بلقاً وكالباب لَيْسَ الْخشب وَحده بَابا وَلَا المسامير وَحدهَا بَابا فَإِذا اجْتمعَا على شكل سمي حِينَئِذٍ بَابا وكالصلاة فَإِن الْقيام وَحده لَيْسَ صَلَاة وَلَا الرُّكُوع وَحده صَلَاة وَلَا الْجُلُوس وَحده صَلَاة وَلَا الْقِرَاءَة وَحدهَا صَلَاة وَلَا الذّكر وَحده صَلَاة وَلَا اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَحده صَلَاة أصلا فَإِذا اجْتمع كل ذَلِك سمي الْمُجْتَمع حِينَئِذٍ صَلَاة وَكَذَلِكَ الصّيام المفترض وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ لَيْسَ صِيَام كل سَاعَة من النَّهَار على انفرادها صياما فَإِذا اجْتمع صيامها كلهَا يُسمى صياما وَقد يَقع فِي الْيَوْم الْأكل وَالْجِمَاع وَالشرَاب سَهوا فَلَا يمْنَع ذَلِك من أَن يكون صِيَامه صَحِيحا وَالتَّسْمِيَة لله عز وَجل كَمَا قدمنَا لَا لأحد دونه بل من الْإِيمَان شَيْء إِذا إنفردكان كفرا كمن قَالَ مُصدقا بِقَلْبِه لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَهَذَا إِيمَان فَلَو أفرد لَا إِلَه وَسكت وسكوت قطع كفر بِلَا خلاف من أحد ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم فَإِذا انْفَرد صِيَامه أَو صلَاته دون إِيمَان أَهِي طَاعَة فَمن قَوْلهم لَا فقد صَارُوا فِيمَا أَرَادوا أَن يموهوا بِهِ علينا من أَن إبعاض الطَّاعَات إِذا انْفَرَدت لم تكن طَاعَة بل كَانَت مَعْصِيّة وَإِذا اجْتمعت كَانَت طَاعَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا إِذا كَانَ النُّطْق بِاللِّسَانِ عنْدكُمْ إِيمَانًا فَيجب إِذا عدم النُّطْق بِأَن يسكت الْإِنْسَان بعد إِقْرَاره أَن يكون سُكُوته كفرا فَيكون بسكوته كَافِرًا قُلْنَا إِن هَذَا يلْزمنَا عنْدكُمْ فَمَا تَقولُونَ إِن سألكم أَصْحَاب مُحَمَّد بن كرام فَقَالُوا لكم إِذا كَانَ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَان عنْدكُمْ فَيجب إِذا سَهَا عَن الِاعْتِقَاد وإحضاره ذكره أما فِي حَال حَدِيثه مَعَ من يتحدث أَو فِي حَال فكره أَو نَومه أَن يكون كَافِرًا وَأَن يكون ذَلِك السَّهْو كفرا فجوابهم أَنه مَحْمُول على مَا صَحَّ مِنْهُ من الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول للجهمية والأشعرية فِي قَوْلهم إِن جحد الله تَعَالَى وَشَتمه وَجحد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ كل ذَلِك بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كفرا لكنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا أخبرونا عَن هَذَا الدَّلِيل الَّذِي ذكرْتُمْ أتقطعون بِهِ فتثبتونه يَقِينا وَلَا تشكون فِي أَن فِي قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هُوَ دَلِيل يجوز ويدخله الشَّك وَيُمكن أَن لَا يكون فِي قلبه كفر وَلَا بُد من أَحدهمَا فَإِن قَالُوا أَنه دَلِيل لَا نقطع بِهِ قطعا وَلَا نثبته يَقِينا قُلْنَا لَهُم فَمَا بالكم تحتجون بِالظَّنِّ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وأعجب من هَذَا أَنكُمْ إِنَّمَا قُلْتُمْ أَن إعلان الْكفْر إِنَّمَا قُلْنَا أَنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا لِأَن الله تَعَالَى سماهم كفَّارًا فَلَا يمكننا رد شَهَادَة الله تَعَالَى فَعَاد هَذَا الْبلَاء عَلَيْكُم لأنكم قطعْتُمْ أَنَّهَا شَهَادَة الله عز وَجل ثمَّ لم تصدقوا شَهَادَته وَلَا قطعْتُمْ بهَا بل شَكَكْتُمْ فِيهَا وَهَذَا تَكْذِيب من لإخفاء بِهِ وَأما نَحن فمعاذ الله من أَن نقُول أَو نعتقد أَن الله تَعَالَى شهد بِهَذَا قطّ بل من أدعى أَن الله شهد بِأَن من أعلن الْكفْر فَإِنَّهُ جَاحد بِقَلْبِه كذب على الله عز وَجل وافترى عَلَيْهِ بل هَذِه شَهَادَة الشَّيْطَان الَّتِي أضلّ بهَا أولياءه وَمَا شهد الله تَعَالَى إِلَّا بضد هَذَا وبأنهم يعْرفُونَ الْحق ويكتمونه ويعرفون أَن الله تَعَالَى حق وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا ويظهرون بألسنتهم خلاف ذَلِك وَمَا سماهم الله عز وَجل قطّ كفَّارًا إِلَّا بِمَا ظهر مِنْهُم بألسنتهم وأفعالهم كَمَا فعل بإبليس وَأهل الْكتاب وَغَيرهم وَإِن قَالُوا بل يثبت بِهَذَا الدَّلِيل ونقطع بِهِ ونوقن أَن كل من أعلن بِمَا يُوجب إِطْلَاق اسْم الْكفْر عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ جَاحد بِقَلْبِه قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا بَاطِل من وُجُوه أَولهَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان وَثَانِيها أَنه علم غيب لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل وَالَّذِي يضمره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس فمدعى هَذَا معدي علم غيب ومدعي علم الْغَيْب كَاذِب وَثَالِثهَا أَن الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا ذكرنَا قد جَاءَت النُّصُوص فيهمَا بِخِلَاف هَذَا كَمَا تلونا قبل وَرَابِعهَا إِن كَانَ الْأَمر كَمَا تَقولُونَ فَمن أَيْن اقتصرتم بِالْإِيمَان على عقد الْقلب فَقَط وَلم تراعوا إِقْرَار اللِّسَان وَكِلَاهُمَا عنْدكُمْ مُرْتَبِط بِالْآخرِ لَا يُمكن انفرادهما وَهَذَا يبطل قَوْلكُم أَنه إِذا اعْتقد الْإِيمَان بِقَلْبِه لم يكن كَافِرًا بإعلانه الْكفْر فجوزتم أَن يكون يعلن الْكفْر من يبطن الْإِيمَان فَظهر تنَاقض مَذْهَبهم وعظيم فَسَاده وخامسها أَنه كَانَ إعلان الْكفْر بِاللِّسَانِ دَلِيلا على الْجحْد بِالْقَلْبِ وَالْكفْر بِهِ وَلَا بُد فَإِن إعلان الْإِيمَان بِاللِّسَانِ يجب أَيْضا أَن يكون دَلِيلا قَاطعا باتاً وَلَا بُد على أَن فِي الْقلب إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا لَا شكّ فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى سمى هَؤُلَاءِ مُؤمنين كَمَا سمى أؤلئك كفَّارًا وَلَا فرق بَين الشَّهَادَتَيْنِ فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى قد أخبر عَن الْمُنَافِقين المعلنين بِالْإِيمَان المبطنين للكفر والجحد قيل لَهُم وَكَذَلِكَ أعلمنَا الله تَعَالَى وَأخْبرنَا أَن إِبْلِيس وَأهل الْكتاب وَالْكفَّار بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُم يعلنون الْكفْر ويبطنون التَّصْدِيق ويؤمنون بِأَن الله تَعَالَى حق وَأَن رَسُوله حق يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أبنائهم وَلَا فرق وكل مَا موهتم بِهِ من الْبَاطِل وَالْكذب فِي هَؤُلَاءِ امكن للمرامية مثله سَوَاء بِسَوَاء فِي الْمُنَافِقين وَقَالُوا لم يكفروا قطّ بإبطانهم الْكفْر لَكِن لما سماهم الله بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا علمنَا أَنهم نطقوا بعد ذَلِك بالْكفْر والجحد بِشَهَادَة الله تَعَالَى بذلك كَمَا أدعيتم أَنْتُم شَهَادَته تَعَالَى على مَا فِي نفوس الْكفَّار وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلتا الشَّهَادَتَيْنِ من هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ كذب على الله عز وَجل تَعَالَى وَمَا شهد الله عز وَجل قطّ على إِبْلِيس وَأولى الْكتاب بالْكفْر إِلَّا بِمَا أعلنوه من الاستخفاف بِالنُّبُوَّةِ وبآدم وبالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَلَا شهد تَعَالَى قطّ على الْمُنَافِقين بالْكفْر إِلَّا بِمَا بطنوه من الْكفْر فَقَط وَأما هَذَا فتحريف للكلم عَن موَاضعه وأفك مفتري ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونظروا قَوْلهم قَالُوا مثل هَذَا أَن نقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 هَذِه الدَّار الْيَوْم إِلَّا كَافِر أَو يَقُول كل من دخل هَذِه الدَّار الْيَوْم فَهُوَ كَافِر قَالُوا فدخول تِلْكَ الدَّار دَلِيل على أَنه يعْتَقد الْكفْر لَا أَن دُخُول الدَّار كفر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب وتمويه ضَعِيف بِأَن دُخُول تِلْكَ الدَّار فِي ذَلِك الْيَوْم كفر مَحْض مُجَرّد وَقد يُمكن أَن يكون الدَّاخِل فِيهَا مُصدقا بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن تَصْدِيقه ذَلِك قد حَبط بِدُخُولِهِ الدَّار وبرهان ذَلِك أَنه لَا يخْتَلف اثْنَان من أهل الْإِسْلَام فِي أَن دُخُول تِلْكَ الدَّار لَا يحل الْبَتَّةَ لعَائِشَة وَلَا لأبي بكر وَلَا لعَلي وَلَا لأحد من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا لأحد من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم كَمَا أَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه علم مَا فِي قُلُوبهم وَأنزل السكينَة عَلَيْهِم وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فقد وَجب ضَرُورَة أَن هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم لَو دخلُوا تِلْكَ الدَّار لكانوا كفَّارًا بِلَا شكّ بِنَفس دُخُولهمْ فِيهَا ولحبط إِيمَانهم فَإِن قَالُوا فَإِن قَالُوا لَو دَخلهَا هَؤُلَاءِ لم يكفروا كَانُوا هم قد كفرُوا لأَنهم بِهَذَا القَوْل قاطعون بِأَن كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كذب فِي قَوْله لَا يدخلهَا إِلَّا كَافِرًا وَاحْتج بَعضهم فِي هَذَا الْمَكَان بقول الأخطل النَّصْرَانِي لَعنه الله إِذْ يَقُول ... إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا على هَذَا الِاحْتِجَاج أَن نقُول مَلْعُون مَلْعُون قَائِل هَذَا الْبَيْت وملعون مَلْعُون من جعل قَول هَذَا النَّصْرَانِي حجَّة فِي دين الله عز وَجل وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اللُّغَة الَّتِي يحْتَج فِيهَا بالعربي وَإِن كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا هِيَ قَضِيَّة عقلية فالعقل والحس يكذب بِأَن هَذَا الْبَيْت وَقَضِيَّة شَرْعِيَّة فَالله عز وَجل أصدق من النَّصْرَانِي اللعين إِذْ يَقُول عز وَجل {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} فقد أخبر عز وَجل بِأَن من النَّاس من يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي فُؤَاده بِخِلَاف قَول الأخطل لَعنه الله أَن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَاللِّسَان دَلِيل على الْفُؤَاد فَأَما نَحن فنصدق الله عز وَجل ونكذب الأخطل وَلعن الله من يَجْعَل الأخطل حجَّة فِي دينه الله وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فَإِن قَالُوا أَن الله عز وَجل قَالَ {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} قُلْنَا لَوْلَا أَن الله عز وَجل عرفه بهم وَلَده عَلَيْهِم بلحن القَوْل مَا كَانَ لحن قَوْلهم دَلِيلا عَلَيْهِم وَلم يُطلق الله تَعَالَى على هَذَا على كل أحد بل على أُولَئِكَ خَاصَّة بل قد نَص تَعَالَى على آخَرين بِخِلَاف ذَلِك إِذْ يَقُول {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} فَهَؤُلَاءِ من أهل الْمَدِينَة مُنَافِقُونَ مَرَدُوا على النِّفَاق لم يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلحن قَوْلهم وَلَو أَن النَّاس لم يضْربُوا قطّ كَلَام رَبهم تَعَالَى بعضه بِبَعْض وأخذوه كُله على مُقْتَضَاهُ لاهتدوا وَلَكِن من يهده الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً وَقد قَالَ عز وَجل {إِن الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملي لَهُم ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا نزل الله سنطيعكم فِي بعض الْأَمر وَالله يعلم أسرارهم فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} فجعلهم تَعَالَى مرتدين كفرا بعد علمهمْ الْحق وَبعد أَن تبين لَهُم الْهدى بقوله للْكفَّار مَا قَالُوا فَقَط وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه يعرف أسرارهم وَلم يقل تَعَالَى أَنَّهَا جحد أَو تَصْدِيق بل قد صَحَّ أَن فِي سرهم التَّصْدِيق لِأَن الْهدى قد تبين لَهُم وَمن تبين لَهُ شَيْء فَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يجحده بِقَلْبِه أصلا وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه قد أحبط أَعْمَالهم باتبَاعهمْ مَا أسخطه وكراهيتهم رضوانه وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فَهَذَا نَص جلي وخطاب للْمُؤْمِنين بِأَن إِيمَانهم يبطل جملَة وأعمالهم تحبط بِرَفْع أَصْوَاتهم فَوق صَوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون جحد كَانَ مِنْهُم أصلا وَلَو كَانَ مِنْهُم جحدا لشعروا لَهُ وَالله تَعَالَى أخبرنَا بِأَن ذَلِك يكون وهم لَا يَشْعُرُونَ فصح أَن من أَعمال الْجَسَد مَا يكون كفرا مُبْطلًا لإيمان فَاعله جملَة وَمِنْه مَا لَا يكون كفرا لَكِن على مَا حكم الله تَعَالَى بِهِ فِي كل ذَلِك وَلَا مزِيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل من أَيْن قُلْتُمْ أَن التَّصْدِيق لَا يتفاضل وَنحن نجد خضرَة أَشد خضرَة وشجاعة أَشد من شجاعة لَا سِيمَا والشجاعة والتصديق كيفيات من صِفَات النَّفس مَعًا فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن كل مَا قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فَإِنَّمَا يقبلهَا بمزاج يدْخلهُ من كَيْفيَّة أُخْرَى وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا فِيمَا بَينه وَبَين ضِدّه مِنْهَا وسائط قد تمازج كل وَاحِد من الضدين أَو فِيمَا جَازَ امتزاج الضدين فِيهِ كَمَا نجد بَين الخضرة وَالْبَيَاض وسائط من حمرَة وصفرة تمازجهما فتولد حِينَئِذٍ بالممازجة الشدَّة والضعف وكالصحة الَّتِي هِيَ اعْتِدَال مزاج الْعَفو فَإِذا مازج ذَلِك الِاعْتِدَال فضل مَا كَانَ مَرضه بِحَسب مَا مَا زجه فِي الشدَّة والضعف والشجاعة إِنَّمَا هِيَ استسهال النَّفس للثبات والإقدام عِنْد الْمُعَارضَة فِي اللِّقَاء فَإِذا ثَبت الِاثْنَان فإثباتاً وَاحِدًا وأقداما إقداماً مستوياً فهما فِي الشجَاعَة سَوَاء وَإِذا ثَبت أَحدهمَا أَو أقدم فَوق ثبات الآخر وإقدامه كَانَ أَشْجَع مِنْهُ وَكَانَ الآخر قد مازج ثباته أَو إقدامه جبن وَأما مَا كَانَ من الكيفيات لَا يقبل المزاج أصلا فَلَا سَبِيل إِلَى وجود التَّفَاضُل فِيهِ وَكَانَ ذَلِك على حسن مَا خلقه الله عز وَجل من كل ذَلِك وَلَا مزِيد كاللون فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى أَن يكون لون أَشد دُخُولا فِي أَنه لون من لون آخر إِذْ لَو مازج التَّصْدِيق غَيره لصار كذبا فِي الْوَقْت وَلَو مازج التَّصْدِيق شَيْئا غَيره لصار شكا فِي الْوَقْت وَبَطل التَّصْدِيق جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْإِيمَان قد قُلْنَا أَنه لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيق وَحده بل أَشْيَاء مَعَ التَّصْدِيق كَثِيرَة فَإِنَّمَا دخل التَّفَاضُل فِي كَثْرَة تِلْكَ الْأَشْيَاء وقلتها وَفِي كَيْفيَّة إيرادها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال شعيرَة من إِيمَان ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال برة من إِيمَان ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان إِلَى أدنى أدنى من ذَلِك إِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام من قصد إِلَى عمل شَيْء من الْخَيْر أَو هم بِهِ وَلم يعمله بعد أَن يكون مُصدقا بِقَلْبِه بِالْإِسْلَامِ مقرا بِلِسَانِهِ كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه مِثْقَال كَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن النُّصُوص على أَن الْأَعْمَال إِيمَان قَول الله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنص تَعَالَى نصا جلياً لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَأقسم تَعَالَى بِنَفسِهِ أَنه لَا يُؤمن أحد إِلَّا من حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا شجر بَينه وَبَين غَيره ثمَّ يسلم لما حكم بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يجد فِي نَفسه حرجاً مِمَّا قضى وَهَذِه كلهَا أَعمال بِاللِّسَانِ وبالجوارح غير التَّصْدِيق بِلَا شكّ وَفِي هَذِه كِفَايَة لمن عقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْعجب قَوْلهم أَن الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالزَّكَاة لَيست إِيمَانًا لَكِنَّهَا شرائع الْإِيمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه تَسْمِيَة لم يَأْذَن الله تَعَالَى بهَا وَلَا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحدا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بل الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان وَهُوَ الشَّرَائِع الشَّرَائِع هِيَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاخْتلف النَّاس فِي الْكفْر والشرك فَقَالَت طَائِفَة هِيَ اسمان واقعان على مَعْنيين وَإِن كل شرك كفر وَلَيْسَ كل كفر شركا وَقَالَ هَؤُلَاءِ لَا شرك إِلَّا قَول من جعل لله شَرِيكا قَالَ هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى كفَّارًا لَا مشركون وَسَائِر الْملَل كفار مشركون وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَغَيره وَقَالَ آخَرُونَ الْكفْر والشرك سَوَاء وكل كَافِر فَهُوَ مُشْرك وكل مُشْرك فَهُوَ كَافِر وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَغَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الطَّائِفَة الأولى بقول الله عزو جلّ {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} قَالُوا فَفرق الله تَعَالَى بَين الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَقَالُوا لَفْظَة الشّرك مَأْخُوذَة من الشَّرِيك فَمن لم يَجْعَل لله شَرِيكا فَلَيْسَ شركا قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه عُمْدَة حجتهم مَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَاتين قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما احتجاجهم بقول الله عز وَجل {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين} فَلَو لم يَأْتِ فِي هَذَا الْمَعْنى غير هَذَا الْمَعْنى غير هَذِه الْآيَة لكَانَتْ حجتهم ظَاهِرَة لَكِن الَّذِي أنزل هَذِه الْآيَة هُوَ الْقَائِل {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا} وَقَالَ تَعَالَى {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَهَذَا كُله تشريك ظَاهر لإخفائه فَإذْ قد صَحَّ الشّرك والتشريك فِي الْقُرْآن من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فقد صَحَّ أَنهم مشركون وَأَن الشّرك وَالْكفْر اسمان لِمَعْنى وَاحِد وَقد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لنا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ أَن قَوْله تَعَالَى {الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين} كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا} وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن الْمُنَافِقين كفار وَكَقَوْلِه تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} وَلَا خلاف فِي أَن جِبْرِيل وَمِيكَائِيل من جملَة الْمَلَائِكَة وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} وَالرُّمَّان الرُّمَّان من الْفَاكِهَة وَالْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب وَالْعرب تعيد الشَّيْء باسمه وَإِن كَانَت قد أجملت ذكره تَأْكِيدًا لأَمره فَبَطل تعلق من تعلق بتفريق الله تَعَالَى بَين الْكفَّار وَالْمُشْرِكين فِي اللَّفْظ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بِأَن لفظ الشّرك مَأْخُوذ من الشَّرِيك فقد قُلْنَا ان التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لأحد دونه وَله تَعَالَى أَن يُوقع أَي أسم شَاءَ على أَي مُسَمّى شَاءَ برهَان ذَلِك إِن من أشرك بَين عبيدين لَهُ فِي عمل مَا أَو بَين اثْنَيْنِ فِي هبة وَهبهَا لَهما فَإِنَّهُ لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم مُشْرك وَلَا يحل أَن يُقَال أَن فلَانا أشرك وَلَا أَن عمله شرك فصح أَنَّهَا لَفْظَة منقولة أَيْضا عَن موضوعها فِي اللُّغَة كَمَا أَن الْكفْر لَفْظَة منقولة أَيْضا عَن موضوعها إِلَى مَا أوقعهَا الله تَعَالَى عَلَيْهِ والتعجب من أهل هَذِه الْمقَالة وَقَوْلهمْ أَن النَّصَارَى لَيْسُوا مُشْرِكين وشركهم أظهر وَأشهر من أَن يجهله أحد لأَنهم يَقُولُونَ كلهم بِعبَادة الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس وَأَن الْمَسِيح إِلَه حق ثمَّ يجْعَلُونَ البراهمة مُشْرِكين وهم لَا يقرونَ إِلَّا بِاللَّه وَحده وَلَقَد كَانَ يلْزم أهل هَذِه الْمقَالة أَن لَا يجْعَلُوا كَافِرًا إِلَّا من جحد الله تَعَالَى فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ اتخذ الْيَهُود وَالنَّصَارَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 أَرْبَابًا من دون الله وهم يُنكرُونَ هَذَا وَقُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل فَلَمَّا كَانَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى يحرمُونَ مَا حرم أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ وَيحلونَ مَا أحلُّوا كَانَت هَذِه ربوبية صَحِيحَة وَعبادَة صَحِيحَة قد دانوا بهَا وسمى الله تَعَالَى هَذَا الْعَمَل اتِّخَاذ أَرْبَابًا من دون الله وَعبادَة وَهَذَا هُوَ الشّرك بِلَا خلاف كَمَا سمي كفرهم بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِي نَاسخ لما هم عَلَيْهِ كفر بِاللَّه عز وَجل وَأَن كَانُوا مُصدقين بِهِ تَعَالَى لَكِن لما أحبط الله تَعَالَى تصديقهم سقط حكمه جملَة فَإِن قَالُوا كَيفَ تَقولُونَ أَن الْكفَّار مصدقون بِاللَّه تَعَالَى وَالله تَعَالَى يَقُول {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَيَقُول تَعَالَى {وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم} قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن كل من خرج إِلَى الْكفْر بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَا بُد لَهُ من أَن يكون مُكَذبا بِشَيْء مِمَّا لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ أَو رد أمرا من أمرو الله عز وَجل لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ فَهُوَ مكذب بذلك الشَّيْء الَّذِي رده أَو كذب بِهِ وَلم يقل الله تَعَالَى الَّذِي كذب بِاللَّه عز وَجل لَكِن قَالَ كذب وَتَوَلَّى وَلَا قَالَ تَعَالَى وَأما من كَانَ من المكذبين بِاللَّه وَإِنَّمَا قَالَ من المكذبين الضَّالّين فَقَط فَمن كذب بِأَمْر من أُمُور الله عز وَجل لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ فَهُوَ مكذب على الْإِطْلَاق كَمَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى وَإِن كَانَ مُصدقا بِاللَّه تَعَالَى وَبِمَا صدق بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا كَيفَ تَقولُونَ أَن الْيَهُود عارفون بِاللَّه تَعَالَى وَالنَّصَارَى وَالله تَعَالَى يَقُول {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة إِلَى الله عز وَجل لَا لأحد دونه وَقُلْنَا أَن اسْم الْإِيمَان مَنْقُول عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة عَن التَّصْدِيق الْمُجَرّد إِلَى معنى آخر زَائِد مَعَ التَّصْدِيق فَلَمَّا لم يستوفوا تِلْكَ الْمعَانِي بَطل تصديقهم جملَة واستحقوا بِبُطْلَانِهِ أَن يسموا غير مُؤمنين وَبِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر فَإِن قيل فَهَل هم مصدقون بِاللَّه وباليوم الآخر قُلْنَا نعم فَإِن قيل ففيهم موحدون لله تَعَالَى قُلْنَا نعم فَإِن قيل فيهم مُؤمنُونَ بِاللَّه وبالرسول وباليوم الآخر قُلْنَا لَا لِأَن الله تَعَالَى نَص على كل مَا قُلْنَا فَأخْبر تَعَالَى أَنهم يعرفونه ويقرون بِهِ ويعرفون نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه نَبِي فأقررنا بذلك وَأسْقط تَعَالَى عَنْهُم اسْم الْإِيمَان فأسقطناه عَنْهُم وَمن تعدى هَذِه الطَّرِيقَة فقد كذب ربه تَعَالَى وَخَالف الْقُرْآن وعاند الرَّسُول وخرق إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وكابر حسه وعقله مَعَ ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا نقُول فِيمَن كَانَ مُسلما ثمَّ أطلق واعتقد مَا يُوجب الْخُرُوج عَن الْإِسْلَام كالقول بنبوة إِنْسَان بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تَحْلِيل الْخمر أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ مُصدق بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موحد عَالم بِكُل ذَلِك وَلَيْسَ مُؤمنا مُطلقًا وَلَا مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى وَلَا بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر لما ذكرنَا آنِفا وَلَا فرق لإِجْمَاع الْأمة كلهَا على اسْتِحْقَاق اسْم الْكفْر على من ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْكَلَام فِي تَسْمِيَة الْمُؤمن بِالْمُسلمِ وَالْمُسلم بِالْمُؤمنِ وَهل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام اسمان لمسمى وَاحِد وَمعنى وَاحِد أَو لمسميين ومعنيين قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان اسمان واقعان على مَعْنيين وَأَنه قد يكون مُسلم غير مُؤمن وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَبِالْحَدِيثِ الْمَأْثُور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ لَهُ سعد هَل لَك يَا رَسُول الله فِي فلَان فَإِنَّهُ مُؤمن فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مُسلم وَبِالْحَدِيثِ الْمَأْثُور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أَتَاهُ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة فَتى غير مَعْرُوف الْعين فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام فَأَجَابَهُ بأَشْيَاء فِي جُمْلَتهَا إقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وأعمال أخر مَذْكُورَة فِي ذَلِك الحَدِيث وَسَأَلَهُ عَن الْإِيمَان فَأَجَابَهُ بأَشْيَاء من جُمْلَتهَا أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَبِحَدِيث لَا يَصح من أَن الْمَرْء يخرج عَن الْإِيمَان إِلَى الْإِسْلَام وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لفظان مُتَرَادِفَانِ على معنى وَاحِد وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْإِيمَان أَصله فِي اللُّغَة التَّصْدِيق على الصّفة الَّتِي ذكرنَا قبل ثمَّ أوقعه الله عز وَجل فِي الشَّرِيعَة على جَمِيع الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي إِذا قصد بِكُل ذَلِك من عمل أَو ترك وَجه الله عز وَجل وَأَن الْإِسْلَام أَصله فِي اللُّغَة التبرؤ تَقول أسلمت أَمر كَذَا إِلَى فلَان إِذا تبرأت مِنْهُ إِلَيْهِ فَسُمي الْمُسلم مُسلما لِأَنَّهُ تَبرأ من كل شَيْء إِلَى الله عز وَجل ثمَّ نقل الله تَعَالَى اسْم الْإِسْلَام أَيْضا إِلَى جَمِيع الطَّاعَات وَأَيْضًا فَإِن التبرؤ إِلَى الله من كل شَيْء هُوَ معنى التَّصْدِيق لِأَنَّهُ لَا يبرأ إِلَى الله تَعَالَى من كل شَيْء حَتَّى يصدق بِهِ فَإِذا أُرِيد بِالْإِسْلَامِ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ خلاف الْكفْر وَخلاف الْفسق فَهُوَ وَالْإِيمَان شَيْء وَاحِد كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} وَقد يكون الْإِسْلَام أَيْضا بِمَعْنى الاستسلام أَي أَنه استسلم للملة خوف الْقَتْل وَهُوَ غير مُعْتَقد لَهَا فَإِذا أُرِيد بِالْإِسْلَامِ هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ غير الْإِيمَان وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الله تَعَالَى بقوله {لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص الْمَذْكُورَة من الْقُرْآن وَالسّنَن وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ الْإِيمَان فصح أَن الْإِسْلَام لَفْظَة مُشْتَركَة كَمَا ذكرنَا وَمن الْبُرْهَان على أَنَّهَا لَفْظَة منقولة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة أَن الْإِسْلَام فِي اللُّغَة هُوَ التبرؤ فَأَي شَيْء تَبرأ مِنْهُ الْمَرْء فقد أسلم من ذَلِك الشَّيْء وَهُوَ مُسلم كَمَا أَن من صدق بِشَيْء فقد آمن بِهِ وَهُوَ مُؤمن بِهِ وبيقين لَا شكّ فِيهِ يدْرِي كل وَاحِد أَن كل كَافِر على وَجه الأَرْض فَإِنَّهُ مُصدق بأَشْيَاء كَثِيرَة من أُمُور دُنْيَاهُ ومتبرىء من أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَا يخْتَلف اثْنَيْنِ من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يحل لأحد أَن يُطلق على الْكَافِر من أجل ذَلِك أَنه مُؤمن وَلَا أَنه مُسلم فصح يَقِينا أَن لَفْظَة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان منقولة عَن موضوعها فِي اللُّغَة إِلَى معَان محدودة مَعْرُوفَة لم تعرفها الْعَرَب قطّ حَتَّى أنزل الله عز وَجل بهَا الْوَحْي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه من أَتَى بهَا اسْتحق اسْم الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَسمي مُؤمنا مُسلما وَمن يَأْتِ بهَا لم يسم مُؤمنا وَلَا مُسلما وَإِن صدق بِكُل شَيْء غَيرهَا أَو تَبرأ من كل شَيْء حاشى مَا أوجبت الشَّرِيعَة التبرأ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْكفْر والشرك لفظتان منقولتان عَن موضوعهما فِي اللُّغَة لِأَن الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية والشرك أَن تشرك شَيْئا مَعَ آخر فِي أَي معنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 جمع بَينهمَا وَلَا خلاف بَين أحد من أهل التَّمْيِيز فِي أَن كل مُؤمن فِي الأَرْض فِي أَنه يُغطي أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ من أجل ذَلِك الْكفْر وَلَا الشّرك وَلَا أَن يُسمى كَافِرًا وَلَا مُشْركًا وَصَحَّ يَقِينا أَن الله تَعَالَى نقل اسْم الْكفْر والشرك إِلَى إِنْكَار أَشْيَاء لم تعرفها الْعَرَب وَإِلَى أَعمال لم تعرفها الْعَرَب قطّ كمن جحد الصَّلَاة أَو صَوْم رَمَضَان أَو غير ذَلِك من الشَّرَائِع الَّتِي لم تعرفها الْعَرَب قطّ حَتَّى أنزل الله تَعَالَى بهَا وحيه أَو كمن عبد وثناً فَمن أَتَى بِشَيْء من تِلْكَ الْأَشْيَاء سمي كَافِرًا أَو مُشْركًا وَمن لم يَأْتِ بِشَيْء من تِلْكَ الْأَشْيَاء لم يسم كَافِرًا وَلَا مُشْركًا وَمن خَالف هَذَا فقد كَابر الْحس وَجحد العيان وَخَالف الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع الْمُسلمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاخْتلف النَّاس فِي قَول الْمُسلم أَنا مُؤمن فروينا عَن ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من أَصْحَابه الأفاضل وَمن بعده من الْفُقَهَاء أَنه كره ذَلِك وَكَانَ يَقُول أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَقَالَ بَعضهم آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَكَانُوا يَقُولُونَ من قَالَ أَنا مُؤمن فَلْيقل إِنَّه من أهل الْجنَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا ابْن مَسْعُود وَأَصْحَابه حجج فِي اللُّغَة فَأَيْنَ جهال المرجئة المموهون فِي نصر بدعتهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل عندنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن هَذِه صفة يعلمهَا الْمَرْء من نَفسه فَإِن كَانَ يدْرِي أَنه مُصدق بِاللَّه عز وَجل وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا أَتَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه يقر بِلِسَانِهِ بِكُل ذَلِك فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بذلك كَمَا أَمر تَعَالَى إِذْ قَالَ تَعَالَى {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} وَلَا نعْمَة أوكد وَلَا أفضل وَلَا أولى بالشكر من نعْمَة الْإِسْلَام فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يَقُول أَنا مُؤمن مُسلم قطعا عِنْد الله تَعَالَى فِي وقتي هَذَا وَلَا فرق بَين قَوْله أَنا مُؤمن مُسلم وَبَين قَوْله أَنا أسود أَو أَنا أَبيض وَهَكَذَا سَائِر صِفَاته الَّتِي لَا يشك فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الامتداح وَالْعجب فِي شَيْء لِأَنَّهُ فرض عَلَيْهِ أَن يحقن دَمه بِشَهَادَة التَّوْحِيد قَالَ تَعَالَى {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} وَقَول ابْن مَسْعُود عندنَا صَحِيح لِأَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان اسمان منقولان عَن موضوعهما فِي اللُّغَة إِلَى جَمِيع الْبر والطاعات فَإِنَّمَا منع ابْن مَسْعُود من القَوْل بِأَنَّهُ مُسلم مُؤمن على معنى أَنه مستوف لجَمِيع الطَّاعَات وَهَذَا صَحِيح وَمن ادّعى لنَفسِهِ هَذَا فقد كذب بِلَا شكّ وَمَا منع رَضِي الله عَنهُ من أَن يَقُول الْمَرْء أَنِّي مُؤمن بِمَعْنى مُصدق كَيفَ وَهُوَ يَقُول قل آمَنت بِاللَّه وَرُسُله أَي صدقت وَأما من قَالَ فَقل أَنَّك فِي الْجنَّة فَالْجَوَاب أننا نقُول إِن متْنا على مَا نَحن عَلَيْهِ الْآن فَلَا بُد لنا من الْجنَّة بِلَا شكّ وبرهان ذَلِك أَنه قد صَحَّ من نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع أَن من آمن بِاللَّه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا جَاءَ بِهِ أَو لم يَأْتِ بِمَا هُوَ كفر فَإِنَّهُ فِي الْجنَّة إِلَّا أننا لَا نَدْرِي مَا يفعل بِنَا فِي الدُّنْيَا وَلَا نَأْمَن مكر الله تَعَالَى وَلَا إضلاله وَلَا كيد الشَّيْطَان وَلَا نَدْرِي مَاذَا نكسب غَدا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي تَسْمِيَة المذنب من أهل ملتنا فَقَالَت المرجئة هُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان وَإِن لم يعْمل خيرا قطّ وَلَا كف عَن شَرّ قطّ وَقَالَ بكر بن أُخْت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 عبد الْوَاحِد بن زيد هُوَ كَافِر مُشْرك كعابد الوثن بِأَيّ ذَنْب كَانَ مِنْهُ صَغِيرا أَو كَبِيرا وَلَو فعله على سَبِيل المزاح وَقَالَت الصغرية إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ مُشْرك كعابد الوثن وَإِن كَانَ الذَّنب صَغِيرا فَلَيْسَ كَافِرًا وَقَالَت الأباضية إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ كَافِر نعْمَة تحل موارثته ومناكحته وَأكل ذَبِيحَته وَلَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن صَاحب الْكَبِير مُنَافِق وَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ فَاسق لَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا وَلَا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وَأكل ذَبِيحَته قَالُوا وَإِن كَانَ من الصَّغَائِر فَهُوَ مُؤمن لَا شَيْء عَلَيْهِ فِيهَا وهب أهل السّنة من أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفُقَهَاء إِلَى أَنه مُؤمن فَاسق نَاقص الْإِيمَان وَقَالُوا الْإِيمَان اسْم معتقده وَإِقْرَاره وَعلمه الصَّالح وَالْفِسْق اسْم عمله السيء إِلَّا أَن بَين السّلف مِنْهُم وَالْخلف اخْتِلَافا فِي تَارِك الصَّلَاة عمدا حَتَّى يخرج وَقتهَا وتارك الصَّوْم لَو مضى كَذَلِك وتارك الزَّكَاة وتارك الْحَج كَذَلِك وَفِي قَاتل الْمُسلم عمدا وَفِي شَارِب الْخمر وفيمن سبّ نَبيا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وفيمن رد حَدِيثا قد صَحَّ عِنْده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فروينا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ومعاذ بن جبل وَابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَعَن ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق ابْن رَاهْوَيْةِ رَحْمَة الله عَلَيْهِم وَعَن تَمام سَبْعَة عشر رجلا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَن من ترك صَلَاة فرض عَامِدًا ذَاكِرًا حَتَّى يخرج وَقتهَا فَإِنَّهُ كَافِر مُرْتَد وَبِهَذَا يَقُول عبد الله بن الْمَاجشون صَاحب مَالك وَبِه يَقُول عبد الْملك بن حبيب الأندلسي وَغَيره وروينا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مثل ذَلِك فِي تَارِك الْحَج وَعَن ابْن عَبَّاس وَغير مثل ذَلِك فِي تَارِك الزَّكَاة وَالصِّيَام وَفِي قَاتل الْمُسلم عمدا وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي شَارِب الْخمر وَعَن اسحق بن رَاهْوَيْةِ أَن من رد صَحِيحا عِنْده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كفر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج من كفر من المذنبين بقول الله عز وَجل {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} فصح أَن من لم يكذب وَلَا تولى أَلا يصلاها قَالُوا وَوجدنَا هَؤُلَاءِ كلهم لم يكذبوا وَلَا توَلّوا بل هم مصدقون معترفون بِالْإِيمَان فصح أَنهم لَا يصلونها وَأَن المُرَاد بالوعيد الْمَذْكُور فِي الْآيَات المنصوصة إِنَّمَا هُوَ فعل تِلْكَ الأفاعيل من الْكفَّار خَاصَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أَيْضا من كفر من ذكرنَا بِأَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر وَلَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَلَا ينهب نهبة ذَات شَرّ حِين ينهبها وَهُوَ مُؤمن وَترك الصَّلَاة شرك وَإِن كفرا بكم أَن ترغبوا عَن آبائكم وَمثل هَذَا كثير قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا نعلم لمن قَالَ وَهُوَ مُنَافِق حجَّة أصلا وَلَا لمن قَالَ أَنه كَافِر نعْمَة إِلَّا أَنهم نزعوا بقول الله عز وَجل {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن كفر النِّعْمَة عمل يَقع من الْمُؤمن وَالْكَافِر وَلَيْسَ هُوَ مِلَّة وَلَا اسْم دين فَمن ادّعى اسْم دين وملة غير الْإِيمَان الْمُطلق وَالْكفْر الْمُطلق فقد أَتَى بِمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَأما من قَالَ هُوَ فَاسق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر فَمَا لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا أَنهم قَالُوا قد صَحَّ الْإِجْمَاع على انه فَاسق لِأَن الْخَوَارِج قَالُوا هُوَ كَافِر فَاسق وَقَالَ غَيرهم هُوَ مُؤمن فَاسق فاتفقوا على الْفسق فَوَجَبَ القَوْل بذلك وَلم يتفقوا على إيمَانه وَلَا على كفره فَلم يجز القَوْل بذلك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خلاف لإِجْمَاع من ذكر لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُم أحد جعل الْفسق اسْم دينه وَإِنَّمَا سموا بذلك عمله وَالْإِجْمَاع والنصوص قد صَحَّ كل ذَلِك على أَنه لَا دين إِلَّا الْإِسْلَام أَو الْكفْر من خرج من أَحدهمَا دخل فِي الآخر وَلَا بُد إِذْ لَيْسَ بَينهمَا وسيطة وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم وَهَذَا حَدِيث قد أطبق جَمِيع الْفرق المنتمية إِلَى الْإِسْلَام على صِحَّته وعَلى القَوْل بِهِ فَلم يَجْعَل عَلَيْهِ السَّلَام دينا غير الْكفْر وَالْإِسْلَام وَلم يَجْعَل هَاهُنَا دينا ثَالِثا اصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الْمُعْتَزلَة أَيْضا بِأَن قَالَت الله تَعَالَى {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون} فصح أَن هَؤُلَاءِ الَّذين سماهم الله تَعَالَى مجرمين وفساقاً وأخرجهم عَن الْمُؤمنِينَ نصا فَإِنَّهُم لَيْسُوا على دين الْإِسْلَام وَإِذا لم يَكُونُوا على دين الْإِسْلَام فهم كفار بِلَا شكّ إِذْ لَا دين هَا هُنَا غَيرهمَا أصلا برهَان هَذَا قَوْله تَعَالَى {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَقد علمنَا ضَرُورَة أَنه لَا دَار إِلَّا الْجنَّة أَو النَّار وَأَن الْجنَّة لَا يدخلهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُسلمُونَ فَقَط وَنَصّ الله تَعَالَى على أَن النَّار لَا يدخلهَا إِلَّا المكذب الْمُتَوَلِي وَالْمُتوَلِّيّ المكذب كَافِر بِلَا خلاف فَلَا يخلد فِي النَّار إِلَّا كَافِر وَلَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن فصح أَنه لَا دين إِلَّا الْإِيمَان وَالْكفْر فَقَط وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَهَؤُلَاءِ الَّذين سماهم الله عز وَجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عَن الْمُؤمنِينَ فهم كفار مشركون لَا يجوز غير ذَلِك وَقَالَ الْمُؤمن مَحْمُود محسن ولي الله عز وَجل والمذنب مَذْمُوم مسيء عَدو لله قَالُوا وَمن الْمحَال أَن يكون إِنْسَان وَاحِد مَحْمُودًا مذموماً محسناً مسيئاً عدوا لله وليا لَهُ مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي أنكروه لَا نكرَة فِيهِ بل هُوَ أَمر مَوْجُود مشَاهد فَمن أحسن من وَجه وأساء من وَجه آخر كمن صلى ثمَّ زنى فَهُوَ محسن مَحْمُود ولي الله فِيمَا أحسن فِيهِ من صَلَاة وَهُوَ مسيء مَذْمُوم عَدو لله فِيمَا أَسَاءَ فِيهِ من الزِّنَا قَالَ عز وَجل {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} فبالضرورة نَدْرِي أَن الْعَمَل الَّذِي شهد الله عز وَجل أَنه سيء فَإِن عَامله فِيهِ مَذْمُوم مسيء عَاص لله تَعَالَى ثمَّ يُقَال لَهُم مَا تَقولُونَ إِن عارضتكم المرجئة بكلامكم نَفسه فَقَالُوا من الْمحَال أَن يكون إِنْسَان وَاحِد مَحْمُودًا مذموماً محسناً مسيئا عَدو لله وليا لَهُ مَعًا ثمَّ أَرَادوا تَغْلِيب الْحَمد وَالْإِحْسَان وَالْولَايَة وَإِسْقَاط الذَّم والإساءة والعداوة كَمَا أردتم أَنْتُم بِهَذِهِ الْقَضِيَّة نَفسهَا تَغْلِيب الذَّم والإساءة والعداوة وَإِسْقَاط الْحَمد وَالْإِحْسَان وَالْولَايَة بِمَا ينفصلون عَنْهُم فَإِن قَالَت الْمُعْتَزلَة أَن الشَّرْط فِي حَمده وإحسانه وولايته أَن تجتنب الْكَبَائِر قُلْنَا لَهُم فَإِن عارضتكم المرجئة فَقَالَت أَن الشَّرْط فِي ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شَهَادَة التَّوْحِيد فَإِن قَالَت الْمُعْتَزلَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 أَن الله قد ذمّ الْمعاصِي وتوعد عَلَيْهَا قيل لَهُم فَإِن المرجئة تَقول لكم أَن الله تَعَالَى قد حمد الْحَسَنَات ووعد عَلَيْهَا وَأَرَادَ بذلك تَغْلِيب الْحَمد كَمَا أردتم تَغْلِيب الذَّم فَإِن ذكرْتُمْ آيَات الْوَعيد ذكرُوا آيَات الرَّحْمَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا مخلص للمعتزلة مِنْهُ وَلَا للمرجئة أَيْضا فوضح بِهَذَا أَن كلا الطَّائِفَتَيْنِ مخطئة وَأَن الْحق هُوَ جمع كل مَا تعلّقت بِهِ كلتا الطَّائِفَتَيْنِ من النُّصُوص الَّتِي فِي الْقُرْآن وَالسّنَن وَيَكْفِي من هَذَا كُله قَول الله عز وَجل {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وَقَوله تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَقَوله تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل أَتَيْنَا بهَا وَكفى بِنَا حاسبين} فصح بِهَذَا كُله أَنه لَا يُخرجهُ عَن اسْم الْإِيمَان إِلَّا الْكفْر وَلَا يُخرجهُ عَن اسْم الْكفْر إِلَّا الْإِيمَان وَأَن الْأَعْمَال حسنها حسن إِيمَان وقبيحها قَبِيح لَيْسَ إِيمَانًا والموازنة تقضي على كل ذَلِك وَلَا يحبط الْأَعْمَال إِلَّا الشّرك قَالَ تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَقَالُوا إِذا أقررتم أَن أَعمال الْبر كلهَا إِيمَانًا وَأَن الْمعاصِي لَيست أيماناً فَهُوَ عنْدكُمْ مُؤمن غير مُؤمن قُلْنَا نعم وَلَا نكرَة فِي ذَلِك وَهُوَ مُؤمن بِالْعَمَلِ الصَّالح غير مُؤمن بِالْعَمَلِ السيء كَمَا نقُول محسن بِمَا أحسن فِيهِ مسيء غير محسن مَعًا بِمَا أَسَاءَ فِيهِ وَلَيْسَ وَلَيْسَ الْإِيمَان عندنَا التَّصْدِيق وَحده فيلزمنا التَّنَاقُض وَهَذَا هُوَ معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن أَي لَيْسَ مُطيعًا فِي زِنَاهُ ذَلِك وَهُوَ مُؤمن بِسَائِر حَسَنَاته وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ} فَفرق تَعَالَى بَين الْفسق وَالْإِيمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد نعم وَقد أوضحنا أَن الْإِيمَان هُوَ كل عمل صَالح فبيقين نَدْرِي أَن الْفسق لَيْسَ إِيمَانًا فَمن فسق فَلم يُؤمن بذلك الْعَمَل الَّذِي هُوَ الْفسق وَلم يقل عز وَجل إِنَّه لَا يُؤمن فِي شَيْء من سَائِر أَعماله وَقد قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} فهولاء قدشهد الله تَعَالَى لَهُم بِالْإِيمَان فَإِذا وَقع مِنْهُم فسق لَيْسَ إِيمَانًا فَمن الْمحَال أَن يبطل فسقه إيمَانه فِي سَائِر أَعماله وَأَن يبطل إيمَانه فِي سَائِر الْأَعْمَال فسقه بل شَهَادَة الله تَعَالَى لَهُ بِالْإِيمَان فِي جهاده حق وَبِأَنَّهُ لم يُؤمن فِي فسقه حق أَيْضا فَإِن الله عز وَجل قَالَ {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} فَيلْزم الْمُعْتَزلَة أَن يصرحوا بِكفْر كل عَاص وظالم وفاسق لِأَن كل عَامل بالمعصية فَلم يحكم بِمَا أنزل الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَنَقُول إِن كل من كفر فَهُوَ فَاسق ظَالِم عَاص وَلَيْسَ كل فَاسق ظَالِم عَاص كَافِرًا بل يكون مُؤمنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى الوفيق وَقد قَالَ تَعَالَى {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم} فبعض الظُّلم مغْفُور بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا قد وَجب لعن الْفُسَّاق والظالمين وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا لعنة الله على الظَّالِمين} وَالْمُؤمن يجب ولَايَته وَالدُّعَاء لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّارِق وَمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 لعن أَبَاهُ وَمن غير منار الأَرْض فيلزمكم أَن تدعوا على الْمَرْء الْوَاحِد باللعنة وَالْمَغْفِرَة مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول أَن الْمُؤمن الْفَاسِق يتَوَلَّى دينه وملته وعقده وَإِقْرَاره ويتبرأ من عمله الَّذِي هُوَ الْفسق وَالْبَلَاء وَالْولَايَة لَيست من عين الْإِنْسَان مُجَرّدَة فَقَط وَإِنَّمَا هِيَ لَهُ أَو مِنْهُ بِعَمَلِهِ الصَّالح أَو الْفَاسِد فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فبيقين نَدْرِي أَن المحسن فِي بعض أَفعاله من الْمُؤمنِينَ نتولاه من أجل مَا أحسن فِيهِ ونبرأ من عمله السيء فَقَط وَأما الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يتَوَلَّى عمله الصَّالح عِنْده ويعادي علمه الْفَاسِد وَأما الدُّعَاء باللعنة وَالرَّحْمَة مَعًا فلسنا ننكره بل هُوَ معنى صَحِيح وَمَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى قطّ وَلَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهي أَن يلعن العَاصِي على مَعْصِيَته ويترحم عَلَيْهِ لإحسانه وَلَو أَن امْرأ زنى أَو سرق وَحَال الْحول على مَاله وجاهد لوَجَبَ أَن يحد للزِّنَا وَالسَّرِقَة وَلَو لعن لأحسن لَا عَنهُ وَيُعْطِي نصِيبه من الْمغنم ونقبض زَكَاة مَاله وَنُصَلِّي عَلَيْهِ عِنْد ذَلِك لقَوْل الله {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وبيقين نَدْرِي أَنه قد كَانَ فِي أُولَئِكَ الَّذين كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يقبض صَدَقَاتهمْ وَيُصلي عَلَيْهِم مذنبون عصاة لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَخْلُو جَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من عَاص وَكَذَلِكَ كل من مَاتَ فِي عصره عَلَيْهِ السَّلَام وَصلى عَلَيْهِ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام والمسلمون مَعَه وَبعده فبيقين نَدْرِي أَنه قد كَانَ فيهم مذنب بِلَا شكّ وَإِذا صلى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَإِن ذكر عمله الْقَبِيح وَلعن وذم قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال نَفسه فِي أَصْحَاب الصَّغَائِر الَّذين يُوقع عَلَيْهِم الْمُعْتَزلَة اسْم الْإِيمَان فَهَذِهِ السؤالات كلهَا لَازِمَة لَهُم إِذْ الصَّغَائِر ذنُوب ومعاص بِلَا شكّ إِلَّا أننا لَا نوقع عَلَيْهَا اسْم فسق وَلَا ظلم إِذا انْفَرَدت عَن الْكَبَائِر لِأَن الله تَعَالَى ضمن غفرانها لمن اجْتنب الْكَبَائِر وَمن غفر لَهُ ذَنبه فَمن الْمحَال أَن يُوقع عَلَيْهِ اسْم فَاسق أَو اسْم ظَالِم لِأَن هذَيْن اسمان يسقطان قبُول الشَّهَادَة مجتنب الْكَبَائِر وَإِن تستر بالصغاير فشهادته مَقْبُولَة لِأَنَّهُ لَا ذَنْب لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلنَا على الْمُعْتَزلَة الزامات أَيْضا تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عَلَيْهَا عِنْد نقضنا أَقْوَال المكفرة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِه نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ إِن صَاحب الْكَبِيرَة كَافِر قَالَ الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فأتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} فابتدأ الله عز وَجل بخطاب أهل الْإِيمَان من كَانَ فيهم من قَاتل أَو مقتول وَنَصّ تَعَالَى على أَن الْقَاتِل عمدا وَولي الْمَقْتُول أَخَوان وَقد قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة} فصح أَن الْقَاتِل عمدا مُؤمن بِنَصّ الْقُرْآن وَحكمه لَهُ بأخوة الْإِيمَان وَلَا يكون للْكَافِرِ مَعَ الْمُؤمن بِتِلْكَ الْأُخوة وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة فأصلحوا بَين أخويكم وَاتَّقوا الله} فَهَذِهِ الْآيَة رَافِعَة للشَّكّ جملَة فِي قَوْله تَعَالَى إِن الطَّائِفَة الباغية على الطَّائِفَة الْأُخْرَى من الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُور سَائِر الْمُؤمنِينَ بقتالها حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله تَعَالَى أخوة للْمُؤْمِنين المقاتلين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَهَذَا أَمر لَا يضل عَنهُ إِلَّا ضال وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ حجَّة قَاطِعَة أَيْضا على الْمُعْتَزلَة أَيْضا المسقطة اسْم الْإِيمَان عَن الْقَاتِل وعَلى كل من أسقط عَن صَاحب الْكَبَائِر اسْم الْإِيمَان وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَنه تَعَالَى إِنَّمَا جعلهم إِخْوَاننَا إِذا تَابُوا لِأَن نَص الْآيَة أَنهم إخْوَان فِي حَال الْبَغي وَقبل الفئة إِلَى الْحق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم أَن هَذَا الاقتتال إِنَّمَا هُوَ التضارب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ فَاحش لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان وَتَخْصِيص الْآيَة بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِلَا شكّ وَالثَّانِي أَن ضرب الْمُسلم للْمُسلمِ ظلما وبغياً فسق ومعصية وَوجه ثَالِث وَهُوَ أَن الله تَعَالَى لَو لم يرد الْقِتَال الْمَعْهُود لما أمرنَا بِقِتَال من لَا يزِيد على الملاطمة وَقد عَم تَعَالَى فِيهَا باسم الْبَغي بِكُل بغي فَهُوَ دَاخل تَحت هَذَا الحكم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكرُوا قَول الله عز وَجل {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ الْآيَة بظاهرها دون تَأْوِيل حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَن الْقَاتِل الْعَامِد لَيْسَ مُؤمنا وَإِنَّمَا فِيهَا نهي الْمُؤمن عَن قتل الْمُؤمن عمدا فَقَط لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا} وَهَكَذَا نقُول لَيْسَ لِلْمُؤمنِ من قتل الْمُؤمن عمدا ثمَّ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا خطأ} فاستثنى عز وَجل الْخَطَأ فِي الْقَتْل من جملَة مَا حرم من قتل الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ لِأَنَّهُ لَا يجوز النَّهْي عَمَّا لَا يُمكن الِانْتِهَاء عَنهُ وَلَا يقدر عَلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أمننا من أَن يكلفنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وكل فعل خطأ فَلم ننه عَنهُ بل قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة وَكَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض فَهُوَ أَيْضا على ظَاهره وَإِنَّمَا فِي هَذَا اللَّفْظ النَّهْي عَن أَن يرتدوا بعده إِلَى الْكفْر فيقتتلوا فِي ذَلِك فَقَط وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ أَن الْقَاتِل كَافِر وَلَا فِيهِ أَيْضا النَّهْي عَن الْقَتْل الْمُجَرّد أصلا وَإِنَّمَا نهى عَنهُ فِي نُصُوص أخر من الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ أَيْضا نهي عَن الزِّنَا وَلَا عَن السّرقَة وَلَيْسَ فِي كل حَدِيث حكم كل شَرِيعَة فَبَطل تعلقهم بِهَذَا الْخَبَر وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر فَهُوَ أَيْضا على عُمُومه لِأَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْمُسلم هَاهُنَا عُمُوم للْجِنْس وَلَا خلاف فِي أَن من نابذ جَمِيع الْمُسلمين وَقَاتلهمْ لإسلامهم فَهُوَ كَافِر برهَان هَذَا هُوَ مَا ذكرنَا من قبل من نَص الْقُرْآن فِي أَن الْقَاتِل عمدا والمقاتل مُؤْمِنَانِ وَكَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يتعارض وَلَا يخْتَلف وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ كفر لكم أَن ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل كفر مِنْكُم وَلم يقل أَنه كفر بِاللَّه تَعَالَى نعم وَنحن نقر أَن من رغب عَن أَبِيه فقد كفر بِأَبِيهِ وجحده وَيُقَال لمن قَالَ أَن صَاحب الْكَبِير لَيْسَ مُؤمنا وَلكنه كَافِر أَو فَاسق ألم يقل الله عز وَجل {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يؤمنَّ وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَفِي سُورَة النِّسَاء محصنات غير مصافحات فَهَذِهِ آيَات فِي غَايَة الْبَيَان فِي أَنه لَيْسَ فِي الأَرْض إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر أَو مُؤمنَة أَو كَافِرَة وَلَا يُوجد دين ثَالِث وَأَن المؤمنة حَلَال نِكَاحهَا لِلْمُؤمنِ وَحرَام نِكَاحهَا على الْكَافِر وَأَن الْكِتَابِيَّة حَلَال لِلْمُؤمنِ بالزواج وللكافر فخبرونا إِذا زنت الْمَرْأَة وَهِي غير مُحصنَة أَو وَهِي مُحصنَة أَو إِذا سرقت أَو شربت الْخمر أَو قذفت أَو أكلت مَال يَتِيم أَو تَعَمّدت ترك الْغسْل حَتَّى خُرُوج وَقت الصَّلَاة وَهِي عَالِمَة بذلك أَو لم تخرج زَكَاة مَالهَا فَكَانَت عنْدكُمْ بذلك كَافِرَة أَو بريئة من الْإِسْلَام خَارِجَة عَن الْإِيمَان وخارجة من جملَة الْمُؤمنِينَ أَيحلُّ لِلْمُؤمنِ الْفَاضِل ابْتِدَاء نِكَاحهَا والبقاء مَعهَا على الزَّوْجِيَّة إِن كَانَ قد تزَوجهَا قبل ذَلِك أَو يحرم على أَبِيهَا الْفَاضِل أَو أَخِيهَا الْبر أَن يَكُونَا لَهَا وليين فِي تَزْوِيجهَا وأخبرونا إِذا زنى الرجل أَو سرق أَو قذف أَو أكل مَال يَتِيم أَو فر من الزَّحْف أَو سحر أَو ترك صَلَاة عمدا حَتَّى خرج وَقتهَا أَو لم يخرج زَكَاة مَاله فَصَارَ بذلك عنْدكُمْ كَافِرًا أَو بَرِيئًا من الْإِسْلَام وَخرج عَن الْإِيمَان وَعَن جملَة الْمُؤمنِينَ أيحرم عَلَيْهِ ابْتِدَاء نِكَاح امْرَأَة مُؤمنَة أَو وَطْؤُهَا بِملك الْيَمين أَو تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته المؤمنة الَّتِي فِي عصمته فينفسخ نِكَاحهَا مِنْهُ أَو يحرم عَلَيْهِ أَن يكون وليا لابنته المؤمنة أَو أُخْته المؤمنة فِي تَزْوِيجهَا وَهل يحرم على الَّتِي ذكرنَا وَالرجل الَّذِي ذكرنَا مِيرَاث وليهما الْمُؤمن أَو يحرم على وليهما الْمُؤمن ميراثهما أَو يحرم أكل ذَبِيحَته لِأَنَّهُ قد فَارق الْإِسْلَام فِي زعمكم وَخرج عَن جملَة الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم كلهم لَا يَقُولُونَ بِشَيْء من هَذَا فَمن الْخلاف الْمُجَرّد مِنْهُم لله تَعَالَى أَن يحرم الله تَعَالَى المؤمنة على من لَيْسَ بِمُؤْمِن فيحلونها هم وَيحرم الله تَعَالَى الَّتِي لَيست مُؤمنَة على الْمُؤمن أَلا أَن تكون كِتَابِيَّة فيحلونها هم وَيقطع الله تَعَالَى الْولَايَة بَين الْمُؤمن وَمن لَيْسَ مُؤمنا فيبقونها فِي الْإِنْكَاح وَيحرم تَعَالَى ذَبَائِح من لَيْسَ مُؤمنا إِلَّا أَن يكون كتابياً فيحلونها هم وَيقطع عز وَجل الموارثة بَين الْمُؤمن وَمن لَيْسَ مُؤمنا فيثبتونها هم وَمن خَالف الْقُرْآن وَثَبت على ذَلِك بعد قيام الْحجَّة عَلَيْهِ فَنحْن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأكْثر هَذِه الْأُمُور الَّتِي ذكرنَا فَإِنَّهُ لَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِيهَا وَلَا بَين فرقة من الْفرق المنتمية إِلَى الْإِسْلَام وَفِي بَعْضهَا خلاف نشِير إِلَيْهِ لِئَلَّا يظنّ ظان أننا أغفلناه فَمن ذَلِك الْخلاف فِي الزَّانِي والزانية فَإِن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يفْسخ النِّكَاح قبل الدُّخُول بِوُقُوعِهِ من أَحدهمَا وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من السّلف لَا يجيزون للزاني ابْتِدَاء نِكَاح مَعَ مسلمة الْبَتَّةَ وَلَا للزانية أَيْضا إِلَّا أَن يتوبا وَبِهَذَا نقُول نَحن لَيْسَ لِأَنَّهُمَا ليسَا مُسلمين بل هما مسلمان وَلكنهَا شَرِيعَة من الله تَعَالَى وَارِدَة فِي الْقُرْآن فِي ذَلِك كَمَا يحرم على الْمحرم النِّكَاح مَا دَامَ محرما وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذِه الْآيَة أَيْضا نَص جلي على أَن الزَّانِي والزانية ليسَا مُشْرِكين لِأَن الله تَعَالَى فرق بَينهمَا فرقا لَا يحْتَمل الْبَتَّةَ أَن يكون على سَبِيل التَّأْكِيد بل على أَنَّهُمَا صفتان مُخْتَلِفَتَانِ وَإِذا لم مُشْرِكين فهما ضَرُورَة مسلمان لما قد بَينا قبل من أَن كل كَافِر فَهُوَ مُشْرك وكل مُشْرك فَهُوَ كَافِر وكل من لم يكن كَافِرًا مُشْركًا فَهُوَ مُؤمن إِذْ لَا سَبِيل إِلَى دين ثَالِث وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْخلاف فِي بعض مَا ذكرنَا قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن الْمُسلم إِذا ارْتَدَّ والمسلمة إِذا لم يسلم زَوجهَا فَهِيَ امْرَأَته كَمَا كَانَت إِلَّا أَنه لَا يَطَؤُهَا وَرُوِيَ عَن عمر أَيْضا أَنَّهَا تخير فِي الْبَقَاء مَعَه أَو فِرَاقه وكل هَذَا لَا حجَّة فِيهِ وَلَا حجَّة إِلَّا فِي نَص الْقُرْآن أَو سنة وَارِدَة عَن رَسُول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل قد أَمر بقتل الْمُشْركين جملَة وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا إِلَّا كتابياً يغرم الْجِزْيَة مَعَ الصغار أَو رَسُولا حَتَّى يُؤَدِّي رسَالَته وَيرجع لي مَاء مِنْهُ مستجيراً ليسمع كَلَام الله تَعَالَى ثمَّ يبلغ إِلَى مأمنه وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قَالَ بِأَن صَاحب الْكَبِيرَة قد خرج من الْإِيمَان وَبَطل إِسْلَامه وَصَارَ فِي دين آخر إِمَّا الْكفْر وَإِمَّا الْفسق إِذا كَانَ الزَّانِي وَالْقَاتِل السَّارِق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزَّحْف وآكل مَال الْيَتِيم قد خرج عَن الْإِسْلَام وَترك دينه أيقتلونه كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا يقتلونه ويخالفون الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن قَوْلهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أَنهم لَا يقتلونه وَأما فِي بعض ذَلِك حُدُود مَعْرُوفَة من قطع يدا وَجلد مائَة أَو ثَمَانِينَ وَفِي بعض ذَلِك أدب فَقَط وَأَنه لَا يحل الدَّم بِشَيْء من ذَلِك وَهَذَا انْقِطَاع ظَاهر وَبطلَان لقَولهم لَا خَفَاء بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبَعض شَاذَّة الْخَوَارِج جسر فَقَالَ تُقَام الْحُدُود عَلَيْهِم ثمَّ يستتابون فيقتلون قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خلاف الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَخلاف لِلْقُرْآنِ مُجَرّد لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فقد حرم الله تَعَالَى قَتلهمْ وافترض استبقاءهم مَعَ إصرارهم وَلم يَجْعَل فيهم إِلَّا رد شَهَادَتهم فَقَط وَلَو جَازَ قَتلهمْ فَكيف كَانُوا يؤدون شَهَادَة لَا تقبل بعد قَتلهمْ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله عز وَجل {لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من الغي فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا خلاف بَيْننَا وَبينهمْ وَلَا بَين أحد من الْأمة فِي أَن من كفر بالطاغوت وآمن بِاللَّه واستمسك بالعروة الوثقى الَّتِي لَا انفصام لَهَا فَإِنَّهُ مُؤمن مُسلم فَلَو كَانَ الْفَاسِق غير مُؤمن لَكَانَ كَافِرًا وَلَا بُد وَلَو كَانَ كَافِرًا لَكَانَ مُرْتَدا يجب قَتله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ الله عز وَجل {مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين} فَوَجَبَ يَقِينا بِأَمْر الله عز وَجل أَن لَا يتْرك يعمر مَسَاجِد الله بِالصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ وَكلهمْ مُتَّفق مَعنا على أَن الْفَاسِق صَاحب الْكَبَائِر مدعُو مُلْزم عمَارَة الْمَسَاجِد بِالصَّلَاةِ مجبر على ذَلِك وَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا على ذَلِك وعَلى تَركهم يصلونَ مَعنا وإلزامهم أَدَاء الزَّكَاة وَأَخذهَا مِنْهُم وإلزامهم صِيَام رَمَضَان وَحج الْبَيْت برهَان وَاضح لَا إِشْكَال فِيهِ على أَنه لم يخرج عَن دين الْمُؤمنِينَ وَأَنه مُسلم مُؤمن وَقَالَ عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهدى} إِلَى قَوْله تعال {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ} فخاطب تَعَالَى الْمُؤمنِينَ باياس الْكَافرين عَن دينهم وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} فصح أَن لَا دين إِلَّا دين الْإِسْلَام وَمَا عداهُ شَيْء غير مَقْبُول وَصَاحبه يَوْم الْقِيَامَة خاسر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ عز وَجل {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فصح يَقِينا أَنه لَيْسَ فِي النَّاس وَلَا فِي الْجِنّ إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فَمن خرج عَن أَحدهمَا دخل فِي الْآخِرَة فنسألهم عَن رجل من الْمُسلمين فسق وجاهر بالكبائر وَله أختَان إِحْدَاهمَا نَصْرَانِيَّة وَالثَّانيَِة مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هَذَا الْفَاسِق وليا فِي النِّكَاح ووارثاً وَعَن امْرَأَة سرقت وزنت وَلها ابْنا عَم أَحدهمَا يَهُودِيّ وَالْآخر مُسلم فَاضل أَيهمَا يحل لَهُ نِكَاحهَا وَهَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ وَلَا خَفَاء بِهِ فصح أَن صَاحب الْكَبَائِر مُؤمن وَقَالَ الله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} فأخبرونا أتأمرون الزَّانِي وَالسَّارِق والقاذف وَالْقَاتِل بِالصَّلَاةِ وتؤدبونه أَن لم يصل أم لَا فَمن قَوْلهم نعم وَلَو قَالُوا لخالفوا الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن فَنَقُول لَهُم أفتأمرونه بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أم بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَبِمَا يُمكن أَن يقبله الله تَعَالَى أم بِمَا يُوقن أَنه لَا يقبله فَإِن قَالُوا نأمره لَيْسَ عَلَيْهِ بِمَا ظهر تناقضهم إِذْ لَا يجوز أَن يلْزم أحد مَا لَا يلْزمه وَإِن قَالُوا بل بِمَا عَلَيْهِ قطعُوا بِأَنَّهُ مُؤمن لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا وَإِن قَالُوا نأمره بِمَا لَا يُمكن أَن يقبل مِنْهُ أحالوا إِذْ من الْمحَال أَن يُؤمر أحد بِعَمَل هُوَ على يَقِين من أَنه لَا يقبل مِنْهُ وَإِن قَالُوا بل نأمره بِمَا نرجو أَن يقبل مِنْهُ قُلْنَا صَدقْتُمْ وَقد صَحَّ بِهَذَا أَن الْفَاسِق من الْمُتَّقِينَ فِيمَا عمل من عمل صَالح فَقَط وَمن الْفَاسِقين فِيمَا عمل من الْمعاصِي ونسألهم أيأمرون صَاحب الْكَبِيرَة بتمتيع الْمُطلقَة إِن طَلقهَا أم لَا فَإِن قَالُوا نأمره بذلك لَزِمَهُم أَنه من الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول فِي الْمُتْعَة حَقًا على الْمُحْسِنِينَ وَحقا على الْمُتَّقِينَ فصح أَن الْفَاسِق محسن فِيمَا عمل من صَالح ومسيء فِيمَا عمل من سيئ فَإِن قَالُوا إِن الصَّلَاة عَلَيْهِ كَمَا هِيَ عنْدكُمْ على الْكفَّار أَجْمَعِينَ قُلْنَا لَا سَوَاء لِأَنَّهَا وَإِن كَانَ الْكَافِر وَغير الْمُتَوَضِّئ وَالْجنب مأمورين بِالصَّلَاةِ معذبين على تَركهَا فَإنَّا لَا نتركهم يقيمونها أصلا بل نمنعهم مِنْهَا حَتَّى يسلم الْكَافِر وَيتَوَضَّأ الْمُحدث ويغتسل الْجنب وَيتَوَضَّأ أَو يتَيَمَّم وَلَيْسَ كَذَلِك الْفَاسِق بل تجبره على إِقَامَتهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ من أحد إِلَّا أَن الجبائي المعتزلي وَمُحَمّد بن الطّيب الباقلاني ذَهَبا من بَين جَمِيع الْأمة إِلَى أَن من كَانَت لَهُ ذنُوب فَإِنَّهُ لَا تقبل لَهُ تَوْبَة من شَيْء مِنْهَا حَتَّى يَتُوب من الْجَمِيع واتبعهما على ذَلِك قوم وَقد ناظرنا بَعضهم فِي ذَلِك ولزمناهم أَن يوجبوا على كل من أذْنب ذَنبا وَاحِدًا أَن يتْرك الصَّلَاة الْفَرْض وَالزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْجُمُعَة وَالْحج وَالْجهَاد لِأَن إِقَامَة كل ذَلِك تَوْبَة إِلَى الله من تَركهَا فَإِذا كَانَت تَوْبَته لَا تقبل من شَيْء حَتَّى يَتُوب من كل ذَنْب لَهُ فَإِنَّهُ لَا يقبل لَهُ تَوْبَة من ترك صَلَاة وَلَا من ترك صَوْم وَلَا من ترك زَكَاة حَتَّى يَتُوب من كل ذَنْب لَهُ وَهَذَا خلاف لجَمِيع الْأمة إِن قَالُوهُ أَو تنَاقض إِن لم يقولوه مَعَ أَنه قَول لَا دَلِيل لَهُم على تَصْحِيحه أصلا وَمَا كَانَ هَذَا فَهُوَ بَاطِل قَالَ الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} فصح يَقِينا بِهَذَا اللَّفْظ أَن فِينَا غير عدل وَغير صَالح وهما منا وَنحن مُؤمنُونَ فَهُوَ مُؤمن بِلَا شكّ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تَابُوا} يَعْنِي من الشّرك {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين} وَهَذَا نَص جلي على أَن من صلى من أهل شَهَادَة الْإِسْلَام وزكى فَهُوَ أخونا فِي الدّين وَلم يقل تَعَالَى مَا لم يَأْتِ بكبيرة فصح أَنه منا وَإِن أَتَى بالكبائر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {مذبذبين بَين ذَلِك لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} وَقَوله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم} وراموا بذلك إِثْبَات أَنه لَا مُؤمن وَلَا كَافِر فَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك الْمُنَافِقين المبطنين للكفر المظهرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 لِلْإِسْلَامِ فهم لَا مَعَ الْكفَّار وَلَا مِنْهُم وَلَا إِلَيْهِم لِأَن هَؤُلَاءِ يظهرون الْإِسْلَام وَأُولَئِكَ لَا يظهرونه وَلَا هم مَعَ الْمُسلمين وَلَا مِنْهُم وَلَا إِلَيْهِم لإبطانهم الْكفْر وَلَيْسَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ أَنهم لَيْسُوا كفَّارًا وَقد قَالَ عز وَجل {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} فصح يَقِينا أَنهم كفار لَا مُؤمنُونَ أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيُقَال لمن قَالَ أَن صَاحب الْكَبِيرَة مُنَافِق مَا معنى هَذِه الْكَلِمَة فجوابهم الَّذِي لَا جَوَاب لأحد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غَيره هُوَ أَن الْمُنَافِق من كَانَ النِّفَاق صفته وَمعنى النِّفَاق فِي الشَّرِيعَة هُوَ إِظْهَار الْإِيمَان وإبطان الْكفْر فَيُقَال لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يعلم مَا فِي النَّفس إِلَّا الله تَعَالَى ثمَّ تِلْكَ النَّفس الَّتِي ذَلِك الشَّيْء فِيهَا فَقَط وَلَا يجوز أَن نقطع على اعْتِقَاد أحد الْكفْر إِلَّا بِإِقْرَارِهِ بِلِسَانِهِ بالْكفْر وبوحي من عِنْد الله تَعَالَى وَمن تعاطى علم مَا فِي النُّفُوس فقد تعاطى علم الْغَيْب وَهَذَا خطأ مُتَيَقن يعلم بِالضَّرُورَةِ وحسبك من القَوْل سقوطاً أَن يُؤَدِّي إِلَى الْمحَال الْمُتَيَقن وَقد قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قلبه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس وَقد ذكر الله تَعَالَى الْمُنَافِقين فَقَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ} {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} فَإِذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعرف الْمُنَافِقين وهم مَعَه وَهُوَ يراهم ويشاهد أفعالهم فَمن بعده أَحْرَى أَن لَا يعلمهُمْ وَلَقَد كَانَ الزناة على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّرِقَة وشراب الْخمر ومضيعوا فرض الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة والقاتلون عمدا والقذفة فَمَا سمى عَلَيْهِ السَّلَام قطّ أحدا مِنْهُم منافقين بل أَقَامَ الْحُدُود فِي ذَلِك وتوعد بحرق الْمنَازل وَأمر لَدَيْهِ وَالْعَفو وأبقاهم فِي جملَة الْمُؤمنِينَ وَأبقى عَلَيْهِم حكم الْإِيمَان وَاسِعَة وَقد قُلْنَا إِن التَّسْمِيَة فِي الشَّرِيعَة لله عز وَجل لَا لأحد دونه وَلم يَأْتِ قطّ عَن الله عز وَجل تَسْمِيَة صَاحب الْكَبِيرَة منافقاً فَإِن قَالُوا قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَقد ذكر خِصَالًا من كن فِيهِ كَانَ منافقاً خَالِصا وَإِن صَامَ وَصلى وَقَالَ إِنِّي مُسلم وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام تِلْكَ الْخِصَال فَمِنْهَا إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا ائْتمن خَان وَإِذا عَاهَدَ غدر وَإِذا خَاصم فجر وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَن من كَانَت بِهِ خصْلَة مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خصْلَة من النِّفَاق حَتَّى يَدعهَا قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أخبرناك أَن الْمُنَافِق هُوَ من أظهر شَيْئا وأبطن خِلَافه مَأْخُوذ فِي أصل اللُّغَة من نافقاء اليربوع وَهُوَ بَاب فِي جَانب جُحْره مَفْتُوح قد غطاه بِشَيْء من تُرَاب وَهَذِه الْخلال كلهَا الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا بَاطِن صَاحبهَا بِخِلَاف مَا يظْهر فَهُوَ مُنَافِق هَذَا النَّوْع من النِّفَاق وَلَيْسَ هُوَ النِّفَاق الَّذِي يظنّ صَاحبه الْكفْر بِاللَّه برهَان ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا من إِجْمَاع الْأمة على أَخذ زَكَاة مَال كل من وصف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنفاق وعَلى إنكاحه ونكاحها إِن كَانَت امْرَأَة وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وَتَركه يُصَلِّي مَعَ الْمُسلمين وعَلى تَحْرِيم دَمه وَمَاله وَلَو تَيَقنا أَنه يبطن الْكفْر لوَجَبَ قَتله وَحرم إنكاحه ونكاحها وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وَلم نتركه يُصَلِّي مَعَ الْمُسلمين وَلَكِن تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وَجل الذِّرَاع كفَّارًا إِذْ يَقُول تَعَالَى {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} لِأَن أصل الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية فَمن ستر شَيْئا فَهُوَ كَافِر وأصل النِّفَاق فِي اللُّغَة سترشيء وَإِظْهَار خِلَافه فَمن ستر شَيْئا وَأظْهر خِلَافه فَهُوَ مُنَافِق فِيهِ وَلَيْسَ هَذَانِ من الْكفْر الديني وَلَا من النِّفَاق الشَّرْعِيّ فِي شَيْء وَبِهَذَا تتألف الْآيَات وَالْأَحَادِيث كلهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نقُول لمن قَالَ بِهَذَا القَوْل هَل أتيت بكبيرة قطّ فَإِن قَالَ لَا قيل لَهُ هَذَا القَوْل كَبِيرَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 لِأَنَّهُ تَزْكِيَة وَقد نهى الله عز وَجل عَن ذَلِك فَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} وَقد علمنَا أَنه لَا يعرى أحد من ذَنْب إِلَّا الْمَلَائِكَة والنبيين صلى الله عَلَيْهِم وَسلم وَأما من دونهم فَغير مَعْصُوم بل قد اخْتلف النَّاس فِي عصمَة الْمَلَائِكَة والنبيين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِن كُنَّا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الْمَلَائِكَة ذَنبا صَغِيرا أَو كَبِيرا بعمد أَو خطأ من جوز على أحد من النَّبِيين ذَنبا بعمد صَغِيرا أَو كَبِيرا لَكنا أعلمنَا أَنه لم يتَّفق على ذَلِك قطّ وَإِن قَالَ بلَى قد كَانَ لي كَبِيرَة قيل لَهُ هَل كنت فِي حَال مواقفك الْكَبِيرَة شاكاً فِي الله عز وَجل أَو فِي رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو كَافِرًا بهما أم كنت موقناً بِاللَّه تَعَالَى وبالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِمَا أَتَى بِهِ موقناً بأنك مسيء مُخطئ فِي ذَنْبك فَإِن قَالَ كنت كَافِرًا أَو شاكاً فَهُوَ أعلم بِنَفسِهِ وَيلْزمهُ أَن يُفَارق امْرَأَته وَأمته المسلمتين وَلَا يَرث من مَاتَ لَهُ من الْمُسلمين ثمَّ بعد ذَلِك لَا يجوز لَهُ أَن يقطع على غَيره من المذنبين بِمثل اعْتِقَاده فِي الْجحْد وَنحن نعلم بِالضَّرُورَةِ كذب دَعْوَاهُ وندري أننا فِي حِين مَا كَانَ منا ذَنْب مُؤمنُونَ بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن قَالَ بل كنت مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال ذَنبي قيل لَهُ هَذَا إبِْطَال مِنْك لِلْقَوْلِ بالنفاق وَالْقطع بِهِ على المذنبين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا دون مُخْتَلف من أحد مِنْهُم على أَن صَاحب الْكَبِيرَة مَأْمُور بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُسلمين وبصوم شهر رَمَضَان وَالْحج وبأخذ زَكَاة مَاله وَإِبَاحَة مناكحته وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وبتركه يتَزَوَّج الْمَرْأَة الْمسلمَة الفاضلة ويبتاع الْأمة الْمسلمَة الفاضلة ويطأها وَتَحْرِيم دَمه وَمَاله وَأَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُ جِزْيَة وَلَا يصغر برهَان صَحِيح على أَنه مُسلم مُؤمن وَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا دون مُخَالف على تَحْرِيم قبُول شَهَادَته وَخَبره برهَان على أَنه فَاسق فصح يَقِينا أَنه مُؤمن فَاسق نَاقص الْإِيمَان عَن الْمُؤمن الَّذِي لَيْسَ بفاسق قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} فَأَما من قَالَ أَنه كَافِر نعْمَة فَمَا لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا آن بَعضهم نزع بقول الله تَعَالَى {الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن نَص الْآيَة مُبْطل لقَولهم لِأَن الله تَعَالَى يَقُول مُتَّصِلا بقوله {وَبئسَ الْقَرار وَجعلُوا لله أنداداً ليضلوا عَن سَبيله} فصح أَن الْآيَة فِي الْمُشْركين بِلَا شكّ وَأَيْضًا فقد يكفر الْمَرْء نعْمَة الله وَلَا يكون كَافِرًا بل مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى كَافِرًا لَا نعْمَة بمعاصيه لَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِيمَن يكفر وَلَا يكفر قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن من خالفهم فِي شَيْء من مسَائِل الِاعْتِقَاد أَو فِي شَيْء من مسَائِل الْفتيا فَهُوَ كَافِر وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه كَافِر فِي بعض ذَلِك فَاسق غير كَافِر فِي بعضه على حسب مَا أدتهم إِلَيْهِ عُقُولهمْ وظنونهم وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن من خالفهم فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد فَهُوَ كَافِر وَأَن من خالفهم فِي مسَائِل الْأَحْكَام والعبادات فَلَيْسَ كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا وَلكنه مُجْتَهد مَعْذُور إِن أَخطَأ مأجور بنيته وَقَالَت طَائِفَة بِمثل هَذَا فِيمَن خالفهم فِي مسَائِل الْعِبَادَات وَقَالُوا فِيمَن خالفهم فِي مسَائِل الاعتقادات أَن كل الْخلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 فِي صِفَات الله عز وَجل فَهُوَ كَافِر وَإِن كَانَ فِيمَا دون ذَلِك فَهُوَ فَاسق وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يكفر وَلَا يفسق مُسلم بقول قَالَه فِي اعْتِقَاد أَو فتيا وَإِن كل من اجْتهد فِي شَيْء من ذَلِك فدان بِمَا رأى أَنه الْحق فَإِنَّهُ مأجور على كل حَال أَن أصَاب الْحق فأجران وَإِن أَخطَأ فأجر وَاحِد وَهَذَا قَول ابْن أبي ليلِي وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَدَاوُد بن عَليّ رَضِي الله عَن جَمِيعهم وَهُوَ قَول كل من عرفنَا لَهُ قولا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا نعلم مِنْهُم فِي ذَلِك خلافًا أصلا إِلَّا مَا ذكرنَا من اخْتلَافهمْ فِي تَكْفِير من ترك صَلَاة مُتَعَمدا حَتَّى خرج وَقتهَا أَو ترك أَدَاء الزَّكَاة أَو ترك الْحَج أَو ترك صِيَام رَمَضَان أَو شرب الْخمر وَاحْتج من كفر بِالْخِلَافِ فِي الاعتقادات بأَشْيَاء نوردها إِن شَاءَ الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكرُوا حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْقَدَرِيَّة والمرجئية مجوس بِهَذِهِ الْأمة وحديثاً آخر تفترق هَذِه الْأمة على بضع وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار حاشى وَاحِدَة فَهِيَ فِي الْجنَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَانِ حديثان لَا يصحان أصلا من طَرِيق الْإِسْنَاد وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ حجَّة عِنْد من يَقُول بِخَبَر الْوَاحِد فَكيف من لَا يَقُول بِهِ وَاحْتَجُّوا بالْخبر الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بالْكفْر أَحدهمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن لَفظه يَقْتَضِي أَنه يلثم برميه للكفر وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنه بذلك كَافِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْجُمْهُور من المحتجين بِهَذَا الْخَبَر لَا يكفرون من قَالَ لمُسلم يَا كَافِر فِي مشاتمة تجْرِي بَينهمَا وَبِهَذَا خالفوا الْخَبَر الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْحق هُوَ أَن كل من ثَبت لَهُ عقد الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يَزُول عَنهُ إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع وَأما بِالدَّعْوَى والافتراء فَلَا فَوَجَبَ أَن لَا يكفر أحد بقول قَالَه إِلَّا بِأَن يُخَالف مَا قد صَحَّ عِنْده أَن الله تَعَالَى قَالَه أَو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فيستجيز خلاف الله تَعَالَى وَخلاف رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي عقد دين أَو فِي نحلة أَو فِي فتيا وَسَوَاء كَانَ مَا صَحَّ من ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْقُولًا نقل إِجْمَاع تواتروا أَو نقل آحَاد إِلَّا أَن من خَالف الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع على صِحَّته فَهُوَ أظهر فِي قطع حجَّته وَوُجُوب تكفيره لِاتِّفَاق الْجَمِيع على معرفَة الْإِجْمَاع وعَلى تَكْفِير مُخَالفَته برهَان صِحَة قَوْلنَا قَول الله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} قَالَت أَبُو مُحَمَّد هَذِه الْآيَة نَص بتكفير من فعل ذَلِك فَإِن قَالَ قَائِل أَن من اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَلَيْسَ من الْمُؤمنِينَ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَيْسَ كل من اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ كَافِرًا لِأَن الزِّنَا وَشرب الْخمر وَأكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ لَيست من سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَقد علمنَا أَن من اتبعها فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ مَعَ ذَلِك كَافِرًا وَلَكِن الْبُرْهَان فِي هَذَا قَول الله عز وَجل {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا هُوَ النَّص الَّذِي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَلَا جَاءَ نَص يُخرجهُ عَن ظَاهره أصلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَلَا جَاءَ برهَان بتخصيصه فِي بعض وُجُوه الْإِيمَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأماما لم تقم الْحجَّة على الْمُخَالف للحق فِي أَي شَيْء كَانَ فَلَا يكون كَافِرًا إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بتكفيره فَيُوقف عِنْده كمن بلغه وَهُوَ فِي أقاصي الزنج ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط فَيمسك عَن الْبَحْث عَن خَبره فَإِنَّهُ كَافِر فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ أَنا أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَا أَدْرِي أهوَ قرشي أم تميمي أم فَارسي وَلَا هَل كَانَ بالحجاز أَو بخراسان وَلَا أَدْرِي أَحَي هُوَ أَو ميت وَلَا أَدْرِي لَعَلَّه هَذَا الرجل الْحَاضِر أم غَيره قيل لَهُ إِن كَانَ جَاهِلا لَا علم عِنْده بِشَيْء من الْأَخْبَار وَالسير لم يضرّهُ ذَلِك شَيْئا وَوَجَب تَعْلِيمه فَإِذا علم وَصَحَّ عِنْده الْحق فَإِن عاند فَهُوَ كَافِر حَلَال دَمه وَمَاله مَحْكُوم عَلَيْهِ بِحكم الْمُرْتَد وَقد علمنَا أَن كثيرا مِمَّن يتعاطى الْفتيا فِي دين الله عز وَجل نعم وَكَثِيرًا من الصَّالِحين لَا يدْرِي كم لمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَيْن كَانَ وَلَا فِي أَي بلد كَانَ ويكفيه من كل ذَلِك إِقْرَاره بِقَلْبِه وَلسَانه أَن رجلا اسْمه مُحَمَّد أرْسلهُ الله تَعَالَى إِلَيْنَا بِهَذَا الدّين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ من قَالَ أَن ربه جسم فَإِنَّهُ إِن كَانَ جَاهِلا أَو متا وَلَا فَهُوَ مَعْذُور لَا شَيْء عَلَيْهِ وَيجب تَعْلِيمه فَإِذا قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة من الْقُرْآن وَالسّنَن فَخَالف مَا فيهمَا عناداً فَهُوَ كَافِر يحكم عَلَيْهِ بِحكم الْمُرْتَد وَأما من قَالَ أَن الله عز وَجل هُوَ فلَان لإِنْسَان بِعَيْنِه أَو أَن الله تَعَالَى يحل فِي جسم من أجسام خلقه أَو أَن بعد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبيا غير عِيسَى بن مَرْيَم فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف اثْنَان فِي تكفيره لصِحَّة قيام الْحجَّة بِكُل هَذَا على كل أحد وَلَو أمكن أَن يُوجد أحد يدين بِهَذَا لم يبلغهُ قطّ خِلَافه لما وَجب تكفيره حَتَّى تقوم الْحجَّة عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من كفر النَّاس بِمَا تؤول إِلَيْهِ أَقْوَالهم فخطأ لِأَنَّهُ كذب على الْخصم وتقويل لَهُ مَا لم يقل بِهِ وَإِن لزمَه فَلم يحصل على غير التَّنَاقُض فَقَط والتناقض لَيْسَ كفرا بل قد أحسن إِذْ فر من الْكفْر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ للنَّاس قَول إِلَّا ومخالف ذَلِك القَوْل يلْزم خَصمه الْكفْر فِي فَسَاد قَوْله وطرده فالمعتزلة تنْسب إِلَيْنَا تجوير الله عز وَجل وتشبيهه بخلقه وَنحن ننسب إِلَيْهِم مثل ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء ونلزمهم أَيْضا تعجيز الله عز وَجل وَأَنَّهُمْ يَزْعمُونَ أَنهم يخلقون كخلقه وَأَن لَهُ شُرَكَاء فِي الْخلق وَأَنَّهُمْ مستغنون عَن الله عز وَجل وَمن أثبت الصِّفَات يُسَمِّي من نفاها بَاقِيَة لأَنهم قَالُوا تَعْبدُونَ غير الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى لَهُ صِفَات وَأَنْتُم تَعْبدُونَ من لَا صفة لَهُ وَلَا نفى الصِّفَات يَقُول لمن أثبتها أَنْتُم تَجْعَلُونَ مَعَ الله عز وَجل أَشْيَاء لم تزل وتشركون بِهِ غَيره وتعبدون غير الله لِأَن الله تَعَالَى لَا أحد مَعَه وَلَا شَيْء مَعَه فِي الْأَزَل وَأَنْتُم تَعْبدُونَ شيا من جملَة أَشْيَاء لم تزل وَهَكَذَا فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ حَتَّى فِي الْكَوْن والجزء وَحَتَّى فِي مسَائِل الْأَحْكَام والعبادات فأصحاب الْقيَاس يدعونَ علينا خلاف الْإِجْمَاع وأصحابنا يثبتون عَلَيْهِم خلاف الْإِجْمَاع وإحداث شرائع لم يَأْذَن الله عز وَجل بهَا وكل فرقة فَهِيَ تنتقي بِمَا تسميها بِهِ الْأُخْرَى وتكفر من قَالَ شَيْئا من ذَلِك فصح أَنه لَا يكفر أحد إِلَّا بِنَفس قَوْله وَنَصّ معتقده وَلَا ينْتَفع أحد بِأَن يعبر عَن معتقده بِلَفْظ يحسن بِهِ قبحه لَكِن الْمَحْكُوم بِهِ هُوَ مُقْتَضى قَوْله فَقَط وَأما الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَن ترك الصَّلَاة شرك فَلَا تصح من طَرِيق الْإِسْنَاد وَأما الْأَخْبَار الَّتِي فِيهَا من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة فقد جَاءَت أَحَادِيث أخر بِزِيَادَة على هَذَا الْخَبَر لَا يجوز ترك تِلْكَ الزِّيَادَة وَهِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله ويؤمنوا بِمَا أرْسلت بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا إِيمَان لأحد بِدُونِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج بعض من يكفر من سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بقول الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} إِلَى قَوْله {ليغيظ بهم الْكفَّار} قَالَ فَكل من أغاظه أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أَخطَأ من حمل الْآيَة على هَذَا لِأَن الله عز وَجل لم يقل قطّ أَن كل من غاظه وَاحِد مِنْهُم فَهُوَ كَافِر وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى أَنه يغِيظ بهم الْكفَّار فَقَط وَنعم هَذَا حق لَا يُنكره مُسلم وكل مُسلم فَهُوَ يغِيظ الْكفَّار وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يشك أحد ذُو حس سليم فِي أَن عليا قد غاظ مُعَاوِيَة وَأَن مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ غاظا عليا وَأَن عمار أغاظ أَبَا العادية وَكلهمْ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد غاظ بَعضهم بَعْضًا فَيلْزم على هَذَا تَكْفِير من ذكرنَا وحاشى لله من هَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول لمن كفر إنْسَانا بِنَفس مقَالَته دون أَن تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة فيعاند رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويجد فِي نَفسه الْحَرج مِمَّا أَتَى بِهِ أخبرنَا هَل ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا من الْإِسْلَام الَّذِي يكفر من لم يقل بِهِ إِلَّا وَقد بَينه ودعا إِلَيْهِ النَّاس كَافَّة فَلَا بُد من نعم وَمن أنكر هَذَا كَافِر بِلَا خلاف فَإِذا أقرّ بذلك سُئِلَ هَل جَاءَ قطّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يقبل إِيمَان أهل قَرْيَة أوأهل محلّة أَو إِنْسَان أَتَاهُ من حر أَو عبدا لَو امْرَأَة إِلَّا حَتَّى يقر إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل أَو مَعَ الْفِعْل أَو أَن الْقُرْآن مَخْلُوق أَو أَن الله تَعَالَى يرى أَو لَا يرى أَو أَن لَهُ سمعا أَو بصرا أَو حَيَاة أَو غير ذَلِك من فضول الْمُتَكَلِّمين الَّتِي أوقعهَا الشَّيْطَان بَينهم ليوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء فَإِن ادّعى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدع أحدا يسلم إِلَّا حَتَّى يوقفه على هَذِه الْمعَانِي كَانَ قد كذب بِإِجْمَاع الْمُسلمين من أهل الأَرْض وَقَالَ مَا يدْرِي أَنه فِيهِ كَاذِب وَادّعى أَن جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تواطؤا على كتمان ذَلِك من فعله عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا الْمحَال مُمْتَنع فِي الطبيعة ثمَّ فِيهِ نِسْبَة الْكفْر إِلَيْهِم إِذْ كتموا مَا لَا يتم إِسْلَام أحد إِلَّا بِهِ وَإِن قَالُوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدع قطّ أحد إِلَى شَيْء من هَذَا وَلكنه مُودع فِي الْقُرْآن وَفِي كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ صدقت وَقد صَحَّ بِهَذَا أَنه لَو كَانَ جهل شَيْء من هَذَا كُله كفرا لما ضيع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان ذَلِك للحره وَالْعَبْد وَالْحر وَالْأمة وَمن جوز هَذَا فقد قَالَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبلغ كَمَا أَمر وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه فصح ضَرُورَة أَن الْجَهْل بِكُل ذَلِك لَا يضر شَيْئا وَإِنَّمَا يلْزم الْكَلَام مِنْهَا إِذا خَاضَ فِيهَا النَّاس فَيلْزم حِينَئِذٍ بَيَان الْحق من الْقُرْآن وَالسّنة لقَوْل الله عز وَجل {كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} وَلقَوْل الله عز جلّ {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} فَمن عِنْد حِينَئِذٍ بعد بَيَان الْحق فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ لم يحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا سلم لما قضى بِهِ وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا لم يعْمل خيرا قطّ فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت قَالَ لأَهله إِذا مت فأحرقوني ثمَّ ذَروا رمادي فِي يَوْم رَاح نصفه فِي الْبَحْر وَنصفه فِي الْبر فوَاللَّه لَئِن قدر الله تَعَالَى عَليّ ليعذبني عذَابا لم يعذبه أحدا من خلقه وَأَن الله عز جلّ جمع رماده فأحياه وَسَأَلَهُ مَا حملك على ذَلِك قَالَ خوفك يَا رب وَأَن الله تَعَالَى غفر لَهُ لهَذَا القَوْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا إِنْسَان جهل إِلَى أَن مَاتَ أَن الله عز وَجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وَقد غفر لَهُ لإِقْرَاره وخوفه وجهله وَقد قَالَ بعض من يحرف الْكَلم عَن موَاضعه أَن معنى لَئِن قدر الله عَليّ إِنَّمَا هُوَ لَئِن ضيق الله عَليّ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل لَا يُمكن لِأَنَّهُ كَانَ يكون مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ لَئِن ضيق الله عَليّ ليضيقن عَليّ وَأَيْضًا فَلَو كَانَ هَذَا لما كَانَ لأَمره بِأَن يحرق ويذر رماده معنى وَلَا شكّ فِي أَنه إِنَّمَا أمره بذلك ليفلت من عَذَاب الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأبين من شَيْء فِي هَذَا قَول الله تَعَالَى {إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} إِلَى قَوْله {ونعلم إِن قد صدقتنا} فَهَؤُلَاءِ الحواريون الَّذين أثنى الله عز وَجل عَلَيْهِم قد قَالُوا بِالْجَهْلِ لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء وَلم يبطل بذلك إِيمَانهم وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يكفرون لَو قَالُوا ذَلِك بعد قيام الْحجَّة وتبيينهم لَهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ لَا خلاف فِيهِ وَهُوَ أَن الْأمة مجمعة كلهَا بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم وَهُوَ أَن كل من بدل آيَة من الْقُرْآن عَامِدًا وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا فِي الْمَصَاحِف بِخِلَاف ذَلِك وَأسْقط كلمة عمدا كَذَلِك أَو زَاد فِيهَا كلمة عَامِدًا فَإِنَّهُ كَافِر بِإِجْمَاع الْأمة كلهَا ثمَّ أَن الْمَرْء يُخطئ فِي التِّلَاوَة فيزيد كلمة وَينْقص أُخْرَى ويبدل كَلَامه جَاهِلا مُقَدرا أَنه مُصِيب ويكابر فِي ذَلِك ويناظر قبل أَن يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَلَا يكون بذلك عِنْد أحد من الْأمة كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا وَلَا آثِما فَإِذا وقف على الْمَصَاحِف أَو أخبرهُ بذلك من الْقُرَّاء من تقوم الْحجَّة بِخَبَرِهِ فَإِن تَمَادى على خطاه فَهُوَ عِنْد الْأمة كلهَا كَافِر بذلك لَا محَالة وَهَذَا هُوَ الحكم الْجَارِي فِي جَمِيع الدّيانَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج بَعضهم بِأَن قَالَ الله تَعَالَى {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَآخر هَذِه الْآيَة مُبْطل لتأويلهم لِأَن الله عز وَجل وصل قَوْله يحسنون صنعا بقوله {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم ولقائه فحبطت أَعْمَالهم فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا ذَلِك جزاؤهم جَهَنَّم بِمَا كفرُوا وَاتَّخذُوا آياتي ورسلي هزوا} فَهَذَا يبين أَن أول الْآيَة فِي الْكفَّار الْمُخَالفين لديانة الْإِسْلَام جملَة ثمَّ نقُول لَهُم لَو نزلت هَذِه الْآيَة فِي المتأولين من جملَة أهل الْإِسْلَام كَمَا تَزْعُمُونَ لدخل فِي جُمْلَتهَا كل متأول مُخطئ فِي تَأْوِيل فِي فتيا لزمَه تَكْفِير جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لأَنهم قد اخْتلفُوا وبيقين نَدْرِي أَن كل امرء مِنْهُم فقد يُصِيب ويخطئ بل يلْزمه تَكْفِير جَمِيع الْأمة لأَنهم كلهم لَا بُد من ان يُصِيب كل امْرِئ مِنْهُم ويخطئ بل يلْزمه تَكْفِير نَفسه لِأَنَّهُ لَا بُد لكل من تكلم فِي شَيْء من الدّيانَة من أَن يرجع عَن قَول قَالَه إِلَى قَول آخر يتَبَيَّن أَنه أصح إِلَّا أَن يكون مُقَلدًا فَهَذِهِ أَسْوَأ لِأَن التَّقْلِيد خطأ كُله لَا يَصح وَمن بلغ إِلَى هَا هُنَا فقد لَاحَ غوامر قَوْله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد أقرّ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يفهم آيَة الْكَلَالَة فَمَا كفره بذلك وَلَا فسقه وَلَا أخبرهُ أَنه آثم بذلك لَكِن أغْلظ لَهُ فِي كَثْرَة تكراره السُّؤَال عَنْهَا فَقَط وَكَذَلِكَ أَخطَأ جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفتيا فَبَلغهُ عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك فَمَا كفر بذلك أحد مِنْهُم وَلَا فسقه وَلَا جعله بذلك إِثْمًا لِأَنَّهُ لم يعانده عَلَيْهِ السَّلَام أحد مِنْهُم وَهَذَا كفتيا أبي السنابل بن بعكعك فِي آخر الْأَجَليْنِ وَالَّذين أفتوا على الزَّانِي غير الْمُحصن الرَّجْم وَقد تقصينا هَذَا فِي كتَابنَا المرسوم بِكِتَاب الْأَحْكَام فِي أصُول الْأَحْكَام هَذَا وَأَيْضًا فَإِن الْآيَة الْمَذْكُورَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 لَا تخرج على قَول أحد مِمَّن خَالَفنَا إِلَّا بِحَذْف وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ أَن الَّذين فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} هُوَ خَبرا ابْتِدَاء مُضْمر وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِحَذْف الِابْتِدَاء كَأَنَّهُ قَالَ هم الَّذين وَلَا يجوز لأحد أَن يَقُول فِي الْقُرْآن حذفا إِلَّا بِنَصّ أخر جلي يُوجب ذَلِك أَو إِجْمَاع على ذَلِك أَو ضَرُورَة حس فَبَطل قَوْلهم وَصَارَ دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَأما نَحن فَإِن لَفْظَة الدّين عندنَا على موضوعها دون حذف وَهُوَ نعت للأخسرين وَيكون خَبرا لابتداء قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء إِلَّا أَنهم هم الْكَاذِبُونَ} فَنعم هَذِه صفة الْقَوْم الَّذين وَصفهم الله تَعَالَى بِهَذَا فِي أول الْآيَة ورد الضَّمِير إِلَيْهِم وهم الْكفَّار بِنَصّ أول الْآيَة وَقَالَ قَائِلهمْ فَإِذا عذرتم للمجتهدين إِذا أخطأوا فأعذروا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَسَائِر الْملَل فَإِنَّهُم أَيْضا مجتهدون قاصدون الْخَيْر فجوابنا وَالله تَعَالَى التَّوْفِيق إننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا وَلَا كفرنا من كفرنا بظننا وَهُوَ أَنا وَهَذِه خطة لم يؤتها الله عز وَجل أحد دونه وَلَا يدْخل الْجنَّة وَالنَّار أحدا بل الله تَعَالَى يدخلهَا من شَاءَ فَنحْن لَا نسمي بِالْإِيمَان إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى بِهِ كل ذَلِك على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يخْتَلف اثْنَان من أهل الأَرْض لَا نقُول من الْمُسلمين بل من كل مِلَّة فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع بالْكفْر على أهل كل مِلَّة غير الْإِسْلَام الَّذين تَبرأ أَهله من كل مِلَّة حاشى الَّتِي أَتَاهُم بهَا عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط فوقفنا عِنْد ذَلِك وَلَا يخْتَلف أَيْضا اثْنَان فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع باسم الْإِيمَان على كل من اتبعهُ وَصدق بِكُل مَا جَاءَ بِهِ وتبرأ من كل دين سوى ذَلِك فوقفنا أَيْضا عِنْد ذَلِك وَلَا مزِيد فَمن جَاءَ نَص فِي إِخْرَاجه عَن الْإِسْلَام بعد حُصُول اسْم الْإِسْلَام لَهُ أخرجناه مِنْهُ سَوَاء أجمع على خُرُوجه مِنْهُ أَو لم يجمع وَكَذَلِكَ من أجمع أهل الْإِسْلَام على خُرُوجه عَن الْإِسْلَام فَوَاجِب اتِّبَاع الْإِجْمَاع فِي ذَلِك وَأما من لَا نَص فِي خُرُوجه عَن الْإِسْلَام بعد حُصُول الْإِسْلَام لَهُ وَلَا إِجْمَاع فِي خُرُوجه أَيْضا عَنهُ فَلَا يجوز إِخْرَاجه عَمَّا قد صَحَّ يَقِينا حُصُوله فِيهِ وَقد نَص الله تَعَالَى على مَا قُلْنَا فَقَالَ {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَقَالَ تَعَالَى {ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} وَقَالَ تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} فَهَؤُلَاءِ كلهم كفار بِالنَّصِّ وَصَحَّ الْإِجْمَاع على أَن كل من جحد شَيْئا صَحَّ عندنَا بِالْإِجْمَاع أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِهِ فقد كفر وَصَحَّ بِالنَّصِّ أَن كل من اسْتَهْزَأَ بِاللَّه تَعَالَى أَو بِملك من الْمَلَائِكَة أَو بِنَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَو بِآيَة من الْقُرْآن أَو بفريضة من فَرَائض الدّين فَهِيَ كلهَا آيَات الله تَعَالَى بعد بُلُوغ الْحجَّة إِلَيْهِ فَهُوَ كَافِر وَمن قَالَ بِنَبِي بعد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو جحد شَيْئا صَحَّ عِنْده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ لم يحكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا شجر بَينه وَبَين خَصمه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد شقق أَصْحَاب الْكَلَام فَقَالُوا مَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم صل فَقَالَ لَا أفعل أَو قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناولني ذَلِك السَّيْف أدفَع بِهِ عَن نَفسِي فَقَالَ لَهُ لَا أفعل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَمر قد كفوا وُقُوعه وَلَا فضول أعظم من فضول من اشْتغل بِشَيْء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 قد أَيقَن أَنه لَا يكون أبدا وَلَكِن الَّذِي كَانَ وَوَقع فإننا نتكلم فِيهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد أَمر زِيَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل أهل الأَرْض وهم أهل الْحُدَيْبِيَة بِأَن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حَتَّى أَمرهم ثَلَاثًا وَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام وشكا ذَلِك إِلَى أم سَلمَة فَمَا كفرُوا بذلك وَلَكِن كَانَت مَعْصِيّة تداركهم الله بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَمَا قَالَ مُسلم قطّ أَنهم كفرُوا بذلك لأَنهم لم يعاندوه وَلَا كذبوه وَقد قَالَ سعد بن عبَادَة وَالله يَا رَسُول الله لِأَن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حَتَّى آتى بأَرْبعَة شُهَدَاء قَالَ نعم قَالَ إِذن وَالله يقْضِي إربه وَالله لَا تجللنهما للسيف فَلم يكن بذلك كَافِرًا إِذْ لم يكن عانداً وَلَا مُكَذبا بل أقرّ أَنه يدْرِي أَن الله تَعَالَى أَمر بِخِلَاف ذَلِك وسألوا أَيْضا عَمَّا قَالَ أَنا أَدْرِي أَن الْحَج إِلَى مَكَّة فرض وَلَكِن لَا أَدْرِي أَهِي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وَأَنا أَدْرِي أَن الْخِنْزِير حرَام وَلَكِن لَا أَدْرِي أهوَ هَذَا الْمَوْصُوف الأقرن أم الَّذِي يحرث بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجوابنا هُوَ أَن من قَالَ هَذَا فَإِن كَانَ جَاهِلا علم وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَإِن المشببين لَا يعْرفُونَ هَذَا إِذا أَسْلمُوا حَتَّى يعلمُوا وَإِن كَانَ عَالما فَهُوَ عابث مستهزئ بآيَات الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر مُرْتَد حَلَال الدَّم وَالْمَال وَمن قذف عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَهُوَ كَافِر لتكذيبه الْقُرْآن وَقد قَذفهَا مسطح وَحمْنَة فَلم يكفرا لِأَنَّهُمَا لم يَكُونَا حِينَئِذٍ مكذبين لله تَعَالَى وَلَو قذفاها بعد نزُول الْآيَة لكفر وَأما من سبّ أحدا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِن كَانَ جَاهِلا فمعذور وَإِن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة فتمادى غير معاند فَهُوَ فَاسق كمن زنى وسرق وَإِن عاند الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حَاطِب وحاطب مهَاجر يدْرِي دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق فَمَا كَانَ عمر بتكفيره حَاطِبًا كَافِرًا بل كَانَ مخطئاً متأولاً وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة النِّفَاق بغض الْأَنْصَار وَقَالَ لعَلي لَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن أبْغض الْأَنْصَار لأجل نصرتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ وجد الْحَرج فِي نَفسه مِمَّا قد قضى الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِظْهَار الْإِيمَان بِأَيْدِيهِم وَمن عادى عليا لمثل ذَلِك فَهُوَ أَيْضا كَافِر وَكَذَلِكَ من عادى من ينصر الْإِسْلَام لأجل نصْرَة الْإِسْلَام لَا لغير ذَلِك وَقد فرق بَعضهم بَين الِاخْتِلَاف فِي الْفتيا وَالِاخْتِلَاف فِي الِاعْتِقَاد بِأَن قَالَ قد اخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفتيا فَلم يكفر بَعضهم بَعْضًا وَلَا فسق بَعضهم بَعْضًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء فقد حدث إِنْكَار الْقدر فِي أيامهم فَمَا كفرهم أَكثر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقد اخْتلفُوا فِي الْفتيا على ذَلِك وسفكت الدِّمَاء كاختلافهم فِي تَقْدِيم بيعَة عَليّ على النّظر فِي قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من شَاءَ بأهلته عِنْد الْحجر الْأسود أَن الَّذِي أحصى رمل عالج لم يَجْعَل فِي فَرِيضَة وَاحِدَة نصفا وَنصفا وَثلثا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهنا أَقْوَال غَرِيبَة جدا فَاسِدَة مِنْهَا أَن أَقْوَامًا من الْخَوَارِج قَالُوا كل مَعْصِيّة فِيهَا حد فَلَيْسَتْ كفرا وكل مَعْصِيّة لَاحَدَّ فِيهَا فَهِيَ كفر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تحكم بِلَا برهَان وَدَعوى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل قَالَ تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على قَوْله فَلَيْسَ صَادِقا فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا قُلْنَا أَن كل من كَانَ على غير الْإِسْلَام وَقد بلغه أَمر الْإِسْلَام فَهُوَ كَافِر وَمن تَأَول من أهل الْإِسْلَام فَأَخْطَأَ فَإِن كَانَ لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة وَلَا تبين لَهُ الْحق فَهُوَ مَعْذُور مأجور آجرا وَاحِدًا لطلبه الْحق وقصده إِلَيْهِ مغْفُور لَهُ خَطؤُهُ إِذْ لم يعتمده لقَوْل الله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَإِن كَانَ مصيباً فَلهُ أَجْرَانِ أجر لإصابته وَأجر آخر لطلبه إِيَّاه وَإِن كَانَ قد قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ وَتبين لَهُ الْحق فَعِنْدَ عَن الْحق غير معَارض لَهُ تَعَالَى وَلَا لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ فَاسق لجراءته على الله تَعَالَى بإصراره على الْأَمر الْحَرَام فَإِن عِنْد عَن الْحق مُعَارضا لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر مُرْتَد حَلَال الدَّم وَالْمَال لَا فرق فِي هَذِه الْأَحْكَام بَين الْخَطَأ فِي الِاعْتِقَاد فِي أَي شَيْء كَانَ من الشَّرِيعَة وَبَين الْخَطَأ فِي الْفتيا فِي أَي شَيْء كَانَ على مَا بَينا قبل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نختصر هَا هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونوضح كل مَا أطلنا فِيهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فَهَذِهِ الْآيَات فِيهَا بَيَان جَمِيع هَذَا الْبَاب فصح أَنه لَا يكفر أحد حَتَّى يبلغهُ أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن بلغه فَلم يُؤمن بِهِ فَهُوَ كَافِر فَإِن آمن بِهِ ثمَّ اعْتقد مَا شَاءَ الله أَن يَعْتَقِدهُ فِي نحلة أَو فتيا أَو عمل مَا شَاءَ الله تَعَالَى أَن يعمله دون أَن يبلغهُ فِي ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم بِخِلَاف مَا اعتقدوا قَالَ أَو عمل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ أصلا حَتَّى يبلغهُ فَإِن بلغه وَصَحَّ عِنْده فَإِن خَالفه مُجْتَهدا فِيمَا لم يبين لَهُ وَجه الْحق فِي ذَلِك فَهُوَ مُخطئ مَعْذُور مأجور مرّة وَاحِدَة كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر وكل مُعْتَقد أَو قَائِل أَو عَامل فَهُوَ حَاكم فِي ذَلِك الشَّيْء وَإِن خَالفه بِعَمَلِهِ معانداً للحق مُعْتَقدًا بِخِلَاف مَا عمل بِهِ فَهُوَ مُؤمن فَاسق وَإِن خَالفه معانداً بقوله أَو قلبه فَهُوَ كَافِر مُشْرك سَوَاء ذَلِك فِي المعتقدات والفتيا للنصوص الَّتِي أوردنا وَهُوَ قَول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَغَيره وَبِه نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي تعبد الْمَلَائِكَة وَتعبد الْحور الْعين والخلق المستأنف وَهل يَعْصِي ملك أَو لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد نَص الله عز وَجل على أَن الْمَلَائِكَة متعبدون قَالَ تَعَالَى {ويفعلون مَا يؤمرون} وَنَصّ تَعَالَى على أَنه أَمرهم بِالسُّجُود لآدَم وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} إِلَى قَوْله {وَمن يقل مِنْهُم أَنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص الله تَعَالَى على أَنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرمون موعودون بإيصال الْكَرَامَة أبدا مصرفون فِي كتاب الْأَعْمَال وَقبض الْأَرْوَاح وأدار الرسَالَة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والتوكل بِمَا فِي الْعَالم الْأَعْلَى والأدنى وَغير ذَلِك كَمَا خالقهم عز وَجل بِهِ عليم وَقَوله تَعَالَى {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فَأخْبر عز وَجل أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مُطَاع فِي السَّمَاوَات وَأمين هُنَالك فصح أَن هُنَالك أوَامِر وتدبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وأمانات وَطَاعَة ومراتب وَنَصّ تَعَالَى على أَنهم كلهم معصومون بقوله عز وَجل {عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} وَبِقَوْلِهِ {وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} وَبِقَوْلِهِ {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} فنص تَعَالَى على أَنهم كلهم لَا يسأمون من الْعِبَادَة وَلَا يفترون من التَّسْبِيح وَالطَّاعَة لَا سَاعَة وَلَا وقتا وَلَا يستحسرون من ذَلِك وَهَذَا خبر عَن التأييد لَا يَسْتَحِيل أبدا وَوَجَب أَنهم متنعمون بذلك مكرمون بِهِ مفضلون بِتِلْكَ الْحَال وبالتذاذهم بذلك وَنَصّ تَعَالَى على أَنهم كلهم معصومون قد حقت لَهُم ولَايَة رَبهم عز وَجل ابدا إِلَّا بُد بِلَا نهابة فَقَالَ تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} فَكفر تَعَالَى من عادى أحدا مِنْهُم فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ لَا يعصون وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمن يقل مِنْهُم أَنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم} قُلْنَا نعم هم متوعدون على الْمعاصِي لما توعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول لَهُ ربه عز وَجل {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك ولتكونن من الخاسرين} وَقد علم عز وَجل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُشْرك أبدا وَأَن الْمَلَائِكَة لَا يَقُول أحد مِنْهُم أبدا إِنِّي إِلَه من دون الله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} وَهُوَ تَعَالَى قد برأهن وَعلم أَنه لَا يَأْتِي أحد مِنْهُنَّ بِفَاحِشَة أبدا بقوله تَعَالَى {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أُولَئِكَ مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} لَكِن الله تَعَالَى يَقُول مَا شَاءَ ويشرع مَا شَاءَ وَيفْعل مَا يَشَاء وَلَا معقب لحكمه وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَأخْبر عز وَجل بِحكم هَذِه الْأُمُور لَو كَانَت وَقد علم أَنَّهَا لَا تكون كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين} وكما قَالَ {لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء} وكما قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} وكما قَالَ تَعَالَى {قل لَو كَانَ فِي الأَرْض مَلَائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنين لنزلنا عَلَيْهِم من السَّمَاء ملكا رَسُولا} وكل هَذَا قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا يكون أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْمَلَائِكَة مأمورون لَا منهيون قُلْنَا هَذَا بَاطِل لِأَن كل مَأْمُور بِشَيْء فَهُوَ مَنْهِيّ عَن تَركه وَقَوله تَعَالَى {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} يدل على أَنهم منهيون عَن أَشْيَاء يخَافُونَ من فعلهَا وَقَالَ عز وَجل {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذا منظرين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مُبْطل ظن من ظن أَن هاروت وماروت كَانَا ملكَيْنِ فعصيا بِشرب الْخمر وَالزِّنَا وَالْقَتْل وَقد أعاذ الله عز وَجل الْمَلَائِكَة من مثل هَذِه الصّفة بِمَا ذكرنَا آنِفا أَنهم لَا يعصون الله ويفعلون مَا يؤمرون وبإخباره تَعَالَى أَنهم لَا يسأمون وَلَا يفترون وَلَا يستحسرون عَن طَاعَته عز وَجل فَوَجَبَ يَقِينا أَنه لَيْسَ فِي الْمَلَائِكَة الْبَتَّةَ عَاص لَا بعمد وَلَا بخطأ وَلَا بنسيان وَقَالَ عز وَجل {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} فَكل الْمَلَائِكَة رسل الله عز وَجل بِنَصّ الْقُرْآن وَالرسل معصومون فصح أَن هاروت وماروت الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن لَا يَخْلُو أَمرهمَا من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أما أَن يَكُونَا جَنِين من أَحيَاء الْجِنّ كَمَا روينَا عَن خَالِد بن أبي عمرَان وَغَيره وموضعهما حِينَئِذٍ فِي الجو بدل من الشَّيَاطِين كَأَنَّهُ قَالَ وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا هاروت وماروت وَيكون الْوُقُوف على قَوْله مَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل وَيتم الْكَلَام هُنَا وَأما أَن يَكُونَا ملكَيْنِ أنزل الله عز وَجل عَلَيْهِمَا شَرِيعَة حق ثمَّ مسخها فَصَارَت كفرا كَمَا فعل بشريعة مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام فتمادى الشَّيَاطِين على تعليمهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَهِي بعد كفر كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت} ثمَّ ذكر عز وَجل مَا كَانَ يَفْعَله ذَلِك الْملكَانِ فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقَوْل الْملكَيْنِ إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر قَول صَحِيح وَنهي عَن الْمُنكر وَأما الْفِتْنَة فقد تكون ضلالا وَتَكون هدى قَالَ الله عز وَجل حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لرَبه {أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا أَن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} فَصدق الله عز وَجل قَوْله وَصَحَّ أَن يهدي بالفتنة من يَشَاء ويضل بهَا من يَشَاء وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} وَلَيْسَ كل أحد يضل بِمَالِه وَولده فقد كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْلَاد وَمَال وَكَذَلِكَ لكثير من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقاً لنفتنهم فِيهِ} فَهَذِهِ سقيا المَاء الَّتِي هِيَ جَزَاء على الاسْتقَامَة قد سَمَّاهَا تَعَالَى فتْنَة فصح أَن من الْفِتْنَة خير أَو هدى وَمنا إضلالا وَكفرا والملكان الْمَذْكُورَات كَذَلِك كَانَا فتْنَة يَهْتَدِي من اتبع أَمرهمَا فِي أَن لَا يكفر ويضل من عصاهما فِي ذَلِك وَقَوله تَعَالَى {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه} حق لِأَن اتِّبَاع رسل الله عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام هَذِه صفتهمْ يُؤمن الزَّوْج فَيُفَرق إيمَانه بَينه وين امْرَأَته الَّتِي لم تؤمن وتؤمن هِيَ فَيُفَرق إيمَانهَا بَينهَا وَبَين زَوجهَا الَّذِي لم يُؤمن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَفِي الْولَايَة ثمَّ رَجَعَ تَعَالَى إِلَى الْخَبَر عَن الشَّيَاطِين فَقَالَ عز وَجل {وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله} وَهَذَا حق لِأَن الشَّيَاطِين فِي تعليمهم مَا قد نسخه الله عز وَجل وأبطله ضارون من إِذن الله تَعَالَى باستضراره بِهِ وَهَكَذَا إِلَى آخر الْآيَة وَمَا قَالَ عز وَجل قطّ أَن هاروت وماروت علما سحرًا وَلَا كفرا وَلَا أَنَّهُمَا عصيا وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك فِي خرافة مَوْضُوعَة لَا نصح من طَرِيق الْإِسْنَاد أصلا وَلَا هِيَ أَيْضا مَعَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَة على من قَالَ من دونه عَلَيْهِ السَّلَام فَسقط التَّعَلُّق بهَا وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَذَا التَّفْسِير الْأَخير هُوَ نَص الْآيَة دون تكلّف تَأْوِيل وَلَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير وَلَا زِيَادَة فِي الْآيَة وَلَا نقص مِنْهَا بل هُوَ ظَاهرهَا وَالْحق الْمَقْطُوع بِهِ عِنْد الله تَعَالَى يَقِينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قيل كَيفَ تصح هَذِه التَّرْجَمَة أَو الْأُخْرَى وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الْمَلَائِكَة لَا يُمكن أَن يراهم إِلَّا نَبِي وَكَذَلِكَ الشَّيَاطِين وَلَا فرق فَكيف تعلم الْمَلَائِكَة النَّاس أَو كَيفَ تعلم الْجِنّ النَّاس قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما الْمَلَائِكَة فيعلمون من أرْسلُوا إِلَيْهِ من الْأَنْبِيَاء خَاصَّة وينهونهم عَن الْكفْر كَمَا نهى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْكفْر فِي نَص الْقُرْآن وَأما الشَّيَاطِين فتعلم النَّاس بالوسوسة فِي الصُّدُور وتزيين الْبَاطِل أَو يتَمَثَّل فِي صُورَة إِنْسَان كَمَا تمثل يَوْم بدر فِي صُورَة سراقَة بن مَالك بن جعثم قَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَأَنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله} وَأما الْحور الْعين فنسو أَن مكرمات مخلوقات فِي الْجنَّة لأولياء الله عز وَجل عافلات مميزات مطيعات لله تَعَالَى فِي النَّعيم خُلِقْنَ فِيهِ ويخلدن بِلَا نِهَايَة لَا يعصين الْبَتَّةَ وَالْجنَّة إِذْ دَخلهَا أَهلهَا المخلدون فَلَيْسَتْ دَار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 مَعْصِيّة وَكَذَلِكَ أهل الْجنَّة لَا يعصون فِيهَا أصلا بل هم فِي نعيم وَحمد لله تَعَالَى وَذكر لَهُ والتذاذ بِأَكْل وَشرب ولباس وَوَطْء لَا يخْتَلف فِي ذَلِك من أهل الْإِسْلَام اثْنَان وَبِذَلِك جَاءَ الْقُرْآن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما الْولدَان المخلدون فهم أَوْلَاد النَّاس الَّذين مَاتُوا قبل الْبلُوغ كَمَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى يخلق خلقا يمْلَأ الْجنَّة بهم فَنحْن نقر بِهَذَا وَلَا نَدْرِي أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون فِي الْجنَّة وَالله تَعَالَى يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة وَأما الْجِنّ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَيْهِم بدين الْإِسْلَام هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد من الْأمة فكافرهم فِي النَّار مَعَ كافرنا وَأما مؤمنهم فقد اخْتلف النَّاس فيهم فَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا ثَوَاب لَهُم وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف وَجُمْهُور النَّاس إِنَّهُم وَالْجنَّة وَبِهَذَا نقُول لقَوْل الله عز وَجل {أعدت لِلْمُتقين} وَلقَوْله تَعَالَى حاكياً عَنْهُم ومصدقاً لمن قَالَ ذَلِك مِنْهُم {وَإِنَّا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ} وَقَوله تَعَالَى حاكياً عَنْهُم {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ} وَقَوله تَعَالَى {أَن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} 6 إِلَى آخر السُّورَة وَهَذِه صفة تعم الْجِنّ وَالْإِنْس عُمُوما لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يخص مِنْهَا أحد النَّوْعَيْنِ فَيكون فَاعل ذَلِك قَائِلا على الله مَا لَا يعلم وَهَذَا حرَام وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الله تَعَالَى يخبرنا بِخَبَر عَام وَهُوَ لَا يُرِيد إِلَّا بعض مَا أخبرنَا بِهِ ثمَّ لَا يبين ذَلِك لنا هَذَا هُوَ ضد الْبَيَان الَّذِي ضمنه عز وَجل لنا فَكيف وَقد نَص عز وَجل على أَنهم آمنُوا فَوَجَبَ أَنهم من جملَة الْمُؤمنِينَ الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا بُد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا الْجِنّ متعبدون فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضلت على الْأَنْبِيَاء بست فَذكر فِيهَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَكَانَ من قبله من الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا يبْعَث إِلَى قومه خَاصَّة وَقد نَص عَلَيْهِ السَّلَام على أَنه بعث إِلَى الْجِنّ وَقَالَ عز وَجل {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا} وَإِذا الْأَمر كَمَا ذكرنَا فَلم يبْعَث إِلَى الْجِنّ نَبِي من الْإِنْس الْبَتَّةَ قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجِنّ من قوم أنسي وباليقين نَدْرِي أَنهم قد أنذروا فصح أَنهم جَاءَهُم أَنْبيَاء مِنْهُم قَالَ تَعَالَى {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق 1 - تم ّ الْجُزْء الثَّالِث ويليه الْجُزْء الرَّابِع أَوله هَل تعصى الْأَنْبِيَاء الحديث: 1 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَل تعصى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي هَل تعصى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أم لَا فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن رسل الله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم يعصون الله فِي جَمِيع الْكَبَائِر والصغائر عمدا حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط وَهَذَا قَول الكرامية من المرجئة وَقَول ابْن الطّيب الباقلاني من الأشعرية وَمن اتبعهُ وَهُوَ قَول الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسمعت من يَحْكِي عَن بعض الكرامية أَنهم يجرزون على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ أَيْضا وَأما هَذَا الباقلاني فانا رَأينَا فِي كتاب صَاحبه أبي جَعْفَر السمناني قَاضِي الْموصل أَنه كَانَ يَقُول إِن كل ذَنْب دق أوجل فَإِنَّهُ جَائِز على الرُّسُل حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط قَالَ وَجَائِز عَلَيْهِم أَن يكفروا قَالَ وَإِذا نهى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن شَيْء ثمَّ فعله فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَن ذَلِك النَّهْي قد نسخ لِأَنَّهُ قد يَفْعَله عَاصِيا لله عز وَجل قَالَ وَلَيْسَ لأَصْحَابه أَن ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ وَجوز أَن يكون فِي أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ أفضل من مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مذ بعث إِلَى أَن مَاتَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله كفر مُجَرّد وسرك مَحْض وردة عَن الْإِسْلَام قَاطِعَة للولاية مبيحة دم من دَان بهَا وَمَاله مُوجبَة للبراءة مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الْإِشْهَاد وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز عَلَيْهِم كَبِيرَة من الْكَبَائِر أصلا وجوزوا عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد وَهُوَ قَول ابْن فورك الْأَشْعَرِيّ وَذَهَبت جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أهل السّنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إِلَى أَنه لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقع من نَبِي أصلا مَعْصِيّة بعمد لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَهُوَ قَول ابْن مُجَاهِد الْأَشْعَرِيّ شيخ ابْن فورك والباقلاني الْمَذْكُورين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل الَّذِي ندين الله تَعَالَى بِهِ وَلَا يحل لأحد أَن يدين بسواه ونقول أَنه يَقع من الْأَنْبِيَاء السَّهْو عَن غير قصد وَيَقَع مِنْهُم أَيْضا قصد الشَّيْء يُرِيدُونَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى والتقرب مِنْهُ فيوافق خلاف مُرَاد الله تَعَالَى إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يقرهم على شَيْء من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أصلا بل ينبههم على ذَلِك وَلَا يداثر وُقُوعه مِنْهُم وَيظْهر عز وَجل ذَلِك لِعِبَادِهِ وَيبين لَهُم كَمَا فعل نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَلامَة من إثنتين وقيامه من اثْنَتَيْنِ وَرُبمَا عَاتَبَهُمْ على ذَلِك بالْكلَام كَمَا فعل نبيه عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَمر زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ وَطَلَاق زيد لَهَا رَضِي الله عَنْهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 عَنْهُمَا وَفِي قصَّة إِبْنِ مكنوم رَضِي الله عَنهُ وَرُبمَا يبغض الْمَكْرُوه فِي الدُّنْيَا كَالَّذي أصَاب آدم وَيُونُس عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام بخلافنا فِي هَذَا فإننا غير مؤآخذين بِمَا سهونا فِيهِ وَلَا بِمَا قصدنا بِهِ وَجه الله عز وَجل فَلم يُصَادف مُرَاده تَعَالَى بل نَحن مأجورون على هَذَا الْوَجْه أجرا وَاحِدًا وَقد أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى قرن بِكُل أحد شَيْطَانا وَأَن الله تَعَالَى أَعَانَهُ على شَيْطَانه فَاسْلَمْ فَلَا يَأْمُرهُ إِلَّا بِخَير وَأما الْمَلَائِكَة فبرآء من كل هَذَا لأَنهم خلقُوا من نور مَحْض لَا شوب فِيهِ والنور خير كُله لَا كدر فِيهِ حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف حَدثنَا أَحْمد بن فتح حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ حَدثنَا مُسلم بن الْحجَّاج عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلقت الْمَلَائِكَة من نور وَخلق الجان من مارج من نَار وَخلق آدم مِمَّا وصف (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واحتجت الطَّائِفَة الأولى بآيَات من الْقُرْآن وأخبار وَردت وَنحن إِن شَاءَ الله عز وَجل نذكرها ونبين غلطهم فِيهَا بالبراهين الْوَاضِحَة الضرورية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فمما احْتَجُّوا بِهِ قَول الله عز وَجل {وَعصى آدم ربه فغوى} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} قَالُوا فقر بهَا آدم فَكَانَ من الظَّالِمين وَقد عصى وغوى وَقَالَ تَعَالَى {فَتَابَ عَلَيْهِ} والمتاب لَا يكون إِلَّا من ذَنْب وَقَالَ تَعَالَى {فازلهما الشَّيْطَان} وإزلال الشَّيْطَان مَعْصِيّة وَذكروا قَول الله تَعَالَى {فَلَمَّا آتاهما صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} هَذَا كل مَا ذكرُوا فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله بِخِلَاف مَا ظنُّوا أما قَوْله تَعَالَى وَعصى آدم ربه فغوى فقد علمنَا أَن كل خلاف لأمر آمُر فصورته صُورَة الْمعْصِيَة فيسمى مَعْصِيّة لذَلِك وغواية إِلَّا أَنه مِنْهُ مَا يكون عَن عَن عمد وَذكر فَهَذِهِ مَعْصِيّة على الْحَقِيقَة لِأَن فاعلها قَاصد إِلَى الْمعْصِيَة وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا مَعْصِيّة وَهَذَا هُوَ الَّذِي نزهها عَنهُ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمِنْه مَا يكون عَن قصد إِلَى خلاف ماأمر بِهِ وَهُوَ يتاول فِي ذَلِك الْخَيْر وَلَا يدْرِي أَنه عَاص بذلك بل يظنّ أَنه مُطِيع لله تَعَالَى أَو أَن ذَلِك مُبَاح لَهُ لِأَنَّهُ يتاول أَن الْأَمر الْوَارِد عَلَيْهِ لَيْسَ على معنى الْإِيجَاب وَلَا على التَّحْرِيم لَكِن أما على النّدب أَن كَانَ بِلَفْظ الْأَمر أَو الْكَرَاهِيَة إِن كَانَ بِلَفْظ النَّهْي وَهَذَا شَيْء يَقع فِيهِ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء الأفاضل كثيرا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقع من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ويؤاخذون بِهِ إِذا وَقع مِنْهُم وعَلى هَذَا السَّبِيل أكل آدم من الشَّجَرَة وَمعنى قَوْله تَعَالَى {فتكونا من الظَّالِمين} أَي ظالمين لأنفسكما وَالظُّلم فِي اللُّغَة وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه فَمن وضع الْأَمر أَو النَّهْي فِي مَوضِع النّدب أَو الْكَرَاهِيَة فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَهَذَا الظُّلم من هَذَا النَّوْع من الظُّلم الَّذِي يَقع بِغَيْر قصد وَلَيْسَ مَعْصِيّة لَا الظُّلم الَّذِي هُوَ الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا مَعْصِيّة وبرهان هَذَا مَا قد نَصه الله تَعَالَى من أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لم يَأْكُل من الشَّجَرَة إِلَّا بعد أَن أقسم لَهُ إِبْلِيس أَن نهى الله عز وَجل لَهما عَن أكل الشَّجَرَة لَيْسَ على التَّحْرِيم وإنهما لَا يستحقان بذلك عُقُوبَة أصلا بل يستحقان بذلك الْجَزَاء الْحسن وَفَوْز الْأَبَد قَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْلِيس أَنه {وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين وقاسمهما أَنِّي لَكمَا لمن الناصحين فدلاهما بغرور} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وَقد قَالَ عز وَجل {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي وَلم نجد لَهُ عزما} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَمَا نسي آدم عَلَيْهِ السَّلَام عهد الله إِلَيْهِ فِي أَن إِبْلِيس عَدو لَهُ أحسن الظَّن بِيَمِينِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا سَلامَة وَلَا بَرَاءَة من الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وَلَا أبعد من الجراءة على الذُّنُوب أعظم من حَال من ظن أَن أحدا لَا يحلف حانثاً وَهَكَذَا فعل آدم عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ إِنَّمَا أكل من الشَّجَرَة الَّتِي نَهَاهُ الله عَنْهَا نَاسِيا بِنَصّ الْقُرْآن ومتأولا وقاصداً إِلَى الْخَيْر لِأَنَّهُ قدر أَنه يزْدَاد خظوة عِنْد الله تَعَالَى فَيكون ملكا مقرباً أَو خَالِدا فِيمَا هُوَ فِيهِ أبدا فأداه ذَلِك إِلَى خلاف مَا أمره الله عز وَجل بِهِ وَكَانَ الْوَاجِب أَن يحمل أَمر ربه عز وَجل على ظَاهره لَكِن تَأَول وَأَرَادَ الْخَيْر فَلم يصبهُ وَلَو فعل هَذَا عَالم من عُلَمَاء الْمُسلمين لَكَانَ مأجورا وَلَكِن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما فعله وَوجد بِهِ إِخْرَاجه عَن الْجنَّة إِلَى نكد الدُّنْيَا كَانَ بذلك ظَالِما لنَفسِهِ وَقد سمى الله عز وَجل قَاتل الْخَطَأ قَاتلا كَمَا سمى الْعَامِد والمخطئ لم يتَعَمَّد مَعْصِيّة وَجعل فِي الْخَطَأ فِي ذَلِك كَفَّارَة عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لمن عجز عَن الرَّقَبَة وَهُوَ لم يتَعَمَّد ذَنبا وَأما قَوْله عز وَجل {لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهما صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} فَهَذَا تَكْفِير لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَمن نسب لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام الشّرك وَالْكفْر كفرا مُجَردا بِلَا خلاف من أحد من الْأمة وَنحن ننكر على من كفر الْمُسلمين العصاة العشارين القتالين وَالشّرط الْفَاسِقين فَكيف من كفر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا الَّذِي نسبوه إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام من أَنه سمى ابْنه عبد الْحَارِث خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة من تأليف من لَا دين لَهُ وَلَا حَيَاء لم يَصح سندها قطّ وَإِنَّمَا نزلت فِي الْمُشْركين على ظَاهرهَا وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا نزلت فِي آدم وَهَذَا لَا يَصح أصلا لما كَانَت فِيهِ للمخالف حجَّة لِأَنَّهُ كَانَ يكون الشّرك أَو الشُّرَكَاء المذكورون فِي الْآيَة حِينَئِذٍ على غير الشّرك الَّذِي هُوَ الْكفْر لَكِن يمعنى أَنَّهُمَا جعلا مَعَ توكلهما شركَة من حفظه وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام {يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَمَا أُغني عَنْكُم من الله من شَيْء إِن الحكم إِلَّا لله عَلَيْهِ توكلت وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا وَأَنه لذُو علم لما علمناه وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} فَأخْبرنَا عز وَجل أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم أَن يدخلُوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة إشفاقاً عَلَيْهِم أما من إِصَابَة الْعين وَإِمَّا من تعرض عَدو أَو مستريب باجماعهم أَو بِبَعْض مَا يخوفه عَلَيْهِم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام معترف أَن فعله ذَلِك وَأمره إيَّاهُم بِمَا أَمرهم بِهِ من ذَلِك لَا يُغني عَنْهُم من الله شَيْئا يُريدهُ عز وَجل بهم وَلَكِن لما كَانَت طبيعة الْبشر جَارِيَة فِي يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا قَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الرُّسُل أَنهم قَالُوا {إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ} حملهمْ ذَلِك على بعض النّظر المخفف لحَاجَة النَّفس ونزاعها وتوقها إِلَى سَلامَة من يجب وَإِن كَانَ ذَلِك لَا يُغني شَيْئا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يحب الفال الْحسن فَكَانَ يكون على هَذَا معنى الشّرك والشركاء أَن يكون عوذة أَو تَمِيمَة أَو نَحْو هَذَا فَكيف وَلم تنزل الْآيَة قطّ إِلَّا فِي الْكفَّار لَا فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام الْكَلَام فِي نوح عَلَيْهِ السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذكرُوا قَول الله عز وَجل لنوح {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام تاول وعد الله تَعَالَى أَن يخلصه وَأَهله فَظن أَن ابْنه من أَهله على ظَاهر الْقَرَابَة وَهَذَا لَو فعله أحد لَكَانَ مأجوراً وَلم يسْأَل نوح تَخْلِيص من أَيقَن أَنه لَيْسَ من أَهله فتفرع على ذَلِك نهى عَن أَن يكون من الْجَاهِلين فتندم عَلَيْهِ السَّلَام من ذَلِك وَنزع وَلَيْسَ هَا هُنَا عمد للمعصية الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكرُوا مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كذب ثَلَاث كذبات وَأَنه قَالَ إِذْ نظر فِي النُّجُوم أَنِّي سقيم وَبِقَوْلِهِ فِي الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَهَذَا رَبِّي بقوله فِي سارة هَذِه أُخْتِي وَبِقَوْلِهِ فِي الْأَصْنَام إِذْ كسرهَا بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا وبطلبه إِذْ طلب رُؤْيَة إحْيَاء الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله لَيْسَ على مَا ظنوه بل هوحجة لنا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كذب ثَلَاث كذبات فَلَيْسَ كل كذب مَعْصِيّة بل مِنْهُ مَا يكون طَاعَة لله عز وَجل وفرضاً وَاجِبا يعْصى من تَركه صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا وَقد أَبَاحَ عَلَيْهِ السَّلَام كذب الرجل لامْرَأَته فِيمَا يستجلب بِهِ مودتها وَكَذَلِكَ الْكَذِب فِي الْحَرْب وَقد أجمع أهل الْإِسْلَام على أَن إنْسَانا لَو سمع مَظْلُوما قد ظلمه سُلْطَان وَطَلَبه ليَقْتُلهُ بِغَيْر حق وَيَأْخُذ مَاله غصبا فاستتر عِنْده وسَمعه يَدْعُو على من ظلمه قَاصِدا بذلك السُّلْطَان بذلك السَّامع عَمَّا سَمعه مِنْهُ وَعَن مَوْضِعه فَإِنَّهُ إِن كتم مَا سمع وَأنكر أَن يكون سَمعه أَو أَنه يعرف مَوْضِعه أَو مَوضِع مَاله فَإِنَّهُ محسن مأجور مُطِيع لله عز وَجل وَأَنه أَن صدقه فَأخْبرهُ بِمَا سَمعه مِنْهُ وبموضعه وَمَوْضِع مَاله كَانَ فَاسِقًا عَاصِيا لله عز وَجل فَاعل كَبِيرَة مذموما تَمامًا وَقد ابيح الْكَذِب فِي إِظْهَار الْكفْر فِي التقية وكل مَا روى عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي تِلْكَ الكذبات فَهُوَ دَاخل فِي الصّفة المحمودة لَا فِي الْكَذِب الَّذِي نهى عَنهُ وَأما عَن قَوْله عَن سارة هِيَ أُخْتِي فَصدق هِيَ أُخْته من وَجْهَيْن قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يخْطب أحدكُم على خطْبَة أَخِيه وَالْوَجْه الثَّانِي الْقَرَابَة وَإِنَّهَا من قومه وَمن مستجيبيه قَالَ عز وَجل وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً فَمن عد هَذَا كذبا مذموماً من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فليسعده كذبا من ربه عز وَجل وَهَذَا كفر مُجَرّد فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَادِق فِي قَوْله سارة أُخْته وَأما قَوْله فَنظر نظرة فِي النُّجُوم فَقَالَ إِنِّي سقيم فَلَيْسَ هَذَا كذبا ولسنا ننكر أَن تكون النُّجُوم دَلَائِل على الصِّحَّة وَالْمَرَض وَبَعض مَا يحدث فِي الْعَالم كدلالة الْبَرْق على نعول الْبَحْر وكدلالة الرَّعْد على تولد الكمأة وكتولد الْمَدّ والجزر على طُلُوع الْقَمَر وغروبه وأعذار وارتفاعه وامتلائه ونقصه وَإِنَّمَا الْمُنكر قَول من قَالَ أَن الْكَوَاكِب هِيَ الفاعلة الْمُدبرَة لذَلِك دون الله تَعَالَى أَو مُشْتَركَة مَعَه فَهَذَا كفر من قَائِله وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ تقريع لَهُم وتوبيخ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مهان ذليل معذب فِي النَّار فكلا الْقَوْلَيْنِ توبيخ لمن قيلا لَهُ على ظنهم أَن الْأَصْنَام تفعل الْخَيْر وَالشَّر وعَلى ظن المعذب فِي نَفسه فِي الدُّنْيَا إِنَّه عَزِيز كريم وَلم يقل إِبْرَاهِيم هَذَا على أَنه مُحَقّق لِأَن كَبِيرهمْ فعله إِذا كذب إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَار عَن الشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ قصد إِلَى تَحْقِيق ذَلِك وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ رأى الشَّمْس وَالْقَمَر هَذَا رَبِّي فَقَالَ قوم إِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 قَالَ ذَلِك محققاً أول خُرُوجه من الْغَار وَهَذَا خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة ظَاهِرَة الافتعال وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يبلغ أحد حد التميز وَالْكَلَام بِمثل هَذَا وَهُوَ لم ير قطّ شمساً وَلَا قمراً وَلَا كوكباً وَقد أكذب الله هَذَا الظَّن الْكَاذِب بقوله الصَّادِق وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل وَكُنَّا بِهِ عَالمين فمحال أَن يكون من اتاه الله رشده من قبل يدْخل فِي عقله أَن الْكَوَاكِب ربه أَو أَن الشَّمْس ربه من أجل أَنَّهَا أكبر قرصاً من الْقَمَر هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ إِلَّا مَجْنُون الْعقل وَالصَّحِيح من ذَلِك أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ ذَلِك موبخاً لِقَوْمِهِ كَمَا قَالَ لَهُم نَحْو ذَلِك فِي الْكَبِير من الْأَصْنَام وَلَا فرق لأَنهم كَانُوا على دبن الصابئين يعْبدُونَ الْكَوَاكِب ويصورون الْأَصْنَام على صورها وأسمائها فِي هياكلهم ويعيدون لَهَا الأعياد ويذبحون لعا الذَّبَائِح ويقربون لَهَا الْقرب والقرابين والدخن وَيَقُولُونَ أَنَّهَا تعقل وتدبر وتضر وَتَنْفَع ويقيمون لكل كَوْكَب مِنْهَا شَرِيعَة محدودة فوبخهم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام على ذَلِك وسخر مِنْهُم وَجعل يُرِيهم تَعْظِيم الشَّمْس لكبر جرمها كَمَا قَالَ تَعَالَى {فاليوم الَّذين آمنُوا من الْكفَّار يَضْحَكُونَ} فاراهم ضعف عُقُولهمْ فِي تعظيمهم لهَذِهِ الأجرام المسخرة الجمادية وَبَين لهمأنهم مخطئون وَأَنَّهَا مُدبرَة تنْتَقل فِي الْأَمَاكِن ومعاذ الله أَن يكون الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أشرك قطّ بربه أَو شكّ فِي أَن الْفلك بِكُل مَا فِيهِ مَخْلُوق وبرهان قَوْلنَا هَذَا إِن الله تَعَالَى لم يعاتبه على شَيْء مِمَّا ذكر وَلَا عنفه على ذَلِك بل صدقه تَعَالَى بقوله {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء} فصح هَذَا بِخِلَاف مَا وَقع لآدَم وَغَيره بل وَافق مُرَاد الله عز وَجل بِمَا قَالَ من ذَلِك وَبِمَا فعل وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن ليطوئن قلبِي فَلم يقرره رَبنَا عز وَجل وَهُوَ يشك فِي إِيمَان إِبْرَاهِيم عَبده وخليله وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَلَكِن تَقْرِير الْإِيمَان فِي قلبه وَإِن لم ير كَيْفيَّة إحْيَاء الْمَوْتَى فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام عَن نَفسه أَنه مُؤمن مُصدق وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يرى الْكَيْفِيَّة فَقَط وَيعْتَبر بذلك وَمَا شكّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَن الله تَعَالَى يحيي الْمَوْتَى وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يرى الْهَيْئَة كَمَا أننا لَا نشك فِي صِحَة وجود الْفِيل والتمساح والكسوف وَزِيَادَة النَّهر والخليفة ثمَّ يرغب من لم ير لَك منافي أَن يرى كل ذَلِك وَلَا يشك فِي أَنه حق لَكِن ليرى الْعجب الَّذِي يتمثله وَلم تقع عَلَيْهِ حاسة بَصَره فَقَط وَأما مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم فَمن ظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكّ قطّ فِي قدرَة ربه عز وَجل على إحْيَاء الْمَوْتَى فقد كفر وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لنا على نفي الشَّك عَن إِبْرَاهِيم أَي لَو كَانَ الْكَلَام من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام شكا لَكَانَ من لم يُشَاهد من الْقُدْرَة مَا شَاهد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَحَق بِالشَّكِّ فَإِذا كَانَ من لم يُشَاهد من الْقُدْرَة مَا شَاهد إِبْرَاهِيم غير شَاك فإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام أبعد من الشَّك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن نسب هَا هُنَا إِلَى الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام الشَّك فقد نسب إِلَيْهِ الْكفْر وَمن كفر نَبيا فقد كفر وَأَيْضًا فَإِن كَانَ ذَلِك شكا من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَكُنَّا نَحن أَحَق بِالشَّكِّ مِنْهُ فَنحْن إِذا شكاك جاحدون كفار وَهَذَا كَلَام نعلم وَالْحَمْد لله بُطْلَانه من أَنْفُسنَا بل نَحن وَللَّه الْحَمد مُؤمنُونَ مصدقون بِاللَّه تَعَالَى وَقدرته على كل شَيْء يسْأَل عَنهُ السَّائِل وَذكروا قَول إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِيهِ واستغفاره لَهُ وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ لم يكن نهى عَن ذَلِك قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ} فائنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ بذلك فصح أَن اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِنَّمَا كَانَ مُدَّة حَيَاته راجياً إيمَانه فَلَمَّا مَاتَ كَافِرًا تَبرأ مِنْهُ وَلم يسْتَغْفر لَهُ بعْدهَا تمّ الْكَلَام فِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 الْكَلَام فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذكروا قَول الله تَعَالَى فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو أرى إِلَى ركن شَدِيد فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله لوطاً لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد فظنوا أَن هَذَا القَوْل مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِنْكَار على لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد فَلَيْسَ مُخَالفا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله لوطاً لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد بل كلا الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَام حق مُتَّفق عَلَيْهِ لِأَن لوطاً عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ مَنْعَة عاجلة يمْنَع بهَا قومه مِمَّا هم عَلَيْهِ من الْفَوَاحِش من قرَابَة وأو عشيرة أَو اتِّبَاع مُؤمنين وَمَا جهل قطّ لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يأوي من ربه تَعَالَى إِلَى أمنع قُوَّة وَأَشد ركن وَلَا جنَاح على لوط عَلَيْهِ السَّلَام فِي طلب قُوَّة من النَّاس فقد قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} فَهَذَا الَّذِي طلب لوط عَلَيْهِ السَّلَام وَقد طلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار والمهاجرين مَنْعَة حَتَّى يبلغ كَلَام ربه تَعَالَى فَكيف يُنكر على لوط أمرا هُوَ فعله عَلَيْهِ السَّلَام تالله مَا أنكر ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن لوطاً كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد يَعْنِي من نصر الله لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ وَلم يكن لوط علم بذلك وَمن اعْتقد أَن لوطاً كَانَ يعْتَقد أَنه لَيْسَ لَهُ من الله ركن شَدِيد فقد كفر إِذْ نسب إِلَى نَبِي من الْأَنْبِيَاء هَذَا الْكفْر وَهَذَا أَيْضا ظن سيخف إِذْ من الْمُمْتَنع أَن يظنّ بِرَبّ أرَاهُ المعجزات وَهُوَ دائباً يَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا الظَّن وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن فَإِنَّمَا أَرَادَ الترويج وَالْوَطْء فِي الْمَكَان الْمُبَاح فصح مَا قُلْنَا إِذْ من الْمحَال أَن يَدعُوهُم إِلَى مُنكر وَهُوَ ينهاهم عَن الْمُنكر انْقَضى الْكَلَام فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام الْكَلَام فِي أخوة يُوسُف عَلَيْهِم السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاحْتَجُّوا بِفعل أخوة يُوسُف وبيعهم أَخَاهُم وكذبهم لأبيهم وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن أخوة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وَلَا جَاءَ قطّ فِي أَنهم أَنْبيَاء نَص لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قَول أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَإِمَّا يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَسُول الله بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ عز وَجل {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ} إِلَى قَوْله {من بعده رَسُولا} وَأما أخوته فأفعالهم تشهد أَنهم لم يَكُونُوا متورعين عَن العظائم فَكيف أَن يَكُونُوا أَنْبيَاء وَلَكِن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفرا لَهُم وأسقطا التثريب عَنْهُم وبرهان مَا ذكرنَا من كذب من يزْعم أَنهم كَانُوا أَنْبيَاء قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن الرَّسُول أخيهم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَهُم {أَنْتُم شَرّ مَكَانا} وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقُوله نَبِي من الْأَنْبِيَاء نعم وَلَا لقوم صالحين إِذْ توقير الْأَنْبِيَاء فرض على جَمِيع النَّاس لِأَن الصَّالِحين لَيْسُوا شرا مَكَانا وَقد عق ابْن نوح أَبَاهُ أَكثر مِمَّا عق بِهِ أخوة يُوسُف أباهم إِلَّا أَن أخوة يُوسُف لم يكفروا وَلَا يحل لمُسلم أَن يدْخل فِي الْأَنْبِيَاء من لم يَأْتِ نَص وَلَا إِجْمَاع أَو نقل كَافَّة بِصِحَّة نبوته وَلَا فرق بَين التَّصْدِيق بنبوة من لَيْسَ نَبيا وَبَين التَّكْذِيب بنبوة من صحت نبوته مِنْهُم فَإِن ذكرُوا فِي ذَلِك ماروى عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ زيد بن أَرقم انمامات إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَا نَبِي بعد رَسُول الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَوْلَاد الْأَنْبِيَاء أَنْبيَاء فَهَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 غَفلَة شَدِيدَة وزلة عَالم من وُجُوه أَولهَا أَنه دَعْوَى لَا دَلِيل على صِحَّتهَا وَثَانِيها أَنه لَو كَانَ مَا ذكر لأمكن أَن ينبأ إِبْرَاهِيم فِي المهد كَمَا نبىء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وكما اوتي يحي الحكم صَبيا فعلى هَذَا القَوْل لَعَلَّ إِبْرَاهِيم كَانَ نبياوقد عَاشَ عَاميْنِ غير شَهْرَيْن وحاشا لله من هَذَا وَثَالِثهَا أَن ولد نوح كَانَ كافرابنص الْقُرْآن عمل عملا غير صَالح فَلَو كَانَ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء أَنْبيَاء لَكَانَ هَذَا الْكَافِر المسخوط عَلَيْهِ نَبيا وحاشا لله من هَذَا وَرَابِعهَا لَو كَانَ ذَلِك لوَجَبَ ولابد أَن تكون الْيَهُود كلهم أَنْبيَاء إِلَى الْيَوْم بل جَمِيع أهل الأَرْض أَنْبيَاء لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون الْكل من ولد آدم لصلبه انبياءلان اباهم نَبِي واولاده أَنْبيَاء أَيْضا لِأَن آبَاءَهُم أَنْبيَاء وهم أَوْلَاد أَنْبيَاء وَهَكَذَا أبدا حَتَّى يبلغ الْأَمر إِلَيْنَا وَفِي هَذَا من الْكفْر لمن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة وَثَبت عَلَيْهِ مَالا خَفَاء بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَعَلَّ من جهل مرَّتَيْنِ يَقُول عَنَّا هَذَا يُنكر نبوة أخوة يُوسُف وَيثبت نبوة نَبِي الْمَجُوس ونبوة أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق عَلَيْهِم السَّلَام فَنحْن نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نعتصم لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عز وَجل بنبوته وَلم ينص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نبوته وَلَا نقلت الكواف عَن أَمْثَالهَا نقلا مُتَّصِلا مِنْهُ إِلَيْنَا معجزات النُّبُوَّة عَنهُ مِمَّن كَانَ قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل ندفع نبوة من قَامَ الْبُرْهَان على بطلَان نبوته لِأَن تَصْدِيق نبوة من هَذِه صفته افتراء على الله تَعَالَى لَا يقدم عَلَيْهِ مُسلم وَلَا ندفع نبوة من جَاءَ الْقُرْآن بِأَن الله تَعَالَى نبأه فَأَما أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق فالقرآن قد جَاءَ بمخاطبة الْمَلَائِكَة لبعضهن بِالْوَحْي وَإِلَى بعض مِنْهُنَّ عَن الله عز وَجل بالأنباء بِمَا يكون قبل أَن يكون وَهَذِه النُّبُوَّة نَفسهَا الَّتِي لَا نبوة غَيرهَا فَصحت نبوتهن بِنَصّ الْقُرْآن وَأما نَبِي الْمَجُوس فقد صَحَّ أَنهم أهل كتاب يَأْخُذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة مِنْهُم وَلم يبح الله تَعَالَى لَهُ أَخذ الْجِزْيَة إِلَّا من أهل الْكتاب فَقَط فَمن نسب إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَخذ الْجِزْيَة من غير أهل الْكتاب فقد نسب إِلَيْهِ أَنه خَالف ربه تَعَالَى وأقدم على عَظِيمَة تقشعر مِنْهَا جُلُود الْمُؤمنِينَ فَإذْ نَحن على يَقِين من أَنهم أهل كتاب فَلَا سَبِيل الْبَتَّةَ إِلَى نزُول كتاب من عِنْد الله تَعَالَى على غير نَبِي مُرْسل بتبليغ ذَلِك الْكتاب فقد صَحَّ بالبرهان الضَّرُورِيّ أَنهم قد كَانَ لَهُم نَبِي مُرْسل يَقِينا بِلَا شكّ وَمَعَ هَذَا فقد نقلت عَنهُ كواف عَظِيمَة معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وكل مَا نقلته كَافَّة على شَرط عدم التواطئ فَوَاجِب قبُوله وَلَا فرق بَين مَا نقلته كواف الْكَافرين أَو كواف الْمُسلمين فِيمَا شاهدته حواسهم وَمن قَالَ لَا أصدق إِلَّا مَا نقلته كواف الْمُسلمين فَإنَّا نَسْأَلهُ بِأَيّ شَيْء يَصح عِنْده موت مُلُوك الرّوم وَلم يحضرهم مُسلم أصلا وَإِنَّمَا نقلته إِلَيْنَا يهود عَن نَصَارَى وَمثل هَذَا كثير فَإِن كذب هَذَا غالط نَفسه وعقله وكابر حسه وَأَيْضًا فَإِن الْمُسلمين إِنَّمَا علمنَا أَنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصِحَّة مَا بِأَيْدِيهِم فبنقل الكافة علمنَا هدى الْمُسلمين وَلَا تعلم بِالْإِسْلَامِ صِحَة نقل الكافة بل هُوَ مَعْلُوم بِالْبَيِّنَةِ وضرورة الْعقل وَقد أخبر تَعَالَى أَن الْأَوَّلين زبر وَقَالَ تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} وَفِي هَذَا كِفَايَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَذكروا أَيْضا أَخذ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَخَاهُ وايحاشه أَبَاهُ عَلَيْهِ اسلام مِنْهُ وَأَنه أَقَامَ مُدَّة يقدر فِيهَا على أَن يعرف أَبَاهُ خَبره وَهُوَ يعلم مَا يقاسى بِهِ من الوجد عَلَيْهِ فَلم بِفعل وَلَيْسَ بَينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 بَينه وَبَينه إِلَّا عشر لَيَال وبإدخاله صواع الْملك فِي وعَاء أَخِيه وَلم يعلم بذلك سائراخوته ثمَّ أَمر من هتف أيتها العير أَنكُمْ لسارقون وهم لم يسرقوا شَيْئا وَبقول الله تَعَالَى وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه وبخدمته لفرعون وَبِقَوْلِهِ للَّذي كَانَ مَعَه فِي السجْن اذْكُرْنِي عِنْد رَبك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ وَنحن نبين ذَلِك بحول الله تَعَالَى وقوته فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أما أَخذه أَخَاهُ وايحاشه أَبَاهُ مِنْهُ فَلَا شكّ فِي أَن ذَلِك ليرفق بأَخيه وليعود أخوته إِلَيْهِ ولعلهم لَو مضوا بأَخيه لم يعودوا إِلَيْهِ وهم فِي مملكة أُخْرَى وَحَيْثُ لَا طَاعَة ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا لملك مصر هُنَالك وليكون ذَلِك سَببا لاجتماعه وَجمع شَمل جَمِيعهم وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أُوتى الْعلم والمعرفة بالتأويل إِلَّا أحسن الْوُجُوه وَلَيْسَ مَعَ من خَالَفنَا نَص بِخِلَاف مَا ذكرنَا وَلَا يحل أَن يظنّ بِمُسلم فَاضل عقوق أَبِيه فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما ظنهم أَنه أَقَامَ مُدَّة يقدر فِيهَا عَليّ ويتعف أَبِيه خَبره وَلم يفعل فَهَذَا جهل شَدِيد مِمَّن ظن هَذَا لِأَن يَعْقُوب فِي أَرض كنعان من عمل فلسطين فِي قوم رحالين خصاصين فِي لِسَان آخر وَطَاعَة أُخْرَى وَدين آخر وَأمة أُخْرَى كَالَّذي بَيْننَا الْيَوْم وَبَين من يضافينا من بِلَاد النَّصَارَى كفاليش وَغَيرهَا أَو كصحراء البربر فَلم يكن عِنْد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام علم بعد فِرَاقه أَبَاهُ بِمَا فعل وَلَا حَيّ هُوَ أَو ميت أَكثر من وعد الله تَعَالَى بِأَن ينبئهم بفعلهم بِهِ وَلَا وجد أحدا يَثِق بِهِ فَيُرْسل إِلَيْهِ للِاخْتِلَاف الَّذِي ذكرنَا وَإِنَّمَا يستسهل هَذَا الْيَوْم من يرى أَرض الشَّام ومصر لأمير وَاحِد وملة وَاحِدَة وَلِسَانًا وَاحِدًا وَأمة وَاحِدَة وَالطَّرِيق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة وَالْبرد ناهضة وراجعة فَظن كل بَيْضَاء شحمة وَلم يكن الْأَمر حِينَئِذٍ كَذَلِك وَلَكِن كَمَا قدمنَا دَلِيل ذَلِك أَنه حِين أمكنه لم يُؤَخِّرهُ واستجلب أَبَاهُ وَأَهله أَجْمَعِينَ عِنْد ضَرُورَة النَّاس إِلَيْهِ انقيادهم لَهُ للجوع الَّذِي كَانَ عَم الأَرْض وامتيازهم من عِنْده فانتظر وعد ربه تَعَالَى الَّذِي وعده حِين ألقوه فِي الْجب فَأتوهُ ضارعين راغبين كَمَا وعده تَعَالَى فِي رُؤْيَاهُ قبل أَن يأتوه وَرب رَئِيس جليل شاهدنا من أَبنَاء البشاكس والافرنج لَو قدر على أَن يستجلب أَبَوَيْهِ لَكَانَ أَشد النَّاس بداراً إِلَى ذَلِك وَلَكِن الْأَمر تعذر عَلَيْهِم تعذراً أخرجه عَن الْإِمْكَان إِلَى الِامْتِنَاع فَهَذَا كَانَ أَمر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا قَول يُوسُف لأخوته أَنكُمْ لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هُوَ الَّذِي كَانَ قد أدخلهُ فِي وعَاء أَخِيه دونهم فقد صدق عَلَيْهِ السَّلَام لأَنهم سَرقُوهُ من أَبِيه وباعوه وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنكُمْ سرقتم الصواع وَإِنَّمَا قَالَ تفقد صواع الْملك وَهُوَ فِي ذَلِك صَادِق لِأَنَّهُ كَانَ غير وَاجِد لَهُ فَكَانَ فَاقِد لَهُ بِلَا شكّ وَأما خدمته عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون فَإِنَّمَا خدمه تقية وَفِي حق لاستنقاذ الله تَعَالَى بِحسن تَدْبيره وَلَعَلَّ الْملك أَو بعض خواصه قد آمن بِهِ إِلَّا أَن خدمته لَهُ على كل حَال حَسَنَة وَفعل خير وتوصل إِلَى الِاجْتِمَاع بِأَبِيهِ وَإِلَى الْعدْل وَإِلَى حَيَاة النُّفُوس إِذْ لم يقدر على المغالبة وَلَا أمكنه غير ذَلِك وَلَا مرية فِي أَن ذَلِك كَانَ مُبَاحا فِي شَرِيعَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بِخِلَاف شريعتنا قَالَ الله تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} وَأما سُجُود أَبَوَيْهِ فَلم يكن مَحْظُورًا فِي شريعتهما بل كَانَ فعلا حسنا وَتَحْقِيق رُؤْيَاهُ الصَّادِق من الله تَعَالَى وَلَعَلَّ ذَلِك السُّجُود كَانَ تَحِيَّة كسجود الْمَلَائِكَة لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَن الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 لَا شكّ فِيهِ أَنه لم يكن سُجُود عبَادَة وَلَا تذلل وَإِنَّمَا كَانَ سُجُود كَرَامَة فَقَط بِلَا شكّ وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للَّذي كَانَ مَعَه فِي السجْن اذْكُرْنِي عِنْد رَبك فَمَا علمنَا الرَّغْبَة فِي الانطلاق من السجْن محظورة على أحد وَلَيْسَ فِي قَوْله ذَلِك دَلِيل على أَنه أغفل الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل لكنه رغب هَذَا الَّذِي كَانَ مَعَه فِي السجْن فِي فعل الْخَيْر وحضه عَلَيْهِ وَهَذَا فرض من وَجْهَيْن أَحدهمَا وجوب السَّعْي فِي كف الظُّلم عَنهُ وَالثَّانِي دعاؤه إِلَى الْخَيْر والحسنات وَأما قَوْله تَعَالَى {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه} فَالضَّمِير الَّذِي فِي أنساه وَهُوَ الْهَاء رَاجع إِلَى الْفَتى الَّذِي كَانَ مَعَه فِي السجْن أَي أَن الشَّيْطَان أنساه أَن يذكر ربه أَمر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون أنساه الشَّيْطَان ذكر الله تَعَالَى وَلَو ذكر الله عز وَجل لذكر حَاجَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وبرهان ذَلِك قَول الله عز وَجل {وادكر بعد أمة} فصح يَقِينا أَن الْمَذْكُور بعد أمة هُوَ الَّذِي أنساه الشَّيْطَان ذكر ربه حَتَّى تذكر وَحَتَّى لَو صَحَّ أَن الضَّمِير من أنساه رَاجع إِلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لما كَانَ فِي ذَلِك نقص وَلَا ذَنْب إِذْ مَا كَانَ بِالنِّسْيَانِ فَلَا يبعد عَن الْأَنْبِيَاء وَأما قَوْله هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه فَلَيْسَ كَمَا ظن من لم يمعن النّظر حَتَّى قَالَ من الْمُتَأَخِّرين من قَالَ أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من الْمَرْأَة ومعاذ الله من هَذَا أَن يظنّ بِرَجُل من صالحي الْمُسلمين أَو مستوريهم فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط فَإِن قيل أَن هَذَا قد روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من طَرِيق جَيِّدَة الْإِسْنَاد قُلْنَا نعم وَلَا حجَّة فِي قَول أحد إِلَّا فِيمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَالوهم فِي تِلْكَ الرِّوَايَة إِنَّمَا هِيَ بِلَا شكّ عَمَّن دون ابْن عَبَّاس أَو لَعَلَّ ابْن عَبَّاس لم يقطع بذلك إِذْ إِنَّمَا أَخذه عَمَّن لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا شكّ فِي أَنه شَيْء سَمعه فَذكره لِأَنَّهُ رَضِي الله عَنهُ لم يحضر ذَلِك وَلَا ذكره عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحال أَن يقطع ابْن عَبَّاس بِمَا لَا علم لَهُ بِهِ لَكِن معنى الْآيَة لَا يعدو أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَنه هم بالايقاع بهَا وضربها كَمَا قَالَ تَعَالَى وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وكما يَقُول الْقَائِل لقد هَمت بك لكنه عَلَيْهِ السَّلَام امْتنع من ذَلِك ببرهان أرَاهُ الله إِيَّاه اسْتغنى بِهِ عَن ضربهَا وَعلم أَن الْفِرَار أجدى عَلَيْهِ وَأظْهر لبراءته على مَا ظهر بعد ذَلِك من حكم الشَّاهِد بِأَمْر الْقد من الْقَمِيص وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْكَلَام تمّ عِنْد قَوْله وَلَقَد هَمت بِهِ ثمَّ ابْتَدَأَ تَعَالَى خَبرا آخر فَقَالَ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه وَهَذَا ظَاهر الْآيَة بِلَا تكلّف تَأْوِيل وَبِهَذَا نقُول حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الطلمنكي حَدثنَا ابْن عون الله أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد بن فراس حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم النَّيْسَابُورِي أَنا اسحق بن رَاهْوَيْةِ أَنا المؤمل ابْن إِسْمَاعِيل الْحِمْيَرِي حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ هَذِه الْآيَة ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَهَا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ جِبْرِيل يَا يُوسُف اذكر همك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فَقَالَ يُوسُف وَمَا ابرئ نَفسِي أَن النَّفس لأمارة بالسوء فَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث على معنى من الْمعَانِي تَحْقِيق الْهم بالفاحشة وَلكنه فِيهِ أَنه بأمرها وَهَذَا حق كَمَا قُلْنَا فَسقط هَذَا الِاعْتِرَاض وَصَحَّ الْوَجْه الأول وَالثَّانِي مَعًا إِلَّا أَن الْهم بالفاحشة بَاطِل مَقْطُوع على كل حَال وَصَحَّ أَن ذَلِك الْهم ضرب سيدته وَهِي خِيَانَة لسَيِّده إِذْ هم بِضَرْب امْرَأَته وبرهان ربه هَا هُنَا هُوَ النُّبُوَّة وعصمة الله عز وَجل إِيَّاه وَلَوْلَا الْبُرْهَان لَكَانَ يهم بالفاحشة وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ وَلَعَلَّ من ينْسب هَذَا إِلَى النَّبِي الْمُقَدّس يُوسُف ينزه نَفسه الرذلة عَن مثل الْمقَام فَيهْلك وَقد خشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَلَاك على من ظن بِهِ ذَلِك الظَّن إِذْ قَالَ للأنصاريين حِين لقيهمَا هذذه صَفِيَّة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن يظنّ ظان أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام هم بِالزِّنَا وَهُوَ يسمع قَول الله تَعَالَى كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء فنسأل من خَالَفنَا عَن الْهم بِالزِّنَا بِسوء هُوَ أم غير سوء فَلَا بُد أَنه سوء وَلَو قَالَ إِنَّه لَيْسَ بِسوء لعاند الْإِجْمَاع فَإذْ هُوَ سوء وَقد صرف عَنهُ السوء فقد صرف عَنهُ الْهم بِيَقِين وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا وَأنكر هُوَ ذَلِك فَشهد الصَّادِق الْمُصدق إِن كَانَ قمصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين فصح أَنَّهَا كذبت بِنَصّ الْقُرْآن وَإِذا كذبت بِنَصّ الْقُرْآن فَمَا أَرَادَ بهَا سوء فَمَا هم بِالزِّنَا قطّ وَلَو أَرَادَ بهَا الزِّنَا لكَانَتْ من الصَّادِقين وَهَذَا بَين جدا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى عَنهُ انه قَالَ وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن فصح عَنهُ أَنه قطّ لم يصب إِلَيْهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق تمّ الْكَلَام فِي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام الْكَلَام فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأمه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} فَمَعْنَاه فَارغًا من الْهم بمُوسَى جملَة لِأَن الله عز وَجل قد وعدها برده إِلَيْهَا إِذْ قَالَ لَهَا تَعَالَى {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} فَمن الْبَاطِل الْمَحْض أَن يكون اله تَعَالَى ضمن لَهَا رده إِلَيْهَا ثمَّ يصبح قَلبهَا مَشْغُولًا بالهم بأَمْره هَذَا مَالا يظنّ بِذِي عقل أصلا وَإِنَّمَا معنى قَوْله تَعَالَى إِن كَادَت لتبدي بِهِ أَي سُرُورًا بِمَا أَتَاهُ الله عز وَجل من الْفضل وَقَوْلها لأخته قصيه إِنَّمَا هُوَ لترى أُخْته كَيْفيَّة قدرَة الله تَعَالَى فِي تخليصه من يَدي فِرْعَوْن عدوه بعد وُقُوعه فيهمَا وليتم بهَا مَا وعدها الله تَعَالَى من رده إِلَيْهَا فَبعثت أُخْته لترده بِالْوَحْي ذكرُوا قَول الله تَعَالَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ بِرَأْس أَخِيه يجره إِلَيْهِ {قَالَ يَا ابْن أم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} قَالُوا وَهَذِه مَعْصِيّة أَن يَأْخُذ بلحية أَخِيه وشعره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَهُوَ نَبِي مثله وأسن مِنْهُ وَلَا ذَنْب لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ كَمَا طنوا وَهُوَ خَارج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن أَخذه بِرَأْس أَخِيه ليقبل بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيسمع عتابه لَهُ إِذْ تَأَخّر عَن اتِّبَاعه إِذْ رَآهُمْ ضلوا وَلم يَأْخُذ بِشعر أَخِيه قطّ إِذْ لَيْسَ ذَلِك فِي الْآيَة أصلا وَمن زَاد ذَلِك فِيهَا فقد كذب على الله تَعَالَى لَكِن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام خشيى بادرة من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وسطوة إِذْ رَآهُ قد اشْتَدَّ غَضَبه فَأَرَادَ توقيفه بِهَذَا الْكَلَام عَمَّا تخوفه مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة مَا يُوجب غير مَا قُلْنَاهُ وَلَا أَنه مد يَده إِلَى أَخِيه أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالثَّانِي أَن يكون هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام قد يكون اسْتحق فِي نظر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام النكير لتأخيره عَن لحاقه إِذْ رَآهُمْ ضلوا فَأخذ بِرَأْسِهِ مُنْكرا عَلَيْهِ وَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ إِنَّمَا فعله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام غَضبا لرَبه عز وَجل وقاصداً بذلك رِضَاء الله تَعَالَى ولسنا نبعد هَذَا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا نبعد الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وهم يعلمُونَ أَنَّهَا مَعْصِيّة وَهَذَا هُوَ معنى مَا ذكره الله تَعَالَى عَن إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَول الله تَعَالَى لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} إِنَّمَا الْخَطِيئَة الْمَذْكُورَة والذنُوب المغفورة مَا وَقع بنسيان أَو بِقصد إِلَى الله تَعَالَى إِرَادَة الْخَيْر فَلم يُوَافق رضَا الله عز وَجل بذلك فَقَط وَذكروا قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام للخضر عَلَيْهِ السَّلَام أقتلت نفسا زكية بِغَيْر نفس فَأنْكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الشَّيْء وَهُوَ لَا يُعلمهُ وَقد كَانَ أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد أَن لَا يسْأَله عَن شَيْء حَتَّى يحدث لَهُ مِنْهُ ذكرا فَهَذَا أَيْضا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن ذَلِك كَانَ على سَبِيل النسْيَان وَقد بَين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بقوله لَا تؤاخذني بِمَا نسيت وَلَا ترهقني من أَمْرِي عسراً فَرغب إِلَيْهِ أَنه لَا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الْخضر لَهُ بِالنِّسْيَانِ دَلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا من أَنهم عَلَيْهِم السَّلَام مؤاخذون بِالنِّسْيَانِ وَبِمَا قصدُوا بِهِ الله عز وَجل فَلم يصادفوا بذلك مُرَاد الله عز وَجل وَتكلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على ظَاهر الْأَمر وَقدر أَن الْغُلَام زكي إِذْ لم يعلم لَهُ ذَنبا وَكَانَ عِنْد الْخضر الْعلم الجلى بِكفْر ذَلِك الْغُلَام واستحقاقه الْقَتْل فقصد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بكلامة فِي ذَلِك وَجه الله تَعَالَى وَالرَّحْمَة وإنكار مَا لم يعلم وَجهه وَذكروا قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فعلتها إِذا وانا من الضَّالّين فَقَوْل صَحِيح وَهُوَ حَاله قبل النُّبُوَّة فَإِنَّهُ كَانَ ضَالًّا عَمَّا اهْتَدَى لَهُ بعد النُّبُوَّة وضلال الْغَيْب عَن الْعلم كَمَا تَقول أضللت بَعِيري لَا ضلال الْقَصْد إِلَى الْإِثْم وَهَكَذَا قَول الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووجدك ضَالًّا فهدى أَي ضَالًّا عَن الْمعرفَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذكروا قَول الله عز وَجل عَن بني إِسْرَائِيل فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا ارنا الله جهرة فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم قَالُوا ومُوسَى قد سَأَلَ ربه مثل ذَلِك فَقَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 لن تراني قَالُوا فقد سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمرا عُوقِبَ سائلوه قبله. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ خَارج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ ذَلِك قبل سُؤال بني إِسْرَائِيل رُؤْيَة الله تَعَالَى وَقبل أَن يعلم أَن سُؤال ذَلِك لَا يجوز فَهَذَا لَا مَكْرُوه فِيهِ لِأَنَّهُ سَأَلَ فَضِيلَة عَظِيمَة أَرَادَ بهَا علو الْمنزلَة عِنْد ربه تَعَالَى وَالثَّانِي أَن بني إِسْرَائِيل سَأَلُوا ذَلِك متعنتين وشكاكا فِي الله عز وَجل ومُوسَى سَأَلَ ذَلِك على الْوَجْه الْحسن الَّذِي ذكرنَا آنِفا. الْكَلَام على يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا أَمر يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَقَول الله تَعَالَى عَنهُ {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضباً فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ أَنِّي كنت من الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَوله لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {فأصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم} وَقَوله تَعَالَى {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} قَالُوا وَلَا ذَنْب أعظم من المغاضبة لله عز وَجل وَمن أكبر ذَنبا مِمَّن ظن أَن الله لَا يقدر عَلَيْهِ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَنه اسْتحق الذَّم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة الله عز وَجل وَأَنه اسْتحق الْمَلَامَة وَأَنه أقرّ على نَفسه أَنه كَانَ من الظَّالِمين وَنهى الله تَعَالَى نبيه أَن يكون مثله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كُله لَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ حجَّة لنا على صِحَة قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما أَخْبَار الله تَعَالَى أَن يُونُس ذهب مغاضباً فَلم يغاضب ربه قطّ وَلَا قَالَ الله تَعَالَى أَنه غاضب ربه فَمن زَاد هَذِه الزِّيَادَة كَانَ قَائِلا على الله الْكَذِب وزائداً فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ هَذَا لَا يحل وَلَا يجوز أَن يظنّ بِمن لَهُ أدنى مسكة من عقل أَنه يغاضب ربه تَعَالَى فَكيف أَن يفعل ذَلِك نَبِي من الْأَنْبِيَاء فَعلمنَا يَقِينا أَنه إِنَّمَا غاضب قومه وَلم يُوَافق ذَلِك مُرَاد الله عز وَجل فَعُوقِبَ بذلك وَأَن كَانَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام لم يقْصد بذلك إِلَّا رضَا الله عز وَجل وَأما قَوْله تَعَالَى {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} فَلَيْسَ على مَا ظنوه من الظَّن السخيف الَّذِي لَا يجوز أَن يظنّ بضعيفة من النِّسَاء أَو بضعيف من الرِّجَال إِلَّا أَن يكون قد بلغ الْغَايَة من الْجَهْل فَكيف بِنَبِي مفصل على النَّاس فِي الْعلم وَمن الْمحَال الْمُتَيَقن أَن يكون نَبِي يظنّ أَن الله تَعَالَى الَّذِي أرْسلهُ بِدِينِهِ لَا يقدر عَلَيْهِ وَهُوَ يرى أَن آدَمِيًّا مثله يقدر عَلَيْهِ وَلَا شكّ فِي أَن من نسب هَذَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَاضِل فَإِنَّهُ يشْتَد غَضَبه لَو نسب ذَلِك إِلَيْهِ أَو إِلَى ابْنه فَكيف إِلَى يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يَقُول فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تفضلُونِي على يُونُس بن مَتى فقد بَطل ظنهم بِلَا شكّ وَصَحَّ أَن معنى قَوْله {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أَي لن نضيق عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} أَي ضيق عَلَيْهِ فَظن يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى لَا يضيق عَلَيْهِ فِي مغاضبته لِقَوْمِهِ إِذْ ظن أَنه محسن فِي فعله ذَلِك وَإِنَّمَا نهى الله عز وَجل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَن يكون كصاحب الْحُوت فَنعم نَهَاهُ الله عز وَجل عَن مغاضبته قومه وَأمره بِالصبرِ على أذاهم وبالمطاولة لَهُم وَأما قَول الله تَعَالَى أَنه اسْتحق الذَّم والملامة لَوْلَا النِّعْمَة الَّتِي تَدَارُكه بهَا للبث معاقباً فِي بطن الْحُوت فَهَذَا نفس مَا قُلْنَاهُ من ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام يؤاخذون فِي الدُّنْيَا على مَا فَعَلُوهُ مِمَّا يَظُنُّونَهُ خيرا وقربة إِلَى الله عز وَجل إِذا لم يُوَافق مُرَاد رَبهم وعَلى هَذَا الْوَجْه أقرّ على نَفسه بِأَنَّهُ كَانَ من الظَّالِمين وَالظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه فَلَمَّا وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المغاضبة فِي غير موضعهَا اعْترف فِي ذَلِك بالظلم لَا على أَنه قَصده وَهُوَ يدْرِي أَنه ظلم انْقَضى الْكَلَام فِي يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق. الْكَلَام فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَذكروا أَيْضا قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب إِذْ دخلُوا على دَاوُد فَفَزعَ مِنْهُم قَالُوا لَا تخف خصمان} إِلَى قَوْله {فغفرنا لَهُ ذَلِك} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول صَادِق صَحِيح لَا يدل على شَيْء مِمَّا قَالَه المستهزئون الْكَاذِبُونَ المتعلقون بخرافات وَلَدهَا الْيَهُود وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك الْخصم قوما من بني آدم بِلَا شكّ مختصمين فِي نعاج من الْغنم على الْحَقِيقَة بَينهم بغى أَحدهمَا على الآخر على نَص الْآيَة وَمن قَالَ أَنهم كَانُوا مَلَائِكَة معرضين بِأَمْر النِّسَاء فقد كذب على الله عز وَجل وَقَوله مَا لم يقل وَزَاد فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ وَكذب الله عز وَجل وَأقر على نَفسه الخبيثة أَنه كذب الْمَلَائِكَة لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم} فَقَالَ هُوَ لم يَكُونُوا قطّ خصمين وَلَا بغي بَعضهم على بعض وَلَا كَانَ قطّ لأَحَدهمَا تسع وَتسْعُونَ نعجة وَلَا كَانَ للْآخر نعجة وَاحِدَة وَلَا قَالَ لَهُ أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فِيهِ أهل الْبَاطِل أنفسهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ كل ذَلِك بِلَا دَلِيل بل الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة وتالله أَن كل أمرئ منا ليصون نَفسه وجاره المستور عَن أَن يتعشق امْرَأَة جَاره ثمَّ يعرض زَوجهَا للْقَتْل عمدا ليتزوجها وَعَن أَن يتْرك صلَاته لطائر يرَاهُ هَذِه أَفعَال السُّفَهَاء المتهوكين الْفُسَّاق المتمردين لَا أَفعَال أهل الْبر وَالتَّقوى فَكيف برَسُول الله دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أُوحِي إِلَيْهِ كِتَابه وأجرى على لِسَانه كَلَامه لقد نزهه الله عز وَجل عَن أَن يمر مثل هَذَا الْفُحْش بِبَالِهِ فَكيف أَن يستضيف إِلَى أَفعاله وَأما استغفاره وخروره سَاجِدا ومغفرة الله تَعَالَى لَهُ فالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أولى النَّاس بِهَذِهِ الْأَفْعَال الْكَرِيمَة وَالِاسْتِغْفَار فعل خير لَا يُنكر من ملك وَلَا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 نَبِي وَلَا من مذنب وَلَا من غير مذنب فالنبي يسْتَغْفر الله لمذنبي أهل الأَرْض وَالْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَأغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم عَذَاب الْجَحِيم} وَأما قَوْله تَعَالَى عَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {وَظن دَاوُد إِنَّمَا فتناه} وَقَوله تَعَالَى {فغفرنا لَهُ ذَلِك} فقد ظن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَن يكون مَا أَتَاهُ الله عز وَجل من سَعَة الْملك الْعَظِيم فتْنَة فقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو فِي أَن يثبت الله قلبه على دينه فأستغفر الله تَعَالَى من هَذَا الظَّن فغفر الله تَعَالَى لَهُ هَذَا الظَّن إِذْ لم يكن مَا أَتَاهُ الله تَعَالَى من ذَلِك فتْنَة. الْكَلَام فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَذكروا قَول الله عز وَجل عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه جسداً ثمَّ أناب} . قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا إِذْ معنى قَوْله تَعَالَى فتنا سُلَيْمَان أَي أتيناه من الْملك مَا أختبرنا بِهِ طَاعَته كَمَا قَالَ تَعَالَى مُصدقا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} إِن من الْفِتْنَة من يهدي الله من يَشَاء وَقَالَ تَعَالَى {ألم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين} فَهَذِهِ الْفِتْنَة هِيَ الاختبار حَتَّى يظْهر الْمُهْتَدي من الضال فَهَذِهِ فتْنَة الله تَعَالَى لِسُلَيْمَان إِنَّمَا هِيَ اختباره حَتَّى ظهر فَضله فَقَط وَمَا عدا هَذَا فخرافات وَلَدهَا زنادقة الْيَهُود وأشباههم وَأما الْجَسَد الْملقى على كرسيه فقد أصَاب الله تَعَالَى بِهِ مَا أَرَادَ نؤمن بِهَذَا كَمَا هُوَ ونقول صدق الله عز وَجل كل من عِنْد الله رَبنَا وَلَو جَاءَ نَص صَحِيح فِي الْقُرْآن أَو عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتفسير هَذَا الْجَسَد مَا هُوَ لقلنا بِهِ فَإِذا لم يَأْتِ بتفسيره مَا هُوَ نَص وَلَا خبر صَحِيح فَلَا يحل لأحد القَوْل بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أكذب الحَدِيث فِي ذَلِك فَيكون كَاذِبًا على الله عز وَجل إِلَّا أننا لَا نشك الْبَتَّةَ فِي بطلَان قَول من قَالَ أَنه كَانَ جنيا تصور بصورته بل نقطع على أَنه كذب وَالله تَعَالَى لَا يهتك ستر رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الهتك وَكَذَلِكَ نبعد قَول من قَالَ أَنه كَانَ ولدا لَهُ أرْسلهُ إِلَى السَّحَاب ليربيه فسليمان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أعلم من أَن يُربي ابْنه بِغَيْر مَا طبع الله عز وَجل بنية الْبشر عَلَيْهِ من اللَّبن وَالطَّعَام وَهَذِه كلهَا خرافات مَوْضُوعَة مكذوبة لم يَصح اسنادها قطّ وَذكروا أَيْضا قَول الله عز وَجل عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب ردوهَا على فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} وتأولوا ذَلِك على مَا قد نزه الله عَنهُ من لَهُ أدنى مسكة من عقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 من أهل زَمَاننَا وَغَيره فَكيف بِنَبِي مَعْصُوم مفضل فِي أَنه قتل الْخَيل اذا اشْتغل بهَا عَن الصَّلَاة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة سخيفة بَارِدَة قد جمعت أفانين من القَوْل وَالظَّاهِر أَنَّهَا من اختراع زنديق بِلَا شكّ لِأَن فِيهَا معاقبة خيل لَا ذَنْب لَهَا والتمثيل بهَا واتلاف مَال منتفع بِهِ بِلَا معنى وَنسبَة تَضْييع الصَّلَاة إِلَى نَبِي مُرْسل ثمَّ يُعَاقب الْخَيل على ذَنبه لَا على ذنبها وَهَذَا أَمر لَا يستجيزه صبي ابْن سبع سِنِين فَكيف بِنَبِي مُرْسل وَمعنى هَذِه الْآيَة ظَاهر بَين وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أخبر أَنه أحب حب الْخَيْر من أجل ذكر ربه حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب أَو حَتَّى تَوَارَتْ تِلْكَ الصافنات الْجِيَاد بحجابها ثمَّ أَمر بردهَا فَطَفِقَ مسحا بسوقها وأعناقها بِيَدِهِ برا بهَا وإكراماً لَهَا هَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَة الَّذِي لَا يحْتَمل غَيره وَلَيْسَ فِيهَا إِشَارَة أصلا إِلَى مَا ذَكرُوهُ من قتل الْخَيل وتعطيل الصَّلَاة وكل هَذَا قد قَالَه ثِقَات الْمُسلمين فَكيف وَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكروا أَيْضا الحَدِيث الثَّابِت من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لاطوفن اللَّيْلَة على كَذَا وَكَذَا امْرَأَة كل امْرَأَة مِنْهُنَّ تَلد فَارِسًا يُقَاتل فِي سَبِيل الله وَلم يقل إِن شَاءَ الله. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَإِن من قصد تَكْثِير الْمُؤمنِينَ الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله عز وَجل فقد أحسن وَلَا يجوز أَن يظنّ بِهِ أَنه يجهل أَن ذَلِك لَا يكون إِلَّا أَن يَشَاء الله عز وَجل وَقد جَاءَ فِي نَص الحَدِيث الْمَذْكُور أَنه إِنَّمَا ترك إِن شَاءَ الله نِسْيَانا فأوخذ بِالنِّسْيَانِ فِي ذَلِك وَقد قصد الْخَيْر وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين تمّ الْكَلَام فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فصل وَذكروا قَوْله تَعَالَى {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي أتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين} . قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَص الْآيَة وَلَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذَا الْمَذْكُور كَانَ نَبيا وَقد يكون أنباء الله تَعَالَى لهَذَا الْمَذْكُور آيَاته أَنه أرسل إِلَيْهِ رَسُولا بآياته كَمَا فعل بفرعون وَغَيره فأنسلخ مِنْهَا بالتكذيب فَكَانَ من الغاوين وَإِذا صَحَّ أَن نَبيا لَا يعْصى الله عز وَجل تعمداً فَمن الْمحَال أَن يُعَاقِبهُ الله تَعَالَى على مَا لَا يفعل وَلَا عُقُوبَة أعظم من الْحَط عَن النُّبُوَّة وَلَا يجوز أَن يُعَاقب بذلك نَبِي الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَا يكون مِنْهُ مَا يسْتَحق بِهِ هَذَا الْعقَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصح يَقِينا أَن هَذَا المنسلخ لم يكن قطّ نَبيا وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مَا من أحد إِلَّا من ألم بذنب أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا صَحِيح وَلَيْسَ خلافًا لقولنا إِذْ قد بَينا ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 يَقع مِنْهُم النسْيَان وَقصد الشَّيْء يَظُنُّونَهُ قربَة إِلَى الله تَعَالَى فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم ينج من هَذَا أحد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام فَيَقُول من هَذَا أَن يحيى لم ينس شَيْئا وَاجِبا عَلَيْهِ قطّ وَلَا فعل إِلَّا مَا وَافق فِيهِ مُرَاد ربه عز وَجل (الْكَلَام فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا قَول الله تَعَالَى لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم وَقَوله تَعَالَى {عبس وَتَوَلَّى إِن جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى أَو يذكر فتنفعه الذكرى أما من اسْتغنى فَأَنت لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْك إِلَّا يزكّى وَأما من جَاءَك يسْعَى وَهُوَ يخْشَى فَأَنت عَنهُ تلهى} وَبِالْحَدِيثِ الْكَاذِب الَّذِي لم يَصح قطّ فِي قِرَاءَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي {والنجم إِذا هوى} وَذكروا تِلْكَ الزِّيَادَة المفتراة الَّتِي تشبه من وَضعهَا من قَوْلهم وَإِنَّهَا لهي الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجي وَذكروا قَول الله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَإِن الْوَحْي امتسك عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام لتَركه الِاسْتِثْنَاء إِذْ سَأَلَهُ الْيَهُود عَن الرّوح وَعَن ذِي القرنين وَأَصْحَاب الْكَهْف وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وتخفى فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه} وَبِمَا روى من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لقد عرض على عذابكم أدنى من هَذِه الشَّجَرَة إِذْ قبل الْفِدَاء وَترك قتل الأسرى ببدر وَبِمَا روى من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَو نزل عَذَاب مَا نجى مِنْهُ إِلَّا عمر لِأَن عمر أَشَارَ بِقَتْلِهِم وَذكروا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَال إِلَى رَأْي أبي بكر فِي الفدا والاستبقاء وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالُوا فَإِن لم يكن لَهُ ذَنْب فَمَاذَا غفر لَهُ وَبِأَيِّ شَيْء أمتن الله عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو دعيت إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ يُوسُف لَأَجَبْت فَإِنَّمَا هَذَا إِذْ دعِي إِلَى الْخُرُوج من السجْن فَلم يجب إِلَى الْخُرُوج حَتَّى قَالَ للرسول ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْديهم إِن رَبِّي بكيدهن عليم فَأمْسك عَن الْخُرُوج من السجْن وَقد دعِي إِلَى الْخُرُوج عَنهُ حَتَّى اعْترف النسْوَة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك مَا كَانَ شكّ فِيهِ فَأخْبر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو دعِي إِلَى الْخُرُوج من السجْن لأجاب وَهَذَا التَّفْسِير مَنْصُوص فِي الحَدِيث نَفسه كَمَا ذكرنَا من كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَو لَبِثت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ دعيت لَأَجَبْت الدَّاعِي أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَأما قَول الله عز وَجل {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فقد بَينا أَن ذنُوب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيست إِلَّا مَا وَقع بنسيان أَو بِقصد إِلَى مَا يظنون خيرا مِمَّا لَا يوافقون مُرَاد الله تَعَالَى مِنْهُم فهذان لوجهان هما اللَّذَان غفر الله عز وَجل لَهُ وَأما قَوْله {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} فَإِنَّمَا الْخطاب فِي ذَلِك للْمُسلمين لَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك إِذْ تنازعوا فِي غَنَائِم بدر فَكَانُوا هم المذنبين المتشتنين عَلَيْهِ يبين ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} وَقَوله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة نَفسهَا النَّازِلَة فِي هَذَا الْمَعْنى {يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ} وَقَوله تَعَالَى قبل ذكره الْوَعيد بِالْعَذَابِ الَّذِي احْتج بِهِ من خَالَفنَا {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة} فَهَذَا نَص الْقُرْآن وَقد رد الله عز وَجل الْأَمر فِي الْأَنْفَال الْمَأْخُوذَة يَوْمئِذٍ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْخَبَر الْمَذْكُور الَّذِي فِيهِ لقد عرض على عذابكم أدنى من هَذِه الشَّجَرَة وَلَو نزل عَذَاب مَا نجى مِنْهُ إِلَّا عمر فَهَذَا خبر لَا يَصح لِأَن الْمُنْفَرد بروايته عِكْرِمَة بن عمار اليمامي وَهُوَ مِمَّن قد صَحَّ عَلَيْهِ وضع الحَدِيث أَو سوء الْحِفْظ أَو الْخَطَأ الَّذِي لَا يجوز مَعَهُمَا الرِّوَايَة عَنهُ ثمَّ لَو صَحَّ لَكَانَ القَوْل فِيهِ كَمَا قُلْنَا من انه قصد الْخَيْر بذلك وَأما قَوْله {عبس وَتَوَلَّى} الْآيَات فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد جلس إِلَيْهِ عَظِيم من عُظَمَاء قُرَيْش وَرَجا إِسْلَامه وَعلم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَو أسلم لأسلم بِإِسْلَامِهِ نَاس كثير وَأظْهر الدّين وَعلم أَن هَذَا الْأَعْمَى الَّذِي يسْأَله عَن أَشْيَاء من أُمُور الدّين لَا يفوتهُ وَهُوَ حَاضر مَعَه فاشتغل عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا خَافَ فَوته من عَظِيم الْخَيْر عَمَّا لَا يخَاف فَوته وَهَذَا غَايَة النّظر للدّين وَالِاجْتِهَاد فِي نصْرَة الْقُرْآن فِي ظَاهر الْأَمر وَنِهَايَة التَّقَرُّب إِلَى الله الَّذِي لَو فعله الْيَوْم منا فَاعل لأجر فَعَاتَبَهُ الله عز وَجل على ذَلِك إِذْ كَانَ الأولى عِنْد الله تَعَالَى أَن يقبل على ذَلِك الْأَعْمَى الْفَاضِل الْبر التقي وَهَذَا نفس مَا قُلْنَاهُ وكما سهى عَلَيْهِ السَّلَام من اثْنَتَيْنِ وَمن ثَلَاث وَقَامَ من اثْنَتَيْنِ وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يفعل من ذَلِك شَيْئا تعمداً أصلا نعم وَلَا يفعل ذَلِك تعمدا إِنْسَان منا فِيهِ خير وَأما الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وأنهن الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى فكذب بحت مَوْضُوع لِأَنَّهُ لم يَصح قطّ من طَرِيق النَّقْل وَلَا معنى للاشتغال بِهِ إِذْ وضع الْكَذِب لَا يعجز عَنهُ أحد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان الْآيَة فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن الْأَمَانِي الْوَاقِعَة فِي النَّفس لَا معنى لَهَا وَقد تمنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِسْلَام عَمه أبي طَالب وَلم يرد الله عز وَجل كَون ذَلِك فَهَذِهِ الْأَمَانِي الَّتِي ذكرهَا الله عز وَجل لَا سواهَا وحاشا لله أَن يتَمَنَّى نَبِي مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة دون مزِيد تكلّف وَلَا يحل خلاف الظَّاهِر إِلَّا بِظَاهِر آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْله {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} فقد كفى الله عز وَجل الْكَلَام فِي ذَلِك ببيانه فِي أخر الْآيَة أَن ذَلِك كَانَ نِسْيَانا فعوتب عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك وَأما قَوْله تَعَالَى {وتخفى فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه} فقد انفنا من ذَلِك إِذْ لم يكن فِيهِ مَعْصِيّة أصلا وَلَا خلاف فِيمَا أمره الله تَعَالَى بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ اراد زواج مُبَاح لَهُ فعله ومباح لَهُ تَركه ومباح لَهُ طيه ومباح لَهُ إِظْهَاره وَإِنَّمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 خشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس فِي ذَلِك خوف أَن يَقُولُوا قولا ويظنوا ظنا فيهلكوا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِلَانْصَارِ بَين إِنَّهَا صَفِيَّة فاستعظما ذَلِك فَأَخْبرهُمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه إِنَّمَا أخْشَى أَن يلقِي الشَّيْطَان فِي قلوبهما شَيْئا وَهَذَا الَّذِي خشيه عَلَيْهِ السَّلَام على النَّاس من هَلَاك أديانهم بِظَنّ يَظُنُّونَهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الَّذِي يحققه هَؤُلَاءِ المخذولون المخالفون لنا فِي هَذَا الْبَاب من نسبتهم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعمد الْمعاصِي فَهَلَكت أديانهم وَضَلُّوا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَكَانَ مُرَاد الله عز وَجل أَن يُبْدِي مَا فِي نَفسه لما كَانَ سلف فِي علمه من السَّعَادَة لأمنا زَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تحتجون كثيرا بقول الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَبِقَوْلِهِ {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا} وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لأتقاكم لله وَأعْلمكُمْ بِمَا آتِي وآذر وتقولن من أجل هَذِه النُّصُوص إِن كل قَول قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام فبوحي من الله قَالَه وكل عمل عمله فبإذن من الله تَعَالَى وَرَضي مِنْهُ عمله فأخبرونا عَن سَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَكْعَتَيْنِ وَمن ثَلَاث وقيامه من اثْنَتَيْنِ وَصلَاته الظّهْر خمْسا وإخباره بِأَنَّهُ يحكم بِالْحَقِّ فِي الظَّاهِر لمن لَا يحل لَهُ أَخذه مِمَّن يعلم أَنه فِي بَاطِن الْأَمر بِخِلَاف مَا حكم لَهُ بِهِ من ذَلِك أبوحي من الله تَعَالَى وبرضاه فعل كل ذَلِك أم كَيفَ تَقولُونَ وَهل يلْزم الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم لَهُ الرِّضَا بِحكمِهِ ذَلِك وهما يعلمَانِ أَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك أم لَا. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كل مَا ذكر هَا هُنَا فبوحي من الله تَعَالَى فعله وكل من قدر وَلم يشك فِي أَنه قد أتم صلَاته فَالله تَعَالَى أمره بِأَن يسلم فَإِذا علم بعد ذَلِك أَنه سهى فقد لَزِمته شَرِيعَة الاتمام وَسُجُود السَّهْو برهَان ذَلِك أَنه لَو تَمَادى وَلم يسلم قَاصِدا إِلَى الزِّيَادَة فِي صلَاته على تَقْدِير أَنه قد أتمهَا لبطلت صلَاته كلهَا بِلَا شكّ بَاطِنا وظاهراً ولاستحق اسْم الْفسق وَالْمَعْصِيَة وَكَذَلِكَ من قدر أَنه لم يصل إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة وَأَنه لم يتم صلَاته فَإِن الله أمره بِالزِّيَادَةِ فِي صلَاته يَقِينا حَتَّى لَا يشك فِي الْإِتْمَام وَبِأَن يقوم إِلَى ثَانِيَة عِنْده فَمَتَى علم بِأَن الْأَمر كَانَ بِخِلَاف ذَلِك فَصلَاته تَامَّة وَلَزِمتهُ حِينَئِذٍ شَرِيعَة سُجُود السَّهْو وبرهان ذَلِك أَنه لَو قعد من وَاحِدَة عِنْده مُتَعَمدا مستهزئاً أَو سلم من ثَلَاث عِنْده مُعْتَمدًا لبطلت صلَاته جملَة ولاستحق اسْم الْفسق وَالْمَعْصِيَة لِأَنَّهُ فعل خلاف مَا أمره الله تَعَالَى بِهِ وَكَذَلِكَ أمره الله وأمرنا بالحكم بِالْبَيِّنَةِ العدلة عندنَا وباليمين من الْمُنكر وباقرار الْمقر وَإِن كَانَت الْبَيِّنَة عامدة للكذب فِي غير علمنَا وَكَانَت الْيَمين وَالْإِقْرَار كاذبين فِي الْبَاطِن وافترض الله علينا بذلك سفك الدِّمَاء الَّتِي لَو علمنَا الْبَاطِن لحرمت علينا وَهَكَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فِي الْفروج وَالْأَمْوَال برهَان ذَلِك إِن حَاكما لَو شهد عِنْده بَيِّنَة عدل عِنْده فَلم يقْض بهَا وَقضى بِالْيَمِينِ على الْمُنكر الَّذِي لَا بَيِّنَة عَلَيْهِ فَحلف ثمَّ قضى عَلَيْهِ لَكَانَ القَاضِي فَاسِقًا بِلَا خلاف عَاصِيا لله عز وَجل لخلافه مَا أمره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَإِن وَافق حَقًا لم يكن علم بِهِ وَفرض على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم لَهُ أَن يرضيا بالحكم بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين وَأَن يصيرا فِي أَنفسهمَا إِلَى حَقِيقَة علمهما فِي أَخذ الْحق وإعطائه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا قَول الله تَعَالَى {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا جَاءَهُم نصرنَا} بتَخْفِيف الذَّال وَلَيْسَ هَذَا على مَا ظَنّه الْجُهَّال وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام ظنُّوا بِمن وعدهم النَّصْر من قَومهمْ أَنهم كذبُوا فِيمَا وعدوهم من نَصرهم وَمن الْمحَال الْبَين أَن يدْخل فِي عقل من لَهُ أدنى رَمق أَن الله تَعَالَى يكذب فَكيف بصفوة الله تَعَالَى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بِاللَّه عز وَجل وَمن نسب هَذَا إِلَى نَبِي فقد نسب إِلَيْهِ الْكفْر وَمن أجَاز إِلَى نَبِي الْكفْر فَهُوَ الْكَافِر الْمُرْتَد بِلَا شكّ وَالَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة وَلَيْسَ فِيهَا أَن الله تَعَالَى كذبهمْ حاشا لله من هَذَا وَذكروا أَيْضا قَول الله تَعَالَى {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسأل الَّذين يقرؤون الْكتاب من قبلك لقد جآءك الْحق من رَبك} قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا عهدنا هَذَا الِاعْتِرَاض من أهل الْكتاب وَغَيرهم وَأما من يدعى أَنه مُسلم فَلَا وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون مُسلم يظنّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ شاكا فِي صِحَة الْوَحْي إِلَيْهِ وَلنَا فِي هَذِه الْآيَة رِسَالَة مَشْهُورَة وَجُمْلَة حل هَذَا الشَّك أَن أَن فِي هَذِه الْآيَة الْمَذْكُورَة بِمَعْنى مَا الَّتِي للجحد بِمَعْنى وَمَا كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك ثمَّ أمره أَن يسْأَل أهل الْكتاب تقريراً لَهُم على أَنهم يعلمُونَ أَنه نَبِي مُرْسل مَذْكُور عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق. قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا هُوَ بِهِ قد تقصيناه وبيناه وأرينا أَنه مُوَافق لقولنا وَلَا يشْهد شَيْء مِنْهُ لقَوْل مخالفنا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَنحن الْآن نَأْخُذ بحول الله وقوته فِي الْإِتْيَان بالبراهين الضرورية الْوَاضِحَة على صِحَة قَوْلنَا وَبطلَان قَول مخالفنا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل وَمن يغلل يَأْتِ بِمَا غل يَوْم الْقِيَامَة} وَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عباداً لي من دون الله} فَوَجَدنَا الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين قد نفى عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْغلُول وَالْكفْر والتجبر وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن حكم الْغلُول كَحكم سَائِر الذُّنُوب قد صَحَّ الْإِجْمَاع بذلك وَأَن من جوز على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْئا من تعمدا لذنوب جوز عَلَيْهِم الْغلُول وَمن نفى عَنْهُم الْغلُول نفى عَنْهُم سَائِر الذُّنُوب وَقد صَحَّ نفي الْغلُول عَنْهُم بِكَلَام الله تَعَالَى فَوَجَبَ انْتِفَاء تعمد الذُّنُوب عَنْهُم بِصِحَّة الْإِجْمَاع على أَنَّهَا سَوَاء الْغلُول وَقَالَ عز وَجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 {أم حسب الَّذين اجترحوا السيئآت أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَا يخلوا مخالفنا الَّذِي يُجِيز أَن يكون الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قد اجترحوا السيئآت من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يَقُول إِن فِي سَائِر النَّاس من لم يعْص وَلَا اجترح سَيِّئَة قيل لَهُ فَمن هَؤُلَاءِ الَّذين نفي الله عَنْهُم أَن يكون الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات مثلهم إِذا كَانُوا غير موجودين فِي الْعَالم فَلَا بُد من ان يَجْعَل كَلَام الله عز وَجل هَذَا فَارغًا لَا معنى لَهُ وَهَذَا كفر من قَائِله أَو يَقُول هم الْمَلَائِكَة فَإِن قَالَ ذَلِك رد قَوْله هَذَا قَول الله تَعَالَى فِي الْآيَة نَفسهَا {سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون} وَلَا نَص وَلَا إِجْمَاع على أَن الْمَلَائِكَة تَمُوت وَلَو جَاءَ بذلك نَص لقلنا بِهِ بل الْبُرْهَان مُوجب أَن لَا يموتوا لِأَن الْجنَّة دَار لَا موت فِيهَا وَالْمَلَائِكَة سكان الْجنان فِيهَا خلقُوا وفيهَا يخلدُونَ أبدا وَكَذَلِكَ الْحور الْعين وَأَيْضًا فَإِن الْمَوْت إِنَّمَا هُوَ فِرَاق النَّفس للجسد الْمركب وَقد نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْمَلَائِكَة خلقُوا من نور فَلَيْسَ فيهم شَيْء يُفَارق شَيْئا فيسمى موتا فَإِن اعْترض معترض بقوله {كل نفس ذائقة الْمَوْت} لزمَه أَن حمل هَذِه الْآيَة على عمومها أَن الْحور الْعين يمتن فَيجْعَل الْجنَّة دَار موت وَقد أبعدها الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ} فَعلمنَا بِهَذَا النَّص أَن قَوْله تَعَالَى {كل نفس ذائقة الْمَوْت} إِنَّمَا عَنى بِهِ من كَانَ فِي غير الْجنَّة من الْجِنّ وَالْإِنْس وَسَائِر الْحَيَوَان الْمركب الَّذِي يُفَارق روحه جسده وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيرد أَيْضا قَوْله أَن قَالَ بِهَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد إِلَّا وَقد ألم أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا أَو يَقُول أَن فِي النَّاس من لم يجترح سَيِّئَة قطّ وَإِن من اجترح السَّيِّئَات لَا يساويهم كَمَا قَالَ عز وَجل فَإِن قَالَ ذَلِك فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام عِنْده يجترجون السَّيِّئَات وَفِي سَائِر النَّاس من لَا يجترحها فَوَجَبَ أَن يكون فِي النَّاس من هُوَ أفضل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا كفر وَمَا قَدرنَا أَن أحدا مِمَّن ينتمي إِلَى أهل الْإِسْلَام وَلَا إِلَى أهل الْكتاب ينْطَلق لِسَانه بِهَذَا حَتَّى رَأينَا الْمَعْرُوف بِابْن الباقلاني فِيمَا ذكر عَنهُ صَاحبه أَبُو جَعْفَر السمناني قَاضِي الْموصل أَنه قد يكون فِي النَّاس بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُوَ أفضل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ يبْعَث إِلَى حِين يَمُوت فاستعظمنا ذَلِك وَهَذَا شرك مُجَرّد وقدح فِي النُّبُوَّة لاخفاء بِهِ وَقد كُنَّا نسْمع عَن قوم من الصُّوفِيَّة أَنهم يَقُولُونَ أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي وَكُنَّا لَا نحقق هَذَا على أحد يدين بدين الْإِسْلَام إِلَى أَن وجدنَا هَذَا الْكَلَام كَمَا أوردنا فنعوذ بِاللَّه من الارتداد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن هَذَا الضال المضل يدْرِي مَا معنى لَفْظَة أفضل ويدري فَضِيلَة النُّبُوَّة لما انْطلق لِسَانه بِهَذَا الْكفْر وَهَذَا التَّكْذِيب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول أَنِّي لأتقاكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 لله وَإِنِّي لست كهيئتكم وَإِنِّي لست مثلكُمْ فَإذْ قد صَحَّ بِالنَّصِّ أَن فِي النَّاس من لم يجترح السَّيئَة وَإِن من اجترح السيآت لَا يساويهم عِنْد الله عز وَجل فالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أَحَق بِهَذِهِ الدرجَة وَبِكُل فَضِيلَة بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام بقول الله عز وَجل {الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} فَأخْبر تَعَالَى أَن الرُّسُل صفوته من خلقه وَقد اعْترض علينا بعض الْمُخَالفين بِأَن قَالَ فَمَا تَقول فِيمَن بلغ فَآمن وَذكر الله مَرَّات وَمَات إِثْر ذَلِك أَو فِي كَافِر أسلم وَقَاتل مُجَاهدًا وَقتل فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقُول أما من كَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم فقد اجترح من السيئآت بِكُفْرِهِ مَا هُوَ أعظم من السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَإِن كَانَ قد غفر لَهُ بإيمانه وَلَكِن قد حصل بِلَا شكّ من جملَة من قد اجترح السيئآت وَأما من بلغ فَآمن وَذكر الله تَعَالَى ثمَّ مَاتَ فقد كَانَ هَذَا مُمكنا فِي طبيعة الْعَالم وَفِي بنيته لَوْلَا قَول الله عز وَجل {أم حسب الَّذين اجترحوا السيئآت أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون} فَإِن الله تَعَالَى قطع قطعا لَا يردهُ إِلَّا كَافِر بِأَنَّهُ لَا يَجْعَل من اجترح السَّيِّئَات كمن لم يجترحها وَنحن نوقن أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وهم أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَقد اجترح سَيِّئَة فَكَانَ يلْزم على هَذَا أَن يكون من أسلم أثر بُلُوغه وَمَات أفضل من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا خلاف قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو كَانَ لِأَحَدِنَا مثل أحد ذَهَبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه فَإِذا هَذَا كَمَا قُلْنَا فَقَوْل الله عز وَجل وَقَول رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق بالتصديق لَا سِيمَا مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام مَا من أحد إِلَّا ألم بذنب أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا فَنحْن نقطع قطعا بِمَا ذكرنَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يبلغ أحد حد التَّكْلِيف إِلَّا وَلَا بُد لَهُ من أَن يجترح سيئآت الله أعلم بهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبُرْهَان على أَنه لم يكن الْبَتَّةَ أَن يَعْصِي نَبِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين لما قَالَ لَهُ الْأنْصَارِيّ هلا أَوْمَأت إِلَى فِي قصَّة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفي عَلَيْهِ السَّلَام عَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَن تكون لَهُم خَائِنَة الْأَعْين وَهُوَ أخف مَا يكون من الذُّنُوب وَمن خلاف الْبَاطِن للظَّاهِر فَدخل فِي هَذَا جَمِيع الْمعاصِي صغيرها أَو كبيرها سرها وجهرها. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فإننا مندوبون إِلَى الإقتداء بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَى الإيتساء بهم فِي أفعالهم كلهَا قَالَ الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} فصح يَقِينا أَنه لَو جَازَ أَن يَقع من أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ذَنْب تعمدا صَغِيرا وكبيراً كَانَ الله عز وَجل قد حضنا على الْمعاصِي وندبنا إِلَى الذُّنُوب وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه فقد صَحَّ يَقِينا ان جَمِيع أَفعَال الْأَنْبِيَاء الَّتِي يقصدونها خير وَحقّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَظِيم إِنْكَاره على ذِي الْخوَيْصِرَة لَعنه الله وَلعن أَمْثَاله إِذْ قَالَ الْكَافِر اعْدِلْ يَا مُحَمَّد ان هَذَا لقسمة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحك من يعدل إِذا أَنا لم أعدل يأمنني الله وَلَا تأمنوني وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ إِذْ سَأَلته عَن الَّذِي قبل امْرَأَته فِي رَمَضَان إِلَّا أخْبرتهَا أَنِّي فعلت ذَلِك وَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ قَالَ لَهُ لست مثلنَا قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر فَأنْكر عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ جعل لَهُ ذَنبا بعمد وَإِن صغر وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي وَالله لأعلمكم بِاللَّه واتقاكم الله أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فَإِن قَالَ قَائِل فَهَلا نفيتم عَنْهُم عَلَيْهِم السَّلَام السَّهْو بِدَلِيل النّدب إِلَى الايتساء بهم عَلَيْهِم السَّلَام قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنْكَار مَا ثَبت كإجازة مَا لم يثبت سَوَاء وَلَا فرق والسهو مِنْهُم قد ثَبت بِيَقِين وَأَيْضًا فَإِن ندب الله تَعَالَى لنا إِلَى الايتساء بهم عَلَيْهِم السَّلَام لَا يمْنَع من وُقُوع السَّهْو مِنْهُم لِأَن الايتساء بالسهو لَا يُمكن إِلَّا بسهو منا وَمن الْمحَال أَن نندب إِلَى السَّهْو أَو نكلف لسهو لأننا لَو قصدنا إِلَيْهِ لم يكن حِينَئِذٍ سَهوا وَلَا يجوز أَيْضا أَن ننهي عَن السَّهْو لِأَن الِانْتِهَاء عَن السَّهْو لَيْسَ فِي بنيتنا وَلَا فِي وسعنا وَقد قَالَ تَعَالَى لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا ونقول أَيْضا إننا مأمورون إِذا سهونا أَن نَفْعل كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سَهَا وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى لَا يقر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على السَّهْو بل ينبههم فِي الْوَقْت وَلم يفعل ذَلِك تَعَالَى لَكَانَ لم يبين لنا مُرَاده منا فِي الدّين وَهَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول تَعَالَى تبياناً لكل شَيْء وَإِذ يَقُول الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَقَوله تَعَالَى وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَسقط قَول من نسب إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْئا من الذُّنُوب بالعمد صغيرها وكبيرها إِذا لم يبْق لَهُم شُبْهَة يموهون بهَا أصلا وَإِذ قد قَامَت الْبَرَاهِين على بُطْلَانهَا وَلَحِقُوا بِذِي الْخوَيْصِرَة. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو كَانَ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْء من الْمعاصِي وَقد ندبنا إِلَى الايتساء بهم وبأفعالهم لَكنا قد أبيحت لنا الْمعاصِي وَكُنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّ جَمِيع ديننَا ضلال وَكفر وَلَعَلَّ كل مَا عمله عَلَيْهِ السَّلَام معاص وَلَقَد قلت يَوْمًا لبَعْضهِم مِمَّن كَانَ يُجِيز عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد أَلَيْسَ من الصَّغَائِر تَقْبِيل الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة وقرصها فَقَالَ نعم قلت تجوز أَنه يظنّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يقبل امْرَأَة غَيره مُتَعَمدا فَقَالَ معَاذ الله من هَذَا وَرجع إِلَى الْحق من حِينه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك ويهديك صراطاً مُسْتَقِيمًا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبَاطِل الْمحَال أَن يتم الله نعْمَته على عبد ويعصى الله بِمَا كبر وَمَا صغر إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما كَانَت نعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ تَامَّة بل نَاقِصَة إِذْ خذله فِيمَا عصى فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه} وَقَالَ الله تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} . قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا وقر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد بلغ الْغَايَة القصوى فِي الِاسْتِهْزَاء برسل الله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم من جوز أَن يَكُونُوا سراقا زناة ولاطة وبغائين وَوَاللَّه مَا نعلم كفرا أعظم من هَذَا وَلَا استهزاء بِاللَّه تَعَالَى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هَذِه الْمقَالة وليت شعري مَا الَّذِي أَمنهم من كذبهمْ فِي التَّبْلِيغ لأَنا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُم بلغُوا إِلَيْنَا الْكَذِب عَن الله تَعَالَى. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول لَهُم وَلَعَلَّ أَفعاله الَّتِي نأتسي بهَا تَبْدِيل للدّين ومعاص لله عز وَجل وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا نعلم أهل قَرْيَة أَشد سعياً فِي إِفْسَاد الْإِسْلَام وكيده من الرافضة وَأهل هَذِه الْمقَالة فَإِن كلتا الطَّائِفَتَيْنِ الملعونتين أجازتا تَبْدِيل الدّين وتحريفه وصرحت هَذِه الفئة مَعَ مَا أطلقت على الْأَنْبِيَاء من الْمعاصِي بِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا تعبدنا فِي دينه بغالب ظنوننا وَأَنه لَا حكم لله إِلَّا مَا غلب عَلَيْهِ ظن الْمَرْء منا وَإِن كَانَ مُخْتَلفا متناقضاً وَمَا نمتري فِي أَنهم ساعون فِي إِفْسَاد أغمار الْمُسلمين الْمُحْسِنِينَ بهم الظَّن نَعُوذ بِاللَّه من الضلال. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مؤاخذون بِمَا أَتَوا على سَبِيل السَّهْو وَالْقَصْد إِلَى الْخَيْر إِذا لم يُوَافق مُرَاد الله تَعَالَى فَهَلا أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَهْوه فِي الصَّلَاة قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَهَذِه فَضِيلَة مِمَّا فضل بِهِ على جَمِيع النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام وَهَكَذَا نَص عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة ومصير النَّاس من نَبِي إِلَى نَبِي فَكل ذكر خَطِيئَة أَو سكت فَلَمَّا ذكرُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَائِلهمْ عبد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر فَبَطل أَن يُؤَاخذ بِمَا غفره الله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَيجوزُ أَن يكون نَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام يَأْتِي مَعْصِيّة قبل أَن يتنبأ قُلْنَا لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون متعبداً بشريعة نَبِي أَتَى قبله كَمَا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا أَن يكون قد نَشأ فِي قوم قد درست شريعتهم ودثرت ونسيت كَمَا فِي بعثة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قوم قد نسوا شَرِيعَة إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ تَعَالَى {ووجدك ضَالًّا فهدى} وَقَالَ تَعَالَى {لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم} فَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 كَانَ النَّبِي متعبداً بشريعة مَا فقد أبطلنا آنِفا أَن يكون نَبِي يعْصى ربه أصلا وَإِن كَانَ نَشأ فِي قوم دثرت شريعتهم فَهُوَ غير متعبد وَلَا ماءمور بِمَا لم يَأْته أَمر الله تَعَالَى بِهِ بعد فَلَيْسَ عَاصِيا لله تَعَالَى فِي شئ يَفْعَله أَو يتْركهُ إِلَّا أننا نَدْرِي أَن الله عز وَجل قد طهر أَنْبيَاء وصانهم من كل مَا يعابون بِهِ لِأَن الْعَيْب أَذَى وَقد حرم الله عز وَجل أَن يُؤْذى رَسُوله قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فبيقين نَدْرِي أَن الله تَعَالَى صان أنبياءه عَن أَن يَكُونُوا لبغية أَو من أَوْلَاد بغى أَو من بَغَايَا بل بَعثهمْ الله تَعَالَى فِي حسب قَومهمْ فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا فبيقين نَدْرِي أَن اله تَعَالَى عصمهم قبل النُّبُوَّة من كل مَا يُؤْذونَ بِهِ بعد النُّبُوَّة فَدخل فِي ذَلِك السّرقَة والعدوان وَالْقَسْوَة وَالزِّنَا واللياطة وَالْبَغي وأذى النَّاس فِي حريمهم وَأَمْوَالهمْ وأنفسهم وكل مَا يعاب بِهِ الْمَرْء ويتشكى مِنْهُ ويؤذى بِذكرِهِ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا مَا حدّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي أَنا ابْن فرج أَنا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فراس أَنبأَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم النَّيْسَابُورِي أَنا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه انا وهب بن جرير بن حَازِم انا أبي أَنبأَنَا محمدبن إِسْحَاق حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن قيس بن مخرمَة عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا هَمَمْت بقبيح مِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يهمون بِهِ إِلَّا مرَّتَيْنِ من الدَّهْر كلتاهما يعصمني الله مِنْهَا قلت لفتى كَانَ معي من قُرَيْش بِأَعْلَى مَكَّة فِي أَغْنَام لَهَا ترعى أبْصر لي غنمي حَتَّى أسمر هَذِه اللَّيْلَة بِمَكَّة كَمَا يسمر الفتيان قَالَ نعم فَلَمَّا خرجت فَجئْت أدني دَار من دور مَكَّة سَمِعت غناء وَصَوت دفوف وزمير فَقلت مَا هَذَا قَالُوا فلَان تزوج فُلَانَة لرجل من قُرَيْش فلهوث بذلك الْغناء وَبِذَلِك الصَّوْت حَتَّى غلبتني عَيْني فَمَا أيقظني ألامس الشَّمْس فَرَجَعت إِلَى صاحبى فَقَالَ لي مَا فعلت فَأَخْبَرته ثمَّ قلت لَهُ لَيْلَة أُخْرَى مثل ذَلِك فَفعل فَخرجت فَسمِعت مثل ذَلِك فَقيل لي مثل مَا قيل لي فلهوت بِمَا سَمِعت حَتَّى غلبتني عَيْني فَمَا أيقظني إِلَّا مس الشَّمْس فَرَجَعت إِلَى صَاحِبي فَقَالَ لي مَا فعلت قلت مَا فعلت شَيْئا فوَاللَّه مَا هَمَمْت بعْدهَا بِسوء مِمَّا يعْمل أهل الْجَاهِلِيَّة حَتَّى أكرمني الله بنبوته (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعْص قطّ بكبيرة وَلَا بصغيرة لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا وَلَا هم قطّ بِمَعْصِيَة صغرت أَو كَبرت لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا إِلَّا مرَّتَيْنِ بالسمر حَيْثُ رُبمَا كَانَ بعض مَا لم يكن نهى عَنهُ بعد والهم حِينَئِذٍ بالسمر لَيْسَ هما بزنا وَلكنه بِمَا يحذو إِلَيْهِ طبع الْبَريَّة من اسْتِحْسَان منظر حسن فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق تمّ الْكَلَام فِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْكَلَام فِي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد ذكرنَا قبل أَمر هاروت وماروت ونزيدها هُنَا بَيَانا فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن قوما نسبوا إِلَى الله تَعَالَى مَا لم يَأْتِ بِهِ قطّ أثر يجب أَن يشْتَغل بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 كذب مفترى من أَنه تَعَالَى أنزل إِلَى الأَرْض ملكَيْنِ وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تَعَالَى وشربا الْخمر وَحكما بالزور وقتلا النَّفس وزنيا وعلما زَانِيَة اسْم الله الْأَعْظَم فطارت بِهِ إِلَى السَّمَاء فمسخت كوكباً وَهِي الزهرة وأنهما عذبا فِي غَار بِبَابِل وأنهما يعلمَانِ النَّاس السحر وحجتهم على مَا فِي هَذَا الْبَاب خبر روينَاهُ من طَرِيق عُمَيْر بن سعيد وَهُوَ مَجْهُول مرّة يُقَال لَهُ النخعى وَمرَّة يُقَال لَهُ الْحَنَفِيّ مَا نعلم لَهُ رِوَايَة إِلَّا هَذِه الكذبة وَلَيْسَ أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه أوقفها عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكذبة أُخْرَى فِي أَن حد الْخمر لَيْسَ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فَعَلُوهُ وحاشا لَهُم رَضِي الله عَنْهُم من هَذَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبُرْهَان على بطلَان هَذَا كُله قَول الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذا منظرين} فَقطع الله عز وَجل أَن الْمَلَائِكَة لَا تنزل إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَيْسَ شرب الْخمر وَلَا الزِّنَا وَلَا قتل النَّفس الْمُحرمَة وَلَا تَعْلِيم العواهر أسماءه عز وَجل الَّتِي يرْتَفع بهَا إِلَى السَّمَاء وَلَا السحر من الْحق بل كل ذَلِك من الْبَاطِل وَنحن نشْهد أَن الْمَلَائِكَة مَا نزلت قطّ بِشَيْء من هَذِه الْفَوَاحِش وَالْبَاطِل وَإِذا لم تنزل بِهِ فقد بَطل أَن تَفْعَلهُ لِأَنَّهَا لَو فعلته فِي الأَرْض لنزلت بِهِ وَهَذَا بَاطِل وَشهد عز وَجل أَنه لَو أنزل علينا الْمَلَائِكَة لما نَظرنَا فصح أَنه لم ينزل قطّ ملك ظَاهر إِلَّا للنَّبِي بِالْوَحْي فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا} فَأبْطل عز وَجل أَنه يُمكن ظُهُور ملك إِلَى النَّاس وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر ثمَّ لَا ينظرُونَ} فكذب الله عز وَجل كل من قَالَ أَن ملكا نزل قطّ من السَّمَاء ظَاهرا إِلَّا إِلَى الْأَنْبِيَاء بِالْحَقِّ من عِنْد الله عز وَجل فَقَط وَقَالَ عز وَجل {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} الْآيَة فَرفع الله تَعَالَى الأشكال بِهَذَا النَّص فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقرن عز وَجل نزُول الْمَلَائِكَة فِي الدُّنْيَا بِرُؤْيَتِهِ عز وَجل فِيهَا فصح ضَرُورَة أَن نزولهم فِي الدُّنْيَا إِلَى غير الْأَنْبِيَاء مُمْتَنع الْبَتَّةَ لَا يجوز وَأَن من قَالَ ذَلِك فقد قَالَ حجرا مَحْجُورا أَي مُمْتَنعا وَظهر بهَا كذب من ادّعى أَن ملكَيْنِ نزلا إِلَى النَّاس فعلماهم السحر وَقد استعظم الله عز وَجل ذَلِك من رَغْبَة من رغب نزُول الْمَلَائِكَة إِلَى النَّاس وسمى هَذَا الْفِعْل استكباراً وعتواً وَأخْبر عز وَجل أننا لَا نرى الْمَلَائِكَة أبدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقَط وَأَنه لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا كُله فقد علمنَا ضَرُورَة أَنه لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما كَمَا قدمنَا قبل إِمَّا أَن هاروت وماروت لم يَكُونَا ملكَيْنِ وَأَن مَا فِي قَوْله وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ نفى لِأَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 ينزل على الْملكَيْنِ وَيكون هاروت وماروت حيئذ بَدَلا من الشَّيَاطِين كَأَنَّهُ قَالَ وَلَكِن الشَّيَاطِين هاروت وماروت وَيكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الْجِنّ كَانَتَا يعلمَانِ النَّاس السحر وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن خَالِد ابْن أبي عمرَان وَغَيره وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ على الْملكَيْنِ بِكَسْر اللَّام وَكَانَ يَقُول أَن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إِلَّا أَن الَّذِي لَا شكّ فِيهِ على هَذَا القَوْل أَنَّهُمَا لم يَكُونَا ملكَيْنِ وَقد اعْترض بعض الْجُهَّال فَقَالَ لي أبلغ من رفق الشَّيْطَان أَن يَقُول للَّذي يتَعَلَّم السحر لَا تكفر فَقلت لَهُ هَذَا الِاعْتِرَاض يبطل من ثَلَاث جِهَات أَحدهمَا أَن نقُول لَك وَمَا الْمَانِع من أَن يَقُول الشَّيْطَان ذَلِك أما سخرياً وَأما لما شَاءَ الله فَلَا سَبِيل لَك إِلَى دَلِيل مَانع من هَذَا وَالثَّانِي أَنه قد نَص الله عز وَجل على أَن الشَّيْطَان قَالَ أَنِّي أَخَاف الله فَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم} إِلَى قَوْله تَعَالَى {أَنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب} وَقَالَ تَعَالَى {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر فَلَمَّا كفر قَالَ أَنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} فقد أَمر الشَّيْطَان الْإِنْسَان بالْكفْر ثمَّ تَبرأ مِنْهُ وَأخْبرهُ أَنه يخلف الله وغر الْكفَّار ثمَّ تَبرأ مِنْهُم وَقَالَ أَنِّي أَخَاف الله بَين أَن يَقُول الشَّيْطَان للْإنْسَان اكفر ويغره ثمَّ يتبرأ مِنْهُ وَيَقُول أَنِّي أَخَاف اله وَبَين أَن يُعلمهُ السحر وَيَقُول لَهُ لَا تكفر وَالثَّالِث أَن معلم السحر بِنَصّ الْآيَة قد قَالَ للَّذي يتَعَلَّم مِنْهُ لَا تكفر فَسَوَاء كَانَ ملكا أَو شَيْطَانا قد علمه على قَوْلك مَا لَا يحل وَقَالَ لَهُ لَا تكفر فَلم تنكر هَذَا من الشَّيْطَان وَلَا تنكره بزعمك من الْملك وَأَنت تنْسب إِلَيْهِ أَن يعلم السحر الَّذِي عنْدك ضلال وَكفر وَإِمَّا أَن يكون هاروت وماروت ملكَيْنِ نزلا بشريعة حق بِعلم مَا على أَنْبيَاء فعلماهم الدّين وَقَالا لَهُم لَا تكفرُوا نهيا عَن الْكفْر بِحَق وأخبراهم أَنهم فتْنَة يضل الله تَعَالَى بهما وَبِمَا أَتَيَا بِهِ من كفر بِهِ وَيهْدِي بهما من آمن بِهِ قَالَ تَعَالَى عَن مُوسَى أَنه قَالَ لَهُ {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} وكما قَالَ تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون} ثمَّ نسخ ذَلِك الَّذِي أنزل على الْملكَيْنِ فَصَارَ كفرا بعد أَن كَانَ إِيمَانًا كَمَا نسخ تَعَالَى شرائع التَّوْرَاة والانجيل فتمادت الْجِنّ على تعلم ذَلِك الْمَنْسُوخ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا فِي الْآيَة من نَص وَلَا دَلِيل على أَن الْملكَيْنِ علما السحر وَإِنَّمَا هُوَ إقحام أقحم بِالْآيَةِ بِالْكَذِبِ والافك بل وفيهَا بَيَان أَنه لم يكن سحرًا بقوله تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل} وَلَا يجوز أَن يَجْعَل الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا إِلَّا ببرهان من نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة وَإِلَّا فَلَا أصلا وَأَيْضًا فَإِن بابل هِيَ الْكُوفَة وَهِي بلد مَعْرُوف بقربها محدودة مَعْلُومَة لَيْسَ فِيهَا غَار فِيهِ ملك فصح أَنه خرافة مَوْضُوعَة إِذْ لَو كَانَ لَك لما خفى مكانهما على أهل الْكُوفَة فَبَطل التَّعَلُّق بهاروت وماروت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد ادّعى قوم أَن إِبْلِيس كَانَ ملكا فعصى وحاشا لله من هَذَا لِأَن الله تَعَالَى قد كذب هَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} وَبِقَوْلِهِ {افتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني} وَلَا ذُرِّيَّة للْمَلَائكَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} وبإخباره أَنه خلق إِبْلِيس من نَار السمُوم وَصَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خلقت الْمَلَائِكَة من نور والنور غير النَّار بِلَا شكّ فصح أَن الْجِنّ غير الْمَلَائِكَة وَالْمَلَائِكَة كلهم خِيَار مكرمون بِنَصّ الْقُرْآن وَالْجِنّ والأنس فيهمَا مَذْمُوم ومحمود فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله عز وَجل ذكر أَنهم قَالُوا {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك} وَهَذَا تَزْكِيَة لأَنْفُسِهِمْ وَقد قَالَ تَعَالَى وَلَا تزكوا أَنفسكُم قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مدح الْمَرْء نَفسه يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا قصد بِهِ الْمَرْء افتخاراً بغياً وانتقاصاً لغيره فَهَذِهِ هِيَ التَّزْكِيَة وَهُوَ مَذْمُوم جدا وَالْآخر مَا خرج مخرج الْإِخْبَار بِالْحَقِّ كَقَوْل رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وفضلت على الْأَنْبِيَاء وكقول يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض إِنِّي حفيظ عليم وَلَا يُسمى هَذَا تَزْكِيَة وَمن هَذَا الْبَاب قَول الْمَلَائِكَة هَهُنَا برهَان هَذَا أَنه لَو كَانَ قَوْلهم مذموماً لأنكره الله عز وَجل عَلَيْهِم فَإِذا لم يُنكره الله تَعَالَى فَهُوَ صدق وَمن هَذَا الْبَاب قَوْلنَا نَحن السلمون وَنحن خير أمة أخرجت للنَّاس وكقول الحواريين نَحن أنصار الله فَكل هَذَا إِذا قصد بِهِ الحض على الْخَيْر لَا الْفَخر فَهُوَ خير فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله تَعَالَى قَالَ لَهُم {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} قُلْنَا نعم وَمَا شكّ الْمَلَائِكَة قطّ أَن الله تَعَالَى يعلم مَا لَا يعلمُونَ وَلَيْسَ هَذَا إنكاراً وَأما الْجِنّ فقد قُلْنَا أَنهم متعبدون بِملَّة الْإِسْلَام وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الروث وَالْعِظَام طَعَام إِخْوَاننَا من الْجِنّ وَهَذَا بِخِلَاف حكمنَا فقد يخصهم الله عز وَجل بأوامر خلاف أوامرنا كَمَا للنِّسَاء شرائع لَيست للرِّجَال من الْحيض وَقطع الصَّلَاة وَغير ذَلِك وكما لقريش الْإِمَامَة وَلَيْسَت لغَيرهم وكل ذَلِك دين الْإِسْلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل هَل يكون مُؤمنا من اعْتقد الْإِسْلَام دون اسْتِدْلَال أم لَا يكون مُؤمنا مُسلما الإمن اسْتدلَّ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والأشعرية كلهَا حاشا السمناني إِلَى أَنه لَا يكون مُسلما إِلَّا من اسْتدلَّ وَإِلَّا فَلَيْسَ مُسلما وَقَالَ الطَّبَرِيّ من بلغ الِاحْتِلَام أَو الاشعار من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَو بلغ الْمَحِيض من النِّسَاء وَلم يعرف الله عز وَجل بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته من الطَّرِيق الِاسْتِدْلَال فَهُوَ كَافِر حَلَال الدَّم وَالْمَال وَقَالَ أَنه بلغ الْغُلَام أَو الْجَارِيَة سبع سِنِين وَجب تعليمها وتدريبهما على الِاسْتِدْلَال على ذَلِك وَقَالَت الأشعرية لَا يلْزمهَا الِاسْتِدْلَال على ذَلِك إِلَّا بعد الْبلُوغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام كل من اعْتقد بِقَلْبِه إعتقاد الا يشك فِيهِ وَقَالَ بِلِسَانِهِ لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله وَإِن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَبرئ من كل دين سوى دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مُسلم مُؤمن لَيْسَ عَلَيْهِ غير ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَاحْتَجت الطَّائِفَة الأولى بِأَن قَالَت قد اتّفق الْجَمِيع على أَن التَّقْلِيد مَذْمُوم وَمَا لم يكن يعرف باستدلال فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد لَا وَاسِطَة بَينهمَا وَذكروا قَول الله عز وَجل {أَنا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} وَقَالَ تَعَالَى {قَالَ أولو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم} {يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة وَمَا هُوَ بمزحزحه} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لَو كَانَ أباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبنَا انا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وَقَالُوا فذم الله تَعَالَى اتِّبَاع الْآبَاء والرؤساء قَالُوا وبيقين نَدْرِي أَنه لَا يعلم أحد أَي الْأَمريْنِ أهْدى وَلَا هَل يعلم الْآبَاء شيأ أَو لايعلمون الإ بِالدَّلِيلِ وَقَالُوا كل مَا لم يكن يَصح بِدَلِيل فَهُوَ دعوي وَلَا فرق بَين الصَّادِق والكاذب بِنَفس قَوْلهمَا لَكِن بِالدَّلِيلِ قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} قَالُوا فَمن لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ صَادِقا فِي قَوْله وَقَالُوا مَا لم يكن علما فَهُوَ شكّ وَظن وَالْعلم هُوَ إعتقاد الشئ على مَا هُوَ بِهِ عَن ضَرُورَة أَو إستدلال قَالُوا والديانات لَا يعرف صِحَة الصَّحِيح مِنْهَا من بطلَان الْبَاطِل مِنْهَا بالحواس أصلا فصح أَنه لَا يعلم ذَلِك إِلَّا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فَإِذا لم يكن الِاسْتِدْلَال فَلَيْسَ الْمَرْء عَالما بِمَا لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن عَالما فَهُوَ شَاك ضال وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْأَلَة الْملك فِي الْقَبْر مَا تَقول فِي هَا الرجل فَأَما الْمُؤمن أَو الموقن فَإِنَّهُ يَقُول هُوَ مُحَمَّد رَسُول الله قَالَ وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب فَإِنَّهُ يَقُول لَا أَدْرِي سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته قَالُوا وَقد ذكر الله عز وَجل الِاسْتِدْلَال على الربوبية والنبوة فِي غير مَوضِع من كثابه وَأمر بِهِ وَأوجب الْعلم بِهِ وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن دَلِيل كَمَا قُلْنَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كلما موهوا بِهِ قد تقصيناه لَهُم غَايَة التَّقَصِّي وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِي شئ مِنْهُ على مَا نبين بحول الله وقوته إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا إِلَه إِلَّا هُوَ بعد أَن نقُول قولا تصححه الْمُشَاهدَة إِن جُمْهُور هَذِه الْفرْقَة أبعد من كل من يتَمَنَّى إِلَى الْبَحْث وَالِاسْتِدْلَال عَن الْمعرفَة بِصِحَّة الدَّلَائِل فَأُعْجِبُوا لهَذَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما قَوْلهم قد أجمع الْجَمِيع على أَن التَّقْلِيد مَذْمُوم وَأَن مَا لَا يعرف باستدلال فَإِنَّمَا هُوَ أَخذ تَقْلِيد إِذْ لَا وَاسِطَة بَينهمَا فَإِنَّهُم شغبوا فِي هَذَا الْإِمْكَان وولبوا فتركوا التَّقْسِيم الصَّحِيح وَنعم أَن التَّقْلِيد لَا يحل الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا التَّقْلِيد أَخذ الْمَرْء قَول من دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن لم يَأْمُرنَا الله عز وَجل باتباعه قطّ وَلَا يَأْخُذ قَوْله بل حرم علينا ذَلِك ونهانا عَنهُ وَأما أَخذ الْمَرْء قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي افْترض علينا طَاعَته وألزمنا اتِّبَاعه وتصديقه وحذرنا عَن مُخَالفَة أمره وتوعدنا على ذَلِك أَشد الْوَعيد فَلَيْسَ تقليداً بل هُوَ إِيمَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وتصديق وَاتِّبَاع للحق وَطَاعَة لله عز وَجل وَأَدَاء للمفترض فموه هَؤُلَاءِ الْقَوْم بِأَن أطْلقُوا على الْحق الَّذِي هُوَ اتِّبَاع الْحق اسْم التَّقْلِيد الَّذِي هُوَ بَاطِل وبرهان مَا ذكرنَا أَن أمرءا لَو اتبع أحدا دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول قَالَه لِأَن فلَانا قَالَه فَقَط واعتقد أَنه لَو لم يقل ذَلِك الفلان ذَلِك القَوْل لم يقل بِهِ هُوَ أَيْضا فَإِن فَاعل هَذَا القَوْل مقلد مخطى عَاص لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ ظَالِم آثم سَوَاء كَانَ قد وَافق قَوْله ذَلِك الْحق الذى قَالَه الله وَرَسُوله أَو خَالفه وَإِنَّمَا فسق لِأَنَّهُ اتبع من لم يُؤمر باتباعه وَفعل غير مَا أمره الله عز وَجل أَن يَفْعَله وَلَو أَن امْرَءًا اتبع قَول الله عزوجل وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ مُطيعًا محسنا مأجوراً غير مقلد وَسَوَاء وَافق الْحق أَو وهم فَأَخْطَأَ وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا لنبين أَن الَّذِي أمرنَا بِهِ وافترض علينا هُوَ اتِّبَاع مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَأَن الَّذِي حرم علينا هُوَ اتِّبَاع من دونه أَو اختراع قَول لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فَقَط وَقد صَحَّ أَن التَّقْلِيد بَاطِل لَا يحل فَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن يكون الْحق بَاطِلا مَعًا والمحسن مسيئاً من وَجه وَاحِد مَعًا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فمتبع من أَمر الله تَعَالَى باتباعه لَيْسَ مُقَلدًا وَلَا فعله تقليداً وَإِنَّمَا الْمُقَلّد من اتبع من لم يَأْمُرهُ الله تَعَالَى فَسقط تمويههم بذم التَّقْلِيد وَصَحَّ أَنهم وضعوه فِي غير مَوْضِعه وأوقعوا اسْم التَّقْلِيد على مَا لَيْسَ تقليداً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بذم الله إتباع الأباء ة الكبراء فَهُوَ مِمَّا قُلْنَا آنِفا سَوَاء بِسوء لِأَن اتِّبَاع الأباء والكبراء وكل من دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ من التَّقْلِيد الْمحرم المذموم فَاعله فَقَط قَالَ الله عز وَجل {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وَللَّه الْحَمد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما احتجاجهم أَنه لَا يعرف أَي الْأَمريْنِ أهْدى وَلَا هَل يعلم الأباء شَيْئا أم لَا إِلَّا بالدلايل وَإِن كل مَا لم يَصح بِهِ دَلِيل فَهُوَ دعوي وَلَا فرق بَين الصَّادِق والكاذب بِنَفس قَوْلهمَا وَذكرهمْ قَول الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَإِن هَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ فَمن كَانَ من النَّاس تنازعه نَفسه إِلَى الْبُرْهَان وَلَا تَسْتَقِر نَفسه إِلَى تَصْدِيق مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يسمع الدلايل فَهَذَا فرض عَلَيْهِ طلب الدلايل لِأَنَّهُ إِن مَاتَ شاكا أَو جاحداً قبل أَن يسمع من الْبُرْهَان مَا يثلج صَدره فقد مَاتَ كَافِرًا وَهُوَ مخلد فِي النَّار وَهُوَ بِمَنْزِلَة من لم يُؤمن مِمَّن شَاهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رأى المعجزات فَهَذَا أَيْضا لَو مَاتَ مَاتَ كَافِرًا بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام وَإِنَّمَا أَوجَبْنَا على من هَذِه صفته طلب الْبُرْهَان لِأَن فرضا عَلَيْهِ طلب مَا فِيهِ نجاته من الْكفْر قَالَ الله عز وَجل {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} فقد افْترض الله عز وَجل على كل أحد أَن يقي نَفسه النَّار فَهَؤُلَاءِ قسم وهم الْأَقَل من النَّاس وَالْقسم الثَّانِي من اسْتَقَرَّتْ نَفسه إِلَى تَصْدِيق مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسكن قلبه إِلَى الْإِيمَان وَلم تنازعه نَفسه إِلَى طلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 دَلِيل تَوْفِيقًا من الله عز وَجل لَهُ وتيسيراً لما خلق لَهُ من الْخَيْر وَالْحُسْنَى فَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى برهَان وَلَا تَكْلِيف اسْتِدْلَال وَهَؤُلَاء هم جُمْهُور النَّاس من الْعَامَّة وَالنِّسَاء والتجار والصناع والاكرة والعباد وَأَصْحَاب الحَدِيث الأيمة الَّذين يذمون الْكَلَام والجدل والمرآء فِي الدّين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هم الَّذين قَالَ لَهُم الله فيهم {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد سمى الله عز وَجل راشدين الْقَوْم الَّذين زين الْإِيمَان فِي قُلُوبهم وحببه إِلَيْهِم وَكره إِلَيْهِم الْكفْر والمعاصي فضلا مِنْهُ ونعمة وَهَذَا هُوَ خلق الله تَعَالَى للْإيمَان فِي قُلُوبهم إبتداه وعَلى ألسنتهم وَلم يذكر الله تَعَالَى فِي ذَلِك اسْتِدْلَالا أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مقلدين لابائهم ولالكبرائهم لِأَن هَؤُلَاءِ مقرون بألسنتهم محققون فِي قُلُوبهم إِن أباءهم ورؤساءهم لَو كفرُوا لما كفرُوا هم بل كَانُوا يسْتَحلُّونَ قتل أبائهم وَرُؤَسَائِهِمْ والبرأة مِنْهُم ويحسون من أنفسهم النفار الْعَظِيم عَن كل مَا سمعُوا مِنْهُ مَا يُخَالف الشَّرِيعَة ويرون أَن حرقهم بالنَّار أخف عَلَيْهِم من مُخَالفَة الْإِسْلَام وَهَذَا أَمر قد عَرفْنَاهُ من أَنْفُسنَا حسا وشاهدناه فِي ذواتنا يَقِينا فَلَقَد بَقينَا سِنِين كَثِيرَة وَلَا نَعْرِف الِاسْتِدْلَال وَلَا وجوهه وَنحن وَللَّه الْحَمد فِي غَايَة الْيَقِين بدين الْإِسْلَام وكل مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجد أَنْفُسنَا فِي غَايَة السّكُون إِلَيْهِ وَفِي غَايَة النفار عَن كل مَا يعْتَرض فِيهِ بشك وَلَقَد كَانَت تخطر فِي قُلُوبنَا خطرات سوء فِي خلال ذَلِك ينبذها الشَّيْطَان فنكاد لشدَّة نفارنا عَنْهَا أَن نسْمع خفقان قُلُوبنَا استبشاعاً لَهما كَمَا أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالُوا لَهُ أَن أَحَدنَا ليحدث نَفسه بالشئ مَا أَنه يقدم فَتضْرب عُنُقه أحب إِلَيْهِ أَن يتَكَلَّم بِهِ فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك مَحْض الْإِيمَان وَأخْبر أَنه من وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك بِمَا أَمر بِهِ من التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة والتفل عَن الْيَسَار ثمَّ تعلمنا طرق الِاسْتِدْلَال وأحكمناها وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فَمَا زادنا يَقِينا على مَا كُنَّا بل عرفنَا أننا كُنَّا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وَقد أَيقَن بِأَن الْفِيل مَوْجُود سماعهَا وَلم يره ثمَّ رَآهُ فَلم يَزْدَدْ يَقِينا بِصِحَّة نِيَّته أصلا لَكِن أرانا صَحِيح الِاسْتِدْلَال رفض بعض الآراء الْفَاسِدَة الَّتِي نشأنا عَلَيْهَا فَقَط كالقول فِي الدّين بِالْقِيَاسِ وَعلمنَا أَنا كُنَّا مقتدين بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَأَن الْمُخَالفين لنا ليعرفون من أنفسهم مَا ذكرنَا إِلَّا أَنهم يلْزمهُم أَن يشْهدُوا على أنفسهم بالْكفْر قبل استدلالهم وَلَا بُد فصح بِمَا قُلْنَا إِن كل من امحض اعْتِقَاد الْحق بِقَلْبِه وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ فهم مُؤمنُونَ محققون وَلَيْسوا مقلدين أصلا وَإِنَّمَا كَانُوا مقلدين لَو أَنهم قَالُوا وإعتقدوا أننا إِنَّمَا نتبع فِي الدّين آبَاءَنَا وكبرآءنا فَقَط وَلَو أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 اباءنا وكبرآءنا تركُوا دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتركناه فَلَو قَالُوا هَذَا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفَّارًا غير مُؤمنين لأَنهم إِنَّمَا إتبعوا آبَائِهِم وكبراءهم الذذين نهوا عَن اتباعهم وَلم يتبعوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أمروا باتباعه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَإِنَّمَا كلف الله تَعَالَى الاتيان بالبرهان إِن كَانُوا صَادِقين يَعْنِي الْكفَّار الْمُخَالفين لما جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَص لآيَة وَلم يُكَلف قطّ الْمُسلمين الاتيان بالبراهين والأسقط اتباعهم حَتَّى يَأْتُوا بالبرهان أَو الْفرق بَين الْأَمريْنِ وَاضح وَهُوَ أَن كل من خَالف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا برهَان لَهُ أصلا فكلف المجئ بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إِن كَانُوا صَادِقين وَلَيْسوا صَادِقين بِلَا برهَان لَهُم وَأما من اتبع مَا جَاءَهُم بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد اتبع الْحق الَّذِي قَامَت الْبَرَاهِين بِصِحَّتِهِ ودان بِالصّدقِ الَّذِي قَامَت الْحجَّة الْبَالِغَة بِوُجُوبِهِ فَسَوَاء علم هُوَ بذلك الْبُرْهَان أَو لم يعلم حَسبه أَنه على الْحق الَّذِي صَحَّ بالبرهان وَلَا برهَان على مَا سواهُ فَهُوَ محق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم مَا لم يكن علما فَهُوَ شكّ وَظن وَالْعلم هُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ عَن ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَال قَالُوا والديانات لَا تعرف صِحَّتهَا إِلَّا بالاستدلال فَإِن لم يسْتَدلّ الْمَرْء فَلَيْسَ عَالما وَإِذا لم يكن عَالما فَهُوَ جَاهِل شَاك أَو ظان وَإِذا كَانَ لَا يعلم الدّين فَهُوَ كَافِر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوا لأَنهم قضوا قَضِيَّة بَاطِلَة فَاسِدَة بنوا عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِدْلَال وَهِي إقحامهم فِي حد الْعلم قَوْلهم عَن ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَال فَهَذِهِ زِيَادَة فَاسِدَة لَا نوافقهم هعليها وَلَا جَاءَ بِصِحَّتِهَا قُرْآن وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا لُغَة وَلَا طبيعة وَلَا قَول صَاحب وحد الْعلم على الْحَقِيقَة أَنه اعْتِقَاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ فَقَط وكل من اعْتقد شَيْئا على مَا هُوَ بِهِ وَلم يتخالجه شكّ فِيهِ فَهُوَ عَالم بِهِ وَسَوَاء كَانَ عَن ضَرُورَة حس أَو عَن بديهة عقل أَو عَن برهَان اسْتِدْلَال أَو عَن تيسير الله عز وَجل لَهُ وخلقه لذَلِك المعتقد فِي قلبه وَلَا مزِيد وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يكون مُحَقّق فِي اعْتِقَاد شَيْء كَمَا هُوَ ذَلِك الشَّيْء وَهُوَ غير عَالم بِهِ وَهَذَا تنَاقض وَفَسَاد وتعارض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْأَلَة الْملك فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِم كَمَا هُوَ لمجرده لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ فِيهِ فَأَما الْمُؤمن أَو الموقن فَيَقُول هُوَ رَسُول الله وَلم يقل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَما الْمُسْتَدلّ فحسبنا فوز الْمُؤمن المؤقن الموقن كَيفَ كَانَ أبمانه ويقينه وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب وَلم يقل غير الْمُسْتَدلّ فَيَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته فَنعم هَذَا قَوْلنَا لِأَن الْمُنَافِق والمرتاب ليسَا موقنين وَلَا مُؤمنين وَهَذَا صفة مِنْهُ مقلد للنَّاس لَا مُحَقّق فَظهر أَن هَذَا الْخَبَر حجَّة عَلَيْهِم كَافِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم إِن الله عز وَجل قد ذكر الِاسْتِدْلَال فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَأمر بِهِ وواجب الْعلم بِهِ وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن اسْتِدْلَال فهذذه أَيْضا زِيَادَة أقحموها وَهِي قَوْلهم وَأمر بِهِ فَهَذَا لَا يجدونه أبدا وَلَكِن الله تَعَالَى ذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 الِاسْتِدْلَال وحض عَلَيْهِ وَنحن لَا ننكر الِاسْتِدْلَال بل هُوَ فعل حسن مَنْدُوب إِلَيْهِ محضوض عَلَيْهِ كل من اطاقه لِأَنَّهُ تزَود من الْخَيْر وَهُوَ فرض على كل من لم تسكن نَفسه إِلَى التَّصْدِيق نَعُوذ بِاللَّه عز وَجل من البلا وَإِنَّمَا ننكر كَونه فرضا على كل أحد لَا يَصح إِسْلَام أحد دونه هَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمَحْض وَأما قَوْلهم أَن الله تَعَالَى أوجب الْعلم بِهِ فَنعم وَأما قَوْلهم وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن اسْتِدْلَال فَهَذَا هِيَ الدَّعْوَى الكاذبة الَّتِي أبطلناها آنِفا وَأول بُطْلَانهَا أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى الْعَزِيز الحكيو نتأيد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كلما شنعوا بِهِ قد نقضناه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَسقط قَوْلهم إِذْ تعرى من الْبُرْهَان وَكَانَ دَعْوَى مِنْهُم مفتراة لم يَأْتِ بهَا نَص قطّ وَلَا إِجْمَاع وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَنحن الْآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده الْبَرَاهِين على بطلَان قَوْلهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) يُقَال لمن قَالَ لَا يكون مُسلما إِلَّا من اسْتدلَّ أخبرنَا مَتى يجب عَلَيْهِ فرض الِاسْتِدْلَال أقبل الْبلُوغ أم بعده وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ فإمَّا الطَّبَرِيّ فَإِنَّهُ أجَاب بِأَن ذَلِك وَاجِب قبل الْبلُوغ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ لِأَن من لم يبلغ لَيْسَ مُكَلّفا وَلَا مُخَاطبا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة فَذكر الصَّغِير حَتَّى يَحْتَلِم فَبَطل جَوَاب الطَّبَرِيّ رَحمَه الله وَأما الأشعرية فَإِنَّهُم أَتَوا بِمَا يمْلَأ الْفَم وتقشعر مِنْهَا جُلُود أهل الْإِسْلَام وتصطك مِنْهَا المسامع وَيقطع مَا بَين قَائِلهَا وَمَا بَين الله عز وَجل وَهِي انهم قَالُوا لَا يلْزم طلب الْأَدِلَّة إِلَّا بعد الْبلُوغ وَلم يقنعوا بِهَذِهِ الْجُمْلَة حَتَّى كفونا الْمُؤْنَة وصرحوا بِمَا كُنَّا نُرِيد أَن نلزمهم فَقَالُوا غير مساترين لَا يَصح إِسْلَام أحد حَتَّى يكون بعد بُلُوغه شاكما غير مُصدق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا سمعنَا قطّ فِي الْكفْر والانسلاخ من الْإِسْلَام بأشنع من قَول هَؤُلَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 الْقَوْم أَنه لَا يكون أحد مُسلما حَتَّى يشك فِي الله عز وَجل وَفِي صِحَة النُّبُوَّة وَفِي هَل رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق أم كَاذِب وَلَا سمع قطّ سامع فِي الهوس والمناقضة وَالِاسْتِخْفَاف بالحقائق فاقبح من قَول هَؤُلَاءِ أَنه لَا يَصح الْإِيمَان إِلَّا بالْكفْر وَلَا يَصح التَّصْدِيق إِلَّا بالجحد وَلَا يُوصل إِلَى رِضَاء الله عز وَجل إِلَّا بِالشَّكِّ فِيهِ وَأَن من اعْتقد موقناً بِقَلْبِه وَلسَانه أَن الله تَعَالَى ربه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن دين الْإِسْلَام دين إِلَى الَّذِي لَا دين غَيره فَإِنَّهُ كَافِر مُشْرك اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من الخذلان فو الله لَوْلَا خذلان الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ غَالب على امْرَهْ مَا انْطلق لِسَان ذِي مسكة بِهَذِهِ الْعَظِيمَة وَهَذَا يَكْفِي من تكلّف النَّقْص لهَذِهِ الْمقَالة الملعونة وَمن بلغ هَذَا الْمبلغ حسن السُّكُوت عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من الضلال ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن هَذَا الَّذِي أوجبتم عَلَيْهِ الشَّك فِي فرض أَو الشَّك فِي صِحَة النُّبُوَّة والرسالة كم تكون هَذِه الْمدَّة الَّتِي أوجبتم عَلَيْهِ فِيهِ الْبَقَاء شاكا مستدلا طَالبا للدلائل وَكَيف أَن لم يجد فِي قريته أَو مدينته وَلَا فِي اقليمه محسناً للدلائل فَرَحل طَالبا للدلائل فَاعْتَرَضتهُ أهوال ومخاوف وَتعذر من بَحر أَو مرض فاتصل لَهُ ذَلِك سَاعَات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين مَا قَوْلكُم فِي ذَلِك فَإِن حدوا فِي الْمدَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَو أَكثر من ذَلِك كَانُوا متحكمين بِلَا دَلِيل وقائلين بِلَا هدى من الله تَعَالَى وَلم يعجز أحد عَن أَن يَقُول فِي تَحْدِيد تِلْكَ الْمدَّة بِزِيَادَة أَو نُقْصَان وَمن بلغ هَا هُنَا فقد ظهر فَسَاد قَوْله وَأَن قَالُوا لَا نحد فِي ذَلِك حدا قُلْنَا لَهُم فَإِن امْتَدَّ كَذَلِك حَتَّى فنى عمره وَمَات فِي مُدَّة استدلاله الَّتِي حددتم لَهُ وَهُوَ شَاك فِي الله تَعَالَى وَفِي النُّبُوَّة أيموت مُؤمنا وَيُحب لَهُ الْجنَّة أم يَمُوت كَافِرًا وَتجب لَهُ النَّار فَإِن قَالُوا يَمُوت مُؤمنا تجب لَهُ الْجنَّة أَتَوْ بأعظم الطو أم وَجعلُوا الشكاك فِي الله الَّذين هم عِنْدهم شكاك مُؤمنين من أهل الْجنَّة وَهَذَا كفر مَحْض وتناقض لاخفاء بِهِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِك قد سمعُوا فِي أَن يبْقى الْمَرْء دهره كُله شاكا فِي الله عز وَجل وَفِي النُّبُوَّة والرسالة فَإِن قَالُوا بل يَمُوت كَافِرًا تجب لَهُ النَّار قُلْنَا لَهُم لقد أَمر تموه بِمَا فِيهِ هَلَاكه وأوجبتم عَلَيْهِ مَا فِيهِ دماره وَمَا يفعل الشَّيْطَان الإهذا فِي أمره بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الخلود فِي النَّار بل هُوَ فِي حكم أهل الفترة قُلْنَا لَهُم هَذَا بَاطِل لِأَن أهل الفترة لم تأتهم النذارة وَلَا بَلغهُمْ خبر النُّبُوَّة وَالنَّص إِنَّمَا جَاءَ فِي أهل الفترة وَمن زَاد فِي الْخَبَر مَا لَيْسَ فِيهِ فقد كذب على الله عز وَجل ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَا حد الِاسْتِدْلَال الْمُوجب لاسم الْإِيمَان عنْدكُمْ وَقد يسمع دَلِيلا عَلَيْهِ اعْتِرَاض أيجزيه ذَلِك لدَلِيل أم لَا فَإِن قَالُوا يجْزِيه قلنالهم وَمن أَيْن وَجب أَن يجْزِيه وَهُوَ دَلِيل معترض فِيهِ وَلَيْسَ هَذِه الصّفة من الدَّلَائِل المخرجة عَن الْجَهْل إِلَى الْعلم بل هِيَ مؤدية إِلَى الْجَهْل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 قبل الِاسْتِدْلَال فَإِن قَالُوا بل لَا يجْزِيه إِلَّا حَتَّى يُوقن أَنه قد وَقع على دَلِيل لَا يُمكن الِاعْتِرَاض فِيهِ تكلفوا مَا لَيْسَ فِي وسع أَكْثَرهم وَمَا لَا يبلغهُ إِلَّا قَلِيل من النَّاس فِي طَوِيل من الدَّهْر وَكثير من الْبَحْث وَلَقَد درى الله تَعَالَى أَنهم أصفار من الْعلم بذلك يَعْنِي أهل هَذِه الْمقَالة الملعونة الخبيثة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبُرْهَان الموضح لبُطْلَان هَذِه الْمقَالة الخبيثة أَنه لَا يشك أحد مِمَّن يدْرِي شَيْئا من السّير من الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمانية والدهرية فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مذ بعث لم يزل يَدْعُو النَّاس الْجَمَّاء الْغَفِير إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَبِمَا أَنِّي بِهِ وَيُقَاتل من أهل الأَرْض من يقاتله مِمَّن عِنْد ويستحل سفك دِمَائِهِمْ وَسبي نِسَائِهِم وَأَوْلَادهمْ وَأخذ أَمْوَالهم متقرباً إِلَى الله تَعَالَى بذلك وَأخذ الْجِزْيَة وأصغاره وَيقبل مِمَّن آمن بِهِ وَيحرم مَاله وَدَمه وَأَهله وَولده وَيحكم لَهُ بِحكم الْإِسْلَام وَفِيهِمْ الْمَرْأَة البدوية والراعي الراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبيء والزمجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الْجَاهِل والضعيف فِي فهمه فَمَا مِنْهُم أحد وَلَا من غَيرهم قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لَا أقبل إسلامك وَلَا يَصح لَك دين إِلَّا حَتَّى تستدل على صِحَة مَا أَدْعُوك إِلَيْهِ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لسنا نقُول أَنه لم يبلغنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ذَلِك لأحد بل نقطع نَحن وَجَمِيع أهل الأَرْض قطعا كقطعنا على مَا شهدناه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل قطّ هَذَا لأحد وَلَا رد إِسْلَام أحد حَتَّى يسْتَدلّ ثمَّ جرى على هَذِه الطَّرِيقَة جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَلَا يخْتَلف أحد فِي هَذَا الْأَمر ثمَّ جَمِيع أهل الأَرْض إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع عِنْد أهل الْإِسْلَام أَن يكون عَلَيْهِ السَّلَام يغْفل أَن يبين النَّاس مَا لَا يَصح لأحد الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ ثمَّ يتَّفق على إغفال ذَلِك أَو تعمد عدم ذكره جَمِيع أهل الأسلام ويبينه لَهُم هَؤُلَاءِ الأشقياء وَمن ظن أَنه وَقع من الدّين على مَا لَا يَقع عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر بِلَا خلاف فصح أَن هَذِه الْمقَالة خلاف للاجماع وَخلاف لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أهل الْإِسْلَام قاطبة فَإِن قَالُوا فَمَا كَانَت حَاجَة النَّاس إِلَى الْآيَات المعجزات وَإِلَى احتجاج الله عز وَجل عَلَيْهِم بِالْقُرْآنِ واعجازه بِهِ وبدعاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وَدُعَاء النَّصَارَى إِلَى المباهلة وشق الْقَمَر قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن النَّاس قِسْمَانِ قسم لم تسكن قُلُوبهم إِلَى الْإِسْلَام وَلَا دَخلهَا التَّصْدِيق فطلبوا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام الْبَرَاهِين فَأَرَاهُم المعجزات فانقسموا قسمَيْنِ طَائِفَة آمَنت وَطَائِفَة عندت وجاهرت فكفرت وَأهل هَذِه الصّفة الْيَوْم هم الَّذين يلْزمهُم طلب الِاسْتِدْلَال فرضا وَلَا بُد كَمَا قُلْنَا وَقسم آخر وفقهم الله تَعَالَى لتصديقه عَلَيْهِ السَّلَام وَخلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 عز وَجل فِي نُفُوسهم الْإِيمَان كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} فَهَؤُلَاءِ آمنُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِلَا تَكْلِيف (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيلْزم أهل هَذِه الْمقَالة أَن جَمِيع أهل الأَرْض كفار لَا ألأقل وَقد قَالَ بَعضهم أَنهم مستدلون (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة هُوَ يدْرِي أَنه فِيهَا كَاذِب وكل من سَمعه يدْرِي أَنه فِيهَا كَاذِب لِأَن أَكثر الْعَامَّة من حَاضِرَة وبادية لَا يدْرِي مَا معنى الِاسْتِدْلَال فَكيف أَن يَسْتَعْمِلهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيلْزم من قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة أَن لَا يَأْكُل من اللَّحْم إِلَّا مَا ذبحه هُوَ أَو من يدْرِي أَنه مستدل وَأَن لَا يطَأ إِلَّا زَوْجَة يدْرِي أَنَّهَا مستدلة وَيلْزم أَن يشْهد على نَفسه بالْكفْر ضَرُورَة قبل استدلاله وَمُدَّة استدلاله وَأَن يُفَارق امْرَأَته الَّتِي تزوج فِي تِلْكَ الْمدَّة وَأَن لَا يَرث أَخَاهُ وَلَا أَبَاهُ وَلَا أمه إِلَّا أَن يَكُونُوا مستدلين وَأَن يعْمل عمل الْخَوَارِج الَّذين يقتلُون غيلَة وَعمل المغيرية المنصورة فِي ذبح كل من أمكنهم وَقَتله وَأَن يستحلوا أَمْوَال أهل الأَرْض بل لَا يحل لَهُم الْكَفّ عَن شَيْء من هَذَا كُله لِأَن جِهَاد الْكفَّار فرض وَهَذَا كُله أَن التزموا طرد أصولهم وَكَفرُوا أنفسهم وَأَن لم يَقُولُوا بذلك تناقضوا وفصح أَن كل من اعْتقد الْإِسْلَام بِقَلْبِه ونطق بِهِ لِسَانه فَهُوَ مُؤمن عِنْد الله عز وَجل وَمن أهل الْجنَّة سَوَاء كَانَ ذَلِك عَن قبُول أَو نشأة أَو عَن اسْتِدْلَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَنَقُول لَهُم هَل اسْتدلَّ من مخالفيكم فِي أقوالكم الَّتِي تدينون بهَا أحد أم لم يسْتَدلّ قطّ أحد غَيْركُمْ فَلَا بُد من إقرارهم بِأَن مخالفيهم أَيْضا قد استدلوا وهم عنْدكُمْ مخطئون كمن لم يسْتَدلّ وَأَنْتُم عِنْدهم أَيْضا مخطئون فَإِن قَالُوا إِن الْأَدِلَّة امنتنا من أَن نَكُون مخطئين قُلْنَا لَهُم وَهَذَا نَفسه هُوَ قَول خصومكم فَإِنَّهُم يدعونَ أَن أدلتهم على صَوَاب قَوْلهم وَخطأ قَوْلكُم وَلَا فرق مَا زَالُوا على هَذِه الدَّعْوَى مذ كَانُوا إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَمَا نَرَاكُمْ حصلتم من استدلا لكم إِلَّا على مَا حصل عَلَيْهِ من لم يسْتَدلّ سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق فَإِن قَالُوا لنا فعلى قَوْلكُم هَذَا يبطل الِاسْتِدْلَال جملَة وَيبْطل الدَّلِيل كَافَّة قُلْنَا معَاذ الله من هَذَا لَكِن أريناك أَنه قد يسْتَدلّ من يُخطئ وَقد يسْتَدلّ من يُصِيب بِتَوْفِيق الله تَعَالَى فَقَط وَقد لَا يسْتَدلّ من يُخطئ وَقد لَا يسْتَدلّ من يُصِيب بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وكل ميسر لما خلق لَهُ والبرهان والدلائل الصِّحَاح غير المموهة فَمن وَافق الْحق الَّذِي قَامَت عِنْد غَيره الْبَرَاهِين الصِّحَاح بِصِحَّتِهِ فَهُوَ مُصِيب محق مُؤمن اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ وَمن يسر للباطن الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان عِنْد غَيره بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ مُبْطل مُخطئ أَو كَافِر سَوَاء اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْوَعْد والوعيد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي الْوَعْد والوعيد فَذَهَبت كل طَائِفَة لقَوْل مِنْهُم من قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 أَن صَاحب الْكَبِيرَة لَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا وَلكنه فَاسق (1) وَإِن كل من مَاتَ مصرا على كَبِيرَة من الْكَبَائِر فَلم يمت مُسلما وَإِذا لم يمت مُسلما فَهُوَ مخلد فِي النَّار أبدا وَإِن من مَاتَ وَلَا كَبِيرَة لَهُ أَو تَابَ عَن كبائره قبل مَوته فَإِنَّهُ مُؤمن من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار أصلا وَمِنْهُم من قَالَ بِأَن كل ذَنْب صَغِير أَو كَبِير فَهُوَ مخرج عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فَإِن مَاتَ عَلَيْهِ فَهُوَ غير مُسلم وَغير الْمُسلم مخلد فِي النَّار وَهَذِه مقالات الْخَوَارِج والمعتزلة إِلَّا أَن ابْن بكر أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد قَالَ فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَافِرَانِ من أهل الْجنَّة لِأَنَّهُمَا من أهل بدر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى قَالَ لأهل بدر اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم قَالَ فَأهل بدران كفرُوا فمغفور لَهُم لأَنهم بِخِلَاف غَيرهم وَقَالَ بعض المرجئة (2) لَا تضر مَعَ الْإِسْلَام سَيِّئَة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر حَسَنَة قَالُوا فَكل مُسلم وَلَو بلغ على مَعْصِيّة فَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يرى نَارا وَإِنَّمَا النَّار للْكفَّار وكلتا هَاتين الطائفيتين تقربان أحد أَلا يدْخل النَّار ثمَّ يخرج عَنْهَا بل من دخل النَّار فَهُوَ مخلد فِيهَا أبدا وَمن كَانَ من أهل الْجنَّة فَهُوَ لَا يدْخل النَّار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وَقَالَ أهل السّنة وَالْحُسَيْن النجار وَأَصْحَابه وَبشر ابْن غياث المريسي وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن كيسَان الْأَصَم الْبَصْرِيّ وغيلان ابْن مَرْوَان الدِّمَشْقِي القدري وَمُحَمّد بن شبيب وَيُونُس بن عمرَان وَأَبُو الْعَبَّاس الناشي والأشعري وَأَصْحَابه وَمُحَمّد بن كرام وَأَصْحَابه أَن الْكفَّار مخلدون فِي النَّار وَأَن الْمُؤمنِينَ كلهم فِي الْجنَّة وَإِن كَانُوا أَصْحَاب كَبَائِر مَاتُوا مصرين عَلَيْهَا وَأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ طَائِفَة يدْخلُونَ النَّار ثمَّ يخرجُون مِنْهَا أَي من النَّار إِلَى الْجنَّة وَطَائِفَة لَا تدخل النَّار إِلَّا أَن كل من ذكرنَا قَالُوا لله عز وَجل أَن يعذب من شَاءَ من الْمُؤمنِينَ أَصْحَاب الْكَبَائِر بالنَّار ثمَّ يدخلهم الْجنَّة وَله أَن يغْفر لَهُم ويدخلهم الْجنَّة بِدُونِ أَن يعذبهم ثمَّ افْتَرَقُوا فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم وَهُوَ مُحَمَّد بن شبيب وَيُونُس والناشي إِن عذب الله تَعَالَى وَاحِدًا من أَصْحَاب الْكَبَائِر عذب جَمِيعهم وَلَا بُد ثمَّ أدخلهم الْجنَّة وَإِن عفر لوَاحِد مِنْهُم غفر لجميعهم وَلَا بُد وَقَالَت طَائِفَة بل يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَإِن كَانَت ذنوبهم كَثِيرَة مستوية وَقد يغْفر لمن هُوَ أعظم جرما ويعذب من هُوَ أقل جرما وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم يغْفر لمن يَشَاء من أَصْحَاب الْكَبَائِر ويعذب من يَشَاء مِنْهُم إِلَّا الْقَاتِل عندا فَإِنَّهُ مخلد فِي النَّار أبدا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم من لقى الله عز وَجل مُسلما نَائِبا من كل كَبِيرَة أَو لم يكن عمل كَبِيرَة قطّ فسيئآته كلهَا مغفورة وَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار وَلَو بلغت سيئآته مَا شَاءَ الله أَن تبلغ وَمن لقى الله عز وَجل وَله كَبِيرَة لم يتب مِنْهَا فَأكْثر فَالْحكم فِي ذَلِك الموازنة فَمن فَمن رجحت حَسَنَاته على كبائره وسيئآته فَإِن كبائره كلهَا تسْقط وَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار وَإِن اسْتَوَت حَسَنَاته مَعَ كبائره وسيئآته فَهَؤُلَاءِ أهل الْأَعْرَاف وَلَهُم وَقْفَة وَلَا يدْخلُونَ النَّار ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة وَمن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فَهَؤُلَاءِ مجازون بِقدر مَا رجح لَهُم من الذُّنُوب فَمن لفحة وَاحِدَة إِلَى بَقَاء خمسين ألف سنة فِي النَّار ثمَّ يخرجُون مِنْهَا إِلَى الْجنَّة بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرحمة الله تَعَالَى وكل من ذكرنَا يجازون فِي الْجنَّة بعد بِمَا فضل لَهُم من الْحَسَنَات وَأما من يفضل لَهُ حَسَنَة من أهل الْأَعْرَاف فَمن دونهم وكل من خرج النَّار بالشفاعة وبرحمة الله تَعَالَى فهم كلهم سَوَاء فِي الْجنَّة مِمَّن رجحت لَهُ حَسَنَة فَصَاعِدا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما من قَالَ صَاحب الْكَبِيرَة يخلد وَصَاحب الذَّنب كَذَلِك فَإِن حجتهم قَول الله عز وَجل {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} وَقَوله تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا وهم من فزع يَوْمئِذٍ آمنون وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وترهقهم ذلة مَا لَهُم من الله من عَاصِم كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلماً أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وَقَوله {وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق اثاماً يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهاناً إِلَّا من تَابَ وآمن} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا وسيصلون سعيراً} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفاً لقِتَال أَو متحيزاً إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} وَقَوله {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا} الْآيَة وَذكروا أَحَادِيث صحت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَعِيد شَارِب الْخمر وَقَاتل الْهِرَّة وَمن قتل نَفسه بِسم أَو حَدِيد أَو تردى من جبل فَإِنَّهُ يفعل ذَلِك بِهِ فِي جَهَنَّم خَالِدا وَمن قتل نَفسه حرَام الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار وَذكروا أَن الْكَبِيرَة تزيل اسْم الْإِيمَان فبعضهم قَالَ إِلَى شرك وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى كفر نعْمَة وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى نفاق وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى فسق قَالُوا فَإِذا لَيْسَ مُؤمنا فَلَا يدْخل الْجنَّة لِأَنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤمنِينَ هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ مَا نعلم لَهُم حجَّة أصلا غير مَا ذكرنَا وَأما من خص الْقَاتِل بالتخليد فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} فَقَط وَأما من قطع باسقاط الْوَعيد عَن كل مُسلم فاحتجوا بقول الله تَعَالَى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} قَالُوا وَهَذِه الْآيَة مثبتة أَن كل من توعده الله عز وَجل على قتل أوزنا أَو رَبًّا أَو غير ذَلِك فَإِنَّمَا هم: الْكفَّار خَاصَّة لَا غَيرهم وَاحْتَجُّوا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه دخل الْجنَّة وَإِن سرق وَإِن شرب الْخمر على رغم أَنفه أبي ذَر وَقَول الله عز وَجل {إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} قَالُوا وَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فقد أحسن فَهُوَ محسن فرحمة الله قريب مِنْهُ وَمن رَحمَه الله فَلَا يعذب وَقَالُوا كَمَا أَن الْكفْر محبط لكل حَسَنَة فَإِن الْإِيمَان يكفر كل سَيِّئَة وَالرَّحْمَة وَالْعَفو أولى بِاللَّه عز وَجل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ مَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَذَا أصلا أَو يدْخل فِيمَا ذكرنَا وَلَا يخرج عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من قَالَ أَن الله تَعَالَى يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَقد يعذب من هُوَ أقل ذنوباً مِمَّن يغْفر لَهُ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وبعموم قَوْله تَعَالَى {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس صلوَات كتبهن الله على العَبْد من جَاءَ بِهن لم ينقص من حدودهن شَيْئا كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة وَمن لم يَأْتِ بِهن لم يكن لَهُ عِنْد الله عهد إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ غفر لَهُ وَجعلُوا الآيتيتن اللَّتَيْنِ ذكرنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قاضيتين على جَمِيع الْآيَات الَّتِي تعلّقت بهَا سَائِر الطوائف وَقَالُوا لله الْأَمر كُله لَا معقب لحكمه فَهُوَ يفعل مَا يَشَاء مَا نعلم لَهُم حجَّة غير مَا ذكرنَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ بِمثل هَذَا إِلَّا أَنه قَالَ الله تَعَالَى إِن عذب وَاحِدًا مِنْهُم عذب الْجَمِيع وَإِن عفر لوَاحِد مِنْهُم غفر للْجَمِيع فَإِنَّهُم قدرية جنحوا بِهَذَا القَوْل نَحْو الْعدْل وَرَأَوا أَن الْمَغْفِرَة لوَاحِد وتعذيب من لَهُ ذنُوبه جور ومحاباة وَلَا يُوصف الله عز وَجل بذلك وَأما من قَالَ بالموازنة فَإِنَّهُم احْتَجُّوا فَقَالُوا إِن آيَات الْوَعيد وأخبار الْوَعيد الَّتِي احْتج بهَا من ذهب مَذْهَب الْمُعْتَزلَة والخوارج فَإِنَّهَا لَا يجوزان أَن تخص بِالتَّعْلِيقِ بهَا دون آيَات الْعَفو وَأَحَادِيث الْعَفو الَّتِي احْتج بهَا من أسقط فِي الْوَعيد وَهِي لَا يجوز التَّعَلُّق بهَا دون الْآيَات الَّتِي حتج بهَا من أثبت الْوَعيد بل الْوَاجِب جمع جَمِيع تِلْكَ الْآيَات وَتلك الْأَخْبَار وَكلهَا حق وَكلهَا من عِنْد الله وَكلهَا مُجمل تَفْسِيرهَا بآيَات الموازنة وَأَحَادِيث الشَّفَاعَة الَّتِي هِيَ بَيَان لعُمُوم تِلْكَ إِلَّا آيَات وَتلك الْأَخْبَار وَكلهَا من عِنْد الله قَالُوا وَوجدنَا الله عز وَجل قد قَالَ {يَا ويلتنا مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها ووجدوا مَا عمِلُوا حَاضرا وَلَا يظلم رَبك أحدا} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا} الْآيَة أَو قَالَ تَعَالَى {ليجزي الله كل نفس مَا كسبت إِن الله سريع الْحساب} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {لتجزى كل نفس بِمَا تسعي} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} إِلَى قَوْله {الْجَزَاء الأوفى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك} وَقَالَ تَعَالَى {ليجزي الَّذين أساؤوا بِمَا عمِلُوا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن كلا لما ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَفْعَلُوا من خير فَلَنْ يكفروه} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَقَالَ تَعَالَى {فإمَّا من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه} إِلَى آخر السُّورَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم الْيَوْم} هَذَا نَص كَلَامه يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ القَاضِي على كل مُجمل قَالُوا فنص الله عز وَجل أَنه يضع الموازين الْقسْط وَأَنه لَا يظلم أحدا شَيْئا ولامثقال حَبَّة خَرْدَل وَلَا مِثْقَال ذرة من خير وَمن شَرّ فصح أَن السَّيئَة لَا تحبط الْحَسَنَة وَأَن الْإِيمَان لَا يسْقط الْكَبَائِر وَنَصّ الله تَعَالَى أَنه تجزى كل نفس بِمَا كسبت وَمَا عملت وَمَا سعت وَأَنه لَيْسَ لأحد الاما سعى وَأَنه سيجري بذلك من أَسَاءَ بِمَا عمل وَمن أحسن بِالْحُسْنَى وَأَنه تَعَالَى يُوفي النَّاس أَعْمَالهم فَدخل فِي ذَلِك الْخَيْر وَالشَّر وَأَنه تَعَالَى يجازي بِكُل خير وَبِكُل سوء وَعمل وَهَذَا كُله يبطل قَول من قَالَ بالتخليد ضَرُورَة وَقَول من قَالَ باسقاط الْوَعيد جملَة لِأَن الْمُعْتَزلَة تَقول أَن الْإِيمَان يضيع ويحبط وَهَذَا خلاف قَول الله تَعَالَى أَنه لَا يضيع ليماتناولا عمل عَامل منا وَقَالُوا هم أَن الْخَيْر سَاقِط بسيئة وَاحِدَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت} فَقَالُوا هم ان السيآت يذهن الْحَسَنَات وَقد نَص تَعَالَى أَن الْأَعْمَال لَا يحبطها إِلَّا الشّرك وَالْمَوْت عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} فَلَو كَانَت كل سَيِّئَة أَو كَبِيرَة توجب الخلود فِي جَهَنَّم ويحبط الْأَعْمَال الْحَسَنَة لكَانَتْ كل سَيِّئَة أَو كل كَبِيرَة كفرا ولتساوت السيئآت كلهَا وَهَذَا خلاف النُّصُوص وَعلمنَا بِمَا ذكرنَا أَن الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} هم الَّذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فَسقط كل سَيِّئَة قدموها وَصَحَّ أَن قَوْله تَعَالَى {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} هُوَ فِيمَن رجحت كبائرهم حسناتهم وَإِن السَّيئَة الْمُوجبَة هى للخلود وهى الْكفْر لِأَن النُّصُوص جَاءَت بتقسيم السيئآت فَقَالَ تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} فَهَذِهِ سيئآت مغفورة باجتناب الْكَبَائِر وَقَالَ تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فَأخْبر تَعَالَى أَن من السَّيِّئَات المجازى لَهَا مَا هُوَ مقدارذرة وَمِنْهَا مَا هُوَ أكبر وَلَا شكّ أَن الْكفْر أكبر السيئآت فَلَو كَانَت كل كَبِيرَة جزاءها الخلود لكَانَتْ كلهَا ولكانت كلهَا سَوَاء وَلَيْسَت كَذَلِك بِالنَّصِّ وَأما وَعِيد الله بالخلود فِي الْقَاتِل وَغَيره فَلَو لم يَأْتِ إِلَّا هَذِه النُّصُوص لوَجَبَ الْوُقُوف عِنْدهَا لكنه قد قَالَ تَعَالَى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَكَلَامه تَعَالَى لَا يخْتَلف وَلَا يتناقض وَقد صَحَّ أَن الْقَاتِل لَيْسَ كَافِرًا وَإِن الزَّانِي لَيْسَ كَافِرًا وَأَن أَصْحَاب تِلْكَ الذُّنُوب المتوعد عَلَيْهَا لَيْسُوا كفَّارًا بِمَا ذكرنَا قبل من أَنهم مُبَاح لَهُم نِكَاح المسلمات إِنَّهُم مأمورون بالصلات وَأَن زَكَاة أَمْوَالهم مَقْبُوضَة وَأَنَّهُمْ لَا يقتلُون وَأَنه إِن عفى عَن الْقَاتِل فَقتله مُسلم فَإِنَّهُ يقتل بِهِ وَأَنه يَرث وَيُورث وتؤكل ذَبِيحَته فَإذْ لَيْسَ كَافِرًا فبيقين يدرى أَن خلوده إِنَّمَا هُوَ مقَام مُدَّة مَا وَإِن الصلا (1) الى نَمَاء الله تَعَالَى عَن كل من لم يكذب وَلَا تولى إِنَّمَا هُوَ صلى الخلود لَا يجوز البته غير هذذا وَبِهَذَا تتألف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 النُّصُوص وتتفق وَمن الْمَعْهُود فِي المخاطبة أَن وَفد من بلد إِلَى بلد محبس فِيهِ لأمر أوجب احتباسه فِيهِ مُدَّة مَا فَإِنَّهُ لَيْسَ من أهل ذَلِك الْبَلَد الَّذِي حبس فِيهِ فَمن دخل فِي النَّار ثمَّ أخرج مِنْهَا فقد انْقَطع عَنهُ صليها فَلَيْسَ من أَهلهَا وَأهل صليها على الْإِطْلَاق وَالْجُمْلَة هم الْكفَّار المخلدون فِيهَا أبدا فَهَكَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح فقد ذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ من يدْخل النَّار بذنوبه ثمَّ يخرج مِنْهَا ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما أهل النَّار الَّذين هم أَهلهَا يَعْنِي الْكفَّار المخلدين فِيهَا وَقد قَالَ عز وَجل {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثياً} فقد بَين عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بقوله فِي الْخَبَر الصَّحِيح ثمَّ يضْرب الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم فبالقرآن وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحَّ أَن ممر النَّاس من مَحْشَرهمْ إِلَى الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ بخوضهم وسط جَهَنَّم وينجي الله أَوْلِيَاء من حرهَا وهم الَّذين لَا كَبَائِر لَهُم أَو لَهُم كَبَائِر تَابُوا عَنْهَا ورجحب حسناوتهم بكبائرهم أَو تَسَاوَت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وَأَنه تَعَالَى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته ثمَّ يخرجهم عَنْهَا إِلَى الْجنَّة بإيمَانهمْ ويمحق الْكفَّار بتخليدهم فِي النَّار كَمَا قَالَ تَعَالَى {وليمحص الله الَّذين آمنُوا ويمحق الْكَافرين} وَأَيْضًا فَإِن كل آيَة وَعِيد وَخبر وَعِيد تعلق بِهِ من قَالَ بتخليد المذذنبين فَإِن المحتجين بِتِلْكَ النُّصُوص هم أول مُخَالف لَهَا لأَنهم يَقُولُونَ أَن من يأتى بِتِلْكَ الْكَبَائِر ثمَّ تَابَ سقط عَنهُ الْوَعيد فقد تركُوا ظَاهر تِلْكَ النُّصُوص فَإِن قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا بنصوص أخر أَو جبت ذَلِك قيل لَهُم نعم وَكَذَلِكَ فعلنَا بنصوص أخر وَهِي آيَات الموازنة وَأَنه تَعَالَى لَا يضيع عمل عَامل من خير أَو شَرّ وَلَا فرق وَيُقَال لمن أسقط آيَات الْوَعيد جملَة وَقَالَ أَنَّهَا كلهَا إِنَّمَا جَاءَت فِي الْكفَّار أَن هَذَا بَاطِل لِأَن نَص الْقُرْآن بالوعيد على الفار من الزَّحْف لَيْسَ إِلَّا على الْمُؤمن بِيَقِين بِنَصّ الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} وَلَا يُمكن أَن يكون هَذَا فِي كَافِر أصلا فَسقط قَول من قَالَ بالتخليد وَقَول من قَالَ باسقاط الْوَعيد وَلم يبْق الإ فول من أجمل جَوَاز الْمَغْفِرَة وَجوز الْعقَاب (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَوَجَدنَا هَذَا القَوْل مُجملا قد فسرته آيَات الموازنة وَقَوله تَعَالَى الَّذِي تعلقوا بِهِ {أَن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} حق على ظَاهرهَا وعَلى عمومها وَقد فسرتها بإقرارهم آيَات أخر لِأَنَّهُ لَا يخْتَلف فِي أَن الله تَعَالَى يغْفر أَن يُشْرك بِهِ لمن تَابَ من الشّرك بِلَا شكّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء فهذاكله حق إِلَّا أَنه قد بَين من هم الَّذين شَاءَ أَن يغْفر لَهُم فَإِن صرتم إِلَى بَيَان الله تَعَالَى فَهُوَ الْحق وَأَن أَبَيْتُم إِلَّا الثَّبَات على الأجمال فأخبرونا عَن قَول الله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَقَوله تَعَالَى {بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} أَتَرَوْنَ أَن هَذَا الْعُمُوم تَقولُونَ بِهِ فتجيزون أَنه يغْفر الْكفْر لِأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ذَنْب من الذُّنُوب أم لَا وأخبرونا عَن قَول الله عز وَجل حاكياً عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يَقُول لَهُ تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} إِلَى قَوْله {وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} إِلَى قَوْله {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَيَدْخُلُ النَّصَارَى الَّذين اتَّخذُوا عِيسَى وَأمه إِلَهَيْنِ من دون الله تَعَالَى فِي جَوَاز الْمَغْفِرَة لَهُم لصدق قَول الله تَعَالَى فِي هَذَا القَوْل من التَّخْيِير بَين الْمَغْفِرَة لَهُم أَو تعذينهم وأخبرونا عَن قَوْله تَعَالَى {قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} فَمن قَوْلهم أَن الْمَغْفِرَة لَا تكون الْبَتَّةَ لمن كفر وَمَات كَافِرًا وَأَنَّهُمْ خارجون من هَذَا الْعُمُوم وَمن هَذِه الْجُمْلَة بقوله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} قيل لَهُم وَلم خصصتم هَذِه الْجُمْلَة بِهَذَا النَّص وَلم تخصوا قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} بقوله {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَهَذَا خبر لَا نسخ فِيهِ فَإِن قَالُوا نعم إِلَّا أَن يَشَاء أَن يغْفر لَهُم قيل لَهُم قد أخبر الله تَعَالَى أَنه لَا يَشَاء ذَلِك بإخباره تَعَالَى أَنه فِي ذَلِك الْيَوْم يَجْزِي كل نفس مَا كسبت وَلَا فرق (قَالَ أَبُو) مُحَمَّد وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الرجل يأتى يَوْم الْقِيَامَة وَله صَدَقَة وَصِيَام وَصَلَاة فيوجد قد سفك دم هَذَا وَشتم هَذَا فتؤخذ حَسَنَاته كلهَا فيقتص لَهُم مِنْهَا فَإِذا لم يبْق لَهُ حَسَنَة قذف من سيآتهم عَلَيْهِ وَرمى فِي النَّار وَهَكَذَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام فِي قوم يخرجُون من النَّار حَتَّى إِذا نقوا وهذبوا أدخلُوا الْجنَّة وَقد بَين عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بِأَنَّهُ يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من شعير من خير ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال برة من خير ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال ذرة إِلَى أدنى أدنى أدنى من ذَلِك ثمَّ من لم يعْمل خيرا قطّ لال شَهَادَة السَّلَام فَوَجَبَ الْوُقُوف عِنْد هَذِه النُّصُوص كلهَا المفسرة للنَّص الْمُجْمل ثمَّ يُقَال أخبرونا عَمَّن لم يعْمل شرا قطّ إِلَّا اللمم وَمن هم بِالشَّرِّ فَلم يَفْعَله فَمن قَول أهل الْحق أَنه مغْفُور لَهُ جملَة بقوله تَعَالَى {إِلَّا اللمم} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تجَاوز لَا مَتى عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تخرجه بقول أَو عمل (قَالَ أبومحمد) وَهَذَا يَنْقَسِم أقساماً أَحدهَا من هم بسيئة اى شئ كَانَت من السيئآت ثمَّ تَركهَا مُخْتَار الله تَعَالَى فَهَذَا تكْتب لَهُ حَسَنَة فَإِن تَركهَا مَغْلُوبًا لَا مُخْتَارًا لم تكْتب لَهُ حَسَنَة وَلَا سَيِّئَة تفضلاً من الله عز وَجل وَلَو عَملهَا كتبت لَهُ سَيِّئَة وَاحِدَة وَلَو هم بحسنة وَلَو يعملها كتبت لَهُ حَسَنَة وَاحِدَة وَإِن عَملهَا كتبت لَهُ عشر حَسَنَات وَهَذَا كُله نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ناظرت بعض المنكرين لهَذَا فَذهب إِلَى أَن الْهم بِالسَّيِّئَةِ إِصْرَار عَلَيْهَا فَقلت لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 هَذَا خطأ لِأَن الْإِصْرَار لَا يكون إِلَّا على مَا قد فعله الْمَرْء بعد تماد عَلَيْهِ أَن يَفْعَله وَأما من هم بِمَا لم يفعل بعد فَلَيْسَ إصراراً قَالَ الله تَعَالَى {وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} ثمَّ نسألهم عَمَّن عمل بالسيئات حاشا الْكَبَائِر عددا عَظِيما وَلم يَأْتِ كَبِيرَة قطّ وَمَات على ذَلِك أيجزون أَن يعذبه الله تَعَالَى على مَا عمل من السَّيِّئَات أم يَقُولُونَ أَنَّهَا مغفورة لَهُ وَلَا بُد فَإِن قَالُوا أَنَّهَا مغفورة ولابد صدقُوا وَكَانُوا قد خصوا قَوْله تَعَالَى وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَتركُوا حمل هَذِه الْآيَة على عمومها فَلَا ينكروا ذَلِك على من خصها أَيْضا بِنَصّ آخر وَإِن قَالُوا بل جَائِز أَن يعبهم الله تَعَالَى على ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى بقوله {أَن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} ونعوذ بِاللَّه من تَكْذِيب اله عز وَجل ثمَّ نسألهم عَمَّن عمل من الْكَبَائِر وَمَات عَلَيْهَا وَعمل حَسَنَات رجحت بكبائره عِنْد الموازنة أَيجوزُ أَن يعذبه الله تَعَالَى بِمَا عمل من تِلْكَ الْكَبَائِر أم مغفورة لَهُ سَاقِطَة عَنهُ فَإِن قَالُوا بل هِيَ مغفورة وساقطة عَنهُ صدقُوا أَو كَانُوا قد خصوا عُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَجعلُوا هَؤُلَاءِ مِمَّن شَاءَ وَلَا بُد أَن يغْفر لَهُم وَإِن قَالُوا بل جايز أَن يعذبهم أكذبهم الله تَعَالَى بقوله {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} وَبِقَوْلِهِ {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ القَوْل فِيمَن تَسَاوَت حَسَنَاته وكبائره وهم أهل الْأَعْرَاف فَلَا يُعَذبُونَ أصلا فقد صَحَّ يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ الطَّبَقَات الْأَرْبَع هم الَّذين شَاءَ الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم بِلَا شكّ فَبَقيَ الَّذين لم يَشَاء الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم وَلم يبْق من الطَّبَقَات أحد إِلَّا من رجحت كبائره فِي الموازنة على حَسَنَاته فهم الَّذين يجاوزون بِقدر ذنوبهم ثمَّ يخرجُون من النَّار بالشفاعة وبرحمة الله عز وَجل فَقَالُوا من هَؤُلَاءِ من يغْفر الله تَعَالَى وَمِنْهُم من يعذبه قُلْنَا لَهُم أعندكم بِهَذَا الْبَيَان نَص وهم لَا يجدونه أبدا فَظهر تحكمهم بِلَا برهَان وخلافهم لجَمِيع الْآيَات الَّتِي تعلقوا بهَا فَإِنَّهُم مقرون على أَنَّهَا لَيست على عمومها بل هِيَ مَخْصُوصَة لِأَن الله تَعَالَى قَالَ إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَلَا خلاف فِي أَنه تَعَالَى يغْفر الشّرك لمن آمن فصح أَنَّهَا مجملة تفسرها سَائِر الْآيَات وَالْأَخْبَار وَكَذَلِكَ حَدِيث عبَادَة خمس صلوَات كتبهن الله تَعَالَى على الْعباد من جَاءَ بِهن لم ينقص من حدودهن شَيْئا كَانَ لَهُ الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة وَمن لم يَأْتِ بِهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن شَاءَ غفر لَهُ وَإِن شَاءَ عذبه فَإِنَّهُم متفقون على أَن من جَاءَ بِهن لم ينتقص من حدودهن شَيْئا إِلَّا أَنه قتل وزنى وسرق فَإِنَّهُ قد يعذب وَيَقُولُونَ إِن لم يَأْتِ بِهن فَإِنَّهُ لَا يعذب على التَّأْبِيد بل يعذب ثمَّ يخرج عَن النَّار (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا ترك مِنْهُم أَيْضا لظَاهِر هَذَا الْخَبَر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا فرق بَين قَول الله تَعَالَى {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} وَبَين قَوْله {وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} كِلَاهُمَا خبر أَن جازإبطال أَحدهمَا جَازَ إبِْطَال ت الْأَرْبَع هم الَّذين شَاءَ الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم بِلَا شكّ فَبَقيَ الَّذين لم يَشَاء الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 الآخر ومعاذ الله من هَذَا القَوْل وكذذلك قد منع الله تَعَالَى من هَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى {لَا تختصموا لدي وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد مَا يُبدل القَوْل لدي وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَنحن نقُول أَن الله تَعَالَى يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَأَنه تَعَالَى يغْفر مَا دون الشّرك لمن يَشَاء وَأَن كل أحد فَهُوَ فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى إِلَّا أننا نقُول أَنه تَعَالَى قد بَين من يغْفر لَهُ وَمن يعذب وَإِن الموازين حق الموازنة حق الشَّفَاعَة حق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان حَدثنَا أَحْمد بن عيد النصير حَدثنَا قَاسم بن أصبغ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الختنى حَدثنَا كحمد بن الْمثنى حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن خَالِد الْحذاء عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَول الله تَعَالَى {وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص} قَالَ مَا وعدوا فِيهِ من خير وَشر وَهَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا وَقد ادّعى قوم أَن خلاف الْوَعيد حسن عِنْد الْعَرَب وأنشدوا ... وَإِنِّي وَإِن واعدته وأوعدته لمخلف ميعادي ومنجزه موعدي ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا شَيْء قد جعل فَخر صبي أَحمَق كَافِر حجَّة على الله تَعَالَى وَالْعرب تَفْخَر بالظلم قَالَ الراجز ... أَحْيَا أَبَاهُ هَاشم بن حر مله ... ترى الْمُلُوك حوله مغر لَهُ ... يقتل ذَا الذَّنب وَمن لَا ذَنْب لَهُ وَقد جعلت الْعَرَب مخلف الْوَعْد كَاذِبًا قَالَ الشَّاعِر أنْشدهُ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى ... أتوعدني وَرَاء بني رَبَاح ... كذبت لتقصرن يداك دوني ... فَإِن قَالُوا خصوا وَعِيد الشّرك بالموازنة قُلْنَا لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى منع ذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأهل النَّار متناضلون فِي عَذَاب النَّار فأقلهم عذَابا أبوطالب فَإِنَّهُ تُوضَع جمرتان من نَار فِي أخمصيه إِلَى أَن يبلغ الْأَمر إللى قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} وَقَوله تَعَالَى {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَلَا يكون الأشد إِلَّا إِلَى جنب إِلَّا دون وَقَالَ تَعَالَى {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالْكفَّار معذذبون على الْمعاصِي الَّتِي عمِلُوا من غير الْكفْر برهَان ذَلِك قَول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} فنص تَعَالَى على أَن الْكفَّار يُعَذبُونَ على ترك الصَّلَاة وعَلى ترك الطَّعَام للمسكين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما من عمل مِنْهُم الْعتْق وَالصَّدَََقَة أَو نَحْو ذَلِك من أَعمال الْبر فحابط كل ذَلِك لِأَن الله عز وَجل قَالَ أَنه من مَاتَ وَهُوَ كَافِر حَبط عمله لَكِن لَا يعذب الله أحدا إِلَّا على مَا عمل لَا على مَا لم يعْمل قَالَ الله تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَلَمَّا كَانَ من لَا يطعم الْمِسْكِين من الْكفَّار يعذب على ذَلِك عذَابا زَائِدا فَالَّذِي أطْعم الْمِسْكِين مَعَ كفره لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 يعذب ذَلِك الْعَذَاب الزَّائِد فَهُوَ أقل عذَابا لِأَنَّهُ لم يعْمل من الشَّرّ مَا عمل من هُوَ أَشد عذَابا أَنه عمل خيرا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل كَافِر عمل خيرا وشراً ثمَّ أسلم فَإِن كل مَا عمل من خير مَكْتُوب مجازى بِهِ فِي الْجنَّة وَأما مَا عمل من شَرّ فَإِن تَابَ عَنهُ مَعَ تَوْبَته من الْكفْر سقط عَنهُ وَإِن تَمَادى عَلَيْهِ أَخذ بِمَا عمل فِي كفره وَبِمَا عمل فِي إِسْلَامه برهَان ذَلِك حَدِيث حكم بن حزَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَا رَسُول الله أَشْيَاء كنت أتحنث بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة من عتق وَصدقَة وصلَة رحم فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسلمت على مَا سلف لَك من خير فَأخْبر أَنه خير وَأَنه لَهُ إِذا أسلم وَقَالَت لَهُ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا يَا رَسُول الله أَرَأَيْت ابْن جدعَان فَإِنَّهُ كَانَ يصل الرَّحِم ويقرى الضَّيْف أينفع ذَلِك قَالَ لَا لِأَنَّهُ لم يقل يَوْمًا رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم ينْتَفع بذلك لِأَنَّهُ لم يسلم فاتفقت الْأَخْبَار كلهَا على أَنه لَو أسلم لنفعه ذَلِك وَأما مؤاخذته بِمَا عمل فَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِنَصّ مَا قُلْنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قُلْنَاهُ فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} قُلْنَا إِنَّمَا هَذَا لمن مَاتَ مشر كافقط برهَان ذَلِك إِن الله تَعَالَى قَالَ {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَمن أسلم فَلَيْسَ من الخاسرين وَقد بَين ذَلِك بقوله {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} وَإِن اعْترضُوا فِيمَا قُلْنَا من الْمُؤَاخَذَة بِمَا عمل فِي الْكفْر بقوله تَعَالَى {قل للَّذين كفرُوا أَن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} قُلْنَا لَهُم هَذَا حجَّة لنا لِأَن من انْتهى عَن الْكفْر غفر لَهُ وَإِن انْتهى عَن الزِّنَا غفر لَهُ وَإِن لم ينْتَه عَن الزِّنَا لم يغْفر لَهُ فَإِنَّمَا يغْفر لَهُ عَمَّا انْتهى عَنهُ وَلم يغْفر لَهُ مَا لم ينْتَه عَنهُ وَلم يقل تَعَالَى أَن ينْتَهوا عَن الْكفْر يغْفر لَهُم سَائِر ذنوبهم وَالزِّيَادَة على الْآيَة كذب الله تَعَالَى وَهِي أَعمال مُتَغَايِرَة كَمَا ترى لَيست التَّوْبَة عَن بَعْضهَا تَوْبَة عَن سائرها فَلِكُل وَاحِد مِنْهَا حكم فَإِن ذكرُوا حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام يجب مَا قبله فقد قُلْنَا أَن الْإِسْلَام اسْم لجَمِيع الطَّاعَات فَمن أصر على الْمعْصِيَة فَلَيْسَ فعله فِي الْمعْصِيَة الَّتِي يتمادى عَلَيْهَا إسلاماً وَلَا إِيمَانًا كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن فصح أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان هُوَ جَمِيع الطَّاعَات فَإِذا أسلم من الْكفْر وَتَابَ من جَمِيع مَعَاصيه فَهُوَ الْإِسْلَام الَّذِي يجب مَا قبله وَإِذا لم يتب من مَعَاصيه فَلم يحسن فِي الْإِسْلَام فَهُوَ مَأْخُوذ بألاول والاآخر كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا تتفق الْأَحَادِيث وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَالْهجْرَة تجب مَا قبلهَا فقد صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن المُهَاجر من هجر مَا نَهَاهُ الله عَنهُ فَمن تَابَ من جَمِيع الْمعاصِي الَّتِي سلفت مِنْهُ فقد هجر مَا نَهَاهُ الله عَنهُ فَهَذِهِ هِيَ الْحُجْرَة الَّتِي تجب مَا قبلهَا وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَالْحج يجب مَا قبله فقد جَاءَ أَن الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 الْجنَّة فَهَذَا على الموازنة الَّتِي رَبنَا عز وَجل عَالم بمراتبها ومقاديرها وَإِنَّمَا تقف حَيْثُ وقفنا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واستدركنا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَاتل نَفسه حرم عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار مَعَ قَوْله من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه حرم عَلَيْهِ النَّار وَأوجب لَهُ الْجنَّة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فصح أَن كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُله وَحي من عِنْد الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح أَن مَا قَالَه رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن عِنْد الله تَعَالَى وَأَنه لَا اخْتِلَاف فِي شئ مِنْهُ وَأَنه كُله مُتَّفق عَلَيْهِ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب ضم هَذِه الْأَخْبَار بَعْضهَا إِلَى بعض فيلوح الْحق حِينَئِذٍ بحول الله وقوته فَمَعْنَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَاتِل حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار مَبْنِيّ على الموازنة فَإِن رجحت كَبِيرَة قَتله نَفسه على حَسَنَاته حرم الله عيله الْجنَّة حَتَّى يقْتَصّ مِنْهُ بالنَّار الَّتِي أوجبهَا الله تَعَالَى جَزَاء على فعله وبرهان هَذَا الحَدِيث الَّذِي أسلم وَهَاجَر مَعَ عَمْرو بن الحممة الدوسي ثمَّ قتل نَفسه لجراح جرح بِهِ فتألم بِهِ فَقطع عروق يَده فنزف حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال حَسَنَة الا يَده وذكرا قيل لَهُ لن يصلح مِنْك مَا افسدت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ وليديه فَاغْفِر وَمعنى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عَلَيْهِ النَّار وَأوجب لَهُ الْجنَّة فَهَذَا لَا يخْتَلف فِيهِ مسلمان أَنه لَيْسَ على ظَاهره مُنْفَردا لَكِن يضمه إِلَى غَيره من الْإِيمَان لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والبراءة من كل دين حاشا دين الْإِسْلَام وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَن الله عز وَجل أوجب لَهُ الْجنَّة وَلَا بُد إِمَّا بعد الاقتصاص وَإِمَّا دون الاقتصاص على مَا توجبه الموازنة وَحرم الله عَلَيْهِ أَن يخلد فِيهَا وَيكون من أَهلهَا القاطنين فِيهَا على مَا بَيْننَا قبل من قَوْله تَعَالَى {لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} {وَمَا تَفعلُوا من خير فَلَنْ تكفرُوا} وَقَوله تَعَالَى {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فنص الْآيَة أَنَّهَا فِي الْكفَّار هَكَذَا فِي نَص الْآيَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْكَفَّارَة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {أَن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْمحَال أَن يحرم الله تَعَالَى علينا أمرا وَيفرق بَين أَحْكَامه وَيجْعَل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً بِهِ إِن لم يجْتَنب الْبَعْض الآخر ثمَّ لَا يبين لنا المهلكات من غيرعا فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا قوما يَقُولُونَ أَن كل ذَنْب فَهُوَ كَبِيرَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ لِأَن نَص الْقُرْآن مفرق كَمَا قُلْنَا بَين الْكَبَائِر وَغَيرهَا وبالضرورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 نَدْرِي أَنه لَا يُقَال كَبِيرَة إِلَّا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهَا والكبائر أَيْضا تتفاضل فالشرك أكبر مِمَّا دونه وَالْقَتْل أكبر من غَيره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا لَا يعذبان وَمَا يعذبان فِي كَبِير وَأَنه لكبير أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا يستبرئ من بَوْله وَأما الآخر فَكَانَ يمشي بالنميمة فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُمَا كَبِير وَمَا هما بكبير وَهَذَا بَين لِأَنَّهُمَا كبيران بِالْإِضَافَة إِلَى الصفائر المغفورة باجتناب الْكَبَائِر ولبسا بكبيرين بِالْإِضَافَة إِلَى الْكفْر وَالْقَتْل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَبَطل القَوْل الْمَذْكُور فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا معرفَة الْكَبِير من الذُّنُوب مِمَّا لَيْسَ بكبير مِنْهَا لَا يعلم الْبَتَّةَ إِلَّا بِنَصّ وَأَرَادَ فِيهَا إِذْ هَذَا من أَحْكَام الله تَعَالَى الَّتِي لَا تعرف إِلَّا من عِنْده تَعَالَى فبحثنا عَن ذَلِك فَوَجَدنَا الله تَعَالَى قد نَص بالوعيد على ذنُوب فِي الْقُرْآن وعَلى لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجدنَا ذنوباً أخر لم ينص عَلَيْهَا بوعيد فَعلمنَا يَقِينا أَن كل مَا توعد الله تَعَالَى عَلَيْهِ بالنَّار أَو توعد عَلَيْهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّار فَهُوَ كَبِير وكل مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باستعظامه فَهُوَ كَبِير كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام اتَّقوا السَّبع الموبقات الشّرك وَالسحر وَالْقَتْل وَالزِّنَا وَذكر الحَدِيث وَكَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام عقوق الْوَالِدين من الْكَبَائِر وكل مَا لم يَأْتِ نَص باستعظامه وَلَا جَاءَ فِيهِ وَعِيد بالنَّار فَلَيْسَ بكبير وَلَا يُمكن أَن يكون الْوَعيد بالنَّار على الصَّغَائِر على انفرادها لِأَنَّهَا مغمورة باجتناب الْكَبَائِر فصح مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الموافاة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف المتكلمون فِي معنى عبروا عَنهُ بِلَفْظ الموافاة وهم أَنهم قَالُوا فِي إِنْسَان مُؤمن صَالح مُجْتَهد فِي الْعِبَادَة ثمَّ مَاتَ مُرْتَدا كَافِرًا وَآخر كَافِر متمردا وفاسق ثمَّ مَاتَ مُسلما نَائِبا كَيفَ كَانَ حكم كل وَاحِد مِنْهُمَا قبل أَن ينْتَقل إِلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عِنْد الله تَعَالَى فَذهب هِشَام ابْن عَمْرو والفوطي وَجَمِيع الأشعرية إِلَى أَن الله عز وَجل لم يزل رَاضِيا عَن الَّذِي مَاتَ مُسلما تَائِبًا وَلم يزل ساخط على الَّذِي مَاتَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر علمه وَلَا يرضى مَا سخط وَلَا يسْخط مَا رَضِي وَقَالَت الأشعرية الرِّضَا من الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر مِنْهُ تَعَالَى صِفَات الذَّات لَا يزولان وَلَا يتغيران وَذهب سَائِر الْمُسلمين إِلَى أَن الله عز وَجل كَانَ ساخطاً على الْكَافِر وَالْفَاسِق ثمَّ رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا أسلم الْكَافِر وَتَابَ الْفَاسِق وَأَنه كَانَ تَعَالَى رَاضِيا عَن الْمُسلم وَعَن الصَّالح ثمَّ سخط عَلَيْهِمَا إِذا كفر الْمُسلم وَفسق الصَّالح (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احتجاج الْأَشْعر بِهِ هَاهُنَا هُوَ احتجاج الْيَهُود فِي إبِْطَال النّسخ وَلَا فرق وَنحن نبين بطلَان احتجاجهم وَبطلَان قَوْلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد أما قَوْلهم عَن علم الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر فَصَحِيح وَلَكِن معلوماته تَتَغَيَّر وَلم نقل أَن علمه يتَغَيَّر ومعاذ الله من هَذَا وَلم يزل علمه تَعَالَى وَاحِدًا يعلم كل شَيْء على تصرفه فِي جَمِيع حالاته فَلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 يزل يعلم أَن زيدا سَيكون صَغِيرا ثمَّ شَابًّا ثمَّ كهلاً ثمَّ شَيخا ثمَّ مَيتا ثمَّ مَبْعُوثًا ثمَّ فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار وَلم يزل يعلم أَنه سيؤمن ثمَّ يكفر أَو أَنه يكفر ثمَّ يُؤمن أَو أَنه يكفر وَلَا يُؤمن أَو أَنه يُؤمن وَلَا يكفر وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْفسق وَالصَّلَاح ومعلوماته تَعَالَى فِي ذَلِك متغيرة مُخْتَلفَة وَمن كَابر هَذَا فقد كَابر العيان والمشاهدات وَأما قَوْلهم أَن الله تَعَالَى لَا يسْخط مَا رَضِي وَلَا يرضى مَا سخط فَبَاطِل وَكذب بل قد أَمر الله تَعَالَى الْيَهُود بصيانة السبت وَتَحْرِيم الشحوم وَرَضي لَهُم ذَلِك وَسخط مِنْهُم خِلَافه وَكَذَلِكَ أحل لنا الْخمر وَلم يلْزمنَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم بُرْهَة من زمن الْإِسْلَام وَرَضي لنا شرب الْخمر وَأكل رَمَضَان والبقاء بِلَا صَلَاة وَسخط تَعَالَى بِلَا شكّ الْمُبَادرَة بِتَحْرِيم ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} ثمَّ فرض علينا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَحرم علينا الْخمر فسخط لنا ترك الصَّلَاة وَأكل رَمَضَان وَشرب الْخمر وَرَضي لنا خلاف ذَلِك وَهَذَا لَا يُنكره مُسلم وَلم يزل الله تَعَالَى عليماً أَنه سيحل مَا كَانَ أحل من ذَلِك مُدَّة كَذَا وَأَنه سيرضى مِنْهُ ثمَّ أَنه سيحرمه ويسخطه وَأَنه سيحرم مَا حرم من ذَلِك ويسخطه مُدَّة ثمَّ أَنه يحله ويرضاه كَمَا علم عز وَجل أَنه سيحي من أَحْيَاهُ مُدَّة كَذَا وَأَنه يعز من أعزه مُدَّة ثمَّ يذله وَهَكَذَا جَمِيع مَا فِي الْعَالم من آثَار صَنعته عز وَجل لَا يخفى ذَلِك على من لَهُ أدنى حس وَهَكَذَا الْمُؤمن يَمُوت مُرْتَدا وَالْكَافِر يَمُوت مُسلما فَإِن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَنه سيسخطه فعل الْكَافِر مَا دَامَ كَافِرًا ثمَّ أَنه يرضى عَنهُ إِذا أسلم وَأَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَنه يرضى عَن أَفعَال الْمُسلم وأفعال الْبر ثمَّ أَنه يسْخط أَفعاله إِذا ارْتَدَّ أَو فسق وَنَصّ الْقُرْآن يشْهد بذلك قَالَ تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَأَن تشكروا يرضه لكم} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى يرضى الشُّكْر مِمَّن شكره فِيمَا شكره وَلَا يرضى الْكفْر مِمَّن كفر إِذا كفر مَتى كفر كَيفَ كَانَ انْتِقَال هَذِه الْأَحْوَال من الْإِنْسَان الْوَاحِد وَقَوله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} فالبضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن لَا يُمكن أَن يحبط عمل إِلَّا وَقد كَانَ غير حابط وَمن الْمحَال أَن يحبط عمل لم يكن محسوباً قطّ فصح أَن عمل الْمُؤمن الَّذِي ارْتَدَّ ثمَّ مَاتَ كَافِر أَنه كَانَ محسوباً ثمَّ حَبط إِذا ارْتَدَّ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} فصح أَنه لَا يمحو إِلَّا مَا كَانَ قد كتبه وَمن الْمحَال أَن يمحى مَا لم يكن مَكْتُوبًا وَهَذَا بطلَان قَوْلهم يَقِينا وَللَّه الْحَمد وَكَذَلِكَ نَص قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} فَهَذَا نَص قَوْلنَا وَبطلَان قَوْلهم لِأَن الله تَعَالَى سمى أفعالهم الْمَاضِيَة سيئات والسيئات مذمومة عِنْده تَعَالَى بِلَا شكّ ثمَّ أخبر تَعَالَى أَنه أحالها وبدلها حَسَنَات مرضية فَمن أنكر هَذَا فَهُوَ مكذب لله تَعَالَى وَالله تَعَالَى مكذب لَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى أَنه سخط أكل آدم من الشَّجَرَة وَذَهَاب يُونُس مغاضباً ثمَّ أخبر عز وَجل أَنه تَابَ عَلَيْهِمَا واجتبى يُونُس بعد أَن لامه وَلَا يشك كل ذِي عقل أَن اللائمة غير الاجتباء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نقُول لَهُم أَفِي الْكَافِر كفر إِذا كَانَ كَافِر قبل أَن يُؤمن وَفِي الْفَاسِق فسق قبل أَن يَتُوب وَفِي الْمُؤمن إِيمَان قبل أَن يرْتَد أم لَا فَإِن قَالُوا لَا كابروا وأحالوا وَإِن قَالُوا نعم قُلْنَا لَهُم فَهَل يسْخط الله الْكفْر وَالْفِسْق أَو يرضى عَنْهُمَا فَإِن قَالُوا بل يسخطهما تركُوا قَوْلهم وَإِن قَالُوا بل يرضى عَن الْكفْر وَالْفِسْق كفرُوا ونسألهم عَن قتل وحشى حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ إرضاء كَانَ لله تَعَالَى فَإِن قَالُوا نعم كفرُوا وَإِن قَالُوا بل مَا كَانَ إِلَّا سخطا سألناهم يؤاخذه الله تَعَالَى بِهِ إِذا أسلم فَمن قَوْلهم لَا وَهَكَذَا فِي كل حَسَنَة وسيئة فَظهر فَسَاد قَوْلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم الْكَلَام فِي من لم تبلغه الدعْوَة وَمن تَابَ عَن ذَنْب أَو كفر ثمَّ رَجَعَ فِيمَا تَابَ عَنهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ الله عز وَجل {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فنص تَعَالَى ذَلِك على أَن النذارة لَا تلْزم إِلَّا من بلغته لَا من تبلغه وَأَنه تَعَالَى لَا يعذب أحدا حَتَّى يَأْتِيهِ رَسُول من عِنْد الله عز وَجل فصح بذلك أَن من يبلغهُ الْإِسْلَام أصلا فَإِنَّهُ لَا عَذَاب عَلَيْهِ وَهَكَذَا جَاءَ النَّص عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالشيخ الخرف والأصلح الْأَصَم وَمن كَانَ فِي الفترة وَالْمَجْنُون فَيَقُول الْمَجْنُون يَا رب أَتَانِي الْإِسْلَام وَأَنا لَا أَعقل وَيَقُول الخرف والأصم وَالَّذِي فِي الفترة أَشْيَاء ذكرهَا فيوقد لَهُم نَارا وَيُقَال لَهُم ادخلوها فَمن دَخلهَا وجدهَا بردا وَسلَامًا وَكَذَلِكَ من لم يبلغهُ الْبَاب من وَاجِبَات الدّين فَإِنَّهُ مَعْذُور لَا ملامة عَلَيْهِ وَقد كَانَ جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم بِأَرْض الْحَبَشَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ وَالْقُرْآن ينزل والشرائع تشرع فَلَا يبلغ إِلَى جَعْفَر وَأَصْحَابه أصلا لإنقطاع الطَّرِيق جملَة من الْمَدِينَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَبِقَوْلِهِ كَذَلِك سِتّ سِنِين فَمَا ضرهم ذَلِك فِي ديتهم شَيْئا إِذْ عمِلُوا بالمحرم وَتركُوا الْمَفْرُوض (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَرَأَيْت قوما يذهبون إِلَى أَن الشَّرَائِع لَا تلْزم من كَانَ جَاهِلا بهَا وَلَا من لم تبلغه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا بَاطِل بل هِيَ لَازِمَة لَهُ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى الْإِنْس كلهم وَإِلَى الْجِنّ كلهم وَإِلَى كل من يُولد إِذْ بلغ بعد الْولادَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ تَعَالَى آمرا نبيه أَن يَقُول {إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} وَهَذَا عُمُوم لَا يجوز أَن يخص مِنْهُ أحد وَقَالَ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} فَأبْطل سُبْحَانَهُ أَن يكون أحد سدى والسدى هُوَ المهمل الَّذِي لَا يُؤمر وَلَا يُنْهِي فَأبْطل عز وَجل هَذَا الْأَمر وَلكنه مَعْذُور بجهله ومغيبه عَن الْمعرفَة فَقَط وَأَن من بلغه ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ مَا كَانَ من أقاصي الأَرْض فَفرض عَلَيْهِ الْبَحْث عَنهُ فَإِذا بلغته عَنهُ نذارته فَفرض عَلَيْهِ التَّصْدِيق بِهِ وَأَتْبَاعه وَطلب الدّين اللَّازِم لَهُ وَالْخُرُوج عَن وَطنه لذَلِك وَإِلَّا فقد اسْتحق الْكفْر وَالْخُلُود فِي النَّار وَالْعَذَاب بِنَصّ وَالْقُرْآن وكل مَا ذكرنَا يبطل قَول من قَالَ من الْخَوَارِج أَن فِي حِين بعث النَّبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْزم من فِي أقاصي الأَرْض الْإِيمَان بِهِ وَمَعْرِفَة شرائعه فَإِن مَاتُوا فِي ذَلِك الْحَال مَاتُوا كفَّارًا إِلَى النَّار وَيبْطل هَذَا قَول الله عز وَجل {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَلَيْسَ فِي وسع أحد علم الْغَيْب فَإِن قَالُوا فَهَذِهِ حجَّة الطَّائِفَة القائلة أَنه لَا يلْزم أحد شَيْء من الشَّرَائِع حَتَّى تبلغه قُلْنَا لَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن كل مَا كلف النَّاس فَهُوَ فِي وسعهم وَاحْتِمَال بنيتهم إِلَّا أَنهم معذورون بمغيب ذَلِك عَنْهُم وَلم يكلفوا ذَلِك تكليفاً يُعَذبُونَ بِهِ إِن لم يفعلوه وَإِنَّمَا كلفوه تَكْلِيف من لَا يُعَذبُونَ حَتَّى يبلغهم وَمن بلغه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ أمرا من الحكم مُجملا وَلم يبلغهُ نَصه فَفرض عَلَيْهِ اجْتِهَاد نَفسه فِي طلب ذَلِك الْأَمر وَإِلَّا فَهُوَ عَاص لله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} وَأما من تَابَ عَن ذَنْب أَو كفر ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَا تَابَ عَنهُ فَإِنَّهُ إِن كَانَ تَوْبَته تِلْكَ وَهُوَ مُعْتَقد للعودة فَهُوَ عابث مستهزئ مخادع لله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم} إِلَى قَوْله {عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون} وَأما من كَانَت تَوْبَته نصُوحًا ثَابت الْعَزِيمَة فِي أَن لَا يعود فَهِيَ تَوْبَة صَحِيحَة مَقْبُولَة بِلَا شكّ مسقطة لكل من تَابَ عَنهُ بِالنَّصِّ قَالَ عز وَجل {وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا} فَإِن عَاد بعد ذَلِك إِلَى الذَّنب الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَلَا يعود عَلَيْهِ ذَنْب قد عفره الله أبدا فَإِن ارْتَدَّ وَمَات كَافِرًا فقد سقط عمله وَالتَّوْبَة عمل فقد حبطت فَهَذَا يعود عَلَيْهِ مَا عمل خَاصَّة وَأما من رَاجع الْإِسْلَام وَمَات عَلَيْهِ فقد سقط عَنهُ الْكفْر وَغَيره (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا تكون التَّوْبَة إِلَّا بالندم وَالِاسْتِغْفَار وَترك المعاودة والعزيمة على ذَلِك وَالْخُرُوج من مظْلمَة إِن تَابَ عَنْهَا إِلَى صَاحبهَا بتحلل أَو إنصاف وَرَأَيْت لأبي بكر أَحْمد بن عَليّ بن يفجور الْمَعْرُوف بِابْن الأخشيد وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُعْتَزلَة وَكَانَ أَبوهُ من أَبنَاء مُلُوك فرغانة من الأتراك وَولى أَبوهُ الثغور وَكَانَ هَذَا أَبُو بكر ابْنه يتفقه للشَّافِعِيّ فَرَأَيْت لَهُ فِي بعض كتبه بقول أَن التَّوْبَة هِيَ النَّدَم فَقَط وَإِن لم ينْو مَعَ ذَلِك ترك الْمُرَاجَعَة لتِلْك الْكَبِيرَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا أشنع مَا يكون من قَول الْمُرَاجَعَة لِأَن كل مُعْتَقد لِلْإِسْلَامِ فبلا شكّ نَدْرِي أَنه نادم على كل ذَنْب يعمله عَالما بِأَنَّهُ مسيء فِيهِ مستفر مِنْهُ وَمن كَانَ بِخِلَاف هَذِه الصّفة وَكَانَ مستحسناً لما فعل غير نادم عَلَيْهِ فَلَيْسَ مُسلما فَكل صَاحب كَبِيرَة فَهُوَ على قَول ابْن الأخشيد غير مؤاخذ بهَا لِأَنَّهُ تائب مِنْهَا وَهَذَا خلاف الْوَعيد فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّكُم تقطعون على قبُول إِيمَان الْمُؤمن أفتقطعون على قبُول تَوْبَة التائب وَعمل الْعَامِل للخير أَن كل ذَلِك مَقْبُول وَهل تقطعون على المكثر من السَّيِّئَات أَنه فِي النَّار قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْأَعْمَال لَهَا شُرُوط من تَوْفِيَة النِّيَّة حَقّهَا وتوفية الْعَمَل حَقه فَلَو أيقنا أَن الْعَمَل وَقع كَامِلا كَمَا أَمر الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 تَعَالَى لقطعنا قبُول الله عز وَجل لَهُ وَأما التَّوْبَة فَإِذا وَقعت نصُوحًا فَنحْن نقطع بقبولها وَأما الْقطع على مظهر الْخَيْر بِأَنَّهُ فِي الْجنَّة وعَلى مظهر الشَّرّ والمعاصي بِأَنَّهُ فِي النَّار فَهَذَا خطأ لأننا لَا نعلم مَا فِي التفوس وَلَعَلَّ الْمظهر لخير مبطن للكفر أَو مبطن على كَبَائِر لَا نعلمها فَوَاجِب أَن لَا نقطع من أجل ذَلِك عَلَيْهِ بِشَيْء وَكَذَلِكَ الْمُعْلن بالكبائر فَإِنَّهُ يُمكن أَن يبطن الْكفْر فِي بَاطِن أمره فَإِذا قرب من الْمَوْت آمن فَاسْتحقَّ الْجنَّة أَو لَعَلَّ لَهُ حَسَنَات فِي بَاطِن أمره تفيء على سيئاته فَيكون من أهل الْجنَّة فَلهَذَا وَجب أَن لَا نقطع على أحد بِعَيْنِه بجنة وَلَا نَار حاشا من جَاءَ النَّص فِيهِ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِأَنَّهُم فِي الْجنَّة وَبِأَن الله علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَأهل بدر وَأهل السوابق فَإنَّا نقطع على هَؤُلَاءِ بِالْجنَّةِ لِأَن الله تَعَالَى أخبرنَا بذلك على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا من مَاتَ مُعْلنا للكفر فَإنَّا نقطع عَلَيْهِ بالنَّار ونقف فِيمَن عدا هَؤُلَاءِ إِلَّا أننا نقطع على الصِّفَات فَنَقُول من مَاتَ مُعْلنا الْكفْر أَو مبطناً لَهُ فَهُوَ فِي النَّار خادلا فِيهَا وَمن لَقِي الله تَعَالَى رَاجِح الْحَسَنَات على السَّيِّئَات والكبائر أَو متساويهما فَهُوَ فِي الْجنَّة لَا يعذب بالنَّار وَمن لقى الله تَعَالَى رَاجِح الْكَبَائِر على الْحَسَنَات فَفِي النَّار وَيخرج مِنْهَا بالشفاعة إِلَى الْجنَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَأَيْت بعض أَصْحَابنَا يذهب إِلَى شَيْء يُسَمِّيه شَاهد الْحَال وَهُوَ أَن من كَانَ مظهر الشَّيْء من الديانَات متحملاً للأذى فِيهِ غير مستجلب بِمَا يلقِي من ذَلِك حَالا فَإِنَّهُ مَقْطُوع على بَاطِنه وَظَاهره قطعا لَا شكّ فِيهِ كعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين وَمن جرى مجراهم مِمَّن قبلهم أَو مَعَهم أَو بعدهمْ فَإِن هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم رفضوا من الدُّنْيَا مَا لَو استعملوه لما حط من وجاهتهم شَيْئا وَاحْتَملُوا من المضض مَا لَو خففوه عَن أنفسهم لم يقْدَح ذَلِك فيهم عِنْد أحد فَهَؤُلَاءِ مَقْطُوع على إسْلَامهمْ عِنْد الله عز وَجل وعَلى خَيرهمْ وفضلهم وَكَذَلِكَ نقطع على أَن عمر بن عبيد كَانَ يدين بأبطال الْقدر بِلَا شكّ فِي بَاطِن أمره وَأَن أَبَا حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا فِي بَاطِن أَمرهمَا يدينان لله تَعَالَى بِالْقِيَاسِ وَأَن دَاوُد بن عَليّ كَانَ فِي بَاطِن الْأَمر يدين الله تَعَالَى بِإِبْطَال الْقيَاس بِلَا شكّ وَإِن أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي اله عَنهُ كَانَ يدين الله تَعَالَى بالتدين بِالْحَدِيثِ فِي بَاطِن أمره بِلَا شكّ بِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق بِلَا شكّ وَهَكَذَا كل من تناصرت أَحْوَاله وَظهر جده فِي مُعْتَقد وَترك الْمُسَامحَة فِيهِ وَاحْتمل الْأَذَى والمضض من أَجله (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا قَول صَحِيح لَا شكّ فِيهِ إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي بنية الطبائع أَن يحْتَمل أحد أَذَى ومشقة لغير فَائِدَة يتعجلها أَو يتأجلها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَا بُد لكل ذِي عقد من أَن يتَبَيَّن عَلَيْهِ شَاهد عقده بِمَا يَبْدُو مِنْهُ من مُسَامَحَة فِيهِ أَو صَبر عَلَيْهِ وَأما من كَانَ بِغَيْر الصّفة فَلَا نقطع عقده وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 الْكَلَام فِي الشَّفَاعَة وَالْمِيزَان والحوض وَعَذَاب الْقَبْر والكتبة قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي الشَّفَاعَة فأنكرها قوم وَهُوَ الْمُعْتَزلَة والخوارج وكل من تبع أَن لَا يخرج أحد من النَّار بعد دُخُوله فِيهَا وَذهب أهل السّنة والأشعرية والكرامية وَبَعض الرافضة إِلَى القَوْل بالشفاعة وَاحْتج المانعون بقول الله عز وَجل {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضراً وَلَا رشدا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لنا من شافعين وَلَا صديق حميم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَول من يُؤمن بالشفاعة أَنه لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعض الْقُرْآن دون بعض وَلَا على بعض السّنَن دون بعض وَلَا على الْقُرْآن دون بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قَالَ لَهُ ربه عز وَجل {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد نَص الله تَعَالَى على صِحَة الشَّفَاعَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ تَعَالَى {لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} فَأوجب عز وَجل الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْده عهدا بالشفاعة وَصحت بذلك الْأَخْبَار المتواترة المتناصرة بِنَقْل الكواف لَهَا قَالَ تَعَالَى {يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ} فنص تَعَالَى على أَن الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة تَنْفَع عِنْده عز وَجل مِمَّن أذن لَهُ فِيهَا وَرَضي قَوْله وَلَا أحد من النَّاس أولى بذلك من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أفضل ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ تَعَالَى {من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ} {وَكم من ملك فِي السَّمَاوَات لَا تغنى شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه} فقد صحت الشَّفَاعَة بِنَصّ الْقُرْآن الَّذِي يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه فصح يَقِينا أَن الشَّفَاعَة الَّتِي أبطلها الله عز وَجل هِيَ غير الشَّفَاعَة الَّتِي أثبتها عز وَجل وَإِذ لَا شكّ فِي ذَلِك فالشفاعة الَّتِي أبطل عز وَجل هِيَ الشَّفَاعَة للْكفَّار الَّذين هم مخلدون فِي النَّار قَالَ تَعَالَى لَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا وَلَا يقْضِي عَلَيْهِم فيموتوا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا فَإذْ لَا شكّ فِيهِ فقد صَحَّ يَقِينا أَن الشَّفَاعَة الَّتِي أوجب الله عز وَجل لمن أذن لَهُ واتخذه عِنْده عهدا وَرَضي قَوْله فَإِنَّمَا هِيَ لمذنبي أهل الْإِسْلَام وَهَكَذَا جَاءَ الْخَبَر الثَّابِت (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وهما شفاعتان أَحدهمَا الْموقف وَهُوَ الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي جَاءَ النَّص فِي الْقُرْآن بِهِ فِي قَوْله {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} وَهَكَذَا جَاءَ الْخَبَر الثَّابِت نصا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 والشفاعة الثَّانِيَة فِي إِخْرَاج أهل الْكَبَائِر من النَّار طبقَة طبقية على مَا صَحَّ فِي ذَلِك الْخَبَر وَأما قَول الله تَعَالَى {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضراً وَلَا رشدا} {لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا} فَمَا خالفناهم فِي هَذَا أصلا وَلَيْسَ هَذَا من الشَّفَاعَة فِي شَيْء فَنعم لَا يملك لأحد نفعا وَلَا ضراً وَلَا رشدا وَلَا هدى وَإِنَّمَا الشَّفَاعَة رَغْبَة إِلَى الله تَعَالَى وضراعة وَدُعَاء وَقَالَ بعض منكري الشَّفَاعَة أَن الشَّفَاعَة لَيْسَ إِلَّا فِي الْمُحْسِنِينَ فَقَط وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن من أذن الله فِي إِخْرَاجه من النَّار وَأدْخلهُ الْجنَّة وَأذن للشافع فِي الشَّفَاعَة لَهُ فِي ذَلِك فقد ارْتَضَاهُ وَهَذَا حق وَفضل لله تَعَالَى على من قد غفر لَهُ ذنُوبه بِأَن رجحت حَسَنَاته على كبائره أَو بِأَن لم تكن لَهُ كَبِيرَة أَو بِأَن تَابَ عَنْهَا فَهُوَ مغن لَهُ عَن شَفَاعَة كل شَافِع فقد حصلت لَهُ الرَّحْمَة والفوز من الله تَعَالَى وَأمر بِهِ إِلَى الْجنَّة ففيماذا يشفع لَهُ وَإِنَّمَا الْفَقِير إِلَى الشَّفَاعَة من غلبت كبائره حَسَنَاته فَأدْخل النَّار وَلم يَأْذَن تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا إِلَّا بالشفاعة وَكَذَلِكَ الْخلق فِي كَونهم فِي الْموقف هم أَيْضا فِي مقَام شنيع فهم أَيْضا محتاجون إِلَى الشَّفَاعَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِمَا صحت الْأَخْبَار من ذَلِك نقُول وَأما الْمِيزَان فقد أنكروه قوم فخالفوا كَلَام الله تَعَالَى جرْأَة وإقداماً وتنطع آخَرُونَ فَقَالُوا هُوَ ميزَان بكفتين من ذهب وَهَذَا إقدام آخر لَا يحل قَالَ الله عز وَجل {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأُمُور الْآخِرَة لَا تعلم إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن أَو بِمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَأْتِ عَنهُ عَلَيْهِ وَالسَّلَام شَيْء يَصح فِي صفة الْمِيزَان وَلَو صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك شَيْء لقلناه بِهِ فَإذْ لَا يَصح عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك شَيْء فَلَا يحل لأحد أَن يَقُول على الله عز وَجل مَا لم يخبرنا بِهِ لَكِن نقُول كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} إِلَى قَوْله {وَكفى بِنَا حاسبين} وَقَالَ تَعَالَى {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} فنقطع على الموازين أَن تُوضَع يَوْم الْقِيَامَة لوزن أَعمال الْعباد قَالَ تَعَالَى عَن الْكفَّار {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} وَلَيْسَ هَذَا على أَن لَا توزن أَعْمَالهم بل توزن لَكِن أَعْمَالهم شَائِلَة وموازينهم خفاف قد نَص الله تَعَالَى على ذَلِك إِ يَقُول {وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} إِلَى قَوْله {فكنتم بهَا تكذبون} فَأخْبر عز وَجل أَن هَؤُلَاءِ المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيَات الله عز وَجل كفار بِلَا شكّ ونقطع على أَن تِلْكَ الموازين أَشْيَاء يبين الله عز وَجل بهَا لِعِبَادِهِ مقادير أَعْمَالهم من خير أَو شَرّ من مِقْدَار الذّرة الَّتِي لَا تحس وَزنهَا فِي موازيننا أصلا فَمَا زَاد وَلَا نَدْرِي كَيفَ تِلْكَ الموازين إِلَّا أننا نَدْرِي أَنَّهَا بِخِلَاف مَوَازِين الدُّنْيَا وَأَن ميزَان من تصدق بِدِينَار أَو بلؤلؤة أثقل مِمَّن تصدق بكذآنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وَلَيْسَ هَذَا وزنا وندري أَن إِثْم الْقَاتِل أعظم من إِثْم اللاطم وَأَن ميزَان مصلي الْفَرِيضَة أعظم من ميزَان مصلي التَّطَوُّع بل بعض الْفَرَائِض أعظم من بعض فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة كمن قَامَ لَيْلَة وَمن صلى الْعَتَمَة فِي جمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نصف لَيْلَة وَكِلَاهُمَا فرض وَهَكَذَا جَمِيع الْأَعْمَال فَإِنَّمَا يُوزن عمل العَبْد خَيره مَعَ شَره وَلَو نصح الْمُعْتَزلَة أنفسهم لعلموا أَن هَذَا عين الْعدْل وَأما من قَالَ بِمَا لَا يدْرِي أَن ذَلِك الْمِيزَان ذُو كفتين فَإِنَّمَا قَالَه قِيَاسا على مَوَازِين الدُّنْيَا وَقد أَخطَأ فِي قِيَاسه إِذْ فِي مَوَازِين الدُّنْيَا مَالا كفة لَهُ كالقرسطون وَأما نَحن فَإِنَّمَا اتَّبعنَا النُّصُوص الْوَارِدَة فِي ذَلِك فَقَط وَلَا نقُول إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا ننكر إِلَّا مَا لم يَأْتِ فيهمَا وَلَا نكذب إِلَّا بِمَا فيهمَا إِبْطَاله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْحَوْض فقد صحت الْآثَار فِيهِ وَهُوَ كَرَامَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن ورد عَلَيْهِ من أمته وَلَا نَدْرِي لمن أنكرهُ مُتَعَلقا وَلَا يجوز مُخَالفَة مَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا وَغَيره وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الصِّرَاط فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب الأول الَّذِي قبل هَذَا وَأَنه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يوضع الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم ويمر عَلَيْهِ النَّاس فمخدوش وناج ومكردس فِي نَار جَهَنَّم وَأَن النَّاس يَمرونَ عَلَيْهِ على قدر أَعْمَالهم كمر الطّرف فَمَا دون لَك إِلَى من يَقع فِي النَّار وَهُوَ طَرِيق أهل الْجنَّة إِلَيْهَا من الْمَحْشَر فِي الأَرْض إِلَى السَّمَاء وَهُوَ معنى قَول الله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثياً} وَأما كتاب الْمَلَائِكَة لأعمالنا فَحق قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن عَلَيْكُم لحافظين كراماً كاتبين} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتابا يلقاه منشوراً اقْرَأ كتابك} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام إِلَّا أَنه لَا يعلم أحد من النَّاس كَيْفيَّة ذَلِك الْكتاب عَذَاب الْقَبْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب ضرار بن عَمْرو الْغَطَفَانِي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة إِلَى إِنْكَار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 عَذَاب الْقَبْر وَهُوَ قَول من لَقينَا