الكتاب: فقه العبادات على المذهب الحنفي المؤلف: الحاجة نجاح الحلبي   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- فقه العبادات على المذهب الحنفي نجاح الحلبي الكتاب: فقه العبادات على المذهب الحنفي المؤلف: الحاجة نجاح الحلبي   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] مقدمة [المؤلفة] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة التي يعود المسلمون إليها لمعرفة أحكام العبادات والمعاملات المختلفة، ولتطبيقها في حياتهم اليومية، بل هو أكثر هذه المذاهب انتشاراً في العالم الإسلامي، حيث استند القضاة إلى أحكامه في قضائهم ردحاً من الزمن إبان الخلافة العباسية، كما كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية. وقد ترك لنا السلف تراثاً غنياً في هذا الموضوع في كتب عديدة، منها ما كتب في حياة إمام المذهب، ومنها ما كتب بعد من قبل مشاهير فقهائه. في هذه المراجع دونت نتائج الجهود الكبرى التي بذلها علماء السلف الذين استقصوا كل صغيرة وكبيرة في ميدان الفقه، ولم يتركوا زيادة لمستزيد، ومدوناتهم هذه، رغم مرور قرون على تأليفها، ما تزال وستبقى مرجع المسلم في معرفة تفاصيل أحكام الشريعة الإسلامية، لكن الخوض فيها، وعلى أهميته، ليس بالأمر اليسير على من يعيش في زمننا، لتفاوت ما بين أبناء العصرين في طريقة العرض وفي الأسلوب. لذا جاء هذا الكتاب جسراً يسهل على القارئ الاتصال مع تلك الكتب، فهو مدخل إليها؛ بالنسبة للباحث المتخصص، كما أنه مرجع عملي كاف لمن ينشد في كتب الفقه الإرشاد في سلوكه اليومي على ضوء قواعد الشريعة الإسلامية. وموضوعاته تقتصر على قسم العبادات في المذهب. في هذا الكتاب محاولة لتقديم المعلومات بطريقة تنسجم مع روح العصر؛ حيث يعتني الكتاب بالتقسيم والترقيم والعنونة والابتعاد عن الاستطرادات المطولة، كما يعتنون بعزو المعلومات إلى مراجعها بدقة، لتوثيقها ولتسهيل العودة إليها في الأصول لمن أراد. هذا الأسلوب في التأليف يلائم مادة الكتاب؛ حيث تتشعب القضايا ويلزم حفظها بعد فهمها للتطبيق العملي، وقد اعتمدته في كتابي، وأضفت شروحاً في الهوامش حيث اقتضى الأمر. كما حرصت على ذكر الأدلة محققة من الكتاب والسنة بالاعتماد على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم والمعاجم المفهرسة للحديث وأمهات كتب الحديث. وقد صدرت بمقدمة عن حياة الإمام أبي حنيفة والفقه الحنفي. مع هذا الجهد المبذول أقر أنه ما كان لعمل بشري أن يبلغ الكمال، وإن طمع المرء لبلوغه، وما عاد مؤلف كتاب إلى ما كتبه مرة إلا وجد فيه ما يمكن إضافته أو حذفه أو تعديله بغية بلوغ العمل مرتبة أفضل. وإني إذ أضع مؤلفي هذا بين يدي القراء لأرجو من الله أن يتقبله مني وأن ينفع به المسلمين، آملة منهم تزويدي بملاحظاتهم حول ما فيه سلبيات لعلي أتدارك ما وقع منها في الطبعات القادمة إن شاء الله. وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر لكل من ساهم معي بجهد في إنجاز هذا الكتاب، وأتوجه إلى الله بالدعاء أن يثيبه عني وعن المسلمين. المؤلفة -3 ربيع الأول 1406 هـ -15 تشرين الثاني 1985 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 - لمحة عن حياته (80 - 150 هـ) . نسبه: هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي، عرف بالإمام الأعظم. كان جده من أهل كابل قد أسر عند فتح بلاده ثم مُنّ عليه. وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه، بل كان حر النفس أصيلاً، ولم يكن نسبه الفارسي غاضاً من قدره في عصر يقدم شرف التقوى على شرف النسب. وكان العلم في عصره أكثره في الموالي (1) ، فكانوا الوسط العلمي للدولة الإسلامية بعد الصحابة ردحاً طويلاً من الزمن، فصدقت فيه نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس) (2) .   (1) الموالي: اسم أطلقه المؤرخون على غير العرب من المسلمين. (2) مسند الإمام أحمد: ج 2 / ص 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مولده ونشأته: ولد أبو حنيفة رضي الله عنه في الكوفة سنة ثمانين للهجرة على رواية الأكثرين، ونشأ وتربى بها وعاش أكثر حياته فيها متعلماً ومجادلاً ومعلماً. ولد أبوه ثابت على الإسلام ويروى أنه التقى بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صغيراً فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. نشأ أبو حنيفة رضي الله عنه في بيت إسلامي خالص، وقد ابتدأ حياته تاجراً ثم لفته الشعبي فقيه الأثر، لما لمح فيه من مخايل الذكاء وقوة الفكر، إلى الاختلاف إلى العلماء مع التجارة، فانصرف إلى العلم دون أن يهمل التجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 طلبه للعلم: تثقف أبو حنيفة رضي الله عنه بالثقافة الإسلامية التي كانت في عصره، فقد حفظ القرآن على قراءة عاصم، ودرس الحديث، وعرف قدراً من النحو والأدب والشعر، كما درس علم الكلام وأصول الدين، وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري، وقد ذكر في اختياره للفقه قوله: "كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة ... ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به". وقد اتجه أبو حنيفة رضي الله عنه إلى دراسة الفتيا على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رضي الله عنه في الأربعين من عمره. ومع ملازمة أبي حنيفة رضي الله عنه لشيخه حماد فقد كان كثير الرحلة إلى بيت الله الحرام حاجاً، يلتقي في مكة والمدينة بالفقهاء والمحدثين والعلماء، يروي عنهم الأحاديث ويذاكرهم الفقه ويدارسهم ما عندهم من طرائق. وكان يتتبع التابعين أينما وحيثما ثقفوا، وخصوصاً من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقد قال في ذلك: "تلقيت فقه عمر وفقه عبد الله بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهم". وقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال بأمثالها بعقل قوي مستقيم ومنطق قويم، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أخلاقه: كان أبو حنيفة رضي الله عنه بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة، صائماً بالنهار قائماً بالليل تالياً لكتاب الله، خاشعاً دائباً في طاعة الله، قام الليل ثلاثين سنة وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه. كان كثير البكاء يرحمه جيرانه لكثرة بكائه، كثير الحياء جم الأدب وخاصة مع شيوخه، باراً بوالديه يدعو لهما في كل صلاة ويتصدق عنهما. كان كثير الورع يقول: "لو أن عبداً عبد الله تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم إنه لا يدري ما يدخل في بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه". ولذا كان شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، وقد تصدق ببضاعته كلها عندما باع شريكه ثوباً معيباً دون أن يظهر عيبه. كان عظيم الأمانة في معاملاته حتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم كما هو في الذروة بين العلماء. قال فيه معاصره مليح بن وكيع: "كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان الله في قلبه جليلاً كبيراً عظيماً، وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل". ومن أخلاقه السماحة والجود، فقد كانت تجارته تدر عليه الدر الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير، وكان ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين اعترافاً بفضل الله عليه فيهم. قال فيه الفضيل بن عياض: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال معروفاً بالأفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق، رهاباً من مال السلطان". كان رحمه الله واحد زمانه، لو انشقت عنه الأرض لانشقت عن جبل من الجبال في العلم والكرم والمواساة والورع والإيثار لله تعالى. وكان أبو حنيفة رضي الله عنه حريصاً على أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه كثير التطيب، حسن الهيئة يحث من يعرفه على العناية بملبسه وسائر مظهره مذكراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) . (1)   (1) الترمذي: ج 5 / كتاب الزينة باب 41 / 2819 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 محنته ووفاته: عاش أبو حنيفة رضي الله عنه عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات، فقد أدرك دولتي بني أمية والعباس، وكان موقفه واضحاً من كل ما يجري حوله، ولم يعرف عنه يوماً أنه خرج مع الخارجين أو ثار مع الثائرين ... لكن لما طلب منه عمر بن هبيرة والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع فسجن وعذب ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (130 - 136) للهجرة، فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي الله عنهما. ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة. واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي الله عنه، وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة - رضي الله عنه - ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب تحرجاً من الوقوع في الإثم لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله، وتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه فسجن وعذب ثم أخرج من السجن على أن يفتي فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه الله سنة (150) للهجرة على أصح الأقوال. وقيل إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه الله. وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها. وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً. وقد صلى المنصور نفسه عليها إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه وقال: من يعذرني منك حياً وميتاً؟ رحم الله الإمام ورضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 منزلته العلمية ومصادر علمه: كان الإمام أبو حنيفة فقيهاً مستقلاً قد سلك في تفكيره مسلكاً استقل به وتعمق فيه. وقد بقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته، قال أحد العلماء: "أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول منه صمتاً، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي وسمعت له دوياً وجهارة بالكلام". كما وصفه معاصره الورع التقي عبد الله بن المبارك بأنه مخ العلم، فهو قد أصاب من العلم اللباب ووصل فيه إلى أقصى مداه، وكان يستبطن المسائل ويستكنه كنهها ويتعرف أصولها ويبني عليها. ولقد شغل عصره بفكره وعلمه ومناظراته، فهو بين المتكلمين يناقشهم ويدفع أهواء ذوي الأهواء؛ ويناقش الفرق المختلفة وله رأي في مسائل علم الكلام أثر عنه؛ بل هناك رسائل نسبت إليه، وله في الفقه والتخريج وفهم الأحاديث واستنباط علل أحكامها والبناء عليها المقام الأعلى، حتى إن بعض معاصريه قال: "إنه لم يعرف أحداً أحسن فهماً للحديث منه". من أين جاء لأبي حنيفة رضي الله عنه كل هذا العلم؟ ما مصادره؟ ما مهيئاته؟ ما الذي توافر له حتى كان منه ما رواه تاريخ العالم الإسلامي؟. لقد تهيأ لتوجيه أبي حنيفة رضي الله عنه توجيهاً علمياً ولنبوغه في وجهته أمور أربعة، أولها: صفاته التي جبل عليها، ثانيها: شيوخه الموجهون الذين التقى بهم وأثروا فيه، ثالثها: حياته الشخصية وتجاربه، ورابعها: العصر الذي أظله والبيئة الفكرية التي عاش فيها. وسنخص كل واحد من هذه العناصر بكلمة: -1 - صفاته: اتصف أبو حنيفة رضي الله عنه بصفات جعلته في الذروة بين العلماء، صفات العالم الحق الثبت الثقة، البعيد المدى في تفكيره، المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة الذي تسارع إليه الأفكار. كان رضي الله عنه ضابطاً لنفسه مستولياً على مشاعره، لا تعبث به الكلمات العارضة ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، كان يقول: "اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له". وقد أوتي استقلالاً في تفكيره جعله لا يخضع في رأيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوى صحابي، ولم يؤثر فيه الحب والبغض. كان عميق الفكرة بعيد الغور في المسائل، لا يكتفي بالبحث في ظواهر الأمور والنصوص ولا يقف عند ظاهر العبارة بل يسير وراء مراميها البعيدة أو القريبة، ولعل ذلك العقل الفلسفي المتعمق هو الذي دفعه لأن يتجه أول حياته إلى علم الكلام كما دفعه لدراسة الحديث دراسة متعمقة، يبحث عن علل ما اشتمل عليه من أحكام مستعيناً بإشارات الألفاظ ومرامي العبارات. كان حاضر البديهة، لا تحتبس فكرته ولا يفحم في جدال، واسع الحيلة يعرف كيف ينفذ إلى ما يفحم به خصمه من أيسر السبل، وله في ذلك غرائب ومدهشات حتى قيل فيه: إنه لو أراد أن يثبت الحكم وعكسه لما أعجزه ذلك. كان مخلصاً في طلب الحق مما نور قلبه وأضاء بصيرته، فكان لا يهمه إلا الحق سواء كان غالباً أو مغلوباً. وكان لإخلاصه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق بل يقول: "قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا". هذه جملة الصفات التي جعلت من أبي حنيفة رضي الله عنه فقيهاً انتفع بكل غذاء روحي وصل إليه. -2 - شيوخه والموجهون الذين التقى بهم: التقى الإمام أبو حنيفة بعدد من الذين عمروا من الصحابة، منهم أنس بن مالك وعبد الله ابن أبي أوفى وسهل بن سعد رضوان الله عليهم، ولكنه لم يرو عنهم إذ كان في سن لقائه بهم صغيراً، ولكن أجمع العلماء على أنه التقى بكبار التابعين وجالسهم ودارسهم وروى عنهم وتلقى فقههم. وقد قال: "كنت في معدن العلم والفقه فجالست أهله ولزمت فقيهاً من فقهائهم". وهذا يدل على أنه عاش في وسط علمي وجالس العلماء وعرف مناهج بحثهم ثم اختار من بينهم فقيهاً وجد فيه ما يرضي نزوعه العلمي وهو حماد بن أبي سليمان الذي انتهت مشيخة الفقه العراقي في عصره، فلزمه ثماني عشرة سنة. وكان حماد قد تلقى معظم فقهه على إبراهيم النخعي فقيه الرأي كما تلقى عن الشعبي فقيه الأثر، وهما اللذان انتهى إليهما فقه الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكانا قد أقاما بالكوفة وأورثا أهلها تراثاً فقهياً عظيماً. ومن شيوخه عطاء بن أبي رباح الذي أخذ خلاصة علم ابن عباس رضي الله عنهما عن مولاه عكرمة. وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يلازمه ما دام مجاوراً لبيت الله الحرام. ومنهم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وقد أخذ عنه أبو حنيفة رضي الله عنه علم ابن عمر وعلم عمر رضي الله عنهما. وهكذا اجتمع للإمام أبي حنيفة علم عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن طريق من تلقى عنهم من تابعيهم رضي الله عنهم أجمعين. ولم يقتصر الإمام أبو حنيفة على الأخذ عن هؤلاء الفقهاء بل تجاوز ذلك إلى أئمة آل البيت فأخذ عنهم ودارسهم، منهم الإمام زيد بن علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وعبد الله بن الحسن بن الحسن. ولم يكن اتصال أبي حنيفة، رضي الله عنه، العلمي مقصوراً على رجال الجماعة وأئمة آل البيت بل اتصل بمختلف الفرق وتعرف على آرائهم وأقوالهم، فكان يأخذ من كل هذه العناصر ثم يخرج منها بفكر جديد ورأي قويم لم يكن من نوعها وإن كان فيه خيرها. وهكذا نستطيع أن نقول إنه تلقى فقه الجماعة الإسلامية بشتى منازعها وإن كان قد غلب عليه تفكير أهل الرأي بل عُدّ شيخ أهل الرأي. -3 - دراسته الخاصة وتجاربه: كانت حياة الإمام أبي حنيفة ودراساته وتجاربه تتجه به نحو تكوين فقيه العراق الأول. فقد زاول التجارة وكان عليماً بأحوال البيع والعرف التجاري مما جعله يتكلم في معاملات الناس وأحكامها كلام الخبير الفاهم؛ فجعل للعرف مكاناً في تخريجه الفقهي، وأحسن التخريج بالاستحسان عندما يكون في القياس منافاة للمصلحة أو العدالة. كما كان كثير الرحلة إلى الحج وغيره يلتقي بالعلماء يدارس ويذاكر ويناظر ويروي