من الْخَوَارِج وَذهب أهل السّنة وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجبائي وَسَائِر الْمُعْتَزلَة إِلَى القَوْل بِهِ وَبِه نقُول لصِحَّة الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد احْتج من أنكرهُ بقول الله تَعَالَى {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم} الْآيَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا حق لَا يدْفع عَذَاب الْقَبْر لِأَن فتْنَة الْقَبْر وعذابه وَالْمَسْأَلَة إِنَّمَا هِيَ للروح فَقَط بعد فِرَاقه للجسد إِثْر ذَلِك قبر أَو لم يقبر برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم} الْآيَة وَهَذَا قبل الْقِيَامَة بِلَا شكّ وَأثر الْمَوْت وَهَذَا عَذَاب الْقَبْر وَقَالَ {وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة} وَقَالَ الله تَعَالَى فِي آل فِرْعَوْن {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدواً وعشياً وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} فَهَذَا الْعرض المكور هُوَ عَذَاب الْقَبْر وَإِنَّمَا قيل عَذَاب الْقَبْر فأضيف إِلَى الْقَبْر لِأَن الْمَعْهُود فِي أَكثر الْمَوْتَى أَنهم يقبرون وَقد علمنَا أَن فيهم أكيل السَّبع والغريق تَأْكُله دَوَاب الْبَحْر والمحرق والمصلوب وَالْمُعَلّق فَلَو كَانَ على مَا يقدر من يظنّ أَنه لاعذاب إِلَّا فِي الْقَبْر الْمَعْهُود لما كَانَ هَؤُلَاءِ فتْنَة وَلَا عَذَاب قبر وَلَا مَسْأَلَة ونعوذ بِاللَّه من هَذَا بل كل ميت فَلَا بُد من فتْنَة وسؤال وَبعد ذَلِك سرُور أَو نكد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيُوَفَّوْنَ حِينَئِذٍ أُجُورهم وينقلبون إِلَى الْجنَّة أَو النَّار وَأَيْضًا فَإِن جَسَد كل إِنْسَان فَلَا بُد من الْعود إِلَى التُّرَاب يَوْمًا مَا كَمَا قَالَ اله تَعَالَى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى} فَكل من ذكرنَا من مصلوب أَو مُعَلّق أَو محرق أَو أكيل سبع أَو دَابَّة فَإِنَّهُ يعود رَمَادا أَو رجيعا أَو يتقطع فَيَعُود إِلَى الأَرْض وَلَا بُد وكل مَكَان اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النَّفس أثر خُرُوجهَا من الْجَسَد فَهُوَ قبر لَهَا إِلَى يَوْم اليقيامة وَأما من ظن أَن الْمَيِّت يحيى فِي قَبره فخطأ لِأَن الْآيَات الَّتِي ذكرنَا تمنع من ذَلِك وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ تَعَالَى قد أماتنا ثَلَاثًا وَأَحْيَانا ثَلَاثًا وَهَذَا بَاطِل وَخلاف الْقُرْآن إِلَّا من أَحْيَاهُ الله تَعَالَى آيَة لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء {الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم} {كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على عروشها قَالَ إِنِّي يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه} وَكَذَلِكَ الله قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} إِلَى قَوْله {إِلَى أجل مُسَمّى} فصح بِنَصّ الْقُرْآن أَن روح من مَاتَ لَا يرجع إِلَى جسده إِلَّا إِلَى أجل مُسَمّى وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْأَرْوَاح لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا عَن يَمِين آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَعَن شِمَاله أَرْوَاح أهل الشَّقَاء وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر إِذْ خَاطب الْقَتْلَى وَأخْبر أَنهم وجدوا مَا توعدهم بِهِ حَقًا قبل أَن يكون لَهُم قُبُور فَقَالَ الْمُسلمُونَ يَا رَسُول الله أتخاطب قوما قد جيفوا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم فَلم يُنكر عَلَيْهِ السَّلَام على الْمُسلمين قَوْلهم أَنهم قد جيفوا وأعلمهم أَنهم سامعون فصح أَن ذَلِك لأرواحهم فَقَط بِلَا شكّ وَأما الْجَسَد فَلَا حس لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلم يَأْتِ قطّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر يَصح أَن أَرْوَاح الْمَوْتَى ترد إِلَى أَجْسَادهم عِنْد الْمَسْأَلَة وَلَو صَحَّ ذَلِك عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام لقلنا بِهِ فَإذْ لَا يَصح فَلَا يحل لأحد أَن يَقُوله وَإِنَّمَا انْفَرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة من رد الْأَرْوَاح الْمنْهَال بن عَمْرو وَحده وَلَيْسَ بالقوى تَركه شُعْبَة وَغَيره وَسَائِر الْأَخْبَار الثَّابِتَة على خلاف ذَلِك وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ الَّذِي صَحَّ أَيْضا عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يَصح عَن أحد مِنْهُم غير مَا قُلْنَا كَمَا حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق حَدثنَا عِيسَى بن حبيب حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن جده مُحَمَّد بن عبد الله عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت دخل ابْن عمر الْمَسْجِد فأبصر ابْن الزبير مرطوحا قبل أَن يصلب فَقيل لَهُ هَذِه أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق فَمَال إِلَيْهَا فعزاها وَقَالَ أَن هَذِه الجثث لَيست بِشَيْء وَأَن الْأَرْوَاح عِنْد الله فَقَالَت أَسمَاء وَمَا يَمْنعنِي وَقد أهْدى رَأس يحيى بن زَكَرِيَّا إِلَى بغي من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل وَحدثنَا مُحَمَّد بن بَيَان ثَنَا أَحْمد بن عون الله حَدثنَا قَاسم بن أصبغ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْحُسَيْنِي ثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن المثني الزَّمن ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود فِي قَول الله عز وَجل {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} قَالَ ابْن مَسْعُود هِيَ الَّتِي فِي الْبَقَرَة {وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فَهَذَا ابْن مَسْعُود وَأَسْمَاء بنت أبي بكر الصّديق وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَلَا مُخَالف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تقطع أَسمَاء وَابْن عمر على أَن الْأَرْوَاح بَاقِيَة عِنْد الله وَأَن الجثث لَيست بِشَيْء وَيقطع ابْن مَسْعُود بِأَن الْحَيَاة مَرَّتَانِ والوفاة كَذَلِك وَهَذَا قَوْلنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما فِي قَبره يُصَلِّي لَيْلَة الْإِسْرَاء وَأخْبر أَنه رَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة أَو السَّابِعَة وَبلا شكّ إِنَّمَا رأى روحه وَأما جسده فتوارى بِالتُّرَابِ بِلَا شكّ فعلى هَذَا أَن مَوضِع كل روح يُسمى قبراً فتعذب الْأَرْوَاح حِينَئِذٍ وَلَا تسْأَل حَيْثُ كَانَت وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مُسْتَقر الْأَرْوَاح (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح وَقد ذكرنَا بطلَان قَول أَصْحَاب التناسخ فِي صدر كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَذهب قوم من الروافض إِلَى أَن أَرْوَاح الْكفَّار ببرهوت وَهُوَ بِئْر بحضرموت وَأَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بِموضع آخر أَظُنهُ الْجَابِيَة وَهَذَا قَول فَاسد لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ أصلا وَمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ سَاقِط وَلَا يعجز أحد عَن أَن يَدعِي للأرواح مَكَانا آخر غير مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يدين بِهِ إِلَّا مخذول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذهب عوام أَصْحَاب الحَدِيث إِلَى أَن الْأَرْوَاح على أفنية قبورها وَهَذَا قَول لَا حجَّة لَهُ أصلا تصححه إِلَّا خبر ضَعِيف لَا يحْتَج بِمثلِهِ لِأَنَّهُ فِي غَايَة السُّقُوط لَا يشْتَغل بِهِ أحد من عُلَمَاء الحَدِيث وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط أَيْضا وَذهب أَبُو الْهُذيْل العلاف والأشعرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 إِلَى أَن الْأَرْوَاح أَعْرَاض تفنى وَلَا تبقى وَقْتَيْنِ فَإِذا مَاتَ الْمَيِّت فَلَا روح هُنَالك أصلا وَمن عجائب أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة الْفَاسِدَة قَوْلهم أَن روح الْإِنْسَان الْآن غير روحه قبل ذَلِك وَأَنه لَا يَنْفَكّ تحدث لَهُ روح ثمَّ تفنى ثمَّ روح ثمَّ تفني وَهَكَذَا أبدا وَإِن الْإِنْسَان يُبدل ألف ألف روح وَأكْثر فِي مِقْدَار أقل من سَاعَة زمانية وَهَذَا يشبه تَخْلِيط من هاج بِهِ البرسام وَزَاد بَعضهم فَقَالَ إِن صحت الْآثَار فِي عَذَاب الْأَرْوَاح فَإِن الْحَيَاة ترد إِلَى أقل جُزْء لَا يتَجَزَّأ من الْجِسْم فَهُوَ يعذب وَهَذَا أَيْضا حمق آخر ودعاوي فِي غَايَة الْفساد وَبَلغنِي عَن بَعضهم انه يزْعم أَن الْحَيَاة ترد إِلَى عجب الذَّنب فَهُوَ يعذب أَو ينعم وَتعلق بِالْحَدِيثِ الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب مِنْهُ خلق وَفِيه يركب (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا الْخَبَر صَحِيح إِلَّا أَنه لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَن عجب الذَّنب يحيا وَلَا أَنه يركب فِيهِ حَيَاة وَلَا أَنه يعذب وَلَا ينْتَقم وَهَذَا كُله مفحم فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث أَن عجب الذَّنب خَاصَّة لَا يَأْكُلهُ التُّرَاب فَلَا يحول تُرَابا وَأَنه مِنْهُ ابْتِدَاء خلق الْمَرْء وَمِنْه يبتدأ إنشاؤه ثَانِيَة فَقَط وَهَذَا خَارج أحسن خُرُوج على ظَاهره وَأَن عجب الذَّنب خَاصَّة تتبدد أجزاؤه وَهِي عِظَام تحسها لَا تحول تُرَابا وَأَن الله تَعَالَى بيتدىء الْإِنْشَاء الثَّانِي يجمعها ثمَّ يركب تَمام الْخلق للْإنْسَان عَلَيْهِ وَأَنه أول مَا خلق من جسم الْإِنْسَان ثمَّ ركب عَلَيْهِ سائره وَإِذ هَذَا مُمكن لَو لم يَأْتِ بِهِ نَص فخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق بالتصديق من كل خبر لِأَنَّهُ عَن الله عز وَجل قَالَ تَعَالَى {هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم} وَقَالَ تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} وَقَالَ أَبُو بكر بن كيسَان الْأَصَم لَا أَدْرِي مَا الرّوح وَلم يثبت شَيْء غير الْجَسَد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وسنبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَسَاد هَاتين المقالتين فِي بَاب الْكَلَام فِي الرّوح وَالنَّفس من كتَابنَا هَذَا بحول الله وقوته وَالَّذِي نقُول بِهِ فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح هُوَ مَا قَالَه تَعَالَى وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتعداه فَهُوَ الْبُرْهَان الْوَاضِح وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا} فصح أَن الله عز وَجل خلق الْأَرْوَاح جملَة وَهِي الْأَنْفس وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهِي الْعَاقِلَة الحساسة وَأخذ عز وَجل عهدها وشهادتها وَهِي مخلوقة مصورة عَاقِلَة قبل أَن يَأْمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم على جَمِيعهم السَّلَام وَقبل أَن يدخلهَا فِي الأجساد والأجساد يَوْمئِذٍ تُرَاب وَمَاء ثمَّ أقرها تَعَالَى حَيْثُ شَاءَ لِأَن الله تَعَالَى ذكر ذَلِك بِلَفْظَة ثمَّ الَّتِي توجب التعقيب والمهلة ثمَّ أقرها عز وَجل حَيْثُ شَاءَ وَهُوَ البرزخ الَّذِي ترجع إِلَيْهِ عِنْد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الْمَوْت لَا تزَال يبْعَث منهاجملة بعد الْجُمْلَة فينفخها فِي الأجساد المتولدة من الْمَنِيّ المتحدر من أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {الم يَك نُطْفَة من مني يمنى ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى} وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاماً} الْآيَة وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجمع خلق ابْن آدم فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله فيبلوهم الله عز وَجل فِي الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ ثمَّ يتوفاها فترجع إِلَى البرزخ الَّذِي رَآهَا فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا أَرْوَاح أهل السَّعَادَة عَن يَمِين آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وأرواح أهل الشقاوة وَعَن يسَاره عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ عِنْد مُنْقَطع العناصر وتعجل أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأرواح الشُّهَدَاء إِلَى الْجنَّة وَقد ذكر مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه ذكر هَذَا القَوْل الَّذِي قُلْنَاهُ بِعَيْنِه وَقَالَ على هَذَا أجمع أهل الْعلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهُوَ قَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام حَتَّى خَالف من ذكرنَا وَهَذَا هُوَ قَول الله عز وَجل {فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم} وَقَوله تَعَالَى {وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} وَلَا تزَال الْأَرْوَاح هُنَالك حَتَّى يتم عدد الْأَرْوَاح كلهَا بنفخها فِي أجسادها ثمَّ برجوعها إِلَى البرزخ الْمَذْكُور فتقوم السَّاعَة وَيُعِيد عز وَجل الْأَرْوَاح ثَانِيَة إِلَى الأجساد وَهِي الْحَيَاة الثَّانِيَة وَيُحَاسب الْخلق فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير مخلدين أبدا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَول بعض الأشعرية معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَهْد الْمَأْخُوذ فِي قَول الله عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم} إِن إِذْ هَاهُنَا بِمَعْنى إِذا فَقَوْل فِي غَايَة السُّقُوط لوُجُوده خَمْسَة أَولهَا أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَالثَّانيَِة أَن إِذا بِمَعْنى إِذا لَا يعرف فِي اللُّغَة وَثَالِثهَا أَنه لَو صَحَّ لَهُ تَأْوِيله هَذَا الْفَاسِد وَهُوَ لَا يَصح لَكَانَ كلَاما لَا يعقل وَلَا يفهم وَإِنَّمَا أوردهُ عز وَجل حجَّة علينا وَلَا يحْتَج الله عز وَجل إِلَّا بِمَا يفهم لَا بِمَا لَا يفهم لِأَن الله تَعَالَى قد تطول علينا بِإِسْقَاط الأصر عَنَّا وَلَا إصر أعظم من تكليفنا فهم مَا لَيْسَ فِي بنيتنا فهمه وَرَابِعهَا أَنه لَو كَانَ كَمَا ادّعى لما كَانَ على ظهر الأَرْض إِلَّا مُؤمن والعيان يبطل هَذَا لأننا نشاهد كثيرا من النَّاس لم يَقُولُوا قطّ رَبنَا الله مِمَّن نَشأ على الْكفْر وَولدت عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتَ وَمِمَّنْ يَقُول بِأَن الْعَالم لم يزل وَلَا مُحدث لَهُ من الْأَوَائِل والمتأخرين وخامسها أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أخبر بِهَذِهِ الْآيَة عَمَّا فعل ودلنا على أَن الذّكر يعود بعد فِرَاق الرّوح للجسد كَمَا كَانَ قبل حُلُوله فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبرنَا أَنه أَقَامَ علينا الْحجَّة بذلك الْإِشْهَاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 دَلِيلا كَرَاهِيَة أَن نقُول يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَي عَن ذَلِك الْإِشْهَاد الْمَذْكُور فصح أَن ذَلِك الْإِشْهَاد قبل هَذِه الدَّار الَّتِي نَحن فِيهَا الَّتِي أخبرنَا الله عز وَجل فِيهَا بذلك الْخَبَر وَقبل يَوْم الْقِيَامَة أَيْضا فَبَطل بذلك قَول بعض الأشعرية وَغَيرهَا وَصَحَّ أَن قَوْلنَا هُوَ نَص الْآيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا أَتَى المخالفون مِنْهُم أَنهم عقدوا على أَقْوَال ثمَّ راموا رد كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الَّذِي لَا يحل وَنحن وَللَّه الْحَمد إِنَّمَا أَتَيْنَا إِلَى مَا قَالَه الله عز وَجل وَمَا صَحَّ عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا بِهِ وَلم نحكم فِي ذَلِك بطراً وَلَا هوى وَلَا رددنا هما إِلَى قَول أحد بل رددنا جَمِيع الْأَقْوَال إِلَى نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل تعديه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فهم الَّذين ذكر الله تَعَالَى أَنهم المقربون فِي جنَّات النَّعيم وَأَنَّهُمْ غير أَصْحَاب الْيَمين وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِم السَّلَام أَنه رَآهُمْ فِي السَّمَوَات لَيْلَة أسرى بِهِ فِي سَمَاء سَمَاء وَكَذَلِكَ الشُّهَدَاء أَيْضا هم فِي الْجنَّة لقَوْل الله عز وَجل {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} وَهَذَا الرزق للأرواح بِلَا شكّ وَلَا يكون إِلَّا فِي الْجنَّة وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق من ثمار الْجنَّة ثمَّ تأوى إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش وروينا هَذَا الحَدِيث مُبينًا من طَرِيق ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَأَنَّهُمْ الشُّهَدَاء وَبِهَذَا تتألف الْأَحَادِيث والآيات وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ تخرج الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَالشُّهَدَاء من الْجنَّة إِلَى حُضُور الْموقف يَوْم الْقِيَامَة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لسنا ننكر شَهَادَة الْقُرْآن والْحَدِيث الصَّحِيح بِدُخُول الْجنَّة وَالْخُرُوج عَنْهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة فقد خلق الله عز وَجل فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام وحواء ثمَّ أخرجهُمَا مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَة فِي الْجنَّة وَيخرجُونَ مِنْهَا برسالات رب الْعَالمين إِلَى الرُّسُل والأنبياء إِلَى الدُّنْيَا وكل مَا جَاءَ بِهِ نَص قُرْآن أَو سنة فَلَا يُنكره الأجاهل أَو مُغفل أَو رَدِيء الدّين وَأما الَّذِي يُنكر وَلَا يجوز أَن يكون الْبَتَّةَ فخروج روح من دخل الْجنَّة إِلَى النَّار فالمنع من هَذَا إِجْمَاع من جَمِيع الْأمة من مَقْطُوع بِهِ وَكَذَلِكَ من دَخلهَا يَوْم الْقِيَامَة جَزَاء وتفضلا من الله عز وَجل فَلَا سَبِيل إِلَى خُرُوجه مِنْهَا أبدا بِالنَّصِّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام على من مَاتَ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين قبل الْبلُوغ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي حكم من مَاتَ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين ذكورهم وإناثهم فَقَالَت الْأزَارِقَة من الخووارج أما أَطْفَال الْمُشْركين فَفِي النَّار وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه يُوقد لَهُم يَوْم الْقِيَامَة نَار ويؤمرون باقتحامها فَمن دَخلهَا مِنْهُم دخل الْجنَّة وَمن لم يدخلهَا مِنْهُم أَدخل النَّار وَذهب آخَرُونَ إِلَى الْوُقُوف فيهم وَذهب النَّاس إِلَى أَنهم فِي الْجنَّة وَبِه نقُول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما الْأزَارِقَة فاحتجوا بقول الله تَعَالَى حاكياً عَن نوع نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا أَنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} وَيَقُول رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت يَا رَسُول الله أَيْن أطفالي مِنْك قَالَ فِي الْجنَّة قَالَت فأطفالي من غَيْرك قَالَ فِي النَّار فأعادت عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا إِن شِئْت أسمعتك تضاغيهم وَبِحَدِيث آخر فِيهِ الوائدة والموؤدة فِي النَّار وَقَالُوا إِن كَانُوا عنْدكُمْ فِي الْجنَّة فهم مُؤمنين لِأَنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة فَإِن كَانُوا مُؤمنين فيلزمكم أَن تدفنوا أَطْفَال الْمُشْركين مَعَ الْمُسلمين وَأَن لَا تتركوه يلْتَزم إِذا بلغ دين أَبِيه فَتكون ردة وخروجاً عَن الْإِسْلَام وَالْكفْر وَيَنْبَغِي لكم أَن ترثوه وتورثوه من أَقَاربه من الْمُسلمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا احتجرا بِهِ مَا يعلم لَهُم حجَّة غير هَذَا أصلا وَكله لَا حجَّة لَهُم فِيهِ الْبَتَّةَ أما قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَلم يقل ذَلِك على كفار قومه خَاصَّة لِأَن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} فأيقن نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذَا الْوَحْي أَنه لَا يحدث فيهم مُؤمن أبدا وَإِن كل من ولدوه إِن ولدوه لم يكن إِلَّا كَافِرًا وَلَا بُد وَهَذَا هُوَ نَص الْآيَة لِأَنَّهُ تَعَالَى حُكيَ أَنه قَالَ {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} وَإِنَّمَا أَرَادَ كفار وقته الَّذين كَانُوا على الأَرْض حِينَئِذٍ فَقَط وَلَو كَانَ للأزارقة أدنى علم وَفقه لعلموا أَن هَذَا من كَلَام نوح عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ على كل كَافِر لَكِن على قوم نوح خَاصَّة لِأَن إِبْرَاهِيم ومحمداً صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم كَانَ أبواهما كَافِرين مُشْرِكين وَقد ولدا خير الْإِنْس وَالْجِنّ قد من الْمُؤمنِينَ وأكمل النَّاس إِيمَانًا وَلَكِن الْأزَارِقَة كَانُوا أعراباً جُهَّالًا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا وَهَكَذَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق الْأسود بن سريع التَّمِيمِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَو لَيْسَ خياركم أَوْلَاد الْمُشْركين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهل كَانَ أفاضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين يتولاهم الْأزَارِقَة كَابْن أبي قُحَافَة وَعمر بن الْخطاب وَخَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا أَوْلَاد الْكفَّار فَهَل ولد آباؤهم كفَّارًا أَو هَل ولدُوا إِلَّا أهل الْإِيمَان الصَّرِيح ثمَّ آبَاء الْأزَارِقَة أنفسهم كوالد نَافِع ابْن الْأَزْرَق وَغَيرهم من شيوخهم هَل كَانُوا إِلَّا أَوْلَاد الْمُشْركين وَلَكِن من يضل الله فَلَا هادي لَهُ وَأما حَدِيث خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا فساقط مطرح لم يروه قطّ من فِيهِ خير وَأما حَدِيث الوائدة فَإِنَّهُ جَاءَ كَمَا نذكرهُ حَدثنَا يُوسُف بن عبد الْبر أَنا عبد الْوَارِث بن سُفْيَان حَدثنَا قَاسم بن اصبغ حَدثنَا بكر بن حَمَّاد حَدثنَا مُسَدّد عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان التَّمِيمِي قَالَ سَمِعت دَاوُد بن أبي هِنْد يحدث عَن عَامر الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة ابْن قيس عَن سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 أتيت أَنا وَأخي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا لَهُ أَن أمنا مَاتَت فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَت تقرى الضَّيْف وَتصل الرَّحِم فَهَل ينفعها من عَملهَا ذَلِك شَيْء قَالَ لَا قُلْنَا فَإِن أمنا وَأَدت أُخْتا لنا فِي الْجَاهِلِيَّة لم تبلغ الْحِنْث فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المؤودة والوائدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الوائدة الْإِسْلَام فتسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه اللَّفْظَة يَعْنِي لم تبلغ الْحِنْث لَيْسَ بِلَا شكّ من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنهَا من كَلَام سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ وأخيه فَلَمَّا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن تِلْكَ المؤودة فِي النَّار كَانَ ذَلِك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أَنَّهَا تبلغ الْحِنْث وتصحيحها لِأَنَّهَا قد كَانَت بلغت الْحِنْث بِخِلَاف ظَنّهَا لَا يجوز إِلَّا هَذَا القَوْل لِأَن كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يتناقض وَلَا يتكاذب وَلَا يُخَالف كَلَام ربه عز وَجل بل كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام يصدق بعضه بَعْضًا ويوافق لما أخبر بِهِ عز وَجل ومعاذ الله من غير ذَلِك وَقد صَحَّ أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أَطْفَال الْمُشْركين فِي الْجنَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا الموؤودة سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} فنص تَعَالَى على أَنه لَا ذَنْب للموؤدة فَكَانَ هَذَا مُبين لِأَن أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن تِلْكَ المؤودة فِي النَّار أَخْبَار عَن أَنَّهَا قد كَانَت بلغت الْحِنْث بِخِلَاف ظن أخويها وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن دَاوُد بن أبي هِنْد مُحَمَّد بن عدي وَلَيْسَ هُوَ دون الْمُعْتَمِر وَلم يذكر فِيهِ لم تبلغ الْحِنْث وَرَوَاهُ أَيْضا عَن دَاوُد بن أبي عُبَيْدَة بن حميد فَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي ذكرهَا الْمُعْتَمِر فَأَما حَدِيث عُبَيْدَة فَحَدَّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الجسور قَالَ أَنا وهب بن ميسرَة قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن وضاح حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عُبَيْدَة ابْن حميد عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن سَلمَة بن يزِيد قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا وَأخي فَقُلْنَا يَا رَسُول الله إِن أمنا كَانَت تقرى الضَّيْف وَتصل الرَّحِم فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ينفعها ذَلِك الشَّيْء قَالَ لَا قَالَ فَإِنَّهَا وَأَدت أُخْتا لنا فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ينفع ذَلِك أُخْتنَا شَيْئا قَالَ لَا الوائدة والموؤدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الْإِسْلَام فيعفوا الله عَنْهَا وَأما حَدِيث بن أبي عدي فَحَدَّثنَاهُ أَحْمد ابْن عمر بن أنس العذري حَدثنَا أَبُو بدر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ الْأنْصَارِيّ حَدثنَا أَبُو سعيد الْخَلِيل بن أَحْمد السجسْتانِي حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي عدي عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن العشبي عَن عَلْقَمَة عَن سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ قَالَ انْطَلَقت أَنا وَأخي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا يَا رَسُول الله إِن مليكَة كَانَت تصل الرَّحِم وتقرى الضَّيْف وَتفعل وَتفعل هَلَكت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ذَلِك نافعها شَيْئا قَالَ لَا قَالَ فَإِنَّهَا وَأَدت أُخْتا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ذَلِك ينفع أُخْتهَا قَالَ لَا الوائدة والموؤدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الوائدة الْإِسْلَام فيعفوا الله عَنْهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَكَذَا روينَاهُ لَهَا بِالْهَاءِ على أَنَّهَا أُخْت الوائد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا حَدِيث قد روينَاهُ مُخْتَصرا كَمَا حَدَّثَاهُ عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي حَدثنَا عمر ابْن عبد الْملك الْخَولَانِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر الْوراق الْبَصْرِيّ حَدثنَا أَبُو دَاوُد السجسْتانِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حَدثنَا يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة حَدثنِي أبي عَن عَامر الشّعبِيّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوائدة والمؤودة فِي النَّار قَالَ بن زَكَرِيَّا ياابن أبي زَائِدَة قَالَ أبي فَحَدثني أَبُو إِسْحَاق بن عَامر حَدثهُ بذلك عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا مُخْتَصر وَهُوَ على مَا ذكرنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني بذلك الَّتِي بلغت لَا يجوز غير هَذَا لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم من آبَائِهِم فَإِنَّمَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الحكم لَا فِي الدّين وَللَّه تَعَالَى أَن يفرق بَين أَحْكَام عباده وَيفْعل مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وَأَيْضًا فَلَا مُتَعَلق لَهُم بِهَذَا اللَّفْظ أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ أَنهم من آبَائِهِم وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ أَنهم تَوَالَدُوا من آبَائِهِم وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنهم على دين آبَائِهِم وَأما قَوْلهم يَنْبَغِي أَن تصلوا على أَطْفَال الْمُشْركين وتورثوهم وترثوهم وَأَن لَا تتركوهم يلتزموا دين آبَائِهِم إِذا بلغُوا فَإِنَّهَا ردة فَلَيْسَ لَهُم أَن يعترضوا على الله تَعَالَى فَلَيْسَ تركنَا لصَلَاة عَلَيْهِم يُوجب أَنهم لَيْسُوا مُؤمنين فَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاء وهم أفاضل الْمُؤمنِينَ لَا يصلى عَلَيْهِم وَأما انْقِطَاع الْمَوَارِيث بَيْننَا وَبينهمْ فَلَا حجَّة فِي ذَلِك على أَنهم لَيْسُوا مُؤمنين فَإِن العَبْد مُؤمن فَاضل وَلَا يُورث وَقد يَأْخُذ الْمُسلم مَال عَبده الْكَافِر إِذا مَاتَ وَكثير من الْفُقَهَاء يورثون الْكَافِر مَال العَبْد من عبيده يسلم ثمَّ يَمُوت قبل أَن يُبَاع عَلَيْهِ وَكثير من الْفُقَهَاء يورثون الْمُسلمين مَال الْمُرْتَد إِذا مَاتَ كَافِرًا مُرْتَدا أَو قتل على الرِّدَّة وَهَذَا معَاذ بن جبل وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان ومسرق بن الأجدع وَغَيرهم من الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم يورثون الْمُسلمين من أقاربهم الْكفَّار إِذا مَاتُوا وَللَّه تَعَالَى أَن يفرق بَين أَحْكَام من شَاءَ من عباده وَإِنَّمَا نقف حَيْثُ أوقفنا النَّص وَلَا مزِيد وَكَذَلِكَ دفنهم فِي مَقَابِر آبَائِهِم أَيْضا وَكَذَلِكَ تَركهم يخرجُون إِلَى أَدْيَان آبَائِهِم إِذا بلغُوا فَإِن الله تَعَالَى أوجب علينا أَن نتركهم وَذَلِكَ وَلَا نعترض على أَحْكَام الله عز وَجل وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد على الْملَّة حَتَّى يكون أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه ويشركانه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَبَطل أَن يكون لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا مُتَعَلق وَإِنَّمَا هُوَ تشغيب موهوا بِهِ لِأَن كل مَا ذكرنَا فَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَام مُجَرّدَة فَقَط وَلَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الاستدلالات تنص على أَن أَطْفَال الْمُشْركين كفار وَلَا على أَنهم غير كفار وَهَذِه النكتتان هما اللَّتَان قصدنا بالْكلَام فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من قَالَ فيهم بِالْوَقْفِ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن الْأَطْفَال يموتون فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بِمَا كَانُوا عاملين وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا إِذا مَاتَ صبي من أَبنَاء الْأَنْصَار فَقَالَت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 عُصْفُور من عصافير الْجنَّة فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا يدْريك يَا عَائِشَة أَن الله خلق خلقا للنار وهم فِي أصلاب آبَائِهِم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَانِ الخبران لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّهُمَا إِنَّمَا قالهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ أَنهم فِي الْجنَّة وَقد قَالَ تَعَالَى آمراً لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم قبل أَن يُخبرهُ الله عز وَجل بِأَنَّهُ قد غفر لَهُ الله مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وكما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي الله عَنهُ وَمَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُخبرهُ الله عز وَجل بِأَنَّهُ لَا يدْخل النَّار من شهد بَدْرًا وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْي كَمَا أَمر الله عز وَجل أَن يَقُول {إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} فَحكم كل شَيْء من الدّين لم يَأْتِ بِهِ الْوَحْي أَن يتَوَقَّف فِيهِ الْمَرْء فَإِذا جَاءَ للْبَيَان فَلَا يحل التَّوَقُّف عَن القَوْل بِمَا جَاءَ بِهِ النَّص وَقد صَحَّ الْإِجْمَاع على أَن مَا عملت الْأَطْفَال قبل بُلُوغهَا من قتل أَو وطئ أَجْنَبِيَّة أَو شرب خمر أَو قذف أَو تَعْطِيل صَلَاة أَو صَوْم فَإِنَّهُم غير مؤاخذين فِي الْآخِرَة بِشَيْء من ذَلِك مَا لم يبلغُوا وَكَذَلِكَ لَا خلاف فِي أَنه لَا يُؤَاخذ الله عز وَجل أخذا بِمَا لم يَفْعَله بل قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من هم بسيئة فَلم يعملها لم تكْتب عَلَيْهِ فَمن الْمحَال الْمَنْفِيّ أَن يكون الله عز وَجل يُؤَاخذ الْأَطْفَال بِمَا لم يعملوا مِمَّا لَو عاشوا بعده لعملوه وهم لَا يؤاخذهم بِمَا عمِلُوا وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن إنْسَانا بالغامات وَلَو عَاشَ لزنا أَنه لَا يُؤَاخذ بِالزِّنَا الَّذِي لم يعمله وَقد كذب الله عز وَجل من ظن هَذَا بقوله الصَّادِق {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فصح أَنه لَا يَجْزِي أحد بِمَا لم يعْمل وَلَا مِمَّا لم يسن فصح أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم بِمَا كَانُوا عاملين لَيْسَ فِيهِ أَنهم كفار وَلَا أَنهم فِي النَّار وَلَا أَنهم مؤاخذين بِمَا لَو عاشوا لكانوا عاملين بِهِ مِمَّا لم يعملوه بعد وَفِي هَذَا اخْتَلَفْنَا لَا فِيمَا عداهُ وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الله تَعَالَى يعلم مَا لم يكن وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون فَقَط وَنعم هَذَا حق لَا يشك فِيهِ مُسلم فَبَطل أَن يكون لأهل التَّوَقُّف حجَّة فِي شَيْء من هذَيْن الْخَبَرَيْنِ إِذْ لم يَصح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بَيَان وَأما من قَالَ أَنهم يُعَذبُونَ بِعَذَاب آبَائِهِم فَبَاطِل لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَأما من قَالَ أَنهم توقد لَهُم نَار فَبَاطِل لِأَن الْأَثر الَّذِي فِيهِ هَذِه الْقِصَّة إِنَّمَا جَاءَ فِي المجانين وفيمن لَا يبلغهُ ذكر الْإِسْلَام من الْبَالِغين على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلَمَّا بطلت هَذِه الْأَقَاوِيل كلهَا أوجب النّظر فِيمَا صَحَّ من النُّصُوص من حكم هَذِه الْمَسْأَلَة فَفَعَلْنَا فَوَجَدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَقَالَ عز وَجل {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 إِلَى قَوْله {لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} إِلَى قَوْله {صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة وَنحن لَهُ عَابِدُونَ} فنص عز وَجل على أَن فطر النَّاس على الْإِيمَان وَأَن الْإِيمَان هُوَ صبغة الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فصح يَقِينا أَن كل نفس خلقهَا الله تَعَالَى من بني آدم وَمن الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة فمؤمنون كلهم عقلا مميزون فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد استحقوا كلهم الْجنَّة بإيمَانهمْ حاشا من بدل هَذَا الْعَهْد وَهَذِه الْفطْرَة وَهَذِه الصبغة وَخرج عَنْهَا إِلَى غَيرهَا وَمَات على التبديل وبيقين نَدْرِي أَن الْأَطْفَال لم يُغيرُوا شَيْئا من ذَلِك فهم من أهل الْجنَّة وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ على الْملَّة فأباه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه ويشركانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة يهيمه جمعا وَهل يجدونفيها من جَدْعَاء حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُم الَّذِي تجدعونها وَهَذَا تَفْسِير الْآيَات الْمَذْكُورَات حَدثنَا عبد الله بن ربيع حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق السكن حَدثنَا أَبُو سعيد بن الْأَعرَابِي حَدثنَا أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث حَدثنَا الْحسن بن عَليّ حَدثنَا الْحجَّاج بن الْمنْهَال قَالَ سَمِعت حَمَّاد بن سَلمَة يُفَسر حَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَقَالَ هَذَا عندنَا حَيْثُ أَخذ الله الْعَهْد عَلَيْهِم فِي أصلاب آبَائِهِم حَيْثُ قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَقد صَحَّ أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق عِيَاض بن حمَار الْمُجَاشِعِي قَالَ عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ خلقت عبَادي حنفَاء كلهم فاجتالهم الشَّيَاطِين عَن دينهم فصح يَقِينا انه كل من مَاتَ قبل أَن تجتاله الشَّيَاطِين عَن دينه فقد مَاتَ حَنِيفا وَهَذَا حَدِيث تدخل فِيهِ الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس عباد لَهُ عز وَجل مخلوقين وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل أخبر بقول إِبْلِيس لَهُ تَعَالَى أَن يغوي النَّاس فَقَالَ تَعَالَى {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} فصح يَقِينا أَن الغواية دَاخِلَة على الْإِيمَان وَأَن الأَصْل من كل وَاحِد فَهُوَ الْإِيمَان وكل مُؤمن فَفِي الْجنَّة وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَلَيْسَت هَذِه صفة الصّبيان فصح أَنهم لَا يدْخلُونَ النَّار وَلَا دَار إِلَّا الْجنَّة أَو النَّار فَإِذا لم يدخلُوا النَّار فهم بِلَا شكّ فِي الْجنَّة وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرُّؤْيَا الْكَبِيرَة الَّتِي رَآهَا أَنه رأى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَوْضَة خضراء مفتخر وفيهَا من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وَأَكْثَرهم فَسَأَلَ عَلَيْهِ السَّلَام عَنْهُم فَأخْبر أَنهم من مَاتَ من أَوْلَاد النَّاس قبل أَن يبلغُوا فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين قَالَ وَأَوْلَاد الْمُشْركين فارتفع الْإِشْكَال وَصَحَّ بالثابت من السّنَن وصحيحها أَن جَمِيع من لم يبلغ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فَفِي الْجنَّة وَلَا يحل لأحد تعدى مَا صَحَّ بِالْقُرْآنِ وَالسّنَن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِذا قُلْتُمْ أَن النَّار دَار جَزَاء فالجنة كَذَلِك وَلَا جَزَاء للصبيان قُلْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّمَا نقف عِنْدَمَا جَاءَت بِهِ النُّصُوص فِي الشَّرِيعَة قد جَاءَ النَّص بِأَن النَّار دَار جَزَاء فَقَط وَأَن الْجنَّة دَار جَزَاء وتفضل فَهِيَ لأَصْحَاب الْأَعْمَال دَار جَزَاء بِقدر أَعْمَالهم وَلمن لَا عمل لَهُ دَار تفضل من الله تَعَالَى مُجَرّد وَقد قَالَ قوم إِن الصّبيان هم خدم أهل الْجنَّة وَقد ذكر الله تَعَالَى الْوَالِدَان المخلدين فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَأَنَّهُمْ خدم أهل الْجنَّة فلعلهم هَؤُلَاءِ وَالله أعلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما المجانين الَّذين لَا يعْقلُونَ حَتَّى يموتوا فَإِنَّهُم كَمَا ذكرنَا يولدون على الْملَّة حنفَاء مُؤمنين وَلم يُغيرُوا وَلَا بدلُوا فماتوا مُؤمنين فهم فِي الْجنَّة حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي بالثغري قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن المفرج القَاضِي حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب السموط البرقي أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْخَالِق الْبَزَّاز حَدثنَا مُحَمَّد بن المئني أَبُو مُوسَى الزَّمن حَدثنَا معَاذ بن هِشَام الدستواي حَدثنَا أبي عَن قَتَادَة عَن الْأسود بن سريع التَّيْمِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يعرض على الله الْأَصَم الَّذِي لَا يسمع شَيْئا والأحمق والهرم وَرجل مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق والهرم وَرجل مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَيَقُول الَّذِي مَاتَ فِي الفترة مَا أَتَانَا لَك من رَسُول قَالَ الْبَزَّاز وَذهب عني مَا قَالَ الرَّابِع قَالَ فَيَأْخُذ مواثيقهم ليطعنه فَيُرْسل الله إِلَيْهِم ادخُلُوا النَّار فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا الْكَلَام فِي الْقِيَامَة وتغيير الأجساد اتّفق جَمِيع أهل الْقبْلَة على تنابذ فرقهم على القَوْل بِالْبَعْثِ فِي الْقيمَة وعَلى تَكْفِير من أنكر ذَلِك وَمعنى هَذَا القَوْل أَن لمكث النَّاس فِي دَار الإبتلاء الَّتِي هِيَ الدُّنْيَا أمداً يُعلمهُ الله تَعَالَى فَإِذا انْتهى ذَلِك الأمد مَاتَ كل من فِي الأَرْض ثمَّ يحيى الله عز وَجل كل من مَاتَ مذ خلق الله عز وَجل الْحَيَوَان إِلَى انْقِضَاء الْأَجَل الْمَذْكُور ورد أَرْوَاحهم الَّتِي كَانَت بِأَعْيَانِهَا وجمعهم فِي موقف وَاحِد وحاسبهم عَن جَمِيع أَعْمَالهم ووفاهم جزاءهم ففريق من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير وَبِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وَالسّنَن قَالَ تَعَالَى {من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَقَالَ تَعَالَى عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أَو لم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم} وَقَالَ تَعَالَى {فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام} إِلَى قَوْله {وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام {واحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون الْأَحْيَاء الْمَذْكُور فِي جَمِيع هَذِه الْآيَات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 إِلَّا رد الرّوح إِلَى الْجَسَد وَرُجُوع الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية الَّتِي بعد عدمهَا مِنْهُ لم يكن غير هَذِه الْبَتَّةَ إِلَّا أَن أَبَا الْعَاصِ حكم بن الْمُنْذر بن سعيد القَاضِي أَخْبرنِي عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله الرعيني أَنه كَانَ يُنكر بعث الأجساد وَيَقُول أَن النَّفس حَال فراقها الْجَسَد تصير إِلَى معادها فِي الْجنَّة أَو النَّار ووقفت على هَذَا وَيَقُول أَن النَّفس حَال فراقها الْجَسَد تصير إِلَى معادها فِي الْجنَّة أَو النَّار ووقفت على هَذَا القَوْل بعض العارفين بِإِسْمَاعِيل فَذكر لي ثقاة مِنْهُم أَنهم سَمِعُوهُ يَقُول أَن الله تَعَالَى يَأْخُذ من الأجساد جُزْء الْحَيَاة مِنْهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا تلبيس من القَوْل لم يخرج بِهِ عَمَّا حُكيَ لي عَنهُ حكم بن الْمُنْذر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الأجساد جُزْء الْحَيَاة إِلَّا النَّفس وَحدهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم ألق إِسْمَاعِيل الرعيني قطّ على أَنِّي قد أَدْرَكته وَكَانَ سَاكِنا معي فِي مَدِينَة من مداين الأندلس تسمى نجاية مُدَّة وَلكنه كَانَ مختفياً وَكَانَ لَهُ اجْتِهَاد عَظِيم ونسك وَعبادَة وَصَلَاة وَصِيَام وَالله أعلم وَحكم بن الْمُنْذر ثِقَة فِي قَوْله بعيد من الْكَذِب وتبرأ مِنْهُ حكم بن الْمُنْذر وَكَانَ قبل ذَلِك يجمعهما مَذْهَب بن مَسَرَّة فِي الْقدر وتبرأ مِنْهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم بن سهل الأريواني وَكَانَ من رُؤُوس المرية وتبرأ مِنْهُ أَيْضا صهره أَحْمد الطَّبِيب وَجَمَاعَة من المرية وتولته جمَاعَة مِنْهُم وَبَلغنِي عَنهُ أَنه كَانَ يحْتَج لقَوْله هَذَا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وقف على ميت فَقَالَ أما هَذَا فقد قَامَت قِيَامَته وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت الْأَعْرَاب تسأله عَن السَّاعَة ... فَينْظر إِلَى أَصْغَرهم فيخبرهم أَنه استوفى عَن يمت حَتَّى تقوم قيامتهم أَو ساعتهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الْقيام الْمَوْت فَقَط بعد ذَلِك إِلَى يَوْم الْبَعْث كَمَا قَالَ عز وَجل {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} فنص تَعَالَى على أَن الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة بعد الْمَوْت بِلَفْظَة ثمَّ الَّتِي هِيَ للمهلة وَهَكَذَا أخبر عز وَجل عَن قَوْلهم يَوْم الْقِيَامَة {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا} وَأَنه يَوْم مِقْدَاره خَمْسُونَ ألف سنة وَأَنه يحيي الْعِظَام وَيبْعَث من فِي الْقُبُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن وبرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن الْجنَّة وَالنَّار موضعان ومكانان وكل مَوضِع وَمَكَان ومساحة متناهية بِحُدُودِهِ وبالبرهان الَّذِي قدمْنَاهُ على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل مَا لَهُ عدد وَيَقُول الله تَعَالَى {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَلَو لم يكن لتولد الْخلق نِهَايَة لكانوا أبدا يحدثُونَ بِلَا آخر وَقد علمنَا أَن مصيرهم الْجنَّة أَو النَّار ومحال مُمْتَنع غير مُمكن أَن يسع مَا لَا نِهَايَة لَهُ فيماله نِهَايَة من الماكن فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن لِلْخلقِ نِهَايَة فَإِذا ذَلِك وَاجِب فقد وَجب تناهى عَالم الذَّر والتناسل ضَرُورَة وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ من يُؤمن بِالْقُرْآنِ وبنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَادّعى الْإِسْلَام وَأما من أنكر الْإِسْلَام فكلامنا مَعَه على مَا رتبناه فِي ديواننا هَذَا من النَّقْض على أهل الْإِلْحَاد حَتَّى تثبت نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة مَا جَاءَ بِهِ فنرجع إِلَيْهِ بعد التَّنَازُع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن الْعِظَام يُعِيدهَا ويحيها كَمَا كَانَت أول مرّة وَأما اللَّحْم فَإِنَّمَا هُوَ كسْوَة كَمَا قَالَ {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 إِلَى قَوْله {فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَأخْبر عز وَجل أَن عنصر الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ الْعِظَام الَّذِي انْتَقَلت عَن السلالة الَّتِي من طين إِلَى النُّطْفَة إِلَى الْعلقَة إِلَى المضغة إِلَى الْعِظَام وَأَن اللَّحْم كسْوَة الْعِظَام وَهَذَا أَمر مشَاهد لِأَن اللَّحْم يذهب بِالْمرضِ حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ مَا لَا قدر لَهُ ثمَّ يكثر عَلَيْهِ لحم آخر إِذا خصب الْجِسْم وَكَذَلِكَ أخبرنَا عز وَجل أَنه يُبدل الْخلق فِي الْآخِرَة فَقَالَ {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب} وَفِي الْآثَار الثَّابِتَة أَن جُلُود الْكفَّار تغلظ حَتَّى تكون نيفاً وَسبعين ذِرَاعا وَأَن ضرسه فِي النَّار كَأحد وَكَذَلِكَ نجد اللَّحْم الَّذِي فِي جَسَد الْإِنْسَان يتغذى بِهِ حَيَوَان آخر فيستحيل لَحْمًا لذَلِك الْحَيَوَان إِذْ يَنْقَلِب دوداً فصح بِنَصّ الْقُرْآن الْعِظَام هِيَ الَّتِي تحيى يَوْم الْقِيَامَة وَمن أنكر مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن فَلَا حَظّ لَهُ فِي الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان الْكَلَام فِي خلق الْجنَّة وَالنَّار ذهبت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة والخوارج إِلَى أَن الْجنَّة وَالنَّار لم يخلقا بعد وَذهب جُمْهُور الْمُسلمين إِلَى أَنَّهُمَا قد خلقتا وَمَا نعلم لمن قَالَ أَنَّهُمَا لم يخلقا بعد حجَّة أصلا أَكثر من أَن بَعضهم قَالَ قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَذكر أَشْيَاء من أَعمال الْبر من عَملهَا غرس لَهُ فِي الْجنَّة كَذَا وَكَذَا شَجَرَة وَبقول الله تَعَالَى حاكياً عَن امْرَأَة فِرْعَوْن أَنَّهَا قَالَت {رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} قَالُوا وَلَو كَانَت مخلوقة لم يكن فِي الدُّعَاء فِي اسْتِئْنَاف الْبناء وَالْغَرْس معنى (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُمَا مخلوقتان على الْجُمْلَة كَمَا أَن الأَرْض مخلوقة ثمَّ يحدث الله تَعَالَى فِيهَا مَا يَشَاء من الْبُنيان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والبرهان على أَنَّهُمَا مخلوقتان بعد أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْجنَّة لَيْلَة الْإِسْرَاء وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى سِدْرَة الْمُنْتَهى فِي السَّمَاء السَّادِسَة وَقَالَ تَعَالَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى {عِنْدهَا جنَّة المأوى} فصح أَن جنَّة المأوى هِيَ السَّمَاء السَّادِسَة وَقد أخبر الله عز وَجل أَنَّهَا الْجنَّة الَّتِي يدخلهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {فَلهم جنَّات المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} فَلَيْسَ لأحد بعد هَذَا أَن يَقُول أَنَّهَا جنَّة غير جنَّة الْخلد وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء وَلَا شكّ فِي أَن أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْجنَّة فصح أَن الجنات هِيَ السَّمَوَات وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الفردوس الْأَعْلَى من الْجنَّة الَّتِي أمرنَا الله تَعَالَى أَن نَسْأَلهُ إِيَّاهَا فَوْقهَا عرش الرَّحْمَن وَالْعرش مَخْلُوق بعد الْجنَّة فالجنة مخلوقة وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن النَّار اشتكت إِلَى رَبهَا فَأذن لَهَا بنفسين وَإِن ذَلِك أَشد مَا نجده من الْحر وَالْبرد وَكَانَ القَاضِي مُنْذر بن سعيد يذهب إِلَى أَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان إِلَّا أَنه كَانَ يَقُول أَنَّهَا لَيست الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَامْرَأَته وَاحْتج فِي ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو كَانَت جنَّة الْخلد لما أكل من الشَّجَرَة رَجَاء أَن يكون من الخالدين وَاحْتج أَيْضا بِأَن جنَّة الْخلد لَا كذب فِيهَا وَقد كذب فِيهَا إِبْلِيس وَقَالَ من دخل الْجنَّة لم يخرج مِنْهَا وآدَم وَامْرَأَته عَلَيْهِمَا السَّلَام قد خرجا مِنْهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كل هَذَا لَا دَلِيل لَهُ فِيهِ أما قَوْله أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام أكل من الشَّجَرَة رَجَاء أَن يكون من الخالدين فقد علمنَا أَن أكله من الشَّجَرَة لم يكن ظَنّه فِيهِ صَوَابا وَلَا أكله لَهَا صَوَابا وَإِنَّمَا ظنا وَلَا حجَّة فِيمَا كَانَ هَذِه صفته وَالله عز وَجل لم يُخبرهُ بِأَنَّهُ مخلد فِي الْجنَّة بل قد كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنه سيخرجه مِنْهَا فَأكل عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّجَرَة رَجَاء الْخلد الَّذِي لم يضمن وَلَا تَيَقّن بِهِ لنَفسِهِ وَأما قَوْله أَن الْجنَّة لَا كذب فِيهَا وَأَن من دَخلهَا لم يخرج مِنْهَا آدم وَامْرَأَته فَهَذَا لَا حجَّة لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا تكون كَذَلِك إِذا كَانَت جَزَاء لأَهْلهَا كَمَا أخبر عز وَجل عَنْهَا حَيْثُ يَقُول {لَا تسمع فِيهَا لاغية} فَإِنَّمَا هَذَا على المستأنف لَا على مَا سلف وَلَا نَص مَعَه على مَا ادّعى وَلَا إِجْمَاع وَاحْتج أَيْضا بقول الله عز وَجل لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام {أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} قَالَ وَقد عرى فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة فِيهَا بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِ لِأَن الله عز وَجل وصف الْجنَّة الَّتِي أسكن فِيهَا آدم بِأَنَّهَا لَا يجاع فِيهَا وَلَا يعرى وَلَا يظمأ فِيهَا وَلَا يضحى وَهَذِه صفة الْجنَّة بِلَا شكّ وَلَيْسَ فِي شَيْء ممادون السَّمَاء مَكَان هَذِه صفته بِلَا شكّ بل كل مَوضِع دون السَّمَاء فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يجاع فِيهِ ويعرى ويظمأ ويضحى وَلَا بُد من ذَلِك ضَرُورَة فصح أَنه إِنَّمَا سكن الْمَكَان الَّذِي هَذِه صفته وَلَيْسَ هَذَا غير الْجنَّة الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا عرى آدم حِين أكل من الشَّجَرَة فاهبط عُقُوبَة وَقَالَ الله عز وَجل {لَا يرَوْنَ فِيهَا شمساً وَلَا زمهريراً} وَأخْبر آدم أَنه لَا يضحى (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا أعظم حجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ شمس لَا ضحى فِيهِ وَلَا بُد فصح أَن الْجنَّة الَّتِي أسكن فِيهَا آدم كَانَت لَا شمس فِيهَا فَهِيَ جنَّة الْخلد بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَإِن قَوْله عز وَجل {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} إِشَارَة بِالْألف وَاللَّام وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا على مَعْهُود وَلَا تَنْطَلِق الْجنَّة هَكَذَا إِلَّا على جنَّة الْخلد وَلَا ينْطَلق هَذَا الِاسْم على غَيرهَا إِلَّا بِالْإِضَافَة وَأَيْضًا فَلَو أسكن آدم عَلَيْهِ السَّلَام جنَّة فِي الأَرْض لما كَانَ فِي إِخْرَاجه مِنْهَا إِلَى غَيرهَا من الأَرْض عُقُوبَة بل قد بَين تَعَالَى أَنَّهَا لَيست فِي الأَرْض بقوله تَعَالَى {اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو} {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} فصح يَقِينا بِالنَّصِّ أَنه قد أهبط من الْجنَّة إِلَى الأَرْض فصح أَنَّهَا لم تكن فِي الأَرْض الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي بَقَاء أهل الْجنَّة وَالنَّار أبدا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اتّفقت فرق الْأمة كلهَا على أَنه لَا فنَاء للجنة وَلَا لنعيمها وَلَا للنار وَلَا لعذابها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الأجهم بن صَفْوَان وَأَبا الْهُذيْل العلاف وقوماً من الروافض فَأَما جهم فَقَالَ أَن الْجنَّة وَالنَّار بفنيان ويفنى أهلهما وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل أَن الْجنَّة وَالنَّار لَا يفنيان وَلَا يفنى أَهلهَا إِلَّا أَن رحكاتهم تفنى ويبقون بِمَنْزِلَة الجماد لَا يتحركون وهم فِي ذَلِك أَحيَاء متلذذون أَو معذبون وَقَالَت تِلْكَ الطَّائِفَة من الروافض أَن أهل الْجنَّة يخرجُون من الْجنَّة وَكَذَا أهل النَّار من النَّار إِلَى حَيْثُ شَاءَ الله (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما هَذِه الْمقَالة فَفِي غَايَة الغثاثة والتعري من شَيْء يشغب بِهِ فَكيف من إقناع أَو برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط وَأما قَول أبي الْهُذيْل فَإِنَّهُ لَا حجَّة لَهُ إِلَّا أَنه قَالَ كلما أَحْصَاهُ الْعدَد فَهُوَ ذُو نِهَايَة وَلَا بُد والحركات ذَات عدد فَهِيَ متناهية (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَظن أَبُو الْهُذيْل لجهله بحدود الْكَلَام وطبائع الموجودات أَن مَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِ الْعدَد وَهَذَا خطأ فَاحش لِأَن مَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَلَيْسَ شَيْئا وَلَا يجوز أَن يَقع الْعدَد إِلَّا على شَيْء وَإِنَّمَا يَقع الْعدَد على مَا خرج إِلَى الْفِعْل من حركات أهل النَّار وَالْجنَّة مَتى مَا خرج فَهُوَ مَحْدُود متناه وَهَكَذَا أبدا وَقد أحكمنا هَذَا الْمَعْنى فِي أول هَذَا الْكتاب فِي بَاب إِيجَاب حُدُوث الْعَالم وتناهي الموجودات فأغنى عَن إِعَادَته وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل مَا موه بِهِ أَبُو الْهُذيْل وَللَّه الْحَمد ثمَّ نقُول أَن قَوْله هَذَا خلاف للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَأَيْضًا فَإِن الَّذِي فر مِنْهُ فِي الحركات فَإِنَّهُ لَازم لَهُ فِي مدد سكونهم وتنعمهم وتأملهم لِأَنَّهُ مقرّ بِأَنَّهُم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بِالْعَذَابِ وبالضرورة نَدْرِي أَن للسكون وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب مدَدا يعد كل ذَلِك كَمَا تعد الْحَرَكَة ومددها وَلَا فرق وَأَيْضًا فَلَو كَانَ مَا قَالَه أَبُو الْهُذيْل صَحِيحا لَكَانَ أهل الْجنَّة فِي عَذَاب واصب وَفِي صفة المخدور والمفلوج وَمن أَخذه الكابوس وَمن سقى البنج وَهَذَا فِي غَايَة النكد والشقاء ونعوذ بِاللَّه من هَذَا الْحَال وَأما جهم بن صَفْوَان فَإِنَّهُ احْتج بقول الله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} وَقَالَ كَمَا لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء لم يزل غير الله تَعَالَى فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء لَا يزَال غير الله تَعَالَى (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا نعلم لَهُ حجَّة غير هَذَا أصلا وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُ فِيهِ أما قَوْله تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} فَإِنَّمَا عَنى تَعَالَى الاستحالة من شَيْء إِلَى شَيْء وَمن حَال إِلَى حَال وَهَذَا عَام لجَمِيع الْمَخْلُوقَات دون الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ مدد النَّعيم فِي الْجنَّة وَالْعَذَاب فِي النَّار كلما فنيت مُدَّة أحدث الله عز وَجل أُخْرَى وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَا آخر يدل على هَذَا مَا نذكرهُ بعد أَن شَاءَ الله تَعَالَى من الدَّلَائِل على خُلُود الْجنَّة وَالنَّار وَأَهْلهَا وَأما قَوْله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} فَإِن اسْم الشَّيْء لَا يَقع إِلَّا على مَوْجُود والإحصاء لَا يَقع على مَا ذكرنَا لَا على مَا خرج إِلَى الْفِعْل وَوجد بعد وَإِذا لم يخرج من الْفِعْل فَهُوَ لَا شَيْء بعد وَلَا يجوز أَن يعد لَا شَيْء وكل مَا خرج إِلَى الْفِعْل من مُدَّة بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار وأهلهما فمحصي بِلَا شكّ ثمَّ يحدث الله تَعَالَى لَهُم مدَدا آخر وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَا آخر وَقَالُوا هَل أحَاط الله تَعَالَى علما بِجَمِيعِ مُدَّة الْجنَّة وَالنَّار أم لَا فَإِن قُلْتُمْ لَا جهلتم الله وَإِن قُلْتُمْ نعم جعلتم مدَّتهَا محاطاً بهَا وَهَذَا هُوَ التناهي نَفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يعلم بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَن من علم الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَاهِل بِهِ مُخطئ فِي اعْتِقَاده ظان للباطل وَلَيْسَ علما وَلَا حَقًا وَلَا عَالم بِهِ وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَعلم الله عز وَجل هُوَ الْحق الْيَقِين على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَكل مَا كَانَ ذَا نِهَايَة فَهُوَ فِي علم الله تَعَالَى ذُو نِهَايَة وَلَا سَبِيل إِلَى غير هَذَا الْبَتَّةَ وَلَيْسَ للجنة وَالنَّار مدد غير متناهية محاط بهَا وَإِنَّمَا لَهما مدد كل مَا خرج مِنْهَا إِلَى الْفِعْل فَهُوَ محصي محاط بعدده وَمَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَلَيْسَ بمحصي لَكِن علم الله تَعَالَى أحَاط أَنه لَا نِهَايَة لَهما وَأما قَوْله كَمَا لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء غير الله تَعَالَى لَا نِهَايَة لَهُ لم يزل فَإِن هَذِه الْقَضِيَّة فَاسِدَة وَقِيَاس فَاسد لَا يَصح وَالْفرق بَينهمَا أَن أَشْيَاء ذَوَات عدد لَا أول لَهَا وَلم تزل لَا يُمكن أَن نتوهم الْبَتَّةَ وَلَا يشكك بل هِيَ محَال فِي الْوُجُود كَمَا ذكرنَا فِي الرَّد على من قَالَ بِأَن الْعَالم لم يزل فأغنى عَن إِعَادَته وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْلنَا لَا يزَال لِأَن إِحْدَاث الله تَعَالَى بعد شَيْء أبدا بِلَا غَايَة متوهم مُمكن لَا حِوَالَة فِيهِ فَقِيَاس الْمُمكن المتوهم على الْمُمْتَنع المستحيل الَّذِي لَا يتَوَهَّم بَاطِل عِنْد الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ فَكيف عِنْد من لَا يَقُول بِهِ فَإِن قَالَ قَائِل إِن كل مَا لَهُ أول فَلهُ آخر هَذِه قَضِيَّة فَاسِدَة وَدَعوى مُجَرّدَة وَمَا وَجب هَذَا قطّ لَا بقضية عقل وَلَا بِخَبَر لِأَن كَون الموجودات لَهَا أَوَائِل مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ لِأَن مَا وجد بعد فقد حصره عدد زمَان وجوده وكل مَا حصره عدد فَلذَلِك الْعدَد أول ضَرُورَة وَهُوَ قَوْلنَا وَاحِد ثمَّ يتمادى الْعدَد أبدا فَيمكن الزِّيَادَة بِلَا نِهَايَة وتمادي الْمَوْجُود بِخِلَاف المبدأ لِأَنَّهُ إِذا أبقى وقتا جَازَ أَن يبْقى وَقْتَيْنِ وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وكل مَا خرج من مدد الْبَقَاء إِلَى حد الْفِعْل فذو نِهَايَة بِلَا شكّ كَذَلِك من الْعدَد أَيْضا وَلم نقل أَن بَقَاء النَّاس فِي هَذِه الدُّنْيَا لَهُ نِهَايَة إِلَّا من طَرِيق النَّص وَلَو أخبر الله تَعَالَى بذلك لأمكن وَجَاز أَن تبقى الدُّنْيَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَكِن الله تَعَالَى قَادِرًا على ذَلِك وَلَكِن النَّص لَا يحل خِلَافه وَكَذَلِكَ لَوْلَا أَخْبَار الله تَعَالَى لحل احتارمها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والبرهان على بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار بِلَا نِهَايَة قَول الله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ} وَقَوله تَعَالَى فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {خَالِدين فِيهَا أبدا} وَقَوله تَعَالَى {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} مَعَ صِحَة الْإِجْمَاع بذلك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وروينا عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ لَو أَقَامَ أهل النَّار فِي النَّار مَا شَاءَ الله أَن يبقوا لَكَانَ لَهُم على ذَلِك يَوْم يخرجُون فِيهِ مِنْهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي أهل الْإِسْلَام الداخلين فِي النَّار بكبائرهم ثمَّ يخرجُون مِنْهُم بالشفاعة وَيبقى ذَلِك الْمَكَان خَالِيا وَلَا يحل لأحد أَن يظنّ فِي الصَّالِحين الفاضلين خلاف الْقُرْآن وحاشا لَهما من ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ كتاب الْإِيمَان والوعيد وتوابعه بِحَمْد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لَا إِلَه إِلَّا الله عدَّة للقائه الْكَلَام فِي الْإِمَامَة والمفاضلة بِي الصَّحَابَة قَالَ الْفَقِيه الإِمَام الأوحد أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ اتّفق جَمِيع أهل السّنة وَجَمِيع المرجئة وَجَمِيع الشِّيعَة وَجَمِيع الْخَوَارِج على وجوب الْإِمَامَة وَأَن الْأمة وَاجِب عَلَيْهَا الانقياد لإِمَام عَادل يُقيم فيهم أَحْكَام الله ويسوسهم بِأَحْكَام الشَّرِيعَة الَّتِي أَتَى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا النجدات من الْخَوَارِج فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يلْزم النَّاس فرض الْإِمَامَة وَإِنَّمَا عَلَيْهِم أَن يشاطوا الْحق بَينهم وَهَذِه فرقة مَا نرى بَقِي مِنْهُم أحد وهم المنسوبون إِلَى نجدة بن عُمَيْر الْحَنَفِيّ الْقَائِم بِالْيَمَامَةِ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَول هَذِه الْفرْقَة سَاقِط يَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِ وإبطاله إِجْمَاع كل من ذكرنَا على بُطْلَانه وَالْقُرْآن وَالسّنة قد ورد بِإِيجَاب الإِمَام من ذَلِك قَول الله تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} مَعَ أَحَادِيث كَثِيرَة صِحَاح فِي طَاعَة الْأَئِمَّة وَإِيجَاب الْإِمَامَة وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَوَجَبَ الْيَقِين بِأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف النَّاس مَا لَيْسَ فِي بنيتهم واحتمالهم وَقد علمنَا بضرورة الْعقل وبديهته أَن قيام النَّاس بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من الْأَحْكَام عَلَيْهِم فِي الْأَمْوَال والجنايات والدماء وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَسَائِر الْأَحْكَام كلهَا وَمنع الظَّالِم وإنصاف الْمَظْلُوم وَأَخ الْقصاص على تبَاعد أقطارهم وشواغلهم وَاخْتِلَاف آرائهم وَامْتِنَاع من تحرى فِي كل ذَلِك مُمْتَنع غير مُمكن إِذْ قد يُرِيد وَاحِد أَو جمَاعَة أَن يحكم عَلَيْهِم إِنْسَان وَيُرِيد آخر أَو جمَاعَة أُخْرَى أَن لَا يحكم عَلَيْهِم إِمَّا لِأَنَّهَا ترى فِي اجتهادها خلاف مَا رأى هَؤُلَاءِ وَإِمَّا خلافًا مُجَردا عَلَيْهِم وَهَذَا الَّذِي لَا بُد مِنْهُ ضَرُورَة وَهَذَا مشَاهد فِي الْبِلَاد الَّتِي لَا رَئِيس لَهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَام هُنَاكَ حكم حق وَلَا حد حَتَّى قد ذهب الدّين فِي أَكْثَرهَا فَلَا تصح إِقَامَة الدّين إِلَّا بِالْإِسْنَادِ إِلَى وَاحِد أَو إِلَى أَكثر من وَاحِد فَإذْ لَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَإِن الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا بَينهمَا مَا ذكرنَا فَلَا يتم أَمر الْبَتَّةَ فَلم يبْق وَجه تتمّ بِهِ الْأُمُور إِلَّا لإسناد إِلَى وَاحِد فَاضل عَالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إِلَّا أَنه وَإِن كَانَ بِخِلَاف مَا ذكرنَا فالظلم والإهمال مَعَه أقل مِنْهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَفرض لَازم لكل النَّاس أَن يكفوا من الظُّلم مَا أمكنهم إِن قدرُوا على كف كُله لَزِمَهُم ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وَإِلَّا فَكف مَا قدرُوا على كَفه مِنْهُ وَلَو قَضِيَّة وَاحِدَة لَا يجوز غير ذَلِك ثمَّ اتّفق من ذكرنَا مِمَّن يرى فرض الْإِمَامَة على أَنه لَا يجوز كَون إمامين فِي وَقت وَاحِد فِي الْعَالم وَلَا يجوز إِلَّا إِمَام وَاحِد إِلَّا مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَبا الصَّباح السَّمرقَنْدِي وأصحابهما فَإِنَّهُم أَجَازُوا كَون إمامين فِي وَقت وَأكْثر فِي وَقت وَاحِد وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقول الْأَنْصَار وَمن قَالَ مِنْهُم يَوْم السَّقِيفَة للمهاجرين منا أَمِير ومنكم أَمِير وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَمْر عَليّ وَالْحسن مَعَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم مَا ذكرنَا لم يكن صَوَابا بل كَانَ خطأ إِذْ اداهم إِلَيْهَا الِاجْتِهَاد وَخَالفهُم فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَلَا بُد إِذْ اخْتلف القائلان على قَوْلَيْنِ متنافين من أَن يكون أَحدهمَا حَقًا وَالْآخر خطأ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى مَا افْترض الله عز وَجل الرَّد إِلَيْهِ عِنْد التَّنَازُع إِذْ يَقُول الله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ إِذا بُويِعَ لإمامين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} فَحرم الله عز وَجل التَّفَرُّق والتنازع وَإِذا كَانَ إمامان فقد حصل التَّفَرُّق الْمحرم فَوجدَ التَّنَازُع وَوَقعت الْمعْصِيَة لله تَعَالَى وَقُلْنَا مَا لَا يحل لنا وَأما من طَرِيق النّظر والمصلحة فَلَو جَازَ أَن يكون فِي الْعَالم إمامان لجَاز أَن يكون فِيهِ ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَأكْثر فَإِن منع من ذَلِك مَانع كَانَ متحكماً بِلَا برهَان ومدعياً بِلَا دَلِيل وَهَذَا الْبَاطِل الَّذِي لَا يعجز عَنهُ أحد وَإِن جَازَ ذَلِك زَاد الْأَمر حَتَّى يكون فِي الْعَالم إِمَام أَو فِي كل مَدِينَة إِمَام أَو فِي كل قَرْيَة إِمَام أَو يكون كل أحد وَخَلِيفَة فِي منزله وَهَذَا هُوَ الْفساد الْمَحْض وهلاك الدّين وَالدُّنْيَا فصح أَن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم وهلة وخطار رجعُوا عَنهُ إِلَى الْحق وعصمهم الله تَعَالَى من التَّمَادِي عَلَيْهِ وَأما أَمر عَليّ وَالْحسن وَمُعَاوِيَة فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من أمة يَقْتُلهَا أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَكَانَ قَاتل تِلْكَ الطَّائِفَة عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فَهُوَ صَاحب الْحق بِلَا شكّ وَكَذَلِكَ أنذر عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق وَكَانَ عَليّ السَّابِق إِلَى الْإِمَامَة فصح بعد أَن صَاحبهَا وَأَن من نازعه فِيهَا فمخطئ فمعاوية رَحمَه الله مُخطئ مأجور مرّة لِأَنَّهُ مُجْتَهد وَلَا حجَّة فِي خطأ الْمُخطئ فَبَطل قَول هَذِه الطَّائِفَة وَأَيْضًا فَإِن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم منا أَمِير ومنكم أَمِير يخرج على أَنهم إِنَّمَا أَرَادوا أَن يَلِي وَال مِنْهُم فَإِذا مَاتَ ولي من الْمُهَاجِرين آخر وَهَكَذَا أبدالا على أَن يكون إمامان فِي وَقت وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر من كَلَامهم وَأما عَليّ ومعوية رَضِي الله عَنْهُمَا فَمَا سلم قطّ أَحدهمَا للْآخر بل كل وَاحِد مِنْهُمَا يزْعم أَنه المحق وَكَذَلِكَ كَانَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 أسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فَإِذا هَذَا كَذَلِك فقد صَحَّ الْإِجْمَاع على بطلَان قَول ابْن كرام وَأبي الصَّباح وَبَطل أَن يكون لَهُم تعلق فِي شَيْء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِوُجُوب الْإِمَامَة على قُرَيْش فَذهب أهل السّنة وَجَمِيع أهل الشِّيعَة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَجُمْهُور المرجئة إِلَى أَن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا فِي قُرَيْش خَاصَّة من كَانَ من ولد فهر بن مَالك وَأَنَّهَا لَا تجوز فِيمَن كَانَ أَبوهُ من غير بني فهر بن مَالك وَإِن كَانَت أمه من قُرَيْش وَلَا فِي حَلِيف وَلَا فِي مولى وهبت الْخَوَارِج كلهَا وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة إِلَى أَنَّهَا جَائِزَة فِي كل من قَامَ بِالْكتاب وَالسّنة قرشياً كَانَ أَو عَرَبيا أَو ابْن عبد وَقَالَ ضرار بن عَمْرو الْغَطَفَانِي إِذا اجْتمع حبشِي وقرشي كِلَاهُمَا قَائِم بِالْكتاب وَالسّنة قَالُوا وَجب أَن يقدم الحبشي لِأَنَّهُ أسهل لِخَلْعِهِ إِذا حاد عَن الطَّرِيقَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وبوجوب الْإِمَامَة فِي ولد فهر ابْن مَالك خَاصَّة نقُول بِنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْأَئِمَّة من قُرَيْش وعَلى أَن الْإِمَامَة فِي قُرَيْش وَهَذِه رِوَايَة جَاءَت مَجِيء التَّوَاتُر وَرَوَاهَا أنس بن مَالك وَعبد الله ابْن عمر بن الْخطاب ومعوية وَرُوِيَ جَابر بن عبد الله وَجَابِر بن سَمُرَة وَعبادَة بن الصَّامِت مَعْنَاهَا وَمِمَّا يدل على صِحَة ذَلِك إذعان الْأَنْصَار رَضِي الله عنم يَوْم السَّقِيفَة وهم أهل الدَّار والمنعة وَالْعدَد والسابقة فِي الْإِسْلَام رَضِي الله عَنْهُم وَمن الْمحَال أَن يتْركُوا اجتهادهم لاجتهاد غَيرهم لَوْلَا قيام الْحجَّة عَلَيْهِم بِنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْحق لغَيرهم فِي ذَلِك فَإِن قَالَ قَائِل أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَئِمَّة من قُرَيْش يدْخل فِي لَك الحليف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مولي الْقَوْم مِنْهُم وَمن أنفسهم وَابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْإِجْمَاع قد تَيَقّن وَصَحَّ على أَن حكم الحليف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت كَحكم من لَيْسَ لَهُ حَلِيف وَلَا مولى وَلَا ابْن أُخْت فَمن أجَاز الْإِمَامَة فِي غير هَؤُلَاءِ جوزها فِي هَؤُلَاءِ وَمن منعهَا من غير قُرَيْش منعهَا من الحيف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت فَإِذا صَحَّ الْبُرْهَان بِأَن لَا يكون إِلَّا فِي قُرَيْش لَا فِيمَن لَيْسَ قرشياً صَحَّ بِالْإِجْمَاع أَن حَلِيف قُرَيْش مَوْلَاهُم وَابْن أختهم كَحكم من لَيْسَ قرشياً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ قوم أَن اسْم الْإِمَامَة قد يَقع على الْفَقِيه الْعَالم وعَلى مُتَوَلِّي الصَّلَاة بِأَهْل مَسْجِد مَا قُلْنَا نعم لَا يَقع على هَؤُلَاءِ إِلَّا بِالْإِضَافَة لَا بِالْإِطْلَاقِ فَيُقَال فلَان إِمَام فِي الدّين وَإِمَام بني فلَان فَلَا يُطلق لأَحَدهم اسْم الْإِمَامَة بِلَا خلاف من أحد من الْأمة إِلَّا على الْمُتَوَلِي لأمور أهل الْإِسْلَام فَإِن قَالَ قَائِل بِأَن اسْم الْإِمَارَة وَاقع بِلَا خلاف على من ولي جِهَة من جِهَات الْمُسلمين وَقد سمي بالأمارة كل من ولاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِهَة من الْجِهَات أَو سَرِيَّة أَو جَيْشًا وولاه مُؤمنُونَ فَمَا الْمَانِع من أَن يُوقع على كل وَاحِد اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْكَذِب محرم بِلَا خلاف وكل مَا ذكرنَا قَائِما فَهُوَ أَمِير لبَعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الْمُؤمنِينَ لَا لكلهم فَلَو سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ لَكَانَ مسميه بذلك كَاذِبًا لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي عُمُوم جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ أَمِير بعض الْمُؤمنِينَ فصح أَنه لَيْسَ بحوز الْبَتَّةَ أَن يُوقع اسْم الْإِمَامَة مُطلقًا وَلَا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا على الْقرشِي الْمُتَوَلِي لجَمِيع أُمُور الْمُؤمنِينَ كلهم أَو الْوَاجِب لَهُ ذَلِك وَإِن عَصَاهُ كثير من الْمُؤمنِينَ وَخَرجُوا عَن الْوَاجِب عَلَيْهِم من طَاعَته والمفترض عَلَيْهِم من بيعَته فَكَانُوا بذلك فِئَة باغية حَلَالا قِتَالهمْ وحربهم وَكَذَلِكَ اسْم الْخلَافَة بِإِطْلَاق لَا يجوز أَيْضا إِلَّا لمن هَذِه صفته وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا فِي صلبة قُرَيْش فَقَالَت طَائِفَة هِيَ جَائِزَة فِي جَمِيع ولد فهر بن مَالك فَقَط وَهَذَا قَول أهل السّنة وَجُمْهُور المرجئة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي ولد الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهُوَ قَول الرلوندية وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي ولد عَليّ ابْن أبي طَالب ثمَّ قصروها على عبد الله بن مُعَاوِيَة بن جَعْفَر بن أبي طَالب وبلغنا عَن بعض بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب أَنه كَانَ يَقُول لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي بني عبد الْمطلب خَاصَّة ويراها فِي جَمِيع ولد عبد الْمطلب وهم أَبُو طَالب وَأَبُو لَهب والْحَارث وَالْعَبَّاس وبلغنا عَن رجل كَانَ بالأردن يَقُول لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي بني أُميَّة بن عبد شمس وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِك تأليف مَجْمُوع وروبنا كتابا مؤلفا الرجل من ولد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يحْتَج فِيهِ بِأَن الْخلَافَة لَا تجوز إِلَّا لولد أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما هَذِه الْفرق الأرع فَمَا وجدنَا لَهُم شُبْهَة يسْتَحق أَن يشْتَغل بهَا إِلَّا دعاوي كَاذِبَة لَا وَجه لَهَا وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَ الَّذين يرَوْنَ الْأَمر لولد الْعَبَّاس أَو لولد عَليّ فَقَط لِكَثْرَة عَددهمْ قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج من ذهب إِلَى أَن الْخلَافَة لَا تجوز إِلَّا فِي ولد الْعَبَّاس فَقَط على أَن الْخُلَفَاء من وَلَده وكل من لَهُ حَظّ من علم من غير الْخُلَفَاء مِنْهُم لَا يرضون بِهَذَا وَلَا يَقُولُونَ بِهِ لَكِن تِلْكَ الطَّائِفَة قَالَت كَانَ الْعَبَّاس عصب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووارثه فَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فقد ورث مَكَانَهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن مِيرَاث الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَو وَجب لَهُ لَكَانَ ذَلِك فِي المَال خَاصَّة وَأما الْمرتبَة فَمَا جَاءَ قطّ فِي الديانَات أَنَّهَا تورث فَبَطل هَذَا التمويه جملَة وَللَّه الْحَمد وَلَو جَازَ أَن تورث الْمَرَاتِب لَكَانَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَانا مَا إِذا مَاتَ وَجب أَن يَرث تِلْكَ الْولَايَة عاصبه ووارثه وَهَذَا مَالا يَقُولُونَهُ فَكيف وَقد صَحَّ بِإِجْمَاع جَمِيع أهل الْقبْلَة حاشا الروافض أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 حاكياً عَن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة فِيهِ لِأَن الروَاة حَملَة الْأَخْبَار وَجَمِيع التواريخ الْقَدِيمَة كلهَا وكواف بني إِسْرَائِيل ينقلون بِلَا خلاف نقلا يُوجب الْعلم أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ بنُون غير سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فصح أَنه ورث النُّبُوَّة وبرهان ذَلِك أَنهم كلهم مجمعون على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ولي مَكَان أَبِيه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا اثْنَتَيْ عشرَة سنة ولداود أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ابْنا كبارًا وصغاراً وَهَكَذَا القَوْل فِي مِيرَاث يحي بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام وبرهان ذَلِك من نَص الْآيَة نَفسهَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب وهم مئوا أُلُوف يَرث عَنهُ النُّبُوَّة فَقَط وَأَيْضًا فَمن الْمحَال أَن يرغب زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فِي ولد يحجب عصبته عَم مِيرَاث فَإِنَّمَا يرغب فِي هَذِه الخطة ذُو الْحِرْص على الدُّنْيَا وحطامها وَقد نزه الله عز وَجل مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام الَّتِي كَانَت فِي كفَالَته من المعجزات قَالَ تَعَالَى {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} إِلَى قَوْله {إِنَّك سميع الدُّعَاء} وعَلى هَذَا الْمَعْنى دَعَا فَقَالَ {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا} وَأما من اغْترَّ بقوله تَعَالَى حاكياً عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي} قيل لَهُ بطلَان هَذَا الظَّن أَن الله تَعَالَى لم يُعْطه ولدا يكون لَهُ عقب فيتصل الْمِيرَاث لَهُم بل أعطَاهُ ولدا حصورا لَا يقرب النِّسَاء قَالَ تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} فصح ضَرُورَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا طلب ولدا نَبيا لَا ولد يَرث المَال وَأَيْضًا فَلم يكن الْعَبَّاس محيطاً بميراث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ يكون لَهُ ثَلَاثَة أثمانه فَقَط وَأما مِيرَاث المكانة فقد كَانَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حَيا قَائِما إِذْ مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا ادعِي الْعَبَّاس لنَفسِهِ فَقَط فِي ذَلِك حَقًا لَا حِينَئِذٍ وَلَا بعد ذَلِك وَجَاءَت الشورى فَمَا ذكر فِيهَا وَلَا أنكر هُوَ وَلَا غَيره ترك ذكره فِيهَا فصح أَنه رأى مُحدث فَاسد لَا وَجه لَهُ للاشتغال بِهِ وَالْخُلَفَاء من وَلَده والأفاضل مِنْهُم من غير الْخُلَفَاء لَا يرَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ بِهَذِهِ الدعْوَة ترفعاً عَن سُقُوطهَا ووهيها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة لَا تكون إِلَّا فِي ولد عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُم انقسموا قسمَيْنِ فطائفة قَالَت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على عَليّ بن أبي طَالب أَنه الْخَلِيفَة وَأَن الصَّحَابَة بعده عَلَيْهِ السَّلَام اتَّفقُوا على ظلمه وعَلى كتمان نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَؤُلَاء الْمُسلمُونَ الروافض وَطَائِفَة قَالَت لم ينص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَليّ لكنه كَانَ أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحقهم بِالْأَمر وَهَؤُلَاء هم الزيدية نسبوا إِلَى زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ اخْتلف الزيدية فرقا فَقَالَت طَائِفَة إِن الصَّحَابَة ظلموه وَكَفرُوا من خَالفه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 من الصَّحَابَة وهم الجارودية وَقَالَت أُخْرَى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يظلموه لكنه طربت نَفسه بِتَسْلِيم حَقه إِلَى أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَنه إِمَامًا وَهدى ووقف بَعضهم فِي عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وتولاه بَعضهم وَذكر طَائِفَة أَن هَذَا مَذْهَب الْفَقِيه الْحسن بن صَالح بن حَيّ الْهَمدَانِي (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ وَقد رَأَيْت الهشام ابْن الحكم الرافضي الْكُوفِي فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالميزان وَقد ذكر الْحسن ابْن حَيّ وَأَن مذْهبه كَانَ أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع ولد فهر ابْن مَالك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا الَّذِي لَا يَلِيق بالْحسنِ بن حَيّ غَيره فَإِنَّهُ كَانَ أحد أَئِمَّة الدّين وَهِشَام ابْن الحكم أعلم بِهِ مِمَّن نسب إِلَيْهِ غير ذَلِك لِأَن هشاماً كَانَ جَاره بِالْكُوفَةِ وَأعرف النَّاس بِهِ وأدركه وَشَاهده وَالْحسن بن حَيّ رَحمَه الله يحْتَج بِمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم وبابن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذَا مَشْهُور عَنهُ فِي كتبه ورواياته من رُوِيَ عَنهُ وَجَمِيع الزيدية لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع ولد عَليّ بن أبي طَالب من خرج مِنْهُم يَدْعُو إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَجب سل السَّيْف مَعَه وَقَالَت الروافض الْإِمَامَة فِي عَليّ وَحده بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ثمَّ فِي الْحسن ثمَّ فِي الْحُسَيْن وَادعوا نصا آخر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِمَا بعد أَبِيهِمَا ثمَّ عَليّ ابْن الْحُسَيْن لقَوْل الله عز وَجل {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} قَالُوا فولد الْحُسَيْن أَحَق من أَخِيه ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن ثمَّ جَعْفَر بن عَليّ ابْن الْحُسَيْن وَهَذَا مَذْهَب جَمِيع متكلميهم كهشام بن الحكم وَهِشَام الجواليقي وَدَاوُد الْحوَاري وَدَاوُد الرقي وَعلي بن مَنْصُور وَعلي بن هَيْثَم وَأبي عَليّ السكاك تلميذ هِشَام بن الحكم وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن النُّعْمَان شَيْطَان الطاق وَأبي ملك الْحَضْرَمِيّ وَغَيرهم ثمَّ افْتَرَقت الرافضة بعد موت هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وَمَوْت جَعْفَر بن مُحَمَّد فَقَالَت طَائِفَة بإمامة بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَقَالَت طَائِفَة ابْنه مُحَمَّد بن جَعْفَر وهم قَلِيل وَقَالَت طَائِفَة جَعْفَر حَيّ لم يمت وَقَالَ جُمْهُور الرافضة بإمامة ابْنه مُوسَى بن جَعْفَر ثمَّ عَليّ ابْن مُوسَى ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى ثمَّ عَليّ بن مُحَمَّد بن مُوسَى ثمَّ الْحسن بن عَليّ ثمَّ مَاتَ الْحسن غير معقب فافترقوا فرقا وَثَبت جمهورهم على أَنه ولد لِلْحسنِ بن عَليّ ولد فأخفاه وَقيل بل ولد لَهُ بعد مَوته من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا صقيل وَهُوَ الْأَشْهر وَقَالَ بَعضهم بل من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا نرجس وَقَالَ بَعضهم من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا سوسن وَالْأَظْهَر أَن اسْمهَا صقيل هَذِه ادَّعَت الْحمل بعد الْحسن بن عَليّ سَيِّدهَا فَوقف مِيرَاثه لذَلِك سبع سِنِين ونازعهل فِي لَك أَخُوهُ جَعْفَر ابْن عَليّ وتعصب لَهَا جمَاعَة من أَرْبَاب الدولة وتعصب لجَعْفَر آخَرُونَ ثمَّ انفش ذَلِك الْحمل وَبَطل أَخذ الْمِيرَاث جَعْفَر أَخُوهُ وَكَانَ موت الْحسن هَذَا سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وزادت فتْنَة الروافض بصقيل هَذِه ودعواها إِلَى أَن حَبسهَا المعتضد بعد نَيف وَعشْرين سنة من موت سَيِّدهَا وَقد عير بهَا أَنَّهَا فِي منزل الْحسن بن جَعْفَر النوبختي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 الْكَاتِب فَوجدت فِيهِ وحملت إِلَى قصر المعتضد فَبَقيت هُنَالك إِلَى أَن مَاتَت فِي الْقصر فِي أَيَّام المقتدر فهم إِلَى الْيَوْم ينتظرون ضَالَّة من مائَة عَام وَثَمَانِينَ عَاما وَكَانَت طَائِفَة قديمَة قد بادت كَانَ رئيسهم الْمُخْتَار بن عبيد وكيسان أَبَا عمْرَة وَغَيرهمَا يذهبون إِلَى أَن الإِمَام بعد الْحُسَيْن مُحَمَّد أَخُوهُ الْمَعْرُوف بِابْن الحنيفة وَمن هَذِه الطَّائِفَة كَانَ السَّيِّد الْحِمْيَرِي وَكثير عزة الشَّاعِر أَن وَكَانُوا يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا بن الْحَنَفِيَّة حَيّ بجبل رضوي وَلَهُم من التَّخْلِيط مَا تضيق عَنهُ الصُّحُف (وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد) وعمدة هَذِه الطوائف كلهَا فِي الِاحْتِجَاج أَحَادِيث مَوْضُوعَة مكذوبة لَا يعجز عَن توليد مثلهَا من لَا دين لَهُ وَلَا حَيَاء (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا معنى لاحتجاجنا عَلَيْهِم برواياتنا فهم لَا يصدقونا وَلَا معنى لاحتجاجهم علينا بروياتهم فَنحْن لَا نصدقها وَإِنَّمَا يجب أَن يحْتَج الْخُصُوم بَعضهم على بعض بِمَا يصدقهُ الَّذِي تُقَام عَلَيْهِ الْحجَّة بِهِ سَوَاء صدقه المحتج أَو لم يصدقهُ لِأَن من صدق بِشَيْء ملزمه القَوْل بِهِ أَو بِمَا يُوجِبهُ الْعلم الضَّرُورِيّ فَيصير الْخصم يَوْمئِذٍ مكابراً مُنْقَطِعًا أَن ثَبت على مَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن بعض مَا يشغبون بِهِ أَحَادِيث صِحَاح نوافقهم على صِحَّتهَا مِنْهَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا يُوجب لَهُ فضلا على من سواهُ وَلَا اسْتِحْقَاق الْإِمَامَة بعده عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن هَارُون لم يل أَمر نَبِي إِسْرَائِيل بعد مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَإِنَّمَا ولي الْأَمر بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُوشَع بن نون فَتى مُوسَى وَصَاحبه الي سَافر مَعَه فِي طلب الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام كَمَا ولي الْأَمر بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاحبه فِي الْغَار الَّذِي سَافر مَعَه إِلَى الْمَدِينَة وَإِذا لم يكن عَليّ نَبيا كَمَا كَانَ هَارُون نَبيا نَبيا وَلَا كَانَ هَارُون خَليفَة بعد موت مُوسَى على بني إِسْرَائِيل فقد صَحَّ أَن كَونه رَضِي الله عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَرَابَة فَقَط وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل إِذا اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة فِي غَزْوَة تَبُوك فَقَالَ المُنَافِقُونَ استقله فخلفه فلحق عَليّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشكى ذَلِك إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى يُرِيد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة مُخْتَارًا استخلافه كَمَا اسْتخْلف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا مُخْتَار الإستخلافة ثمَّ قد اسْتخْلف عَلَيْهِ السَّلَام قبل تَبُوك وَبعد تَبُوك على الْمَدِينَة فِي أَسْفَاره رجَالًا سوى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فصح أَن هَذَا الِاسْتِخْلَاف لَا يُوجب لعَلي فضلا على غَيره وَلَا ولَايَة الْأَمر بعده كَمَا لم يُوجب ذَلِك لغيره من المستخلفين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وعمدة مَا احتجت بِهِ الإمامية أَن قَالُوا لَا بُد من ان يكون إِمَام مَعْصُوم عِنْده جَمِيع علم الشَّرِيعَة ترجع النَّاس إِلَيْهِ فِي أَحْكَام الدّين ليكونوا مِمَّا تعبدوا بِهِ على يَقِين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا لَا شكّ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْرُوف ببراهينه الْوَاضِحَة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْنَا تبيان دينه الَّذِي ألزمنا إِيَّاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ كَلَامه وعهوده وَمَا بلغ من كَلَام الله تَعَالَى حجَّة نَافِذَة معصومة من كل آفَة أَتَى بِحَضْرَتِهِ وَإِلَى من كَانَ فِي حَيَاته غَائِبا عَن حَضرته وَإِلَى كل من يَأْتِي بعد مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من جن وإنس قَالَ عز وَجل {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا اتِّبَاع أحد دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى فرض الْإِمَامَة لتنفيذ الإِمَام عهود الله تَعَالَى الْوَارِدَة إِلَيْنَا على من عِنْده فَقَط لَا لِأَن يَأْتِي النَّاس مَا لَا يشاؤنه فِي مَعْرفَته من الدّين الَّذِي أَتَاهُم بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ إِذْ دعِي إِلَى التحاكم إِلَى الْقُرْآن أجَاب وَأخْبر أَن التحاكم إِلَى الْقُرْآن حق فَإِن كَانَ عَليّ صَوَاب فِي لَك فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن كَانَ أجَاب وَأخْبر أَن التحاكم إِلَى الْقُرْآن فَإِن كَانَ عَليّ أصَاب فِي ذَلِك فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن كَانَ أجَاب إِلَى الْبَاطِل فَهَذِهِ غير صفته رَضِي الله عَنهُ وَلَو كَانَ التحاكم إِلَى الْقُرْآن لَا يجوز بِحَضْرَة الإِمَام لقَالَ عَليّ حِينَئِذٍ كَيفَ تطلبون تحكيم الْقُرْآن وَأَنا الإِمَام الْمبلغ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قَالُوا إِذْ مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا بُد من إِمَام يبلغ الدّين قُلْنَا هَذَا بَاطِل وَدَعوى بِلَا برهَان وَقَول لَا دَلِيل على صِحَّته وَإِنَّمَا الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ أهل الأَرْض من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببيانه وتبليغه فَقَط سَوَاء فِي ذَلِك من كَانَ بِحَضْرَتِهِ وَمن غَابَ عَنهُ وَمن جَاءَ بعده إِذْ لَيْسَ فِي شخصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم يتَكَلَّم بَيَان عَن شَيْء من الدّين فَالْمُرَاد مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام بَاقٍ أبدا مبلغ إِلَى كل من فِي الأَرْض وَأَيْضًا فلوا كَانَ مَا قَالَ أَمن الْحَاجة إِلَى إِمَام مَوْجُودا بدا لَا ننقض ذَلِك عَلَيْهِم بِمن كَانَ غَائِبا عَن حَضْرَة الإِمَام فِي أقطار الأَرْض إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يُشَاهد الإِمَام جَمِيع أهل الأَرْض الَّذين فِي الْمشرق وَالْمغْرب من فَقير وَضَعِيف وَامْرَأَة ومرسض ومشغول بمعاشه الَّذِي يضيع إِن أغفله فَلَا بُد من التَّبْلِيغ عَن الإِمَام فالتبيلغ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى بالاتباع من التَّبْلِيغ عَمَّن هُوَ دونه وَهَذَا مَا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا سِيمَا وَجَمِيع أئمتهم الَّذين يدعونَ بعد عَليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم مَا أمروا قطّ فِي غير منَازِل سكناهم وَمَا حكمُوا على قَرْيَة فَمَا فَوْقهَا بِحكم فَمَا الْحَاجة إِلَيْهِم لَا سِيمَا مذ مائَة عَام وَثَمَانِينَ عَاما فَإِنَّهُم يدعونَ إِمَامًا ضَالًّا لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان وَدَعوى كَاذِبَة لم يعجز عَن مثلهَا أحد وَأَيْضًا فَإِن الإِمَام الْمَعْصُوم لَا يعرف أَنه مَعْصُوم إِلَّا بمعجزة ظَاهِرَة عَلَيْهِ أَو بِنَصّ تنقله الْعلمَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل إِمَام بِعَيْنِه واسْمه وَنسبه وَإِلَّا فَهِيَ دَعْوَى لَا يعجز عَن مثلهَا أحد لنَفسِهِ أَو لمن شَاءَ وَلَقَد يلْزم كل ذِي عقل سليم أَن يرغب بِنَفسِهِ عَن اعْتِقَاد هَذَا الْجَهْل الغث الْبَارِد السخيف الَّذِي ترْتَفع عقول الصّبيان عَنهُ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وبرهان آخر ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن رَسُول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ وَجُمْهُور الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حاشا من كَانَ مِنْهُم فِي النواحي يعلم النَّاس الدّين فَمَا مِنْهُم أحد أَشَارَ إِلَى عَليّ بِكَلِمَة يذكر فِيهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص عَلَيْهِ وَلَا ادّعى ذَلِك عَليّ قطّ لَا فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَلَا إدعاء لَهُ أحد فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَلَا ادَّعَاهُ لَهُ أحد فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يُمكن الْبَتَّةَ وَلَا يجوز اتِّفَاق أَكثر من عشْرين ألف إِنْسَان متْنا بِذِي الهمم والنيات والأنساب أَكْثَرهم موتور فِي صَاحبه فِي الدِّمَاء من الْجَاهِلِيَّة على طي على عهد عاهده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم وَمَا وجدنَا قطّ رِوَايَة عَن أحد بِهَذَا النَّص الْمُدعى إِلَّا رِوَايَة وَاحِدَة واهية عَن مجهولين إِلَى مَجْهُول يكنى بالحمراء لَا يعرف من هُوَ فِي الْخلق وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ تَأَخّر عَن الْبيعَة سِتَّة أشهر فَمَا أكرهه أَبُو بكر على الْبيعَة حَتَّى بَايع طَائِعا مراجعاً غير مكره فَكيف حل لعي رَضِي الله عَنهُ عِنْد هَؤُلَاءِ النوكي أَن يُبَايع طَائِعا رجلا إِمَّا كَافِرًا وَإِمَّا فَاسِقًا جاحداً لنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويعينه على أمره ويجالسه فِي مجالسه ويواليه إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ يُبَايع بعده عمر بن الْخطاب مبادراً غير متاردد سَاعَة فَمَا فَوْقهَا غير مركه بل طَائِعا وَصَحبه وأعانه على أمره وانكحه من ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ قبل ادخاله فِي الشورى أحد سِتَّة رجال فَكيف حل لعَلي عِنْد هَؤُلَاءِ الْجُهَّال أَن يُشَارك بِنَفسِهِ فِي شُورَى ضَالَّة وَكفر ويغر الْأمة هَذَا الْغرُور وَهَذَا الْأَمر أدّى أَبَا كَامِل إِلَى تَكْفِير عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ فِي زَعمه أعَان الْكفَّار على كفرهم وأيدهم على كتمان الدّيانَة وعَلى مَا لَا يتم الدّين إِلَّا بِهِ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا يجوز أَن يظنّ بعلي رَضِي الله عَنهُ انه أمسك عَن ذكر النَّص عَلَيْهِ خوف الْمَوْت وَهُوَ الْأسد شجاعة قد عرض نَفسه للْمَوْت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّات ثمَّ يَوْم الْجمل وصفين فَمَا الَّذِي جبنه بَين هَاتين الْحَالَتَيْنِ وَمَا الَّذِي ألف بَين بصائر النَّاس على كتمان حق عَليّ وَمنعه مَا هُوَ أَحَق بِهِ مذ مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ثمَّ مَا الَّذِي جلى بصائرهم فِي عونه إِذْ دَعَا إِلَى نَفسه فَقَامَتْ مَعَه طوائف من الْمُسلمين عَظِيمَة وبذلوا دِمَاءَهُمْ دونه ورأوه حِينَئِذٍ صَاحب الْأَمر وَالْأولَى بِالْحَقِّ مِمَّن نازعه فَمَا الَّذِي مَنعه ومنعهم من الْكَلَام وَإِظْهَار النَّص الَّذِي يَدعِيهِ الكذابون إِذْ مَاتَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَبَقِي النَّاس بِلَا رَأس ثَلَاثَة أَيَّام أَو يَوْم السَّقِيفَة وأظرف من هَذَا بَقَاؤُهُ ممسكاً عَن بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ سِتَّة أشهر فَمَا سَأَلَهَا وَلَا أجبر عَلَيْهَا وَلَا كلفها وَهُوَ يتَصَرَّف بَينهم فِي أُمُوره فلولا أَنه رأى أَحَق فِيهَا واستدرك أمره فَبَايع طَالبا حفظه نَفسه فِي دينه رَاجعا إِلَى الْحق لما بَايع فَإِن قَالَت الروافض أَنه بعد سِتَّة أشهر رأى الرُّجُوع إِلَى الْبَاطِل فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل حَقًا لَا مَا فعل عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ ولى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَمَا غير حكما من أَحْكَام أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَلَا أبطل عهدا من عهودهم وَلَو كَانَ ذَلِك عِنْده بَاطِلا لما كَانَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 سَعَة من أَن يمْضِي الْبَاطِل وينفذه وَقد ارْتَفَعت التقية عَنهُ وَأَيْضًا فقد نَازع الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ ودعوا إِلَى بيعَة سعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُم ودعا الْمُهَاجِرُونَ إِلَى بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَن جَمِيعهم وَقعد عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي بَيته لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَه أحد غير الزبير بن الْعَوام ثمَّ استبان الْحق للزبير رَضِي الله عَنهُ فَبَايع سَرِيعا وَبَقِي عَليّ وَحده لَا يرقب عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع من لِقَاء النَّاس وَلَا يمْنَع من لِقَائِه فَلَا يَخْلُو رُجُوع الْأَنْصَار كلهم إِلَى بيعَة أبي بكر من أَن يكون عَن غَلَبَة أَو عَن ظُهُور حَقه إِلَيْهِم فَأوجب ذَلِك الانقياد لبيعته أَو فعلوا ذَلِك مطارفة لغير معنى وَلَا سَبِيل إِلَى قسم رَابِع بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن قَالُوا بَايعُوهُ بِغَلَبَة كذبُوا لِأَنَّهُ لم يكن هُنَالك قتال لَا تضارب وَلَا سباب وَلَا تهديد وَلَا وَقت طَوِيل يَنْفَسِخ للوعيد وَلَا سلَاح مَأْخُوذ ومحال أَن يتْرك أَزِيد من ألفي فَارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة وَاحِدَة قد ظهر من شجاعتهم مَا لَا مرمى وَرَاءه وَهُوَ أَنهم بقو ثَمَانِيَة أَعْوَام مُتَّصِلَة محاربين لجَمِيع الْعَرَب فِي أقطار بِلَادهمْ موطنين على الْمَوْت متعرضين مَعَ ذَلِك للحرب مَعَ قَيْصر وَالروم بمؤنة وَغَيرهَا ولكسرى وَالْفرس ببصرى من يخاطبهم يَدعُوهُ إِلَى اتِّبَاعه وَأَن يكون كَأحد من بَين يَدَيْهِ هَذِه صفة الْأَنْصَار الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا رقيع مجاهر بِالْكَذِبِ فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يرهبوا أَبَا بكر وَرجلَيْنِ أَتَيَا مَعَه فَقَط لَا يرجع إِلَى عشيرة كَثِيرَة وَلَا إِلَى موَالٍ وَلَا إِلَى عصبَة وَلَا مَال فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْدهم مُبْطل وَبَايَعُوهُ بِلَا تردد وَلَا تَطْوِيل وَكَذَلِكَ يبطل أَن يرجِعوا عَن قَوْلهم وَمَا كَانُوا قد رَأَوْهُ من أَن الْحق حَقهم وَعَن بيعَة ابْن عمهم مطارفة بِلَا خوف وَلَا ظُهُور الْحق إِلَيْهِم فَمن الْمحَال اتِّفَاق أهواء هَذَا الْعدَد الْعَظِيم على مَا يعْرفُونَ أَنه بَاطِل دون خوف يضطرهم إِلَى ذَلِك وَدون طمع يتعجلونه من مَال أَو جاه بل فِيمَا فِيهِ ترك الْعِزّ وَالدُّنْيَا والرياسة وَتَسْلِيم كل ذَلِك إِلَى رجل لَا عشيرة لَهُ وَلَا مَنْعَة وَلَا حَاجِب وَلَا حرس على بَابه وَلَا قصر مُمْتَنع فِيهِ وَلَا موَالِي وَلَا مَال فَأَيْنَ كَانَ عَليّ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي الشجَاعَة وَمَعَهُ جمَاعَة من بني هَاشم وَبني الْمطلب من قتل هَذَا الشَّيْخ الَّذِي لَا دَافع دونه لَو كَانَ عِنْده ظَالِما وَعَن مَنعه وزجره بل قد علم وَالله عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ على الْحق وَإِن من خَالفه على الْبَاطِل فَإذْ عَن للحق بعد أَن عرضت لَهُ فِيهِ كبوة كَذَلِك الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم وَإِذ قد بَطل كل هَذَا فَلم يبْق إِلَّا أَن عليا وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم إِنَّمَا رجعُوا إِلَى بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم لبرهان حق صَحَّ عِنْدهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا لاجتهاد كاجتهادهم وَلَا لظن كظنونهم فَإذْ قد بَطل أَن يكون الْأَمر فِي الْأَنْصَار وزالت الرياسة عَنْهُم فَمَا الَّذِي حملهمْ كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم على أَن يتفقوا على جحد نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أماة عَليّ وَمن الْمحَال أَن تتفق آرائهم كلهم على مَعُونَة من ظلمهم وغصبهم حَقهم إِلَّا أَن تَدعِي الروافض أَنهم كلهم اتّفق لَهُم نيسان فَهَذِهِ أعجوبة من الْمحَال غير مُمكنَة ثمَّ لَو أمكنت لجَاز لكل أحد أَن يَدعِي فِيمَا شَاءَ من الْمحَال إِنَّه قد كَانَ وَإِن النَّاس كفهم نسوه وَفِي هَذَا ابطال الْحَقَائِق كلهم وَأَيْضًا فَإِن كَانَ جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّفقُوا على جحد ذَلِك النَّص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فَمن أَيْن وَقع الروافض أمره وَمن بلغه إِلَيْهِم وكل هَذَا عَن هوس ومحال فَبَطل أَمر النَّص على عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ كَانَ قد قتل الْأَقَارِب بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتولد لَهُ بذلك حقد فِي قُلُوب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلذَلِك انحرفوا عَنهُ قيل لَهُ هَذَا تمويه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 ضَعِيف كَاذِب لِأَنَّهُ إِن سَاغَ لكم ذَلِك فِي بني عبد شمس وَبني مَخْزُوم وَبني عبد الدَّار وَبني عَامر لِأَنَّهُ قتل من كل قَبيلَة من هَذِه الْقَبَائِل رجلا أَو رجَالًا فَقتل من بني عَامر بن لؤَي رجلا وَاحِدًا وَهُوَ عَمْرو بن ود وَقتل من بني مَخْزُوم وَبني عبد الدَّار رجَالًا وَقتل من بني عبد شمس الْوَلِيد بن عقبَة وَالْعَاص بن سهل بن الْعَاصِ بِلَا شكّ وشارك فِي قتل عتبَة بن ربيعَة وَقيل قتل عقبَة بن أبي معيط وَقيل قَتله غَيره وَهُوَ عَاصِم بن ثَابت الْأنْصَارِيّ وَلَا مزِيد فقد علم كل من لَهُ أقل من علم بالأخبار أَنه لم يكن لهَذِهِ الْقَبَائِل وَلَا لأحد مِنْهَا يَوْم السَّقِيفَة حل وَلَا عقد وَلَا رَأْي وَلَا أَمر اللَّهُمَّ إِلَّا أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة كَانَ ماثلا إِلَى عَليّ فِي ذَلِك الْوَقْت عصبية لِلْقَرَابَةِ لَا تديناً وَكَانَ ابْنه يزِيد وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ والْحَارث بن هِشَام ابْن الْمُغيرَة المَخْزُومِي مائلين إِلَى الْأَنْصَار تديناً وَالْأَنْصَار قتلوا أَبَا جهل بن هِشَام أَخَاهُ وَقد كَانَ مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة بن عتبَة بن ربيعَة شَدِيد الْميل إِلَى عَليّ حِين قصَّة عُثْمَان وَبعدهَا حَتَّى قبله مُعَاوِيَة على ذَلِك فعرفونا من قتل عَليّ من بني تيم بن مرّة أَو من عدي بن كَعْب حَتَّى يظنّ أهل القحة أَنَّهُمَا حقدا عَلَيْهِ ثمَّ أخبرونا من قتل من الْأَنْصَار أَو من جرح مِنْهُم أَو من أَذَى مِنْهُم ألم يَكُونُوا مَعَه فِي تِلْكَ الْمشَاهد كلهَا بَعضهم مُتَقَدم وَبَعْضهمْ مسَاوٍ لَهُ وَبَعْضهمْ مُتَأَخّر عَنهُ فَأَي حقد كَانَ لَهُ فِي قُلُوب الْأَنْصَار حَتَّى يتفقوا كلهم على جحد النَّص عَلَيْهِ وعَلى إبِْطَال حَقه وعَلى ترك كرّ اسْمه جملَة واينار سعد بن عبَادَة عَلَيْهِ ثمَّ على إِيثَار أبي بكر وَعمر عَلَيْهِ والمسارعة إِلَى بيعَته بالخلافة دونه وَهُوَ مَعَهم وَبَين أظهرهم يورنه غدواً وعشياً لَا يحول بَينهم وَبَينه أحد ثمَّ أخبرونا من قتل عَليّ من أقَارِب أَولا الْمُهَاجِرين من الْعَرَب من مُضر وَرَبِيعَة وَالْيَمِين وقضاعة حَتَّى يصفقوا (1) كلهم على كَرَاهِيَة وَلَا يته ويتفقوا كلهم على جحد النَّص عَلَيْهِ إِن هَذِه لعجائب لَا يُمكن اتِّفَاق مثلهَا فِي الْعَالم أصلا وَلَقَد كَانَ لطلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص من الْقَتْل فِي الْمُشْركين كَالَّذي كَانَ لعَلي فَمَا الَّذِي خصّه باعتقاد الأحقاد لَهُ دونهم لَو كَانَ للروافض حَيَاء أَو عقل وَلَقَد كَانَ لأبي بكر رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ فِي مضادة قُرَيْش فِي الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام مَا لم يكن لعَلي فَمَا مَنعهم ذَلِك من بيعَته وَهُوَ أَسْوَأ النَّاس أثرا عِنْد كفارهم وَلَقَد كَانَ لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي مغالبة كفار قُرَيْش وإعلانه الْإِسْلَام على زعمهم مَا لم يكن لعَلي رَضِي الله عَنهُ فليت شعري مَا الَّذِي أوجب أَن ينسى آثارها هَؤُلَاءِ كلهم ويعادوا عليا من بَينهم كلهم لَوْلَا قلَّة حَيَاء الروافض وَصِفَاته وجهودهم حَتَّى بلغ الْأَمر بهم إِلَى أَن عدوا على سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَأُسَامَة بن زيد مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَافِع بن خديج الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ وَزيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ وَأبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء وَجَمَاعَة غير هَؤُلَاءِ من الْمُهَاجِرين لم يبايعوا عليا إِذْ ولي الْخلَافَة ثمَّ بَايعُوا مُعَاوِيَة وَيزِيد ابْنه من أدْركهُ وَادعوا أَن تِلْكَ الأحقاد حملنهم على ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) حمق الرافضة وَشدَّة ظلمَة جهلهم وَقلة حياتهم هورهم فِي الدمار والبوار والعار وَالنَّار وَقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أَي حماسة وَأي كلمة حَسَنَة كَانَت بَين عَليّ وَبَين هَؤُلَاءِ أَو أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا كَانَ هَؤُلَاءِ وَمن جرى مجراهم لَا يرَوْنَ بيعَة فِي فرقة فَلَمَّا اتّفق الْمُسلمُونَ على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ كَائِنا من كَانَ دخلُوا فِي الْجَمَاعَة وَهَكَذَا فعل من أدْرك من هَؤُلَاءِ ابْن الزبير رَضِي الله عَنهُ ومروان فَإِنَّهُم قعدوا عَنْهُمَا فَلَمَّا انْفَرد عبد الْملك بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 مَرْوَان بَايعه من أدْركهُ مِنْهُم لأرضا عَنهُ وَلَا عَدَاوَة لإبن زبير وَلَا تَفْصِيلًا لعبد الْملك عَليّ ابْن الزبير لَكِن لما ذكرنَا وَهَكَذَا كَانَ أَمرهم فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة فلاحت لوكة هَؤُلَاءِ المجانين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا زيد بن حَارِثَة قتل يَوْم بدر حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان وَهَذَا الزبير الْعَوام قتل يَوْم بَدْرًا أَيْضا عُبَيْدَة بن سعيد بن الْعَاصِ وَهَذَا عمر بن الْخطاب قتل يَوْمئِذٍ الْعَاصِ بن هِشَام بن الْمُغيرَة فَهَلا عاداهم أهل هَؤُلَاءِ المقتولين وَمَا إِلَى خص عليا أَوْلِيَاء من قتل دون سَائِر من قُلْنَا لَوْلَا جُنُون الرافضة وَعدم الْحيَاء من وُجُوههم ثمَّ لَو كَانَ على مَا ذَكرُوهُ حَقًا فَمَا الَّذِي كَانَ دَعَا عمر إِلَى إِدْخَاله فِي الشورى مَعَ من أدخلهُ فِيهَا وَلَو أخرجه مِنْهَا كَمَا أخرج سعيد بن زيد أَو قصد إِلَى رجل غَيره فولاه مَا اعْترض عَلَيْهِ أحد فِي ذَلِك بِكَلِمَة فصح ضَرُورَة بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْقَوْم أنزلوه مَنْزِلَته غير عالين وَلَا مقصرين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَأَنَّهُمْ قدمُوا الأحق فَالْحق وَالْأَفْضَل فَالْأَفْضَل وساوه بنظرائه مِنْهُم ثمَّ أوضح برهَان وَأبين بَيَان فِي بطلَان أكاذيب الرافضة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ لما ادعِي إِلَى نَفسه بعد قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ سارعت طوائف الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار إِلَى بيعَته فَهَل كرّ أحد من النَّاس أَنْت أحدا مِنْهُم اعتذر إِلَيْهِ مِمَّا سلف من بيعتهم لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان أَو هَل تَابَ أحد مِنْهُم من جَحده للنَّص على إِمَامَته أَو قَالَ أحد مِنْهُم لقد ذكرت هَذَا النَّص الَّذِي كنت أنسيته فِي أَمر هَذَا الرجل أَن عقولاً خَفِي عَلَيْهَا هَذَا الظَّاهِر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أَن يهديها ثمَّ مَاتَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَترك الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة من الصَّحَابَة عَليّ أحدهم وَلم يكن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة سُلْطَان يخَاف وَلَا رَئِيس يتوقى وَلَا مَخَافَة من أحد وَلَا جند معد للتغلب أفترى لَو كَانَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ حق ظَاهر يخْتَص بِهِ وَمن نَص عَلَيْهِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من فضل بَائِن على من مَعَه ينْفَرد بِهِ عَنْهُم أما كَانَ الْوَاجِب على عَليّ أَن يَقُول أَيهَا النَّاس كم هَذَا الظُّلم لي وَكم هَذَا الكتمان بحقي وَكم هَذَا الْجحْد لنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكم هَذَا الْإِعْرَاض عَن فضلي الْبَائِن على هَؤُلَاءِ المقرونين بِي فَإِذا لم يفعل لَا يدْرِي لماذا أما كَانَ فِي بني هَاشم أحد لَهُ دين يَقُول هَذَا الْكَلَام أما الْعَبَّاس عَمه وَجَمِيع الْعَالمين على توقيره وتعظيمه حَتَّى أَن عمر نوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى بِحَضْرَة النَّاس فِي الاسْتِسْقَاء وَأما أحد بنيه وَأما عقيل أَخُوهُ وَأما أحد بني جَعْفَر أَخِيه أَو غَيرهم فَإِذا لم يكن فِي بني هَاشم أحد يَتَّقِي الله عز وَجل وَلَا يَأْخُذهُ فِي قَول الْحق مداهنة أما كَانَ فِي جَمِيع أهل الْإِسْلَام من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَغَيرهم وَاحِد يَقُول يَا معشر الْمُسلمين قد زَالَت الرَّقَبَة وَهَذَا عَليّ لَهُ حق وَاجِب بِالنَّصِّ وَله فضل بَائِن ظَاهر لَا يمترى فِيهِ فَبَايعُوهُ فَأمر وَبَين أَن اتِّفَاق جَمِيع الْأمة أَولهَا عَن آخرهَا من برقة إِلَى أول خُرَاسَان وَمن الجزيرة إِلَى أقْصَى الْيَمين إِذْ بَلغهُمْ الْخَبَر على السُّكُوت عَن حق هَذَا الرجل واتفاقهم على ظلمه وَمنعه من حَقه وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء يخافونه لإحدى عجائب الْمحَال الْمُمْتَنع وَفِيهِمْ إِلَى بَايعُوهُ بعد ذَلِك إِذْ صَار الْحق حَقه وَقتلُوا أنفسهم دونه فَأَيْنَ كَانُوا عَن إِظْهَار مَا تنبهت لَهُ الروافض الأنذال ثمَّ الْعجب إِذْ كَانَ غيظهم عَلَيْهِ هَذَا الغيظ واتفاقهم على جَحده حَقه هَذَا الِاتِّفَاق كَيفَ تورعوا عَن قَتله ليستريحوا مِنْهُ أم كَيفَ أكرموه وبروه وأدخلوه فِي الشورى وقا لهشام بن الحكم كَيفَ يحسن الظَّن بالصحابة أَن لَا يكتموا النَّص على عَليّ وهم قد اقْتَتَلُوا وَقتل بَعضهم بَعْضًا فَهَل يحسن بهم الظَّن فِي هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَو علم الْفَاسِق أَن هَذَا القَوْل أعظم حجَّة عَلَيْهِ لم ينْطق بِهَذَا السخف لِأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أول من قَاتل حِين افترق النَّاس فَكل مَا لحق المقتتلين مِنْهُم من حسن الظَّن بهم أَو من سوء الظَّن بهم فَهُوَ لَا حق لعَلي فِي قِتَاله وَلَا فرق بَينه وَبَين سَائِر الصَّحَابَة فِي لَك كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن خصّه متحكم كَانَ كمن خصّه غَيره مِنْهُم متحكماً وَلَا فرق وَأَيْضًا فَإِن اقتتالهم رَضِي الله عَنْهُم أَو كد برهَان على أَنهم لم يغاروا على مَا رَأَوْهُ بَاطِلا بل قَاتل كل فريق مِنْهُم على مَا رَأَوْهُ حَقًا وَرَضي بِالْمَوْتِ دون الصَّبْر على خلاف مَا عِنْده وَطَائِفَة مِنْهُم قعدت إِذْ لم تَرَ الْحق فِي الْقِتَال فَدلَّ عَليّ بِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْدهم نَص على عَليّ أَو عِنْد وَاحِد مِنْهُم لأظهروه أَو لأظهره كَمَا أظهرُوا مَا رَأَوْا أَن يبدلوا أنفسهم لِلْقِتَالِ وَالْمَوْت دونه فَإِن قَالُوا قد أقررتم أَنه لَا بُد من إِمَام فَبِأَي شَيْء يعرف الإِمَام لَا سِيمَا وَأَنْتُم خَاصَّة معشر أهل الظَّاهِر لَا تأخذون إِلَّا بِنَصّ قُرْآن أَو خبر صَحِيح وَهَذَا أَيْضا مِمَّا سَأَلنَا عَنهُ أَصْحَاب الْقيَاس والرأي (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على وجوب الْإِمَامَة وَأَنه لَا يحل بَقَاء لَيْلَة دون بيعَة وافترض علينا بِنَصّ قَوْله الطَّاعَة للقرشي إِمَامًا وَاحِد أَلا يُنَازع إِذا قادنا بِكِتَاب الله عز وَجل فصح من هَذِه النُّصُوص النَّص على صفة الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته كَمَا صَحَّ النَّص على صفة الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته كَمَا صَحَّ النَّص على صفة الشُّهُود فِي الْأَحْكَام وَصفَة الْمَسَاكِين والفقراء الْوَاجِب لَهُم الزَّكَاة وَصفَة من يؤم فِي الصَّلَاة وَصفَة من يجوز نِكَاحهَا من النِّسَاء وَكَذَلِكَ سَائِر الشَّرِيعَة كلهَا وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الْأَسْمَاء إِذْ لم يكلفنا الله عز وَجل ذَلِك فَكل قرشي بَالغ عَاقل بَادر إِثْر موت الإِمَام الَّذِي لم يعْهَد إِلَى أحد فَبَايعهُ وَاحِد فَصَاعِدا فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته مِمَّا قادنا بِكِتَاب الله تَعَالَى وبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أَمر الْكتاب باتباعها فَإِن زاغ عَن شَيْء مِنْهُمَا منع من ذَلِك وأقيم الْحَد وَالْحق فَإِن لم يُؤثر أَذَاهُ إِلَّا بخلعه خلع وَولي غَيره وَمِنْهُم فَإِن قَالُوا قد اخْتلف النَّاس فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالسّنة وَمنع من تأويلهما بِغَيْر نَص آخر قُلْنَا أَن التَّأْوِيل الَّذِي لم يقم عَلَيْهِ برهَان تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه وَقد جَاءَ النَّص بِالْمَنْعِ من ذَلِك وَلَيْسَ الِاخْتِلَاف حجَّة وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي نَص الْقُرْآن وَالسّنَن وَمَا اقْتَضَاهُ لَفْظهمَا الْعَرَبِيّ الَّذِي خوطبنا بِهِ وَبِه ألزمتنا الشَّرِيعَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم أَن عُمْدَة احتجاجكم فِي إِيجَاب إمامتكم الَّتِي تدعيها جَمِيع فرقكم إِنَّمَا هِيَ وَجْهَان فَقَط أَحدهمَا النَّص الَّذِي عَلَيْهِ باسمه وَالثَّانِي شدَّة الْفَاقَة إِلَيْهِ فِي بَيَان الشَّرِيعَة إِذْ علمهَا عِنْده لَا عِنْد غَيره وَلَا مزِيد فَأَخْبرُونِي بِأَيّ شَيْء صَار مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن أولى بِالْإِمَامَةِ من أخوته زيد وَعَمْرو وَعبد الله وَعلي وَالْحُسَيْن فَإِن ادعوا نصا من أَبِيه عَلَيْهِ أَو من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه الباقر لم يكن ذَلِك ببدع من كذبهمْ وَلم يَكُونُوا أولى بِتِلْكَ الدَّعْوَى من الكيسانية فِي دَعوَاهُم النَّص على ابْن حنيفَة وَإِن ادعوا أَنه كَانَ أفضل من اخوته كَانَت أَيْضا دَعْوَى بِلَا برهَان وَالْفضل لَا يقطع على مَا عِنْد الله عز وَجل فِيهِ بِمَا يَبْدُو من الْإِنْسَان فقد يكون بَاطِنه خلاف ظَاهر وَكَذَلِكَ يسْأَلُون أَيْضا مَا الَّذِي جعل مُوسَى بن جَعْفَر أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه مُحَمَّد وَإِسْحَاق أَو عَليّ فَلَا يَجدونَ إِلَى غير الدَّعْوَى سَبِيلا وَكَذَلِكَ أَيْضا يسْأَلُون مَا إِلَى خص عَليّ بن مُوسَى بِالْإِمَامَةِ دون اخوته وهم سَبْعَة عشر ذكرا فَلَا يَجدونَ شَيْئا غير الدَّعْوَى وَكَذَلِكَ يسْأَلُون مَا الَّذِي جعل مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه عَليّ بن عَليّ وَمَا إِلَى جعل عَليّ بن مُحَمَّد أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه مُوسَى بن مُحَمَّد وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 الَّذِي جعل الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى أَحَق بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه جَعْفَر بن عَليّ فَهَل هَا هُنَا شَيْء غير الدَّعْوَى الكاذبة الَّتِي لَا حَيَاء لصَاحِبهَا وَالَّتِي لَو ادّعى مثلهَا مُدع لِلْحسنِ ابْن الْحسن ولعَبْد الله بن الْحسن أَو لِأَخِيهِ الْحسن بن الْحسن أَو لإبن عَليّ بن الْحسن أَو لمُحَمد بن عبد الله الْقَائِم بِالْمَدِينَةِ أَو لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيم أَو لرجل من ولد الْعَبَّاس أَو من بني أُميَّة أَو من أَي قوم من النَّاس كَانَ لساواهم فِي الحماقة وَمثل هَذَا لَا يشْتَغل بِهِ من لَهُ مسكة من عقل أَو منحة من دين وَلَو قلت أَو رقْعَة من الْحيَاء فَبَطل وَجه النَّص وَأما وَجه الْحَاجة إِلَيْهِ فِي بَيَان الشَّرِيعَة فَمَا ظهر قطّ من أَكثر أئمتهم بَيَان لشَيْء مِمَّا اخْتلف فِيهِ النَّاس وَمَا بأيدهم من ذَلِك شَيْء إِلَّا دعاوي مفتعلة قد اخْتلفُوا أَيْضا فِيهَا كَمَا اخْتلف غَيرهم من الْفرق بِسَوَاء سَوَاء إِلَّا أَنهم أَسْوَأ حَالا من غَيرهم لِأَن كل من قلد إنْسَانا كأصحاب أبي حنيفَة لأبي حنيفَة وَأَصْحَاب مَالك لمَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِي للشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب أَحْمد لِأَحْمَد فَإِن لهَؤُلَاء الْمَذْكُورين أصحاباً مشاهير نقلت عَنْهُم أَقْوَال صَاحبهمْ ونقلوها هم عَنهُ وَلَا سَبِيل إِلَى اتِّصَال خبر عِنْدهم ظَاهر مَكْشُوف يضْطَر الْخصم إِلَى أَن هَذَا قَول مُوسَى بن جَعْفَر وَلَا أَنه قَول عَليّ بن مُوسَى وَلَا أَنه قَول مُحَمَّد بن مُوسَى وَلَا أَنه قَول عَليّ بن مُحَمَّد وَأَنه قَول الْحسن بن عَليّ وَأما من بعد الْحسن بن عَليّ فَعدم بِالْكُلِّيَّةِ وحماقة ظَاهِرَة وَأما من قبل مُوسَى ابْن جَعْفَر فَلَو جمع كل مَا روى فِي الْفِقْه عَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا لما أبلغ أوراق فَمَا ترى الْمصلحَة الَّتِي يدعونها فِي إمَامهمْ ظَهرت وَلَا نفع الله تَعَالَى بهَا قطّ فِي علم وَلَا عمل لَا عِنْدهم وَلَا عِنْد غَيرهم وَلَا ظهر مِنْهُم بعد الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ من هَؤُلَاءِ الَّذين سموا وَاحِدًا وَلَا أَمر مِنْهُم أحد قطّ بِمَعْرُوف معلن وَقد قَرَأنَا صفة هَؤُلَاءِ المخالين المنتمين إِلَى الإمامية الْقَائِلين بِأَن الدّين عِنْد أئمتهم فَمَا رَأينَا إِلَّا دعاوي بَارِدَة وآراء فَاسِدَة كأسخف مَا يكون من الْأَقْوَال وَلَا يَخْلُو هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الَّذين يذكرُونَ من أَن يَكُونُوا مأمورين بِالسُّكُوتِ أَو مفسوحاً لَهُم فِيهِ فَإِن يَكُونَا مأمورين بِالسُّكُوتِ فقد أُبِيح للنَّاس الْبَقَاء فِي الضلال وَسَقَطت الْحجَّة فِي الدّيانَة عَن جَمِيع النَّاس وَبَطل الدّين وَلم يلْزم فرض الْإِسْلَام وَهَذَا كفر مُجَرّد وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا أَو يَكُونُوا مأمورين بالْكلَام وَالْبَيَان فقد عصوا الله إِذْ سكتوا وَبَطلَت إمامتهم وَقد لَجأ بَعضهم إِذْ سئلوا عَن صِحَة دَعوَاهُم فِي الْأَئِمَّة إِلَى أَن ادعوا الإلهام فِي ذَلِك فَإذْ قد صَارُوا إِلَى هَذَا الشغب فَإِنَّهُ لَا يضيق عَن أحد من النَّاس وَلَا يعجز خصومهم عَن أَن سدعوا أَنهم ألهموا بطلَان دَعوَاهُم قَالَ هِشَام بن الحكم لَا بُد أَن يكون فِي أخوة افمام آفَات يبين بهَا أَنهم لَا يسْتَحقُّونَ الْإِمَامَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه دَعْوَى مَرْدُودَة تزيد فِي الحماقة وَلَا نَدْرِي فِي زيد وَعَمْرو وَعبد الله وَالْحسن وَعلي بن عَليّ بن الْحُسَيْن آفَات تمنع إِلَّا أَن الْحسن أَخا زيد وَمُحَمّد كَانَ أعرج وَمَا علمنَا أَن العرج عيب يمْنَع من الْإِمَامَة إِنَّمَا هُوَ عيب فِي العبيد المتخين للمشي وَمَا يعجز خصومهم أَن يدعوا فِي مُحَمَّد بن عَليّ وَفِي جَعْفَر بن مُحَمَّد وَفِي سَائِر أئمتهم تِلْكَ الْآفَات الَّتِي ادَّعَاهَا هِشَام لأخوتهم ثمَّ أَن بعض أئمتهم الْمَذْكُورين مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين فنسألهم من أَيْن علم هَذَا الصَّغِير جمع علم الشَّرِيعَة وَقد عدم تَوْقِيف أَبِيه لَهُ عَلَيْهَا لصغره فَلم يبْق إِلَّا أَن يدعوا لَهُ الْوَحْي فَهَذِهِ نبوة وَكفر صَرِيح وهم لَا يبلغون إِلَى أَن يدعوا لَهُ النُّبُوَّة وَأَن يدعوا لَهُ معْجزَة تصحح قَوْله فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة مَا ظهر مِنْهَا فِي شَيْء أَو يدعوا لَهُ الإلهام فَمَا يعجز أحد عَن هَذِه الدَّعْوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 لكل أمة عَملهَا إِلَّا وجود من يعْتَقد هَذَا الْأَقْوَال السخيفة لَكَانَ أقوى حجَّة وأوضح برهَان وَإِلَّا فَمَا خلق الله عقلا يسع فِيهِ مثل هَذِه الحماقات وَالْحَمْد لله على عَظِيم مِنْهُ علينا وَهُوَ المسؤول مِنْهُ دوامها بمنه آمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْأَمر فِي الْإِمَامَة على مَا يَقُول هَؤُلَاءِ السخفاء لما كَانَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي سَعَة من أَن يُسَلِّمهَا لمعاوية رَضِي الله عَنهُ فيعينه على الضلال وعَلى إبِْطَال الْحق وَهدم الدّين فَيكون شَرِيكه فِي كل مظْلمَة وَيبْطل عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُوَافِقهُ على ذَلِك الْحُسَيْن أَخُوهُ رَضِي الله عَنْهُمَا فَمَا نقض قطّ بيعَة مُعَاوِيَة إِلَى أَن مَاتَ فَكيف اسْتحلَّ الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا إبِْطَال عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِمَا طائعين غير مكرهين فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَة قَامَ الْحُسَيْن يطْلب حَقه إِذْ رأى أَنَّهَا بيعَة ضَلَالَة فلولا أَنه رأى بيعَة مُعَاوِيَة حَقًا لما سلمهَا لَهُ ولفعل كَمَا فعل بِيَزِيد إِذْ ولي يزِيد هَذَا مَا لَا يمتري فِيهِ ذُو إنصاف هَذَا وَمَعَ الْحسن أَزِيد من مائَة ألف عنان يموتون دون فتالله لَوْلَا أَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ علم أَنه فِي سَعَة من إسْلَامهَا إِلَى مُعَاوِيَة وَفِي سَعَة من أَن لَا يُسَلِّمهَا لما جمع بَين الْأَمريْنِ فَأَمْسكهَا سِتَّة أشهر لنَفسِهِ وَهِي حَقه وَسلمهَا بعد ذَلِك لغير ضَرُورَة وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح بل هُوَ الْأَفْضَل بِلَا شكّ لِأَن جده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خطب بذلك على الْمِنْبَر بِحَضْرَة الْمُسلمين وأراهم الْحسن مَعَه على الْمِنْبَر وَقَالَ أَن ابْني هَذَا لسَيِّد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين طائفتين عظيمتين من الْمُسلمين روينَاهُ من طَرِيق البُخَارِيّ حَدثنَا صَدَقَة أَنبأَنَا ابْن عُيَيْنَة أَنا مُوسَى أَنا الْحسن سمع أَبَا بكرَة يَقُول أَنه سمع ذَلِك وشهده من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا من أَعْلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنذاره بالغيوب الَّتِي لَا تعلم الْبَتَّةَ إِلَّا بِالْوَحْي وَلَقَد امْتنع زِيَاد وَهُوَ فقعة (1) القاع لَا عشيرة وَلَا نسب وَلَا سَابِقَة وَلَا قدم فَمَا أطاقه مُعَاوِيَة إِلَّا بالمداراة حَتَّى أرضاه وولاه فَإِن ادعوا أَنه قد كَانَ فِي ذَلِك عِنْد الْحسن عهد فقد كفرُوا لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَأْمر أحدا بالعيون على إطفاء نور الْإِسْلَام بالْكفْر وعَلى نقض عهود الله تَعَالَى بِالْبَاطِلِ عَن غير ضَرُورَة وَلَا إِكْرَاه وَهَذِه صفة الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد الروافض وَاحْتج بعض الإمامية وَجَمِيع الزيدية بِأَن عليا كَانَ أَحَق النَّاس بِالْإِمَامَةِ لبينونة فَضله على جَمِيعهم ولكثرة فضائله دونهم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا يَقع الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْكَلَام فِي المفاضلة بَين أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن الْكَلَام هَاهُنَا فِي الْإِمَامَة فَقَط فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هبكم أَنكُمْ وجدْتُم لعَلي رَضِي الله عَنهُ فَضَائِل مَعْلُومَة كالسبق إِلَى الْإِسْلَام وَالْجهَاد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسعة الْعلم والزهد فَهَل وجدْتُم مثل ذَلِك لِلْحسنِ وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا حَتَّى أوجبتهم لَهما بذلك فضلا فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا على سعد بن أبي وَقاص وَسيد بن زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن الْعَبَّاس هَذَا مَا لَا يقدر أحد على أَن يَدعِي لَهما فِيهِ كلمة فَمَا فَوْقهَا يَعْنِي مِمَّا يكونَانِ بِهِ فَوق من قد ذكرنَا فِي شَيْء من هَذِه الْفَضَائِل فَلم يبْق إِلَّا دَعْوَى النَّص عَلَيْهِمَا وَهَذَا مَالا يعجز عَن مثله أحد لَو استجازت الْخَوَارِج التوقح بِالْكَذِبِ فِي دَعْوَى النَّص على عبد الله بن وهب الراسي لما كَانُوا الأمثل الرافضة فِي ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء وَلَو استحلت الأموية أَن تجاهر بِالْكَذِبِ فِي دَعْوَى النَّص على مُعَاوِيَة لَكَانَ أَمرهم فِي ذَلِك أقوى من أَمر الرافضة لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا فَلَا يسرف فِي الْقَتْل أَنه كَانَ منصوراً} وَلَكِن كل أمة مَا عدا الرافضة وَالنَّصَارَى فَإِنَّهَا تَسْتَحي وتصون أَنْفسهَا عَمَّا لَا تصون النَّصَارَى وَالرَّوَافِض أنفسهم عَنهُ من الْكَذِب الفاضح الْبَارِد وَقلة الْحيَاء فِيمَا يأْتونَ بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لعَلي بن الْحُسَيْن بسوقا فِي علم وَلَا فِي عمل على سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله بن عَمْرو وَعُرْوَة بن الزبير وَلَا على أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام وَلَا على ابْن عَمه الْحسن بن الْحسن وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لمُحَمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بسوقا فِي علم وَلَا فِي عمل وَلَا ورع على عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَلَا عَليّ مُحَمَّد بن عَمْرو وبن أبي بكر بن الْمُنْكَدر وَلَا على أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَلَا على أَخِيه زيد بن عَليّ وَلَا على عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ وَلَا على عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لحعفر بن مُحَمَّد بسوقا فِي علم وَلَا فِي دين وَلَا فِي عمل على مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَلَا على ابْن أبي ذُؤَيْب وَلَا على عبد الله بن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر وَلَا على عبيد الله بن عمر وبن حَفْص بن عَاصِم بن عمر وَلَا على ابْني عَمه مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن وعَلى بن الْحسن بن الْحسن بن الْحسن بل كل مَا ذكرنَا فَوْقه فِي الْعلم والزهد وَكلهمْ أرفع محلا فِي الْفتيا والْحَدِيث لَا يمْنَع أحد مِنْهُم من شَيْء من ذَلِك وَهَذَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قد جمع فقهه فِي عشْرين كتابا ويبلغ حَدِيثه نَحْو ذَلِك إِذا تقصى وَلَا تبلغ فتيا الْحسن وَالْحُسَيْن ورقتين ويبلغ حَدِيثهمَا ورقة أَو روقتين وَكَذَلِكَ على بن الْحُسَيْن إِلَّا أَن مُحَمَّد بن عَليّ يبلغ حَدِيثه وفيتاه جزأ صَغِيرا وَكَذَلِكَ جَعْفَر بن مُحَمَّد وهم يَقُولُونَ أَن الإِمَام عِنْده جَمِيع علم الشَّرِيعَة فَمَا بَال من ذكرنَا أظهرُوا بعض ذَلِك وَهُوَ الْأَقَل إِلَّا نقص وكتموا سائره وَهُوَ الْأَكْثَر الْأَعْظَم فَإِن كَانَ فرضهم الكتمان فقد خالفوا الْحق إِذْ أعْلنُوا مَا أعْلنُوا وَإِن كَانَ فرضهم الْبَيَان فقد خالفوا الْحق إِذْ كتموا مَا كتموا وَأما من بعده جَعْفَر بن مُحَمَّد مِمَّا عرفنَا لَهُم علما أصلا لَا من رِوَايَة وَلَا من فتيا على قرب عَهدهم منا وَلَو كَانَ عِنْدهم من ذَلِك شَيْء لعرف كَمَا عرف عَن مُحَمَّد بن عَليّ وَابْنه جَعْفَر وَعَن غَيره مِنْهُم مِمَّن حدث النَّاس عَنهُ فبطلت دَعوَاهُم الظَّاهِرَة الكاذبة اللائحة السخيفة الَّتِي هِيَ من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فَإِن رجعُوا إِلَى ادِّعَاء المعجزات لَهُم قُلْنَا لَهُم إِن المعجزات لَا تثبت إِلَّا بِنَقْل التَّوَاتُر لَا بِنَقْل الأحاد الثِّقَات فَكيف بِولد الوقحاء الْكَذَّابين الَّذين لَا يدْرِي من هم وَقد وجدنَا من يروي لبشر الحافي وشيبان الرَّاعِي ورابعة العدوية أَضْعَاف مَا يَدعُونَهُ من الْكَذِب لأئمتهم وَأظْهر وَأفْشى وكل لَك حَمَاقَة لَا يشْتَغل ذُو دين لَا ذُو عقل بهَا وَنَحْمَد الله على السَّلامَة فَإِذا قد بَطل كل مَا يَدعُونَهُ وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فلنقل على الْإِمَامَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبرهان وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا فَقَالَت طَائِفَة إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَخْلف أحدا ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم لَكِن لما اسْتخْلف أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ على الصَّلَاة كَانَ ذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 دَلِيلا على أَنه ألاوهم بِالْإِمَامَةِ والخلافة على الْأُمُور وَقَالَ بَعضهم لَا وَلَكِن كَانَ ابينهم فضلا فقدموه لذَلِك وَقَالَت طَائِفَة بل نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على اسْتِخْلَاف أبي بكر بعده على أُمُور النَّاس نصا جلياً (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا نقُول لبراهين أَحدهَا أطباق النَّاس كلهم وهم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} فقد أصفق هَؤُلَاءِ الَّذين شهد الله لَهُم بِالصّدقِ وَجَمِيع إخْوَانهمْ من الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم على أَن سموهُ خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمعنى الْخَلِيفَة فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي يستخلفه لَا الَّذِي يخلفه دون أَن يستخلفه هُوَ لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ فِي اللُّغَة بِلَا خلاف تَقول اسْتخْلف فلَان فلَانا يستخلفه فَهُوَ خَلِيفَته ومستخلفه فَإِن قَامَ مَكَانَهُ دون أَن يستخلفه هُوَ لم يقل إِلَّا خلف فلَان فلَانا يخلفه فَهُوَ خَالف ومحال أَن يعنوا بذلك الِاسْتِخْلَاف على الصَّلَاة لوَجْهَيْنِ ضرورين أَحدهمَا أَنه لَا يسْتَحق أَبُو بكر هَذَا الِاسْم على الْإِطْلَاق فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حِينَئِذٍ خَلِيفَته على الصَّلَاة فصح يَقِينا أَن خِلَافَته الْمُسَمّى هُوَ بهَا هِيَ غير خِلَافَته على الصَّلَاة وَالثَّانِي أَن كل من اسْتَخْلَفَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته كعلي فِي غَزْوَة تَبُوك وَابْن أم مَكْتُوم فِي غَزْوَة الخَنْدَق وَعُثْمَان بن عَفَّان فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَسَائِر من اسْتَخْلَفَهُ على الْبِلَاد بِالْيمن والبحرين والطائف وَغَيرهَا لم يسْتَحق أحد مِنْهُم قطّ بِلَا خلاف من أحد من الْأمة أَن يُسمى خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِطْلَاق فصح يَقِينا بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا محيد عَنْهَا أَنَّهَا للخلافة بعده على أمته وَمن الْمُمْتَنع أَن يجمعوا على ذَلِك وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لم يستخلفه نصا وَلَو لم يكن هَا هُنَا إِلَّا استخلافه إِيَّاه على الصَّلَاة مَا كَانَ أَبُو بكر أولى بِهَذِهِ التَّسْمِيَة من غَيره مِمَّن ذكرنَا وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ نعارض بِهِ جَمِيع الْخُصُوم وَأَيْضًا فَإِن الرِّوَايَة قد صحت بِأَن امْرَأَة قَالَت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت أَن رجعت وَلم أجدك كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْت قَالَ فأت أَبَا بكر وَهَذَا نَص جلي على اسْتِخْلَاف أبي بكر وَأَيْضًا فَإِن الْخَبَر قد جَاءَ من الطّرق الثَّابِتَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام لقد هَمَمْت أَن أبْعث إِلَى أَبِيك وأخيك فَاكْتُبْ كتابا وأعهد عهدا لكيلا يَقُول قَائِل أَنا أَحَق أَو يتَمَنَّى متمن ويأبى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر وَرُوِيَ أَيْضا ويأبي الله والببون إِلَّا أَبَا بكر فَهَذَا نَص جلي على استخلافه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَبَا بكر على ولَايَة الْأمة بعده (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَو أننا نستجيز التَّدْلِيس وَالْأَمر الَّذِي لَو ظفر بِهِ خصومنا طاروا بِهِ فَرحا أَو ابلسوا أسفا لاحتججنا بِمَا روى افْتَدَوْا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلكنه لم يَصح ويعيذنا الله من الِاحْتِجَاج بِمَا لَا يَصح (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاحْتج من قَالَ لم يسْتَخْلف رَسُول الله صلى الله علبه وَسلم بالْخبر الْمَأْثُور عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه أَنه قَالَ أَن اسْتخْلف فقد اسْتخْلف من هُوَ خير مني يَعْنِي أَبَا بكر وَأَن لَا اسْتخْلف فَلم يسْتَخْلف من هُوَ خير مني يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِمَا روى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَمن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستخلفاً لَو اسْتخْلف فَمن الْمحَال أَن يُعَارض الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة الَّذِي ذكرنَا والأثران الصحيحان المسندان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَفظه بِمثل هذَيْن الأثرين الموقوفين على عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 مِمَّا لَا يقوم بِهِ حجَّة ممالة وَجه ظَاهر من أَن هَذَا الْأَثر خَفِي على عمر رَضِي الله عَنهُ كَمَا خَفِي عَلَيْهِ كثير من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالاستئذان وَغَيره أَو أَنه أَرَادَ استخلافاً بعد مَكْتُوب وَنحن نقر أَن اسْتِخْلَاف أبي بكر لم يكن بِكِتَاب مَكْتُوب وَأما الْخَبَر فِي ذَلِك عَن عَائِشَة فَكَذَلِك نصا وَقد يخرج كَلَامهَا على سُؤال سَائل وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي رِوَايَتهَا لَا فِي قَوْلهَا وَأما من ادّعى أَنه إِنَّمَا قدم قِيَاسا على تَقْدِيمه إِلَى الصالة فَبَاطِل بِيَقِين لِأَنَّهُ لَيْسَ كل من اسْتحق الْإِمَامَة فِي الصالة يسْتَحق الْإِمَامَة فِي الْخلَافَة إِذْ يسْتَحق الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة اقْرَأ الْقَوْم وَإِن كَانَ أعجمياً أَو عَرَبيا وَلَا يسْتَحق الْخلَافَة إِلَّا فرشى فَكيف وَالْقِيَاس كُله بَاطِل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فِي نَص الْقُرْآن دَلِيل على صِحَة خلَافَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وعَلى وجوب الطَّاعَة لَهُم وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ مُخَاطبا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَعْرَاب {فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} وَكَانَ نزُول سُورَة بَرَاءَة الَّتِي فِيهَا هَذَا الحكم بعد غَزْوَة تَبُوك بِلَا شكّ الَّتِي لَا تخلف فِيهَا الثَّلَاثَة المعذورون الَّذين تَابَ الله عَلَيْهِم فِي سُورَة بَرَاءَة وَلم يغز عَلَيْهِ السَّلَام بعد غَزْوَة تَبُوك إِلَى أَن مَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ تَعَالَى أَيْضا {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل} فَبين أَن الْعَرَب لَا يغزون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد تَبُوك لهَذَا ثمَّ عطف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِم أثر مَنعه إيَّاهُم من الْغَزْو مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغلق بَاب التَّوْبَة فَقَالَ تَعَالَى {قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد تقاتلونهم أَو يسلمُونَ فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} فَأخْبر تَعَالَى أَنهم سيدعوهم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قوم يقاتلونهم أَو يسلمُونَ وَوَعدهمْ على طَاعَة من دعاهم إِلَى ذَلِك بجزيل الْأجر الْعَظِيم وتوعدهم على عصيان الدَّاعِي لَهُم إِلَى ذَلِك الْعَذَاب الْأَلِيم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا دَعَا أُولَئِكَ الْأَعْرَاب أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قوم يقاتلونهم أَو يسلمُونَ إِلَّا أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم فَإِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ دعاهم إِلَى قتال مرتدي الْعَرَب بني حنيفَة وَأَصْحَاب الْأسود وسجاع وطليحة وَالروم وَالْفرس وَغَيرهم ودعاهم عمر إِلَى قتال الرّوم وَالْفرس وَعُثْمَان دعاهم إِلَى قتال الرّوم وَالْفرس وَالتّرْك فَوَجَبَ طَاعَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم بِنَصّ الْقُرْآن الَّذِي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَإِذ قد وَجَبت طاعتهم فرضا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رَضِي الله عَنْهُم وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجب تقليدهم فِي غير مَا أَمر الله تَعَالَى بطاعتهم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر بذلك إِلَّا فِي دُعَائِهِمْ إِلَى قتال هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَفِيمَا يجب الطَّاعَة فِيهِ للأئمة جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما مَا أفتوا بِهِ باجتهادهم فَمَا أوجبوهم قطّ اتِّبَاع أَقْوَالهم فِيهِ فَكيف أَن يُوجب ذَلِك غَيرهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن هَذَا إِجْمَاع الْأَئِمَّة كلهَا إِذْ لَيْسَ أحد من أهل الْعلم إِلَّا وَقد خَالف بعض فتاوي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة رَضِي الله عَنْهُم فصح مَا ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فصل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَجَمِيع فرق أهل الْقبْلَة لَيْسَ مِنْهُم أحد يُجِيز إِمَامَة امْرَأَة وَلَا إِمَامَة صبي لم يبلغ إِلَّا الرافضة فَإِنَّهَا تجيز إِمَامَة الصَّغِير الَّذِي لم يبلغ وَالْحمل فِي بطن أمه وَهَذَا خطأ لِأَن من لم يبلغ فَهُوَ غير مُخَاطب وَالْإِمَام مُخَاطب بِإِقَامَة الدّين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ الباقلاني وَاجِب أَن يكون الإِمَام أفضل الْأمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا هُوَ خطأ مُتَيَقن لبرهانين أَحدهمَا أَنه لَا يُمكن أَن يعرف الْأَفْضَل إِلَّا بِالظَّنِّ فِي ظَاهر أمره وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَالثَّانِي أَن قُريْشًا قد كثرت وطبقت الأَرْض من أقْصَى الْمشرق إِلَى أقْصَى الْمغرب وَمن الْجنُوب إِلَى الشمَال وَلَا سَبِيل أَن يعرف الْأَفْضَل من قوم هَذَا مبلغ عَددهمْ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يُمكن ذَلِك أصلا ثمَّ يَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل إِجْمَاع الْأمة على بُطْلَانه فَإِن جَمِيع من أدْرك من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ من جَمِيع الْمُسلمين فِي ذَلِك الْعَصْر قد أَجمعُوا على صِحَة إِمَامَة الْحسن أَو مُعَاوِيَة وَقد كَانَ فِي النَّاس أفضل مِنْهُم بِلَا شكّ كسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد وَابْن عَمْرو وَغَيرهم فَلَو كَانَ مَا قَالَه الباقلاني حَقًا لكَانَتْ إِمَامَة الْحسن وَمُعَاوِيَة بَاطِلَة وحاشا لله عز وَجل من ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن هَذَا القَوْل الَّذِي قَالَه هَذَا الْمَذْكُور دعوي فَاسِدَة وَلَا على صِحَّتهَا دَلِيل لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من قَول صَاحب وَلَا من قِيَاس وَالْعجب كُله أَن يَقُول أَنه جَائِز أَن يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ لَا يُجِيز أَن يكون أحد أفضل من الإِمَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا القَوْل مِنْهُ فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفر مُجَرّد وَلَا خَفَاء بِهِ وَفِيه خلاف لأهل الْإِسْلَام وَإِنَّمَا يجب أَن يكون الإِمَام قرشياً بَالغا ذكرا مُمَيّزا بَرِيئًا من الْمعاصِي الظَّاهِرَة حَاكما بِالْقُرْآنِ وَالسّنة فَقَط وَلَا يجوز خلعه مَا دَامَ يُمكن مَنعه من الظُّلم فَإِن لم يُمكن إِلَّا بإزالته فَفرض أَن يُقَام كل مَا يُوصل بِهِ إِلَى دفع الظُّلم لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي وُجُوه الْفضل والمفاضلة بَين الصَّحَابَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيمَن هُوَ أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَذهب بعض أهل السّنة وَبَعض أهل الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة وَجَمِيع الشِّيعَة إِلَى أَن أفضل الْأمة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَقد روينَا هَذَا القَوْل نصا عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين وَالْفُقَهَاء وَذَهَبت الْخَوَارِج كلهَا وَبَعض أهل السّنة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة إِلَى أَن أفضل الصَّحَابَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر وَعمر وروينا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَعْفَر بن أبي طَالب وَبِهَذَا قَالَ عَاصِم النَّبِيل وَهُوَ الضَّحَّاك بن مخلد وَعِيسَى بن حَاضر قَالَ عِيسَى وَبعد جَعْفَر حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وروينا عَن نَحْو عشْرين من الصَّحَابَة أَن أكْرم النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وروينا عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثَلَاث رجال لَا يعد أحد عَلَيْهِم بِفضل سعد بن معَاذ وَأسيد بن حضير وَعباد بن بشر وروينا عَن أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا تذكرت الْفضل وَمن هُوَ خير فَقَالَت وَمن هُوَ خير من أبي سَلمَة أول بَيت هَاجر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروينا عَن مَسْرُوق بن الأجدع أَو تَمِيم بن حذلم وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيرهم أنأفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن مَسْعُود قَالَ تَمِيم وَهُوَ من كبار التَّابِعين رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر فَلَمَّا رَأَيْت مثل عبد الله بن مَسْعُود وروينا عَن بعض من أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب وَأَنه أفضل من أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَبَلغنِي عَن مُحَمَّد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 عبد الله الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي أَنه كَانَ يذهب إِلَى هَذَا القَوْل قَالَ دَاوُد بن عَليّ الْفَقِيه رَضِي الله عَنهُ أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأفضل الصَّحَابَة الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين ثمَّ الْأَولونَ من الْأَنْصَار ثمَّ من بعدهمْ مِنْهُم وَلَا نقطع على إِنْسَان مِنْهُم بِعَيْنِه أَنه أفضل من آخر من طبقته وَلَقَد رَأينَا من مُتَقَدِّمي أهل الْعلم مِمَّن يذهب إِلَى هَذَا القَوْل وَقَالَ لي يُوسُف بن عبد الله بن عبد الْبر النميري غير مَا مرّة أَن هَذَا هُوَ قَوْله ومعتقده قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وندين الله تَعَالَى عَلَيْهِ ونقطع على أَنه الْحق عِنْد الله عز وَجل أَن أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَبُو بكر وَلَا خلاف بَين أحد من الْمُسلمين فِي أَن أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأُمَم لقَوْل الله عز وَجل {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَإِن هَذِه قاضية على قَوْله تَعَالَى لبني إِسْرَائِيل {وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَإِنَّهَا مبينَة لِأَن مُرَاد الله تَعَالَى من ذَلِك عَالم الْأُمَم حاشا هَذِه الْأمة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْكَلَام المهمل دون تَحْقِيق الْمَعْنى المارد بذلك الْكَلَام فَإِنَّهُ طمس للمعاني وَصد عَن إِدْرَاك الصَّوَاب وتعريج عَن الْحق وإبعاد عَن الْفَهم وتخليط عمي فلنبدأ بعون الله تَعَالَى وتأييد بتقسيم وُجُوه الْفضل الَّتِي بهَا يسْتَحق التَّفَاضُل فَإِذا استبان معنى الْفضل وعَلى مَاذَا تقع هَذِه اللَّفْظَة فبالضرورة نعلم حِينَئِذٍ أَن من وجدت فِيهِ هَذِه الصِّفَات أَكثر فَهُوَ بِلَا شكّ فَنَقُول وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم أَن الْفضل يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ لَا ثَالِث لَهما فضل اخْتِصَاص من الله عز وَجل بِلَا عمل وَفضل مجازاة من الله تَعَالَى بِعَمَل فَأَما فضل الِاخْتِصَاص دون عمل فَإِنَّهُ يشْتَرك فِيهِ جَمِيع المخلوقين من الْحَيَوَان النَّاطِق وَالْحَيَوَان غير النَّاطِق والجمادات كفضل الْمَلَائِكَة فِي ابْتِدَاء خلقهمْ على سَائِر الْخلق وكفضل الْأَنْبِيَاء على سَائِر الْجِنّ والأنس وكفضل إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَائِر الْأَطْفَال وكفضل نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر النوق وكفضل ذَبِيحَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر الذَّبَائِح وكفضل مَكَّة على سَائِر الْبِلَاد وكفضل الْمَدِينَة بعد مَكَّة على غَيرهَا من الْبِلَاد وكفضل الْمَسَاجِد على سَائِر الْبِقَاع وكفضل الْحجر الْأسود على سَائِر الْحِجَارَة وكفضل شهر رَمَضَان على سَائِر الشُّهُور وكفضل يَوْم الْجُمُعَة عَرَفَة وعاشوراء وَالْعشر على سَائِر الْأَيَّام وكفضل لَيْلَة الْقدر على سَائِر اللَّيَالِي وكفضل صَلَاة الْفَرْض على النَّافِلَة وكفضل صَلَاة الْعَصْر وَصَلَاة الصُّبْح على سَائِر الصَّلَوَات وكفضل السُّجُود على الْقعُود وكفضل بعض الذّكر على بعض فَهَذَا فضل الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد بِلَا عمل فَأَما فضل المجازاة بِالْعَمَلِ فَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا للحي النَّاطِق من الْمَلَائِكَة والأنس وَالْجِنّ فَقَط وَهَذَا هُوَ الْقسم الَّذِي تنَازع فِيهِ فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي نتكلم فِيهِ الْآن من أَحَق بِهِ فَوَجَبَ أَن نَنْظُر أَيْضا فِي أَقسَام هَذَا الْقسم الَّتِي بهَا يسْتَحق الْفضل فِيهِ والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثمَّ نَنْظُر حينئذٍ من هُوَ أَحَق بِهِ وأسعد بالبسوق فِيهِ فَيكون بِلَا شكّ أفضل مِمَّن هُوَ أقل حظاً فِيهَا بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين إِن الْعَامِل فِي عمله بسبعة أوجه لَا ثامن لَهَا وَهِي المائية وَهِي عين الْعَمَل وذاته والكمية وَهِي الْعرض فِي الْعَمَل والكيفية والكم وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَالْإِضَافَة فَأَما المائية فَهِيَ أَن تكون الْفُرُوض من أَعمال أَحدهمَا موفاة كلهَا وَيكون الآخر يضيع بعض فروضه وَله نوافل أَو يكون كِلَاهُمَا وَفِي جَمِيع فَرْضه ويعملان نوافل زَائِدَة إِلَّا أَن نوافل أَحدهمَا أفضل من نوافل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 الآخر كَأَن يكون أَحدهمَا يكثر الذّكر فِي الصَّلَاة وَالْآخر يكثر الذّكر فِي حَال جُلُوسه وَمَا أشبه هَذَا وكإنسانين قَاتل أَحدهمَا فِي المعركة والموضع الْمخوف وَقَاتل الآخر فِي الرِّدَّة أَو جَاهد أَحدهمَا واشتغل الآخر بصيام وَصَلَاة تطوع أَو يجتهدان فيصادف أَحدهمَا ويحرمه الآخر فيفضل أَحدهمَا الآخر فِي هَذِه الْوُجُوه بِنَفس عمله أَو بَان ذَات عمله أفضل من ذَات عمل الآخر فَهَذَا هُوَ التَّفَاضُل فِي المائية من الْعَمَل وَأما الكمية وَهِي الْعرض فَإِن يكون أَحدهمَا يقْصد بِعَمَلِهِ وَجه الله تَعَالَى لَا يمزج بِهِ شَيْئا الْبَتَّةَ وَيكون الآخر يُسَاوِيه فِي جَمِيع عمله إِلَّا أَنه رُبمَا مزج بِعَمَلِهِ شَيْئا من حب الْبر فِي الدُّنْيَا وَأَن يستدفع بذلك الْأَذَى عَن نَفسه وَرُبمَا مزجه بِشَيْء من الرِّيَاء ففضله الأول بعرضه فِي عمله وَأما الْكَيْفِيَّة فَإِن يكون أَحدهمَا يُوفي عمله جَمِيع حُقُوقه ورتبه لَا منتقصاً وَلَا متزيداً وَيكون الآخر رُبمَا انْتقصَ بعض رتب ذَلِك الْعَمَل وسنته وَإِن لم يعطل مِنْهُ فرضا أَو يكون أَحدهمَا يصفى يصفى عمله من الْكَبَائِر وَرُبمَا بِمَا أُتِي الآخر بِبَعْض الْكَبَائِر ففضله الآخر بكيفية عمله وَأما لكم فَإِن يستوا فِي أَدَاء الْفَرْض وَيكون أَحدهمَا أَكثر نوافل ففضله هَذَا بِكَثْرَة عدد نوافله كَمَا رُوِيَ فِي رجلَيْنِ أسلما وهاجرا أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ اسْتشْهد أَحدهمَا وعاش الآخر بعده سنة ثمَّ مَاتَ على فرَاشه فَرَأى بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحدهمَا فِي النّوم وَهُوَ آخرهما موتا فِي أفضل من حَال الشَّهِيد فَسَأَلَ عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام مَعْنَاهُ فَأَيْنَ صلَاته وصيامه بعده ففضل أَحدهمَا الآخر بِالزِّيَادَةِ الَّتِي زَادهَا عَلَيْهِ فِي عدد أَعماله وَأما الزَّمَان فكمن عمل فِي صدر الْإِسْلَام أَو فِي عَام المجاعة أَو فِي وَقت نازلة بِالْمُسْلِمين وَعمل غَيره بعد قُوَّة الْإِسْلَام وَفِي زمن رخاء وَأمن فَإِن الْكَلِمَة فِي أول الْإِسْلَام وَالتَّمْرَة وَالصَّبْر حِينَئِذٍ وركعة فِي لَك الْوَقْت تعدل اجْتِهَاد الْأَزْمَان الطوَال وجهادها وبذل الْأَمْوَال الجسام بعد ذَلِك وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا إِلَيّ أَصْحَابِي فَلَو كَانَ لأحدكم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نيصفه فَكَانَ نصف مد شَعِيرًا وتمر فِي ذَلِك الْوَقْت أفضل من جبل أحد ذَهَبا ننفقه نَحن فِي سَبِيل الله عز وَجل بعد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا فِي الصَّحَابَة فِيمَا بَينهم فَكيف بِمن بعدهمْ مَعَهم رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا يكذب قَول أبي هَاشم مُحَمَّد بن عَليّ الجبائي وَقَول مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني فَإِن الجبائي قَالَ جَائِز أَن طَال عمر امْرِئ يعْمل مَا يوازي عمل نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَقَالَ الباقلاني جَائِز أَن يكون فِي النَّاس من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث بِالنُّبُوَّةِ إِلَى أَن مَاتَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر مُجَرّد وردة وَخُرُوج عَن دين الْإِسْلَام بِلَا مرية وَتَكْذيب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إخْبَاره أَنا لَا ندرك أحد من أَصْحَابه وَفِي إخْبَاره عَلَيْهِ السَّلَام عَن أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم بِأَنَّهُ لَيْسَ مثلهم وَأَنه اتقاهم لله وأعلمهم بِمَا يَأْتِي وَمَا يذر وَكَذَلِكَ قَالَت الْخَوَارِج والشيعة فَإِن الشِّيعَة يفضلون أنفسهم وهم شَرّ خلق الله عز وَجل على أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَجَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حاشا عليا وَالْحسن وَالْحُسَيْن وعمار بن يَاسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شَرّ خلق الله تَعَالَى وكلاب النَّار على عُثْمَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وعَلى طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَلَقَد خَابَ من خَالف كَلَام الله تَعَالَى وَقَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ الْقَلِيل من الْجِهَاد وَالصَّدَََقَة فِي زمَان الشدائد أفضل من كثيرهما فِي وَقت الْقُوَّة وَالسعَة وَكَذَلِكَ صَدَقَة الْمَرْء بدرهم فِي زمَان فقر وَصِحَّته يَرْجُو الْحَيَاة وَيخَاف الْفقر أفضل من الْكَبِير يتَصَدَّق بِهِ فِي عرض غناهُ وَفِيه وَصيته بعد مَوته وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبق دِرْهَم مائَة ألف وَهُوَ إِنْسَان كَانَ لَهُ دِرْهَمَانِ تصدق بِأَحَدِهِمَا وَالْآخر عمد إِلَى عرض مَاله تصدق مِنْهُ بِمِائَة ألف وكلك صَبر الْمَرْء على أَدَاء الْفَرَائِض فِي حَال خَوفه ومرضه وَقَلِيل تنفله فِي زمَان مَرضه وخوفه أفضل من عمله وَكثير تنفله فِي زمَان صِحَّته وأمنه ففضل من ذكرنَا غَيرهم بِزَمَان عَمَلهم وَكَذَلِكَ من وفْق لعمل الْخَيْر فِي زمَان آخر أَجله هُوَ أفضل مِمَّن خلط فِي زمَان آخر أحله وَأما الْمَكَان فكصلاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَو مَسْجِد الْمَدِينَة فهما أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا عداهما وتفضل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام على الصَّلَاة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِائَة دَرَجَة وكصيام فِي بلد الْعَدو أَو فِي الْجِهَاد على صِيَام فِي غير الْجِهَاد ففضل من عمل فِي الْمَكَان الْفَاضِل غَيره مِمَّن عمل فِي غير ذَلِك الْمَكَان بمَكَان عمله وَإِن تساوى العملان وَأما الْإِضَافَة فركعة من نَبِي أَو رَكْعَة مَعَ نَبِي أَو صَدَقَة من نَبِي أَو صَدَقَة مَعَه أَو ذكر مِنْهُ أَو ذكر مَعَه وَسَائِر أَعمال الْبر مِنْهُ أَو مَعَه فقليل من ذَلِك أفضل من كثير الْأَعْمَال بعده وَيبين ذَلِك مَا قد ذكرنَا آنِفا من قَول الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل} وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَن أَحَدنَا لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ نصف مد من أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا قَطعنَا على أَن كل عمل عملوه بِأَنْفسِهِم بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يوازي شَيْئا من الْبر عمله ذَلِك الصاحب بِنَفسِهِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مَا عمله غير ذَلِك الصاحب بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو كَانَ غير مَا نقُول لجَاز أَن يكون أنس وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ وَعبد الله بن أبي أوفى وَعبد الله بن بسر وَعبد الله بن الْحَارِث بن حزم وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِي الله عَنْهُم أفضل من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَأبي عُبَيْدَة وَزيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَعبد الله بن جحش وَسعد بن معَاذ وَعُثْمَان بن مَظْعُون وَسَائِر السَّابِقين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الْمُتَقَدِّمين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ لِأَن بعض أُولَئِكَ عبدُوا الله عز وَجل بعد موت أُولَئِكَ بَعضهم بعد موت بعض بتسعين عَاما فَمَا بَين ذَلِك إِلَى خمسين عَاما وَهَذَا مَالا يَقُوله أحد يعْتد بِهِ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا قَطعنَا على أَن من كَانَ من الصَّحَابَة حِين موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من آخر مِنْهُم فَإِن ذَلِك الْمَفْضُول لَا يلْحق دَرَجَة الْفَاضِل لَهُ حِينَئِذٍ أبدا وَإِن طَال عمر الْمَفْضُول وتعجل موت الْفَاضِل وَبِهَذَا أَيْضا لم نقطع على فضل أحد مِنْهُم رَضِي الله عَنْهُم حاشا من ورد فِيهِ النَّص من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن مَاتَ مِنْهُم فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل نقف فِي هَؤُلَاءِ على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذِهِ وُجُوه الْفَضَائِل بِالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يفضل ذُو عمل ذَا عمل فِيمَا سواهَا الْبَتَّةَ ثمَّ نتيجة هَذِه الْوُجُوه كلهَا وثمرتها ونتيجة فضل الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد دون عمل أَيْضا لَا ثَالِث لَهما الْبَتَّةَ أَحدهمَا إِيجَاب لاله تَعَالَى تَعْظِيم الْفَاضِل فِي الدُّنْيَا على الْمَفْضُول فَهَذَا الْوَجْه يشْتَرك فِيهِ كل فَاضل بِعَمَل أَو اخْتِصَاص مُجَرّد بِلَا عمل من عرض أَو جماد أَو حَيّ نَاطِق أَو غير نَاطِق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وَقد أمرنَا الله تَعَالَى بتعظيم الْكَعْبَة والمساجد وَيَوْم الْجُمُعَة والشهر الحارم وَشهر رَمَضَان وناقة صَالح وَإِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الله وَالْمَلَائِكَة والنبيين على جَمِيعهم صلوَات الله وَسَلَامه وَالصَّحَابَة أَكثر من تعظيمنا وتوقيرنا غير مَا ذكرنَا وَمن ذكرنَا من الْمَوَاضِع وَالْأَيَّام والنوق والأطفال وَالْكَلَام وَالنَّاس هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَهَذَا خَاصَّة كل فَاضل لَا يَخْلُو مِنْهَا فَاضل أصلا وَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا الْفَاضِل وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ إِيجَاب الله تَعَالَى لفاضل دَرَجَة فِي الْجنَّة أَعلَى من دَرَجَة الْمَفْضُول إِذْ لَا يجوز عِنْد أحد من خلق الله تَعَالَى أَن يَأْمر بإجلال الْمَفْضُول أَكثر من إجلال الْفَاضِل وَلَا أَن يكون الْمَفْضُول إِلَى دَرَجَة فِي الْجنَّة من الْفَاضِل وَلَو جَازَ ذَلِك لبطل معنى الْفضل جملَة ولكان لفظا لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا معنى تَحِيَّة وَهَذَا الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي هُوَ علو الدرجَة فِي الْجنَّة هُوَ خَاصَّة لكل فَاضل يعْمل فَقَط من الْمَلَائِكَة والأنس وَالْجِنّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكل مَا هُوَ مَأْمُور بتعظيمه فَاضل وكل فَاضل فمأمور بتعظيمه وَلَيْسَ الْإِحْسَان وَالْبر والتوقير والتذلل المفترض فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافرين من التَّعْظِيم فِي شَيْء فقد يحسن الْمَرْء إِلَى من لَا يعظم وَلَا يهبن كإحسان الْمَرْء إِلَى جَاره وَغُلَامه وأجيره وَلَا يكون ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يبر الْإِنْسَان جَاره وَالشَّيْخ من أكرته (1) وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يوفر الْإِنْسَان من يخَاف ضره وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يتذذلل الْإِنْسَان للمتسلط الظَّالِم وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَفرض على كل مُسلم الْبَرَاءَة من أَبَوَيْهِ الْكَافرين وعداوتهما فِي الله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} وَقَالَ عز وَجل {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برَاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} فقد صَحَّ بِيَقِين أَن مَا وَجب لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافرين من بر وإحسان وتذلل لَيْسَ هُوَ التَّعْظِيم الْوَاجِب لمن فَضله الله عز وَجل لِأَن التَّعْظِيم الْوَاجِب لمن فَضله الله عز وَجل هُوَ مَوَدَّة فِي الله ومحبة فِيهِ وَولَايَة لَهُ وَأما الْبر الْوَاجِب لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافرين والتذلل لَهما وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمَا فَكل ذَلِك مُرْتَبِط بالعداوة وَللَّه تَعَالَى وللبراءة مِنْهُ وَإِسْقَاط الْمَوَدَّة كَمَا قَالَه تَعَالَى فِي نَص الْقُرْآن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد يكون دُخُول الْجنَّة اخْتِصَاص مُجَردا دون عمل وَذَلِكَ للأطفال كَمَا ذكرنَا قبل فَإذْ قد صَحَّ مَا ذكرنَا قبل يَقِينا بِلَا خلاف من أحد فِي شَيْء مِنْهُ فبيقين نَدْرِي أَنه لَا تَعْظِيم يسْتَحقّهُ أحد من النَّاس فِي الدُّنْيَا بِإِيجَاب الله تَعَالَى علينا بعد التَّعْظِيم الْوَاجِب علينا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أوجب وَلَا أوكد مِمَّا ألزمناه الله تَعَالَى من التَّعْظِيم الْوَاجِب علينا لِنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول الله تَعَالَى {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} فَأوجب الله لَهُنَّ حكم الأمومة على كل مُسلم هَذَا سوى حق إعظامهن بالصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَهُنَّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن مَعَ ذَلِك حق الصُّحْبَة لَهُ كَسَائِر الصَّحَابَة إِلَّا أَن لَهُنَّ من الِاخْتِصَاص فِي الصُّحْبَة ووكيد الْمُلَازمَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام ولطيف الْمنزلَة عِنْده عَلَيْهِ السَّلَام والقرب مِنْهُ والحظوة لَدَيْهِ مَا لَيْسَ لأحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن أَعلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 دَرَجَة فِي الصُّحْبَة من جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ فضلهن سَائِر الصَّحَابَة بِحَق زَائِد وَهُوَ حق الأمومة الْوَاجِب لَهُنَّ كُلهنَّ بِنَصّ الْقُرْآن لَهُنَّ كُلهنَّ بِنَصّ الْقُرْآن فَوَجَدنَا الْحق الَّذِي بِهِ اسْتحق الصَّحَابَة الْفضل قد شاركنهم فِيهِ وفضلهم فِيهِ أَيْضا ثمَّ فضلنهم بِحَق زَائِد وَهُوَ حق الأمومة ثمَّ وجدناهن لَا عمل من الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة وَالصِّيَام وَالْحج وَحُضُور الْجِهَاد يسْبق فِيهِ صَاحب من الصَّحَابَة إِلَّا كَانَ فِيهِنَّ فقد كن يجهدن أَنْفسهنَّ فِي ضيق عيشهن على الكد فِي الْعَمَل بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْق ويشهدن الْجِهَاد مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي هَذَا كِفَايَة بَيِّنَة فِي أَنَّهُنَّ أفضل من كل صَاحب ثمَّ لَا شكّ عِنْد كل مُسلم وبشهادة نَص الْقُرْآن إِذْ لَا خَيره الله عز وَجل بَين الدُّنْيَا وَبَين الدَّار الْآخِرَة وَالله وَرَسُوله فاخترن الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّار الْآخِرَة فهن أَزوَاجه فِي الْآخِرَة بِيَقِين فَإِذا هن كَذَلِك مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا شكّ فِي دَرَجَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة فِي قصوره وعَلى سرره إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يُحَال بَينه وبينهن فِي الْجنَّة وَلَا أَن ينحط عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى دَرَجَة يسفل فِيهَا عَن أحد من الصَّحَابَة هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ مُسلم فَإِذا لَا شكّ فِي حصولهن على هَذِه الْمنزلَة فالبعض وَالْإِجْمَاع علمنَا أَنَّهُنَّ لم يؤتين ذَلِك اختصاصاً مُجَردا دون عمل بل باستحقاقهن لذَلِك باختيارهن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة إِذْ أمره الله عز وَجل أَن يُخَيِّرهُنَّ فاخترن الله عز وَجل وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أفضل النَّاس ثمَّ قد حصل لَهُنَّ أفضل الْأَعْمَال فِي جَمِيع الْوُجُوه السَّبْعَة الَّتِي قدمنَا آنِفا أَنه لَا يكون التَّفَاضُل إِلَّا بهَا فِي الْأَعْمَال خَاصَّة ثمَّ قد حصل لَهُنَّ على ذَلِك أوكد التَّعْظِيم فِي الدُّنْيَا ثمَّ قد حصل لَهُنَّ أرفع الدَّرَجَات فِي الْآخِرَة فَلَا وَجه من وُجُوه الْفضل إِلَّا ولهن فِيهِ أَعلَى الحظوظ كلهَا بِلَا شكّ ومارية أم إِبْرَاهِيم دَاخِلَة مَعَهُنَّ فِي ذَلِك لِأَنَّهَا مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة وَمَعَ ابْنهَا مِنْهُ بِلَا شكّ فَإذْ قد ثَبت كل ذَلِك على رغم الأبي فقد وَجب ضَرُورَة أَن يشْهد لَهُنَّ كُلهنَّ بأنهن أفضل من جَمِيع الْحلق كُلهنَّ بعد الْمَلَائِكَة والنبيين عَلَيْهِم السَّلَام وَكَيف ومعنا نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الطلمنكي ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مفرج ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب الرقى الصموت ثَنَا أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الزار ثَنَا أَحْمد بن عمر وَحدثنَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان التَّمِيمِي ثَنَا حميد الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك قَالَ قيل يَا رَسُول الله من أحب النَّاس إِلَيْك قَالَ عَائِشَة قَالَ من الرِّجَال قَالَ فأبوها حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف بن نامي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن فتح حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن قيس حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَشْقَر حَدثنَا أَحْمد بن عَليّ القلانسي ثَنَا مُسلم بن الْحجَّاج ثَنَا يحيى بن يحيى بن خَالِد بن عبد الله هُوَ الطلحان عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرو بن الْعَاصِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه إِلَى جَيش ذَات السلَاسِل قَالَ فَأَتَيْته فَقلت أَي النَّاس أحب إِلَيْك فَقَالَ عَائِشَة قلت من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا قلت ثمَّ من قَالَ عمر فعد رجَالًا فهذان عَدْلَانِ أنس وَعمر ويشهدان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ أَبوهَا وَقد قَالَ عز وَجل عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فصح أَن كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام أحب النَّاس إِلَيْهِ وَحي أوحاه الله تَعَالَى إِلَيْهِ ليَكُون كَذَلِك ويخبر بذلك لَا عَن هوى لَهُ وَمن ظن ذَلِك فقد كذب الله تَعَالَى لَكِن لاستحقاقها لذَلِك الْفضل فِي الدّين والتقديم فِيهِ على جَمِيع النَّاس الْمُوجب لِأَن يُحِبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من محبته لجَمِيع النَّاس فقد فَضلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَبِيهَا وعَلى عَمْرو وعَلى عَليّ وعَلى فَاطِمَة تَفْضِيلًا ظَاهرا بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل فَقل إِن إِبْرَاهِيم ابْن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم لكَونه مَعَ أَبِيه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة فِي دَرَجَة وَاحِدَة قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا اسْتحق تِلْكَ الْمنزلَة بِعَمَل كَانَ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِصَاص مُجَرّد وَإِنَّمَا تقع المفاضلة بَين الفاضلين إِذا كَانَ فضلهما وَاحِدًا من وَجه وَاحِد فتفاضلا فِيهِ وَأما إِن كَانَ الْفضل من المفاضلة بَين الفاضلين إِذا كَانَ فضلهما وَاحِدًا من وَجه وَاحِد فتفاضلا فِيهِ وَأما إِن كَانَ الْفضل من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ فَلَا سَبِيل إِلَى المفاضلة بَينهمَا لِأَن معنى قَول الْقَائِل أَي هذَيْن أفضل إِنَّمَا هُوَ أَي هذَيْن أَكثر أوصافاً فِي الْبَاب الَّذِي اشْتَركَا فِيهِ أَلا ترى أَنه لَا يُقَال أَيهمَا أفضل رَمَضَان أَو نَاقَة صَالح وَلَا أَيهمَا أفضل الْكَعْبَة أَو الصَّلَاة بل نقُول أَيهمَا أفضل مَكَّة أَو الْمَدِينَة وَأيهمَا أفضل رَمَضَان أَو ذُو الْحجَّة وَأيهمَا أفضل الزَّكَاة أم الصَّلَاة وَأيهمَا أفضل نَاقَة صَالح أَو نَاقَة غَيره من الْأَنْبِيَاء فقد صَحَّ أَن التَّفَاضُل إِنَّمَا يكون فِي وَجه اشْتِرَاك فِيهِ المسؤل عَنْهُمَا فَسبق أَحدهمَا فِيهِ فَاسْتحقَّ أَن يكون أفضل وَفضل إِبْرَاهِيم لَيْسَ على عمل أصلا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِصَاص مُجَرّد وإكرام لِأَبِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما نساؤه عَلَيْهِ السَّلَام فكونهن وَكَون سَائِر أَصْحَابه عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ جَزَاء لَهُنَّ وَلَهُم على أعمالهن وأعمالهم قَالَ الله بعد ذكر الصحا رَضِي الله عَنْهُم {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَقَالَ بعد ذكر الصَّحَابَة {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى مُخَاطبا لنسائه عَلَيْهِ السَّلَام {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَللَّه الْحَمد وَقَالَ تَعَالَى {وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى} فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف تَقولُونَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يدْخل الْجنَّة أحد بِعَمَلِهِ قيل وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل قُلْنَا نعم هَذَا حق مُوَافق للآيات الْمَذْكُورَة وَهَكَذَا نقُول أَنه لَو عمل الْإِنْسَان دهره كُله مَا اسْتحق على الله تَعَالَى شَيْئا لِأَنَّهُ لَا يجب على الله تَعَالَى شَيْء إِذْ لَا مُوجب للأشياء الْوَاجِبَة غَيره تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئ لكل مَا فِي الْعَالم والخالق لَهُ فلولا أَن الله تَعَالَى رحم عباده فَحكم بِأَن طاعتهم لَهُ يعطيهم بهَا الْجنَّة لما وَجب ذَلِك عَلَيْهِ فصح أَنه لَا يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ مُجَردا دون رَحْمَة الله تَعَالَى لَكِن يدخلهَا برحمة لله تَعَالَى الَّتِي جعل بهَا الْجنَّة جَزَاء على أَعْمَالهم الَّتِي أطاعوه بهَا مَا اتّفقت الْآيَات مَعَ هَذَا الحَدِيث وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا كُله فقد امْتنع يَقِينا أَن يجازى بالأفضل من كَانَ أنقص فضلا وَأَن يجارى بالأنقص من كَانَ أتم فضلا وَصَحَّ ضَرُورَة أَنه لَا يجزى أحد من أهل الْأَعْمَال فِي الْجنَّة إِلَّا بِمَ اسْتَحَقَّه برحمة الله تَعَالَى جَزَاء على عمله وَللَّه تَعَالَى أَن يتفضل على من شَاءَ بِمَا شَاءَ وَجَائِز أَن يقدم على ذَوي الْأَعْمَال الرفيعة قَالَ تَعَالَى {يخْتَص برحمته من يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} فَلَا يجوز خلاف هَذِه النُّصُوص لأحد لِأَن من خالفها كذب الْقُرْآن وَلَوْلَا هَذِه النُّصُوص لما أبعدنا أَن يعذب الله تَعَالَى على الطَّاعَة لَهُ وَأَن ينعم على مَعْصِيَته وَأَن يجازي الْأَفْضَل بالأنقص والأنقص بالأفضل لِأَن كل شَيْء ملكه وخلقه لَا مَالك لشَيْء سواهُ وَلَا معقب لحكمه وَلَا حق لأحد عَلَيْهِ لَكِن قد أمنا ذَلِك كُله بأخبار الله تَعَالَى أَنه لَا يجازي ذَا عمل إِلَّا بِعَمَلِهِ وَأَنه يتفضل على من يَشَاء فَلَزِمَ الْإِقْرَار بِكُل ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَلَو قَالَ قَائِل إِنَّمَا فضل فِي الْجنَّة وَأَعْلَى قدرا مَكَان إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مَكَان أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم قُلْنَا مَكَان إِبْرَاهِيم أَعلَى بِلَا شكّ وَلَكِن ذَلِك الْمَكَان اخْتِصَاص مُجَرّد لإِبْرَاهِيم الْمَذْكُور لم يسْتَحقّهُ بِعَمَل وَلَا اسْتحق أَيْضا أَن يقصر بِهِ عَنهُ ومواضيع هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين جَزَاء لَهُم على قدر فَضلهمْ وسوابقهم وَكَذَلِكَ نساؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكانهم جَزَاء لَهُنَّ على قدر فضلهن وسوابقهن فَلَا يُقَال إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من أبي بكر أَو عمر وَلَا يُقَال أَيْضا أَن أَبَا بكر وَعمر أفضل من إِبْرَاهِيم والمفاضلة وَاقعَة بَين الصَّحَابَة وَبَين نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن أَعْمَالهم وسوابقهم لَهَا مَرَاتِب متناسبة بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل أَنَّهُنَّ لَوْلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حصلن تِلْكَ الدرجَة وَإِنَّمَا تِلْكَ الدرجَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق نعم وَلَا شكّ أَيْضا فِي أَن جَمِيع الصَّحَابَة لَوْلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حصلوا على الدرج الَّتِي لَهُم فِيهَا فَإِنَّمَا هِيَ إِذْ على قَوْلكُم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قُلْتُمْ وَلَا فرق وَبَقِي الْفضل والتقدم لَهُنَّ كَمَا كَانَ فِي كل ذَلِك وَلَا فرق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما فضلهن على بَنَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبين بِنَصّ الْقُرْآن لَا شكّ فِيهِ قَالَ الله عز وَجل {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء أَن اتقيتن فَلَا تخضعن بالْقَوْل} فَهَذَا بَيَان قَاطع لَا يسع أحدا جَهله فَإِن عَارَضنَا معَارض يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير نسائها فَاطِمَة بنت مُحَمَّد قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان جلي لما قُلْنَا وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل خير النِّسَاء فَاطِمَة وَإِنَّمَا قَالَ خير نسائها فَخص وَلم يعم وتفضيل الله عز وَجل النِّسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النِّسَاء على عُمُوم وَلَا خُصُوص لَا يجوز أَن يَسْتَثْنِي مِنْهُ أحدا من اسْتثِْنَاء نَص آخر فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا فضل فَاطِمَة على نسَاء الْمُؤمنِينَ بعد نِسَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتفقت الْآيَة مَعَ الحَدِيث وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام فَهَذَا أَيْضا عُمُوم موفق الْآيَة وَوَجَب أَن يَسْتَثْنِي مَا خصّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله نسائها من هَذَا الْعُمُوم فصح أَن نِسَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَا خصّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله نسائها من هَذَا الْعُمُوم فصح أَن نِسَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَام افضل النِّسَاء جملَة حاشا اللواتي خصهن الله تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ كَأُمّ إِسْحَاق وَأم مُوسَى وَأم عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام وَقد نَص الله تَعَالَى على هَذَا بقوله الصَّادِق {يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسَاء الْعَالمين} وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء كل نَبِي مِنْهُم أفضل مِمَّن لَيْسَ نَبِي من سَائِر النَّاس وَمن خَالف هَذَا فقد كفر وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام فَاطِمَة أَنَّهَا سيدة نسَاء الْمُؤمنِينَ وَلم يدْخل نَفسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْجُمْلَة بل أخبر عَمَّن سواهُ وبرهان آخر وَهُوَ قَول الله تَعَالَى مُخَاطبا لَهُنَّ {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا فضل ظَاهر وَبَيَان لائح فِي أَنَّهُنَّ أفضل من جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وبهذه الْآيَة صِحَة متيقنة لَا يمتري فِيهَا مُسلم فَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَفَاطِمَة وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِذا عمل الْوَاحِد مِنْهُم عملا يسْتَحق عَلَيْهِ مِقْدَارًا مَا من الْأجر وعملت امْرَأَة من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل ذَلِك الْعَمَل بِعَيْنِه كَانَ لَهَا مثل ذَلِك الْمِقْدَار من الْأجر فَإِذا كَانَ نصيف الصحابى وَفَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُم بفي بِأَكْثَرَ من مثل جبل أحد ذَهَبا مِمَّن بعده كَانَ للْمَرْأَة من نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي نصيفها أَكثر من مَلِيء جبلين اثْنَيْنِ مثل جبل أحد ذَهَبا وَهَذِه فَضِيلَة لَيست لأحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا هن وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يوعك كوعك رجلَيْنِ من أَصْحَابه لِأَن لَهُ (1) على ذَلِك كفاين من الْأجر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَيْسَ بعد هَذَا بَيَان فِي فضلهن على كل أحد من الصَّحَابَة إِلَّا من أعمى الله قلبه من الْحق ونعوذ بِاللَّه من الخذلان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد اعْترض علينا بعض أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْمَكَان بقول الله تَعَالَى عَن أهل الْكتاب إِذا آمنُوا {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} قَالَ فَيلْزم أَنهم أفضل منا فَقلت لَهُ أَن هَذِه الْآيَة وَالْخَبَر الَّذِي فِيهِ ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ فَذكر مُؤمن أهل الْكتاب وَالْعَبْد الناصح مُعتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا فيهمَا بَيَان الْوَجْه الَّذِي أجروا بِهِ مرَّتَيْنِ وَهُوَ الْإِيمَان بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالنبي الأول الْمَبْعُوث بِالْكتاب الأول وَنحن نؤمن بِهَذَا كُله كَمَا آمنُوا فَنحْن شُرَكَاء ذَلِك الْمُؤمن مِنْهُم فِي ذَيْنك الإيمانين وَكَذَلِكَ العَبْد الناصح يُؤجر لطاعة سَيّده أجرا ولطاعة الله أجرا وَكَذَلِكَ مُعتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا يُؤجر على عتقه أجرا ثمَّ يَتَزَوَّجهَا يُؤجر على عُنُقه أجرا ثمَّ على نِكَاحه إِذا أَرَادَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى أجرا ثَانِيًا فصح يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ فِي خَاص من أَعْمَالهم لَا فِي جَمِيع أَعْمَالهم وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يمْنَع من أَن يُؤجر غَيرهم فِي غير هَذِه الْأَعْمَال أَكثر من أُجُورهم وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُضَاعف لهَؤُلَاء على مَا عمله أهل طبقتهم وَلَيْسَت المضاعفة لأجور نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَّتَيْنِ من هَذَا فِي ورد وَلَا صدر لِأَن المضاعفة لَهُنَّ إِنَّمَا هِيَ فِي كل عمل عملته بِنَصّ الْقُرْآن إِذْ يَقُول الْقُرْآن يَقُول الله تَعَالَى {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} فَكل عمل عمله صَاحب من الصَّحَابَة لَهُ فِيهِ أجر فَلِكُل امْرَأَة مِنْهُنَّ فِي مثل ذَلِك الْعَمَل أَجْرَانِ والمضاعفة لَهُنَّ إِنَّمَا تكون على مَا عمله طبقتهن من الصَّحَابَة وَقد علمنَا أَن بَين الصاحب وَعمل غير أعظم مِمَّا بَين أحد ذَهَبا وَنصف مد شعير فَيَقَع لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ مثلا ذَلِك مرَّتَيْنِ وَهَذَا لَا يخفى على ذِي حس سليم فبطأت الْمُعَارضَة الَّتِي ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا أَيْضا بعض النَّاس فِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ وَمن الرِّجَال أَبوهَا بِأَن قَالَ قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لأسامة بن زيد أَن أَبَاهُ كَانَ أحب النَّاس إِلَيّ وَأَن هَذَا أحب النَّاس إِلَيّ بعده وَصَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للْأَنْصَار أَنكُمْ أحب النَّاس إِلَيّ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما هَذَا اللَّفْظ الَّذِي فِي حَدِيث أُسَامَة بن زيد أَنه أحب النَّاس إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فقد رُوِيَ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه وَأما الَّذِي فِيهِ ذكر أُسَامَة وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّمَا رَوَاهُ عمر بن حَمْزَة عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه وَعمر وَحَمْزَة هَذَا ضَعِيف وَالصَّحِيح من هَذَا الْخَبَر هُوَ مَا رَوَاهُ عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَاد لَا مغمز فِيهِ فَذكر فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِعني ليزِيد بن حَارِثَة وأيم الله إِن كَانَ لخليق بالإمارة وَإِن كَانَ لمن أحب النَّاس إِلَيّ وَأَن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده وَهَذَا يقْضِي على حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه لِأَنَّهُ مُخْتَصر من حَدِيث عبد الله بن دِينَار وَبِهَذَا يَنْتَفِي التَّعَارُض بَين الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عمر وَعَن أنس وَعمر وَإِلَّا فَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَأما حَدِيث الْأَنْصَار فَرَوَوْه كَمَا ذكره هِشَام بن زيد عَن أنس وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وَسلم أَنه قَالَ أَنْتُم من أحب النَّاس إِلَيّ وَهُوَ حَدِيث وَاحِد وَزِيَادَة الْعدْل مَقْبُولَة فصح بِزِيَادَة من فِي الحَدِيث من طَرِيق الْعُدُول أَن الْأَنْصَار وزيدا وَأُسَامَة رَضِي الله عَنْهُم من جملَة قوم هم أحب النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا حق لَا يشك فِيهِ لأَنهم من أَصْحَابه وَأَصْحَابه أحب النَّاس إِلَيْهِ بِلَا شكّ وَلَيْسَ هَكَذَا جَوَابه فِي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذْ سُئِلَ فِي أحب النَّاس إِلَيْك فَقَالَ عَائِشَة فَقيل من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا لِأَن هَذَا قطع على بَيَان مَا سَأَلَ عَنهُ السَّائِل من معرفَة من الْمُنْفَرد الْبَائِن عَن النَّاس بمحبته عَلَيْهِ السَّلَام وَاعْترض علينا بعض الأشعرية بِأَن قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} فصح أَن محبته عَلَيْهِ السَّلَام لمن أحب لَيْسَ فضولا لِأَنَّهُ قد أحب عَمه وَهُوَ كَافِر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَقُلْنَا أَن هَذِه الْآيَة لَيست على مَا ظن وَإِنَّمَا مُرَاد الله تَعَالَى {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَي أَحييت هداه برهَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي من يَشَاء هداه وَفرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلينا أَن نحب الْهدى لكل كَافِر لَا أَن نحب الْكَافِر وَأَيْضًا فَلَو صَحَّ أَن معنى الْآيَة من أَحْبَبْت كَمَا ظن هَذَا الْمُعْتَرض لما كَانَ علينا بذلك حجَّة لِأَن هَذِه آيَة مَكِّيَّة نزلت فِي أبي طَالب ثمَّ أنزل الله تَعَالَى فِي الْمَدِينَة لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وباليوم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم وَأنزل الله تَعَالَى فِي الْمَدِينَة {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برَاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} وَإِن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب أَبَا طَالب فقد حرم الله تَعَالَى عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَنَهَاهُ عَن محبته وافترض عَلَيْهِ عداوته وبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن الْعَدَاوَة والمحبة لَا يَجْتَمِعَانِ أصلا والمودة هِيَ الْمحبَّة فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِلَا خلاف من أحد من أهل اللُّغَة فقد بَطل أَن يحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا غير مُؤمن وَمن قد صحت النُّصُوص وَالْإِجْمَاع على أَن محبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن أحب فَضِيلَة وَذَلِكَ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لعَلي لَأُعْطيَن الرابة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله فَإذْ لَا شكّ وَلَا خلاف فِي أَن محبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا قَالَ أهل الْجَهْل وَالْكذب فقد صَحَّ يَقِينا أَن كَانَ أتم حظاً فِي الْفَضِيلَة فَهُوَ فضل مِمَّن هُوَ أقل حظاً فِي تِلْكَ الْفَضِيلَة هَذَا شَيْء يعلم ضَرُورَة فَإِذا كَانَت عَائِشَة أتم حظاً فِي الْمحبَّة الَّتِي هِيَ أتم فَضِيلَة فَهِيَ أفضل مِمَّن حَظه فِي ذَلِك أقل من حظها وَلذَلِك لما قيل لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا ثمَّ عمر فَكَانَ ذَلِك مُوجبا لفضل أبي بكر ثمَّ عمر على سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَالْحكم بِالْبَاطِلِ لَا يجوز فِي أَن يكون يقدم أَبُو بكر ثمَّ عمر فِي الْفضل من أجل تقدمها فِي الْمحبَّة عَلَيْهِمَا وَمَا نعلم نصا فِي وجوب القَوْل بِتَقْدِيم أبي بكر ثمَّ عمر على سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا هَذَا الْخَبَر وَحده (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا ينْكح لَهُ من النِّسَاء فَذكر الْحسب وَالْمَال وَالْجمال وَالدّين وَنهي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كل ذَلِك بقوله فَعَلَيْك بِذَات الدّين تربت يداك فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون يحض على نِكَاح النِّسَاء واختيارهن للدّين فَقَط ثمَّ يكون هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام يُخَالف ذَلِك فيحب عَائِشَة لغير الدّين وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام لَا يحل لمُسلم أَن يظنّ فِي ذَلِك شَيْئا غير الْفضل عِنْد الله تَعَالَى فِي الدّين فوصف الرجل امْرَأَته للرِّجَال لَا يرضى بِهِ إِلَّا خسيس نذل سَاقِط وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 يحل لمن لَهُ أدنى مسكة من عقل أَن يمر هَذَا فِي باله عَن فَاضل من النَّاس فَكيف عَن الْمُقَدّس المطهر الْبَائِن فَضله على جَمِيع النَّاس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَوْلَا أَنه بلغنَا عَن بعض من تصدر لنشر الْعلم من زَمَاننَا وَهُوَ الْمُهلب بن أبي صفرَة التَّمِيمِي صَاحب عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْأَصِيل أَنه أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى الْقَبِيح وَصرح بِهِ مَا انْطلق لنا بِالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ لِسَان وَلَكِن الْمُنكر إِذا ظهر وَجب على الْمُسلمين تَغْيِيره فرضا على حسب طاقتهم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ عرض الْملك لَهَا رَضِي الله عَنهُ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل وِلَادَتهَا فِي سرعَة من حَرِير يَقُول لَهُ هَذِه زَوجتك فَيَقُول عَلَيْهِ السَّلَام إِن يكن من عِنْد الله يمضيه فَهَل بعد هَذَا فِي الْفضل غَايَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا مكي بن أبي طَالب الْمقري بِأَن قَالَ يلْزم على هَذَا أَن تكون امْرَأَة أبي بكر أفضل من عَليّ لِأَن امْرَأَة أبي بكر مَعَ أبي بكر فِي الْجنَّة فِي دَرَجَة وَاحِدَة وَهِي أَعلَى من دَرَجَة عَليّ فمنزلة امْرَأَة أبي برك أَعلَى من منزلَة عَليّ فَهِيَ أفضل من عَليّ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فأجبناه بِأَن قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن هَذَا الِاعْتِرَاض لَيْسَ بِشَيْء لوجوه أَحدهَا أَن مَا بَين دَرَجَة أبي بكر ودرجة عَليّ فِي الْفضل الْمُوجب لعلو دَرَجَته فِي الْجنَّة لعلو دَرَجَته فِي الْجنَّة على دَرَجَة عَليّ لَيست من التباين بِحَيْثُ مَا هُوَ بَين دَرَجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين دَرَجَة أبي بكر فِي الْفضل الْمُوجب لعلو دَرَجَته عَلَيْهِ السَّلَام على دَرَجَات سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بل قد أيقنا أَن دَرَجَة أقل رجل منا فِي الْفضل أقرب نِسْبَة من أَعلَى دَرَجَة لأعلى رجل من الصَّحَابَة من نِسْبَة دَرَجَة أفضل الصَّحَابَة إِلَى دَرَجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَيْضًا فَلَيْسَ بَين أبي بكر وَعلي فِي المباينة فِي الْفضل مَا يُوجب أَن تكون امْرَأَة أبي بكر التابعة لَهُ أفضل من عَليّ بل منَازِل الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين الَّذين أوذوا فِي سَبِيل الله عز وَجل مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ كَذَلِك أهل السوابق مشهداً مشهداً درجهم فِي الْفضل مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ منَازِل الْأَنْصَار الْأَوَّلين مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ كَذَلِك أهل السَّابِق بعد الْهِجْرَة مشهداً مشهداً درجهم مُتَقَارِبَة فِي الْفضل ثمَّ كَذَلِك من أسلم بعد الْفَتْح أَيْضا ويزداد الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْمُشْركين فِي الْمشَاهد جَزَاء على على ذَلِك فَنَقُول أَن امْرَأَة أبي برك الْمُسْتَحقَّة بعملها الْكَوْن مَعَه فِي دَرَجَته مثل أم رُومَان لسنا نَدْرِي أَهِي أفضل أم عَليّ لأَنا لَا نَص مَعنا فِي ذَلِك والتفضيل لَا يعرف إِلَّا بِنَصّ وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حيركم الْقرن الَّذِي بعثت فِيهِ قُم الَّذين يَلُونَهُمْ أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فجعلهم طَبَقَات فِي الْخَيْر وَالْفضل فَلَا شكّ هم كَذَلِك فِي الْجَزَاء فِي الْجنَّة وَإِلَّا فَكَانَ يكون الْفضل لَا معنى لَهُ وَقَالَ عز وَجل {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَأَيْضًا فلسنا نشك أَن الْمُهَاجِرَات الأوليات من نسَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يشاركن الصَّحَابَة فِي الْفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيرا من الرِّجَال وَفِي الرِّجَال من يفل كثيرا مِنْهُنَّ وَمَا ذكر الله تَعَالَى منزلَة من الْفضل إِلَّا وَقرن النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِيهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْمُسلمين والمسلمأت} الْآيَة حاشا الْجِهَاد فَإِنَّهُ فرض على الرِّجَال دون ولسنا ننكر أَن يكون لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ قُصُور ومنازل مُقَدّمَة على جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ يكون لمن لم تستأهل من نِسَائِهِ تِلْكَ الْمنزلَة فِي الْجنَّة دون منَازِل من هُوَ أفضل مِنْهُنَّ من الصَّحَابَة فقد نكح الصَّحَابَة رَضِي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 عَنْهُم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فَتكون تِلْكَ الْمنَازل زَائِدَة فِي فضل أَزوَاجهنَّ من الصَّحَابَة فينزلون إلَيْهِنَّ ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى منازلهن الْعَالِيَة بل قد صَحَّ هَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه قَالَ كلَاما مَعْنَاهُ وَأكْثر نَصه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام زعيم بَيت فِي ربض الْجنَّة فِي وسط الْجنَّة وَفِي أَعلَى الْجنَّة لمن فعل كَذَا أمرا وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصح نَص مَا قُلْنَا من أَن لمن دونه عَلَيْهِ السَّلَام منَازِل عالية وَآخر مسفلة عَن تِلْكَ الْمنَازل ينزلون إِلَيْهَا ثمَّ يصعدون إِلَى الأعالي وَهَذَا مبعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن جَمِيع نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لَهُنَّ حق الصُّحْبَة الَّتِي يشتركن فِيهَا جَمِيع الصَّحَابَة ويفضلنهم فِيهَا بِقرب الْخَاصَّة فَلَيْسَ فِي نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا وَاحِدَة يفضلها بالصحبة الَّتِي هِيَ فضيلتهم الَّتِي بهَا بانوا عَمَّن سواهُم فَقَط وَقد كفينا الْبَاب وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تَأَخّر بعض الصَّحَابَة عَن بَعضهم فِي بعض الْأَمَاكِن مَوْجُودَة وَإِن كَانَ ذَلِك الْمُتَأَخر فِي بعض الْأَمَاكِن مُتَقَدما فِي مَكَان آخر فقد علمنَا أَن بِلَالًا عذب فِي الله عز وَجل مَا لم يعذب عَليّ وَأَن عليا قَاتل مَا لم يُقَاتل بِلَال وَأَن عُثْمَان أنْفق مَا لم ينْفق بِلَال وَلَا عَليّ فَيكون الْمَفْضُول مِنْهُم فِي الْجُمْلَة مُتَقَدما للَّذي فَضله فِي بعض فضائله وَلَا سَبِيل أَن يُوجد هَذَا فِيمَا بَينهم وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يجوز أَن يتقدمه أحد من ولد آدم فِي شَيْء من الْفَضَائِل أَولهَا عَن آخرهَا وَلَا إِلَى أَن يلْحقهُ لَاحق فِي شَيْء من الْفَضَائِل من بني آدم فَلَا سَبِيل إِلَى ينسفل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى دَرَجَة يوازيها فِيهَا صَاحب من الصَّحَابَة فَكيف أَن يَعْلُو عَلَيْهِ الصاحب هَذَا أَمر تقشعر مِنْهُ جُلُود الْمُؤمنِينَ وَقد استعظم أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ أَن يسكن فِي غرفَة على بَيت يسكنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يظنّ بِأَن هَذَا يكون فِي دَار الْجَزَاء فَإِذا كَانَ العالي من الصَّحَابَة فِي أَكثر مَنَازِله ينسفل أَيْضا فِي بَعْضهَا عَن صَاحب آخر قد علاهُ فِي منَازِل أخر على قدر تفاضلهم فِي أَعْمَالهم كَمَا ذكرنَا آنِفا فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الصائمين يدعونَ من بَاب الريان وَأَن الْمُجَاهدين يدعونَ من بَاب الْجِهَاد وَأَن المتصدقين يدعونَ من بَاب الصَّدَقَة وَأَن أَبَا بكر يَرْجُو لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَدعِي من جَمِيع تِلْكَ الْأَبْوَاب وَقد يجوز أَن يفضل أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ غَيره من الصَّحَابَة فِي بعض تِلْكَ الْوُجُوه مِمَّا انْفَرد بِبَاب مِنْهَا وَلَا يجوز أَن يفضل أحد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء من أَبْوَاب الْبر فَبَطل هَذَا الِاعْتِرَاض جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَاعْترض أَيْضا علينا مكي بن أبي طَالب بِأَن قَالَ إِذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمن كل وَاحِد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَعلَى دَرَجَة فِي الْجنَّة من جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ نساؤه عَلَيْهِ السَّلَام مَعَه فِي دَرَجَته فِي الْجنَّة فدرجتهن فِيهَا أَعلَى من دَرَجَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمن درج سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فهن على هَذَا الحكم أفضل من مُوسَى وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فأجبناه بِأَن هَذَا الِاعْتِرَاض أَيْضا لَا يلْزمنَا وَللَّه الْحَمد لِأَن الْجنَّة دَار ملك وَطَاعَة وعلو منزلَة ورياسة وَاتِّبَاع من التَّابِع للمتبوع كَمَا قَالَ عز وَجل {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيماً وملكاً كَبِيرا} وَقَالَ تَعَالَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَكَانَ عِنْد الله وجيهاً} وَأخْبر عز وَجل عَن جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فقد علمنَا أَن ملك الدُّنْيَا غرور وَأَن ملك الْآخِرَة والحقيقة وَقد أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَعَ اتباعهم فالنبي مَعَه الْوَاحِد والاثنان وَالثَّلَاثَة والنفر وَالْجَمَاعَة فَأخْبر عز وَجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 أَن هُنَالك الْملك الْكَبِير وَالطَّاعَة والوجاهة والإتباع والإستثمار وَإِنَّمَا عرض الله تَعَالَى علينا فِي الدُّنْيَا من الْملك طرفا لنعلم بِهِ مِقْدَار الْملك الَّذِي فِي دَار الْجَزَاء كَمَا عرض علينا من اللَّذَّات وَالْحَرِير والديباج وَالْخمر وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والمسك والجواري والحلي وَأَعْلَمنَا أَن هَذَا كُله خَالِصَة لنا هُنَالك وكما صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر من يدْخل الْجنَّة يزكو على أعظم ملك عرفه فِي الدُّنْيَا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تَعَالَى مثل الدُّنْيَا عشر مَرَّات (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلَمَّا صَحَّ مَا ذكرنَا وَكَانَت الْمَلَائِكَة طبقَة وَاحِدَة إِلَّا أَنهم يتعاضلون فِيهَا وَكَانَت طبقَة الْمُرْسلين النَّبِيين طبقَة وَاحِدَة لنهما أَيْضا يتفاضلون فِيهَا وكل الصَّحَابَة طبقَة وَاحِدَة إِلَّا أَنهم يتفاضلون فِيهَا فَوَجَبَ بِلَا شكّ أَن لَا يكون اتِّبَاع الرُّسُل من النِّسَاء وَالْأَصْحَاب كالمتبوعين الَّذين هم الرُّسُل لِأَن بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن تَابع الْأَعْلَى لَيْسَ لاحقاً نَظِير متبوعه فَكيف أَن يكون أَعلَى مِنْهُ كَمَا أَن التابعيات من نسَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يلحقن نظراء أَزوَاجهنَّ من الصَّحَابَة إِذْ لَيْسَ هن مَعَهم فِي طبقَة وَإِنَّمَا ينظر بَين أهل كل طبقَة وَمن هُوَ فِي طبقته وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طبقَة وَاحِدَة مَعَ الصَّحَابَة فصح التَّفَاضُل بَينهم وَلَيْسَ وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَلَا مِنْهُم مَعَ الْأَنْبِيَاء فِي طبقَة فَلم يجز أَن ينظر بَينهم وَقد أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى لَيْلَة الْإِسْرَاء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء وبالضرورة نعلم أَن منزلَة النَّبِي الَّذِي هُوَ متبوع فِي سَمَاء الدُّنْيَا أمره هُنَاكَ مُطَاع أَعلَى من منزلَة التَّابِع فِي السَّمَاء السَّابِعَة للنَّبِي الَّذِي هُنَالك وَإِذ قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن كل نَبِي يَأْتِي مَعَ أمته فَنحْن مَعَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كل مَا ألزمناه مكي لَازِما لنا فَيلْزمهُ مثل ذَلِك فِينَا أَيْضا أَن نَكُون أفضل من الْأَنْبِيَاء وَهَذَا غير لَازم لما ذكرنَا من أَنه لَا ينظر فِي الْفضل إِلَّا بَين من كَانَ من أهل طبقَة وَاحِدَة فَمن كَانَ مِنْهُم أَعلَى منزلَة من الآخر كَانَ أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ وَلَيْسَ ذَلِك فِي الطباق الْمُخْتَلفَة أَلا ترى أَن كَون مَالك خَازِن النَّار فِي مَكَان غير مَكَان خَازِن الْجنَّة وَغير مَكَان جِبْرَائِيل لَا تحط دَرَجَته عَن دَرَجَة من فِي الْجنَّة من النَّاس الَّذين الْمَلَائِكَة جملَة أفضل مِنْهُم لِأَن مَالِكًا متبوع للنار ومقدم مُطَاع مفضل بذلك على التَّابِعين والخدمة فِي الْجنَّة بِلَا شكّ فَبَطل هَذَا الشّعب وَيجمع هَذَا الْجَواب بِاخْتِصَار وَهُوَ أَن الرؤساء والمتبوعين فِي كل طبقَة فِي الْجنَّة أَعلَى من التَّابِعين لَهُم وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه كلهم أَتبَاع لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء متبوعون فَإِنَّمَا ينظر بَين المتبوعين أَيهمْ أفضل وَينظر بَين الأتباع أَيهمْ أفضل وَيعلم الْفضل بعلو دَرَجَة كل فَاضل من دونه فِي الْفضل وَلَا يجوز أَن ينظر بَين الأتباع والمتبوعين لِأَن المتبوعين لَا يكونُونَ الْبَتَّةَ أحط دَرَجَة من التَّابِعين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف يَقُولُونَ فِي الْحور الْعين أهن أفضل من النَّاس وَمن الْأَنْبِيَاء كَمَا قُلْتُمْ فِي الْمَلَائِكَة فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْفضل لَا يعرف إِلَّا ببرهان مسموع من الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن أَو من كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم نجد الله تَعَالَى نَص على فضل الْحور الْعين كَمَا نَص على فضل الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا نَص على أَنَّهُنَّ مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أَزوَاجهنَّ فِي اللَّذَّات كلهَا وأنهن خُلِقْنَ ليلتذ بِهن الْمُؤْمِنُونَ فَإِذا الْأَمر هَكَذَا فَإِنَّمَا مَحل الْحور الْعين مَحل من هن لَهُ فَقَط إِن ذَلِك اخْتِصَاص لَهُنَّ بِلَا عمل وتكليف فهن خلاف الْمَلَائِكَة فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ الله تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمِمَّا يُؤَكد قَوْلنَا قَول الله تَعَالَى {أَن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون هم وأزواجهم فِي ظلال على الأرائك متكئون} وَهَذَا النَّص إِذْ قد صَحَّ فقد وَجب الْإِقْرَار بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 فَلَو عجزنا عَن تَفْضِيل بعض أَقسَام هَذِه الاعتراضات لما ألزمنا فِي ذَلِك نقصا إِذْ لَا يجوز الِاعْتِرَاض على هَذَا النَّص وَكلما صَحَّ بِيَقِين فَلَا يجوز أَن يُعَارض بِيَقِين آخر والبرهان لَا يُبطلهُ برهَان وَقد أوضحنا أَن الْجنَّة دَار جَزَاء على أَعمال الْمُكَلّفين فأعلاهم دَرَجَة أعلاهم فضلا وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلا دَرَجَة فِي الْجنَّة من جَمِيع الصَّحَابَة فهن أفضل مِنْهُنَّ فَمن أبي هَذَا فليخبرنا مَا معنى الْفضل عِنْده إِذْ لَا بُد أَن يكون لهَذِهِ الْكَلِمَة معنى فَإِن قَالَ لَا معنى لَهَا فقد كفانا مُؤْنَته وَإِن قَالَ لَهَا معنى سألناه مَا هُوَ فَإِنَّهُ لَا يجد غير مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَكيف وَقد أَتَيْنَا بتأييد الله عز وَجل لنا على كل مَا اعْترض علينا بِهِ فِي هَذَا الْبَاب ولاح وَجه فِي ذَلِك بَيْننَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واستدركنا بَيَانا زَائِدَة فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن فَاطِمَة سيدة نسَاء الْمُؤمنِينَ أَو نسَاء هَذِه الْأمة فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْوَاجِب مُرَاعَاة أَلْفَاظ الحَدِيث وإ نما ذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِي هَذَا الحَدِيث السِّيَادَة وَلم يذكر الْفضل وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث عَائِشَة الْفضل نصا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والسيادة غير الْفضل وَلَا شكّ أَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا سيدة نسَاء الْعَالمين بِوِلَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا فالسيادة من بَاب الشّرف لَا من بَاب الْفضل فَلَا تعَارض بَين الحَدِيث الْبَتَّةَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا هُوَ حجَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة كَانَ أَبُو بكر خير وَأفضل من مُعَاوِيَة وَكَانَ مُعَاوِيَة أسود من أبي بكر فَفرق ابْن عمر كَمَا ترى بَين السَّادة وَبَين الْفضل وَالْخَيْر وَقد علمنَا أَن الْفضل هُوَ الْخَيْر نَفسه لِأَن الشَّيْء إِذا كَانَ خيرا من شَيْء آخر فَهُوَ أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد قَالَ قَائِل مِمَّن يخالفنا فِي هَذَا قَالَ الله عز وَجل {وَلَيْسَ الذّكر كالانثى} فَقُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَأَنت إِذا عِنْد نَفسك أفضل من مَرْيَم وَعَائِشَة وَفَاطِمَة لِأَنَّك ذكر وَهَؤُلَاء أناث فَإِن قَالَ هَذَا الْحق بالنوكي وَكفر بِأَن سُئِلَ عَن معنى الْآيَة قيل لَهُ الْآيَة على ظَاهرهَا وَلَا شكّ فِي أَن الذّكر لَيْسَ كالأنثى لِأَنَّهُ لَو كَانَ كالأنثى وَالْأُنْثَى أَيْضا لَيست كالذكر لِأَن هَذِه أُنْثَى وَهَذَا ذكر وَلَيْسَ هَذَا من الْفضل فِي شَيْء الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ الْحمرَة غير الخضرة والخضرة لَيست كالحمرة وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الْفضل فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} قيل لَهُ إِنَّمَا هَذَا فِي حُقُوق الْأزْوَاج على الزَّوْجَات وَمن أَرَادَ حمل هَذِه الْآيَة على ظَاهرهَا لزمَه أَن يكون كل يَهُودِيّ وكل مَجُوسِيّ وكل فَاسق من الرِّجَال أفضل من أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق عَلَيْهِم السَّلَام وَمن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبنَاته وهذ 1 كفر مِمَّن قَالَه بِإِجْمَاع الْأمة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} إِنَّمَا لَك فِي تقصيرهن فِي الْأَغْلَب عَن المحاجة لقلَّة ذريتهن وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يحط من الْفضل عَن ذَوَات الْفضل مِنْهُنَّ فَإِن اعْترض معترض فَقَالَ الَّذِي أمرنَا بطاعتهم من خلفاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أفضل من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا خطأ من جِهَات إِحْدَاهَا أَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جملَة أولي الْأَمر منا الَّذين أمرنَا بطاعتهم فِيمَا بلغن إِلَيْنَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالأئمة من الصَّحَابَة سَوَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَلَا فرق وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْخلَافَة لَيست من قبل فضل الْوَاحِد فِي دينه فَقَط وَجَبت لمن وَجَبت لَهُ وَكَذَلِكَ الْإِمَارَة لِأَن الْإِمَارَة قد تجوز لمن غَيره أفضل مِنْهُ وَقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَأْمُور بِطَاعَة عَمْرو بن الْعَاصِ إِذْ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل فَبَطل أَن تكون الطَّاعَة إِنَّمَا تجب للأفضل فَالْأَفْضَل وَقد أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرو بن الْعَاصِ وخَالِد بن الْوَلِيد كثيرا وَلم يَأْمر أَبَا ذَر أفضل وَأَبُو ذَر أفضل خيرا مِنْهُمَا بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا وَجَبت طَاعَة الْخُلَفَاء من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي أموامر هم مذ ولوا لَا قبل ذَلِك وَلَا خلاف فِي أَن الْولَايَة لم تزدهم فضلا على مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا زادهم فضلا عدلهم فِي الْولَايَة لَا الْولَايَة نَفسهَا وعدلهم دَاخل فِي جملَة أَعْمَالهم الَّتِي يسْتَحقُّونَ وَالْفضل بهَا أَلا ترى أَن مُعَاوِيَة وَالْحسن إِذْ وليا كَانَت طاعتهما وَاجِبَة على سعد بن أبي وَقاص وَسعد أفضل مِنْهُمَا ببون بعيد جدا وَهِي حَيّ مَعَهُمَا مَأْمُور بطاعتهما وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جَابر وَأنس بن مَالك وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي وجوب طَاعَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَالَّذِي بَين جَابر وَأنس وَابْن عَمْرو بَين عبد الْملك فِي الْفضل كَالَّذي بَين النُّور والظلمة فَلَيْسَ فِي وجوب طَاعَة الْوُلَاة مَا يُوجب فضلا فِي الْجنَّة فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {وَالَّذين أمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ وَمَا التناهم من عَمَلهم من شَيْء كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} فبيان اعتراضه ظَاهر فِي آخر الْآيَة وَهُوَ أَن إِلْحَاق الذُّرِّيَّة بالأباء لَا يَقْتَضِي كَونهم مَعَهم فِي دَرَجَة وَلَا هَذَا مَفْهُوم من نَص الْآيَة بل إِنَّمَا فِيهَا إلحاقهم بهم فِيمَا ساورهم فِيهِ بِنَصّ الْآيَة ثمَّ بَين تَعَالَى ذَلِك وَلم يدعنا فِي شكّ بقوله {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} فصح أَن كل وَاحِد من الأباء وَالْأَبْنَاء يجازى حسب مَا كسب فَقَط وَلَيْسَ حكم الْأزْوَاج كَذَلِك بل أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فِي قصوره وعَلى سرره ملتذ بِهن ومعهن جَزَاء لَهُنَّ بِمَا عملن من الْخَبَر وبصبرهن واختبار الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّار الْآخِرَة وَهَذِه منزلَة لَا يحلهَا أحد بعد النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فهن أفضل من كل وَاحِد دون الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن شغب مشغب بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن حملت هَذَا الحَدِيث على ظَاهره فيلزمك أَن تَقول أَنَّك أتم عقلا وديناً من مَرْيَم وَأم مُوسَى وَأم إِسْحَاق وَمن عَائِشَة وَفَاطِمَة فَإِن تَمَادى على هَذَا سقط الْكَلَام مَعَه وَلم يبعد عَن الْكفْر وَإِن قَالَ لَا سقط اعتراضه وَاعْترض بِأَن من الرِّجَال من هُوَ أنقص دينا وعلاقلا من كثير من النِّسَاء فَإِن سَأَلَ عَن معنى هَذَا الحَدِيث قيل لَهُ قد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجه لَك النَّقْص وَهُوَ كَون شَهَادَة على الْمَرْأَة على النّصْف من شَهَادَة الرجل وَكَونهَا إِذا حَاضَت لَا تصلي وَلَا تَصُوم وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجب نُقْصَان الْفضل وَلَا نُقْصَان الدّين وَالْعقل فِي غير هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَقَط إِذْ بِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَن فِي النِّسَاء من هن أفضل من كثير من الرِّجَال وَأتم دينا وعقلاً غير الْوُجُوه الَّتِي ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا حَقًا فصح يَقِينا أَنه إِنَّمَا عبر عَلَيْهِ السَّلَام مَا قد بَينه فِي الحَدِيث نَفسه من الشَّهَادَة وَالْحيض فَقَط وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا ينقص الْفضل فقد علمنَا أَن أَبَا بكر وعلياً لَو شهدُوا فِي زنا لم يحكم بِشَهَادَتِهِم وَلَو شهد بِهِ أَرْبَعَة منا عدُول فِي الظَّاهِر حكم بِشَهَادَتِهِم وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب أننا أفضل من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وَكَذَلِكَ القَوْل فِي شَهَادَة النِّسَاء فَلَيْسَتْ الشَّهَادَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 من بَاب التَّفَاضُل فِي ورد وَلَا صدر لَكِن نقف فِيهَا عِنْدَمَا حَده النَّص فَقَط وَلَا شكّ عِنْد كل مُسلم فِي أَن صواحبه من نِسَائِهِ وَبنَاته عَلَيْهِم السَّلَام كخديجة وَعَائِشَة وَفَاطِمَة وَأم سَلمَة أفضل دينا ومنزلة عِنْد الله تَعَالَى من كل تَابع أَتَى بعدهن وَمن كل رجل يَأْتِي فِي هَذِه الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَبَطل الِاعْتِرَاض بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَصَحَّ أَنه على مَا فسرناه وبيناه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فَقَوْل الله تَعَالَى {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} مخرج لَهُنَّ عَن سَائِر النِّسَاء فِي كل مَا اعْترض بِهِ معترض مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَشبهه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن اعْترض معترض بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وَامْرَأَة فِرْعَوْن فَإِن هَذَا الْكَمَال إِنَّمَا هُوَ الرسَالَة والبوة الَّتِي انْفَرد بهَا الرِّجَال وشاركهم بعض النِّسَاء فِي النُّبُوَّة وَقد يتفاضلون أَيْضا فِيهَا فَيكون بعض الْأَنْبِيَاء أكمل بعض وَيكون بعض الرُّسُل أكمل من بعض قَالَ الله عز وَجل {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} فَإِنَّمَا ذكر فِي هَذَا الْخَبَر من بلغ غَايَة الْكَمَال فِي طبقته وَلم يتقدمه مِنْهُم أحد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن اعْترض معترض بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يفلح قوم أسندوا أَمرهم إِلَى امْرَأَة فَلَا حَاجَة لَهُ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ امْتنَاع الْولَايَة فِيهِنَّ بِمُوجب لَهُنَّ نقص الْفضل فقد علمنَا أَن ابْن مَسْعُود وبلالا وَزيد ابْن حَارِثَة رَضِي الله عَنْهُم لم يكن لَهُم حَظّ فِي الْخلَافَة وَلَيْسَ بِمُوجب أَن يكون الْحسن وَابْن الزبير وَمُعَاوِيَة أفضل مِنْهُم والخلافة جَائِزَة لهَؤُلَاء غير جَائِزَة لأولئك وَمِنْهُم فِي الْفضل مَا لَا يجهله الْمُسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما أفضل نِسَائِهِ فعائشة وَخَدِيجَة رَضِي الله عَنْهُمَا لعظم فضائلهما وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ وَأَن فَضلهَا على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام وَقد ذكر عَلَيْهِ السَّلَام خَدِيجَة بنت خويلد فَقَالَ أفضل نسائهما مَرْيَم بنت عمرَان وَأفضل نسائها خَدِيجَة بنت خويلد مَعَ سَابِقَة خَدِيجَة فِي الْإِسْلَام وثباتها رَضِي الله عَنْهَا ولأم سَلمَة وَسَوْدَة وَزَيْنَب بنت جحش وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة وَحَفْصَة سوابق فِي الْإِسْلَام عَظِيمَة وأحمال للمشقات فِي الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْهجْرَة والغربة عَن الوطن وَالدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَالْبَلَاء فِي الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولكهن بعد ذَلِك الْفضل الْمُبين رضوَان الله عَلَيْهِنَّ أَجْمَعِينَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مَسْأَلَة نقطع فِيهَا أننا الْمُحَقِّقُونَ عِنْد الله عز وَجل وَأَن من خَالَفنَا فِيهَا مخطيء عِنْد الله عز وَجل بِلَا شكّ وَلَيْسَت مِمَّا يسع الشَّك فِيهِ أصلا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن قَالَ قَائِل هَل قَالَ هَذَا أحكم قبلكُمْ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهل قَالَ غير هَذَا أحد قبل من يخالفنا الْآن وَقد علمنَا ضَرُورَة أَن لِنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزلَة من الْفضل بِلَا شكّ فَلَا بُد من الْبَحْث عَنْهَا فَلْيقل مخالفنا فِي أَي منزلَة نضعهن أبعد جَمِيع الصَّحَابَة كلهم فَهَذَا مَالا يَقُوله أحد أم بعد طَائِفَة مِنْهُم فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَى وجوده وَإِذ قد بَطل هَذَانِ الْقَوْلَانِ أَحدهمَا بِالْإِجْمَاع على أَنه بَاطِل وَالثَّانِي لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا برهَان فَلم يبْق إِلَّا قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْمُوفق للصَّوَاب بفضله ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين قد صَحَّ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ خطب النَّاس حِين ولي بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي وليتكُمْ وَلست بِخَيْرِكُمْ فقد صَحَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه أعلن بِحَضْرَة جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنه لَيْسَ بخيرهم وَلم يُنكر هَذَا القَوْل مِنْهُم أحد فَدلَّ على متابعتهم لَهُ وَلَا خلاف أَنه لَيْسَ فِي أحد من الْحَاضِرين لخطبته إِنْسَان يَقُول فِيهِ أحد من النَّاس أَنه خير من أبي بكر إِلَّا عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعمر وَأما جُمْهُور الْحَاضِرين من مخالفينا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أهل السّنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فَإِنَّهُم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن أَبَا بكر أفضل من عَليّ وَعمر وَابْن مَسْعُود وَخير مِنْهُم فصح أَنه لم يبْق إِلَّا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا قَالَ أَبُو بكر هَذَا تواضعاً قُلْنَا لَهُ هَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمُتَيَقن لِأَن الصّديق الَّذِي سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الِاسْم لَا يجوز أَن يكذب وحاشا لَهُ من ذَلِك وَلَا يَقُول إِلَّا الْحق والصدق فصح أَن الصَّحَابَة متفقون فِي الْأَغْلَب على تَصْدِيقه فِي ذَلِك فَإذْ ذَلِك كَذَلِك وَسقط بالبرهان الْوَاضِح أَن يكون أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خيرا من أبي بكر وَلم يبْق إِلَّا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونساؤه ووضح أننا لَو قُلْنَا إِنَّه إِجْمَاع من جُمْهُور الصَّحَابَة لم يبعد من الصدْق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأَيْضًا فَإِن يُوسُف ابْن عبد الله النمري حَدثنَا قَالَ حَدثنَا خلف بن قَاسم ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْكِنْدِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الْبَغْدَادِيّ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ ثَنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن دَاوُد الشاذ كوني قَالَ كَانَ عمار بن يَاسر وَالْحسن ابْن عَليّ يفضلان عَليّ بن أبي طَالب على أبي بكر الصّديق وَعمر حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الخوزي ثَنَا أَحْمد بن الْفضل الدينَوَرِي ثَنَا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن عَليّ بن أبي طَالب بعث عمار بن يَاسر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى الْكُوفَة إِذْ خرجت أم الْمُؤمنِينَ إِلَى الْبَصْرَة فَلَمَّا أتياها اجْتمع إِلَيْهِمَا النَّاس فِي الْمَسْجِد فخطبهم عمار وَذكر لَهُم خُرُوج عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ قَالَ لَهُم إِنِّي لملول لكم وَالله إِنِّي لَا أعلم أَنَّهَا زَوْجَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجنَّة كَمَا هِيَ زَوجته فِي الدُّنْيَا وَلَكِن الله ابتلاكم بهَا لتطيعوها أَو لتطيعوه فَقَالَ لَهُ مَسْرُوق أَو أَبُو الْأسود يَا أَبَا الْيَقظَان فَنحْن مَعَ من شهِدت لَهُ بِالْجنَّةِ دون من لم تشهد لَهُ فَسكت عمار وَقَالَ لَهُ الْحسن اعن نَفسك عَنَّا فَهَذَا عمار وَالْحسن وكل من حضر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ والكوفة يَوْمئِذٍ مملؤة مِنْهُم يسمعُونَ تَفْضِيل عَائِشَة على عَليّ وَهُوَ عِنْد عمار وَالْحسن أفضل من أبي بكر وَعمر فَلَا يُنكرُونَ ذَلِك وَلَا يعترضونه أحْوج مَا كَانُوا إِلَى إِنْكَاره فصح أَنهم متفقون على أَنَّهَا وأزواجه عَلَيْهِ السَّلَام أفضل من كل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمِمَّا يبين أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يقل وليتكُمْ وَلست بِخَيْرِكُمْ إِلَّا محقاً صَادِقا لَا تواضعاً يَقُول فِيهِ الْبَاطِل وحاشا لَهُ من ذَلِك مَا حدّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مفرج ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب الصموت الرفي أَنا أَحْمد بن عمر بن عبد الْخَالِق الْبر أَن ثَنَا عبد الْملك بن سعد ثَنَا عقبَة بن خَالِد ثَنَا شُعْبَة بن الْحجَّاج ثَنَا الحريري عَن أبي بصرة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَلَسْت أَحَق النَّاس بهَا أَو لست أول من أسلم أَلَسْت صَاحب كداء (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يذكر فَضَائِل نَفسه إِذا كَانَ صَادِقا فِيهَا فَلَو كَانَ أفضلهم لصرح بِهِ وَمَا كتمه وَقد نزهه الله تَعَالَى عَن الْكَذِب فصح قَوْلنَا نصا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ وَجب القَوْل فِيمَن هُوَ أفضل الصَّحَابَة بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فَلم نجد لمن فضل ابْن مَسْعُود أَو عمر أَو جَعْفَر بن أبي طَالب أَو أَبَا سَلمَة وَالثَّلَاثَة الأسهليين على جَمِيع الصَّحَابَة حجَّة يعْتَمد عَلَيْهَا وَوجدنَا من يُوقف لم يزدْ على أَنه لم يلح لَهُ الْبُرْهَان أَنهم أفضل وَلَو لَاحَ لَهُ لقَالَ بِهِ وَوجدنَا الْعدَد والمعارضة فِي الْقَائِلين بِأَن عليا أفضل أَكثر فَوَجَبَ أَن أَتَى بِمَا شغبوا بِهِ ليلوح الْحق فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وجدناهم يحتجون بِأَن عليا كَانَ أَكثر الصَّحَابَة جهاداً وطعناً فِي الْكفَّار وَضَربا وَالْجهَاد افضل الْأَعْمَال (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا خطأ لِأَن الْجِهَاد يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة أَحدهَا الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي الْجِهَاد عِنْد الْحَرْب بِالرَّأْيِ وَالتَّدْبِير وَالثَّالِث الْجِهَاد بِالْيَدِ فِي الطعْن وَالضَّرْب فَوَجَدنَا الْجِهَاد فِي اللِّسَان لَا يلْحق فِيهِ أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر وَعمر أما أَبُو بكر فَإِن أكَابِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَسْلمُوا على يَدَيْهِ فَهَذَا أفضل عمل وَلَيْسَ لعَلي من هَذَا كثير حَظّ وَأما عمر فَإِنَّهُ من يَوْم أسلم عز الْإِسْلَام وَعبد الله تَعَالَى بِمَكَّة جَهرا وجاهد الْمُشْركين بِمَكَّة بيدَيْهِ فَضرب وَضرب حَتَّى ملوه فَتَرَكُوهُ فعبد الله تَعَالَى عَلَانيَة وَهَذَا أعظم الْجِهَاد فقد انْفَرد هَذَانِ الرّجلَانِ بِهَذَيْنِ الجهادين الَّذين لَا نَظِير لَهما ولاحظ لعَلي فِي هَذَا أصلا وَبَقِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الرَّأْي والمشورة فوجدناه خَالِصا لأبي بكر ثمَّ لعَمْرو بَقِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فوجدناه أقل من مَرَاتِب الْجِهَاد ببرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا شكّ عِنْد كل مُسلم أَنه الْمَخْصُوص بِكُل فَضِيلَة فَوَجَدنَا جهاده عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ فِي أَكثر أَعماله وأحواله الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين من الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل وَالتَّدْبِير والإرادة وَكَانَ أقل عمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة لَا عَن جبن بل كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشْجَع أهل الأَرْض قاطبة نفسا ويداً وأتمهم نجدة وَلكنه كَانَ يُؤثر الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْأَفْعَال فَيقدمهُ عَلَيْهِ السَّلَام ويشتغل بِهِ ووجدناه عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر وَغَيره وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثاراً من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بذلك واستظهاراً بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنساً بمكانه ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضا وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة ثمَّ نَظرنَا مَعَ ذَلِك فِي هَذَا الْقسم من الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فَوَجَدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ لم ينْفَرد بالبسوق فِيهِ بل قد شَاركهُ فِي ذَلِك غَيره شركَة الْعَنَان كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد وَمِمَّنْ قتل فِي صدر الْإِسْلَام كحمزة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَمن الْأَنْصَار سعد بن معَاذ وَسماك بن خرسة وَغَيرهمَا وَوجدنَا أَبَا بكر وَعمر قد شاركاه فِي ذَلِك بحظ حسن وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموازنة فِي حِين الْحَرْب وَقد بعثهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليا وَقد بعث أَبَا بكر إِلَى بني فَزَارَة وَغَيرهم وَبعث عمر إِلَى بني فلَان وَمَا نعلم لعَلي بعثاً إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه وَقد بعث قبله أَبَا بكر وَعمر فَلم يفتحاه فَحصل أَربع أَنْوَاع الْجِهَاد لأبي بكر وَعمر وَقد شاركا عليا فِي أقل أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ جمَاعَة غَيرهم قل عمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة لَا عَن جبن بل كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشْجَع أهل الأَرْض قاطبة نفسا ويداً وأتمهم نجدة وَلكنه كَانَ يُؤثر الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْأَفْعَال فَيقدمهُ عَلَيْهِ السَّلَام ويشتغل بِهِ ووجدناه عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر وَغَيره وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنْهَا مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثاراً من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بذلك واستظهاراً بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنساً بمكانه ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضا وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة ثمَّ نَظرنَا مَعَ ذَلِك فِي هَذَا الْقسم من الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فَوَجَدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ لم ينْفَرد بالبسوق فِيهِ بل قد شَاركهُ فِي لَك غَيره شركَة الْعَنَان كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد وَمِمَّنْ قتل فِي صدر الْإِسْلَام كحمزة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَمن الْأَنْصَار سعد بن معَاذ وَسماك بن خرسة وَغَيرهمَا وَوجدنَا أَبَا برك وَعمر قد شاركاه فِي لَك بحظ حسن وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموازنة فِي حِين الْحَرْب وَقد بعثهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليا وَقد بعث أَبَا بكر إِلَى بني فَزَارَة وَغَيرهم وَبعث عمر إِلَى بني فلَان وَمَا نعلم لعَلي بعثاً إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه وَقد بعث قبله أَبَا بكر وَعمر فَلم يفتحاه فَحصل أَربع أَنْوَاع الْجِهَاد لأبي بكر وَعمر وَقد شاركا عليا فِي أقل أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ جمَاعَة غَيرهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أَيْضا من قَالَ بِأَن عليا كَانَ أَكْثَرهم علما قَالَ أَبُو مُحَمَّد كذب هَذَا الْقَائِل وَإِنَّمَا يعرف علم الصَّحَابِيّ لأحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أَحدهمَا كَثْرَة رِوَايَته وفتاويه وَالثَّانِي كَثْرَة اسْتِعْمَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فَمن الْمحَال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 الْبَاطِل أَن يسْتَعْمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَا علم لَهُ وَهَذِه أكبر شَهَادَات على الْعلم وسعته فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ولي أَبَا بكر الصَّلَاة بِحَضْرَتِهِ طول علته وَجَمِيع أكَابِر الصَّحَابَة حُضُور كعلي وَعمر وَابْن مَسْعُود وَأبي وَغَيرهم فآثره بذلك على جَمِيعهم وَهَذَا خلاف استخلافه عَلَيْهِ السَّلَام إِذا غزا لِأَن الْمُسْتَخْلف فِي الْغَزْوَة لم يتسخلف إِلَّا على النِّسَاء وَذَوي الْأَعْذَار فَقَط فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن نعلم أَن أَبَا بكر أعلم النَّاس بِالصَّلَاةِ وشرائعهما وَأعلم الْمَذْكُورين بهَا وَهِي عَمُود الدّين ووجدناه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَعْملهُ على الصَّدقَات فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن عِنْده من علم الصَّدقَات كَالَّذي عِنْد غَيره من عُلَمَاء الصَّحَابَة لَا أقل وَرُبمَا كَانَ أَكثر إِذْ قد اسْتعْمل عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا عَلَيْهَا غَيره وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يسْتَعْمل إِلَّا عَالما بِمَا اسْتَعْملهُ عَلَيْهِ وَالزَّكَاة ركن من أَرْكَان الدّين بعد الصَّلَاة وبرهان مَا قُلْنَا من تَمام علم أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بالصدقات أَن الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الزَّكَاة أَصَحهَا وَالَّذِي يلْزم الْعلم بِهِ وَلَا يجوز خِلَافه فَهُوَ حَدِيث أبي بكر ثمَّ الَّذِي من طَرِيق عمر وَأما من طَرِيق عَليّ فمضطرب وَفِيه مَا قد تَركه الْفُقَهَاء جملَة وَهُوَ أَن فِي خمس وَعشْرين من الْإِبِل خمس شِيَاه وَوجدنَا عَلَيْهِ السَّلَام قد اسْتعْمل أَبَا بكر على الْحَج فصح ضَرُورَة أَنه أعلم من جَمِيع الصَّحَابَة بِالْحَجِّ وَهَذِه دعائم الْإِسْلَام ثمَّ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد اسْتَعْملهُ على الْبعُوث فصح أَن عِنْده من أَحْكَام الْجِهَاد مثل مَا عِنْد سَائِر من اسْتَعْملهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث فِي الْجِهَاد إِذْ لَا يسْتَعْمل عَلَيْهِ السَّلَام على الْعَمَل إِلَّا عَالما بِهِ فَعِنْدَ أبي بكر من الْجِهَاد من الْعلم بِهِ كَالَّذي عِنْد عَليّ وَسَائِر أُمَرَاء الْبعُوث لَا أَكثر وَلَا أقل فَإذْ قد صَحَّ التَّقَدُّم لأبي بكر على عَليّ وَغَيره فِي علم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وساواه فِي علم الْجِهَاد فَهَذِهِ عُمْدَة الْعلم ثمَّ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد ألزم نَفسه فِي جُلُوسه ومرآته وظعنه وإقامته أَبَا بكر مشَاهد أَحْكَامه عَلَيْهِ السَّلَام وفتاويه أَكثر من مُشَاهدَة عَليّ لَهَا فصح ضَرُورَة أَنه أعلم بهَا فَهَل بقيت من الْعلم بَقِيَّة إِلَّا وَأَبُو بكر الْمُتَقَدّم فِيهَا الَّذِي لَا يلْحق أَو المشارك الَّذِي لَا يسْبق فبطلت دَعوَاهُم فِي الْعلم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما الرِّوَايَة وَالْفَتْوَى فَإِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يَعش بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا سنتَيْن وَسِتَّة أشهر وَلم يُفَارق الْمَدِينَة إِلَّا حَاجا أَو مُعْتَمِرًا وَلم يحْتَج النَّاس إِلَى مَا عِنْده من الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن كل من حواليه أدركوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى ذَلِك كُله فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا مستندة وَلم يرو عَن عَليّ إِلَّا خمس مائَة وست وَثَمَانُونَ حَدِيثا مُسندَة يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين وَقد عَاشَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزِيد من ثَلَاثِينَ سنة وَكثر لِقَاء النَّاس إِيَّاه وحاجتهم إِلَى مَا عِنْده لذهاب جُمْهُور الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَكثر سَماع أهل الأفاق مِنْهُ مرّة بصفين وأعواماً بِالْكُوفَةِ وَمرَّة بِالْبَصْرَةِ وَالْمَدينَة فَإِذا نسبنا مُدَّة أبي بكر من حَيَاته وأضفنا تقري (1) على الْبِلَاد بَلَدا بَلَدا وَكَثْرَة سَماع النَّاس مِنْهُ إِلَى لُزُوم أبي بكر موطنه وَأَنه لم تكْثر حَاجَة من حواليه إِلَى الرِّوَايَة عَنهُ ثمَّ نسبنا عدد حَدِيث من عدد حَدِيث وفتاوي من فتاوي علم كل ذِي حَظّ من الْعلم إِن الَّذِي كَانَ عِنْد أبي بكر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ مِنْهُ وبرهان على ذَلِك أَن من عمر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمرا قَلِيلا قل النَّقْل عَنْهُم وَمن طَال عمره مِنْهُم كثر النَّقْل عَنْهُم إِلَّا الْيَسِير من اكتفا بنيابة غَيره عَنهُ فِي تَعْلِيم النَّاس وَقد عَاشَ عَليّ بعد عمر بن الْخطاب سَبْعَة عشر عَاما غير أشهر ومسند عمر خَمْسمِائَة حَدِيث وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين كَالَّذي عَن عَليّ سَوَاء بِسَوَاء فَكل مَا زَاد حَدِيث عَليّ على حَدِيث عمر تِسْعَة وَأَرْبَعين حَدِيثا فِي هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة وَلم يزدْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيح إِلَّا حَدِيثا أَو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي عَليّ فِي أَبْوَاب الْفِقْه فَإِذا نسبنا مُدَّة من مُدَّة وضربنا فِي الْبِلَاد من ضرب فِيهَا وأضفنا حَدِيث إِلَى حَدِيث وفتاوي إِلَى فتاوي علم كل ذِي حس علما ضَرُورِيًّا أَن الَّذِي كَانَ عِنْد عمر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ من الْعلم ثمَّ وجدنَا الْأَمر كل مَا أَطَالَ كثرت الْحَاجة إِلَى الصَّحَابَة فِيمَا عِنْدهم من الْعلم فَوَجَدنَا حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ألفي مُسْند ومائتي مُسْند وَعشرَة مسانيد وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة خَمْسَة آلَاف مُسْند وثلاثمائة مُسْند وَأَرْبع وَسبعين مُسْندًا وَوجدنَا مُسْند ابْن عمر وَأنس قَرِيبا من مُسْند عَائِشَة لكل وَاحِد مِنْهُمَا وَوجدنَا مُسْند جَابر ابْن عبد الله وَعبد الله بَان عَبَّاس لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة وَوجدنَا لِابْنِ مَسْعُود ثَمَان ماية مُسْند ونيف وَلكُل من ذكرنَا حاشا أَبَا هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك من الفتاوي أَكثر من فتاوي عَليّ أَو نَحْوهَا فَبَطل قَول هَذِه الطَّائِفَة الوقاح الْجُهَّال فَإِن عاندنا معاند فِي هَذَا الْبَاب جَاهِل أَو قَلِيل الْحيَاء لَاحَ كذبه وجهله فَإنَّا غير مهتمين على حط أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم عَن مرتبته وَلَا على رفعته فَوق مرتبته لأننا لَو انحرفنا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من ذَلِك لذهبنا فِيهِ مَذْهَب الْخَوَارِج وَقد نزهنا الله عز وَجل عَن هَذَا الضلال فِي التعصب وَلَو غلونا فِيهِ لذهبنا فِيهِ مَذْهَب الشِّيعَة وَقد أعاذنا الله تَعَالَى من هَذَا الْإِفْك فِي التعصب فَصَارَ غَيرنَا من المنحرفين عَنهُ أَو الغالبين فِيهِ هم المتهمون فِيهِ إِمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ وَبعد هَذَا كُله لَيْسَ يقدر من ينتمي إِلَى الْإِسْلَام أَن يعاند فِي الِاسْتِدْلَال على كَثْرَة الْعلم بِاسْتِعْمَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمن اسْتَعْملهُ مِنْهُم على مَا اسْتَعْملهُ عَلَيْهِ من أُمُور الدّين فَإِن قَالُوا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتعْمل عليا على الْأَخْمَاس وعَلى القضاءء بِالْيَمِينِ قُلْنَا لَهُم نعم وَلَكِن مُشَاهدَة أبي بكر لَا قَضِيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقوى فِي الْعلم وَأثبت مِمَّا عِنْده على وَهُوَ بِالْيَمِينِ وَقد اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر على بعوث فِيهَا الْأَخْمَاس فقد سَاوَى علمه علم عَليّ فِي حكمهَا بِلَا شكّ إِذْ لَا يسْتَعْمل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا عَالما بِمَا يَسْتَعْمِلهُ عَلَيْهِ وَقد صَحَّ أَن أَبَا بكر وَعمر كَانَا يفتيان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام يعلم ذَلِك ومحال ذَلِك أَن يُبِيح لَهما ذَلِك إِلَّا وهما أعلم مِمَّن دونهمَا وَقد اسْتعْمل عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا على الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ عَليّ معَاذًا بن جبل وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فلعلي فِي هَذَا شُرَكَاء كثير مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر ثمَّ قد انْفَرد أَبُو بكر بالجمهور الْأَغْلَب من الْعلم على مَا كرنا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَن عليا كَانَ إقرا الصَّحَابَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه الْقِصَّة المتجردة والبهتان لوجوه أَولهَا أَنه رد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يؤم الْقَوْم أقرؤهم فَإِن اسْتَووا فاقههم فَإِن اسْتَووا فأقدمهم هِجْرَة ثمَّ وجدنَا عَلَيْهِ السَّلَام قد قدم أَبَا بكر على الصَّلَاة مُدَّة الْأَيَّام الَّتِي مرض فِيهَا وَعلي بالحضرة يرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غدْوَة وَعَشِيَّة فَمَا رأى لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام أحد أَحَق من أبي بكر بهَا فصح أَنه كَانَ أقرأهم وافقههم وأقدمهم هِجْرَة وَقد يكون من لم يجمع حفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 الْقُرْآن كُله على ظهر قلب أقرأن مِمَّن جمعه كُله عَن ظهر قلب فَيكون ألفظ بِهِ وَأَحْسَنهمْ ترتيلاً هَذَا على أَن أَبَا بكر وَعمر وَعلي لم يستكمل أحد مِنْهُم حَظّ سور الْقُرْآن كُله ظَاهرا إِلَّا أَنه قد وَجب يَقِينا بِتَقْدِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر على الصَّلَاة وَعلي حَاضر إِن أَبَا بكر أَقرَأ من عَليّ وَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقدم إِلَى الْإِمَامَة الْأَقَل علما بِالْقِرَاءَةِ على الأقرأ أَو الْأَقَل فقهاً على الأفقه فَبَطل أَيْضا شغبهم فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ قَائِلهمْ أَن عليا كَانَ أَتْقَاهُم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كذب هَذَا الأفاك وَلَقَد كَانَ على رَضِي الله عَنهُ تقيا إِلَّا أَن الْفَضَائِل يتفاضل فِيهَا أَهلهَا وَمَا كَانَ أَتْقَاهُم لله إِلَّا أَبُو بكر والبرهان على ذَلِك أَنه لم يسوء قطّ أَبُو بكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كلمة وَلَا خَالف إِرَادَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي شَيْء قطّ وَلَا تَأَخّر عَن تَصْدِيقه وَلَا تردد عَن الإتمار لَهُ يَوْم الْحُدَيْبِيَة إِذْ تردد من تردد وَقد تظلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر إِذْ أَرَادَ نِكَاح ابْنة أبي جهل بِمَا قد عرف وَمَا وجدنَا قطّ لأبي بكر توقفاً عَن شَيْء أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مرّة وَاحِدَة عذره فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَجَازَ لَهُ فعله وَهِي إِذا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبا فَوَجَدَهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر تَأَخّر فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أقِم مَكَانك فَحَمدَ الله تَعَالَى أَبُو بكر على ذَلِك ثمَّ تَأَخّر فَصَارَ فِي الصَّفّ وَتقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بِالنَّاسِ فَلَمَّا سلم قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مَنعك أَن تثبت حِين أَمرتك فَقَالَ أَبُو بكر مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يتَقَدَّم بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا غَايَة التَّعْظِيم وَالطَّاعَة والخضوع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أنكر عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك عَلَيْهِ وَإِذ قد صَحَّ بالبرهان الضَّرُورِيّ الَّذِي ذكرنَا أَن أَبَا بكر أعلم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد وَجب أَنه أخشاهم لله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} والتقي هُوَ الخشية لله عز وَجل وَقَالَ قَائِلُونَ عَليّ كَانَ أزهدهم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كذب هُوَ الْجَاهِل وبرهان ذَلِك أَن الزَّاهِد إِنَّمَا هُوَ عزوب (1) النَّفس عَن حب الصَّوْت وَعَن المَال وَعَن اللَّذَّات وَعَن الْميل إِلَى الْوَلَد والحاشية لَيْسَ الزَّاهِد معنى يَقع عَلَيْهِ اسْم الزّهْد إِلَّا هَذَا الْمَعْنى فَأَما عزوب النَّفس عَن المَال فقد علم كل من لَهُ أدنى بصر بِشَيْء من الْأَخْبَار الخالية أَن أَبَا بكر أسلم وَله مَال عَظِيم قيل أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم فأنفقها كلهَا فِي ذَات الله تَعَالَى وَأعْتق الْمُسْتَضْعَفِينَ من العبيد الْمُؤمنِينَ الْمُعَذَّبين فِي ذَات الله عز وَجل وَلم يعْتق عبيدا جلدا يمنعونه (2) لَكِن كل معذب ومعذبة فِي الله عز وَجل حَتَّى هَاجر مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق لأبي بكر من جَمِيع مَا لَهُ إِلَّا سِتَّة ألف دِرْهَم حملهَا كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق لِبَنِيهِ مِنْهَا دِرْهَم ثمَّ أنفقها كلهَا فِي سَبِيل الله عز وَجل حَتَّى لم يبْق لَهُ شَيْء سوى عباءة لَهُ قد خللها بِعُود إِذا نزل افترشها وَإِذا ركب لبسهَا إِذْ تمول غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَن جَمِيعهم واقتنوا الرباع (3) الواسعة والضياع الْعَظِيمَة من حلهَا وحقها إِلَّا أَن من آثر بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 سَبِيل الله عز وَجل أزهد مِمَّن أنفقت وَأمْسك ثمَّ ولي الْخلَافَة فَمَا اتخذ جَارِيَة وَلَا توسع فِي مَال وعد عِنْد مَوته وَمَا أنْفق على نَفسه وَولده من مَال الله عز وَجل الَّذِي لم يسْتَوْف مِنْهُ إِلَّا بعض حَقه وَأمر بصرفه إِلَى بَيت المَال من صلب مَاله الَّذِي حصله من شهامة الْمَغَازِي والمقاسم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا هُوَ الزّهْد فِي اللَّذَّات وَالْمَال الَّذِي لَا يدانيه فِيهِ أحد من الصَّحَابَة لَا عَليّ وَلَا غَيره إِلَّا أَن يكون أَبَا ذَر وَأَبا عُبَيْدَة من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فَإِنَّهُمَا جَريا على هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي فارقا عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتوسع من سواهُم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْمُبَاح الَّذِي أحله الله عز وَجل لَهُم إِلَّا من آثر سَبِيل الله على نَفسه أفضل وَلَوْلَا أَن أَبَا ذَر لم يكن لَهُ سَابِقَة غَيره لما تقدمه إِلَّا من كَانَ مثله فَهَذَا هُوَ الزّهْد فِي المَال وَاللَّذَّات وَلَقَد تَلا أَبَا بكر عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي هَذَا الزّهْد فَكَانَ فَوق عَليّ فِي ذَلِك يَعْنِي فِي إعراضه عَن المَال وَاللَّذَّات وَأما عَليّ رَضِي الله عَنهُ فتوسع فِي هَذَا الْبَاب من حلّه وَمَات عَن أَربع زَوْجَات وتسع عشرَة أم ولد سوى الخدم وَالْعَبِيد وَتُوفِّي عَن أَرْبَعَة وَعشْرين ولدا من ذكر وَأُنْثَى وَترك لَهُم من الْعقار والضياع هما مَا كَانُوا بِهِ من أَغْنِيَاء قَومهمْ ومياسيرهم هَذَا أَمر مَشْهُور لَا يقدر على إِنْكَاره من لَهُ أقل علم بالأخبار والْآثَار وَمن جملَة عقاره الَّتِي تصدق بهَا ضبعة كَانَت تغل ألف وسق تمر أسوى زَرعهَا فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا وَأما حب الْوَلَد والميل إِلَيْهِم وَإِلَى الْحَاشِيَة فَالْأَمْر فِي هَذَا أبين من أَن يخفى على أحد لَهُ أقل علم بالأخبار فقد كَانَ لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ من الْقَرَابَة وَالْولد مثل طَلْحَة بن عبيد الله من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين والسابقين من ذَوي الْفَضَائِل الْعَظِيمَة فِي كل بَاب من أَبْوَاب الْفضل فِي الْإِسْلَام وَمثل ابْنه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَله مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُحْبَة قديمَة وهجرة سَابِقَة وَفضل ظَاهر فَمَا اسْتعْمل أَبُو بكر رَضِي الله مِنْهُم أحدا على شَيْء من الْجِهَات وَهِي بِلَاد الْيمن كلهَا على سعتها وَكَثْرَة اسْتِعْمَالهَا وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطائف وَمَكَّة وخيبر وَسَائِر أَعمال الْحجاز وَلَو استعملهم لكانوا لذَلِك أَهلا وَلَكِن خشيء الْمُحَابَاة وتوقع أَن يميله إِلَيْهِم شَيْء من الْهوى ثمَّ جرى عمر على مجْرَاه فِي ذَلِك فَلم يسْتَعْمل من بني عدي بن كَعْب أحدا على سَعَة الْبِلَاد وَكَثْرَتهَا وَقد فتح الشَّام ومصر وَجَمِيع مملكة الْفرس إِلَى خُرَاسَان إِلَّا النُّعْمَان بن عدي وَحده على ميسَان ثمَّ أسْرع إِلَى عَزله وَفِيهِمْ من الْهِجْرَة مَا لَيْسَ فِي شَيْء من اتِّخَاذ قُرَيْش لِأَن بني عدي لم يبْق أحد مِنْهُم بِمَكَّة إِلَّا هَاجر وَكَانَ فيهم مثل سعيد بن زيد أحد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين ذَوي السوابق وَأبي الجهم ابْن حُذَيْفَة وخارجة بن حذافة وَمعمر بن عبد الله وَابْنه عبد الله بن عمر ثمَّ لم يسْتَخْلف أَبُو بكر ابْنه عبد الرَّحْمَن وَهُوَ صَاحب من الصَّحَابَة وَلَا اسْتعْمل عمر ابْنه عبد الله على الْخلَافَة وَهُوَ من فضلاء الصَّحَابَة وخيارهم وَقد رَضِي بِهِ النَّاس وَكَانَ لذَلِك أَهلا وَلَو اسْتَخْلَفَهُ لما اخْتلف عَلَيْهِ أحد فَمَا فعل وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ إِذا ولي قد اسْتعْمل أَقَاربه عبد الْملك بن عَبَّاس على الْبَصْرَة وَعبد الله بن عَبَّاس على الْيمن وخثعم ومعبدا ابْني الْعَبَّاس على مَكَّة وَالْمَدينَة وجعدة بن نميرة وَهُوَ ابْن أُخْته أم هَانِيء بنت أبي طَالب على خُرَاسَان وَمُحَمّد بن أبي بكر وَهُوَ ابْن امْرَأَة وأخو وَلَده على مصر وَرَضي ببيعة النَّاس الْحسن ابْنه بالخلافة ولسنا ننكر اسْتِحْقَاق الْحسن للخلافة وَلَا اسْتِحْقَاق عبد الله بن الْعَبَّاس للخلافة فَكيف أَمارَة الْبَصْرَة لَكنا نقُول أَن من زهد فِي الْخلَافَة لولد مثل عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَالنَّاس متفقون عَلَيْهِ وَفِي تأمير مثل طَلْحَة بن عبد الله وَسَعِيد بن زيد فَلَا شكّ فِي أَنه أتم زهدا وأعرب (1) عَن جَمِيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 مَعَاني الدُّنْيَا نفسا مِمَّن أَخذ مِنْهَا مَا أُبِيح لَهُ أَخذه فصح بالبرهان الضَّرُورِيّ أَن أَبَا بكر أوهد من جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ عمر بن الْخطاب بعده وَقَالَ هَذَا الْقَائِل وَكَانَ عَليّ أَكْثَرهم صَدَقَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ لم يحفظ لعَلي مُشَاركَة ظَاهِرَة بِالْمَالِ وَأما أَمر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي إِنْفَاق مَاله فِي سَبِيل الله عز وَجل فأشهر من أَن تخفى على الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَكيف على الْمُسلمين ثمَّ لعُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْمَعْنى من تجهيز جَيش الْعسرَة مَا لَيْسَ لغيره فصح أَن أَبَا بكر أعظم صَدَقَة وَأكْثر مُشَاركَة وغناء (2) فِي الْإِسْلَام بِمَالِه من عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقَالُوا عَليّ هُوَ السَّابِق إِلَى الْإِسْلَام وَلم يعبد قطّ وثنا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما السَّابِقَة فَلم يقل قطّ أحد يعْتد بِهِ أَن عليا مَاتَ وَله أَكثر من ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة وَمَات بِلَا شكّ سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة فصح أَنه كَانَ حِين هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة وَكَانَت مُدَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة فِي النُّبُوَّة ثَلَاث عشرَة سنة فَبعث عَلَيْهِ السَّلَام ولعلي عشرَة أَعْوَام فإسلام ابْن عشرَة أَعْوَام ودعاؤه إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ كتدريب الْمَرْء وَلَده الصَّغِير على الدّين لَا أَن عِنْده غناء وَلَا أَن عَلَيْهِ إِثْمًا إِن أَبى فَإِن أَخذ الْأَمر على قَول من قَالَ أَن عليا مَاتَ وَله ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة فَإِنَّهُ كَانَ إِذْ بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن خَمْسَة أَعْوَام وَكَانَ إِسْلَام ابي بكر بن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة وَهُوَ الْإِسْلَام الْمَأْمُور بِهِ من عِنْد الله عز وَجل وَأما من لم يبلغ الْحلم فَغير مُكَلّف وَلَا مُخَاطب فسابقة أبي بكر وَعمر بِلَا شكّ أسبق من سَابِقَة عَليّ وَأما عمر فَإِنَّهُ كَانَ إِسْلَامه تَأَخّر بعد الْبَعْث بِسِتَّة أَعْوَام فَإِن غنآءه كَانَ أَكثر من غنآء أَكثر من أسلم قبله وَلم يبلغ على حد التَّكْلِيف إِلَّا بعد أَعْوَام من مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد أَن أسلم كثير من الصَّحَابَة رجال وَنسَاء بعد أَن عذبُوا فِي الله تَعَالَى ولقوا فِيهِ الألاقي (3) وَأما كَونه لم يعبد وثناً فَنحْن وكل مَوْلُود فِي لإسلام لم يعبد قطّ وثناً وعمار والمقداد وسلمان وَأَبُو ذَر وَحَمْزَة وجعفر رَضِي الله عَنْهُم قد عبدُوا الْأَوْثَان أفترانا أفضل مِنْهُم من أجل ذَلِك معَاذ الله من هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَقُوله مُسلم فَبَطل أَن يكون هَذَا يُوجب لعَلي فضلا زَائِدا وَإِلَّا لكَانَتْ عَائِشَة سَابِقَة لعَلي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي هَذَا الْفضل لِأَنَّهَا كَانَت إِذْ هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنت ثَمَانِي سِنِين وَأشهر وَلم تولد إِلَّا بعد إِسْلَام أَبِيهَا بسنين وَعلي ولد وَأَبوهُ عَابِد وثن قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسنين وَعبد الله بن عمر أَيْضا أسلم أَبوهُ وَله أَربع سِنِين وَلم يعبد قطّ وثناً فَهُوَ شريك لعَلي فِي هَذِه الْفَضِيلَة وَقَالَ بَعضهم عَليّ كَانَ أسوسهم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا بَاطِل لَا خَفَاء بِهِ على مُؤمن وَلَا كَافِر فقد دري الْقَرِيب والبعيد والعالم وَالْجَاهِل وَالْمُؤمن وَالْكَافِر من سَائِر الْإِسْلَام إِذْ كفر من كفر من أهل الأَرْض بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذ عَن الْجَمِيع للبقية وَقبُول مَا دعت إِلَيْهِ الْعَرَب حاشا أَبَا بكر فَهَل ثَبت أحد ثبات أبي بكر على كلب الْعَدو وَشدَّة الْخَوْف حَتَّى دخلُوا فِي الْإِسْلَام أَفْوَاجًا كَمَا خَرجُوا مِنْهُ أَفْوَاجًا وأعطوا الزَّكَاة طائعين وكارهين وَلم تهله جموعهم وَلَا تضافرهم وَلَا قلَّة أهل الْإِسْلَام حَتَّى أنار الله الْإِسْلَام وأظهره ثمَّ هَل ناطح كسْرَى وَقَيْصَر على أسرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 ملكهَا حَتَّى أخضع حُدُود فَارس وَالروم وصرع جنودهم ونكس راياتهم وَظهر الْإِسْلَام فِي أقطار الأَرْض وذل الْكفْر وَأَهله وشبع جَائِع الْمُسلمين وَعز ذليلهم وَاسْتغْنى فقيرهم وصاروا إخْوَة لَا اخْتِلَاف بَينهم وقرؤا الْقُرْآن وتفقهوا فِي الدّين إِلَّا أَبُو بكر ثمَّ ثنى عمر ثمَّ ثنى عمر ثمَّ ثلث عُثْمَان ثمَّ لاقدر أَي النَّاس خلاف ذَلِك كُله وافتراق كلمة الْمُؤمنِينَ وَضرب الْمُسلمين بَعضهم وُجُوه بعض بِالسُّيُوفِ وَشَكتْ بَعضهم قُلُوب بعض بِالرِّمَاحِ وَقتل بَعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عَن أَن يفتح من بِلَاد الْكفْر قَرْيَة أَو يذعر لَهُم سرب أَو يُجَاهد مِنْهُم أحد حَتَّى ارتجع أهل الْكفْر كثيرا مِمَّا صَار بأيدي الْمُسلمين من بِلَادهمْ فَلم يجْتَمع الْمُسلمُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَأَيْنَ سياسة من سياسة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد بَطل كل مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال وَلم يحصلوا إِلَى على دعاوي ظَاهِرَة الْكَذِب لَا دَلِيل على صِحَة شَيْء مِنْهَا وَصَحَّ بالبرهان كَمَا أوردنا أَن أَبَا بكر هُوَ الَّذِي فَازَ بالقدح الْمُعَلَّى والمسبق المبرز والحظ الْأَسْنَى فِي الْعلم وَالْقُرْآن وَالْجهَاد والزهد وَالتَّقوى والخشية وَالصَّدَََقَة وَالْعِتْق والمشاركة وَالطَّاعَة والسياسة فَهَذِهِ وُجُوه الْفضل كلهَا فَهُوَ بِلَا شكّ أفضل من جَمِيع الصَّحَابَة كلهم بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلم يحْتَج عَلَيْهِم بالأحاديث لأَنهم لَا يصدقون أحاديثنا وَلَا نصدق أَحَادِيثهم إِنَّمَا اقتصرنا على الْبَرَاهِين الضرورية بِنَقْل الكواف فَإِن كَانَت الْإِمَامَة تسْتَحقّ بالتقدم فِي الْفضل فَأَبُو بكر أَحَق النَّاس بهَا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقِينا فَكيف وَالنَّص على خِلَافَته صَحِيح وَإِذ قد صحت إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فطاعته فرض فِي استخلافه عمر رَضِي الله عَنهُ فَوَجَبت إِمَامَة عمر فرضا بِمَا ذكرنَا وبإجماع أهل الْإِسْلَام عَلَيْهِمَا دون خلاف من أحد قطعا ثمَّ أَجمعت الْأمة كلهَا أَيْضا بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم على صِحَة إِمَامَة عُثْمَان والدينونة بهَا وَأما خلَافَة عَليّ فَحق لَا بِنَصّ وَلَا بِإِجْمَاع لَكِن ببرهان سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله فِي الْكَلَام فِي حروبه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن فَضَائِل أَبَا بكر الْمَشْهُورَة قَوْله عز وَجل {إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} فَهَذِهِ فَضِيلَة منقولة بِنَقْل الكافة لَا خلاف بَين أحد فِي أَنه أَبُو بكر فَأوجب الله تَعَالَى لَهُ فَضِيلَة الْمُشَاركَة فِي إِخْرَاجه مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَنه خصّه باسم الصُّحْبَة لَهُ وَبِأَنَّهُ ثَانِيه فِي الْغَار وَأعظم من ذَلِك كُله أَن الله مَعَهُمَا وَهَذَا مَا لَا يلْحقهُ فِيهِ أحد (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَاعْترضَ فِي هَذَا بعض أهل القحة فَقَالَ قد قَالَ الله عز وَجل {فَقَالَ لصَاحبه وَهُوَ يحاوره أَنا أَكثر مِنْك مَالا} قَالَ وَقد حزن أَبُو بكر فَنَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَلَو كَانَ حزنه رضَا لله عز وَجل لما نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة بِالْبَاطِلِ أما قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة لصَاحبه وَهُوَ يحاوره قد أخبر الله تَعَالَى بِأَن أَحدهمَا مُؤمن وَالْآخر كَافِر وبأنهما مُخْتَلِفَانِ فَإِنَّمَا سَمَّاهُ صَاحبه فِي المحاورة والمجالسة فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً} فَلم يَجعله أَخَاهُم فِي الدّين لَكِن فِي الدَّار وَالنّسب فَلَيْسَ هَكَذَا قَوْله تَعَالَى {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} بل جعله صَاحبه فِي الدّين وَالْهجْرَة وَفِي الْإِخْرَاج وَفِي الْغَار وَفِي نصْرَة الله لَهما أخافة الْكفَّار لَهما وَفِي كَونه تَعَالَى مَعَهُمَا فَهَذِهِ الصُّحْبَة غَايَة الْفضل وَتلك الْأُخْرَى غَايَة النَّقْص بِنَصّ الْقُرْآن وَأما حزن أبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قبل أَن ينهاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ غَايَة الرِّضَا لله لِأَنَّهُ كَانَ إشفاقاً على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك كَانَ الله مَعَه وَهُوَ تَعَالَى لَا يكون مَعَ العصاة بل عَلَيْهِم وَمَا حزن أَبُو بكر قطّ بعد أَن نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحزن ولكان ذَلِك على مُحَمَّد ومُوسَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَؤُلَاء الأرذال حَيَاء أَو علم لم يَأْتُوا بِمثل هَذَا إِذْ لَو كَانَ حزن أبي بكر عَيْبا عَلَيْهِ لَكَانَ عَيْبا لِأَن الله عز وَجل قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون} ثمَّ قَالَ تَعَالَى عَن السَّحَرَة أَنهم قَالُوا لمُوسَى {إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى قَالَ بل ألقوا فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى قُلْنَا لَا تخف أَنَّك أَنْت الْأَعْلَى} فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكليمه قد كَانَ أخبرهُ الله عز وَجل بِأَن فِرْعَوْن وملأه لَا يصلونَ إِلَيْهِ وَأَن مُوسَى وَمن اتبعهُ هُوَ الْغَالِب ثمَّ أوجس فِي نَفسه خيفة بعد ذَلِك إِذْ رأى أَمر السَّحَرَة حَتَّى أوحى الله عز وَجل إِلَيْهِ لَا تخف فَهَذَا أَمر أَشد من أَمر أبي بكر وَإِذا لزم مَا يَقُول هَؤُلَاءِ الْفُسَّاق أَبَا بكر وحاشا لله أَن يلْزمه من أَن حزنه لَو كَانَ لما نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزم أَشد مِنْهُ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن إيجاسه الخيفة فِي نَفسه لَو كَانَ رضَا لله تَعَالَى مَا نَهَاهُ الله تَعَالَى عَنهُ ومعاذ الله من هَذَا بل إيجاس مُوسَى الخيفة فِي نَفسه لم يكن إِلَّا نِسْيَان الْوَعْد الْمُتَقَدّم وحزن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ رضَا لله تَعَالَى قبل أَن ينْهَى عَنهُ وَلم يكن تقدم إِلَيْهِ نهي عَن الْحزن وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله عز وَجل قَالَ {وَمن كفر فَلَا يحزنك كفره} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تَكُ فِي ضيق} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يحزنك قَوْلهم أَن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} وَقَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك على آثَارهم إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث أسفا} ووجدناه عز وَجل قد قَالَ {قد نعلم أَنه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ} وَقَالَ أَيْضا فِي الْأَنْعَام فَهَذَا الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحزنهُ الَّذِي يَقُولُونَ وَنَهَاهُ الله عز وَجل عَن ذَلِك نصا فيلزمهم فِي حزن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نَهَاهُ الله تَعَالَى عَنهُ كَالَّذي أَرَادَ فِي حزن أبي بكر سَوَاء بِسَوَاء وَنعم إِن حزن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا كَانُوا يَقُولَن من الْكفْر كَانَ طَاعَة لله تَعَالَى قبل أَن ينهاه الله عز وَجل وَمَا حزن عَلَيْهِ السَّلَام بعد أَن نَهَاهُ ربه تَعَالَى عَن الْحزن كَمَا كَانَ حزن أبي بكر طَاعَة لله عز وَجل قبل أَن ينهاه الله عز وَجل عَن الْحزن وَمَا حزن أَبُو بكر قطّ بعد أَن نَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْحزن فَكيف وَقد يُمكن أَن يكون أَبُو بكر لم يحزن يَوْمئِذٍ لَكِن نَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَن أَن يكون مِنْهُ حزن كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفوراً} فَنَهَاهُ عَن أَن يطيعهم وَلم تكن مِنْهُ طَاعَة لَهُم وَهَذَا إِنَّمَا يعْتَرض بِهِ أهل الْجَهْل والسخافة ونعوذ بِاللَّه من الضلال (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا بعض الْجُهَّال ببعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب خلف أبي بكر رَضِي الله عَنهُ عَنْهُمَا فِي الْحجَّة الَّتِي حَجهَا أَبُو بكر وَأخذ برآءة من أبي بكر وَتَوَلَّى عَليّ تبليغها إِلَى أهل الْمَوْسِم وقرائتها عَلَيْهِم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا من أعظم فَضَائِل أبي بكر لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرا على عَليّ بن أبي طَالب وَغَيره من أهل الْمَوْسِم لَا يدْفَعُونَ إِلَّا بِدَفْعِهِ وَلَا يقفون إِلَّا بوقوفه وَلَا يصلونَ إِلَّا بِصَلَاتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وينصتون إِذا خطب وَعلي فِي الْجُمْلَة كَذَلِك وَسورَة برآءة وَقع فِيهَا فضل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَذكره فِي أَمر الْغَار وَخُرُوجه مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَون الله تَعَالَى مَعهَا فقراءة عَليّ لَهَا أبلغ فِي إعلان فضل أبي بكر على عَليّ وعَلى وسواه وَحجَّة لأبي بكر قَاطِعَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) إِلَّا أَن ترجع الروافض إِلَى إِنْكَار الْقُرْآن وَالنَّقْص مِنْهُ وَالزِّيَادَة فِيهِ فَهَذَا أَمر يظْهر فِيهِ قحتهم وجهلهم وسخفهم إِلَى كل عَالم وجاهل فَإِنَّهُ لَا يمتري كَافِر وَلَا مُؤمن فِي أَن هَذَا الَّذِي بَين اللَّوْحَيْنِ من الْكتاب هُوَ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرنَا بِأَنَّهُ أوحاه لله تَعَالَى إِلَيْهِ فَمن تعرض هَذَا فقد أقرّ بِعَين عدوه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا يعْتَرض إِمَامَة أبي بكر إِلَّا زار (1) عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم راد لأَمره فِي تَقْدِيمه أَبَا بكر إِلَى الصَّلَاة بِأَهْل الْإِسْلَام مُرِيد لإزالته عَن مقَام أَقَامَهُ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ولسنا من كذبهمْ فِي تأويلهم {ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا ويتيماً وأسيراً} وَإِن المُرَاد بذلك عَليّ رَضِي الله عَنهُ بل هَذَا لَا يَصح لِأَن الْآيَة على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا ذكرنَا فضل أبي بكر على جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبراهين الْمَذْكُورَة وَأما الْأَحَادِيث فِي ذَلِك فكثيرة كَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أبي بكر دعوا لي صَاحِبي فَإِن النَّاس قَالُوا كذبت وَقَالَ أَبُو بكر صدقت وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كنت متخذاً خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن أخي وصاحبي وَهَذَا الَّذِي لَا يَصح غَيره وَأما أخوة عَليّ فَلَا تصح إِلَّا مَعَ سهل بن حنيف وَمِنْهَا أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسد كل بَاب وخوخة فِي الْمَسْجِد حاشا خوخة أبي بكر وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَصح غَيره وَمِنْهَا غَضَبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على من خَارج أَبَا بكر وعَلى من أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْر أبي بكر للصَّلَاة وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَمن النَّاس عَليّ عَليّ فِي مَاله أَبُو بكر وعمدتنا فِي تَفْضِيل أبي بكر ثمَّ عمر على جَمِيع الصَّحَابَة بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سُئِلَ من أحب النَّاس إِلَيْك يَا رَسُول الله قَالَ عَائِشَة قيل فَمن الرِّجَال قَالَ أَبوهَا قيل ثمَّ من يَا رَسُول الله قَالَ عمر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فقطعنا بِهَذَا ثمَّ وقفنا وَلَو زادنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا لزدنا لَكنا لَا نقُول فِي شَيْء من الدّين إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّص (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاخْتلف النَّاس فِيمَن أفضل أعثمان أم عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالَّذِي يَقع فِي نفوسنا دون أَن نقطع بِهِ وَلَا نخطيء من خَالَفنَا فِي ذَلِك فَهُوَ أَن عُثْمَان أفضل من عَليّ وَالله أعلم لِأَن فضائلهما تتقاوم فِي الْأَكْثَر فَكَانَ عُثْمَان أَقرَأ وَكَانَ عَليّ أَكثر فتيا وَرِوَايَة ولعلي أَيْضا حَظّ قوي فِي الْقِرَاءَة ولعثمان أَيْضا حَظّ قوي فِي الْفتيا وَالرِّوَايَة ولعلي مقامات عَظِيمَة فِي الْجِهَاد بِنَفسِهِ ولعثمان مثل ذَلِك بِمَالِه ثمَّ انْفَرد عُثْمَان بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَايع ليساره المقدسة عَن يَمِين عُثْمَان فِي بيعَة الرضْوَان وَله هجرتان وسابقة قديمَة وصهر مكرم مَحْمُود وَلم يحضر بَدْرًا فألحقه الله عز وَجل فِيهِ بأجره التَّام وسهمه فألحقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 بِمن حضرها فَهُوَ مَعْدُود فيهم ثمَّ كَانَت لَهُ فتوحات فِي الْإِسْلَام عَظِيمَة لم تكن لعَلي وسيرة فِي الْإِسْلَام هادية وَلم يتسبب بسفك دم مُسلم وَجَاءَت فِيهِ آثَار صِحَاح وَأَن الْمَلَائِكَة تَسْتَحي مِنْهُ وَأَنه وَمن أتبعه على الْحق وَالَّذِي صَحَّ من فَضَائِل عَليّ فَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله وَهَذِه صفة وَاجِبَة لكل مُؤمن وفاضل وَعَهده عَليّ السَّلَام أَن عليا لَا يُحِبهُ إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضه إِلَّا مُنَافِق وَقد صَحَّ مثل هَذِه فِي الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم أَنه لَا يبغضهم من مُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر وَأما من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فَلَا يَصح من طَرِيق الثِّقَات أصلا وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي تتَعَلَّق بهَا الرافضة فموضوعة يعرف ذَلِك من لَهُ أدنى علم بالأخبار ونقلتها (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ونقول بِفضل الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين بعد عمر بن الْخطاب قطعا إِلَّا أننا لَا نقطع بِفضل أحد مِنْهُم على صَاحبه كعثمان بن عَفَّان وَعُثْمَان بن مظغون وَعلي وجعفر وَحَمْزَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمصْعَب بن عُمَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الله بن مَسْعُود وَسعد وَزيد بن حَارِثَة وَأبي عُبَيْدَة وبلال وَسَعِيد بن زيد وعمار بن يَاسر وَأبي سَلمَة وَعبد الله بن جحش وَغَيرهم من نظرائهم ثمَّ بعد هَؤُلَاءِ أهل الْعقبَة ثمَّ أهل بدر ثمَّ أهل الْمشَاهد كلهَا مشهداً مشهداً فَأهل كل مشْهد أفضل من أهل المشهد الَّذِي بعده حَتَّى بلغ الْأَمر إِلَى الْحُدَيْبِيَة فَكل من تقدم ذكره من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم إِلَى تَمام بيعَة الرضْوَان فإننا نقطع على غيب قُلُوبهم وَأَنَّهُمْ كلهم مُؤمنُونَ صَالِحُونَ مَاتُوا على الْإِيمَان وَالْهدى وَالْبر كلهم من أهل الْجنَّة لَا يلج أحد مِنْهُم النَّار الْبَتَّةَ لقَوْل الله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم} وَكَقَوْلِه عز وَجل {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَمن أخبرنَا الله عز وَجل أَنه علم مَا فِي قُلُوبهم رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل السكينَة عَلَيْهِم فَلَا يحل لأحد التَّوَقُّف فِي أَمرهم وَلَا الشَّك فيهم الْبَتَّةَ وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل النَّار أحد بَايع تَحت الشَّجَرَة إِلَّا صَاحب الْجمل الْأَحْمَر ولإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَا يدْخل النَّار أحد شهد بَدْرًا ثمَّ تقطع على أَن كل من صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنية صَادِقَة وَلَو سَاعَة فَإِنَّهُ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار لتعذيب إِلَّا أَنهم لَا يلحقون بِمن أسلم قبل الْفَتْح وَذَلِكَ لقَوْل الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} وَقَالَ تَعَالَى {وعد الله لَا يخلف الله وعده} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا وهم فِي مَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر وتتلقاهم الْمَلَائِكَة هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون} فصح بِالضَّرُورَةِ أَن كل اتّفق قبل الْفَتْح وَقَاتل فَهُوَ مَقْطُوع على غيبه لتفضيل الله تَعَالَى إيَّاهُم وَالله تَعَالَى لَا يفضل إِلَّا مُؤمنا فَاضلا وَأما من أتفق بعد الْفَتْح وَقَاتل فقد كَانَ فيهم مُنَافِقُونَ لم يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف نَحن قَالَ تَعَالَى {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلهَذَا لم نقطع على كل امريء مِنْهُم بِعَيْنِه لَكِن نقُول كل من لم يكن منههم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 من الْمُنَافِقين فَهُوَ من أهل الْجنَّة يَقِينا لِأَنَّهُ قد وعدهم الله تَعَالَى الْحسنى كلهم وَأخْبر أَنه لَا يخلف وعده وَإِن من سبقت لَهُ الْحسنى فَهُوَ مبعد من النَّار لَا يسمع حَسِيسهَا وَلَا يحزنهُ الْفَزع الْأَكْبَر وَهُوَ فِيمَا اشْتهى خَالِد وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لقد خَابَ وخسر من رد قَول ربه عز وَجل أَنه رَضِي عَن الْمُبَايِعين تَحت الشَّجَرَة وَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَقد علم كل أحد لَهُ أدنى علم أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وعمار والمغيرة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنْهُم من أهل هَذِه الصّفة والخوارج وَالرَّوَافِض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البريئة مِنْهُم خلافًا لله عز وَجل وعناداً لَهُ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا قَوْلنَا فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَأَما التابعون وَمن بعدهمْ فَلَا نقطع على غيبهم وَاحِدًا وَاحِدًا الْأَمر بَان مِنْهُ احْتِمَال الْمَشَقَّة فِي الصَّبْر للدّين ورفض الدُّنْيَا لغير غَرَض استعجله إِلَّا أننا لَا نَدْرِي على مَاذَا مَاتَ وَإِن بلغنَا الْغَايَة فِي تعظيمهم وتوقيرهم وَالدُّعَاء بالمغفرة وَالرَّحْمَة والرضوان لَهُم لَكِن نتولاهم جملَة قطعا ونتولى كل إِنْسَان مِنْهُم بِظَاهِرِهِ وَلَا نقطع على أحد مِنْهُم بجنة وَلَا نَار لَكِن نرجو لَهُم ونخاف عَلَيْهِم إِذْ لَا نَص فِي إِنْسَان مِنْهُم بِعَيْنِه وَلَا يحل الْإِخْبَار عَن الله عز وَجل إِلَّا بِنَصّ من عِنْده لَكِن نقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيركُمْ الْقرن الَّذِي بعثت فيهم ثمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ وَمعنى هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ كل قرن من هَذِه الْقُرُون الَّتِي ذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر فضلا بِالْجُمْلَةِ من الْقرن الَّذِي بعده لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ وبرهان ذَلِك أَن قد كَانَ فِي عصر التَّابِعين من هُوَ أفسق الْفَاسِقين كمسلم بن عقبَة المري وحبيش بن دلحة القبني وَالْحجاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ وقتلة عُثْمَان وقتلة ابْن الزبير وقتلة الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَلعن قَتلتهمْ وَمن بَعثهمْ فَمن خَالف قَوْلنَا فِي هَذَا الْخَبَر لزمَه أَن يَقُول أَن هَؤُلَاءِ الْفُسَّاق الأخابث أفضل من كل فَاضل فِي الْقرن الثَّالِث وَمن بعده كسفيان الثَّوْريّ والفضيل بن عِيَاض ومسعر بن كدام وَشعْبَة وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وسُفْيَان بن عُيَيْنَة ووكيع وَابْن مبارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَدَاوُد بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا مَا لَا يَقُوله أحد وَمَا يبعد أَن يكون فِي زَمَاننَا وفيمن يَأْتِي بَعدنَا من هُوَ أفضل رجل من التَّابِعين عِنْد الله عز وَجل إِذْ لم يَأْتِ فِي الْمَنْع من ذَلِك نَص وَلَا دَلِيل أصلا والْحَدِيث الْمَأْثُور فِي أويس الفرني لَا يَصح لِأَن مَدَاره على اسيد بن جَابر وَلَيْسَ بالقوى وَقد ذكر شُعْبَة أَنه سَأَلَ عَمْرو بن مرّة وَهُوَ كُوفِي قَرْني مرادي من أشرف مرَادا وأعلمهم عَن اويس الْقَرنِي فَلم يعرفهُ فِي قومه وَأما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فبخلاف هَذَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يلْحق أقلهم دَرَجَة أحد من أهل الأَرْض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذهب بعض الروافض إِلَى أَن لِذَوي قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضلا بِالْقَرَابَةِ فَقَط وَاحْتج بقوله تَعَالَى {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض} وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وأبعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله لَا حجَّة فِيهِ أما إخْبَاره تَعَالَى بِأَنَّهُ اصْطفى آل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يَعْنِي كل مُؤمن فقد قَالَ ذَلِك بعض الْعلمَاء أَو يَعْنِي مُؤمن أهل بَيت إِبْرَاهِيم وَعمر أَن لَا يجوز غير هَذَا لِأَن آزر وَالِد إِبْرَاهِيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ كَافِرًا عَدو الله لم يصطفه الله تَعَالَى إِلَّا لدُخُول النَّار فَإِن أَرَادَ الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا لم نمانعه وَلَا تنازعه فِي أَن مُوسَى وَهَارُون من آل عمرَان وَآل إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق ويوسف وَيَعْقُوب من آل إِبْرَاهِيم مصطفون على الْعَالمين فَأَي حجَّة هَا هُنَا لبني هَاشم فَإِن ذكرُوا الدُّعَاء الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وَبَارك على مُحَمَّد وعَلى مُحَمَّد فَالْقَوْل فِي هَذَا كَمَا قُلْنَا وَلَا فرق وَهَذَا دُعَاء لكل مُؤمن وَقد قَالَ تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ صلي على آل أبي أوفي فَهَذَا هُوَ الدُّعَاء لَهُم بِالصَّلَاةِ على كل مُؤمن ومؤمنة بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ الدُّعَاء فِي التَّشَهُّد المفترض فِي كل صَلَاة من قَول الْمُصْطَفى السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين فَهَذَا السَّلَام على كل مُؤمن ومؤمنة فَاسْتَوَى بَنو هَاشم وَغَيرهم فِي اطلاق الدُّعَاء بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم وبالسلام عَلَيْهِم وَلَا فرق وَقَالَ تَعَالَى {وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون} فَوَجَبت صلوَات الله تَعَالَى على كل مُؤمن صابر فَاسْتَوَى كُله بَنو هَاشم وقريش وَالْعرب والعجم وَمن كَانَ جَمِيعهم بِهَذِهِ الصّفة وَأَيْضًا فَيلْزم من احْتج بقوله تَعَالَى {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} أَن يَقُول إِن من أسلم من الهارونيين من الْيَهُود أفضل من بني هَاشم وأشرف وَأولى بالتقديم لِأَنَّهُ من آل عمرَان وَمن آل إِبْرَاهِيم وَفِيهِمْ ورد النَّص (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فصح يَقِينا أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَقَط وَبَين هَذَا بَيَان جلياً قَول الله عز وَجل حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَمن ذريتي قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الظَّالِمين من ذُرِّيَّة غَيره وَقَالَ عز وَجل أَن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي وَالَّذين آمنُوا فَخص الله تَعَالَى بِولَايَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام من اتبع إِبْرَاهِيم كَائِنا من كَانَ فَدخل فِي هَذَا كل مُؤمن ومؤمنة وَلَا فضل وَأما قَول الله عز وَجل {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} فَهَذَا حق على ظَاهره وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام من قُرَيْش أَن يودوه لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم وَلَا يخْتَلف أحد من الْأمة فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يرد قطّ من الْمُسلمين أَن يودوا أَبَا لَهب وَهُوَ عَمه وَلَا شكّ فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ من الْمُسلمين مَوَدَّة بِلَال وعمار وصهيب وَسليمَان وَسَالم مولي أبي حُذَيْفَة وَأما قَوْله عز وَجل عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {وأبعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} فقد قَالَ عز وَجل {وَأَن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فاستوت الْأُمَم كلهَا فِي هَذِه الدعْوَة بِأَن يبْعَث فيهم رَسُولا مِنْهُم مِمَّن هم قومه فَإِن احْتج مُحْتَج بِالْحَدِيثِ الثَّابِت الَّذِي فِيهِ أَن الله اصْطفى كنَانَة من ولد إِسْمَاعِيل وَاصْطفى قُريْشًا من كنَانَة وَاصْطفى من قُرَيْش بني هَاشم وَاصْطَفَانِي من بَين هَاشم فَمَعْنَاه ظَاهر وَهُوَ أَنه تَعَالَى اخْتَار كَونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من بني هَاشم وَكَون بني هَاشم من قُرَيْش وَكَون قُرَيْش من كنَانَة وَكَون كنَانَة من بني إِسْمَاعِيل كَمَا اصْطفى أَن يكون مُوسَى من بني لاوي وَأَن يكون بَنو لاوي من بني إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام وكل نَبِي من عشيرته الَّتِي هُوَ مِنْهَا وَلَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ ونسأل من أَرَادَ حمل هَا الحَدِيث على غير هَذَا لِمَعْنى أَيَدْخُلُ أحد من بني هَاشم أَو من قُرَيْش أَو من كنَانَة أَو من إِسْمَاعِيل النَّار أم لَا فَإِن أَنْكَرُوا هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 كفرُوا وخالفوا الْإِجْمَاع وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أبي وَأَبُوك فِي النَّار وَإِن أَبَا طَالب فِي النَّار وَجَاء الْقُرْآن بِأَن أَبَا لَهب فِي النَّار وَسَائِر كفار قُرَيْش فِي النَّار كلك قَالَ الله تَعَالَى {تبت يدا أبي لَهب وَتب مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب سيصلى نَارا ذَات لَهب} فَإِذا أقرّ بِأَنَّهُ قد يدْخل الار مِنْهُم من يسْتَحق أَن يدخلهَا صحت الْمُسَاوَاة بَينهم وَبَين سَائِر النَّاس (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ويكذب الظَّن الْفَاسِد قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا بني عبد الْمطلب لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا وَأبين من هَذَا كُله قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} وَقَوله تَعَالَى {لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} وَقَوله تَعَالَى {واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا} وَقَالَ تَعَالَى {?} وَذكر عَاد وثموداً وَقوم نوح وَقوم لوط ثمَّ قَالَ {اكفاركم خير من أولئكم أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر} فصح ضَرُورَة أَنه لَا ينْتَفع أحد بقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام وَلَو أَن النَّبِي ابْنه أَو أَبوهُ وَأمه نبية وَقد نَص الله تَعَالَى فِي ابْن نوح ووالد إِبْرَاهِيم وَعم مُحَمَّد على رسل الله الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا فِيهِ الْكِفَايَة وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا فصح ضَرُورَة أَن بِلَالًا وصهيبا والمقداد وَعمَّارًا وسالماً وسلمان أفضل من الْعَبَّاس وبنيه عبد الله وَالْفضل وَقثم وَعبيد الله وَعقيل بن أبي طَالب وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَن جَمِيعهم بِشَهَادَة الله تَعَالَى فَإذْ هَذَا لَا شكّ فِيهِ وَلَا جَزَاء فِي الْآخِرَة إِلَّا على عمل وَلَا ينْتَفع عِنْد الله تَعَالَى بالأرحام وَلَا بالولادات وَلَيْسَت الدُّنْيَا دَار جَزَاء فَلَا فرق بَين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وَحبشِي وَابْن زنجية وَالْكَرم والفوز لمن اتَّقى الله عز وَجل حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان أَنبأَنَا أَحْمد بن عبد الله الْبَصِير حَدثنَا قَاسم بن اصبع حَدثنَا عبد السَّلَام بن الخثن حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن حسان بن قايد الْعَبْسِي قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه وَإِن كَانَ فارسياً أَو نبطياً الْكَلَام فِي حَرْب عَليّ من حاربه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي تِلْكَ الْحَرْب على ثَلَاث فرق فَقَالَ جَمِيع الشِّيعَة وَبَعض المرجئة وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض أهل السّنة أَن عليا كَانَ الْمُصِيب فِي حربه وكل من خَالفه على خطأ وَقَالَ وَاصل بن عَطاء وَعَمْرو بن عبيد وَأَبُو الْهُذيْل وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة أَن عليا مصيبا فِي قِتَاله مَعَ مُعَاوِيَة وَأهل النَّهر ووقفوا فِي قِتَاله مَعَ أهل الْجمل وَقَالُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مخطئة وَلَا نَعْرِف أَيهمَا هِيَ وَقَالَت الْخَوَارِج عَليّ الْمُصِيب فِي قِتَاله أهل الْجمل وَأهل صفّين وَهُوَ مخطيء فِي قِتَاله أهل النَّهر وَذهب سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر وَجُمْهُور الصَّحَابَة إِلَى الْوُقُوف فِي عَليّ وَأهل الْجمل وَأهل صفّين وَبِه يَقُول جُمْهُور أهل السّنة وَأَبُو بكر بن كيسَان وَذهب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَخيَار التَّابِعين وَطَوَائِف مِمَّن بعدهمْ إِلَى تصويب محاربي عَليّ من أَصْحَاب الْجمل وَأَصْحَاب صفّين وهم الْحَاضِرُونَ لقتاله فِي الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورين وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا أَيْضا أَبُو بكر بن كيسَان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما الْخَوَارِج فقد أوضحنا خطأهم وَخطأ أسلافهم فِيمَا سلف من كتَابنَا هَذَا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم عَليّ الْحكمَيْنِ فسنتكلم فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَمَا تكلمنا فِي سَائِر أحكامهم وَالْحَمْد لَهُ رب الْعَالمين وَأما من وقف فَلَا حجَّة لَهُ أَكثر من أَنه لم يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَمن لم يتَبَيَّن لَهُ الْحق فَلَا سَبِيل إِلَى مناطرته بِأَكْثَرَ من أَن نبين لَهُ وَجه الْحق حَتَّى يرَاهُ وَذكروا أَيْضا أَحَادِيث فِي ترك الْقِتَال فِي الِاخْتِلَاف سنذكر لكم جُمْلَتهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَلم يبْق إِلَّا الطَّائِفَة المصوبة لعَلي فِي جَمِيع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الْجمل وَأهل صفّين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احْتج من ذهب إِلَى تصويب محاربي عَليّ يَوْم الْجمل وَيَوْم صفّين بِأَن قَالَ إِن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قتل مَظْلُوما فالطلب بِأخذ الْقود من قاتليه فرض قَالَ عز وَجل {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} وَقَالَ تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} قَالُوا وَمن آوى الظَّالِمين فَهُوَ إِمَّا مشارك لَهُم وَإِمَّا ضَعِيف عَن أَخذ الْحق مِنْهُم قَالُوا وكلا الْأَمريْنِ حجَّة فِي إِسْقَاط إِمَامَته على من فعل ذَلِك وَوُجُوب حربه قَالُوا وَمَا أَنْكَرُوا على عُثْمَان إِلَّا أقل من هَذَا من جَوَاز إِنْفَاذ أَشْيَاء بِغَيْر علمه فقد ينفذ مثلهَا سر أَو لَا يعلمهَا أحد إِلَّا بعد ظُهُورهَا قَالُوا وَحَتَّى لَو أَن كل مَا أنكر على عُثْمَان أَن يَصح مَا حل بذلك قَتله بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام لأَنهم إِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ استئثار بِشَيْء يسير من فضلات الْأَمْوَال لم يجب لأحد بِعَيْنِه فَمنعهَا وتولية أَقَاربه فَلَمَّا شكوا إِلَيْهِ عزلهم وَأقَام الْحَد على من اسْتَحَقَّه وَأَنه صرف الحكم بن أبي الْعَاصِ إِلَى الْمَدِينَة وَنفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْحكم لم يكن حدا وَاجِبا وَلَا شَرِيعَة على التأييد وَإِنَّمَا كَانَ عُقُوبَة على ذَنْب اسْتحق بِهِ النَّفْي وَالتَّوْبَة مبسوطة فَإِذا تَابَ سَقَطت عَنهُ تِلْكَ الْعقُوبَة بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام وَصَارَت الأَرْض كلهَا مُبَاحَة وَأَنه ضرب عمارا خَمْسَة أسواط وَنفي أَبَا ذَر إِلَى الربذَة وَهَذَا كُله لَا يُبِيح الدَّم قَالُوا وايوآء على الْمُحدثين أعظم الْأَحْدَاث من سفك الدَّم الْحَرَام فِي حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سِيمَا دم الإِمَام وَصَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم وَالْمَنْع من إِنْفَاذ الْحق عَلَيْهِم أَشد من كل مَا ذكرنَا بِلَا شكّ قَالُوا وَامْتِنَاع مُعَاوِيَة من بيعَة عَليّ كامتناع عَليّ من بيعَة أبي بكر فَمَا حاربه أَبُو بكر وَلَا أكرهه وَأَبُو بكر أقدر على عَليّ من عَليّ على مُعَاوِيَة وَمُعَاوِيَة فِي تَأْخِيره عَن بيعَة عَليّ أعذر وأفسح مقَالا من عَليّ فِي تَأْخِيره عَن بيعَة أبي بكر لِأَن عليا لم يمْتَنع من بيعَة أبي بكر أحد من الْمُسلمين غَيره بعد أَن بَايعه الْأَنْصَار وَالزُّبَيْر وَأما بيعَة عَليّ فَإِن جُمْهُور الصَّحَابَة تَأَخَّرُوا عَنْهَا إِمَّا عَلَيْهِ وَإِمَّا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَمَا تَابعه فيهم إِلَّا الْأَقَل سوى أَزِيد من مائَة ألف مُسلم بِالشَّام وَالْعراق ومصر والحجاز كلهم امْتنع من بيعَته فَهَل مُعَاوِيَة إِلَّا كواحد من هَؤُلَاءِ فِي ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن بيعَة عَليّ لم تكن على عهد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا كَانَت بيعَة أبي بكر وَلَا عَن إِجْمَاع من الْأمة كَمَا كَانَت بيعَة عُثْمَان وَلَا عَن عهد من خَليفَة وَاجِب الطَّاعَة كَمَا كَانَت بيعَة عمر وَلَا بسوق بَائِن (1) فِي الْفضل على غَيره لَا يخْتَلف فِيهِ أحد وَلَا عَن شُورَى فالقا عدون عَنْهَا بِلَا شكّ وَمُعَاوِيَة من جُمْلَتهمْ أعذر من عَليّ فِي قعوده عَن بيعَة أبي بكر سِتَّة أشهر حَتَّى رآى البصيرة وراجع الْحق عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ خَفِي على عَليّ نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي بكر قُلْنَا لكم لم يخف عَلَيْهِ بِلَا شكّ تَقْدِيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر إِلَى الصَّلَاة وَأمره عليا بِأَن يُصَلِّي وَرَاءه فِي جمَاعَة الْمُسلمين فَتَأَخر عَن بيعَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 أبي بكر سعي مِنْهُ فِي حطه عَن مَكَان جعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا لأبي بكر وسعي مِنْهُ فِي فسخ نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تَقْدِيمه إِلَى الصَّلَاة وَهَذَا أَشد من رد إِنْسَان نَفَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذنب ثمَّ تَابَ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِن عليا قد تَابَ واعترف بالْخَطَأ لِأَنَّهُ إِذا بَايع أَبَا بكر بعد سِتَّة أشهر تَأَخّر فِيهَا عَن بيعَته لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون مصيباً فِي تَأَخره فقد أَخطَأ إِذْ بَايع أَو يكون مصيباً فِي بيعَته فقد أَخطَأ إِذا تَأَخّر عَنْهَا قَالُوا والممتنعون من بيعَة عَليّ لم يعترفوا قطّ بالْخَطَأ على أنفسهم فِي تأخرهم عَن بيعَته قَالُوا فَإِن كَانَ فعلهم خطأ فَهُوَ أخف من الْخَطَأ فِي تَأَخّر عَليّ عَن بيعَة أبي بكر وَإِن كَانَ فعلهم صَوَابا فقد برئوا من الْخَطَأ جملَة قَالُوا والبون بَين طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعلي خَفِي جدا فقد كَانُوا فِي الشورى مَعَه لَا يَبْدُو لَهُ فضل تفوق عَلَيْهِم وَلَا على وَاحِد مِنْهُم واما البون بَين عَليّ وَأبي بكر فأبين وَأظْهر فهم من امتناعهم عَن بيعَته أعذر لخفاء التَّفَاضُل قَالُوا وهلا فعل عَليّ فِي قتلة عُثْمَان كَمَا فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الأرث فَإِن الْقصَّتَيْنِ اسْتَويَا فِي التَّحْرِيم فالمصيبة فِي قتل عُثْمَان فِي الْإِسْلَام وَعند الله عز وَجل وعَلى الْمُسلمين أعظم جرما وأوسع خرقاً وأشنع إِثْمًا وأهول فسقا من الْمُصِيبَة فِي قتل عبد الله بن خباب قَالُوا وَفعله فِي طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجَّة من تَأَول على عَليّ أَنه يُمكن أَن يكون لَا يرى قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا يُمكن أَن تحتج بِهِ هَذِه الطَّائِفَة قد تقصيناه وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى متكلمون على مَا ذهبت إِلَيْهِ كل طَائِفَة من هَذِه الطوائف حَتَّى يلوح الْحق فِي ذَلِك بعون الله تَعَالَى وتأييده (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) نبدأ بعون الله عز وَجل بإنكار الْخَوَارِج للتحكيم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالُوا حكم على الرِّجَال فِي دين الله تَعَالَى وَالله عز وَجل قد حرم ذَلِك بقوله {إِن الحكم إِلَّا لله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا حكم عَليّ رَضِي الله عَنهُ قطّ رجلا فِي دين الله وحاشاه من ذَلِك وَإِنَّمَا حكم كَلَام الله عز وَجل كَمَا افْترض الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اتّفق الْقَوْم كلهم إِذا رفعت الْمَصَاحِف على الرماح وتداعوا إِلَى مَا فِيهَا على الحكم بِمَا أنزل الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَهَذَا وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل لأحد غَيره لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَإِنَّمَا حكم عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَبَا مُوسَى وَعَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا ليَكُون كل وَاحِد مِنْهُمَا مدلياً بِحجَّة من قدمه وليكونا متخاصمين عَن الطَّائِفَتَيْنِ ثمَّ حاكمين لمن أوجب الْقُرْآن الحكم لَهُ وَإِذ من الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يُمكن الَّذِي لَا يفهم لغط العسكرين أَو أَن يتَكَلَّم جَمِيع أهل الْعَسْكَر بحجتهم فصح يَقِينا لَا محيد عَنهُ صَوَاب عَليّ فِي تحكيم الْحكمَيْنِ وَالرُّجُوع إِلَى مَا أوجبه الْقُرْآن وَهَذَا الَّذِي لَا يجوز غَيره وَلَكِن أسلاف الْخَوَارِج كَانُوا أعراباً قرؤا الْقُرْآن قبل أَن يتفقهوا فِي السّنَن الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فيهم أحد من الْفُقَهَاء لَا من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود وَلَا أَصْحَاب عَمْرو وَلَا أَصْحَاب عَليّ وَلَا أَصْحَاب عَائِشَة وَلَا أَصْحَاب أبي مُوسَى وَلَا أَصْحَاب معَاذ بن جبل وَلَا أَصْحَاب أبي الدَّرْدَاء وَلَا أَصْحَاب سلمَان وَلَا أَصْحَاب زيد وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَلِهَذَا تجدهم يكفر بَعضهم بَعْضًا عِنْد اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الْفتيا وصغارها فَظهر ضعف الْقَوْم وَقُوَّة جهلهم وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 مَا قَامَ الْبُرْهَان الَّذِي أوردنا بِأَنَّهُ حق وَلَو لم يكن من جهلهم لأَقْرَب عَهدهم بِخَبَر الْأَنْصَار يَوْم السَّقِيفَة وإذعانهم رَضِي الله عَنْهُم من جَمِيع الْمُهَاجِرين لوَجَبَ الْأَمر فِي قُرَيْش دون الْأَنْصَار وَغَيرهم وَأَن عَهدهم بذلك قريب مُنْذُ خَمْسَة وَعشْرين عَاما وَأشهر وجمهورهم أدْرك ذَلِك بِسنة وَثَبت عِنْد جَمِيعهم كثبات أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا فرق لِأَن الَّذين نقلوا إِلَيْهِم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونقلوا إِلَيْهِم الْقُرْآن والشرائع فدانوا بِكُل ذَلِك هم بأعيانهم لَا زِيَادَة فيهم وَلَا نقص نقلوا اليهم خبر السَّقِيفَة وَرُجُوع الْأَنْصَار إِلَى أَن الْأَمر لَا يكون إِلَّا فِي قُرَيْش وهم يقرؤن قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} وَقَوله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا} ثمَّ أعماهم الشَّيْطَان وأضلهم الله تَعَالَى على علم فحلوا بَينه مثل عَليّ واعرضوا عَن مثل سعيد بن زيد وَسعد وَابْن عمر وَغَيرهم مِمَّن أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل واعرضوا عَن سَائِر الصَّحَابَة الَّذين أَنْفقُوا بعد الْفَتْح وقاتلوا وَوَعدهمْ الله الْحسنى وَتركُوا من يقرونَ بِأَن الله تَعَالَى عز وَجل علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَرَضي عَنْهُم وَبَايَعُوا الله وَتركُوا جَمِيع الصَّحَابَة وهم الْأَشِدَّاء على الْكفَّار الرُّحَمَاء بَينهم الركع السجد المبتغون فضلا من الله ورضواناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود المثني عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من عِنْد الله عز وَجل الَّذين غظ الله بهم الْكفَّار الْمَقْطُوع على أَن باطنهم فِي الْخَيْر كظاهرهم لِأَن الله عز وَجل شهد بذلك فَلم يبايعوا أحدا مِنْهُم وَبَايَعُوا شِيث بن ربعي مُؤذن سجَاح أَيَّام ادَّعَت النُّبُوَّة بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تَدَارُكه الله عز وَجل فر عَنْهُم وَتبين لَهُم ضلالتهم فَلم يَقع اختيارهم إِلَّا على عبد الله بن وهب الرَّاسِبِي أَعْرَابِي وَآل عَليّ عقيبة لَا سَابِقَة لاه وَلَا صُحْبَة وَلَا فقه وَلَا شهد الله لَهُ بِخَير قطّ فَمن أضلّ مِمَّن هَذِه سيرته واختياره وَلَكِن حق لمن كَانَ أحدا يَمِينه ذُو خو يصره الَّذِي بلغه ضعف عقله وَقلة دينه إِلَى تجويره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حكمه والإستدارك وَرَأى نَفسه أورع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا وَهُوَ يقر أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ وَبِه اهْتَدَى وَبِه عرف الدّين ولولاه لَكَانَ حمارا أَو أضلّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأما الطَّائِفَة المصوبة للقاعدين فَإِن من لم يلح لَهُ الْحق مِنْهُم فَإِنَّمَا يكلم حَتَّى يبين لَهُ الْحق فَيلْزمهُ الْمصير الذيه فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه قد صَحَّ وَوَجَب فرض الْإِمَامَة بِمَا ذكرنَا قبل فِي إِيجَاب الْإِمَامَة وَإِذ هِيَ فرض فَلَا يجوز تَضْييع الْفَرْض وَإِذ ذَلِك كلك فالمبادرة إِلَى تَقْدِيم إِمَام عِنْد موت الإِمَام فرض وَاجِب وَقد ذكرنَا وجوب الإئتمام بِالْإِمَامِ فَإذْ هَذَا كُله كَمَا كرنا فَإذْ مَاتَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الإِمَام فَفرض إِقَامَة إِمَام ياتم بِهِ النَّاس لِئَلَّا يبقوا بِلَا إِمَام فَإِذا فَإذْ بَادر عَليّ فَبَايعهُ وَاحِد من الْمُسلمين فَصَاعِدا فَهُوَ إِمَام قَائِم فَفرض طَاعَته لَا سِيمَا وَلم يتَقَدَّم ببيعته بيعَة وَلم ينازعه الْإِمَامَة أحد فَهَذَا أوضح وواجب فِي وجوب إِمَامَته وَصِحَّة بيعَته وَلُزُوم أَمرته للْمُؤْمِنين فَهُوَ الإِمَام بِحقِّهِ وَمَا ظهر مِنْهُ قطّ إِلَى أَن مَاتَ رَضِي الله عَنهُ شَيْء يُوجب نقض بيعَته وَمَا ظهر مِنْهُ قطّ إِلَّا الْعدْل وَالْجد وَالْبر وَالتَّقوى كَمَا لَو سبقت بيعَة طَلْحَة أَو الزبير أَو سعد أَو سعيدا أَو من يسْتَحق الْإِمَامَة لكَانَتْ أَيْضا بيعَة حق لَازِمَة لعَلي وَلغيره وَلَا فرق فعلي مُصِيب فِي الدُّعَاء إِلَى نَفسه وَإِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 الدُّخُول تَحت أمامته وَهَذَا برهَان لَا محيد عَنهُ وَأما أم الْمُؤمنِينَ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن كَانَ مَعَهم فَمَا أبطلوا قطّ إِمَامَة عَليّ وَلَا طعنوا فِيهَا وَلَا ذكرُوا فِيهِ جرحة تحطه عَن الْإِمَامَة وَلَا أَحْدَثُوا إِمَامَة أُخْرَى وَلَا جددوا بيعَة لغيره هَذَا مَا لَا يقدر أَن يَدعِيهِ أحد بِوَجْه من الْوُجُوه بل يقطع كل ذِي علم على أَن كل لَك لم يكن فَإذْ لَا شكّ فِي كل هَذَا فقد صَحَّ صِحَة ضَرُورِيَّة لَا إِشْكَال فِيهَا أَنهم لم يمضوا إِلَى الْبَصْرَة لِحَرْب عَليّ وَلَا خلافًا عَلَيْهِ وَلَا نقضا لبيعته وَلَو أَرَادوا ذَلِك لأحدثوا بيعَة غير بيعَته هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ أحد وَلَا يُنكره أحد فصح أَنهم إِنَّمَا نهضوا إِلَى الْبَصْرَة لسد الفتق الْحَادِث فِي الْإِسْلَام من قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ظلما وبرهان ذَلِك أَنهم اجْتَمعُوا وَلم يقتتلوا وَلَا تَحَارَبُوا فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل عرف قتلة عُثْمَان إِلَّا أَن الاراغة وَالتَّدْبِير عَلَيْهِم فبينوا عَسْكَر طَلْحَة وَالزُّبَيْر وبذلوا السَّيْف فيهم فَدفع الْقَوْم عَن أنفسهم فِي دَعْوَى حَتَّى خالطوا عَسْكَر عَليّ فَدفع أَهله عَن أنفسهم وكل طَائِفَة تظن وَلَا شكّ أَن الْأُخْرَى بَدَأَ بهَا بِالْقِتَالِ وَاخْتَلَطَ الْأَمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أَكثر من الدفاع عَن نَفسه والفسقة من قتلة عُثْمَان لَا يغترون من شن الْحَرْب وأضر أمه فكلتا الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيبَة فِي غرضها ومقصدها مدافعة عَن نَفسهَا وَرجع الزبير وَترك الْحَرْب بِحَالِهَا وأتى طَلْحَة سهم غاير وَهُوَ قَائِم لَا يدْرِي حَقِيقَة ذَلِك الِاخْتِلَاط فصادف جرحا فِي سَاقه كَانَ أَصَابَهُ يَوْم أحد بَين يدْرِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْصَرف وَمَات من وقته رَضِي الله عَنهُ وَقتل الزبير رَضِي الله عَنهُ بوادي السبَاع على أقل من يَوْم من الْبَصْرَة فَهَكَذَا كَانَ الْأَمر وَكَذَلِكَ كَانَ قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا حاصره المصريون وَمن لف لفهم يديرونه على إِسْلَام مَرْوَان إِلَيْهِم وَهُوَ رَضِي الله عَنهُ يَأْبَى من ذَلِك وَيعلم أَنه إِن أسلمه قتل دون تثبت فَهُوَ على ذَلِك وجماعات من الصَّحَابَة فيهم الْحسن وَالْحُسَيْن ابْنا عَليّ وَعبد الله بن الزبير وَمُحَمّد بن طَلْحَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن عمر وَغَيرهم فِي نَحْو سَبْعمِائة من الصَّحَابَة وَغَيرهم مَعَه فِي الدَّار يحمونه وينفلتون إِلَى الْقِتَال فيردعهم تشتا إِلَى أَن تسوروا عَلَيْهِ من خوخة فِي دَار ابْن حزم النَّصَارَى جَاره غيلَة فَقَتَلُوهُ وَلَا خبر من ذَلِك عِنْد أحد لعن الله من قَتله والراضين بقتْله فَمَا رَضِي أحد مِنْهُم قطّ بقتْله وَلَا علمُوا أَنه يُرَاد قَتله لِأَنَّهُ لم يَأْتِ مِنْهُ شَيْء يُبِيح الدَّم الْحَرَام وَأما قَوْله من قَالَ أَنه رَضِي الله عَنهُ أَقَامَ مطروحاً على مزبلة ثَلَاثَة أَيَّام فكذب بحت وأفك مَوْضُوع وتوليد من لَا حَيَاء فِي وَجهه بل قتل عَشِيَّة وَدفن من ليلته رَضِي الله عَنهُ شهد دَفنه طَائِفَة من الصَّحَابَة وهم جُبَير بن مطعم وَأَبُو الجهم بن حيفة وَعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وَجَمَاعَة غَيرهم هَذَا مِمَّا لَا يتمادى فِيهِ أحد مِمَّن لَهُ علم بالأخبار وَلَقَد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي أجساد قَتْلَى الْكفَّار من قُرَيْش يَوْم بدر فِي القليب وَألقى التُّرَاب عَلَيْهِم وهم شَرّ خلق الله تَعَالَى وَأمر عَلَيْهِ السَّلَام أَن يحْفر أخاديد لقتلى يهود قُرَيْظَة وهم شَرّ من وارته الأَرْض فمواراة الْمُؤمن وَالْكَافِر فرض على الْمُسلمين فَكيف يجوز لذَلِك حَيَاء فِي وَجهه أَن ينْسب إِلَى عَليّ وَهُوَ الإِمَام وَمن بِالْمَدِينَةِ من الصَّحَابَة أَنهم تركُوا رجلا مَيتا ملقى بَين أظهرهم على مزبلة لَا يوارونه وَلَا نبالي مُؤمنا كَانَ أَو كَافِرًا وَلَكِن الله يَأْبَى إِلَّا أَن يفضح الْكَذَّابين بألسنتهم وَلَو فعل هَذَا عَليّ لكَانَتْ جرحة لِأَنَّهُ لَا يخلوا إِن يكون عُثْمَان كَافِرًا أَو فَاسِقًا أَو مُؤمنا فَإِن كَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا عِنْده فقد كَانَ فرضا على عَليّ أَن يفْسخ أَحْكَامه فِي الْمُسلمين فَإِذا لم يفعل فقد صَحَّ أَنه كَانَ مُؤمنا عِنْده فَكيف يجوز أَن ينْسب ذُو حَيَاء إِلَى عَليّ أَنه ترك مُؤمنا مطروحا مَيتا على مزبلة لَا يَأْمر بموارته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أم كَيفَ يجوز أَن يَظُنّهُ بِهِ أَنه أنفذ أَحْكَام كَافِر أَو فَاسق على أهل الْإِسْلَام مَا أحد أَسْوَأ ثَنَاء على عَليّ من هَؤُلَاءِ الكذبة الفجرة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبُرْهَان على صِحَة مَا قُلْنَاهُ أَن من الْجَهْل الفاضح أَن يظنّ ظان أَن عليا رَضِي الله عَنهُ بلغ من التَّنَاقُض فِي أَحْكَامه وإتباع الْهوى فِي دينه وَالْجهل أَن يتْرك سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر وَأُسَامَة بن زيد وَزيد بن ثَابت بن حسان وَرَافِع بن خديج وَمُحَمّد بن مسلمة وَكَعب بن مَالك وَسَائِر الصَّحَابَة الَّذين لم يبايعوه فَلَا يجهزهم عليا وهم مَعَه فِي الْمَدِينَة وَغَيرهَا نعم والخوارج وَهُوَ يصيحون فِي نواحي الْمَسْجِد بِأَعْلَى أَصْوَاتهم بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ على الْمِنْبَر فِي مَسْجِد الْكُوفَة لَا حكم إِلَّا الله لَا حكم إِلَّا الله فَيَقُول لَهُم رَضِي الله عَنهُ لكم علينا ثَلَاث لَا نمنعكم الْمَسَاجِد وَلَا نمنعكم حقكم من الْفَيْء وَلَا نبدوكم بِقِتَال أَو لم يبْدَأ بِحَرب حَتَّى قتلوا عبد الله بن خباب ثمَّ لم يقاتلهم بعد ذَلِك حَتَّى دعاهم إِلَى أَن يسلمُوا الذيه قتلة عبد الله بن خباب فَلَمَّا قَالُوا كلنا قَتله قَاتلهم حِينَئِذٍ ثمَّ يظنّ بِهِ مَعَ هَذَا كُله أَنه يُقَاتل أهل الْجَهْل لامتناعهم من بيعَته هَذَا إفْك وجنون مختلق بحت بِلَا شكّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما أَمر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فبخلاف ذَلِك وَلم يقاتله عَليّ رَضِي الله عَنهُ لامتناعه من بيعَته لِأَنَّهُ كَانَ يَسعهُ فِي ذَلِك مَا وسع ابْن عمر وَغَيره لَكِن قَاتله لامتناعه من إِنْفَاذ أوامره فِي جَمِيع أَرض الشَّام وَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته فعلي الْمُصِيب فِي هَذَا وَلم يُنكر مُعَاوِيَة قطّ فضل عَليّ واستحقاقه الْخلَافَة لَكِن اجْتِهَاده اداه إِلَى أَن رأى تَقْدِيم أَخذ الْقود من قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ على الْبيعَة وَرَأى نَفسه أَحَق بِطَلَب دم عُثْمَان وَالْكَلَام فِيهِ عَن ولد عُثْمَان وَولد الحكم ابْن أبي الْعَاصِ لسنه ولقوته على الطّلب بذلك كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعبد الرَّحْمَن بن سهل أَخا عبد الله بن سهل الْمَقْتُول بِخَيْبَر بِالسُّكُوتِ وَهُوَ أَخُو الْمَقْتُول وَقَالَ لَهُ كبر كبر وروى الْكبر الْكبر فَسكت عبد الرَّحْمَن وَتكلم محيصة وحويصة أَبنَاء مَسْعُود وهما ابْنا عَم الْمَقْتُول لِأَنَّهُمَا كَانَا أسن من أَخِيه فَلم يطْلب مُعَاوِيَة من ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ لَهُ من الْحق أَن يَطْلُبهُ وَأصَاب فِي ذَلِك الْأَثر الَّذِي ذكرنَا وَإِنَّمَا أَخطَأ فِي تَقْدِيمه ذَلِك على الْبيعَة فَقَط فَلهُ أجر الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك وَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِيمَا حرم من الْإِصَابَة كَسَائِر المخطئين فِي اجتهادهم الَّذين أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُم أجرا وَاحِدًا وللمصيب أَجْرَيْنِ وَلَا عجب أعجب مِمَّن يُجِيز الِاجْتِهَاد فِي الدِّمَاء وَفِي الْفروج والأنساب وَالْأَمْوَال والشرائع الَّتِي يدان الله بهَا من تَحْرِيم وَإِيجَاب ويعذر المخطئين فِي ذَلِك وَيرى لَك مُبَاحا لليث والبتي أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَدَاوُد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَغَيرهم كزفر وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَالْحسن بن زِيَاد وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَابْن الْمَاجشون والمزني وَغَيرهم فواحد من هَؤُلَاءِ يُبِيح دم هَذَا الْإِنْسَان وَآخر مِنْهُم يحرمه كمن حَارب وَلم يقتل أَو عمل عمل قوم لوط وَغير هَذَا كثير وَوَاحِد مِنْهُم يُبِيح هَذَا الْفرج وَآخر مِنْهُم يحرمه كبكرا نَكَحَهَا أَبوهَا وَهِي بَالِغَة عَاقِلَة بِغَيْر إِذْنهَا وَلَا رِضَاهَا وَغير هَذَا كثير وَكَذَلِكَ فِي الشَّرَائِع والأوامر والأنساب وَهَكَذَا فعلت الْمُعْتَزلَة بشيوخهم كواصل وَعَمْرو وَسَائِر شيوخهم وفقهائهم وَهَكَذَا فعلت الْخَوَارِج بفقهائهم ومفتيهم ثمَّ يضيقون ذَلِك على من لَهُ الصُّحْبَة وَالْفضل وَالْعلم والتقدم وَالِاجْتِهَاد كمعاوية وعمروا وَمن مَعَهُمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ وَإِنَّمَا اجْتهد فِي مسَائِل دِمَاء كَالَّتِي اجْتهد فِيهَا الْمفْتُون وَفِي الْمُفْتِينَ من يرى قتل السَّاحر وَفِيهِمْ من لَا يرَاهُ وَفِيهِمْ من يرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 قتل الْحر بِالْعَبدِ وَفِيهِمْ من يرى قتل الْمُؤمن بالكافر وَفِيهِمْ من لَا يرَاهُ فَأَي فرق بَين هَذِه الاجتهادات واجتهاد مُعَاوِيَة وَعَمْرو وَغَيرهمَا لَوْلَا الْجَهْل والعمى والتخليط بِغَيْر علم وَقد علمنَا أَن من لزمَه حق وَاجِب وَامْتنع من أَدَائِهِ وَقَاتل دونه فَإِنَّهُ يجب على الإِمَام أَن يقاتله وَإِن كَانَ منا وَلَيْسَ ذَلِك بمؤثر فِي عَدَالَته وفضله وَلَا بمحب لَهُ فبالمقابل هُوَ مأجور لإجهاده وَنِيَّته فِي طلب الْخَيْر فَبِهَذَا قَطعنَا على صَوَاب عَليّ رَضِي الله عه وَصِحَّة أَمَانَته وَأَنه صَاحب الْحق وَإِن لَهُ أَجْرَيْنِ أجر الِاجْتِهَاد وَأجر الْإِصَابَة وقطعنا أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَمن مَعَه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا وَاحِدًا وَأَيْضًا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر عَن مارقة تمرق بَين طائفتين من أمته يَقْتُلهَا أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فمرقت تِلْكَ المارقة وهم الْخَوَارِج من أَصْحَاب عَليّ وَأَصْحَاب مُعَاوِيَة فَقَتلهُمْ عَليّ وَأَصْحَابه فصح أَنهم أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَأَيْضًا الْخَبَر الصَّحِيح من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقتل عمارا الفئة الباغية (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) الْمُجْتَهد الْمُخطئ إِذا قَاتل على مَا يرى أَنه الْحق قَاصِدا إِلَى الله تَعَالَى نِيَّته غير عَالم بِأَنَّهُ مُخطئ فَهُوَ باعثه وان كَانَ مأجور أَو لَا حد عَلَيْهِ إِذا ترك الْقَاتِل وَلَا قَود وَأما إِذا قَاتل وَهُوَ يدْرِي أَنه مُخطئ فَهَذَا الْمُحَارب تلْزمهُ الْمُحَاربَة والقود وَهَذَا يفسق وَيخرج لَا الْمُجْتَهد الْمُخطئ وَبَيَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة فأصلحوا بَين أخويكم} فَهَذَا نَص قَوْلنَا دون تكلّف تَأْوِيل وَلَا زَوَال عَن مُوجب ظَاهر الْآيَة وَقد سماهم الله عز وَجل مُؤمنين باغين بَعضهم أخوة بعض فِي حِين تقَاتلهمْ وَأهل الْعدْل المبغي عَلَيْهِم والمأمورين بالإصلاح بَينهم وَبينهمْ وَلم يصفهم عز وَجل بفسق من أجل ذَلِك التقاتل وَلَا ينقص إِيمَان وَإِنَّمَا هم مخطئون باغون وَلَا يُرِيد وَاحِدًا مِنْهُم قتل آخر وَعمر رَضِي الله عَنهُ قَتله أَبُو العادية يسَار ابْن سبع السّلمِيّ شهد بيعَة الرضْوَان فَهُوَ من شُهَدَاء الله لَهُ بِأَنَّهُ علم مَا فِي قلبه وَأنزل السكينَة عَلَيْهِ وَرَضي عَنهُ فَأَبُو العادية رَضِي الله عَنهُ متأول مُجْتَهد مُخطئ فِيهِ بَاغ عَلَيْهِ مأجور آجرا وَاحِدًا وَلَيْسَ هَذَا كقتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لأَنهم لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِي قَتله لِأَنَّهُ لم يقتل أحدا وَلَا حَارب وَلَا قَاتل وَلَا دَافع وَلَا زنى بعد إِحْسَان وَلَا ارْتَدَّ فيسوغ الْمُحَاربَة تَأْوِيل بل هم فساق محاربون سافكون دَمًا حَرَامًا عمدا بِلَا تَأْوِيل على سَبِيل الظُّلم والعدوان فهم فساق مَلْعُون (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإذْ قد بَطل هَذَا الْأَمر وَصَحَّ أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق فالأحاديث الَّتِي فِيهَا الْتِزَام الْبيُوت وَترك الْقِتَال إِنَّمَا هُوَ بِلَا شكّ فِيمَن لم يلح لَهُ يَقِين الْحق أَيْن هُوَ وَهَكَذَا نقُول فَإِذا تبين الْحق فقتال الفئة الباغية فرض بِنَصّ الْقُرْآن وَكَذَلِكَ ان كَانَتَا مَعًا باغيتين فقتالهما وَاجِب لِأَن كَلَام الله عز وَجل لَا يُعَارض كَلَام نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كُله من عِنْد الله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ عز وَجل {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح يَقِينا أَن كل مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَحي من عِنْد الله عز وَجل وَإِذ هُوَ كَذَلِك فَلَيْسَ شئ مِمَّا عِنْد الله تَعَالَى مُخْتَلفا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلم يبْق إِلَّا الْكَلَام على الْوُجُوه الَّتِي اعْترض بهَا من رأى قتال عَليّ رَضِي الله عَنهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أما قَوْلهم إِن أَخذ الْقود وَاجِب من قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ المحار بَين لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الساعين فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ والهاتكين حُرْمَة الْإِسْلَام وَالْحرم وَالْأَمَانَة وَالْهجْرَة والخلافة والصحبة والسابقة فَنعم وَمَا خالفهم قطّ عَليّ فِي ذَلِك وَلَا فِي البرآءة مِنْهُم وَلَكنهُمْ كَانُوا عددا ضخما جمالا طَاقَة لَهُ عَلَيْهِم فقد سقط عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَالا يَسْتَطِيع عَلَيْهِ كَمَا سقط عَنهُ وَعَن كل مُسلم مَا عجز عَنهُ من قيام بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج وَلَا فرق قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِشَيْء فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَلَو أَن مُعَاوِيَة بَايع عليا لقوي بِهِ على احذ الْحق من قتلة عُثْمَان فصح أَن الِاخْتِلَاف هُوَ الَّذِي أَضْعَف يَد عَليّ عَن إنقاذ الْحق عَلَيْهِم وَلَوْلَا ذَلِك لأنقذ الْحق عَلَيْهِم كَمَا أنقذه على قتلة عبد الله بن خباب إِذْ قدر على مُطَالبَة قتلته وَأما تأسي مُعَاوِيَة فِي امْتِنَاعه من بيعَة عَليّ بتأخر عَليّ عَن بيعَة أبي بكر فَلَيْسَ فِي الْخَطَأ أُسْوَة وَعلي استقال وَرجع وَبَايع بعد يسير فَلَو فعل مُعَاوِيَة مثل ذَلِك لأصاب ولبايع حِينَئِذٍ بِلَا شكّ كل من امْتنع من الصَّحَابَة من الْبيعَة من أجل الْفرْقَة وَأما تقَارب مَا بَين عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد فَنعم وَلَكِن من سبقت بيعَته وَهُوَ من أهل الِاسْتِحْقَاق والخلافة فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته فِيمَا أَمر بِهِ من طَاعَة الله عز وَجل سوآء كَانَ هُنَالك من هُوَ مثله أَو أفضل كَمَا سبقت بيعَة عُثْمَان فَوَجَبت طَاعَته وإمامته على غَيره وَلَو بُويِعَ هُنَالك حِينَئِذٍ وَقت الشورى عَليّ أَو طَلْحَة أَو الزبير أَو عبد الرَّحْمَن أَو سعد لَكَانَ الإِمَام وللزمت عُثْمَان طَاعَته وَلَا فرق فصح أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق وَالْإِمَام المفترضة طَاعَته وَمُعَاوِيَة مُخطئ مأجور مُجْتَهد وَقد يخفى الصَّوَاب على الصاحب الْعَالم فِيمَا هُوَ أبين وأوضح من هَذَا الْأَمر من أَحْكَام الدّين فَرُبمَا رَجَعَ إِذْ استبان لَهُ وَرُبمَا لم يستبن لَهُ حق يَمُوت عَلَيْهِ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وَهُوَ الْمَسْئُول الْعِصْمَة وَالْهِدَايَة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) نطلب على حَقه نُقَاتِل عَلَيْهِ وَقد كَانَ تَركه ليجمع كلمة الْمُسلمين كَمَا فعل الْحسن ابْنه رَضِي الله عَنْهُمَا فَكَانَ لَهُ بذلك فضل عَظِيم قد تقدم بِهِ إنذار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ ابْني هَذَا سيد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ طائفتين عظيمتين من أمتِي فغبطه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَمن ترك حَقه رَغْبَة فِي حقن دِمَاء الْمُسلمين فقد أَتَى من الْفضل بِمَا لَا وَرَاء وَلَا لوم عَلَيْهِ بل هُوَ مُصِيب فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي إِمَامَة الْمَفْضُول (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهبت طوائف من الْخَوَارِج وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من المرجئة مِنْهُم مُحَمَّد بن الطّيب ألبا فلاني وَمن اتبعهُ وَجَمِيع الرافضة من الشِّيعَة إِلَى أَنه لَا يجوز إِمَامَة من يُوجد فِي النَّاس أفضل مِنْهُ وَذَهَبت طَائِفَة من الْخَوَارِج وَطَائِفَة من الممتزلة وَطَائِفَة من المرجئة وَجَمِيع الزيدية من الشِّيعَة وَجَمِيع أهل السّنة إِلَى أَن الْإِمَامَة جَائِزَة لمن غَيره أفضل مِنْهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما الرافضة فَقَالُوا أَن الإِمَام وَاجِد مَعْرُوف بِعَيْنِه فِي الْعَالم على مَا ذكرنَا من أَقْوَالهم الَّذِي قد تقدم إفسادنا لَهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمَا نعلم لمن قَالَ أَن الإِمَام لَا تجوز إِلَّا لأَفْضَل من يُوجد حجَّة أصلا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من صِحَة عقل وَلَا من قِيَاس وَلَا قَول صَاحب وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ أَحَق قَول بالاطراح وَقد قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَوْم السَّقِيفَة قد رضيت لكم أحدا هذَيْن الرجلَيْن يَعْنِي أَبَا عُبَيْدَة وَعمر وَأَبُو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 بكر أفضل مِنْهُمَا بِلَا شكّ فَمَا قَالَ أحد من الْمُسلمين أَنه قَالَ من ذَلِك بِمَا لَا يحل فِي الدّين ودعت الْأَنْصَار إِلَى بيعَة سعد بن عبَادَة وَفِي الْمُسلمين عدد كثير كلهم أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ فصح بِمَا ذكرنَا إِجْمَاع جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول ثمَّ عبدهم عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى سِتَّة رجال وَلَا بُد أَن لبَعْضهِم على بعض فضلا وَقد أجمع أهل الْإِسْلَام حِينَئِذٍ على أَنه إِن بُويِعَ أحدهم فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته وَفِي هَذَا إطباق مِنْهُم على جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول ثمَّ مَاتَ على رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ فبويع الْحسن ثمَّ سلم الْأَمر إِلَى معوية وَفِي بقايا الصَّحَابَة من هُوَ أفضل مِنْهُمَا بِلَا خلاف مِمَّن أنْفق قبل الْفَتْح وَقَاتل فكلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم بَايع مُعَاوِيَة وَرَأى إِمَامَته وَهَذَا إِجْمَاع مُتَيَقن بعد إِجْمَاع على جَوَاز إِمَامَة من غَيره أفضل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ إِلَى أَن حدث من لَا وزن لَهُ عِنْد الله تَعَالَى فخرقوا الْإِجْمَاع بآرائهم الْفَاسِدَة بِلَا دَلِيل ونعوذ بِاللَّه من الخذلان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالْعجب كُله كَيفَ يجْتَمع قَول الباقلاني أَنه لَا تجوز الْإِمَامَة لمن غَيره من النَّاس أفضل مِنْهُ وَهُوَ قد جوز النُّبُوَّة والرسالة لمن غَيره من النَّاس أفضل مِنْهُ فَإِنَّهُ صرح فِيمَا ذكره عَنهُ صَاحبه أَبُو جَعْفَر السمناني الْأَعْمَى قَاضِي الْموصل بِأَنَّهُ جَائِز أَن يكون فِي الْإِمَامَة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث إِلَى أَن مَاتَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا فِي خذلان الله عز وَجل أَحَق من هَاتين القضيتين لَا سِيمَا إِذا اقترننا وَالْحَمْد لله على الْإِسْلَام فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ يحتجون هُنَا بقول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم فِي دُعَائِهِمْ إِلَى سعد بن عبَادَة وَهُوَ عنْدكُمْ خطأ وَخلاف للنَّص مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيف تحتجون فِي هَذَا أَيْضا بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذَيْن وَخِلَافَة أبي بكر عنْدكُمْ نَص من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن أَيْن لَهُ أَن يتْرك مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن فعل الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم انتظم حكمين أَحدهمَا تَقْدِيم من لَيْسَ قرشياً وَهَذَا خطأ وَقد خالفهم فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ فَسَقَطت هَذِه الْقَضِيَّة وَالثَّانِي جَوَاز تَقْدِيم من غَيره أفضل مِنْهُ وَهَذَا صَوَاب وافقهم عَلَيْهِ أَبُو بكر وَغَيره فصاروا جماعا فَقَامَتْ بِهِ الْحجَّة وَلَيْسَ خطأ من أَخطَأ وَخَالفهُ فِي قَول وَخَالفهُ فِيهِ من أصَاب الْحق بِمُوجب أَن لَا يحْتَج بصوابه الَّذِي وَافقه فِيهِ أهل الْحق وَهَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما أَمر أبي بكر فَإِن الْحق كَانَ لَهُ بِالنَّصِّ وللمرء أَن يتْرك حَقه إِذا رأى فِي تَركه إصْلَاح ذَات بَين الْمُسلمين وَلَا فرق بَين عَطِيَّة أَعْطَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين منزلَة صبرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإِنْسَان فَكَانَ لَهُ أَن يتحافى عَنْهَا لغيره إِذْ لم يمنعهُ من ذَلِك نَص وَلَا إِجْمَاع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وبرهان صِحَة قَول من قَالَ بِأَن الْإِمَامَة جَائِزَة لمن غَيره أفضل مِنْهُ وَبطلَان قَول من خَالف ذَلِك أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يعرف الْأَفْضَل إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو معْجزَة تظهر فالمعجزة ممتنعة هَاهُنَا بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ النَّص وبرهان آخر وَهُوَ أَن الَّذِي كلفوا بِهِ من معرفَة الْأَفْضَل مُمْتَنع حَال لن قُريْشًا مفترقون فِي الْبِلَاد من أقْصَى السَّنَد إِلَى أقْصَى الأندلس إِلَى أقْصَى الْيمن وصحاري البربر إِلَى أقْصَى أرمينية وأذربيجان وخراسان فَمَا بَين ذَلِك من الْبِلَاد فمعرفة أسمائهم مُمْتَنع فَكيف معرفَة أَحْوَالهم فَكيف معرفَة أفضلهم وبرهان آخر وَهُوَ أَنا بالحس والمشاهدة نَدْرِي أَنه لَا يدْرِي أحد فضل إِنْسَان على غَيره مِمَّن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 بعد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا بِالظَّنِّ وَالْحكم بِالظَّنِّ لَا يحل قَالَ الله تَعَالَى ذاماً لقوم {إِن نظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن بمستيقنين} وَقَالَ تَعَالَى {مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} وَقَالَ تَعَالَى {قتل الخراصون} وَقَالَ تَعَالَى {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} وَقَالَ تَعَالَى {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وَأَيْضًا فإننا وجدنَا النَّاس يتباينون فِي الْفَضَائِل فَيكون الْوَاحِد أزهد وَيكون الْوَاحِد أورع وَيكون الآخر أسوس وَيكون الرَّابِع أَشْجَع وَيكون الْخَامِس أعلم وَقد يكونُونَ متقاربين فِي التَّفَاضُل لَا يبين التَّفَاوُت بَينهم فَبَطل معرفَة الْأَفْضَل وَصَحَّ أَن هَذَا القَوْل فَاسد وتكليف مَا لَا يُطَاق وإلزام مَا لَا يُسْتَطَاع وَهَذَا بَاطِل لَا يحل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ قد وجدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قلد النواحي وَصرف تَنْفِيذ جَمِيع الْأَحْكَام الَّتِي تنفذها الْأَئِمَّة إِلَى قوم كَانَ غَيرهم بِلَا شكّ أفضل مِنْهُم فَاسْتعْمل على أَعمال الْيمن معَاذ بن جبل وَأَبا مُوسَى وخَالِد بن الْوَلِيد وَعلي عمان عَمْرو بن الْعَاصِ وعَلى نَجْرَان أَبَا سُفْيَان وعَلى مَكَّة عتاب ابْن أسيد وعَلى الطَّائِف عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وعَلى الْبَحْرين الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَلَا خلاف فِي أَن أَبَا بكر وَعَمْرو وَعُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر بن عمار بن يَاسر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأَبا عُبَيْدَة وَابْن مَسْعُود وبلال وَأَبا ذَر أفضل مِمَّن ذكرنَا فصح يَقِينا أَن الصِّفَات الَّتِي يسْتَحق بهَا الْإِمَامَة والخلافة لَيْسَ مِنْهَا التَّقَدُّم فِي الْفضل وَأَيْضًا فَإِن الْفَضَائِل كَثِيرَة جدا مِنْهَا الْوَرع والزهد وَالْعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة وَالصَّبْر والصرامة وَغير ذَلِك وَلَا يُوجد أحد يبين فِي جَمِيعهَا بل يكون بَائِنا فِي بَعْضهَا ومتأخراً فِي بَعْضهَا فَفِي أَيهَا يُرَاعِي الْفضل من لَا يُجِيز إِمَامَة الْمَفْضُول فَإِن اقْتصر على بَعْضهَا كَانَ مُدعيًا بِلَا دَلِيل وَإِن عَم جَمِيعهَا كلف من لَا سَبِيل إِلَى وجوده أبدا فِي أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ القَوْل فِي إِمَامَة الْمَفْضُول وَبَطل قَول من قَالَ غير ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذكر الباقلاني فِي شُرُوط الْإِمَامَة أَنَّهَا أحد عشر شرطا وَهَذَا أَيْضا دَعْوَى بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل فَوَجَبَ أَن ينظر فِي شُرُوط الْإِمَامَة الَّتِي لَا تجوز الْإِمَامَة لغير من هن فِيهِ فَوَجَدْنَاهَا أَن يكون صليبة من قُرَيْش لإخبار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْإِمَامَة فيهم وَأَن يكون بَالغا مُمَيّزا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث فَذكر الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم وَالْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَأَن يكون رجلا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفلح قوم أسندوا أَمرهم إِلَى امْرَأَة وَأَن يكون مُسلما لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} والخلافة أعظم السَّبِيل ولأمره تَعَالَى باصغار أهل الْكتاب وَأَخذهم بأَدَاء الْجِزْيَة وَقتل من لم يكن من أهل الْكتاب حَتَّى يسلمُوا وَأَن يكون مُتَقَدما لأَمره عَالما بِمَا يلْزمه من فَرَائض الدّين متقياً لله تَعَالَى بِالْجُمْلَةِ غير معلن بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} لِأَن من قدم من لَا يَتَّقِي الله عز وَجل وَلَا فِي شَيْء من الْأَشْيَاء مُعْلنا بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض غير مَأْمُون أَو من لَا ينفذ أمرا من لَا يدْرِي شَيْئا من دينه فقد أعَان على الْإِثْم والعدوان وَلم يعن على الْبر وَالتَّقوى وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ ورد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَا أَبَا ذَر إِنَّك ضَعِيف لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين مَال يَتِيم وَقَالَ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا} الْآيَة فصح أَن السَّفِيه والضعيف وَمن لَا يقدر على شَيْء فَلَا بُد لَهُ من ولي وَمن لَا بُد لَهُ من ولي فَلَا يجوز أَن يكون وليا للْمُسلمين فصح أَن ولَايَة من لم يستكمل هَذِه الشُّرُوط الثَّمَانِية بَاطِل لَا يجوز وَلَا ينْعَقد أصلا ثمَّ يسْتَحبّ أَن يكون عَالما بِمَا يَخُصُّهُ أُمُور الدّين من الْعِبَادَات والسياسة وَالْأَحْكَام مُؤديا لفرائض كلهَا لَا يخل بِشَيْء مِنْهَا مجتنباً لجَمِيع الْكَبَائِر سرا وجهراً مستتراً بالصغائر إِن كَانَت مِنْهُ فَهَذِهِ أَربع صِفَات يكره الْمَرْء أَن يَلِي الْأمة من لم ينتظمها فَإِن ولي فولايته صَحِيحَة ونكرهها وطاعته فِيمَا أطَاع الله فِيهِ وَاجِبَة وَمنعه مِمَّا لم يطع الله فِيهِ وَاجِب والغاية المأهولة فِيهِ أَن يكون رَفِيقًا بِالنَّاسِ فِي غير ضعف شَدِيدا فِي إِنْكَار الْمُنكر من غير عف وَلَا تجَاوز للْوَاجِب مستيقظاً غير غافل شُجَاع النَّفس غير مَانع لِلْمَالِ فِي حَقه وَلَا مبذر لبه فِي غير حَقه وَيجمع هَذَا كُله أَن يكون الإِمَام قَائِما بِأَحْكَام الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا يجمع كل فَضِيلَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا يضر الإِمَام أَن يكون فِي خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم وَالَّذِي لَا يدان لَهُ وَلَا رجلَانِ وَمن بلغ الْهَرم مَا دَامَ يعقل وَلَو أَنه ابْن مائَة عَام وَمن يعرض لَهُ الصرع ثمَّ يفِيق وَمن بُويِعَ أثر بُلُوغه الْحلم وَهُوَ مستوف لشروط الْإِمَامَة فَكل هَؤُلَاءِ إمامتهم جَائِزَة إِذْ لم يمْنَع مِنْهَا نَص قُرْآن وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا نظر وَلَا دَلِيل أصلا بل قَالَ تَعَالَى {كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ} فَمن قَامَ بِالْقِسْطِ فقد ادى مَا أَمر بِهِ وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يجوز التَّوَارُث فِيهَا وَلَا فِي أَنَّهَا لَا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فَإِنَّهُم أَجَازُوا كلا الْأَمريْنِ وَلَا خلاف بَين أحد فِي أَنَّهَا لَا تجوز لامْرَأَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد الْكَلَام فِي عقد الْإِمَامَة بِمَاذَا تصح (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهب قوم إِلَى أَن الْإِمَامَة لَا تصح إِلَّا بِإِجْمَاع فضلاء الْأمة فِي أقطار الْبِلَاد وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِمَامَة إِنَّمَا تصح بِعقد أهل حَضْرَة الإِمَام والموضع الَّذِي فِيهِ قَرَار الْأَئِمَّة وَذهب أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي إِلَى أَن الإِمَام لَا تصح بِأَقَلّ من عقد خمس رجال وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن عقد الْإِمَامَة تصح بِعَهْد من الإِمَام الْمَيِّت إِذا قصد فِيهِ حسن الِاخْتِيَار للْأمة عِنْد مَوته وَلم يقْصد بذلك هوي وَقد ذكر فِي فَسَاد قَول الروافض وَقَول الكيسانية وَمن ادّعى إِمَامَة رجل بِعَيْنِه وأنبأ أَن كل ذَلِك دَعَا وَلَا يعجز عَنْهَا ذُو لِسَان إِذا لم يتق الله وَلَا استحياء من النَّاس إِذْ لَا دَلِيل على شَيْء مِنْهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما من قَالَ أَن الْإِمَامَة لَا تصح إِلَّا بِعقد فضلاء الْأمة فِي أقطار الْبِلَاد فَبَاطِل لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَمَا لَيْسَ فِي الوسع وَمَا هُوَ أعظم الْحَرج وَالله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسا وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا حرج وَلَا تعجيز أَكثر من تعرف إِجْمَاع فضلاء من فِي المولتان والمنصورة إِلَى بِلَاد مهرَة إِلَى عدن إِلَى أقاصي المصامدة بل طنجة إِلَى الأشبونة إِلَى جزائر الْبَحْر إِلَى سواحل الشَّام إِلَى أرمينية وجبل القبج إِلَى اسينجاب وفرغانة واسروسنه إِلَى أقاصي خُرَاسَان إِلَى الْجَوْز جَان إِلَى كابل المولتان فَمَا بَين ذَلِك من المدن والقرى وَلَا بُد من ضيَاع أُمُور الْمُسلمين قبل أَن يجمع جُزْء من مائَة جُزْء من فضلاء أهل هَذِه الْبِلَاد فَبَطل هَذَا القَوْل الْفَاسِد مَعَ أَنه لَو كَانَ مُمكنا لما لزم لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} و {كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 فهذان الْأَمْرَانِ متوجهان أَحدهمَا إِلَى كل إِنْسَان فِي ذَاته وَلَا يسْقط عَنهُ وجوب الْقيام بِالْقِسْطِ انْتِظَار غَيره فِي ذَلِك وَأما التعاون على الْبر وَالتَّقوى فمتوجه إِلَى كل اثْنَيْنِ فصعدا لِأَن التعاون فعل من فاعلين وَلَيْسَ فعل وَاحِد وَلَا يسْقط عَن الِاثْنَيْنِ فرض تعاونهما على الْبر وَالتَّقوى انْتِظَار ثَالِث إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما لزم أحدا قيام بقسط وَلَا تعاون على بر وتقوى إِذْ لَا سَبِيل إِلَى اجْتِمَاع أهل الأَرْض على ذَلِك أبدا لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عَن ذَلِك لعذر أَو على وَجه الْمعْصِيَة وَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ أَمر الله تَعَالَى بِالْقيامِ بِالْقِسْطِ وبالتعاون على الْبر وَالتَّقوى بَاطِلا فَارغًا وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام فَسقط القَوْل الْمَذْكُور وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَول من قَالَ أَن عقد الْإِمَامَة لَا يَصح إِلَّا بِعقد أهل حَضْرَة الإِمَام وَأهل الْموضع الَّذِي فِيهِ قَرَار الْأَئِمَّة فَإِن أهل الشَّام كَانُوا قد دعوا ذَلِك لأَنْفُسِهِمْ حَتَّى حملهمْ ذَلِك على بيعَة مَرْوَان وَابْنه عبد الْملك وَاسْتَحَلُّوا بذلك دِمَاء أهل الْإِسْلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهُوَ قَول فَاسد لَا حجَّة لأَهله وكل قَول فِي الدّين عرى عَن ذَلِك من الْقُرْآن أَو من سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من إِجْمَاع الْأمة الْمُتَيَقن فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين قَالَ الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة قَوْله فَلَيْسَ صَادِقا فِيهِ فَسقط هَذَا القَوْل أَيْضا وَأما القَوْل الجبائي فَإِنَّهُ تعلق فِيهِ بِفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الشورى إِذْ قلدها سِتَّة رجال وَأمرهمْ أَن يختاروا وَاحِدًا مِنْهُم فَصَارَ الِاخْتِيَار مِنْهُم بِخَمْسَة فَقَط (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لوجوه أَولهَا أَن عمر لم يقل أَن تَقْلِيد الِاخْتِيَار أقل من خَمْسَة لَا يجوز بل قد جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن مَال ثَلَاثَة مِنْهُم إِلَى وَاحِد وَثَلَاثَة إِلَى وَاحِد فاتبعوا الثَّلَاثَة الَّذين فيهم عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف فقد أجَاز عقد ثَلَاثَة وَوجه ثَان وَهُوَ أَن فعل عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يلْزم الْأمة حَتَّى يُوَافق نَص قُرْآن أَو سنة وَعمر كَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يجوز أَن يَخُصُّهُ بِوُجُوب اتِّبَاعه دون غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالثَّالِث أَن أُولَئِكَ الْخَمْسَة رَضِي الله عَنْهُم قد تبرؤا من الِاخْتِيَار وجعلوه إِلَى وَاحِد مِنْهُم يخْتَار لَهُم وللمسلمين من رَآهُ أَهلا للْإِمَامَة وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمَا أنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة الْحَاضِرين وَلَا الغائبين إِذْ بَلغهُمْ ذَلِك فقد صَحَّ إِجْمَاعهم على أَن الْإِمَامَة تَنْعَقِد بِوَاحِد فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن خَمْسَة من فضلاء الْمُسلمين قلدوه قيل لَهُ إِن كَانَ هَذَا عنْدك اعتراضاً فالتزم مثله سَوَاء بِسَوَاء مِمَّن قَالَ لَك إِنَّمَا صَحَّ عقد أُولَئِكَ الْخَمْسَة لِأَن الإِمَام الْمَيِّت قلدهم ذَلِك وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز عقدهم وبرهان ذَلِك أَنه إِنَّمَا عقد لَهُم الِاخْتِيَار مِنْهُم لَا من غَيرهم لما لزم الانقياد لَهُم فَلَا يجوز عقد خَمْسَة أَو أَكثر إِلَّا إِذا قلدهم الإِمَام ذَلِك أَو مِمَّن قَالَ لَك إِنَّمَا صَحَّ عقد أُولَئِكَ الْخَمْسَة لإِجْمَاع فضلاء أهل ذَلِك الْعَصْر على الرِّضَا بِمن اختاروه وَلَو لم يجمعوا على الرِّضَا بِهِ لما جَازَ عقدهم وَهَذَا مِمَّا لَا مخلص مِنْهُ أصلا فَبَطل هَذَا القَوْل بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإذْ قد بطلت هَذِه الْأَقْوَال كلهَا قَالُوا أجب النّظر فِي ذَلِك على مَا أجبه الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَإِجْمَاع الْمُسلمين كَمَا افْترض علينا عز وَجل إِذْ يَقُول {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَوَجَدنَا عقد الْإِمَامَة يَصح بِوُجُوه أَولهَا وأفضلها وأصحها أَن يعْهَد الإِمَام الْمَيِّت إِلَى إِنْسَان يختاره أما بعد مَوته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وساء فعل ذَلِك فِي صِحَّته أَو فِي مَرضه وَعند مَوته إِذْ لَا نَص وَلَا إِجْمَاع على الْمَنْع من أحد هَذِه الْوُجُوه كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي بكر وكما فعل أَبُو بكر بعمر وكما فعل سُلَيْمَان بن عبد الْملك بعمر بن عبد الْعَزِيز وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي نختاره ونكره غَيره لما فِي هَذَا الْوَجْه من اتِّصَال الْإِمَامَة وانتظام أَمر الْإِسْلَام وَأَهله وَرفع مَا يتخوف من الِاخْتِلَاف والشغب مِمَّا يتَوَقَّع فِي غَيره من بَقَاء الْأمة فوضى وَمن انتشار الْأَمر وارتفاع النُّفُوس وحدوث الأطماع (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) إِنَّمَا أنكر من أنكر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن التَّابِعين بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة والوليد وَسليمَان لأَنهم كَانُوا غير مرضيين لَا لِأَن الإِمَام عهد إِلَيْهِم فِي حَيَاته وَالْوَجْه الثَّانِي إِن مَاتَ الإِمَام وَلم يعْهَد إِلَى أحد أَن يُبَادر رجل مُسْتَحقّ للْإِمَامَة فيدعو إِلَى نَفسه وَلَا مُنَازع لَهُ فَفرض أَتْبَاعه والانقياد لبيعته والتزام إِمَامَته وطاعته كَمَا فعل عَليّ إِذْ قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا وكما فعل ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد فعل خَالِد بن الْوَلِيد إِذْ قتل الْأُمَرَاء زيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب وَعبد الله بن رَوَاحَة فَأخذ خَالِد الرَّايَة عَن غَيره أمره وَصوب ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بلغه فعله وساعد خَالِدا جَمِيع الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم وَأَن يقوم كَذَلِك عِنْد ظُهُور مُنكر يرَاهُ فتلزم معاونته على الْبر وَالتَّقوى وَلَا يجوز التَّأَخُّر عَنهُ لِأَن ذَلِك معاونة على الْإِثْم والعدوان وَقد قَالَ عز وَجل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} كَمَا فعل يزِيد بن الْوَلِيد وَمُحَمّد بن هَارُون الْمهْدي رَحِمهم الله وَالْوَجْه الثَّالِث أَن يصير الإِمَام عِنْد وَفَاته اخْتِيَار خَليفَة الْمُسلمين إِلَى رجل ثِقَة أَو إِلَى أَكثر من وَاحِد كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ عِنْد مَوته وَلَيْسَ عندنَا فِي هَذَا الْوَجْه إِلَّا التَّسْلِيم لما أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ حِينَئِذٍ وَلَا يجوز التَّرَدُّد فِي الِاخْتِيَار أَكثر من ثَلَاث لَيَال للثابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله من بَات لَيْلَة لَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة وَلِأَن الْمُسلمين لم يجتمعوا على ذَلِك أَكثر من ذَلِك وَالزِّيَادَة على ذَلِك بَاطِل لَا يحل على أَن الْمُسلمين يَوْمئِذٍ من حِين موت عمر رَضِي الله عَنهُ قد اعتقدوا بيعَة لَازِمَة فِي أَعْنَاقهم لَازِمَة لأحد أُولَئِكَ السِّتَّة بِلَا شكّ فهم وَإِن لم يعرفوه بِعَيْنِه فَهُوَ بِلَا شكّ وَاحِد من أُولَئِكَ السِّتَّة فبأحد هَذِه الْوُجُوه تصح الْإِمَامَة وَلَا تصح بِغَيْر هَذِه الْوُجُوه الْبَتَّةَ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن مَاتَ الإِمَام وَلم يعْهَد إِلَى إِنْسَان بِعَيْنِه فَوَثَبَ رجل يصلح للْإِمَامَة فَبَايعهُ وَاحِد فَأكْثر ثمَّ قَامَ آخر ينازعه وَلَو بطرفة عين بعده فَالْحق حق حق الأول وَسَوَاء كَانَ الثَّانِي أفضل مِنْهُ أَو مثله أَو دونه لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قوا بيعَة الأول فَالْأول من جَاءَ ينازعه فاضربوا عُنُقه كَائِنا من كَانَ فَلَو قَامَ اثْنَان فَصَاعِدا مَعًا فِي وَقت وَاحِد ويئس من معرفَة أَيهمَا بيعَته نظر أفضلهما وأسوسهما فَالْحق لَهُ وَوَجَب نزع الآخر لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَمن الْبر تَقْلِيد الاسوس وَلَيْسَ هَذَا بيعَة مُتَقَدّمَة يجب الْوَفَاء بهَا ومحاربة من نَازع صَاحبهَا فَإِن اسْتَويَا فِي الْفضل قدم الأسوس نعم وَإِن كَانَ أقل فضلا إِذا كَانَ مُؤديا للفرائض وَالسّنَن مجتنباً للكبائر ومستترا بالصغائر لِأَن الْغَرَض من الْإِمَامَة حسن السياسة وَالْقُوَّة على الْقيام بالأمور فَإِن اسْتَويَا فِي الْفضل والسياسة اقرع بَينهمَا أَو نظر فِي غَيرهمَا وَالله عز وَجل لَا يضيق على عباده هَذَا الضّيق وَلَا يوقفهم على هَذَا الْحَرج لقَوْله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَهَذَا أعظم الْحَرج وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اتّفقت الْأمة كلهَا على وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم لقَوْل الله تَعَالَى {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر} ثمَّ اخْتلفُوا فِي كيفيته فَذهب بعض أهل السّنة من القدماء من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن بعدهمْ وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره وَهُوَ قَول سعد بن أبي وَقاص وَأُسَامَة ابْن زيد وَابْن عمر وَمُحَمّد بن مسلمة وَغَيرهم إِلَى أَن الْغَرَض من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ فَقَط وَلَا بَدَأَ وباللسان إِن قدر على ذَلِك وَلَا يكون بِالْيَدِ وَلَا بسل السيوف وَوضع السِّلَاح أصلا وَهُوَ قَول ابي بكر ابْن كيسَان الْأَصَم وَبِه قَالَت الروافض كلهم وَلَو قتلوا كلهم إِلَّا أَنَّهَا لم تَرَ ذَلِك إِلَّا مَا لم يخرج النَّاطِق فَإِذا خرج وَجب سل السيوف حِينَئِذٍ مَعَه وَإِلَّا فَلَا واقتدى أهل السّنة فِي هَذَا بعثمان رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّنْ ذكرنَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وبمن رأى الْقعُود مِنْهُم إِلَّا أَن جَمِيع الْقَائِلين بِهَذِهِ الْمقَالة من أهل السّنة إِنَّمَا رَأَوْا ذَلِك مَا لم يكن عدلا فَإِن كَانَ عدلا وَقَامَ عَلَيْهِ فَاسق وَجب عِنْدهم بِلَا خلاف سل السيوف مَعَ الإِمَام الْعدْل وَقد روينَا عَن ابْن عمرانة قَالَ لَا أَدْرِي من هِيَ الفئة الباغية وَلَو علمنَا مَا سبقتني أَنْت وَلَا غَيْرك إِلَى قتالها قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي لَا يظنّ بأولئك الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم غَيره وَذَهَبت طوائف من أهل السّنة وَجَمِيع الْمُعْتَزلَة وَجَمِيع الْخَوَارِج والزيدية إِلَى أَن سل السيوف فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَاجِب إِذا لم يُمكن دفع الْمُنكر إِلَّا بذلك قَالُوا فَإِذا كَانَ أهل الْحق فِي عِصَابَة يُمكنهُم الدّفع وَلَا ييئسون من الظفر فَفرض عَلَيْهِم ذَلِك وَإِن كَانُوا فِي عدد لَا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كَانُوا فِي سَعَة من ترك التَّغْيِير بِالْيَدِ وَهَذَا قَول عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكل من مَعَه من الصَّحَابَة وَقَول أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وكل من كَانَ مَعَهم من الصَّحَابَة وَقَول مُعَاوِيَة وَعَمْرو والنعمان بن بشير وَغَيرهم مِمَّن مَعَهم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَهُوَ قَول عبد الله بن الزبير وَمُحَمّد وَالْحسن بن عَليّ وَبَقِيَّة الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والقائمين يَوْم الْحرَّة رَضِي الله عَن جَمِيعهم أَجْمَعِينَ وَقَول كل من أَقَامَ على الْفَاسِق الْحجَّاج وَمن وَالَاهُ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم جَمِيعهم كأنس بن مَالك وكل من كَانَ مِمَّن ذكرنَا من أفاضل التَّابِعين كَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن البحتري الطَّائِي وَعَطَاء السّلمِيّ الْأَزْدِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك بن دِينَار وَمُسلم بن بشار وَأبي الْحَوْرَاء وَالشعْبِيّ وَعبد الله بن غَالب وَعقبَة بن عبد الغافر وَعقبَة بن صهْبَان وماهان والمطرف بن الْمُغيرَة ابْن شُعْبَة وَأبي الْمعد وحَنْظَلَة بن عبد الله وَأبي سح الْهنائِي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابْن السخير والنصر بن أنس وَعَطَاء بن السَّائِب وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد التَّيْمِيّ وَأبي الحوسا وجبلة بن زحر وَغَيرهم ثمَّ من بعد هَؤُلَاءِ من تَابِعِيّ التَّابِعين وَمن بعدهمْ كَعبد الله بن عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن عجلَان وَمن خرج مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن وهَاشِم بن بشر ومطر وَمن أخرج مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله وَهُوَ الَّذِي تدل عَلَيْهِ أَقْوَال الْفُقَهَاء كَأبي حنيفَة وَالْحسن بن حييّ وَشريك وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد وأصحابهم فَإِن كل من ذكرنَا من قديم وَحَدِيث إِمَّا نَاطِق بذلك فِي فتواه وَإِمَّا الْفَاعِل لذَلِك بسل سَيْفه فِي إِنْكَار مَا رَآهُ مُنْكرا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احتجت الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة أَولا بِأَحَادِيث فِيهَا انقاتلهم يَا رَسُول الله قَالَ لَا مَا وصلوا وَفِي بَعْضهَا إِلَّا أَن نر كفرا بواحاً عنْدكُمْ فِيهِ من الله برهَان وَفِي بَعْضهَا وجوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 الضَّرْب وَإِن ضرب ظهر أَحَدنَا وَأخذ مَاله وَفِي بَعْضهَا فَإِن خشيت أَن يسهرك شُعَاع السَّيْف فاطرح ثَوْبك على وَجهك وَقل إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَفِي بَعْضهَا كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قرباناً فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من الآخر} الْآيَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لما قد تقصيناه غَايَة التَّقَصِّي خَبرا خَبرا بأسانيدها ومعانيها فِي كتَابنَا الموسوم بالاتصال إِلَى فهم معرفَة الْخِصَال وَنَذْكُر مِنْهُ إِن شَاءَ الله هَاهُنَا جملا كَافِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على أَخذ المَال وَضرب الظّهْر فَإِنَّمَا ذَلِك بِلَا شكّ إِذا تولى الإِمَام ذَلِك بِحَق وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ أَنه فرض علينا الصَّبْر لَهُ وَإِن امْتنع من ذَلِك بل من ضرب رقبته إِن وَجب عَلَيْهِ فَهُوَ فَاسق عَاص لله تَعَالَى وَإِمَّا إِن كَانَ ذَلِك بباطل فمعاذ الله أَن يَأْمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على ذَلِك برهَان هَذَا قَول الله عز وَجل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَقد علمنَا أَن كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُخَالف كَلَام ربه تَعَالَى قَالَ الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح أَن كل مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَحي من عِنْد الله عز وَجل وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ وَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض فَإِذا كَانَ هَذَا كَذَلِك فيقين لَا شكّ فِيهِ يدْرِي كل مُسلم أَن أَخذ مَال مُسلم أَو ذمِّي بِغَيْر حق وَضرب ظَهره بِغَيْر حق إِثْم وعدوان وَحرَام قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ حرَام عَلَيْكُم فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا وَلَا اخْتِلَاف من أحد من الْمُسلمين فالمسلم مَاله للأخذ ظلما وظهره للضرب ظلما وَهُوَ يقدر على الِامْتِنَاع من ذَلِك بِأَيّ وَجه أمكنه معاون لظالمه على الْإِثْم والعدوان وَهَذَا حرَام بِنَصّ الْقُرْآن وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرنَا وقصة ابْني آدم فَلَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا أما قصَّة ابْني آدم فَتلك شَرِيعَة أُخْرَى غير شريعتنا قَالَ الله عز وَجل {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} وَأما الْأَحَادِيث فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ إِن اسْتَطَاعَ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان لَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الْإِيمَان شَيْء وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَاعَة فِي مَعْصِيّة إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الطَّاعَة وعَلى أحدكُم السّمع وَالطَّاعَة مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة فَإِن أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد والمقتول دون دينه شَهِيد والمقتول دون مظْلمَة شَهِيد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليعمنكم الله بِعَذَاب من عِنْده فَكَانَ ظَاهر هَذِه الْأَخْبَار مُعَارضا للْآخر فصح أَن إِحْدَى هَاتين الجملتين ناسخة لِلْأُخْرَى لَا يُمكن غير ذَلِك فَوَجَبَ النّظر فِي أَيهمَا هُوَ النَّاسِخ فَوَجَدنَا تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي مِنْهَا النَّهْي عَن الْقِتَال مُوَافقَة لمعهود الأَصْل وَلما كَانَت الْحَال فِيهِ فِي أول الْإِسْلَام بِلَا شكّ وَكَانَت هَذِه الْأَحَادِيث الْأُخَر وَارِدَة بشريعة زَائِدَة وَهِي الْقِتَال هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فقد صَحَّ نسخ معتن تِلْكَ الحاديث وَرفع حكمهَا حِين نطقه عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذِهِ الْأُخَر بِلَا شكّ فَمن الْمحَال الْمحرم أَن يُؤْخَذ بالمنسوخ وَيتْرك النَّاسِخ وَأَن يُؤْخَذ الشَّك وَيتْرك الْيَقِين وَمن ادّعى أَن هَذِه الْأَخْبَار بعد أَن كَانَت هِيَ الناسخة فَعَادَت مَنْسُوخَة فقد ادّعى الْبَاطِل وَقفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ فَقَالَ على الله مَا لم يعلم وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 لَا يحل وَلَو كَانَ هَذَا لما أخلا الله عز وَجل هَذَا الحكم عَن دَلِيل وبرهان يبين بِهِ رُجُوع الْمَنْسُوخ نَاسِخا لقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآن تبياناً لكل شَيْء وبرهان آخر وَهُوَ أَن الله عز وَجل قَالَ {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء} لم يخْتَلف مسلمان فِي أَن هَذِه الْآيَة الَّتِي فِيهَا فرض قتال الفئة الباغية محكمَة غير مَنْسُوخَة فصح أَنَّهَا الحاكمة فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث فَمَا كَانَ مُوَافقا لهَذِهِ الْآيَة فَهُوَ النَّاسِخ الثَّابِت وَمَا كَانَ مُخَالفا لَهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخ الْمَرْفُوع وَقد ادّعى قوم أَن هَذِه الْآيَة وَهَذِه الْأَحَادِيث فِي اللُّصُوص دون السُّلْطَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل مُتَيَقن لِأَنَّهُ قَول بِلَا برهَان وَمَا يعجز مُدع أَن يَدعِي فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث أَنَّهَا فِي قوم دون قوم وَفِي زمَان دون زمَان وَالدَّعْوَى دون برهَان لَا تصح وَتَخْصِيص النُّصُوص بِالدَّعْوَى لَا يجوز لِأَنَّهُ قَول على الله تَعَالَى بِلَا علم وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سَائِلًا سَأَلَهُ عَن من طلب مَاله بِغَيْر حق فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا تعطه قَالَ فَإِن قاتلني قَالَ قَاتله فَإِن قَتله قَالَ إِلَى النَّار قَالَ فَإِن قتلني قَالَ فَأَنت فِي الْجنَّة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَصَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يسلبه وَلَا يَظْلمه وَقد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي الزَّكَاة من سَأَلَهَا على وَجههَا فليعطها وَمن سَأَلَهَا على غير وَجههَا فَلَا يُعْطهَا وَهَذَا خبر ثَابت روينَاهُ من طَرِيق الثِّقَات عَن أنس بن مَالك عَن أبي بكر الصّديق عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا يبطل تَأْوِيل من تَأْوِيل أَحَادِيث الْقِتَال عَن المَال على اللُّصُوص لَا يطْلبُونَ الزَّكَاة وَإِنَّمَا يَطْلُبهُ السُّلْطَان فاقتصر عَلَيْهِ السَّلَام مَعهَا إِذا سَأَلَهَا على غير مَا أَمر بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو اجْتمع أهل الْحق مَا قاواهم أهل الْبَاطِل نسْأَل الله المعونة والتوفيق (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا اعْترضُوا بِهِ من فعل عُثْمَان فَمَا علم قطّ أَنه يقتل وَإِنَّمَا كَانَ يراهم يحاصرون فَقَط وَهُوَ لَا يرَوْنَ هَذَا الْيَوْم للْإِمَام الْعدْل بل يرَوْنَ الْقِتَال مَعَه ودونه فرضا فَلَا حجَّة لَهُم فِي أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بَعضهم إِن فِي الْقيام إِبَاحَة الْحَرِيم وَسَفك الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال وهتك الأستار وانتشار الْأَمر فَقَالَ لَهُم الْآخرُونَ كلا لِأَنَّهُ لَا يحل لمن أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر أَن يهتك حريماً وَلَا أَن يَأْخُذ مَالا بِغَيْر حق وَلَا أَن يتَعَرَّض لمن لَا يقاتله فَإِن فعل شَيْئا من هَذَا فَهُوَ الَّذِي فعل مَا يَنْبَغِي أَن يُغير عَلَيْهِ وَأما قَتله أهل الْمُنكر قَالُوا أَو كَثُرُوا فَهَذَا فرض عَلَيْهِ وَأما قتل أهل الْمُنكر النَّاس وَأَخذهم أَمْوَالهم وهتكهم حريمهم كُله من الْمُنكر الَّذِي يلْزم النَّاس تَغْيِيره وَأَيْضًا فَلَو كَانَ خوف مَا ذكرُوا مَانِعا من تَغْيِير الْمُنكر وَمن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَكَانَ هَذَا بِعَيْنِه مَانِعا من جِهَاد أهل الْحَرْب وَهَذَا مَالا يَقُوله مُسلم وَإِن ادّعى ذَلِك إِلَى سبي النَّصَارَى نسَاء الْمُؤمنِينَ وَأَوْلَادهمْ وَأخذ أَمْوَالهم وَسَفك دِمَائِهِمْ وهتك حريمهم وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن الْجِهَاد وَاجِب مَعَ وجود هَذَا كُله وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ وكل ذَلِك جِهَاد وَدُعَاء إِلَى الْقُرْآن وَالسّنة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيُقَال لَهُم مَا تَقولُونَ فِي سُلْطَان جعل الْيَهُود أَصْحَاب أمره وَالنَّصَارَى جنده وألزم الْمُسلمين الْجِزْيَة وَحمل السَّيْف على أَطْفَال الْمُسلمين وأباح المسلمات للزِّنَا وَحمل السَّيْف على كل من وجد من الْمُسلمين وَملك نِسَاءَهُمْ وأطفالهم وأعلن الْعَبَث بهم وَهُوَ فِي كل ذَلِك مقرّ بِالْإِسْلَامِ مُعْلنا بِهِ لَا يدع الصَّلَاة فَإِن قَالُوا لَا يجوز الْقيام عَلَيْهِ بل قيل لَهُم أَنه لَا يدع مُسلما إِلَّا قَتله جملَة وَهَذَا أَن ترك أوجب ضَرُورَة أَلا يبْقى إِلَّا هُوَ وَحده وَأهل الْكفْر مَعَه فَإِن أَجَازُوا الصَّبْر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 على هَذَا خالفوا الْإِسْلَام جملَة وانسلخوا مِنْهُ وَإِن قَالُوا بل يُقَام عَلَيْهِ وَيُقَاتل وَهُوَ قَوْلهم قُلْنَا لَهُم فَإِن قتل تِسْعَة أعشار الْمُسلمين أَو جَمِيعهم إِلَّا وَاحِد مِنْهُم وَسبي من نِسَائِهِم كَذَلِك وَأخذ من أَمْوَالهم كَذَلِك فَإِن منعُوا من الْقيام عَلَيْهِ تناقضوا وَإِن أوجبوا سألناهم عَن أقل من ذَلِك وَلَا نزال نحيطهم إِلَى أَن نقف بهم على قتل مُسلم وَاحِدًا أَو على امْرَأَة وَاحِدَة أَو على أَخذ مَال أَو على انتهاك بشرة بظُلْم فَإِن فرقوا بَين شَيْء من ذَلِك تناقضوا وتحكموا بِلَا دَلِيل وَهَذَا مَالا يجوز وَإِن أوجبوا إِنْكَار كل ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق ونسألهم عَمَّن غصب سُلْطَانه الجائر الْفَاجِر زَوجته وَابْنَته وَابْنه ليفسق بهم أَو ليفسق بِهِ بِنَفسِهِ أهوَ فِي سَعَة من إِسْلَام نَفسه وَامْرَأَته وَولده وَابْنَته للفاحشة أم فرض عَلَيْهِ أَن يدْفع من أَرَادَ ذَلِك مِنْهُم فَإِن قَالُوا فرض عَلَيْهِ إِسْلَام نَفسه وَأَهله أَتَوا بعظيمة لَا يَقُولهَا مُسلم وَإِن قَالُوا بل فرض عَلَيْهِ أَن يمْتَنع من ذَلِك وَيُقَاتل رجعُوا إِلَى الْحق وَلزِمَ ذَلِك كل مُسلم فِي كل مُسلم وَفِي المَال كَذَلِك. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْوَاجِب أَن وَقع شَيْء من الْجور وَإِن قل أَن يكلم الإِمَام فِي ذَلِك وَيمْنَع مِنْهُ فَإِن امْتنع وراجع الْحق وأذعن للقود من الْبشرَة أَو من الْأَعْضَاء ولإقامة حد الزِّنَا وَالْقَذْف وَالْخمر عَلَيْهِ فَلَا سَبِيل إِلَى خلعه وَهُوَ إِمَام كَمَا كَانَ لَا يحل خلعه فَإِن امْتنع من إِنْفَاذ شَيْء من هَذِه الْوَاجِبَات عَلَيْهِ وَلم يُرَاجع وَجب خلعه وَإِقَامَة غَيره مِمَّن يقوم بِالْحَقِّ لقَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَلَا يجوز تَضْييع شَيْء من وَاجِبَات الشَّرَائِع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق. الْكَلَام فِي الصَّلَاة خلف الْفَاسِق وَالْجهَاد مَعَه وَالْحج وَدفع الزَّكَاة إِلَيْهِ ونفاذ أَحْكَامه من الْأَقْضِيَة وَالْحُدُود وَغير ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يجوز الصَّلَاة إِلَّا خلف الْفَاضِل وَهُوَ قَول الْخَوَارِج والزيدية وَالرَّوَافِض وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض أهل السّنة وَقَالَ آخَرُونَ إِلَّا الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ وَهُوَ قَول بعض أهل السّنة وَذهب طَائِفَة الصَّحَابَة كلهم دون خلاف من أحد مِنْهُم وَجَمِيع فُقَهَاء التَّابِعين كلهم دون خلاف من أحد مِنْهُم وَأكْثر من بعدهمْ وَجُمْهُور اصحاب الحَدِيث وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَدَاوُد وَغَيرهم إِلَى جَوَاز الصَّلَاة خلف الْفَاسِق الْجُمُعَة وَغَيرهَا وَبِهَذَا نقُول وَخلاف هَذَا القَوْل بِدعَة محدثة فَمَا تَأَخّر قطّ أحد من الصَّحَابَة الَّذين أدركوا الْمُخْتَار بن عبيد وَالْحجاج وَعبيد الله بن زِيَاد وحبيش بن دلجة وَغَيرهم عَن الصَّلَاة خَلفهم وَهَؤُلَاء أفسق الْفُسَّاق وَأما الْمُخْتَار فَكَانَ مُتَّهمًا فِي دينه مظنوناً بِهِ الْكفْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج من يَقُول بِمَنْع الصَّلَاة خَلفهم بقول الله تَعَالَى {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُم كل فَاسق إِذا نوى بِصَلَاتِهِ رَحمَه الله تَعَالَى فَهُوَ فِي ذَلِك من الْمُتَّقِينَ فَصلَاته متقبلة وَلَو لم يكن من الْمُتَيَقن إِلَّا من لَا ذَنْب لَهُ ماستحق أحد هَذَا الِاسْم بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عز وَجل {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة} ولايجوز الْقطع على الْفَاسِق بِأَنَّهُ لم يرد بِصَلَاتِهِ وَجه الله تَعَالَى وَمن قطع بِهَذَا فقد قفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَقَالَ مَالا يعلم وَهَذَا حرَام وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ عز وَجل {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} وَقَالَ بَعضهم إِن صَلَاة الْمَأْمُوم مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْفساد لِأَنَّهُ قَول بِلَا دَلِيل بل الْبُرْهَان يُبطلهُ لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَدَعوى الارتباط هَاهُنَا قَول بِلَا برهَان لامن قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من مَعْقُول وهم قد أَجمعُوا على أَن طَهَارَة الإِمَام لَا تنوب عَن طَهَارَة الْمَأْمُوم وَلَا قِيَامه وَلَا قعوده عَن قعوده وَلَا سُجُوده عَن سُجُوده وَلَا رُكُوعه عَن رُكُوعه وَلَا نِيَّته عَن نِيَّته فَمَا معنى هَذَا الارتباط الَّذِي تَدعُونَهُ إِذا وَأَيْضًا فَإِن الْقطع عَن سريرة الَّذِي ظَاهره الْفضل لَا يجوز وَإِنَّمَا هُوَ ظن فَاسْتَوَى الْأَمر فِي ذَلِك فِي الْفَاضِل وَالْفَاسِق وَصَحَّ أَنه لَا يُصَلِّي أحد عَن أحد وَإِن كَانَ أحد يُصَلِّي عَن نَفسه وَقَالَ تَعَالَى {أجِيبُوا دَاعِي الله} فَوَجَبَ بذلك ضَرُورَة أَن كل دَاع دَعَا إِلَى خير من صَلَاة أَو حج أَو جِهَاد أَو تعاون على بر وتقوى فَفرض إجَابَته وَعمل ذَلِك الْخَيْر مَعَه لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَإِن كل دَاع دعى إِلَى شَرّ فَلَا يجوز إجَابَته بل فرض دفاعه وَمنعه وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن الْفسق منزلَة نقص عَمَّن هُوَ أفضل مِنْهُ وَالَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن النِّسْبَة بَين أفجر فَاجر من الْمُسلمين وَبَين أفضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أقرب من النِّسْبَة بَين أفضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا عرى أحد من تعمد ذَنْب وتقصير بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا تفاضل الْمُسلمُونَ فِي كَثْرَة الذُّنُوب وقلتها وَفِي اجْتِنَاب الْكَبَائِر ومواقعتها وَأما الصَّغَائِر فَمَا نجاأحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَقد صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلف أبي بكر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَبِهَذَا صَحَّ أَن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله فَإِن اسْتَووا فأفقههم ندب لَا فرض فَلَيْسَ لفاضل بعد هَذَا أَن يمْتَنع من الصَّلَاة خلف من هُوَ دونه فِي القصوى من الغايات. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما دفع الزَّكَاة إِلَى الإِمَام فَإِن كَانَ الإِمَام الْقرشِي الْفَاضِل أَو الْفَاسِق لم ينازعه فَاضل فَهِيَ جَارِيَة لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارضوا مصدقيكم وَلَا يكون مُصدقا كل من سمى نَفسه مُصدقا لَكِن من قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ مُصدق بإرسال الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته لَهُ وَإِمَّا من سَأَلَهَا من هُوَ غير الإِمَام الْمَذْكُور أَو غير مصدقه فَهُوَ عَابِر سَبِيل لَا حق فِي قبضهَا فَلَا يَجْزِي دَفعهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ دَفعهَا إِلَى غير من أَمر بدفعها إِلَيْهِ وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وَهَكَذَا القَوْل فِي الْأَحْكَام كلهَا من الْحُدُود وَغَيرهَا إِن أَقَامَهَا الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته وَالَّذِي لَا بُد مِنْهُ فَإِن وَافَقت الْقُرْآن وَالسّنة نفذت وَإِلَّا فَهِيَ مَرْدُودَة لما ذكرنَا وَإِن أَقَامَهَا غير الامام أوواليه فَهِيَ كلهَا مَرْدُودَة وَلَا يحْتَسب بهَا لِأَنَّهُ أَقَامَهَا من لم يُؤمر بإقامتها فَإِن لم يقدر عَلَيْهَا الإِمَام فَكل من قَامَ بِشَيْء من الْحق حِينَئِذٍ نفذ لأمر الله تَعَالَى لنا بِأَن نَكُون قوامين بِالْقِسْطِ وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة اذا كَانَ الإِمَام حَاضرا مُتَمَكنًا أَو أميره أَو واليه فَإِن من بَادر إِلَى تَنْفِيذ حكم هُوَ إِلَى الإِمَام فَإِنَّهُ إِمَّا مظْلمَة ترد وَإِمَّا عزل لَا ينفذ على هَذَا جرى عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيع عماله فِي الْبِلَاد بِنَقْل جَمِيع الْمُسلمين عصراً بعد عصر ثمَّ عمل جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَأما الْجِهَاد فَهُوَ وَاجِب مَعَ كل إِمَام وكل متغلب وكل بَاغ وكل محَارب من الْمُسلمين لِأَنَّهُ تعاون على الْبر وَالتَّقوى وَفرض على كل أحد دَعَا إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى دين الْإِسْلَام وَمنع الْمُسلمين مِمَّن أَرَادَهُم قَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الْآيَة فَهَذَا عُمُوم لكل مُسلم بِنَصّ الْآيَة فِي كل مَكَان وكل زمَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ كتاب الْإِمَامَة والمفاضلة بِحَمْد الله تَعَالَى وشكره ذكر العظائم المخرجة إِلَى الْكفْر والمحال من أَقْوَال أهل الْبدع الْمُعْتَزلَة والخوارج والمرجئة والشيع. قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد كتبنَا فِي ديواننا هَذَا من فضائح الْملَل الْمُخَالفَة لدين الْإِسْلَام الَّذِي فِي كتبهمْ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مَالا بَقِيَّة لَهُم بعْدهَا وَلَا يمتري أحد وقف عَلَيْهَا إِنَّهُم فِي ضلال وباطل ونكتب إِن شَاءَ الله تَعَالَى على هَذِه الْفرق الْأَرْبَع من فواحش أَقْوَالهم مَا لَا يخفى على أحد قراه إِنَّهُم فِي ضلال وباطل ليَكُون ذَلِك زاجراً لمن أَرَادَ الله توفيقه عَن مضامتهم واما التَّمَادِي فيهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وليعلم من قَرَأَ كتَابنَا هَذَا أننا لَا نستحل مَا يستحله من لَا خير فِيهِ من تقويل أحد مالم يقلهُ نصا وَإِن آل قَوْله إِلَيْهِ إِذْ قد لَا يلْزم مَا ينتجه قَوْله فيتناقض فاعلموا أَن تقويل الْقَائِل كَافِرًا كَانَ أَو مبتدعاً أَو مخطئاً مَالا يَقُوله نصا كذب عَلَيْهِ وَلَا يحل الْكَذِب على أحد لَكِن رُبمَا دلسوا الْمَعْنى الْفَاحِش بِلَفْظ ملتبس ليسهلوه على أهل الْجَهْل وَيحسن النّظر بهم من أتباعهم وليبعد فهم تِلْكَ الْعَظِيمَة على الْعَامَّة من مخالفتهم كَقَوْل طوائف من أهل الْبِدْعَة والضلالة لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال وَلَا على الظُّلم وَلَا على الْكَذِب ولاعلى غير مَا علم أَنه يكون فأخفوا أعظم الْكفْر فِي هَذِه الْقَضِيَّة لما ذكرنَا من تأنيس الأغمار من أتباعهم وتسكين الدهماء من مخالفيهم فِرَارًا عَن كشف معتقدهم صراحاً الَّذِي هُوَ أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الظُّلم وَلَا لَهُ قُوَّة على الْكَذِب وَلَا بِهِ طَاقَة على الْمحَال وَلَا بُد لنا من إِيضَاح مَا موهوه هَكَذَا وإيراده بأظهر عباراته كشفا لتمويهم تقربا إِلَى الله تَعَالَى بهتك أستارهم كشف أسرارهم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل ذكر شنع الشِّيعَة قَالَ أَب وَمُحَمّد أهل الشنع من هَذِه الْفرْقَة ثَلَاث طوائف أَولهَا الجارودية من الزيدية ثمَّ الإمامية من الرافضة ثمَّ الغالية فَأَما الجارودية فَإِن طَائِفَة مِنْهُم قَالَت أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن ابْن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بِالْمَدِينَةِ على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَوجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَقتل مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن رَحمَه الله فَقَالَت هَذِه الطَّائِفَة أَن مُحَمَّد الْمَذْكُور حَيّ لم يقتل وَلَا مَاتَ وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم أَنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الْحُسَيْن بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بِالْكُوفَةِ أَيَّام المستعين فَوجه إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر ابْن الْحُسَيْن بِأَمْر المستعين ابْن عَمه الْحسن بن إِسْمَاعِيل ابْن الْحُسَيْن وَهُوَ ابْن أخي طَاهِر بن الْحُسَيْن فَقتل يحيى بن عمر رَحمَه الله فَقَالَت الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة أَن يحيى بن عمر هَذَا حَيّ لم يقتل وَلَا مَاتَ وَلَا يَمُوت حَتَّى يملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عَليّ بن عمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بالطالقان أَيَّام المعتصم حَيّ لم يمت وَلَا قتل وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت الكيسانية وهم أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد وهم عندنَا شيعَة من الزيدية فِي سبيلهم أَن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ ابْن الْحَنَفِيَّة حَيّ بجبال رضوي عَن يَمِينه أَسد وَعَن يسَاره نمر تحدثه الْمَلَائِكَة يَأْتِيهِ رزقه غدواً وعشياً لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَ بعض الروافض الإمامية وَهِي الْفرْقَة الَّتِي تَدعِي الممطورة أَن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب حَيّ لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم وهم الناووسية أَصْحَاب ناوس الْمصْرِيّ مثل ذَلِك فِي أَبِيه جَعْفَر بن مُحَمَّد وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم مثل ذَلِك فِي أَخِيه إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَقَالَت السباية أَصْحَاب عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي الْيَهُودِيّ مثل ذَلِك فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَزَادُوا أَنه فِي السَّحَاب فليت شعري فِي أَي سَحَابَة هُوَ من السَّحَاب والسحاب كثير فِي أقطار الْهَوَاء مسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَقَالَ عبد الله ابْن سبا إِذْ بلغه قتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو أتيتمونا بدماغه سبعين مرّة مَا صدقنا مَوته وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَ بعض الكيسانية بِأَن أَبَا مُسلم السراج حَيّ لم يمت وسيظهر وَلَا بُد وَقَالَ بعض الكيسانية بِأَنَّهُ عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب حَيّ بجبال أَصْبَهَان إِلَى الْيَوْم وَلَا بُد لَهُ من أَن يظْهر وَعبد الله هَذَا هُوَ الْقَائِم بِفَارِس أَيَّام مَرْوَان بن مُحَمَّد وَقَتله أَبُو مُسلم بعد أَن سجنه دهراً وَكَانَ عبد الله هَذَا ردي الدّين معطلاً مستصحباً للدهرية قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَصَارَ هؤلاءفي سَبِيل الْيَهُود الْقَائِلين بِأَن ملكصيدق بن عَامر بن ارفخشد بن سَام ابْن نوح وَالْعَبْد الَّذِي وَجهه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ عَليّ إِسْحَاق ابْنه عَلَيْهِ السَّلَام والياس عَلَيْهِ السَّلَام وفنحاس بن العازار بن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَحيَاء إِلَى الْيَوْم وسلك هَذَا السَّبِيل بعض تركي الصُّوفِيَّة فزعموا أَن الْخضر والياس عَلَيْهِمَا السَّلَام حَيَّان إِلَى الْيَوْم وَادّعى بَعضهم أَنه يلقِي الياس فِي الفلوات وَالْخضر فِي المروج والرياض وَأَنه مَتى ذكر حضر على ذكرَاهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن ذكر فِي شَرق الأَرْض وغربها وشمالها وجنوبها وَفِي ألف مَوضِع فِي دقيقة وَاحِدَة كَيفَ يصنع وَلَقَد لَقينَا من يذهب إِلَى هَذَا خلقا وكلمناهم مِنْهُم الْمَعْرُوف بِابْن شقّ اللَّيْل الْمُحدث بطلبيره وَهُوَ مَعَ ذَلِك من أهل الْعِنَايَة وسعة الرِّوَايَة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب وَأَخْبرنِي أَنه جَالس الْخضر وَكَلمه مرَارًا اَوْ غَيره كثير هَذَا مَعَ سماعهم قَول الله تَعَالَى {وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَبِي بعدِي فَكيف يستجيزه مُسلم أَن يثبت بعده عَلَيْهِ السَّلَام نَبيا فِي الأَرْض حاشا مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْآثَار المسندة الثَّابِتَة فِي نزُول عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فِي آخر الزَّمَان وكفار برغواطه إِلَى الْيَوْم ينتظرون صَالح بن طريف الَّذِي شرع لَهُم دينهم وَقَالَت القطيعية من الإمامية الرافضة كلهم وهم جُمْهُور الشِّيعَة وَمِنْهُم المتكلمون والنظارون وَالْعدَد الْعَظِيم بِأَن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن مُوسَى بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب حَيّ لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يخرج فيملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَهُوَ عِنْدهم الْمهْدي المنتظر وَبقول طَائِفَة مِنْهُم أَن مولد هَذَا الَّذِي لم يخلق قطّ فِي سنة سنتَيْن وَمِائَتَيْنِ سنة موت أَبِيه وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل بعد موت أَبِيه بِمدَّة وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل فِي حَيَاة أَبِيه وَرووا ذَلِك عَن حكيمة بنت مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى وَأَنَّهَا شهِدت وِلَادَته وسمعته يتَكَلَّم حِين سقط من بطن أمه يقرأالقرآن وَأَن أمه نرجس وَأَنَّهَا كَانَت هِيَ الْقَابِلَة وَقَالَ جُمْهُور بل أمه صقيل وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل أمه سوسن وكل هَذَا هوس وَلم يعقب الْحسن الْمَذْكُور لَا ذكرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَلَا أُنْثَى فَهَذَا أول نوك الشِّيعَة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وَإِن كَانَت مهلكة ثمَّ قَالُوا كلهم إِذْ سئلوا عَن الْحجَّة فِيمَا يَقُولُونَ حجتنا الإلهام وَأَن من خَالَفنَا لَيْسَ لرشده فَكَانَ هَذَا طريفا جدا لَيْت شعري مَا الْفرق بَينهم وَبَين عيار مثلهم يَدعِي فِي إبِْطَال قَوْلهم الإلهام وَأَن الشِّيعَة لَيْسُوا لرشدة أَو أَنهم نوكة أَو أَنهم جملَة ذَوُو شُعْبَة من جُنُون فِي رُؤْسهمْ وَمَا قَوْلهم فِيمَن كَانَ مِنْهُم ثمَّ صَار فِي غَيرهم أَو من كَانَ فِي غَيرهم فَصَارَ فيهم أتراه ينْتَقل من ولادَة الغية إِلَى ولادَة الرشدة وَمن ولادَة الرشدة إِلَى ولادَة الغية فان قَالُوا حكمه لما يَمُوت عَلَيْهِ قيل لَهُم فلعلكم أَوْلَاد غية إِذْ لَا يُؤمن رُجُوع الْوَاحِد فالواحد مِنْكُم إِلَى خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم وَالْقَوْم بِالْجُمْلَةِ ذَوُو أَدْيَان فَاسِدَة وعقول مدخولة وعديمو حَيَاء ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَذكر عَمْرو ابْن خَوْلَة الجاحظ وَهُوَ وَإِن كَانَ أحد المجان وَمن غلب عَلَيْهِ الْهزْل وَأحد الضلال المضلين فإننا مَا رَأينَا لَهُ فِي كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لَهَا وَإِن كَانَ كثيرا لَا يُرَاد كذب غَيره قَالَ أَخْبرنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم النظام وَبشر بن خَالِد انهما قَالَا لمُحَمد بن جَعْفَر الرافضي الْمَعْرُوف بِشَيْطَان الطاق وَيحك اما استحييت من الله أَن تَقول فِي كتابك فِي الْإِمَامَة أَن الله تَعَالَى لم يقل قطّ فِي الْقُرْآن {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} قَالَا فَضَحِك وَالله شَيْطَان الطاق ضحكاً طَويلا حَتَّى كَانَا نَحن الَّذين أَذْنَبْنَا قَالَ النظام وَكُنَّا نُكَلِّم عَليّ ابْن ميتم الصَّابُونِي وكل من شُيُوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سَماع عَن الْأَئِمَّة فينكران يَقُوله بِرَأْي فتخبره بقوله فِيهَا قبل ذَلِك قَالَ فوَاللَّه مَا رَأَيْته خجل من ذَلِك وَلَا استحيا لفعله هَذَا قطّ وَمن قَول الإمامية كلهَا قَدِيما وحديثاً أَن الْقُرْآن مبدل زيد فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَنقص مِنْهُ كثير وَبدل مِنْهُ كثير حاشا عَليّ ابْن الْحسن ابْن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن ابْن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ إمامياً يظاهر بالاعتزال مَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يُنكر هَذَا القَوْل وَيكفر من قَالَه وَكَذَلِكَ صَاحِبَاه أَبُو يعلي مِيلَاد الطوسي وأبوالقاسم الرَّازِيّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد القَوْل بِأَن بَين اللَّوْحَيْنِ تبديلاً كفر صَحِيح وَتَكْذيب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت طَائِفَة من الكيسانية بتناسخ الْأَرْوَاح وَبِهَذَا يَقُول السَّيِّد الْحِمْيَرِي الشَّاعِر لَعنه الله ويبلغ الْأَمر بِمن يذهب إِلَى هَذَا إِلَى أَن يَأْخُذ أحدهم الْبَغْل أَو الْحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أَن روح أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهِ فاعجبوا لهَذَا الْحمق الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَمَا الَّذِي خص هَذَا الْبَغْل الشقي أَو الْحمار الْمِسْكِين بنقله الرّوح اليه سَائِر البغال وَالْحمير وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بالعنز على أَن روح أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا فِيهَا وَجُمْهُور متكلميهم كهشام ابْن الحكم الْكُوفِي وتلميذه أبي عَليّ الصكاك وَغَيرهمَا يَقُول أَن علم الله تَعَالَى مُحدث وَأَنه لم يكن يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما وَهَذَا كفر صَحِيح وَقد قَالَ هِشَام هَذَا فِي حِين مناظرته لأبي الْهُذيْل العلاف أَن ربه سَبْعَة أشبار بشبر نَفسه وَهَذَا كفر صَحِيح وَكَانَ دَاوُد الجوازي من كبار متكلميهم يزْعم أَن ربه لحم وَدم على صُورَة الْإِنْسَان وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي إِن الشَّمْس ردَّتْ على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ أفيكون فِي صفاقة الْوَجْه وصلابة الخد وَعدم الْحيَاء والجرأة على الْكَذِب أَكثر من هَذَا على قرب الْعَهْد وَكَثْرَة الْخلق وَطَائِفَة مِنْهُم تَقول أَن الله تَعَالَى يُرِيد الشَّيْء ويعزم عَلَيْهِ ثمَّ يبدوا لَهُ فَلَا يَفْعَله وَهَذَا مَشْهُور للكيسانية وَمن الإمامية من يُجِيز نِكَاح تسع نسْوَة وَمِنْهُم من يحرم الكرنب لِأَنَّهُ إِنَّمَا نبت على دم الْحُسَيْن وَلم يكن قبل ذَلِك وَهَذَا فِي قلَّة الْحيَاء قريب مِمَّا قبله وكما يزْعم كثير مِنْهُم أَن عليا لم يكن لَهُ سمى قبله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وَهَذَا جهل عَظِيم بل كَانَ فِي الْعَرَب كثير يسمون هَذَا الِاسْم كعلي بن بكر بن وَائِل إِلَيْهِ يرجع كل بكري فِي الْعَالم فِي نسبه وَفِي الأزد عَليّ وَفِي بجيله على وَغَيرهَا كل ذَلِك فِي الْجَاهِلِيَّة مَشْهُور وَأقرب من ذَلِك عَامر بن الطُّفَيْل يكني أَبَا عَليّ ومجاهراتهم أَكثر مِمَّا ذكرنَا وَمِنْهُم طَائِفَة تَقول بِفنَاء الْجنَّة وَالنَّار وَفِي الكيسانية من يَقُول أَن الدُّنْيَا لَا تفنى أبدا وَمِنْهُم طَائِفَة تسمى النحلية نسبوا إِلَى الْحسن بن عَليّ بن ورصند النحلي كَانَ من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور أفريقية ثمَّ نَهَضَ هَذَا الْكَافِر إِلَى السوس فِي أقاصي بِلَاد المصامدة فأضلهم وأضل أَمِير السوس أَحْمد بن إِدْرِيس بن يحيى ابْن عبد الله بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فهم هُنَالك كثير سكان فِي ربض مَدِينَة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صَلَاة الْمُسلمين لَا يَأْكُلُون شَيْئا من الثِّمَار زبل أَصله وَيَقُولُونَ أَن الْإِمَامَة فِي ولد الْحسن دون ولد الْحُسَيْن وَمِنْهُم أَصْحَاب أبي كَامِل وَمن قَوْلهم أَن جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كفرُوا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَحَدُوا إِمَامَة عَليّ وَأَن عليا كفر إِذا سلم الْأَمر إِلَى أبي بكر ثمَّ عمر بن عُثْمَان ثمَّ قَالَ جمهورهم أَن عليا وَمن اتبعهُ رجعُوا إِلَى الْإِسْلَام إِذْ دعِي إِلَى نَفسه بعد قتل عُثْمَان وَإِذ كشف وَجهه وسل سَيْفه وَأَنه وإياهم كَانُوا قبل ذَلِك مرتدين عَن الْإِسْلَام كفَّارًا مُشْرِكين وَمِنْهُم من يرد الذَّنب فِي ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لم يبين الْأَمر بَيَانا رَافعا للأشكال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا كفر صَرِيح لَا خَفَاء بِهِ فَهَذِهِ مَذَاهِب الإمامية وَهِي المتوسطة فِي الغلو من فرق الشِّيعَة واما الْغَالِبَة من الشِّيعَة فهم قِسْمَانِ قسم أوجبت النُّبُوَّة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغيره وَالْقسم الثَّانِي أوجبوا الإلهية لغير الله عز وَجل فَلَحقُوا بالنصارى وَالْيَهُود وَكَفرُوا أشنع الْكفْر فالطائفة الَّتِي أوجبت النُّبُوَّة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق فَمنهمْ الغرابة وَقَوْلهمْ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أشبه بعلي من الْغُرَاب بالغراب وَأَن الله عز وَجل بعث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْوَحْي إِلَى عَليّ فغلط جِبْرِيل بِمُحَمد وَلَا لوم على جِبْرِيل فِي ذَلِك لِأَنَّهُ غلط وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل تعمد ذَلِك جِبْرِيل وكفروه ولعنوه لعنهم الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع بأضعف عقولاً وَأتم رقاعة من قوم يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشبه عَليّ بن أبي طَالب فياللناس أَيْن يَقع شبه ابْن أَرْبَعِينَ سنة من صبي ابْن إِحْدَى عشرَة سنة حَتَّى يغلط بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام فَوق الربعة إِلَى الطول قويم الْقَنَاة كث اللِّحْيَة ادعج الْعَينَيْنِ ممتلئ السَّاقَيْن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَلِيل شعر الْجَسَد أفرع وَعلي دون الربعة إِلَى الْقصر منْكب شَدِيد الانكباب كَأَنَّهُ كسر ثمَّ جبر عَظِيم اللِّحْيَة قد ملئت صَدره من منْكب إِلَى منْكب إِذْ التحي ثقيل الْعَينَيْنِ دَقِيق السَّاقَيْن أصلع عَظِيم الصلع لَيْسَ فِي رَأسه شعر إِلَّا فِي مؤخره يسير شعر اللِّحْيَة فَأُعْجِبُوا لحمق هَذِه الطَّبَقَة ثمَّ لَو جَازَ أَن يغلط جِبْرِيل وحاشا للروح الْقُدس الْأمين كَيفَ غفل الله عز وَجل عَن تقويمه وتنبيهه وَتَركه على غلطه ثَلَاثًا وَعشْرين سنة ثمَّ أظرف من هَذَا كُله من أخْبرهُم بِهَذَا الْخَبَر وَمن خرفهم بِهَذِهِ الخرافة وَهَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا من شَاهد أَمر الله تَعَالَى لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ شَاهد خِلَافه فعلى هَؤُلَاءِ لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة النَّاس أَجْمَعِينَ مَا دَامَ لله فِي علامه خلق وَفرْقَة قَالَت بنبوة عَليّ وَفرْقَة قَالَت بِأَن عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَعلي بن الْحُسَيْن وَمُحَمّد ابْن عَليّ وجعفر بن مُحَمَّد ومُوسَى بن جَعْفَر وَعلي بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 مُوسَى وَمُحَمّد بن عَليّ وَالْحسن بن مُحَمَّد والمنتظر ابْن الْحسن أَنْبيَاء كلهم وَفرْقَة قَالَت بنبوة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر فَقَط وهم طَائِفَة من القرامطة وَفرْقَة قَالَت بنبوة عَليّ وبنيه الثَّلَاثَة الْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة فَقَط وهم طَائِفَة من الكيسانية وَقد حام الْمُخْتَار حول أَن يَدعِي النُّبُوَّة لنَفسِهِ وسجع اسجاعاً وانذر بالعيوب عَن الله وَأتبعهُ على ذَلِك طوائف من الشِّيعَة الملعونة وَقَالَ بإمامة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَفرْقَة قَالَت بنبوة الْمُغيرَة بن سعيد مولى بجيلة بِالْكُوفَةِ وَهُوَ الَّذِي أحرقه خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بالنَّار وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن معبوده صُورَة رجل على رَأسه تَاج وان أعضاؤه على عدد حرف الهجا الْألف للساقين وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا ينْطق لِسَان ذِي شيعَة من دين بِهِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الْكَافِرُونَ علوا كَبِيرا وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن معبوده لما أَرَادَ أَن يخلق الْخلق تكلم باسمه الْأَكْبَر فَوَقع على تاجه ثمَّ كتب بإصبعه أَعمال الْعباد من الْمعاصِي والطاعات فَلَمَّا رأى الْمعاصِي أرفض بِهِ عرقاً فَاجْتمع من عرقه بحران أَحدهمَا ملح مظلم وَالثَّانِي نير عذب ثمَّ اطلع فِي الْبَحْر فَرَأى ظلمَة فَذهب ليأخذه فطار فَأَخذه فَقلع عَيْني ذَلِك الظل ومحقه فخلق من عَيْنَيْهِ الشَّمْس وشمساً أُخْرَى وَخلق الْكفَّار من الْبَحْر المالح وَخلق الْمُؤمنِينَ من الْبَحْر العذب فِي تَخْلِيط لَهُم كثير وَكَانَ مِمَّا يَقُول أَن الْأَنْبِيَاء لم يَخْتَلِفُوا قطّ فِي شَيْء من الشَّرَائِع وَقد قيل أَن جَابر بن يزِيد الْجعْفِيّ الَّذِي يروي عَن الشّعبِيّ كَانَ خَليفَة الْمُغيرَة بن سعيد إِذْ حرقه خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا مَاتَ جَابر خَلفه بكر الْأَعْوَر الهجري فَلَمَّا مَاتَ فَوضُوا أَمرهم إِلَى عبد الله بن الْمُغيرَة رئيسهم الْمَذْكُور وَكَانَ لَهُم عدد ضخم بِالْكُوفَةِ وَآخر مَا وقف عَلَيْهِ الْمُغيرَة ابْن سعيد القَوْل بإمامة مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن وَتَحْرِيم مَاء الْفُرَات وكل مَاء نهر أَو عين أَو بِئْر وَقعت فِيهِ نَجَاسَة فبرئت مِنْهُ عِنْد ذَلِك الْقَائِلُونَ بِالْإِمَامَةِ فِي ولد الْحُسَيْن وَفرْقَة قَالَت بنبوة بَيَان بن سمْعَان التَّمِيمِي صلبه وَأحرقهُ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي مَعَ الْمُغيرَة بن سعيد فِي يَوْم وَاحِد وَجبن الْمُغيرَة بن سعيد عَن اعتناق حزمة الْحَطب جبنا شَدِيدا حَتَّى ضم إِلَيْهَا قهرا وبادر بَيَان بن سمْعَان إِلَى الحزمة فاعتنقها من غير إِكْرَاه وَلم يظْهر مِنْهُ جزع فَقَالَ خَالِد لأصحابهما فِي كل شَيْء أَنْتُم مجانين هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون رئيسكم لَا هَذَا الفسل وَكَانَ بَيَان لَعنه الله يَقُول أَن الله تَعَالَى يفنى كُله حاشا وَجهه فَقَط وَظن الْمَجْنُون أَنه تعلق فِي كفره هَذَا بقوله تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك} وَلَو كَانَ لَهُ أدنى عقل أَو فهم لعلم أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أخبر بالفناء عَمَّا على الأَرْض فَقَط بِنَصّ قَوْله الصَّادِق {كل من عَلَيْهَا فان} وَلم يصف عز وَجل بالفناء غير مَا على الأَرْض وَوجه الله تَعَالَى هُوَ الله وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غَيره وحاشا لله من ان يُوصف بالتبعيض والتجزي هَذِه صفة المخلوقين المحدودين لَا صفة من لَا يحد وَلَا لَهُ مثل وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَنه المعني بقول الله تَعَالَى {هَذَا بَيَان للنَّاس} وَكَانَ يذهب إِلَى أَن الإِمَام هُوَ هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة ثمَّ هِيَ فِي سَائِر ولد عَليّ كلهم وَقَالَت فرقة مِنْهُم بنبوة مَنْصُور المستير الْعجلِيّ وَهُوَ الملقب بالكسف وَكَانَ يُقَال أَنه المُرَاد بقول الله عز وَجل {وَإِن يرَوا كسفاً من السَّمَاء سَاقِطا} وصلبه يُوسُف بن عمر بِالْكُوفَةِ وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَنه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء وَأَن الله تَعَالَى مسح رَأسه بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ ابْني اذْهَبْ فَبلغ عني وَكَانَ يَمِين أَصْحَابه لَا والكلة وَكَانَ لَعنه الله يَقُول بِأَن أول من خلق الله تَعَالَى عِيسَى بن مَرْيَم ثمَّ عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ يَقُول بتواتر الرُّسُل وأباح الْمُحرمَات من الزِّنَا وَالْخمر وَالْميتَة والخنازير وَالدَّم وَقَالَ إِنَّمَا هم أَسمَاء رجال وَجُمْهُور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 الرافضة الْيَوْم على هَذَا واسقط الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج واصحابه كلهم خناقون رضاخون وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الْمُغيرَة بن سعيد ومعناهم فِي ذَلِك أَنهم لَا يسْتَحلُّونَ حمل السِّلَاح حَتَّى يخرج الَّذِي ينتظرونه فهم يقتلُون النَّاس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فَقَط وَذكر هِشَام بن الحكم الرافضي فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالميزان وَهُوَ أعلم النَّاس بِهِ لِأَنَّهُ جارهم بِالْكُوفَةِ وجارهم فِي الْمَذْهَب أَن الكسفية خَاصَّة يقتلُون من كَانَ مِنْهُم وَمن خالفهم وَيَقُولُونَ نعجل الْمُؤمن إِلَى الْجنَّة وَالْكَافِر إِلَى النَّار وَكَانُوا بعد موت أبي مَنْصُور يؤدون الْخمس مِمَّا يَأْخُذُونَ مِمَّن خنقوه إِلَى الْحسن بن أبي مَنْصُور وَأَصْحَابه فرقتان فرقت قَالَت أَن الإِمَام بعد مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن صَارَت إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن وَفرْقَة قَالَت بل إِلَى أبي الْمَنْصُور الكسف وَلَا تعود فِي ولد عَليّ ابدا وَقَالَت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بِالْكُوفَةِ وَإِن وَقع هَذِه الدعْوَة لَهُم فِي حائك لظريفة وَفرْقَة قَالَت بنبوة معمر بَائِع الْحِنْطَة بِالْكُوفَةِ وَقَالَت فرقة بنبوة عمر التبَّان بِالْكُوفَةِ لَعنه الله يَقُول لأَصْحَابه لَو شِئْت أَن أُعِيد هَذَا التِّبْن تبراً لفَعَلت وَقدم إِلَى خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بِالْكُوفَةِ فتجلد وَسَب خَالِدا فَأمر خَالِد بِضَرْب عُنُقه فَقتل إِلَى لعنة الله وَهَذِه الْفرق الْخمس كلهَا من فرق الخطابية وَقَالَت فرقة من أُولَئِكَ شيعَة بني الْعَبَّاس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر بن أَسد بن عبد الله أَخُو خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَقتله إِلَى لعنة الله وَالْقسم الثَّانِي من فرق الغالية الَّذين يَقُولُونَ بالإلهية لغير الله عز وَجل فأولهم قوم من أَصْحَاب عبد الله بن سبا الْحِمْيَرِي لَعنه الله أَتَوا إِلَى عَليّ بن أبي طَالب فَقَالُوا مشافهة أَنْت هُوَ فَقَالَ لَهُم وَمن هُوَ قَالُوا أَنْت الله فاستعظم الْأَمر وَأمر بِنَار فأججت واحقهم بالنَّار فَجعلُوا يَقُولُونَ وهم يرْمونَ فِي النَّار الان ص ح عندنَا أَنه الله لِأَنَّهُ لَا يعذب بالنَّار إِلَّا الله وَفِي ذَلِك يَقُول رَضِي الله عَنهُ ... لما رَأَيْت الْأَمر أمرا مُنْكرا ... أججت نَارا ودعوت قنبرا ... // يُرِيد قنبراً مَوْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي تولى طرحهم فِي النَّار نَعُوذ بِاللَّه من أَن نفتتن بمخلوق أَو يفتتن بِنَا مَخْلُوق فِيمَا جلّ أَو دق فَإِن محنة أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ من بَين أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم كمحنة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَصْحَابه من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذِه الْفرْقَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم فَاشِية عَظِيمَة الْعدَد يسمون العليانية مِنْهُم كَانَ إِسْحَاق بن مُحَمَّد المخعي الْأَحْمَر الْكُوفِي وَكَانَ من متكلميهم وَله فِي ذَلِك كتاب سَمَّاهُ الصِّرَاط نقض عَلَيْهِ البهنكي والفياض لما ذكرنَا وَيَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا رَسُول عَليّ وَقَالَت طَائِفَة من الشِّيعَة يعْرفُونَ بالمحمدية أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الله تَعَالَى عَن كفرهم وَمن هَؤُلَاءِ كَانَ البهنكي والفياض بن عَليّ وَله فِي هَذَا الْمَعْنى كتاب سَمَّاهُ القسطاس وَأَبوهُ الْكَاتِب الْمَشْهُور الَّذِي كتب لإسحاق بن كنداج أَيَّام ولَايَته ثمَّ لأمير الْمُؤمنِينَ المعتضد وَفِيه يَقُول البحتري القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي أَولهَا ... شط من مسَاكِن الغرير مرَارَة ... وطوته الْبِلَاد وَالله حارة ... والفياض هَذَا لَعنه الله قَتله الْقَاسِم بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن وهب لكَونه من جملَة من سعى بِهِ أَيَّام المعتضد والقصة مَشْهُورَة وَفرْقَة قَالَت بإلاهية آدم عَلَيْهِ السَّلَام والنبيين بعده نَبيا نَبيا إِلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ بإلاهية عَليّ ثمَّ بإلاهية الْحسن ثمَّ الْحُسَيْن ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ ثمَّ جَعْفَر بن مُحَمَّد ووقفوا هَاهُنَا وأعلنت الخطابية بذلك نَهَارا بِالْكُوفَةِ فِي ولَايَة عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد ابْن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَخَرجُوا صدر النَّهَار فِي جموع عَظِيمَة فِي أزر وأردية محرمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 ينادون بِأَعْلَى أَصْوَاتهم لبيْك جَعْفَر لبيْك جَعْفَر قَالَ ابْن عَيَّاش وَغَيره كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِم يَوْمئِذٍ فَخرج إِلَيْهِم عِيسَى بن مُوسَى فقاتلوه فَقَتلهُمْ واصطلمهم ثمَّ زَادَت فرقة على مَا ذكرنَا فَقَالَت بإلاهية مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد وهم القرامطة وَفِيهِمْ من قَالَ بإلاهية أبي سعيد الْحسن بن بهْرَام الجبائي وأبنائه بعده وَمِنْهُم من قَالَ بإلاهية أبي سعيد الْحسن بن بهْرَام الجبائي وأبنائه بعده وَمِنْهُم من قَالَ بإلاهية عبيد الله ثمَّ الْوُلَاة من وَلَده إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية أبي الْخطاب مُحَمَّد بن أبي زَيْنَب مولى بني أَسد بِالْكُوفَةِ وَكثر عَددهمْ بهَا حَتَّى تجاوزوا الألوف وَقَالُوا هُوَ إِلَه وجعفر بن مُحَمَّد إِلَه إِلَّا أَن أَبَا الْخطاب أكبر مِنْهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ جَمِيع أَوْلَاد الْحسن أَبنَاء الله وأحباؤه وَكَانُوا يَقُولُونَ أَنهم لَا يموتون وَلَكنهُمْ يرفعون إِلَى السَّمَاء وأشبه على النَّاس بِهَذَا الشَّيْخ الَّذِي ترَوْنَ ثمَّ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية معمر بَائِع الْحِنْطَة بِالْكُوفَةِ وعبدوه وَكَانَ من أَصْحَاب أبي الْخطاب لعنهم الله اجمعين وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية الْحسن بن مَنْصُور حلاج الْقطن المصلوب بِبَغْدَاد بسعي الْوَزير ابْن حَامِد بن الْعَبَّاس رَحمَه الله أَيَّام المقتدر وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية مُحَمَّد بن عَليّ ابْن السلمان الْكَاتِب الْمَقْتُول بِبَغْدَاد أَيَّام الراضي وَكَانَ امْر أَصْحَابه أَن يفسق الأرفع قدرا مِنْهُم بِهِ ليولج فِيهِ النُّور وكل هَذِه الْفرق ترى الِاشْتِرَاك فِي النِّسَاء وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بالاهية شباس المغيم فِي وقتنا هَذَا حَيا بِالْبَصْرَةِ وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية أبي مُسلم السراج ثمَّ قَالَت طَائِفَة من هَؤُلَاءِ بإلاهية الْمقنع الْأَعْوَر الْقصار الْقَائِم بثار أبي مُسلم وَاسم هَذَا الْقصار هَاشم وَقتل لَعنه الله أَيَّام الْمَنْصُور وأعلنوا بذلك فَخرج الْمَنْصُور فَقَتلهُمْ وأفناهم إِلَى لعنة الله وَقَالَت الرنودية بإلاهية أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية عبد الله بن الخرب الْكِنْدِيّ الْكُوفِي وَعَبده وَكَانَ يَقُول بتناسخ الْأَرْوَاح وَفرض عَلَيْهِم تِسْعَة عشر صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي كل صَلَاة خمس عشر رَكْعَة إِلَى أَن ناظره رجل من متكلمي الصفرية وأوضح لَهُ براهين الدّين فَأسلم وَصَحَّ إِسْلَامه وتبرأ من كل مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأعلم أَصْحَابه بذلك وَأظْهر التَّوْبَة فتبرأ مِنْهُ جَمِيع أَصْحَابه الَّذين كَانُوا يعبدونه وَيَقُولُونَ بإلاهيته ولعنوه وفارقوه وَرَجَعُوا لكهم إِلَى القَوْل بإمامة عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب وَبَقِي عبد الله بن الخرب على الْإِسْلَام وعَلى مَذْهَب الصفرية إِلَى أَن مَاتَ وطائفته إِلَى الْيَوْم تعرف بالحزبية وَهِي من السباية الْقَائِلين بإلاهية عَليّ وَطَائِفَة تدعى النصرية غلبوا فِي وقتنا هَذَا على جند الاردن بِالشَّام وعَلى مَدِينَة طبرية خَاصَّة وَمن قَوْلهم لعن فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلعن الْحسن وَالْحُسَيْن ابْني عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وسبهم بأقذع السب وقذفهم بِكُل بلية وَالْقطع بِأَنَّهَا وابنيها رَضِي الله عَنْهُم وَلعن مبغضيهم شياطين تصوروا فِي صُورَة الْإِنْسَان وَقَوْلهمْ فِي عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي قَاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ على عَليّ لَعنه الله وَرَضي عَن أبي ملجم فَيَقُول هَؤُلَاءِ أَن عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي أفضل أهل الأَرْض وَأكْرمهمْ فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ خلص روح اللاهوت مِمَّا كَانَ يتشبث فِيهِ من ظلمَة الْجَسَد وكدره فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْجُنُون واسألوا الله الْعَافِيَة من بلَاء الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَهِيَ بِيَدِهِ لَا بيد أحد سواهُ جعل الله حظنا مِنْهَا الأوفى وَاعْلَمُوا أَن كل من كفر هَذِه الكفرات الْفَاحِشَة مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام فَإِنَّمَا عنصرهم الشِّيعَة والصوفية فَإِن من الصُّوفِيَّة من يَقُول أَن من عرف الله تَعَالَى سَقَطت عَنهُ الشَّرَائِع وَزَاد بَعضهم واتصل بِاللَّه تَعَالَى وبلغنا أَن بنيسابور الْيَوْم فِي عصرنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 هَذَا رجلا يكنى أَبَا سعيد أَبَا الْخَيْر هَكَذَا مَعًا من الصُّوفِيَّة مرّة يلبس الصُّوف وَمرَّة يلبس الْحَرِير الْمحرم على الرِّجَال وَمرَّة يُصَلِّي فِي الْيَوْم ألف رَكْعَة وَمرَّة لَا يُصَلِّي لَا فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة وَهَذَا كفر مَحْض ونعوذ بِاللَّه من الضلال ذكر شنع الْخَوَارِج ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين إِلَى الْإِسْلَام أَن فرقة من الأباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وَهُوَ غير الْمُحدث الْمَشْهُور كَانَ يَقُول إِن فِي هَذِه الْأمة شَاهِدين عَلَيْهَا هُوَ أَحدهمَا وَالْآخر لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا مَتى هُوَ وَلَا يدْرِي لَعَلَّه قد كَانَ قبله وَإِن من كَانَ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى الْعَرَب لَا إِلَيْنَا كَمَا تَقول العيسوية من الْيَهُود قَالَ فَإِنَّهُم مُؤمنُونَ أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَإِن مَاتُوا على هَذَا العقد وعَلى الْتِزَام شرائع الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَأَن دين الْإِسْلَام سينسخ بِنَبِي من الْعَجم يَأْتِي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عَلَيْهِ جملَة وَاحِدَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِلَّا أَن جَمِيع الأباضية يكفرون من قَالَ بِشَيْء من هَذِه المقالات ويبرؤن مِنْهُ ويستحلون دَمه وَمَاله وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب الْحَرْث الأباضي أَن من زنا أَو سرق أَو قذف فَإِنَّهُ يُقَام عَلَيْهِ الْحَد ثمَّ يُسْتَتَاب مِمَّا فعل فَإِن تَابَ ترك وَإِن أَن أَبى التَّوْبَة قتل على الرِّدَّة. قَالَ أَبُو مُحَمَّد وشاهدنا الأباضية عندنَا بالأندلس يحرمُونَ طَعَام أهل الْكتب ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون الْقَضَاء على من نَام نَهَارا فِي رَمَضَان فَاحْتَلَمَ ويتيممون وهم على الْآبَار الَّتِي يشربون مِنْهَا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَقَالَ أَبُو إِسْمَاعِيل البطيحي وَأَصْحَابه وهم من الْخَوَارِج أَن لَا صَلَاة وَاجِبَة إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة بِالْغَدَاةِ وركعة أُخْرَى بالْعَشي فَقَط ويرون الْحَج فِي جَمِيع شهور السّنة ويحرمون أكل السّمك حَتَّى يذبح وَلَا يرَوْنَ أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس ويكفرون من خطب فِي الْفطْرَة والأضحى وَيَقُولُونَ أَن أهل النَّار فِي النَّار فِي لَذَّة ونعيم وَأهل الْجنَّة كَذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأصل أبي إِسْمَاعِيل هَذَا من الْأزَارِقَة الا انه غلا عَن سَائِر الْأزَارِقَة وَزَاد عَلَيْهِم وَقَالَت سَائِر الأزارفة وهم أَصْحَاب نَافِع بن الْأَزْرَق بِإِبْطَال رجم من زنى وَهُوَ مُحصن وَقَطعُوا يَد السَّارِق من الْمنْكب وأوجبوا على الْحَائِض الصَّلَاة وَالصِّيَام فِي حَيْضهَا وَقَالَ بَعضهم لَا وَلَكِن تقضي الصَّلَاة إِذا طهرت كَمَا تَقْتَضِي الصّيام وأباحوا دم الْأَطْفَال مِمَّن لم يكن فِي عَسْكَرهمْ وَقتل النِّسَاء أَيْضا مِمَّن لَيْسَ فِي عَسْكَرهمْ وبرئت الْأزَارِقَة مِمَّن قعد عَن الْخُرُوج لضعف أَو غَيره وَكَفرُوا من خَالف هَذَا القَوْل بعد موت أول من قَالَ بِهِ مِنْهُم وَلم يكفروا من خَالفه فِيهِ فِي حَيَاته وَقَالُوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عَسْكَرهمْ ويقتلونه إِذا قَالَ أَنا مُسلم ويحرمون قتل من انْتَمَى إِلَى الْيَهُود والى النَّصَارَى أَو إِلَى الْمَجُوس وَبِهَذَا شهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمروق من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرميه إِذْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَنهم يقتلُون أهل الْإِسْلَام ويتركون أهل الْأَوْثَان وَهَذَا من أَعْلَام نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أنذر بذلك وَهُوَ من جزئيات الْغَيْب فَخرج نصا كَمَا قَالَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد بادت الْأزَارِقَة إِنَّمَا كَانُوا اهل عَسْكَر وَاحِد اولهم نَافِع بن الْأَزْرَق وَآخرهمْ عَبدة بن هِلَال العسكري واتصل أَمرهم بضعاً وَعشْرين سنة إِلَّا أَنِّي أَشك فِي صبيح مولى سوار بن الأسعر الْمَازِني مَازِن تَمِيم أخرج بِرَأْي الازارفة أَيَّام هِشَام بن عبد الْملك أم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 بِرَأْي الصفرية لِأَن أمره لم يطلّ أسر أثر خُرُوجه وَقتل وَقَالَت النجدات وهم أَصْحَاب نجدة بن عويم الْحَنَفِيّ لَيْسَ على النَّاس أَن يتخذوا اماما انما هم عَلَيْهِم أَن يتعاطوا الْحق بَينهم وَقَالُوا من ضعف عَن الْهِجْرَة إِلَى عَسْكَرهمْ فَهُوَ مُنَافِق وَاسْتَحَلُّوا دم الْعقْدَة واموالهم وَقَالُوا من كذب كذبة صَغِيرَة أَو عمل عملا صَغِيرا فأصر على ذَلِك فَهُوَ كَافِر مُشْرك وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي الْكَبَائِر وَأَن من عمل من الْكَبَائِر غير مصر عَلَيْهَا فَهُوَ مُسلم وَقَالَ جَائِز أَن يعذب الله الْمُؤمنِينَ بِذُنُوبِهِمْ لَكِن فِي غير النَّار وَأما النَّار فَلَا وَقَالُوا أَصْحَاب الْكَبَائِر مِنْهُم لَيْسُوا كفَّارًا وَأَصْحَاب الْكَبَائِر من غَيرهم كفار وَقد بادت النجدات وَقَالَت طَائِفَة من الصفرية بِوُجُوب قتل كل من أمكن قَتله من مُؤمن عِنْدهم أَو كَافِر وَكَانُوا يؤلون الْحق بِالْبَاطِلِ وَقد بادت هَذِه الطَّائِفَة وَقَالَت الميمونية وهم فرقة من العجاردة والعجاردة فرقة من الصفرية بِإِجَازَة نِكَاح بَنَات الْبَنَات وَبَنَات الْبَنِينَ وَبَنَات بني الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات وَذكر ذَلِك عَنْهُم الْحُسَيْن بن عَليّ الكراسي وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة فِي الدّين والْحَدِيث وَلم يبْق الْيَوْم من فرق الْخَوَارِج إِلَّا الإباضية والصفرية فَقَط وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب البيهسية وهم أَصْحَاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية إِن كَانَ صَاحب كَبِيرَة فِيهَا حد فَإِنَّهُ لَا يكفر حَتَّى يرفع إِلَى الإِمَام فَإِذا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَد فَحِينَئِذٍ يكفر وَقَالَت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية أَن الْوَاجِب فِي الزَّكَاة نصف الْعشْر مِمَّا سقِِي بالأنهار والعيون وَقَالَت العونية وهم طَائِفَة من البيهسية الَّتِي ذكرنَا آنِفا أَن الإِمَام إِذا قضي قَضِيَّة جور وَهُوَ بخراسان أَو بغَيْرهَا حَيْثُ كَانَ من الْبِلَاد فَفِي ذَلِك الْحِين نَفسه يكفر هُوَ وَجَمِيع رَعيته حَيْثُ كَانُوا من شَرق الأَرْض وغربها وَلَو بالأندلس واليمن فَمَا بَين ذَلِك من الْبِلَاد وَقَالُوا أَيْضا لَو وَقعت قَطْرَة خمر فِي جب مَاء بفلاة من الأَرْض فَإِن كل من خطر على ذَلِك الْجب فَشرب مِنْهُ وَهُوَ لَا يدْرِي مَا وَقع فِيهِ كَافِر بِاللَّه تَعَالَى قَالُوا إِلَّا ان الله تَعَالَى يوفق الْمُؤمن لاجتنابه وَقَالَت الفضيلية من الصفرية من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله بِلِسَانِهِ وَلم يعْتَقد ذَلِك بِقَلْبِه بل اعْتقد الْكفْر اوالدهرية اواليهودية أَو النَّصْرَانِيَّة فَهُوَ مُسلم عِنْد الله مُؤمن وَلَا يضرّهُ اذا قَالَ الْحق بِلِسَانِهِ مَا اعْتقد بِقَلْبِه وَقَالَت طَائِفَة من الصفرية أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بعث فَفِي حِين بَعثه فِي ذَلِك الْوَقْت من ذَلِك الْيَوْم لزم جَمِيع أهل الْمشرق وَالْمغْرب الْإِيمَان بِهِ وان لم يعرفوا جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ من الشَّرَائِع فَمن مَاتَ مِنْهُم قبل أَن يبلغهُ شَيْء من ذَلِك مَاتَ كَافِرًا وَقَالَت العجاردة أَصْحَاب عبد الْكَرِيم بن عجرد من الصفرية أَن من بلغ الْحلم من الوادهم وبناتهم فهم برَاء مِنْهُ وَمن دينه حَتَّى يقر بِالْإِسْلَامِ فيتولوه حِينَئِذٍ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فعلى هَذَا إِن قَتله قَاتل قبل أَن يلفظ بِالْإِسْلَامِ فَلَا قَود وَلَا دِيَة وَإِن مَاتَ لم يَرث وَلم يُورث وَقَالَت طَائِفَة من العجاردة لَا نتولى الْأَطْفَال قبل الْبلُوغ وَلَا نبرأ مِنْهُم لَكِن نقف فيهم حَتَّى يلفظوا بِالْإِسْلَامِ بعد الْبلُوغ قَالَ أَبُو مُحَمَّد والعجاردة هم الغالبون على خوارج خُرَاسَان كَمَا أَن النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الاندلس وَقَالَت المكرومية وهم أَصْحَاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أَصْحَاب ثَعْلَبَة وَهُوَ من الصفرية وَإِلَى قَول الثعالبة رَجَعَ عبد الله بن باض فبرئ مِنْهُ أَصْحَابه فهم لَا يعرفونه الْيَوْم وَلَقَد سَأَلنَا من هُوَ مقدمهم فِي علمهمْ ومذهبهم عَنْهُم فَمَا عرفه أحد مِنْهُم وَكَانَ من قَول المكرمية هَؤُلَاءِ أَن من أَتَى كَبِيرَة فقد جهل الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر لَيْسَ من أجل الْكَبِيرَة كفر لَكِن لِأَنَّهُ جهل الله عزوجل فَهُوَ كَافِر بجهله بِاللَّه تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة من الْخَوَارِج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 مَا كَانَ من الْمعاصِي فِيهِ حد كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْقَذْف فَلَيْسَ فَاعله كَافِرًا وَلَا مُؤمنا وَلَا منافقاً وَأما مَا كَانَ من الْمعاصِي لَا حد فِيهِ فَهُوَ كَافِر وفاعله وَقَالَت الحفصية وهم أَصْحَاب حَفْص بن ابي الْمِقْدَام من الأباضية من عرف الله تَعَالَى وَكفر بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهوكافر وَلَيْسَ بمشرك وَإِن جهل الله تَعَالَى أَو جَحده فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْرك وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْحَرْث الأباضي المُنَافِقُونَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانُوا مُوَحِّدين لله تَعَالَى أَصْحَاب كَبَائِر وَمن حماقاتهم قَول بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول كل ذَنْب صَغِير أَو كَبِير وَلَو كَانَ أَخذ حَبَّة خَرْدَل بِغَيْر حق أَو كذبة خَفِيفَة على سَبِيل المزاح فَهِيَ شرك بِاللَّه وفاعلها كَافِر مُشْرك مخلد فِي النَّار إِلَّا أَن يكون من أهل الْجنَّة وَهَذَا حكم طَلْحَة وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْدهم وَمن حماقاتهم قَول عبد الله بن عِيسَى تلميذ بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد الْمَذْكُور فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن المجانين والبهايم والأطفال مالم يبلغُوا الْحلم فَإِنَّهُم لَا يألمون الْبَتَّةَ لشَيْء مِمَّا ينزل بهم من الْعِلَل وحجته فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى لَا يظلم أحدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد لعمري لقد طرد أصل الْمُعْتَزلَة وَأَن من خَالفه فِي هَذِه المتلوث فِي الحماقة متكسع فِي التَّنَاقُض ذكر شنع الْمُعْتَزلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَت الْمُعْتَزلَة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الْغَطَفَانِي الْكُوفِي وَمن وَافقه كحفص الْفَرد وكلثوم وَأَصْحَابه أَن جَمِيع أَفعَال الْعباد من حركاتهم وسكونهم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وَجل ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة خلقهَا فاعلوها دون الله تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة هِيَ أَفعَال مَوْجُودَة لَا خَالق لَهَا أصلا وَقَالَت طَائِفَة هِيَ أَفعَال الطبيعة وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر بِلَا تكلّف وَقَالَت الْمُعْتَزلَة كلهاحاشا ضرار بن عَمْرو الْمَذْكُور وحاشا أَبَا سهل بشر بن العمير الْبَغْدَادِيّ النخاس بالرقيق أَن الله عز وَجل لَا يقدر الْبَتَّةَ على لطف يلطف بِهِ الْكَافِر حَتَّى يُؤمن إيمانايستحق بِهِ الْجنَّة وَالله عز وَجل لَيْسَ فِي قوته أحسن مِمَّا فعل بِنَا وَإِن هَذَا الَّذِي فعل هُوَ مُنْتَهى طاقته وَآخر قدرته الَّتِي لَا يُمكنهُ وَلَا يقدر على أَكثر قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تعجيز مُجَرّد للباري تَعَالَى وَوصف لَهُ بِالنَّقْصِ وَكلهمْ لَا نحاشى أحدا يَقُول أَنه لَا يقدر على الْمحَال وَلَا على أَن يَجْعَل الْجِسْم سَاكِنا متحركاً مَعًا فِي حَال وَاحِدَة وَلَا على أَن يَجْعَل إنْسَانا وَاحِدًا فِي مكانين مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تعجيز مُجَرّد لله تَعَالَى وَإِيجَاب النِّهَايَة والإنقضاء لقدرته تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل بن مَكْحُول العلاف مولى عبد الْقَيْس بَصرِي أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة ومتقدميهم إِن لما يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ آخر اَوْ لقدرته نِهَايَة لَو خرج إِلَى الْفِعْل لم يقدر الله تَعَالَى بعد ذَلِك على شَيْء أصلا وَلَا على خلق ذرة فَمَا فَوْقهَا وَلَا إحْيَاء بعوضة ميتَة وَلَا على تَحْرِيك ورقة فَمَا فَوْقهَا وَلَا على أَن يفعل شَيْئا أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه حَالَة من الضعْف والمهانة وَالْعجز قد ارْتَفَعت البق والبراغيث والدود مُدَّة حَيَاتهَا عَنْهَا وَعَن أَن تُوصَف بهَا وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ وَزعم أَبُو الْهُذيْل أَيْضا أَن أهل الْجنَّة وَأهل النَّار تفنى حركاتهم حَتَّى يصيروا جماداً لَا يقدرُونَ على تَحْرِيك شَيْء من أعضائهم وَلَا على البراح من مواضعهم وهم فِي تِلْكَ الْحَال متلذذون ومتألمون إِلَّا أَنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَلَا يطئون بعد هَذَا أبدا وَكَانَ يزْعم أَيْضا لما يُعلمهُ عز وَجل آخر أَو نِهَايَة وكلا لَا يعلم الله شَيْئا سواهُ وَادّعى قوم من الْمُعْتَزلَة أَنه تَابَ عَن هَذِه الطوام الثَّلَاث (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا يَصح وَإِنَّمَا دعوا ذَلِك حَيَاء من هَذِه الكفرات الصُّلْح لإمامهم إِمَام الضَّلَالَة وَذكر عَن أبي الْهُذيْل أَيْضا أَنه قَالَ أَن الله عز وَجل لَيْسَ خلافًا لخلقه وَالْعجب أَنه مَعَ هَذِه الْأَقْدَام الْعَظِيم بنكر النشبية وَهَذَا عين النشبية لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا خلاف أَو مثل أَو ضد فَإِذا بَطل أَن يكون خلافًا وضد فَهُوَ مثل وَلَا بُد تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا أَو كَانَ أَبُو الْهُذيْل يَقُول إِن الله لم يزل عليماً وَكَانَ يُنكر أَن يُقَال إِن الله لم يزل سميعاً بَصيرًا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خلاف الْقُرْآن لِأَن الله عز وَجل قَالَ {وَكَانَ الله سميعاً بَصيرًا} كَمَا قَالَ {وَكَانَ الله عليماً حكيماً} وَكلهمْ قَالَ إِن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن من مَاتَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يُؤمن أبدا وَأَنه تَعَالَى حكم وَقَالَ أَن أَبَا لَهب وَامْرَأَته سيصليان النَّار كَافِرين ثمَّ قطعُوا كلهم بِأَن أَبَا لَهب وَامْرَأَته كَانَا قَادِرين على الْإِيمَان على أَن لَا تمسهما النَّار وأنهما كَانَ مُمكنا لَهَا تَكْذِيب الله عز وَجل إنَّهُمَا كَانَا قَادِرين على إبِْطَال علم الله عز وَجل وعَلى أَن يجعلاه كَاذِبًا فِي قَوْله هَذَا نَص قَوْلهم بِلَا تَأْوِيل قَالَ وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن سيار النظام أَو إِسْحَاق الْبَصْرِيّ مولى بني بحير بن الْحَارِث بن عباد الضبعِي أكبر شُيُوخ الْمُعْتَزلَة ومقدمة عُلَمَائهمْ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يقدر على ظلم أحد أصلا وَلَا على شَيْء من الشَّرّ وَأَن النَّاس يقدرُونَ على كل ذَلِك وَأَنه تَعَالَى لَو كَانَ قَادِرًا على ذَلِك لَكنا لَا نَأْمَن أَن يَفْعَله أَو أَنه قد فعله فَكَانَ النَّاس عِنْده أتم قدرَة من الله تَعَالَى وَكَانَ يُصَرح بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِخْرَاج أحد من جَهَنَّم وَلَا إِخْرَاج أحد من أهل الْجنَّة عَنْهَا وَلَا على طرح طِفْل من جَهَنَّم وَأَن النَّاس وكل وَاحِد من الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة يقدرُونَ على ذَلِك فَكَانَ الله عز وَجل عِنْده أعجز من كل ضَعِيف من خلقه وَكَانَ كل أحد من الْخلق أتم قدرَة من الله تَعَالَى وَهَذَا الْكفْر الْمُجَرّد الَّذِي نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَمن الْعجب اتِّفَاق النظام والعلاف شَيْخي الْمُعْتَزلَة على أَنه لَيْسَ يقدر الله تَعَالَى من الْخَيْر على أصلح مَا عمل فاتفقا على أَن قدرته على الْخَيْر متناهية ثمَّ قَالَ النظام أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الشَّرّ جملَة فَجعله عديم قدرَة على الشَّرّ عَاجِزا عَنهُ وَقَالَ العلاف بل هُوَ قَادر على الشَّرّ جملَة فَجعل ربه متناهي الْقُدْرَة على الْخَيْر وَغير متناهي الْقُدْرَة على الشَّرّ فَهَل سمع بأخبث صفة من الصّفة الَّتِي وصف بهَا العلاف ربه وَهل فِي الموصوفين أَخبث طبيعة من الْمَوْصُوف الَّذِي ادّعى العلاف أَنه ربه ونعوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَأما أَبُو الْمُعْتَمِر معمر بن عمر والعطار الْبَصْرِيّ مولى بني سليم أحد شيوخهم وأثمنهم فَكَانَ يَقُول بِأَن فِي الْعَالم أَشْيَاء مَوْجُودَة لَا نِهَايَة لَهَا وَلَا يحصيها الْبَارِي تَعَالَى وَلَا أحد أَيْضا غَيره وَلَا لَهَا عِنْده مِقْدَار وَلَا عدد وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَقُول أَن الْأَشْيَاء تخْتَلف بمعان فِيهَا وَأَن تِلْكَ الْمعَانِي تخْتَلف بمعان أخر فِيهَا وَتلك الْمعَانِي تخْتَلف بمعان أخر فِيهَا وَهَكَذَا بِلَا نِهَايَة أَيْضا تَكْذِيب وَاضح لله تَعَالَى فِي قَوْله {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} وَوَافَقَهُ الدهرية فِي قَوْلهم بِوُجُود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا وعَلى هَذَا طلبته الْمُعْتَزلَة وبالبصرة عِنْد السُّلْطَان حَتَّى فر إِلَى بَغْدَاد وَمَات بهَا مختفياً عِنْد إِبْرَاهِيم بن السَّيِّد بن شاهك بو وَكَانَ معمر أَيْضا يزْعم أَن الله عز وَجل لم يخلق شَيْئا من الألوان وَلَا طولا وَلَا عرضا وَلَا طعماً وَلَا رَائِحَة وَلَا خشونة وَلَا أملاساً وَلَا حسنا وَلَا قبيحاً وَلَا صَوتا وَلَا قُوَّة وَلَا ضعفا وَلَا موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا وَلَا مَرضا وَلَا صِحَة وَلَا عَافِيَة وَلَا سقماً وَلَا عمى وَلَا بكماً وَلَا بصراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَلَا سمعا وَلَا فصاحة وَلَا فَسَاد للثمار وَلَا صَلَاحهَا وَإِن كل ذَلِك فعل الْأَجْسَام الَّتِي وجدت فِيهَا هَذِه الْأَعْرَاض بطباعها فأعملوا أَن هَذَا الْفَاسِق قد أخرج نصف الْعَالم عَن خلق الله تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ للْعَالم شَيْء إِلَّا الْجَوَاهِر الحاملة والأعراض المحمولة فَقَط فالنصف الْوَاحِد عِنْده غير مَخْلُوق لَعنه الله من مكذب لله تَعَالَى فِي نَص قَوْله تَعَالَى {خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقد عورض معمر بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنه خلق الإماتة والإحياء وَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يُنكر أَن يكون الله عز وَجل عَالما بِنَفسِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْعَالم إِنَّمَا يعلم غير مولا يعلم نَفسه وَكَانَ يزْعم أَن النَّفس لَيست جسماً وَلَا عرضا وَلَا هِيَ فِي مَكَان أصلا وَلَا تماس شَيْئا وَلَا تباينه وَلَا تتحرك وَلَا تسكن (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا قَول أهل الْإِلْحَاد مَحْضا بِلَا تَأْوِيل بِعني الْقَائِلين مِنْهُم بقدم النَّفس وَأَنَّهَا الخالقة للْإنْسَان نَعُوذ بِاللَّه من الضلال وَكَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يعلم نَفسه وَلَا يجهلها لِأَن الْعَالم غير الْمَعْلُوم ومحال أَن يقدر على الموجودات أَو أَن يعلمهَا وَأَن يجهلها وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد الْأَنْبَارِي الْمَعْرُوف بالناشيء ولقبه شرسير فِي كِتَابه فِي المقالات وَأَن الله تَعَالَى عَن كفره لَا يقدر على أَن يُسَوِّي بنان الْإِنْسَان بعد أَن سبق فِي علمه أَنه لَا يسويها (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا تَكْذِيب مَحْض لله تَعَالَى فِي قَوْله {أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه} وَرَأَيْت للجاحظ فِي كِتَابه الْبُرْهَان لَو أَن سَائِلًا سَأَلَهُ وَقَالَ أيقدر الله على أَن يخلق قبل الدُّنْيَا دنيا أُخْرَى فَجَوَابه نعم بِمَعْنى أَنه يخلق تِلْكَ الدُّنْيَا حِين خلق هَذِه فَتكون مثل هَذِه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا تعجيز مِنْهُ للباري تَعَالَى كَمَا قدمنَا إِذْ لم تحصل لَهُ تَعَالَى قدرَة على خلق دنيا قبل هَذِه إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي ذكره وَأما على غَيره فَلَا فَإِن قيل كَيفَ تجيبون قُلْنَا جَوَابنَا نعم على الْإِطْلَاق فَإِن قيل لنا كَيفَ يَصح هَذَا السُّؤَال وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لَا يجوز أَن يُقَال أَن قبل الْعَالم شَيْئا لِأَن قيل وَبعده من الزَّمَان وَلَا زمَان هُنَالك قُلْنَا معنى قَوْلنَا نعم أَي أَنه تَعَالَى لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق عَالما وَلَو خلقه لَكَانَ لَهُ زمَان قبل زمَان هَذَا الْعَالم وَهَكَذَا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما ضِرَارًا بن عمر فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن مُمكنا أَن يكون جَمِيع من فِي الأَرْض مِمَّن يظْهر الْإِسْلَام كفَّارًا كلهم فِي بَاطِن أَمرهم لِأَن كل ذَلِك جَائِز على كل وَاحِد مِنْهُم فِي ذَاته وَمن حماقات ضرار أَنه كَانَ يَقُول أَن الْأَجْسَام إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض مجتمعة وَأَن النَّار لَيْسَ فِيهَا حر وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَسَل حلاوة وَلَا فِي الصَّبْر مرَارَة وَلَا فِي الْعِنَب عصير وَلَا فِي الزَّيْتُون زَيْت وَلَا فِي الْمَعْرُوف دم وَإِن كَانَ ذَلِك إِنَّمَا يخلقه الله عز وَجل عِنْد الْقطع والذوق وَالْعصر واللمس فَقَط وَأما أَبُو عُثْمَان عَمْرو بن الجاحظ القصري الْكِنَانِي صليبه وَقيل بل هُوَ مولى وَهُوَ تلميذ النظام وَأحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يقدر على إفناء الْأَجْسَام الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يرفقها وَيفرق أَجْزَائِهَا فَقَط وَأما إعدامها فَلَا يقدر على ذَلِك أصلا وَأما أَبُو معمر وثمامة بن أَشْرَس النميري صليبه بَصرِي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وعلمائهم فَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول أَن الْعَالم فعل الله عز وَجل بطباعه تَعَالَى الله عَن هَذَا الْكفْر الشنيع علوا كَبِيرا وَكَانَ يزْعم أَن المقلدين من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَعباد الْأَوْثَان لَا يدْخلُونَ النَّار يَوْم الْقِيَامَة لَكِن يصيرون تُرَابا وَإِن كل من مَاتَ من أهل الْإِسْلَام وَالْإِيمَان الْمَحْض وَالِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة مصرا على كَبِيرَة من الْكَبَائِر كشرب الْخمر وَنَحْوهَا وَإِن كَانَ لم يواقع ذَلِك إِلَّا مرّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 فِي الدَّهْر فَإِنَّهُ مخلد بَين أطباق النيرَان أبدا مَعَ فِرْعَوْن وَأب وَأبي جهل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَي كفر أعجب من قَول من يَقُول أَن كثيرا من الْكفَّار لَا يدْخلُونَ النَّار وَإِن كثيرا من الْمُسلمين لَا يدْخلُونَ الْجنَّة وَكَانَ ثُمَامَة يَقُول إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أَولا د الْمُسلمين الَّذين يموتون قبل الْحلم وَجَمِيع مجانين الْإِسْلَام لَا يدْخلُونَ الْجنَّة أبدا لَكِن يصيرون تُرَابا وَأما هِشَام بن عَمْرو الفوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَكَانَ يَقُول إِذا خلق الله تَعَالَى شَيْئا فَإِنَّهُ لَا يقدر على أَن يخلق مثل ذَلِك الشَّيْء أبدا لَكِن الله يقدر على أَن يخلق غَيره والغير أَن عِنْده لَا يكونَانِ مثلين وَكَانَ لَا يُجِيز لأحد أَن يَقُول حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا أَن الله يعذب الْكفَّار بالنَّار وَلَا أَنه يحيي الأَرْض بالمطر ويروي هَذَا القَوْل وَالْقَوْل بِأَن الله تَعَالَى يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء ضلالا وإلحاداً (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا رد على الله جهاراً وَكَانَ يَقُول لَا يحل القَوْل بِشَيْء من هَذَا إِلَّا عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن فَقَط وَكَانَ يَقُول قُولُوا حَسبنَا الله وَنعم المتَوَكل عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول أَن الله يعذب الْكفَّار فِي النَّار ويحي الأَرْض عِنْد نزُول الْمَطَر وَكَانَ لَا يُجِيز القَوْل بِأَن الله ألف بَين قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَلَا أَن الْقُرْآن عَمَّا على الْكَافرين وَكَانَ يَقُول أَن من هُوَ الْآن مُؤمن عَابِد إِلَّا أَن فِي علم الله أَنه يَمُوت كَافِر فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله كَافِر وَإِن من كَانَ كَافِرًا مجوسياً أَو نَصْرَانِيّا أَو دهرياً أَو زنديقاً إِلَّا أَن فِي علم الله عز وَجل إِنَّه يَمُوت مُؤمنا فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله مُؤمن وَأما عباد بن سُلَيْمَان تلميذ الفوطي الْمَذْكُور فَكَانَ يزْعم أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا فعل من الصّلاح وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى خلق الْمُؤمنِينَ وَلَا أَنه خلق الْكَافرين وَلَكِن يُقَال خلق النَّاس وَذَلِكَ زعم لِأَن الْمُؤمن عِنْده إِنْسَان وإيمان وَالْكَافِر إِنْسَان وَكفر وَأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خلق عِنْده الْإِنْسَان فَقَط وَلم يخلق الْإِيمَان وَلَا الْكفْر وَكَانَ يَقُول أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على أَن يخلق غير مَا خلق وَأَنه تَعَالَى لم يخلق المجاعة وَلَا الْقَحْط وَكلهمْ بزعم أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر الْكفَّار قطّ بِأَن يُؤمنُوا فِي حَال كفرهم وَلَا نهى الْمُؤمنِينَ قطّ عَن الْكفْر فِي حَال إِيمَانهم لِأَنَّهُ لَا يقدر أحد قطّ على الْجمع بَين الْفِعْلَيْنِ المتضادين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وهم مقرون أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن من يُؤمن بعد كفره فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي كفره إِلَى أَن يُؤمن وَإِن من يكفر بعد إيمَانه فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي إيمَانه حَتَّى يكفروا وَأَن من لَا يُؤمن من الْكفَّار أبدا فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي كفره إِلَى أَن يَمُوت وَأَن من لَا يكفر من الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي إيمَانه إِلَى أَن يَمُوت وَلَيْسَ أحد من المأمورين يخرج عَن أحد هَذِه الْوُجُوه الْأَرْبَعَة ضَرُورَة فَإِذا كَانَ عِنْدهم لم يُؤمر قطّ كَافِر بِالْإِيمَان فِي حَال كفره وَلَا نهى مُؤمن عَن الْكفْر فِي حَال إيمَانه فَإِنَّهُ من لم يزل مُؤمنا إِلَى أَن مَاتَ لم يَنْهَهُ الله عز وَجل عَن الْكفْر قطّ وَإِن من لم يزل كَافِرًا إِلَى أَن مَاتَ فَإِن الله لم يَأْمُرهُ قطّ بِالْإِيمَان وَأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر قطّ بِالْإِيمَان وَمن لم يزل كَافِرًا إِلَى أَن مَاتَ فَإِن الله تَعَالَى لم يَأْمُرهُ قطّ بِالْإِيمَان وَأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر قطّ بِالْإِيمَان من آمن بعد كفره إِلَّا حِين آمن وَلَا نهى قطّ عَن الْكفْر من كفر بعد إيمَانه إِلَّا حِين كفر وَهَذَا تَكْذِيب مُجَرّد لله تَعَالَى فِي أمره الْكفَّار وَأهل الْكتاب بِالْإِيمَان ونهبه الْمُؤمنِينَ عَن الْكفْر وَكَانَ بشر بن الْمُعْتَمِر أَيْضا يَقُول أَن الله تَعَالَى لم يخلق قطّ لوناً وَلَا طعماً وَلَا رَائِحَة وَلَا مجسة وَلَا شدَّة وَلَا ضعفا وَلَا عَمَّا وَلَا بصراً وَلَا سمعا وَلَا جبنا وَلَا شجاعة وَلَا كشفاً وَلَا عَجزا وَلَا صِحَة وَلَا مَرضا وَأَن النَّاس يَفْعَلُونَ كل ذَلِك فَقَط وَأما جَعْفَر القصبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 بَايع الْقصب والأشج وهما من رُؤَسَائِهِمْ فَكَانَا يَقُولَانِ أَن الْقُرْآن لَيْسَ هُوَ فِي الْمَصَاحِف وَإِنَّمَا فِي الْمَصَاحِف شَيْء آخر وَهُوَ حِكَايَة الْقُرْآن (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر مُجَرّد وَخلاف جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَدِيما وحديثاً وَكَانَ على الأسواري الْبَصْرِيّ أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة يَقُول إِن الله عز وَجل لَا يقدر على غير فعل مَا فعل وَإِن من علم الله تَعَالَى أَنه يَمُوت ابْن ثَمَانِينَ سنة فَإِن الله لَا يقدر على أَن يميته قبل ذَلِك وَلَا أَن يبقيه طرفَة عين بعد ذَلِك وَأَن من علم الله تَعَالَى من مَرضه يَوْم الْخَمِيس مَعَ الزَّوَال مثلا فَإِن الله تَعَالَى لَا يقدر على أَن يبريه قبل ذَلِك لَا بِمَا قرب وَلَا بِمَا بعد وَلَا على أَن يزِيد فِي مَرضه طرفَة عين فَمَا فَوْقهَا وَأَن النَّاس يقدرُونَ كل حِين على إماتة من علم الله أَن لَا يَمُوت إِلَّا وَقت كَذَا وَأَن الله لَا يقدر على ذَلِك وَهَذَا كفر مَا سمع قطّ بأفظع مِنْهُ وَأما أَبُو غفار أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَكَانَ يزْعم أَن شَحم الْخِنْزِير ودماغه حَلَال (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر صَرِيح لَا خَفَاء بِهِ وَكَانَ يزْعم أَن تفخيذ الرِّجَال الذُّكُور حَلَال وَقد ذكر هَذَا عَن ثُمَامَة أَيْضا وكل هَذَا كفر مَحْض وَأما أَحْمد ابْن خابط وَالْفضل الْحَرْبِيّ النصريان وَكَانَا تلميذين لإِبْرَاهِيم النظام فَكَانَا يزعمان أَن للْعَالم خالقين أَحدهمَا قديم وَهُوَ الله تَعَالَى وَالْآخر حَادث وَهُوَ كلمة الله عز وَجل الْمَسِيح عيس ابْن مَرْيَم الَّتِي بهَا خلق الْعَالم وَكَانَا لعنهما الله يطعنان على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّزْوِيجِ وَأَن أَبَا ذَر كَانَ أزهد مِنْهُ وَكَانَ أَحْمد بن خابط يزْعم أَن الَّذِي يَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ الْمَلَائِكَة صفا صفا فِي ظلل من الْغَمَام إِنَّمَا هُوَ الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الَّذِي خلق آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ الْمَسِيح عيس ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْمَسِيح هُوَ الَّذِي يُحَاسب النَّاس يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ أَحْمد بن خابط لَعنه الله يَقُول إِن فِي كل نوع من أَنْوَاع الطير والسمك وَسَائِر حَيَوَان الْبر حَتَّى البق والبراغيث وَالْقمل والقرود وَالْكلاب والفيران والتيوس وَالْحمير والدود والوزغ والجعلان أَنْبيَاء الله تَعَالَى رِسَالَة إِلَى أنواعهم مِمَّا ذكرنَا من سَائِر الْأَنْوَاع وَكَانَ لَعنه الله يَقُول بالتناسخ والكرور وَأَن الله تَعَالَى ابتدا جَمِيع الْخلق فخلقهم كلهم جملَة وَاحِدَة بِصفة وَاحِدَة ثمَّ أَمرهم ونهاهم فَمن عصى مِنْهُم نسخ روحه فِي جَسَد بَهِيمَة فالعتال يبتلى بِالرِّيحِ كالغنم وَالْإِبِل وَالْبَقر والدجاج وَغير ذَلِك من البراغيث وكل مَا يقتل فِي الْأَغْلَب وَإِن من كَانَ مِنْهُم فِي فسقه وَقَتله للنَّاس عفيفاً كُوفِي بِالْقُوَّةِ على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وَغير ذَلِك وَمن كَانَ زَانيا وزانية كوفيا بِالْمَنْعِ من الْجِمَاع كالبغال والبغلات وَمن كَانَ جباراً كُوفِي بالمهانة كالدود وَالْقمل وَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يقْتَصّ مِنْهُم ثمَّ يردون فَمن عصى مِنْهُم كرر أَيْضا كَذَلِك هَكَذَا أبدا حَتَّى يُطِيع طَاعَة لَا مَعْصِيّة مَعهَا فَينْتَقل إِلَى الْجنَّة من وقته أَو يَعْصِي مَعْصِيّة لَا طَاعَة مَعهَا فَينْتَقل إِلَى جَهَنَّم من وقته وَإِنَّمَا حمله على القَوْل بِكُل هَذَا لُزُومه أصل الْمُعْتَزلَة فِي الْعدْل وطرده إِيَّاه مَشْيه مَعَه وَاعْلَمُوا أَن كل من لم يقل من الْمُعْتَزلَة بِهَذَا القَوْل فَإِنَّهُ متناقض تَارِك لَا صلهم فِي الْعدْل وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن للثَّواب دارين إِحْدَاهمَا لَا أكل فِيهَا وَلَا شرب وَهِي أرفع قدرا من الثَّانِيَة وَالثَّانيَِة فِيهَا أكل وَشرب وَهِي أنقص قدرا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كُله كفر مَحْض وَكَانَ لهَذَا الْكَافِر أَحْمد بن خابط تلميذ على مذْهبه يُقَال لَهُ أَحْمد بن سابوس كَانَ يَقُول بقول معلمه فِي التناسخ ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَقَالَ أَنه المُرَاد بقول الله عز وَجل وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مرّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 بن نجيح الأندلسي يُوَافق الْمُعْتَزلَة فِي الْقدر وَكَانَ يَقُول أَن علم الله وَقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وَأَن لله تَعَالَى علمين أَحدهمَا أحدثه جملَة وَهُوَ علم الْكتاب وَهُوَ علم الْغَيْب كعلمه أَنه سَيكون كفار ومؤمنون وَالْقِيَامَة وَالْجَزَاء وَنَحْو ذَلِك وَالثَّانِي علم الجزئيات وَهُوَ علم الشَّهَادَة وَهُوَ كفر زيد وإيمان عمر وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يعلم الله تَعَالَى من ذَلِك شَيْئا حَتَّى يكون وَذكر قَول الله تَعَالَى {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ظن بل على ظَاهره أَنه يعلم مَا تَفْعَلُونَ وَإِن أخفيتم وَيعلم مَا غَابَ عَنْكُم مِمَّا كَانَ أَو يكون أَو هُوَ كَائِن (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا حمله على هَذَا القَوْل طرده لأصول الْمُعْتَزلَة حَقًا فَإِن من قَالَ مِنْهُم أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن فلَانا لَا يُؤمن أبدا وَأَن فلَانا لَا يكفر أبدا ثمَّ جعل النَّاس قَادِرين على تَكْذِيب كَلَام رَبهم وعَلى إبِْطَال مَا لم يزل وَهَذَا تنَاقض فَاحش لَا خَفَاء بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَكَانَ من أَصْحَابه جمَاعَة يكفرون من قَالَ أَنه عز وَجل لم يزل يعلم كل مَا يكون قبل أَن يكون وَكَانَ من أَصْحَاب مذْهبه رجل يُقَال لَهُ إِسْمَاعِيل ابْن عبد الله الرعيني مُتَأَخّر الْوَقْت وَكَانَ من الْمُجْتَهدين فِي الْعِبَادَة المنقطعين فِي الزّهْد وأدركته إِلَّا أَبى لم ألقه ثمَّ أحدث أقوالاً سَبْعَة فبريء مِنْهُ سَائِر المربة وكفروه إِلَّا من أتبعه مِنْهُم فَمَا أحدث قَوْله أَن الأجساد لَا تبْعَث أبدا وَإِنَّمَا تبْعَث الْأَرْوَاح صَحَّ هَذَا عندنَا عَنهُ وَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول أَنه حِين موت الْإِنْسَان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الْحساب وَيصير إِمَّا إِلَى الْجنَّة أَو إِلَى النَّار وَأَنه كَانَ لَا يقر بِالْبَعْثِ إِلَّا على هَذَا الْوَجْه وَأَنه كَانَ يَقُول أَن الْعَالم لَا يفنى أبدا بل هَكَذَا يكون الْأَمر بِلَا نِهَايَة وحَدثني الْفَقِيه أَبُو أَحْمد المعار فِي الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قَالَ أَخْبرنِي يحيى بن أَحْمد الطَّبِيب وَهُوَ ابْن ابْنة إِسْمَاعِيل الرعيني الْمَذْكُور قَالَ أَن جدي كَانَ يَقُول أَن الْعَرْش هُوَ الْمُدبر للْعَالم وَأَن الله تَعَالَى أجل من أَن يُوصف بِفعل شَيْء أصلا وَكَانَ ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسَرَّة ويحتج بِأَلْفَاظ فِي كتبه لَيْسَ فِيهَا لعمري دَلِيل على هَذَا القَوْل وَكَانَ يَقُول لسَائِر المرية إِنَّكُم لن تفهموا عَن الشَّيْخ فبرئت مِنْهُ المرية أَيْضا على هَذَا القَوْل وَكَانَ أَحْمد الطَّبِيب صهره مِمَّن بَرِيء مِنْهُ وَتثبت ابْنَته على هَذِه الْأَقْوَال متبعة لأَبِيهَا مُخَالفَة لزَوجهَا وَابْنهَا وَكَانَت متكلمة ناسكة مجتهدة ووافقت أَبَا هَارُون بن إِسْمَاعِيل الرعيني على هَذَا القَوْل فَأنكرهُ وبريء من قَائِله وَكذب ابْن أَخِيه فِيمَا ذكر عَن أَبِيه وَكَانَ مخالفوه من المرية وَكثير من موافقيه ينسبون إِلَيْهِ القَوْل باكتساب النُّبُوَّة وَأَن من بلغ الْغَايَة من الصّلاح وطهارة النَّفس أدْرك النُّبُوَّة وَأَنَّهَا لَيست اختصاصاً أصلا وَقد رَأينَا مِنْهُم من ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن مرّة ويستدل على ذَلِك بِأَلْفَاظ كَثِيرَة فِي كتبه هِيَ لعمري لتشير إِلَى ذَلِك ورأينا سَائِرهمْ يُنكر هَذَا فَالله أعلم وَرَأَيْت أَنا من أَصْحَاب إِسْمَاعِيل الرعيني الْمَذْكُور من يصفه بفهم منطق الطير وَبِأَنَّهُ كَانَ ينذر بأَشْيَاء قبل أَن تكون فَتكون وَأما الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْد فرقته إِمَامًا وَاجِبَة طَاعَته يؤدون إِلَيْهِ زَكَاة أَمْوَالهم وَكَانَ يذهب إِلَى أَن الْحَرَام قد عَم الأَرْض وَأَنه لَا فرق بَين مَا يكتسبه الْمَرْء من صناعَة أَو تِجَارَة أَو مِيرَاث أَو بَين مَا يكتسبه من الرفاق وَإِن الَّذِي يحل للْمُسلمِ من كل ذَلِك قوته كَيفَ مَا أَخذه هَذَا أَمر صَحِيح عندنَا عَنهُ يَقِينا وَأخْبرنَا عَنهُ بعض من عرف بَاطِن أُمُورهم أَنه كَانَ يرى الدَّار دَار كفر مُبَاحَة دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا أَصْحَابه فَقَط وَصَحَّ عندنَا عَنهُ كَانَ يَقُول بِنِكَاح الْمُتْعَة وَهَذَا لَا يقْدَح فِي إيمَانه وَلَا فِي عَدَالَته لَو قَالَه مُجْتَهدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَلم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة بنسخه وَلَو سلم من الكفرات الصلع الَّتِي ذكرنَا وَإِنَّمَا ذكرنَا عَنهُ مَا جرى لنا من ذكره ولغرابة هَذَا القَوْل الْيَوْم وَقلة الْقَائِلين بِهِ من النَّاس وَرَأَيْت لأبي هَاشم عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي كَبِير الْمُعْتَزلَة وَابْن كَبِيرهمْ الْقطع بِأَن لله تَعَالَى أحوالاً مُخْتَصَّة بِهِ وَهَذِه عَظِيمَة جدا إِذْ جعله حَامِلا للأعراض تَعَالَى عَن هَذَا الأفك وَرَأَيْت لَهُ الْقطع فِي كتبه كثيرا يردد القَوْل بِأَنَّهُ يجب على الله أَن يزيح علل الْعباد فِي كل مَا أَمرهم بِهِ وَلَا يزَال يَقُول فِي كتبه أَن أَمر كَذَا لم يزل وَاجِبا على الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام تقشعر مِنْهُ ذوائب الْمُؤمن لَيْت شعري من الْمُوجب ذَلِك على الله تَعَالَى وَالْحَاكِم عَلَيْهِ بذلك والملزم لَهُ مَا ذكر هَذَا النذل لُزُومه للباري تَعَالَى ووجوبه عَلَيْهِ فيا لله لمن قَالَ أَن الْفِعْل أوجب ذَلِك على الله تَعَالَى أَو ذكر شَيْئا دونه تَعَالَى ليصرحن بِأَن الله تَعَالَى متعبد للَّذي أوجب عَلَيْهِ مَا أوجب مَحْكُوم عَلَيْهِ مُدبر وَأَنه للكفر الصراح وَلَئِن قَالَ أَنه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أوجب ذَلِك على نَفسه فالإيجاب فعل فَاعل لَا شكّ فَإِن كَانَ الله لم يزل مُوجبا ذَلِك على نَفسه فَلم يزل فَاعِلا فالأفعال قديمَة وَلَا بُد لم تزل وَهَذِه دهرية مَحْضَة وَإِن كَانَ تَعَالَى أوجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يكن مُوجبا لَهُ فقد بَطل انتفاعه بِهَذَا القَوْل فِي أَصله الْفَاسِد لِأَنَّهُ قد كَانَ تَعَالَى غير وَاجِب عَلَيْهِ مَا ذكر وَرَأَيْت لبَعض الْمُعْتَزلَة سؤالا سَائل عَنهُ أَبَا هَاشم الْمَذْكُور يَقُول فِيهِ مَا بَال كل من بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاعيا إِلَى الْإِسْلَام إِلَى الْيمن والبحرين وعمان والملوك وَسَائِر الْبِلَاد وكل من يَدْعُو إِلَى مثل ذَلِك إِلَى يَوْم الْبَعْث لَا يُسمى رَسُول الله كَمَا سمى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ أمره الْملك عَن الله عز وَجل بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام وَالْأَمر وَاحِد وَالْعَمَل سَوَاء (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأُعْجِبُوا لتلاعب إِبْلِيس بِهَذِهِ الْفرْقَة الملعونة وسلوا الله الْعَافِيَة من أَن يكلكم إِلَى أَنفسكُم فَحق لمن دينه أَن ربه لَا يقدر على أَن يهديه وَلَا على أَن يضله إِن يتَمَكَّن الشَّيْطَان مِنْهُ هَذَا التَّمَكُّن ولعمري أَن هَذَا السُّؤَال لقد لزم أصل الْمُعْتَزلَة المضل لَهُم وَلمن الْتَزمهُ والمورد لجميعهم نَار جَهَنَّم وَهُوَ قَوْلهم أَن التَّسْمِيَة موكولة إِلَيْنَا لَا إِلَى الله عز وَجل وَرَأَيْت لهَذَا الْكَافِر أبي هَاشم كلَاما رد فِيهِ بِزَعْمِهِ على من يَقُول أَنه لَيْسَ لأحد أَن يُسَمِّي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَقَالَ هَذَا النذل لَو كَانَ هَذَا وَلم يجز لأحد أَن يُسمى الله تَعَالَى عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه لَكَانَ غير جَائِز لله أَن يُسمى بِهِ نَفسه باسم حَتَّى يُسَمِّيه بِهِ غَيره (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَل يَأْتِي الْمُرُور بأقبح من هَذَا الِاسْتِدْلَال وَهل فِي التَّسْمِيَة أَكثر من هَذَا وَلَكِن من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ونعوذ بِاللَّه من أَن يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا طرفَة عين فنهلك وَكَانَ أَبُو هَاشم أَيْضا يَقُول أَنه لَو طَال عمر الْمُسلم المحسن لجَاز أَن يعْمل من الْحَسَنَات وَالْخَيْر أَكثر مِمَّا عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا وَالله وَلَا كَرَامَة وَلَو عمر أَحَدنَا الدَّهْر كُله فِي طاعات مُتَّصِلَة مَا وازى عمل امريء صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير الْمُنَافِقين وَالْكفَّار المجاهرين سَاعَة وَاحِدَة فَمَا فَوْقهَا مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو كَانَ لِأَحَدِنَا مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه فَمَتَى يطْمع ذُو عقل أَن يدْرك أحدا من الصَّحَابَة مَعَ هَذَا القون الْمُمْتَنع إِدْرَاكه قطعا وَكَانَ أَبُو هَاشم الْمَذْكُور يَقُول أَنه لَا يقبل تَوْبَة أحد من ذَنْب عمله أَي ذَنْب كَانَ حَتَّى يَتُوب من جَمِيع الذُّنُوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَحقا أَقُول لقد طرد أصل الْمُعْتَزلَة الَّذِي أطبقوا عَلَيْهِ من إِخْرَاج الْمَرْء عَن الْإِسْلَام جملَة بذنب وَاحِد عمله يصر عَلَيْهِ وإيجابهم الخلود فِي النَّار عَلَيْهِ بذلك الذَّنب وَحده فَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ أَبُو هَاشم صَادِقا إِذْ لَا مَنْفَعَة لَهُ عِنْدهم فِي تَركه كل ذَنْب وَهُوَ بذنب وَاحِد يصر عَلَيْهِ خَارج عَن الْإِيمَان مخلد بَين أطباق النيرَان وَمَا يُنكر هَذَا عَلَيْهِ من الْمُعْتَزلَة إِلَّا جَاهِل بأصولهم أَو عَامِد للتناقض وَكَانَ يَقُول إِن تَارِك الصَّلَاة وتارك الزَّكَاة عَامِدًا لكل لَك لم يفعل شَيْئا وَلَا أنب وَلَا عصي وَأَنه مخلد بل أطباق النيرَان أبدا على غير فعل فعله وَلَا على شَيْء ارْتَكَبهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَل فِي التجويز لله على أصولهم وَهل فِي مُخَالفَة الْإِسْلَام جهاراً أَكثر من هَذَا القَوْل السخيف وَكَأن الَّذِي حمله على قَوْله هَذَا قَوْله أَنه ترك الْفِعْل لَيْسَ فعلا وَجَمِيع الْمُعْتَزلَة إِلَّا هِشَام بن عمر والفوطي يَزْعمُونَ أَن المعدودات أَشْيَاء على الْحَقِيقَة وَأَنَّهَا لم تزل وَأَنَّهَا لَا نِهَايَة لَهَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه دهرية بِلَا مطل وَأَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا لم تزل غير مخلوقة وَكَانَ عبد الرَّحِيم بِمَ مُحَمَّد بن عُثْمَان الْخياط من أكَابِر الْمُعْتَزلَة بِبَغْدَاد مِمَّن يَقُول أَن الْأَجْسَام المعدومة لم تزل أجساماً بِلَا نِهَايَة لَهَا لَا فِي عدد وَلَا فِي زمَان غير مخلوقة وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الإسكافي أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى لم يخلق الطنابير وَلَا المزامير وَلَا المعازف (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كَانَ من تَمام هَذَا الْكفْر أَن يَقُول إِن الله لم يخلق الْخمر وَلَا الْخَنَازِير وَلَا مَرَدَة الشَّيَاطِين وَقَالَت الْمُعْتَزلَة بأسرها حاشا بشر بن الْمُعْتَمِر وَضِرَار ابْن عمر وَأَنه لَا يحل لأحد تمني الشَّهَادَة وَلَا أَن يريدها وَلَا أَن يرضاها لِأَنَّهَا تَغْلِيب كَافِر على مُسلم وَإِنَّمَا يجب على الْمُسلم أَن يحب الصَّبْر على ألم الْجراح فَقَط إِذا أَصَابَته (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خلاف دين الْإِسْلَام وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَقَالُوا كلهم حاشا ضَرَرا وبشراً أَن الله لم يمت رَسُولا وَلَا نَبيا وَلَا صَاحب نَبِي وَلَا أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يدْرِي أَنهم لَو عاشوا فعلوا خيرا لَكِن أمات كل من أمات مِنْهُم إِذْ علم أَنه لَو أبقاه طرفَة عين لكفروا أَو فسق وَلَا بُد هَذَا قَوْلهم فِي أبي بكر وَعمر وَعلي وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة وَخَدِيجَة نعم وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الضلالات الوحشية وَكَانَ الْجَعْد وَهُوَ من شيوخهم يَقُول إِذا كَانَ الْجِمَاع يتَوَلَّد مِنْهُ الْوَلَد فَأَنا صانع وَلَدي ومدبره وفاعله لَا فَاعل لَهُ غَيْرِي وَإِنَّمَا يُقَال إِن الله خلقه مجَازًا لَا حَقِيقَة فَأخذ أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي الطّرف الثَّانِي من الْكفْر فَقَالَ أَن تَعَالَى خلق الْحَبل وَالْمَوْت وكل من فعل شَيْئا فَهُوَ مَنْسُوب إِلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى هُوَ محبل النِّسَاء وَهُوَ أحبل مَرْيَم بنت عمرَان (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) يلْزم وَلَا بُد إِذا كَانَ أَوْلَادنَا خلقا لله عز وَجل أَن يضيفهم إِلَيْهِ فَيَقُول هم أبنا الله والمسيح ابْن الله وَلَا بُد وَقَالَ أَبُو عمر وَأحمد بن مُوسَى بن احدير صَاحب السِّكَّة وَهُوَ من شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فِي بعض رسائله الَّتِي جرت بَينه وَبَين القَاضِي مُنْذر بن سعيد رَحمَه الله أَن الله عَاقل وَأطلق عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم وَقَالَ بعض شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن العَبْد إِذا عصى الله عز وَجل طبع على قلبه فَيصير غير مَأْمُور وَلَا مَنْهِيّ وَأما حماقاتهم فَإِن أَبَا الْهُذيْل العلاف قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 من سرق خَمْسَة دَرَاهِم أَو قيمتهَا فَهُوَ فَاسق منسلخ من الْإِسْلَام مخلد أبدا فِي النيرَان إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ بشر بن الْمُعْتَمِر أَن من سرق عشرَة دَرَاهِم غير حَبَّة فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا وَعِيد فَإِن سرق عشرَة دَرَاهِم خرج عَن الْإِسْلَام وَوَجَب عَلَيْهِ الخلود إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ النظام إِن سرق مأتي دِرْهَم غير حَبَّة فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا وَعِيد وَإِن سرق مأتي دِرْهَم خرج عَن الْإِسْلَام وَلَزِمَه الخلود إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن أحور بن الأخشيد وَهُوَ أحد رُؤَسَائِهِمْ الثَّلَاثَة الَّذين انْتَهَت رياستهم إِلَيْهِم وافترقت الْمُعْتَزلَة على مذاهبهم وَالثَّانِي مِنْهُم أَبُو هَاشم الجبائي وَالثَّالِث عبد الله بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْبَلْخِي الْمَعْرُوف بالكعبي وَكَانَ وَالِد أَحْمد بن عَليّ الْمَذْكُور أحد قواد الفراعنة وَولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فَكَانَ من قَول أَحْمد الْمَذْكُور أَن من ارْتكب كل ذَنْب فِي الدُّنْيَا وَهَكَذَا أبدا مَتى عَاد لذَلِك الذَّنب أَو لغيره من الْقَتْل فَمَا دونه إِلَّا أَنه نَدم أثر فعله لَهُ فقد صحت تَوْبَته وَسقط عَنهُ ذَلِك الذَّنب أبدا وَهَكَذَا أبدا مَتى عَاد لذَلِك الذَّنب أَو لغيره (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا قَول لم يبلغهُ جَمَاهِير المرجئة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَدعِي أَن القَوْل بإنفاذ الْوَعْد والوعيد وَمَا على أَدِيم الأَرْض مُسلم لَا ينْدَم على ذَنبه وَقَالَ عبد الرَّحْمَن تلميذ أبي الْهُذيْل أَن الْحجَّة لَا تقوم فِي الْأَخْبَار إِلَّا بِنَقْل خَمْسَة يكون فيهم ولي لله لَا أعرفهُ بِعَيْنِه وَعَن كل وَاحِد من أُولَئِكَ الْخَمْسَة خَمْسَة مثلهم وَهَكَذَا أبدا وَقَالَ صَالح تلميذ النظام أَن من رأى رُؤْيا أَنه بِالْهِنْدِ أَو أَنه قتل أَو أَنه أَي شَيْء رأى فَإِنَّهُ حق يَقِين كَمَا رأى كَمَا لَو كَانَ ذَلِك فِي الْيَقَظَة وَقَالَ عباد بن سُلَيْمَان الْحَواس سبع وَقَالَ النظام الألوان جسم وَقد يكون جسمان فِي مَكَان وَاحِد وَكَانَ النظام يَقُول لَا تعرف الْأَجْسَام بالأخبار أصلا لَكِن كل من رأى جسماً سَوَاء كَانَ المرئي إنْسَانا أَو غير إِنْسَان فَإِن النَّاظر إِلَيْهِ اقتطع مِنْهُ قِطْعَة اخْتلطت بجسم الرَّائِي ثمَّ كل من أخبرهُ ذَلِك الرَّائِي عَن ذَلِك الْجِسْم فَإِن الْمخبر أَيْضا أَخذ من تِلْكَ الْقطعَة قِطْعَة وَهَكَذَا أبدا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه قصَّة لَوْلَا أننا وجدناها عَنهُ من طَرِيق تلامذته المعظمين لَهُ ذكروها فِي كتبهمْ عَنهُ مَا عَرفْنَاهُ على ذِي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هَذَا أَن قطعا من جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام فِي نَار جَهَنَّم وَأَن قطعا من فِرْعَوْن وإبليس وَأبي لَهب وَأبي جهل فِي الْجنَّة وَكَانَ يزْعم أَنه لَا سُكُون فِي شَيْء من الْعَالم أصلا وَأَن كل سُكُون يعلم بتوسط الْبَصَر فَهُوَ حَرَكَة بِلَا شكّ وَكَانَ معمر يزْعم أَنه لَا حَرَكَة فِي شَيْء من الْعَالم وَإِن كل مَا يُسَمِّيه النَّاس حَرَكَة فَهُوَ سُكُون وَكَانَ عباد بن سُلَيْمَان يَقُول أَن الْأمة إِذا اجْتمعت وصلحت وَلم تتظالم احْتَاجَت حِينَئِذٍ إِلَى إِمَام يسوسها ويدبرها وَإِن عَصَتْ وفجرت وظلمت استغنت عَن الإِمَام وَكَانَ أَبُو الْهُذيْل يَقُول أَن الْإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا فِي حَال استطاعته وَإِنَّمَا يفعل بالاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يفعل إِذا لم يكن مستطيعاً وَأما إِذا كَانَ مستطيعاً فَلَا وَإِن الْمَيِّت يفعل كل فعل فِي الْعَالم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وحماقاتهم أَكثر من ذَلِك ونعوذ بِاللَّه من الخذلان شنع المرجئة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) غلاة المرجئية طَائِفَتَانِ أَحدهمَا الطَّائِفَة القائلة بِأَن الْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ وَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن عِنْد الله عز وَجل ولي لَهُ عز وَجل من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَصْحَابه وَهُوَ بخراسان وَبَيت الْمُقَدّس وَالثَّانيَِة الطَّائِفَة القائلة أَن الْإِيمَان عقد بِالْقَلْبِ وَإِن أعلن الْكفْر بِلِسَانِهِ بِلَا نقية وَعبد الْأَوْثَان أَو لزم الْيَهُودِيَّة أَو النَّصْرَانِيَّة فِي دَار الْإِسْلَام وَعبد الصَّلِيب وأعلن الثتليث فِي دَار الْإِسْلَام وَمَات على ذَلِك فَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان عِنْد الله عز وَجل ولي لله عز وَجل من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول أبي مُحرز جهم بن صَفْوَان السَّمرقَنْدِي مولى بني راسب كَاتب الْحَارِث بن سُرَيج التَّمِيمِي أَيَّام قِيَامه على نصرين سيار بخراسان وَقَول أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي الْيُسْر الْأَشْعَرِيّ الْبَصْرِيّ وأصحابهما فَأَما الْجَهْمِية فبخراسان وَأما الأشعرية فَكَانُوا بِبَغْدَاد وَالْبَصْرَة ثمَّ قَامَت لَهُ سوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ثمَّ رق أَمرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَمن فضايح الْجَهْمِية وشنعهم قَوْلهم بِأَن علم الله مُحدث مَخْلُوق وَأَنه تَعَالَى لم يكن يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما علم بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي الْقُدْرَة وَقَالَ أَيْضا إِن الْجنَّة وَالنَّار يفنيان ويفنى كل من فيهمَا وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَالثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخلاف إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام الْمُتَيَقن وَقَالَ بعض الكرامية المُنَافِقُونَ مُؤمنُونَ من أهل الْجنَّة وَقد أطلق ذَلِك بالمربة مُحَمَّد بن عِيسَى الصُّوفِي الألبيري وَكَانَت الفاظه تدل على أَنه يذهب مَذْهَبهم فِي التجسيم وَغَيره وَكَانَ ناسكاً متقللاً من الدُّنْيَا واعظاً مفوهاً مهذاراً قَلِيل الصَّوَاب كثير الْخَطَأ رَأَيْته مرّة وسمعته يَقُول إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يلْزمه زَكَاة مَال لِأَنَّهُ اخْتَار أَن يكون نَبيا عبدا وَالْعَبْد لَا زَكَاة عَلَيْهِ وَلذَلِك لم يُورث وَلَا ورث فَأَمْسَكت عَن معارضته لِأَن الْعَامَّة كَانَت تحضره فَخَشِيت لغطهم وتشنيعهم بِالْبَاطِلِ وَلم يكن معي أحد إِلَّا يحيى بن عبد الْكثير بن وَافد كنت أتيت أَنا وَهُوَ معي متنكرين لنسمع كَلَامه وبلغتني عَنهُ شنع مِنْهَا القَوْل بحلول الله فِيمَا شَاءَ من خلقه أَخْبرنِي عَنهُ بِهَذَا أَبُو أَحْمد الْفَقِيه الْمعَافِرِي عَن أبي عَليّ الْمقري وَكَانَ على بنت مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَذْكُور وَغير هَذَا أَيْضا نَعُوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالَت طَائِفَة الكرامية المُنَافِقُونَ مُؤمنُونَ مشركون من أهل النَّار وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَيْضا من آمن بِاللَّه وَكفر بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مُؤمن كَافِر مَعًا لَيْسَ مُؤمنا على الْإِطْلَاق وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَقَالَ مقَاتل ابْن سُلَيْمَان وَكَانَ من كبار المرجئة لَا يضر مَعَ الْإِيمَان سَيِّئَة جلت أَو قلت أصلا وَلَا ينفع مَعَ الشّرك حَسَنَة أصلا وَكَانَ مقَاتل هَذَا مَعَ جهم بخراسان فِي وَقت وَاحِد وَكَانَ يُخَالِفهُ فِي التجسيم كَانَ جهم يَقُول لَيْسَ الله تَعَالَى وَلَا هُوَ أَيْضا لَا شَيْء لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالق كل شَيْء فَلَا شَيْء إِلَّا مَخْلُوق وَكَانَ مقَاتل يَقُول إِن الله جسم وَلحم وَدم على صُورَة الْإِنْسَان وَقَالَت الكرامية الْأَنْبِيَاء يجوز مِنْهُم كَبَائِر الْمعاصِي كلهَا حاشا الْكَذِب فِي الْبَلَاغ فَقَط فَإِنَّهُم معصومون مِنْهُ وَذكر لي سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ وَهُوَ من رُؤْس الأشعرية أَن فيهم من يَقُول أَيْضا أَن الْكَذِب فِي الْبَلَاغ أَيْضا جَائِز من الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل هَذَا كفر مَحْض وَذكر عَنْهُم مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك الْأَشْعَرِيّ أَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى يفعل كلما يفعل فِي اته وَأَنه لَا يقدر على إفناء خلقه كُله حَتَّى يبْقى وَحده كَمَا كَانَ قبل أَن يخلق وَقَالُوا أَيْضا إِن كَلَام الله تَعَالَى أصوات وحروف هجاء وجتمعة كلهَا أبدا لم تزل وَلَا تزَال وَقَالُوا أَيْضا لَا يقدر الله على غير مَا فعل وَقَالُوا أَيْضا أَنه متحرك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 أَبيض اللَّوْن ذكر عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ أَنه تَعَالَى لَا يقدر على إِعَادَة الْأَجْسَام بعد بلائها لَكِن يقدر على أَن يخلق مثلهَا وَمن حماقاتهم أَنهم يجيزون كَون إمامين وَأكْثر فِي وَقت وَاحِد وَأما الأشعرية فَقَالُوا إِن شِئْتُم من أظهر الْإِسْلَام لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ بأفحش مَا يكون من الشتم وإعلان التَّكْذِيب بهَا بِاللِّسَانِ بِلَا تقية وَلَا حِكَايَة وَالْإِقْرَار بِأَنَّهُ يدين بذلك لَيْسَ شَيْء من ذَلِك كفرا ثمَّ خَشوا مبادرة جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَهُم فَقَالُوا لكنه دَلِيل على أَن فِي قلبه كفر فَقُلْنَا لَهُم وتقطعون بِصِحَّة مَا دلّ عَلَيْهِ هَذَا الدَّلِيل فَقَالُوا لَا وَقَالَت الأشعرية أَن إِبْلِيس قد كفر ثمَّ أعلن بعصيان الله تَعَالَى فِي السُّجُود لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن إِبْلِيس من حِينَئِذٍ لم يعرف أَن الله تَعَالَى حَقًا وَلَا أَنه خلقه من نَار وَلَا أَنه خلق آدم من تُرَاب وطين وَلَا عرف أَن الله أمره بِالسُّجُود لآدَم بعْدهَا قطّ وَلَا عرف بعد هَذَا قطّ أَن الله كرم آدم وَمن قَوْلهم بأجمعهم أَن إِبْلِيس لم يسْأَل الله قطّ أَن ينظره إِلَى يَوْم الْبَعْث فَقُلْنَا لَهُم وَيْلكُمْ إِن هَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورد لِلْقُرْآنِ قَالُوا لنا إِن إِبْلِيس إِنَّمَا قَالَ كل ذَلِك هازئاً مستهزئاً بِلَا معرفَة وَلَا اعْتِقَاد كَانَ هَذَا أشنع كفرُوا برده بعد كفر الغالية من الرافضة وَقَالُوا إِن إِبْلِيس لم يكفر بمعصيته الله فِي ترك السُّجُود لآدَم وَلَا بقوله عَن آدم أَنا خير مِنْهُ وَإِنَّمَا كفر بجحد الله تَعَالَى كَانَ فِي قلبه (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا خلاف لِلْقُرْآنِ وتكهن لَا يعرف صِحَّته إِلَّا من حَدثهُ بِهِ إِبْلِيس عَن نَفسه على أَن الشَّيْخ غير ثِقَة فِيمَا يحدث بِهِ وَقَالَت الأشعرية أَيْضا أَن فِرْعَوْن لم يعرف قطّ أَن مُوسَى إِنَّمَا جَاءَ بِتِلْكَ الْآيَات من عِنْد الله حَقًا وَأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين كَانُوا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعرفوا قطّ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا وَلَا عرفُوا أَنه مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَأَن من عرف ذَلِك مِنْهُم وكتمه وَتَمَادَى على إعلان الْكفْر ومحاربة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر وَمن بني قُرَيْظَة وَغَيرهم فَإِنَّهُم كَانُوا مُؤمنين عِنْد الله عز وَجل أَوْلِيَاء لله من أهل الْجنَّة فَقُلْنَا لَهُم وَيْلكُمْ هَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} و {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك} فَقَالُوا لنا معنى أَنهم وجدوا خطا مَكْتُوبًا عِنْدهم لم يفهموا مَعْنَاهُ وَلَا دروا مَا هُوَ وَنعم عرفُوا صورته فَقَط ودرو أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب كَمَا يعرف الْإِنْسَان جَاره فَقَط فَكَانَ هَذَا كفرا بَارِدًا أَو تحريفاً لكَلَام الله تَعَالَى عَن موَاضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعاً للضَّرُورَة وَقد تقصينا الرَّد على أهل هَذِه الْمقَالة الملعونة فِي كتاب لنا رسمه كتاب الْيَقِين فِي النَّقْض على الْمُلْحِدِينَ المحتجين عَن إِبْلِيس اللعين وَسَائِر الْكَافرين تقصيا فِيهِ كَلَام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسْمه عطاف بن دوتاس فِي كتاب أَلفه فِي نصر هَذِه الْمقَالة وَكَانَ لشيخهم الْأَشْعَرِيّ فِي إعجاز الْقُرْآن قَولَانِ أَحدهمَا كَمَا يَقُول الْمُسلمُونَ أَنه معجز النّظم وَالْآخر إِنَّمَا هُوَ المعجز الَّذِي لم يُفَارق الله عز وَجل قطّ وَالَّذِي لم يزل غير مَخْلُوق وَلَا نزل إِلَيْنَا وَلَا سمعناه قطّ وَلَا سَمعه جِبْرِيل وَلَا مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام قطّ وَأما الَّذِي يقْرَأ فِي الْمَصَاحِف ونسمعه فَلَيْسَ معجزا بل مَقْدُور على مثله وَهَذَا كفر صَحِيح وَخلاف لله تَعَالَى وَلِجَمِيعِ أهل الْإِسْلَام وَقَالَ كَبِيرهمْ وَهُوَ مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني أَن لله تَعَالَى خَمْسَة عشر صفة كلهَا قديمَة لم تزل مَعَ الله تَعَالَى وَكلهَا غير الله وَخلاف لله تَعَالَى وكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ غير الْأُخْرَى مِنْهُنَّ وَخلاف لسائرها وَإِن الله تَعَالَى غَيْرهنَّ وخلافهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا وَالله أعظم من قَول النَّصَارَى وَأدْخل فِي الْكفْر والشرك لِأَن النَّصَارَى لم يجْعَلُوا مَعَ الله تَعَالَى إِلَّا اثْنَيْنِ هُوَ ثالثهما وَهَؤُلَاء جعلُوا مَعَه تَعَالَى خَمْسَة عشر هُوَ السَّادِس عشر لَهُم وَقد صرح الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالمجالس بِأَن مَعَ الله تَعَالَى أَشْيَاء سواهُ لم تزل كَمَا يزل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا إبِْطَال التَّوْحِيد عَلَانيَة وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذَا الضلال ظنهم أَن إِثْبَات علم الله تَعَالَى وَقدرته وعزته وَكَلَامه لَا يثبت إِلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة الملعونة ومعاذ الله من هَذَا بل كل ذَلِك حق لم يزل غير مَخْلُوق لَيْسَ شَيْء من ذَلِك غير الله تَعَالَى وَلَا يُقَال فِي شَيْء من ذَلِك هُوَ الله تَعَالَى لِأَن هَذِه تَسْمِيَة لَهُ عز وَجل وتسميته لَا تجوز إِلَّا بِنَصّ وَقد تقصينا الْكَلَام فِي هَذَا فِي صدر ديواننا هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِنَّمَا جعلنَا هَاهُنَا شنع أهل الْبدع تنفيراً عَنْهُم وإيحاشا للأغمار من الْمُسلمين من الْأنس بهم وَمن حسن الظَّن بكلامهم الْفَاسِد وَلَقَد قلت لبَعْضهِم إِذا قُلْتُمْ أَن مَعَ الله تَعَالَى خَمْسَة عشر صفة كلهَا غَيره وَكلهَا لم تزل فَمَا الَّذِي أنكرتم على النَّصَارَى إِذْ قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة فَقَالَ لي إِنَّمَا أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم إِذْ جعلُوا مَعَه شَيْئَيْنِ فَقَط وَلم يجْعَلُوا مَعَه أَكثر وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم اسْم الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْلنَا الله عبارَة تقع على ذَات الْبَارِي وَجَمِيع صِفَاته لَا على ذَاته دون صِفَاته فَقلت لَهُ أَتَعبد الله أم لَا فَقَالَ لي نعم فَقلت لَهُ فَإِنَّمَا تعبد إِذا بإقرارك الْخَالِق وَغَيره مَعَه فيكفيك فنفر نفرة وَقَالَ معَاذ الله من هَذَا مَا عبد إِلَّا الْخَالِق وَحده فَقلت لَهُ فَإِنَّمَا تعبد إِذا بإقرارك بعض مَا يُسمى بِهِ الله فنفر أُخْرَى وَقَالَ معَاذ الله من هَذَا وَأَنا وَاقِف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقَالَ شيخ لَهُم قديم وَهُوَ عبد الله بن سعيد بن كلاب الْبَصْرِيّ أَن صِفَات الله تَعَالَى لَيست بَاقِيَة وَلَا فانية وَلَا قديمَة وَلَا حَدِيثَة لَكِنَّهَا لم تزل غير مخلوقة هَذَا مَعَ تصريحه بِأَن الله قديم بَاقٍ وَمن حماقات الأشعرية قَوْلهم أَن للنَّاس أحوالاً ومعاني لَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة وَلَا مَعْلُومَة وَلَا مَجْهُولَة وَلَا مخلوقة وَلَا غير ومخلوقة وَلَا أزلية وَلَا محدثة وَلَا حق وَلَا بَاطِل وَهِي علم الْعَالم بِأَن لَهُ علما وَوُجُود الْوَاجِد لوجدوه كلما يجد هَذَا أَمر سمعناه مِنْهُم نصا ورأيناه فِي كتبهمْ فَهَل فِي الرعونة أَكثر من هَذَا وَهل يُمكن الموسوس والمبرسم أَن يَأْتِي بِأَكْثَرَ من هَذَا وَلَقَد حاورني سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ كَبِيرهمْ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مجْلِس حافل فَقلت لَهُ هَذَا كَمَا تَقول الْعَامَّة عندنَا عِنَب لَا من كرم وَلَا من دالية وَمن هوسهم قَوْلهم أَن الْحق غير الْحَقِيقَة وَلَا نَدْرِي فِي أَي لُغَة وجدوا هَذَا أم فِي أَي شرع وَارِد أم فِي أَي طبيعة ظفروا بِهِ فَقَالُوا أَن الْكفْر حَقِيقَة وَلَيْسَ بِحَق وَقُلْنَا كلا بل وجوده عَن حَقِيقَة وَمَعْنَاهُ بَاطِل لَا حق وَلَا حَقِيقَة وَقَالُوا كلهم إِن الله حَامِل لصفاته فِي ذَاته هَذَا نَص قَول أبي جَعْفَر السمناتي المكفوف قَاضِي الْموصل وَهُوَ أكبر أَصْحَاب الباقلاني ومقدم الأشعرية فِي وقتنا هَذَا وَقَالَ هَذَا السمناني أَيْضا إِن من سمي الله تَعَالَى جسماً من أجل أَنه حَامِل لصفاته فِي ذَاته فقد أصَاب الْمَعْنى وَأَخْطَأ فِي التَّسْمِيَة فَقَط وَقَالَ هَذَا السمناني أَن الله تَعَالَى مشارك للْعَالم فِي الْوُجُود وَفِي قِيَامه بِنَفسِهِ كقيام الْجَوَاهِر والأجسام وَفِي أَنه ذُو صِفَات قَائِمَة بِهِ مَوْجُودَة بِذَاتِهِ كَمَا ثَبت ذَلِك فِيمَا هُوَ مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات من جملَة أجسام الْعَالم وجواهر هَذَا نَص كَلَام السمناني حرفا حرفا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا أعلم أحد من غلاة المشبهة أقدم على أَن يُطلق مَا أطلق هَذَا المبتدع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الْجَاهِل الملحد المتهور من أَن الله تَعَالَى مشارك للْعَالم حاشا لله من هَذَا وَقَالَ السمناني عَن شُيُوخه من الأشعرية أَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ على صفة الرَّحْمَن من الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار وَإِجْمَاع صِفَات الْكَمَال فِيهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته كَمَا أسجدهم لنَفسِهِ وَجعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله تَعَالَى كل ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص كَلَامه حرفا حرفا وَهَذَا كفر صَرِيح وشرك بواح إِذْ صرح بِأَن آدم على صفة الرَّحْمَن من اجْتِمَاع صِفَات الْكَمَال فيهمَا فَالله تَعَالَى وآدَم عِنْده مثلان مشتبهان فِي أجتمع صِفَات الْكَمَال فيهمَا ثمَّ لم يقنع بِهَذِهِ السوءة حَتَّى صرح بِأَن سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم كسجودهم لله عز وَجل وحاشا لله من هَذَا لِأَن سُجُود الْمَلَائِكَة لله تَعَالَى سُجُود عبَادَة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدَم سُجُود سَلام وتحية وتشريف مِنْهُم لآدَم وإكرام لَهُ بذلك كسجود يَعْقُوب لِابْنِهِ يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَط ثمَّ زَاد اللعين كفرا على كفر بنصه أَن الله تَعَالَى جعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله تَعَالَى ذَلِك وَهَذَا شرك لَا خَفَاء بِهِ كشرك النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَلَا فرق ونسأل الله تَعَالَى الْعَافِيَة وَقَالَ هَذَا السمناني أَن مَذْهَب شُيُوخه أَنهم لَا يَقُولُونَ أَن الْأَمر بالشَّيْء دَال على كَونه مرَادا للْآمِر قَدِيما كَانَ أَو مُحدثا وَلَا يدل النَّهْي على كَونه مَكْرُوها وَهَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا خلاف الْإِسْلَام وَالْإِجْمَاع والمعقول وتصريح بِأَن الله تَعَالَى إِذا أَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالْحج وَالصِّيَام وَالْجهَاد وَشَهَادَة الْإِسْلَام فَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على أَنه يُرِيد شَيْئا من ذَلِك وَإِذ نهى عَن الْكفْر وَالزِّنَا وَالْبَغي وَالسَّرِقَة وَقتل النَّفس ظلما فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَنه يكره شَيْئا من ذَلِك وَمَا فِي الْأَقْوَال أنتن من هَذَا القَوْل وَقَالَ السمناني أَنه لَا يَصح القَوْل بِأَن علم الله تَعَالَى مُخَالف للعلوم كلهَا وَلَا أَن قدرته مُخَالفَة للقدر كلهَا لِأَنَّهَا كلهَا دَاخِلَة تَحت قَوْلنَا ووصفنا للقدر والعلوم هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا بَيَان بِأَن دينهم أَن علم الله تَعَالَى وَقدرته من نوع علمنَا وقدرتنا وَإِذ الْأَمر كَذَلِك عِنْده فَعلمنَا وقدرتنا عرضان فِينَا مخلوقان فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن علم الله تَعَالَى وَقدرته عرضان فِي الله مخلوقان إِذْ من الْمُمْتَنع وُقُوع مَا لم يزل مَعَ الْمُحدث الْمَخْلُوق تَحت حد وَاحِد وَنَوع وَاحِد وَنَصّ هَذَا السمناني وَمُحَمّد بن الْحسن بن فورك فِي صدر كَلَامه فِي كتاب الْأُصُول أَن الْحُدُود لَا تخْتَلف فِي قديم وَلَا مُحدث قَالُوا ذَلِك فِي كَلَامهم فِي علم الله تَعَالَى فِي تحديدهم لِمَعْنى الْعلم بِصفة يَقع تحتهَا علم الله تَعَالَى وعلوم النَّاس وَهَذَا نَص مِنْهُم على أَن الله تَعَالَى مَحْدُود وَاقع مَعنا تَحت الْحُدُود وَهُوَ علمه وَقدرته وَهُوَ شَرّ من قَول جهم شيخهم فِي الْحَقِيقَة وَأبين من قَول كل مشبه فِي الأَرْض وَنَصّ هَذَا السمناني على أَن الْعَالم والقادر والمريد من الله تَعَالَى وخلقه إِنَّمَا كَانَ مُحْتَاجا إِلَى هَذِه الصِّفَات لكَونه مَوْصُوفا بهَا لَا لجوازها عَلَيْهِ هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُم بِلَا تكلّف وَلَا تَأْوِيل بِأَن الله تَعَالَى عَن كفر هَذَا الأرعن مُحْتَاج إِلَى الصِّفَات وَهَذَا كفر مَا يدْرِي أَن أحدا بلغه وَنَصّ هَذَا السمناني أَيْضا على أَن الله تَعَالَى لما كَانَ حَيا عَالما كَانَ مَوْصُوفا بِالْحَيَاةِ وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة حَتَّى لَا يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك فِي الشَّاهِد وَالْغَائِب هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ على أَن الله تَعَالَى حَالا لم يُخَالِفهُ فِيهَا خلقه بل هُوَ وهم فِيهَا سَوَاء وَنَصّ هَذَا السمناني على أَنه إِذا كَانَت الصِّفَات الْوَاجِبَة لله تَعَالَى فِي كَونه عَالما قَادِرًا لَا يُغني وُجُوبهَا لَهُ عَن مَا هُوَ مصحح لَهَا من الْحَيَاة فِيهِ كَمَا لَا يُوجب غناهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 عَمَّا يُوجب كَونه عَالما قَادِرًا عَن الْقُدْرَة وَالْعلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص جلي على أَن الله تَعَالَى غير غَنِي عَن شَيْء هُوَ غَيره لِأَن الصِّفَات عِنْدهم هِيَ غَيره تَعَالَى وَالله تَعَالَى عِنْدهم غير غَنِي عَنْهَا تَعَالَى الله وَإِذا لم يكن غَنِيا فَهُوَ فَقير إِلَيْهَا هَكَذَا قَالَت الْيَهُود أَن الله فَقير تَعَالَى الله عَن هَذَا بل هُوَ الْغَنِيّ جملَة عَمَّا سواهُ وكل من دونه فَقير إِلَيْهِ تَعَالَى وَقَالَ السمناني إِن قَالَ قَائِل لم أنكرتم أَن يكون الله مرِيدا لنَفسِهِ حسب مَا قَالَه النجار والجاحظ قيل لَهُ أَنْكَرْنَا ذَلِك لما قدمنَا ذكره من أَن الْوَاحِد من الْخلق مرِيدا بِإِرَادَة وَلَا يَخْلُو أَن يكون حَقِيقَة المريد من لَهُ الْإِرَادَة أَو كَونه مرِيدا أَو جود الْإِرَادَة لَهُ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ وَجَبت مُسَاوَاة الْغَائِب الشَّاهِد فِي هَذَا الْبَاب (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا نَص جلي على مُسَاوَاة الله تَعَالَى لخلقه عِنْد هَذَا الْجَاهِل وَهَذَا أعظم فِي الْكفْر من قَول كل مجسم لِأَن جَمِيع المجسمين لم يقدم أحد مِنْهُم قطّ على القَوْل بِأَن الله تَعَالَى مسَاوٍ لخلقه قبل هَذِه الْفرْقَة الملعونة ثمَّ الْعجب قطعهم بِأَن الله عز وَجل غايب غير شَاهد وحاشا لله عَن هَذَا بل هُوَ مَعنا وَهُوَ أقرب إِلَيْنَا من حَبل الوريد كَمَا قَالَ عز وَجل أَنه حَاضر فِي الْعُقُول غير غَائِب وَقَالَ الباقلاني مَا وجد فِي الله تَعَالَى من التسميات فَإِنَّهُ يجوز إِطْلَاقهَا عَلَيْهِ وَإِن لم يسم بذلك نَفسه مَا لم يرد شرع يمْنَع من ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص مِنْهُ على أَن هَاهُنَا مَعَاني تُوجد فِي الله تَعَالَى مَعَ الْإِلْحَاد فِي أَسْمَائِهِ إِذْ جَازَ تَسْمِيَته بِمَا لم يسم بِهِ عز وَجل نَفسه تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا وَقَالُوا كلهم إِن الله تَعَالَى لَيْسَ لَهُ إِلَّا كَلَام وَاحِد وَلَيْسَ لَهُ كَلِمَات كَثِيرَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كفر مُجَرّد لخلافه الْقُرْآن وَتَكْذيب لله عز وَجل فِي قَوْله {قل لَو كَانَ الْبَحْر مداداً لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفدت كَلِمَات الله} مَعَ أَن قَوْلهم لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد قَول أَحمَق لَا يعقل وَلَا يقوم بِهِ برهَان شَرْعِي وَلَا تشكل فِي هاجس وَلَا يُوجِبهُ عقل إِنَّمَا هُوَ هذيان مَحْض وَيُقَال لَهُم لَا يَخْلُو الْقُرْآن عِنْدهم من أَنه كَلَام الله تَعَالَى أَو لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى كفرُوا وَمن قرب وَكفى الله تَعَالَى مؤنتهم وَإِن قَالُوا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى فالقرآن مائَة سُورَة وَأَرْبَعَة عشر سُورَة فِيهَا سِتَّة آلَاف آيَة ونيف كل سُورَة مِنْهَا عِنْد أهل الْإِسْلَام غير الْأُخْرَى وكل آيَة غير الْأُخْرَى فَكيف يَقُول هَؤُلَاءِ النوكى أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد أما هَذَا من الْكفْر الْبَارِد والقحة السمجة ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالُوا كلهم إِن الْقُرْآن لم ينزل بِهِ قطّ جِبْرِيل على قلب مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِنَّمَا نزل عَلَيْهِ بِشَيْء آخر هُوَ الْعبارَة عَن كَلَام الله وَأَن الْقُرْآن لَيْسَ عندنَا الْبَتَّةَ إِلَّا على هَذَا الْمجَاز وَأَن نرى فِي الْمَصَاحِف ونسمع من الْقُرَّاء ونقرأ فِي الصَّلَاة ونحفظ فِي الصُّدُور لَيْسَ هُوَ الْقُرْآن الْبَتَّةَ وَلَا شَيْء مِنْهُ كَلَام الله الْبَتَّةَ بل شَيْء آخر وَإِن كَلَام الله تَعَالَى لَا يُفَارق ذَات الله عز وَجل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا من أعظم الْكفْر لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {بل هُوَ قُرْآن مجيد فِي لوح مَحْفُوظ} وَقَالَ تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَقَالَ تَعَالَى {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} وَقَالَ رَسُول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 صلى الله عَلَيْهِ إِنِّي أحب أَن أسمعهُ من غَيْرِي يَعْنِي الْقُرْآن وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة الْكِرَام البررة وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعد والى إِجْمَاع عَامَّة الْمُسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعاملهم على القَوْل حفظ فلَان الْقُرْآن وَقَرَأَ فلَان الْقُرْآن وَكتب فلَان الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَسَمعنَا الْقُرْآن من فلَان وَكَلَام الله تَعَالَى مَا فِي الْمُصحف من أول أم الْقُرْآن إِلَى آخر قل أعوذ بِرَبّ النَّاس وَقَالَ السمناني أَيْضا أَن الباقلاني وشيوخه قَالُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أطلق القَوْل بِأَن مَا أنزل الله هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ على معنى أَنه عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى وَأَنه يفهم مِنْهُ أمره وَنَهْيه فَقَط (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيُقَال لَهُم أخبرونا عَن قَوْلكُم أَن الْكتاب هُوَ الْمُصحف وَالْقِرَاءَة المسموعة قي الْمُحَارب كل ذَلِك عبارَة عَن الْقُرْآن مَاذَا تعنون بذلك وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا تمويه ضَعِيف وَهل كل مَا فِي الْمُصحف إِلَّا عبارَة عَن مُعَاينَة الَّتِي أرادها الله تَعَالَى فِي شرع دينه من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْإِيمَان وَغير ذَلِك وَأَحْبَارهمْ الْأُمَم السالفة وَصفَة الْجنَّة وَالنَّار والبعث وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يخْتَلف من أهل الْإِسْلَام أحد فِي أَن الْمعبر عَنهُ بذلك الْكَلَام لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى أصلا لِأَن ذَات الْجنَّة وَذَات النَّار وحركات الْمُصَلِّي وَعمل الْحَاج وَعمل الصَّائِم وأجسام عَاد وأشخاص ثَمُود لَيْسَ شَيْء من ذَلِك كَلَام الله تَعَالَى وَلَا قُرْآنًا فثيت أَن لَيْسَ هُوَ الْقُرْآن وَلَا هُوَ كَلَام الله إِلَّا الْعبارَة المسموعة فَقَط وَالْكَلَام المقروء والخط الْمَكْتُوب فِي الْمُصحف بِلَا شكّ إِذْ لم يبْق غير ذَلِك أَو الْكفْر وَتَكْذيب الله تَعَالَى وَتَكْذيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن الْقُرْآن أنزل عَلَيْهِ وأننا نسْمع كَلَام الله فأوهمتم الضُّعَفَاء أَن لذِي هُوَ كَلَام الله وَالْقُرْآن عِنْد جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَيْسَ هُوَ هُوَ الْقُرْآن وَلَا هُوَ كَلَام لله ثمَّ أوهمتوهم باستخفافكم أَن حركات المتحركين وَذَات الْجنَّة وَذَات النَّار هِيَ كَلَام الله تَعَالَى وَهِي بِالْقُرْآنِ فَهَل فِي الضلال والسخرية بضعفة الْمُسلمين والهزء بآيَات الله تَعَالَى أَكثر من هَذَا وَلَقَد أَخْبرنِي عَليّ بن حَمْزَة المراوي الصّقليّ الصُّوفِي أَنه بعض الأشعرية يبطح الْمُصحف بِرجلِهِ قَالَ فأكبرت ذَلِك وَقلت لَهُ وَيحك هَكَذَا تصنع بالمصحف وَفِيه كَلَام الله تَعَالَى فَقَالَ لي وَيلك وَبِاللَّهِ مَا فِيهِ إِلَّا السخام والسواد وَأما كَلَام الله بِلَا وَنَحْو هَذَا من القَوْل الَّذِي هَذَا مَعْنَاهُ وَكتب إِلَيّ أَبُو المرحي بن رزوار الْمصْرِيّ أَن بعض ثقاة أهل مصر أخبرهُ من طلاب السّنَن أَن رجلا من الأشعرية قَالَ لَهُ مشافهة على من يَقُول أَن الله قَالَ قل هُوَ الله أحد الله الصَّمد ألف لعنة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) بل على من يَقُول أَن الله عز وَجل لم يقلها ألف ألف لعنة نترى وعَلى من يُنكر أننا نسْمع كَلَام الله ونقرأ كَلَام الله ونحفظ كَلَام لله ونكتب كَلَام الله ألف ألف لعنة نترى من الله تَعَالَى فَإِن قَول هَذِه الْفرْقَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نِهَايَة الْكفْر بِاللَّه عز وَجل وَمُخَالفَة لِلْقُرْآنِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُخَالفَة جَمِيع أهل الْإِسْلَام قبل حُدُوث هَذِه الطَّائِفَة الملعونة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَت الأشعرية كلهَا أَن الله لم يزل قَائِلا لكل مَا خلق أَو يخلق فِي المستأنف كن إِلَّا أَن الْأَشْيَاء لم تكن إِلَّا حِين كَونهَا وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم مَكْشُوف لله عز وَجل إِذْ يَقُول {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَبين الله تَعَالَى أَنه لَا يَقُول للشَّيْء كن إِلَّا إِذا أَرَادَ تكوينه وَأَنه إِذا قَالَ لَهُ كن كَانَ الشَّيْء فِي الْوَقْت بِلَا مهلة لِأَن هَذَا هُوَ مُقْتَضى الْفَاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن فَجمعُوا إِلَى تَكْذِيب الله عز وَجل فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 خبريه جَمِيعًا إِيجَاب أزلية الْعَالم لِأَن الله تَعَالَى إِذا كَانَ لم يزل قَائِلا لما يكون كن فَإِن التكوين لم يزل وَهَذِه دهرية مَحْضَة ثمَّ قَالَ السمناني بعد أسطر لِأَنَّهُ لَو وَجب وجود مَا وجد فِي الْوَقْت الَّذِي وجد فِيهِ لأجل قَول الله تَعَالَى كن لوَجَبَ أَن يُوجد لأجل قَول غَيره لَهُ كن لِأَن صفة الِاقْتِضَاء لَا تخْتَلف فِي ذَلِك بَين الْقَدِيم والمحدث قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا نَص كَلَام هَذَا الْفَاسِق الملحد حرفا حرفا وَهَذَا كفر مَحْض وحماقة لإخفاء بهَا أما الْكفْر فإبطاله أَن وجود الْأَشْيَاء فِي الْأَوْقَات الَّتِي وجدت فِيهَا إِنَّمَا وجدت لأجل قَول الله تَعَالَى لَهَا كن وإيجابه أَن الْأَشْيَاء لم تُوجد فِي أحيان وجودهَا لقَوْل الله تَعَالَى لَهَا كن وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى صرف وَخُرُوج عَن إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وكل من يُصَلِّي إِلَى الْقبْلَة قبلهم وَمن الْكفْر الصَّرِيح أَيْضا فِي هَذَا الْكَلَام الملعون قَوْله أَن صفة الِاقْتِضَاء فِي ذَلِك لَا تخْتَلف بَين الْقَدِيم والمحدث فسوى بَين الله تَعَالَى وخلقه وَأما الحماقة فَقَوله لَو وجدت الْأَشْيَاء من أجل قَول الله تَعَالَى لَهَا كن لوَجَبَ أَن يُوجد لأجل قَول غَيره لَهَا كن فيا للْمُسلمين هَل سمع فِي الْحمق والرعونة وَقلة الْحيَاء أَكثر من قَول من سوى بَين قَول الله تَعَالَى كن للشَّيْء إِذْ أَرَادَ تكوينه وَبَين قَول غَيره من النَّاس كن وَهَذَا أَخبث من قَول الدهرية ونعوذ بِاللَّه من الضلال فلولا الخذلان مَا انْطلق بِهَذَا النوك لِسَان من لَا يقذف بِالْحِجَارَةِ فِي الشوارع وَمَا شبهت بِهَذَا الْكَلَام إِلَّا كَلَام النذل أبي هَاشم الجبائي لَو لم يجز لنا أَن نسمي الله تَعَالَى باسم حَتَّى يَأْذَن لنا فِي ذَلِك لوَجَبَ أَن لَا يجوز لله أَن يُسَمِّي نَفسه حَتَّى يَأْذَن لَهُ غَيره فِي ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه أَقْوَال لَو قَالَهَا صبيان يسيل مخاطبهم لأيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشَّيْطَان بهم كَمَا شَاءَ فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَقَالَت الأشعرية كلهَا أَن الله لَا يقدر على ظلم أحد الْبَتَّةَ وَلَا يقدر على الْكَذِب وَلَا على قَول أَن الْمَسِيح ابْن الله حَتَّى يَقُول قبل ذَلِك وَقَالَت النَّصَارَى وَأَنه لَا يقدر على أَن يَقُول عُزَيْر ابْن الله حَتَّى يَقُول قبل ذَلِك وَقَالَت الْيَهُود وَأَنه لَا يقدر على أَن يتَّخذ ولد أَو أَنه لَا يقدر الْبَتَّةَ على إِظْهَار معْجزَة على يَدي كَذَّاب يَدعِي النُّبُوَّة فَإِن ادّعى الإلهية كَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على إِظْهَار المعجزات على يَدَيْهِ وَأَنه تَعَالَى لَا يقدر على شَيْء من الْمحَال وَلَا على إِحَالَة الْأُمُور عَن حقائقها وَلَا على قلب الْأَجْنَاس عَن ماهيتها وَأَنه تَعَالَى لَا يقدر الْبَتَّةَ على أَن يقسم الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَلَا على أَن يَدْعُو أحدا إِلَى غبر التَّوْحِيد هَذَا نَص كَلَامهم وَحَقِيقَة معتقدهم فجعلوه تَعَالَى عَاجِزا متناهي الْقُوَّة مَحْدُود الْقُدْرَة يقدر مرّة وَلَا يقدر أُخْرَى يقدر على شَيْء وَلَا يقدر على آخر وَهَذِه صفة النَّقْص وهم مَعَ هَذَا يَقُولُونَ أَن السَّاحر يقدر على قلب الْأَعْيَان وعَلى أَن يمسخ إنْسَانا فَيَجْعَلهُ حمارا على الْحَقِيقَة وعَلى الْمَشْي فِي الْهَوَاء وعَلى المَاء فَكَانَ السَّاحر عِنْدهم أقوى من الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وخشوا مبادرة أهل الْإِسْلَام لَهُم بالاصطلام فخنسوا عَن أَن يصرحوا بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر فَقَالُوا لَا يُوصف الله بِالْقُدْرَةِ على شَيْء مِمَّا ذكرنَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا رَاحَة لَهُم فِي هَذَا لأننا نقُول لَهُم وَلم لَا نصفه بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك إِلَّا أَنه يقدر على شَيْء من ذَلِك وَلَا لَهُ قدرَة على كل ذَلِك أم لِأَنَّهُ لَا يقدر على كل ذَلِك وَلَا لَهُ قدرَة على شَيْء من ذَلِك وَلَا بُد من أَحدهمَا بضرورة الْعقل وَهنا ضلت جبلتهم الضعيفة وَلَا بُد لَهُم من الْقطع بِأَنَّهُ لَا يقدر وَبِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَإِذ قد صَرَّحُوا بِهَذَا بِالضَّرُورَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 فَأول الْعقل ومسموع اللُّغَة كِلَاهُمَا يوجبان أَن من لَا يقدر على شَيْء فَهُوَ عَاجز عَنهُ وَأَن من لَا قدرَة لَهُ على شَيْء فصفة الْعَجز والضعف لاحقة بِهِ فَلَا بُد لَهُم ضَرُورَة من إِطْلَاق اسْم الْعَجز على الله تَعَالَى وَوَصفه بِأَنَّهُ عَاجز وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَبهم يَقِينا إِلَّا أَنهم يخَافُونَ الْبَوَار إِن أظهروه وَقَالَ هَذَا الباقلاني لَا فرق بَين النَّبِي وَالسحر الْكذَّاب المتنبي فِيمَا يأتينا بِهِ إِلَّا التحدي فَقَط وَقَول النَّبِي لمن بِحَضْرَتِهِ هَات من يعْمل كعملي وَهَذَا إبِْطَال للنبوة مُجَرّد وَقَالَ الباقلاني وَابْن فورك وأشياعهما من أهل الضَّلَالَة والجهالة لَيْسَ لله تَعَالَى أَسمَاء الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا لَهُ تَعَالَى اسْم وَاحِد فَقَط لَيْسَ لَهُ اسْم غَيره وَأَن قَول الله تَعَالَى {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} إِنَّمَا أَرَادَ أَن يَقُول لله التسميات الْحسنى فذروا الَّذين يلحدون فِي تسمياته فَقَالَ لله الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ قَالُوا وَكَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد إِنَّمَا أَرَادَ أَن يَقُول تسعا وَتِسْعين تَسْمِيَة فَقَالَ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا فِي الْبُرْهَان على قلَّة الْحيَاء وَفَسَاد الدّين واستسهال الْكَذِب أَكثر من هَذَا وليت شعري من أخْبرهُم عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الأفك ثمَّ لَيْت شعري إِذا زَعَمُوا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ ان يَقُول التسميات الْحسنى فَقَالَ الْأَسْمَاء الْحسنى لأي شَيْء فعل ذَلِك اللكنة أم غَفلَة أم تعمد لإضلال عباده وَلَا سَبِيل وَالله إِلَى رَابِع فَأُعْجِبُوا لعَظيم مَا حل بهؤلاء الْقَوْم من الدمار والتبار وَالْكذب على الله جهاراً وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا رهبة ونعوذ بِاللَّه من الضلال مَعَ أَن هَذَا قَول مَا سبقهمْ إِلَيْهِ أحد وَقَالُوا كلهم أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب لَيْسَ هُوَ رَسُول الله الْيَوْم لكنه كَانَ رَسُول الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد فكذبوا الْقُرْآن فِي قَول الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله} وكذبوا الآذان وكذبوا الْإِقَامَة الَّتِي افترضها الله تَعَالَى خمس مَرَّات كل يَوْم وَلَيْلَة على كل جمَاعَة من الْمُسلمين وكذبوا دَعْوَة جَمِيع الْمُسلمين الَّتِي الفقوا على دُعَاء الْكفَّار إِلَيْهَا وعَلى أَنه لَا نجاة من النَّار لَا بهَا واكذبوا جَمِيع أعصار الْمُسلمين من الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ فِي أطباق جَمِيعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بِلَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَوَجَب على قَوْلهم هَذَا الملعون أَنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الْإِسْلَام فِي قَوْلهم مُحَمَّد رَسُول الله وان الْوَاجِب أَن تَقولُوا مُحَمَّد كَانَ رَسُول الله وعَلى هَذِه الْمَسْأَلَة قتل الْأَمِير مَحْمُود بن سبكتكين مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَصَاحب خرا سان رَحمَه الله ابْن فورك شيخ الأشعرية فَأحْسن الله جَزَاء مَحْمُود على ذَلِك وَلعن ابْن فورك وأشياعه وَأَتْبَاعه قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا حملهمْ على الْكفْر الْفَاحِش قَول لَهُم آخر فِي نِهَايَة الضلال والإنسلاخ من الْإِسْلَام وَهِي قَوْلهم أَن الْأَرْوَاح أَعْرَاض تفنى وَلَا تبقى وَقْتَيْنِ وَأَن روح كل وَاحِد منا الْآن هُوَ غير روحه الَّذِي كَانَ لَهُ قبل ذَلِك بطرفة عين وَإِن كل وَاحِد منا يُبدل أَزِيد من ألف ألف روح فِي كل سَاعَة زمانية وَأَن النَّفس إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْهَوَاء الْخَارِج بالتنفس حاراً بعد دُخُوله بَارِدًا وَأَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ فني روحه وَبَطل وَأَنه لَيْسَ لمُحَمد وَلَا لأحد من الْأَنْبِيَاء عِنْد الله تَعَالَى روح ثَابِتَة تنعم وَلَا نفس قَائِمَة تكرم وَهَذَا خُرُوج عَن إِجْمَاع الْإِسْلَام فَمَا قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 بِهَذَا أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام قبل أبي الْهُذيْل العلاف ثمَّ تلاه هَؤُلَاءِ وَهَذَا خلاف مُجَرّد لِلْقُرْآنِ وَتَكْذيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول {اخْرُجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} وَإِذ يَقُول عز وَجل {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون} وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم إِلَّا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} وَلقَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} وَخلاف السّنَن الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المنقولة نقل التَّوَاتُر من رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْلَة أسرِي بِهِ فِي السَّمَاء وَمَا جرى لَهُ مَعَه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي عدد الصَّلَوَات المفروضات وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء نسمَة تعلق فِي ثمار الْجنَّة وَمَا يلقى الرّوح عِنْد خُرُوجه من الْفِتْنَة والمسائلة وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى عَن يَمِين آدم أَسْوِدَة نسم بنيه من أهل الْجنَّة وَعَن يسَاره أَسْوِدَة نسم بنيه من أهل النَّار وَسَائِر السّنَن المأثورة قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ خجلوا من هَذِه الْعَظِيمَة وتبرأ مِنْهُم إِبْلِيس الَّذِي ورطهم فِيهَا فشلوا فَقَالُوا فِي كتبهمْ فَإِن لم يكن هَذَا فَإِن الرّوح تنْتَقل عِنْد خُرُوجهَا من الْجِسْم إِلَى جسم آخر هَكَذَا نَص الباقلاني فِي أحد كتبه وَأَظنهُ الرسَالَة الْمَعْرُوفَة بِالْحرَّةِ وَهَذَا مَذْهَب التناسخ بِلَا كلفة وَقَالَ السمناني فِي كِتَابه أَن الباقلاني وَأَصْحَابه قَالُوا أَن كل مَا جَاءَ فِي الْخَبَر من نقل أَرْوَاح الشُّهَدَاء إِلَى حواصل طير خضر وَأَن روح الْمَيِّت ترتد إِلَيْهِ فِي قَبره وَمَا جرى مجْرى ذَلِك من وصف الرّوح بِالْقربِ والبعد وَالْحَرَكَة والانتقال والسكون وَالْعَذَاب فَكل ذَلِك مَحْمُول على أقل جُزْء من أَجزَاء الْمَيِّت والشهيد أَو الْكَافِر وإعادة الْحَيَاة فِي ذَلِك الْجُزْء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا طَرِيق من الهوس جدا وتطايب بِالدّينِ وَلَقَد أَخْبرنِي ثِقَة من أَصْحَابِي أَنه سمع بعض مقدميهم يَقُول أَن الرّوح إِنَّمَا تبقى فِي عجب الذَّنب لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب مِنْهُ خلق وَفِيه يركب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا التَّأْوِيل أقرب إِلَى الْهزْل مِنْهُ إِلَى أَقْوَال أهل الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فَإِنَّمَا هَذِه ستائر دون مَذْهَبهم الْخَبيث الَّذِي ذكرنَا آنِفا وَقَالُوا كلهم أَن النّظر فِي دَلَائِل الْإِسْلَام فرض وَأَنه لَا يكون مُسلما حَتَّى ينظر فِيهَا وَأَن من شَرط النَّاظر فِيهَا أَن يكون وَلَا بُد شاكا فِي الله عز وَجل وَفِي صِحَة النُّبُوَّة وَلَا يَصح النّظر فِي دَلَائِل النُّبُوَّة وَدَلَائِل التَّوْحِيد لمن يعْتَقد صِحَّتهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالله مَا سمع سامع قطّ بادخل فِي الْكفْر من قَول من أوجب الشَّك فِي الله تَعَالَى وَفِي صِحَة النُّبُوَّة فرضا على كل متعلم لانجاه لَهُ إِلَّا بِهِ وَلَا دين لَا حد دونه وَأَن اعْتِقَاد صِحَة التَّوْحِيد لله تَعَالَى وَصِحَّة النُّبُوَّة بَاطِل لَا يحل فَحصل من كَلَامهم أَن من لم يشك فِي الله تَعَالَى وَلَا فِي صِحَة النُّبُوَّة فَهُوَ كَافِر وَمن شكّ فيهمَا فَهُوَ محسن مؤد مَا وَجب عَلَيْهِ وَهَذِه فضيحة وحماقة اللَّهُمَّ إِنَّا نبرأ إِلَيْك من هَذَا القَوْل وَمن كَانَ قَائِل بِهِ ثمَّ لم يَجدوا فِي أمد الِاسْتِدْلَال حدا فليت شعري على هَذَا القَوْل الملعون وَهُوَ ومعتقده والداعي إِلَيْهِ كَيفَ يكون حَال من قبل وصيتهم هَذِه الَّتِي هِيَ وَصِيَّة الشَّيْطَان الرَّجِيم فَتبين بِالشَّكِّ فِي الله تَعَالَى وَفِي النُّبُوَّة وامتد بِهِ أمد الِاسْتِدْلَال أَيَّامًا وأشهراً وساعات مَاتَ فِيهَا أَيْن مستقره ومصيره إِلَى النَّار وَالله خَالِدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 مخلدا أَبَد وبيقين نَدْرِي أَن قَائِل هَذِه الْأَقْوَال مطَالب لِلْإِسْلَامِ كأدلة مرصد لأهل دَاعِيَة إِلَى الْكفْر ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالُوا كلهم أَن طَعَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المئين والعشرات من صَاع شعير مرّة بعد مرّة وسقيه الْألف والألوف من مَاء يسير يَنْبع من بَين أَصَابِعه وحنين الْجذع ومجيء الشَّجَرَة وَتكلم الذِّرَاع وشكوى الْبَعِير ومجيء الذِّئْب لَيْسَ شَيْء من ذَلِك دلَالَة على صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نبوته لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يتحد النَّاس بذلك وَلَا يكون عِنْدهم آيَة إِلَّا مَا تحدى بِهِ الْكفَّار فَقَط وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله إِذْ فعل ذَلِك أشهد أَنِّي رَسُول الله وَهَذَا أَيْضا قَول افتروه خالفوا فِيهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام وَقَالُوا كلهم لَيْسَ لشَيْء من الْأَشْيَاء نصف وَلَا ثلث وَلَا ربع وَلَا سدس وَلَا ثمن وَلَا عشر وَلَا بعض وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال الْفَرد عشر الْعشْرَة وَلَا أَنه بعض الْخَمْسَة وحجتهم فِي ذَلِك أَنه لَو جَازَ أَن يُقَال ذَلِك لَكَانَ عشرا لنَفسِهِ وَبَعض نَفسه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جهل شَدِيد لِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ بعض من جملَة يكون سائرها غَيره وَعشر جملَة يكون سائرها غَيره ونسوا أنفسهم فَقَالُوا بالجزء لَا يتَجَزَّأ ونسوا إِلْزَام أنفسهم أَن يكون جُزْءا لنَفسِهِ وَهَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول فِي الْقُرْآن فلهَا النّصْف فلامه الثُّلُث فلامه السُّدس وَلكم الرّبع ولهن الثّمن بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَهَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثير مَعَ مخالفتهم فِي ذَلِك جَمِيع أهل الأَرْض مؤمنهم وكافرهم وَمُخَالفَة كل لُغَة والمعقول والطبائع وَقَالُوا كلهم من قَالَ أَن النَّار تحرق أَو تفلح أَو أَن الأَرْض تهتز أَو تنْبت شَيْئا أَو أَن الْخمر يسكر أَو أَن الْخبز يشْبع أَو أَن المَاء يروي أَو أَن الله تَعَالَى ينْبت الزَّرْع وَالشَّجر بِالْمَاءِ فقد ألحد وافترى وَقَالَ الباقلاني من آخر السّفر الرَّابِع من كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن نَحن ننكر فعل النَّار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثَّلج للتبريد وَفعل الطَّعَام وَالشرَاب للشبع والري وَالْخمر للإسكار كل هَذَا عندنَا بَاطِل محَال ننكره أَشد الْإِنْكَار وَكَذَلِكَ فعل الْحجر لجذب شَيْء أَو رده أَو حَبسه أَو إِطْلَاقه من جَدِيد أَو غَيره هَذَا نَص كَلَامه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم لله عز وَجل إِذْ يَقُول {تلفح وُجُوههم النَّار} وَلقَوْله تَعَالَى {ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم وأنفسهم} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وَقد صككت بِهَذَا وَجه بعض مقدميهم فِي المناظرة فدهش وبلد وَهُوَ أَيْضا تَكْذِيب لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول كل مُسكر حرَام وكل سراب أسكر حرَام مَعَ مخالفتهم لكل لُغَة وَلكُل ذِي حس من مُسلم وَكَافِر ومكابرة العيان وَإِبْطَال الْمُشَاهدَة ثمَّ أظرف شَيْء احتجاجهم فِي هَذِه الطامة بِأَن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي خلق ذَلِك كُله فَقُلْنَا لَهُم أوليس فعل كل حَيّ مُخْتَار واختياره خلقا لله عز وَجل فَلَا بُد من قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَمن أَيْن نسبتم الْفِعْل إِلَى الْأَحْيَاء وَهِي خلق الله تَعَالَى ومنعتم من نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الجمادات لِأَنَّهُ خلق الله تَعَالَى وَلَا فرق وَلَكنهُمْ قوم لَا يعْقلُونَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَسمعت بعض مقدميهم يَقُول أَن من كَانَ على معاصي خَمْسَة من زنا وسرقة وَترك صَلَاة وتضييع زَكَاة وَغير ذَلِك ثمَّ تَابَ عَن بَعْضهَا دون بعض فَإِن تَوْبَته تِلْكَ لَا تقبل وَقد نَص السمناني على أَن هَذَا قَول الباقلاني وَهُوَ قَول أبي هَاشم الجبائي ثمَّ قَالَ السمناني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 هَذَا قَول خارق للْإِجْمَاع جملَة وَخلاف لدين الْأمة هَذَا نَص قَول السمناني فِي شَيْخه وشهدوا على أنفسهم وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتلاومون قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا القَوْل مُخَالف لِلْقُرْآنِ وَالسّنَن لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وبالضرورة يدْرِي كل ذِي مسكة من عقله أَن التَّوْبَة من الزِّنَا خير كثير فَهَذَا الْجَاهِل يَقُول أَنه لَا يرَاهُ صَاحبه وَأَنه عمل ضائع عِنْد الله عز وَجل من مُسلم مُؤمن ومعاذ الله من هَذَا وسر هَذَا القَوْل الملعون وَحَقِيقَته الَّتِي لَا بُد لقائله مِنْهُ أَنه لَا معنى لمن أصر على الزِّنَا أَو شرب الْخمر فِي أَن يُصَلِّي وَلَا أَن يُزكي فقد صَار يَأْمر بترك الصَّلَاة الْخمس وَالزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْحج فعلى هَذَا القَوْل وقائله لعائن الله تتري مَا دَار اللَّيْل وَالنَّهَار وَنَصّ السمناني عَن الباقلاني شَيْخه أَنه كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يغْفر الصَّغَائِر باجتناب الْكَبَائِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَن سَمِعت بعض مقدميهم يُنكر أَن يكون فِي الذُّنُوب صغائر وناظرته بقول الله تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} وَقلت بِالضَّرُورَةِ يدْرِي كل ذِي فهم أَن لَا كَبَائِر إِلَّا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهَا وَهِي السَّيِّئَات المغفورة باجتناب الْكَبَائِر بِنَصّ كَلَام الله تَعَالَى فقولك هَذَا خلاف لِلْقُرْآنِ مُجَرّد فخلط ولجأ إِلَى الحرد وَهَذَا مِنْهُم تَكْذِيب لله عز وَجل ورد لحكمه بِلَا كلفة وَمن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفافة الْوَجْه قَوْلهم أَن لَا حر فِي النَّار وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَسَل حلاوة وَلَا فِي الصَّبْر مرَارَة وَإِنَّمَا خلق الله تَعَالَى ذَلِك عِنْد اللَّمْس والذوق وَهَذَا حمق عَتيق قادهم إِلَيْهِ إنكارهم الطبائع وَقد ناظرناهم على ذَلِك هَذَا مَعَ قَول شيخهم الباقلاني أَن لقشور الْعِنَب رَائِحَة للزجاج والحصا طعماً ورائحة وَزَادُوا حَتَّى بلغُوا إِلَى أَن قَالُوا أَن للفلك طعماً ورائحة فليت شعري مَتى ذاقوه أَو شموه أَو من أخْبرهُم بِهَذَا وَهَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا الله ثمَّ الْمَلَائِكَة الَّذين هُنَالك وَليكن من ذاق طعم الزّجاج وشم رَائِحَته فَغير مُنكر أَن يدعى مُشَاهدَة الْفلك ولمسه وَشمه وذوقه وَمن شنعهم قَوْلهم أَن من كَانَ الْآن على دين الْإِسْلَام مخلصاً بِقَلْبِه وَلسَانه مُجْتَهدا فِي الْعِبَادَة إِلَّا أَن الله عز وَجل يعلم أَنه لَا يَمُوت إِلَّا كَافِرًا فَهُوَ الْآن عِنْد الله كَافِرًا وَإِن من كَانَ الْآن كَافِرًا يسْجد للنار وللصليب أَو يَهُودِيّا أَو زنديقا مصرحين بتكذيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن فِي علم الله تَعَالَى أَنه لَا يَمُوت إِلَّا مُسلما فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله مُسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا قَالَ هَذَا مُسلم قطّ قبل هِشَام الغوطي وَهَذِه مُكَابَرَة للعيان وَتَكْذيب لله عز وَجل مُجَرّد كَأَنَّهُمْ مَا سمعُوا قطّ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} فسماهم مُؤمنين ثمَّ أخبر تَعَالَى بِأَنَّهُم كفرُوا وَقَوله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر} فَجعل الْإِسْلَام دينا لما كَانَ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ عَلَيْهِ وَإِن ارْتَدَّ مَعَه وَمَات كَافِرًا وَقَوله تَعَالَى مُخَاطبا للْمُسلمين من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم فَتَبَيَّنُوا} ويلزمهم أَن الَّذِي يسلم أَبوهُ وَلَا يسلم هُوَ لِأَنَّهُ كَانَ بَالغا ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فَلم يَرِثهُ لكفره ثمَّ أسلم أَن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أَبِيه لِأَنَّهُ عِنْدهم كَانَ إِذْ مَاتَ أَبوهُ مُؤمنا عِنْد الله تَعَالَى ويلزمهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 أَن من كَانَ صَبيا ثمَّ عَاشَ حَتَّى شاخ أَنه لم يكن عِنْد الله قطّ إِلَّا شَيخا وَلَو جمع مَا يدْخل عَلَيْهِم لقام مِنْهُ سفر ضخم وَقَالُوا كلهم أَنه لَيْسَ على ظهر الأَرْض يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ يقر بِقَلْبِه أَن الله حق قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تَكْذِيب لِلْقُرْآنِ على مَا بَينا قبل ومكابرة للعيان لأَنا لَا نحصي كم دخل فِي الْإِسْلَام مِنْهُم وَصلح إيمَانه وَصَارَ عدلا وَكلهمْ لَا يخْتَلف فِي أَنه كَانَ قبل إِسْلَامه مقرا بِاللَّه عز وَجل عَالما بِهِ كَمَا هُوَ بعد إِسْلَامه لم يزدْ فِي توحيده شَيْء فكابر والعيان وكذبوا لِلْقُرْآنِ بحمق وَقلة حَيَاء لَا نَظِير لَهُ وَقَالَ الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن مني قَول الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله تَعَالَى {لَا يحب الْفساد} إِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا يحب الْفساد لأهل الصّلاح وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ أَن يكفروا وَلم يرد أَنه لَا يرضاه لأحد من خلقه وَلَا يُحِبهُ لأحد مِنْهُم ثمَّ قَالَ وَإِن كَانَ قد أحب ذَلِك ورضيه لأهل الْكفْر وَالْفساد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى مُجَرّد ثمَّ أَيْضا أخبر بِأَن الْكفَّار فعلوا من الْكفْر أمرا رضيه الله تَعَالَى مِنْهُم وأحبه مِنْهُم فَكيف يدْخل هَذَا فِي عقل مُسلم مَعَ قَوْله تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} وأعجبوا لظلمة جَهله إِذْ لم يفرق بَين إِرَادَة الْكفْر والمشيئة والخلق لَهُ وَبَين الرِّضَا والمحبة وَقَالَ أَيْضا فِيهِ أَن أقل من سُورَة من الْقُرْآن لَيْسَ بمعجز أصلا بل هُوَ مَقْدُور على مثله وَقَالَ أَيْضا فِي السّفر الْخَامِس من الدِّيوَان الْمَذْكُور أَن قيل كَيفَ تَقولُونَ أَكَانَ يجوز من الله أَن يؤلف الْقُرْآن تأليفاً آخر غير هَذَا يعجز الْخلق عَن مُقَابلَته قُلْنَا نعم هُوَ تَعَالَى قَادر على ذَلِك وعَلى مَا لَا غَايَة لَهُ من هَذَا الْبَاب وعَلى أقدار كَثِيرَة وأعداد لَا يحصيها غَيره إِلَّا أَن كَانَ تأليف الْكَلَام ونظم الْأَلْفَاظ لَا بُد أَن يبلغ إِلَى غَايَة وحد لَا يحْتَمل الْكَلَام أَكثر مِنْهُ وَلَا أوسع وَلَا يبْقى وَرَاء تِلْكَ الْأَعْدَاد نَص والأوزان شَيْء تتناوله الْقُدْرَة قَالَ وَلنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نظر فِي تأليف الْكَلَام ونظم الْأَجْسَام وتصوير الْأَشْخَاص هَل يجب أَن يكون نِهَايَة لَا يحْتَمل الْمُؤلف والمنظوم فَوْقهَا وَلَا مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُنَا صرح بِالشَّكِّ فِي قدرَة الله تَعَالَى الها نِهَايَة كَمَا يَقُول أَبُو الْهُذيْل أَخُوهُ فِي الضلال وَالْكفْر أم لَا نِهَايَة لَهَا كَمَا يَقُول أهل الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الضلال قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَقَد أَخْبرنِي بعض من كَانَ يداخلهم وَكَانَ لَهُ فيهم سَبَب قوي وَكَانَ من أهل الْفَهم والذكاء وَكَانَ يزري فِي بَاطِن أمره عَلَيْهِم أَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى مذ خلق الأَرْض فَإِنَّهُ خلق جسماً عَظِيما يمْسِكهَا عَن أَن تهوى هابطة فَلَمَّا خلق ذَلِك الْجِسْم أفناه فِي الْوَقْت بِلَا زمَان وَخلق آخر مثله يمْسِكهَا أَيْضا فَلَمَّا خلقه أفناه إِثْر خلقه بِلَا زمَان أَيْضا وَخلق آخر وَهَكَذَا أبدا أبدا بِلَا نِهَايَة قَالَ لي وحجتهم فِي هَذَا الوسواس وَالْكذب على الله تَعَالَى فِيهِ مِمَّا لم يقلهُ أحد قبلهم مِمَّا يكذبهُ الْحس والمشاهدة أَنه لَا بُد للْأَرْض من جسم مُمْسك والاهوت فَلَو كَانَ ذَلِك الممسك يبْقى وَقْتَيْنِ أَو مِقْدَار طرفَة عين لسقط هُوَ أَيْضا مَعهَا فَهُوَ إِذا خلق ثمَّ أفنى إِثْر خلقه وَلم يَقع لِأَن الْجِسْم عِنْدهم فِي ابْتِدَاء خلقه لَا سَاكن وَلَا متحرك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا احتجاج للحمق بالحمق وَمَا عقل أحد قطّ جسماً لَا سَاكِنا وَلَا متحركاً بل الْجِسْم فِي ابتداه خلق الله تَعَالَى لَهُ فِي مَكَان مُحِيط بِهِ فِي جهاته وَلَا شكّ سَاكن فِي مَكَانَهُ ثمَّ تحرّك وَكَأَنَّهُم لم يسمعوا لقَوْل الله تَعَالَى {أَن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 فَأخْبر تَعَالَى أَنه يمْسِكهَا كَمَا شَاءَ دون تكلّف مَا لم يخبرنا الله تَعَالَى بِهِ وَلَا جعل فِي الْعُقُول دَلِيلا عَلَيْهِ وَلَو أَن قَائِل هَذَا الْحمق وقف على الْحق وطالع شَيْئا من براهين الْهَيْئَة لحجل مِمَّا أَتَى بِهِ من الهوس وَمن شنعهم قَول هَذَا الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن إِن تَقْسِيم آيَات الْقُرْآن وترتيب مَوَاضِع سوره شَيْء فعله النَّاس وَلَيْسَ هُوَ من عِنْد الله وَلَا من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فقد كذب هَذَا الْجَاهِل وأفك أتراه مَا سمع قَول الله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الْكَلَالَة وَالْخَبَر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْمر إِذا نزلت الْآيَة أَن تجْعَل فِي سُورَة كَذَا وَمَوْضِع كَذَا وَلَو أَن النَّاس رتبوا سوره لما تعدوا أحد وُجُوه ثَلَاثَة إِمَّا أَن يرتبوها على الأول فَالْأول نزولاً أَو الأطول فَمَا دونه أَو الأقصر فَمَا فَوْقه فَإذْ لَيْسَ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ أَنه أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي لَا يُعَارض عَن الله عز وَجل لَا يجوز غير ذَلِك أصلا وَمن شنعهم قَول الباقلاني فِي كِتَابه فِي مَذَاهِب القرامطة قرب آخر الْكتاب فِي بَاب تَرْجَمته ذكر جمل مقالات الدهرية والفلاسفة والثنوية قَالَ الباقلاني فَأَما مَا يَسْتَحِيل بَقَاؤُهُ من أَجنَاس الْحَوَادِث وَهِي الْأَعْرَاض فَإِنَّمَا يجب عدمهَا فِي الثَّانِي من حَال حدوثها من غير معدم وَلَا شَيْء يفنيها هَذَا نَص كَلَامه وَقَالَ مُتَّصِلا بِهَذَا الْفَصْل وَأما نَحن فَنَقُول أَنَّهَا تفني الْجَوَاهِر نعني بِقطع الأكوان عَنْهَا من حَيْثُ لَا يَصح لَهَا وجود لَا فِي مَكَان وَلَا فِيمَا يقدر تَقْدِير الْمَكَان وَإِذا لم يلْحق فِيهَا شَيْء من الأكوان فَعدم مَا كَانَ يخلق فِيهَا مِنْهَا أوجب عدمهَا هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا قَول بإفناء الْجَوَاهِر والأعراض وَهُوَ فنَاء وإعدام لَا فَاعل لَهما وَإِن الله تَعَالَى لم يفنى الفاني ونعوذ بِاللَّه من الضلال والحاد الْمَحْض وَقَالُوا بأجمعهم لَيْسَ لله تَعَالَى على الْكفَّار نعْمَة دينية أصلا وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ شيخهم ولاله على الْكفَّار نعْمَة دنيوية أصلا وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه الضلال لله عز وَجل إِذْ يَقُول {بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} وَإِذ يَقُول عز وَجل {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَإِنَّمَا خَاطب تَعَالَى بِهَذَا كفَّارًا جَحَدُوا نعْمَة الله تَعَالَى تبكيتاً لَهُم وَأما الدُّنْيَوِيَّة فكثير قَالَ تَعَالَى {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره من أَي شَيْء خلقه من نُطْفَة خلقه فقدره ثمَّ السَّبِيل يسره} إِلَى قَوْله {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} الْآيَة وَمثله من الْقُرْآن كثير وَقَالَ الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن فِي بَاب مترجم بِبَاب الدّلَالَة على أَن الْقُرْآن معجز للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكروا سُؤال الْمُلْحِدِينَ عَن الدَّلِيل على صِحَة مَا ادَّعَاهُ الْمُسلمُونَ من أَن الْقُرْآن معجز فَقَالَ الباقلاني يُقَال لَهُم مَا معنى وصف الْقُرْآن وَغَيره من آيَات الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ معجز فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه مِمَّا لَا يقدر الْعباد عَلَيْهِ وَأَن يَكُونُوا عاجزين على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا وصف الْقُرْآن وَغَيره من آيَات الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كعصى مُوسَى وَخُرُوج النَّاقة من الصَّخْرَة وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الْمَوْتَى بِأَنَّهُ معجز وَإِن لم يتَعَلَّق بِهِ عجز عَاجز عَنهُ على وَجه التَّسْمِيَة بِمَا يعجز عَنهُ الْعَاجِز من الْأُمُور الَّتِي صَحَّ عجزهم عَنْهَا وقدرتهم عَلَيْهَا لأَنهم لم يقدروا على معارضات آيَات الرُّسُل غير عَن عدم قدرتهم على ذَلِك فالعجز عَنهُ تَشْبِيها لَهُ بالمعجوز عَنهُ قَالَ الباقلاني وَمِمَّا يدل على أَن الْعَرَب لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 يجوز أَن تعجز عَن مثل الْقُرْآن لِأَنَّهُ قد صَحَّ وَثَبت أَن الْعَجز لَا يكون عَجزا إِلَّا عَن مَوْجُود فَلَو كَانُوا على هَذَا الأَصْل عاجزين عَن مثل الْقُرْآن وَعصى مُوسَى وإحياء الْمَوْتَى وَخلق الْأَجْسَام والأسماع والأبصار وكشف الْبلوى والعاهات لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْمثل مَوْجُودا فيهم وَمِنْهُم كَمَا كَانُوا قَادِرين على ذَلِك لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك مِنْهُم وَلما لم يكن ذَلِك كَذَلِك ثَبت أَنه لَا يجوز عجز الْعباد على الْحَقِيقَة عَن مثل الْقُرْآن مَعَ عَدمه مِنْهُم وَكَونه غير مَوْجُود لَهُم وَلَا عَن قلب عصى مُوسَى حَيَّة وَلَا عَن مثل ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد أينتظر كفر بعد هَذَا الْكفْر فِي تصريحه أَن الْعباد وَالْعرب لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن مثل الْقُرْآن وَلَا عَن قلب الْعَصَا حَيَّة وَلَا يغتر ضَعِيف بقوله إِنَّهُم غير قَادِرين على ذَلِك فَإِنَّمَا على قَوْله الْمَعْرُوف من أَن الله لَا يقدر على غير مَا فعل وَظهر مِنْهُ فَقَط وَمن عَظِيم الْمحَال قَوْله فِي هَذَا الْفَصْل أَنه لَا يجوز أَن يعجز الْعَاجِز إِلَّا عَمَّا يقدر عَلَيْهِ مَعَ أَن هَذَا الْكَلَام عَنهُ مُوجب أَنهم إِن عجزوا عَن مثل الْقُرْآن وقدروا عَلَيْهِ وَمَا يمترى فِي أَنه كَانَ كائداً لِلْإِسْلَامِ ملحداً لَا شكّ فِيهِ فَهَذِهِ الْأَقْوَال لَا ينْطَلق بهَا لِسَان مُسلم وَمن أعظم الْبَرَاهِين على كفر الباقلاني وكيده للدّين قَوْله فِي فصل آخر من الْبَاب الْمَذْكُور فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَنه لَا يجب على من سمع الْقُرْآن من مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُبَادر إِلَى الْقطع على أَنه لَهُ آيَة أَو أَنه على يَده ظهر وَمن قبله نجم حَتَّى يسْأَل أهل النواحي والأطراف ونقلة الْأَخْبَار ويتعرف حَال الْمُتَكَلِّمين بذلك اللِّسَان فِي الْآفَاق فَإِذا علم بعد التثبت وَالنَّظَر أَنه لم يسْبقهُ إِلَى ذَلِك أحد لزمَه حِينَئِذٍ اعْتِقَاد نبوته قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنْسَان خَافَ معاجلة الْأمة لَهُ بِالرَّجمِ كَمَا يرْجم الْكَلْب إِن صرح بِأَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاطِل فَصرحَ لَهُم بِمَا يودي إِلَى ذَلِك من قرب إِذا وَجب بِأَن لَا يقر أحد بنبوة مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِأَن أَتَى بِالْقُرْآنِ وَلَا بِأَنَّهُ آيَة من آيَاته على صِحَة نبوته إِلَّا حَتَّى يسْأَل أهل النواحي والأطراف وينتظر الْأَخْبَار ويتعرف حَال الْمُتَكَلّم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي الْآفَاق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فأحال وَالله على عمل لَا نِهَايَة لَهُ وَلَو عمر الْإِنْسَان عمر نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن سُؤال أهل النواحي والأطراف لَا يَنْقَضِي فِي ألف عَام وانتظار الْأَخْبَار لَيْسَ لَهُ حد وليت شعري مَتى تصل المخدرة وطالب المعاش إِلَى طرف من هَذَا الْمحَال لِأَن أهل النواحي هم من بَين صدر الصين إِلَى آخر الأندلس إِلَى بِلَاد الزنج إِلَى بِلَاد الصقالية فَمَا بَين ذَلِك فلاح كفر هَذَا الْجَاهِل الملحد وكيده لِلْإِسْلَامِ لكل من لَهُ أدنى حس مَعَ ضعف كَيده فِي ذَلِك قَالَ تَعَالَى {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} وَيَكْفِي من كل هزر أَتَى بِهِ هَذَا الْفَصْل الملعون قائلة ازمن لَهُ علم قوي بِالْعَرَبِيَّةِ ولاخبار فِي كَيْفيَّة تَيَقّن عجز الْعَرَب عَن معارضته فَمن بعدهمْ إِلَى الْيَوْم وَأَنه من عِنْده ضَرُورَة لِأَنَّهُ لم ينزل الْقُرْآن جملَة فَيمكن فِيهِ الدَّعْوَى من أحد وَإِنَّمَا نزل مقطعاً فِي كل قصَّة تنزل فَينزل فِيهَا قُرْآن وَهَذِه ضَرُورَة مُوجبَة أَنه عِنْده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ظهر بِوَحْي الله تَعَالَى إِلَيْهِ وَبِمَا فِيهِ من الغيوب الَّتِي قد ظهر إنذاره بهَا وَأما من لَا علم لَهُ باللغة والأحبار فكيفية أَخْبَار من يَقع لَهُ الْعلم بِخَبَرِهِ بِأَن الْعَرَب عجزت عَن مثله وَأَنه أَتَى بِهِ مفصلا عِنْد حُلُول الْقَصَص الَّتِي أنزل الله تَعَالَى فِيهَا الْآيَة والآيتين والكلمة والكلمتين من الْقُرْآن والتوراة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 حَتَّى تمّ هُوَ فَهَذَا الْحق وَذَلِكَ الْإِلْحَاد الْمَحْض وَالْكَلَام الغث السخيف وَمن كفراتهم الصلع قَول السمناني إِذْ نَص على أَن الباقلاني كَانَ يَقُول أَن جَمِيع الْمعاصِي كلهَا لَا تحاشي شَيْئا مِنْهَا مِمَّا يجب أَن يسْتَغْفر الله مِنْهُ جايز وُقُوعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا الْكَذِب فِي الْبَلَاغ فَقَط وَقَالَ الباقلاني وَإِذا نهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء ثمَّ فعله فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَنه مَنْسُوخ إِذْ قد يَفْعَله عَاصِيا لله عز وَجل قَالَ الباقلاني وَلَيْسَ على أَصْحَابه فرضا أَن ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ السمناني فِي كِتَابه الْإِمَامَة لَوْلَا دلَالَة الْعقل على وجوب كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْصُوما فِي الْبَلَاغ عَن الله عز وَجل لما وَجب كَونه مَعْصُوما فِي الْبَلَاغ كَمَا لَا يجب فِيمَا سواهُ من أَفعاله وأقواله وَقَالَ أَيْضا فِي مَكَان آخر مِنْهُ وَكَذَلِكَ يجوز أَن يكفر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَدَاء الرسَالَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِن كَانَ قَالَ هَذَا القَوْل ناصراً لَهُ وداعياً إِلَيْهِ مُسلم قطّ وَمَا كَانَ قَائِله لَا كَافِرًا ملحداً فاعلموا أَيهَا النَّاس أَنه قد جوز على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكفْر وَالزِّنَا واللياطة والبغاء وَالسَّرِقَة وَجَمِيع الْمعاصِي وَأي كيد لِلْإِسْلَامِ النَّاس أعظم من هَذَا وَأما صَاحبه ابْن فورك فَإِنَّهُ منع من هَذَا وَأنْكرهُ وَأَجَازَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صغَار الْمعاصِي كَقَتل النِّسَاء وتعريضهن وتفخيذ الصّبيان وَنَحْو ذَلِك وَأما شيخهما ابْن مُجَاهِد الْبَصْرِيّ لَيْسَ بالمقري فَإِنَّهُ منع من كل ذَلِك وحاشا لله أَن يجوز النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَنْب بعمد لَا صَغِير وَلَا كَبِير لقَوْل الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَمن الْمحَال أَن يَأْمُرنَا الله تَعَالَى أَن نتأسي بعاص فِي مَعْصِيّة صغرت أَو كَبرت وأعجبوا لاستخفاف هَذَا الملحد بِالدّينِ وبالمسلمين إِذْ يَقُول هَاهُنَا أَنه لَيْسَ فرضا على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينكروا عَلَيْهِ عصيان ربه وَمُخَالفَة أمره الَّذِي أَمرهم بِهِ وَهُوَ يَقُول فِي نَصره للْقِيَاس أَن قِيَاس من قَاس من الصَّحَابَة وسكوت من سكت مِنْهُم عَن إِنْكَاره دَلِيل على وجوب الحكم بِالْقِيَاسِ لأَنهم لَا يقرونَ على مُنكر فَأوجب إقرارهم على الْمُنكر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا لله من هَذَا وَأنكر إقرارهم على الْقيَاس لَو كَانَ مُنكر فَجمع بَين هَذَا المناقضة وَالْكذب فِي دَعْوَى الْقيَاس على الصَّحَابَة وَدَعوى معرفَة جَمِيعهم بِقِيَاس من قَاس مِنْهُم وَدَعوى أَنهم لم ينكروه وَهَذِه صِفَات الْكَذَّابين المتلاعبين بِالدّينِ وَمن طوامهم مَا حَكَاهُ السمناني عَن الباقلاني أَنه قَالَ وَاخْتلفُوا فِي وجوب كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل أهل وقته فِي حَالَة الرسَالَة وَمَا بعْدهَا إِلَى حِين مَوته فَأوجب ذَلِك قَائِلُونَ وأسقطه آخَرُونَ وَقَالَ الباقلاني وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه نقُول قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا وَالله الْكفْر الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ إِذْ جوز أَن يكون أحد مِمَّن فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا بعده أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أَنْكَرْنَا على أَحْمد ابْن خابط الأدون هَذَا إِذْ قَالَ أَن أَبَا ذَر كَانَ أزهد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا مَعَ قَول هَذَا المستخف الباقلاني الَّذِي ذكره عِنْد السمناني فِي كِتَابه الْكَبِير فِي كتاب الْإِمَامَة مِنْهُ أَن من شَرط الْإِمَامَة أَن يكون الإِمَام أفضل أهل زَمَانه قَالَ أَبُو مُحَمَّد يَا للعيارة بِالدّينِ يجوز عِنْد هَذَا الْكَافِر أَن يكون فِي النَّاس غير الرُّسُل أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يجوز عِنْده أَن يَلِي الْإِمَامَة أحد يُوجد فِي النَّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 أفضل مِنْهُ ثمَّ حمقه أَيْضا فِي هَذَا حمق عَتيق لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع بِفضل أحد على أحد إِلَّا بِنَصّ من الله عز وَجل وَكَيف يحاط بالأفضل من قُرَيْش وهم مبثوثون من أقْصَى السَّنَد وكابل ومكران إِلَى الأشوته إِلَى سواحل الْبَحْر الْمُحِيط وَمن سواحل بَحر الْيمن إِلَى ثغور أرمينية وأذربيجان فَمَا بَين ذَلِك اللَّهُمَّ الْعَن من لَا يستحي وَمن الْعجب أَن هَذَا النذل الباقلاني قطع بِخِلَاف الْإِجْمَاع على أبي حنيفَة بإجازته للفراة الفارسية وَصرح بِأَن تَرْتِيب الْآيَات فِي الْقُرْآن إِجْمَاع وَقد أجَاز مَالك لمن قَرَأَ عِنْد غرُوب الشَّمْس وطلوعها فَجَاءَتْهُ آيَة سَجْدَة أَن يصل الَّتِي قبلهَا بِالَّتِي بعْدهَا فمالك عِنْده مُخَالف للْإِجْمَاع وَقطع بِأَن الشَّافِعِي مُخَالف للْإِجْمَاع فِي قَوْله {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} آيَة من أم الْقُرْآن وَإِن دَاوُد خَالف الْإِجْمَاع فِي قَوْله بِإِبْطَال الْقيَاس أَفلا يستحي هَذَا الْجَاهِل من أَن ينصف الْعلمَاء بِصفتِهِ مَعَ عَظِيم جَهله بِأَن عَاصِمًا وَابْن كثير وَغَيرهمَا من الْقُرَّاء وَطَائِفَة من الصَّحَابَة تَقول بقول الشَّافِعِي الَّذِي جعله خلافًا للْإِجْمَاع وَأَنه لم يَأْتِ قطّ عَن أحد من الصَّحَابَة إِيجَاب الحكم بِالْقِيَاسِ من طَرِيق تثبت وَأَنه قد قَالَ بإنكاره ابْن مَسْعُود ومسروق والشعي وَغَيرهم وَلَكِن من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ وَمن عجائبه قَوْله أَن المامي إِذا نزلت بِهِ النَّازِلَة ففرضه أَن يسْأَل أفقه أهل بَلَده فَإِذا أفتاه فَهُوَ فَرْضه فَإِن نزلت بِهِ تِلْكَ النَّازِلَة ثَانِيَة لم يجز لَهُ أَن يعْمل بِتِلْكَ الْفتيا لَكِن يسْأَل ثَانِيَة أما إِذا كَانَ الْفَقِيه وَإِمَّا غَيره ففرضه أَن يعْمل بالفتيا الثَّانِيَة وَهَكَذَا أبدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِذا وَجب على كل أحد من الْعَامَّة أَن يسْأَل أبدا عَن كل مَا ينوبه فِي صلَاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السُّؤَال عَن كل ذَلِك كل يَوْم بل كل سَاعَة فَهَل فِي الحماقة أَكثر من هَذَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ذكر شنع لقوم لَا تعرف فرقهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد ادَّعَت طَائِفَة من الصُّوفِيَّة أَن أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من هُوَ أفضل من جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَقَالُوا من بلغ الْغَايَة القصوى من الْولَايَة سَقَطت عَنهُ الشَّرَائِع كلهَا من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك وحلت لَهُ الْمُحرمَات كلهَا من الزِّنَا وَالْخمر وَغير ذَلِك واستباحوا بِهَذَا نسَاء غَيرهم وَقَالُوا أننا نرى الله ونكلمه وَكلما قذف فِي نفوسنا فَهُوَ حق وَرَأَيْت لرجل مِنْهُم يعرف إِبْنِ شمعور كلَاما نَصه إِن لله تَعَالَى ماية اسْم وَأَن الموفي ماية هُوَ سِتَّة وَثَلَاثُونَ حرفا لَيْسَ مهنا فِي حُرُوف الهجاء شَيْء إِلَّا وَاحِد فَقَط وَبِذَلِك الْوَاحِد يصل أهل المقامات إِلَى الْحق وَقَالَ أَيْضا أَخْبرنِي بعض من رسم لمجالسة الْحق أَنه مد رجله يَوْمًا فَنُوديَ مَا هَكَذَا مجَالِس الْمُلُوك فَلم يمد رجله بعْدهَا يَعْنِي أَنه كَانَ مديماً لمجالسة الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَاضر النصيبي من أهل نَصِيبين وَأَبُو الصَّباح السَّمرقَنْدِي وأصحابهما أَن الْخلق لم يزَالُوا مَعَ الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو الصياح لَا تحل ذَبَائِح أهل الْكتاب وَخطأ فعل أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي قتال أهل الرِّدَّة وَصوب قَول الصَّحَابَة الَّذين رجعُوا عَنهُ فِي حربهم وَقَالَ أَبُو شُعَيْب القلال أَن ربه جسم فِي صُورَة إِنْسَان لحم وَدم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق وَقَالَ بعض الصُّوفِيَّة أَن ربه يمشي فِي الْأَزِقَّة حَتَّى أَنه يمشي فِي صُورَة مَجْنُون يتبعهُ الصّبيان بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تدموا عقبَة فاعلموا رحمكم الله أَن هَذِه كلهَا كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الْإِسْلَام وَصدق الْقَائِل ... شهِدت بِأَن ابْن الْمعلم هازل بِأَصْحَابِهِ والباقلاني أهزل ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وَمَا الْجمل الملعون فِي ذَاك دونه ... وَكلهمْ فِي الْإِفْك وَالْكفْر الْمنزل ... وَالله مَا هم من المغرورين بهم فِي قبولهم عَنْهُم وَحسن الظَّن بهم إِلَّا كَمَا قَالَ الآخر ... وساع مَعَ السُّلْطَان يُسمى عَلَيْهِم ومحترس من مثله وَهُوَ حارس ... وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن جَمِيع فرق الضَّلَالَة لم يجر الله على أَيْديهم خيرا وَلَا فتح بهم من بِلَاد الْكفْر قَوِيَّة وَلَا رفع لِلْإِسْلَامِ راية وَمَا زَالُوا يسعون فِي قلب نظام الْمُسلمين ويفرقون كلمة الْمُؤمنِينَ ويسلون السَّيْف على أهل الدّين ويسعون فِي الأَرْض مفسدين أما الْخَوَارِج والشيعة فَأَمرهمْ فِي هَذَا الشَّهْر من أَن يتَكَلَّف ذكره وَمَا توصلت الباطنية إِلَى كيد الْإِسْلَام وَإِخْرَاج الضُّعَفَاء مِنْهُ أَي الْكفْر الْأَعْلَى السّنة الشيعية وَأما المرجئة فَكَذَلِك إِلَّا أَن الحارس بن سريح خرج بن عَمه مُنْكرا للجور ثمَّ لحق بِالتّرْكِ فقادهم إِلَى أَرض الْإِسْلَام فنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة فِي سَبِيل ذَلِك إِلَّا أَنه ابتلى بتقليد بَعضهم المعتصم والواثق جهلا وظناً أَنهم على شَيْء وَكَانَت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وَغَيرهم فَالله الله أَيهَا الْمُسلمُونَ تحفظُوا بدينكم وَنحن نجمع لكم بعون الله تَعَالَى الْكَلَام فِي ذَلِك الزموا الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا مضى عَلَيْهِ الصَّحَابَة رَضِي اله عَنْهُم والتابعون وَأَصْحَاب الحَدِيث عصراً عصراً الَّذين طلبُوا الْأَثر فلزموا الإثر ودعوا كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ الْكَلَام فِي شنع المبتدعة أهل الْأَهْوَاء والنحل المضلة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 الْمعَانِي الَّتِي يسميها أهل الْكَلَام اللطائف وَالْكَلَام فِي السحر وَفِي المعجزات الَّتِي فِيهَا إِحَالَة الطبائع يجوز وَاحِدهَا لغير الْأَنْبِيَاء أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وَأَنَّهُمْ يرَوْنَ أعين النَّاس مَا لَا يرى وأجازوا للصالحين على سَبِيل كَرَامَة الله عز وَجل لَهُم اختراع الْأَجْسَام وقلب الْأَعْيَان وَجَمِيع إِحَالَة الطبائع وكل معجز للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَرَأَيْت لمُحَمد ابْن الطّيب الباقلاني أَن السَّاحر يمشي على المَاء على الْحَقِيقَة وَفِي الْهَوَاء ويقلب الْإِنْسَان حمارا على الْحَقِيقَة وَإِن كل هَذَا مَوْجُود من الصَّالِحين على سَبِيل الْكَرَامَة وَأَنه لَا فرق بَين آيَات الْأَنْبِيَاء وَبَين مَا يظْهر من الْإِنْسَان الْفَاضِل وَمن السَّاحر أصلا إِلَّا بالتحدي فَإِن النَّبِي يتحدى النَّاس أَن يَأْتُوا بِمثل مَا جَاءَ هُوَ بِهِ فَلَا يقدر أحد على ذَلِك فَقَط وَإِن كل مَا لم يتحد بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس فَلَيْسَتْ آيَة لَهُ وَقطع بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِظْهَار آيَة على لِسَان متنبىء كَاذِب وَذهب أهل الْحق إِلَى أَنه لَا يقلب أحد عينا وَلَا يحِيل طبيعة إِلَّا الله عز وَجل لأنبيائه فَقَط سَوَاء تحدوا بذلك أَو لم يتحدوا وكل ذَلِك آيَات لَهُم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام تحدوا بذلك أم لَا والتحدي لَا معنى لَهُ وَأَنه لَا يُمكن وجود شَيْء من ذَلِك لصالح وَلَا لساحر وَلَا لأحد غير الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالله تَعَالَى قَادر على إِظْهَار الْآيَات على أَيدي الْكَذَّابين المدعين للنبوة لكنه تَعَالَى لَا يفعل كَمَا لَا يفعل مَا لَا يُرِيد أَن يَفْعَله من سَائِر مَا هُوَ قَادر عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يجوز غَيره برهَان ذَلِك قَوْله عز وَجل {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} وَقَالَ عز وَجل {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فصح أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا قد رتبه الله عز وَجل التَّرْتِيب الَّذِي لَا يتبدل وَصَحَّ أَن الله عز وَجل أوقع كل اسْم على مُسَمَّاهُ فَلَا يجوز أَن يُوقع اسْم من تِلْكَ الْأَسْمَاء على غير مُسَمَّاهُ الَّذِي أوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يكون تبديلاً لكلمات الله تَعَالَى الَّتِي أبطل عز وَجل أَن تبدل وَمنع من أَن يكون لَهَا مبدل وَلَو جَازَ أَن تحال صِفَات مُسَمّى مِنْهَا الَّتِي بوجودها فِيهِ اسْتحق وُقُوع ذَلِك الِاسْم عَلَيْهِ لوَجَبَ أَن يسْقط عَنهُ ذَلِك الِاسْم الَّذِي أوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فبإذ ذَلِك كَذَلِك فقد وَجب أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا قد رتبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 الله على مَا هُوَ عَلَيْهِ من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فَلَا يتبدل شَيْء مِنْهُ قطعا إِلَّا حَيْثُ قَامَ الْبُرْهَان على تبدله وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا على أحد وَجْهَيْن إِمَّا اسْتِحَالَة معهودة جَارِيَة على رُتْبَة وَاحِدَة وعَلى مَا بنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ الْعَالم من اسْتِحَالَة الْمَنِيّ حَيَوَانا والنوى والبزور نباتا وَسَائِر الاستحالات المعهودات وَأما إستحالة مَا لم تعهد قطّ وَلَا بنى الله تَعَالَى الْعَالم عَلَيْهَا وَلذَلِك قد صَحَّ للانبياء عَلَيْهِم السَّلَام شَوَاهِد لَهُم على صِحَة نبوتهم وجود ذَلِك بِالْمُشَاهَدَةِ مِمَّن شهدهم وَنَقله إِلَى من لم يشاهدهم بالتواتر الْمُوجب للْعلم الضَّرُورِيّ فَوَجَبَ الْإِقْرَار بذلك وَبَقِي مَا عدا أَمر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على الِامْتِنَاع فَلَا يجوز الْبَتَّةَ وجود ذَلِك لَا من سَاحر وَلَا من صَالح بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ لم يقم برهَان بِوُجُود ذَلِك وَلَا صَحَّ بِهِ نقل وَهُوَ مُمْتَنع فِي الْعقل كَمَا قدمنَا وَلَو كَانَ ذَلِك مُمكنا لاستوى الْمُمْتَنع والممكن وَالْوَاجِب وَبَطلَت الْحَقَائِق كلهَا وَلَكِن كل مُمْتَنع وَمن لحق هَاهُنَا لحق بالسوفسطائية على الْحَقِيقَة ونسأل من جوز ذَلِك للساحر والفاضل هَل يجوز لكل أحد غير هذَيْن أم لَا يجوز إِلَّا لهذين فَقَط فان قَالَ إِن ذَلِك للساحر والفاضل فَقَط وَهَذَا هُوَ قَوْلهم سألناهم عَن الْفرق بَين هذَيْن وَبَين سَائِر النَّاس وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى الْفرق بَين هَؤُلَاءِ وَبَين غَيرهم إِلَّا بِالدَّعْوَى الَّتِي لَا يعجز عَنْهَا أحد وَإِن قَالُوا إِن ذَلِك جَائِز أَيْضا لغير السَّاحر والفاضل لَحِقُوا بالسوفسطائية حَقًا وَلم يثبتوا حَقِيقَة وَجَاز تَصْدِيق من يدعى أَنه يصعد إِلَى السَّمَاء وَيرى الْمَلَائِكَة وانه يكلم الطير ويجتني من شجر الخروب التَّمْر والعناب وان رجَالًا حملُوا وولدوا وَسَائِر التَّخْلِيط الَّذِي من صَار إِلَيْهِ وَجب أَن يُعَامل بِمَا هُوَ أَهله إِن أمكن أَو أَن يعرض عَنهُ لجنونه وَقلة حيائه قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا فرق بَين من ادّعى شَيْئا مِمَّا ذكرنَا لفاضل وَبَين دَعْوَى الرافضة رد الشَّمْس على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ حَتَّى ادّعى بَعضهم أَن حبيب بن أَوْس قَالَ ... فَردَّتْ علينا الشَّمْس وَاللَّيْل راغم بشمس لَهُم من جَانب الخدر تطلع نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى لبهجتها فَوق السَّمَاء الْمرجع فوَاللَّه مَا أدرى عَليّ بدا لنا فَردَّتْ لَهُ أم كَانَ فِي الْقَوْم يُوشَع ... وَكَذَلِكَ دَعْوَى النَّصَارَى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعونَ لَهُم من قلب الْأَعْيَان أضعافا مَا يَدعِيهِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْيَهُودِيّ لأحبارهم ورؤوس المثايب عِنْدهم ان رجلا مِنْهُم رَحل من بَغْدَاد إِلَى قرطبة فِي يَوْم وَاحِد وانه اثْبتْ قرنين فِي رَأس رجل مُسلم من بنى الاسكندراني كَانَ يسكن بقرطبة عِنْد بَاب الْيَهُود وَهَذَا كُله بَاطِل مَوْضُوع وَبَنُو الاسكندراني كَانُوا أَقْوَامًا أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد مِنْهُ شَيْء من هَذَا والحماقة لَا حد لَهَا وَهَذَا برهَان لمن نصح نَفسه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما السحر فانه ضروب مِنْهُ مَا هُوَ من قبل الْكَوَاكِب كالطابع المنقوش فِيهِ صُورَة عقرب فِي وَقت كَون الْقَمَر فِي الْعَقْرَب فينفع إِمْسَاكه من لدغة الْعَقْرَب وَمن هَذَا الْبَاب كَانَت الطلسمات وَلَيْسَت إِحَالَة طبيعية وَلَا قلب عين وَلكنهَا قوي ركبهَا الله عز وَجل مدافعة لقوى أُخْرَى كدفع الْحر للبرد وَدفع الْبرد للْحرّ وكقتل الْقَمَر للدابة الدبرة إِذا لَاقَى الدبرة ضوءه إِذا كَانَت دبرتها مكشوفة للقمر وَلَا يُمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا أَنْفُسنَا أثارها ظَاهِرَة إِلَى الْآن من قرى لَا ندْخلهَا جَرَادَة وَلَا يَقع فِيهَا برد وكسرى قسطة الَّتِي لَا يدخلهَا جَيش إِلَّا أَن يدْخل كرها وَغير ذَلِك كثير جدا لَا يُنكره إِلَّا معاند وَهِي أَعمال قد ذهب من كَانَ يحسنها جملَة وَانْقطع من الْعَالم وَلم يبْق إِلَّا آثَار صناعاتهم فَقَط وَمن هَذَا الْبَاب كَانَ مَا تذكره الْأَوَائِل فِي كتبهمْ فِي المويسيقا وانه كَانَ يؤلف بَين الطبائع وينافر بِهِ أَيْضا بَينهَا وَنَوع آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 من السحر يكون بالرقي وَهُوَ كَلَام مَجْمُوع من حُرُوف مقطعه فِي طوالع مَعْرُوفَة أَيْضا يحدث لذَلِك التَّرْكِيب قُوَّة تستثار بهَا الطبائع وتدافع قوى أخر وَقد شاهدنا وجربنا من كَانَ يرقي الدمل الحاد الْقوي الظُّهُور فِي أول ظُهُوره فييبس يبْدَأ من يَوْمه ذَلِك بالذبول وَيتم يبسه فِي الْيَوْم الثَّالِث ويقلع كَمَا تقلع قشرة القرحة إِذا تمّ يبسها جربنَا من ذَلِك مَا لَا نحصيه وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة ترقي أحد دملين قد دفعا على إِنْسَان وَاحِد وَلَا ترقي الثَّانِي فيبس الَّذِي رقت وَيتم ظُهُور الَّذِي لم ترق ويلقي حامله مِنْهُ الْأَذَى الشَّديد وشاهدنا من كَانَ يرقي الورم الْمَعْرُوف بالخنازير فيندمل مَا يفتح مِنْهَا ويذبل مَا لم ينفتح وَيبرأ كل ذَلِك الْبُرْء التَّام كَانَ لَا يزَال يفعل ذَلِك فِي النَّاس وَالدَّوَاب وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد اُخْبُرْنَا من خَبره عندنَا كمشاهدتنا لِثِقَتِهِ وتجريبنا لصدقة وفضله انه شَاهد مَا لَا يحصي نسَاء يتكلمن على الَّذين يمخضون الزّبد من اللَّبن بِكَلَام فَلَا يخرج من ذَلِك اللَّبن زبد وَلَا فرق بَين هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَبَين ملاقاة فضلَة الصَّفْرَاء بالسقمونيا وملاقاة ضعف الْقلب بالكندر وكل هَذِه الْمعَانِي جَارِيَة على رُتْبَة وَاحِدَة من طلب علم ذَلِك أركه وَمِنْه مَا يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وَمَا أشبه ذَلِك وَمِنْه مَا يكون لطف يَد كحيل أبي الْعَجَائِب الَّتِي شَاهدهَا النَّاس وَهِي أَعمال لَطِيفَة لَا تحيل طبعا اصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا لَيست من بَاب معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا من بَاب مَا يَدعِيهِ أهل الْكَذِب للسحرة وَالصَّالِحِينَ لِأَن معجز الْأَنْبِيَاء هُوَ خَارج عَن الرتب وَعَن طبائع كل مَا فِي الْعَالم وَعَن بنية الْعَالم لَا يجْرِي شَيْء من ذَلِك على قانون وَلَا على سنَن مَعْلُوم لَكِن قلب عين وإحالة صِفَات ذاتية كشق الْقَمَر وفلق الْبَحْر واختراع طَعَام وَمَاء وقلب الْعَصَا حَيَّة وإحياء ميت قد أرم وَإِخْرَاج نَاقَة من صَخْرَة وَمنع النَّاس من أَن يتكلموا بِكَلَام مَذْكُور أَو من أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَمَا أشبه هَذَا من إِحَالَة الصِّفَات الذاتية الَّتِي بوجودها تسْتَحقّ الْأَسْمَاء وَمِنْهَا تقوم الْحُدُود وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ الَّذِي يَدعِيهِ المبطلون للساحر والفاضل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا يلوح الْفرق جدا بَين هذَيْن السَّبِيلَيْنِ لأهل الْعلم بحدود الْأَسْمَاء والمسميات وبطبائع الْعَالم وانقسامه من مبدئه من أَجنَاس إِلَى أَنْوَاعه إِلَى أشخاصه وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من أعراضه ذاتي وَمَا هُوَ مِنْهَا غَيْرِي وَمَا يسْرع الاستحالة والزوال من الغيري مِنْهَا وَمَا يبطيء زَوَاله مِنْهَا وَمَا يثبت مِنْهَا ثبات الذاتي وان لم يكن ذاتياً وَالْفرق بَين الْبُرْهَان وَبَين مَا نظن أَنه برهَان وَلَيْسَ برهاناً وَالْحَمْد لله على مَا وهب وأنعم بِهِ علينا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بياتي ثَنَا أَحْمد بن عبد الْبَصِير قَالَ ثَنَا قَاسم بن اصبغ ثَنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي ثَنَا مُحَمَّد بن المثني ثَنَا عبد الرَّحْمَن ابْن الْمهْدي ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَن بشير بن عمر وَقَالَ ذكر الغيلاني عِنْد عمر بن الْخطاب فَقَالُوا أَنهم يتحولون فَقَالَ عمر انه لَيْسَ أحد يتَحَوَّل عَن خلقه الَّذِي خلق لَهُ وَلَكِن لَهُم سحرة كسحرتكم فَإِذا خشيتم شَيْئا من ذَلِك فأذنوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ يبطل إِحَالَة الطبائع وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَقد نَص الله عز وَجل على مَا قُلْنَا فَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} فاخبر تَعَالَى أَن عمل أُولَئِكَ السَّحَرَة إِنَّمَا كَانَ تخييلا لَا حَقِيقَة لَهُ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} فَأخْبر تَعَالَى أَنه كيد لَا حَقِيقَة لَهُ فَإِن قيل قد قَالَ الله عز وَحل {سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وجاؤوا بِسحر عَظِيم} قُلْنَا نعم إِنَّهَا حيل عَظِيمَة وإثم عَظِيم إِذْ قصدُوا بهَا مُعَارضَة معجزات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانهم كَادُوا عُيُون النَّاس إِذْ أوهموهم أَن تِلْكَ الحبال والعصي تسعي فاتفقت الْآيَات كلهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَانَ الَّذِي قدر مِمَّن لَا يدْرِي حيلهم أَنَّهَا تسْعَى ظنا أَصله الْيَقِين وَذَلِكَ انهم رَأَوْا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إِلَى الظَّن وقدروا أَنَّهَا ذَوَات حيات وَلَو منعُوا الظَّن وفتشوها لوقفوا على الْحِيلَة فِيهَا وَأَنَّهَا ملئت زئبقا ولد فِيهَا تِلْكَ الحركات كَمَا يفعل العجائبي الَّذِي يضْرب بسكينة فِي جسم إِنْسَان فيظن من رَآهُ مِمَّن لَا يدْرِي حيلته أَن السكين غاصت فِي جَسَد الْمَضْرُوب وَلَيْسَ كَذَلِك بل كَانَ نِصَاب السكين مثقوبا فَقَط فغاصت السكين فِي النّصاب وَكَاد خَاله خيطا فِي حَلقَة خَاتم يمسك إِنْسَان مِنْهُم طرفِي الْخط بيدَيْهِ ثمَّ يَأْخُذ العجائبي الْخَاتم الَّذِي فِيهِ الْخَيط بِفِيهِ وَفِي ذَلِك الْمقَام أدخلهُ تَحت يَده وَكَانَ فِي فِيهِ خَاتم أُخْرَى يري من حضر حَلقَة الْخَاتم الَّذِي فِي فِيهِ يوهمهم انه قد أخرجه من الْخَيط ثمَّ يرد فَمه إِلَى الْخَيط وَيرْفَع يَدَيْهِ وفمه فَينْظر الْخَاتم الَّذِي كَانَ فِيهِ الْخَيط وَكَذَلِكَ سَائِر حيلهم وَقد وقفنا عَلَيْهَا جَمِيعهَا فَهَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى سحروا أعين النَّاس أَو استرهبوهم أَي انهم أوهموا النَّاس فِيمَا رَأَوْا ظنونا متوهمة لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَو فتشوها للاح لَهُم الْحق وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه} فَهَذَا أَمر مُمكن يَفْعَله التَّمام وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذَلِك عَلَيْهِ مَرضا حَتَّى كَانَ يظنّ أَنه فعل الشَّيْء وَهُوَ لم يَفْعَله فَلَيْسَ فِي هَذَا أَيْضا إِحَالَة طبيعية وَلَا قلب عين وَإِنَّمَا هُوَ تَأْثِير بِقُوَّة لتِلْك الصِّنَاعَة كَمَا قُلْنَا فِي الطلسمات والرقي فَلَا فرق وَنحن نجد الْإِنْسَان يسب أَو يُقَابل بحركة يغْضب مِنْهَا فيستحيل من الْحلم إِلَى الطيش وَمن السّكُون إِلَى الْحَرَكَة والنزق حَتَّى يُقَارب حَال المجانين أَو رُبمَا أمرضه ذَلِك وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن من الْبَيَان لسحرا لِأَن من الْبَيَان مَا يُؤثر فِي النَّفس فيثيرها أَو يسكنهَا عَن ثورانها ويحيلها عَن عزماتها وعَلى هَذَا الْمَعْنى اسْتعْملت الشُّعَرَاء ذكر سحر الْعُيُون لاستمالتها للنفوس فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ أَن السحر يحِيل الْأَعْيَان ويقلب الطبائع أخبرونا إِذا جَازَ هَذَا فَأَي فرق بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والساحر وَلَعَلَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء كَانُوا سحرة كَمَا قَالَ فِرْعَوْن عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر} {إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا} وَإِذا جَازَ أَن يقلب سحرة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عصيهم وأحبالهم حيات وقلب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَصَاهُ حَيَّة وَكَانَ كلا الآمرين حَقِيقَة فقد صدق فِرْعَوْن بِلَا شكّ فِي أَنه سَاحر مثلهم إِلَّا أَنه أعلم بِهِ فَقَط وحاشا لله من هَذَا بل مَا كَانَ فعل السَّحَرَة إِلَّا من حيل أبي الْعَجَائِب فَقَط فان لجؤا إِلَى مَا ذكره الباقلاني من التحدي قيل لَهُم هَذَا بَاطِل من وُجُوه أَحدهَا إِن اشْتِرَاط التحدي فِي كَون آيَة النَّبِي آيَة دَعْوَى كَاذِبَة سخيفة لَا دَلِيل على صِحَّتهَا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قَول صَاحب وَلَا من حجَّة عقل وَلَا قَالَ بِهَذَا أحد قطّ قبل هَذَا الْفرْقَة الضعيفة وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط والهجنة قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَوَجَبَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 ضَرُورَة أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة قَوْله فَهُوَ كَاذِب فِيهَا غير صَادِق وَثَانِيها أَنه لَو كَانَ مَا قَالُوا لسقطت اكثر آيَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنبعان المَاء من بَين أَصَابِعه وإطعامه المئتين والعشرات من صَاع شعير وعناق وَمرَّة أُخْرَى من كسر ملفوفة فِي خمار وكتفله فِي الْعين فَجَاشَتْ بِمَاء غزير إِلَى الْيَوْم وحنين الْجذع وتكليم الذِّرَاع وشكوى الْبَعِير وَالذِّئْب وَالْأَخْبَار بالغيوب وتمر جَابر وَسَائِر معجزاته الْعِظَام لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتحد بذلك كُله أحد وَلَا عمله إِلَّا بِحَضْرَة أهل الْيَقِين من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَلم يبْق لَهُ آيَة حاشا الْقُرْآن وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وشق الْقَمَر فَقَط وَكفى نحسا بقول أدّى إِلَى مثل هَذَا فان ادعوا انه عَلَيْهِ السَّلَام تحدى بهَا من حضر وَغَابَ كذبُوا واخترعوا هَذِه الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لم يَأْتِ فِي شَيْء من تِلْكَ الْأَخْبَار أَنه تحدى بهَا أحدا وان تَمَادَوْا على أَن كل هَذِه لَيست معجزات وَلَا آيَات أكذبهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله إِذْ فعل ذَلِك أشهد أَنِّي رَسُول الله وَالثَّالِث وَهُوَ الْبُرْهَان الدَّافِع وَهُوَ قَول الله تَعَالَى {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ} وَقَوله {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} فَسمى الله تَعَالَى تِلْكَ المعجزات الْمَطْلُوبَة من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام آيَات وَلم يشْتَرط عز وَجل فِي ذَلِك تحديا من غَيره فصح إِن اشْتِرَاط التحدي بَاطِل مَحْض وَصَحَّ أَنَّهَا إِذا ظَهرت فَهِيَ آيَة كَانَ هُنَالك تحد أَو لم يكن وَقد صَحَّ إِجْمَاع الْأمة الْمُتَيَقن على الْآيَات الَّتِي لَا يَأْتِي بهَا سَاحر وَلَا غير نَبِي فصح أَن المعجزات إِذا هِيَ آيَات لَا تكون لساحر وَلَا لأحد لَيْسَ نَبيا وَالرَّابِع أَنه لَو صَحَّ حكم التحدي لَكَانَ حجَّة عَلَيْهِ لِأَن التحدي عِنْدهم يُوجب أَن لَا يقدر على مثل ذَلِك أحد إِذْ لَو أمكن أَن يُوجد مثل ذَلِك من أحد لَكَانَ قد بَطل تحديه وَقيل لَهُ قد وجد من يعْمل عَمَلك هَذَا إِمَّا صَالح وَإِمَّا سَاحر وَالْخَامِس أَنه لَو كَانَ مَا قَالُوا وَجَاز ظُهُور معْجزَة من سَاحر لَا يتحدى بهَا أَو فَاضل لَا يتحدى بهَا لامكن أَن يتحدى لَهما بهَا بعد مَوْتهمَا من ضل فيهمَا كَمَا فعلت الغلاة بعلي رَضِي الله عَنهُ فعلى كل حَال قَوْلهم سَاقِط وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من ادّعى أَنه يشبه السَّاحر على الْعُيُون فريهم مَا لَا يرى فان هَذِه الطَّائِفَة لم تكتف بالْكفْر بِإِبْطَال النبوات إِذْ لَعَلَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تَشْبِيها على الْعُيُون لَا حَقِيقَة لَهُ حَتَّى رامت إبِْطَال الْحَقَائِق كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا وَلَحِقت بالسوفسطائية لحَاقًا صَحِيحا بِلَا تكلّف وَيُقَال لَهُم إِذا جَازَ أَن يشبه على الْعُيُون حَتَّى يرى الْمُشبه عَلَيْهَا مَا لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا ترَاهُ فَمَا يدريكم لَعَلَّكُمْ كلكُمْ الْآن مشبه على عيونكم وَلَعَلَّ بعض السَّحَرَة قد شبه عَلَيْكُم فأراكم أَنكُمْ تتوضؤن وتصلون وَأَنْتُم لَا تعقلون شَيْئا من ذَلِك ولعلكم تظنون أَنكُمْ تزوجتم وَإِنَّمَا فِي بُيُوتكُمْ ضَأْن ومعز ولعلكم الْآن على ظهر الْبَحْر وَلَعَلَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 كل مَا تعتقدون من الدّين تَشْبِيه عَلَيْكُم وَهَذَا كُله لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَقد عَابَ الله عز وَجل من ذهب إِلَى هَذَا فَقَالَ {وَلَو فتحنا عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون} فَلَو جَازَ أَن يكون للسحر حَقِيقَة وَيُشبه مَا يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَأمكن أَن يشبه على الْبَصَر مَا ذمهم الله عز وَجل بِأَن قَالُوا شَيْئا يُمكن كَونه لكِنهمْ لما قَالُوا مَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ وتعلقوا بذلك فِي دفع الْحَقَائِق عابهم الله تَعَالَى بذلك وَأنْكرهُ عَلَيْهِم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ غلط الْحَواس فِي بعض الْأَوْقَات من بَاب التَّشْبِيه عَلَيْهَا فِي شَيْء لِأَن أَحَدنَا قد يرى شخصا على بعد لَا يشك فِيهِ إِلَّا أَن سارع فَقطع أَنه إِنْسَان أَو أَنه فلَان فَقطع بظنه وَلَو أَنه لم يعْمل ظَنّه وَلَا قطع بِهِ لَكَانَ بَاقِيا على مَا أدْرك من الْحَقِيقَة وَهَكَذَا فِي كل مَا حكم فِيهِ الْمَرْء بظنه وَأما ذُو الآفة كمن فِيهِ ابْتِدَاء نزُول المَاء فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا فَهُوَ أَيْضا كَمَا ذكرنَا وَإِنَّمَا المَاء المطل على حدقته يُوهِمهُ أَنه رأى شَيْئا وَقطع بذلك فَإِذا تثبت فِي كل ذَلِك لَاحَ لَهُ الْحق من الظَّن وَكَذَلِكَ من فسد مَكَان التخيل من دماغه فَإِن نَفسه تظن مَا توهمه بِهِ وَلَو قوي تميزها لفرقت بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهَكَذَا القَوْل فِي إِدْرَاك السّمع والذوق وَهَذَا كُله يجْرِي على رتب مُخْتَلفَة بِمن أعمل ظَنّه وعَلى رتب غير مُخْتَلفَة فِي جمل هَذِه الْأَوْقَات بل هِيَ ثَابِتَة عِنْد أهل التَّحْقِيق والمعرفة مَعْرُوفَة العلاج حَتَّى يعود مِنْهَا إِلَى صَلَاحه مَا لم يستحكم فَسَاده وَلَا يظنّ ظان أَنه مُمكن أَن تكون فِي مثل حَال هَؤُلَاءِ إِذْ لَو كَانَ هَذَا لم نَعْرِف شَيْئا من الْعُلُوم على رتبه وَأَحْكَامه الْجَارِيَة على سنَن وَاحِد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نسألهم بِأَيّ شَيْء يعْرفُونَ أَنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نَحن بِمَاذَا نَعْرِف أَن حواسنا سليمَة وَأَن عقولنا سليمَة مَا دَامَت سَالِمَة وبماذا نَعْرِف الْحَواس المدخولة والعقول المدخولة وَغير المدخولة إِجْرَاء مَا أدْرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة مَعْلُومَة لَا تبدل عَن حُدُودهَا أبدا وإجراء مَا أدْرك بالحواس الْفَاسِدَة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على فرق أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ مَا ذكرنَا عَمَّن لَيْسَ نَبيا من قلب عين أَو إِحَالَة طبيعة فَهُوَ كذب إِلَّا مَا وجد من ذَلِك فِي عصر نَبِي فَإِنَّهُ آيَة كَذَلِك لذَلِك الشَّيْء وَذَلِكَ الَّذِي ظَهرت عَلَيْهِ آيَة بِمَنْزِلَة الْجذع الَّذِي ظَهرت فِيهِ الحنين والذراع الَّذِي ظهر فِيهِ النُّطْق والعصا الَّتِي ظَهرت فِيهَا الْحَيَاة وَسَوَاء كَانَ الَّذِي ظَهرت فِيهِ الْآيَة صَالحا أَو فَاسِقًا وَذَلِكَ كنحو النُّور الَّذِي ظهر فِي سَوط عمر بن حَمْحَمَة الدوسي وبرهان ذَلِك أَنه لم يظْهر فِيهِ بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قيل إِذا أجزتم أَن تظهر المعجزة فِي غير نَبِي فِي عصر نَبِي لتَكون آيَة لذَلِك النَّبِي فَهَلا أجزتموه كَذَلِك بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتَكون آيَة لَهُ أَيْضا وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ قُلْنَا إِنَّمَا أجزنا ذَلِك الشَّيْء فِي الجماد وَسَائِر الْحَيَوَان وفيمن شَاءَ الله تَعَالَى إِظْهَار ذَلِك فِيهِ من النَّاس لَا نخص بذلك فَاضلا لفضله وَلَا نمْنَع فَاسق لفسقه أَو كَافِر وَإِنَّمَا ننكر على من خص بذلك الْفَاضِل فَجَعلهَا كَرَامَة لَهُ فَلَو جَازَ ذَلِك بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشكل الْأَمر وَلم تكن فِي أَمن من دَعْوَى من ادّعى أَنَّهَا آيَة لذَلِك الْفَاضِل وَلذَلِك الْفَاسِق وَالْإِنْسَان من النَّاس يدعيها آيَة لَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ إشْكَالًا فِي الدّين وتلبيساً من الله تَعَالَى على جَمِيع عباده أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَهَذَا خلاف وعد الله تَعَالَى لنا وإخباره بِأَنَّهُ قد بَين علينا الرشد من الغي وَلَيْسَ كَذَلِك مَا كَانَ فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا من قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أَنَّهَا لَهُ لَا للَّذي ظَهرت مِنْهُ وَهَذَا فِي غَايَة الْبَيَان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِك عَن أَصْحَاب الثَّلَاثَة الْغَار وانفراج الصَّخْرَة ثلثا ثلثا عِنْد مَا ذكرُوا أَعْمَالهم فَلَا تعلق لَهُم بِهِ لِأَن تكسير الصَّخْرَة مِمَّن فِي كل وَقت وَلكُل وَاحِد بِلَا إعجاز وَمَا كَانَ هَكَذَا فَجَاز وُقُوعه بِالدُّعَاءِ وَبِغير الدُّعَاء لَكِن وَقع وفَاقا لتمنيه كمن دَعَا فِي موت عدوه أَو تفريج همه أَو بُلُوغ أمْنِيته فِي دُنْيَاهُ وَلَقَد حَدثنِي حكم بن مُنْذر بن سعيد أَن أَبَاهُ رَحمَه الله كَانَ فِي جمَاعَة فِي سفرة فِي صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا فِي ظلّ جبل ينتظرون الْمَوْت قَالَ فأسندت رَأْسِي إِلَى حجر ناتئ فتأذيت بِهِ فقلعته فَانْدفع المَاء العذب من تَحْتَهُ فشربنا وتزودنا وَمثل هَذَا كثير مِمَّا يفرج وَحَتَّى لَو كَانَت معْجزَة لوَجَبَ بِلَا شكّ أَن يَكُونُوا أَنْبيَاء أَو لنَبِيّ مِمَّن فِي زمن نَبِي لَا بُد مِمَّا قدمْنَاهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا عجب أعجب من قَول من يُجِيز قلب الْأَعْيَان للساحر وَهُوَ عِنْدهم فَاسق أَو كَافِر ويجيز مثل ذَلِك للصالح وَلِلنَّبِيِّ فقد جَازَ عِنْدهم قلب الْأَعْيَان للنَّبِي وللصالح وللفاسق وللكافر فَوَجَبَ أَن قلب الْأَعْيَان جَائِز من كل أحد وبؤساً لقَوْل أدّى إِلَى مثل هَذَا وَهُوَ يجيزون للْمُغِيرَة بن سعيد وَبَيَان وَمَنْصُور الْكَشْف وقلب الْأَعْيَان على سَبِيل السحر وَقد جَاءَ بعدهمْ من يَدعِي لَهُم النُّبُوَّة بهَا فَاسْتَوَى عِنْد هَؤُلَاءِ المخذولين النَّبِي والساحر ونعوذ بِاللَّه من الضلان الْمُبين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله تَعَالَى {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} فَهَذَا حق وَإِنَّمَا هُوَ بِلَا شكّ أَنه فِي الممكنات الَّتِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا تكون لَا فِيمَا فِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا لَا تكون وَلَا فِي الْمحَال ونسألهم عَمَّن دَعَا إِلَى الله تَعَالَى فِي أَن يَجعله نَبيا أَو فِي أَن ينْسَخ دين الْإِسْلَام أَو بِأَن يَجْعَل الْقِيَامَة قبل وَقتهَا أَو يمسخ النَّاس كلهم قردة أَو بِأَن يَجْعَل لَهُ عينا ثَالِثَة أَو بِأَن يدْخل الْكفَّار الْجنَّة وَالْمُؤمنِينَ النَّار وَمَا أشبه هَذَا فَإِن أَجَازُوا كل هَذَا كفرُوا وَلَحِقُوا مَعَ كفرهم بالمجانين وَإِن منعُوا من كل هَذَا تركُوا استدلالهم بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة وَصَحَّ أَن الْإِجَابَة إِنَّمَا تكون فِي خَاص من الدُّعَاء لَا فِي الْعُمُوم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَصَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسامة وخَالِد هلا شققت عَن قلبه لتعلم أقالها مُتَعَوِّذًا أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَو جَازَ ظُهُور المعجزة على غير نَبِي على سَبِيل الْكَرَامَة لوَجَبَ الْقطع على مَا فِي قلبه وَأَنه ولي الله تَعَالَى وَهَذَا لَا يعلم من أحد بعد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين ورد فيهم النَّص وَأما قَول الباقلاني أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِظْهَار آيَة على يَد كَذَّاب فَهُوَ فِي دَاخل فِي جملَة تعجيزه الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ أَيْضا تعجيزه سخيف دَاخل فِي جملَة الْمحَال وَذَلِكَ أَنه جعل الله تَعَالَى قَادِرًا على إِظْهَار الْآيَات على كل سَاحر فَإِن علم أَنه يَقُول أَنه نَبِي لم يقدر على أَن يظهرها عَلَيْهِ وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد لَا من قدر على شَيْء لم يجز أَن يبطل قوته عَلَيْهِ علمه بِأَن ذَلِك الَّذِي يظْهر فِيهِ الْفِعْل يَقُول أَنا نَبِي وَلَا يتَوَهَّم هَذَا وَلَا يتشكل فِي الْفِعْل وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هم قوم أهملوا حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِم وأطلقوا حكمهم عَلَيْهِ تَعَالَى مَا فِي الْكفْر أسمج من هَذَا وَلَا أَطَم وَلَا أبرد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَأَيْت للباقلاني فِي فصل من كَلَامه أَن النَّاس لَيْسُوا عاجزين عَن مثل هَذَا الْقُرْآن وَلَا قَادِرين عَلَيْهِ وَلَا هم عاجزون عَن الصعُود إِلَى السَّمَاء وَلَا عَن إحْيَاء الْمَوْتَى وَلَا عَن خلق الْأَجْسَام وَلَا اختراعها وَلَا قَادِرين على ذَلِك هَذَا نَص كَلَامه دون تَأْوِيل منا عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن الْقُدْرَة لَا تقع إِلَّا حَيْثُ يَقع الْعَجز قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا هوس لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا الممرور وأطم من ذَلِك احتجاجه بِأَن الْعَجز لَا يَقع إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 حَيْثُ تقع الْقُدْرَة وَلَا نَدْرِي فِي أَي لُغَة وجد هَذَا الكذيب أم فِي أَي عقل وجد هَذَا السخف وَمَا شكّ ذُو علم باللغة الْخَاصَّة والعامة فِي بطلَان قَوْله وَفِي أَن الْعَجز ضد الْقُدْرَة وَأَن مَا قدر الْإِنْسَان عَلَيْهِ فَلم يعجز عَنهُ فِي حِين قدرته عَلَيْهِ وَأَن مَا عجز عَنهُ فَلم يقدر عَلَيْهِ فِي حِين عَجزه عَنهُ وَإِن نفي الْقُدْرَة إِثْبَات للعجز وَأَن نفي الْعَجز إِثْبَات للقدرة مَا يجهل هَذَا عَامي وَلَا خاصي أصلا وَهُوَ أَيْضا مَعْرُوف بِأول الْعقل وَالْعجب أَن يَأْتِي بِمثل هَذِه الدعاوي السخيفة بِغَيْر دَلِيل أصلا لَكِن حماقات وضلالات يطلقهَا هَذَا الْجَاهِل وَأَمْثَاله من الْفُسَّاق فِي دين الله تَعَالَى فينلنفها عَنْهُم من أضلّهُ الله تَعَالَى ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله} فَاقْتضى هَذَا أَنهم غير مَقْدُور عَلَيْهِم لله تَعَالَى وَقَالَ تَعَالَى {فَلَيْسَ بمعجز فِي الأَرْض} فَوَجَبَ أَنه مَقْدُور عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَالله على كل شَيْء قدير} فصح أَنه غير عَاجز وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ الْكَلَام فِي الْجِنّ ووسوسة الشَّيْطَان وَفعله فِي المصروع قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم ندرك بالحواس وَلَا علمنَا وجوب كَونهم وَلَا وجوب امْتنَاع كَونهم فِي الْعَالم بضرورة الْعقل لَكِن علمنَا بضرورة الْعقل إِمْكَان كَونهم لِأَن قدرَة الله تَعَالَى لَا نِهَايَة لَهَا وَهُوَ عز وَجل يخلق مَا يَشَاء وَلَا فرق بَين أَن يخلق خلقا عنصرهم التُّرَاب وَالْمَاء فيسكنهم فِي الأَرْض والهواء وَالْمَاء وَبَين أَن يخلق خلقا عنصرهم النَّار والهواء فيسكنهم الْهَوَاء وَالنَّار وَالْأَرْض بل كل ذَلِك سَوَاء وممكن فِي قدرته لَكِن لما أخْبرت الرُّسُل الَّذين شهد الله عز وَجل بصدقهم بِمَا أبدى على أَيْديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بِنَصّ الله عز وَجل على وجود الْجِنّ فِي الْعَالم وَجب ضَرُورَة الْعلم بخلقهم وَقد جَاءَ النَّص بذلك وبأنهم أمة عَاقِلَة مُمَيزَة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وَأجْمع الْمُسلمُونَ كلهم على ذَلِك نعم وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والصابئون وَأكْثر الْيَهُود حاشا السامرة فَقَط فَمن أنكر الْجِنّ أَو تَأَول فيهم تَأْوِيلا يخرجهم بِهِ عَن هَذَا الظَّاهِر فَهُوَ كَافِر مُشْرك حَلَال الدَّم وَالْمَال قَالَ تَعَالَى {أفتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم يروننا وَلَا نراهم قَالَ الله تَعَالَى {أَنه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} فصح أَن الْجِنّ قبيل إِبْلِيس قَالَ الله عز وَجل {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا أخبرنَا الله عز وَجل أننا لَا نراهم فَمن ادّعى أَنه يراهم أَو رَآهُمْ فَهُوَ كَاذِب إِلَّا أَن يكون من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَذَلِك معْجزَة لَهُم كَمَا نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تفلت عَلَيْهِ الشَّيْطَان ليقطع عَلَيْهِ صلَاته قَالَ فَأَخَذته فَذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان وَلَوْلَا ذَلِك لأصبح موثقًا يرَاهُ أهل الْمَدِينَة أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة الَّذِي رأى إِنَّمَا هِيَ معْجزَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا سَبِيل إِلَى وجود خبر يَصح بِرُؤْيَة جن بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هِيَ منقطعات أَو عَمَّن لَا خير فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم أجسام رقاق صَافِيَة هوائية لَا ألوان لَهَا وعنصرهم النَّار كَمَا أَن عنصرنا التُّرَاب وَبِذَلِك جَاءَ الْقُرْآن قَالَ الله عز وَجل {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَالنَّار والهواء عنصران لَا ألوان لَهما وَإِنَّمَا حدث اللَّوْن فِي النَّار المشتعلة لامتزاجها برطوبات مَا تشتعل فِيهِ من الْحَطب والكتان والأدهان وَغير ذَلِك وَلَو كَانَت لَهُم ألوان لرأيناهم بحاسة الْبَصَر وَلَو لم يَكُونُوا أجساما صَافِيَة رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللَّمْس وَصَحَّ النَّص بِأَنَّهُم يوسوسون فِي صُدُور النَّاس وَأَن الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فَوَجَبَ التَّصْدِيق بِكُل ذَلِك حَقِيقَة وَعلمنَا أَن الله عز وَجل جعل لَهُم قُوَّة يتوصلون بهَا إِلَى حذف مَا يوسوسون بِهِ فِي النُّفُوس برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} وَنحن نشاهد الْإِنْسَان يرى من لَهُ عِنْده ثار فيضطرب وتتبدل أعراضه وَصورته وأخلاقه وتثور ناريته وَيرى من يحب فيثور لَهُ حَال أُخْرَى ويبتهج وينبسط وَيرى من يخَاف فَتحدث لَهُ حَال أُخْرَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 من صفرَة ورعشة وَضعف نفس وَيُشِير إِلَى إِنْسَان آخر بإشارات بهَا طبائعه فيغضب مرّة ويخجله مرّة أُخْرَى ويفزعه ثَالِثَة ويرضيه رَابِعَة وَكَذَلِكَ يحيله أَيْضا بالْكلَام إِلَى جَمِيع هَذِه الْأَحْوَال فَعلمنَا أَن الله عز وَجل جعل للجن قوى يتصلون بهَا إِلَى تغير النُّفُوس وَالْقَذْف فِيهَا بِمَا يستدعونها إِلَيْهِ نَعُوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ووسوسته وَمن شرار النَّاس وَهَذَا هُوَ جريه من ابْن آدم مجْرى الدَّم كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... وَقد كنت أجري فِي حشاهن مرّة كجري معِين المَاء فِي قصب الآس ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الصرع فان الله عز وَجل قَالَ {الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} فَذكر عز وَجل تَأْثِير الشَّيْطَان فِي المصروع فَإِنَّمَا هُوَ بالمماسة فَلَا يجوز لأحد أَن يزِيد على ذَلِك شَيْئا وَمن زَاد على هَذَا شَيْئا فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا حرَام لَا يحل قَالَ عز وَجل {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَهَذِه الْأُمُور لَا يُمكن أَن يعرف الْبَتَّةَ إِلَّا بِخَبَر صَحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خبر عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِغَيْر مَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصح أَن الشَّيْطَان يمس الْإِنْسَان الَّذِي يُسَلِّطهُ الله عَلَيْهِ مسا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن يثير بِهِ من طبائعه السَّوْدَاء والأبخرة المتصاعدة إِلَى الدِّمَاغ كَمَا يخبر بِهِ عَن نَفسه كل مصروع بِلَا خلاف مِنْهُم فَيحدث الله عز وَجل لَهُ الصرع والتخبط حِينَئِذٍ كَمَا نشاهده وَهَذَا هُوَ نَص الْقُرْآن وَمَا توجبه الْمُشَاهدَة وَمَا زَاد على هَذَا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الشَّمْس تطلع وَمَعَهَا قرن الشَّيْطَان فَإِذا ارْتَفَعت فَارقهَا فَإِذا اسْتَوَت قارنها فَإِذا زَالَت فَارقهَا فَإِذا جنحت للغروب قارنها فَإِذا غربت فَارقهَا وَنهى عَن الصَّلَاة فِي هَذِه الْأَوْقَات أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّا هَذَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ فقد قُلْنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا الْحق وَأَن كَلَامه كُله على ظَاهره إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِأَن هَذَا النَّص لَيْسَ على ظَاهره فنسمع ونطيع أَو يقوم ذَلِك برهَان من ضَرُورَة حس أَو أول عقل فنعلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ مَا قد قَامَ بِصِحَّتِهِ الْبُرْهَان وَلَا يجوز غير ذَلِك وَقد علمنَا يَقِينا أَن الشَّمْس فِي كل دقيقة طالعة من الْآفَاق مُرْتَفعَة على آخر مستوية على ثَالِث زائلة عَن رَابِع جانحة للغروب على خَامِس غرابة على سادس هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ عِنْد كل ذِي علم بالهيئة فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ يَقِينا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني بذلك أفقا مَا دون سَائِر الْآفَاق لَا يجوز غير ذَلِك إِذْ لَو أَرَادَ كل أفقي لَكَانَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ يفارقها كذبا وحاشا لَهُ من ذَلِك فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا كُله فَلَا مرية أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا عَنى بِهِ أفق الْمَدِينَة إِذْ هُوَ الْأُفق الَّذِي أخبر أَهله بِهَذَا الْخَبَر فأنبأهم بِمَا يقارن الشَّمْس فِي تِلْكَ الْأَحْوَال وَمَا يفارقها من الشَّيْطَان وَالله أعلم بذلك الْقُرْآن مَا هُوَ لَا نزيد على هَذَا إِذْ لَا بَيَان عندنَا فِيمَا بَينه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 إِلَّا أَنه لَيْسَ شَيْء بممتنع أصلا فصح بِمَا ذكرنَا أَن أول الْخَبَر خَاص كَمَا وَصفنَا وَأَن نَهْيه عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات قصَّة أُخْرَى وَقَضِيَّة ثَانِيَة وَحكم غير الأول فَهُوَ على عُمُومه فِي كل زمَان وكل مَكَان إِلَّا مَا قَامَ الْبُرْهَان على تَخْصِيصه من هَذَا الحكم بِنَصّ آخر كَمَا بَينا فِي غير هَذَا الْكتاب فِي كتب الصَّلَاة من تآليفنا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا الْكَلَام فِي الطبائع قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الأشعرية إِلَى إِنْكَار الطبائع جملَة وَقَالُوا لَيْسَ فِي النَّار حر وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَالم طبيعة أصلا وَقَالُوا إِنَّمَا حدث حر النَّار جملَة وَبرد الثَّلج عِنْد الْمُلَامسَة قَالُوا وَلَا فِي الْخمر طبيعة إسكار وَلَا فِي الْمَنِيّ قُوَّة يحدث بهَا حَيَوَان وَلَكِن الله عز وَجل يخلق مِنْهُ مَا شَاءَ وَقد كَانَ مُمكنا أَن يحدث من مني الرِّجَال جملا وَمن مني الْحمار إنْسَانا وَمن زويعة الكزبر نخلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم لَهُم حجَّة شغبوا بهَا فِي هَذَا الهوس أصلا وَقد ناظرت بَعضهم فِي ذَلِك فَقلت لَهُ إِن اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن تبطل قَوْلكُم لِأَن من لُغَة الْعَرَب الْقَدِيمَة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والنحيزة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بِالْجِيم وَلَا يشك ذُو علم فِي أَن هَذِه الْأَلْفَاظ اسْتعْملت فِي الْجَاهِلِيَّة وسمعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم ينكرها قطّ وَلَا أنكرها أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَا وَلَا أحد مِمَّن بعدهمْ حَتَّى حدث من لَا يعْتد بِهِ وَقد قَالَ امْرُؤ الْقَيْس ... وَإِن كنت قد سائتك مني خَلِيقَة وَقَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي الْكِنْدِيّ ... لكل امْرِئ يَا أم عَمْرو طبيعة وتفرق مَا بَين الرِّجَال الطبائع ... وَقَالَ النَّابِغَة ... لَهُم سيمة لم يُعْطهَا الله غَيرهم من الْجُود والأحلام غير عوازب ... وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجارود إِذا أخبرهُ أَن فِيهِ الْحلم والأناة فَقَالَ لَهُ الْجَارُود الله جبلني عَلَيْهِمَا يَا رَسُول الله أم هما كسب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل الله جبلك عَلَيْهِمَا وَمثل هَذَا كثير وكل هَذِه الْأَلْفَاظ أَسمَاء مترادفة بِمَعْنى وَاحِد عِنْدهم وَهُوَ قُوَّة فِي الشَّيْء يُوجد بهَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ فاضطرب ولجأ إِلَى أَن قَالَ أَقُول بِهَذَا فِي النَّاس خَاصَّة فَقلت لَهُ وَأَنِّي لَك بالتخصيص وَهَذَا مَوْجُود بالحس وببديهة الْعقل فِي كل مَخْلُوق فِي الْعَالم فَلم يكن عِنْده تمويه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الْمَذْهَب الْفَاسِد حداهم على أَن سموا مَا تَأتي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْآيَات المعجزات خرق الْعَادة لأَنهم جعلُوا امْتنَاع شقّ الْقَمَر وشق الْبَحْر وَامْتِنَاع إحْيَاء الْمَوْتَى وَإِخْرَاج نَاقَة من صَخْرَة وَسَائِر معجزاتهم إِنَّمَا هِيَ عادات فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد معَاذ الله من هَذَا وَلَو كَانَ ذَلِك عَادَته لما كَانَ فِيهَا إعجاز أصلا لِأَن الْعَادة فِي لُغَة الْعَرَب والدأب وَالدّين والديدن والهجيري أَلْفَاظ مترادفة على معنى وَاحِد وَهِي فِي أَكثر اسْتِعْمَال الْإِنْسَان لهل ننل لَا يُؤمن تَركه إِيَّاه وَلَا يُنكر زَوَاله عَنهُ بل هُوَ مُمكن وجود غَيره وَمثله بِخِلَاف الطبيعة الَّتِي الْخُرُوج عَنْهَا مُمْتَنع فالعادة فِي اسْتِعْمَال الْعَرَب الْعَامَّة التلحي وَحمل الْقَنَاة تحمل بعض النَّاس القلنسوة وكاستعمال بَعضهم حلق الشّعْر وَبَعْضهمْ توفيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 قَالَ الشَّاعِر ... تَقول وَقد درأت لَهَا وضيني أهدأ دينه أبدا وديني ... وَقَالَ آخر وَمن عاداته الْخلق الْكَرِيم وَقَالَ آخر ... قد عود الطير عادات وثقن بهَا فهن يصحبنه فِي كل مرتحل ... وَقَالَ آخر ... عودت كِنْدَة عادات فصير لَهَا ... وَقَالَ آخر ... وشديد عَادَة منتزعه ... فَذكر أَن انتزاع الْعَادة يشْتَد إِلَّا أَنه مُمكن غير مُمْتَنع بِخِلَاف إِزَالَة الطبيعة الَّتِي لَا سَبِيل إِلَيْهَا وَرُبمَا وضعت الْعَرَب لَفْظَة الْعَادة مَكَان لَفْظَة الطبيعة كَمَا قَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي ... سَلِي الرّبع أَن يمت يَا أم سَالم وَهل عَادَة الرّبع أَن يتكلما ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه الطبائع والعادات مخلوقة خلقهَا الله عز وَجل فرتب الطبيعة على أَنَّهَا لَا تستحيل أبدا وَلَا يُمكن تبدلها عِنْد كل ذِي عقل كطبيعة الْإِنْسَان بِأَن يكون مُمكنا لَهُ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات إِن لم يَعْتَرِضهُ آفَة وطبيعة الْحمير وَالْبِغَال بِأَنَّهُ غير مُمكن مِنْهَا ذَلِك وكطبيعة الْبر أَن لَا ينْبت شَعِيرًا وَلَا جوزا وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم وَالْقَوْم مقرون بِالصِّفَاتِ وَهِي الطبيعة نَفسهَا لِأَن من الصِّفَات المحمولة فِي الْمَوْصُوف مَا هُوَ ذاتي بِهِ لَا يتَوَهَّم زَوَاله إِلَّا بِفساد حامله وَسُقُوط الِاسْم عَنهُ كصفات الْخمر الَّتِي إِن زَالَت عَنْهَا صَارَت خلا وَبَطل اسْم الْخمر عَنْهَا وكصفات الْخبز وَاللَّحم الَّتِي إِذا زَالَت عَنْهَا صَارَت زبلا وَسقط اسْم الْخبز وَاللَّحم عَنْهُمَا وَهَكَذَا كل شَيْء لَهُ صفة ذاتية فَهَذِهِ هِيَ الطبيعة وَمن الصِّفَات المحمولة فِي الْمَوْصُوف مَا لَو توهم زَوَاله عَنهُ لم يبطل حامله وَلَا فَارقه اسْمه وَهَذَا الْقسم يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة فأحدها مُمْتَنع الزَّوَال كالفطس وَالْقصر والزرق وَسَوَاد الزنْجِي وَنَحْو ذَلِك إِلَّا أَنه لَو توهم زائلا لبقي الْإِنْسَان إنْسَانا بِحَالهِ وَثَانِيها بطيء الزَّوَال كالمردوة وَسَوَاد الشّعْر وَمَا أشبه ذَلِك وَثَالِثهَا سريع الزَّوَال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الْهم وَنَحْو ذَلِك فَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَة الْكَلَام فِي الصِّفَات وَمَا عدا ذَلِك فطريق السوفسطائية الَّذين لَا يحققون حَقِيقَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان نبوة النِّسَاء قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا فصل لَا نعلمهُ حدث التَّنَازُع الْعَظِيم فِيهِ إِلَّا عندنَا بقرطبة وَفِي زَمَاننَا فَإِن طَائِفَة ذهبت إِلَى إبِْطَال كَون النُّبُوَّة فِي النِّسَاء جملَة وبدعت من قَالَ ذَلِك وَذهب طَائِفَة إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ قد كَانَت فِي النِّسَاء نبوة وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّوَقُّف فِي ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم للمانعين من ذَلِك حجَّة أصلا إِلَّا أَن بَعضهم نَازع فِي ذَلِك بقول الله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي اليهم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَمر لَا ينازعون فِيهِ وَلم يدع أحد أَن الله تَعَالَى أرسل امْرَأَة وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي النُّبُوَّة دون الرسَالَة فَوَجَبَ طلب الْحق فِي ذَلِك بِأَن ينظر فِي معنى لَفْظَة النُّبُوَّة فِي اللُّغَة الَّتِي خاطبنا الله بهَا عز وَجل فَوَجَدنَا هَذِه اللَّفْظَة مَأْخُوذَة من الْأَنْبِيَاء وَهُوَ الْإِعْلَام فَمن أعلمهُ الله عز وَجل بِمَا يكون قبل أَن يكون أَو أُوحِي إِلَيْهِ منبئا لَهُ بِأَمْر مَا فَهُوَ نَبِي بِلَا شكّ وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الإلهام الَّذِي هُوَ طبيعة كَقَوْل الله تَعَالَى {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} وَلَا من بَاب الظَّن والتوهم الَّذِي لَا يقطع بحقيقته إِلَّا مَجْنُون وَلَا من بَاب الكهانة الَّتِي هِيَ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 إستيراق الشَّيَاطِين للسمع من السَّمَاء فيرمون بِالشُّهُبِ الثاقب وَفِيه يَقُول الله عز وَجل {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا} وَقد انْقَطَعت الكهانة بمجيء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من بَاب النُّجُوم الَّتِي هِيَ تجارب نتعلم وَلَا من بَاب الرُّؤْيَا الَّتِي لَا يدْرِي أصدقت أم كذبت بل الْوَحْي الَّذِي هُوَ النُّبُوَّة قصد من الله تَعَالَى إِلَى إِعْلَام من يوحي إِلَيْهِ بِمَا يُعلمهُ بِهِ وَيكون عِنْد الْوَحْي بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَة خَارِجَة عَن الْوُجُوه الْمَذْكُورَة يحدث الله عز وَجل لمن أوحى بِهِ إِلَيْهِ علما ضَرُورِيًّا بِصِحَّة مَا أُوحِي بِهِ كعلمه بِمَا أدْرك بحواسه وبديهة عقله سَوَاء لَا مجَال للشَّكّ فِي شَيْء مِنْهُ أما بمجيء الْملك بِهِ إِلَيْهِ وَإِمَّا بخطاب يُخَاطب بِهِ فِي نَفسه وَهُوَ تَعْلِيم من الله تَعَالَى لمن يُعلمهُ دون وساطة معلم فَإِن أَنْكَرُوا أَن يكون هَذَا هُوَ معنى النُّبُوَّة فليعرفوا مَا مَعْنَاهَا فَإِنَّهُم لَا يأْتونَ بِشَيْء أصلا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد جَاءَ الْقُرْآن بِأَن الله عز وَجل أرسل الْمَلَائِكَة إِلَى نسَاء فأخبروهن بِوَحْي حق من الله تَعَالَى فبشروا أم إِسْحَاق بِإسْحَاق عَن الله تَعَالَى قَالَ عز وَجل {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب قَالَت يَا ويلتى أألد وَأَنا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} فَهَذَا خطاب الْمَلَائِكَة لأم إِسْحَاق عَن الله عز وَجل بالبشارة لَهَا بِإسْحَاق ثمَّ يَعْقُوب ثمَّ بقَوْلهمْ لَهَا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون هَذَا الْخطاب من ملك لغير نَبِي بِوَجْه من الْوُجُوه ووجدناه تَعَالَى قد أرسل جِبْرِيل إِلَى مَرْيَم أم عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام يخاطبها وَقَالَ لَهَا {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَهَذِهِ نبوة صَحِيحَة بِوَحْي صَحِيح ورسالة من الله تَعَالَى إِلَيْهَا وَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام يجد عِنْدهَا من الله تَعَالَى رزقا واردا تمنى من أَجله ولدا فَاضلا وَوجدنَا أم مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام قد أوحى الله إِلَيْهَا بإلقاء وَلَدهَا فِي اليم وأعلمها أَنه سيرده إِلَيْهَا ويجعله نَبيا مُرْسلا فَهَذِهِ نبوة لَا شكّ فِيهَا وبضرورة الْعقل يدْرِي كل ذِي تَمْيِيز صَحِيح أَنَّهَا لَو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وَجل لَهَا لكَانَتْ بإلقائها وَلَدهَا فِي اليم برؤيا ترَاهَا أَو بِمَا يَقع فِي نَفسهَا أَو قَامَ فِي هاجستها فِي غَايَة الْجُنُون والمرار الهائج وَلَو فعل ذَلِك أَحَدنَا لَكَانَ فِي غَايَة الْفسق أَو فِي غَايَة الْجُنُون مُسْتَحقّا لمعاناة دماغه فِي البيمارستان لَا يشك فِي هَذَا أحد فصح يَقِينا أَن الْوَحْي الَّذِي ورد لَهَا فِي إِلْقَاء وَلَدهَا فِي اليم كالوحي الْوَارِد على إِبْرَاهِيم فِي الرُّؤْيَا فِي ذبح وَلَده فَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَو لم يكن نَبيا واثقا بِصِحَّة الْوَحْي والنبوة الْوَارِد عَلَيْهِ من ذبح وَلَده لكنه ذبح وَلَده لرؤيا رَآهَا أَو ظن وَقع فِي نَفسه لَكَانَ بِلَا شكّ فَاعل ذَلِك من غير الْأَنْبِيَاء فَاسِقًا فِي نِهَايَة الْفسق أَو مَجْنُونا فِي غَايَة الْجُنُون هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ أحد من النَّاس فَصحت نبوتهن بِيَقِين وَوجدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ وَقد ذكر من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي سُورَة كهيعص ذكر مَرْيَم فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ قَالَ عز وَجل {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح} وَهَذَا هُوَ عُمُوم لَهَا مَعَهم لَا يجوز تخصيصها من جُمْلَتهمْ وَلَيْسَ قَوْله عز وَجل وَأمه صديقَة بمانع من أَن تكون نبية فقد قَالَ تَعَالَى يُوسُف أَيهَا الصّديق وَهُوَ مَعَ ذَلِك نَبِي رَسُول وَهَذَا ظَاهر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيلْحق بِهن عَلَيْهِنَّ السَّلَام فِي ذَلِك امْرَأَة فِرْعَوْن بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كَثِيرُونَ وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام والكمال فِي الرِّجَال لَا يكون إِلَّا لبَعض الْمُرْسلين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن من دونهم نَاقص عَنْهُم بِلَا شكّ وَكَانَ تَخْصِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْيَم وَامْرَأَة فِرْعَوْن تَفْضِيلًا لَهما على سَائِر من أُوتيت النُّبُوَّة من النِّسَاء بِلَا شكّ إِذْ من نقص عَن منزلَة آخر وَلَو بدقيقة فَلم يكمل فصح بِهَذَا الْخَبَر أَن هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ كملتا كمالا لم يلحقهما فِيهِ امْرَأَة غَيرهَا أصلا وَإِن كن بنصوص الْقُرْآن نبيات وَقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} فالكامل فِي نَوعه هُوَ الَّذِي لَا يلْحقهُ أحد من أهل نَوعه فهم من الرِّجَال الرُّسُل الَّذين فَضلهمْ الله تَعَالَى على سَائِر الرُّسُل وَمِنْهُم نَبينَا وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 الصَّلَاة وَالسَّلَام بِلَا شكّ للنصوص الْوَارِدَة بذلك فِي فَضلهَا على غَيرهمَا وكمل من النِّسَاء من ذكر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْكَلَام فِي الرُّؤْيَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب صَالح تلميذ النظام إِلَى أَن الَّذِي يري أَحَدنَا فِي الرُّؤْيَا حق كَمَا هُوَ وَأَنه من رأى أَنه بالصين وَهُوَ بالأندلس فَإِن الله عز وَجل اخترعه فِي ذَلِك الْوَقْت بالصين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل فِي غَايَة الْفساد لِأَن العيان وَالْعقل يضْطَر إِلَى كذب هَذَا القَوْل وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حِينَئِذٍ هَذَا النَّائِم عندنَا وَهُوَ يرى نَفسه فِي ذَلِك الْوَقْت بالصين وَأما من طَرِيق الْعقل فَهُوَ معرفتنا بِمَا يرى الحالم من المحالات من كَونه مَقْطُوع الرَّأْس حَيا وَمَا أشبه ذَلِك وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا قصّ عَلَيْهِ رُؤْيا فَقَالَ لَا تخبر بتلعب الشَّيْطَان بك قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل الصَّحِيح فِي الرُّؤْيَا هُوَ أَنْوَاع فَمِنْهَا مَا يكون من قبل الشَّيْطَان وَهُوَ مَا كَانَ من الأضغاث والتخليط وَمِنْهَا مَا يكون من حَدِيث النَّفس وَهُوَ مَا يشْتَغل بِهِ الْمَرْء فِي الْيَقَظَة فيراه فِي النّوم من خوف عَدو أَو لِقَاء حبيب أَو خلاص من خوف أَو نَحْو ذَلِك وَمِنْهَا مَا يكون من غَلَبَة الطَّبْع كرؤية من غلب عَلَيْهِ الدَّم للأنوار والزهر والحمرة وَالسُّرُور ورؤية من غلب عَلَيْهِ الصَّفْرَاء للنيران ورؤية صَاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عَلَيْهِ السَّوْدَاء الكهوف وَالظُّلم وَمِنْهَا مَا يرِيه الله عز وَجل نفس الحالم إِذا صفت من أكدار الْجَسَد وتخلصت من الأفكار الْفَاسِدَة فيشرف الله تَعَالَى بِهِ على كثير من المغيبات الَّتِي لم تأت بعد وعَلى قدر تفاضل النَّفس فِي النَّقَاء والصفاء يكون تفاضل مَا يرَاهُ فِي الصدْق وَقد جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يبْق بعده من النُّبُوَّة إِلَّا الْمُبَشِّرَات وَهِي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الرجل أَو ترى لَهُ وَأَنَّهَا جُزْء من سِتَّة وَعشْرين جزأ من النُّبُوَّة إِلَى جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جزأ من النُّبُوَّة إِلَى جُزْء من سبعين جزأ من النُّبُوَّة وَهَذَا نَص جلي مَا ذكرنَا من تفاضلها فِي الصدْق والوضوح والصفاء من كل تَخْلِيط وَقد تخرج هَذِه النّسَب والأقسام على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ بذلك رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَمنهمْ من رُؤْيَاهُ جُزْء من سِتَّة وَعشْرين جُزْء من أَجزَاء نبوته وخصائصه وفضائله وَمِنْهُم من رُؤْيَاهُ جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وَمِنْهُم من رُؤْيَاهُ جُزْء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر وَالله أعلم وَيكون خَارِجا على مُقْتَضى أَلْفَاظ الحَدِيث بِلَا تَأْوِيل بتكلف وَأما رُؤْيا غير الْأَنْبِيَاء فقد تكذب وَقد تصدق إِلَّا أَنه لَا يقطع على صِحَة شَيْء مِنْهُ إِلَّا بعد ظُهُور صِحَّته حاشا رُؤْيا الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهَا كلهَا وَحي مَقْطُوع على صِحَّته كرؤيا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو رأى ذَلِك غير نبى فِي الرُّؤْيَا فأنفذه فِي الْيَقَظَة لَكَانَ فَاسِقًا عابثا أَو مَجْنُونا ذَاهِب التَّمْيِيز بِلَا شكّ وَقد تصدق رُؤْيا لكَافِر وَلَا تكون حِينَئِذٍ جزأ من النُّبُوَّة وَلَا مُبَشِّرَات وَلَكِن إنذارا لَهُ أَو لغيره ووعظا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي أَي الْخلق أفضل قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أفضل من الْمَلَائِكَة وَذَهَبت طَائِفَة تنتسب إِلَى الْإِسْلَام أَن الصَّالِحين غير النَّبِيين أفضل من الْمَلَائِكَة وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي وَأَنه يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من عِيسَى بن مَرْيَم وَرَأَيْت الباقلاني يَقُول جَائِز أَن يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حِين بعث إِلَى أَن مَاتَ وَرَأَيْت لأبي هَاشم الجبائى أَنه لَو طَال عمر إِنْسَان من الْمُسلمين فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة لأمكن أَن يوازي عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كذب لَعنه الله قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَوْلَا أَنه استحيا قَلِيلا مِمَّا لم يستحي من نَظِيره الباقلاني لقَالَ مَا يُوجِبهُ هَذَا القَوْل من أَنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 كَانَ يزِيد فضلا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْأَقْوَال كفر مُجَرّد لَا تردد فِيهِ وحاشا لله تَعَالَى من أَن يكون أحد عمر عمر الدَّهْر يلْحق فضل صَاحب فَكيف فضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو نَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَكيف أَن يكون أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا مَالا تقبله نفس مُسلم كَأَنَّهُمْ مَا سمعُوا قَول الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا لي أَصْحَابِي فَلَو كَانَ لأحدكم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه فِي سَبِيل الله مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكيف يلْحق أبدا من أَن تصدق وَهُوَ بِمثل جبل أحد ذَهَبا وَتصدق الصاحب بِنصْف مد من شعير كَانَ نصف مد الشّعير لَا يلْحقهُ فِي الْفضل جبل الذَّهَب فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أهل الْحق أَن الْمَلَائِكَة أفضل من كل خلق خلقه الله تَعَالَى ثمَّ بعدهمْ الرُّسُل من النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ بعدهمْ الْأَنْبِيَاء غير الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا رتبنا قبل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِنّ لَهُ من الْفضل مَا لسَائِر الصَّحَابَة بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا لي أَصْحَابِي وَأفضل الرُّسُل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما فضل الْمَلَائِكَة على الرُّسُل من غير الْمَلَائِكَة فلبراهين مِنْهَا قَول الله عز وَجل أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم أَنِّي ملك أَن اتبع إِلَّا مَا يوحي إِلَيّ} فَلَو كَانَ الرَّسُول أرفع من الْملك أَو مثله مَا أَمر الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول لَهُم هَذَا القَوْل الَّذِي إِنَّمَا قَالَه منحطا عَن الترفع بِأَن يظنّ أَنه عِنْده خَزَائِن الله أَو أَنه يعلم الْغَيْب أَو أَنه ملك منزل لنَفسِهِ المقدسة فِي مرتبته الَّتِي هِيَ دون هَذِه الْمَرَاتِب بِلَا شكّ إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَقُول هَذَا عَن مَرَاتِب هُوَ أرفع مِنْهَا وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل ذكر مُحَمَّدًا الَّذِي هُوَ أفضل الرُّسُل بعد الْمَلَائِكَة وَذكر جِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام وَكَانَ من التباين من الله عز وَجل بَينهمَا تبايناً بَعيدا وَهُوَ أَنه عز وَجل قَالَ {أَنه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فَهَذِهِ صفة جِبْرِيل عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ ذكر مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} ثمَّ زَاد تَعَالَى بَيَانا رَافعا للأشكال جملَة فَقَالَ {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} فَعظم الله تَعَالَى من شَأْن أكْرم الْأَنْبِيَاء وَالرسل بِأَن رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالَ {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى إِذْ يغشي السِّدْرَة مَا يغشي مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طغي لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} فأمتن الله تَعَالَى كَمَا ترى على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أرَاهُ جِبْرِيل مرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا يتفاضل النَّاس كَمَا قدمنَا بِوَجْهَيْنِ فَقَط أَحدهمَا الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد وَأعظم الِاخْتِصَاص الرسَالَة والتعظيم فقد حصل ذَلِك للْمَلَائكَة قَالَ تَعَالَى {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا} فهم كلهم رسل الله اختصهم تَعَالَى بِأَن ابتدأهم فِي الْجنَّة وحوالي عَرْشه فِي الْمَكَان الَّذِي وعد رسله وَمن اتبعهم بِأَن نِهَايَة كرامتهم مصيرهم إِلَيْهِ وَهُوَ مَوضِع خلق الْمَلَائِكَة ومحلهم بِلَا نِهَايَة مذ خلقُوا وَذكرهمْ عز وَجل فِي غير مَوضِع من كِتَابه فَأثْنى على جَمِيعهم ووصفهم بِأَنَّهُم لَا يفترون وَلَا يسأمون وَلَا يعصون الله فنفي عَنْهُم الزلل والفترة السَّاقَة والسهو وَهَذَا أَمر لم ينفه عز وَجل عَن الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم بل السَّهْو جَائِز عَلَيْهِم وبالضرورة نعلم من عصم من السَّهْو أفضل مِمَّن لم يعْصم مِنْهُ وَأَن من عصم من الْعمد كالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أفضل مِمَّن لم يعْصم مِمَّن سواهُم فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} قيل لَهُ لَيْسَ هَذَا مُعَارضا لقَوْله تَعَالَى جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا فَإِن كل آيَة فَإِنَّمَا لم تحمل على مقتضاها وَمُوجب لَفظهَا فَفِي هَذِه الْآيَة أَن بعض الْمَلَائِكَة رسل وَهَذَا حق لَا شكّ فِيهِ وَلَيْسَ إِخْبَارًا عَن سَائِرهمْ بِشَيْء لَا بِأَنَّهُم رسل وَلَا بِأَنَّهُم لَيْسُوا رسلًا فَلَا يحل لأحد أَن يزِيد فِي الْآيَة مَا لَيْسَ فِيهَا ثمَّ فِي الْآيَة الْأُخْرَى زِيَادَة على مَا فِي هَذِه الْآيَة وَالْأَخْبَار بِأَن جَمِيع الْمَلَائِكَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 رسل فَفِي تِلْكَ الْآيَة بعض مَا فِي هَذِه الْآيَة وَفِي هَذِه الْآيَة كل مَا فِي تِلْكَ وَزِيَادَة فَفرض قبُول كل ذَلِك كَمَا أَن الله عز وَجل إِذْ ذكر فِي كهيعص من ذكر من النَّبِيين فَقَالَ {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين} وَقد قَالَ تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} أفترى الرُّسُل الَّذين لم يقصصهم الله تَعَالَى عَلَيْهِ جملَة أَو فِي هَذِه السُّورَة خَاصَّة لم ينعم عَلَيْهِم معَاذ الله من هَذَا فَمَا يَقُوله مُسلم وَالْوَجْه الثَّانِي من أوجه الْفضل هُوَ تفاضل العاملين بتفاضل مَنَازِلهمْ فِي أَعمال الطَّاعَة والعصمة من الْمعاصِي والدنيات وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن الْمَلَائِكَة لَا يفترون من الطَّاعَة وَلَا يسأمون مِنْهَا وَلَا يعصون الْبَتَّةَ فِي شَيْء أمروا بِهِ فقد صَحَّ أَن الله عز وَجل عصمهم من الطبائع النَّاقِصَة الداعية إِلَى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الْجِمَاع وَالنَّوْم فصح يَقِينا أَنهم أفضل من الرُّسُل الَّذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج بعض الْمُخَالفين فِي هَذَا بِأَن قَالَ قَالَ الله عز وَجل {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} قَالُوا فَدخل فِي الْعَالمين الْمَلَائِكَة وَغَيرهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة قد صَحَّ الْبُرْهَان بِأَنَّهَا لَيست على عمومها لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يذكر فِيهَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خلاف فِي أَنه أفضل النَّاس قَالَ الله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} فَإِن قَالَ أَن آل إِبْرَاهِيم هم آل مُحَمَّد قيل لَهُ فَنحْن إِذا أفضل من جَمِيع الْأَنْبِيَاء حاشا آل عمرَان وآدَم ونوحا فَقَط وَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم فصح يَقِينا أَن هَذِه الْآيَة لَيست على عمومها فَإِذا لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ بهَا عالمي زمانهم من النَّاس لَا من الرُّسُل وَلَا من النَّبِيين نعم وَلَا من عالمي غير زمانهم لأننا بِلَا شكّ أفضل من آل عمرَان فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصَحَّ أَنَّهَا مثل قَوْله تَعَالَى {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَلَا شكّ فِي أَنهم لم يفضلوا على الرُّسُل وَلَا على النَّبِيين وَلَا على أمتنَا وَلَا على الصَّالِحين من غَيرهم فَكيف على الْمَلَائِكَة وَنحن لَا ننكر إِزَالَة النَّص عَن ظَاهره وعمومه ببرهان من نَص آخر أَو إِجْمَاع مُتَيَقن أَو ضَرُورَة حس وَإِنَّمَا ننكر ونمنع من إِزَالَة النَّص عَن ظَاهره وعمومه بِالدَّعْوَى فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الَّذِي لَا يحل فِي دين وَلَا يَصح فِي إِمْكَان الْعقل وَبِاللَّهِ تعلى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكر بَعضهم قَول الله عز وَجل {الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مِمَّا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أصلا لِأَن هَذِه الصّفة تعم كل مُؤمن صَالح من الْإِنْس وَمن الْجِنّ نعم وَجَمِيع الْمَلَائِكَة عُمُوما مستويا فَإِنَّمَا هَذِه لآيَة تَفْضِيل الْمَلَائِكَة وَالصَّالِحِينَ من الْإِنْس وَالْجِنّ على سَائِر الْبَريَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتَجُّوا بِأَمْر الله عز وَجل الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم على جَمِيعهم السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أعظم حجَّة عَلَيْهِم لِأَن السُّجُود الْمَأْمُور بِهِ لَا يَخْلُو من أَن يكون سُجُود عبَادَة وَهَذَا كفر مِمَّن قَالَه وَلَا يجوز أَن يكون الله عز وَجل يَأْمر أحدا من خلقه بِعبَادة غَيره وَإِمَّا ان يكون سُجُود تَحِيَّة وكرامة وَهُوَ كَذَلِك بِلَا خلاف من أحد من النَّاس فَإذْ هُوَ كَذَلِك فَلَا دَلِيل أدل على فضل الْمَلَائِكَة على آدم من أَن يكون الله تَعَالَى بلغ الْغَايَة فِي إعظامه وكرامته بَان تحييه الْمَلَائِكَة لأَنهم لَو كَانُوا دونه لم يكن لَهُ كَرَامَة وَلَا مزية فِي تحيتهم لَهُ وَقد أخبر الله عز وَجل عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ {وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش وخروا لَهُ سجدا وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل قد جعلهَا رَبِّي حَقًا} وَكَانَت رُؤْيَاهُ هِيَ الَّتِي ذكر الله عز وَجل عَنهُ إِذْ يَقُول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 أَيْضا بِأَن الْمَلَائِكَة لم يعلمُوا أَسمَاء الْأَشْيَاء حَتَّى أنبأهم بهَا آدم على جَمِيعهم السَّلَام بتعليم الله عز وَجل آدم إِيَّاهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله عز وَجل يعلم من هُوَ أنقص فضلا وعلما فِي الْجُمْلَة أَشْيَاء لَا يعلمهَا من هُوَ أفضل مِنْهُ وَأعلم مِنْهُ بِمَا عدا تِلْكَ الْأَشْيَاء فَعلم الْمَلَائِكَة مَالا يُعلمهُ آدم وَعلم آدم أَسمَاء الْأَشْيَاء ثمَّ أمره بِأَن يعلمهَا الْمَلَائِكَة كَمَا خص الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام بِعلم لم يُعلمهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى اتبعهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ليتعلم مِنْهُ وَعلم أَيْضا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام علوما لم يعلمهَا الْخضر وَهَكَذَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْخضر قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنِّي على علم من علم الله لَا تعلمه أَنْت وَأَنت على علم من علم الله لَا أعلمهُ أَنا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ فِي هَذَا أَن الْخضر أفضل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قَالَ بعض الْجُهَّال أَن الله تَعَالَى جعل الْمَلَائِكَة خدام أهل الْجنَّة يأتونهم بالتحف من عِنْد رَبهم عز وَجل قَالَ تَعَالَى {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون} وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما خدمَة الْمَلَائِكَة لأهل الْجنَّة وإقبالهم إِلَيْهِم بالتحف فشيء مَا علمناه قطّ وَلَا سمعناه إِلَّا من الْقصاص بالخرافات والتكاذيب وَإِنَّمَا الْحق من ذَلِك مَا ذكره الله عز وَجل فِي النَّص الَّذِي أوردنا وَهُوَ وَللَّه الْحَمد من أقوى الْحجَج فِي فضل الْمَلَائِكَة على من سواهُم وَيلْزم هَذَا المحتج اذا كَانَ إقبال الْمَلَائِكَة بالبشارات إِلَى أهل الْجنَّة دَلِيلا على فضل مِنْهُم وَهَذَا كفر مُجَرّد وَلَكِن حَقِيقَة هِيَ أَن الْفضل إِذا كَانَ للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام على النَّاس بِأَنَّهُم رسل الله اليهم ووسائط بَين رَبهم تَعَالَى وَبينهمْ فالفضل وَاجِب للْمَلَائكَة على الْأَنْبِيَاء وَالرسل لكَوْنهم رسل الله تَعَالَى إِلَيْهِم ووسائط بَينهم وَبَين رَبهم تَعَالَى وَأما تفضل الله تَعَالَى على أهل الْجنَّة بِالْأَكْلِ وَالشرب وَالْجِمَاع واللباس والآلات والقصور فَإِنَّمَا فَضلهمْ الله عز وَجل من ذَلِك بِمَا يُوَافق طباعهم وَقد نزه الله سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَة عَن هَذِه الطبائع المستدعية لهَذِهِ اللَّذَّات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لَا تلتذ بِشَيْء من ذَلِك إِلَّا بِذكر الله عز وَجل وعبادته وطاعته فِي تَنْفِيذ أوامره تَعَالَى فَلَا منزلَة أَعلَى من هَذِه وَعجل لَهُم سُكْنى الْمحل الرفيع الَّذِي جعل تَعَالَى غَايَة إكرامنا الْوُصُول إِلَيْهِ بعد لِقَاء الْأَمريْنِ فِي التَّعَب فِي عمَارَة هَذِه الدُّنْيَا النكدة وَفِي كلف الْأَعْمَال فَفِي ذَلِك الْمَكَان خلق الله عز وَجل الْمَلَائِكَة مُنْذُ ابتدائهم وَفِيه خلدهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بعض السخفاء أَن الْمَلَائِكَة بِمَنْزِلَة الْهَوَاء والرياح قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب وقحة وجنون لِأَن الْمَلَائِكَة بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع جَمِيع من يقر بِالْمَلَائِكَةِ من أهل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وَلَيْسَ كَذَلِك الْهَوَاء والرياح لَكِنَّهَا لَا تعقل وَلَا هِيَ متكلفة متعبدة بل هِيَ مسخرة مصرفة لَا اخْتِيَار لَهَا قَالَ تَعَالَى {والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام} وَذكر تَعَالَى الْمَلَائِكَة فَقَالَ {بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} فقرن تَعَالَى نزُول الْمَلَائِكَة بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَقرن تَعَالَى إِتْيَانه بإتيان الْمَلَائِكَة فَقَالَ عز وَجل {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَاعْلَم أَن إِعْرَاب الْمَلَائِكَة هَاهُنَا بِالرَّفْع عطفا على الله عز وَجل لَا على الْغَمَام وَنَصّ تَعَالَى على أَن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا أكل من الشَّجَرَة ليَكُون ملكا أَو ليخلد كَمَا نَص تَعَالَى علينا إِذْ يَقُول عز وَجل {مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فبيقين نَدْرِي أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لَوْلَا يقينه بِأَن الْمَلَائِكَة أفضل مِنْهُ وطمعه بِأَن يصير ملكا لما قبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 من أبليس مَا غره بِهِ من أكل الشَّجَرَة الَّتِي نها الله عز وَجل عَنْهَا وَلَو علم آدم أَن الْملك مثله أَو دونه لما حمل نَفسه على مُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى لينحط عَن مَنْزِلَته الرفيعة إِلَى الدون هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ ذُو عقل أصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله عز وَجل {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون} فَقَوله عز وَجل بعد ذكر الْمَسِيح وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون بُلُوغ الْغَايَة فِي علو درجتهم على الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن بنية الْكَلَام ورتبته إِنَّمَا هِيَ إِذا أَرَادَ الْقَائِل نفي صفة مَا عَن متواضع عَنْهَا أَن يبْدَأ بالأدني ثمَّ بالأعلى وَإِذا أَرَادَ نفي صفة مَا عَن مترفع عَنْهَا أَن يبْدَأ بالأعلى ثمَّ بالأدني فَنَقُول فِي الْقسم الأول مَا يطْمع فِي الْجُلُوس بَين يَدي الْخَلِيفَة خازنه وَلَا وزيره وَلَا أَخُوهُ ونقول فِي الْقسم الثَّانِي مَا ينحط إِلَى الْأكل فِي السُّوق وَال وَلَا ذُو مرتبَة وَلَا متصاون من التُّجَّار أَو الصناع لَا يجوز الْبَتَّةَ غير هَذَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الْمَلَائِكَة من نور وَخلق الْإِنْسَان من طين وَخلق الْجِنّ من نَار قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يجهل فضل النُّور على الطين وعَلى النَّار أحد إِلَّا من لم يَجْعَل الله لَهُ نورا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نوا فَمَا لَهُ من نور وَقد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا ربه فِي أَن يَجْعَل فِي قلبه نورا فالملائكة من جَوْهَر دَعَا أفضل الْبشر ربه فِي أَن يَجْعَل فِي قلبه مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر} إِلَى قَوْله {وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} فَإِنَّمَا فضل الله تَعَالَى بِنَصّ كَلَامه عز وَجل بني آدم على كثير مِمَّن خلق لَا على كل من خلق وَبلا شكّ أَن بنى آدم يفضلون على الْجِنّ وعَلى جَمِيع الْحَيَوَان الصَّامِت وعَلى مَا لَيْسَ حَيَوَانا فَلم يبْق خلق يَسْتَثْنِي من تَفْضِيل الله تَعَالَى بني آدم عَلَيْهِ إِلَّا الْمَلَائِكَة فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما فضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل رَسُول قبله فالثابت عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فضلت على الْأَنْبِيَاء بست وَرُوِيَ بِخمْس وَرُوِيَ بِأَرْبَع وَرُوِيَ بِثَلَاث رَوَاهُ جَابر بن عبد الله وَأنس بن مَالك وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَأَبُو هُرَيْرَة وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر الْأَنْبِيَاء اتبَاعا وَأَنه ذُو الشَّفَاعَة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة فِيهَا النَّبِيُّونَ فَمن دونهم أماتنا الله على مِلَّته وَلَا خَالف بِنَا عَنهُ وَهُوَ أَيْضا عَلَيْهِ السَّلَام خَلِيل الله وكليمه الْكَلَام فِي الْفقر والغنى قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف قوم فِي أَي الْأَمريْنِ أفضل الْفقر أم الْغنى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال فَاسد لِأَن تفاضل الْعَمَل وَالْجَزَاء فِي الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ لِلْعَامِلِ لَا لحالة مَحْمُولَة فِيهِ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بتفضيل الله عز وَجل حَالا على حَال وَلَيْسَ هَا هُنَا نَص فِي فضل إِحْدَى هَاتين الْحَالَتَيْنِ على الْأُخْرَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَن يُقَال أَيّمَا أفضل الْغَنِيّ أم الْفَقِير وَالْجَوَاب هَا هُنَا هُوَ مَا قَالَه الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَإِن كَانَ الْغَنِيّ أفضل عملا من الْفَقِير فالغنى أفضل وَإِن كَانَ الْفَقِير أفضل عملا من الْغنى فالفقير أفضل وَإِن كَانَ عملهما مُتَسَاوِيا فهما سَوَاء قَالَ عز وَجل {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقد استعاذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فتْنَة الْفقر وفتنة الْغنى وَجعل الله عز وَجل الشُّكْر بِإِزَاءِ الْغنى وَالصَّبْر بِإِزَاءِ الْفقر فَمن اتَّقى الله عز وَجل فَهُوَ الْفَاضِل غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا وَقد اعْترض بَعضهم هَا هُنَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِد أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِكَذَا وَكَذَا خَرِيفًا وَنزع الْآخرُونَ بقول الله عز وَجل {ووجدك ضَالًّا فهدي ووجدك عائلا فأغنى} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 قَالَ أَبُو مُحَمَّد والغنى نعْمَة إِذا قَامَ بهَا حاملها بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهَا وَأما فُقَرَاء الْمُهَاجِرين فهم كَانُوا كثر وَكَانَ الْغَنِيّ فيهم قَلِيلا وَالْأَمر كُله مِنْهُم وَفِي غَيرهم رَاجع إِلَى الْعَمَل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع على أَنه تَعَالَى لَا يَجْزِي بِالْجنَّةِ على فقر لَيْسَ مَعَه عمل خير وَلَا على غنى لَيْسَ مَعَه عمل خير وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الِاسْم والمسمى قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الِاسْم هُوَ المسمي وَقَالَ آخَرُونَ الِاسْم غير الْمُسَمّى وَاحْتج من قَالَ أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بقول الله تَعَالَى {تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَيقْرَأ أَيْضا ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام قَالَ لَا يجوز أَن يُقَال تبَارك غير الله فَلَو كَانَ الِاسْم غير الْمُسَمّى مَا جَازَ أَن يُقَال تبَارك اسْم رَبك وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَقَالُوا وَمن الْمُمْتَنع أَن يَأْمر الله عز وَجل بِأَن يسبح غَيره وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} وَقَالُوا الِاسْم مستق من السمو وأنكروا على من قَالَ أَنه مستق من الوسم وَهُوَ الْعَلامَة وَذكروا قَول لبيد ... إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر ... وَقَالُوا قَالَ سِيبَوَيْهٍ الْأَفْعَال أَمْثِلَة احدث من لفظ أَحْدَاث الْأَسْمَاء قَالُوا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسلمين هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ قد تقصيناه لَهُم وَلَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ إِمَّا قَول الله عز وَجل تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال والاكرام وَذُو الْجلَال فَحق وَمعنى تبَارك تفَاعل من الْبركَة وَالْبركَة وَاجِبَة لاسم الله عز وَجل الَّذِي هُوَ كلمة مؤلفة من حُرُوف الهجاء وَنحن نتبرك بِالذكر لَهُ وبتعظيمه ونجله ونكرمه فَلهُ التبارك وَله الإجلال منا وَمن الله تَعَالَى وَله الْإِكْرَام من الله تَعَالَى وَمنا حَيْثُمَا كَانَ ق رطاس أَو فِي شَيْء منقوش فِيهِ أَو مَذْكُور بالألسنة وَمن لم يجل اسْم الله عز وَجل كَذَلِك وَلَا أكْرمه فَهُوَ كَافِر بِلَا شكّ فالآية على ظَاهرهَا دون تَأْوِيل فَبَطل تعلقهم بهَا جملَة وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وكل شَيْء نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَنه تبَارك فَذَلِك حق وَلَو نَص تَعَالَى بذلك على أَي شَيْء كَانَ من خلقه كَانَ ذَلِك وَاجِبا لذَلِك الشَّيْء وَأما قَوْله تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَهُوَ على ظَاهره دون تَأْوِيل لِأَن التَّسْبِيح فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن وَبهَا خاطبنا الله عز وَجل هُوَ تَنْزِيه الشَّيْء عَن السوء وَبلا شكّ أَن الله تَعَالَى أمرنَا أَن ننزه اسْمه الَّذِي هُوَ كلمة مَجْمُوعَة من حُرُوف الهجاء عَن كل سوء حَيْثُ كَانَ من كتاب أَو منطوقا بِهِ وَوجه آخر وَهُوَ أَن معني قَوْله تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} وَمعنى قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} معنى وَاحِد وَهُوَ أَن يسبح الله تَعَالَى باسمه وَلَا سَبِيل إِلَى تسبيحه تَعَالَى وَلَا إِلَى دُعَائِهِ وَلَا إِلَى ذكره إِلَّا بتوسط اسْمه فكلا الْوَجْهَيْنِ صَحِيح حق وتسبيح الله تَعَالَى وتسبيح اسْمه كل ذَلِك وَاجِب بِالنَّصِّ وَلَا فرق بَين قَوْله تَعَالَى {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} وَبَين قَوْله {وَسبح بِحَمْد رَبك حِين تقوم وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار النُّجُوم} وَالْحَمْد بِلَا شكّ هُوَ غير الله وَهُوَ تَعَالَى نُسَبِّح بِحَمْدِهِ كَمَا نُسَبِّح باسمه وَلَا فرق فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَوْله تَعَالَى {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} فَقَوْل الله عز وَجل حق على ظَاهره ولهذه الْآيَة وَجْهَان كِلَاهُمَا صَحِيح أَحدهمَا أَن معنى قَوْله عز وَجل {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء} برهَان هَذَا قَوْله تَعَالَى إِثْر ذَلِك مُتَّصِلا بهَا سميتموها أَنْتُم وآباؤكم فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى لم يعن بالأسماء هاهناذوات المعبودين لِأَن العابدين لَهَا لم يحدثوا قطّ ذَوَات المعبودين بل الله تَعَالَى توَحد بإحداثها هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَالْوَجْه الثَّانِي أَن أُولَئِكَ الْكفَّار إِنَّمَا كَانُوا يعْبدُونَ أوثانا من حِجَارَة اوبعض الْمَعَادِن أَو من خشب وبيقين نَدْرِي انهم قبل أَن يسموا تِلْكَ الْجمل من الْحِجَارَة والمعادن وَمن الْخشب باسم اللات والعزي وَمَنَاة هُبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل قد كَانَت ذواتها بِلَا شكّ موجودات قَائِمَة وهم لَا يعبدونها وَلَا تسْتَحقّ عِنْدهم عبَادَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 فَلَمَّا أوقعوا عَلَيْهِ هَذِه الْأَسْمَاء عبدوها حِينَئِذٍ فصح يَقِينا أَنهم لم يقصدوا بِالْعبَادَة إِلَّا الْأَسْمَاء كَمَا قَالَ الله تَعَالَى لَا الذوات المسميات فَعَادَت الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم وبرهانا على الِاسْم غير الْمُسَمّى بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم أَن الِاسْم مستق من السمو وَقَول بعض من خالفهم أَنه مُشْتَقّ من الوسم فَقَوْلَانِ فاسدان كِلَاهُمَا بَاطِل افتعله أهل النَّحْو لم يَصح قطّ عَن الْعَرَب شَيْئا مِنْهُمَا وَمَا اشتق لفظ الِاسْم قطّ من شَيْء بل هُوَ اسْم مَوْضُوع مثل حجر وجبل وخشبة وَسَائِر الْأَسْمَاء لَا اشتقاق لَهَا وَأول مَا تبطل بِهِ دَعوَاهُم هَذِه الْفَاسِدَة أَن يُقَال لَهُم قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة دَعْوَاهُ فَلَيْسَ صَادِقا فِي قَوْله فهاتوا برهانكم على أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو أَو من الِاسْم وَإِلَّا فَهِيَ كذبة كذبتموها على الْعَرَب وافتريتموها عَلَيْهِم أَو على الله تَعَالَى الْوَاضِع للغات كلهَا وَقَول عَلَيْهِ تَعَالَى أَو على الْعَرَب بِغَيْر علم وَإِلَّا فَمن أَيْن لَكِن أَن الْعَرَب اجْتَمعُوا فَقَالُوا نشتق لَفْظَة اسْم من السمو أَو من الوسم وَالْكذب لَا يستحله مُسلم وَلَا يستسهله فَاضل وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى برهَان أصلا بذلك وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الِاسْم مشتقا من السمو كَمَا تَزْعُمُونَ فتسمية الْعذرَة وَالْكَلب والجيفة والقذر والشرك وَالْخِنْزِير والخساسة رفْعَة لَهَا وسمو لهَذِهِ المسميات وتباً لكل قَول أدّى إِلَى هَذَا الهوس الْبَارِد وَأَيْضًا فهبك أَنه قد سلم لَهُم قَوْلهم أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو أَي حجَّة على أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِم لِأَن ذَات المسمي لَيست مُشْتَقَّة أصلا وَلَا يجوز عَلَيْهَا الِاشْتِقَاق من السمو وَلَا من غَيره فصح بِلَا شكّ إِن مَا كَانَ مشتقا فَهُوَ غير مَا لَيْسَ مشتقا وَالِاسْم بإقرارهم مُشْتَقّ والذات الْمُسَمَّاة غير مُشْتَقَّة فالاسم غير الذَّات الْمُسَمَّاة وَهَذَا يليح لكل من نصح نَفسه أَن المحتج بِمثل هَذَا السَّفه عيار مستهزئ بِالنَّاسِ متلاعب بِكَلَامِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول يُؤَدِّي من اتبعهُ وطرده إِلَى الْكفْر الْمُجَرّد لأَنهم قطعُوا أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَقَطعُوا أَن الِاسْم هُوَ الله نَفسه فعلى قَوْلهم المهلك الْخَبيث أَن الله يشتق وَأَن ذَاته مُشْتَقَّة وَهَذَا مَا لَا نَدْرِي كَافِرًا بلغه وَالْحَمْد لله على مَا من بِهِ من الْهدى وَأَيْضًا فَإِن الله تعالي يَقُول {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين} إِلَى قَوْله تَعَالَى {قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَا يَخْلُو أَن يكون الله عز وَجل علم آدم الْأَسْمَاء كلهَا كَمَا قَالَ عز وَجل إِمَّا بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِمَّا بلغَة أُخْرَى أَو بِكُل لُغَة فَإِن كَانَ عز وَجل علمه الْأَسْمَاء بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِن لَفْظَة اسْم من جملَة مَا علمه لقَوْله تعالي الْأَسْمَاء كلهَا ولأمر تَعَالَى آدم بِأَن يَقُول للْمَلَائكَة أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ فَلَا يجوز أَن يخص من هَذَا الْعُمُوم شَيْء أصلا بل هُوَ لفظ موقف عَلَيْهِ كَسَائِر الْأَسْمَاء وَلَا فرق وَهُوَ من جملَة مَا علمه الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَن يدعوا أَن الله تَعَالَى اشتقه فالقوم كثيرا مَا يستسهلون الْكَذِب على الله تَعَالَى والإخبار عَنهُ بِمَا لَا علم لَهُم بِهِ فصح يَقِينا أَن لَفْظَة الِاسْم لَا اشتقاق لَهَا وَإِنَّمَا هِيَ اسْم مُبْتَدأ كَسَائِر الْأَسْمَاء والأنواع والأجناس وَأَن كَانَ الله تَعَالَى علم آدم الْأَسْمَاء كلهَا بِغَيْر الْعَرَبيَّة فَإِن اللُّغَة الغربية مَوْضُوعَة للتَّرْجَمَة عَن تِلْكَ اللُّغَة بدل كل اسْم من تِلْكَ اللُّغَة اسْم من الْعَرَبيَّة مَوْضُوع للعبارة عَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ وَإِذا كَانَ هَذَا فَلَا مدْخل للاشتقاق فِي شَيْء من الْأَسْمَاء أصلا لَا لَفْظَة اسْم وَلَا غَيرهَا وَإِن كَانَ تَعَالَى علمه الْأَسْمَاء بِالْعَرَبِيَّةِ وبغيرها من اللُّغَات الْعَرَبيَّة فلفظة اسْم من جملَة مَا علمه وَبَطل أَن يكون مشتقا أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَبَطل قَوْلهم فِي اشتقاق الِاسْم وَعَاد حجَّة عَلَيْهِم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما بَيت لبيد فَإِنَّهُ يخرج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن} ولبيد رَحمَه الله مُسلم صَحِيح الصُّحْبَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْنَاهُ ثمَّ اسْم الله عَلَيْكُمَا حَافظ لَكمَا وَالْوَجْه الثَّانِي أَنه أَرَادَ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّة ولبيد لَا يقدر هُوَ وَلَا غَيره على إِيقَاع التَّحِيَّة عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا يقدر لبيد وَغَيره على إِيقَاع اسْم التَّحِيَّة وَالدُّعَاء بهَا فَقَط فَأَي الْأَمريْنِ كَانَ فاسم السَّلَام فِي بَيت لبيد هُوَ غير معنى السَّلَام فالاسم فِي ذَلِك الْبَيْت غير الْمُسَمّى وَلَا بُد ثمَّ لَو صَحَّ مَا يَدعُونَهُ على لبيد وَلَو صَحَّ لَكَانَ قَول عَائِشَة رَحمهَا الله وَرَضي الله عَنْهَا إِنَّمَا أَهجر اسْمك بَيَانا أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَأَن اسْمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 عَلَيْهِ السَّلَام غَيره لِأَنَّهَا أخْبرت أَنَّهَا لَا تهجره وَإِنَّمَا تهجر اسْمه رضوَان الله وَهِي لَيست الفصاحة فِي دون لبيد وَهِي أولى بَان تكون حجَّة من لبيد فَكيف وَقَول لبيد حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد قَالَ رؤبة باسم الَّذِي فِي كل صور سمر ورؤية لَيْسَ دون لبيد فِي الفصاحة وَذَات الْبَارِي تَعَالَى لَيست فِي كل صُورَة وَإِنَّمَا فِي الصُّورَة اسْم الله تَعَالَى فَلَا شكّ أَن الَّذِي فِي السُّورَة غير الَّذِي لَيْسَ فِيهَا وَقَالَ أَبُو ساسان حُصَيْن بن الْمُنْذر بن الْحَارِث بن وَعلة الرقاشِي لِابْنِهِ غياظ ... وَسميت غياظا وَلست بغايظ عدوا وَلَكِن الصّديق تغيظ ... فَصرحَ بِأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى تَصْرِيحًا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل بِخِلَاف مَا ادعوهُ على لبيد وَأما قَول سِيبَوَيْهٍ أَن الْأَفْعَال أَمْثِلَة أحدث من لفظا إِحْدَاث الْأَسْمَاء فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ فبيقين نَدْرِي أَنه أَرَادَ إِحْدَاث أَصْحَاب الْأَسْمَاء برهَان ذَلِك قَوْله فِي غير مَا وضع من كِتَابه أَمْثِلَة الْأَسْمَاء فِي الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه أَن السداسى والسباعي من الْأَسْمَاء مزيدان وَلَا بُد وَأَن الثلاثي من الْأَسْمَاء أُصَلِّي وَلَا بُد وَإِن الرباعي والخماسي من الْأَسْمَاء يكونَانِ أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين وَأَن الثنائى من الْأَسْمَاء مَنْقُوص مثل يَد وَدم وَلَو تتبعنا على أَن الْأَسْمَاء هِيَ الْأَبْنِيَة المسموعة الْمَوْضُوعَة ليعرف بهَا المسميات لبلغ أَزِيد من ثلثمِائة مَوضِع أَفلا يستحي من يدْرِي هَذَا من كَلَام سِيبَوَيْهٍ اطلاقا لعلمه بِأَن مُرَاده لَا يخفى على أحد قَرَأَ من كِتَابه ورقتين ونعوذ بِاللَّه من قلَّة الْحيَاء وَأول سطر فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ بعد الْبَسْمَلَة هَذَا بَاب علم مَا الْكمّ من الْعَرَبيَّة فالكلم اسْم وَفعل وحرف جَاءَ لِمَعْنى لَيْسَ باسم وَلَا فعل فالاسم رجل وَفرس فَهَذَا بَيَان جلي من سِيبَوَيْهٍ وَمن كل من تكلم فِي النَّحْو قبله وَبعده على أَن الْأَسْمَاء هِيَ فِي بعض الْكَلَام وان الِاسْم هُوَ كلمة من الْكَلم وَلَا خلاف بَين أحد لَهُ حس سليم فِي أَن المسمي لَيْسَ كلمة ثمَّ قَالَ بعد أسطر يسيرَة وَالرَّفْع والجر وَالنّصب والجزم بحروف الْإِعْرَاب وحروف الْإِعْرَاب الْأَسْمَاء المتمكنة وَالْأَفْعَال المضارعة لأسماء الفاعلين وَهَذَا مِنْهُ بَيَان لَا إِشْكَال فِيهِ أَن الْأَسْمَاء غير الفاعلين وَهِي الَّتِي تضارعها الْأَفْعَال الَّتِي فِي أوائلها الزَّوَائِد الْأَرْبَع وَمَا قَالَ قطّ من يَرْمِي بِالْحِجَارَةِ أَن الْأَفْعَال تضارع المسمين ثمَّ قَالَ وَالنّصب فِي الْأَسْمَاء رَأَيْت زيدا والجر مَرَرْت بزيد وَالرَّفْع هَذَا زيد وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء جزم لتمكنها وإلحاق التَّنْوِين وَهَذَا كُله بَيَان أَن الْأَسْمَاء هِيَ الْكَلِمَات الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة لَا المسمون بهَا وَلَو تتبع هَذَا فِي أَبْوَاب الْجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وَغَيرهَا لكثر جدا وَكَاد يفوت التَّحْصِيل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَسقط كل مَا شغب بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى وكل قَول سقط احتجاج أَهله وعري عَن برهَان فَهُوَ بَاطِل ثمَّ نَظرنَا فِيمَن احْتج بِهِ الْقَائِلُونَ أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى فوجدناهم يحتجون بقول الله تَعَالَى {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} قَالُوا وَالله عز وَجل وَاحِد والأسماء كَثِيرَة وَقد تَعَالَى الله عَن أَن يكون اثْنَيْنِ أَو أَكثر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد من أحصاها دخل الْجنَّة قَالُوا وَمن قَالَ أَن خالقه أَو معبوده تِسْعَة وَتسْعُونَ فَهُوَ شَرّ من النَّصَارَى الَّذين لم يَجْعَلُوهُ إِلَّا ثَلَاثَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ لَازم وَرَأَيْت لمُحَمد بن الطّيب الباقلاني ولمحمد بن الْحسن بن فورك الْأَصْبَهَانِيّ أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا اسْم وَاحِد فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مُعَارضَة وَتَكْذيب لله عز وَجل وللقرآن ولرسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِجَمِيعِ العاملين ثمَّ عطفا فَقَالَا معنى قَول الله عز وَجل وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما إِنَّمَا هُوَ التَّسْمِيَة لَا الْأَسْمَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَانَ هَذَا التَّقْسِيم أَدخل فِي الضلال من ذَلِك الْإِجْمَال وَيُقَال لَهُم فعلى قَوْلكُم هَذَا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن بقول لله التسميات الْحسنى فَقَالَ الْأَسْمَاء الْحسنى وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين تَسْمِيَة فَقَالَ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما عَن غلط وَخطأ قَالَ الله تَعَالَى ذَلِك وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم عَن عمد ليضل بذلك أهل الاسلام أم عَن جهل باللغة الَّتِي تنبهتما لَهَا أَنْتُمَا ولابد من أحد هَذِه الْوُجُوه ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا وَكلهَا كفر مُجَرّد وَلَا بُد لَهُم من أَحدهَا أَو ترك مَا قَالُوهُ من الْكَذِب على الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا ودعواهم فِي ذَلِك ظَاهر الْكَذِب بِلَا دَلِيل وَلَا يُرْضِي بِهَذَا لنَفسِهِ عَاقل الِاسْم على الْمُسَمّى فَهِيَ شىء ثَالِث غير الِاسْم وَغير الْمُسَمّى فذات الْخَالِق تَعَالَى هِيَ الله الْمُسَمّى وَالتَّسْمِيَة هِيَ تحريكنا عضل الصَّدْر وَاللِّسَان عِنْد نطقنا بِهَذِهِ الْحُرُوف وَهِي غير الْحُرُوف لِأَن الْحُرُوف هِيَ الْهَوَاء المندفع بِالتَّحْرِيكِ فَهُوَ المحرك بِفَتْح الرَّاء وَالْإِنْسَان هُوَ المحرك بِكَسْر الرَّاء وَالْحَرَكَة هِيَ فعل المحرك فِي دفع المحرك وَهَذَا أَمر مَعْلُوم بالحس مشَاهد بِالضَّرُورَةِ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي جَمِيع اللُّغَات وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} وَهَذَا نَص لَا يحْتَمل تَأْوِيلا فِي أَن الِاسْم هُوَ الْيَاء والحاء وَالْيَاء وَالْألف وَلَو كَانَ الِاسْم هُوَ المسمي لما عقل أحد معنى قَوْله تَعَالَى لم تجْعَل لَهُ من قبل سميا وَلَا فهم ولكان فَارغًا حاشا لله من هَذَا وَلَا خلاف فِي أَن مَعْنَاهُ لم يعلق هَذَا الِاسْم على أحد قبله وَذكروا أَيْضا قَول الله عز وَجل عَن نَفسه هَل تعلم لَهُ سميا وَهَذَا نَص جلي على أَن أَسمَاء الله تَعَالَى الَّتِي اخْتصَّ بهَا لَا تقع على غَيره وَلَو كَانَ مَا يَدعُونَهُ لما عقل هَذَا اللَّفْظ أحد أَيْضا حاشا لله من هَذَا وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى مبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد وَهَذَا نَص على أَن الِاسْم هُوَ الْألف والحاء وَالْمِيم وَالدَّال إِذا اجْتمعت وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله عز وَجل وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ نبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين إِلَى قَوْله قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أنبأهم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ ألم أقل لكم الْآيَة وَهَذَا نَص جلي على أَن الْأَسْمَاء كلهَا غير المسميات لِأَن المسميات كَانَت أعيانا قَائِمَة وَذَوَات ثابته ترَاهَا الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا جهلت الْأَسْمَاء فَقَط الَّتِي علمهَا الله آدم وَعلمهَا آدم الْمَلَائِكَة وَذكروا قَول الله تَعَالَى قل ادعوا الله وَادعوا الرَّحْمَن أَيَّامًا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَهَذَا مَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ لِأَن لَفْظَة الله هِيَ غير لَفْظَة الرَّحْمَن بِلَا شكّ وَهِي بِنَصّ الْقُرْآن أَسمَاء الله تَعَالَى والمسمى وَاحِد لَا يتغاير بِلَا شكّ وَذكروا قَول الله عز وَجل {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} وَهَذَا بَيَان أَيْضا جلي مجمع عَلَيْهِ من أهل الْإِسْلَام أَن الَّذِي عِنْده التذكية فَهُوَ الْكَلِمَة الْمَجْمُوعَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة مثل الله والرحمن الرَّحِيم وَسَائِر أَسْمَائِهِ عز وَجل احْتَجُّوا من الْإِجْمَاع بِأَن جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَا نحاشى مِنْهُم أحدا قد أَجمعُوا على القَوْل بِأَن من حلف باسم من أَسمَاء الله عز وَجل فَحنث فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَلَا خلاف فِي أَن ذَلِك لَازم فِيمَن قَالَ وَالله أَو الرَّحْمَن أَو الصَّمد أَو أَي اسْم من أَسمَاء الله عز وَجل حلف بهَا فَمَا أسخف عقولا يدْخل فِيهَا تخطئة مَا جَاءَ بِهِ الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أجمع عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام وَمَا أطبق عَلَيْهِ أهل الأَرْض قاطبة من أَن الِاسْم هُوَ الْكَلِمَة الْمَجْمُوعَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة وتصويب الباقلاني وَابْن فورك فِي أَن ذَلِك لَيْسَ هُوَ الِاسْم وَإِنَّمَا هُوَ التَّسْمِيَة وَالْحَمْد لله الذى لم يجعلنا من أهل هَذِه الصَّنْعَة المرذولة وَلَا من هَذِه الْعِصَابَة المخذولة وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أرْسلت كلبك فَذكرت اسْم الله فَكل فصح أَن اللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ اسْم الله تَعَالَى وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ اسْما وَهِي احْمَد وَمُحَمّد وَالْعَاقِب والحاشر والماحي فيالله وَيَا للْمُسلمين أَيجوزُ أَن يظنّ ذُو مسنكة عقل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس ذَوَات تبَارك الَّذِي يخلق مَا لَا نعلم وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 عَلَيْهِ وَسلم تسموا بأسمي وَلَا تكنوا بكنيتى فصح أَن الِاسْم هُوَ الْمِيم والحاء وَالْمِيم وَالدَّال بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَاحْتَجُّوا بقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كنت راضية عني قلت لَا وَرب مُحَمَّد وَإِذا كنت ساخطة قلت لَا وَرب إِبْرَاهِيم قَالَت أجل وَالله يَا رَسُول الله مَا أَهجر إِلَّا اسْمك فَلم يُنكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا ذَلِك القَوْل فصح أَن اسْمه غَيره بِلَا شكّ لِأَنَّهَا لم تهجر ذَاته وَإِنَّمَا هجرت اسْمه وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عز وَجل عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وأصدق الْأَسْمَاء همام والْحَارث وروى أكذبها خَالِد وَمَالك وَهَذَا كُله يبين أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى فقد يُسمى عبد الله وَعبد الرَّحْمَن من يبغضه الله عز وَجل وَقد يُسمى من يكون كذابا الْحَارِث وهماما وَيُسمى الصَّادِق خَالِدا ومالكا فهم بِخِلَاف أسمائهم وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن قَالُوا قد اجْتمعت الْأُمَم كلهَا عل أَنه إِذا سُئِلَ الْمَرْء مَا اسْمك قَالَ فلَان وَإِذا قيل لَهُ كَيفَ سميت ابْنك وعيدك قَالَ سميته فلَانا فصح أَن تَسْمِيَته هِيَ اخْتِيَاره وإيقاعه ذَلِك الِاسْم على الْمُسَمّى وَأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَاحْتَجُّوا من طَرِيق النّظر بِأَن قَالُوا أَنْتُم تَقولُونَ أَن اسْم الله تَعَالَى هُوَ الله نَفسه ثمَّ لَا تبالون بِأَن تَقولُوا أَسمَاء الله تَعَالَى مُشْتَقَّة من صِفَاته فعليم مُشْتَقّ من علم وقدير مُشْتَقّ من قدرَة وَحي من حَيَاة فَإِذا اسْم الله هُوَ الله وَاسم الله مُشْتَقّ فَالله تَعَالَى على قَوْلكُم مُشْتَقّ وَهَذَا كفر بَارِد وَكَلَام سخيف وَلَا مخلص لَهُم مِنْهُ فَصحت الْبَرَاهِين الْمَذْكُورَة من الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع وَالْعقل واللغة والنحو على أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى بِلَا شكّ وَلَقَد أحسن أَحْمد بن جِدَار مَا شَاءَ أَن يحسن إِذْ يَقُول ... هَيْهَات يَا أُخْت آل بِمَا غَلطت فِي الِاسْم والمسمى لَو كَانَ هَذَا وَقيل سم مَاتَ إِذا من يَقُول سما ... قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَخْبرنِي أَبُو عبد الله السائح الْقطَّان أَنه شَاهد بَعضهم قد كتب الله فِي سحاة وَجعل يصلى إِلَيْهَا قَالَ فَقلت لَهُ مَا هَذَا قَالَ معبودي قَالَ فنفخت فِيهَا فطارت فَقلت لَهُ قد طَار معبودك قَالَ فضربني قَالَ أَبُو مُحَمَّد وموهوا فَقَالُوا فأسماء الله عز وَجل إِذا مخلوقة إِذْ هِيَ كَثِيرَة وَإِذ هى غير الله تَعَالَى قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كُنْتُم تعنون الْأَصْوَات الَّتِي هِيَ حُرُوف الهجاء والمداء الخطوط بِهِ فِي الفواطيس فَمَا يخْتَلف مسلمان فِي كل ذَلِك مَخْلُوق وَإِن كُنْتُم تُرِيدُونَ الْإِيهَام والتمويه بِإِطْلَاق الْخلق على الله تَعَالَى فَمن أطلق ذَلِك فَهُوَ كَافِر بل أَن أَشَارَ مشير إِلَى كتاب مَكْتُوب فِيهِ الله أَو بعض أَسمَاء الله تَعَالَى أَو إِلَى كَلَامه إِذْ قَالَ يَا الله أَو قَالَ بعض أَسْمَائِهِ عز وَجل فَقَالَ هَذَا مَخْلُوق أَو هَذَا لَيْسَ ربكُم أَو تكفرون بِهَذَا لما حل لمُسلم إِلَّا أَن يَقُول حاشا لله من أَن يكون مخلوقا بل هُوَ رَبِّي وخالقي أُؤْمِن بِهِ وَلَا أكفر بِهِ وَلَو قَالَ غير هَذَا لَكَانَ كَافِرًا حَلَال الدَّم لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يسْأَل عَن ذَات الْبَارِي تَعَالَى وَلَا عَن الَّذِي هُوَ رَبنَا عز وَجل وخالقنا وَالَّذِي هُوَ الْمُسَمّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاء وَلَا إِلَى الَّذِي يخبر عَنهُ وَلَا إِلَى الَّذِي يذكر إِلَّا بِذكر اسْمه وَلَا بُد فَلَمَّا كَانَ الْجَواب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة يموه أهل الْجَهْل بإيصال مَا لَا يجوز إِلَى ذَات الله تَعَالَى لم يجز أَن يُطلق الْجَواب فِي ذَلِك الْبَتَّةَ إِلَّا بتقسيم كَمَا ذكرنَا وَكَذَلِكَ لَو كتب إِنْسَان مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم أَو نطق بذلك ثمَّ قَالَ لنا هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَيْسَ رَسُول الله وتؤمنون بِهَذَا أَو تكفرون بِهِ لَكَانَ من قَالَ لَيْسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أكفر بِهِ كَافِرًا حَلَال الدَّم بِإِجْمَاع أهل الاسلام وَلَكِن نقُول بل هُوَ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نؤمن بِهِ وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي الصَّوْت المسموع والخط الْمَكْتُوب لَيْسَ هُوَ الله وَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا أَن أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبا زرْعَة عبيد الله بن عبد الْكَرِيم وَأَبا حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْحَنْظَلِي الراويين رَحِمهم الله تَعَالَى يَقُولُونَ أَن الِاسْم هُوَ المسمي قُلْنَا لَهُم هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم وَإِن كَانُوا من أهل السّنة وَمن أَئِمَّتنَا فليسوا معصومين من الْخَطَأ وَلَا أمرنَا الله عز وَجل بتقليدهم واتباعهم فِي كل مَا قَالُوهُ وَهَؤُلَاء رَحِمهم الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 أَرَاهُم اخْتِيَار هَذَا القَوْل قَوْلهم الصَّحِيح أَن الْقُرْآن هُوَ المسموع من الْقُرْآن الْمَخْلُوط فِي الْمَصَاحِف نَفسه وَهَذَا قَول صَحِيح وَلَا يُوجب أَن يكون الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على مَا قد بَينا فِي هَذَا الْبَاب وَفِي بَاب الْكَلَام فِي الْقُرْآن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِنَّمَا الْعجب كُله مِمَّن قلب الْحق وَفَارق هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين حَيْثُ أَصَابُوا وحيت لَا يحل خلافهم وَتعلق بهم حَيْثُ وهموا من هَؤُلَاءِ المنتمين إِلَى الْأَشْعَرِيّ الْقَائِلين بِأَن الْقُرْآن لم ينزل قطّ إِلَيْنَا وَلَا سمعناه قطّ وَلَا نزل بِهِ جِبْرِيل على قلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن الَّذِي فِي الْمَصَاحِف هُوَ شَيْء آخر غير الْقُرْآن ثمَّ أتبعوا هَذِه الْكَفَرَة الصلعاء بِأَن قَالُوا إِن اسْم الله هُوَ الله وَأَنه لَيْسَ لله إِلَّا اسْم وَاحِد وكذبوا الله تَعَالَى وَرَسُوله فِي أَن لله أَسمَاء كَثِيرَة تِسْعَة وَتِسْعين ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن إنْسَانا يُشِير إِلَى كتاب مَكْتُوب فِيهِ الله فَقَالَ هَذَا لَيْسَ رَبِّي وَأَنا كَافِر بِهَذَا لَكَانَ كَافِرًا وَلَو قَالَ هَذَا المداد لَيْسَ رَبِّي وَأَنا كَافِر بربوبية هَذَا الصَّوْت لَكَانَ صَادِقا وَهَذَا لَا يُنكر وَإِنَّمَا نقف حَيْثُ وقفنا قَالَ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة الله لم يبعد من الاستخفاف فَلَو قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد لَكَانَ محسناً وَلَو أَن إنْسَانا يذكر من أَبَوَيْهِ الْعُضْو المستور باسمه لَكَانَ عاقاً أَتَى كَبِيرَة وَإِن كَانَ صَادِقا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي قضايا النُّجُوم وَالْكَلَام فِي هَل يعقل الْفلك والنجوم أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد زعم قوم أَن الْفلك والنجوم تعقل وَأَنَّهَا ترى وَتسمع وَلَا تذوق وَلَا تشم وَهَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَرْدُود عِنْد كل طَائِفَة بِأول الْعقل إِذْ لَيست أصح من دَعْوَى أُخْرَى تضادها وتعارضها وبرهان صِحَة الحكم بِأَن الْفلك والنجوم لَا تعقل أصلا هُوَ أَن حركتها أبدا على رُتْبَة وَاحِدَة لَا تتبدل عَنْهَا وَهَذِه صفة الجماد الْمُدبر الَّذِي لَا اخْتِيَار لَهُ فَقَالُوا الدَّلِيل على هَذِه أَن الْأَفْضَل لَا يخْتَار إِلَّا لأَفْضَل الْعَمَل فَقُلْنَا لَهُم وَمن أَيْن لكم بِأَن الْحَرَكَة أفضل من السّكُون الِاخْتِيَارِيّ لأننا وجدنَا الْحَرَكَة حركتين اختيارية واضطرارية وَوجدنَا السّكُون سكونين واضطرارياً فَلَا دَلِيل على أَن الْحَرَكَة الاختيارية أفضل من السّكُون الِاخْتِيَارِيّ ثمَّ من لكم بِأَن الْحَرَكَة الدورية أفضل من سَائِر الحركات يَمِينا ويسارا أوأمام أورواء ثمَّ من لكم بِأَن الْحَرَكَة من شَرق إِلَى غرب كَمَا يَتَحَرَّك الْفلك الْأَكْبَر أفضل من الْحَرَكَة من غرب إِلَى شَرق كَمَا تتحرك سَائِر الأفلاك وَجَمِيع الْكَوَاكِب فلاح أَن قَوْلهم مخرفة فَاسِدَة وَدَعوى كَاذِبَة مموهة وَقَالَ بَعضهم لما كُنَّا نَحن نعقل وَكَانَت الْكَوَاكِب تدبرنا كَانَت أولى بِالْعقلِ والحياة منا فَقُلْنَا هَاتَانِ دعوتان مجموعتان فِي نسق أَحدهمَا القَوْل بِأَنَّهَا تدبرنا فَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَة بِلَا برهَان على مَا ذكره بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالثَّانِي الحكم بِأَن من تدبرنا أَحَق بِالْعقلِ والحياة منا فقد وجدنَا التَّدْبِير يكون طبيعياً وَيكون اختيارياً فَلَو صَحَّ أَنَّهَا تدبرنا لَكَانَ تدبيراً طبيعياً كتدبير الْغذَاء لنا وكتدبير الْهَوَاء وَالْمَاء لنا وكل ذَلِك لَيْسَ حَيا وَلَا عَاقِلا بِالْمُشَاهَدَةِ وَقد أبطلنا الْآن أَن يكون تَدْبِير الْكَوَاكِب لنا اختيارياً بِمَا ذكرنَا من جريها على حَرَكَة وَاحِدَة ورتبة وَاحِدَة لَا تنقل عَنْهَا أصلا وَأما القَوْل بقضايا النُّجُوم فَإنَّا نقُول فِي ذَلِك قولا لائحاً ظَاهرا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما معرفَة فطعها فِي أفلاكها وآناء ذَلِك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها وَاخْتِلَاف مراكز أفلاكها فَعلم حسن صَحِيح رفيع يشرف بِهِ النَّاظر فِيهِ على عَظِيم قدرَة الله عز وَجل وعَلى يَقِين ناثرة وصنعته واختراعه تَعَالَى للْعَالم بِمَا فِيهِ وَفِيه الَّذِي يضْطَر كل ذَلِك إِلَى الْإِقْرَار بالخالق وَلَا يَسْتَغْنِي عَن ذَلِك فِي معرفَة الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة وينتج من هَذَا معرفَة رُؤْيا الْأَهِلّة لغَرَض الصَّوْم وَالْفطر وَمَعْرِفَة الكسوفين برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق وَقَالَ تَعَالَى وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم لَا الشَّمْس يَنْبَغِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون وَقَالَ تَعَالَى وَالسَّمَاء ذَات البروج وَقَالَ تَعَالَى لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب وَهَذَا هُوَ نفس مَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْقَضَاء فالقطع بِهِ خطأ لما نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأهل الْقَضَاء ينقسمون قسمَيْنِ أَحدهمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا والفلك عَاقِلَة مُمَيزَة فاعلة مُدبرَة دون الله تَعَالَى أَو مَعَه وَأَنَّهَا لم تزل فَهَذِهِ الطَّائِفَة كفار مشركون حَلَال دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ بِإِجْمَاع الْأمة وَهَؤُلَاء عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول أَن الله تَعَالَى قَالَ أصبح من عبَادي كَافِر بِي مُؤمن بالكواكب وَفَسرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه الْقَائِل فطرنا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا وَأما من قَالَ بِأَنَّهَا فِي المدن الَّتِي يُمكنهُم فِيهَا دَعْوَى أَن بناءها كَانَ فِي طالع كَذَا وَنَصه كَذَا لَكِن فِي الأقاليم وَالْقطع من الأَرْض الَّتِي لم يتَقَدَّم كَون بَعْضهَا كَون بعض كذبهمْ فِيمَا عَلَيْهِ بنوا قضاياهم فِي النُّجُوم وَكَذَلِكَ قسمتهم أَعْضَاء الْجِسْم والفلزات على الدراري أَيْضا وبرهان سادس أننا نجد نوعا وأنواعاً من أَنْوَاع الْحَيَوَان قد فَشَا فِيهَا الذّبْح فَلَا تكَاد يَمُوت شَيْء مِنْهَا إِلَّا مذبوحاً كالدجاج وَالْحمام والضان والمعز وَالْبَقر الَّتِي لَا يَمُوت مِنْهَا حتف أَنفه إِلَّا فِي غَايَة الشذوذ ونوعاً وأنواعاً لَا تكَاد تَمُوت إِلَّا حتف أنوفها كالحمير وَالْبِغَال وَكثير من السبَاع وبالضرورة يدْرِي كل أحد أَنَّهَا قد تستوي أَوْقَات وِلَادَتهَا فَبَطل قضاؤهم بِمَا يُوجب الْمَوْت الطبيعي وَبِمَا يُوجد الكرهى لِاسْتِوَاء جَمِيعهَا فِي الولادات واختلافها فِي أَنْوَاع المنايا وبرهان سَابِع وَهُوَ أننا نرى الخصافا شَيْئا فِي سكان الاقليم الأول وسكان الاقليم السَّابِع وَلَا سَبِيل إِلَى وجوده الْبَتَّةَ فِي سكان سَائِر الأقاليم وَلَا شكّ وَلَا مرية فِي استوائهم فِي أَوْقَات الْولادَة فَبَطل يَقِينا قضاؤهم بِمَا يُوجب الخصا وَبِمَا لَا يُوجِبهُ بِمَا ذكرنَا من تساويهم فِي أَوْقَات التكون والولادة وَاخْتِلَافهمْ فِي الحكم وَيَكْفِي من هَذَا أَن كَلَامهم فِي ذَلِك دَعْوَى بِلَا برهَان وَأما كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَعَ اخْتلَافهمْ فِيمَا يُوجِبهُ الحكم عِنْدهم وَالْحق لَا يكون فِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين وَأَيْضًا فَإِن الْمُشَاهدَة توجب أننا قادرون على مُخَالفَة أحكامهم مَتى أخبرونا بهَا فَلَو كَانَت حَقًا وحتما مَا قدر أحد على خلَافهَا وَإِذا أمكن خلَافهَا فَلَيْسَتْ حَقًا فصح أَنَّهَا تحرص كالطرق بالحصا والصرب بالحب وَالنَّظَر فِي الْكَتف والزجر والطيرة وَسَائِر مَا يَدعِي أَهله فِيهِ تَقْدِيم الْمعرفَة بِلَا شكّ وَمَا يخص مَا شَاهَدْنَاهُ وَمَا صَحَّ عندنَا مِمَّا حَقَّقَهُ حذاقهم من التَّعْدِيل فِي الموالد والمناجات وتحاول السنين ثمَّ فضوا فِيهِ فاخطؤا وَمَا نفع أَصَابَتْهُم من خطئهم إِلَّا فِي جُزْء يسير فصح أَنه يحرص لَا حَقِيقَة فِيهِ لَا سِيمَا دَعوَاهُم فِي إِخْرَاج الضَّمِير فَهُوَ كُله كذب لمن تَأمله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي القرانات أَيْضا وَلَو أمكن تَحْقِيق تِلْكَ التجارب فِي كل مَا ذكرنَا لصدقناها وَمَا يبدوا مِنْهَا وَلم يكن ذَلِك علم غيب لِأَن كل مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيل من خطّ أَو كنف أَو زجرا وَتَطير فَلَيْسَ غيباً لَو صَحَّ وَجه كل ذَلِك وَإِنَّمَا الْغَيْب وَعلمه هُوَ أَن يخبر الْمَرْء من الكائنات دون صناعَة أصلا من شَيْء مِمَّا ذكرنَا وَلَا من غَيره فَيُصِيب الجزئي والكلي وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لنَبِيّ وَهُوَ معْجزَة حينئذٍ وَأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ هَذَا من أَعْلَامه وآياته وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي خلق الله تَعَالَى للشَّيْء أهوَ الْمَخْلُوق نَفسه أم غَيره وَهل فعل الله من دون الله تَعَالَى هُوَ الْمَفْعُول أم غَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن خلق الشَّيْء الْمَخْلُوق وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقول الله عز وَجل {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لِأَن الْإِشْهَاد هَا هُنَا هُوَ الْإِحْضَار بالمعرفة وَهَذَا حق لِأَن الله تَعَالَى لم يحضرنا عارفين ابْتِدَاء خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَابْتِدَاء أَنْفُسنَا وَوجدنَا من قَالَ أَن خلق الشَّيْء هُوَ الشَّيْء نَفسه بقول الله تَعَالَى هَذَا خلق الله وَهَذِه إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْمَخْلُوقَات فقد سمي الله تَعَالَى جَمِيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 الْمَخْلُوقَات كلهَا خلقا لَهُ وَهَذَا برهَان لَا يُعَارض قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ نسْأَل من قَالَ أَن خلق الشَّيْء هُوَ غير الشَّيْء فَتَقول لَهُ أخبرنَا عَن خلق الله تَعَالَى لما خلق أم مَخْلُوق هُوَ أَيْضا أَن غير مَخْلُوق فَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ فَإِن قَالُوا هُوَ غير مَخْلُوق أوجبوا بِإِزَاءِ كل مَخْلُوق شَيْئا مَوْجُودا غير مَخْلُوق وَهَذَا مضاهاة لقَوْل الدهرية والبرهان قد قَامَ بِخِلَاف هَذَا وَقَالَ تَعَالَى {وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا} وَإِن قَالُوا بل خلقه تَعَالَى لما خلق مَخْلُوق قُلْنَا فخلقه تَعَالَى لذَلِك الْخلق أبخلق أم بِغَيْر خلق فَإِن قَالُوا بِغَيْر خلق قيل لَهُم من أَيْن قُلْتُمْ أَن خلقه للأشياء بمخلق هُوَ غير الْمَخْلُوق وقلتم فِي خلقه لذَلِك الْخلق أَنه بِغَيْر خلق وَهَذَا تَخْلِيط وَإِن قَالُوا بل خلقه بِخلق سألناهم الْخلق هُوَ أم بِخلق هُوَ غَيره وَهَكَذَا أبدا فَإِن وقفُوا فِي شَيْء من ذَلِك فَقَالُوا خلقه هُوَ هُوَ سألناهم عَن الْفرق بَين مَا قَالُوا أَن خلقه هُوَ غَيره وَبَين مَا قَالُوا أَن خلقه هُوَ هُوَ وَإِن تماد وأخرجوا إِلَى وجود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا محَال مقنع مُتَّصِلا وَقد قطع بِهَذَا معمر بن عَمْرو الْعَطَّار أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة وَسَنذكر كَلَامه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى مُتَّصِلا بِهَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأَيْضًا فَإِن الْجَمِيع مطبقون على أَن الله عز وَجل خلق مَا خلق بِلَا معاياة فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ يَقِينا أَنه لَا وَاسِطَة بَين الله تَعَالَى وَبَين مَا خلق وَلَا ثَالِث فِي الْوُجُود غير الْخَالِق والمخلوق وَخلق الله تَعَالَى مَا خلق حق مَوْجُود وَهُوَ بِلَا شكّ مَخْلُوق وَهُوَ بِلَا شكّ لَيْسَ هُوَ الْخَالِق فَهُوَ الْمَخْلُوق نَفسه بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ إِذْ لَا ثَالِث هَا هُنَا أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل من دون الله تَعَالَى فعله هُوَ مَفْعُوله نَفسه لَا غير لِأَنَّهُ لَا يفعل أحد دون الله تَعَالَى إِلَّا حَرَكَة أَو سكوناً أَو تَأْثِيرا أَو معرفَة أَو فكرة أَو إِرَادَة وَلَا مفعول لشَيْء دون الله تَعَالَى إِلَّا مَا ذكرنَا فَهِيَ مفعولات الفاعلين وَهِي أَفعَال الفاعلين وَلَا فرق وَمَا عدا هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ مفعول فِيهِ كالمضروب والمقتول أَو مفعول بِهِ كالسوط والإبرة وَمَا أشبه ذَلِك أَو مفعول لَهُ كالمطاع والمخدوم أَو مفعول من أَجله كالمكسوب والمحلوب فَهَذِهِ أوجه المفعولات قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما سَائِر أَفعَال الله تَعَالَى فبخلاف مَا قُلْنَا فِي الْخلق بل هِيَ غير الْمَفْعُول فِيهِ أَو لَهُ أَو بِهِ أَو من أَجله وَذَلِكَ كالأحياء فَهُوَ غير الْمحيا بِلَا شكّ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوق لله تَعَالَى وخلقه تَعَالَى لكل ذَلِك هُوَ الْمَخْلُوق نَفسه كَمَا قُلْنَا وكالإماته فَهِيَ غير الْمَمَات وَلَو كَانَ غير هَذَا وَكَانَ الْأَحْيَاء هُوَ الْمحيا والإماتة هِيَ الْمَمَات وبيقين نَدْرِي أَن الْمحيا هُوَ الْمَمَات نَفسه لوَجَبَ أَن يكون الْأَحْيَاء هُوَ الإماتة وَهَذَا محَال وكالا بَقَاء فَهُوَ غير المبقي للبرهان الَّذِي ذكرنَا وبيقين نَدْرِي أَن الشَّيْء غير أعراضه الَّتِي هِيَ قَائِمَة بِهِ وقتا وفانية عَنهُ تَارَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْبَقَاء والفناء والمعاني الَّتِي يدعيها معمر وَالْأَحْوَال الَّتِي تدعيها الأشعرية وَهل الْمَعْدُوم شَيْء أم لَيْسَ شَيْئا وَمَسْأَلَة الْأَجْزَاء وَهل بتجدد خلق الله للأشياء أم لَا يَتَجَدَّد قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الْبَقَاء والفناء صفتان للْبَاقِي والفاني لَا هما الْبَاقِي وَلَا الفاني وَلَا هما غير الْبَاقِي والفاني قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد لِأَن الْقَضِيَّة الثَّانِيَة بنقيض الأولى وَالْأولَى بنقيض الثَّانِيَة لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَيست هِيَ فقد أوجب أَنَّهَا غَيره وَإِذا قَالَ لَيست غَيره فقد أوجب أَنه هُوَ وَهَذَا تنَاقض ظَاهر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فرق بَين قَول الْقَائِلين لَيْسَ هُوَ هُوَ وَلَا ين قَوْله هُوَ هُوَ وَهُوَ غَيره وَالْمعْنَى فِي تِلْكَ القضيتين سَوَاء وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْبَقَاء لَيْسَ هُوَ الْبَاقِي وَلَا هُوَ غَيره والفناء لَيْسَ هُوَ الفاني وَلَا هُوَ غَيره فالباقي هُوَ الفاني نَفسه وَالْبَاقِي لَيْسَ هُوَ الْبَاقِي وَلَا غَيره وَهَذَا مزِيد من الْجُنُون وَمن التَّنَاقُض وَذهب معمر إِلَى أَن الفناء صفة قَائِمَة بِغَيْر الفاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تخبيط لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيلا أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل والحقيقة فِي ذَلِك ظَاهِرَة وَهِي أَن الْبَقَاء هُوَ وجود الشَّيْء وَكَونه ثَابتا قَائِما مُدَّة زمَان مَا فَإذْ هُوَ قَائِما كَذَلِك فَهُوَ صفة مَوْجُودَة فِي الْبَاقِي مَحْمُولَة فِيهِ قَائِمَة مَوْجُودَة بِوُجُودِهِ فانية بفنائه وَأما الفناء فَهُوَ عدم الشَّيْء وبطلانه جملَة وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا أصلا والفناء الْمَذْكُور لَيْسَ مَوْجُودا الْبَتَّةَ فِي شَيْء من الْجَوَاهِر وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْعرض فَقَط كحمرة الخجل إِذا ذهبت عبر عَن الْمَعْنى المُرَاد بالإخبار عَن ذهابها بِلَفْظَة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضَا وَمَا أشبه ذَلِك وَلَو شَاءَ الله عز وَجل أَن يعْدم الْجَوَاهِر لقدر على ذَلِك وَلكنه لم يُوجد ذَلِك إِلَى الْآن وَلَا جَاءَ بِهِ نَص فيقف عِنْده فالفناء عدم كَمَا قُلْنَا الْكَلَام فِي الْمَعْدُوم أهوَ شَيْء أم لَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد اخْتلف النَّاس فِي الْمَعْدُوم أهوَ شَيْء أم لإقفال أهل السّنة وَطَوَائِف من المرجئة كالأشعرية وَغَيرهم لَيْسَ شَيْئا وَبِه يَقُول هِشَام بن عَمْرو الغوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَقَالَ سَائِر الْمُعْتَزلَة الْمَعْدُوم شَيْء وَقَالَ عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْخياط أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن المعدم جسم فِي حَال عَدمه إِلَّا انه لَيْسَ متحركاً وَلَا سَاكِنا وَلَا مخلوقاً وَلَا مُحدثا فِي حَال عَدمه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج من قَالَ بِأَن الْمَعْدُوم شَيْء بَان قَالُوا قَالَ عز وَجل إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم فَقَالُوا فقد أخبر عز وَجل بِأَنَّهَا شَيْء وَهِي مَعْدُومَة وَمن الدَّلِيل على أَن الْمَعْدُوم شَيْء أَنه يخبر عَنهُ ويوصف ويتمنى وَمن الْمحَال أَن يكون مَا هَذِه صفته لَيْسَ شَيْئا قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَول الله عز وَجل إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم فَإِن هَذِه الْقِصَّة مَوْصُولَة بقوله تَعَالَى يَوْم ترونها تذهل كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت وتضع كل ذَات حمل حملهَا وتري النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى فَإِنَّمَا تمّ الْكَلَام عِنْد قَوْله يَوْم ترونها فصح أَن زَلْزَلَة السَّاعَة يَوْم ترونها شَيْء عَظِيم وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا وَلم يقل تَعَالَى قطّ أَنَّهَا الْآن شَيْء عَظِيم ثمَّ أخبر تَعَالَى بِمَا يكون يَوْمئِذٍ من هول المرضعات وَوضع الْأَحْمَال وَكَون النَّاس سكارى من غير خمر فَبَطل تعلقهم بِالْآيَةِ وَمَا نعلم أَنهم شغبوا بِشَيْء غَيرهَا وَأما قَوْلهم أَن الْمَعْدُوم يخبر عَنهُ ويوصف ويتمنى وَيُسمى فجهل شَدِيد وَظن فَاسد وَذَلِكَ أَن قَوْلنَا فِي شَيْء يذكر أَنه مَعْدُوم ويخبر عَنهُ أَنه مَعْدُوم ويتمنى بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَن يذكر اسْم مَا فَذَلِك الِاسْم مَوْجُود بِلَا شكّ يعرف ذَلِك بالحس كَقَوْلِنَا العنقاء وَابْن آوى وحبين وعرس ونبوة مُسَيْلمَة وَمَا أشبه ذَلِك ثمَّ كل اسْم ينْطق بِهِ وَيُوجد ملفوظاً أَو مَكْتُوبًا فَإِنَّهُ ضَرُورَة لَا بُد لَهُ من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون لَهُ مُسَمّى وَإِمَّا أَن يكون لَيْسَ لَهُ مُسَمّى فَإِن كَانَ لَهُ مُسَمّى فَهُوَ مَوْجُود وَهُوَ شَيْء حِينَئِذٍ وَإِن كَانَ لَيْسَ لَهُ مُسَمّى فأخبارنا بِالْعدمِ وتمنينا للْمَرِيض الصِّحَّة إِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن ذَلِك الِاسْم الْمَوْجُود أَنه لَيْسَ لَهُ مُسَمّى وَلَا تَحْتَهُ شَيْء وتمن منا لِأَن يكون تَحْتَهُ مُسَمّى فَهَكَذَا هُوَ الْأَمر لَا كَمَا ظَنّه أهل الْجَهْل فصح أَن الْمَعْدُوم لَا يخبر عَنهُ وَلَا يتَمَنَّى ونسألهم عَمَّن قَالَ لَيْت لي ثوبا أَحْمَر وَغُلَامًا أسود أخبرونا هَل الثَّوْب المتمنى بِهِ عنْدكُمْ أَحْمَر أم لَا فَإِن أثبتوا معنى وَهُوَ الثَّوْب أثبتوا عرضا مَحْمُولا فِيهِ وَهُوَ الْحمرَة فَوَجَبَ أَن الْمَعْدُوم يحمل الْأَعْرَاض وَإِن قَالُوا لم يتمن شَيْئا أصلا صدقُوا وَصَحَّ أَن الْمَعْدُوم لَا يتَمَنَّى لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئا وَلَا فرق بَين قَول الْقَائِل تمنيت لَا شَيْء وَبَين قَوْله لم أتمن شَيْئا بل هما متلائمان بِمَعْنى وَاحِد وَهَذَا أَيْضا يخرج على وَجه آخر وَهُوَ أَنه لَا يتَمَنَّى الْأَشْيَاء مَوْجُود فِي الْعَالم كَثوب مَوْجُود اَوْ غُلَام مَوْجُود واما من اخْرُج لَفْظَة التَّمَنِّي لما لَيْسَ فِي الْعَالم فَلم يتمن شَيْئا وَأما قَوْلهم بِوَصْف فطريق عجب جدا لِأَن معنى قَول الْقَائِل يُوصف إِخْبَار بِأَن لَهُ صفة مَحْمُولَة فِيهِ مَوْجُودَة بِهِ فليت شعري كَيفَ يحمل الْمَعْدُوم من الصِّفَات من الْحمرَة والخضرة وَالْقُوَّة والطول وَالْعرض إِن هَذَا لعجيب جدا فَظهر فَسَاد مَا موهوا بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِذ قد عرا قَوْلهم عَن الدَّلِيل فقد صَحَّ أَنه دَعْوَى كَاذِبَة ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق من الْبُرْهَان على أَن الْمَعْدُوم اسْم لَا يَقع على شَيْء أصلا قَول الله عز وَجل وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا وَقَوله تَعَالَى هَل أُتِي على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر لم يكن شَيْئا مَذْكُورا وَقَوله وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا وَقَالَ عز وَجل إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر فيلزمهم وَلَا بُد إِن كَانَ الْمَعْدُوم شَيْئا أَن يكون مخلوقا بعد وهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْمَخْلُوق مَوْجُود وَقد وجد وقتا من الدَّهْر فالمعدوم على هَذَا مَوْجُود وَقد كَانَ مَوْجُودا وَهَذَا خلاف قَوْلهم وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الْمَعْدُوم لَيْسَ شَيْئا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ونسألهم مَا معنى قَوْلنَا شَيْء فَلَا يَجدونَ بدا من أَن يَقُولُوا أَنه الْمَوْجُود أَو أَن يَقُولُوا هُوَ كل مَا يخبر عَنهُ فَإِن قَالُوا هُوَ الْمَوْجُود صَارُوا إِلَى الْحق وَإِن قَالُوا هُوَ كل مَا يخبر عَنهُ قُلْنَا لَهُم إِن الْمُشْركين يخبرون عَن شريك الله عز وَجل قَالَ تَعَالَى أَيْن شركائي قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَعْدُوم لَا مدْخل لَهُ فِي الْحَقِيقَة وَاسم لَا مُسَمّى تَحْتَهُ فَإِن قَالُوا إِن شُرَكَاء الله تَعَالَى أَشْيَاء كَانُوا قد أفحشوا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد اتّفقت جَمِيع الْأُمَم لَا تحاشى أَن الْمَعْدُوم لَيْسَ شَيْئا أَو لَا شَيْء أَو مَا يعبر بِهِ فِي كل لُغَة عَن شَيْء وَعَن لَا شَيْء إِلَّا أَن الْمَعْنى وَاحِد فَلَو كَانَ الْمَعْدُوم شَيْئا لَكَانَ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ بِلَا شَيْء وَلَيْسَ شَيْئا وَلم يكن شَيْئا بَاطِلا وَهَذَا رد على جَمِيع أهل الأَرْض مذ كَانُوا إِلَى أَن يفنى الْعَالم فصح أَن الْمَوْجُود هُوَ الشَّيْء فَإذْ هُوَ الشَّيْء فبضرورة الْعقل أَن اللاشيء هُوَ الْمَعْدُوم ثمَّ نسألهم أتقولون أَن الْمَعْدُوم عَظِيم أَو صَغِير أَو حسن أَو قَبِيح أَو طَوِيل أَو قصير أَو ذُو لون فِي حَال عَدمه فَإِن أَبَوا من هَذَا تنَاقض قَوْلهم وسئلوا عَن الْفرق بَين قَوْلهم أَنه شَيْء وَبَين قَوْلهم أَنه حسن أَو قَبِيح أَو صَغِير أَو كَبِير وَكَيف قَالُوا أَنه شَيْء ثمَّ قَالُوا أَنه لَيْسَ حسنا وَلَا قبيحاً وَلَا صَغِيرا وَلَا كَبِيرا فَإِن قَالُوا نعم أوجبوا أَن الْمَعْدُوم يحمل الْأَعْرَاض وَالصِّفَات وَهَذَا تَخْلِيط ناهيك بِهِ وسئلوا فِي مَاذَا يحمل الصِّفَات أَفِي ذَاته أَو فِي مَاذَا فَإِن قَالُوا فِي ذَاته أوجبوا أَن لَهُ ذاتاً وَهَذِه صفة الْمَوْجُود ضَرُورَة وَإِن قَالُوا بل يحمل الصِّفَات فِي غَيره كَانَ ذَلِك أَيْضا عجبا زَائِدا ومحالا لَا خَفَاء بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم هَل الْإِيمَان مَوْجُود من أبي جهل أَو مَعْدُوم فَإِن قَوْلهم بِلَا شكّ أَنه مَعْدُوم مِنْهُ فنسألهم عَن إِيمَان أبي جهل الْمَعْدُوم حسن هُوَ أم قَبِيح فَإِن قَالُوا لَا حسن وَلَا قَبِيح قُلْنَا لَهُم أَيكُون يعقل إِيمَان لَيْسَ حسنا هَذَا عَظِيم جدا وَإِن قَالُوا بل هُوَ حسن أوجبوا أَنه حَامِل لِلْحسنِ وَكَذَلِكَ نسألهم عَن الْكفْر الْمَعْدُوم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أقبيح هُوَ أم لَا فَإِن قَالُوا لَا أوجبوا كفرا لَيْسَ قبيحا وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَبِيح أوجبوا أَن الْمَعْدُوم يحمل الصِّفَات ونسألهم عَن ولد الْعَقِيم الْمَعْدُوم مِنْهُ أصغير هُوَ أم كَبِير أم عَاقل أم أَحمَق فَإِن منعُوا من وجود شَيْء من هَذِه الصِّفَات لَهُ كَانَ عجبا أَن يكون ولد ولاصغير وَلَا كَبِير وَلَا حَيّ وَلَا ميت وَإِن وصفوه بِشَيْء من هَذِه الصِّفَات أَتَوا بِالزِّيَادَةِ من الْمحَال ونسألهم عَن الْأَشْيَاء المعدومة ألها عدد أم لَا عدد لَهَا فَإِن قَالُوا لَا عدد لَهَا كَانُوا قد أَتَوا بالمحال إِذْ أقرُّوا بأَشْيَاء لَا عدد لَهَا وَإِن قَالُوا بل لَهَا عدد كَانَ ذَلِك عجبا جدا أَو محالاً لَا خَفَاء بِهِ وسألناهم عَن الْأَوْلَاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عَددهمْ ونسألهم عَن الْأَشْيَاء المعدومة أَهِي فِي الْعَالم وَمن الْعَالم أم لَيست فِي الْعَالم وَلَا من الْعَالم فَإِن قَالُوا أَهِي فِي الْعَالم وَمن الْعَالم سألناهم عَن مَكَانهَا فَإِن حددوا لَهَا مَكَانا سخفوا مَا شاؤا وَإِن قَالُوا لَا مَكَان لَهَا قيل لَهُم وَكَيف يكون شَيْء فِي الْعَالم لَا مَكَان لَهُ فِيهِ وَلَا حَامِل قَالَ أَبُو مُحَمَّد ويلزمهم أَن المعدومات إِذا كَانَت أَشْيَاء لَا عدد لَهَا وَلَا نِهَايَة وَلَا مبدأ فَإِنَّهَا لم تزل وَهَذِه دهرية مُحَققَة وَكفر مُجَرّد أَن تكون أَشْيَاء لَا تحصى كَثْرَة لم تزل مَعَ الله تَعَالَى ونعوذ بِاللَّه من مثل هَذَا الهوس قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ادعوا أَن الْمَعْدُوم يعلم وَهَذَا جهل مِنْهُم بحدود الْكَلَام لَا سِيمَا مِمَّن أقرّ بِأَن الْمَعْدُوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 لَا شَيْء وَادّعى مَعَ ذَلِك أَنه يعلم فألزمناهم على ذَلِك أَنهم يعلمُونَ لَا شَيْء وَأَن الله تَعَالَى يعلم لَا شَيْء فجسر بَعضهم على ذَلِك فَقُلْنَا لَهُ أَن قَوْلك علمت لَا شَيْء وَعلم الله تَعَالَى لَا شَيْء ملائم لِقَوْلِك لم أعلم شَيْئا ولقولك لم يعلم الله تَعَالَى شَيْئا لَا فرق بَين معنى القضيتين الْبَتَّةَ بل هما وَاحِد وَإِن اخْتلفت العبارتان وَإِذ هُوَ كَذَلِك فقد صَحَّ أَن الْمَعْدُوم لَا يعلم فَإِن ألزمنا على هَذَا وَسَأَلنَا هَل يعلم الله تَعَالَى إِلَّا شَيْئا قبل كَونهَا أم لَا قُلْنَا لم يزل الله تَعَالَى يعلم أَن مَا يخلقه أبدا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَإِنَّهُ سيخلقه ويرتبه على الصِّفَات الَّتِي يخلقها فِيهَا إِذا خلقه وَأَنه سَيكون شَيْئا إِذا كَونه وَلم يزل عز وَجل يعلم أَن مَا لم يخلق بعد فَلَيْسَ هُوَ شَيْئا حَتَّى يخلقه وَلم يزل تَعَالَى يعلم أَنه لَا شَيْء مَعَه وَأَنه سَتَكُون الْأَشْيَاء أَشْيَاء إِذا خلقهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَن من علمهَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلم يعلمهَا بل جهلها وَلَيْسَ هَذَا علما بل هُوَ ظن كَاذِب وَجَهل وبرهان هَذَا قَول الله عز وَجل وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي خاطبنا الله تَعَالَى بهَا حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره فصح أَنه تَعَالَى لم يسمعهم لِأَنَّهُ لم يعلم فيهم خيرا أَو لَا خير فيهم فصح أَن الْمَعْدُوم لَا يعلم أصلا وَلَو علم لَكَانَ مَوْجُودا أوإنما يعلم الله تَعَالَى أَن لَفْظَة الْمَعْدُوم لَا مُسَمّى لَهَا وَلَا شَيْء تحتهَا وَيعلم عز وَجل الْآن أَن السَّاعَة غير قَائِمَة وَهُوَ الْآن تَعَالَى لَا يعلمهَا قَائِمَة بل يعلم أَنه سيقيمها فتقوم فَتكون قِيَامَة وَسَاعَة وَيَوْم جَزَاء وَيَوْم بعث وشيئاً عَظِيما حِين يخلق كل ذَلِك لَا قبل أَن يخلقه فَأَما علمه تَعَالَى بِأَنَّهُ سيقيمها فتقوم فَهُوَ مَوْجُود حق فَهَذَا معنى إِطْلَاق الْعلم على مَا لم يكن بعد من المعدومات كَمَا أننا لانعلم الْآن الشَّمْس طالعة طُلُوعهَا فِي غَد بل نعلم أَنَّهَا ستطلع غَدا وَكَذَلِكَ لَا نعلم موت الْأَحْيَاء الْآن بل نعلم أَن الله تَعَالَى سيخلق مَوْتهمْ فنعلمه موتا لَهُم إِذْ خلقه لَا قبل ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين فَهَذَا نَص جلي على أَن الْمَعْدُوم لَا يعلم لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَنه لَا يدْخل الْجنَّة من لَا يُعلمهُ الله تَعَالَى مُجَاهدًا وَلَا صَابِرًا فصح أَن من لم يُجَاهد وَلَا صَبر فَلم يُعلمهُ الله تَعَالَى قطّ مُجَاهدًا وَلَا صَابِرًا أَو لَا علم لَهُ جهاداً وَلَا صبرا وَإِنَّمَا علمه غير مُجَاهِد وَغير صابر وَلم يزل تَعَالَى يعلم أَن من كَانَ مِنْهُم سيجاهد وسيصبر فَإِنَّهُ لم يزل يعلم أَنه سيجاهد وسيصبر فَإِذا جَاهد وصبر علمه حِينَئِذٍ صَابِرًا مُجَاهدًا وَالْعلم لَا يَسْتَحِيل لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئا غير الْبَارِي تَعَالَى وَإِنَّمَا اسْتَحَالَ الْمَعْلُوم فَقَط ثمَّ نسألهم هَل يعلم الله تَعَالَى لحية الأطلس وقنا الْأَفْطَس أم لَا يعلم ذَلِك وَهل يعلم الله تَعَالَى أَوْلَاد الْعَقِيم وإيمان الْكَافِر وَكفر الْمُؤمن وَكذب الصَّادِق وَصدق الْكَاذِب أم لَا يعلم شَيْئا من ذَلِك فَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى يعلم كل ذَلِك كَانُوا قد وصفوا الله تَعَالَى بِالْجَهْلِ وَأَنه يعلم الْأَشْيَاء بِخِلَاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى لَا يعلم للعقيم أَوْلَادًا وَإِنَّمَا يُعلمهُ لَا ولد لَهُ وَلَا يعلم لحية الأطلس بل يُعلمهُ غير ذِي لحية صدقُوا وعادوا إِلَى الْحق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْمعَانِي على معمر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما معمر وَمن اتبعهُ فَقَالُوا أَنا وجدنَا المتحرك والساكن فأيقنا أَن معنى حدث فِي المتحرك بِهِ فَارق السَّاكِن فِي صفته وَإِن معنى حدث فِي السَّاكِن بِهِ أَيْضا فَارق المتحرك فِي صفته وَكَذَلِكَ علمنَا أَن فِي الْحَرَكَة معنى بِهِ فَارَقت السّكُون وَإِن فِي السّكُون معنى بِهِ فَارق الْحَرَكَة وَكَذَلِكَ علمنَا فِي ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي بِهِ خَالَفت الْحَرَكَة السّكُون معنى بِهِ فَارق الْمَعْنى الَّذِي بِهِ فَارقه السّكُون وَهَكَذَا أبدا أوجبوا أَن فِي كل شَيْء فِي هَذَا الْعَالم من جَوْهَر أَو عرض أَي شَيْء كَانَ مَعَاني فَارق كل معنى مِنْهَا كل مَا عداهُ فِي الْعَالم وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي تِلْكَ الْمعَانِي لِأَنَّهَا أَشْيَاء مَوْجُودَة مُتَغَايِرَة وأوجبوا بِهَذَا وجود أَشْيَاء فِي زمَان محدد فِي الْعَالم لَا نِهَايَة لعددها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه جملَة كل مَا شغبوا بِهِ إِلَّا أَنهم فصلوها ومدوها فِي الْكفْر وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْمُؤمن وَفِي غير ذَلِك مِمَّا هُوَ الْمَعْنى الَّذِي أوردناه بِعَيْنِه وَلَا زِيَادَة فِيهِ اصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ شَيْئا لأننا نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْعَالم كُله قِسْمَانِ جَوْهَر حَامِل وَعرض مَحْمُول وَلَا مزِيد وَلَا ثَالِث فِي الْعَالم غير هذَيْن الْقسمَيْنِ هَذَا أَمر يعرف بضرورة الْعقل وضرورة الْحس فالجواهر مُغَايرَة بَعْضهَا لبَعض بذواتها الَّتِي هِيَ أشخاصها يَعْنِي بالغيرية فِيهَا وتختلف أَيْضا بجنسها وَهِي أَيْضا مفترق بَعْضهَا من بعض بِالْعرضِ الْمَحْمُول فِي كل حَامِل من الْجَوَاهِر وَأما الْأَعْرَاض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرة فِيهَا وَكَذَلِكَ هَذِه أَيْضا بَعْضهَا مُغَاير لبَعض بذواتها وَبَعضهَا مفارق لبَعض بذواتها وَإِن كَانَ بعض الْأَعْرَاض أَيْضا قد تحمل الْأَعْرَاض كَقَوْلِنَا حمرَة مشرقة وَحُمرَة كدرة وَعمل سيئ وَعمل صَالح وَقُوَّة شَدِيدَة وَقُوَّة دونهَا فِي الشدَّة وَمثل هَذَا كثير إِلَّا أَن كل هَذَا يقف فِي عدد متناه لَا يزِيد وَهَذَا أَمر يعلم بالحس وَالْعقل فالمتحرك يُفَارق السَّاكِن هَذَا بحركته وَهَذَا بسكونه وَالْحَرَكَة تفارق السّكُون بذاتها ويفارقها السّكُون بِذَاتِهِ وبالنوعية والغيرية وَالْحَرَكَة إِلَى الشرق تفارق الْحَرَكَة إِلَى الغرب يكون هَذِه إِلَى الشرق وَكَون هَذِه إِلَى الغرب بِذَاتِهِ وبالغيرية فَقَط وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فَكل شَيْئَيْنِ وَقعا تَحت نوع وَاحِد مِمَّا يَلِي الْأَشْخَاص فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بغيرتهما فَإِن كَانَا وَقعا تَحت نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بالغيرية فِي الشَّخْص وبالغيرية فِي النَّوْع أَيْضا والغيرية أَيْضا لَهَا نوع جَامع لجَمِيع أشخاصها الْآن أَن كل ذَلِك وَاقِف عِنْد حد من الْعدَد لَا يزِيد وَلَا بُد ثمَّ نسألهم خبرونا عَن الْمعَانِي الَّتِي تدعونها فِي حَرَكَة وَاحِدَة أَيّمَا أَكثر أَهِي أم الْمعَانِي الَّتِي تدعونها فِي حركتين فَإِن أثبتوا قلَّة وَكَثْرَة تركُوا مَذْهَبهم وأوجبوا النِّهَايَة فِي الْمعَانِي الَّتِي نفوا لنهاية عَنْهَا وَإِن قَالُوا لَا قلَّة وَلَا كَثْرَة هَا هُنَا كابروا وَأتوا بالمحال الناقض أَيْضا لأقوالهم لأَنهم إِذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين مَعْنيين وَهَكَذَا أبدا فَوَجَبت الْكَثْرَة والقلة ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلم يكن لَهُم جَوَاب أصلا إِلَّا أَن بَعضهم قَالَ أخبرونا أَلَيْسَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يخلق فِي جسم وَاحِد حركات لَا نِهَايَة لَهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجواب أهل الْإِسْلَام فِي هَذَا السُّؤَال نعم وَأما من عجزر بِهِ فَأَجَابُوا بِلَا فَسقط هَذَا السُّؤَال عَنْهُم وَكَانَ سُقُوط الْإِسْلَام عَنْهُم بِهَذَا الْجَواب أَشد من سُقُوط سُؤال أَصْحَاب معمر قَالَ أَبُو مُحَمَّد فتمادى سُؤَالهمْ لأهل الْحق فَقَالُوا فأخبرونا أَيّمَا أَكثر مَا يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ من خلق الحركات فِي جسمين أَو مَا يقدر عَلَيْهِ من خلق الحركات فِي جسم وَاحِد فَكَانَ جَوَاب أهل الْحق فِي ذَلِك أَنه لَا يَقع عدد على مَعْدُوم وَلَا يَقع الْعدَد الْأَعْلَى مَوْجُود مَعْدُود وَالَّذِي يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلم يَفْعَله فَلَيْسَ هُوَ بعد شَيْئا وَلَا لَهُ عدد وَلَا هُوَ مَعْدُود وَلَا نِهَايَة لقدرة الله تَعَالَى وَأما مَا يقدر عَلَيْهِ تَعَالَى وَلم يَفْعَله فَلَا يُقَال فِيهِ أَن لَهُ نِهَايَة وَلَا أَنه لَا نِهَايَة لَهُ وَأما كل مَا خلق الله تَعَالَى فَلهُ نِهَايَة بعد وَكَذَا كل مَا يخلق فَإِذا خلقه حدثت لَهُ نِهَايَة حِينَئِذٍ لَا قبل ذَلِك وَأما الْمعَانِي الَّتِي تدعونها فَإِنَّكُم تدعون أَنَّهَا مَوْجُودَة قَائِمَة فَوَجَبَ أَن يكون لَهَا نِهَايَة فَإِن نفيتم النِّهَايَة عَنْهَا لحقتم بِأَهْل الدَّهْر وكلمناكم بِمَا كلمناهم بِهِ مِمَّا قد ذكرنَا قبل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ لَو تثبت لكم هَذِه الْعبارَة من قَول الْقَائِل أَن مَا يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ لَا نِهَايَة لعدده وَهَذَا لَا يَصح بل الْحق فِي هَذَا أَن نقُول أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلق مَالا نِهَايَة لَهُ فِي وَقت ذِي نِهَايَة وَمَكَان ذِي نِهَايَة وَلَو شَاءَ أَن يخلق ذَلِك فِي وَقت غير ذِي نِهَايَة وَمَكَان غير ذِي نِهَايَة لَكَانَ قَادِرًا على كل ذَلِك لما وَجب من ذَلِك إِثْبَات مَا ادعيتم من وجود معَان فِي وَقت وَاحِد لَا نِهَايَة لَهَا إِذْ لَيْسَ هَا هُنَا عقل يُوجب ذَلِك وَلَا خبر يُوجب ذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس مِنْكُم إِذْ قُلْتُمْ لما كَانَ قَادِرًا على أَن يخلق مَالا نِهَايَة لَهُ قُلْنَا أَنه قد خلق مَالا نِهَايَة لَهُ فَهَذَا قِيَاس وَالْقِيَاس كُله بَاطِل ثمَّ لَو كَانَ الْقيَاس حَقًا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلا لِأَنَّهُ بزعمكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 قِيَاس مَوْجُود على ومعدوم قِيَاس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على مَا لم يخلقه وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد وَلَا فرق بَيْنكُم فِي هَذَا الْقيَاس الْفَاسِد وَبَين من يَقُول أَن فِي بلد كَذَا قوما مَا يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصرون من ألسنتهم فَإِذا كذب فِي ذَلِك وَسُئِلَ برهاناً على دَعْوَاهُ قَالَ أتفرون إِن الله قَادر على خلق ذَلِك فَقُلْنَا لَهُ نعم قَالَ فَهَذَا دَلِيل على صِحَة دعواي بل أَنْتُم أَسْوَأ حَالا لِأَن هَذَا أخبر عَن متوهم لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون فَأنْتم تخبرون عَن غير متوهم فِي النَّفس وَلَا متشكل فِي الْعقل وَهُوَ إقراركم بِوُجُود معَان لَا نِهَايَة لعددها فِي وَقت وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل هَذَا القَوْل الْفَاسِد وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَانَ يَكْفِي من بُطْلَانهَا أَنَّهَا دَعْوَى لَا برهَان على صِحَّتهَا وَهِي دَعْوَى فَاسِدَة غير مُمكنَة بل هِيَ محَال لَا يتَوَهَّم وَلَا وَلَا يتشكل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْأَحْوَال مَعَ الأشعرية وَمن وافقهم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْأَحْوَال الَّتِي ادعتها الأشعرية فَإِنَّهُم قَالُوا إِن هَا هُنَا أحوالاً لَيست حَقًا وَلَا بَاطِلا وَلَا هِيَ مخلوقة وَلَا غير مخلوقة وَلَا هِيَ مَوْجُودَة وَلَا مَعْدُومَة وَلَا هِيَ مَعْلُومَة وَلَا هِيَ مَجْهُولَة وَلَا هِيَ أَشْيَاء وَلَا هِيَ لَا أَشْيَاء وَقَالُوا من هَذَا علم الْعَالم بِأَن لَهُ علما ووجوده لوُجُوده مَا يجده قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ أَن لكم علما بِأَن لكم علما بالباري تَعَالَى وَبِمَا تعلمونه وَأَن لكم وجودا لوجودكم مَا تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بِأَن لكم علما وَهل لكم وجود لوجودكم ووجودكم مَا تجدونه فَإِن أقررتم بذلك لزمكم أَن تسلسلوا هَذَا أبدا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ ودخلتم فِي قَول أَصْحَاب معمر والدهرية وَإِن منعتم من ذَلِك سئلتم عَن صِحَة الدَّلِيل على صِحَة منعكم مَا منعتم من ذَلِك وَصِحَّة إيجابكم مَا أوجبتم من ذَلِك وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قدم الْقَدِيم وحدوث الْمُحدث وَبَقَاء الْبَاقِي وفناء الفاني وَظُهُور الظَّاهِر وخفاء الخافي وَقصد القاصد وَنِيَّة الناوي وزمان الزَّمَان وَمَا أشبه ذَلِك وَقَالُوا لَو كَانَ للْبَاقِي بَقَاء ولبقاء الْبَاقِي بَقَاء وَهَكَذَا أبدا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ قَالُوا فَهَذَا يُوجب وجود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا محَال وَهَكَذَا قَالُوا فِي قدم الْقَدِيم وَقدم قدمه وَقدم قدم قدمه إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَفِي حُدُوث أحد حُدُوث حُدُوثه وحدوث حُدُوث حُدُوثه إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَهَكَذَا قَالُوا فِي زمَان الزَّمَان وزمان زمَان الزَّمَان إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَفِي فنَاء الفاني فنَاء فنَاء فنائه مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَكَذَلِكَ ظُهُور الظَّاهِر وَظُهُور ظُهُوره وَظُهُور ظُهُور ظُهُوره إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَكَذَلِكَ الْقَصْد وَالْقَصْد إِلَى الْقَصْد وَالْقَصْد إِلَى الْقَصْد إِلَى الْقَصْد وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا نِهَايَة وَكَذَلِكَ النِّيَّة وَالنِّيَّة للنِّيَّة وَالنِّيَّة للنِّيَّة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَكَذَلِكَ تَحْقِيق الْحق وَتَحْقِيق تَحْقِيق الْحق إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أفكار السوء إِذا ظن صَاحبهَا أَنه يدفق فِيهَا فَهِيَ أضرّ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تحرجه إِلَى التَّخْلِيط الَّذِي ينسبونه إِلَى السوفسطائية وَإِلَى الهذيان الْمَحْض وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْكَلَام فِي هَذَا أبين من أَن يشكل على عَامي فَكيف على فهم 1 فَكيف على عَالم وَالْحَمْد لله نَحن نتكلم على هَذَا إِن شَاءَ الله عز وَجل كلَاما ظَاهرا لائحاً لَا يخفى على ذِي حس سليم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما الْقدَم فَإِنَّهُ من صِفَات الزَّمن وَمن فِيهِ تَقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمَان وَشَيخ أقدم من شيخ أَي أَنه مُتَقَدم بِزَمَانِهِ عَلَيْهِ وَالزَّمَان مُتَقَدم بِذَاتِهِ على الزَّمَان لَيْسَ فِي الْعَالم قدم قديم الْأَزْمَان هَذَا هُوَ حكم اللُّغَة الَّتِي لَا يُوجد فِيهَا غَيره أصلا فالقدم هُوَ التَّقَدُّم والتقدم مُتَقَدم على غَيره بِنَفسِهِ فَقَط لِأَن الْقدَم مَوْجُود مَعْلُوم وَهِي صفة الْمُتَقَدّم فَلَا يجوز إِنْكَاره وَأما قدم الْقدَم فَبَاطِل لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ نَص وَلَا قَامَ بِوُجُودِهِ دَلِيلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَأما وجود الْمَوْجُود فبضرورة الْحس أَن الْمَوْجُود حق وَأَنه يَقْتَضِي وَاجِد وَأَن الوجد يَقْتَضِي وجودا لما وجد هُوَ فعل الْوَاجِد وَصفته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 فَهُوَ حق لما ذكرنَا وَوُجُود الْوَاجِد بِذَاتِهِ لَا بِوُجُود هُوَ غَيره لِأَن وجود الْوُجُود لم يَأْتِ بِهِ نَص وَلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَأما الْبَارِي عز وَجل فَإِنَّهُ يجد نَفسه وَيعلمهَا ويجد مَا دونه ويعلمه بِذَاتِهِ لَا بِوُجُود هُوَ غَيره وَلَا بِعلم هُوَ غَيره فَقَط وَكَذَلِكَ الْعَالم منا يَقْتَضِي علما وَلَا بُد هُوَ فعل الْعَالم وَصفته المحمولة فِيهِ عرضا بِيَقِين وَيزِيد وَيذْهب وَيثبت أطواراً هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ والعالم منا يعلم أَنه يحمل علما بِعِلْمِهِ ذَلِك لَا بِعلم هُوَ غير علمه لِأَن الْعلم بِالْعلمِ لم يُوجب وجوده نَص وَلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَكَذَلِكَ الْبَاقِي مثله بِلَا شكّ والبقاء هُوَ اتِّصَال وجوده مُدَّة بعد مُدَّة وَهَذَا معنى صَحِيح لَا يجوزان يُنكره عَاقل فإمَّا بَقَاء الْبَقَاء فَلم يَأْتِ بِإِيجَاب وجود نَص ولاقام بِهِ برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَلَا يجوز أَن يُوصف لله تَعَالَى بِبَقَاء الْبَقَاء وَلَا أَنه 1 بَاقٍ كَمَا لَا يُوصف بالخلد وَلَا بِأَنَّهُ خَالِد وَلَا بالدوام وَلَا بِأَنَّهُ دَائِم وَلَا بالثبات وَلَا بِأَنَّهُ ثَابت وَلَا بطول الْعُمر وَلَا بطول الْمدَّة لِأَن الله عز وَجل لم يسم نَفسه بِشَيْء من ذَلِك لَا فِي الْقُرْآن وَلَا على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا قَالَه قطّ أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَا قَامَ بِهِ برهَان بل الْبُرْهَان قَامَ بِبُطْلَان ذَلِك لِأَن كل مَا ذكرنَا من صِفَات المخلوقين وَلَا يجوز أَن يُوصف الله تَعَالَى بِشَيْء من صِفَات المخلوقين إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِأَن يُسَمِّي باسم مَا فَيُوقف عِنْده وَلِأَن كل مَا ذكرنَا أَعْرَاض فِيمَا هُوَ فِيهِ وَالله تَعَالَى لَا يحمل الْأَعْرَاض وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عز وَجل لَا فِي زمَان وَلَا يمر عَلَيْهِ زمَان وَلَا هُوَ متحرك وَلَا سَاكن لَكِن يُقَال لم يزل الله تَعَالَى وَلَا يزَال وَأما الفناء فَإِنَّهُ مُدَّة للعدم تعدها أَجزَاء الحركات والسكون وَلَا يجوز أَن تكون للمدة مُدَّة لَكِنَّهَا مُدَّة فِي نَفسهَا ولنفسها فَالْقَوْل بِالزَّمَانِ حق لِأَنَّهُ محسوس مَعْلُوم وَأما القَوْل بِزَمَان الزَّمَان فَهُوَ شَيْء لم يَأْتِ بِهِ نَص وَلَا قَامَ بِصِحَّتِهِ برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَأما ظُهُور الظَّاهِر فَهُوَ مُتَيَقن مَعْلُوم والظهور صفة الظَّاهِر وَفعله تَقول ظهر يظْهر ظهوراً والظهور مَعْلُوم ظَاهر بِنَفسِهِ وَلَا يجوز أَن يُقَال أَن للظهور ظهوراً لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ نَص وَلَا قَامَ بِصِحَّتِهِ برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَأما خَفَاء الخافي فَهُوَ عدم ظُهُوره والعدم لَيْسَ شَيْئا كَمَا قدمنَا وَأما الْقَصْد إِلَى الشَّيْء وَالنِّيَّة لَهُ فَإِنَّمَا هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشَّيْء وَالْقَوْل بهما وَاجِب لِأَنَّهُمَا موجودان بِالضَّرُورَةِ يجدهما كل وَاحِد من نَفسه وبعلمهما من غَيره علما ضَرُورِيًّا وَأما الْقَصْد إِلَى الْقَصْد وَالنِّيَّة للنِّيَّة فَبَاطِل لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ نَص وَلَا أوجبهما دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَالْقَوْل بِهِ لَا يجوز فَهَذَا وَجه الْبَيَان فِيمَا خَفِي عَلَيْهِم حَتَّى أَتَوا فِيهِ بِهَذَا التَّخْلِيط وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا إِذا قُلْتُمْ هَذِه أَحْوَال أَهِي معَان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بَعْضهَا من بعض أم لَيست مَعَاني أصلا وَلَا لَهَا مسميات وَلَا هِيَ مضبوطة وَلَا محدودة متميز بَعْضهَا من بعض فَإِن قَالُوا لَيست مَعَاني وَلَا محدودة وَلَا مضبوطة وَلَا متميزا بَعْضهَا من بعض وَلَا لتِلْك الْأَسْمَاء مسميات أصلا قيل لَهُم فَهَذَا هُوَ معنى الْعَدَم حَقًا فَلم قُلْتُمْ أَنَّهَا لَيست مَعْدُومَة ثمَّ لم سميتموها أحوالاً وَهِي مَعْدُومَة وَلَا تكون التَّسْمِيَة إِلَّا شَرْعِيَّة أَو لغوية وتسميتكم هَذِه الْمعَانِي أحوالاً لَيست تَسْمِيَة شَرْعِيَّة وَلَا لغوية وَلَا مصطلحاً عَلَيْهَا لبَيَان مَا يَقع عَلَيْهِ فَهِيَ بَاطِل مَحْض بِيَقِين فَإِن قَالُوا هِيَ معَان مضبوطة وَلها مسميات محدودة متميزة بَعْضهَا من بعض قيل لَهُم هَذِه صفة الْمَوْجُود وَلَا بُد فَلم قُلْتُمْ أَنَّهَا لَيست مَوْجُودَة وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لَهُم أَيْضا هَذِه الْأَحْوَال الَّتِي تَقولُونَ أمعقولة هِيَ أم غير معقولة فَإِن قَالُوا هِيَ معقولة كَانُوا قد أثبتوا لَهَا مَعَاني وحقائق من أجلهَا عقلت فَهِيَ مَوْجُودَة وَلَا بُد والعدم لَيْسَ معقولاً لكنه لَا معنى لهَذِهِ اللَّفْظَة أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيُقَال لَهُم أَيْضا هَل الْأَحْوَال فِي اللُّغَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وَفِي الْمَعْقُول إِلَّا صِفَات لذِي حَال وَهل الْحَال فِي اللُّغَة إِلَّا بِمَعْنى التَّحَوُّل من صفة إِلَى أُخْرَى يُقَال هَذَا حَال فلَان الْيَوْم وَكَيف كَانَت حالك بالْأَمْس وَكَيف يكون الْحَال غَدا فَإِذا الْأَمر هَكَذَا وَلَا بُد فَهَذِهِ الْأَحْوَال مَوْجُودَة حق مخلوقة وَلَا بُد فَظهر فَسَاد قَوْلهم وَأَنه من أسخف الهذيان والمحال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يرضى بِهِ عَاقل وَيُقَال لَهُم أَيْضا قبل كل شَيْء وَبعده فَمن أَيْن سميتم هَذَا الِاسْم يَعْنِي الْأَحْوَال وَمن أَيْن قُلْتُمْ لَا هِيَ مَعْلُومَة وَلَا هِيَ مَجْهُولَة وَلَا حق وَلَا بَاطِل وَلَا مخلوقة وَلَا غير مخلوقة وَلَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة وَلَا هِيَ أَشْيَاء وَلَا غير أَشْيَاء أَي دَلِيل حداكم على هَذَا الحكم أقرآن أم سنة أم إِجْمَاع أم قَول مُتَقَدم أَو لُغَة أم ضَرُورَة عقل أم دَلِيل إقناعي أم قِيَاس فهاتوه وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا الهذر والهوس وَقلة المبالاة بِمَا يَكْتُبهُ الْملكَانِ وَيسْأل عَنهُ رب الْعَالمين والتهاون باستخفاف أهل الْعُقُول لمن قَالَ بِهَذَا الْجُنُون وَلَا مزِيد ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَمَا يَنْبَغِي لَهُم بعد هَذَا إِن ينكروا على من أَتَى بِمَا لَا يعقل ككون الْجِسْم فِي مكانين والجسمين فِي مَكَان وَاحِد وَكَون شَيْء قَائِما قَاعِدا وَكَون أَشْيَاء غير متناهية فِي وَقت وَاحِد فَإِن قَالُوا هَذَا كفر قيل لَهُم بل الْكفْر مَا جئْتُمْ بِهِ لِأَنَّهُ إبِْطَال الْحَقَائِق كلهَا وَالْعجب كل الْعجب أَنهم لَا يجوزون قدرَة الله تَعَالَى على مَا هُوَ محَال عِنْدهم وَقد أَتَوا فِي هَذَا الْفَصْل بِعَين الْمحَال ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَلَامهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَلَام مَا سمع بأسخف مِنْهُ وَلَا قَول السوفسطائية وَلَا قَول النَّصَارَى وَلَا قَول الغالية على أَن هَذِه الْفرق أَحمَق الْفرق أقوالاً أما السوفسطائية فَإِنَّهُم قطعُوا على أَن الْأَشْيَاء بَاطِل لَا حق أَو أَنَّهَا حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وباطل عِنْد من هِيَ عِنْده بَاطِل وَأما النَّصَارَى والغالية فَإِن كَانَت هَاتَانِ الفرقتان قد أتتا بالعظائم فَإِنَّهُم قطعُوا بِأَنَّهَا حق وَأما هَؤُلَاءِ المخاذيل فَإِنَّهُم أَتَوا بقول حققوه وأبطلوه وَلم يحققوه وَلَا أبطلوه كل ذَلِك مَعًا فِي وَقت وَاحِد من وَجه وَاحِد وَهَذَا لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا مبرسم 1 أَو مَجْنُون أَو ماجن يُرِيد أَن يضْحك من مَعَه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نتكلف بَيَان هَذَا التَّخْلِيط الَّتِي أَتَوْ بِهِ وَإِن كَانَ مكتفياً بِسَمَاعِهِ وَلَكِن التزيد من إبِْطَال الْبَاطِل مَا أمكن حسن فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن قَوْلهم لَا هِيَ حق وَلَا هِيَ بَاطِل فَإِن كل ذِي حس سليم يدْرِي أَن كل مَا لم يكن حَقًا فَهُوَ بَاطِل وَمَا لم يكن بَاطِلا فَهُوَ حق هَذَا لَا يعقل غَيره فَكيف وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} وَقَالَ تَعَالَى {ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل} وَقَالَ تَعَالَى {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَخلق كل شَيْء فقدره} وَقَالَ تَعَالَى {قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا} وَقَالَ {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَؤُلَاء قوم ينتمون إِلَى الْإِسْلَام ويصدقون الْقُرْآن وَلَوْلَا ذَلِك مَا احتججنا عَلَيْهِم فقد قطع الله تَعَالَى أَنه لَيْسَ إِلَّا حق أَو بَاطِل وَلَيْسَ إِلَّا علم أَو جهل وَهُوَ عدم الْعلم وَلَيْسَ إِلَّا وجود أَو عدم وَلَيْسَ إِلَّا شَيْء مَخْلُوق أَو الْخَالِق أَو لَفْظَة الْعَدَم الَّتِي لَا تقع على شَيْء وَلَا على مَخْلُوق فقد أكذبهم الله عز وَجل فِي دَعوَاهُم وَلَا يشك ذُو حس سليم أَن مَا لم يكن بَاطِلا فَهُوَ حق وَمَا لم يكن حَقًا فَهُوَ بَاطِل وَمَا لم يكن مَعْلُوما فَهُوَ مَجْهُول وَمَا لم يكن مَجْهُولا فَهُوَ مَعْلُوم وَمَا لم يكن شَيْئا فَهُوَ لَا شَيْء وَمَا لم يكن لَا شَيْء فَهُوَ شَيْء وَمَا لم يكن مَوْجُودا فَهُوَ مَعْدُوم وَمَا لم يكن مَعْدُوما فَهُوَ مَوْجُود وَمَا لم يكن مخلوقاً فَهُوَ غير مَخْلُوق وَمَا لم يكن غير مَخْلُوق فَهُوَ مَخْلُوق هَذَا كُله مَعْلُوم ضَرُورَة وَلَا يعقل غَيره فَإذْ هَذَا كَذَلِك وَلَا فرق بَين مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَبَين القَوْل اللَّازِم لَهُم ضَرُورَة وَهُوَ أَن تِلْكَ الْأَحْوَال مَعْدُومَة مَوْجُودَة مَعًا حق بَاطِل مَعًا مَعْلُومَة مَجْهُولَة مَعًا مخلوقة غير مخلوقة مَعًا شَيْء لَا شَيْء مَعًا وَهَذَا هُوَ نفس قَوْلهم وَمُقْتَضَاهُ لأَنهم إِذْ قَالُوا لَيست حَقًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 فقد أوجبوا أَنَّهَا بَاطِل وَإِذ قَالُوا وَلَا هِيَ بَاطِل فقد أوجبوا أَنَّهَا حق وَهَكَذَا فِي سَائِر مَا قَالُوهُ فَأُعْجِبُوا الْعُقُول وسع هَذَا فِيهَا وسخموا بِهِ ورقهم وَعجب آخر وَهُوَ قَوْلهم إِن هَا هُنَا أحوالا وَلَفْظَة هَا هُنَا مَعْنَاهَا الْإِثْبَات بِلَا شكّ فَهِيَ مَوْجُودَة ثَابِتَة بِلَا شكّ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم يخلصوا من هَذَا من قَول معمر فِي وجوب وجود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا أَو أَن يصيروا إِلَى قَوْلنَا فِي إبِْطَال هَذِه الَّتِي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملَة وَمَا نعلم هوساً إِلَّا وَقد انتظمته هَذِه الْمقَالة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَمَسْأَلَة أُخْرَى قَالَت الأشعرية لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء لَهُ بعض أصلا وَلَا شَيْء لَهُ نصف وَلَا ثلث وَلَا ربع وَلَا خمس وَلَا سدس وَلَا سبع وَلَا ثمن وَلَا تسع وَلَا عشر وَلَا جُزْء أصلا وَاحْتَجُّوا فِي هَذَا بِأَن قَالُوا يلْزم من قَالَ أَن الْوَاحِد عشر الْعشْرَة وجزء من الْعشْرَة وَبَعض الْعشْرَة أَن يَقُول وَلَا بُد أَن الْوَاحِد عشر من نَفسه وجزء من نَفسه وَبَعض نَفسه وَأَنه جُزْء لغيره عشر لغيره لِأَن الْعشْرَة تِسْعَة وَوَاحِد فَلَو كَانَ الْوَاحِد عشر الْعشْرَة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لَكَانَ عشرا لنَفسِهِ وللتسعة الَّتِي هِيَ غَيره ولكان جزأ بَعْضًا لنَفسِهِ وللتسعة الَّتِي هِيَ غَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خبط شَدِيد أول ذَلِك أَنه رد على الله تَعَالَى مُجَرّد وَتَكْذيب لِلْقُرْآنِ وَخلاف اللُّغَة بل لجَمِيع اللُّغَات ومكابرة للعقول وللحواس قَالَ تَعَالَى {وَإِذا خلا بَعضهم إِلَى بعض} وَقَالَ تَعَالَى {يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا} وَقَالَ تَعَالَى {فلأمه الثُّلُث} {فلامه السُّدس} {فلهَا النّصْف} {ولهن الرّبع} {فَلَهُنَّ الثّمن} فقد كذبُوا الْقُرْآن نصا ثمَّ هَذَا مَوْجُود فِي كل طبيعة وَفِي كل لُغَة ومحسوس بالحواس ثمَّ يُقَال لَهُم لَا فرق بَيْنكُم وَبَين من صحّح وَلم يُنكر كَون الشَّيْء بعض نَفسه وَبَعض غَيره وجزأ لنَفسِهِ وجزأ لغيره وَعشر نَفسه وَعشر غَيره وَاحْتج فِي تَصْحِيح ذَلِك بِالْحجَّةِ الَّتِي رمتم بهَا إبِْطَال ذَلِك وَلَا مزِيد وكلاكما متسكع 1 فِي ظلمَة الْخَطَأ ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَيْسَ الْأَمر كَمَا ظننتم بل الْأَسْمَاء مَوْضُوعَة للتفاهم ولتمييز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسْم للعشرة أَفْرَاد مجتمعات فِي الْعدَد كَذَلِك لتسعة وَوَاحِد ولثمانية واثنين ولسبعة وَثَلَاثَة ولستة وَأَرْبَعَة وَخَمْسَة وَخَمْسَة قَالَ تَعَالَى {ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} وَهَكَذَا جَمِيع الْأَعْدَاد لَا يُنكر ذَلِك إِلَّا مخذول مُنكر للمشاهدة فبالضرورة نَدْرِي أَن كل جُزْء من تِلْكَ الْجُمْلَة فَهُوَ بعض لَهَا وَعشر لَهَا وَقسم مِنْهَا لنسبة مَا وَلَا يُقَال هُوَ جُزْء لنَفسِهِ وَلَا جُزْء لغيره وَلَا أَنه بعض لنَفسِهِ وَلَا أَنه بعض لغيره وَلَا عشر لنَفسِهِ وَلَا عشر لغيره وَمثل هَذَا البلق الَّذِي هُوَ اسْم لِاجْتِمَاع السوَاد وَالْبَيَاض مَعًا فالبياض البلق والسواد بعد البلق وَلَيْسَ الْبيَاض جزأ لنَفسِهِ وللسواد وَلَا بَعْضًا لنَفسِهِ وللسواد وكل وَاحِد مِنْهُمَا جُزْء للباق وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان اسْم للجملة المجتمعة من أَعْضَائِهِ وَلَا شكّ فِي أَن الْعين بعض الْإِنْسَان وجزء من الْإِنْسَان وَلَا يحْتَمل أَن يُقَال الْعين بعض نَفسهَا وَبَعض الْأذن وَالْيَد وَلَا أَن يُقَال الْأذن جُزْء لنَفسهَا وللعين وَالْأنف وَهَكَذَا فِي سَائِر الْأَعْضَاء فعلى قَول هَؤُلَاءِ النوكى 2 يلْزمهُم أَن لَا تكون الْعين بعض الْإِنْسَان وَأَن يَقُولُوا أَن الْعين بعض نَفسهَا وَبَعض الْأذن وَمن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الْجمل لِأَن الْجمل لَيست شَيْئا الْبَتَّةَ غير أبعاضها وَمن أبطل الْجمل فقد أبطل الْكل والجزء وأبطل الْعَالم بِكُل مَا فِيهِ وَإِذا بَطل الْعَالم بَطل الدّين وَالْعقل وَهَذِه حَقِيقَة السفسطة وَمَا نعلم فِي الْأَقْوَال أَحمَق من هَذِه المسالة وَمن الَّتِي قبلهَا نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 الْكَلَام فِي خلق الله عز وَجل للْعَالم فِي كل وَقت وزيادته فِي كل دقيقة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكر عَن النظام أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى مَا يخلق كل مَا خلق فِي وَقت وَاحِد دون أَن يعدمه وَأنكر عَلَيْهِ القَوْل بعض أهل الْكَلَام قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَول النظام هَا هُنَا صَحِيح لأننا إِذا أثبتنا أَن خلق الشَّيْء نَفسه فخلق الله تَعَالَى قَائِم فِي كل مَوْجُود أبدا مَا دَامَ ذَلِك الْمَوْجُود مَوْجُودا وَأَيْضًا فَإنَّا نسألهم مَا معنى قَوْلكُم خلق الله تَعَالَى أَمر كَذَا فجوابهم أَن معنى خلقه أَنه تَعَالَى أخرجه من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود فَنَقُول لَهُم أَلَيْسَ معنى هَذَا القَوْل مِنْكُم أَنه أوجده وَلم يكن مَوْجُودا فَلَا بُد من قَوْلهم نعم فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فالخلق هُوَ الإيجاد عنْدكُمْ بِلَا شكّ فأخبرونا أَلَيْسَ الله تَعَالَى موجداً لكل مَوْجُود أبدا مُدَّة وجوده فَإِن أَنْكَرُوا ذَلِك أحالوا وأوجبوا أَن الْأَشْيَاء مَوْجُودَة وَلَيْسَ الله تَعَالَى موجداً لَهَا الْآن وَهَذَا تنَاقض وَإِن قَالُوا نعم فَإِن الله تَعَالَى موجد لكل مَوْجُود أبدا مَا دَامَ مَوْجُودا قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ الَّذِي أنكرتم بِعَيْنِه قد أقررتم بِهِ لِأَن الإيجاد هُوَ الْخلق نَفسه وَالله تَعَالَى موجد لكل مَا يُوجد فِي كل وَقت أبدا وَإِن لم يفنه قبل ذَلِك وَالله تَعَالَى خَالق لكل مَخْلُوق فِي كل وَقت وَإِن لم يفنه قبل ذَلِك وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبرهان آخر وَهُوَ قَول الله تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} وَصَحَّ الْبُرْهَان بِأَن الله تَعَالَى خلق التُّرَاب وَالْمَاء الَّذِي يتغذى آدم وَبَنوهُ بِمَا اسْتَحَالَ عَنْهُمَا وَصَارَت فِيهِ دِمَاء وأحاله الله تَعَالَى منياً فَثَبت بِهَذَا يَقِينا أَن جَمِيع أجساد الْحَيَوَان والنوامى كلهَا مُتَفَرِّقَة ثمَّ جمعهَا الله تَعَالَى فَقَامَ مِنْهَا الْحَيَوَان والنوامى وَقَالَ عز وَجل {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} وَقَالَ تَعَالَى {خلقا من بعد خلق} فصح أَن فِي كل حِين يحِيل الله تَعَالَى أَحْوَال مخلوقاته فَهُوَ خلق جَدِيد وَالله تَعَالَى يخلق فِي كل حِين جَمِيع الْعَالم خلقا مستأنفاً دون أَن يفنيه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْحَرَكَة والسكون قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا حَرَكَة فِي الْعَالم وَإِن كل ذَلِك سُكُون وَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا وجدنَا الشَّيْء سَاكِنا فِي الْمَكَان الأول سَاكِنا فِي الْمَكَان الثَّانِي وَهَكَذَا أبدا فعلنَا أَن كل ذَلِك سُكُون وَهَذَا قَول مَنْسُوب إِلَى معمر بن عَمْرو الْعَطَّار مولى بني سليم أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن لَا سُكُون أصلا وَإِنَّمَا هِيَ حَرَكَة اعْتِمَاد وَهَذَا قَول ينْسب إِلَى إِبْرَاهِيم بن سيار النظام وَاحْتج غير النظام من أهل هَذِه الْمقَالة بِأَن قَالُوا السّكُون إِنَّمَا هُوَ عدم الْحَرَكَة والعدم لَيْسَ شَيْئا وَقَالَ بَعضهم هُوَ ترك الْحَرَكَة وَترك الْفِعْل لَيْسَ فعلا وَلَا هُوَ معنى وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى إبِْطَال الْحَرَكَة والسكون مَعًا وَقَالُوا إِنَّمَا يُوجد متحرك وَسَاكن فَقَط وَهُوَ قَول أبي بكر بن كيسَان الْأَصَم وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْجِسْم فِي أول خلق الله تَعَالَى لَيْسَ سَاكِنا وَلَا متحركاً وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى إِثْبَات الْحَرَكَة والسكون إِلَّا أَنَّهَا قَالَت أَن الحركات أجسام وَهُوَ قَول هِشَام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صَفْوَان السَّمرقَنْدِي وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى إِثْبَات الْحَرَكَة والسكون وَأَن كل ذَلِك أَعْرَاض وَهَذَا هُوَ الْحق فَأَما من قَالَ بِنَفْي الْحَرَكَة وَأَن كل ذَلِك سُكُون فَقَوْلهم يبطل بأننا قد علمنَا بِأَن السّكُون إِنَّمَا هُوَ إِقَامَة فِي الْمَكَان وَأَن الْحَرَكَة نقلة عَن ذَلِك الْمَكَان وَزَوَال عَنهُ وَلَا شكّ فِي أَن الزَّوَال عَن الشَّيْء هُوَ غير الْإِقَامَة فِيهِ فَإذْ الْأَمر كَذَلِك فَوَاجِب أَن يكون لهذين الْمَعْنيين المتغايرين لكل وَاحِد مِنْهُمَا اسْم غير اسْم الآخر كَمَا هما متغايران فاتفق فِي اللُّغَة أَن يُسمى أَحدهمَا حَرَكَة وَيُسمى الآخر سكوناً وَأما قَوْلهم أَن كل حَرَكَة فَهِيَ سُكُون فِي الْمَكَان الثَّانِي فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن السّكُون إِقَامَة لَا نقلة فِيهَا فَإِذا وجدت نقلة مُتَّصِلَة لَا إِقَامَة فِيهَا فَهِيَ غير الْإِقَامَة الَّتِي لَا نقلة فِيهَا وَنَوع آخر لَهُ أَيْضا أشخاص غير أشخاص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 النَّوْع الآخر وبيقين نَدْرِي أَن الشَّيْء المتحرك من مَكَان إِلَى مَكَان فَإِنَّهُ وَإِن جَاوز كل مَكَان يمر عَلَيْهِ فَإِنَّهُ غير وَاقِف وَلَا مُقيم هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ يعرف ذَلِك بضرورة الْحس فصح أَن الْحَرَكَة معنى وَأَن السّكُون معنى آخر وَأما من قَالَ أَن السّكُون حَرَكَة اعْتِمَاد فاحتجاج لَا يعقل فَلَا وَجه للاشتغال بِهِ وَأما حجَّة من احْتج بِأَن السّكُون عدم الْحَرَكَة والعدم لَيْسَ شَيْئا فَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ عقب الْحَرَكَة إِقَامَة مَوْجُودَة ظَاهِرَة فَهِيَ وَإِن كَانَ مَعهَا بوجودها عدمت الْحَرَكَة فَلَيْسَتْ هِيَ عدماً كَمَا أَن الْقيام معنى صَحِيح مَوْجُود وَإِن كَانَ قد عدمت مَعَه سَائِر الحركات والأعمال من الْقعُود والاتكاء والاضطجاع وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من قَالَ بل الْحَرَكَة لَيست معنى لِأَنَّهَا عدم السّكُون فَهَذَا مَالا انفكاك عَنهُ وَكَذَلِكَ من قَالَ أَيْضا أَن الْمَرَض لَيْسَ معنى لِأَنَّهُ عدم الصِّحَّة وَالصِّحَّة لَيست معنى لِأَنَّهَا عدم الْمَرَض وَمثل هَذَا كثير جدا وَفِي هَذَا إبِْطَال الْحَقَائِق كلهَا وَأما من قَالَ أَن التّرْك لَيْسَ معنى فخطأ لِأَن كل من دون الله تَعَالَى فَإِنَّهُ إِن ترك معنى مَا وفعلاً مَا فعلا بُد لَهُ ضَرُورَة من فعل آخر وَمعنى آخر هَذَا أَمر يُوجد بِالْمُشَاهَدَةِ والحس لَا يُمكن غير ذَلِك فصح أَن ترك من دون الله تَعَالَى لفعل مَا هُوَ أَيْضا فعل صَحِيح بِوُجُودِهِ مِنْهُ سمي تَارِكًا لما ترك ترك وَلَيْسَ الله تَعَالَى كَذَلِك بل لم يزل غير فَاعل وَلم يكن بذلك فَاعِلا للترك لِأَن ترك الْإِنْسَان للْفِعْل كَمَا بَينا عرض مَوْجُود فِيهِ وَهُوَ حَامِل لَهُ وَلَو كَانَ لترك الله تَعَالَى للْفِعْل معنى لَكَانَ قَائِما بِهِ تَعَالَى ومعاذ الله من هَذَا من أَن يكون عز وَجل حَامِلا لعرض فَلَو كَانَ أَيْضا قَائِما بِنَفسِهِ لَكَانَ جوهراً وَالتّرْك لَيْسَ جوهراً وَلَو كَانَ قَائِما بِغَيْرِهِ عز وَجل لَكَانَ تَعَالَى فَاعِلا لَهُ غير تَارِك فصح الْفرق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من أبطل الْحَرَكَة والسكون مَعًا فَقَوْل فَاسد أَيْضا لِأَنَّهُ أثبت المتحرك والساكن مَعَ ذَلِك وبيقين يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن من تحرّك سكن فَإِن تِلْكَ الْعين المتحركة ثمَّ الساكنة هِيَ عين وَاحِدَة وَذَات وَاحِدَة لم تتبدل ذَاتهَا وَإِنَّمَا تبدل عرضهَا الْمَحْمُول فِيهَا فبالضرورة تَدْرِي أَنه حدث فِيهِ أَوله أَو مِنْهُ معنى من أَجله اسْتحق أَن يُسمى متحركاً وَأَنه حدث فِيهِ أَوله أَو مِنْهُ أَيْضا معنى من أَجله اسْتحق أَن يُسمى سَاكِنا وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن بِأَن يُسمى متحركاً أَحَق بِهِ مِنْهُ بِأَن يُسمى سَاكِنا هَذَا أَمر محسوس مشَاهد فَذَلِك الْمَعْنى هُوَ الْحَرَكَة أَو السّكُون فصح وجودهما ضَرُورَة وَلَا فرق بَين من اثْبتْ السَّاكِن والمتحرك وَنفى الْحَرَكَة والسكون وَلَا فرق بَينه وَبَين من أثبت الضَّارِب والقائم والآكل وأبطل الضَّرْب وَالْأكل وَالْقِيَام وَهَذِه سفسطة صَحِيحَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من قَالَ أَن الْجِسْم فِي أول خلق الله عز وَجل لَهُ لَيْسَ سَاكِنا وَلَا متحركاً فَكَلَام فَاسد أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم وَلَا يعقل معنى ثَالِث لَيْسَ حَرَكَة وَلَا سكوناً وَهَذَا لَا يتشكل فِي النَّفس وَلَا يُثبتهُ عقل وَلَا سمع وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ قَول لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل وَلَا شكّ فِي أَن الله تَعَالَى إِذا خلق الْجِسْم فَإِنَّمَا يخلقه فِي زمَان وَمَكَان فَإِذا لَا شكّ فِي ذَلِك فالجسم فِي أول حُدُوثه سَاكن فِي الْمَكَان الَّذِي خلقه الله تَعَالَى فِيهِ وَلَو طرفَة عين ثمَّ إِمَّا ن يتَّصل سكونه فِيهِ فتطول إِقَامَته فِيهِ وَإِمَّا أَن ينْتَقل عَنهُ فَيكون متحركاً عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل بل هُوَ متحرك لِأَنَّهُ خَارج عَن الْعَدَم إِلَى الْوُجُود قيل لَهُ هَذَا مِنْك تَسْمِيَة فَاسِدَة لِأَن الْحَرَكَة فِي اللُّغَة وَهِي الَّتِي يتَكَلَّم عَلَيْهَا إِنَّمَا هِيَ نقلة من مَكَان إِلَى مَكَان والعدم لَيْسَ مَكَانا وَلم يكن الْمَخْلُوق شَيْئا قبل أَن يخلقه الله تَعَالَى فحال خلعذ هِيَ أول أَحْوَاله الَّتِي لم يكن هُوَ قبلهَا فَكيف أَن يكون لَهُ حَال قبلهَا فَلم ينْتَقل أصلا بل ابتداه الله تَعَالَى الْآن وَأما الْجِسْم الْكُلِّي الَّذِي هُوَ جرم الْعَالم جملَة وَهُوَ الْفلك الْكُلِّي فَكل جُزْء مِنْهُ مُقَدّر مَفْرُوض فَإِن أجزاءه المحيطة بِهِ من أَربع جِهَات والجزء الَّذِي يَلِيهِ فِي جِهَة عمق الْفلك هُوَ مَكَانَهُ وَلَا مَكَان لَهُ فِي الصفحة الَّتِي لَا تلِي الْأَجْزَاء الَّتِي ذكرنَا وَالله تَعَالَى يمسِكهُ بقوته كَمَا يَشَاء وَلَا يلاقيه من صفحته الْعليا شَيْء أصلا وَلَا هُنَالك مَكَان وَلَا زمَان وَلَا خلاء وَلَا ملا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَأَيْت لبَعض النوكى مِمَّن ينتمي إِلَى الْكَلَام قولا ظريفاً وَهُوَ أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى إِذْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 خلق الأَرْض خلق جرما عَظِيما يمْسِكهَا لِئَلَّا تتحدر سفلاً فحين خلق ذَلِك الجرم أعدمه وَخلق آخر وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة لِأَنَّهُ زعم لَو بقاه وَقْتَيْنِ لَا احْتَاجَ إِلَى مسك وَهَكَذَا أبدا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ كَأَن هَذَا الأنوك لم يسمع قَول الله تَعَالَى {أَن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده} فصح أَن الله تَعَالَى يمسك الْكل كَمَا هُوَ دون عمد لَا زِيَادَة وَلَا جرم آخر وَلَو أَن هَؤُلَاءِ المخاذيل إِذْ عدموا الْعلم تمسكوا بِاتِّبَاع الْقُرْآن وَالسُّكُوت عَن الزِّيَادَة وَالْخَبَر عَن الله بِمَا لَا علم لَهُم بِهِ لَكَانَ أسلم لَهُم فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَلَكِن من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ونعوذ بِاللَّه من الضلال أما من قَالَ أَن الحركات أجسام فخطأ لِأَن الْجِسْم فِي اللُّغَة مَوْضُوع للطويل العريض العميق ذِي المساحة وَلَيْسَت الْحَرَكَة كَذَلِك فَلَيْسَتْ جسماً وَلَا يجوز أَن يُوقع عَلَيْهَا اسْم جسم إِذْ لم يَأْتِ ذَلِك فِي اللُّغَة وَلَا فِي الشَّرِيعَة وَلَا أوجبه دَلِيل وأوضح أَنَّهَا لَيست جسماً فَهِيَ بِلَا شكّ عرض وَأما من قَالَ أَن الْحَرَكَة ترى فَقَوْل فَاسد لِأَنَّهُ قد صَحَّ إِن الْبَصَر لَا يَقع فِي هَذَا الْعَالم إِلَّا على لون فِي ملون فَقَط وبيقين نَدْرِي أَن الْحَرَكَة لَا لون لَهَا فَإذْ لَا لون لَهَا فَلَا سَبِيل إِلَى أَن ترى وَإِنَّمَا علمنَا كَون الْحَرَكَة لأننا رَأينَا لون المتحرك فِي مَكَان مَا ثمَّ رَأَيْنَاهُ فِي مَكَان آخر فَعلمنَا أَن ذَلِك الملون قد انْتقل عَن مَكَان إِلَى مَكَان بِلَا شكّ وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الْحَرَكَة أَو بِأَن يحس الْجِسْم قد انْتقل من مَكَان إِلَى مَكَان فيدري حِينَئِذٍ من لامسه وَإِن كَانَ أعمى أَو مطبق الْعَينَيْنِ أَنه تتحرك وبرهان مَا قُلْنَا أَن الْهَوَاء لما لم يكن لَهُ لون لم يره أحد وَإِنَّمَا يعلم تموجه وتحركه بملاقات فَإِنَّهُ منتقل وَهُوَ هبوب الرِّيَاح وَكَذَلِكَ أَيْضا علمنَا حَرَكَة الصَّوْت بإحساسنا الصَّوْت يَأْتِي من مَكَان مَا إِلَى مَكَان مَا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْحَرَكَة فِي المشموم من الطّيب وَالنَّتن وحركة المذوق فَبَطل قولا من قَالَا أَن الحركات ترى وَصَحَّ أَن الْحَرَكَة لَيست لوناً وَلَا وَلها لون وَلَو كَانَ هَذَا الامكن لآخر أَن يَدعِي أَن الْحَرَكَة أَنه يسمع الْحَرَكَة وَهَذَا خطأ لِأَنَّهُ لَا يسمع إِلَّا الصَّوْت وَلَا مكن لآخر أَن يَدعِي أَن الْحَرَكَة تلمس وَهَذَا خطأ وَإِنَّمَا يلمس المجسة من الخشونة والإملاس أَو غير ذَلِك من المجسات وَالْحق من هَذَا إِنَّمَا هُوَ أَن الْحَرَكَة تعرف وتوجد بتوسط كل مَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد والحركات النقلية المكانية تَنْقَسِم قسمَيْنِ لَا ثَالِث لَهما أما حَرَكَة ضَرُورِيَّة أَو اختيارية فالاختيارية هِيَ فعل النُّفُوس الْحَيَّة من الْمَلَائِكَة وَالْإِنْس وَالْجِنّ وَسَائِر الْحَيَوَان كُله وَهِي الَّتِي تكون إِلَى جِهَات شَتَّى على غير رُتْبَة مَعْلُومَة الْأَوْقَات وَكَذَلِكَ السّكُون الِاخْتِيَارِيّ وَالْحَرَكَة الضرورية تَنْقَسِم قسمَيْنِ لَا ثَالِث لَهما إِمَّا طبيعية وَأما قسرية والاضطرارية هِيَ الْحَرَكَة الكائنة مِمَّن ظَهرت مِنْهُ عَن غير قصد مِنْهُ إِلَيْهَا وَأما الطبيعية فَهِيَ حَرَكَة كل شَيْء غير حَيّ مِمَّا بِنَاء الله عَلَيْهِ كحركة المَاء إِلَى وسط المركز وحركة الأَرْض كَذَلِك وحركة الْهَوَاء وَالنَّار إِلَى موَاضعهَا وحركة الأفلاك وَالْكَوَاكِب دوراً وحركة عروق الْجَسَد النوابض والسكون الطبيعي هُوَ سُكُون كل مَا ذكرنَا فِي عصره وَأما القسرية فَهِيَ حَرَكَة كل شَيْء دخل عَلَيْهِ مَا يحِيل حركته عَن طَبِيعَته أَو عَن اخْتِيَاره إِلَى غَيرهَا كتحريك الْمَرْء قهرا أَو تحريكك المَاء علوا وَالْحجر كَذَلِك وكتحريكك النَّار سفلاً والهواء كَذَلِك وكتصعيد الْهَوَاء كعكس الشَّمْس لحر النَّار والسكون الْقَسرِي هُوَ تَوْقِيف الشَّيْء فِي غير عنصره أَو تَوْقِيف الْمُخْتَار كرها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي التولد قَالَ أَبُو مُحَمَّد تنَازع المتكلمون فِي معنى عبروا عَنهُ بالتواد وَهُوَ أَنهم اخْتلفُوا فِيمَن رمى سَهْما فجرح بِهِ إنْسَانا أَو غَيره وَفِي حرق النَّار وتبريد والثلج وَسَائِر الْآثَار الظَّاهِرَة من الجمادات فَقَالَت طَائِفَة مَا تولد من ذَلِك عَن فعل إِنْسَان أَو حَيّ فَهُوَ فعل الْإِنْسَان والحي وَاخْتلفُوا فِيمَا تولد من غير حَيّ فَقَالَت طَائِفَة هُوَ فعل الله وَقَالَت طَائِفَة مَا تولد من غير حَيّ فَهُوَ فعل الطبيعة وَقَالَ آخَرُونَ كل ذَلِك فعل الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَؤُلَاءِ مبطلون للحقائق غائبون عَن مُوجبَات الْعُقُول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْأَمر أبين من أَن يطول فِيهِ الْخطاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَالصَّوَاب فِي ذَلِك أَن كل مَا فِي الْعَالم من جسم أَو عرض فِي جسم أَو أثر من جسم فَهُوَ خلق الله عز وَجل فَكل ذَلِك فعل الله عز وَجل بِمَعْنى أَنه خلقه وكل ذَلِك مُضَاف بِنَصّ الْقُرْآن وبحكم اللُّغَة إِلَى مَا ظَهرت مِنْهُ من حَيّ أَو جماد قَالَ تَعَالَى {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} فنسب عز وَجل الاهتزاز والإنبات والربو إِلَى الأَرْض وَقَالَ {تلفح وُجُوههم النَّار} فَأخْبر تَعَالَى أَن النَّار تلفح وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن يستغيثوا يغاثوا بِمَاء كَالْمهْلِ يشوي الْوُجُوه} فَأخْبر عز وَجل أَن المَاء يشوي الْوُجُوه وَقَالَ تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} فَسمى تَعَالَى الْمُخطئ قَاتلا وَأوجب عَلَيْهِ حكما وَهُوَ لم يقْصد قَتله قطّ لكنه تولد عَن فعله وَقَالَ تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} فَأخْبر تَعَالَى أَن الْكَلم وَالْعَمَل عرض من الْأَعْرَاض وَقَالَ تَعَالَى {أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم} وَقَالَ تَعَالَى {على شفا جرف هار فانهار بِهِ} وَلم تخْتَلف أمة وَلَا لُغَة فِي صِحَة قَول الْقَائِل مَاتَ فلَان وَسقط الْحَائِط فنسب الله تَعَالَى وَجَمِيع خلقه الْمَوْت إِلَى الْمَيِّت والسقوط إِلَى الْحَائِط والانهيار إِلَى الجرف لظُهُور كل ذَلِك مِنْهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَلَا فِي السّنَن وَلَا فِي الْعُقُول شَيْء غير هَذَا الحكم وَمن خَالف هَذَا فقد اعْترض على الله تَعَالَى وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى جَمِيع الْأُمَم وعَلى جَمِيع عُقُولهمْ وَهَذِه صفة من عظمت مصيبته بِنَفسِهِ وَمن لَا دين لَهُ وَلَا عقل وَلَا حَيَاء وَلَا علم وَصَحَّ بِكُل مَا ذكرنَا أَن إِضَافَة كل أثر فِي الْعَالم إِلَى الله تَعَالَى هِيَ على غير إِضَافَته إِلَى من ظهر مِنْهُ فَأَما إِضَافَته إِلَى الله تَعَالَى فَلِأَنَّهُ خلقه وَأما إِضَافَته إِلَى من ظهر مِنْهُ أَو تولد عَنهُ فلظهوره مِنْهُ اتبَاعا لِلْقُرْآنِ وَلِجَمِيعِ اللُّغَات ولسنن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل هَذِه الإخبارات وكلتا هَاتين الإضافتين حق لَا مجَاز فِي شَيْء من ذَلِك لِأَنَّهُ لَا فرق بَين مَا ظهر من حَيّ مُخْتَار أَو من غير حَيّ مُخْتَار فِي أَن كل ذَلِك ظَاهر فَمَا ظهر مِنْهُ وَأَنه مَخْلُوق لله تَعَالَى إِلَّا ان الله تَعَالَى خلق فِي الْحَيّ اخْتِيَارا لما ظهر مِنْهُ وَلم يخلق الِاخْتِيَار فِيمَا لَيْسَ حَيا وَلَا مرِيدا فَمَا تولد عَن فعل فَاعل فَهُوَ فعل الله عز وَجل بِمَعْنى أَنه خلقه وَهُوَ فعل مَا ظهر بِمَعْنى أَنه ظهر مِنْهُ مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي المداخلة والمجاورة والكمون قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب الْقَائِلُونَ بِأَن الألوان أجسام إِلَى المداخلة وَمعنى هَذِه اللَّفْظَة أَن الجسمين يتداخلان فيكونان جَمِيعًا فِي مَكَان وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام فَاسد لما سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَجْسَام والأعراض من ديواننا هَذَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق من ذَلِك أَن كل جسم فَلهُ مساحة وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلهُ مَكَان زَائِد وَإِذ لَهُ مَكَان بِقدر مساحته وَلَا بُد فَإِن كل جسم زيد عَلَيْهِ جسم آخر فَإِن ذَلِك الْجِسْم الزَّائِد يحْتَاج إِلَى مَكَان زَائِد من أجل مساحته الزَّائِدَة هَذَا أَمر يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِن اخْتَلَط الْأَمر على من لم يتمرن فِي معرفَة حُدُود الْكَلَام من أجل مَا يرى فِي الْأَجْسَام المتخلخلة من تخَلّل الْأَجْسَام المايعة لَهَا فَإِنَّمَا هَذَا الْآن فِي خلال أَجزَاء تِلْكَ الْأَجْسَام المتخلخلة خروقاً صغَارًا مَمْلُوءَة هَوَاء فَإِذا صب عَلَيْهَا المَاء أَو مَائِع مَا مَلأ تِلْكَ الخروق وَخرج عَنْهَا الْهَوَاء الَّذِي كَانَ فِيهِ وَهَذَا ظَاهر للعين محسوس خُرُوج الْهَوَاء عَنْهَا بنفاخات وَصَوت من كل مَا يخرج عَنهُ الْهَوَاء مسرعاً وَالَّذِي ذكرنَا فَإِنَّهُ إِذا تمّ خُرُوج الْهَوَاء عَنهُ وَزيد فِي عدد الْمَائِع رَبًّا وَاحْتَاجَ إِلَى مَكَان زَائِد وَأما الَّذِي ذكرنَا قبل فَإِنَّهُ فِي الْأَجْسَام المكتنزة كَمَاء صب على مَاء أَو دهن على دهن أَو دهن على مَاء وَهَكَذَا فِي كل شَيْء من هَذِه الْأَنْوَاع وَغَيرهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 فصح يَقِينا أَن الْجِسْم إِنَّمَا يكون فِي الْجِسْم على سَبِيل الْمُجَاورَة كل وَاحِد فِي حيّز غير حيّز الآخر وَإِنَّمَا تكون المداخلة بَين الْأَعْرَاض والأجسام وَبَين الْأَعْرَاض والأعراض لِأَن الْعرض لَا يشغل مَكَانا فيجد اللَّوْن والطعم والمجسة والرائحة وَالْحر وَالْبرد والسكون كل ذَلِك مدَاخِل للجسم ومداخل بعضه بَعْضًا وَلَا يُمكن أَن يكون جسم وَاحِد فِي مكانين وَلَا جسمان فِي مَكَان وَاحِد ثمَّ أَن الْمُجَاورَة بَين الجسمين تَنْقَسِم أَقسَام أَحدهمَا أَن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كَيْفيَّة الآخر كنقطة رميتها فِي دن خل أَو دون مرق أَو فِي لبن أَو فِي مداد أَو شَيْء يسير من بعض هَذِه فِي بعض أَو من غَيرهَا كَذَلِك فَإِن الْغَالِب مِنْهَا يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عَنهُ ويلبسه كيفياته نَفسه الذاتية والغيرية وَالثَّانِي أَن يخلع كل وَاحِد مِنْهُمَا كيفياته الذاتية والغيرية ويلبسا مَعًا كيفيات أخر كَمَاء الزاج إِذا جَاوز المَاء العفص وكجسم الجير إِذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلهَا والدقيق وَالْمَاء وَغير ذَلِك وَالثَّالِث أَن لَا يخلع وَاحِد مِنْهُمَا عَن نَفسه كَيْفيَّة من كيفياته لَا الذاتية وَلَا الغيرية بل يبْقى كل وَاحِد مِنْهُمَا كَمَا كَانَ كزيت أضيف إِلَى مَاء كحجر إِلَى حجر وثوب إِلَى ثوب فَهَذَا حَقِيقَة الْكَلَام فِي المداخلة والمجاورة وَأما الكمون فَإِن طَائِفَة ذهبت إِلَى أَن النَّار كامنة فِي الْحجر وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى إبِْطَال هَذَا وَقَالَت أَنه لَا نَار فِي الْحجر أصلا وَهُوَ قَول ضرار بن عَمْرو قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل طَائِفَة مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تفرط على الْأُخْرَى فِيمَا تدعى عَلَيْهَا فضرار ينْسب إِلَى مخالفيه أَنهم يَقُولُونَ بِأَن النَّخْلَة بِطُولِهَا وعرضها وعظمها كامنة فِي النواة وَأَن الْإِنْسَان بِطُولِهِ أَو عرضه وعمقه وعظمه كامن فِي الْمَنِيّ وخصومه ينسبون إِلَيْهِ أَنه يَقُول لَيْسَ فِي النَّار حر وَلَا فِي الْعِنَب عصير وَلَا فِي الزَّيْتُون زَيْت وَلَا فِي الْإِنْسَان دم قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقَوْلَيْنِ جُنُون مَحْض ومكابرة للحواس والعقول وَالْحق فِي ذَلِك أَن فِي الْأَشْيَاء مَا هُوَ كامن كَالدَّمِ فِي الْإِنْسَان والعصير فِي الْعِنَب وَالزَّيْت فِي الزَّيْتُون وَالْمَاء فِي كل مَا يعتصر مِنْهُ وبرهان ذَلِك أَن كل مَا ذكرنَا إِذا خرج مِمَّا كَانَ كامناً فِيهِ ضمر الْبَاقِي لخُرُوج مَا خرج وخف وَزنه لذَلِك عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قبل خُرُوج الَّذِي خرج وَمن الْأَشْيَاء مَا لَيْسَ كامناً كالنار فِي الْحجر وَالْحَدِيد لَكِن فِي حجر الزِّنَاد وَالْحَدِيد الذّكر قُوَّة إِذا تضاغطا احتدم مَا بَينهمَا من الْهَوَاء فاستحال نَارا وَهَكَذَا يعرض لكل شَيْء منحرق فَإِن رطوباته تستحيل نَارا ثمَّ دخاناً ثمَّ هَوَاء إِذْ فِي طبع النَّار اسْتِخْرَاج ناريات الْأَجْسَام وتصعيد رطوباتها حَتَّى يفني كل مَا فِي الْجِسْم من الناريات والمائيات عَنهُ بِالْخرُوجِ ثمَّ لَو نفخت دهرك على مَا بَقِي من الأرضية الْمَحْضَة وَهِي الرماد لم يَحْتَرِق وَلَا اشتعل إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَار فَتخرج وَلَا مَاء فيتصعد وَكَذَلِكَ دهن السراج فَإِنَّهُ كثير الناريات بطبعه فيستحيل بِمَا فِيهِ من المائية الْيَسِيرَة دحانا هوائياً وَتخرج ناريته حَتَّى يذهب كُله وَأما القَوْل فِي النَّوَى والبزور والنطف فَإِن فِي النواة وَفِي البزر وَفِي النُّطْفَة طبيعة خلقهَا فِي كل ذَلِك الله عز وَجل وَهِي قُوَّة تجتذب الرطوبات الْوَارِدَة عَلَيْهَا من المَاء والزبل ولطيف التُّرَاب الْوَارِد كل ذَلِك على النواة والبزر فتحيل كل ذَلِك إِلَى مَا فِي طبعها إحالته إِلَيْهِ فَيصير عودا ولحاه وورقاً وزهراً وثمراً وخوصاً وكرماً وَمثل الدَّم الْوَارِد على النُّطْفَة فتحيله طَبِيعَته الَّتِي خلفهَا الله تَعَالَى فِيهِ لَحْمًا ودماً وعظماً وعصباً وعروقاً وشرائين وعضلاً وغضاريف وجلداً وظفراً وشعراً وكل ذَلِك خلق الله تَعَالَى فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذهب الباقلاني وَسَائِر الأشعرية إِلَى أَنه لَيْسَ فِي النَّار حر وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الزَّيْتُون زَيْت وَلَا فِي الْعِنَب عصير وَلَا فِي الْإِنْسَان دم وَهَذَا أَمر ناظرنا عَلَيْهِ من لاقيناه مِنْهُم وَالْعجب كل الْعجب قَوْلهم هَذَا التَّخْلِيط وإنكارهم مَا يعرف بالحواس وضررة الْعقل ثمَّ هم يَقُولُونَ مَعَ هَذَا أَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 للزجاج والحصا طعماً ورائحة وَأَن لقشور الْعِنَب رَائِحَة وَأَن للفلك طعماً ورائحة وَهَذَا إِحْدَى عجائب الدُّنْيَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا وجدنَا لَهُم فِي ذَلِك حجَّة غير دَعوَاهُم أَن الله تَعَالَى خلق كل حر نجده فِي النَّار عِنْد مسنا إِيَّاهَا وَكَذَلِكَ خلق الْبرد فِي الثَّلج عِنْد مسنا إِيَّاه وَكَذَلِكَ خلق الزَّيْت عِنْد عصر الزَّيْتُون والعصير عِنْد عصر الْعِنَب وَالدَّم عِنْد الْقطع وَالشّرط قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا تعلقوا من هَذَا بحواسهم فَمن أَيْن قَالُوا أَن للزجاج طعماً ورائحة وللفلك طعماً ورائحة وَهَذَا مَوضِع تشهد الْحَواس بتكذيبهم فِي أَحدهمَا وَلَا تدْرك الْحَواس الآخر وَيُقَال لَهُم لَعَلَّ النَّاس لَيْسَ فِي الأَرْض مِنْهُم أحد وَإِنَّمَا خَلفهم الله عِنْد رؤيتكم لَهُم وَلَعَلَّ بطونكم لَا مصارين فِيهَا ورؤوسكم لَا أدمغة فِيهَا لَكِن الله عز وَجل خلق كل ذَلِك عِنْد الشدخ والشق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَول الله تَعَالَى يكذبهم إِذْ قَالَ تَعَالَى {يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم} فلولا أَن النَّار تحرق بحرها مَا كَانَ يَقُول الله عز وَجل {قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا لَو كَانُوا يفقهُونَ} فصح أَن الْحر فِي النَّار مَوْجُود وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَار جَهَنَّم أَشد حرا من نارنا هَذِه سبعين دَرَجَة وَقَالَ تَعَالَى {وشجرة تخرج من طور سيناء تنْبت بالدهن وصبغ للآكلين} فَأخْبر أَن الشَّجَرَة تنْبت بهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} فصح أَن السكر والعصير الْحَلَال مَأْخُوذ من التَّمْر وَالْأَعْنَاب وَلَو لم يَكُونَا فيهمَا مَا أخذا مِنْهُمَا وَقد أطبقت الْأمة كلهَا على إِنْكَار هَذَا الْجُنُون وعَلى القَوْل هَذَا أحلى من الْعَسَل وَأمر من الصَّبْر وأحر من النَّار وَنَحْمَد الله على السَّلامَة الْكَلَام فِي الاستحالة قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج الحنيفيون وَمن وافقهم فِي قَوْلهم إِن النقطة من الْبَوْل وَالْخمر تقع فِي المَاء فَلَا يظْهر لَهَا فِيهَا أثر أَنَّهَا بَاقِيَة فِيهِ بجسمها إِلَّا أَن أجزاءها دقَّتْ وخفيت عَن أَن تحس وَكَذَلِكَ الحبر يرحى فِي اللَّبن فَلَا يظْهر لَهُ فِيهِ اثر وَكَذَلِكَ الْفضة الْيَسِيرَة تذاب فِي الذَّهَب فَلَا يظْهر لَهَا فِيهِ أثر وَهَكَذَا كل شَيْء قَالُوا لَو أَن ذَلِك الْمِقْدَار من المَاء يجبل مَاء النقطة من الْخمر تقع فِيهِ لَكَانَ أَكثر من ذَلِك الْمِقْدَار أقوى على الإحالة بِلَا شكّ وَنحن نجد كلما زِدْنَا نقط الْخمر وقلتم أَنْتُم قد استحالت مَاء وَنحن نزيد فَلَا يلبث أَن تظهر الْخمر وَهَكَذَا فِي كل شَيْء قَالُوا فظهرت صِحَة قَوْلنَا ولزمكم أَن كلما كثر المَاء ضعفت إحالته وَهَكَذَا فِي كل شَيْء قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقُلْنَا لَهُم أَن الْأُمُور إِنَّمَا هِيَ على مَا رتبها الله عز وَجل وعَلى مَا تُوجد عَلَيْهِ لَا على قضاياكم الْمُخَالفَة للحس وَلَا يُنكر أَن يكون مِقْدَار مَا يفعل مَا فَإِذا لم يفعل ذَلِك الْفِعْل كالمقدار من الدَّوَاء ينفع فَإِذا زيد فِيهِ أَو نقص مِنْهُ لم ينفع وَنحن نقر مَعكُمْ بِمَا ذكرْتُمْ وَلَا ننكره فَنَقُول أَن مِقْدَار إِمَّا من المَاء يحِيل مِقْدَار مَا يلقى فِيهِ من الْخلّ أَو الْخمر أَو الْعَسَل وَلَا يحِيل أَكثر مِنْهُ مِمَّا يلقى فِيهِ وَنحن نجد الْهَوَاء يحِيل المَاء هَوَاء حَتَّى إِذا كثر الْهَوَاء المستحيل من المَاء بل أحَال الْهَوَاء مَاء وَهَكَذَا كل مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا الْعُمْدَة هَا هُنَا مَا شهِدت بِهِ أَوَائِل الْعُقُول والحواس من أَن الْأَشْيَاء إِنَّمَا تخْتَلف باخْتلَاف طبائعها وصفاتها الَّتِي مِنْهَا تقوم حُدُودهَا وَبهَا تخْتَلف فِي اللُّغَات أسماؤها فللماء صِفَات وطبائع إِذا وجدت فِي جرم مَا سمى مَاء فَإِذا عدمت مِنْهُ لم يسم مَاء وَلم يكن مَاء وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم وَلَا تحاشي شَيْئا أصلا وَمن الْمحَال أَن تكون حُدُود المَاء وَصِفَاته وطبعه فِي الْعَسَل أَو فِي الْخمر وَهَكَذَا كل شَيْء فِي الْعَالم فأكثره يَسْتَحِيل بعضه إِلَى بعض فَأَي شَيْء وجدت فِيهِ حُدُود شَيْء مَا سمي باسم مَا فِيهِ تِلْكَ الْحُدُود إِذا استوفاها كلهَا فَإِن لم يسْتَوْف إِلَّا بَعْضهَا وَفَارق أَيْضا شَيْئا من صِفَاته الذاتية فَهُوَ حِينَئِذٍ شَيْء غير الَّذِي كَانَ وَغير الَّذِي مازج كالعسل الْملقى فِي الأبارج ونقطة مداد فِي لبن وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذِه رُتْبَة الْعَالم فِي مُقْتَضى الْعُقُول وَفِيمَا تشاهد الْحَواس والذوق والشم واللمس وَمن دفع هَذَا خرج عَن الْمَعْقُول وَيلْزم الحنيفيين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 من هَذَا اجْتِنَاب مَاء الْبَحْر لِأَن فِيهِ على عُقُولهمْ عذرة وَبَوْل لَا ورطوبات ميتَة وَكَذَلِكَ مياه جَمِيع الْأَنْهَار أَولهَا عَن آخرهَا نعم وَمَاء الْمَطَر أَيْضا تَجِد الدَّجَاج يتغذى بالميتة وَالدَّم والعذرة والكبش يسْقِي خمرًا أَن ذَلِك كُله قد اسْتَحَالَ عَن صِفَات كل ذَلِك وطبعه إِلَى لحم الدَّجَاج والكبش فَحل عندنَا وَعِنْدهم وَلَو كثر تغذيها بِهِ حَتَّى تضعف طبيعتها عَن إحالته فَوجدَ فِي خواصها وفيهَا صفة الْعذرَة وَالْميتَة حرم أكله وَهَذَا هُوَ الَّذِي أنكروه نَفسه وَهُوَ مقرون مَعنا فِي أَن الثِّمَار والبقول تتغذى بالعذرة تستحيل فِيهَا مُدَّة أَنَّهَا قد حلت وَهَذَا هُوَ الَّذِي أنكروه نَفسه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الطفرة قَالَ أَبُو مُحَمَّد نسب قوم من الْمُتَكَلِّمين إِلَى إِبْرَاهِيم النظام أَنه قَالَ أَن الْمَار على سطح الْجِسْم يسير من مَكَان إِلَى مَكَان بَينهمَا أَمَاكِن لم يقطعهَا هَذَا الْمَار وَلَا مر عَلَيْهَا وَلَا حاذاها وَلَا حل فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عين الْمحَال والتخليط إِلَّا أَن كَانَ هَذَا على قَوْله فِي أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم إِلَّا جسم حاشا الْحَرَكَة فَقَط فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ قد أَخطَأ فِي هَذِه الْقِصَّة فَكَلَامه الَّذِي ذكرنَا خَارج عَلَيْهِ خُرُوجًا صَحِيحا لِأَن هَذَا الَّذِي ذكرنَا لَيْسَ مَوْجُود الْبَتَّةَ إِلَّا فِي حاسة الْبَصَر فَقَط وَكَذَلِكَ إِذا أطبقت بَصرك ثمَّ فَتحته لَاقَى نظرك خضرَة السَّمَاء وَالْكَوَاكِب الَّتِي فِي الأفلاك الْبَعِيدَة بِلَا زمَان كَمَا يَقع على أقرب مَا يلاصقه من الألوان لَا تفاضل بَين الأدراكين فِي الْمدَّة أصلا فصح ضَرُورَة أَن خلا الْبَصَر وَلَو قطع الْمسَافَة الَّتِي بَين النَّاظر وَبَين الْكَوَاكِب وَمر عَلَيْهَا لَكَانَ ضَرُورَة بُلُوغه إِلَيْهَا فِي مُدَّة أطول من مُدَّة مروره على الْمسَافَة الَّتِي لَيْسَ بَينه وَبَين من يرَاهُ فِيهَا إِلَّا يَسِيرا وَأَقل فصح يَقِينا أَن الْبَصَر يخرج من النَّاظر وَيَقَع على كل مرئي قرب أَو بعد دون أَن يمر فِي شَيْء من الْمسَافَة الَّتِي بَينهمَا وَلَا يحلهَا وَلَا يجازيها وَلَا يقطعهَا وَأما فِي سَائِر الْأَجْسَام فَهَذِهِ مجَال أَلا ترى انك تنظر إِلَى الْهدم وَإِلَى الضَّرْب الْقصار بِالثَّوْبِ فِي الْحجر من بعد فتراه ثمَّ يُقيم سويعة وَحِينَئِذٍ تسمع صَوت ذَلِك الْهدم وَذَلِكَ الضَّرْب فصح يَقِينا أَن الصَّوْت يقطع الْأَمَاكِن وينتقل فِيهَا وَأَن الْبَصَر لَا يقطعهَا وَلَا ينْتَقل فِيهَا فَإِذا صَحَّ الْبُرْهَان بِشَيْء مَا لم يعْتَرض عَلَيْهَا إِلَّا عديم عقل أَو عديم حَيَاء أَو عديم علم أَو عديم دين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْإِنْسَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الِاسْم على مَا يَقع فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه إِنَّمَا يَقع على الْجَسَد دون النَّفس وَهُوَ قَول أبي الْهُذيْل العلاف وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه إِنَّمَا يَقع على النَّفس دون الْجَسَد وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النظام وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه إِنَّمَا يَقع عَلَيْهِمَا مَعًا كالباق الَّذِي لَا يَقع إِلَّا على السوَاد وَالْبَيَاض مَعًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الطَّائِفَة الَّتِي ذكرنَا بقول الله عز وَجل {خلق الْإِنْسَان من صلصال كالفخار} وَبقول الله تَعَالَى {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق خلق من مَاء دافق يخرج من بَين الصلب والترائب} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى} وبآيات أخر غير هَذِه وَهَذِه بِلَا شكّ صفة للجسد لَا صفة للنَّفس لِأَن الرّوح إِنَّمَا تنفخ بعد تَمام خلق الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ الْجَسَد واحتجت الطَّائِفَة لأخرى بقوله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعاً إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعاً وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعاً} وَهَذَا بِلَا خلاف صفة النَّفس لَا صفة الْجَسَد لِأَن الْجَسَد موَات والفعالة هِيَ النَّفس وَهِي المميزة الْحَيَّة حاملة لهَذِهِ الْأَخْلَاق وَغَيرهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا هذَيْن الاحتجاجين حق وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى بالْقَوْل من الآخر وَلَا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 أَن يُعَارض أَحدهمَا بِالْآخرِ لِأَن كليهمَا من عِنْد الله عز وَجل وَمَا كَانَ من عِنْد الله فَلَيْسَ بمختلف قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَإذْ كل هَذِه الْآيَات حق فقد ثَبت أَن للْإنْسَان اسْم يَقع على النَّفس دون الْجَسَد وَيَقَع أَيْضا على الْجَسَد دون النَّفس وَيَقَع أَيْضا على كليهمَا مُجْتَمعين فَنَقُول فِي الْحَيّ هَذَا إِنْسَان وَهُوَ مُشْتَمل على جَسَد وروح ونقول للْمَيت هَذَا إِنْسَان وَهُوَ جَسَد لَا نفس فِيهِ ونقول أَن الْإِنْسَان يعذب قبل يَوْم الْقِيَامَة وينعم يَعْنِي النَّفس دون الْجَسَد وَأما من قَالَ أَنه لَا يَقع إِلَّا على النَّفس والجسد مَعًا فخطأ يُبطلهُ الَّذِي ذكرنَا من النُّصُوص الَّتِي فِيهَا وُقُوع اسْم الْإِنْسَان على الْجَسَد دون النَّفس وعَلى النَّفس دون الْجَسَد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الْكَلَام فِي الْجَوَاهِر والأعراض وَمَا الْجِسْم وَمَا النَّفس قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذهب هِشَام بن الحكم إِلَى أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم إِلَّا جسم وَأَن الألوان والحركات أجسام وَاحْتج أَيْضا بِأَن الْجِسْم إِذا كَانَ طَويلا عريضاً عميقاً فَمن حَيْثُ وجدته وجدت اللَّوْن فِيهِ فَوَجَبَ الطول وَالْعرض والعمق للون أَيْضا فَإِذا وَجب ذَلِك للون فاللون أَيْضا طَوِيل عريض عميق وكل طَوِيل عريض عميق جسم فاللون جسم وَذهب إِبْرَاهِيم بن سيار النظام إِلَى مثل هَذَا سَوَاء سَوَاء إِلَّا الحركات فَإِنَّهُ قَالَ هِيَ خَاصَّة أَعْرَاض وَذهب ضرار بن عَمْرو إِلَى أَن الْأَجْسَام مركبة من الْأَعْرَاض وَذهب سَائِر النَّاس إِلَى أَن الْأَجْسَام هِيَ كل مَا كَانَ طَويلا عريضاً عميقاً شاغلاً لمَكَان وَإِن كل مَا عداهُ من لون أَو حَرَكَة أَو مذاق أَو طيب أَو محبَّة فَعرض وَذهب بعض الْمُلْحِدِينَ إِلَى نفي الْأَعْرَاض وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك بعض أهل الْقبْلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما الْجِسْم فمتفق على وجوده وَأما الْأَعْرَاض فإثباتها بَين وَاضح بعون الله تَعَالَى وَهُوَ أننا لم نجد فِي الْعَالم إِلَّا قَائِما بِنَفسِهِ حَامِلا لغيره أَو قَائِما بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ مَحْمُولا فِي غَيره وَوجدنَا الْقَائِم بِنَفسِهِ شاغلاً لمَكَان يملأه وَوجدنَا الَّذِي لَا يقوم بِنَفسِهِ لكنه مَحْمُول فِي غَيره لَا يشغل مَكَانا بل يكون الْكثير مِنْهَا فِي مَكَان حاملها الْقَائِم بِنَفسِهِ هَذِه قسْمَة لَا يُمكن وجود شَيْء فِي الْعَالم بِخِلَافِهَا وَلَا وجود قسم زَائِد على مَا ذكرنَا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فبالضرورة علمنَا أَن الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل لمكانه هُوَ نوع آخر غير الْقَائِم بِغَيْرِهِ الَّذِي لَا يشغل مَكَانا فَوَجَبَ أَن يكون لكل وَاحِد من هذَيْن الجنسين اسْم يعبر عَنهُ ليَقَع التفاهم بَيْننَا فاتفقا على أَن سمينا الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل لمكانه جسماً واتفقا على أَن سمينا مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ عرضا وَهَذَا بَيَان برهاني مشَاهد وَوجدنَا الْجِسْم تتعاقب عَلَيْهِ الألوان والجسم قَائِم بِنَفسِهِ فَبينا نرَاهُ أَبيض صَار أَخْضَر ثمَّ أَحْمَر ثمَّ أصفر كَالَّذي نشاهده فِي الثِّمَار والأصباغ فبالضرورة نعلم أَن لذِي عدم وفني من الْبيَاض والخضرة وَسَائِر الألوان هُوَ غير الَّذِي بَقِي مَوْجُودا لم يفن وأنهما جَمِيعًا غير الشَّيْء الْحَامِل لَهما لِأَنَّهُ لَو كَانَ شَيْء من ذَلِك هُوَ الآخر لعدم بِعَدَمِهِ فَدلَّ بَقَاؤُهُ بعده على أَنه غَيره وَلَا بُد إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الشَّيْء مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حَالَة وَاحِدَة فِي مَكَان وَاحِد فِي زمَان وَاحِد وَأَيْضًا فَإِن الْأَعْرَاض هِيَ الْأَفْعَال من الْأكل وَالشرب وَالنَّوْم وَالْجِمَاع وَالْمَشْي وَالضَّرْب وَغير ذَلِك فَمن أنكر الْأَعْرَاض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الْأَفْعَال وَهَذَا محَال لَا خفا بِهِ وَلَا فرق بَين من أثبت الفاعلين وَنفى الْأَفْعَال وَبَين من أثبت الْأَفْعَال وَنفى الفاعلين وكل الطَّائِفَتَيْنِ مبطلة لما يُشَاهد بالحواس وَيدْرك بِالْعقلِ سوفسطائيون حَقًا لِأَن من الْأَعْرَاض مَا يدْرك بالبصر وَهُوَ اللَّوْن إِذْ مَا لَا لون لَهُ لَا يدْرك بالشم كالنتن وَالطّيب وَمِنْهَا مَا يدْرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة وَمِنْهَا مَا يدْرك باللمس كَالْحرِّ وَالْبرد وَمِنْهَا مَا يدْرك بِالسَّمْعِ كحسن الصَّوْت وقبحه وجهارته وجفوته وَمِنْهَا مَا يدْرك بِالْعقلِ كالحركة والحمق وَالْعقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وَالْعدْل والجور وَالْعلم وَالْجهل فَظهر فَسَاد قَول مبطلي الْأَغْرَاض بَقينَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإذْ قد صَحَّ كل مَا ذكرنَا فَإِنَّمَا الْأَسْمَاء عِبَارَات وتمييز للمسميات ليتوصل بهَا المخاطبون إِلَى تفاهم مراداتهم من الْوُقُوف على الْمعَانِي وَفصل بَعْضهَا من بعض لَيْسَ للأسماء فَائِدَة غير هَذِه فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن يُوقع على الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل لمكانه الْحَامِل لغيره أَسمَاء تكون عبارَة عَنهُ وَأَن يُوقع أَيْضا على الْقَائِم بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ الْمَحْمُول الَّذِي لَا يشغل مَكَانا اسْما آخر يكون أَيْضا عبارَة عَنهُ لينفصل بِهَذَيْنِ الاسمين كل وَاحِد من ذَيْنك المسميين عَن الآخر وَإِن لم يكن هَذَا وَقع التَّخْلِيط وَعدم الْبَيَان واصطلحنا على أَن سمينا الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل للمكان جسماً واتفقنا على أَن سمينا الْقَائِم بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ عرضا لِأَنَّهُ عرض فِي الْجِسْم وَحدث فِيهِ هَذَا هُوَ الْحق الْمشَاهد لحس الْمَعْرُوف بِالْعقلِ وَمَا عدا هَذَا فهذيان وتخليط لَا يعقله قَائِله فَكيف غَيره فصح بِهَذَا كُله وجود الْأَعْرَاض وَبطلَان قَول من أنكرها وَصَحَّ أَيْضا بِمَا ذكرنَا أَن حد اللَّوْن وَالْحَرَكَة وكل مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ هُوَ غير حد الْقَائِم بِنَفسِهِ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَلَا جسم إِلَّا الْقَائِم بِنَفسِهِ وكل مَا عداهُ فَعرض فلاح بِهَذَا صِحَة قَول من قَالَ بذلك وَبَطل قَول هِشَام والنظام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاج هِشَام بِوُجُود الطول وَالْعرض والعمق الَّذِي توهمها فِي اللَّوْن فَإِنَّمَا هُوَ طول جسم الملون وَعرضه وعمقه فَقَط وَلَيْسَ للون طول وَلَا عرض وَلَا عمق وَكَذَلِكَ الطّعْم والمجسة والرائحة وبرهان ذَلِك أَنه لَو كَانَ للجسم طول وَعرض عمق وَكَانَ للون طول غير طول الملون الْحَامِل لَهُ وَعرض آخر غير عرض الْحَامِل لَهُ وعمق آخر غير عمق الملون الْحَامِل لَهُ لاحتاج كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى مَكَان آخر غير مَكَان الآخر إِذْ من أعظم الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون شَيْئَانِ طول كل وَاحِد مِنْهُمَا ذِرَاع وَعرضه ذِرَاع وعمقه ذِرَاع ثمَّ يسعان جَمِيعًا فِي وَاحِد لَيْسَ هُوَ إِلَّا ذِرَاع فِي ذِرَاع فَقَط وَيلْزمهُ مثل هَذَا فِي الطّعْم والرائحة والمجسة لِأَن كل هَذِه الصِّفَات تُوجد من كل جِهَة من جِهَات الْجِسْم الَّذِي هِيَ فِيهِ كَمَا يُوجد اللَّوْن وَلَا فرق وَقد يذهب الطّعْم حَتَّى يكون الشَّيْء لَا طعم لَهُ وَتذهب الرَّائِحَة حَتَّى يصير الشَّيْء لَا رَائِحَة لَهُ ومساحته بَاقِيَة بحسبها فصح يَقِينا أَن المساحة للملون وَالَّذِي لَهُ الرَّائِحَة والطعم والمجسة لَا للون وَلَا للطعم مَكَان وَلَا للرائحة وَلَا للمجسة وَقد نجد جسماً طَويلا عريضاً عميقاً لَا لون لَهُ وَهُوَ الْهَوَاء أساكنة ومتحركة وبالضروري نَدْرِي أَنه وَلَو كَانَ لَهُ لون لم يزدْ ذَلِك فِي مساحته شَيْئا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن بلغ الْجَهْل بِصَاحِبِهِ إِلَى أَن يَقُول لَيْسَ الْهَوَاء جسماً سألناه عَمَّا فِي دَاخل الزق المنفوخ مَا هُوَ وَعَما يلقِي الَّذِي يجرى فرسا جواداً بِوَجْهِهِ وجسمه فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي أَنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وَهُوَ أَن كل أحد يدْرِي أَن الطول وَالْعرض والعمق لَو كَانَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا طول وَعرض وعمق لاحتاج كل وَاحِد مِنْهُمَا أَيْضا إِلَى طول آخر وَعرض آخر وعمق آخر وَهَكَذَا مسلسلاً إِلَى بهَا مَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا بَاطِل فَبَطل قَول إِبْرَاهِيم وَهِشَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَول ضرار أَن الْأَجْسَام مركبة من الْأَعْرَاض فَقَوْل فَاسد جدا لِأَن الْأَعْرَاض قد صَحَّ كَمَا ذكرنَا أَنَّهَا لَا طول لَهَا وَلَا عرض وَلَا عمق وَلَا تقوم بِنَفسِهَا وَصَحَّ أَن الْأَجْسَام ذَات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها وَمن الْمحَال أَن يجْتَمع مَالا طول لَهُ وَلَا عرض وَلَا عمق مَعَ مثله فيتقوم مِنْهَا مَاله طول وَعرض وعمق وَإِنَّمَا غلط فِيهَا من توهم أَن الْأَجْسَام مركبة من السطوح وَأَن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط مركبة من النقط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ على كل حَال لِأَن السطوح الْمُطلقَة فَإِنَّمَا هِيَ تناهي الْجِسْم وانقطاعه فِي تماديه من أوسع جهاته وَعدم امتداده فَقَط وَأما الخطوط الْمُطلقَة فَإِنَّمَا هِيَ تناهي جِهَة السَّطْح وَانْقِطَاع تماديها وَأما النقط فَهِيَ تناهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 جِهَات الْجِسْم من أحد نهاياته كطرف السكين وَنَحْوه فَكل هَذِه الأبعاد إِنَّمَا هِيَ عدم التَّمَادِي من الْمحَال أَن يجْتَمع عدم فَيقوم مِنْهُ مَوْجُود وَإِنَّمَا السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فَإِنَّمَا هِيَ أبعاض الْجِسْم وأجزاؤه وَلَا تكون الْأَجْزَاء أَجزَاء إِلَّا بعد الْقِسْمَة فَقَط على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذهب قوم من الْمُتَكَلِّمين إِلَى إِثْبَات شَيْء سموهُ جوهراً لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَقد ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى بعض الْأَوَائِل وحد هَذَا الْجَوْهَر عِنْد من أثْبته أَنه وَاحِد بِالذَّاتِ قَابل للمتضادات قَائِم بِنَفسِهِ لَا يَتَحَرَّك وَلَا لَهُ مَكَان وَلَا لَهُ طول وَلَا عرض وَلَا عمق وَلَا يتجزى وَحده بعض من ينتمي إِلَيْهِ الْكَلَام بِأَنَّهُ وَاحِد بِذَاتِهِ لَا طول لَهُ وَلَا عرض وَلَا يتجزى وَقَالُوا أَنه لَا يَتَحَرَّك وَله مَكَان وَأَنه قَائِم بِنَفسِهِ يحمل من كل عرض عرضا وَاحِدًا فَقَط كاللون والطعم والرائحة والمجسمة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا هذَيْن الْقَوْلَيْنِ وَالْقَوْل الَّذِي اجْتمعَا عَلَيْهِ فِي غابة الْفساد والبطلان أَولا من قَالَ ذَلِك أَنَّهَا كلهَا دعاوى مُجَرّدَة لَا يقوم على صِحَة شَيْء مِنْهَا دَلِيل أصلا لَا برهاني وَلَا إقناعي بل الْبُرْهَان الْعقلِيّ والحسي يَشْهَدَانِ بِبُطْلَان كل ذَلِك وَلَيْسَ يعجز أحد أَن يدعى مَا شَاءَ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَحْض وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأما نَحن فَنَقُول أَنه لَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا الْخَالِق وخلقه وَأَنه لَيْسَ الْخلق إِلَّا جوهراً حَامِلا لأعراضه وأعراضاً مَحْمُولَة فِي الْجَوْهَر لَا سَبِيل إِلَى تعدِي أَحدهمَا عَن الآخر فَكل جَوْهَر جسم وكل جسم جَوْهَر وهما اسمان مَعْنَاهُمَا وَاحِد وَلَا مزِيد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونجمع إِن شَاءَ الله تَعَالَى كل شَيْء أوقعت عَلَيْهِ هَاتَانِ الطائفتان اسْم جَوْهَر لَا جسم وَلَا عرض ونبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَسَاد كل ذَلِك بالبراهين الضرورية كَمَا فعلنَا فِي سَائِر كلامنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد حققنا مَا أوقع عَلَيْهِ بعض الْأَوَائِل وَمن قلدهم اسْم جَوْهَر وَقَالُوا أَنه لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا فوجدناهم يذكرُونَ الْبَارِي تَعَالَى وَالنَّفس والهيولى وَالْعقل وَالصُّورَة وَعبر بَعضهم عَن الهيولى بالطينة وَبَعْضهمْ بالخميرة وَالْمعْنَى فِي كل ذَلِك وَاحِد إِلَّا أَن بَعضهم قَالَ المُرَاد بذلك الْجِسْم متعرياً من جَمِيع أعراضه وأبعاده وَبَعْضهمْ قَالَ المُرَاد بذلك الشَّيْء الَّذِي مِنْهُ كَون هَذَا الْعَالم وَمِنْه تكون على حسب اخْتلَافهمْ فِي الْخَالِق أَو فِي إِنْكَاره وَزَاد بَعضهم فِي الْجَوْهَر الخلا والمدة اللَّذين لم يَزَالَا عِنْدهم يعْنى بالخلا الْمَكَان الْمُطلق لَا الْمَكَان الْمَعْهُود وَيَعْنِي بالمدة الزَّمَان الْمُطلق لَا الزَّمَان الْمَعْهُود قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه أَقْوَال لَيْسَ شَيْء مِنْهَا لمن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام وَإِنَّمَا هِيَ للمجوس وَالصَّابِئِينَ والدهرية والنصاري فِي تسميتهم الْبَارِي تَعَالَى جوهراً فَإِنَّهُم سموهُ فِي أمانتهم الَّتِي لَا يَصح عِنْدهم دين لملكي وَلَا لنسطوري وَلَا ليعقوبي وَلَا لهاروني إِلَّا باعتقادها وَإِلَّا فَهُوَ كَافِر بالنصرانية قطعا حاشا تَسْمِيَته الْبَارِي تَعَالَى جوهراً فَإِنَّهُ للمجسمة أَيْضا وحاشا القَوْل بِأَن النَّفس جَوْهَر لَا جسم فَإِنَّهُ قد قَالَ بِهِ الْعَطَّار أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة وَأما المنتمون إِلَى الْإِسْلَام فَإِن الْجَوْهَر لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا لَيْسَ هُوَ عِنْدهم شَيْئا إِلَّا الْأَجْزَاء الصغار الَّتِي لَا تتجزؤا إِلَيْهَا تنْحَل الْأَجْسَام بزعمهم وَقد ذكر هَذَا عَن بعض الْأَوَائِل أَيْضا فَهَذِهِ ثَمَانِيَة أَشْيَاء كَمَا ذكرنَا لَا نعلم أحد أسمى جوهراً لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَغَيرهَا إِلَّا أَن قوما جُهَّالًا يظنون فِي القوى الذاتية أَنَّهَا جَوَاهِر وَهَذَا جهل مِنْهُم لِأَنَّهَا بِلَا خلاف مَحْمُولَة فِيمَا هِيَ غير قَائِمَة بِنَفسِهَا وَهَذِه صفة الْعرض لَا صفة الْجَوْهَر بِلَا خلاف قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهَذَا القَوْل فِي صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وَفِي كتَابنَا الموسوم بالتحقيق فِي نقض كتاب الْعلم الإلهي لمُحَمد بن زَكَرِيَّا الطّيب وحللنا كل دَعْوَى أوردهَا هُوَ وَغَيره فِي هَذَا الْمَعْنى بأبين شرح وَالْحَمْد لله رب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 الْعَالمين كثيرا وأثبتنا فِي صدر كتَابنَا هَذَا وهنالك أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم خلا الْبَتَّةَ وَأَنه كُله كرة مصمتة لَا تخَلّل فِيهَا وَأَنه لَيْسَ وَرَاءَهَا خلاء لَا ملاء وَلَا شَيْء الْبَتَّةَ وَأَن الْمدَّة لَيست للأمد أحدث الله الْفلك بِمَا فِيهِ من الْأَجْسَام الساكنة والمتحركة وأعراضها وَبينا فِي كتاب التَّقْرِيب لحدود الْكَلَام أَن الْآلَة الْمُسَمَّاة الزرافة وسارقة المَاء والآلة الَّتِي تدخل فِي إحليل من بِهِ أسر الْبَوْل براهين ضَرُورِيَّة بتحقيق أَن لَا خلاء فِي الْعَالم أصلا وَأَن الْخَلَاء عِنْد الْقَائِلين بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَكَان لَا تمكن فِيهِ وَهَذَا محَال بِمَا ذكرنَا لِأَنَّهُ لَو خرج المَاء من الثقب الَّذِي فِي أَسْفَل سارقة المَاء وَقد شدّ أَعْلَاهَا لبقي خَالِيا بِلَا مُتَمَكن فِيهِ فَإِذا لم يُمكن ذَلِك أصلا وَلَا كَانَ فِيهِ بنية الْعَالم وجوده وقف المَاء بَاقِيا لَا ينهرق حَتَّى إِذا فتح أَعْلَاهَا وَوجد الْهَوَاء مدخلًا خرج المَاء وانهرق لوقته وَخَلفه الْهَوَاء وَكَذَلِكَ الزرافة والآلة متخذة لمن بِهِ أسر الْبَوْل فَإِنَّهُ إِذا حصلت تِلْكَ فِي دَاخل الإحليل وَأول المثانة ثمَّ جبذ الزر المغلق ليقها إِلَى الْخَارِج اتبعهُ الْبَوْل ضَرُورَة وَخرج إِذْ لم يخرج لبقي ثقب الْآلَة خَالِيا لَا شَيْء فِيهِ وَهَذَا بَاطِل مُمْتَنع وَقد بَينا فِي صدر كتَابنَا كَمَا اعْترض بِهِ الْمُلْحِدُونَ المخالفون لنا فِي هَذَا الْمَكَان فأغني عَن إِعَادَته فَإِن قَالَ قَائِل فالماء الَّذِي اخترعه الله عز وَجل معْجزَة من بَين أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّمْر الَّذِي اخترع لَهُ والثربد الَّذِي فِي اخترع لَهُ من أَيْن اخترعه وَهِي أجسام محدثة والعالم عنْدكُمْ مَلأ لَا خلاء فِيهِ وَلَا تخلخل وَلَا يكون الجسمان فِي مَكَان وَاحِد قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يَخْلُو هَذَا من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون الله عز وَجل أعدم من الْهَوَاء مِقْدَار مَا اخترع فِيهِ من التَّمْر وَالْمَاء والثريد وَإِمَّا أَن يكون الله عز وَجل أحَال أَجزَاء من الْهوى مَاء وَتَمْرًا وثريداً فَالله أعلم أَي ذَيْنك كَانَ وَالله على كل شَيْء قدير فَسقط قَوْلهم فِي الخلا والمدة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الصُّورَة فيكفيه بِلَا شكّ وَهِي تَخْلِيط الْجَوَاهِر وتشكلها إِلَّا أَنَّهَا قِسْمَانِ أَحدهمَا ملازم كالصورة الْكُلية لَا تفارق الْجَوَاهِر الْبَتَّةَ وَلَا تُوجد دونهمَا وَلَا تتوهم الْجَوَاهِر عَارِية عَنْهَا وَالْآخر تتعاقب أَنْوَاعه وأشخاصه على الْجَوَاهِر كانتقال الشَّيْء عَن تثليث إِلَى تربيع وَنَحْو ذَلِك فصح أَنَّهَا عرض بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْعقل فَلَا خلاف بَين أحد لَهُ عقل سليم فِي أَنه عرض مَحْمُول فِي النَّفس وَكَيْفِيَّة برهَان ذَلِك أَنه يقبل الأشد والأضعف فَنَقُول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وَله ضد وَهُوَ الْحمق وَلَا خلاف فِي الْجَوَاهِر أَنَّهَا لَا ضد لَهَا وَإِنَّمَا التضاد فِي بعض الكيفيات فَقَط وَقد اعْترض فِي هَذَا بعض من يَدعِي لَهُ علم الفلسفة فَقَالَ لَيْسَ فِي الْعقل ضد لَكِن لوُجُوده ضد وَهُوَ عَدمه فَقلت الَّذِي ذكر لي هَذَا الْبَحْث أَن هَذِه سفسطة وَجَهل لَو جَازَ لَهُ هَذَا التَّخْلِيط لجَاز لغيره أَن يَقُول لَيْسَ للْعلم ضد لَكِن لوُجُوده ضد وَهُوَ عَدمه وَلَا لشَيْء من الكيفيات ضد وَلَكِن لوجودها ضد وَهُوَ عدمهَا فَيبْطل التضاد من جَمِيع الكيفيات وَهَذَا كَلَام يعلم فَسَاده بضرورة الْعقل وَلَا فرق بَين وجود الضِّدّ لِلْعَقْلِ وَبَين وجوده للْعلم ولسائر الكيفيات وَهِي بَاب وَاحِد كُله وَإِنَّمَا هِيَ صِفَات متعاقبة كلهَا مَوْجُودَة فالعقل مَوْجُود ثمَّ يعقبه الْحمق وَهُوَ مَوْجُود كَمَا أَن الْعلم مَوْجُود ويعقبه الْجَهْل وكما أَن النجدة مَوْجُودَة ويعقبها الْجُبْن وَهُوَ مَوْجُود وَهَذَا أَمر لَا يخفى على من لَهُ أقل تَمْيِيز وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِر لَا تقبل الأشد والأضعف فِي ذواتها وَهَذَا أَيْضا قَول كل من لَهُ أدنى فهم من الأوايل وَالْعقل عِنْد جَمِيعهم هُوَ تَمْيِيز الْفَضَائِل من الرذائل وَاسْتِعْمَال الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل والتزام مَا يحسن بِهِ المغبة فِي دَار الْبَقَاء وعالم الْجَزَاء وَحسن السياسة فِيمَا يلْزم الْمَرْء فِي دَار الدُّنْيَا وَبِهَذَا أَيْضا جَاءَت الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ الله عز وَجل {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَقَالَ تَعَالَى {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ} فصح أَن الْعقل هُوَ الْإِيمَان وَجَمِيع الطَّاعَات وَقَالَ تَعَالَى عَن الْكفَّار {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير فصح أَن الْعقل فعل النَّفس وَهُوَ عرض مَحْمُول فِيهَا وَقُوَّة من قواها فَهُوَ عرض كَيْفيَّة بِلَا شكّ وَإِنَّمَا غلط من غلط فِي هَذَا لِأَنَّهُ رأى لبَعض الْجُهَّال المخلطين من الْأَوَائِل أَن القل جَوْهَر وَأَن لَهُ فلكاً فعول على ذَلِك من لَا علم لَهُ وَهَذَا خطأ كَمَا أوردنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن لَفْظَة الْعقل عَرَبِيَّة أَتَى بهَا المترجمون عبارَة عَن لَفْظَة أُخْرَى يعبر بهَا فِي اليونانية أَو فِي غَيرهَا من اللُّغَات عَمَّا يعبر بِلَفْظَة الْعقل عَنهُ فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة هَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ عِنْد أحد وَلَفْظَة الْعقل فِي لُغَة الْعَرَب إِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَة لتمييز الْأَشْيَاء وَاسْتِعْمَال الْفَضَائِل فصح ضَرُورَة أَنَّهَا معبرة بهَا عَن عرض وَكَانَ مدعى خلاف ذَلِك رَدِيء الْعقل عديم الْحيَاء مباهتاً بِلَا شكّ وَلَقَد قَالَ بعض النوكي الْجُهَّال لَو كَانَ الْعقل عرضا لكَانَتْ الْأَجْسَام أشرف مِنْهُ فَقلت للَّذي أَتَانِي بِهَذَا وَهل للجوهر شرف إِلَّا بأعراضه وَهل شرف جَوْهَر قطّ على جَوْهَر إِلَّا بصفاته لَا بِذَاتِهِ هَل يخفى هَذَا على أحد ثمَّ قُلْنَا ويلزمهم هَذَا نَفسه على قَوْلهم السخيف فِي الْعلم والفضائل أَن لَا يخالفوننا فِي أَنَّهَا أَعْرَاض فعلي مقدمتهم السخيفة يجب أَن تكون الْأَجْسَام كلهَا اشرف مِنْهَا وَهَذَا كَمَا ترى وَأما الهيولى فَهُوَ الْجِسْم نَفسه الْحَامِل لأعراضه كلهَا وَإِنَّمَا أفردته الْأَوَائِل بِهَذَا الِاسْم إِذْ تكلمُوا عَلَيْهِ مُفردا فِي الْكَلَام عَلَيْهِ عَن سَائِر أعراضه كلهَا من الصُّورَة وَغَيرهَا مَفْصُولًا فِي الْكَلَام عَلَيْهِ خَاصَّة عَن أعراضه وَإِن كَانَ لَا سَبِيل إِلَى أَن يُوجد خَالِيا عَن أعراضه وَلَا متعرياً مِنْهَا أصلا وَلَا يتَوَهَّم وجوده كَذَلِك وَلَا يتشكل فِي النَّفس وَلَا يتَمَثَّل ذَلِك أصلا بل هُوَ محَال مُمْتَنع جملَة كَمَا أَن الْإِنْسَان الْكُلِّي وَجَمِيع الْأَجْنَاس والأنواع لَيْسَ شَيْء مِنْهَا غير أشخاصه فَقَط فَهِيَ الْأَجْسَام بِأَعْيَانِهَا إِن كَانَ النَّوْع نوع أجسام وَهِي أشخاص الْأَعْرَاض إِن كَانَ النَّوْع نوع أَعْرَاض وَلَا مزِيد لِأَن قَوْلنَا الْإِنْسَان الْكُلِّي يزِيد النَّوْع إِنَّمَا مَعْنَاهُ أشخاص النَّاس فَقَط لَا أَشْيَاء أخر وَقَوْلنَا الْحمرَة الْكُلية إِنَّمَا مَعْنَاهُ أشخاص الْحمرَة حَيْثُ وجدت فَقَط فَبَطل بِهَذَا تَقْدِير من ظن من أهل الْجَهْل أَن الْجِنْس وَالنَّوْع والفصل جَوَاهِر لَا أجسام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَكِن الْأَوَائِل سمتها وسمت الصِّفَات الأوليات الذاتيات جوهريات لَا جَوَاهِر وَهَذَا صَحِيح لِأَنَّهَا منسوبة إِلَى الْجَوَاهِر لملازمتها لَهَا وَأَنَّهَا لَا تفارقها الْبَتَّةَ وَلَا يتَوَهَّم مفارقتها لَهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل قَوْلهم فِي الخلا والمدة وَالصُّورَة وَالْعقل والهيولى وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما الْبَارِي تَعَالَى فقد أَخطَأ من سَمَّاهُ جوهراً من المجسمة وَمن النَّصَارَى لِأَن لَفْظَة الْجَوْهَر لَفْظَة عَرَبِيَّة وَمن أثبت الله عز وَجل فَفرض عَلَيْهِ إِذا قرانه خالقه وإلاهه وَمَالك أمره أَلا يقدم عَلَيْهِ فِي شَيْء إِلَّا بِعَهْد مِنْهُ تَعَالَى وَإِلَّا يخبر عَنهُ إِلَّا بِعلم مُتَيَقن وَلَا علم هَهُنَا إِلَّا مَا أخبر بِهِ عز وَجل فَقَط فصح يَقِينا أَن تَسْمِيَة الله عز وَجل جوهراً وَالْأَخْبَار عَنهُ بِأَنَّهُ جَوْهَر حكم عَلَيْهِ تَعَالَى بِغَيْر عهد مِنْهُ وأخبار عَنهُ تَعَالَى بِالْكَذِبِ الَّذِي لم يخبر قطّ تَعَالَى بِهِ نَفسه وَلَا سمي بِهِ نَفسه وَهَذَا إقدام لم يأتنا قطّ بِهِ برهَان بإباحته وَأَيْضًا فَإِن الْجَوْهَر حَامِل لأعراض وَلَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى حَامِلا لعرض لَكَانَ مركبا عَن ذَاته وأعراضه وَهَذَا بَاطِل وَأما النَّصَارَى فَلَيْسَ لَهُم أَن يتصوروا على اللُّغَة الْعَرَبيَّة فيصرفوها عَن موضعهَا فَبَطل أَن يكون تَعَالَى جوهراً لبراءته عَن حد الْجَوَاهِر وَبَطل أَن يُسَمِّي جوهراً لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يُسَمِّي نَفسه بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل قَول من سمي الله تَعَالَى جوهراً وَأخْبر عَنهُ أَنه تَعَالَى جَوْهَر وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فَلم يبْق إِلَّا النَّفس والجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نتكلم فِيهَا كلَاما مُبينًا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي النَّفس فَذكر عَن أبي بكر عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم إِنْكَار النَّفس جملَة وَقَالَ لَا أعرف إِلَّا مَا شاهدته بحواسي وَقَالَ جالينوس وَأَبُو الْهُذيْل مُحَمَّد بن الْهُذيْل العلاف النَّفس عرض من الْأَعْرَاض ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ جالينوس هِيَ مزاج مُجْتَمع متولد من تركيب أخلاط الْجَسَد وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل هِيَ عرض كَسَائِر أَعْرَاض الْجِسْم وَقَالَت طَائِفَة النَّفس هِيَ النسيم الدَّاخِل الْخَارِج بالتنفس فَهِيَ النَّفس قَالُوا وَالروح عرض وَهُوَ الْحَيَاة فَهُوَ غير النَّفس وَهَذَا قَول الباقلاني وَمن اتبعهُ من الأشعرية وَقَالَت طَائِفَة النَّفس جَوْهَر لَيست جسماً وَلَا عرضا وَلَا لَهَا طول وَلَا عرض وَلَا عمق وَلَا هِيَ فِي مَكَان وَلَا تتجزأ وَأَنَّهَا هِيَ الفعالة الْمُدبرَة وَهِي الْإِنْسَان وَهُوَ قَول بعض الْأَوَائِل وَبِه يَقُول معمر بن عَمْرو الْعَطَّار أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَذهب سَائِر أهل الْإِسْلَام والملل المقرة بالميعاد إِلَى أَن النَّفس جسم طَوِيل عريض عميق ذَات مَكَان عَاقِلَة مُمَيزَة مصرفة للجسد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبِهَذَا نقُول وَالنَّفس وَالروح اسمان مُتَرَادِفَانِ لمسمى وَاحِد ومعناهما وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَول أبي بكر ابْن كيسَان فَإِنَّهُ يُبطلهُ النَّص وبرهان الْعقل أما النَّص فَقَوْل الله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم} الْآيَة فصح أَن النَّفس مَوْجُودَة وَأَنَّهَا غير الْجَسَد وَأَنَّهَا الْخَارِجَة عِنْد الْمَوْت قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْبُرْهَان الْعقلِيّ فإننا نرى الْمَرْء إِذا أَرَادَ تصفية عقله وَتَصْحِيح رَأْيه أَو فك مَسْأَلَة عويصة عكس ذهنه وأفرد نَفسه عَن حواسها الجسدية وَترك اسْتِعْمَال الْجَسَد جملَة وتبرأ مِنْهُ حَتَّى أَنه لَا يرى من بِحَضْرَتِهِ وَلَا يسمع مَا يُقَال أَمَامه فَحِينَئِذٍ يكون رَأْيه وفكره أصفى مَا كَانَ فصح أَن الْفِكر وَالذكر ليسَا للجسد المتخلى مِنْهُ عِنْد إرادتهما وَأَيْضًا فَالَّذِي يرَاهُ النَّائِم مِمَّا يخرج حَقًا على وَجهه وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا إِذا تخلت النَّفس عَن الْجَسَد فَبَقيَ الْجَسَد كجسد الْمَيِّت ونجده حِينَئِذٍ يرى فِي الرُّؤْيَا وَيسمع وَيتَكَلَّم وَيذكر وَقد بَطل عمل بَصَره الجسدي وَعمل أُذُنَيْهِ الجسدي وَعمل ذوقه الجسدي وَكَلَام لِسَانه الجسدي فصح يَقِينا أَن الْعقل المبصر السَّامع الْمُتَكَلّم الحساس الذائق هُوَ شَيْء غير الْجَسَد فصح أَن الْمُسَمّى نفسا إِذْ لَا شَيْء غير ذَلِك وَكَذَلِكَ مَا تتخيله نفس الْأَعْمَى وَالْغَائِب عَن الشَّيْء مِمَّا قد رَآهُ قبل ذَلِك فيتمثله وَيَرَاهُ فِي نَفسه كَمَا هُوَ فصح يَقِينا أَن هَهُنَا متمثلاً مدْركا غير الْجَسَد إِذْ لَا أثر للجسد وَلَا للحواس فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا الْبَتَّةَ وَمِنْهَا أَنَّك ترى المريد يُرِيد بعض الْأُمُور بنشاط فَإِذا اعْتَرَضَهُ عَارض مَا كسل والجسم يحسبه كَمَا كَانَ لم يتَغَيَّر مِنْهُ شَيْء فَعلمنَا أَن هَهُنَا مرِيدا للأشياء غير الْجَسَد وَمِنْهَا أَخْلَاق النَّفس من الْحلم وَالصَّبْر والحسد وَالْعقل والطيش والخرق والنزق وَالْعلم والبلادة وكل هَذَا لَيْسَ لشَيْء من أَعْضَاء الْجَسَد فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ كُله للنَّفس الْمُدبرَة للجسد وَمِنْهَا مَا يرى من بعض المحصرين مِمَّن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حِينَئِذٍ أجد مَا كَانَ ذهناً وَأَصَح مَا كَانَ تمييزا وَأفضل طبيعة وَأبْعد عَن كل لَغْو وأنطق بِكُل حِكْمَة وأصحهم نظرا وَجَسَده حِينَئِذٍ فِي غَايَة الْفساد وَبطلَان القوى فصح أَن الْمدْرك للأمور وَالْمُدبر للجسد الفعال الْمُمَيز الْحَيّ هُوَ شَيْء غير الْجَسَد وَهُوَ الَّذِي يُسمى نفسا وَصَحَّ أَن الْجَسَد مؤد للنَّفس وَلها مدخلات فِي الْجَسَد كَأَنَّهَا وَقعت فِي طين مخمر فأنساها شغلها بهَا كلما سلف لَهَا وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْفِعْل للجسد لَكَانَ فعله متمادياً وحياته مُتَّصِلَة فِي حَال نَومه وَمَوته وَنحن نرى الْجَسَد حِينَئِذٍ صَحِيحا سالما لم ينْتَقض مِنْهُ شَيْء من أَعْضَائِهِ وَقد بطلت أَفعاله كلهَا جملَة فصح أَن الْفِعْل والتمييز إِنَّمَا كَانَ لغير الْجَسَد وَهُوَ النَّفس الْمُفَارقَة وَإِن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ مِنْهُ وَأَيْضًا فإننا نرى أَعْضَاء الْجَسَد تذْهب عضوا عضوا بِالْقطعِ وَالْفساد والقوى بَاقِيَة بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذِّهْن وَالتَّدْبِير وَالْعقل وَقَوي النَّفس بَاقِيَة أَو فر مَا كَانَ فصح ضَرُورَة أَن الفعال الْعَالم الذاكر المدير المريد هُوَ غير الْجَسَد كَمَا ذكرنَا وَأَن الْجَسَد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 موَات فَبَطل قَول ابْن كيسَان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَول من قَالَ أَنَّهَا مزاج كَمَا قَالَ جالينوس فَإِن كل مَا ذكرنَا مِمَّا أبطلنا بِهِ قَول أبي بكر بن كيسَان فَإِنَّهُ يبطل أَيْضا قَول جالينوس وَأَيْضًا فَإِن العناصر الْأَرْبَعَة الَّتِي مِنْهَا تركب الْجَسَد وَهِي التُّرَاب وَالْمَاء والهواء وَالنَّار فَإِنَّهَا كلهَا موَات بطبعها وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع والمحال الَّذِي لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يجْتَمع موَات وموات وموات وموات فَيقوم مِنْهَا حَيّ وَكَذَلِكَ محَال أَن تَجْتَمِع بوارد فَيقوم مِنْهَا حَار أَو حوار فيجتمع مِنْهَا بَارِد أَو حَيّ وَحي وَحي فَيقوم مِنْهَا موَات فَبَطل أَن تكون النَّفس مزاجاً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَول من قَالَ أَنَّهَا عرض فَقَط وَقَول من قَالَ إِنَّمَا النَّفس النسيم الدَّاخِل وَالْخَارِج من الْهَوَاء وَأَن الرّوح هُوَ عرض وَهُوَ الْحَيَاة فَإِن كلى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يبطلان بِكُل مَا ذكرنَا ابطلال قَول الْأَصَم ابْن كيسَان وَأَيْضًا فَإِن أهل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ ينتمون إِلَى الْإِسْلَام وَالْقُرْآن يبطل قَوْلهم نصا قَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} فصح ضَرُورَة أَن النَّفس غير الأجساد وَأَن الْأَنْفس هِيَ المتوفاة فِي النّوم وَالْمَوْت ثمَّ ترد عِنْد الْيَقَظَة وَتمسك عِنْد الْمَوْت وَلَيْسَ هَذَا التوفي للأجساد أصلا وبيقين يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن الْعرض لَا يُمكن أَن يتوفى فيفارق الْجِسْم الْحَامِل لَهُ وَيبقى كَذَلِك ثمَّ يرد بعضه ويمسك بعضه هَذَا مَا لَا يكون وَلَا يجوز لِأَن الْعرض يبطل بمزايلته الْحَامِل لَهُ وَكَذَلِكَ لَا يُمكن أَن يظنّ ذُو مسكة من عقل أَن الْهَوَاء الْخَارِج والداخل هُوَ المتوفي عِنْد النّوم وَكَيف ذَلِك وَهُوَ بَاقٍ فِي حَال النّوم كَمَا كَانَ فِي حَال الْيَقَظَة وَلَا فرق وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} فَإِنَّهُ لَا يُمكن أَن يعذب الْعرض وَلَا الْهَوَاء وَأَيْضًا قَالَ الله عز وَجل يَقُول {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} الْآيَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ آيَة ترفع الأشكال جملَة وَتبين أَن النَّفس غير الْجَسَد وَإِنَّمَا هِيَ الْعَاقِلَة المخاطبة المكلفة لِأَنَّهُ لَا يشك ذُو حس سليم فِي أَن الأجساد حِين أَخذ الله عَلَيْهَا هَذَا الْعَهْد كَانَت مبددة فِي التُّرَاب وَالْمَاء والهواء وَالنَّار وَنَصّ الْآيَة يَقْتَضِي مَا قُلْنَا فَكيف وفيهَا نَص أَن الأشهاد إِنَّمَا وَقع على النُّفُوس وَمَا أَدْرِي كَيفَ تَنْشَرِح نفس مُسلم بِخِلَاف هَذِه النُّصُوص وَكَذَلِكَ أَخْبَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا لَيْلَة أسرِي بِهِ عَن يَمِين آدم وَعَن يسَاره نسم بنيه فَأهل السَّعَادَة عَن يَمِينه وَأهل الشقاوة عَن يسَاره عَلَيْهِ السَّلَام وَمن الْبَاطِل أَن تكون الْأَعْرَاض بَاقِيَة هُنَالك أَو أَن يكون النسيم هُنَالك وَهُوَ هَوَاء مُتَرَدّد فِي الْهَوَاء قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو كَانَ مَا قَالَه أَبُو الْهُذيْل والباقلاني وَمن قلدهما حَقًا لَكَانَ الْإِنْسَان يُبدل فِي كل سَاعَة ألف ألف روح وأزيد من ثَلَاث مائَة نفس ألف لِأَن الْعرض عِنْدهم لَا يبْقى وَقْتَيْنِ بل يفنى ويتجدد عِنْدهم أبدا فَروح كل حَيّ على قَوْلهم فِي كل وَقت غير روحه الَّتِي كَانَت قبل ذَلِك وَهَكَذَا تتبدل أَرْوَاح النَّاس عِنْدهم بِالْخِطَابِ وَكَذَلِكَ بِيَقِين يُشَاهد كل أحد أَن الْهَوَاء الدَّاخِل بالتنفس ثمَّ يخرج هُوَ غير الْهَوَاء الدَّاخِل بالتنفس الثَّانِي فالإنسان يُبدل على قَول الأشعرية أنفساً كَثِيرَة فِي كل وَقت وَنَفسه الْآن غير نَفسه آنِفا وَهَذَا حمق لَا خَفَاء بِهِ فَبَطل قَول الْفَرِيقَيْنِ بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع والمشاهدة والمعقول وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين هَذَا مَعَ تعريهما من الدَّلِيل جملَة وَأَنَّهَا دَعْوَى فَقَط وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَقد صرح الباقلاني عِنْد ذكره لما يعْتَرض فِي أَرْوَاح الشُّهَدَاء وأرواح آل فِرْعَوْن فَقَالَ هَذَا يخرج على وَجْهَيْن بِأَن يوضع عرض الْحَيَاة فِي أقل جُزْء من أَجزَاء الْجِسْم وَقَالَ بعض من شَاهَدْنَاهُ مِنْهُم تُوضَع الْحَيَاة فِي عجب الذَّنب وَاحْتج بالْخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب وَمِنْه يركب الْخلق يَوْم الْقِيَامَة وَفِي روليه مِنْهُ خلق وَفِيه يركب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه من المحتج بِهَذَا الْخَبَر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث لَا نَص وَلَا دَلِيل وَلَا إِشَارَة يُمكن أَن يناول على أَن عجب الذَّنب يحيا وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث أَن عجب الذَّنب لَا يَأْكُلهُ التُّرَاب وَأَنه من خلق الْجَسَد وَفِيه يركب فَقَط فَظهر تمويه هَذَا الْقَائِل وَضَعفه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ الباقلاني وَأما أَن يخلق لتِلْك الْحَيَاة جَسَد آخر فَلَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب التناسخ بِلَا مؤونة وَاحْتج لذَلِك بِالْحَدِيثِ الْمَأْثُور أَن نسمَة الْمُؤمن طير يعلف من ثمار الْجنَّة ويأوي إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش وَفِي بَعْضهَا أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا الْخَبَر لِأَن معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام طَائِر يعلف هُوَ على ظَاهره لَا على ظن أهل الْجَهْل وَإِنَّمَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن نسمَة الْمُؤمن طَائِر بِمَعْنى أَنَّهَا تطير فِي الْجنَّة فَقَط لَا أَنَّهَا تنسخ فِي صور طير فَإِن قيل أَن النَّسمَة مُؤَنّثَة قُلْنَا قد صَحَّ عَن عَرَبِيّ فصيح أَنه قَالَ أتتك كتابي فاستخففت بهَا فَقيل لَهُ أتؤنث الْكتاب فَقَالَ أَو لَيْسَ صحيفَة وَكَذَلِكَ النَّسمَة روح فَتذكر لذَلِك وَأما الزِّيَادَة الَّتِي فِيهَا أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر فَإِنَّهَا صفة تِلْكَ الْقَنَادِيل الَّتِي تأوي إِلَيْهَا وَالْحَدِيثَانِ مَعًا حَدِيث وَاحِد وَخبر وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم يحصل من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ الفاسدين إِلَّا على دَعْوَى كَاذِبَة بِلَا دَلِيل يشبه الْهزْل أَو على كفر مُجَرّد فِي الْمصير إِلَى قَول أَصْحَاب التناسخ وعَلى تَحْرِيف الحَدِيث عَن وَجهه ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فَبَطل هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَول من قَالَ أَن النَّفس جَوْهَر لَا جسم من الْأَوَائِل وَمعمر وَأَصْحَابه فَإِنَّهُم موهوا بأَشْيَاء إقناعيات فَوَجَبَ إيرادها ونقضها ليظْهر الْبُرْهَان على وَجه الْإِنْصَاف للخصم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالُوا لَو كَانَت النَّفس جسماً لَكَانَ بَين تَحْرِيك المحرك رجله وَبَين إِرَادَته تحريكها زمَان على قدر حَرَكَة الْجِسْم وَثقله إِذا النَّفس هِيَ المحركة للجسد والمريدة لحركته قَالُوا فَلَو كَانَ المحرك للرجل جسماً لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون حَاصِلا فِي هَذِه الْأَعْضَاء وَإِمَّا جائياً إِلَيْهَا فَإِن كَانَ جائياً إِلَيْهَا احْتَاجَ إِلَى مُدَّة وَلَا بُد وَإِن كَانَ حَاصِلا فِيهَا فَنحْن إِذا قَطعنَا تِلْكَ الْعصبَة الَّتِي بهَا تكون الْحَرَكَة لم يبْق مِنْهَا فِي الْعُضْو الَّذِي كَانَ يَتَحَرَّك شَيْء أصلا فَلَو كَانَ ذَلِك المحرك حَاصِلا فِيهِ لبقي مِنْهُ شَيْء فِي ذَلِك الْعُضْو قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن النَّفس لَا تَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا إِمَّا أَن تكون مُجَللَة لجَمِيع الْجَسَد من خَارج كَالثَّوْبِ وَإِمَّا أَن تكون متخللة بِجَمِيعِهِ من دَاخل كَالْمَاءِ فِي المدرة وَإِمَّا أَن تكون فِي مَكَان وَاحِد من الْجَسَد وَهُوَ الْقلب أَو الدِّمَاغ وَتَكون قواها مثبتة فِي جَمِيع الْجَسَد فَأَي هَذِه الْوُجُوه كَانَ فتحريكها لما يُرِيد تحريكه من الْجَسَد يكون مَعَ إرادتها لذَلِك بِلَا زمَان كإدراك الْبَصَر لما يلاقي فِي الْبعد بِلَا زمَان وَإِذا قطعت الْعصبَة لم يَنْقَطِع مَا كَانَ من جسم النَّفس مخللاً لذَلِك الْعُضْو إِن كَانَت متخللة لجَمِيع الْجَسَد من دَاخل أَو مُجَللَة لَهُ من خَارج بل يُفَارق الْعُضْو الَّذِي يبطل حسه فِي الْوَقْت وينفصل عَنهُ بِلَا زمَان وَتَكون مفارقتهما لذَلِك الْعُضْو كمفارقة الْهَوَاء للإناء الَّذِي ملئ مَاء وَأما أَن كَانَت النَّفس سَاكِنة فِي مَوضِع وَاحِد من الْجَسَد فَلَا يلْزم على هَذَا الْقسم أَن يسلب من العضود الْمَقْطُوع بل يكون فعلهَا حِينَئِذٍ فِي تحريكها الْأَعْضَاء كَفعل حجر المغنطيس فِي الْحَدِيد وَإِن لم يلصق بِهِ بِلَا زمَان فَبَطل هَذَا الْإِلْزَام الْفَاسِد وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا لَو كَانَت النَّفس جسماً لوَجَبَ أَن نعلم بِبَعْضِهَا أَو بكلها قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال فَاسد تقسيمه وَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنَّهَا لَا تعلم إِلَّا بكلها أَو بِبَعْضِهَا الْآن كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 بسيط غير مركب من طبائع شَتَّى فَهُوَ طبيعة وَاحِدَة وَمَا كَانَ طبيعة وَاحِدَة فقوته فِي جَمِيع أَبْعَاضه وَفِي بعض أَبْعَاضه سَوَاء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثمَّ لَا نَدْرِي مَا وَجه هَذَا الِاعْتِرَاض علينا بِهَذَا السُّؤَال وَلَا مَا وَجه استدلالهم مِنْهُ على أَنَّهَا غير جسم وَلَو عكس عَلَيْهِم فِي إبِْطَال دَعوَاهُم أَنَّهَا جَوْهَر لَا جسم لما كَانَ بَينهم وَبَين السَّائِل لَهُم بذلك فرق أصلا وَقَالُوا أَن من شَأْن الْجِسْم أَنَّك إِذا زِدْت عَلَيْهِ جسماً آخر زَاد فِي كميته وَثقله قَالُوا فَلَو كَانَت النَّفس جسماً ثمَّ داخلت الْجِسْم الظَّاهِر لوَجَبَ أَن يكون الْجَسَد حِينَئِذٍ أثقل مِنْهُ دون النَّفس وَنحن نجد الْجَسَد إِذا فارقته النَّفس أثقل مِنْهُ إِذا كَانَت النَّفس فِيهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا شغب فَاسد ومقدمة بَاطِلَة كَاذِبَة لِأَنَّهُ لَيْسَ كل جسم كَمَا ذكرُوا من أَنه إِذا زيد عَلَيْهِ جسم آخر كَانَ أثقل مِنْهُ وَحده وَإِنَّمَا يعرض هَذَا فِي الْأَجْسَام الَّتِي تطلب المركز وَالْوسط فقطيعتي الَّتِي فِي طبعها أَن تتحرك سفلاً وترسب من المائيات والأرضيات وَأما الَّتِي تتحرك بطبعها علوا فَلَا يعرض ذَلِك فِيهَا بل الْأَمر بالضد وَإِذا أضيف جسم مِنْهَا إِلَى جسم ثقيل خففه فَإنَّك ترى أَنَّك لَو نفخت زقا من جلد ثَوْر أَو جلد بعير أَو أمكن حَتَّى يمتلئ هُوَ آثم وزنته فَإنَّك لَا نجد على وَزنه زِيَادَة على مِقْدَار وَزنه لَو كَانَ فَارغًا أصلا وَكَذَلِكَ مَا صعد من الزقاق وَلَو أَنه ورقة سوسنة منفوخة وَنحن نحسد الْجِسْم الْعَظِيم الَّذِي إِذا أضفته إِلَى الْجِسْم الثقيل خففه جدا فَإنَّك لَو رميت الزق غير المنفوخ فِي المَاء الرسب فَإِذا نفخته ورميت بِهِ خف وعام وَلم يرسب وَكَذَلِكَ يَسْتَعْمِلهُ العائمون لِأَنَّهُ يرفعهم عَن المَاء ويمنعهم من الرسوب وَهَكَذَا النَّفس مَعَ الْجَسَد وَهُوَ بَاب وَاحِد كلى لِأَن النَّفس جسم علوي فلكي أخف من الْهَوَاء وأطلب للعلو فَهِيَ تخفف الْجَسَد إِذا كَانَت فِيهِ فَبَطل تمويهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا أَيْضا لَو كَانَت النَّفس جسماً لكَانَتْ ذَات خاصية إِمَّا خَفِيفَة وَإِمَّا ثَقيلَة وَإِمَّا حارة وَإِمَّا بَارِدَة وَإِمَّا لينَة وَإِمَّا خشنة قَالَ أَبُو مُحَمَّد نعم هِيَ خَفِيفَة فِي غَايَة الخفة ذاكرة عَاقِلَة مُمَيزَة حَيَّة هَذِه خواصها وحدودها الَّتِي بَانَتْ بهَا عَن سَائِر الْأَجْسَام المركبات مَعَ سَائِر أعراضها المحمولة فِيهَا من الْفَضَائِل والرذائل وَأما الْحر واليبس وَالْبرد والرطوبة واللين والخشونة فَإِنَّمَا هِيَ من أَعْرَاض عناصر الأجرام الَّتِي دون الْفلك خَاصَّة وَلَكِن هَذِه الْأَعْرَاض الْمَذْكُورَة مُؤثرَة فِي النَّفس اللَّذَّة أَو الْأَلَم فَهِيَ منفعلة لكل مَا ذكرنَا وَهَذَا يثبت أَنَّهَا جسم قَالُوا إِنَّمَا من كَانَ الْأَجْسَام فكيفياته محسوسة وَمَا لم تكن كيفياته محسوسة فَلَيْسَ بجسم وكيفيات النَّفس إِنَّمَا هِيَ الْفَضَائِل والرذائل وَهَذَانِ الجنسان من الكيفيات ليسَا محسوسين فَالنَّفْس لَيست جسماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا شغب فَاسد ومقدمة كَاذِبَة لِأَن قَوْلهم أَن مَا تحس كيفياته فَلَيْسَ جسماً دَعْوَى كَاذِبَة لَا برهَان عَلَيْهَا أصلا لَا عَقْلِي وَلَا حسي وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ قَول سَاقِط ومطروح لَا يعجز عَن مثله أحد وَلَكنَّا لَا نقنع بِهَذَا دون أَن نبطل هَذِه الدَّعْوَى ببرهان حسي ضَرُورِيّ بعون الله تَعَالَى وَهُوَ أَن الْفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وَأما اللَّوْن اللازوردي الظَّاهِر فَإِنَّمَا يتَوَلَّد فِيمَا دونه من امتزاج بعض العناصر وَوُقُوع خطّ الْبَصَر عَلَيْهَا وبرهان ذَلِك تبدل ذَلِك اللَّوْن بِحَسب الْعَوَارِض المولدة لَهُ فَمرَّة ترَاهُ أَبيض صافي الْبيَاض وَمرَّة ترى حمرَة ظَاهِرَة فصح أَن قَوْلهم دَعْوَى مُجَرّدَة كَاذِبَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن الْجِسْم تتفاضل أَنْوَاعه فِي وُقُوع الْحَواس عَلَيْهِ فَمِنْهُ مَا يدْرك لَونه وطعمه وريحه وَمِنْه مَا لَا يدْرك مِنْهُ إِلَّا المجسة فَقَط كالهواء وَمِنْهَا النَّار فِي عنصرها لَا يَقع عَلَيْهَا شَيْء من الْحَواس أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه وَهِي جسم عَظِيم المساحة مُحِيط بالهواء كُله فَوَجَبَ من هَذَا أَن الْجِسْم كل مَا زَاد لطافة وصفاء لم تقع عَلَيْهِ الْحَواس وَهَذَا حكم النَّفس وَمَا دون النَّفس فأكثره محسوس للنَّفس لَا حس الْبَتَّةَ إِلَّا للنَّفس وَلَا حساس إِلَّا هِيَ فَهِيَ حساسة لَا محسوسة وَلم يجب قطّ لَا بعقل وَلَا بحس أَن يكون كل حساس محسوساً فَسقط قَوْلهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا أَن كل جسم فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو من أَن يَقع تَحت جَمِيع الْحَواس أَو تَحت بَعْضهَا وَالنَّفس لَا تقع تَحت كل الْحَواس وَلَا تَحت بَعْضهَا فَالنَّفْس لَيست جسماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه مُقَدّمَة فَاسِدَة كَمَا ذكرنَا آنِفا لِأَن مَا عدم اللَّوْن من الْأَجْسَام لم يدْرك بِالْبرِّ كالهواء وكالنار فِي عنصرها وَإِن مَا عدم الرَّائِحَة لم يدْرك بالشم كالهواء وَالنَّار والحصى والزجاج وَغير ذَلِك وَمَا عدم الطّعْم لم يدْرك بالذوق كالهواء وَالنَّار والحصى والزجاج وَمَا عدم المجسة لم يدْرك باللمس كالهواء السَّاكِن وَالنَّفس عادمة اللَّوْن والطعم والمجسة والرائحة فَلَا تدْرك بِشَيْء من الْحَواس بل هِيَ المدركة لكل هَذِه المدركات وَهِي الحساسة لكل هَذِه المحسوسات فَهِيَ حساسة لَا محسوسة وَإِنَّمَا تعرف بآثارها وبراهين عقلية وَسَائِر الْأَجْسَام والأعراض محسوسة لَا حساسة وَلَا بُد من حساس لهَذِهِ المحسوسات وَلَا حساس لَهَا غير النَّفس وَهِي الَّتِي تعلم نَفسهَا وَغَيرهَا وَهِي الْقَابِلَة لأعراضها الَّتِي تتعاقب عيها من الْفَضَائِل والرذائل الْمَعْلُومَة بِالْعقلِ كقبول سَائِر الأجرام لما يتعاقب عَلَيْهَا من الْأَعْرَاض بِالْعقلِ وَالنَّفس هِيَ المتحركة باختيارها المحركة لسَائِر الْأَجْسَام هِيَ مُؤثرَة فِيهَا تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وَتعلم وتجهل وتحب وَتكره وتذكر وتنسي وتنتقل وَتحل فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ أَن كل جسم فَلَا بُد من ان يَقع تَحت الْحَواس أَو تَحت بَعْضهَا لِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وكل دَعْوَى عربت من دَلِيل فَهِيَ بَاطِلَة وَقَالُوا كل جسم فَإِنَّهُ لَا محَالة يلْزمه الطول وَالْعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فَإِن كَانَت النَّفس جسماً فَلَا بُد أَن تكون هَذِه الكيفيات فِيهَا أَو يكون بَعْضهَا فِيهَا فَأَي الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَهِيَ إِذا محاط بهَا هِيَ مدركة بالحواس أَو من بَعْضهَا وَلَا نرى الْحَواس تدركها فَلَيْسَتْ جسماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كُله صَحِيح وقضايا صَادِقَة حاشا قَضِيَّة وَاحِدَة لَيست فِيهَا وَهِي قَوْلهم وَهِي مدركة من الْحَواس أَو من بَعْضهَا فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل المقحم بِلَا دَلِيل وَسَائِر ذَلِك صَحِيح وَهَذِه الْقَضِيَّة الْفَاسِدَة دَعْوَى كَاذِبَة وَقد تقدم أَيْضا إفسادنا لَهَا آنِفا مَعَ تعريها عَن دَلِيل يصححها وَنعم فَالنَّفْس جسم طَوِيل عريض عميق ذَات سطح وَخط وشكل ومساحة وَكَيْفِيَّة يحاط بهَا ذَات مَكَان وزمان لِأَن هَذِه خَواص الْجِسْم وَلَا بُد وَالْعجب من قلَّة حَيَاء من أقحم مَعَ هَذَا فَهِيَ إِذا مدركة بالحواس وَهَذَا عين الْبَاطِل لِأَن حاسة الْبَصَر وحاسة السّمع وحاسة الذَّوْق وحاسة الشم وحاسة اللَّمْس لَا يَقع شَيْء مِنْهَا لَا على الطول وَلَا على الْعرض وَلَا على العمق وَلَا على السَّطْح وَلَا على الشكل وَلَا على المساحة وَلَا على الْكَيْفِيَّة وَلَا على الْخط وَإِنَّمَا تقع حاسة الْبَصَر على اللَّوْن فَقَط فَإِن كَانَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا لون وَقعت عَلَيْهِ حاسبة الْبَصَر وَعلمت ذَلِك الملون بتوسط اللَّوْن وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا تقع حاسة السّمع على الصَّوْت فَإِن حدث فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا صَوت وَقعت عَلَيْهِ حاسة السّمع حِينَئِذٍ وَعلمت ذَلِك المصوت بتوسطه وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا تقع حاسة الشم على الرَّائِحَة فَإِن كَانَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا رَائِحَة وَقعت عَلَيْهَا حِينَئِذٍ حاسة الشم وَعلمت حَامِل الرَّائِحَة بتوسط الرَّائِحَة وَإِلَّا فَلَا وَإِن كَانَ لشَيْء مِمَّا ذكرنَا طعم وَقعت عيه حِينَئِذٍ حاسة الذَّوْق وَعلمت المذوق بتوسط الطّعْم وَإِلَّا فَلَا وَإِن كَانَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا مجسة وَقعت عَلَيْهَا حاسة اللَّمْس حِينَئِذٍ وَعلمت الملموس بتوسط المجسة وَإِلَّا فَلَا وَقَالُوا أَن من خَاصَّة الْجِسْم أَن يقبل التجزيء وَإِذا جزئ خرج مِنْهُ الْجُزْء الصَّغِير وَالْكَبِير وَلم يكن الْجُزْء الصَّغِير كالجزء الْكَبِير فَلَا يحلو حِينَئِذٍ من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون كل جُزْء مِنْهَا نفسا فَيلْزم من ذَلِك أَن لَا تكون النَّفس نفسا وَاحِدَة بل تكون حِينَئِذٍ أنفساً كَثِيرَة مركبة من أنفس وَإِمَّا أَن يكون كل جُزْء مِنْهَا نفسا فَيلْزم أَن لَا تكون كلهَا نفسا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَوْلهم إِن خَاصَّة الْجِسْم احْتِمَال التجزيء فَهُوَ صدق وَالنَّفس مُحْتَملَة للتجزيء لِأَنَّهَا جسم من الْأَجْسَام وَأما قَوْلهم أَن الْجُزْء الصَّغِير لَيْسَ كالكبير فَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ المساحة فَنعم وَأما فِي غير ذَلِك فَلَا وَأما قَوْلهم أَنَّهَا إِن تجزأت فإمَّا أَن يكون كل جُزْء مِنْهَا نفسا وإلزامهم من ذَلِك أَنَّهَا مركبة من أنفس فَإِن القَوْل الصَّحِيح فِي هَذَا أَن النَّفس مُحْتَملَة للتجزيء بِالْقُوَّةِ وَإِن كَانَ التجزيء بانقسامها غير مَوْجُود بِالْفِعْلِ وَهَكَذَا القَوْل فِي الْفلك وَالْكَوَاكِب كل ذَلِك مُحْتَمل للتجزيء بِالْقُوَّةِ وَلَيْسَ التجزيء مَوْجُودا فِي شَيْء مِنْهَا بِالْفِعْلِ وَأما قَوْلهم أَنَّهَا مركبة من أنفس فشغب فَاسد لأننا قد قدمنَا فِي غير مَوضِع أَن الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة والمسميات المتغايرة يجب أَن يُوقع على كل وَاحِد مِنْهَا اسْم يبين بِهِ عَن غَيره وَإِلَّا فقد وَقع الأشكال وَبَطل التفاهم وصرنا إِلَى قَول السوفسطائية المبطلة لجَمِيع الْحَقَائِق وَوجدنَا الْعَالم يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا مؤلف من طبائع مُخْتَلفَة فاصطلحنا على أَن سمينا هَذَا الْقسم مركبا وَالثَّانِي مؤلفا من طبيعة وَاحِدَة فاصطلحنا على أَن سمينا هَذَا الْقسم بسيطاً ليَقَع التفاهم فِي الْفرق بَين هذَيْن الْقسمَيْنِ وَوجدنَا الْقسم الأول لَا يَقع على كل جُزْء من أَجْزَائِهِ اسْم كُله كالإنسان الجزئي فَإِنَّهُ متألف من أَعْضَاء لَا يُسمى شَيْء مِنْهَا إنْسَانا كَالْعَيْنِ وَالْأنف وَالْيَد وَسَائِر أَعْضَائِهِ الَّتِي لَا يُسمى عُضْو مِنْهَا على انْفِرَاده إنْسَانا فَإِذا تألفت سمي المتألف مِنْهَا إنْسَانا وَوجدنَا الْقسم الثَّانِي يَقع على كل جُزْء من أَجْزَائِهِ اسْم كُله كالأرض وَالْمَاء والهواء وَالنَّار وكالفلك فَكل جُزْء من النَّار نَار وكل جُزْء من المَاء مَاء وكل جُزْء من الْهَوَاء هَوَاء وكل جُزْء من الْفلك فَهُوَ فلك وكل جُزْء من النَّفس نفس وَلَيْسَ ذَلِك مُوجبا أَن تكون الأَرْض مؤلفة من أَرضين وَلَا أَن يكون الْهَوَاء مؤلفاً من أهوية وَلَا أَن يكون الْفلك مؤلفاً من أفلاك وَلَا أَن تكون النَّفس مؤلفة من أنفس وَحَتَّى لَو قيل ذَلِك بِمَعْنى أَن كل بعض مِنْهَا يُسمى نفسا وكل بعض من الْفلك يُسمى فلكاً فَمَا كَانَ يكون فِي ذَلِك مَا يعْتَرض بِهِ على أَنَّهَا جسم كَسَائِر الْأَجْسَام الَّتِي ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالُوا أَيْضا طبع ذَات الْجِسْم أَن يكون غير متحرك وَالنَّفس متحركة فَإِن كَانَت هَذِه الْحَرَكَة الَّتِي فِيهَا من قبل الْبَارِي تَعَالَى فقد وجدنَا لَهَا الحركات فَاسِدَة فَكيف يُضَاف ذَلِك إِلَى الْبَارِي تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الْكَلَام غَايَة الْفساد والهجنة وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لمن ينتسب إِلَى الْعلم إِن كَانَ يدْرِي مِقْدَار سُقُوط هَذِه الاعتراضات وسخفها أَن يصون نَفسه عَن الِاعْتِرَاض بهَا لرذالتها فَكَانَ الأولى بِهِ أَن يتَعَلَّم قبل أَن يتَكَلَّم فَأَما قَوْله أَن طبع ذَات الْجِسْم أَن تكون غير متحركة فَقَوْل ظَاهر الْكَذِب والمجاهرة لِأَن للأفلاك وَالْكَوَاكِب أجساماً وطبعها الْحَرَكَة الدائمة الْمُتَّصِلَة أبدا إِلَى أَن يحيلها خَالِقهَا عَن ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة وَأَن للعناصر دون الْفلك أجساماً وطبعها الْحَرَكَة إِلَى مقرها والسكون فِي مقرها وَأما النَّفس فَلِأَنَّهَا حَيَّة كَانَ طبعها السّكُون الِاخْتِيَارِيّ وَالْحَرَكَة الاختيارية حينا وحيناً هَذَا كُله لَا يجهله أحد بِهِ ذوق وَأما قَوْلهم أَن لَهَا حركات ردية فَكيف تُضَاف إِلَى الْبَارِي تَعَالَى فَإِنَّمَا كَانَ بعض حركات النَّفس ردياً بمخالفة النَّفس أَمر باريها فِي تِلْكَ الحركات وَإِنَّمَا أضيفت إِلَى الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ خلقهَا فَقَط على قَوْلنَا أَو لِأَنَّهُ تَعَالَى خلق تِلْكَ القوى الَّتِي بهَا كَانَت تِلْكَ الحركات فَسقط إلزامهم الْفَاسِد وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا أَيْضا إِن الْأَجْسَام فِي طبعها الاستحالة والتغير وَاحْتِمَال الإنقسام أبدا بِلَا غَايَة لَيْسَ شَيْء مِنْهَا إِلَّا هَكَذَا أبدا فَهِيَ محتاجة إِلَى من يربطها ويشدها ويحفظها وَيكون بِهِ تماسكها قَالُوا وَالْفَاعِل لذَلِك النَّفس فَلَو كَانَت النَّفس جسماً لكَانَتْ محتاجة إِلَى من يربطها ويحلها فَيلْزم من ذَلِك أَن تحْتَاج إِلَى نفس أُخْرَى وَالْأُخْرَى إِلَى أُخْرَى وَالْأُخْرَى كَذَلِك إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ بَاطِل قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا أفسد من كل قَول سبق من تشغيباتهم لِأَن مقدمته مغشوشة فَاسِدَة كَاذِبَة أما قَوْلهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 أَن الْأَجْسَام فِي طبعها الاستحالة والتغير على الْإِطْلَاق كذب لِأَن الْفلك جسم لَا يقبل الاستحالة وَإِنَّمَا تجب الاستحالة والتغيير فِي الْأَجْسَام المركبة من طبائع شَتَّى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أُخْرَى وبانحلالها إِلَى عناصرها هَكَذَا مُدَّة مَا أَيْضا ثمَّ تبقى غير منحلة أَو مستحيلة وَأما النَّفس فَإِنَّهَا تقبل الاستحالة والتغيير فِي أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إِلَى جهل وَمن جهل إِلَى علم وَمن حرص إِلَى قناعة وَمن بخل إِلَى وجود وَمن رَحْمَة إِلَى قسوة وَمن لَذَّة إِلَى ألم هَذَا كُله مَوْجُود محسوس وَأما أَن تستحيل فِي ذَاتهَا فَتَصِير لَيست نفسا فَلَا وَهَذَا الْكَوْكَب هُوَ جسم وَلَا يصير غير كَوْكَب والفلك لَا يصير غير فلك وَأما قَوْله أَن الْأَجْسَام محتاجة إِلَى مَا يشدها ويربطها ويمسكها فَصَحِيح وَأما قَوْله أَن النَّفس هِيَ الفاعلة لذَلِك فكذب وَدَعوى بِلَا دَلِيل عَلَيْهَا إقناعي وَلَا برهاني بل هُوَ تمويه مُدَلّس يجوز باطله على أهل الْغَفْلَة وَهَكَذَا قَول الدهرية وَلَيْسَ كَذَلِك بل النَّفس من جملَة الْأَجْسَام المحتاجة إِلَى مَا يمْسِكهَا ويشدها ويقيمها وحاجتها إِلَى ذَلِك كحاجة سَائِر الْأَجْسَام الَّتِي فِي الْعَالم وَلَا فرق وَالْفَاعِل لكل ذَلِك فِي النَّفس وَفِي سَائِر الْأَجْسَام والممسك لَهَا والحافظ لجميعها والمحيل لما اسْتَحَالَ مِنْهَا فَهُوَ المبدى للنَّفس وَلكُل مَا فِي الْعَالم من جسم أَو عرض والمتمم لكل ذَلِك هُوَ الله الْخَالِق الْبَارِي المصور عز وَجل فبعض أمْسكهَا بطبائعها الَّتِي خلقهَا فِيهَا وصرفها فضبطها لما هِيَ فِيهِ وَبَعض أمْسكهَا برباطات ظَاهِرَة كالعصب وَالْعُرُوق والجلود لَا فَاعل لشَيْء من ذَلِك من دون الله تَعَالَى وَقد قدمنَا الْبَرَاهِين على كل ذَلِك فِي صدر كتَابنَا هَذَا فأغني عَن ترداده وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا أَيْضا كل جسم فَهُوَ إِمَّا ذُو نفس وَإِمَّا لَا ذُو نفس فَإِن كَانَت النَّفس جسماً فَهِيَ متنفسة أَي ذَات نفس وَإِمَّا لَا متنفسة أَي لَا ذَات نفس فَإِن كَانَت لَا متنفسة فَهَذَا خطأ لِأَنَّهُ يجب من ذَلِك أَن تكون النَّفس لَا نفسا وَإِن كَانَت متنفسة أَي ذَات نفس فَهِيَ محتاجة إِلَى نفس وَتلك النَّفس إِلَى أُخْرَى وَالْأُخْرَى إِلَى أُخْرَى وَهَذَا يُوجب مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ بَاطِل قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه مُقَدّمَة صَحِيحَة ركبُوا عَلَيْهَا نتيجة فَاسِدَة لَيست منتجة على تِلْكَ الْمُقدمَة وَأما قَوْلهم أَن كل جسم فَهُوَ إِمَّا ذُو نفس وَإِمَّا لَا ذُو نفس فَصَحِيح وَأما قَوْلهم أَن النَّفس إِن كَانَت غير متنفسة وَجب من ذَلِك أَن تكون النَّفس لَا نفسا فشغب فَاسد بَارِد لَا يلْزم لِأَن معنى القَوْل بِأَن الْجِسْم ذُو نفس إِنَّمَا هُوَ أَن بعض الْأَجْسَام أضيفت إِلَيْهِ نفس حَيَّة حساسة متحركة بِإِرَادَة مُدبرَة لذَلِك الْجِسْم الَّذِي استضافت إِلَيْهِ وَمعنى القَوْل بِأَن هَذَا الْجِسْم غير ذِي نفس وَإِنَّمَا هُوَ أَنه لم يستضف إِلَيْهِ نفس فَالنَّفْس الْحَيَّة هِيَ المتحركة الْمُدبرَة وَهِي غير محتاجة إِلَى جسم مُدبر لَهَا وَلَا محرك لَهَا فَلم يجب أَن يحْتَاج إِلَى نفس وَلَا أَن تكون لَيست نفسا وَلَا فرق بَينهم فِي قَوْلهم هَذَا وَبَين من قَالَ أَن الْجِسْم يحْتَاج إِلَى جسم كَمَا قَالُوا أَنه يجب أَن تحْتَاج النَّفس إِلَى نفس أَو قَالَ يجب أَن يكون الْجِسْم لَا جسماً كَمَا قَالُوا يجب أَن تكون النَّفس لَا نفسا وَهَذَا كُله هوس وَجَهل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالُوا لَو كَانَت النَّفس جسماً لَكَانَ الْجِسْم نفسا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من الْجَهْل المفرط المظلم وَلَو كَانَ الْقَائِل هَذَا الْجُنُون أقل علم بحدود الْكَلَام لن يَأْتِ بِهَذِهِ الغثاثة لِأَن الْمُوجبَة الْكُلية لَا تنعكس الْبَتَّةَ انعكاسا مطردا إِلَّا مُوجبَة جزئية لَا كُلية وَكَلَامهم هَذَا بِمَنْزِلَة من قَالَ لما كَانَ الْإِنْسَان جسماً وَجب أَن يكون الْجِسْم إنْسَانا وَلما كَانَ الْكَلْب جسماً وَجب أَن يكون الْجِسْم كَلْبا وَهَذَا غَايَة الْحمق والقحة لَكِن صَوَاب القَوْل فِي هَذَا أَن يَقُول لما كَانَت النَّفس جسماً كَانَ بعض الْأَجْسَام نفسا وَلما كَانَ الْكَلْب جسماً وَجب أَن يكون بعض الْأَجْسَام كَلْبا وَهَذَا هُوَ الْعَكْس الصَّحِيح المطرد اطراداً صَحِيحا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَت النَّفس جسماً فَهِيَ بعض الْأَجْسَام وَإِذا كَانَت كَذَلِك فكلية الْأَجْسَام أعظم مساحة مِنْهَا فَيجب أَن تكون أشرف مِنْهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَن عدم الْحيَاء وَالْعقل لم يبال بِمَا نطق بِهِ لِسَانه وَهَذِه قَضِيَّة فِي غَايَة الْحمق لِأَنَّهَا توجب أَن الشّرف إِنَّمَا هُوَ بِعظم الْأَجْسَام وَكَثْرَة المساحة وَلَو كَانَ كَذَلِك لكَانَتْ الْقَضِيَّة والبلبلة وَكَانَ الْحمار والبغل وكدس الْعذرَة أشرف من الْإِنْسَان المنبأ والفيلسوف لِأَن كل ذَلِك أعظم مساحة مِنْهُ ولكانت الغرلة أشرف من نَاظر الْعين والآلية أشرف من الْقلب والكبد والدماغ والصخرة أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدّى إِلَى مثل هَذَا نعم فَإِن كثيرا من الْأَجْسَام أعظم مساحة من النَّفس وَلَيْسَ ذَلِك مُوجبا أَنَّهَا اشرف مِنْهَا مَعَ أَن النَّفس الرذلة المضربة عَمَّا أوجبه التَّمْيِيز وَعَن طَاعَة رَبهَا إِلَى الْكفْر بِهِ فَكل شَيْء فِي الْعَالم أشرف مِنْهَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَقَالُوا كَانَت أَن النَّفس جسماً آخر مَعَ الْجِسْم فالجسم نَفسه وَشَيْء آخر وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالجسم أتم وَإِذا كَانَ أتم فَهُوَ أشرف قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جُنُون مردد لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَثْرَة الْعدَد يجب الْفضل والشرف وَلَا بِعُمُوم اللَّفْظ يجب الشّرف بل قد يكون الْأَقَل والأخص أشرف وَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ لوَجَبَ أَن تكون الْأَخْلَاق جملَة شرف من الْفَضَائِل خَاصَّة لِأَن الْأَخْلَاق فَضَائِل وَشَيْء آخر فَهِيَ أتم فَهِيَ على حملهمْ السخيف أشرف وَهَذَا مَا لَا يَقُوله ذُو عقل وهم يقرونَ أَن النَّفس جَوْهَر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النَّفس لِأَنَّهُ نفس وَشَيْء آخر وَقد قَالُوا أَن الْحَيّ بقع تَحت النامي فيلزمهم أَن النامى أشرف من الْحَيّ لِأَنَّهُ حَيّ وَشَيْء آخر وَهَذَا تَخْلِيط وحماقة ونعوذ بِاللَّه من الوسواس وَقَالُوا أَيْضا كل جسم يتغذى وَالنَّفس لَا تتغذى فَهِيَ غير جسم قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن كَانَ هَؤُلَاءِ السخفاء إِذا اشتغلوا بِهَذِهِ الحماقات كَانُوا سكارى بل سكر الْجَهْل والسخف أعظم من سكر الْخمر لِأَن سكر الْخمر سريع الْإِفَاقَة وسكر الْجَهْل والسخف بطيء الْإِفَاقَة أَترَاهُم إِذْ قَالُوا كل جسم فَهُوَ متغذ ألم يرَوا المَاء وَالْأَرْض والهواء وَالْكَوَاكِب والفلك وَإِن كل هَذِه أجسام عِظَام لَا تتغذى وَإِنَّمَا يتغذى من الْأَجْسَام النوامي فَقَط وَهِي أجساد الْحَيَوَان السكان فِي المَاء وَالْأَرْض وَالشَّجر والنبات فَقَط فَإِذا كَانَ هَؤُلَاءِ النوكي وَإِلَّا يتغذى لَيْسَ جسماً فالأرض وَالْحِجَارَة وَالْكَوَاكِب والفلك وَالْمَلَائِكَة لَيْسَ كل ذَلِك جسماً وَكفى بِهَذَا جنوناً وَخطأ وبحمد الله على السَّلامَة قَالُوا لَو كَانَت النَّفس جسماً لكَانَتْ لَهَا حَرَكَة لِأَن لكل جسم حَرَكَة وَنحن لَا نرى للنَّفس حَرَكَة فَبَطل أَن تكون جسماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه دَعْوَى كَاذِبَة وَقد تناقضوا أَيْضا فِيهَا لأَنهم قد قَالُوا قبل هَذَا بِنَحْوِ ورقة فِي بعض حججهم أَن الْأَجْسَام غير متحركة وَالنَّفس متحركة وَهنا قلبوا الْأَمر فَظهر جهلهم وَضعف عُقُولهمْ وَأما قَوْلهم لَا نرى لَهَا حَرَكَة فمخرقة وَلَيْسَ كل مَا لَا يرى يجب أَن يُنكر إِذا قَامَ على صِحَّته دَلِيل ويلزمهم إِذْ أبطلوا حَرَكَة النَّفس لأَنهم لَا يرونها أَن يبطلوا النَّفس لأَنهم جملَة أَيْضا لَا يرونها وَلَا يسمعونها وَلَا يلمسونها وَلَا يذوقونها وحركة النَّفس مَعْلُومَة بالبرهان وَهُوَ أَن الْحَرَكَة قِسْمَانِ حَرَكَة اضطرار وحرك اخْتِيَار فحركة الِاضْطِرَار هِيَ حَرَكَة كل جسم غير النَّفس هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ فَبَقيت حَرَكَة الِاخْتِيَار وَهِي مَوْجُودَة يَقِينا وَلَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء متحرك بهَا حاشا النَّفس فَقَط فصح أَن النَّفس هِيَ المتحركة بهَا فصح ضَرُورَة أَن للنَّفس حَرَكَة اختيارية مَعْلُومَة بِلَا شكّ وَإِذ لَا شكّ فِي أَن كل متحرك فَهُوَ جسم وَقد صَحَّ أَن النَّفس متحركة فَالنَّفْس جسم فَهَذَا هُوَ الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ التَّام الصَّحِيح لَا تِلْكَ الوساوس والأهذار وَنَحْمَد الله على نعمه عز وَجل وَقَالُوا لَو كَانَت النَّفس جسماً لوَجَبَ أَن يكون اتصالها بالجسم إِمَّا على سَبِيل الْمُجَاورَة وَإِمَّا على سَبِيل المداخلة وَهِي الممازجة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبعد هَذَا مَاذَا وَنعم فَإِن النَّفس مُتَّصِلَة بالجسم على سَبِيل الْمُجَاورَة وَلَا يجوز سوى ذَلِك إِذْ لَا يُمكن أَن يكون اتِّصَال الجسمين إِلَّا بالمجاورة وَأما اتِّصَال المداخلة فَإِنَّمَا هِيَ الْعرض وَالْعرض والجسم وَالْعرض على مَا بَينا قبل وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَت النَّفس جسماً فَكيف يعرف الْجِسْم بمماسة أم غير مماسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَجْسَام كلهَا حاش النَّفس موَات لَا علم لَهَا وَلَا حس وَلَا تعلم شَيْئا وَإِنَّمَا الْعلم والحس للنَّفس فَقَط فَهِيَ تعلم الْأَجْسَام والأعراض وخالق الْأَجْسَام والأعراض الَّذِي هُوَ خَالِقهَا أَيْضا بِمَا فِيهَا من صفة الْفَهم وطبيعة التَّمْيِيز وَقُوَّة الْعلم الَّتِي وَضعهَا فِيهَا خَالِقهَا عز وَجل وسؤالهم نَادِر وَقَالُوا أَيْضا إِن كل جسم بَدَأَ فِي نشوة وَغَايَة يَنْتَهِي إِلَيْهَا وأجود مَا يكون الْجِسْم إِذا انْتهى إِلَى غَايَته فَإِذا أَخذ فِي النَّقْص ضعف وَلَيْسَت الْأَنْفس كَذَلِك لأننا نرى أنفس المعمرين اكثر ضِيَاء وأنفذ فعلا ونجد أبدا أَنهم أَضْعَف من أبدان الْأَحْدَاث فَلَو كَانَت النَّفس جسماً لنَقص فعلهَا بِنُقْصَان الْبدن فَإِذا كَانَ هَذَا كَمَا ذكرنَا فَلَيْسَتْ النَّفس جسماً قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه مُقَدّمَة فَاسِدَة التَّرْتِيب أما قَوْلهم إِن الْجِسْم أَجود مَا يكون إِذا انْتهى إِلَى غَايَته فخطأ إِذا قيل على الْعُمُوم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي النوامي فَقَط وَفِي الْأَشْيَاء الَّتِي تستحيل اسْتِحَالَة ذبولية فَقَط كالشجر وأصناف أجساد الْحَيَوَان وللنبات وَأما الْجبَال وَالْحِجَارَة وَالْأَرْض والبحار والهواء وَالْمَاء والأفلاك وَالْكَوَاكِب فَلَيْسَ لَهَا غَايَة إِذْ بلغتهَا أخذت فِي الانحطاط وَإِنَّمَا يَسْتَحِيل بعض مَا يَسْتَحِيل من ذَلِك على سَبِيل التفتت كحجر كَسرته فانكسر وَلَو ترك لبقي وَلم يذبل ذبول الشّجر والنبات وأجسام الْحَيَوَان وَكَذَلِكَ النَّفس لَا تستحيل اسْتِحَالَة ذبول وَلَا اسْتِحَالَة تفتت وَإِنَّمَا تستحيل أعراضها كَمَا ذكرنَا فَقَط وَلَا نَمَاء لَهُ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَة والفلك وَالْكَوَاكِب والعناصر الْأَرْبَعَة لَا نَمَاء لَهَا وكل بَاقٍ على هَيئته الَّتِي خلقه الله تَعَالَى عَلَيْهَا إِذْ خلق كل ذَلِك وَالنَّفس كَذَلِك منتقلة من عَالم الِابْتِدَاء إِلَى عَالم الِانْتِهَاء إِلَى عَالم البرزخ إِلَى عَالم الْحساب إِلَى عَالم الْجَزَاء فتخلد فِيهِ أبدا بِلَا نِهَايَة وَهِي إِذا تخلصت من رطوبات الْجَسَد وكدره كَانَت أصفي نظرا وَأَصَح علما كَمَا كَانَت قبل حلولها فِي الْجَسَد نسْأَل الله خير ذَلِك المنقلب بمنه آمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا مَا هُوَ بِهِ من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لَهُم وَبينا أَن كُله فَسَاد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا بَطل كل مَا شغب بِهِ من يَقُول أَن النَّفس لَيست جسماً وَسقط هَذَا القَوْل لتعريه عَن الْأَدِلَّة جملَة فَنحْن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نوضح بعون الله عز وَجل وقوته الْبَرَاهِين الضرورية على أَنَّهَا جسم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَذَلِكَ بعد أَن نبين بتأييد الله عز وَجل شغبين يُمكن أَن يعْتَرض بهما إِن قَالَ قَائِل أتنمو النَّفس فَإِن قُلْتُمْ لَا قُلْنَا نَحن نجدها تنشأ من صغر إِلَى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وَإِذا انْقَطع الْغذَاء انْحَلَّت عَن الْجَسَد ونجدها نسوء أخلاقها ويقل صبرها بِعَدَمِ الْغذَاء فَإِذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا تتغذى وَلَا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان الْقَائِم أَنَّهَا لَيست مركبة من الطبائع الْأَرْبَع وَأَنَّهَا بِخِلَاف الْجَسَد هَذَا هُوَ الْبُرْهَان على أَنَّهَا لَا تتغذى وَهُوَ أَن مَا تركب من العناصر الْأَرْبَعَة فَلَا بُد لَهُ من الْغذَاء ليستخلف ذَلِك الْجَسَد أَو تِلْكَ الشَّجَرَة أَو ذَلِك النَّبَات من رطوبات ذَلِك الْغذَاء أَو أرضياته مثل مَا تحلل من رطوباته بالهواء وَالْحر وَلَيْسَت هَذِه صفة النَّفس إِذْ لَو كَانَت لَهَا هَذِه الصّفة لكَانَتْ من الْجَسَد أَو مثله وَلَو كَانَت من الْجَسَد أَو مثله لكَانَتْ مواتاً كالجسد غير حساسة فَإِذا قد بَطل أَن تكون مركبة من طبائع العناصر بَطل أَن تكون متغذية نامية وَأما ارتباطها بالجسد من أجل الْغذَاء فَهُوَ أَمر لَا يعرف كيفيته إِلَّا خَالِقهَا عز وَجل الَّذِي هُوَ مدبرها إِلَّا أَنه مَعْلُوم أَنه كَذَلِك فَقَط وَهُوَ كطحن الْمعدة للغذاء لَا يدْرِي كَيفَ هُوَ وَغير ذَلِك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 مِمَّا يُوجد الله عز وَجل يُعلمهُ وَمن الْبُرْهَان على إِن النَّفس لَا تتغذى وَلَا تنمو أَن الْبُرْهَان قد قَامَ على أَنَّهَا كَانَت قبل تركيب الْجَسَد على آباد الدهور وَأَنَّهَا بَاقِيَة بعد انحلاله وَلَيْسَ هُنَالك فِي ذَيْنك الْعَالمين غذَاء يُولد نَمَاء أصلا وَأما مَا ظنوه من نسأتها من صغر إِلَى كبر فخطأ وَإِنَّمَا هُوَ عودة من النَّفس إِلَى ذكرهَا الَّذِي سقط عَنْهَا بِأول ارتباطها بالجسد فَإِن سَأَلَ سَائل أتموت النَّفس قُلْنَا نعم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك فَقَالَ {كل نفس ذائقة الْمَوْت} وَهَذَا الْمَوْت إِنَّمَا هُوَ فراقها للجسد فَقَط برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {اخْرُجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} وَقَوله تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فصح أَن الْحَيَاة الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ ضم الْجَسَد إِلَى النَّفس وَهُوَ نفخ الرّوح فِيهِ وَأَن الْمَوْت الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيق بَين الْجَسَد وَالنَّفس فَقَط وَلَيْسَ موت النَّفس مِمَّا يَظُنّهُ أهل الْجَهْل وَأهل الْإِلْحَاد من إِنَّهَا تعدم جملَة بل هِيَ مَوْجُودَة قَائِمَة كَمَا كَانَت قبل الْمَوْت وَقبل الْحَيَاة الأولى وَلَا أَنَّهَا يذهب حسها وَعلمهَا بل حسها بعد الْمَوْت أصح مَا كَانَ علمهَا أتم مَا كَانَ وحياتها الَّتِي هِيَ الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية بَاقِيَة بحسبها أكمل مَا كَانَت قطّ قَالَ عز وَجل {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ} وَهِي رَاجِعَة إِلَى البرزخ حَيْثُ رَآهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ عَن الميمنة من آدم عَلَيْهِ السَّلَام ومشئمته إِلَى أَن تحيا ثَانِيَة بِالْجمعِ بَينهَا وَبَين جَسدهَا يَوْم الْقِيَامَة وَأما أنفس الْجِنّ وَسَائِر الْحَيَوَان فَحَيْثُ شَاءَ الله تَعَالَى وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول بِغَيْر علم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد فلنذكر الْآن الْبَرَاهِين الضرورية على أَن النَّفس جسم من الْأَجْسَام فَمن الدَّلِيل على أَن النَّفس جسم من الْأَجْسَام انقسامها على الْأَشْخَاص فَنَفْس زيد غير نفس عَمْرو فَلَو كَانَت النَّفس وَاحِدَة لَا تَنْقَسِم على مَا يزْعم الجاهلون أَنَّهَا جَوْهَر لَا جسم لوَجَبَ ضَرُورَة أَن تكون نفس الْمُحب هِيَ نفس الْمُبْغض وَهِي نفس المحبوب وَأَن تكون نفس الْفَاسِق الْجَاهِل هِيَ نفس الْفَاضِل الْحَكِيم الْعَالم ولكانت نفس الْخَائِف هِيَ نفس الْمخوف مِنْهُ وَنَفس الْقَاتِل هِيَ نفس الْمَقْتُول وَهَذَا حمق لَا خَفَاء بِهِ فصح أَنَّهَا نفوس كَثِيرَة مُتَغَايِرَة الْأَمَاكِن مُخْتَلفَة الصِّفَات حاملة لأعراضها فصح أَنَّهَا جسم بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وبرهان آخر هُوَ أَن الْعلم لَا خلاف فِي أَنه من صِفَات النَّفس وخواصها لَا مدْخل للجسد فِيهِ أصلا ولاحظ فَلَو كَانَت النَّفس جوهرا وَاحِد لَا تتجزي نفوساً لوَجَبَ ضَرُورَة أَن يكون علم كل أحد مستوياً لَا تفاضل فِيهِ لِأَن النَّفس على قَوْلهم وَاحِدَة وَهِي العالمة فَكَانَ يجب أَن يكون كلما علمه زيد يُعلمهُ عَمْرو لِأَن نَفسهَا وَاحِدَة عِنْدهم غير منقسمة وَلَا متجزئة فَكَانَ يلْزم وَلَا بُد أَن يعلم جَمِيع أهل الأَرْض مَا يُعلمهُ كل عَالم فِي الدُّنْيَا لِأَن نفسهم وَاحِدَة لَا تَنْقَسِم وَهِي العالمة وَهَذَا مَالا انفكاك مِنْهُ الْبَتَّةَ فقد صَحَّ بِمَا ذكرنَا ضَرُورَة أَن نفس كل أحد غير نفس غَيره وَأَن أنفس النَّاس أشخاص مُتَغَايِرَة تَحت نوع نفس الْإِنْسَان وَإِن نفس الْإِنْسَان الْكُلية نوع تَحت جنس النَّفس الْكُلية الَّتِي يَقع تحتهَا أنفس جَمِيع الْحَيَوَان وَإِذ هِيَ أشخاص مُتَغَايِرَة ذَات أمكنة مُتَغَايِرَة حاملة لصفات مُتَغَايِرَة فَهِيَ أجسام وَلَا يُمكن غير ذَلِك الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن الْعَالم كُله مَحْدُود مَعْرُوف أجسام وأعراض وَلَا مزِيد فَمن ادّعى أَن هَهُنَا جوهراً لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا فقد ادّعى مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ الْبَتَّةَ وَلَا يتشكل فِي الْعقل وَلَا يُمكن توهمه وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَقْطُوع على بُطْلَانه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن النَّفس لَا تَخْلُو من أَن تكون خَارج الْفلك أَو دَاخل الْفلك فَإِن كَانَت خَارج الْفلك فَهَذَا بَاطِل إِذا قَامَ الْبُرْهَان على تناهي جرم الْعَالم فَلَيْسَ وَرَاء النِّهَايَة شَيْء وَلَو كَانَ وَرَاءَهَا شَيْء لم تكن نِهَايَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 فَوَجَبَ ضَرُورَة أَنه لَيْسَ خَارج الْفلك الَّذِي هُوَ نِهَايَة الْعَالم شَيْء لَا خلاء وَلَا ملاء وَإِن كَانَت فِي الْفلك فَهِيَ ضَرُورَة أما ذَات مَكَان وَأما مَحْمُولَة فِي ذِي مَكَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء غير هذَيْن أصلا وَمن ادّعى أَن فِي الْعَالم شَيْئا ثَالِثا فقد ادّعى الْمحَال وَالْبَاطِل وَمَا لَا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يعجز عَنهُ أحد وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل يَقِين وَقد قَامَ الدَّلِيل على أَن النَّفس لَيست عرضا لِأَنَّهَا عَالِمَة حساسة وَالْعرض لَيْسَ عَالما وَلَا حساساً وَصَحَّ أَنَّهَا حاملة لصفاتها لَا مَحْمُولَة فَإذْ حاملة متمكنة فَهِيَ هِيَ جسم لَا شكّ فِيهِ إِذْ لَيْسَ إِلَّا جسم حَامِل أَو عرض مَحْمُول وَقد بَطل أَن تكون عرضا مَحْمُولا فَهِيَ جسم حَامِل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَلَا تَخْلُو النَّفس من أَن تكون وَاقعَة تَحت جنس أَولا فَإِن كَانَت لَا وَاقعَة تَحت جنس فَهِيَ خَارِجَة عَن المقولات وَلَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء خَارج عَنْهَا وَلَا فِي الْوُجُود شَيْء خَارج عَنْهَا إِلَّا خَالِقهَا وَحده لَا شريك لَهُ وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا بل يوقعونها تَحت جنس الْجَوْهَر فَإذْ هِيَ وَاقعَة تَحت جنس الْجَوْهَر فَإنَّا نسألهم عَن الْجَوْهَر الْجَامِع للنَّفس وَغَيرهَا لَهُ طبيعة أم لَا فَإِن قَالُوا لَا وَجب أَن كل مَا تَحت الْجَوْهَر لَا طبيعة لَهُ وَهَذَا بَاطِل وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا فَإِن قَالُوا لَا نَدْرِي مَا الطبيعة قُلْنَا لَهُم إِلَه صفة مَحْمُولَة فِيهِ لَا يُوجد دونهَا أم لَا فَلَا بُد من نعم وَهَذَا هُوَ معنى الطبيعة وَإِن قَالُوا بل لَهُ طبيعة وَجب ضَرُورَة أَن يعْطى كل مَا تَحْتَهُ طبيعة لِأَن الْأَعْلَى يُعْطي لكل مَا تَحْتَهُ اسْمه وحدوده عَطاء صَحِيحا وَالنَّفس تَحت الْجَوْهَر فَالنَّفْس ذَات طبيعة بِلَا شكّ وَإِذ صَحَّ أَن لَهَا طبيعة فَكل مَا لَهُ طبيعة فقد حصرته الطبيعة وَمَا حصرته الطبيعة فَهُوَ ذُو نِهَايَة مَحْدُود وكل ذِي نِهَايَة فَهُوَ إِمَّا حَامِل وَإِمَّا مَحْمُول وَالنَّفس بِلَا شكّ حاملة لأعراضها من الأضداد كَالْعلمِ وَالْجهل والذكاء والبلادة والنجدة والجبن وَالْعدْل والجور وَالْقَسْوَة وَالرَّحْمَة وَغير ذَلِك وكل حَامِل فذو مَكَان وكل ذِي مَكَان فَهُوَ جسم فَالنَّفْس جسم ضَرُورَة وَأَيْضًا فَكل مَا كَانَ وَاقعا تَحت جنس فَهُوَ نوع من أَنْوَاع ذَلِك الْجِنْس وكل نوع فَهُوَ مركب من جنسه إِلَّا على الْعَام لَهُ من أَنْوَاعه ومركب أَيْضا مَعَ ذَلِك من فَصله الْخَاص بِهِ الْمُمَيز لَهُ من سَائِر الْأَنْوَاع الْوَاقِعَة مَعَه تَحت جنس وَاحِد فَإِنَّهُ مَوْضُوع وَهُوَ جنسه الْقَابِل لصورته وَصُورَة غَيره وَله مَحْمُول وَهُوَ صورته الَّتِي خصته دون غَيره فَهُوَ ذُو مَوْضُوع ومحمول فَهُوَ مركب وَالنَّفس نوع للجوهر فَهِيَ مركبة من مَوْضُوع ومحمول وَهِي قَائِمَة بِنَفسِهَا فَهِيَ جسم وَلَا بُد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه براهين ضَرُورِيَّة حسية عقلية لَا محيد عَنْهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْأَوَائِل وَلم يقل ارسطاطاليس أَن النَّفس لَيست جسماً على مَا ظَنّه أهل الْجَهْل وَإِنَّمَا نفى أَن تكون جسماً كدراً وَهُوَ الَّذِي لَا يَلِيق بِكُل ذِي علم سواهُ ثمَّ لَو صَحَّ أَنه قَالَهَا لكَانَتْ وهلة وَدَعوى لَا برهَان عَلَيْهَا وَخطأ لَا يجب اتِّبَاعه عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُول فِي مَوَاضِع من كتبه اخْتلف أفلاطون وَالْحق وَكِلَاهُمَا إِلَيْنَا حبيب غير أَن الْحق إِلَيْنَا وَإِذا جَازَ أَن يخْتَلف أفلاطون وَالْحق فَغير نَكِير وَلَا بديع أَن يخْتَلف ارسطاطاليس وَالْحق وَمَا عصم إِنْسَان من الْخَطَأ فَكيف وَمَا صَحَّ قطّ أَنه قَالَه قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا قَالَ أَن النَّفس جَوْهَر لَا جسم من ذهب إِلَى أَنَّهَا هِيَ الخالقة لما دون الله تَعَالَى على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض الصابئين وَمن كني بهَا عَن الله تَعَالَى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقَوْلَيْنِ سخف وباطل لِأَن النَّفس وَالْعقل لفظتان من لُغَة الْعَرَب موضوعتان فِيهَا لمعنيين مُخْتَلفين فأحالتهما عَن موضوعهما فِي اللُّغَة سفسطة وَجَهل وَقلة حَيَاء وتلبيس وتدليس قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من ذهب إِلَى أَن النَّفس لَيست جسماً مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام بِزَعْمِهِ فَقَوْل يبطل بِالْقُرْآنِ وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة فَأَما الْقُرْآن فَإِن الله عز وَجل قَالَ {هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت} وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم الْيَوْم} وَقَالَ تَعَالَى {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} فصح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 أَن النَّفس هِيَ الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة وَقَالَ تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} {وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله} فصح أَن الْأَنْفس مِنْهَا مَا يعرض على النَّار قبل يَوْم الْقِيَامَة فيعذب وَمِنْهَا مَا يرْزق وينعم فَرحا وَيكون مَسْرُورا قبل يَوْم الْقِيَامَة وَلَا شكّ أَن أجساد آل فِرْعَوْن وأجساد المقتولين فِي سَبِيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السبَاع وَالطير وحيوان المَاء فصح أَن الْأَنْفس منقولة من مَكَان إِلَى مَكَان وَلَا شكّ فِي أَن الْعرض لَا يلقِي الْعَذَاب وَلَا يحس فَلَيْسَتْ عرضا وَصَحَّ أَنَّهَا تنْتَقل فِي الْأَمَاكِن قَائِمَة بِنَفسِهَا وَهَذِه صفة الْجِسْم لَا صفة الْجَوْهَر عِنْد الْقَائِل بِهِ فصح ضَرُورَة أَنَّهَا جسم وَأما من السّنَن فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر فِي الْجنَّة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى نسم بني آدم عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا عَن يَمِين آدم ويساره فصح أَن الْأَنْفس مريئة فِي أماكنها وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام أَن نفس الْمُؤمن إِذا قبضت عرج بهَا إِلَى السَّمَاء وَفعل بهَا كَذَا وَنَفس الْكَافِر إِذا قبضت فعل بهَا كَذَا فصح أَنَّهَا معذبة ومنعمة ومنقولة فِي الْأَمَاكِن وَهَذِه صفة الْأَجْسَام ضَرُورَة وَأما من الْإِجْمَاع فَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن أنفس الْعباد منقولة بعد خُرُوجهَا عَن الأجساد إِلَى نعيم أَو إِلَى صُفُوف ضيق وَعَذَاب وَهَذِه صفة الْأَجْسَام وَمن خَالف هَذَا فَزعم أَن الْأَنْفس تعدم أَو أَنَّهَا تنْتَقل إِلَى أجسام أخر فَهُوَ كَافِر مُشْرك حَلَال الدَّم وَالْمَال بخرقه الْإِجْمَاع ومخالفته الْقُرْآن وَالسّنَن ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكرنَا فِي بَاب عَذَاب الْقَبْر أَن الرّوح وَالنَّفس شَيْء وَاحِد ومعني قَول الله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} إِنَّمَا هُوَ لِأَن الْجَسَد مَخْلُوق من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة ثمَّ عظما ثمَّ لَحْمًا ثمَّ أمشاجاً وَلَيْسَ الرّوح كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ الله تَعَالَى أمرا لَهُ بالكون كن فَكَانَ فصح أَن النَّفس وَالروح والنسمة أَسمَاء مترادفة لِمَعْنى وَاحِد وَقد يَقع الرّوح أَيْضا على غير هَذَا فجبريل عَلَيْهِ السَّلَام الرّوح الْأمين وَالْقُرْآن روح من عِنْد الله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فقد بَطل قَوْلهم فِي النَّفس وَصَحَّ أَنَّهَا جسم وَلم يبْق إِلَّا الْكَلَام فِي الْجُزْء الَّذِي ادعوا أَنه لَا يتَجَزَّأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن الْأَجْسَام تنْحَل إِلَى أَجزَاء صغَار لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون لَهَا جُزْء وَأَن تِلْكَ الْأَجْزَاء جَوَاهِر لَا أجسام لَهَا وَذهب النظام وكل من يحسن القَوْل من الْأَوَائِل إِلَى أَنه لَا جُزْء وَإِن دق إِلَّا وَهُوَ يحْتَمل التجزيء أبدا بِلَا نِهَايَة وَأَنه لَيْسَ فِي الْعَالم جُزْء وَلَا يتَجَزَّأ وَإِن كل جُزْء انقسم الْجِسْم إِلَيْهِ فَهُوَ جسم أَيْضا وَإِن دق أبدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وعمدة الْقَائِلين بِوُجُود الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ خمس مشاغب وَكلهَا رَاجِعَة بحول الله وقوته عَلَيْهِم وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذكرها كلهَا وتقضى لَهُم كل مَا هُوَ بِهِ ونرى بعون الله عز وَجل بطلَان جَمِيعهَا بالبراهين الضرورية ثمَّ نرى بالبراهين الصِّحَاح صِحَة القَوْل بِأَن كل جُزْء فَهُوَ يتَجَزَّأ أبدا وَأَنه لَيْسَ فِي الْعَالم جُزْء لَا يتَجَزَّأ أصلا كَمَا فعلنَا بِسَائِر الْأَقْوَال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأول مشاغبهم أَن قَالُوا أخبرونا إِذا قطع الْمَاشِي الْمسَافَة الَّتِي مشي فِيهَا فَهَل قطع ذَا نِهَايَة أَو غير ذِي نِهَايَة فَإِن قُلْتُمْ قطع غير ذِي نِهَايَة فَهَذَا محَال وَإِن قُلْتُمْ قطع ذَا نِهَايَة فَهَذَا قَوْلنَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْقَوْم أَتَوا من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَنهم لم يفهموا قَوْلنَا فتكلموا بِجَهْل وَهَذَا لَا يرضاه ذُو ورع وَلَا ذُو عقل وَلَا حَيَاء وَإِمَّا أَنهم لما عجزوا عَن مُعَارضَة الْحق رجعُوا إِلَى الْكَذِب والمباهتة وَهَذِه شَرّ من الأولى وَفِي أحد هذَيْن الْقسمَيْنِ وجدنَا كل من ناظرناه مِنْهُم فِي هَذِه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الْمَسْأَلَة وَهَكَذَا عرض لنا سَوَاء مَعَ الْمُخَالفين لنا فِي الْقيَاس المدعين لتصحيحه فَإِنَّهُم أَيْضا أحد رجلَيْنِ إِمَّا جَاهِل بقولنَا فَهُوَ يقولنا مَا لَا نقُوله وَيتَكَلَّم فِي غير مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَإِمَّا مكابر ينْسب إِلَيْنَا مَا لَا نقُوله مباهتة وجراءة على الْكَذِب وعجزاً عَن مُعَارضَة الْحق من أننا ننكر اشْتِبَاه الْأَشْيَاء وأننا ننكر قضايا الْعُقُول وأننا ننكر اسْتِوَاء حكم الشَّيْئَيْنِ فِيمَا أوجبه هما مَا اشتبها فِيهِ وَهَذَا كُله كذب علينا بل نقر بذلك كُله ونقول بِهِ وَإِنَّمَا ننكر أَن نحكم فِي الدّين لشيئين بِتَحْرِيم أَو إِيجَاب أَو تَحْلِيل من أجل أَنَّهُمَا اشتبها فِي صفة من صفاتهما فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل البحت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعمه ونقول على هَذَا السُّؤَال الَّذِي سألونا عَنهُ أننا لم نرفع النِّهَايَة عَن الْأَجْسَام كلهَا من طَرِيق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أَن كل جسم فَلهُ أبدا مساحة محدودة وَللَّه الْحَمد وَإِنَّمَا نَفينَا النِّهَايَة عَن قدرَة الله تَعَالَى على قسْمَة كل جُزْء وَإِن دق وأثبتنا قدرَة الله تَعَالَى على ذَلِك وَهَذَا هُوَ شَيْء غير المساحة وَلم يتَكَلَّف الْقَاطِع بِالْمَشْيِ أَو بالذرع أَو بِالْعَمَلِ قسْمَة مَا قطع وَلَا تجزئته وَإِنَّمَا تكلّف عملا أَو مَشى فِي مساحة مَعْدُودَة بالميل أَو بالذراع والشبر أَو الإصبع أَو مَا أشبه ذَلِك وكل هَذَا لَهُ نِهَايَة ظَاهِرَة وَهَذَا غير الَّذِي نَفينَا وجود النِّهَايَة فِيهِ فَبَطل إلزامهم وَالْحَمْد لله كثيرا ثمَّ نعكس هَذَا الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق نَحن الْقَائِلُونَ بِأَن كل جسم فَلهُ طول وَعرض وعمق وَهُوَ مُحْتَمل للانقسام والتجزيء وَهَذَا هُوَ إِثْبَات النِّهَايَة لكل جُزْء انقسم الْجِسْم إِلَيْهِ من طَرِيق المساحة ضَرُورَة وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الْجِسْم يَنْقَسِم إِلَى أَجزَاء لَيْسَ لشَيْء مِنْهَا عرض وَلَا طول وَلَا عمق وَلَا مساحة وَلَا يتَجَزَّأ وَلَيْسَت أجساماً وَأَن الْجِسْم هُوَ تِلْكَ الْأَجْزَاء نَفسهَا لَيْسَ هُوَ شَيْء غَيرهَا أصلا وَأَن تِلْكَ الْأَجْزَاء لَيْسَ لشَيْء مِنْهَا مساحة فلزمكم ضَرُورَة إِذْ الْجِسْم هُوَ تِلْكَ الْأَجْزَاء وَلَيْسَت أجساماً وَأَن الْجِسْم هُوَ تِلْكَ الْأَجْزَاء وَلَيْسَ هُوَ غَيرهَا وكل جُزْء من تِلْكَ الْأَجْزَاء لَا مساحة لَهُ إِن الْجِسْم لَا مساحة لَهُ وَهَذَا أَمر يُبطلهُ العيان وَإِذا لم تكن لَهُ مساحة والمساحة هِيَ النِّهَايَة فِي ذرع الْأَجْسَام فَلَا نِهَايَة لما قطعه الْقَاطِع من الْجِسْم على قَوْلهم وَهَذَا بَاطِل والاعتراض الثَّانِي أَن قَالُوا لَا بُد أَن يَلِي الجرم من الجرم الَّذِي يَلِيهِ جُزْء يَنْقَطِع ذَلِك الجرم فِيهِ قَالُوا وَهَذَا إِقْرَار بِجُزْء لَا يتَجَزَّأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه فَاسد لأننا لم ندفع النِّهَايَة من طَرِيق المساحة بل نقُول إِن لكل جرم نِهَايَة وسطحاً يَنْقَطِع تماديه عِنْده وَإِن الَّذِي يَنْقَطِع بِهِ الجرم إِذا جزئ فَهُوَ متناه مَحْدُود وَلكنه مُحْتَمل للتجزيء أَيْضا وكل مَا جزئ فَذَلِك الْجُزْء وَهُوَ الَّذِي يَلِي الجرم الملاصق لَهُ بنهايته من جِهَته الَّتِي لاقاه مِنْهَا لَا مَا ظنُّوا من أَن أحد الجرم جُزْء مِنْهُ وَهُوَ وَحده الملاصق للحرم الَّذِي يلاصقه بل هُوَ بَاطِل بِمَا ذكرنَا لَكِن الْجُزْء وَهُوَ الملاصق للجرم بسطحه فَإِذا جزئ كَانَ الْجُزْء الملاصق للجرم بسطحه هُوَ الملاصق حِينَئِذٍ بسطحه لَا الَّذِي خر عَن ملاصقته وَهَكَذَا بدا وَالْكَلَام فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي قبله وَلَا فرق والاعتراض الثَّالِث إِن قَالُوا هَل ألف أَجزَاء الْجِسْم إِلَّا الله تَعَالَى فَلَا بُد من نعم قَالُوا فَهَل بِقدر الله على تَفْرِيق أَجزَاء حَتَّى لَا يكون فِيهَا شَيْء من التَّأْلِيف وَلَا تحْتَمل ذَلِك الْأَجْزَاء التجزيء أم لَا يقدر على ذَلِك قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ لَا يقدر عجزتم ربكُم تَعَالَى وَإِن قُلْتُمْ يقدر فَهَذَا إِقْرَار مِنْكُم بالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا هُوَ من أقوى شبهم الَّتِي شغبوا بهَا وَهُوَ حجَّة لنا عَلَيْهِم وَالْجَوَاب أننا نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن سؤالكم سُؤال فَاسد وَكَلَام فَاسد وَلم تكن قطّ أَجزَاء الْعَالم مُتَفَرِّقَة ثمَّ جمعهَا الله عز وَجل وَلَا كَانَت لَهُ أَجزَاء مجتمعة ثمَّ فرقها الله عز وَجل لَكِن الله عز وَجل خلق الْعَالم بِكُل مَا فِيهِ بِأَن قَالَ لَهُ كن فَكَانَ أَو بِأَن قَالَ لكل جرم مِنْهُ إِذا أَرَادَ خلقه كن فَكَانَ ذَلِك الجرم ثمَّ إِن الله تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 خلق جَمِيع مَا أَرَادَ جمعه من الأجرام السماوية الَّتِي خلقهَا مفترقة ثمَّ جمعهَا وَخلق تَفْرِيق كل جرم من الأجرام الَّتِي خلقهَا مجتمعة ثمَّ فرقها فَهَذَا هُوَ الْحق لَا ذَلِك السُّؤَال الْفَاسِد الَّذِي أجملتموه وأوهمتم بِهِ أهل الْغَفْلَة أَن الله تَعَالَى ألف الْعَالم من أَجزَاء خلقهَا مُتَفَرِّقَة وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان عَلَيْهَا وَلَا فرق بَين من قَالَ أَن الله تَعَالَى ألف أَجزَاء الْعَالم وَكَانَت مُتَفَرِّقَة وَبَين من قَالَ بل الله تَعَالَى فرق الْعَالم أَجزَاء وَإِنَّمَا كَانَ جزأ وَاحِدًا وَكِلَاهُمَا دَعْوَى سَاقِطَة لَا برهَان عَلَيْهَا لَا من نَص وَلَا من عقل بل الْقُرْآن جَاءَ بِمَا قُلْنَاهُ نصا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} وَلَفْظَة شَيْء تقع على الْجِسْم وعَلى الْعرض فصح أَن كل جسم صغر أَو كبر وكل عرض فِي جسم فَإِن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ خلقه قَالَ لَهُ كن فَكَانَ وَلم يقل عز وَجل قطّ أَنه ألف كل جُزْء من أَجزَاء مُتَفَرِّقَة فَهَذَا هُوَ الْكَذِب على الله عز وَجل حَقًا فَبَطل مَا ظنُّوا أَنهم يلزموننا بِهِ ثمَّ نقُول لَهُم إِن الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلق جسماً لَا يَنْقَسِم وَلكنه لم يخلقه فِي بنية هَذَا الْعَالم وَلَا يخلقه كَمَا أَنه تَعَالَى قَادر على أَن يخلق عرضا قَائِما بِنَفسِهِ وَلكنه تَعَالَى لم يخلقه فِي بنية هَذَا الْعَالم وَلَا يخلقه لِأَنَّهُمَا مِمَّا رتبه الله عز وَجل محالاً فِي الْعُقُول وَالله تَعَالَى قَادر على كل مَا يسْأَل عَنهُ لَا نحاشي شَيْئا مِنْهَا إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يفعل كل مَا يقدر عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يفعل مَا يَشَاء وَمَا سبق فِي علمه أَنه يَفْعَله فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نعطف هَذَا السُّؤَال نَفسه عَلَيْهِم فَنَقُول لَهُم هَل يقدر الله عز وَجل على أَن يقسم كل جُزْء ونقسم كل قسم من أَقسَام الْجِسْم أبدا بِلَا نِهَايَة أم لَا فَإِن قَالُوا لَا يقدر على ذَلِك عجزوا رَبهم حَقًا وَكَفرُوا وَهُوَ قَوْلهم دون تَأْوِيل وَلَا إِلْزَام وَلَكنهُمْ يخَافُونَ من أهل الْإِسْلَام فيملحون ضلالتهم بِإِثْبَات الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ جملَة وَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى قَادر على ذَلِك صدقُوا وَرَجَعُوا إِلَى الْحق الَّذِي هُوَ نفس قَوْلنَا وَخلاف قَوْلهم جملَة وَنحن لَا نخالفهم قطّ فِي أَن أَجزَاء طحين الدَّقِيق لَا يقدر مَخْلُوق فِي الْعَالم على تجزئة تِلْكَ الْأَجْزَاء وَإِنَّمَا خالفناهم فِي أَن قُلْنَا نَحن إِن الله تَعَالَى قَادر على مَا لَا نقدر نَحن عَلَيْهِ من ذَلِك وَقَالُوا هم بل هُوَ غير قَادر على ذَلِك تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَقَوْلهمْ فِي تناهي الْقُدْرَة على قسْمَة الله تَعَالَى الْأَجْزَاء هُوَ القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يبلغ من الْخلق إِلَى مِقْدَار مَا ثمَّ لَا يقدر على الزِّيَادَة عَلَيْهِ ويبقي حسيراً عَاجِزا تَعَالَى الله عَن هَذَا الْكفْر ولعمري أَن أَبَا الهزيل شيخ المثبتين للجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ ليحن إِلَى هَذَا الْمَذْهَب حنيناً شَدِيدا وَقد صرح بِأَن لما يقدر الله عَلَيْهِ كمالاً وآخراً لَو خرج إِلَى الْفِعْل لم يكن الله تَعَالَى قَادِرًا بعده على تَحْرِيك سَاكن وَلَا تسكين متحرك وَلَا على فعل شَيْء أصلا ثمَّ تدارك كفره فَقَالَ وَلَا يخرج الآخر أبدا إِلَى حد الْفِعْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُ مَا الْمَانِع من خُرُوجه وَالنِّهَايَة حاصرة لَهُ وَالْفِعْل قَائِم فَلَا بُد مَعَ طول الزَّمَان من الْبلُوغ إِلَى ذَلِك الآخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد نَعُوذ بِاللَّه من الضلال والاعتراض الرَّابِع هوأن قَالُوا أَيّمَا أَكثر أَجزَاء الْجَبَل أَو أَجزَاء الخردلة وَأَيّمَا أَكثر أَجزَاء الخردلة أَو أَجزَاء الخردلتين قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ بل أَجزَاء الخردلتين وأجزاء الْجَبَل صَدقْتُمْ وأقررتم بتناهي التجزيء وَهُوَ القَوْل بالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَإِن قُلْتُمْ لَيْسَ أَجزَاء الْجَبَل أَكثر من أَجزَاء الخردلة وَلَا أَجزَاء الخردلتين أَكثر من أَجزَاء الخردلة كابرتم العيان لِأَنَّهُ لَا يحدث فِي الخردلة جزؤ إِلَّا وَيحدث فِي الخردلتين جزآن وَفِي الْجَبَل أَجزَاء وَادعوا علينا أننا نقُول إِن فِي كل جسم أَجزَاء لَا نِهَايَة لعددها وَلَا آخر لَهَا وَأَن من قطع بِالْمَشْيِ مَكَانا مَا أَو قطع بالجلمتين شَيْئا فَإِنَّمَا قطع مَا لَا نِهَايَة لعدده وَقَالُوا أَن عُمْدَة حجتكم على الدهرية هُوَ هَذَا الْمَعْنى نَفسه فِي إلزامكم إيَّاهُم وجوب الْقلَّة وَالْكَثْرَة فِي عدد الْأَشْخَاص وأوقات الزَّمَان وإيجابكم أَن كل مَا حصره الْعدَد فذو نِهَايَة وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لَا نِهَايَة لعددها قَالُوا ثمَّ نقضتم كل ذَلِك فِي هَذَا الْمَكَان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ الَّذِي قُلْنَا أَنهم إِمَّا لم يفهموا كلامنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فقولنا مَا لَا نقُوله بظنونهم الكاذبة وَأما أَنهم عرفُوا قَوْلنَا فحرفوه قلَّة حَيَاء وَاسْتِحْلَال الْكَذِب وجراءة كل عمل الفضيحة لَهُم فِي كذبهمْ وعجزاً مِنْهُم عَن كسر الْحق وَنصر الْبَاطِل فاعلموا أَن كل مَا نسبوه إِلَيْنَا من قَوْلنَا أَن من قطع مَكَانا أَو شَيْئا بِالْمَشْيِ أَو بالجملتين فَإِنَّمَا قطع مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَبَاطِل مَا قُلْنَاهُ قطّ بل مَا قطع إِلَّا ذَا نِهَايَة بمساحته وزمانه وَأما احتجاجنا على الدهرية بِمَا ذكرُوا فَصَحِيح هُوَ حجتنا على الدهرية وَأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذَلِك فِي هَذَا الْمَكَان فَبَاطِل وَالْفرق بَين مَا قُلْنَاهُ من أَن كل جُزْء فَهُوَ يتَجَزَّأ أبدا بِلَا نِهَايَة وَبَين مَا احتججنا بِهِ على الدهرية من إِيجَاب النِّهَايَة بِوُجُود الْقلَّة وَالْكَثْرَة فِي أعداد الْأَشْخَاص والأزمان وإنكارنا عَلَيْهِم وجود أشخاص وأزمان لَا نِهَايَة لَهَا بل هُوَ حكم وَاحِد وَبَاب وَاحِد وَقَول وَاحِد وَمعنى وَاحِد وَذَلِكَ أَن الدهرية أَثْبَتَت وجود أشخاص قد خرجت إِلَى الْفِعْل لَا نِهَايَة لعددها وَوُجُود أزمان قد خرجت إِلَى لفعل لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا محَال مُمْتَنع وَهَكَذَا قُلْنَا فِي كل جُزْء خرج إِلَى حد الْفِعْل فَإِنَّهَا متناهية الْعدَد بِلَا شكّ وَلم نقل قطّ أَن أَجْزَائِهِ مَوْجُودَة منقسمة لَا نِهَايَة لعددها بل هَذَا بَاطِل محَال ثمَّ إِن الله تَعَالَى قَادر على الزِّيَادَة فِي الْأَشْخَاص وَفِي الْأَزْمَان وَفِي قسْمَة الْجُزْء أبدا بِلَا نِهَايَة لَكِن كل مَا خرج إِلَى الْفِعْل أَو يخرج من الْأَشْخَاص أَو الْأَزْمَان وَفِي قسْمَة الْجُزْء أبدا بِلَا نِهَايَة لَكِن كل مَا خرج إِلَى الْفِعْل أَو يخرج من الْأَشْخَاص اوالأزمان أَو تجزئة الْأَجْزَاء فَكل ذَلِك متناه بعدده إِذا خرج وَهَكَذَا أبدا وَأما مَا لم يخرج إِلَى حد الْفِعْل بعد من شخص أَو زمَان أَو تجزى فَلَيْسَ شَيْئا وَلَا هُوَ عددا وَلَا معدودا وَلَا يَقع عَلَيْهِ عدد وَلَا هُوَ شخص بعد وَلَا زمَان وَلَا جُزْء وكل ذَلِك عدم وَإِنَّمَا يكون جُزْءا إِذا جزئ بِقطع أَو برسم مُمَيّز لَا قبل أَن بِجُزْء وَبِهَذَا تَبْيِين غثاثة سُؤَالهمْ فِي أَيّمَا أَكثر أَجزَاء الخردلة أَو أَجزَاء الْجَبَل أَو أَجزَاء الخردلتين لِأَن الْجَبَل إِذا لم يجزأ والخردلة إِذا لم تجزأ والخردلتان إِذا لم تجزأ فَلَا أَجزَاء لَهَا أصلا بعد بل الخردلة جُزْء وَاحِد والجبل جُزْء وَاحِد والخردلتان كل وَاحِدَة مِنْهُمَا جُزْء فَإِذا قسمت الخردلة على سَبْعَة أَجزَاء وَقسم الْجَبَل جزأين وَقسمت الخردلتان جزئين جزئين فالخردلة الْوَاحِدَة بِيَقِين أَكثر من أَجزَاء من الْجَبَل والخردلتين لِأَنَّهَا صَارَت سَبْعَة أَجزَاء وَلم يصر الْجَبَل والخردلتان إِلَّا سِتَّة أَجزَاء فَقَط فَلَو قسمت الخردلة سِتَّة أَجزَاء لكَانَتْ أجزاؤها وأجزاء الْجَبَل والخردلتين سواهُ وَلَو قسمت الخردلة خَمْسَة أَجزَاء وَكَانَت أَجزَاء الْجَبَل والخردلتين أَكثر من أَجزَاء الخردلة وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فصح أَنه لَا يَقع التجزيء فِي شَيْء إِلَّا إِذا قسم لَا قبل ذَلِك فَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ فِي أَيهمَا يمكننا التجزئة أَكثر فِي الْجَبَل والخردلتين أم فِي الخردلة الْوَاحِد فَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ أَن التجزيء أمكن لنا فِي الْجَبَل وَفِي الخردلتين مِنْهُ فِي الخردلة الْوَاحِدَة لِأَن الخردلة الْوَاحِدَة عَن قريب تصغر أجزاؤها حَتَّى لَا نقدر نَحن على قسمتهَا ويتمادى لنا الْأَمر فِي الْجَبَل كثيرا حَتَّى أَنه يفنى عمر أَحَدنَا قبل أَن يبلغ تجزئته إِلَى أَجزَاء تدق عَن قسمتنا وَأما قدرَة الله عز وَجل على قسْمَة مَا عجزنا نَحن عَن قسمته من ذَلِك فباقية غير متناهية وكل ذَلِك عَلَيْهِ هَين سَوَاء لَيْسَ بعضه أسهل عَلَيْهِ من بعض بل هُوَ قَادر قسْمَة الخردلة أبدا بِلَا نِهَايَة وعَلى قسْمَة الْفلك كَذَلِك وَلَا فرق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ونزيد بَيَانا فَتَقول أَن الشَّيْء قبل أَن يجزأ فَلَيْسَ متجزئاً فَإِذا جُزْء بنصفين آو جزئين فَهُوَ جزءان فَقَط فَإِذا جُزْء على ثَلَاثَة أَجزَاء فَقَط فَهُوَ ثَلَاثَة أَجزَاء وَهَكَذَا أبدا وَأما من قَالَ أَو ظن أَن الشَّيْء قبل أَن يَنْقَسِم وَقبل أَن يتَجَزَّأ أَنه منقسم بعد ومتجزهم بعد فوسواس وَظن كَاذِب لكنه مُحْتَمل الانقسام والتجزيء وكل مَا قسم وجزأ فَكل جُزْء ظهر مِنْهُ فَهُوَ مَعْدُود متناه وَكَذَلِكَ كل جسم فطوله وَعرضه متناهيان بِلَا شكّ وَالله تَعَالَى قَادر على الزِّيَادَة فيهمَا أبدا بِلَا نِهَايَة إِلَّا أَن كل مَا زَاده تَعَالَى فِي ذَلِك وَأخرجه إِلَى حد الْفِعْل فَهُوَ متناه ومعدود ومحدود وَهَكَذَا أبدا وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة فِي أشخاص الْعَالم وَفِي الْعدَد فَإِن كل مَا خرج إِلَى حد الْفِعْل من الْأَشْخَاص وَمن الْأَعْدَاد فذو نِهَايَة وَالله تَعَالَى قَادر على الزِّيَادَة فِي الْأَشْخَاص أبدا بِلَا نِهَايَة وَالزِّيَادَة فِي الْعدَد مُمكنَة أبدا بِلَا نِهَايَة إِلَّا أَن كل مَا خرج من الْأَشْخَاص والأعداد إِلَى الْفِعْل صحبته النِّهَايَة وَلَا بُد ثمَّ نعكس هَذَا السُّؤَال عَلَيْهِم فَنَقُول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق انفضل عنْدكُمْ قدرَة الله تَعَالَى على قسْمَة الْجَبَل على قدرته على قسْمَة الخردلة وَهل تأتى حَال يكون الله فِيهَا قَادِرًا على قسْمَة أَجزَاء الْجَبَل غير قَادر على قسْمَة أَجزَاء الخردلة أم لَا فَإِن قَالُوا بل قدرَة الله تَعَالَى على قسْمَة الْجَبَل أتم من قدرته على قسْمَة الخردلة وأقروا بِأَنَّهُ تأتى حَال يكون الله تَعَالَى فِيهَا قَادِرًا على قسْمَة أَجزَاء الْجَبَل غير قَادر على قسْمَة أَجزَاء الخردلة كفرُوا وعجزوا رَبهم وَجعلُوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأَن أَبُو من هَذَا وَقَالُوا إِن قدرَة الله تَعَالَى على قسْمَة الْجَبَل والخردلة سَوَاء وَأَنه لَا سَبِيل إِلَى وجود حَال يقدر الله تَعَالَى فِيهَا على تجزئة أَجزَاء الْجَبَل وَلَا يقدر على تجزئة أَجزَاء الْجَبَل وَلَا يقدر على تجزئة أَجزَاء الخردلة صدقُوا وَرَجَعُوا إِلَى قَوْلنَا الَّذِي هُوَ الْحق وَمَا عداهُ ضلال وباطل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين والاعتراض الْخَامِس هُوَ أَن قَالُوا هَل لأجزاء الخردلة كل أم لَيْسَ لَهَا كل وَهل يعلم الله عدد أَجْزَائِهَا أم لَا يُعلمهُ فَإِن قُلْتُمْ لَا كل لَهَا نفيتم النِّهَايَة عَن الْمَخْلُوقَات والموجودات وَهَذَا كفر وَإِن قُلْتُمْ أَن الله تَعَالَى لَا يعلم عدد أَجْزَائِهَا كَفرْتُمْ وَإِن قُلْتُمْ أَن لَهَا كلا وَإِن الله تَعَالَى يعلم أعداد أَجْزَائِهَا أقررتم بالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه لائح يَنْبَغِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ لِئَلَّا يجوز على أهل الْغَفْلَة وَهُوَ أَنهم أقحموا لَفْظَة كل حَيْثُ لَا يُوجد كل وسألوا هَل يعلم الله تَعَالَى عدد مالاعدد لَهُ وهم فِي ذَلِك كمن سَأَلَ هَل يعلم الله تَعَالَى عدد شعر لحية الأحلس أم لاأو وَهل يعلم جَمِيع أَوْلَاد الْعَقِيم أم لَا وَهل كل حركات أهل الْجنَّة وَالنَّار أم لَا فَهَذِهِ السؤالات كسؤالهم وَلَا فرق وجوابنا فِي ذَلِك كُله أَن الله عز وَجل إِنَّمَا يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَن من علم الشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ فقد علمه حَقًا وَأما من علم الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلم يُعلمهُ بل جَهله وحاشا لله من هَذِه الصّفة فَمَا لَا كل لَهُ وَلَا عدد لَهُ فَإِنَّمَا يُعلمهُ الله عز وَجل أَن لَا عدد لَهُ وَلَا كل وَمَا علم الله عز وَجل قطّ عددا وَلَا كلا إِلَّا لما لَهُ عدد وكل لَا لما عدد لَهُ وَلَا كل وَكَذَلِكَ لم يعلم الله عز وَجل قد عدد شعر لحية الأطلس وَلَا علم قطّ ولد الْعَقِيم فَكيف أَن يعرف لَهُم كلا وَكَذَلِكَ لم يعلم الله عز وَجل قطّ عدد أَجزَاء الْجَبَل وَلَا الخردلة قبل أَن يجزأ لِأَنَّهُمَا لَا جُزْء لَهما قبل التجزئة وَإِنَّمَا علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فَإِذا جزئا علمهما حِينَئِذٍ متجزئين وَعلم حِينَئِذٍ عدد أجزائهما وَلم يزل تَعَالَى يعلم أَنه يجزء كل مَا لَا يتجزء وَلم يزل يعلم عدد الْأَجْزَاء الَّتِي لَا تخرج فِي المستأنف إِلَى حد الْفِعْل وَلم يزل يعلم عدد مَا يخرج من الْأَشْخَاص بخلقه فِي الْأَبَد إِلَى حد الْفِعْل أَو لم يزل يعلم أَنه لَا أشخاص زَائِدَة على ذَلِك وَلَا أَجزَاء لما لم يَنْقَسِم بعد وَكَذَلِكَ لَيْسَ للخردلة وَلَا للجبل قبل التجزيء أَجزَاء أصلا وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَلَا كل هَا هُنَا وَلَا بعض فَهَذَا بطلَان سُؤَالهمْ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أخبرونا عَن الشَّخْص الْفَرد من خردلة أَو وبرة أَو شَعْرَة أَو غير ذَلِك إِذا جزأنا كل ذَلِك جزئين أَو أَكثر مَتى حدثت الْأَجْزَاء أحين جزئت أم قبل أَن يجزأ فَإِن قَالُوا قبل أَن يجزأ ناقضوا أسمج مناقضة لأَنهم أقرُّوا بحدوث أَجزَاء كَانَت قبل حدوثها وَهَذَا سخف وَأَن قَالُوا إِنَّمَا حدثت لَهَا الْأَجْزَاء حِين جزئت لَا قبل ذَلِك سألناهم مَتى علمهَا الله تَعَالَى متجزئة حِين حدث فِيهَا التجزيء أم قبل أَن يحدث فِيهَا التجزيء فَإِن قَالُوا بل حِين حدث فِيهَا التجزيء صدقُوا وأبطلوا قَوْلهم فِي أَجزَاء الخردلة وَإِن قَالُوا بل علم أَنَّهَا منجزئة وَأَن لَهَا أَجزَاء قبل حُدُوث التجزيء فِيهَا جهلوا رَبهم تَعَالَى إِذا أحبروا أَنه يعلم الشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيعلم أَجزَاء لما لَا أَجزَاء لَهُ وَهَذَا ضلال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا موهوا بِهِ لم نَدع لَهُم مِنْهُ شَيْئا إِلَّا وَقد أوردناه وَبينا أَنه كُله لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ وَأَنه كُله عَائِد عَلَيْهِم وَحجَّة لنا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ نبتدئ بحول الله تَعَالَى وقوته بإيراد الْبَرَاهِين الضرورية على أَن كل جسم فِي الْعَالم فَإِنَّهُ متجزؤ مُحْتَمل للتجزئة وكل جُزْء من جسم فَهُوَ أَيْضا جسم مُحْتَمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 للتجزيء وَهَكَذَا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين أخبرونا عَن هَذَا الْجُزْء الَّذِي قُلْتُمْ أَنه لَا يتحزى أهوَ فِي الْعَالم أم لَيْسَ فِي الْعَالم وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا لَيْسَ هُوَ فِي الْعَالم صدقُوا وأبطلوا إِلَّا أَنهم يلْزمهُم قَول فَاحش وَهُوَ أَنهم يَقُولُونَ أَن جَمِيع الْعَالم مركب من أَجزَاء لَا تتجزأ وَالْكل لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير تِلْكَ الْأَجْزَاء فَإِن كَانَت تِلْكَ الْأَجْزَاء لَيست فِي الْعَالم فالعالم عدم لَيْسَ فِي الْعَالم وَهَذَا تَخْلِيط كَمَا ترى وَإِن قَالُوا بل هُوَ فِي الْعَالم قُلْنَا لَهُم لَا يَخْلُو إِن فِي كل كرة الْعَالم من أَن يكون إِمَّا قَائِما بِنَفسِهِ حَامِلا وَإِمَّا أَن يكون مَحْمُولا غير قَائِم بِنَفسِهِ لَا بُد ضَرُورَة من أحد الْأَمريْنِ إِذْ لَيْسَ الْعَالم كُله إِلَّا على هذَيْن الْقسمَيْنِ فَإِن كَانَ مَحْمُولا غير قَائِم بِنَفسِهِ فَهُوَ عرض من الْأَعْرَاض وَإِن كَانَ حَامِلا قَائِما بِنَفسِهِ ذَا مَكَان فَهُوَ جسم وَثمّ يُقَال لَهُم أخبرونا عَن الْجُزْء الَّذِي ذكرْتُمْ أَنه لَا يتَجَزَّأ وَهُوَ على قَوْلكُم فِي مَكَان لِأَنَّهُ بعض من أبعاض الْجِسْم هَل الملاقي مِنْهُ للمشرق هُوَ الملاقي للمغرب أم غَيره وَهل المحازي مِنْهُ للسماء هُوَ المحازى مِنْهُ للْأَرْض أم غَيره فَإِن قَالُوا كل ذَلِك وَاحِد والملاقي مِنْهُ للمشرق هُوَ الملاقي مِنْهُ للمغرب والمجازى مِنْهُ للسماء هُوَ المجازى مِنْهُ للْأَرْض أَتَوا بِإِحْدَى العظائم وَجعلُوا جِهَة الْمشرق منا هِيَ جِهَة الْمغرب وَجعلُوا السَّمَاء وَالْأَرْض مِنْهُ فِي جِهَة وَاحِدَة وَهَذَا حمق لَا يبلغهُ إِلَّا الموسوس ومكابرة للعيان لَا يرضاها لنَفسِهِ سَالم البنية وَإِن قَالُوا بل الملاقي مِنْهُ للمشرق هُوَ غير الملاقي مِنْهُ للمغرب وَأَن السَّمَاء وَالْأَرْض مِنْهُ فِي جِهَتَيْنِ متقابلتين فَوق وأسفل صدقُوا وَهَكَذَا جِهَة الْجنُوب وَالشمَال فَإذْ ذَلِك كَذَلِك بِلَا شكّ فقد صَحَّ أَنه ذُو جِهَات سِتّ مُتَغَايِرَة وَهَذَا إِقْرَار مِنْهُم بِأَنَّهُ ذُو أَجزَاء إِذْ قطعُوا بِأَن الملاقي مِنْهُ للمغرب غير الملاقي مِنْهُ للمشرق وَمن للتَّبْعِيض وَبَطل قَوْلهم من قرب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن أَرَادوا إلزامنا مثل هَذَا الْعرض قُلْنَا للعرض جِهَة وَلَا لَهُ مَكَان وَلَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَا يحاذى شَيْئا وَإِنَّمَا يحاذى الْأَشْيَاء حَامِل الْعرض لَا الْعرض إِذْ لَو ارْتَفع الْعرض لبقي حامله مالئاً لمكانه كَمَا كَانَ محاذياً من جَمِيع جهاته مَا كَانَ يحاذى حِين حمله للعرض سَوَاء سَوَاء وَلَو ارْتَفع فِي قَوْلكُم الجزأ الَّذِي لَا يتَجَزَّأ لبقي مَكَانَهُ خَالِيا مِنْهُ وَقد أوضحنا أَن عرضين وأعراضاً تكون فِي جسم وَاحِد فِي جِهَة وَاحِدَة مِنْهُ وهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن جزئين كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يتَجَزَّأ أَفلا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَكُونَا جَمِيعًا فِي مَكَان وَاحِد بل لكل وَاحِد مِنْهُمَا عِنْدهم مَكَانا غير مَكَان الآخر وبرهان آخر وَهُوَ انهم يَقُولُونَ أَن الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ لَا طول لَهُ وَلَا عرض وَلَا عمق فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِذا أضفتم إِلَى الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ عنْدكُمْ جزأ آخر مثله لَا يتَجَزَّأ أَلَيْسَ قد حدث لَهما طول فَلَا بُد من قَوْلهم نعم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك وَلَو أَنهم قَالُوا لَا يحدث لَهما طول للزمهم مثل ذَلِك فِي إِضَافَة جُزْء ثَالِث ورابع وَأكْثر حَتَّى يَقُولُوا أَن الْأَجْسَام الْعِظَام لَا طول لَهَا ويحصلوا فِي مُكَابَرَة العيان فَنَقُول لَهُم إِذا قُلْتُمْ أَن جُزْءا لَا يتَجَزَّأ لَا طول لَهُ إِذا ضم إِلَيْهِ جُزْء آخر لَا يتَجَزَّأ وَلَا طول لَهُ فَأَيّهمَا يحدث لَهُ طول فَقولُوا لنا هَل يَخْلُو هَذَا الطول الْحَادِث عنْدكُمْ من أحد وَالثَّلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا أما أَن يكون هَذَا الطول لأَحَدهمَا دون الآخر أَولا لوَاحِد مِنْهُمَا أَو كليهمَا فَإِن قُلْتُمْ لَيْسَ هَذَا الطول لَهما وَلَا لوَاحِد مِنْهُمَا فقد أوجبتم طولا لَا لطويل وطولاً قَائِما بِنَفسِهِ والطول عرض وَالْعرض لَا يقوم بِنَفسِهِ وَصفَة وَالصّفة لَا يُمكن أَن تُوجد إِلَّا فِي مَوْصُوف بهَا وَوُجُود طول لَا لطويل مُكَابَرَة ومحال وَإِن قُلْتُمْ أَن ذَلِك الطول هُوَ لأحد الجزئين دن الآخر فقد أحلتم وأتيتم بِمَا لَا شكّ بالحس وضرورة الْعقل فِي بُطْلَانه ولزمكم الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ لَهُ طول وَإِذا كَانَ لَهُ طول فَهُوَ بِلَا شكّ يتَجَزَّأ وَهَذَا ترك مِنْكُم لقولكم مَعَ أَنه أَيْضا محَال لِأَنَّهُ يجب من هَذَا أَنه يتجزى وَلَا يتجرئ وَإِن قُلْتُمْ أَن ذَلِك الطول للجزئين مَعًا صَدقْتُمْ وأقررتم بِالْحَقِّ فِي أَن كل جُزْء مِنْهُمَا فَلهُ حِصَّته من الطول والحصة من الطول طول بِلَا شكّ وَإِذا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ طول فَكل وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ طول فَكل وَاحِد مِنْهُمَا يتَجَزَّأ وَهَذَا خلاف قَوْلكُم أَنه لَا يتَجَزَّأ وَهَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 برهَان ضَرُورِيّ أَيْضا لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان آخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول لَهُم أَيّمَا أطول جزآن لَا يتَجَزَّأ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَقد ضم أَحدهمَا إِلَى الآخر أم أَحدهمَا غير مضموم إِلَى الآخر فَلَا يجوز أَن يَقُول لأحد إِلَّا أَن الجزئين المضمومين أطول من أَحدهمَا غير مضموم إِلَى الآخر فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَمن الْمحَال المتنع الْبَاطِل أَن يُقَال فِي شَيْء هَذَا أطول من هَذَا إِلَّا وَفِي الآخر طول دون طول مَا هُوَ أطول مِنْهُ فقد صَحَّ ضَرُورَة أَن الطول مَوْجُود لكل جُزْء قَالُوا فِيهِ أَنه لَا يتَجَزَّأ وَإِذا كَانَ لَهُ طول فَهُوَ منقسم بِلَا خلاف من أحد منا وَمِنْهُم وَهَكَذَا القَوْل فِي عرضهما أَن ضم أَحدهمَا إِلَى الآخر وَفِي عمقها كَذَلِك وَلَا بُد من أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا حِصَّة من الْعرض والعمق وَإِذ ذَاك كَذَلِك ضَرُورَة فَكل جُزْء قَالُوا فِيهِ أَنه لَا يتجزى فَلَا بُد من أَن يكون لَهُ طول وَعرض وعمق وَإِذ ذَلِك كَذَلِك ضَرُورَة فَكل جُزْء قَالُوا فِيهِ أَنه لَا يتَجَزَّأ فَلَا بُد من ان يكون لَهُ طول وَعرض وعمق وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَهُوَ جسم يتَجَزَّأ وَلَا بُد وَهَذَا أَيْضا برهَان ضَرُورِيّ لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد رام أَبُو الْهُذيْل التَّخَلُّص من هَذَا الْإِلْزَام فَبعد ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رام محالا فَقَالَ أَن الطول الْحَادِث للجزأين عِنْد اجْتِمَاعهمَا إِنَّمَا هُوَ كالاجتماع الْحَادِث لَهما وَلم يكن لَهما وَلَا لأَحَدهمَا إِذا كَانَا منفردين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه ظَاهر لِأَن الِاجْتِمَاع هُوَ ضم أَحدهمَا إِلَى الآخر نَفسه لَيْسَ هُوَ شَيْئا آخر وَلم يَكُونَا قبل الضَّم وَالْجمع مضمومين وَلَا مُجْتَمعين وَلَيْسَ معنى الطول وَالْعرض والعمق كَذَلِك بل هُوَ شَيْء آخر غير الضَّم وَالْجمع وَإِنَّمَا هُوَ صفة للطويل مضموماً كَانَ إِلَى غَيره أَو غَيره مضموم وَلَا يُوجب الْجمع وَالضَّم طولا لم يكن وَاجِبا قبل الضَّم وَالْجمع فَلم يزدْ أَبُو الْهُذيْل على أَن قَالَ لما اجْتمعَا صَارا مُجْتَمعين وصارا طويلين وَهَذِه دَعْوَى فَاسِدَة وَنظر منحل لِأَن طول قَوْله لما اجْتمعَا صَارا مُجْتَمعين صَحِيح لَا سك فِيهِ وَقَوله وصارا طويلين دَعْوَى مُجَرّدَة من الدَّلِيل جملَة وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَأَيْضًا فَإِن الِاجْتِمَاع لما حدث بَينهمَا بَطل معنى آخر كَانَ مَوْجُودا فيهمَا وَهُوَ الِافْتِرَاق الَّذِي هُوَ ضد الِاجْتِمَاع فأخبرونا إِذا حدث الطول بزعمكم فَأَي شَيْء هُوَ الْمَعْنى الَّذِي ذهب بِوُجُود الطول وعاقبة الطول وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى وجوده فصح أَن الطول كَانَ مَوْجُودا فِي كل جُزْء على انْفِرَاد وَكَذَلِكَ الْعرض والعمق ثمَّ لما اجْتمعَا زَاد الطول وَالْعرض والعمق وَهَكَذَا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا هُوَ الَّذِي تشهد لَهُ الْحَواس والمشاهدة وَالْعقل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وبرهان آخر وَهُوَ أَن الجرم إِن كَانَ أَحْمَر فَكل جُزْء من أَجْزَائِهِ أَحْمَر بِلَا شكّ فَإِن قَالُوا لَيْسَ أَحْمَر قُلْنَا لَهُم فعله أَخْضَر أَو أصفر أَو غير ذِي لون وَهَذَا عين الْمحَال لِأَن لكل قد بَينا أَنه لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير أَجْزَائِهِ فَلَو كَانَ لون أَجْزَائِهِ غير لَونه كُله لَكَانَ لَونه غير لَونه وَهَذَا محَال فَإذْ لَا شكّ فِيمَا ذكرنَا فالجزء الَّذِي يدعونَ أَنه لَا يتَجَزَّأ هُوَ ذُو لون بِلَا شكّ وَإِذ هُوَ ذُو لون فَهُوَ جسم لَا يعقل غير ذَلِك فَهُوَ يتَجَزَّأ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَت الأشعرية هَهُنَا كلَاما ظريفاً وَهُوَ أَنهم قَالُوا هُوَ ذُو لون وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل ملون فَهُوَ ذُو لون وَاحِد لَا ذُو ألوان كَثِيرَة إِلَّا أَن يكون أبلق أَو موشى برهَان آخر أَن وجود شَيْء فِي الْعَالم قَائِم بِنَفسِهِ لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَلَا قَابلا للتجزيء وَلَا طول لَهُ وَلَا عرض وَلَا عمق فَهُوَ محَال مُمْتَنع إِذْ هَذَا الْمَذْكُور لَيْسَ شَيْئا غير الْبَارِي تَعَالَى وَجل تَعَالَى أَن يكون لَهُ فِي الْعَالم شبه وَبِهَذَا بَان عز وَجل عَن مخلوقاته وَلم يكن لَهُ كفوا أحد وَلَيْسَ كمثله شَيْء برهَان آخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل شَيْء يحْتَمل أَن يكون لَهُ أَجزَاء كَثِيرَة فبالضرورة نَدْرِي أَنه يحْتَمل أَن يجزأ إِلَى أقل مِنْهَا هَذَا مَا لَا تخْتَلف الْعُقُول والإحساس فِيهِ كشيء احْتمل أَن يقسم على أَرْبَعَة أَقسَام فَلَا شكّ أَنه يحْتَمل أَن يَنْقَسِم على ثَلَاثَة وعَلى اثْنَيْنِ وَهَكَذَا فِي كل عدد وَمن دَافع فِي هَذَا فَإِنَّمَا يدْفع الضَّرُورَة ويكابر الْعقل فَلَو أَقمت خطا من ثَلَاثَة أَجزَاء كل جُزْء مِنْهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 لَا يتَجَزَّأ على قَوْلهم أَو يعْمل ذَلِك الْخط من عشرَة أَجزَاء وَكَذَلِكَ من ألف جُزْءا كَذَلِك أَو مِمَّا زَاد فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف أحد فِي أَن الْخط الَّذِي هُوَ من ثَلَاثَة أَجزَاء فَإِنَّهُ يَنْقَسِم ثَلَاثًا فِي موضِعين وَأَن الَّذِي هُوَ أَرْبَعَة أَجزَاء فَإِنَّهُ يَنْقَسِم أَربَاعًا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَأَن الَّذِي من ألف جزؤ فَإِنَّهُ يَنْقَسِم أعشاراً وبنصفين وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فبيقين لَا محيد عَنهُ يدْرِي كل ذِي حس سليم وَلَو أَنه عَالم أَو جَاهِل أَن مَا انقسم أَثلَاثًا فَإِنَّهُ يَنْقَسِم نِصْفَيْنِ مستويين وَمَا انقسم أَربَاعًا فَإِنَّهُ يَنْقَسِم أَثلَاثًا مستوية وَإِن مَا كَانَ من الخطوط فَلهُ أعشار وأخماس وَنصف وأثلاث وأسداس وأسباع مُتَسَاوِيَة فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن الْقِسْمَة لَا بُد أَن تقع فِي نصف جزءٍ مِنْهَا أَو فِي أقل من نصفه فصح أَن كل جسم فَهُوَ يتَجَزَّأ ضَرُورَة وَإِن الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ بَاطِل مَعْدُوم من الْعَالم وَهَذَا مَا لَا مَحْض لَهُم مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان آخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد بِلَا شكّ نعلم أَن الخطين المستقيمين المتوازيين لَا يَلْتَقِيَانِ أبدا وَلَو مدا عمر الْعَالم أبدا بِلَا نِهَايَة وَأَنَّك إِن مددت من الْخط الْأَعْلَى إِلَى الْخط الْمُقَابل لَهُ خطين مستقيمين متوازيين قَالَ مِنْهُمَا مربع بِلَا الشَّك فَإذْ أخرجت من زَاوِيَة ذَلِك المربع خطا منحدراً من هُنَالك إِلَى الْخط الْأَسْفَل فَإِن تِلْكَ الخطوط المخرجة من الضلع لَدَى ذكرنَا وَتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لَا تمر مَعَ الْخط الْأَعْلَى أبدا لِأَنَّهَا غير موازية لَهُ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَذَلِك الضلع منقسم أبدا لَا بُد مَا أخرجت الخطوط بِلَا نِهَايَة برهَان آخر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبالضرورة نَدْرِي أَن كل مربع متساوي الأضلاع فَإِن الْخط الْقَاطِع من الزاوية الْعليا إِلَى الزاوية السُّفْلى الَّتِي لَا يوازيها يقوم مِنْهُ فِي المربع مثلثان متساويان وَأَنه لَا شكّ أطول من كل ضلع من أضلاع ذَلِك المربع على انْفِرَاد فنسألهم عَن مائَة جُزْء لَا تتجزأ رتبت متلاصقة عشرَة عشرَة فبالضرورة نجد فِيهَا مَا ذكرنَا فبيقين نعلم حِينَئِذٍ أَن كل جُزْء من الْأَجْزَاء الْمَذْكُورَة لَوْلَا أَن لَهُ طولا وعرضاً لما كَانَ الْخط الْمَار بهَا الْقَاطِع للمربع الْقَائِم مِنْهَا على مثلثين متساويين أطول من الْخط الْمَار بِكُل جِهَة من جِهَات ذَلِك المربع على اسْتِوَاء وموازاة لِلْخُطُوطِ الْأَرْبَعَة المحيطة بذلك المربع وَهُوَ أطول مِنْهُ بِلَا شكّ فصح ضَرُورَة أَن لكل جُزْء مِنْهَا طولا وعرضاً وَأَن مَاله طول وَعرض فَهُوَ متجزء بِلَا شكّ فصح أَيْضا بِمَا ذكرنَا أَن كل جزءٍ مر عَلَيْهِ الْخط الْمَذْكُور فقد انقسم برهَان آخر وَأَيْضًا فإننا لَو أَقَمْنَا خطا من أَجزَاء لَا تتجزأ على قَوْلهم مُسْتَقِيمًا ثمَّ أردناه حَتَّى يلتقي طرفاه وَيصير دَائِرَة فبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن الْخط إِذا أدير حَتَّى يلتقي طرفاه فَإِن مَا قَابل من أَجْزَائِهِ مَرْكَز الدائرة أَضْعَف مِمَّا قَابل مِنْهَا خَارج الدائرة فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَهَذَا لَازم فِي هَذَا الْخط الْمدَار بِلَا شكّ وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فقد فضل من أحد طرفِي الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ عِنْدهم فضلَة على طرفه الآخر وَهَكَذَا كل جُزْء من تِلْكَ الْأَجْزَاء بِلَا شكّ فصح ضَرُورَة أَنه مُحْتَمل للانقسام وَلَا بُد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان آخر نسألهم عَن دَائِرَة قطرها أحد عشر جُزْءا لَا يتَجَزَّأ كل وَاحِد مِنْهَا عِنْدهم أَو أَي عدد شِئْت على الْحساب فأردنا أَن نقسمها بنصفين على السوَاء وَلَا خلاف فِي أَن هَذَا مُمكن فبالضرورة نَدْرِي أَن الْخط الْقَاطِع على قطر الدائرة من الْمُحِيط إِلَى مَا قابله من الْمُحِيط ماراً على مركزها لَا يَقع الْبَتَّةَ فِي أَنْصَاف تِلْكَ الْأَجْزَاء فصح ضررة أَنَّهَا تتجزأ وَلَو لم يمر ذَلِك الْخط على أَنَّهَا فِيهَا قسم الدائرة بنصفين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق برهَان آخر وَهُوَ أَن نسألهم عَن الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ الَّذِي يحققونه إِذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هَل لَهُ حجم زَائِد على سطحها أم لَا حجم لَهُ زَائِد على سطحها فَإِن قَالُوا لَا حجم لَهُ زَائِد على سطحها أعدموه وَلم يجْعَلُوا لَهُ مَكَانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 وَلَا جَعَلُوهُ مُتَمَكنًا أصلا فنسألهم عَن جزأين جعلا كَذَلِك فَلَا بُد من قَوْلهم أَن لَهما حجماً فنسألهم عَن ذَلِك الحجم ألهما مَعًا أم لأَحَدهمَا فَأَي ذَلِك قَالُوا أثبتوا وَلَا بُد الحجم لَهما وللجزء هُوَ أَحدهمَا وَإِذا كَانَ للجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ حجم زَائِد فَالَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن لَهُ ظلاً وَإِذا صَحَّ يَقِينا أَن لَهُ ظلاً فَلَا شكّ فِي أَن الظل يزِيد وَينْقص ويمتد ويتقلص وَيذْهب إِذا سامتته الشَّمْس فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فبيقين نَدْرِي أَن ظله ينقص حَتَّى يكون أقل من قدره وَإِذ ذَلِك فقد ظهر وَوَجَب أَن لَهُ تجزياً ومقدارا متبعضا وبرهان آخر وَهُوَ أننا نسألهم عَن جُزْء لَا يتَجَزَّأ من الْحَدِيد أَو من الذَّهَب وجزء لَا يتَجَزَّأ من خليط قطن هَل ثقلهما ووزنهما سَوَاء أم الَّذِي من الذَّهَب أَو الْحَدِيد أثقل من الَّذِي من الْقطن فَإِن قَالُوا نقلهما ووزنهما سَوَاء كابروا لزومهم هَذَا فِي ألف جُزْء كَذَلِك من الذَّهَب أَنَّهُمَا ليستا أثقل من ألف جُزْء من الْقطن مجتمعة كَانَت الْأَجْزَاء أَو مُتَفَرِّقَة وَهَذَا جُنُون ومكابرة وَإِن قَالُوا بل الَّذِي من الذَّهَب أوزن وأثقل صدقُوا وأوجبوا أَن لَهُ تجزياً يتفاضل الْوَزْن ضَرُورَة وَلَا بُد قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ براهين ضَرُورِيَّة قَاطِعَة بِأَن كل جُزْء فَهُوَ يتَجَزَّأ أبدا بِلَا نِهَايَة وَأَن جُزْءا لَا يتَجَزَّأ لَيْسَ فِي الْعَالم أصلا وَلَا يُمكن وجوده بل هُوَ من الْمحَال ليمتنع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما أَبُو الْهُذيْل فخلط فِي هَذَا الْبَاب وَحقّ لمن رام نصر الْبَاطِل أَن يخلط فَقَالَ أَن الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ ذُو حَرَكَة وَسُكُون يتعاقبان عَلَيْهِ وَأَنه يشغل مَكَانا لَا يسع فِيهِ مَعَه غَيره وَأَنه أقرب إِلَى السَّمَاء من مَكَانَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ من الأَرْض وَهَذَا غَايَة التَّنَاقُض إِذْ مَا كَانَ هَكَذَا فَلهُ مساحة بِلَا شكّ وَهُوَ ذُو جِهَات سِتّ للمساحة أَجزَاء من نصف وَثلث وَأَقل وَأكْثر وَمَا كَانَ ذَا جِهَات فَالَّذِي مِنْهُ فِي كل جِهَة غير الَّذِي مِنْهُ فِي الْجِهَة الْأُخْرَى بِلَا شكّ وَمَا كَانَ هَذَا فَهُوَ مُحْتَمل للتجزيء بِلَا شكّ وَمَا عدا هَذَا فوسواس نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي تخليطهم هَذَا اخْتِلَافا ظريفاً أَيْضا فَأَجْمعُوا أَنه إِذا ضم جُزْء وَلَا يتَجَزَّأ إِلَى جُزْء لَا يتَجَزَّأ فَصَارَ اثْنَيْنِ فقد حدث لَهما طول ثمَّ اخْتلفُوا مَتى يصير جسماً لَهُ طول وَعرض وعمق فَقَالَ بَعضهم إِذا صَار جزأين صَار جسماً وَهُوَ قَول الأشعرية وَقَالَ بَعضهم إِذا صَارا أَرْبَعَة أَجزَاء وَقَالَ بَعضهم بل إِذا صَارا سِتَّة أَجزَاء وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا صَار ثَمَانِيَة أَجزَاء فقد صَار جسماً لَهُ طول وَعرض وعمق وكل هَذَا تَخْلِيط ناهيك بِهِ وَجَهل شَدِيد كَانَ الأولى بأَهْله أَن يتعلموا قبل أَن يتكلموا بِهَذِهِ الحماقات برهَان ذَلِك أَنهم لم يَخْتَلِفُوا أَنهم إِذا صفوا أَرْبَعَة أَجزَاء لَا يتَجَزَّأ وتحتها أَجزَاء لَا يتَجَزَّأ فَإِنَّهُ فسد صَار عِنْدهم الْجَمِيع من هَذِه الْأَجْزَاء جسماً طَويلا عريضاً عميقاً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي طابت نُفُوسهم عَلَيْهِ وأنست عُقُولهمْ إِلَيْهِ فِي الثَّمَانِية وَسَهل على بَعضهم دون بعض فِي ثَلَاثَة أَجزَاء تحتهَا ثَلَاثَة أَجزَاء أَو فِي جزأين تحتهَا جزآن وَمنعُوا كلهم من ذَلِك فِي جُزْء على جُزْء حاشا الأشعرية فَإِنَّهُ بِعَيْنِه مَوْجُود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة فِي جُزْء على جُزْء على جُزْء سَوَاء سَوَاء بِعَيْنِه وَذَلِكَ أَن الْأَرْبَعَة أَجزَاء على أَرْبَعَة أَجزَاء فَإِنَّمَا الْحَاصِل مِنْهَا جُزْء على جُزْء فَقَط من كل جِهَة فَإِذا جعلُوا الْأَرْبَعَة على الْأَرْبَعَة طولا فَإِنَّمَا جَعَلُوهُ فِي جُزْء إِلَى جنب جُزْء كَذَلِك فعلوا فِي الْعرض وَكَذَلِكَ فعلوا فِي العمق وَإِذا هُوَ كَذَلِك والطول عِنْدهم يُوجد فِي جُزْء إِلَى جنب جُزْء وَالْعرض يُوجد جنب الطول لِأَن الْعرض لَا يكون أَكثر من الطول أصلا والعمق مَوْجُود فيهمَا أَيْضا فطهر أَن لكل جُزْء مِنْهَا طولا وعرضاً وعمقاً ومكاناً وجهات وَوَجَب ضَرُورَة بِهَذَا أَنه يتَجَزَّأ ولاح جهلهم وخطبهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد بَطل قَوْلهم فِي الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَفِي كل مَا أوجبوه أَنه جَوْهَر لَا جسم وَلَا عرض فقد صَحَّ أَن الْعَالم كُله حَامِل قَائِم بِنَفسِهِ ومحمول لَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَا يُمكن وجود أَحدهمَا متخلياً فالمحمول هُوَ الْعرض وَالْحَامِل هُوَ الْجَوْهَر وَهُوَ الْجِسْم سمه كَيفَ شِئْت وَلَا يُمكن فِي الْوُجُود غَيرهمَا وَغير الْخَالِق لَهما تَعَالَى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال أَن الْعرض لَا يبْقى وَقْتَيْنِ وَأَنه لَا يحمل عرضا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد كلمناهم فِي هَذَا وتقريبا كتبهمْ فَمَا وجدنَا لَهُم حجَّة فِي هَذَا أصلا أَكثر من أَن بَعضهم قَالَ لَو بَقِي وَقْتَيْنِ لشغل مَكَانا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه حجَّة فقيرة إِلَى حجَّة وَدَعوى كَاذِبَة نصر بهَا دَعْوَى كَاذِبَة وَلَا عجب أَكثر من هَذَا ثمَّ لَو صحت لَهُم للزمهم هَذَا بِعَيْنِه فِيمَا جوزوه من بَقَاء الْعرض وقتا وَاحِدًا وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من قَالَ لَو بَقِي الْعرض وقتا وَاحِدًا لشغل مَكَانا وبيقين يدْرِي كل ذِي حس سليم أَنه لَا فرق فِي اقْتِضَاء الْمَكَان بَين بَقَاء وَقت وَاحِد وَبَين بَقَاء وَقْتَيْنِ فَصَاعِدا فَإِن أبطلوا بَقَاءَهُ وقتا لَزِمَهُم أَنه لَيْسَ بَاقِيا أصلا وَأَيْضًا لم يكن بَاقِيا فَلَيْسَ مَوْجُودا أصلا وَإِذ لم يكن مَوْجُودا فَهُوَ مَعْدُوم فحصلوا من هَذَا التَّخْلِيط على نفي الْأَعْرَاض ومكابرة العيان وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من قَالَ بل يبْقى وَقْتَيْنِ وَلَا يبْقى ثَلَاثَة أَوْقَات إِذْ لَو بَقِي ثَلَاثَة أَوْقَات لشغل مَكَانا وكل هَذَا هوس وَلَيْسَ من أجل الْبَقَاء وَجب اقْتِضَاء الْبَاقِي الْمَكَان لَكِن من أجل أَنه طَوِيل عريض عميق فَقَط وَلَا مزِيد وَقد قَالَ بَعضهم أَن الشَّيْء فِي حِين خلق الله تَعَالَى لَهُ لَيْسَ بَاقِيا وَلَا فانياً وَهَذِه دَعْوَى فِي الْحمق كَمَا سلف لَهُم وَلَا فرق وَهِي مَعَ ذَلِك لَا تعقل وَلَا يتَمَثَّل فِي الْوَهم أَن يكون فِي الزَّمَان أَو فِي الْعَالم شَيْء مَوْجُود لَيْسَ بَاقِيا وَلَا فانياً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا عجب أعجب من حمق من قَالَ أَن بَيَاض الثَّلج وَسَوَاد القار وخضرة البقل لَيْسَ شَيْء مِنْهَا الَّذِي كَانَ آنِفا بل يفني فِي كل حِين ويستعيض ألف ألف بَيَاض وَأكْثر وَألف ألف خضرَة وَأكْثر هَذِه دَعْوَى عَارِية من الدَّلِيل إِلَّا أَنَّهَا جمعت السخف مَعَ المكارة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالصَّحِيح من هَذَا هُوَ مَا قُلْنَاهُ ونقوله أَن الْأَعْرَاض تَنْقَسِم أقساما فَمِنْهَا مَالا يَزُول وَلَا يتَوَهَّم زَوَاله الانفساد مَا هُوَ فِيهِ لَو أمكن ذَلِك كالصورة الْكُلية أَو كالطول وَالْعرض والعمق وَمِنْهَا مَا لَا يَزُول وَلَا يتَوَهَّم زَوَاله إِلَّا بإنفساد حامله كالاسكار فِي الْخمر وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهَا إِن لم تكن مسكرة لم تكن خمرًا وَهَكَذَا كل صفة يجدهَا مَا هِيَ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا لَا يَزُول إِلَّا بِفساد حامله إِلَّا أَنه لَو توهم زائلاً لم يفْسد حامله كرزق الْأَزْرَق وفطس الْأَفْطَس فَلَو زَالا لبقي الْإِنْسَان إنْسَانا بِحَسبِهِ وَمِنْهَا مَا يبْقى مدَدا طوَالًا وقصاراً وَرُبمَا زايل مَا هُوَ كسواد الشّعْر بعض الطعوم والخشونة والاملاس فِي بعض الْأَشْيَاء وَالطّيب وَالنَّتن فِي بَعْضهَا والسكون وَالْعلم وكبعض الألوان الَّتِي تستحيل وَمِنْهَا مَا يسْرع الزَّوَال كحمرة الخجل وكمدة الْهم وَلَيْسَ من الْأَعْرَاض شَيْء يفني بِسُرْعَة حَتَّى لَا يُمكن أَن يضْبط مُدَّة بَقَائِهِ إِلَّا الْحَرَكَة فَقَط على أَنَّهَا بضرورة الْعقل والحس نَدْرِي أَن حَرَكَة الْجُزْء من الْفلك الَّتِي نقطع الْفلك بنصفين من شَرق إِلَى غرب أسْرع من حَرَكَة الْجُزْء مِنْهُ الَّذِي حوالي القطبين لِأَن كل هذَيْن الجزأين يرجع إِلَى مَكَانَهُ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ فِي أَربع وَعشْرين سَاعَة وَبَين دائر بهما فِي الْكبر مَا لَا يكون مساحة خطّ دَائِرَة أَو خطّ مُسْتَقِيم أَكثر مِنْهُ فِي الْعَالم وبيقين يدْرِي أَن حَرَكَة المذعورة فِي طيرانها أسْرع من حَرَكَة السلحفاة فِي مشيها وَأَن حَرَكَة المنساب فِي الحدور أسْرع من حَرَكَة المَاء الْجَارِي فِي سيل النَّهر وَأَن حَرَكَة الْعَصْر فِي الجري أسْرع من حَرَكَة الْمَاشِي فصح يَقِينا أَن خلال الحركات أَيْضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 بَقَاء إِقَامَة يتفاضل فِي مدَّته لِأَن الحركات كلهَا إِنَّمَا هِيَ نقلة من مَكَان إِلَى مَكَان فللمتحرك مُقَابلَة وَلَا بُد لكل جرم مر عَلَيْهِ فَفِي تِلْكَ المقابلات بِكَوْن التَّفَاضُل فِي السرعة أَو فِي البطيء إِلَّا أَنه لَا يحس أجزاؤه وَلَا تضبط دقائقه إِلَّا بِالْعقلِ فَقَط الَّذِي بِهِ يعرف زِيَادَة الظل وَالشَّمْس وَلَا ندرك ذَلِك بالحس إِلَّا إِذا اجْتمعت مِنْهُ جملَة مَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يعرف بحس الْبَصَر كَمَا لَا يدْرك بالحواس نَمَاء النامي إِلَّا إِذا اجْتمعت مِنْهُ جملَة مَا وكما يعرف بِالْعقلِ لَا بالحس أَن لكل خردلة جَزَاء من الأثقال فَلَا يحس إِلَّا إِذا اجْتمعت مِنْهُ جملَة مَا وَكَذَلِكَ الشِّبَع والري وَكثير من أَعْرَاض الْعَالم فَتَبَارَكَ خَالق ذَلِك هُوَ الله أحسن الْخَالِقِينَ وَأما قَوْلهم أَن الْعرض لَا يحمل الْعرض فَكَلَام فَاسد مُخَالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس وَلَا جماع جَمِيع ولد آدم لأننا لَا تخْتَلف فِي أَن نقُول حَرَكَة سريعة وحركة بطيئة وَحُمرَة مشرقة وخضرة أَشد من خضرَة وَخلق حسن وَخلق مسيء وَقَالَ تَعَالَى {إِن كيدكن عَظِيم} وَقَالَ تَعَالَى {فَصَبر جميل} وحسبك فَسَادًا بقول أدّى إِلَى هَذَا وَمن أحَال على العيان والحس والمعقول وَكَلَام الله تَعَالَى فقد فَازَ قدحه وخسرت صَفْقَة من خَالفه قَالَ أَبُو مُحَمَّد ولسنا نقُول أَن عرضا يحمل عرضا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ بل هَذَا بَاطِل وَلَكِن كَمَا وجد وكما خلق الْبَارِي تَعَالَى مَا خلق وَلَا مزِيد وَمَا عدا هَذَا فرقة دين وَضعف عقل وَقلة حَيَاء ونعوذ بِاللَّه من هَذِه الثَّلَاث وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الْكَلَام فِي المعارف قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي المعارف فَقَالَ قَائِلُونَ المعارف كلهَا باضطرار إِلَيْهَا وَقَالَ آخَرُونَ المعارف كلهَا باكتساب لَهَا وَقَالَ آخَرُونَ بَعْضهَا باضطرار وَبَعضهَا باكتساب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالصَّحِيح فِي هَذَا الْبَاب إِن الْإِنْسَان يخرج إِلَى الدُّنْيَا لَيْسَ عَاقِلا لَا معرفَة لَهُ بِشَيْء كَمَا قَالَ عز وَجل {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فحركاته كلهَا طبيعية كأخذه التديين حِين وِلَادَته وتصرفه تصرف الْبَهَائِم على حسبها فِي تألمها وطربها حَتَّى إِذا كبر وعقل وتقوت نَفسه الناطقة وأنست بِمَا صَارَت فِيهِ وسكنت إِلَيْهِ وبدت رطوباته تَجف بدأت بتمييز الْأُمُور فِي الدَّار الَّتِي صَارَت فِيهَا فَيحدث الله تَعَالَى لَهَا قُوَّة على التفكير وَاسْتِعْمَال الْحَواس فِي الِاسْتِدْلَال وأحدث الله تَعَالَى لَهَا الْفَهم بِمَا تشاهد وَمَا تخبر بِهِ فطريقه إِلَى بعض المعارف اكْتِسَاب فِي أول توصله إِلَيْهَا لِأَنَّهُ بِأول فهمه ومعرفته عرف أَن الْكل أَكثر من الْجُزْء وَإِن جسماً وَاحِدًا لَا يكون فِي مكانين وَأَنه لَا يكون قَاعِدا قَائِما مَعًا وَهُوَ إِن لم يحسن الْعبارَة عَن ذَلِك فَإِن أَحْوَاله كلهَا تقضي تيقنه كل مَا ذكرنَا وَعرف أَولا صِحَة مَا أدْرك بحواسه ثمَّ انتجت لَهُ بعد ذَلِك سَائِر المعارف بمقدمات رَاجِعَة إِلَى مَا ذكرنَا من قرب أَو بعد فَكل مَا ثَبت عندنَا ببرهان وَإِن كَانَ بعيد الرُّجُوع إِلَى مَا ذكرنَا فمعرفة النَّفس بِهِ اضطرارية لِأَنَّهُ لَو رام جهده أَن يزِيل عَن نَفسه الْمعرفَة بِمَا ثَبت عِنْده هَذَا الثَّبَات لم يقدر فَإذْ هَذَا لَا شكّ فِيهِ فالمعارف كلهَا باضطرار إِذْ مَا لم يعرف بِيَقِين قَائِما عرف بِظَنّ وَمَا عرف ظنا فَلَيْسَ علما وَلَا معرفَة هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ إِلَّا أَن يتَطَرَّق إِلَى طلب الْبُرْهَان بِطَلَب هُوَ وَهَذَا الطّلب الِاسْتِدْلَال وَلَو شَاءَ أَو لَا يسْتَدلّ لقدر على ذَلِك فَهَذَا الطّلب وَحده هُوَ الِاكْتِسَاب فَقَط مَا كَانَ مدْركا بِأول الْعقل وبالحواس فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَال أصلا بل من قبل هَذِه الْجِهَات يبتدي كل أحد باستدلال وبالرد إِلَى ذَلِك فَيصح استدلاله أَو يبطل وحد الْعلم بالشَّيْء وَهُوَ الْمعرفَة بِهِ أَن نقُول الْعلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى وَاحِد وَهُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 على مَا هُوَ عَلَيْهِ وتيقنه بِهِ وارتفاع الشكوك عَنهُ وَيكون ذَلِك إِمَّا بِشَهَادَة الْحَواس وَأول الْعقل وَأما الْبُرْهَان رَاجع من قرب أَو من بعد إِلَى شَهَادَة الْحَواس أَو أول الْعقل وَأما بِاتِّفَاق وَقع لَهُ فِي مصادفة اعْتِقَاد الْحق خَاصَّة بِتَصْدِيق مَا افْترض الله عز وَجل عَلَيْهِ اتِّبَاعه خَاصَّة دون اسْتِدْلَال وَأما علم الله تَعَالَى فَلَيْسَ مَحْدُود أصلا وَلَا يجمعه مَعَ علم الْخلق حد فَلَا حس وَلَا شَيْء أصلا وَذَهَبت الأشعرية إِلَى أَن علم الله تَعَالَى وَاقع مَعَ علمنَا تَحت حد وَاحِد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ فَاحش إِذْ من الْبَاطِل أَن يَقع مَا لم تزل النهايات وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى على مَا بَينا قبل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَت طوائف مِنْهُم الأشعرية وَغَيرهم من اتّفق لَهُ اعْتِقَاد شَيْء على مَا هُوَ بِهِ عَن غير دَلِيل لَكِن بتقليد أَن تميل بإرادته فَلَيْسَ عَالما بِهِ وَلَا عَارِفًا بِهِ وَلكنه مُعْتَقد لَهُ وَقَالُوا كل علم وَمَعْرِفَة اعْتِقَاد وَلَيْسَ كل اعْتِقَاد علما وَلَا معرفَة لِأَن الْعلم والمعرفة بالشَّيْء إِنَّمَا يعبر بهما عَن تَيَقّن صِحَّته قَالُوا وتيقن الصِّحَّة لَا يكون إِلَّا برهَان قَالُوا وَمَا كَانَ بِخِلَاف ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ ظن وَدَعوى لَا تَيَقّن بهَا إِذْ لَو جَازَ أَن يصدق قَول بِلَا دَلِيل لما كَانَ قَول أولى من قَول ولكانت الْأَقْوَال كلهَا صَحِيحَة على تضادها وَلَو كَانَ ذَلِك لبطلت الْأَقْوَال ولبطلت الْحَقَائِق كلهَا لِأَن كل قَول يبطل كل قَول سواهُ فَلَو صحت الْأَقْوَال كلهَا لبطلت كلهَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ يكون كل قَول صَادِقا فِي إبِْطَال مَا عداهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن التَّسْمِيَة وَالْحكم لَيْسَ إِلَيْنَا وَإِنَّمَا هما إِلَى خَالق اللُّغَات وخالق الناطقين بهَا وخالق الْأَشْيَاء ومرتبها كَمَا شَاءَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ عز وَجل مُنْكرا على من سمى من قبل نَفسه {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فنهي الله عز وَجل كل أحد عَن أَن يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم ووجدناه عز وَجل يَقُول فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين} فخاطب الله تَعَالَى بِهَذِهِ النُّصُوص وبغيرها وَكَذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مُؤمن فِي الْعَالم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وبيقين نَدْرِي أَنه قد كَانَ فِي الْمُؤمنِينَ على عَهده عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ من بعده عصراً عصراً إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْمُسْتَدلّ وهم الْأَقَل وَغير الْمُسْتَدلّ كمن أسلم من الزنج وَمن الرّوم وَالْفرس والآماء وضعفة النِّسَاء والرعاة وَمن نَشأ على الْإِسْلَام بتعليم أَبِيه أَو سَيّده إِيَّاه وهم الْأَكْثَر وَالْجُمْهُور فسماهم عز وَجل مُؤمنين وَحكم لَهُم بِحكم الْإِسْلَام وَهَذَا كُله مَعْرُوف بِالْمُشَاهَدَةِ والضرورة وَقَالَ تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله يُؤمنُوا بِمَا أرْسلت بِهِ فصح يَقِينا أَنهم كلهم مأمورون بالْقَوْل بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كل من صد عَنهُ فَهُوَ كَافِر حَلَال دَمه وَمَاله فَلَو لم يُؤمن بالْقَوْل بِالْإِيمَان إِلَّا من عرفه من طَرِيق الِاسْتِدْلَال لَكَانَ كل من لم يسْتَدلّ مِمَّن ذكرنَا مَنْهِيّا عَن اتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن القَوْل بتصديقه لِأَنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ القَوْل لَيْسُوا عَالمين بذلك وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واجتماع الْأمة الْمُتَيَقن أما الْقُرْآن وَالسّنة فقد ذكرناهما وَأما إِجْمَاع الْأمة فَمن الْبَاطِل الْمُتَيَقن أَن يكون الِاسْتِدْلَال فرضا لَا يَصح أَن يكون أحد مُسلما إِلَّا أَنه بِهِ ثمَّ يغْفل الله عز وَجل أَن يَقُول لَا تقبلُوا من أحد أَنه مُسلم حَتَّى يسْتَدلّ أتراه نسي تَعَالَى أَو تعمد عز وَجل ترك ذكر ذَلِك إضلالاً لِعِبَادِهِ وبترك ذَلِك رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا عمدا أَو قصدا إِلَى الضلال والإضلال أَو نسيا لمن اهْتَدَى لَهُ هَؤُلَاءِ ونبهو إِلَيْهِ وهم من هم بلادة وجهلاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وسقوطاً هَذَا لَا يَظُنّهُ إِلَّا كَافِر وَلَا يحققه إِلَّا مُشْركًا فَمَا قَالَ فَقَط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل قَرْيَة أَو حلَّة أَو حَيّ وَلَا لراع وَلَا لراعية وَلَا للزنج وَلَا للنِّسَاء لَا أقبل إسلامكم حَتَّى أعلم الْمُسْتَدلّ من غَيره فَإِذا لم يقبل عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك فَالْقَوْل بِهِ واعتقاده افك وضلال وَكَذَلِكَ أجمع جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على الدُّعَاء على الْإِسْلَام وقبوله من كل وَاحِد دون ذكر اسْتِدْلَال ثمَّ هَكَذَا جيلاً فجيلاً حَتَّى حدث من لَا قدر لَهُ فَإِن قَالُوا قد قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} قُلْنَا نعم وَهَذَا حق وَإِنَّمَا قَالَه الله عز وَجل لن خَالف الْحق الَّذِي أَمر عز وَجل الْجِنّ والأنس باتباعه وَهَكَذَا القَوْل إِن كل من قَالَ قولا خَالف فِيهِ مَا أَمر الله عز وَجل باتباعه فَسَوَاء اسْتدلَّ بِزَعْمِهِ وَلم يسْتَدلّ هَذَا مُبْطل غير مَعْذُور إِلَّا من عذره الله عز وَجل فبمَا عذره فِيهِ كالمجتهدين من الْمُسلمين يخطأ قَاصِدا إِلَى الْحق فَقَط مَا لم يقم عَلَيْهِ الْحجَّة فيعاند وَأما من اتبع الْحق فَمَا كلفه الله عز وَجل قطّ برهاناً والبرهان قد ثَبت بِصِحَّة كل مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ فَسَوَاء علمه فتبع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعِلْمِهِ حَسبه أَنه عَالم بِالْحَقِّ مُعْتَقد لَهُ موقن بِهِ وَإِن جهل برهانه الَّذِي قد علمه غَيره وَهَذَا خلق الله عز وَجل الْإِيمَان وَالْعلم فِي نَفسه كَمَا خلقه فِي نفس الْمُسْتَدلّ وَلَا فرق قَالَ تَعَالَى {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} فسماهم داخلين فِي دينه وَإِن كَانُوا أَفْوَاجًا وَمَا شَرط الله عز وَجل قطّ أَولا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون ذَلِك باستدلال بل هَذَا شَرط من شَرط ذَلِك مِمَّن قذفه إِبْلِيس فِي قلبه وعَلى لِسَانه ليخرجه إِلَى تَكْفِير الْأمة وَلَا عجب أعجب من اطباق هَذِه الطَّائِفَة الضَّالة المخذولة على أَنه لَا يَصح لأحد إِيمَان حَتَّى يسْتَدلّ على ذَلِك وَلَا يَصح لأحد اسْتِدْلَال حَتَّى يكون شاكا فِي نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مُصدق بهَا فَإِذا كَانَ ذَلِك صَحَّ لَهُ الِاسْتِدْلَال وَإِلَّا فَلَيْسَ مُؤمنا فَهَل سمع بأحمق أَو أَدخل فِي الْحمق وَالْكفْر من قَول من قَالَ لَا يُؤمن أحد حَتَّى يكفر بِاللَّه تَعَالَى وبالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن من آمن بهما وَلم يكفر بهما قطّ فَهُوَ كَافِر مُشْرك نبرأ إِلَى الله تَعَالَى من كل من قَالَ بِهَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد فهذان طَرِيقَانِ لَا ثَالِث لَهما كل طَرِيق مِنْهَا تَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا من اتبع الَّذِي أمره الله تَعَالَى عز وَجل باتباعه وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا مُؤمن عَالم حَقًا سَوَاء اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ لِأَنَّهُ فعل مَا أمره الله تَعَالَى بِهِ ثمَّ يَنْقَسِم هَؤُلَاءِ قسمَيْنِ أَحدهمَا من لم يتبع قطّ غَيره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَوَافَقَ الْحق بِتَوْفِيق الله عز وَجل فَهَذَا فِي كل عقد اعْتقد أَجْرَانِ وَأما أَن يكون حرم موافقه الْحق وَهُوَ مُرِيد فِي أمره ذَلِك اتِّبَاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا مَعْذُور مأجور آجرا وَاحِدًا مَا لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة فيعاندها وَهَذَا نَص قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحَاكِم الْمُجْتَهد الْمُصِيب والمخطئ وَالطَّرِيق الثَّانِيَة من اتبع غير الَّذِي أمره الله باتباعه فَهَذَا سَوَاء اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ هُوَ مُخطئ ظَالِم عَاص لله تَعَالَى وَكَافِر على حسب مَا جَاءَت بِهِ الدّيانَة فِي أمره ثمَّ يَنْقَسِم هَؤُلَاءِ قسمَيْنِ أَحدهمَا أصَاب مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غير قَاصد إِلَى اتِّبَاعه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِيهِ وَالْآخر لم يصبهُ فكلاهما لَا خير فِيهِ وَكِلَاهُمَا آثم غير مأجور وَكِلَاهُمَا عَاص لله عز وَجل أَو كَافِر على حسب مَا جَاءَت بِهِ الدّيانَة من أمره لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا تَعَديا حُدُود الله عز وَجل فِيمَا أَمرهم بِهِ من ابْتَاعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَلَا ينْتَفع بإصابته الْحق إِذْ لم يصبهُ من الطَّرِيق الَّتِي لم يَجْعَل الله طلب الْحق وَأَخذه إِلَّا من قبلهَا وَقد علمنَا أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى يوافقون الْحق فِي كثير كإقرارهم بنبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وكتوحيد بَعضهم لله تَعَالَى فَمَا انتفعوا بذلك إِذْ لم يعتقدوا اتبَاعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وَسلم وَكَذَلِكَ من قلد فَقِيها فَاضلا دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ عقده أَنه لَا يتبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا إِن وَافق قَوْله قَول ذَلِك الْفَقِيه فَهَذَا فَاسق بِلَا شكّ أَن فعله غير مُعْتَقد لَهُ وَهُوَ كَافِر بِلَا شكّ أَن اعتقده بِقَلْبِه أَو نطق بِهِ بِلِسَان لمُخَالفَته قَول الله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنفي الله عز وَجل عَن أهل هَذِه الصّفة الْإِيمَان وَأقسم على ذَلِك وَنحن ننفي مَا نفي الله عز وَجل عَمَّن نَفَاهُ عَنهُ وَيقسم على ذَلِك ونوقن أننا على الْحق فِي ذَلِك وَأما من قلد فَقِيها فَاضلا وَقَالَ إِنَّمَا اتبعهُ لِأَنَّهُ اتبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا مُخطئ لِأَنَّهُ فعل من ذَلِك مَا لم يَأْمُرهُ الله تَعَالَى بِهِ وَلَا يكفر لِأَنَّهُ قَاصد إِلَى اتِّبَاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخطئ للطريق فِي ذَلِك وَلَعَلَّه مأجور بنيته أجرا وَاحِدًا مَا لم نقم الْحجَّة عَلَيْهِ بخطأ فعله فَإِن ذكرُوا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث فتْنَة الْقَبْر وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ مَا قَوْلك فِي هَذَا الرجل يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُول لَا أَدْرِي سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلنه قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا حق على ظَاهره كَمَا أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يَقُول هَذَا إِلَّا الْمُنَافِق أوالمرتاب لَا الْمُؤمن الموقن بل الْمُؤمن الموقن فِي هَذَا الحَدِيث أَنه يَقُول هُوَ عبد الله وَرَسُوله أَتَانَا بِالْهدى والنور أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ أَو أخبر عَلَيْهِ السَّلَام عَن موقن ومرتاب لَا عَن مستدل وَغير مستدل وَكَذَلِكَ نقُول أَن من قَالَ فِي نَفسه أَو بِلِسَانِهِ لَوْلَا أَنِّي نشأت بَين الْمُسلمين لم أكن مُسلما وَإِنَّمَا اتبعت من نشأت بَينهم فَهَذَا لَيْسَ مُؤمنا وَلَا موقناً وَلَا مُتبعا لمن أمره الله تَعَالَى باتباعه بل هُوَ كَافِر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا كَانَ قد يسْتَدلّ دهره كُله من لَا يوفقه الله تَعَالَى للحق وَقد يوفق من لَا يسْتَدلّ يَقِينا لَو علم أر أَبَاهُ أَو أمه أَو ابْنة أَو امْرَأَته أَو أهل الأَرْض يخالفونه فِيهِ لاستحل دِمَاءَهُمْ كلهم وَلَو خير بَين أَن يلقِي فِي النَّار وَبَين أَن يُفَارق الْإِسْلَام لاختار أَن يحرق بالنَّار على أَن يَقُول مثل هَذَا قُلْنَا فَإذْ هُوَ مَوْجُود فقد صَحَّ أَن الِاسْتِدْلَال لَا معنى لَهُ وَإِنَّمَا الْمدَار على الْيَقِين وَالْعقد فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا يضْطَر إِلَى الِاسْتِدْلَال من نازعته نَفسه إِلَيْهِ وَلم يسكن قلبه إِلَى اعْتِقَاد مَا لم يعرف برهانه فَهَذَا يلْزمه طلب الْبُرْهَان حِينَئِذٍ ليقي نَفسه نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة فَإِن مَاتَ شاكا قبل أَن يَصح عِنْده الْبُرْهَان مَاتَ كَافِرًا مخلد فِي النَّار أبدا قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ نرْجِع إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ هَل المعارف باضطرار أم باكتساب فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن المعلومات قسم وَاحِد وَهُوَ مَا عقد عَلَيْهِ المر قلبه وتيقنه ثمَّ هَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا حق فِي ذَاته قد قَامَ الْبُرْهَان على صِحَّته وَالثَّانِي لم يقم على صِحَّته برهَان وَأما مَا لم يتَيَقَّن الْمَرْء صِحَّته فِي ذَاته فَلَيْسَ عَالما بِهِ وَلَا لَهُ بِهِ علم وَإِنَّمَا هُوَ ظان لَهُ وَأما كل مَا علمه الْمَرْء ببرهان صَحِيح فَهُوَ مُضْطَر إِلَى علمه بِهِ لِأَنَّهُ لَا مجَال للشَّكّ فِيهِ عِنْده وَهَذِه صفة الضَّرُورَة وَأما الِاخْتِيَار فَهُوَ الَّذِي إِن شَاءَ الْمَرْء فعله وَإِن شَاءَ تَركه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَعلمنَا بحدوث الْعَالم وَأَن لَهُ بِكُل مَا فِيهِ خَالِقًا وَاحِدًا لم يزل لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه فِي شَيْء من الْأَشْيَاء وَالْعلم بِصِحَّة نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة كل مَا أَتَى بِهِ مِمَّا نَقله إِلَيْنَا الصَّحَابَة كلهم رَضِي الله عَنْهُم وَنَقله عَنْهُم الكواف كَافَّة بعد كَافَّة حَتَّى بلغ إِلَيْنَا أَن نَقله الْمُتَّفق على عَدَالَته مثله وَهَكَذَا حَتَّى بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كُله علم حق مُتَيَقن مَقْطُوع على صِحَّته عِنْد الله تَعَالَى لَان الْأَخْذ بِالظَّنِّ فِي شَيْء من الدّين لَا يحل قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الله تَعَالَى {أَن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} فصح أَن الدّين مَحْفُوظ لما ضمن الله عز وَجل حفظه فَنحْن على يَقِين أَنه لَا يجوز أَن يكون فِيهِ شكّ وَقد أَمر الله تَعَالَى بِقبُول خبر الْوَاحِد الْعدْل وَمن الْمحَال أَن يَأْمر الله عز وَجل بِأَن نقُول عَلَيْهِ مَا لم يقل وَهُوَ قد حرم ذَلِك أَو أَن نقُول عَلَيْهِ مَالا نعلم أَنه تَعَالَى قد حرم ذَلِك بقوله {وَإِن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} فَكل مَا أمرنَا الله عز وَجل بالْقَوْل بِهِ فَنحْن على يَقِين من أَنه من الدّين وَأَن الله تَعَالَى قد حماه من كل دخل وَكَذَلِكَ أَخذنَا بالزايد من الِاثْنَيْنِ المتعارضين وَمن الْخَبَرَيْنِ المتعارضين وَقد علمنَا صِحَة أَن الْحق فِي فعلنَا ذَلِك علم ضَرُورَة مُتَيَقن وَلَا أعجب مِمَّن يَقُول أَن خبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم وَإِنَّمَا هُوَ غَالب ظن ثمَّ نقطع بِهِ ونقول أَنه قد دخلت فِي الدّين دواخل لَا تميز من الْحق وَأَنه لَا سَبِيل إِلَى تَمْيِيز مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ فِي الدّين مِمَّا شَرعه الكذابون هَذَا أَمر نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَمن الرضاء بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما مَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْجَمَاعَات الْعَظِيمَة من أرائهم مِمَّا لم يَأْتِ بِهِ نَص عَن الله عز وَجل وَلَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ بَاطِل عِنْد الله بِيَقِين لِأَنَّهُ شرع فِي الدّين مَا لم يَأْذَن الله عز وَجل وَقَالَ على الله تَعَالَى مَا لم يقلهُ وبرهان ذَلِك أَنه قد يُعَارض ذَلِك قَول آخر قالته جماعات مثل هَذِه وَالْحق لَا يتعارض والبرهان لَا يناقضه برهَان آخر وَقد تقصينا هَذَا فِي كتَابنَا المرسوم بِكِتَاب الْأَحْكَام فِي أصُول الْأَحْكَام فأغني عَن ترداده وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكل من كَانَ من أهل الْملَل الْمُخَالفَة فبلغته معجزات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَامَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين فِي التَّوْحِيد فَهُوَ مُضْطَر إِلَى الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى وبنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ كل من قَامَ على شَيْء مَا أَي شَيْء كَانَ عِنْده برهَان ضَرُورِيّ صَحِيح وفهمه فَهُوَ مُضْطَر إِلَى التَّصْدِيق بِهِ سَوَاء كَانَت من الْملَل أَو من النَّحْل أَو من غير ذَلِك وَإِنَّمَا أنكر الْحق فِي ذَلِك أحد ثَلَاثَة إِمَّا غافل معرض عَمَّا صَحَّ عِنْده من ذَلِك مشتغل عَنهُ بِطَلَب معاشه أَو بالتزايد من مَال أَو جاه أَو صَوت أَو لَذَّة أَو عمل يَظُنّهُ صلاحاً أَو إيثارا للمشغل بِمَا يتَبَيَّن لَهُ من ذَلِك عَجزا وَضعف عقل وَقلة تَمْيِيز لفضل الْإِقْرَار بِالْحَقِّ أَو مسوف نَفسه بِالنّظرِ كَحال كل طبقَة من الطَّبَقَات الَّذين نشاهدهم فِي كل مَكَان وكل زمَان وَأما مقلد لأسلافه أَو لمن نَشأ بَينهم قد شغله حسن الظَّن بِمن قلد أَو استحسانه لما قلد فِيهِ وغمر الْهوى عقله عَن التفكير فِيمَا فهم من الْبُرْهَان قد حَال مَا ذكرنَا بَينه وَبَين الرُّجُوع إِلَى الْحق وَصرف الْهوى نَاظر قلبه عَن التفكر فِيمَا يتَبَيَّن لَهُ من الْبُرْهَان وَنَفر عَنهُ وأوحشه مِنْهُ فَهُوَ إِذا سمع برهاناً ظَاهرا لَا مدفع فِيهِ عِنْده ظَنّه من الشَّيْطَان وغالب نَفسه حَتَّى يعرض عَنهُ وَقَالَت لَهُ نَفسه لَا بُد إِن هَا هُنَا برهاناً يبطل بِهِ هَذَا الْبُرْهَان الَّذِي أسمع وَإِن كنت أَنا لَا أدريه وَهل خَفِي هَذَا على جَمِيع أهل ملتي وَأهل نحلتي أَو مذهبي أَو على فلَان وَفُلَان وَفُلَان وَلَا بُد إِنَّه قد كَانَ عِنْدهم مَا يبطلون بِهِ هَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عَام فِي أَكثر من يظنّ أَنه عَالم فِي كل مِلَّة وكل نحلة وكل مَذْهَب وَلَيْسَ وَاحِد من هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ إِلَّا وَالْحجّة قد لَزِمته وبهرته وَلكنه غلب وساوس نَفسه وحماقتها على الْحَقَائِق اللائحة لَهُ وَنصر ظَنّه الْفَاسِد على يَقِين الثَّابِت وتلاعب الشَّيْطَان بِهِ وسخر مِنْهُ فأوهمه لشهوته لما هُوَ فِيهِ أَن هَا هُنَا دَلِيلا يبطل بِهِ هَذَا الْبُرْهَان وَأَنه لَو كَانَ فلَان حَيا أَو حَاضرا لأبطل هَذَا الْبُرْهَان وَهَذَا أعظم مَا يكون من السخافة لما لَا يدْرِي وَلَا سمع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 بِهِ وَتَكْذيب لما صَحَّ عِنْده وَظهر إِلَيْهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَالثَّالِث مُنكر بِلِسَانِهِ مَا قد تَيَقّن صِحَّته بِقَلْبِه إِمَّا اسْتِدَامَة لرياسة أَو استدرار مكسب أَو طعما فِي أَحدهمَا لَعَلَّه يتم لَهُ أَو لَا يتم وَلَو تمّ لَهُ لَكَانَ خاسر الصَّفْقَة فِي ذَلِك أَو أثر غرُورًا ذَاهِبًا عَن قريب على فوز الْأَبَد أَو يفعل ذَلِك خوف أَذَى أَو عصبَة لمن خَالف مَا قد قَامَ الْبُرْهَان عِنْده أَو عَدَاوَة لقَائِل ذَلِك القَوْل الَّذِي قَامَ بِهِ عِنْده الْبُرْهَان وَهَذَا كُله مَوْجُود فِي جُمْهُور النَّاس من أهل كل مِلَّة وكل نحلة وَأهل كل رأى بل هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِم وَهَذَا أَمر يجدونه من أنفسهم فهم يغالبونها قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام أَن المعارف لَيست باضطرار وَإِن الْكفَّار لَيْسُوا مضطرين إِلَى معرفَة الْحق فِي الربوبية والنبوة أخبرونا عَن معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام هَل رفعت الشَّك جملَة عَن كل من شَاهدهَا وحسمت عللها وفصلت بَين الْحق وَالْبَاطِل فصلا تَاما أَو لَا فَإِن قَالُوا نعم أقرُّوا بِأَن كل من شَاهدهَا مُضْطَر إِلَى الْمعرفَة بِأَنَّهَا من عِنْد الله تَعَالَى حق شَاهد بِصدق من أَتَى بهَا وَرَجَعُوا إِلَى الْحق الَّذِي هُوَ قَوْلنَا وَللَّه الْحَمد وَأَن قَالُوا لَا بل الشَّك بَاقٍ فِيهَا وَيُمكن أَن تكون غير شاهدة بِأَنَّهُم محقون قطع بِأَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لم يَأْتُوا ببرهان وَإِن الشَّك بَاقٍ فِي أَمرهم وَأَن حجَّة الله تَعَالَى لم تقع على الْكفَّار وَلَا لَزِمَهُم قطّ لَهُ تَعَالَى حجَّة وَأَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِنَّمَا أَتَوا بِشَيْء رُبمَا قَامَ فِي الظَّن أَنه حق وَرُبمَا لم يقم وَهَذَا كف مُجَرّد من دَان بِهِ أَو قَالَه وَهَكَذَا نسألهم فِي الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة على آيَات التَّوْحِيد وَفِي الكواف الناقلة أَعْلَام الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَتَّى يقرُّوا بِالْحَقِّ بِأَن حجج الله تَعَالَى بِكُل مَا ظَهرت وبهرت واضطرت الْكفَّار كلهم إِلَى تصديقها والمعرفة بِأَنَّهَا حق أَو يَقُولُوا أَنه لم تقم لله حجَّة على أحد وَلَا تبين قطّ لأحد تعين صِحَة نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نَحن فِي الْإِقْرَار بذلك على ظن إِلَّا أَنه من الظنون قوي وَقد يُمكن أَن يكون بِخِلَاف ذَلِك وَمن قَالَ بِهَذَا فَهُوَ كفر مُجَرّد مَحْض شرك لَا خَفَاء بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن أنكر أَن يكون الْكفَّار وكل مُبْطل مضطرين إِلَى تَصْدِيق كل مَا قَامَ بِهِ برهَان بعد بُلُوغه إِلَيْهِم وَقَالَ أَن مَا اضْطر الْمَرْء إِلَى مَعْرفَته فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى إِنْكَاره أريناه كذب قَوْله فِي تكوين الأَرْض والأفلاك ومدار الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وتناهي مَسَافَة كل ذَلِك وَأكْثر النَّاس على إِنْكَار هَذَا وَدفعه الْحق فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ من دَان بِالْقِيَاسِ والرأي أَو دَلِيل الْخطاب وَسمع الْبَرَاهِين فِي إِبْطَالهَا فَهُوَ مُضْطَر إِلَى معرفَة بطلَان مَا هُوَ عَلَيْهِ مكابر لعقله فِي ذَلِك مغالط لنَفسِهِ مغالب ليقينه مغلب لظنونه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَعلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَعلم النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام بِصِحَّة مَا جَاءَتْهُم بِهِ الْمَلَائِكَة وأوحي إِلَيْهِم بِهِ وأروه فِي منامهم علم ضَرُورِيّ كساير مَا أدركوه بحواسهم وأوايل عُقُولهمْ وكعلمهم بِأَن أَرْبَعَة أَكثر من اثْنَيْنِ وَأَن النَّار حارة والبقل أَخْضَر وَصَوت الرَّعْد وحلاوة الْعَسَل ونتن الحلتيت وخشونة الْقُنْفُذ وَغير ذَلِك لَو لم يكن الْأَمر كَذَلِك لَكَانَ عِنْد الْمَلَائِكَة والنبيين شكا فِي أَمرهم وَهَذَا كفر مِمَّن أجَازه إِلَّا أَن الْمَلَائِكَة لَا علم لَهُم بِشَيْء إِلَّا هَكَذَا وَلَا ظن لَهُم أصلا لأَنهم لَا يخطئون وَلَا ركبُوا من طبايع متخالفة كَمَا ركب الْإِنْسَان فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا الْعلم كُله باضطرار والاضطرار فعل الله تَعَالَى فِي النُّفُوس فَكيف يُؤجر الْإِنْسَان أَو يعذب على فعل الله تَعَالَى فِيهِ قُلْنَا نعم لَا شَيْء فِي الْعَالم إِلَّا خلق الله تَعَالَى وَقد صَحَّ الْبُرْهَان بذلك على مَا أوردنا فِي كلامنا فِي خلق الْأَفْعَال فِي ديواننا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمَا نقل حَافظ نصا وَلَا برهَان عقل بِالْمَنْعِ من أَن يعذبنا الله تَعَالَى ويؤجرنا على مَا خلق فِينَا وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَيف يُنكر أهل الْغَفْلَة أَن يكون قوم يخالفون مَا هم إِلَى الْمعرفَة بهم مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الَّذين يبطلون الْحَقَائِق جملَة وكما يعْتَقد النَّصَارَى وهم أُمَم لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا خالقهم ورازقهم ومضلهم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَفِيهِمْ عُلَمَاء بعلوم كَثِيرَة وملوك لَهُم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة والآراء المحكمة والفطنة فِي دقائق الْأُمُور وبصر بغوامضها وهم مَعَ ذَلِك يَقُولُونَ أَن وَاحِدًا ثَلَاثَة وَثَلَاثَة وَاحِد وَأَن أحد الثَّلَاثَة أَب وَالثَّانِي ابْن وَالثَّالِث روح وَأَن الْأَب هُوَ الابْن وَلَيْسَ هُوَ الابْن وَالْإِنْسَان هُوَ الْإِلَه وَهُوَ غير إِلَه وَابْن الْمَسِيح إِلَه تَامّ وإنسان تَامّ وَهُوَ غَيره وَإِن الأول الَّذِي لم يزل هُوَ الْمُحدث الَّذِي لم يكن وَلَا هُوَ هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ فِي الْجُنُون أَكثر من هَذَا واليعقوبية مِنْهُم وهم مئتين أُلُوف يَعْتَقِدُونَ الْبَارِي تَعَالَى عَن كفرهم ضرب بالسياط واللطام وصلب وَنحر وَمَات وَسَقَى الحنظل وَبَقِي الْعَالم ثَلَاثَة أَيَّام بِلَا مُدبر وكأصحاب الْحُلُول وغالية الرافضة الَّذين يَعْتَقِدُونَ فِي رجل جَالس مَعَهم كالحلاج وَابْن أبي الْعِزّ أَنه الله والإله عِنْدهم قد يَبُول ويسلح ويجوع فيأكل ويعطش فيشرب ويمرض فيسوقون إِلَيْهِ الطَّبِيب ويقلع ضرسه إِذا ضرب عَلَيْهِ ويتضر إِذا أَصَابَهُ دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد وَهُوَ الله الَّذِي لم يزل وَلَا يزَال خَالق هَذَا الْعَالم كُله ورازقه ومحيصه ومدبره ومدبرا لأفلاك المميت المحيي الْعَالم بِمَا فِي الصُّدُور ويصبر وَفِي جنب هَذَا الِاعْتِقَاد على السجون والمطابق وَضرب السِّيَاط وَقطع الْأَيْدِي والأرجل وَالْقَتْل والصلب وهتك الْحَرِيم وَفِيهِمْ قُضَاة وَكتاب وتجاورهم الْيَوْم الرف وكما يَدعِي طوائف الْيَهُود وَطَوَائِف من الْمُسلمين أَن رَبهم تَعَالَى جَسَد فِي صُورَة الْإِنْسَان لحم وَدم يمشي وَيقْعد كالأشعرية الَّذين يَقُولُونَ إِن هَا هُنَا أحوالاً لَا مخلوقة وَلَا غير مخلوقة وَلَا مَعْلُومَة وَلَا مَجْهُولَة وَلَا حق وَلَا بَاطِل وَأَن النَّار لَيست حارة والثلج لَيْسَ بَارِد وكما يَقُول بعض الْفُقَهَاء وَأَتْبَاعه أَن رجلا وَاحِدًا يكون ابْن رجلَيْنِ وَابْن امْرَأتَيْنِ كل وَاحِد مِنْهُمَا أمه وَهُوَ ابْنهَا بِالْولادَةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَتَرَى كل من ذكرنَا لَا تشهد نَفسه وحسه وَلَا يقر عقله بِأَن كل هَذَا ابطل بلَى وَالَّذِي خلقهمْ وَلَكِن الْعَوَارِض الَّتِي ذكرنَا قبل سهلت عَلَيْهِم هَذَا الِاخْتِلَاط وكرهت عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الْحق والإذعان لَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما العناد فقد شَاهَدْنَاهُ من كل مَا رَأَيْنَاهُ فِي المناظرة فِي الدّين وَفِي الْمُعَامَلَات فِي الدُّنْيَا أَكثر من أَن يحصي مِمَّن يعلم الْحق يَقِينا ويكابر على خِلَافه ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ونسأله الْهدى والعصمة قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا يدْرك الْحق من طَرِيق الْبُرْهَان إِلَّا من صفى عقله وَنَفسه من الشواغل الَّتِي قدمنَا وَنظر من الْأَقْوَال كلهَا نظرا وَاحِدًا واستوت عِنْده جَمِيع الْأَقْوَال ثمَّ نظر فِيهَا طَالبا لما شهِدت الْبَرَاهِين الراجعة رُجُوعا صَحِيحا غَيره مموه ضَرُورِيًّا إِلَى مُقَدمَات مَأْخُوذَة من أوايل الْعقل والحواس غير مسامح فِي شَيْء من ذَلِك فَهَذَا مَضْمُون لَهُ بعون الله عز وَجل الْوُقُوف على الْحَقَائِق والخلاص من ظلمَة الْجَهْل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما نَقله اثْنَان فَصَاعِدا نوقن أَنَّهُمَا لم يجتمعا وَلَا تساررا فَأخْبر بِخَبَر وَاحِد رَاجع إِلَى مَا أدْركهُ بالحواس من أَي شَيْء كَانَ فَهُوَ حق بِلَا شكّ مَقْطُوع على حيته وَالنَّفس مضطرة إِلَى تَصْدِيقه وَهَذَا قَول أحد الكافة وأولها إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ إِنْفَاق اثْنَيْنِ فِي وليد حَدِيث وَاحِد لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ عَن غير تواطؤ وَأما إِذا تواطأت الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة فقد تَجْتَمِع على الْكَذِب وَقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إِلَّا أَن هَذَا لَا يُمكن أَن ينفقوا على ظَنّه أبدا وَمن أنكر مَا تنقله الكافة لزمَه أَن لَا يصدق أَنه كَانَ فِي الدُّنْيَا أحد قبله لِأَنَّهُ لَا يعرف كَون النَّاس إِلَّا بالْخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد يضْطَر خبر الْوَاحِد فِي بعض الْأَوْقَات إِلَى التَّصْدِيق يعرف ذَلِك من تدبر أُمُور نَفسه كمتذر يَمُوت إِنْسَان لدفنه وكرسالة من عِنْد السُّلْطَان يَأْتِي بهَا بريد وككتاب وَارِد من صديق بديهة وكمخبر يُخْبِرك أَن هَذَا دَار فلَان وكمنذر بعرس عِنْد فلَان وكرسول من عِنْد القَاضِي وَالْحَاكِم وَسَائِر ذَلِك من أَخْبَار بِأَن هَذَا فلَان بن فلَان وَمثل هَذَا كثير جدا وَهَذَا لَا يَنْضَبِط بِأَكْثَرَ مِمَّا يسمع وَمن رَاعى هَذَا الْمَعْنى لم يمض لَهُ يَوْم وَاحِد قطعا حَتَّى يُشَاهد فِي منزله وخارج منزله من خبر وَاحِد مَا يضْطَر إِلَى تَصْدِيقه وَلَا بُد كثيرا جدا وَأما فِي الشَّرِيعَة فخبر الْوَاحِد الثِّقَة مُوجب للْعلم وبرهان شَرْعِي قد ذَكرْنَاهُ فِي كتَابنَا الْأَحْكَام لأصول الْأَحْكَام وَقد ادّعى المخالفون أَن مَا اتّفقت عَلَيْهِ أمتنَا بآرائها فَهِيَ معصومة بِخِلَاف سَائِر الْأُمَم وَلَا رهان على هَذَا وَقَالَ النظام أَن خبر التَّوَاتُر لَا يضْطَر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَالْكذب وَكَذَلِكَ يجوز على جَمِيعهم وَمن الْمحَال أَن يجْتَمع مِمَّن يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب وَمِمَّنْ يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب من لَا يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب وَنظر ذَلِك بأعمى وأعمى وأعمي فَلَا يجوز أَن يجْتَمع مبصرون قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تنظير فَاسد لِأَن الْأَعْمَى لَيْسَ فِيهِ شَيْء من صِحَة الْبَصَر وَلَيْسَ كَذَلِك المخبرون لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَمَا يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب كَذَلِك يجوز عَلَيْهِ الصدْق وَيَقَع مِنْهُ وَقد علم بضرورة الْعقل أَن اثْنَيْنِ فَصَاعِدا إِذا فرق بَينهمَا لم يُمكن الْبَتَّةَ مِنْهُمَا أَن يتَّفقَا على توليد خبر كَاذِب يتفقان فِي لَفظه وَمَعْنَاهُ فصح أَنَّهُمَا إِذا أخبرا بِخَبَر فاتفقا فِيهِ أَنَّهُمَا أخبرا عَن علم صَحِيح مَوْجُود عِنْدهمَا وَمن أنكر هَذَا لزمَه أَن لَا يصدق بِشَيْء من الْبِلَاد الغائبة عَنهُ وَلَا بالملوك السالفين وَلَا بالأنبياء وَهَذَا خُرُوج إِلَى الْجُنُون بِلَا شكّ أَو إِلَى المكابرة فِي الْحس وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ أجزتم هَهُنَا إِطْلَاق اسْم الضَّرُورَة والاضطرار ومنعتم من ذَلِك فِي أَفعَال الفاعلين عِنْد ذكركُمْ الِاسْتِطَاعَة وَخلق الله تَعَالَى أَفعَال الْعباد وكل ذَلِك عنْدكُمْ خلق الله تَعَالَى فِي عباده قُلْنَا أَن الْفرق بَين الْأَمريْنِ فِي ذَلِك لائح وَهُوَ أَن الْفَاعِل متوهم مِنْهُ ترك فعله لَو اخْتَار تَركه وممكن مِنْهُ ذَلِك وَلَيْسَ مُمكنا مِنْهُ اعْتِقَاد خلاف مَا تيقنه بِأَن يرفع عَن نَفسه تَحْقِيق مَا عرف أَنه أَحَق فَهَكَذَا أَو قعناها هُنَا اسْم الِاضْطِرَار ومنعناه مِنْهُ هُنَالك وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد الْكَلَام على من قَالَ بتكافؤ الْأَدِلَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى القَوْل بتكافؤ الْأَدِلَّة وَمعنى هَذَا أَنه لَا يُمكن نصر مَذْهَب على مَذْهَب وَلَا تَغْلِيب مقَالَة على مقَالَة حَتَّى يلوح الْحق من الْبَاطِل ظَاهر بَينا لَا إِشْكَال فِيهِ بل دَلَائِل كل مقَالَة فَهِيَ مكائنه لدلائل سَائِر المقالات وَقَالُوا كل مَا ثَبت بالجدل فَإِنَّهُ بالجدل ينْقض وانقسم هَؤُلَاءِ إِلَى أَقسَام ثَلَاثَة فِيمَا أنتجه لَهُم هَذَا الأَصْل فطائفة قَالَت بتكافؤ الْأَدِلَّة جملَة فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ فَلم تحقق الْبَارِي تَعَالَى وَلَا أبطلته وَلَا أَثْبَتَت النُّبُوَّة وَلَا أبطلتها وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْأَدْيَان والأهواء لم تثبت شَيْئا من ذَلِك وَلَا أبطلته إِلَّا أَنهم قَالُوا إننا نوقن أَن الْحق فِي أحد هَذِه الْأَقْوَال بِلَا شكّ إِلَّا أَنه غير بَين إِلَى أحد الْبَتَّةَ وَلَا ظَاهر وَلَا متميز اصلا قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن يُونُس الْأَعْوَر الطَّبِيب الْيَهُودِيّ تدل أَقْوَاله ومناظراته دلَالَة صَحِيحَة على أَنه كَانَ يذهب إِلَى هَذَا القَوْل لاجتهاده فِي نصر هَذِه الْمقَالة وَإِن كَانَ غير مُصَرح بِأَنَّهُ يعتقدها وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى بتكافؤ الْأَدِلَّة فِيمَا دون الْبَارِي تَعَالَى فَأثْبت الْخَالِق تَعَالَى وَقطعت بِأَنَّهُ حق خَالق لكل مَا دونه بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ ثمَّ لم نحقق النُّبُوَّة وَلَا أبطلتها وَلَا حققت دين مِلَّة وَلَا أبطلته لَكِن قَالَت أَن فِي هَذِه الْأَقْوَال قولا صَحِيحا بِلَا شكّ إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 أَنه غير ظَاهر إِلَى أحد وَلَا بَين وَلَا كلفه الله تَعَالَى أحدا وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن القراد الطَّبِيب الْيَهُودِيّ يذهب إِلَى هَذَا القَوْل يَقِينا وَقد ناظرنا عَلَيْهِ مُصَرحًا بِهِ وَكَانَ يَقُول إِذا دعوناه إِلَى الْإِسْلَام وحسمنا شكوكه ونفضنا علله الِانْتِقَال فِي الْملَل تلاعب قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكرلنا عَن قوم من أهل النّظر والرياسة فِي الْعلم هَذَا القَوْل إِلَّا أننا لم يثبت ذَلِك عندنَا عَنْهُم وَطَائِفَة قَالَت بتكافؤ الْأَدِلَّة فِيمَا دون الْبَارِي عز وَجل وَدون النُّبُوَّة فَقطعت أَن الله عز وَجل حق وَأَنه خَالق الْخلق وَأَن النُّبُوَّة حق وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا ثمَّ لم يغلب قولا من من أَقْوَال أهل الْقبْلَة على قَول بل قَالُوا أَن فِيهَا قولا هُوَ الْحق بِلَا شكّ إِلَّا أَنه غير بَين إِلَى أَحْمد وَلَا ظَاهر وَأما الْأَقْوَال الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا فِيمَا يثبتوا عَلَيْهَا مِنْهَا فطائفة لَزِمت الْحيرَة وَقَالَت لَا نَدْرِي مَا نعتقد وَلَا يمكننا أَخذ مقَالَة لم يَصح عندنَا دون غَيرهَا مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا لَكنا لَا ننكر شَيْئا من ذَلِك وَلَا نثبته وَجُمْهُور هَذِه الطَّائِفَة مَالَتْ إِلَى اللَّذَّات وأمراح النُّفُوس فِي الشَّهَوَات كَيفَ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ بطبايعها وَطَائِفَة قَالَت على الْمَرْء فرض لموجب الْعقل أَلا يكون سداً بل يلْزمه وَلَا بُد أَن يكون لَهُ دين برد جربه عَن الظُّلم والقبائح وَقَالُوا من لَا دين لَهُ فَهُوَ غير مَأْمُور فِي هَذَا الْعَالم على الْإِفْسَاد وَقتل النُّفُوس غيلَة وجهراً وَأخذ الْأَمْوَال خِيَانَة وعصياً والتعدي على الْفروج تحيلاً وَعَلَانِيَة وَفِي هَذَا هَلَاك الْعَالم بأسره وَفَسَاد البنية وانحلال النظام وَبطلَان الْعُلُوم والفضائل كلهَا الَّتِي تَقْتَضِي الْعُلُوم يلْزمهَا وَهَذَا هُوَ الْفساد الَّذِي توجب الْعُقُول التَّحَرُّز مِنْهُ واجتنابه قَالُوا فَمن لَا دين لَهُ فَوَاجِب على كل من قدر على قَتله أَن يُسَارع إِلَى قَتله وإراحة الْعَالم مِنْهُ وتعجيل استكفاف ضره لِأَنَّهُ كالأفعى وَالْعَقْرَب أَو أضرّ مِنْهُمَا ثمَّ انقسم هَؤُلَاءِ قسمَيْنِ قَالَت طَائِفَة فَإِذا الْأَمر كَذَلِك فَوَجَبَ على الْإِنْسَان لُزُوم الدّين الَّذِي نَشأ عَلَيْهِ أَو ولد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الدّين الَّذِي تخيره الله لَهُ فِي مبدأ خلقه ومبدأ نشأته بِيَقِين وَهُوَ الَّذِي أثْبته الله عَلَيْهِ فَلَا يحل لَهُ الْخُرُوج عَمَّا رتبه الله تَعَالَى فِيهِ وابتداه عَلَيْهِ أَي دين كَانَ وَهَذَا كَانَ قَول إِسْمَاعِيل بن القداد وَكَانَ يَقُول من خرج من دين إِلَى دين فَهُوَ وقاح متلاعب بالأديان عَاص لله عز وَجل المتعبد لَهُ بذلك الدّين وَكَانَ يَقُول بِالْمَسْأَلَة الْكُلية وَمعنى ذَلِك أَلا يبْقى أحد دون دين يَعْتَقِدهُ على مَا ذكرنَا آنِفا وَقَالَت طَائِفَة لَا عذر للمرء فِي لُزُوم دين أَبِيه وجده أَو سَيّده وجاره وَلَا حجَّة فِيهِ لَكِن الْوَاجِب على كل أحد أَن يلْزم مَا اجْتمعت الديانَات بأسرها والعقول بكليتها على صِحَّته وتفضيله فَلَا يقتل أحدا وَلَا يَزْنِي وَلَا يلوط وَلَا يبغ بِهِ وَلَا يسع فِي إِفْسَاد حُرْمَة أحد وَلَا يسرق وَلَا يغصب وَلَا يظلم وَلَا يجر وَلَا يحن وَلَا يغش وَلَا يغتب وَلَا ينم وَلَا يسفه وَلَا يضْرب أحدا وَلَا يستطيل عَلَيْهِ وَلَكِن يرحم النَّاس وَيتَصَدَّق وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة ويؤمن النَّاس شَره ويعين الْمَظْلُوم وَيمْنَع مِنْهُ فَهَذَا هُوَ الْحق بِلَا شكّ لِأَنَّهُ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من الديانَات كلهَا ويتوقف عَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ لَيْسَ علينا غير هَذَا لِأَنَّهُ لم يلح لنا الْحق فِي شَيْء مِنْهُ دون غَيره قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ أصولهم ومعاقدهم وَأما احتجاجهم فِي ذَلِك فَهُوَ أَنهم قَالُوا وجدنَا الديانَات والآراء والمقالات كل طَائِفَة تَدعِي أَنَّهَا إِنَّمَا اعتقدت مَا اعتقدته عَن الأوايل وبراهين باهرة وكل طَائِفَة مِنْهَا تناظر الْأُخْرَى فتنتصف مِنْهَا وَرُبمَا غلبت هَذِه فِي مجْلِس ثمَّ غلبتها الْأُخْرَى فِي مجْلِس آخر على حسب قُوَّة نظر المناظر وَقدرته على الْبَيَان والتحلل والتشعب لَهُم فِي ذَلِك كالمنحازين يكون الظفر سجالاً بَينهم قَالُوا فصح أَنه لَيْسَ هَا هُنَا قَول ظَاهر الغلية وَلَو كَانَ لما أشكل على أحد وَلم يخْتَلف النَّاس فِي ذَلِك كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدركوه بحواسهم وبداية عُقُولهمْ وكما لم يَخْتَلِفُوا فِي الْحساب وَفِي كل شَيْء عَلَيْهِ برهَان لايح قَالُوا وَمن الْمحَال أَن يَبْدُو الْحق إِلَى النَّاس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 فعاندوه فَلَا معنى ويرضوا بِالْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِلَا سَبَب قَالُوا فَلَمَّا بَطل هَذَا صَحَّ أَن كل طَائِفَة إِنَّمَا تتبع أما مَا نشأت عَلَيْهِ وَأما مَا يخيل لأَحَدهم أَنه الْحق دون تثبيت وَلَا يَقِين قَالُوا وَهَذَا مشَاهد من أهل كل مِلَّة وَإِن كَانَ فِيهَا مَا لَا شكّ فِي سخافته وبطلانه وَقَالُوا أَيْضا إِنَّا نرى الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة قد طلبُوا علم الفلسفة وتبحروا ووسموا أنفسهم بِالْوُقُوفِ على الْحَقَائِق وبالخروج عَن جملَة الْعَامَّة وبأنهم قد اشرفوا على الصَّحِيح بالبراهين وميزو من الشغب والإقناع ونجد آخَرين قد تمهروا فِي علم الْكَلَام وأفنوا فِيهِ دهرهم ورسخوا فِيهِ وفخروا بِأَنَّهُم قد وقفُوا على الدلايل الصِّحَاح وميزوها من الْفَاسِدَة وَأَنَّهُمْ قد لَاحَ لَهُم الْفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل والحجج والإنصاف ثمَّ نجدهم كلهم يَعْنِي جمع هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ فلسفتهم وَكَلَامهم فِي أديانهم الَّتِي يقرونَ أَنَّهَا نجاتهم أَو هلكتهم مُخْتَلفين كاختلاف الْعَامَّة وَأهل الْجَهْل بل أَشد اخْتِلَافا فَمن يَهُودِيّ يَمُوت على يَهُودِيَّته وَنَصْرَانِي يتهالك عل نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته وَمُسلم يستقتل فِي إِسْلَامه ومنافي يستهلك فِي مانونيته ودهري يَنْقَطِع فِي دهريته قد اسْتَوَى العامى الْمُقَلّد من كل طَائِفَة فِي ذَلِك مَعَ الْمُتَكَلّم الماهر الْمُسْتَدلّ بِزَعْمِهِ ثمَّ نجد أهل هَذِه الْأَدْيَان فِي فرقهم أَيْضا كَذَلِك سَوَاء سَوَاء فَإِن كَانَ يَهُودِيّا فاما رباني يتقد غيظاً على سَائِر فرق دينه وَأما صائبي يلعن سَائِر فرق دينه وَأما عيسوي يسخر من سَائِر فرق دينه وَأما سامري يبرأ من سَائِر فرق دينه وَإِن كَانَ نَصْرَانِيّا فإمَّا ملكي يتهالك غيظاً على سَائِر فرق دينه وَأما نسطوري يقداسنا على سَائِر فرق دينه وَأما يعقوبي يسْخط على سَائِر فرق دينه وَإِن كَانَ مُسلما فإمَّا خارجي يسْتَحل دِمَاء سَائِر أهل مِلَّته وَأما معتزلي يكفر سَائِر فرق مِلَّته وَأما شيعي لَا يتَوَلَّى سَائِر فرق مِلَّته وَأما مرجئي لَا يرضى عَن سَائِر فرق مِلَّته وَأما سني ينافر فرق مِلَّته قد اسْتَوَى فِي ذَلِك الْعَاميّ والمقلد الْجَاهِل والمتكلم بِزَعْمِهِ الْمُسْتَدلّ وكل امْرِئ من متكلمي الْفرق الَّتِي ذكرنَا يَدعِي أَنه إِنَّمَا أَخذ مَا أَخذ وَترك مَا ترك ببرهان وَاضح ثمَّ هَكَذَا نجدهم حَتَّى فِي الْفتيا إِمَّا حنيفي يُجَادِل عَن حنيفيته وَإِمَّا مالكي يُقَاتل عَن مالكيته وَإِمَّا شَافِعِيّ يناضل عَن شافعيته وَإِمَّا حنبلي يضارب عَن حنبليته وَإِمَّا ظاهري يحارب ظاهريته وَإِمَّا متحير مستدل فهنالك جَاءَ التجازب حَتَّى لَا يتَّفق اثْنَان مِنْهُم على مائَة مَسْأَلَة إِلَّا فِي الندرة وكل امْرِئ مِمَّن ذكرنَا يزرى على الآخرين وَكلهمْ يَدعِي أَنه أشرف على الْحَقِيقَة وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بالدهر أَيْضا متباينون متنابذون مُخْتَلفُونَ فِيمَا بَينهم فَمن مُوجب أَن الْعَالم لم يزل وَإِن لَهُ فَاعِلا لم يزل وَمن مُوجب إزالية الْفَاعِل وَأَشْيَاء أخر مَعَه وَأَن سَائِر الْعَالم محدوث وَمن مُوجب إزالية الْفَاعِل وحدوث الْعَالم أمبطل للنبوات كلهَا كَمَا اخْتلف سَائِر أهل النَّحْل أَولا فرق قَالُوا فصح أَن جَمِيعهم إِمَّا مُتبع للَّذي نَشأ عَلَيْهِ والنحلة الَّتِي تربي عَلَيْهَا وَإِمَّا مُتبع لهواه قد تخيل لَهُ أَنه الْحق فهم على مَا ذكرنَا دون تَحْقِيق قَالُوا فَلَو كَانَ للبرهان حَقِيقَة لما اخْتلفُوا فِيهِ هَذَا الِاخْتِلَاف ولبان على طول الْأَيَّام وكرور الزَّمَان ومرور الدهور وتداول الأجيال لَهُ وَشدَّة الْبَحْث وَكَثْرَة ملاقاة الْخُصُوم ومناظراتهم وإفنائهم الْأَوْقَات وتسويدهم الْقَرَاطِيس واستنفاذ وسمعهم وَجَهْدهمْ أَيْن الْحق فيرتفع الْإِشْكَال بل الْأَمر وَاقِف بِحَسبِهِ أمتزيد فِي الِاخْتِلَاف وحدوث التجاذب وَالْفرق قَالُوا وَأَيْضًا فَإنَّا نرى الْمَرْء الْفَهم الْعَالم النَّبِيل الْمُتَيَقن فِي عُلُوم الفلسفة وَالْكَلَام وَالْحجاج المستنفذ لعمره فِي طلب الْحَقَائِق المؤثرة للبحث عَن الْبُرْهَان على كل مَا سواهُ من لَذَّة أَو مَال أَو جَاءَ المستفرغ لقُوته فِي ذَلِك النافر عَن التَّقْلِيد يعْتَقد مقَالَة وَمَا يناظر عَنْهَا ويحاجج دونهَا ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجداً فِي ذَلِك موقناً بصوابه وَخطأ من خَالفه منافراً لَهُ مضللاً أَو مكفراً فَيبقى كَذَلِك الدَّهْر الطَّوِيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 والأعوام الجمة ثمَّ تبدو لَهُ بادية عَنْهَا فَيرجع أَشد مَا كَانَ عَدَاوَة لما كَانَ ينصر وَلَا هَل لَك الْمقَالة الَّتِي كَانَ يدين بِصِحَّتِهَا وينصرف يُقَاتل فِي إِبْطَالهَا ويناظر فِي إفسادها ويعتقد من ضلالها وضلال أَهلهَا الَّذِي كَانَ يعْتَقد من صِحَّتهَا ويعجب الْآن من نَفسه أمس وَرُبمَا عَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَو خرج إِلَى قَول ثَالِث قَالُوا فَدلَّ هَذَا على فَسَاد الْأَدِلَّة وعَلى تكافؤها جملَة وَإِن كل دَلِيل فَهُوَ هَادِم الآخر كِلَاهُمَا بهدم صَاحبه وَقَالُوا أَيْضا لَا يَخْلُو من حقق شَيْئا فَمن هَذِه الديانَات أَو المقالات من أَن يكون صَحَّ لَهُ أَو لم يَصح لَهُ وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث قَالُوا فَإِن كَانَ لم يَصح لَهُ بِأَكْثَرَ من دَعْوَاهُ أَو من تَقْلِيده مُدعيًا فَلَيْسَ هُوَ أولى من غَيره بِالصَّوَابِ وَإِن كَانَ صَحَّ لَهُ فَلَا يَخْلُو من أَن يكون صَحَّ لَهُ بالحواس أَو بَعْضهَا أَو بضرورة الْعقل وبديهيته أَو صَحَّ لَهُ بِدَلِيل مَا غير هذَيْن وَلَا سَبِيل إِلَى قسم رَابِع فَإِن كَانَ صَحَّ لَهُ بالحواس أَو بِبَعْضِهَا أَو بضرورة الْعقل وبديهته فَيجب أَن لَا يخْتَلف فِي ذَلِك أحد كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدْرك بالحواس وبديهة الْعقل من أَن ثلثة أَكثر من اثْنَيْنِ وَأَنه لَا يكون الْمَرْء قَاعِدا قَائِما مَعًا بِالْعقلِ فَلم يبْق إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه صَحَّ لنا بِدَلِيل غير الْحَواس فنسألهم عَن ذَلِك الدَّلِيل بِمَاذَا صَحَّ عنْدكُمْ بِالدَّعْوَى فلستم بِأولى من غَيْركُمْ فِي دَعْوَاهُ أم بالحواس وبديهة الْعقل فَكيف خولفتهم فِيهِ هَذَا وَلَا يخْتَلف فِي مدركاته أحد أم بِدَلِيل غير ذَلِك وَهَكَذَا أبدا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ قَالُوا وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ قَالُوا ونسألهم أَيْضا عَن علمهمْ بِصِحَّة مَا هم عَلَيْهِ أيعلمون أَنهم يعلمُونَ ذَلِك أم لَا فَإِن قَالُوا لَا نعلم ذَلِك أحالوا وَسقط قَوْلهم وكفونا مؤونتهم لأَنهم يقرونَ أَنهم لَا يعلمُونَ أَنهم يعلمُونَ مَا علمُوا وَهَذَا هوس وإفساد لما يعتقدونه وَإِن قَالُوا بل نعلم ذَلِك سألناهم أبعلم علمُوا ذَلِك أم بِغَيْر علم وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون للْعلم علم ولعلم الْعلم علم إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا عِنْدهم محَال قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا موهوا بِهِ مَا نعلم لَهُم شغباً غير مَا ذكرنَا وَلَهُم مُتَعَلق سَوَاء أصلا بل قد زدناهم فَمَا رَأينَا لَهُم وتقصيناه لَهُم بغاية الْجهد كَمَا فعلنَا بِأَهْل كل مقَالَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا الَّذِي موهوا بِهِ منحل بِيَقِين ومنتقض بأبين برهَان بِلَا كثير كلفة وَلم تَجِد أحدا من الْمُتَكَلِّمين السالفين أورد بَابا خَالِصا فِي النَّقْض على هَذِه الْمقَالة وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى ننقض كل مَا موهوا بِهِ بالبراهين الْوَاضِحَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذَلِكَ بعد أَن نبين فَسَاد معاقد هَذِه الطوائف الْمَذْكُورَة إِن شَاءَ الله عز وَجل قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أما الطَّائِفَة الْمُتَحَيِّرَة فقد شهِدت على أَنْفسهَا بِالْجَهْلِ وكفت خصومها مؤنتها فِي ذَلِك وَلَيْسَ جهل من جهل حجَّة على علم من علم وَلَا من لم يتَبَيَّن لَهُ الشَّيْء غباراً على من تبين لَهُ بل من علم فَهُوَ الْحجَّة على من جهل هَذَا هُوَ الَّذِي لَا يشك أحد فِيهِ فِي جَمِيع الْعُلُوم والصناعات وكل مَعْلُوم يُعلمهُ قوم ويجهله قوم وَلَا أَحمَق مِمَّن يَقُول لما جهلت أَنا أَمر كَذَا وَلم أعرفهُ علمت أَن كل أحد جَاهِل لَهُ كجهل وَهَذِه صفة هَؤُلَاءِ الْقَوْم نَفسهَا وَلَو سَاغَ هَذَا لأحد لبطلت الْحَقَائِق وَجَمِيع المعارف وَجَمِيع الصناعات إِذْ لكل شَيْء مِنْهَا من يجهله من النَّاس نعم وَمن لَا يتحجج فِيهِ وَلَا يفهمهُ وَإِن طلبه هَذَا أَمر مشَاهد بالحواس فهم قد أقرُّوا بِالْجَهْلِ وندعي نَحن الْعلم بِحَقِيقَة مَا اعْتَرَفُوا بجهلهم بِهِ فَالْوَاجِب عَلَيْهِم أَن ينْظرُوا فِي براهين المدعين للمعرفة بِمَا جهلوه نظرا صَحِيحا مُقْتَضى بِغَيْر هوى فَلَا بُد يَقِينا من أَن يلوح حَقِيقَة قَول المحق وَبطلَان قَول الْمُبْطل فتزول عَنْهُم الْحيرَة وَالْجهل حِينَئِذٍ فَسَقَطت هَذِه الْمقَالة بِيَقِين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما من قطع بِأَن لَيْسَ هَا هُنَا مَذْهَب صَحِيح أصلا فَإِن قَوْله ظَاهر الْفساد بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ لأَنهم أثبتوا حَقِيقَة وجود الْعَالم بِمَا فِيهِ وَحَقِيقَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 مَا يدْرك بالحواس وبأول الْعقل وبديهته ثمَّ لم يصححوا حُدُوثه وَلَا أزليته وَلَا أبطلوا حُدُوثه وأزليته مَعًا وَلم يصححوا أَن لَهُ خَالِقًا وَلَا أَنه لَا خَالق لَهُ وأبطلوا كلا الْأَمريْنِ وأبطلوا النُّبُوَّة وأبطلوا إبطالهما فقد خَرجُوا يَقِينا إِلَى الْمحَال وَإِلَى أقبح قَول السوفسطائية وفارقوا بديهة الْعقل وضرورته الَّتِي قد حققوها وَصَدقُوا مُوجبهَا إِذْ لَا خلاف بَين أحد لَهُ مسكة عقل فِي أَن كل مَا لم يكن حَقًا فَهُوَ بَاطِل وَمَا لم يكن بَاطِلا فَإِنَّهُ حق وَإِن اثْنَيْنِ قَالَ أَحدهمَا فِي قَضِيَّة وَاحِدَة فِي حكم وَاحِد قَالَ نعم وَالْآخر لَا فأحدهما صَادِق بِلَا شكّ وَالْآخر كَاذِب بِلَا شكّ هَذَا يعلم بضرورة الْعقل وبديهته وَأما قَول قَائِل هَذَا حق بَاطِل مَعًا من وَجه وَاحِد فِي وَقت وَاحِد وَقَول من قَالَ لَا حق وَلَا بَاطِل فَهُوَ بَين بَاطِل مَعْلُوم بضرورة الْعقل وبديهته فَوَاجِب بإقرارهم أَن من قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَقَالَ الآخر هُوَ مُحدث أَن أَحدهمَا صَادِق بِلَا شكّ وَكَذَلِكَ من أثبت النُّبُوَّة وَمن نفاها فَظهر بِيَقِين وضرورة الْعقل يَقِينا فَسَاد هَذِه الْمقَالة إِلَّا أَن يبطلوا الْحَقَائِق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حِينَئِذٍ بِمَا تكلم بِهِ السوفسطائية مِمَّا ذَكرْنَاهُ من قبل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من مَال إِلَى اللَّذَّات جملَة فَإِنَّهُ إِن كَانَ من إِحْدَى هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ فقد بَطل عقده وَصَحَّ يَقِينا أَنه على ضلال وَخطأ وباطل وَفَسَاد فِي أصل معتقده الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى الإنهماك وَإِذا بَطل شَيْء بِيَقِين قد بَطل مَا تولد مِنْهُ وَإِن مَال إِلَى أحد الْأَقْوَال الآخر فَكلهَا مُبْطل للُزُوم اللَّذَّات والإنهماك فصح ضَرُورَة بطلَان هَذِه الطَّرِيقَة وَإِن صَار إِلَى تَحْقِيق الدهرية كلم بِمَا تكلم بِهِ الدهرية مِمَّا قد أوضحناه وَالْحَمْد لله وَأما من قَالَ بإلزام الْمَرْء دين سلفه وَالدّين الَّذِي نَشأ عَلَيْهِ فخطأ لَا خَفَاء بِهِ لأننا نقُول لمن قَالَ بِوُجُوب ذَلِك ولزومه أخبرنَا من أوجبه وَمن ألزمهُ فالإيجاب والإلزام يَقْتَضِي فَاعِلا ضَرُورَة وَلَا بُد مِنْهَا فَمن ألزم مَا ذكرْتُمْ من أَن يلْزم الْمَرْء دين سلفه أَو الدّين الَّذِي نَشأ عَلَيْهِ الله ألزم ذَلِك جَمِيع عباده أم غير الله تَعَالَى أوجب ذَلِك إِمَّا إِنْسَان وَإِمَّا عقل وَإِمَّا دَلِيل فَإِن قَالَ بل مَا ألزم ذَلِك إِلَّا من دون الله تَعَالَى قيل لَهُ إِن من دون الله تَعَالَى معصي مُخَالف مرفوض لَا حق لَهُ وَلَا طَاعَة إِلَّا من أوجب الله عز وَجل لَهُ فَيلْزم طَاعَته لِأَن الله أوجبهَا لَا لِأَنَّهَا وَاجِبَة بذاتها وَلَيْسَ من أوجب شَيْئا من دون الله تَعَالَى بِأولى من آخر أبطل مَا أوجب هَذَا وَأوجب بُطْلَانه وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل وَلَا ينقاد للُزُوم من دون الله تَعَالَى إِلَّا جَاهِل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد وَلَا فرق وَإِن قَالَ إِن الْعقل ألزم ذَلِك قيل لَهُ أَنَّك تَدعِي الْبَاطِل على الْعقل إِذا دعيت عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي بنيته لِأَن الْعقل لَا يُوجب شَيْئا وَإِنَّمَا الْعقل قُوَّة تميز النَّفس بهَا الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَقَط وَيعرف مَا صَحَّ وُجُوبه مِمَّا أوجبه من تلْزم طَاعَته مِمَّا لم يَصح وُجُوبه مِمَّا لم يُوجِبهُ من يجب عَلَيْهِ طَاعَته لَيْسَ فِي الْعقل المُرَاد بِهِ المتميز شَيْء غير هَذَا أصلا وَأَيْضًا فَإِن قَائِل هَذَا مجاهر بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِن يكون يزْعم أَن الْعقل أوجب ذَلِك ببديهته أَو ببرهان رَاجع إِلَى البديهة من قرب أَو من بعد فَإِن ادّعى أَن الْعقل يُوجب ذَلِك ببديهته كَابر الْحس وَلم ينْتَفع بِهَذَا أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يعجز عَن التوقح بِمثل هَذِه الدَّعْوَى أحد فِي أَي شَيْء شَاءَ وَإِن ادّعى أَنه أوجب ذَلِك برهَان رَاجع إِلَى الْعقل كلف الْمَجِيء بِهِ وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ أبدا فَإِن قَالَ إِن الله عز وَجل أوجب ذَلِك سُئِلَ الدَّلِيل على صِحَة هَذِه الدَّعْوَى الَّتِي أضافها إِلَى الْبَارِي عز وَجل وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَن مَا عِنْد الله عز وَجل من إِلْزَام لَا يعرف الْبَتَّةَ إِلَّا يُوحى من عِنْده تَعَالَى إِلَى رَسُول من خَلفه يشْهد لَهُ تَعَالَى بالمعجزات وَأما بِمَا يَضَعهُ الله عز وَجل فِي الْعُقُول وَلَيْسَ فِي شَيْء من هذَيْن دَلِيل على صِحَة دَعْوَى هَذَا الْمُدَّعِي وَأما احتجاجه بِأَنَّهُ هُوَ الدّين الَّذِي اخْتَارَهُ الله عز وَجل لكل أحد وَأَنْشَأَ عَلَيْهِ فَلَا حجَّة لَهُ فِي هَذَا لأننا لم نخالفه فِي أَن هَذَا درب على هَذَا الدّين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وخلقه الله عز وَجل مَعَ من دربه عَلَيْهِ بل نقر بِهَذَا كَمَا نقر بِأَن الله خلقنَا فِي مَكَان مَا فِي صناعَة مَا وعَلى معاش مَا وعَلى خلق مَا وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل عِنْد أحد من الْعَالم على أَنه لَا يجوز لَهُ فِرَاق ذَلِك الْخلق إِلَى مَا هُوَ خير مِنْهُ وَلَا على أَنه لزمَه لُزُوم الْمَكَان الَّذِي خلق فِيهِ والصناعة الَّتِي نَشأ عَلَيْهِ والقوت الَّذِي كبر عَلَيْهِ بل لَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن لَهُ مُفَارقَة ذَلِك الْمَكَان وَتلك الصِّنَاعَة وَذَلِكَ المعاش إِلَى غَيره وَأَن فرضا عَلَيْهِ لزوَال عَن كل ذَلِك إِذْ كَانَ مذموماً إِلَى الْمَحْمُود من كل ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن جَمِيع الْأَدْيَان الَّتِي أوجبهَا كلهَا هَذَا الْقَائِل وحقق جَمِيعهَا فَكل دين مِنْهَا فِيهِ إِنْكَار غَيره مِنْهَا وَأهل كل دين مِنْهَا تكفر سَائِر أهل تِلْكَ الْأَدْيَان وَكلهمْ يكذب بَعضهم بَعْضًا وَفِي كل دين مِنْهَا تَحْرِيم الْتِزَام غَيره على كل أحد فَلَو كَانَ كل دين مِنْهَا لَازِما أَن يَعْتَقِدهُ من نَشأ عَلَيْهِ لَكَانَ كل دين مِنْهَا حَقًا وَإِذا كَانَ كل دين مِنْهَا حَقًا مِنْهَا يبطل سائرها وكل مَا أبْطلهُ الْحق فَهُوَ بَاطِل بِلَا شكّ فَكل دين مِنْهَا بَاطِل بِلَا شكّ فَوَجَبَ ضَرُورَة على قَول هَذَا الْقَائِل أَن جَمِيع الْأَدْيَان بَاطِل وَأَن جَمِيعهَا حق فجميعها حق بَاطِل مَعًا فَبَطل هَذَا القَوْل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما من قَالَ أَنِّي ألزم فعل الْخَيْر الَّذِي اتّفقت الديانَات والعقول على أَنه فضل وأجتنب مَا اتّفقت الديانَات والعقول على أَنه قَبِيح فَقَوْل فَاسد مموه مضمحل أول ذَلِك أَنه كذب وَلَا اتّفقت الديانَات وَلَا الْعُقُول على شَيْء من ذَلِك بل جَمِيع الديانَات إِلَّا الْأَقَل مِنْهَا مجموعون على قتل من خالفهم وَأخذ أَمْوَالهم وكل دين مِنْهَا لَا يحاشى دينا قَاتل بِأَحْكَام هِيَ عِنْد سائرها ظلم وَأما الثَّانِيَة فَإِنَّهَا وَإِن لم تقل بِالْقَتْلِ فَإِنَّهَا تَقول بترك النِّكَاح الَّذِي هُوَ مُبَاح عِنْد سَائِر الديانَات وَيَقُولُونَ بِإِبَاحَة اللياطة والسحق وَسَائِر الديانَات مُحرمَة لذَلِك فَمَا اتّفقت الديانَات على شَيْء أصلا وَلَا على التَّوْحِيد وَلَا على إِبْطَاله لَكِن اتّفقت الديانا على تخطئته وتكفيره والبراءة مِنْهُ إِذا لم يعْتَقد دينا فبيناه بِطَلَب مُوَافقَة جَمِيع الديانَات حصل على مُخَالفَة جَمِيعهَا وَهَكَذَا فَلْيَكُن السَّعْي المضلل وَكَذَلِكَ طبائع جَمِيع النَّاس مُؤثرَة للذات كارهة لما يلتزمه أهل الشَّرَائِع والفلاسفة فَبَطل تعلقهم بِشَيْء مجمع عَلَيْهِ وَلم يحصل إِلَّا على طمع خائب مُخَالفا لجَمِيع الديانَات غير مُتَعَلق لدَلِيل لَا عَقْلِي وَلَا سَمْعِي وَقد قُلْنَا أَن الْعُقُول لَا توجب شَيْئا وَلَا تقبحه وَلَا تُحسنهُ وبرهان ذَلِك أَن جَمِيع أهل الْعُقُول إِلَّا يَسِيرا فَإِنَّهُم أَصْحَاب شرائع وَقد جَاءَت الشَّرَائِع بِالْقَتْلِ وَأخذ المَال وَضرب الْإِنْسَان وَذبح الْحَيَوَان فَمَا قَالَ قطّ أَصْحَاب الْعُقُول أَنَّهَا جَاءَت بِخِلَاف مَا فِي الْعُقُول وَلَا ادّعى ذَلِك إِلَّا أقل النَّاس وَمن لَيْسَ عقله عياراً على عقل غَيره وَلَو كَانَ ذَلِك وَاجِبا فِي الْعُقُول لوجده سَائِر أهل الْعُقُول كَمَا قَالُوا هم سَوَاء سَوَاء فصح أَن دَعوَاهُم على الْعُقُول كَاذِبَة فِي بَاب التقبيح والتحسين جملَة وَهَذَا أكسر عَام لنَفس أَقْوَالهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْبَرَاهِين على إبِْطَال حججهم الشغبة المموه بهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما احتجاجهم بِأَن قَالُوا وجدنَا أهل الديانَات والآراء والمقالات كل طَائِفَة تناظر الْأُخْرَى فتنتصف مِنْهَا وَرُبمَا غلبت هَذِه فِي مجْلِس ثمَّ غلبتها الْأُخْرَى فِي مجْلِس آخر على حسب قُوَّة المناظر وَقدرته على الْبَيَان والتحيل والشغب فهم فِي ذَلِك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بَينهم فصح أَنه لَيْسَ هَهُنَا قَول ظَاهر الْغَلَبَة وَلَو كَانَ ذَلِك لما أشكل على أحد وَلَا اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدركوا بحواسهم وبداية عُقُولهمْ وكما هم يَخْتَلِفُوا فِي الْحساب وَفِي كل شَيْء عَلَيْهِ برهَان لائح واللائح الْحق على مُرُور الزَّمَان وَكَثْرَة الْبَحْث وَطول المناظرات قَالُوا وَمن الْمحَال أَن يَبْدُو الْحق إِلَى النَّاس ظَاهرا فيعاندوه بِلَا معنى ويرضوا بِالْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِلَا سَبَب قَالُوا فَلَمَّا بَطل هَذَا أَن كل طَائِفَة تتبع أما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 مَا نشأت عَلَيْهِ وَأما مَا يخيل لأَحَدهم أَنه الْحق دون تثبيت وَلَا يَقِين قَالُوا وَهَذَا مشَاهد من كل مِلَّة ونحلة وَإِن كَانَ فِيهَا مَا لَا يشك فِي بُطْلَانه وسخافته قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه جمل نَحن نبين كل عقده مِنْهَا ونوفيها حَقًا من الْبَيَان بتصحيح أَو إِفْسَاد بِمَا لَا يخفى على أحد صِحَّته وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما قَوْلهم أَن كل طَائِفَة من أهل الديانَات والآراء يناظر فينتصف وَرُبمَا غلبت هَذِه فِي مجْلِس ثمَّ غلبتها الْأُخْرَى فِي مجْلِس آخر على قدر قُوَّة المناظر وَقدرته على الْبَيَان والتحيل والشغب والتمويه فَقَوْل صَحِيح إِلَّا أَنه لَا حجَّة لَهُم فِيهِ على مَا دَعوه من تكافؤ الْأَدِلَّة أصلا لِأَن غَلَبَة الْوَقْت لَيست حجَّة وَلَا يقنع بهَا عَالم مُحَقّق وَإِن كَانَت لَهُ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَإِن كَانَت عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نحتج بهَا ويغضب مِنْهَا أهل المحرفة والجهال وَأهل الصَّباح والتهويل والتشنيع القانعون بِأَن يُقَال غلب فلَان فلَانا وَأَن فلَانا لنظار جِدَال وَلَا يبالون بتحقيق حَقِيقَة وَلَا بِإِبْطَال بَاطِل فصح أَن تغالب المتناظرين لَا معنى لَهُ وَلَا يجب أَن يعْتد بِهِ لَا سِيمَا تجَادل أهل زَمَاننَا الَّذين أما لَهُم نوب مَعْدُودَة لَا يتجاوزوزنها بِكَلِمَة وَإِمَّا أَن يغلب الصَّلِيب الرَّأْس بِكَثْرَة الصياح والتوقح والتشنيع والجعات وَأما كثير الهدر قوي على أَن يمْلَأ الْمجْلس كلَاما لَا يتَحَصَّل مِنْهُ معنى وَأما الَّذِي يَعْتَقِدهُ أهل التَّحْقِيق الطالبون معرفَة الْأُمُور على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَن يبحثوا فِيمَا يطْلبُونَ مَعْرفَته على كل حجَّة احْتج بهَا أهل فرقة فِي ذَلِك الْبَاب فَإِذا نقضوها وَلم يبقوا مِنْهَا شَيْئا تأملوها كل حجَّة حجَّة فميزوا الشغبي مِنْهَا والأقناعي فأطرحوهما وفتشوا البرهاني على حسب الْمُقدمَات الَّتِي بيناها فِي كتَابنَا الموسوم بالتقريب فِي مائية الْبُرْهَان وتمييزه مِمَّا يظنّ أَنه برهَان وَلَيْسَ ببرهان وَفِي كتَابنَا هَذَا وَفِي كتَابنَا الموسوم بِالْأَحْكَامِ فِي أصُول الْأَحْكَام فَإِن من سلك تِلْكَ الطَّرِيق الَّتِي ذكرنَا وميز فِي المبدأ مَا يعرف بِأول التَّمْيِيز والحواس ثمَّ ميز مَا هُوَ الْبُرْهَان مِمَّا لَيْسَ برهاناً ثمَّ لم يقبل الْأَمَاكِن برهاناً رَاجعا رُجُوعا صَحِيحا ضَرُورِيًّا إِلَى مَا أدْرك بالحواس أَو ببديهة التَّمْيِيز وضرورة فِي كل مَطْلُوب يَطْلُبهُ فَإِن سارع الْحق يلوح لَهُ وَاضحا ممتازاً من كل بَاطِل دون إِشْكَال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما من لم يفعل مَا ذكرنَا وَلم يكن كده إِلَّا نصر الْمَسْأَلَة الْحَاضِرَة فَقَط أَو نصر مَذْهَب قد الفه قبل أَن يَقُودهُ إِلَى اعْتِقَاده برهَان فَلم يَجْعَل غَرَضه إِلَّا طلب أَدِلَّة ذَلِك الْمَذْهَب فَقَط فبعيد عَن معرفَة الْحق عَن الْبَاطِل وَمثل هَؤُلَاءِ غروا هَؤُلَاءِ المخاذيل فظنوا أَن كل بحث ونظو مجراهما هَذَا المجرى الَّذِي عهدوه مِمَّن ذكرونا فضلوا ضلالا بَعيدا وَأما قَوْلهم فصح أَنه لَيْسَ هَا هُنَا قَول ظَاهر الْغَلَبَة وَلَو كَانَ ذَلِك لما أشكل على أحد وَلما اخْتلف النَّاس فِيهِ كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدركوه بحواسهم وبداية عُقُولهمْ وكما لم يَخْتَلِفُوا فِي الْحساب وَفِي كل مَا عَلَيْهِ برهَان لايح فَقَوْل أَيْضا مموه لِأَنَّهُ كُله دَعْوَى فَاسِدَة بِلَا دَلِيل وَقد قُلْنَا قبل فِي إبِْطَال هَذِه الْأَقْوَال كلهَا بالبرهان بِمَا فِيهِ كِفَايَة وَهَذَا لَا يُمكن فِيهِ تَفْصِيل كل برهَان على كل مَطْلُوب لَكِن نقُول جملَة أَن من عرف الْبُرْهَان وميزه وَطلب الْحَقِيقَة غير مايل بهوى وَلَا ألف وَلَا نفار وَلَا كسل فمضمون لَهُ تَمْيِيز الْحق وَهَذَا كمن سَأَلَ عَن الْبُرْهَان على أشكال أقليدس فَإِنَّهُ لَا أشكال فِي جَوَابه عَن جَمِيعهَا بقول مُجمل لَكِن يُقَال لَهُ سل عَن شكل شكل تخبر ببرهانه أَو كمن سَأَلَ مَا النَّحْو وَأَرَادَ أَن يُوقف على قوانينه جملَة فَإِن هَذَا لَا يُمكن بِأَكْثَرَ من أَن يُقَال لَهُ هُوَ بَيَان حركات وحروف يتَوَصَّل باختلافها إِلَى معرفَة مُرَاد الْمُخَاطب باللغة الْعَرَبيَّة ثمَّ لَا يُمكن توقيفه على حَقِيقَة ذَلِك وَلَا إِلَى إثْبَاته جملَة إِلَّا بِالْأَخْذِ مَعَه فِي مَسْأَلَة مَسْأَلَة وَهَكَذَا فِي هَذَا الْمَكَان الَّذِي نَحن فِيهِ لَا يُمكن أَن نبين جَمِيع الْبُرْهَان على كل مُخْتَلف فِيهِ بِأَكْثَرَ من أَن يُقَال لَهُ سل عَن مَسْأَلَة مسالة نبين لَك برهانا يحول الله تَعَالَى وقوته ثمَّ تَقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 لمن قَالَ من هَؤُلَاءِ أَن هَهُنَا قولا صَحِيحا وَاحِدًا لَا شكّ فِيهِ أخبرنَا من أَيْن عرفت ذَلِك وَلَعَلَّ الْأَمر كَمَا يَقُول من قَالَ أَن جَمِيع الْأَقْوَال كلهَا حق فَإِن قَالَ لَا لِأَنَّهَا لَو كَانَت حَقًا لَكَانَ محالاً مُمْتَنعا لِأَن فِيهَا إِثْبَات الشَّيْء وإبطاله مَعًا وَلَو كَانَ جَمِيعهَا بَاطِلا لَكَانَ كَذَلِك أَيْضا سَوَاء سَوَاء وَهُوَ محَال مُمْتَنع لِأَن فِيهِ أَيْضا إِثْبَات الشَّيْء وإبطاله مَعًا وَإِذا ثَبت إِثْبَات الشَّيْء بَطل إِبْطَاله بِلَا شكّ وَإِذا بَطل إثْبَاته ثَبت إِبْطَاله بِلَا شكّ فَإذْ قد بَطل هَذَانِ الْقَوْلَانِ بِيَقِين لم يبْق بِلَا شكّ إِلَّا أَن فِيهِ حَقًا بِعَيْنِه وباطلاً بِعَيْنِه قُلْنَا لَهُ صدقت وَإِذ الْأَمر كَمَا قلت فَإِن هَذَا الْعقل الَّذِي عرفت بِهِ فِي تِلْكَ الْأَقْوَال قولا صَحِيحا بِلَا شكّ بِهِ تميز ذَلِك القَوْل الصَّحِيح بِعَيْنِه مِمَّا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الصَّحِيح من الْأَقْوَال يشْهد لَهُ الْعقل والحواس ببراهين ترده إِلَى الْعقل وَإِلَى الْحَواس ردا صَحِيحا وَأما الْبَاطِل فَيَنْقَطِع وَيقف قبل أَن يبلغ إِلَى الْعقل وَإِلَى الْحَواس وَهَذَا بَين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما من أبطل أَن يكون فِي الْأَقْوَال كلهَا قَول صَحِيح فقد أخبرنَا أَنه مُبْطل للحقائق كلهَا متناقض لِأَنَّهُ يبطل الْحق وَالْبَاطِل مَعًا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما قَوْلهم لَو كَانَ هَهُنَا قَول صَحِيح لما أشكل على أحد وَلَا اخْتلف فِيهِ كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدركوه بحواسهم وَلَا فِي الْحساب فَإِن هَذَا قَول فَاسد لِأَن أشكال الشَّيْء على من أشكل عَلَيْهِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه جهل حَقِيقَة ذَلِك الشَّيْء فَقَط وَلَيْسَ جهل من جهل حجَّة على من علم برهَان هَذَا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء إِلَّا ويجهله بعض النَّاس كالمجانين والأطفال وَمن غمرة الْجُهَّال والبلدة ثمَّ يتزيد النَّاس فِي الْفَهم فيفهم طَائِفَة شَيْئا لَا تفهمه المجانين وتفهم أُخْرَى مَا لَا تفهمه هَؤُلَاءِ وَهَكَذَا إِلَى أرفع مَرَاتِب الْعلم فَكلما اخْتلف فِيهِ فقد وقف على الْحَقِيقَة فِيهِ من فهمه وَإِن كَانَ خَفِي على غَيره هَذَا أَمر مشَاهد محسوس فِي جَمِيع الْعُلُوم وَآفَة ذَلِك مَا قد ذكرنَا قبل وَهُوَ إِمَّا قُصُور الْفَهم والبلادة وَإِمَّا كسل عَن تقصي الْبُرْهَان وَإِمَّا لِأَلف أَو نفار تعدا بصاحبهما عَن الْغَايَة الْمَطْلُوبَة أَو تعدياها وَهَذِه دواعي الِاخْتِلَاف فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ فَإِذا ارْتَفَعت الْمَوَانِع لَاحَ الْبُرْهَان بِيَقِين فَبَطل مَا شغبوا بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِيمَا أدركوه بحواسهم وَفِي الْحساب وَفِيمَا أدركوه ببداية عُقُولهمْ فَقَوْل غير مطرد وَالسَّبَب فِي انْقِطَاع اطراده هُوَ أَنه لَيْسَ فِي أَكثر مَا يدْرك بالحواس وبداية الْعُقُول شَيْء يَدْعُو إِلَى التَّنَازُع وَلَا إِلَى تقليديتها لَك فِي نَصره أَو إِبْطَاله وَكَذَلِكَ فِي الْحساب حَتَّى إِذا صرنا إِلَى مَا فِيهِ تَقْلِيد مِمَّا يدْرك بالحواس أَو بأوائل التَّمْيِيز وجد فِيهِ من التَّنَازُع والمكابرة والمدافعة وَجحد الضرورات كَالَّذي يُوجد فِيمَا سواهُ كمكابرة النَّصَارَى واستهلاكهم فِي أَن الْمَسِيح لَهُ طبيعتان ناسوتية ولاهوتية ثمَّ مِنْهُم من يَقُول أَن تِلْكَ الطبيعتين صارتا شَيْئا وَاحِدًا وَصَارَ اللاهوت ناسوتاً تَاما مُحدثا مخلوقاً وَصَارَ الناسوت ألهاً تَاما خَالِقًا غير مَخْلُوق وَمِنْهُم من يَقُول امتزج كامتزاج الْعرض بالجوهر وَمِنْهُم من يَقُول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة وَهَذَا حمق ومحال يدْرك فَسَاده بِأول الْعقل وضرورته وكما تهالكت المنانية على أَن الْفلك فِي كل أفق من الْعَالم لَا يَدُور إِلَّا كَمَا يَدُور الرَّحَى وَهَذَا أَمر يُشَاهد كذبه بالعيان وكما تهالكت الْيَهُود على أَن النّيل الَّذِي يُحِيط بِأَرْض مصر وزويلة ومعادن الذَّهَب وَأَن الْفُرَات الْمُحِيط بِأَرْض الْموصل مخرجهما جَمِيعًا من عين وَاحِدَة من الْمشرق وَهَذَا كذب يدْرك بالحواس وكما تهالكت الْمَجُوس على أَن الْولادَة كمن إِنْسَان وَأَن مَدِينَة واقفة من بُنيان بعض مُلُوكهمْ بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وكتهالك جَمِيع الْعَامَّة على أَن السَّمَاء مستوية كالصحيفة لَا مقبية مكورة وَأَن الأَرْض كَذَلِك أَيْضا وَأَن الشَّمْس تطلع على جَمِيع النَّاس فِي جَمِيع الأَرْض فِي سَاعَة وَاحِدَة وتغرب عَنْهُم كَذَلِك وَهَذَا مَعْلُوم كذبه بالعيان وكتهالك الأشعرية وَغَيرهم مِمَّن يَدعِي الْعلم والتوفيق فِيهِ أَن النَّار لَا حر فِيهَا وَأَن الثَّلج لَا برد فِيهِ وَأَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 الزّجاج والحصا لَهما طعم ورائحة وَأَن الْخمر لَا يسكر وَأَن هَهُنَا أحوالاً لَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة وَلَا هِيَ حق وَلَا هِيَ بَاطِل وَلَا هِيَ مخلوقة وَلَا غير مخلوقة وَلَا هِيَ مَعْلُومَة وَلَا مَجْهُولَة وَهَذَا كُله مَعْلُوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول الْعقل وضرورته وتخليط لَا يفهمهُ أحد وَلَا يتشكل فِي وهم أحد وَلَوْلَا أننا شاهدنا أَكثر من ذكرنَا لما صدقنا أَن من لَهُ مسكة عقل ينْطَلق لِسَانه بِهَذَا الْجُنُون وكتهالك طوائف على أَن اسْمَيْنِ يقعان على مسميين كل وَاحِد من ذَيْنك المسميين لَا هُوَ الآخر وَلَا هُوَ غَيره وكالسوفسطائية الْمُنكرَة للحقائق وَأما الْحساب فقد اخْتلف لَهُ فِي أَشْيَاء من التَّعْدِيل وَمن قطع الْكَوَاكِب وَهل الْحَرَكَة لَهَا أَو لأفلاكها وَأما الَّذِي لَا يَخْلُو وَقت من وجوده فخطأ كثير من أهل الْحساب فِي جمع الْأَعْدَاد الْكَثِيرَة حَتَّى يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافا ظَاهرا حَتَّى إِذا حقق النّظر يظْهر الْحق من الْبَاطِل وَهَذَا نفس مَا يعرض فِي كل مَا يدْرك بالحواس فَظهر بطلَان تمويههم وتشبيههم جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصَحَّ مَا أنكروه من أَن كثيرا من النَّاس يغيبون عَن اعْتِقَاد مَا شهِدت لَهُ الْحَواس وَيُنْكِرُونَ أَوَائِل الْعُقُول ويكابرون الضرورات أما أَنهم كسلوا عَن طلب الْبُرْهَان وَقَطعُوا بظنونهم وَأما لأَنهم زلوا عَن طَرِيق الْبُرْهَان وظنوا أَنهم عَلَيْهِ وَأما لأَنهم ألفوا مَا مَالَتْ إِلَيْهِ أهوائهم لِأَلف شَيْء ونفار عَن آخر وَأما قَوْلهم وللاح الْحق على مُرُور الْأَزْمَان وَكَثْرَة الْبَحْث وَطول المناظرات فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق نعم قد لَاحَ الْحق وَبَان ظن الْبَاطِل وَإِن كَانَ كل طَائِفَة تدعيه فَإِن من نظر على الطَّرِيق الَّتِي وَصفنَا صَحَّ عِنْده المحق الْمُدَّعِي من الْمُبْطل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم وَمن الْمحَال أَن يَبْدُو الْحق إِلَى النَّاس فيعاندوه بِلَا معنى ويرضوا بِالْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِلَا معنى فَقَوْل فَاسد لأَنا قد رأيناهم أَتَوا أَشْيَاء بدا الْحق فِيهَا إِلَى النَّاس فعانده كثير مِنْهُم وبذلوا مهجهم فِيهِ وَكَأَنَّهُم مَا شاهدوا الْأَمر الَّذِي مَلأ الأَرْض من المقاتلين الَّذين يعْرفُونَ بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أَنهم على بَاطِل يقتتلون ويعترفون بِأَنَّهُم بلغُوا مهجهم ودماءهم وَأَمْوَالهمْ وأديانهم ويموتون أَوْلَادهم ويرملون نِسَاءَهُمْ فِي قتال عَن سُلْطَان غَائِب عَن ذَلِك الْقِتَال لَا يرجون زِيَادَة دِرْهَم وَلَا يخَاف كل امْرِئ مِنْهُم فِي ذَاته تقصيراً بِهِ لَو لم يُقَاتل أَو لم يرو كثيرا من النَّاس يَأْكُلُون أَشْيَاء يوقنون بِأَنَّهُم يستضرون بهَا ويكثرون شرب الْخمر وهم يقرونَ أَنَّهَا قد آذتهم وأفسدت أمزجتهم وَأَنَّهَا تؤديهم إِلَى التلاف وهم يقرونَ مَعَ ذَلِك أَنهم عاصون لله تَعَالَى وَكم رَأينَا من الموقنين بخلود العَاصِي فِي النَّار الْمُحَقِّقين لذَلِك يقر على نَفسه أَنه يفعل مَا يخلد بِهِ فِي النَّار فَإِن قَالُوا أَن هَؤُلَاءِ يستلذون مَا يَفْعَلُونَ من ذَلِك قُلْنَا لَهُم أَن استلذاذ من يدين بِشَيْء مَا يبصره لما يدين بِهِ وتعصبه لَهُ أَشد من استلذاذ الْأكل وَالشرب لما يدْرِي أَنه يبلغهُ من ذَلِك ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن قَوْلكُم هَذَا أَنه لَيْسَ هَهُنَا قَول سطعت حجَّته وَلَو كَانَ لما اخْتلف النَّاس فِيهِ أَحَق وَهِي هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي قطعْتُمْ بهَا وَهل قَوْلك هَذَا ظَاهر الْحجَّة مُتَيَقن الْحَقِيقَة أم لَا فَإِن قَالُوا لَا أقرُّوا بِأَن قَوْلهم لم تصح حجَّته وَلَا لَاحَ برهانا وَأَنه لَيْسَ حَقًا مَا قَالُوهُ وَإِن قَالُوا بل هُوَ حق قد لاحت حجَّته قُلْنَا لَهُم كَيفَ خولفتم فِي شَيْء لاحت حجَّته حَتَّى صَار أَكثر أهل الأَرْض يعمون عَمَّا لَا شكّ فِيهِ عنْدكُمْ وَعَن مَا لَاحَ الْحق فِيهِ حَتَّى اعتقدوا فِيكُم الضلال وَالْكفْر وَإِبَاحَة الدَّم وَهَذَا هُوَ نفس مَا أَنْكَرُوا قد صَرَّحُوا أَنه حق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما احتجاجهم بانتقال من ينْتَقل من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب وتهالكه فِي إثْبَاته ثمَّ تهالكه فِي إِبْطَاله ورومهم أَن يفسدوا بِهَذَا جَمِيع الْبَرَاهِين فَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا لِأَن كل متنقل من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب فَلَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون انْتقل من خطأ إِلَى خطأ أَو من خطأ إِلَى صَوَاب أَو من صَوَاب إِلَى خطأ وَأي ذَلِك كَانَ فَإِنَّمَا أَتَى فِي الانتقالين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 الِاثْنَيْنِ الَّذين هما إِلَى الْخَطَأ من أَنه لم يطْلب الْبُرْهَان طلبا صَحِيحا بل عَاجِزا عَنهُ بِأحد الْوُجُوه الَّتِي قدمنَا قبل وَأما الِانْتِقَال إِلَى الصَّوَاب فَإِنَّهُ وَقع عَلَيْهِ بِحَدّ صَحِيح وَطلب صَحِيح أَو بِحَدّ وَبحث وَهَذَا يعرض فِيمَا يدْرك بالحواس كثيرا فَيرى الْإِنْسَان شخصا من بعيد فيظنه فلَانا وَيحلف عَلَيْهِ ويكابر ويجرد ثمَّ تبين لَهُ أَنه لَيْسَ هُوَ الَّذِي ظن وَقد يشم الْإِنْسَان رَائِحَة يَظُنهَا من بعض الروائح وَيقطع على ذَلِك وَيحلف عَلَيْهِ مجداً ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ أَنه لَيْسَ هُوَ الَّذِي ظن وَهَكَذَا فِي الذَّوْق أَيْضا وَقد يعرض هَذَا فِي الْحساب فقد يغلط الحاسبون فِي جمع الْأَعْدَاد الْكَثِيرَة فَيَقُول أحدهم أَن الْجَمِيع من هَذِه الْأَعْدَاد كَذَا وَكَذَا وَيُخَالِفهُ غَيره فِي ذَلِك حق إِذا بحثوا بحثا صَحِيحا صَحَّ الْأَمر عِنْدهم وَقد يعرض هَذَا للْإنْسَان فِيمَا بَين يَدَيْهِ يطْلب الشَّيْء بَين مَتَاعه طلبا مرددا الْمَرْء بعد الْمَرْء فَلَا يجده وَلَا يَقع عَلَيْهِ وَهُوَ بَين يَدَيْهِ وَنصب عَيْنَيْهِ ثمَّ يجده فِي أقرب مَكَان مِنْهُ وَقد يكْتب الْإِنْسَان مستملياً أَو يقْرَأ فيصحف وَيزِيد وَينْقص وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجب أَلا يَصح شَيْء بِإِدْرَاك الْحَواس أبدا وَلَا إِلَّا يَصح وجود الْإِنْسَان شَيْئا افتقده أبدا وَلَا إِلَّا يَصح جمع الْأَعْدَاد أبدا وَلَا إِلَّا يَصح حرف مَكْتُوب وَلَا كلمة مقروءة أبدا لَا مَكَان وجود الْخَطَأ فِي بعض ذَلِك لَكِن التثبيت الصَّحِيح يليخ الْحق من الْبَاطِل وَهَكَذَا كل شَيْء أَخطَأ فِيهِ وَلَا بُد من برهَان يليح الْحق فِيهِ من الْبَاطِل وَلَا يظنّ جَاهِل أَن هَذِه الْمعَانِي كلهَا حجَّة لمبطلي الْحَقَائِق بل هِيَ برهَان عَلَيْهِم لائح قَاطع لِأَن كل مَا ذكرنَا لَا يخْتَلف حس أحد فِي أَن كل ذَلِك إِذا فتش تفتيشاً صَحِيحا فَإِنَّهُ يَقع الْيَقِين والضرورة بِأَن الْوَهم فِيهَا غير صَحِيح وَأَن الْحق فِيهَا وَلَا بُد فَبَطل تعلقهم بِمن رَجَعَ من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب وَلم يحصلوا إِلَّا على أَن قَالُوا أَنا نرى قوما يخطئون فَقُلْنَا لَهُم نعم ويصيب آخَرُونَ فإقرارهم بِوُجُود الْخَطَأ مُوجب ضَرُورَة أَن ثمَّ صَوَابا لِأَن الْخَطَأ هُوَ مُخَالفَة الصَّوَاب فَلَو لم يكن صَوَابا لم يكن خطأ وَلَو لم يكن برهانا لم يكن شغب مُخَالف للبرهان ثمَّ نعكس استدلالهم عَلَيْهِم فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد فَإذْ قد وجدْتُم من يعْتَقد مَا أَنْتُم عَلَيْهِ ثمَّ يرجع عَنهُ فَهَلا قُلْتُمْ أَن مذهبكم هَذَا كالأقوال الْأُخَر الَّتِي أبطلتموها من أجل هَذَا الظَّن الْفَاسِد فِي الْحَقِيقَة وَهُوَ فِي ظنكم صَحِيح فَهُوَ لكم لَازم لأنكم صححتموه وَلَا يلْزمنَا لأننا لَا نصححه وَلَا صَححهُ برهَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبِهَذَا الَّذِي قُلْنَا يبطل مَا اعْتَرَضُوهُ بِهِ من اخْتِلَاف المدعين الفلسفة والمتحلين الْكَلَام فِي مذاهبهم وَمَا ذَكرُوهُ من اخْتِلَاف المختارين أَيْضا فِي اختيارهم لأننا لم نَدع أَن طبائع النَّاس سليمَة من الْفساد لَكنا نقُول أَن الْغَالِب على طبائع النَّاس الْفساد فَإِن الْمنصف لنَفسِهِ أَولا ثمَّ لخصمه ثَانِيًا الطَّالِب الْبُرْهَان على حَقِيقَة الْعَارِف بِهِ فدليل برهاننا على هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ من اخْتِلَاف النَّاس وَاخْتِلَافهمْ كثيرا دَلِيل على كَثْرَة الْخَطَأ مِنْهُم وَقد وضحنا أَن وجود الْخَطَأ يَقْتَضِي ضَرُورَة وجود الصَّوَاب مِنْهُم وَلَا بُد وَلَيْسَ اخْتلَافهمْ دَلِيلا على أَن لَا حَقِيقَة فِي شَيْء من أَقْوَالهم وَلَا على امْتنَاع وجود السَّبِيل إِلَى معرفَة الْحق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من حقق شَيْئا من الديانَات والمقالات والآراء من أَن يكون صَحَّ لَهُ بالحواس أَو بِبَعْضِهَا أَو ببديهة الْعقل وضرورته أَو بِدَلِيل من الْأَدِلَّة غير هذَيْن وَأَنه لَو صَحَّ بالحواس أَو بِالْعقلِ لم يخْتَلف فِيهِ وإلزامهم فِي الدَّلِيل مثل ذَلِك إِلَى آخر كَلَامهم فَهَذَا كُله مُقَرر قد مُضِيّ الْكَلَام فِيهِ وَقد أريناهم أَنه قد يخْتَلف النَّاس فِيمَا يدْرك بالحواس وببديهة الْعقل كاختلافهم فِي الشَّخْص يرونه ويختلفون فِيهِ مَا هُوَ وَفِي الصَّوْت يسمعونه بَينهم فِيمَا هُوَ ويختلفون فِيهِ وكأقوال النَّصَارَى وَغَيرهم مِمَّا يعلم بضرورة الْعقل فَسَاده ثمَّ نقُول لَهُم إِن أول المعارف هُوَ مَا أدْرك بالحواس وببديهة الْعقل وضرورته ثمَّ ينْتج براهين رَاجِعَة من قرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 أَو من بعد بعد إِلَى أول الْعقل أَو إِلَى الْحَواس فَمَا صححته هَذِه الْبَرَاهِين فَهُوَ حق وَمَا لم تصححه هَذِه الْبَرَاهِين فَهُوَ غير صَحِيح ثمَّ نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَوْلكُم هَذَا بِأَيّ شَيْء علمتموه بالعقول أم بالحواس أَو بِدَلِيل غَيرهمَا فَإِن علمتموه بالحواس أَو الْعُقُول فَكيف خولفتم فِيهِ وَإِن كُنْتُم عرفتموه بِدَلِيل فَذَلِك الدَّلِيل بِمَا عرفتموه أبالحواس أم بالعقول أم بِدَلِيل آخر وَهَكَذَا أبدا وكل سُؤال أفسد حكم نَفسه فَهُوَ فَاسد وعَلى أَن هَذَا لَهُم لَازم لأَنهم صححوه وَمن صحّح شَيْئا لزمَه وَنحن لم نصحح هَذَا السُّؤَال فَلَا يلْزمنَا وَقد أجبنا عَنهُ بِمَا دَفعه عَنَّا وَأما هم فَلَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم نسألهم عَن علمهمْ بِمَا يدعونَ صِحَّته أتعلمونه أم لَا فَإِن قَالُوا لَا نعلمهُ بَطل قَوْلهم إِذا قروا بِأَنَّهُم لَا يعلمونه وَإِن قَالُوا بل نعلمهُ سألناهم أبعلم علمْتُم علمكُم بذلك أم بِغَيْر علم وَهَكَذَا أبدا فَهَذَا أَمر قد أحكمنا بَيَان فَسَاده فِي بَاب أفردناه فِي ديواننا هَذَا على أَصْحَاب معمر فِي قَوْلهم بالمعاني وعَلى الأشعرية وَمن وافقهم من الْمُعْتَزلَة فِي قَوْلهم بالأحوال وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ من يَقُول بتكافؤ الْأَدِلَّة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا السُّؤَال نَفسه مَرْدُود عَلَيْهِم كَمَا هُوَ ونسألهم أتعلمون صِحَة مذهبكم هَذَا أم لَا فَإِن قَالُوا لَا أقرُّوا بِأَنَّهُم لَا يعلمُونَ صِحَّته وَفِي هَذَا إِبْطَاله وَالله أَنما هُوَ ظن لَا حَقِيقَة وَإِن قَالُوا بل نعلمهُ سألناهم أبعلم تعلمونه أم بِغَيْر علم وَهَكَذَا أبدا إِلَّا أَن السُّؤَال لَازم لَهُم لأَنهم صححوه وَمن صحّح شَيْئا لزمَه وَأما نَحن فَلم نصححه فَلَا يلْزمنَا وَقد أجبنا عَنهُ فِي بَابه بأننا نعلم صِحَة علمنَا بعلمنا ذَلِك بِعَيْنِه لَا بِعلم آخر ونعقل أَن لنا عقلا بعقلنا ذَلِك بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال من يبطل الْحَقَائِق كلهَا لَا من يَقُول بتكافؤ الْأَدِلَّة فَبَطل كل مَا موهوا بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ نقُول لَهُم أَنْتُم فد أثبتم الْحَقَائِق وَفِي النَّاس من يُبْطِلهَا وَمن يشك فِيهَا وهم السوفسطائية وعلمتم أَنهم مخطئون فِي ذَلِك ببراهين صِحَاح فبراهين صِحَاح أَيْضا صَحَّ مَا أبطلتموه أَو شَكَكْتُمْ فِيهِ من أَن فِي مَذَاهِب النَّاس مذهبا ظَاهر صَحِيحا الصِّحَّة فَإِذا سَأَلَ عَنْهَا أُجِيب بهَا فِي مَسْأَلَة مَسْأَلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ لكل ذِي مِلَّة أَو نحلة أَو مَذْهَب لَعَلَّك مُخطئ وَأَنت تظن أَنَّك مُصِيب لِأَن هَذَا مُمكن فِي كثير من الْأَقْوَال بِلَا شكّ أخبرنَا أَفِي النَّاس من فسد دماغه وَهُوَ يظنّ أَنه صَحِيح الدِّمَاغ فَإِن أنكر ذَلِك كَابر وَدفع المشاهدات وَإِن قَالَ هَذَا مُمكن قيل لَهُ لَعَلَّك أَنْت الْآن كَذَلِك وَأَنت تظن أَنَّك سَالم الدِّمَاغ فَإِن قَالَ لَا لِأَن هَا هُنَا براهين تصحح أَنِّي سَالم الذِّهْن قيل لَهُ وَهَا هُنَا براهين تصحح الصَّحِيح من الْأَقْوَال وتبينه من الْفَاسِد فَإِن سَأَلَ عَنْهَا أجبْت بهَا فِي مَسْأَلَة مَسْأَلَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد بَطل بِيَقِين أَن تكون جَمِيع أَقْوَال النَّاس صَحِيحَة لِأَن فِي هَذَا إِن يكون الشَّيْء بَاطِلا حَقًا مَعًا وَبَطل أَن تكون كلهَا بَاطِلا لِأَن فِي هَذَا أَيْضا إِثْبَات الشَّيْء وضده مَعًا لِأَن الْأَقْوَال كلهَا إِنَّمَا هِيَ نفي شَيْء يُثبتهُ آخر من النَّاس فَلَو كَانَ كلا الْأَمريْنِ بَاطِلا لبطل النَّفْي فِي الشَّيْء وإثباته مَعًا وَإِذا بَطل إثْبَاته صَحَّ نَفْيه وَإِذا بَطل نَفْيه صَحَّ إثْبَاته فَكَانَ يلْزم من هَذَا أَيْضا أَن يكون الشَّيْء حَقًا بَاطِلا مَعًا تثبت بِيَقِين أَن فِي الْأَقْوَال حَقًا وباطلاً وَإِذ هَذَا لَا شكّ فِيهِ فبالضرورة نَعْرِف أَن بَين الْحق وَالْبَاطِل فرقا مَوْجُودا وَذَلِكَ الْفرق هُوَ الْبُرْهَان فَمن عرف الْبُرْهَان عرف الْحق من الْبَاطِل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّكُم محيلون عَليّ براهين تَقولُونَ أَن ذكرهَا جملَة لَا يُمكن وتأمرون بالجد فِي طلبَهَا فَمَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين دعاة الإسماعيلية والقرامطة الَّذين يحيلون على مثل هَذَا قُلْنَا لَهُم الْفرق بَيْننَا وَبينهمْ برهانان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 واضحان أَحدهمَا أَن الْقَوْم يأمرون باعتقاد أَقْوَالهم وتصديقهم قبل أَن يعرفوا براهينهم وَنحن لَا نَفْعل هَذَا بل ندعوا إِلَى معرفَة الْبَرَاهِين وتصحيحها قبل أَن نصدق فِيمَا نقُول وَالثَّانِي أَن الْقَوْم يكتمون أَقْوَالهم وبراهينهم مَعًا وَلَا يبيحونها للسبر وَالنَّظَر وَنحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل أحد وندعوا إِلَى سبرها وتقبيسها وَأَخذهَا إِن صحت ورفضها إِن لم تصح وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ولسنا نقُول إننا لَا نقدر أَن نحد براهيننا بِحَدّ جَامع مُبين لَهَا بل نقدر على ذَلِك وَهُوَ أَن الْبُرْهَان المفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل فِي كل مَا اخْتلفُوا فِيهِ أَن يرجع رُجُوعا صَحِيحا متيقناً إِلَى الْحَواس أَو إِلَى الْعقل من قرب أَو من بعد رُجُوعا صَحِيحا لَا يحْتَمل وَلَا يُمكن فِيهِ إِلَّا ذَلِك الْعَمَل فَهُوَ برهَان وَهُوَ حق مُتَيَقن وَإِن لم يرجع كَمَا ذكرنَا إِلَى الْحَواس أَو إِلَى الْعقل فَلَيْسَ برهاناً وَلَا يَنْبَغِي أَن تشتغل بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى كَاذِبَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِهَذَا سقط الْقيَاس والتقليد لِأَنَّهُ لَا يقدر الْقَائِلُونَ بهما على برهَان فِي تصحيحهما يرجع إِلَى الْحَواس أَو إِلَى أول الْعقل رُجُوعا متيقناً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقُول قولا كَافِيا بعون الله وقوته وَهُوَ أَن أول كل مَا اخْتلفت فِيهِ من غير الشَّرِيعَة وَمن تَصْحِيح حُدُوث الْعَالم وَأَن لَهُ مُحدثا وَاحِدًا لم يزل وَمن تَصْحِيح النُّبُوَّة ثمَّ تَصْحِيح نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن براهين كل ذَلِك رَاجِعَة رُجُوعا صَحِيحا ضَرُورِيًّا إِلَى الْحَواس وضرورة الْعقل فَمَا لم يكن كَذَا فَلَيْسَ بِشَيْء وَلَا هُوَ برهاناً وَإِن كَانَ مَا اخْتلف فِيهِ من الشَّرِيعَة بعد صِحَة جملها فَإِن براهين كل ذَلِك رَاجِعَة إِلَى مَا أخبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله تَعَالَى إِذْ هُوَ الْمَبْعُوث إِلَيْنَا بالشريعة فَمَا لم يكن هَكَذَا فَلَيْسَ برهاناً وَلَا هُوَ شَيْئا وَفِي أول ديواننا هَذَا بَاب فِي مَاهِيَّة الْبَرَاهِين الموصلة إِلَى معرفَة الْحَقِيقَة فِي كل مَا اخْتلف النَّاس فِيهِ فَإِذا أضيف إِلَى هَذَا ارْتَفع الْإِشْكَال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْكَلَام فِي الألوان قَالَ أَبُو مُحَمَّد الأَرْض غبراء وفيهَا حَمْرَاء وفيهَا بَيْضَاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة وَالْمَاء كُله أَبيض إِلَّا أَن يكْتَسب لوناً بِمَا استضاف إِلَيْهِ لفرط صفائه فيكتسى لون إنائه أَو مَا هُوَ فِيهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه أَبيض لبراهين أَحدهَا أَنه إِذا صب فِي الْهَوَاء بهرق ظهر أَبيض صافي الْبيَاض وَالثَّانِي فِي أَنه جمد فَصَارَ ثلجاً أَو بردا ظهر أَبيض شَدِيد الْبيَاض وَأما الْهَوَاء فَلَا لون لَهُ أصلا وَلذَلِك لَا يرى لِأَنَّهُ لَا يرى إِلَّا اللَّوْن وَقد زعم قوم أَنه إِنَّمَا لَا يرى لَا نطباقه على الْبَصَر وَهَذَا فَاسد جدا وبرهان ذَلِك أَن الْمَرْء يغوص فِي المَاء الصافي وَيفتح عَيْنَيْهِ فِيهِ فَيرى المَاء وَهُوَ منطبق على بَصَره لَا حَائِل بَينهمَا لَا يرى الْهَوَاء فِي تِلْكَ الْحَال وَإِن استلقي على ظَهره فِي المَاء وَهَذَا أَمر مشَاهد وَأما الَّذِي يرى عِنْد دُخُول خطّ ضِيَاء الشَّمْس من كوَّة فَإِنَّمَا هُوَ أَن الْأَجْسَام تنْحَل مِنْهَا أبدا أَجزَاء صغَار وَهِي الَّتِي تسمي الهباء فَإِذا انحصر خطّ ضِيَاء الشَّمْس وَقع الْبَصَر على تِلْكَ الْأَجْزَاء الصغار وَهِي متكاثفة جدا ولونها الغبرة فَهِيَ الَّتِي ترى لأما سواهَا وَمن تَأمل هَذَا عرفه يَقِينا وَإِن الْبيُوت مَمْلُوءَة من هَذَا الضياء المنحل من لأرض وَالثيَاب والأبدان وَسَائِر الأجرام وَلَكِن لدقتها لَا ترى إِلَّا أَن انحصر خطّ الشَّمْس فَيرى مَا فِي ذَلِك الانحصار مِنْهَا فَقَط وَأما النَّار فَلَا ترى أَيْضا لِأَنَّهُ لَا لون لَهَا فِي فلكها وَأم المرئية عندنَا فِي الْحَطب والفتيلة وَسَائِر مَا يَحْتَرِق فَإِنَّمَا هِيَ رطوبات ذَلِك المحترق يَسْتَحِيل هَوَاء فِيهِ نارية فتكتسب ألوانا بمقدارما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء وَلَا وردية وحمراء وبيضاء وصفراء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا يعرض للرطوبات الْمُتَوَلد مِنْهَا دَائِرَة قَوس قزَح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 قَالَ أَبُو مُحَمَّد أجمع جَمِيع الْمُتَقَدِّمين بعد التَّحْقِيق بالبرهان على أَنه لَا يرى إِلَّا الألوان وَإِن كل مَا يرى فَلَيْسَ إِلَّا لوناً وحدوا بعد ذَلِك الْبيَاض بِأَنَّهُ لون يفرق الْبَصَر وحدوا السوَاد بِأَنَّهُ لون يجمع الْبَصَر قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حد وَقعت فِيهِ مُسَامَحَة وَإِنَّمَا خرجوه على قَول الْعَامَّة فِي لون السوَاد وَمعنى يجمع الْبَصَر أَنه يقبضهُ فِي دَاخل النَّاظر وَيمْنَع من انتشاره وَمن تشكل المرئيات وَإِذا هَذَا معنى الْقَبْض بِلَا شكّ فَهُوَ معنى منع الْبَصَر والإدراك وكفه وَمن هَذَا سمى المكفوف مكفوفاً فَإِذا السوَاد يمْنَع الْبَصَر من الانتشار ويقبضه عَن الانبساط ويكفه عَن الْإِدْرَاك وَهَذَا كُله معنى وَاحِد وَإِن اخْتلفت الْعبارَات فِي بَيَانه فالسواد بِلَا شكّ غير مرئي إِذْ لَو رؤى لم يقبض خطّ الْبَصَر إِذْ لَا رُؤْيَة إِلَّا بامتداد الْبَصَر فَإذْ هُوَ غير مرئي فالسواد لَيْسَ لوناً إِذْ اللَّوْن مرئي وَلَا بُد وَمَا لم ير فَلَيْسَ لوناً وَهَذَا برهَان عَقْلِي ضَرُورِيّ وبرهان آخر حسي وَهُوَ أَن الظلمَة إِذا أطبقت فَلَا فرق حِينَئِذٍ بَين المفتوح الْعَينَيْنِ السَّالِم النظرين وَبَين الْأَعْمَى المنطبق والمسدود الْعَينَيْنِ سداً أَو كفا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالظلمة لَا ترى وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن تكون ترى الظلمَة وبالحس نعلم أَن المنطبق الْعَينَيْنِ فِيهَا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة من عدم الرُّؤْيَة وَمَعَ المفتوح الْعَينَيْنِ فِيهَا والظلمة هِيَ السوَاد نَفسه فَمن ادّعى أَنَّهُمَا متغايران فقد كَابر العينان وَادّعى مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ بِدَلِيل أبدا وَنحن نجد أَن لَو فتح فِي حَائِط بَيت مغلق كوتان ثمَّ جعل على أحداهما ستر أسود وَتركت الْأُخْرَى مكشوفة لما فرق النَّاظر من بعد بَينهمَا أصلا وَلَو جعل على أحداهما ستر أَحْمَر أَو أصفر أَو أَبيض لتبين ذَلِك للنَّاظِر يَقِينا من بعد أَو قرب وَهَذَا بَيَان أَن السوَاد والظلمة سَوَاء وبرهان آخر حسي وَهُوَ أَن خطوط الْبَصَر إِذا اسْتَوَت فَلَا بُد من أَن تقع على شَيْء مَا لم يقف فِيهِ مَانع من تماديها وَنحن نشاهد من بَين يَدَيْهِ ظلمَة أَو هُوَ فِيهَا لَا يَقع بَصَره على حَائِط إِن كَانَ فِي الظلمَة وَسَوَاء كَانَ فِيهَا حَائِط مَانع من تمادي خطّ الْبَصَر أَو لم يكن فصح يَقِينا أَن الظلمَة لَا ترى بل هِيَ مَانِعَة من الرُّؤْيَة والظلمة هِيَ السوَاد والسواد هُوَ الظلمَة لم يخْتَلف قطّ فِي هَذَا اثْنَان لَا بطبيعة وَلَا بشريعة وَلَا فِي معنى اللُّغَة وَلَا بِالْمُشَاهَدَةِ فقد صَحَّ أَن السوَاد لَا يرى أصلا وَأَنه لَيْسَ لوناً قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا وَقع الْغَلَط على من ظن أَن السوَاد يرى لِأَنَّهُ أحس بِوُقُوع خطوط الْبَصَر على مَا حوالي الشَّيْء الْأسود من سَائِر الألوان فَعلم بتوسط إِدْرَاكه مَا حوالي الْأسود أَن بَين تِلْكَ النهايات شَيْئا خَارِجا عَن تِلْكَ الألوان فَقدر أَنه يرَاهُ وَمن هَا هُنَا عظم غلط جمَاعَة ادعوا بظنونهم من الْجِهَة الَّتِي ذكرنَا أَنهم يرَوْنَ الحركات والسكون فِي الأجرام وَالْأَمر فِي كل ذَلِك وَفِي الْأسود وَاحِد وَلَا فرق فَإِن قَالَ قَائِل أَنه إِن كَانَ فِي جسم الْأسود زِيَادَة ناتئة سَوْدَاء كَسَائِر جسده رأيناها فَلَو لم تَرَ لم تعلم بنتوء تِلْكَ الْهَيْئَة الناتئة لَهُ على سطح جسده قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا أَيْضا وهم لِأَنَّهُ لما لم يَمْتَد خطّ الْبَصَر عِنْد قبض تِلْكَ الْهَيْئَة الناتئة لَهُ وامتدت سَائِر الخطوط إِلَى أبعد من تِلْكَ الْمسَافَة وَعلمت النَّفس بذلك توهم من لم يُحَقّق أَن هَذِه رُؤْيَة وَلَيْسَت كَذَلِك وتوهموا أَيْضا أَنهم يرَوْنَ السوَاد ممازجا لحمرة أَو لغبرة أَو لخضرة أَو لصفرة أَو لزرقة فَإِذا كَانَ هَكَذَا فَإِن الْبَصَر يرى مَا فِي ذَلِك السَّطْح من هَذِه الألوان على حسب قوتها وضعفها فَقَط فيتوهمون من ذَلِك أَنهم رَأَوْا السوَاد ويتوهمون أَيْضا أَنهم يرونه لأَنهم قَالُوا نَحن نميز الْأسود الْبراق البصيص واللمعان من الْأسود إِلَّا كدر الغليظ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَكَان يَنْبَغِي أَن نتثبت فِيهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الأملاس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 هُوَ اسْتِوَاء أَجزَاء السَّطْح والخشونة هِيَ تبَاين أَجزَاء السَّطْح وَقد نجد أملس لماعاً وأملس كدراً فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالبصيص واللمعان شَيْء آخر غير اسْتِوَاء أَجزَاء السَّطْح وَإِذ هُوَ كَذَلِك وَهُوَ مرئي فالبصيص بِلَا شكّ لون آخر مَحْمُول فِي اللَّوْن بالحمرة أَو الصُّفْرَة أَو سَائِر الألوان وَفِيمَا عري من جَمِيع الألوان سَوَاء فَإِذا قُلْنَا أسود لماع فَإِنَّمَا تُرِيدُ أَنه لَيْسَ فِيهِ من الألوان إِلَّا اللمعان فَقَط فَهُوَ لون صَحِيح وَقد عرى من الْحمرَة وَمن الصُّفْرَة وَمن الْبيَاض والخضرة والزرقة وَمِمَّا تولد من امتزاج هَذِه الألوان وَلَعَلَّ الكدرة أَيْضا لون آخر مرئي كاللمعان وَهِي أَيْضا غير سَائِر الألوان فَهَذَا مَا لَا يُوجد مَا يمْنَع مِنْهُ بل الدَّلِيل يثبت أَن الكدرة أَيْضا لون وَهُوَ وُقُوع الْبَصَر عَلَيْهَا وَهُوَ لَا يَقع إِلَّا على لون وَمن أَبى من هَذَا كلفناه أَن يحد لنا اللمعان والكدرة فَإِنَّهُ لَا يقدر على شَيْء أصلا غير مَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَإنَّا نرى الثَّوْب الْأسود يستبين نسج خيوطه ونتوء مَا نتأ مِنْهَا وانخفاض مَا انخفض فلولا أَنه يرى مَا علم ذَلِك كُله فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَنا قد علمنَا أَن خطوط الْبَصَر تخرج من النَّاظر وَلها مساحة مَا وَبَعضهَا أطول من بعض بِلَا شكّ لِأَن الخطوط الْخَارِجَة من الْبَصَر إِلَى السَّمَاء أطول من الخطوط الْخَارِجَة من الْبَصَر إِلَى الجليس لَك بِلَا شكّ فَلَمَّا خرجت خطوط الْبَصَر إِلَى الثَّوْب الْمَذْكُور انْقَطع تمادي بَعْضهَا أَكثر من تمادي الْبَعْض فبالحس علمنَا هَذَا لَا لِأَن بصرنا وَقع على لون أصلا وَأَيْضًا فَإِن النُّور هُوَ اللَّوْن الَّذِي طبعه بسط قُوَّة النَّاظر واستخراج قوى الْبَصَر حَتَّى أَنه إِذا وَافق نَاظرا ضَعِيف البنية بطبعه أَو بِعرْض اجتلب جَمِيعه واستلبه كُله أَو اقتطفه فعلى قدر قُوَّة النُّور فِي اللَّوْن المرئي وَضَعفه فِيهِ يكون وُقُوع الْبَصَر عَلَيْهِ هَذَا أَمر مشَاهد بالعيان فَكلما قل النُّور فِي اللَّوْن كَانَ وُقُوع الْبَصَر عَلَيْهِ أَضْعَف وَكَانَت الرُّؤْيَة لَهُ أقل حَتَّى إِذا عدم النُّور جملَة وَلم يبْق مِنْهُ شَيْء فقد بَطل بِالضَّرُورَةِ أَن يَمْتَد خطوط الْبَصَر إِلَيْهِ وَأَن يَقع النَّاظر عَلَيْهِ إِذْ لَا نور فِيهِ وَلَا يخْتَلف ذُو حس فِي الْعَالم فِي أَن السوَاد الْمَحْض الْخَالِص لَيْسَ فِيهِ شَيْء من النُّور فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَا شكّ فِي أَنه يرى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن جبلا ذَا لون مَا وأرضاً ذَات لون مَا وفيهَا غاران مظلمان لَا شكّ أَن كل نَاظر إِلَيْهِمَا فَإِنَّهُ لَا يرى إِلَّا مَا حول الغارين وَأَنه لَا يرى مَا ضمه خطّ الغارين فَإذْ هَذِه كلهَا براهين ضَرُورِيَّة مُشَاهدَة حسية عقلية فالبرهان لَا يُعَارضهُ برهَان أصلا والبرهان لَا يُعَارض بِالدَّعْوَى وَلَا بالظنون وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما من كَلَام الله تَعَالَى فَالله يَقُول {ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا} وَقَوله تَعَالَى {يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا} فصح يَقِينا أَن الظلمَة مَانِعَة من النّظر والرؤية جملَة وَهُوَ السوَاد بِلَا شكّ فَهُوَ لَا يرى وَلَا خلاف فِي أَن الْبَصَر الْقَلِيل يداوى بِالثَّوْبِ الْأسود وَالْقعُود فِي الظلمَة وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لمَنعه من امتداد خطّ بَصَره فيكل بامتداده وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قيل السوَاد غير الظلمَة قُلْنَا إِنَّا نجد الأرمد الشَّديد الرمد مَتى صَار فِي بَيت مظلم شَدِيد الانطباق لَا يدْخلهُ شَيْء من الضَّوْء أمكنه فتح عَيْنَيْهِ بِحَسب طاقته وَلم يألم بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَمَتى جَعَلْنَاهُ فِي بَيت مضيء وعَلى وَجهه وَعَيْنَيْهِ ثوب كثيف جدا أسود أمكنه فتح عَيْنَيْهِ حسب طاقته وَلم يألم بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَكَانَت حَاله فِي تَغْطِيَة وَجهه بذلك الثَّوْب كحاله فِي الظلمَة التَّامَّة سَوَاء سَوَاء وَكَذَلِكَ يعرض للصحيح الْبَصَر فِي الْحَالَتَيْنِ المذكورتين وَلَا فرق وَمَتى جعلنَا على بصر الأرمد ثوبا أَبيض ألم ألما شَدِيدا كألمه إِذا نظر فِي الضَّوْء وَلَا فرق فَإِن جعلنَا على وَجهه ثوبا أصفر ألم دون ذَلِك وَإِن كَانَ أَحْمَر ألم دون ذَلِك فَإِن كَانَ أخضرا ألم دون ذَلِك على قدرهما فِي اللَّوْن من ممازجة الْبيَاض لَهُ فصح أَن السوَاد والظلام شَيْء وَاحِد وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا بِالسَّوَادِ غير الظلمَة وَهُوَ لَا يرى إِلَّا أَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 الزنْجِي والغراب وَالثَّوْب لَيْسَ شَيْء من ذَلِك أسود وكل ذَلِك يرى ولون كل مَا ذكرنَا لون غير السوَاد إِلَّا أَنه سمي باسم السوَاد مجَازًا وَقَالَ بَعضهم السوَاد اسْم مُشْتَرك يَقع على الظلمَة وَيَقَع على لون الزنْجِي والغراب وَالثَّوْب فَكل ظلام سَواد وَلَيْسَ كل سَواد ظلاماً فَإِن عنيت بِالسَّوَادِ لون الزنْجِي والغراب وَالثَّوْب فَهُوَ يرى وَهُوَ غير الظلمَة وَإِن عنيت بِالسَّوَادِ الظلمَة فَهُوَ لَا يرى وَقَالَ بَعضهم الظلمَة لَا ترى وَلَيْسَت سواداً أصلا والسواد شَيْء آخر غير الظلمَة وَهُوَ لون يرى وَقَالَ بَعضهم الظلمَة والسواد شَيْء وَاحِدًا وَكِلَاهُمَا يرى وأقروا بِأَن الْأَعْمَى والأكمة والمفقوء الْعَينَيْنِ والمطبق الْعَينَيْنِ يرى الظلمَة الْكَلَام فِي المتوالد والمتولد قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْحَيَوَان كُله يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة متوالد وَلَا بُد وَلَا ومتولد وَلَا بُد لَا يتوالد وَقسم ثَالِث يتوالد ويتولد أَيْضا فَأَما الْمُتَوَلد يتَوَلَّد ومتولد فكبنات وردان فَإِنَّهَا تتولد وَقد رأيناها تتسافد وكالعجلان فَإِنَّهَا تتولد وَقد رأيناها تتسافد وَكثير من الْحَيَوَان الْمُتَوَلد فِي النَّبَات وَقد رَأَيْنَاهُ يتسافد وَمثل الْقمل فَإنَّا قد شَاهَدْنَاهُ يخرج من تَحت الْجلد عيَانًا وَيحدث فِي الرؤس وَقد يتوالد وَقد نجد بعضه إِذا قطع ممروء بيضًا وَأما الْمُتَوَلد الَّذِي لَا يتوالد فالحيوان الْمُتَوَلد فِي أصُول أشفار الْعَينَيْنِ وأصول شعر الشَّارِب واللحية والصدر والعانة وَهُوَ ذُو أرجل كَثِيرَة لَا يُفَارق مَوْضِعه وَمَا علمناه يتوالد أصلا وَمثل الصفار الْمُتَوَلد فِي الْبَطن وشحمة الأَرْض وكل هَذَا لَا نعلمهُ يتوالد الْبَتَّةَ وَقد شاهدنا ضفادع صغَارًا تتولد من لَيْلَتهَا فَتُصْبِح مناقع الْمِيَاه مِنْهَا مَمْلُوءَة وَمِنْهَا الثلماندرية وَهُوَ حَيَوَان كَبِير يشبه الجراذين الصغار بطيئة الْحَرَكَة وحيوانات كَثِيرَة مِنْهَا صَغِير مفرط الصغر يكَاد لصغره لَا يتَجَزَّأ مِثْلَمَا كثيرا رَأَيْنَاهُ فِي الدوى والدفاتر وَهُوَ سريع الْمَشْي جدا ومها السوس الْمُتَوَلد فِي الباقلا والدود الْمُتَوَلد فِي الْجِرَاحَات وَفِي الحمص والبلوط وَفِي التفاح وَبَين الْحَشِيش وَبَين الصنوبر وَفِي الكنف وَهِي ذَوَات الأذناب والحباحب الْمُتَوَلد فِي الْخضر وَهُوَ فِي غَايَة الْحسن وَمِنْه مَا يضيء بِاللَّيْلِ كَأَنَّهُ شرارة نَار والدود ذَوَات الأرجل الْكَثِيرَة والذراريح وَهَذَا كثير لَا يُحْصِيه لَا خالقه عز وَجل وَمِنْهَا الضفادع والحجازب فقد صَحَّ عندنَا يَقِينا لَا مجَال للشَّكّ فِيهِ أَنَّهَا تتولد فِي مناقع الْمِيَاه دويبات صغَار ملس شَدِيدَة السوَاد ذَوَات أَذْنَاب تمشي عندنَا ثمَّ صَحَّ عندنَا كَذَلِك أَنَّهَا تكبر فنقطع أذنابها وتتبدل ألوانها وتستحيل أشكالها وتعظم فَتَصِير ضفادع ثمَّ تزيد كبرا واستحالة ألوان فَتَصِير حجازب قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد رَأَيْتهَا فِي جَمِيع تنقلها كَمَا وَصفنَا وَقد عرض علينا فِي مناقع الْمِيَاه خطوط ظَاهِرَة قيل لنا أَنَّهَا بيض الضفادع وَأما الذُّبَاب فقد شاهدناها عيَانًا تتناكح وَالْأُنْثَى مِنْهَا هِيَ الْكِبَار والذكور هِيَ الصغار وشاهدنا البراغيث تتناكح أَيْضا والكبار هِيَ الْإِنَاث والذكور هِيَ الصغار نشاهد ذَلِك بِأَن الْأَعْلَى هُوَ الصَّغِير أبدا ونجد الْأُنْثَى مَمْلُوءَة بيضًا إِذا وضعت فتلقي بيضها فِي القباب وَفِي خلال أَجزَاء الثِّيَاب ثمَّ يخرج قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد رَأينَا ذباباً صغَارًا جدا وذباباً كبارًا مفرط الْكبر وشاهدنا بِأَبْصَارِنَا الدُّود الطَّوِيل الذَّنب الْمُتَوَلد فِي الكنف وبزول الْبَقر وَالْغنم يَسْتَحِيل فَيصير فراشا طياراً مُخْتَلف الألوان بديع الْخلقَة من ابيض وأصفر فَاقِع وأخضر وَلَا زودي منقط وَلَا نَدْرِي كَيفَ الْحَال فِي العقارب والعناكب والرتيلات والبقوقات والدبر إِلَّا أننا نَدْرِي أَن دود الْحَرِير يتوالد يتسافد الذُّكُور مِنْهَا والأناث وتبيض ثمَّ تحضن بيضها هَذَا مَالا خلاف فِيهِ وَمَا رأى أحد قطّ دود حَرِير يتَوَلَّد من غير بيضه وَكَذَلِكَ النَّمْل فَإِنَّهُ يتوالد وَقد رَأينَا بيضه وَالْعرب تسميه المازن وَكَذَلِكَ النَّحْل يتوالد وَيُوجد فِي مَوَاضِع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 بنائِهِ فِي تضاعيفه الْقَبْر الَّذِي فِيهِ الْعَسَل وَكَذَلِكَ الْجَرَاد وَالْعرب تسميه بَيْضَة الصرد قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا رأى أحد قطّ نحلاً يتَوَلَّد وَلَا نملاً يتَوَلَّد وَلَا جَرَادًا يتَوَلَّد إِلَّا فِي أكذوبات لَا تصح وَأما سَائِر الْحَيَوَان فمتوالد ولابد من مني أَو بيض فَكل ذِي أذن بارزة يلد طائراً كَانَ أَو غير طَائِر كالخفاش غَيره وكل مَا لَيْسَ لَهُ أذن بارزة فَهُوَ يبيض طائراً كَانَ أَو غير طَائِر كالحيات والجراذين والوزغ وَغير ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد فطلبنا أَن نجد حدا يجمع مَا يتَوَلَّد دون مَا يتوالد أَو مَا يتوالد دون مَا يتَوَلَّد فَلم نجد إِلَّا أننا رَأينَا كل ذِي عظم وفقارات لَا سَبِيل الْبَتَّةَ إِلَى أَن يُوجد من غير تناكح كحيوان الْبَحْر الَّذِي لَهُ الْعظم والفقارات ورأينا مَالا عظم لَهُ وَلَا فقار فَمِنْهُ مَا يتَوَلَّد وَلَا يتوالد وَمِنْه مَا يتَوَلَّد ويتوالد مَعًا وكل ذَلِك خلق الله عز وَجل يخلق مَا شَاءَ كَمَا شَاءَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَيْسَت الْقُدْرَة فِي الْخلق فِي خلق مَا خلقه الله عز وَجل حَيَوَانا ذَا أَربع أَو ذَا ريش من بَيْضَة أَو من مني بأعظم من الْقُدْرَة من خلقهَا من تُرَاب دون توَسط بَيْضَة وَلَا مني وَلَا الْبُرْهَان عَن الصنع والابتداء فِي إِحْدَاهمَا بأوضح مِنْهُ فِي الآخر بل كل لَك برهَان على ابْتِدَاء الْخلقَة وعَلى عَظِيم الْقُدْرَة من الْبَارِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ادّعى قوم أَنه يتَوَلَّد فِي الثَّلج حَيَوَان ويتولد فِي النَّار حَيَوَان وَهَذَا كذب وباطل وَإِنَّمَا قاسوه على تولد حَيَوَان مَا فِي الأَرْض وَالْمَاء وَالْقِيَاس بَاطِل لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان وَمَا لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا حصلت الْأَمر فالحيوان لَا يتَوَلَّد من المَاء وَحده وَلَا من الأَرْض وَحدهَا وَلَكِن مِمَّا يجْتَمع من الأَرْض وَالْمَاء مَعًا فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ وَلَا معقب لحكمه لَا إِلَه غَيره عز وَجل تمّ السّفر الثَّالِث بِتمَام جَمِيع الدِّيوَان من الْفَصْل فِي الْملَل والآراء والنحل بِحَمْد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وَافق الْفَرَاغ مِنْهُ فِي تِسْعَة أَيَّام خلت من شهر ذِي الْقعدَة سنة 1271 إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ بعد الْألف من هِجْرَة من لَهُ الْعِزّ والشرف على يَد الْفَقِير الى الله مُحَمَّد بن مُوسَى غفر الله لَهُ ولوالديه وللمسلمين آمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آله وَصَحبه وَسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 يَقُول مصححه الراجي غفران المساوى مُحَمَّد ماضي الرخاوى الْحَمد لله الَّذِي تفرد بِالتَّوْحِيدِ وتوحد بالأزلية والتأييد وتمجد بالصمدانية وتقدس عَن التولد والتوليد وَجل ذاتا وَصفَة وفعلا عَن الضِّدّ والتشبيه والنديد خَالق الْخلق وباسط الرزق ومدبر الْأُمُور ومصرفها كَيفَ يَشَاء وَيُرِيد بِلَا همامة وَلَا فكرة وَلَا ترو وَلَا ترويد الْقَائِم على كل نفس بِمَا كسبت والرقيب على خلقه والشهيد الَّذِي لَا تنفذ خَزَائِن رَحمته وَلَا يبيد ملكه وَلَا يُعِيد أَحْمَده وأشكره وَأَتُوب إِلَيْهِ وأستغفره وأسأله اللطف بِمَا جرت بِهِ الْمَقَادِير وأصلى وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد الفاتح لما أغلق والناصر الْحق بِالْحَقِّ وَالْهَادِي إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أما بعد فقد تمّ بعون الله سُبْحَانَهُ تَعَالَى طبع كتاب الْفَصْل فِي الْملَل والأهواء والنحل للْإِمَام أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد بن حزم وَإِن هَذَا السّفر من أنفس الْأَسْفَار الَّتِي وضعت للبحث فِي الديانَات والكتب السماوية وآراء الفلاسفة وَالْخلاف بَينهم وَبَين المليين وَالرَّدّ على منكري الألوهية ومعتنقي الْأَدْيَان الْمُخَالفَة لدين الْإِسْلَام وَبَيَان مَا طَرَأَ على معتقداتهم من زيغ وتضليل وَدخل على كتبهمْ من تَحْرِيف وتبديل عني فِيهِ مؤلفة رَضِي الله عَنهُ بالبحث والتمحيص وإيراد الْأَدِلَّة وَالْحجاج الْعَقْلِيَّة والنقلية الَّتِي تبت بأجلى الْبَرَاهِين وأدمغ الْحجَج حقية الشَّرِيعَة المحمدية ووضوح محجتها وخلوصها من كل شوائب التَّغَيُّر وَالْفساد ومتانة أُصُولهَا وَبعدهَا عَن كل مَا يُنَافِي التَّوْحِيد وعصمة الْأَنْبِيَاء وسلامة نصوصها من كيد الكائدين وعبث العابثين وبهامشه كتاب الْملَل والنحل لإبن أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن أَحْمد أبي الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن أبي بكر أَحْمد الشَّهْر ستاني رَضِي الله عَنْهُم جَمِيعًا ونفع بمؤلفاتهم جَمِيع الْملَّة الإسلامية ووفق أهل الزيغ والأهواء للدّين الحنيف والمللة السمحاء هَذَا وَقد قَامَ بشرح معضلات الفاظه وتبيين كَلَامه فَضِيلَة الْأُسْتَاذ الْعَلامَة الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن خَليفَة الْمدرس بمدرسة ماهر باشا وَقد قَامَ بطبعه حَضْرَة الْهمام السَّيِّد مُحَمَّد على صبيح ذَلِك بمطبعته الْكَائِن مركزها بجوار الْأَزْهَر الشريف بِمصْر وَكَانَ تَمام طبعه وَحسن تنسيقه وَوَضعه فِي أَوَاخِر شهور ربيع الثَّانِي من شهور سنة 1348 هجرية على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى التَّحِيَّة آمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91