ويفتي. هذا إلى ما تفيده الرحلات نفسها من فتق للذهن ومعرفة بمواطن الوحي والبلاد المختلفة؛ فيحيط خبراً بمعاني الآثار ودقائق الأخبار ويحسن التفريع في المسائل الفقهية ويحكم تصورها والإلمام بأحكامها. وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه مغرماً بالجدل والمناظرة منذ شب في طلب العلم، ومجادلته في العقائد أرهفت تفكيره وعمقت مداركه، ومناظراته في الفقه أطلعته على أحاديث وأوجه للقياس وفتاوى للصحابة لم يكن مطلعاً عليها. وطريقة الإمام أبي حنيفة الخاصة في التدريس جعلت درسه مجالاً لتثقيف المعلم والمتعلم معاً، فقد كان يطرح الفكرة ويناقشها مع تلاميذه، كل يدلي برأيه مخالفاً أو موافقاً، وبعد تقليب النظر يدلي هو بالرأي الذي تنتجه هذه الدراسة فيقر الجميع به. وهذا جعل علمه في نمو متواصل وفكره في تقدم مستمر. -4 - عصره: أدرك الإمام أبو حنيفة العصر الأموي في عنفوانه وقوته ثم في تحدره وانهياره، وأدرك الدولة العباسية في نشأتها قوية ظافرة ناهضة مسيطرة. وعاش أبو حنيفة رضي الله عنه في العصر الأموي اثنتين وخمسين سنة، وهي السن التي تربى فيها وبلغ أشده، ثم بلغ أوجه العلمي ونضجه الفكري الكامل. ولم يدرك من العصر العباسي إلا ثماني عشرة سنة، وكانت عاداته الفكرية ومناهجه العلمية قد استقامت، وصار ينتج الكثير ولا يأخذ إلا القليل. وعلى هذا فما أخذه الإمام أبو حنيفة من عصره كان أكثره من الأموي وأقله من العباسي، وكان العصر العباسي نمواً لما في العصر الأموي ونتائج لمقدمات بدأت قبله. وقد أغنت الحياة السياسية الحافلة بالصراعات والاتجاهات، والحياة الاجتماعية التي ضمت عناصر مختلفة لكل منها طابع خاص رغم أنها انصهرت جميعها في بوتقة الإسلام، والمشاغل الفكرية في أمور العقيدة وما نشأ عنها من فرق ونحل، وازدهار حركة الترجمة عن الفكر اليوناني والفارسي والهندي، وتفرغ العلماء للخوض في علوم الدين الذي أثمر حركة التدوين للحديث وكثرة المناظرات والرحلات العلمية. أغنت هذه الأجواء، السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية، مدارك الفقهاء وساعدت في تفتق أذهان العلماء وأوجدت مناخاً ملائماً ساعد في استخراج المسائل وفي فرض الفروض والتصورات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فقه أبي حنيفة رضي الله عنه: كان أبو حنيفة رضي الله عنه أشهر فقهاء الرأي كما كان مالك أشهر فقهاء الحديث. ويقصد بالرأي: كل ما يفتي فيه الفقيه في الأمور التي لا يجد فيها نصاً، ويعتمد في فتواه على ما عرف من الدين بروحه العامة، أو ما يتفق مع أحكامه في جملتها في نظر المفتي، أو ما يكون مشابهاً لأمر منصوص عليه فيها فيلحق الشبيه بالشبيه. وعلى ذلك يكون الرأي شاملاً للقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف. وأساس الاختلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث ليس في الاحتجاج بالسنة بل في أمرين: في الأخذ بالرأي، وفي تفريغ المسائل تحت سلطانه. فقد كان أهل الحديث لا يأخذون بالرأي إلا اضطراراً ولا يفرغون المسائل، فلا يستخرجون أحكاماً لمسائل لم تقع، بل لا يفتون إلا فيما يقع من الوقائع. أما أهل الرأي فيكثرون في الإفتاء بالرأي ما دام لم يصح لديهم حديث في ذلك الموضوع الذي يجتهدون فيه، ولا يكتفون باستخراج أحكام المسائل الواقعة بل يفرضون مسائلا غير واقعة ويضعون لها أحكاماً بآرائهم. وكان أكثر أهل الحديث بالحجاز، لأنه موطن الصحابة الأول ومكان الوحي، ولأن التابعين الذين أقاموا فيه تخرجوا على صحابة لم يكثروا من الرأي. وأكثر أهل الرأي كانوا بالعراق، لأنهم تخرجوا على ابن مسعود رضي الله عنه وهو ممن كانوا يتحرجون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحرج في الاجتهاد برأيه، ولأن العراق كان موطناً لفلسفات وعلوم مدارس قديمة، كما أن أسباب الرواية لم تتوافر عند أهله. وقد عرف أبو حنيفة رضي الله عنه باتجاهه إلى الفرض والتقدير فكان يقدر مسائل لم تقع ويبين حكمها ويوضح أدلتها ويقول في ذلك: "إنا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه". وهكذا زاد أبو حنيفة رضي الله عنه الفقه التقديري نمواً وأكثر فيه، وسلك الفقهاء من بعده مسلك الفرض والتقدير واختلفوا في المقدار. ذكر العلماء مسنداً من الأحاديث والآثار منسوباً إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، ولكن أكثر الآراء على أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يدون في الفقه كتاباً مبوباً؛ فقد كان المعروف أن تلاميذه يدونون آراءه ويقيدونها، وربما كان ذلك بإملاءه أحياناً، وكان هو يراجع ما دُوّن أحياناً ليقره أو ليغيره. وكان في جلساته الفقهية مع تلاميذه يلقي مسألة مسألة يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم حتى يستقر أحد الأقوال فيها ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها. وبهذا النحو من التحرير دُوّن مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه، ونشره أصحابه كتباً مبوبة مرتبة منظمة. وكانت الأقوال التي نقلها أصحاب الإمام أبي حنيفة خالية من الدليل، إلا ما يكون من أثر منقول أو خبر مشهور أو اعتماد على فتوى صحابي أو انتهاء إلى رأي تابعي، وقليلاً ما يذكر قياسها أو عماد استحسانها، اللهم إلا ما كتب أبي يوسف ولا تحكي إلا القليل. ولا شك أن ذلك يبعد بنا عن معرفة الإمام أبي حنيفة القياس صاحب الاستحسان الذي عد أقوى قائس في عصره، فلم يجرؤ أحد على منازعته القياس إذا قايس أو استحسن. وإذا كانت الطبقة التي وليت أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه قد عنيت بالاستدلال واستخراج الأقيسة في الأحكام وبيان أوجه الاستحسان وأحكام العرف، فإننا لسنا على ثقة كاملة من أن هذا الاستدلال الذي يسوقونه هو نفس ما كان يفكر فيه الإمام أبو حنيفة وما اهتدى على ضوئه إلى ما قرره من أحكام. تلاميذه: كان لأبي حنيفة رضي الله عنه تلاميذ كثيرون، منهم من كان يرحل إليه ويستمع أمداً ثم يعود إلى بلده بعد أن يأخذ طريقه ومنهاجه، ومنهم من لازمه. وقد قال هو في أصحابه الذين لازموه: "هؤلاء ستة وثلاثون رجلاً منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، وستة يصلحون للفتوى، واثنان أبو يوسف وزُفَر يصلحان لتأديب القضاة وأرباب الفتوى". ولا شك أن هؤلاء الصحاب الذين يقرر أبو حنيفة رضي الله عنه صلاحيتهم للقضاء والإفتاء وتأديب القضاة كانوا في حياته من النضج العلمي بحيث يمكن أن تعهد إليهم هذه الأمور الخطيرة، وكانوا في سن تؤهلهم لها. أما محمد بن الحسن فقد كان في الثامنة عشر من عمره حينما توفي أبو حنيفة رحمه الله ولم تكن سنه تؤهله للقضاء، مع أننا سنجد فقه أبي حنيفة - رضي الله عنه - خاصة وفقه العراقيين عامة مدين لمحمد ابن الحسن بكتبه، فهي التي حفظته وأبقته للأخلاف مرجعاً يرجع إليه ومنهلاً يستقى منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وقد أضفت خدمة تلاميذ الإمام أبي حنيفة لمذهبه وعنايتهم بذلك جلالاً على المذهب وإمامه. وسنخص بالذكر بعض أصحابه ممن كان لهم أثر في نقل فقهه إلى الأجيال اللاحقة. أبو يوسف (113 - 182 هـ) : وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، الأنصاري نسباً والكوفي منشأً وتعلماً ومقاماً. نشأ فقيراً تضطره الحاجة للعمل ثم أمده الإمام أبو حنيفة بالمال فانصرف إلى طلب العلم. جلس إلى ابن أبي ليلى الفقيه قبل أن يجلس إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، ثم انقطع إليه مع اتصاله بالمحدثين. وكان فقيهاً عالماً حافظاً، كثير الحديث، عُدّ أحفظ أصحاب الإمام أبي حنيفة للحديث. ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء العباسيين: المهدي والهادي ثم الرشيد الذي كانت له عنده مكانة وحظوة. وقد استفاد الفقه الحنفي من أبي يوسف فوائد جليلة، إذ أن اختباره للقضاء جعله يصقل المذهب صقلاً علمياً بسبب اطلاعه على الشؤون العامة ومشاكل الناس، فأصبح قياسه واستحسانه مشتقاً من الحياة العملية لا من الفروض النظرية فقط. وقد استمد المذهب الحنفي نفوذاً مكيناً بتولي أبي يوسف القضاء وكونه القاضي الأول للدولة. ولعل أبا يوسف أول فقهاء الرأي الذين دعموا آراءهم بالحديث وبذلك جمع بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث. ولأبي يوسف كتب كثيرة دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، منها كتاب الآثار وكتاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى وكتاب الرد على سير الأوزاعي وغيرها. وفي كتبه جمال في التعبير ووضوح وجزالة ودقة قياس وإحكام فكر، إلى جانب بعض الأدلة الفقهية المصورة لاتجاه الإمام أبي حنيفة في تفكيره. محمد بن الحسن الشيباني (132 - 189 هـ) : يكنى أبا عبد الله، وينتسب إلى شيبان بالولاء. كانت سنه عند موت الإمام أبي حنيفة ثماني عشرة سنة، فلم يتلق عنه أمداً طويلاً، ولكنه أتم دراسته لفقه العراق الذي صقله القضاء على أبي يوسف، كما تلقى فقه الحجاز عن مالك رضي الله عنه، وروايته للموطأ من أجود الروايات، وتلقى فقد الشام عن الأوزاعي. وكانت له قدرة ومهارة في التفريع والتخريج بالإضافة إلى درايته الواسعة البالغة في الأدب وامتلاكه أعنة البيان. قال فيه الشافعي: "كان محمد بن الحسن يملأ العين والقلب، وكان أفصح الناس، إذ تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته". وقد تمرس بالقضاء أيضاً مما أفاده علماً وتجربة وقرب فقهه من الناحية العملية التي لا تقتصر على التصور والنظر المجرد. وكان عنده اتجاه إلى التدوين فهو يعد بحق ناقل فقه العراقيين إلى الأخلاف، وتعد كتبه المرجع الأول لفقه أبي حنيفة رضي الله عنه، سواء في ذلك ما كان بروايته عن أبي يوسف ومراجعته عليه، وما كان قد دوّنه من فقه أهل العراق وتلقاه عن أبي يوسف وغيره. وأهم كتبه: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والسير الكبير والجامع الكبير، وتسمى الأصول وسميت كتب ظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات فهي ثابتة عنه إما متواترة أو مشهورة. ومن كتبه أيضاً كتاب الآثار الذي جمع فيه الأحاديث والآثار التي رواها أبو حنيفة رضي الله عنه، وهو يتلاقى في كثير من مروياته مع كتاب الآثار لأبي يوسف وكلاهما يعد مسنداً لأبي حنيفة رضي الله عنه وقد جمعا بعناوين فقهية مرتبة. وهذه الكتب هي عماد النقل في الفقه الحنفي وتعد الأصل الذي يرجع إليه في فقه الإمام أبي حنيفة وأصحابه. زُفَر بن هذيل (110 - 158 هـ) : وهو أقدم صحبة لأبي حنيفة، رضي الله عنه، من صاحبيه أبي يوسف ومحمد. كان ذكياً قوي الحجة أخذ عن الإمام أبي حنيفة فقه الرأي وكان أحد أصحابه قياساً. ليس له كتب بل عمل على نشر آراء أبي حنيفة رضي الله عنه بلسانه في مناظراته الفقهية مع علماء البصرة، وكان قد تولى قضاءها في حياة شيخه. وقد خلف زُفَر أبا حنيفة رضي الله عنه في حلقته ثم خلفه من بعده أبو يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المذهب الحنفي وانتشاره: المذهب الحنفي الذي تلقته الأجيال وخرج العلماء المسائل على ما استنبط من أصوله هو مدرسة فقهية تجمع آراء الإمام أبي حنيفة واجتهاداته إلى أقوال واجتهادات أصحابه وتلاميذه وبعض معاصريه، كما تضم ما أضافه فقهاء آخرون تبنوا المذهب وساروا على نفس أصوله وإن لم يعاصروا شيخه. فكان لاختلاط الرواية عن الإمام أبي حنيفة بالرواية عن غيره ولاتحاد الأصول أثر في مزج الآراء وجعل مجموعها مذهباً واحداً. وقد نشأ المذهب في موطن الإمام في الكوفة ثم تدارسه العلماء ببغداد بعد وفاة شيخه ثم شاع وانتشر في أكثر البقاع الإسلامية، فكان في العراق ثم في مصر والشام وبلاد الروم وما وراء النهر، ثم اجتاز الحدود فكان في الهند والصين حيث لا منافس له ولا مزاحم، ويكاد يكون المنفرد في تلك الأصقاع النائية إلى الآن، إذ المسلمون في الهند والصين يسيرون في عبادتهم وفي تنظيم أسرهم عليه دون سواه. وقد ابتدأ ينال المنزلة الرسمية التي يسرت له الانتشار منذ أن ولي أبو يوسف منصب القضاء للرشيد ثم صار قاضي القضاة، فكان لا يعين قاضياً في البلاد الإسلامية، من أقصى المشرق إلى شمالي إفريقية، إلا أن يكون حنفياً. فكان المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة وفي عهد العباسيين ثم العثمانيين. وإذا كان انتشار المذهب الحنفي في أول الأمر بسبب اختيار الخلفاء للقضاة من أئمته فقد اكتسب نفوذاً قوياً بسبب إلف الناس له ونشاط العلماء والمناظرات فيه. كما أن طبيعة المذهب المرنة جعلته قابلاً لكل الأزمنة ملائماً لكل الظروف والبيئات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تعريف بالأحكام التكليفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تختلف الأحكام التكليفية بحسب ثبوت طلبها من الشارع وترتيب العقوبة على تركها. وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 -1 - الفَرض: لغة: التقدير. شرعاً: هو ما يطلب فعله على وجه اللزوم ويحرم تركه ويعاقب عليه، وتفوت الصحة بتركه. وهو قسمان: آ - فرض قطعي: ويثبت به الفرض والحرام، وهو ما كان قطعي الثبوت والدلالة كالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة (1) التي لا تحتمل التأويل. وهو يوجب العلم والعمل ويكفر جاحده. ومثاله: غسل الوجه للوضوء، ومقتضى تركه التحريم. ب - فرض عملي: ويثبت به الواجب وكراهة التحريم، وهو ما كان قطعي الثبوت ظني الدلالة، وهو ما يثبت بالأحاديث والآيات المؤولة، لا يكفر جاحده، لكن مقتضى تركه عدم صحة العمل مع الإثم إن كان عمداً. مثاله: اعتقاد مسح الرأس في الوضوء فرض قطعي، أما المقدار المسموح من الرأس فهو فرض عملي. وقد يكون الفرض بنوعيه: ركناً: وهو ما توقف عليه وجود العمل وكان داخلاً في ماهيته كالركوع في الصلاة. شرطاً: وهو ما توقف عليه وجود العمل وكان خارجاً عن ماهيته كالوضوء في الصلاة. والفرض بنوعيه إما فرض عين: وهو ما يلزم بفعله كل إنسان، ولا يسقط بفعل البعض. وإما فرض كفاية: وهو فرض على المجتمع المسلم، يجب على البعض أن يقوم به فإن قصَّر أثم الجميع وإذا قام به البعض سقط عن الباقين. -2 - الواجب: وهو ما كانت أدلته ظنية من الحديث أو القياس، ومقتضى تركه كراهة التحريم مع العمد وتجب الإعادة في الوقت. أما تركه سهواً فيسقط الإثم ويجب سجود السهو إن كان في الصلاة، وقد يطلق الواجب ويراد به الفرض العملي. ويجب قضاؤه إن فات. -3 - السنة: لغة: الطريقة. شرعاً: الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم. وهي في كل ما كان ظني الثبوت والدلالة من الأحكام، أو ما كان طلبه غير جازم. وهي نوعان: آ - سنة مؤكدة: وهي ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع تركه مرة واحدة أو مرتين، ويلام تاركها عمداً، ويؤجر فاعلها، ويفيد تركها عمداً كراهة التنزيه. ب - سنة غير مؤكدة: وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى. ولا يلزم بتركها كراهة، بل خلاف الأَوْلى. وحكمها: الثواب على فعلها وعدم اللوم على تركها. ومنها: المندوبات، والمستحبات، والتطوع، والآداب. -4 - التحريم: وهو ما ورد النهي عنه بدليل قطعي. وهو ما يحرم فعله ويعاقب عليه ويطلب تركه لزوماً ويثاب على تركه. -5 - المكروه: وهو ضد المحبوب من العمل. وهو لا يثبت إلا بدليل خاص. وهو نوعان: آ - مكروه تحريماً: وهو مخالفة الواجب أو السنة الواردة بلفظ النهي. وهو إلى الحرام أقرب. ب - مكروه تنزيهاً: إذا كان الدليل يفيد النهي غير الجازم، أو ما كان خلاف السنة غير الناهية.   (1) الحديث المتواتر: هو ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه، على أن لا يختل هذا الجمع في أي طبقة من طبقات السند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 - القواعد العامة في ترجيح أقوال أئمة الحنفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أولاً: إذا اتفق الإمام أبو حنيفة وصاحباه على جواب واحد في مسألة من المسائل لا يجوز العدول عنه مطلقاً. ثانياً: إذا وافق الإمام أحد صاحبيه لا يعدل عن قولهما إلى المخالف. ثالثاً: إذا انفرد الإمام واتفق صاحباه يرجح قول الإمام على الغالب - في العبادات - أما في القضاء فيقدم قول أبي يوسف. وفيما يتعلق بذوي الأرحام يؤخذ بقول الإمام محمد. رابعاً: قرروا جميعاً أن الاستحسان مقدم على القياس. خامساً: إذا اقترن قول بالفتوى وقول بالصحيح يحكم بالقول المقترن بالفتوى. سادساً: لفظ الصحيح مقدم على لفظ الأصح. سابعاً: لا يحكم ولا يفتي بالقول الضعيف، إلا لنفسه أو للضرورة. ثامناً: يعرف المفتي بأنه مخبر عن الحكم والقاضي ملزم به. تاسعاً: الحكم الملفق باطل، والتلفيق هو الفساد بالمذهبين كأن يَفْسُدَ وضوؤه بمسّ يد زوجته (يفسد عند السادة الشافعية) ويرعف من أنفه (يفسد عند السادة الأحناف) . عاشراً: الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل. أحد عشر: التقليد لمذهب في عبادة ما يوجب إتمامها على المذهب نفسه (1) ، إلا في الحج فيجوز طوافه حنفياً ووقوفه في المزدلفة شافعياً أو مالكياً مثلاً.   (1) خلافاً للسادة الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 [متن الكتاب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كتاب الطهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الباب الأول [المياه، الآسار] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 - تقدم العبادات على غيرها من أبواب الفقه اهتماماً بشأنها. والصلاة التالية للإيمان، والطهارة مفتاحها، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) (1) . تعريف الطهارة: الطهارة لغة: بفتح الطاء مصدر بمعنى النظافة، وبكسرها آلة التطهير، وبضمها فَضْل ما يتطهر به. شرعاً: النظافة من حَدَثٍ (2) أو خَبَث (3) . سببها: أي سبب وجوبها. وهو إرادة ما يحل بدونها فرضاً كان أو واجباً أو نفلاً. وقيل: سببها: الحدث في الحكمية، والخبث في الحقيقة. دليلها: قوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (4) . وحديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) (5) . أقسامها: آ - الطهارة من الحدث: والحدث قسمان: -1 - أصغر والطهارة منه بالوضوء. -2 - أكبر وتكون الطهارة منه بالغسل. ب - الطهارة من الخبث: وتكون بغسل عين النجاسة. والمزيل للحدث والخبث الماء اتفاقاً. أما الخبث فيجوز على المعتمد إزالته بغير الماء من المائعات (6) .   (1) أبو داود: ج 1/ كتاب الطهارة باب 31/61. (2) الحَدَثُ: الإبداء. والبَدَا: اسم مقصور: ما يخرج من دبر الرَّجُل. وبدا الرجل: أنجى فظهر ذلك منه. ويقال للرجل إذا تغوَّط وأحدث: قد أبدى فهو مُبْدٍ. (3) الخَبَث: بفتحتين: النَّجَس. (4) البقرة: 222. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 1/1. (6) وخالف في هذا الإمام محمد وكذلك الإمام الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الفصل الأول: المياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 - المياه التي يصح التطهير بها سبعة، وهي كل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض. وتفصيلها كما يلي: -1 - المطر لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (1) . -2 - ماء البحر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته) (2) . كما يُرفع الحدث بماء مهيئ لأن ينعقد ملحاً لا بماء حاصل وبذوبان ملح وهو الذي يجمد في الصيف ويذوب في الشتاء لبقاء الأول على طبيعته الأصلية وانقلاب الثاني إلى طبيعته الملحية. -3 - ماء النهر. -4 - ماء البئر. -5 - ماء الثلج والبرد، لحديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ) (3) . -6 - ماء العين.   (1) الفرقان: 48. (2) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 52/69. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 40/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أقسام المياه: تقسم المياه من حيث أوصافها الشرعية إلى: أولاً - ماء طاهر مُطَهِّر غير مكروه الاستعمال: وهو الماء المطلق الذي يخالطه ما يصير به مقيداً. وهو الذي يرفع الحدث ويزيل النجس. أما ماء زمزم فثوابه أكبر في الوضوء والغسل، لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرج سقفي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم) (1) . لكن يكره الاستنجاء وإزالة النجاسة بماء زمزم تحريماً لأنه يستعمل للتبرك. ويبقى الماء طاهراً مطهِّراً في الحالات التالية: -1 - إن خالطه شيء من الطاهرات الجامدة، فغيرت أحد أوصافه أو كلها على أن لا تزيل سيولته وأن لا يحدث له اسم غير الماء، كالزعفران والأشنان وورق الشجر، لما روت أم هانئ رضي الله عنها (أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وهو يغتسل، قد سترته بثوب دونه، في قصعة فيها أثر العجين) (2) ، وما روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يغسل رأسه بالخَطْميّ (3) وهو جنب يجتزي بذلك ولا يصب عليه الماء) (4) . -2 - إن خالطه شيء من الطاهرات المائعة، ولم تغلب عليه، والغلبة تحصل بظهور وصف واحد من مائع له وصفان، كاللبن له وصفان: اللون والطعم. فإن لم يوجد جاز به الوضوء وإن وجد أحدهما لم يجز كما لو كان المخالط له وصف واحد فظهر وصفه. أما إن كان للمائع ثلاثة أوصاف كالخل وظهر وصف واحد فيبقى الماء طاهراً مطهراً. وتكون الغلبة للمائع الذي له نفس أوصاف الماء بالوزن، فإن اختلط رطلان مثلاً من الماء المستعمل أو ماء الورد الذي انقطعت رائحته برطل من الماء المطلق لا يجوز به الوضوء. وبالعكس لو كان الأكثر المطلق جاز به الوضوء. -3 - إن مات فيه ما لا دم له سائلاً، كالحشرات والذباب والبعوض والعقرب والصرصور، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) (5) . -4 - إن مات فيه حيوان مائي المولد كالسمك وكلب البحر، للحديث المتقدم (هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ مَيْتَتُه) . -5 - ماء مستعمل خالطه ماء مطلق غلب عليه. -6 - ماء تغير بطول المكث. -7 - ماء مات فيه ضفدع مائي المولد، فلا ينجسه ويجوز التطهر به، ولكن يحرم شربه لحرمة أكل لحم الضفادع (6) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الحج باب 75/1555. (2) النسائي: ج 1 / ص 202. (3) الخطمي: ضَرْبٌ من النبات يُغسل به. ويقال: يُغسل به الرأس (الختمية) . (4) البيهقي: ج 1 / ص 182. (5) البخاري: ج 5 / كتاب الطب باب 57/5445. (6) يحرم قتل الضفادع لحديث عبد الرحمن بن عثمان وفيه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع) مسند الإمام أحمد: ج 3 / ص 453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثانياً - ماء طاهر مطهر مكروه الاستعمال تنزيهاً مع وجود غيره (1) : وهو الماء الذي شرب منه حيوان مثل الهرة والدجاجة المُخلاَّة (2) وسباع الطير. وقد وردت النصوص بطهارة الهرة لشدة تطوافها على الناس وعدم إمكان الاحتراز من سؤرها، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات) (3) .   (1) تزول الكراهة بفقدان الماء المطلق. (2) المُخَلاَّة: المرسلة، التي تجول في القاذورات ولم يعلم طهارة منقارها من نجاسته، فكُرِه سؤرها للشك. فإن لم يكن كذلك فلا كراهة فيه بأن حُبِست فلا يصل منقارها لقذر. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 38/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثالثاً - ماء طاهر في نفسه غير مطهر لغيره (1) : آ - الماء المستعمل: ويعرف بأنه الماء الذي أزيل به حَدَثٌ، كغسالة الوضوء والماء المنفصل من غسل المحدث، والماء المستعمل في البدن بنية القربة كالوضوء على الوضوء، وغسل اليدين قبل الطعام لما روى سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) (2) . أو وضوء الحائض لتسبيحة الفريضة، أو المنفصل من سنة المضمضة والاستنشاق في الوضوء. والقول الراجح: إن الماء يصير مستعملاً عندما ينفصل عن العضو وإن لم يستقر. ب - ماء الشجر والثمر. جـ - ماء زال عن رقته بالطبخ، كماء الحمص والعدس، وماء خالطه أحد الجامدات الطاهرات فزالت سيولته. د - الماء الذي حصل له اسم غير الماء بمخالطة الجامدات الطاهرات، وإن بقي على سيولته، مثل العرق سوس.   (1) يجوز شربه واستعماله، إن كان نظيفاً مع الكراهة التنزيهية، لإزالة الحدث. وهو يطهر من الخبث عند عدم وجود غيره. (2) أبو داود: ج 4 / كتاب الأطعمة باب 12/3761. وغسل اليدين قبل تناول الطعام سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 رابعاً - الماء المتنجس: وهو قسمان: آ - ماء جارٍ: وهو ما يعدّه الناس جارياً على الأصح، وقيل ما يذهب بتبنة. ولا يعد هذا الماء نجساً إلا بتغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو ريح. ويعتبر حوض الحمام جارياً إذا كان الصنبور والمصرف مفتوحين لو الماء نازلاً والغرف متدارك بحيث لا يسكن الماء. ب - الماء الراكد: وهو إما أن يكون قليلاً أو كثيراً. -1 - القليل: يَنْجُس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يظهر أثرها، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) (1) . ويطهر بالتطفيف، أي بإضافة ماء طاهر إليه حتى يجري فيحكم بطهارته ما لم تظهر أثر النجاسة فيه. -2 - الكثير: وهو ما لا يخلص بعضه إلى بعض أي لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر. وقال الإمام أبو حنيفة: العبرة في ذلك رأي المُبتلى. وحدد علماء الحنفية الخلوص بالمساحة فقدَّروها بعشر في عشر من ذراع الكِرباس (2) . أي ما يساوي (49) م 2 مساحة سطح الماء. وعمق ما لا ينجلي بالاغتراف أو لا ينحسر أسفله أي لا تبدو أرضه إذا اغترف منه. وحكم الماء الكثير أنه لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه، وإذا كانت النجاسة مرئية وظاهرة فلا يتوضأ من مكانها.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 68/236. (2) الكِرباس: فارسيٌّ معّرب بكسر الكاف وجمعه كرابيس: الثوب الخشن. وقيل أيضاً: هو الثوب الأبيض من القطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 خامساً - ماء طاهر مشكوك في طهوريته: وهو سؤر (1) كل حيوان مختلف في جواز أكل لحمه، كالحمار الأهلي والبغل الذي أمه أتان (2) . حكمه: آ - يعود طاهراً مطهراً إن خالطه ماء مطلق أكثر منه. ب - لا يجوز استعماله في الغسل والوضوء مع وجود غيره. وعند فقد الماء يتوضأ ويتيمم للشك. جـ - تجوز إزالة النجاسة به عن الثوب والبدن.   (1) السؤر: هو ما بقي في الإناء بعد الشرب. (2) الأتان: الحمارة، ولا يكره سؤر ما أمه مأكولة كبقرة مثلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مياه الآبار والصهاريج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 - تعتبر مياه الآبار من المياه الراكدة القليلة ولا علاقة لعمق البئر وغزارته. حكم مياه الآبار: إذا وقعت في البئر نجاسة، سواء كانت مخففة أو مغلظة ولو قطرة دم أو بول، فإنه يتنجس. ويعفى عما لا يمكن الاحتراز منه كسقوط الرَّوْث (1) والبعر إن كان قليلاً. أما إن كان كثيراً فيتنجس. وضابط الكثير ما يستكثره الناظر أو أن لا يخلو دلو منه. ولا يتنجس البئر بوقوع آدمي (2) أو حيوان إن لم يكن نجس العين وليس على بدنه نجاسة وأخرج حياً. وإن أصاب فمه الماء فحكمه حكم سؤره (كما هو مبين في أحكام السؤر) .   (1) الرَّوث: راث الفرس يَروث روثاً: مثل تغوَّط الرجل. (2) إذا وقع آدمي محدث وأخرج حياً ينزح من (40 - 60) دلواً على سبيل الندب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كيفية تطهير البئر: أولاً: يطهر بنزح كل ماء البئر بعد إخراج النجاسة منه، ولو نزح قسم من الماء ثم زاد ماء البئر فينزح بمقدار ما بقي وقت وقوع النجاسة. أما إذا كان البئر غزيراً فينزح من (200 - 300) دلواً متوسطاً (أو ما يسع صاعاً) (1) . ويكون ذلك: -1 - إذا وقع في البئر خنزير ولو خرج حياً ولم يصب فمه الماء لنجاسة عينه. -2 - إذا وقع فيه كلب، أو أي سبع من سباع البهائم، وأصاب فمه الماء. -3 - إذا ماتت فيه شاة، أو كلب، أو آدمي. بدليل ما روي عن محمد بن سيرين "أن زنجياً وفقع في زمزم يعني فمات، فأمر به ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح" (2) . -4 - إذا مات فيه حيوان وانتفخ (3) أو تفسخ أو تمعّط شعره مهما كان صغيراً. ثانياً: ينزح من (40 - 60) دلواً بعد إخراج النجاسة، وذلك: -1 - إذا ماتت فيه دجاجة أو هرة أو نحوهما في الجثة ولم تنتفخ أو تتفسخ. -2 - إذا مات فيه حيوان بين الدجاجة والشاة ولم ينتفخ أو يتفسخ. ثالثاً: ينزح من (20 - 30) دلواً بعد إخراج النجاسة، وذلك: -1 - إذا ماتت فيه فأرة أو نحوها كعصفور، ولم تنتفخ أو تتفسخ لقول أنس رضي الله عنه في فأرة ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها: "ينزح عشرون دلواً". -2 - إذا مات فيه حيوان بين الحمامة والفأرة ولم يتمعط أو تنتفخ. يطهر البئر بنزح الماء المطلوب كما يطهر كل ما حول البئر من بكرة وحبل ودلو وغيرها بعد انفصال آخر قطرة عن الدلو.   (1) الصاع: مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد. (2) البيهقي: ج 1 / ص 268. (3) الانتفاخ دليل تقادم العهد. وأدنى حدّ التقادم في الانتفاخ ونحوه ثلاثة أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أحكام الصهاريج وخزانات المياه: لا تقاس الصهاريج وخزانات المياه على الآبار، إلا إذا كان أكثرها مطموراً في الأرض أو الزير (1) الكبير، لأن النصوص جاءت خاصة بالآبار فلا يقاس عليها. فلو وقعت نجاسة في صهريج ماؤه دون العشر في عشر (49 م 2 مساحة مع عمق 25 سم) ، يراق كله. أما إن كان مساحة سطح الماء عشراً في عشر فأكثر، فالمعتبر هو ظهور أثر النجاسة. ولكن ما مقدار الزمن الذي يحكم به بنجاسة البئر أو الصهريج إن وجد فيه حيوان؟ الجواب: إذا أخرج حيوان من صهريج أو بئر فعلى المتوضئ أو المغتسل من هذا الماء أن يعيد صلاة يوم وليلة إن لم يتفسخ الحيوان، وثلاثة أيام بلياليها إن تفسخ. أما إن غسل ثوبه دون أن يتوضأ فيعيد غسل الثوب دون الصلاة إن كان غسله من نجاسة.   (1) الزِير: الدِّن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الفصل الثاني: الأَسْآر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تعريف السّؤْر: لغة: هو البقية والفضلة. شرعاً: بقية الماء في الإناء أو الحوض بعد شرب حيوان أو إنسان. حكمه: طهارة السّؤر تعتبر بطهارة لحم الحيوان لأن اللعاب متولد من اللحم. أقسامه: يقسم أربعة أقسام: أولاً: سؤر طاهر مطهر: وهو: -1 - سؤر الآدميّ مطلقاً رجل أو امرأة ولو كان حائضاً أو جنباً مسلماً كان أم كافراً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العَرِق (1) وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيِّ) (2) . -2 - سؤر ما لا دم له سائلاً. -3 - سؤر الفرس وكل ما يؤكل لحمه من الحيوان.   (1) العَرِق: هو العظم الذي عليه بقية من لحم. ويقال عرقت العظم إذا أخذت منه اللحم بأسنانك. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض - باب 3 /14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ثانياً: سؤر نجس مطلقاً: -1 - سؤر الكلب والخنزير، لما روي عن الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (في الكلب يلغ في الإناء أن يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) (1) ، ولقوله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (2) . وكذلك سؤر سباع الحيوانات غير الطيور، كالضبع والفهد وابن آوى وكل ما لا يؤكل لحمه. -2 - سؤر شارب الخمر بعد شربها ولو بزمن قليل. -3 - سؤر هرة ودجاجة وإبل وبقر علم نجاسة فمها.   (1) الدارقطني: ج 1 / ص 65. ووَلَغَ الكلب في الإناء يَلَغُ بفتح اللام فيهما وُلوغاً: شرب ما فيه بأطراف لسانه. (2) الأنعام: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ثالثاً: سؤر طاهر ضرورة أي مكروه استعماله تنزيهاً مع وجود غيره: -1 - سؤر الهرة والدجاجة المخلاة. -2 - سؤر سباع الطير كالصقر والحدأة والغراب، لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر، لكن لحومها نجسة فيحكم بكراهة سؤرها. -3 - سؤر سواكن البيوت مما له دم سائل كالفأرة والحية مكروه، لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة. ويكره حمل السؤر المكروه أو لبس ما أصابه سؤر مكروه في الصلاة. رابعاً: سؤر طاهر مشكوك (1) في طهوريته: وهو سؤر البغل (الذي أمه أتان) والحمار لتعارض الآثار في إباحة لحمه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب حماراً مَعْروريّاً (2) في حر الحجاز، ويصيب العرق ثوبه ويصلي في ذلك الثوب. ولكن لا يجوز استعماله إذا وجد غيره، فإن لم يجد غيره توضأ به وتيمم. والأفضل تقديم الوضوء. ويلحق بأحكام السؤر أحكام العَرَق لتولد العرق من اللحم، ولو خالط الماء فهو كسؤره.   (1) ومعنى الشك التوقف فيه فلا ينجس الطاهر ولا يَطْهُر النَّجِس. (2) مَعْرُور: العَرُّ والعُرُّ والعُرَّة: الجَرَب. يقال: عُرَّ فهو معرور أي: أجرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 التحرِّي: وهو بذل الجهد لنيل القصد. فلو اختلطت عند امرئ أواني ماء بعضها طاهر والآخر نجس ولا يملك غيرها تصرَّف كالتالي: -1 - إن كان أكثرها طاهراً يتحرى للوضوء والشرب. -2 - إن كان أكثرها نجساً يتحرى للشرب فقط ويتيمم بدل الوضوء. أما في اللباس فإن اختلطت عليه وليس عنده ثوب مقطوع بطهارته يتحرى، لأن ستر العورة واجب. وإن صلى بالتحري ثم تبين له خطأ اجتهاده أعاد الصلاة في الوقت أو بعده. وهناك قاعدة في الشك حيث يرجع للأصل دائماً، مثلاً إنْ وجدنا ذبيحة وشككنا فيمن ذبحها أهو مسلم أو مجوسي حكمنا بنجاستها ما لم يثبت إيمان المذكّي. أما لو وجدنا ماء وشككنا بنجاسته فهو طاهر لأنه الأصل. وإذا طرأ الشك على شيء مجهول الأصل كمن كان في بعض ماله حرام فهنا تكره معاملته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الباب الثاني (قَضَاءُ الحاجَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الفصل الأول (سننها ومكروهاتها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 -1 - سنن قضاء الحاجة وآدابه: -1 - أن يقول عند الدخول: "بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَتْرُ ما بين أعين الجنّ وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله) (1) ، وعنه أيضاً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (2) . -2 - أن يقدم رجله اليسرى على اليمنى عند الدخول. -3 - يجب أن يستتر لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أتى الغائط فلْيَسْتَتِر) (3) . وألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، وأن يسبل ثوبه قبل انتصابه. والمهم عدم كشف العورة إلا عند الضرورة وبقدرها، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) (4) . -4 - أن يجلس معتمداً على يسراه لأنه أسهل لخروج الخرج، لحديث سراقة بن جعشم رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى) (5) . -5 - يستحب أن يتجنب الأمكنة الصلبة حتى لا يصيبه رشاش البول وإلا يحترز من النجاسة لحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دَمَثاً (6) في أصل جدار، فبال، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتَد لبوله موضعاً) (7) . -6 - أن يخرج برجله اليمنى ويقول عند الخروج: "غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاي" لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) (8) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: (غفرانك) (9) . -7 - أن يغسل يديه بالصابون عند الخروج، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تَوْر أو رَكوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ) (10) .   (1) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 205. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 9 / 142. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 19 / 35. (4) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 10 / 14. (5) البيهقي: ج 1 / ص 96. (6) الدَمث: المكان السهل الذي يخد فيه البول، فلا يرتد على البائل. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 2 / 3. (8) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 10 / 301. (9) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 17 / 30. (10) البيهقي: ج 1 / ص 106. والتور: إناء معروف تعرفه العرب، والركوة: دلو صغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 -2 - مكروهات قضاء الحاجة: -1 - يكره الدخول إلى الخلاء ومعه شيء مكتوب فيه اسم الله، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه) (1) . وقد ثبت أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم كان: محمد رسول الله. -2 - يكره استقبال مهب الريح، وكذا استقبال الشمس والقمر. -3 - يكره تحريماً استقبال القبلة بالفرج حال قضاء الحاجة أو استدبارها، ولو في البنيان، لحديث سلمان رضي الله عنه قال: (لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برَجيع أو بعظم) (2) . ولما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا) (3) . وكذا يكره إمساك الصبي نحو القبلة للبول. -4 - يكره ذكر الله تعالى فلا يحمد إذا عطس ولا يَرُدّ سلاماً، ولا يجيب مؤذِّناً، لما روي عن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: (إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر) (4) . كما يكره مطلق الكلام إلا لضرورة، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله عز وجل يمقت على ذلك) (5) . -5 - يكره التخلي في طريق الناس أو في الظلّ أو تحت شجرة مثمرة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللاعِنَيْنِ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلّهم) (6) . -6 - يكره التخلي في جُحْر (7) ، لحديث عبد الله بن سَرْجَس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجُحْر. قال: قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: كان يقال: إنها مساكن الجن) (8) . -7 - يكره التخلي في الماء الراكد، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يَبُولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه) (9) . وكذلك يكره بقرب بئر أو نهر أو حوض. -8 - يكره البول قائماً إلا من عذر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) (10) . -9 - يكره النظر إلى فرجه أو إلى ما يخرج منه، وقيل: إنه يورث النسيان. -10 - يكره البول في محل الوضوء لأنه يورث الوسوسة، لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه، قال أحمد: ثم يتوضأ فإن عامة الوسواس منه) (11) . -11 - يحرم البول على القبر أو في المسجد أو على كل ما يحرم به الاستنجاء من طعام الجن أو الإنس.   (1) الترمذي: ج 4 / كتاب اللباس باب 17 / 1746. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 17 / 57. والرَّجيع: الرَّوْث. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 17 / 59. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 8 / 17. (5) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 7 / 15. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 14 / 25. واللاعنان: أي الذين هما سبب اللعن والشتم غالباً. (7) الجُحْر: بضم الجيم وإسكان الحاء: الخَرقْ في الأرض والجدار. (8) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 16 / 29. (9) البخاري: ج 1 / كتاب الطهارة باب 68 / 236. (10) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 8 / 12. (11) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 15 / 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفصل الثاني: الاستنجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تعريف الاستنجاء: لغة: مسح موضع النجاسة أو غسله. شرعاً: هو إزالة نجس عن سبيل، ومعناه استعمال الماء بقصد إزالة النَّجْو أي الغائط. الفرق بين الاستبراء والاستنزاه والاستنقاء. الاستبراء: طلب براءة المَخْرج من أثر البول (للرجل فقط) ويكون بنقل الأقدام أو التنحنح (أما المرأة فتنتظر قليلاً ثم تستنجي) وحكمه لازم (وهو فوق الواجب) لفوات صحة الطهارة بفواته. الاستنزاه: طلب البعد عن الأقذار والتطهر من الأبوال. الاستنقاء: النقاوة بالدلك حتى يذهب أثر النجاسة بالأحجار عند الاستجمار وبالأصابع عند الاستنجاء بالماء. حكم الاستنجاء: هو سنة مؤكدة لإزالة الخارج من السبيلين عن مخرجه. أما إذا تجاوزت النجاسة المخرج بقدر الدرهم فتجب إزالتها بالماء، وكذا المرأة يجب أن تستنجي من البول دائماً لاتساع المخرج. وإذا زادت النجاسة المتجاوزة على قدر الدرهم افترض غسلها بالماء، كما يفترض غسل ما في المخرج عند الاغتسال من الجنابة والحيض والنفاس بالماء. ويصح أن تستنجي بالماء فقط، والأفضل الجمع بين الحجر والماء مرتباً فيمسح الخارج ثم يغسل المخرج بالماء، وذلك لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء بإتباعهم الأحجار الماء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا، قالوا يا رسول الله نتوضأ للصلاة والغسل من الجنابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مع ذلك غيره. قالوا: لا غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: هو ذاك) (1) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية في أهل قباء: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) (2) . فكان الجمع سنة. روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (مُرْنَ أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله) (3) . ويصح استعمال الحجر أو الورق وحده في حالة كون النجاسة لم تتجاوز المخرج، والغسل بالماء أحب لحصول الطهارة وإقامة السنة على الوجه الأكمل. وفي الاقتصار على الحجر (الورق) يفضل التثليث، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) (4) .   (1) المستدرك: ج 1 / ص 155. (2) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 212. (3) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 15/19. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 19/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 سنن الاستنجاء: -1 - الاعتماد على الوسطى في الدبر في ابتداء الاستنجاء، ثم يصعد البنصر وغيرها. -2 - التجفيف بعد الغسل احتياطاً من الماء المستعمل. -3 - غسل اليدين بعده بالصابون، لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً لجنابة فأكفأ (1) على شماله مرتين أو ثلاثاً ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً) (2) .   (1) أكفأ الإناء: أماله وقلبه ليصُبَّ ما فيه. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الغسل باب 16/270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مكروهات الاستنجاء: -1 - أن يستنجي باليد اليمنى، لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بال أحدكم فلا يأخذنّ ذَكره بيمينه، ولا يستنج بيمينه، ولا يتنفّس في الإناء) (1) . -2 - أن يستنجي بعظم أو روث، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم الجنّ) (2) ، وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني داعي الجن.. فذكر الحديث وفيه: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم) (3) . وينهي أيضاً عن الاستنجاء بزجاج أو جصٍّ أو فحم أو خزف أو بشيء محترم لقيمته والنهي هنا يقتضي كراهة التحريم.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 19/153. (2) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 14/18. (3) البيهقي: ج 1 / ص 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الباب الثالث (الوُضوُءُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الفصل الأول: تعريفه، سببه، شروطه، حكمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تعريفه: الوضوء لغة: من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة. وشرعاً: نظافة مخصوصة. والمعنى الشرعي مأخوذ من اللغوي، لأن الوضوء يُحسِّن أعضاء الوضوء في الدنيا بالنظافة وفي الآخرة بالتحجيل (1) .   (1) التَّحجيل: الأصل بياضٌ في قوائم الفرس. والمراد هنا بياض في الأيدي والأرجل من النور الذي يكتسبه صاحبه بالوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سببه: أ - استباحة ما لا يحل بدونه، فرضاً كان أو واجباً (الصلاة، مس المصحف، الطواف) . ب - وجوب الصلاة. جـ - وقيل سببه الحدث. والحدث لغةً: الشيء الحادث، وشرعاً وصف شرعي يحل بالأعضاء فيزيل الطهارة. د - وقال أهل الظاهر: سببه القيام إلى الصلاة لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (1) .   (1) المائدة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 شروطه: أ - شروط وجوب الوضوء: -1 - العقل: إذ لا خطاب بدونه. -2 - البلوغ: لأنه لا يكلَّف القاصر. -3 - الإسلام: لأن الكافر لا يكلَّف بالفروع. -4 - القدرة على استعمال الماء الطَّهور الكافي لجميع الأعضاء مرة مرة. -5 - وجود الحدث: فلا يَلْزم الوضوء على الوُضوء. -6 - النَّقاء من الحيض والنَّفاس بانقطاعهما شرعاً. -7 - ضيق الوقت: لتوجه الخطاب مُضيَّقاً وموسَّعاً في ابتدائه: {إذا قمتم إلى الصلاة} . ب - شروط صحة الوضوء: -1 - عدم الحيض أو النّفاس. -2 - أن يعم البشرة، فلو بقي مقدار غرزة الإبرة لم يصح الوضوء. -3 - زوال ما يمنع وصول الماء إلى البشرة لجرم الحائل، كشمع أو شحم وكذا طلاء الأظافر. أما الدسومة التي لا جرمية لها فلا مانع كدسومة الزيت وما شابهه. ويلزم تحريك الخاتم الضيق. -4 - أن لا يحصل ناقض أثناء الوضوء. -5 - التَّقاطر. حكمه: -1 - هو فرض للصلاة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) - ونزلت هذه الآية في المدينة المنورة ولكن الوضوء فُرِضَ في مكة المكرمة عندما فُرضت الصلاة، نزل جبريل عليه السلام وعلَّمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وكذا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة بغير غَلول) (2) . وسواء كانت الصلاة فرضاً أم نافلة أم صلاة جنازة، أو كانت من أجزاء الصلاة كسجدة التلاوة وغيرها مما في معنى الصلاة، فإنها لا تصح إلا بالوضوء. ويكفر من أنكر فريضة الوضوء للصلاة، أما لغير الصلاة فلا يكفر. وهو فرض أيضاً لمس المصحف لقوله تعالى: {لا يمسُّه إلاّ المطهرون} (3) ، ولما روى عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَمَسَّ القرآن إلاّ طاهراً) (4) -2 - واجب للطواف حول الكعبة، لحديث طاووس عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقِلُّوا الكلام) (5) ، وباعتباره أشبه الصلاة من وجه دون وجه لذا وجبت الطهارة فيه، فلا تتوقف صحة الطواف على الوضوء. -3 - سنة للنوم، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيت مضجعك فنتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شِقّك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، فوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مُتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به) (6) . -4 - مندوب في ثلاثين موضعاً، نذكر منها: عقب الغضب لحديث عطية وقد كانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) (7) . وبعد القهقهة خارج الصلاة. وللجلوس في المسجد، لما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: (من توضأ وضوئي هذا ثم أتى المسجد فركع فيه ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه) (8) . كما يندب الوضوء لجُنُب يريد أكلاً أو شرباً أو نوماً أو جماعاً آخر، لحديث عائشة رضي الله قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة) (9) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ) (10) . ويندب الوضوء عقب الخطايا والذنوب الصغائر لأنه يكفرها، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره) (11) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - مع آخر قطْر الماء - حتى يخرج نقياً من الذنوب) (12) . ويندب بعد الكذب أيضاً. كما يندب لقراءة القرآن غيباً وعند ذكر الله عز وجل، لما روي عن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: (إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر) (13) . ويندب لحضور مجالس العلم أو غير ذلك.   (1) المائدة: 6. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 2/1. (3) الواقعة: 79. (4) الدارقطني: ج 1 / ص 121. (5) مسند الإمام أحمد: ج 3 / ص 414. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 75/244. (7) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 226. (8) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 28. (9) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 6/22. (10) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 6/27. (11) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 11/33. (12) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 11/32. (13) مسلم: كتاب الطهارة باب 8/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الفصل الثاني: فرائض الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وهي أربع لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1) . أولاً: غسل الوجه: الغسل هو إسالة الماء على الوجه حتى يتقاطر، والوجه هو ما تقع به المواجهة. وحدّه طولاً من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن، وعرضاً ما بين شحمتي الأذنين. وهو يشمل الحاجبين والشاربين شعراً وبشراً. أما اللحية فإن كانت خفيفة فيجب إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة فيكفي غسل ظاهر الشعر، ولا يجب غسل ما زاد على دائرة الوجه مما استرسل من اللحية. ثانياً: غسل اليدين مع المرفقين: وتشمل اليد: الكف والساعد والمرفق. وقد اتفق الفقهاء على أن المرفق داخل بالغسل وخالف الإمام زُفَر، ودليل الجمهور حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: (رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ) (2) . ومن قطعت يده من المرفق فلا يغسل سوى محل القطع. ثالثاً: مسح الرأس: والمسح إمرار اليد المبتلَّة على العضو. والمقدار المطلوب مسحه مُخْتَلَفٌ فيه على أقوال: أ - مقدار ثلاث أصابع من أصابع اليد، ودليل أصحاب هذا القول أن الباء في قوله تعالى {برؤوسكم} للإلصاق. وهي إن اتصلت بالمسموح دلّ على استيعاب الآلة يعني اليد، والمراد أكثرها وهو يتحقق بثلاث أصابع. ب - وقال بعضهم المقصود ربع الرأس سواء أكان من مقدم الرأس أو من الناصية على أن يكون فوق الأذنين، فلو مسح على أسفل الذوائب لا يصح، وذلك لأنه الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن استيعاب اليد يقتضي مسح ربع الرأس؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قِطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مُقدَّم رأسه ولم ينقض العمامة) (3) . جـ - وذكر الكرخي والطحاوي أن المقصود هو مقدار ناصية الرأس، لحديث المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين) (4) . رابعاً: غسل الرجلين مع الكعبين: والكعبان هما العظمان المرتفعان في جانبي القدم، وهما داخلان بالغسل مع القدمين للحديث المتقدم: (.. ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم بعدما غسل رجليه - فيما رواه بريدة عنه رضي الله عنه - (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به) (5) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم قال: ويل للأعقاب من النار) (6) . ويجب غسل شقوق الأرجل إن قدر، ولا يضر أن يمسح عليها إ لم يقدر أو كان عليها دواء، فإن لم يستطع الغسل ولا المسح ولا إمرار الماء على الدواء الذي وضعه عليها، يتوضأ ويدع ما يضره من شقوق في رجليه.   (1) المائدة: 6. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 12/34. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 57/147. (4) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 23/83. (5) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 231. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 28/163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الفصل الثالث: سنن الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 -1 - النية: وهي لغة: عزم القلب على الفعل. وشرعاً قصد القلب إيجاد الفعل جزماً، أو إزالة الحدث أو استباحة الصلاة. وقد اعتبر السادة الحنفية النية سنة في الوضوء، وهي فرض عند غيرهم، وذلك: أ - لأنهم قسموا العبادات إلى: -1 - مقاصد وتكون النية فيها فرضاً كالصلاة والصوم. -2 - وسائل أو بدايات؛ ولا تكون النية فرضاً ولكن لا يؤجر الإنسان عليها إلا بالنية، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) (1) . ب - ولأن آية الوضوء لم تأمر بالنية، وإنما أمرت بالغسل والمسح، وثبتت النية بحديث آحاد (2) فهي زيادة على النص، ولا تكون إلا بقطعي كالقرآن حسب ما قرروه في أصولهم (3) . جـ - إن الوضوء طهارة بالماء فلا تشترط له النية كإزالة النجاسة. وعلى هذا من اغتسل أو انغمس في ماء للتبرد أو السباحة صح وضوؤه. ومحل النية: القلب، وصيغتها: أن ينوي رفع الحدث أو إقامة الصلاة أو الوضوء. وزمنها: عند غسل الوجه، وفي قولٍ قبل جميع السنن أي عند غسل اليدين. وقيل: قبل الاستنجاء حتى يكون جميع عمله قربة. والنية فرض في التيمم لأن التراب ليس له مطهراً أصلاً. -2 - الترتيب: ومعناه تطهير الأعضاء واحداً بعد واحد على الوجه الذي جاءت به آية الوضوء، واستدل السادة الأحناف على أنه سنة بما يلي: أ - إن النصّ في آية الوضوء عطف المفروضات بالواو، وهي لا تقضي إلا مطلق الجمع، ولو أراد الترتيب لعطف بينها بالفاء أو بثم. ب - لقول علي رضي الله عنه: "ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأيِّ أعضائي بدأت" (4) . وعن مجاهد قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك" (5) . جـ - إن حكمة الوضوء المقصودة منه لا تتوقف على الترتيب وهي الوضاءة والحسن والنظافة. وما ورد من أحاديث عن وضوئه صلى الله عليه وسلم يفيد السميّة لا الفَرَضية. -3 - التسمية في أوله حتى لو نسيها أثناء الوضوء لم يحصل المقصود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ وذكر اسم الله تطهر جسده كله، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله لم يتطهر إلا موضع الوضوء) (6) . وصيغة التسمية: "بسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام"، وقيل: "بسم الله الرحمن الرحيم". ودليل التسمية: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه) (7) . -4 - غسل اليدين إلى الرسغين في ابتداء الوضوء، لأنهما آلة التطهير فيبدأ بهما. والرسغ هو المفصل بين الساعد والكفّ وبين الساق والقدم، ولحديث أوس بن أوس رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استوكف ثلاثاً) (8) ، وعن حمران مولى عثمان رضي الله عنه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوَضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه) (9) . وغسل اليدين للمستيقظ من النوم آكد لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) (10) . كيفية غسلهما: إن كان الإناء صغيراً فيجب رفعه أو إمالته وصبُّ الماء باليد اليسرى على اليمنى، وإن كان كبيراً لا يمكن إمالته فيغمس أصابع يسراه دون الكفّ فيصب على يمناه ثلاثاً، ثم يدخل اليمنى فيغسل يده اليسرى ثلاثاً، وذلك حتى لا يصير الماء مستعملاً. وإن زاد على قدر الضرورة بإدخال الكف مع الأصابع صار الماء مستعملاً (أي الملاقي للكف إذا انفصل لا جميع الماء) إلا أن ينوي الاغتراف، لأن غسل اليدين في ابتداء الوضوء يجزي عن الفرض ويسقط حدثهما، فهي سنة تنوب عن الفرض كما أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجب ينوب عن الفرض وهو التلاوة. فمثلاً إذا نقيت الحائض وأدخلت يدها في الإناء، فإنه يسقط حدث يدها ولو بدون نية، لكن يسن عند غسل الذراعين إعادة غسل الكفين. ويكون غسل اليدين إلى الرسغين سنة إن كانتا طاهرتين. أما إن كانتا متنجستين ولو قلت النجاسة فغسلهما على وجه لا ينجس الماء فرض، فإن أفضى إلى ذلك تركه - إذا لم يمكنه الاغتراف بشيء ولو بمنديل أو بفمه، وتيمم وصلى ولم يعد. -5 - الاستياك: وهو سنة مؤكدة عند المضمضة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) (11) . وهو سنة للوضوء لا للصلاة، فلو توضأ بسواك يحصل الفضل في كل صلاة أداها بهذا الوضوء. وإن توضأ بدون سواك نُدب له السواك عند الصلاة. كما أن السواك مستحب عند تغير رائحة الفم، والقيام إلى الصلاة إن لم يخشَ نقض الوضوء بخروج دم من اللثة، وقراءة القرآن، ودخول البيت، واجتماع الناس، روي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تسوكوا فإن السِّواك مَطْهَرَة للفم، مرضاة للرب، ما جاءني جبريل إلاّ أوصاني بالسِّواك حتى لقد خشيتُ أن يُفْرض عليَّ وعلى أمتي، ولولا أني أخاف أن أشُقَّ على أمتي لفرضْتُه لهم، وإني لأستاك حتى لقد خَشيت أن أحَفْي مقادِمَ فمي) (12) ، وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك) (13) . ويصح الاستياك بالإصبع أو بخرقة خشنة، لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء؟ قال: (إصبعاك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك) (14) . ويندب أن يكون السواك، وهو العود الذي يستاك به، ليناً بلا عُقَد، في غِلظ خنصر وطول شبر، ويسن أن يكون من الأراك (15) . كيفية الاستياك: يجعل خنصر يده اليمنى تحت السواك، ويجعل البنصر والوسطى والسبابة فوقه، والإبهام أسفل رأس السواك، ويستاك به عرضاً لا طولاً. وأقل السواك ثلاث مرات للأعالي وثلاث مرات للأسافل بثلاث مياه. -6 - المضمضة والاستنشاق: المضمضة اصطلاحاً هي استيعاب الماء جميع الفم، ويسن أن تكون ثلاثاً لما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم قال: (فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات) (16) . والاستنشاق من النَّشق وهو جذب الماء أو إيصال الماء إلى المارِن وهو ما لان من الأنف. وتسن المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) (17) . ويسن في المضمضة والاستنشاق خمسة أشياء هي: الترتيب، والتثليث، وتجديد الماء، وأن يكون الاستنشاق باليمنى والاستنثار باليسرى، والمبالغة فيهما بالغرغرة ومجاوزة المارن. ودليل ذلك الأحاديث المتقدمة وما روي عن علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: (فأدخل يده اليمنى في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق واستنثر بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثاً) (18) . -7 - تخليل اللحية الكثّة: ويكون بتفريق الشعر من الأسفل إلى الأعلى، ويكون بعد غسل الوجه. وذلك لما روي عن عثمان رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل لحيته) (19) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل) (20) . -8 - تخليل الأصابع في اليدين بإدخال بعضهما في بعض، وتخليل الأصابع في الرجلين بأن يدخل خنصر يده اليسرى فيبتدئ من خنصر رجله اليمنى وينتهي بخنصر رجله اليسرى؛ وذلك من أسفل الأصابع إلى أعلاها. لما حدث المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل أصابه رجليه بخصره) (21) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك) (22) . والتخليل سنة فإذا كانت الأصابع منضمة كان تخليلها فرضاً. -9 - تثليث الغسل لأحاديث كثيرة وردت في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطَّهور؟ فدعاء بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل أصبعيه السبَّاحتين في أذنيه ومسح بإبهامه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" (23) وزاد في رواية: (أو تعدّى) (24) . وغسل المرة فرض والمرتين يضاعف بهما الأجر مرتين، لما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، فقال: هذا وظيفة الوضوء أو قال: وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة، ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال: هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً فقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي) (25) . -10 - استيعاب الرأس بالمسح مرة واحدة، ولا يندب التثليث لأن الوارد في أكثر الأحاديث في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم التثليث في المغسولات وأن السنة في الرأس استيعابه بالمسح، فعن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "رأيت علياً رضي الله عنه توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة واحدة، ثم قال: هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " (26) . كيفية المسح: يضع كفيه وأصابع يديه على مقدم رأسه ويمرّهما إلى القفا على وجه يستوعب جميع الرأس، لما روي عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي منه بدأ" (27) . -11 - البداءة بالمسح من مقدم الرأس للحديث المتقدم، وهي من المستحبات. -12 - مسح الأذنين: يسن مسح الأذنين ولو بماء الرأس، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم غرف غرفة فمسح بها رأسه وأذنيه فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه في صفة الوضوء، وفيه: (ثم مسح رأسه، فأدخل أصبعيه في أذنيه، ومسح بإبهامه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه) (28) وإن أخذ لهما ماءً جديداً كان حسناً. ويكون مسح الأذنين بأن يمسح ظاهرهما بالإبهامين وداخِلَهما بالسبَّابتين، ويُدخل الخنصرين في حِجْرَيْهِما ويحركهما لحديث الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأدخل أصبعيه في حجري أذنيه" (29) . -13 - الدلك بعد الغسل بإمرار يديه على الأعضاء، لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول هكذا يدلك) (30) . -14 - البداءة بالميامن وذلك في اليدين والرجلين، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدءُوا بميامنكم) (31) ، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (32) . -15 - البداءة بالغسل من رؤوس الأصابع باليدين والرجلين، لأن الله تعالى جعل المرفقين والكعبين غاية الغسل فتكون منتهى الفعل، ولصفة وضوئه صلى الله عليه وسلم. -16 - مسح الرقبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وأومأ بيديه من مقدم رأسه حتى بلغ بهما أسفل عنقه من قبل قفاه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مسح الرقبة أمان من الغل يوم القيامة) (33) . ولا يسن مسح الحلقوم لأنه بدعة. وتعتبر السنن الثلاث الأخيرة من المستحبات. الموالاة: أي إنجاز أفعال الوضوء متتابعة بحيث لا يوجد بينها ما يعد فاصلاً بالعُرْف (أي متابعة غسل الأعضاء قبل جفاف ما قبلها) ، وقد صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة) (34) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب بدء الوحي باب 1/1. (2) خبر الآحاد هو ما رواه الواحد أو الاثنان فأكثر، مما لم تتوفر فيه شروط الحديث المشهور أو المتواتر. وهو يفيد الظن ويوجب العمل عند السادة الحنفية متى توفرت فيه شروط القبول. (3) محاضرات في الفقه الإسلامي العام للدكتور فوزي فيض الله. (4) الدارقطني: ج 1 / ص 89. (5) البيهقي: ج 1 / ص 87. (6) البيهقي: ج 1 / ص 45. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 48/101. (8) النسائي: ج 1 / ص 64. استوكف ثلاثاً: أي استقطر الماء وصبه على يديه ثلاث مرات وبالغ حتى وكف منها الماء. (9) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 3/3. (10) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 26/87. (11) البخاري: ج 1 / كتاب الصوم باب 27. (12) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 7/289، وأحَفي: من الإحفاء وهو الاستئصال. (13) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 15/44. (14) البيهقي: ج 1 / ص 41. (15) الأرَاك: شجر معروف وهو شجر السواك يُستاك بفروعه. قال الإمام أبو حنيفة: هو أفضل ما استيك بفرعه من الشجر وأطيب ما رَعَته الماشية رائحة لبن. (16) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 7/18. (17) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 55/142. (18) البيهقي: ج 1 / ص 48. (19) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 50/430. (20) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 56/145. (21) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 54/446. (22) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 30/39. (23) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 51/135. (24) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 48/422. (25) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 47/420. (26) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 50/115. (27) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 50/122. (28) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 51/135. (29) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 50/131. (30) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 39. (31) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 42/402. (32) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 30/166. (33) أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عمر رضي الله عنه وهو ضعيف. (34) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 67/175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الفصل الرابع: آداب الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الآداب: جمع أدب وهو لغة: الخصلة الحميدة، وشرعاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى. وتسمى أيضاً مندوبات أو مستحبات أو تطوعاً. وحكمه: الثواب بفعله وعدم اللوم على تركه. وآداب الوضوء هي: -1 - استقبال القبلة، لأنه أقرب إلى قبول الوضوء باعتباره عبادة، وقبول الدعاء فيه. -2 - الجلوس في مكان مرتفع تحرزاً من الغُسَالة. -3 - الجمع بين القلب واللسان في تحصيل النية. -4 - الدعاء بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم فيقول عند المضمضة: "اللهم أعني على تلاوة القرآن وذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وعند الاستنشاق: "اللهم أرِحْني رائحة الجنة ولا تُرِحْني رائحة النار". وعند غسل الوجه: "اللهم بيّض وجهي بنورك يوم تبيّض وجوه وتسودّ وجوه". وعند غسل اليد اليمنى: "اللهم أَعْطِني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً". وعند غسل اليد اليسرى: "اللهم لا تعطني كتابي بيساري ولا من وراء ظهري ولا تحاسبني حساباً عسيراً". وعند مسح الرأس: "اللهم أظلّني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك". وعند مسح الرقبة: "اللهم أعتق رقبتي من النار". ويقول عند غسل الرجل اليمنى: "اللهم ثبِّتْ قدمي على الصراط يوم تزلّ الأقدام". ويقول عند غسل الرجل اليسرى: "اللهم اجعل عملي مشكوراً وذنبي مغفوراً وتجارتي لن تبور". -5 - تحريك الخاتم الواسع مبالغة في الغسل، لما روي عن أبي رافع قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه) (1) . -6 - أن تكون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى والاستنثار باليد اليسرى، لحديث علي رضي الله عنه في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم: (.. فأدخل يده اليمنى في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق واستنثر بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثاً) (2) . -7 - إدخال الخنصر في صِماخ (3) الأذنين مبالغة في النظافة. -8 - التسمية والنية عند كل عضو، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تبرح تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء) (4) . -9 - الوضوء قبل دخول الوقت استعداداً للصلاة، إلا المعذور لأنه ينتقض وضوؤه بخروج الوقت. -10 - التشهد بعد الوضوء، وذلك لحديث عقبة بن عامر وفيه قول مر رضي الله عنه قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقول حين يفرغ من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء) (5) . -11 - ترك التجفيف إبقاء على آثار الوضوء. -12 - أن يشرب من فضل وضوئه قائماً مستقبلاً القبلة كما يفعل في شربه من ماء زمزم. روي عن علي رضي الله عنه "أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قام فشرب فضل وضوئه وقال: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنعت" (6) . والأفضل، فيما سوى ذلك، أن يشرب قاعداً لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشربنَّ أحد منكم قائماً فمن نسي فليستقئ) (7) والنهي لأمر طبي لا ديني. -13 - أن يقرأ سورة القدر ثلاثاً إثر وضوئه. -14 - تهيئة ماء الوضوء للمرة الثانية.   (1) البيهقي: ج 1 / ص 57. (2) البيهقي: ج 1 / ص 48. (3) الصِّماخ من الأذن: الخَرْق الباطن الذي يفضي إلى الأذن. (4) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 220، رواه الطبراني في الصغير وإسناده حسن. (5) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 65/169. (6) النسائي: ج 1 / ص 87. (7) مسلم: ج 3 / كتاب الأشربة باب 14/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الفصل الخامس: مكروهات الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المكروه هو ضد المحبوب من العمل. ويكره للمتوضئ فعل كل ما هو ضد المستحب. -1 - الإسراف في صب الماء، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بسعد وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السَّرَف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ) (1) . ومنه تثليث المسح بماء جديد. -2 - الزيادة على الثلاث في الغسل وكذا النقص عن الثلاث، لأنه خلاف السنة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم) (2) وفي رواية أبي داود: (فمن زاد على هذا أو نقص) (3) . -3 - التقتير والاقتصاد الزائد في صب الماء بحيث يصير الغسل كأنه مسح، إذ لابد من التقاطر حتى يسمى غسلاً لحديث طلحة عن أبيه عن جده قال: (دخلت - يعني على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره) (4) . -4 - لطم الوجه بالماء لمنافاة شرف الوجه، فينبغي أن يغسل وجهه برفق، ولا يغمض عينه، ولا يطبق شفتيه حتى يستوعب الغسل الوجه كله. -5 - يكره التكلم بكلام الناس أثناء الوضوء إلا لضرورة، لأن الكلام يصرف الإنسان عن الحضور والذكر والعبادة، وذكر بعض الصالحين أن الاستحضار في الصلاة يتبع الحضور في الوضوء؛ وعدمه في عدمه. -6 - يكره الاستعانة بغيره بدون عذر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَكِلُ طهوره إلى أحد ولا صدقَتَه التي يتصدق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه) (5) ، ولحديث عمر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي ماء لوضوئه فبادرته أستقي له فقال: مه يا عمر فإني أكره أن يشركني في طهوري أحد) (6) . -7 - الوضوء في موضع نجس، لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولنّ أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه) قال أحمد: ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه) (7) . -8 - يكره أن يستخلص لنفسه إناء دون غيره، كما يكره أن يكون الإناء من خزف.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 48/425. (2) النسائي: ج 1 / ص 88. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 51/135. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 54/139. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 30/362. (6) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 227. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 15/27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الفصل السادس: نواقض الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 النواقض جمع ناقض وهو كل ما يُبطل المراد أو المقصود منه، وناقض الوضوء: هو ما يجعله غير صالح لإفادة العبادات التي لا تصح بلا وضوء. والنواقض قسمان: أ - النواقض الحقيقية: -1 - كل خارج من السبيلين من بول أو غائط أو ريح أو مذي أو ودي وإن كان قليلاً سواء أكان معتاداً أم غير معتاد كالدودة والحصاة. ودليل الانتقاض في الغائط قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط ... فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) . أما البول فبالسنة المستفيضة والإجماع والقياس على الغائط. وأما الريح فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ) . قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط (2) . وروي عن عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: (لا ينفتل - أو ينصرف - حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (3) . وهذا يخص الريح من الدبر، أما من القبل فلا يفسد الوضوء لأنه اختلاج. وأما المذي فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضأ وانضح فرجك) (4) . وأما الودي فلما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "الودي الذي يكون بعد البول فيه الوضوء" (5) . وأما أدلة انتقاض الوضوء في الخارج غير المعتاد فعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (الوضوء مما خرج وليس مما دخل) (6) ، وما روي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في الذي يتوضأ فيخرج الدود من دبره: "عليه الوضوء" (7) . وكذا إذا حشى الإحليل بقطنة فظهر البلل للطرف الخارج انتقض وضوؤه، ولو أدخل إصبعه في دبره ينتقض وضوؤه. -2 - كل نجاسة سائلة من غير السبيلين كالدم والقيح، لما روى تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء من كل دم سائل) (8) . ويشترط السيلان عن موضع الجرح، وهو خروج النجاسة وتجاوز محلها يطلب تطهيره ولو ندباً، كدم وقيح وصديد وماء الثدي وماء السُرَّة والأذن إن كان لمرض ولو سال بالعصر، أو كلما خرج مسحه إذ لو تركه لسال فيعتبر ناقضاً. أما لو كان الخروج في مجالس متفرقة كلما خرج مسحه قبل أن يسيل فلا ينقض. وإذا انتفخ رأس الجرح فظهر به قيح لا ينقض ما لم يتجاوز الورم لأنه لا يجب غسل موضع الورم أي إذا كان يضره غسل ذلك المتورم ومسحه وإلا فينبغي أن ينتقض. ولا يُنْقَضُ الوضوء لو خرج ماء صاف عن حرق أو عين أو غيره إلا أن يشوبه دم أو قيح. ولو وضع المريض قطنة أو رباطاً على الجرح فلم يسل الدم لا يفسد الوضوء إلا عند فك الرباط وحينئذ فقط ينفصل الدم عن الجرح، كذلك يفسد الوضوء عند سيلان الدم حول العِصابة (9) ، وكذا لو تشربت القطنة القيح. -3 - القيء إن ملأ الفم، مهما كان نوعه طعاماً أو دماً، ولو لم يتغير. لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ) . قال أبو الدرداء: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له فقال: "صدق أنا صببت له وضوءه" (10) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابه قيء أو رعاف (11) أو قَلْس (12) أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم) (13) . وضابط ملء الفم ما لا يمسكه الفم ويطبق عليه بمشقة، وقيل ما يمنع الكلام. ولو قاء على فترات يبلغ مجموعها ملء الفم ينقض وضوؤه إذا اتحد المجلس عند الإمام أبي يوسف، أما الإمام محمد فيقول بانتقاضه ولو لم يتحد المجلس بشرط اتحاد السبب للقيء. ويكون القيء نجساً مطلقاً إن كان خارجاً من المعدة، أما لو كان خارجاً من المري قبل وصوله إلى المعدة فليس بنجس كالصبي إذا تقيأ ساعة رضاعته فوراً، وكذا ماء فم النائم فهو ليس بنجس ولو كان بحيث لو جُمع لملأ الفم إلا أن يكون منتناً أو أصفراً فهو نجس (14) على قول الإمام أبي يوسف. أما ماء فم الميت فنجس مطلقاً. -4 - نزول دم من الأسنان أو الفم إذا غلب البصاق أو ما ساواه، والعبرة باللون. أما إن كان من المعدة أو الرأس فهو ناقض مطلقاً بسيلانه إلى الفم وإن قلَّ، وإن كان بشكل علقة فيعتبر فيه ملء الفم. -5 - لو مصت علقة عضواً فامتلأت من الدم يفسد الوضوء، ويقاس عليها إبرة الدم حيث يخرج دم مسفوح، أما إن كان قليلاً فلا ينقض كالبّق والذباب. -6 - المباشرة دون حائل، لأنه مظنة خروج المذي، والعبرة لوجود الشهوة إذا كانت فاحشة بتماس فرجين ولو بين امرأتين أو رجلين أو رجل وصبي أو رجل وامرأة مع الانتشار ولو بلا بلل. ب - نواقض الوضوء الحكمية: أي أنها ليست إحداثاً بذاتها بل هي أسباب للأحداث وهي: -1 - نوم غير المتمكن، والناقض هنا عدم وعي الحدث لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السَّه العينان، فمن نام فليتوضأ) (15) . -2 - القهقهة في الصلاة تفسد الوضوء والصلاة معاً، إذا كان المصلي بالغاً، لما روي عن معبد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما هو في الصلاة إذ أقبل أعمى يريد الصلاة، فوقع في زبية فاستضحك القوم حتى قهقهوا، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة) (16) . وضابط القهقهة أن يسمع مَن بجواره صوته، وإن لم يسمعه من بجواره ففيه إعادة الصلاة فقط. وليس على التبسم شيء لأنه صلى الله عليه وسلم تبسم عندما جاءه جبريل عليه السلام في الصلاة وأخبره أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً ... ولم يعد صلاته. والقهقهة مفسدة للوضوء زجراً لأنه انتهاك لحرمة الصلاة لذا يشترط البلوغ لأن الصبي لا يعاقب. وإذا قهقه الإمام في الصلاة أو أحدث عمداً بطلت صلاته ووضوؤه وبطلت صلاة المؤتمين، فإذا ضحكوا قهقهة بعده لا يبطل وضوؤهم لأنهم تقهقهوا بعد فساد الصلاة. ولو كانت القهقهة عند السلام لا يبطل الصلاة بل تنقض الوضوء لخروجه بها من الصلاة إلا أنه تارك واجب السلام. -3 - الإغماء: وهو مرض يُضْعف القوى ويستر العقل. -4 - الجنون: وهو مرض يزيل العقل ويزيد القوى. -5 - السُّكْر: وهو خِفّة يظهر أثرها بالتمايل وتلعثم الكلام. ملحق: هناك أشياء غير ناقضة للوضوء نجملها فيما يلي: -1 - ظهور دم لم يسل عن محل خروجه. -2 - سقوط لحم من غير سيلان دم. -3 - خروج دودة من غير السبيلين. -4 - مس العورة، لحديث طلق بن علي رضي الله عنه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله، ما ترى في مسِّ الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال: (هل هو إلا مضغة منه أو قال: بضعة منه) (17) . -5 - مس امرأة غير محرم مطلقاً، لحديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ) (18) ، ولأن تفسير {أو لامستم النساء} (19) في الآية المقصود به الجماع، لكن يندب الوضوء للخروج من الخلاف. -6 - قيء لا يملأ الفم. -7 - قيء بلغم (20) ولو كان كثيراً. -8 - تمايل نائم احتمل زوال مقعدته، لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تَخفِق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون) (21) . -9 - نوم مصلٍّ قائماً أو راكعاً أو ساجداً على الهيئة المسنونة بأن أبدى ذراعيه وجافى بطنه عن فخذيه (ولو في غير الصلاة على المعتمد) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجب الوضوء على من نام جالساً أو قائماً أو ساجداً حتى يضع جنبيه، فإنه إذا وضع جنبيه استرخت مفاصله) (22) . وكذا لا ينقض وضوء من نام متوركاً أو محتبياً (23) إذا كانت مقعدته متمكنة. وإلا فعليه الوضوء بالنوم الذي لا يفهم معه الخطاب. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ليس على المحتبي النائم ولا على القائم النائم ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع توضأ" (24) . ولا شبه المنكّب على وجهه (25) . وكذا نوم قاعد متمكّن مستند إلى شيء كحائط أو وسادة بحيث لو زال أو أزيل المستَندُ إليه لسقط الشخص، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من نام وهو جالس فلا وضوء عليه، وإن اضطجع فعليه الوضوء" (26) . ما يحرم بالحدث الأصغر: -1 - الصلاة وكل ما كان مثلها كسجدة التلاوة وسجدة الشكر وصلاة الجنازة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ) (27) . -2 - مس المصحف ولو آية، إلا بغلاف منفصل، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (28) . -3 - الطواف لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير) (29) . تعقيبات: -1 - إن شك في بعض وضوئه أعاد إن لم يكن له عادة في الشك. -2 - إن تيقن الوضوء وشك بالحدث فهو متوضئ، أما لو تيقن الحدث وشك بالوضوء بعده فهو محدث. وذلك عملاً باليقين. لما روى عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (30) . -3 - إن شك في نجاسة ماء أو ثوب أو طلاق أو عِتْق لم يعتبر.   (1) النساء: 43. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 2/135. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 4/137. وليس وجدان الرائحة أو السمع شرطاً في ذلك، بل المراد حصول اليقين بخروج شيء منه. (4) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 4/19. (5) البيهقي: ج 1 / ص 115. (6) البيهقي: ج 1 / ص 116. (7) البيهقي: ج 1 / ص 116. (8) الدارقطني: ج 1 / ص 157. (9) العصابة: كلّ ما شد به من منديل أو خِرْقَة. (10) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 64/87. (11) الرُّعاف: سيلان الدم من الأنف. (12) القَلْس: ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بِقَيءٍ فإن عاد فهو قيء. (13) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 137/1221. (14) الفتوى على طهارته. (15) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 80/203. (16) الدارقطني: ج 1 / ص 167. (17) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 71/182. (18) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 69/179. (19) النساء: 43. (20) البلغم: هو الرطوبة التي تخرج من الفم. (21) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 80/200. (22) البيهقي: ج 1 / ص 121. (23) المحتبي: هو الذي يجمع ظهره وساقيه بعمامته أو يديه، ويضع قدميه على الأرض ورأسه على ركبتيه. (24) البيهقي: ج 1 / ص 123. (25) أي من نام واضعاً إليته على عقبيه وبطنه على فخذيه. (26) البيهقي: ج 1 / ص 120. (27) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 2/135. (28) الواقعة: 79. (29) الترمذي: ج 1 / كتاب الحج باب 112/960. (30) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 26/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الباب الرابع (المسح على الخفين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 - الخف هو لباس القدم الساتر للكعبين، وأخذ من الخِفَّة لأن الحكم فيه يخفف من الغسل إلى المسح رخصة. حكمه: يجوز المسح على الخفين في الوضوء لا الغسل في سفر وحضر للرجال والنساء. دليله: ثبتت مشروعية المسح على الخفين بأحاديث كثيرة بلغت حد التواتر فزادت على ثمانين حديث. لذا يُخشى على من أنكر مشروعيته الكفر. ولو اعتقد المكلف جوازه ولكن تكلَّف نزعه يثاب على العزيمة. ومن الأدلة: ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأهويت لأنزع خفيه فقال: (دَعْهما فإني أدخلتهما طاهرتَيْن، فمسح عليهما) (1) . وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) (2) . وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: "ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثلُ ضوءِ النهار".   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 48/203. (2) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 71/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 شروط جواز المسح على الخفين: -1 - لبسهما بعد رفع الحدث عن القدمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (دَعْهما فإني أدخلتهما طاهرتين) يعني قدميه. -2 - كون الخفين ساترين للكعبين من الجوانب. -3 - إمكان متابعة المشي فيهما فرسخاً أي ما يقدر بـ (5. 5) كم تقريباً. -4 - خلوّ كلّ منهما عن خَرْقٍ يزيد على ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم. -5 - استمساكهما على الرجلين من غير شدِّ. -6 - أن لا يشفّا الماء، فيجب أن يمنعا وصول الماء إلى القدمين. -7 - أن يبقى من قدمه ما يكفي للمسح، فإن كان مقطوع مقدم القدم لا يمسح الباقي بل يغسل. مدة المسح على الخفين: يمسح المقيم يوماً وليلى، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن، لما روي عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم) (1) . ولو مسح المكلف وهو مقيم ثم سافر تمم المدة إلى ثلاثة أيام، ولو مسح وهو مسافر ثم أقام بعد يوم وليلة انتهت مدة المسح. أما المعذور فإذا لبس الخفين أثناء انقطاع عذره فمدة مسحه كغيره، وإن لبسهما أثناء استمرار عذره انتهت مدة المسح في آخر الوقت الذي توضأ فيه. وتبدأ مدة المسح من وقت الحدث الحاصل بعد لبس الخفين، لأنه منذ وقوع الحدث بدأ عمل الخفين في منع سراية الحدث إلى الرجلين، فيصح لذلك رفع الحدث عنهما بالمسح دون الغسل. وقيل: إنها تبدأ من وقت لبس الخفين، وقيل أيضاً إنها تبدأ من أول وضوء بعد لبسهما.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 24/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 محل المسح على الخفين وكيفيته: إن المطلوب هو مسح ظاهر الخفين وأعلاهما فقط، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) (1) . والمقدار المفروض مسحه هو ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد. كيفيته المسنونة: أن يبدأ من رؤوس أصابع القدم، فيضع يديه مفرَّجتي الأصابع قليلاً، ثم يمرّهما خطوطاً على مشطي قدميه إلى ساقيه. ولو بدأ من الساق أو مسح عرضاً صح ولكن خالف السنة.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 63/162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 نواقض المسح على الخفين: -1 - كل ما ينقض الوضوء ينقض المسح، وفي هذه الحالة يتوضأ ويمسح إذا كانت المدة باقية. -2 - نزعهما، فإذا نزع أحد الخفين انتقض المسح ولزمه نزع الآخر وغسل رجليه. -3 - إصابة الماء أكثر إحدى القدمين. -4 - انقضاء المدة. وفي الحالات الثلاث الأخيرة لا يجب عليه الوضوء بل يكفي غسل القدمين. ملاحظة: لا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة والقفازين قياساً على الخفين، لأن المسح على الخفين ثبت على خلاف القياس، وما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس. المسح على الجوربين: دليله: ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) (1) . ويشترط لجواز المسح على الجوربين أن يكونا منعلَّين أو مجلَّدين بالاتفاق بين أئمة الحنفية. أما إذا كانا غير منعلين ولا مجلدين فيجوز المسح عليهما عند الصاحبين (2) إذا كانا صفيقين (3) ثخينين لا يشفّان الماء، ويمكن متابعة المشي فيهما، فإن كانا رقيقين يشفّان الماء فلا يجوز المسح عليهما بالاتفاق.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 61/159. (2) وإلى قولهما رجع الإمام أبو حنيفة وعليه الفتوى. (3) الصَّفيق: المتين: ونقول: ثوب صفيق أي كثيف نسجُه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المسح على الجبيرة: الجبيرة: هي كل شُدَّ على جرح أو كسر بخرقة أو خشب أو غيرها. وكل من لا يستطيع غسل العضو أو مسحه ولو مرة واحدة جاز له المسح على الجبيرة. ودليله: ما روي عن علي رضي الله عنه قال: انكسرت إحدى زَنْدَيَّ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم (فأمرني أن أمسح على الجبائر) (1) . وقال الفقهاء: إن الحرج فيها فوق الحرج في نزع الخف فكانت أولى بشرع المسح. حكمه: قيل هو فرض بدلاً من غسل العضو المريض أو مسحه، لما روى ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتّساخين) (2) ولحديث علي رضي الله عنه المتقدم. ولا يجب فيه استيعاب. وقال الإمام: إن المسح على الجبيرة واجب لأن العذر أسقط فرضية الغسل عن العضو المصاب، وقد ثبتت فرضية غسل الصحيح بأمر قطعي فلا يخُصُّ بالظني الذي هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيكون المسح على الجبيرة فرضاً عملياً لثبوته بظني. وهذا قولهما وإليه رجع الإمام وعليه الفتوى) . ولو ضره المسح على الجرح تركه دفعاً للحرج لأن الغسل سقط بالعذر فالمسح أولى، وليس عليه إعادة صلاة ولو كان الجرح بأعضاء التيمم. فروق بين المسح على الخفين والمسح على الجبائر: -1 - لا يشترط في الجبيرة وضعها على طهارة. -2 - لا يتقيد المسح على الجبيرة بمدة. -3 - يجوز مسح الجبيرة عن رِجْل وغسل الأخرى. -4 - لا يسقط حكم المسح بسقوط الجبيرة إلا أن تسقط عن بُرْء، فلو سقطت عن برء أثناء الصلاة بطلت. -5 - الجنابة والحدث سواء في حق الجبيرة بخلاف المسح على الخفين. -6 - المسح على الجبيرة مشروط بالعجز عن مسح الموضع ذاته أو غسله، ولا يشترط هذا في الخفين. -7 - لا تُمسح العصابة السفلى إذا نُزعت العليا، ولا يبطل مسحها بابتلال ما تحتها، ويجوز تبديلها بغيرها بعد مسحها ولا يجب إعادة المسح عليها. ويضاف إلى الجبيرة المسافات حول الرباط إن ضرَّ حلُّه. ويقاس على الجبيرة كل موضع فيه دواء على جرح يتعذر بلّه، وكذلك العين لو رمدت وضرَّ بلُّها مسح عليها.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 134/657. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 57/146، والتّساخين: الخفاف ولا واحد لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الباب الخامس (الغُسْلُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 تعريف الغسل: لغة: تمام غسل الجسد، واسم للماء الذي يغتسل به. شرعاً: غسل البدن من جنابة أو حيض أو نفا (أي الغسل الذي هو فرض) . قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطَّهروا} (1) .   (1) النساء: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سبب الغسل: إرادة ما لا يحل مع الحدث الأكبر إلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 حكم الغسل: أ - فرض: يكون الغسل فرضاً في الحالات التالية (وهي موجباته) : -1 - خروج المني بشهوة إلى ظاهر الجسد، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الماء من الماء) (1) . إذا انفصل عن مقره أي عن الصلب للرجل وعن الترائب (2) للمرأة. ولا يشترط دوام الشهوة حتى يخرج المني إلى الظاهر بل يكفي وجودها عند انفصاله من الصلب خلافاً لأبي يوسف. وسواء كان نزول المني عن جماع أو احتلام أو نظر أو استمناء فإنه موجب للغسل، ودليل وجوب الغسل حال الاحتلام حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا رأت الماء) . فقالت أم سلمة: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ فقال: (تَربَتْ يداك فبم يشبهها ولدها) (3) . وإذا استيقظ من النوم فوجد منياً ولم يتذكر احتلاماً وجب عليه الغسل، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً. قال: (يغتسل) (4) . أما من ذكر حلماً ولم ير بللاً فلا غسل عليه. ويوجب الغسل: إنزال المني بوطء ميتة أو بهيمة أو إدخال إصبع فإن نزل المني وجب الغسل لقصور الشهوة. وكذا لو وجد المني بعد سكر أو إغماء. ولو خرج المني بدون شهوة عن مرض، أو تعب، أو حمل ثقيل، أو ضرب على الصلب، فلا غسل عليه. وذلك لما روي عن مجاهد قال: "بيننا نحن أصحاب ابن عباس حلق في المسجد، طاووس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وابن عباس قائم يصلي، إذ وقف علينا رجل فقال: هل من مُفتٍ؟ فقلنا: سل. فقال: إني كلما بلت تبعه الماء الدافق، قلنا: الذي يكون منه الولد؟ قال: نعم، قلنا: عليك الغسل، قال: فولى الرجل وهو يرجع، قال: وعجل ابن عباس في صلاته، ثم قال لعكرمة: عليَّ بالرجل، وأقبل علينا فقال: أرأيتم ما أفتيتم به هذا الرجل عن كتاب الله؟ قلنا: لا، قال: فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لا، قال: فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لا، قال: فعمَّه؟ قلنا: عن رأينا، قال: فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. قال: وجاء الرجل، فأقبل عليه ابن عباس فقال: أرأيت إذا كان ذلك منك أتجد شهوة في قبلك؟ قال: لا، قال: فهل تجد خدراً في جسدك؟ قال: لا، قال: إنما هي إبردة يجزيك منها الوضوء". -2 - التقاء الختانين ولو بدون إنزال، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شُعبها الأربع، ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل) (5) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع وأجهد نفسه فقد وجب الغسل، أنزل أم لم ينزل) (6) . وكذا يجب الغسل إذا كان الإيلاج في الدبر، قال علي رضي الله عنه: "توجبون فيه الحد ولا توجبون فيه صاعاً من ماء". -3 - انقطاع الحيض والنفاس، لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (7) . ويجب الغسل بعد الولادة ولو كانت بغير دم. -4 - الموت: ووجوب الغسل بحق الميت المسلم فقط، وغسله فرض كفاية على المسلمين، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسِدْر) (8) . ويجب الغسل احتياطاً لمن أصاب كل جسده نجاسة أو بعضه وخفي مكانها. ب - سنة: ويكون الغسل سنة لأمور: -1 - لصلاة الجمعة، لحديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) (9) . والغسل للصلاة فلو اغتسل ثم أحدث فتوضأ لم تحصل السنة، وقيل الغسل لليوم. -2 - لصلاة العيدين، لما روى الفاكه بن سعد - وكانت له صحبة - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر) (10) . والحكمة من الغسل في أيام الاجتماعات لدفع أذى الرائحة الكريهة. -3 - للوقوف بعرفة بعد الزوال لفضل زمان الوقوف، للحديث المتقدم ولما روي عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "اغتسلت مع ابن مسعود يوم عرفة تحت الأراك" (11) . ويسقط عنه إن لم يجد ساتراً. -4 - للإحرام بالحج أو العمرة، والغاية منه التنظيف لا التطهير، لذا يسن للمرأة الحائض والنفساء. وذلك لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه (رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) (12) . ولا يتيمم بدله إن فقد الماء. -5 - للإسلام، إن أسلم وهو طاهر عن موجبات الغسل. -6 - البلوغ بالسن لا بالاحتلام. جـ - مندوب: -1 - يندب الغسل لمن أفاق من جنون أو سكر أو إغماء، لما روي عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى. (ثقل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا. وهم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ضعوا لي ماء في المِخْضَبِ. ففعلنا. فاغتسل. ثم ذهب ليَنُوء فأغمي عليه. ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا. وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب. ففعلنا. فاغتسل..) (13) . -2 - لإحياء الليالي الوارد إحياؤها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كليلة النصف من شعبان وليلة القدر. -3 - بعد تغسيل الميت، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) (14) . -4 - لصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء وصلاة الخوف. -5 - لمن حكم عليه بالقتل، فيغتسل قبل أن ينفذ فيه الحكم. -6 - للقادم من السفر. -7 - للتائب من الذنب. -8 - لمن أصابته نجاسة وخفي عليه مكانها. -9 - لدخول مكة أو المدينة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى، حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله) (15) . -10 - لرمي الجمار. -11 - للوقوف بمزدلفة. -12 - لطواف الزيارة. -13 - المستحاضة إذا انقطع عنها الدم. -14 - بعد الحجامة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 21/81، ويقصد بالماء الأول الغسل وبالثاني المني. (2) الترائب: عظام الصدر. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 6/32. (4) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 82/113. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 22/88. (6) الدارقطني: ج 1 / ص 112. (7) البقرة: 222. (8) البخاري: ج 2 / كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب 32/1753، والوَقْص: كَسْر العنق. والسِّدر شجر النَّبق. (9) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة /4. (10) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 78. (11) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 153. (12) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 16/830. (13) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 21/90، ومعنى لِنَوء، أي ليقوم وينهض. (14) ابن ماجة: ج 1 / كتاب جنائز باب 8/1463. (15) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 38/227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فرائض الغسل: للغسل ركن واحد وهو تعميم البدن بالماء، ويشمل الفرض العملي والفرض الاعتقادي حيث لم يفصّل الله تعالى في فرائض الغسل كما فصّل في فرائض الوضوء، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) . والمبالغة في قوله تعالى: {فاطهروا} تفيد غسل الجسم ظاهراً وباطناً، ويسقط ما لا يمكن لوجود الحرج. وعلى هذا فرائض الغسل هي: -1 - تعميم ما أمكن من البدن شَعْره وبَشره بالماء الطاهر، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) (2) . فيجب تعهد ثنايا الجسم وتحت الإبطين والشعر بالغسل. -2 - المضمضة والاستنشاق، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن خالته ميمونة قالت: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً فاغتسل من الجنابة وذكرت الحديث وفيه: (ثم مضمض واستنشق..) (3) ويكفي في المضمضة الشرب عبَّاً. -3 - غسل الفرج الظاهر والسرّة، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) (4) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان (5) إذا اغتسل من الجنابة نضخ الماء في الماء عينيه وأدخل إصبعه في سرته) (6) . أخذ السادة الأحناف من الحديث وجوب غسل السرة دون وجوب غسل العينين. -4 - إزالة ما يمنع من وصول الماء إلى الجسد. -5 - غسل تحت الشعر وتبليغ الماء إلى أصول الشعر، ويفترض نقض المضفور من شعر الرجل للغسل وتنقض المرأة ضفائرها إذا لم تتأكد من وصول الماء إلى أصل الشعر، بدليل ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي فأنقضه لغُسْل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تَحثْي على رأسك ثلاث حَثَيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) (7) .   (1) النساء: 43. (2) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 78/106. (3) البيهقي: ج 1 / ص 177. (4) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 9/35. (5) يقصد النبي صلى الله عليه وسلم. (6) البيهقي: ج 1 / ص 177. (7) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 12/58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 سنن الغسل: يسن في الغسل ما يسن في الوضوء عدا الترتيب. -1 - التسمية قبل كشف العورة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه) (1) . -2 - النية، ليكون فعله قربة، والابتداء بالتسمية يصاحب النية لأن النية فعل القبل والتسمية باللسان. -3 - أن يبدأ المغتسل بيديه. -4 - أن يزيل الأذى والنجاسة إن كانت على بدنه. -5 - غسل الفرج إن لم يكن به نجاسة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليطمئن بوصول الماء إلى الجزء الذي ينضم من فرجه حال القيام. روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حَفَنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه) (2) . -6 - أن يتوضأ وضوءه للصلاة فيثلث الغسل ويمسح الرأس ويؤخر غسل الرجلين إن كان يقف حال الاغتسال في محل يجمع فيه الماء لاحتياجه لغسلهما ثانية. -7 - تعهد مواضع الانعطاف. -8 - تخليل أصول الشعر ثلاثاً بيده المبللة. -9 - أن يفيض الماء على بدنه ثلاثاً، فالإفاضة سنة لأنه لو انغمس في ماء جار أو كثير طهر من الجنابة حكماً. -10 - البداية من الرأس ثم الطرف الأيمن ثم الأيسر، لحديث جبير بم مطعم رضي الله عنه قال: تذاكرْنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثاً فأصب على رأسي ثم أفيضه بعد على سائر جسدي) (3) . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يتوضأ من الجنابة، ثم يدخل يده اليمنى في الماء، ثم يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر بيده اليسرى كذلك يستبرئ البشرة، ثم يصب على رأسه ثلاثاً) (4) . -11 - التكرار ثلاثاً، وهو في الغسل أولى منه في الوضوء. -12 - الدلك في المرة الأولى ثم يصب الماء وهو واجب عند الإمام أبي يوسف. -13 - الموالاة. -14 - نقض الشعر للغسل سنة للمرأة إن أمكن التعميم بدونه، وإلا فهو فرض كما ذكرنا. ويصح بلة العضو من العضو السابق (بانتقال الماء) في الغسل ولكن بشرط التقاطر.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 48/101. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 9/35. (3) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 81. (4) البيهقي: ج 1 / ص 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 آداب الغسل: -1 - استقبال القبلة على أن لا يكون مكشوف العورة حال الاغتسال وإلا فالأفضل عدم استقبالها. -2 - عدم التكلم أثناء الاغتسال ولو بدعاء. د -3 - عدم الإسراف في الماء أو التقتير فيه، لما روي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) (1) . -4 - أن يغتسل في مكان لا يراه فيه أحد. -5 - أن يستتر قدر الإمكان، لما روي عن يعلى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل حَيِيٌّ سِتّير. يحب الحياء والسِتّر. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) (2) ، وذلك سواء أكان وحده أو معه أحد من جنسه. أما المرأة بين الرجال فتؤخر غسلها وتتيمم للصلاة ثم تعيد. ويجوز للمرأة أن تتجرد للغسل وكذا الرجل إذا كان المحل صغيراً جداً. -6 - يستحب بعد الغسل صلاة ركعتين كما في الوضوء.   (1) البيهقي: ج 1 / ص 197. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الحمّام باب 2/412، وحييّ: أي منزّه عن النقائص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ما يحرم بالحدث الأكبر: -1 - يحرم بالحدث الأكبر ما يحرم بالحدث الأصغر وهو الصلاة والسجود للتلاوة والشكر، وكذلك الطواف - فرضاً أو نفلاً - ومس المصحف أو علاّقته، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (1) ، أما حمل المصحف تبعاً فلا يمنع منه كأن كان في صندوق فلا بأس للجنب أن يحمله. -2 - قراءة القرآن قليلاً كان أو كثيراً ولو بعض آية ما كانت بنية التلاوة، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حال ليس الجنابة) (2) ، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجُنب والحائض شيئاً من القرآن) (3) . تحرم قراءة القرآن على الجنب دون المحدث، بخلاف مسّ القرآن فإنه يحرم على الجميع، لأن الحدث حلَّ الجسم والجنابة حلت الفم. أما قراءة آيات الذكر في القرآن بنية الذكر فجائزة، كقوله عند المصيبة: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، أو حتى قرأ آية الكرسي بنية الذكر أو قرأ بعض آية في حديثه ومواعظه يقصد بها الذكر فلا يحرم بشرط أن يكون في الآية أو بعضها ذكر كقوله "الحمد لله رب العالمين". -3 - دخول المسجد، وذلك لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صَرْحَة (4) هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض) (5) . فلا يجوز للجنب دخول المسجد مطلقاً سواء للعبور أو المكث، إلا عند الضرورة، كما إذا كان الماء في المسجد ولا يوجد غيره أو كان داره داخل المسجد، فيتيمم ويَعْبُر.   (1) الواقعة: 79. (2) النسائي: ج 1 / ص 144. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 105/596. (4) الصَّرْحة من الأرض: ما استوى وظهر. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 126/645. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 93/232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الباب السادس (التَيَمُّم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 - التيمم خَلَفٌ عن الوضوء والغسل، وهو من خصائص الأمة. تعريفه: لغة: القصد، قال الله تعالى: {ولا تيَّمموا الخبيث منه تُنفقون} (1) وقال أيضاً: {ولا آمينّ البيت الحرام} (2) . شرعاً: قصد صعيد مطهِّر واستعماله حقيقة أو حكماً بصفة مخصوصة. معنى التعريف: -1 - القصد هو النية، وهي شرط في التيمم. -2 - صعيد مطهِّر احترز بقوله مطهر عن الأرض التي وقعت عليها نجاسة وجفت؛ فتكون طاهرة غير مطهرة. -3 - استعماله حقيقة في التراب وحكماً في الحجر الأملس. -4 - الصفة المخصوصة هي كيفية التيمم المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) البقرة: 267. (2) المائدة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 دليله: ثبتت مشروعية التيمم بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيباً} (1) . وأما السنة، فحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُعْطيتُ خمساً لم يُعْطَهنَّ أحد قبلي، نُصِرت بالرّعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهُوراً فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت لي المغانم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيت الشفَّاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامّة) (2) .   (1) النساء: 43. (2) البخاري: ج 1 / كتاب التيمم باب 1/328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 سبب التيمم: إرادة ما لا يحل إلا به، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأى رجلاً معتزلاً، لم يصلّ في القوم فقال: يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم. فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب التيمم باب 7/341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 شروط صحة التيمم: يصح التيمم بشروط ثمانية هي: أولاً: النية: وهي شرط في التيمم دون الوضوء، لأن الماء مطهِّر بطبعه فلا يحتاج إلى النية بخلاف التراب فهو ملوث بالأصل فلا يصير مطهِّراً إلا بالنية. والنية: عقد القلب على إيجاد الفعل جزماً. وقتها: عند ضرب يده على ما يتيمم به، أو عند مسح أعضائه بتراب أصابها. شروط صحتها: -1. الإسلام ليصير الفعل سبباً للثواب. -2. التمييز ليفهم ما يتكلم به. -3. العلم بما ينويه. صيغتها: -1. نية الطهارة من الحدث القائم. -2. نية استباحة الصلاة. -3. نية استباحة عبادة مقصودة لا تصح إلا بطهارة. ولو قيد النية بأن نوى التيمم لقربة لا يُشترط لها الطهارة من الحدث الأصغر كدخول المسجد أو قراءة القرآن من الذاكرة، فلا تصح به الصلاة لأن نية الأدنى لا تكون نية للأعلى، بعكس ما لو نوى التيمم للصلاة فإنه يصح له بهذا التيمم كل الأعمال. ولو تيمم للدخول في الإسلام فلا تصح الصلاة بهذا التيمم، إلا عند الإمام أبي يوسف فتجوز. ثانياً: وجود عذر مبيح للتيمم: -1ً - بُعْدُ الشخص ميلاً عن الماء، وهو ما يعادل ثلث فرسخٍ (1) . ويجب عليه قبل أن يتيمم أن يطلب الماء إن ظنّ قربه بمقدار (400) خطوة، أو أن يطلبه من رفقته، كما يلزمه شراؤه بثمن مثله وبغبن يسير إن كان معه فاضلاً عن نفقته. -2ً - المرض، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رخص للمريض التيمم بالصعيد". وهناك حالات: أ - ضرر الماء إنْ كان في استعماله حصول المرض، أو اشتداده، أو بطء في الشفاء، بتجربة أو إخبار طبيب مسلم عَدْل (2) . لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} قال: "إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف أن يموت إن اغتسل، يتيمم" (3) . ب - عجزه عن التحرك لاستعمال الماء (كمن أجري له عمل جراحي) . جـ - عجزه عن الفعل بنفسه كالمقعد أو المشلول، ففي هذه الحالة: -1 - إن لم يجد من يوضئه جاز له التيمم إجماعاً، قال الحسن "في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله يتيمم" (4) . -2 - وجد من يوضئه لكنه ليس من أهل طاعته جاز له التيمم. -3 - إن وجد من يطيعه فمختلف فيه (لا يجب على أحد الزوجين أو يوضئ صاحبه ولا أن يتعهده فيما يتعلق بالصلاة، ولا يعتبر أحدهما قادراً بقدرة الآخر) . د - مريض مرضاً لا يستطيع الوضوء ولا التيمم بنفسه أو بغيره: -1 - لا يصلي حتى يقدر على أحدهما برأي الإمام. -2 - قال الإمام أبو يوسف يصلي تشّبهاً ويعيد. -3ً - إن كان نصف البدن أو أكثر جريحاً، وتعتبر الكثرة بعدد الأعضاء؛ فلو كانت الجراحة بالرأس والوجه واليدين جراحة ولو قليلة، يتيمم. أما إذا كان أكثر البدن صحيحاً، غسل الصحيح ومسح الجريح بمرّ يده على الجسد، فإن لم يستطع فبخرقة، وإن ضرَّه المسح تركه، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "من كان له جرح معصوب عليه توضأ ومسح على العصائب ويغسل ما حول العصائب" (5) . وإن كانت الجراحة في بطنه ويضره استعمال الماء صار كغالب الجراحة حكماً للضرورة. ولا يصح أن يجمع بين الغسل والتيمم. -4ً - بَرْد شديد غلب على الظن تلف بعض الأعضاء بسببه، وهذا غالباً ما يكون خارج المصر، أي العمران، إذ أن تسخين الماء في البيت ممكن. وقد يكون في المصر لكن لا يجد ما يسخن به الماء. وذلك لما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) (6) . -5ً - خوف عدو آدمي أو غيره على ماله أو نفسه، أو خوف فاسق عند الماء. -6 ً - عنده ماء قليل لكن خاف على نفسه أو ما معه من حيوانات العطش. لما روي عن علي رضي الله عنه قال: "في الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة ومعه الماء القليل يخاف أن يعطش، قال: يتيمم ولا يغتسل" (7) . -7ً - خوف فوت صلاة الجنازة أو عيد ولو جنباً يتيمم لهما، لأنهما تفوتان بلا خَلَف. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه أتي بجنازة وهو على غير وضوء فيتمم ثم صلى عليها" (8) . ثالثاً: أن يكون التيمم بطاهر من جنس الأرض، كالتراب المُنْبِت والرمل والحجر والعقيق ولو لم يكن عليها غبار. وكل ما يحترق بالنار ليس من جنس الأرض، وكذا كل ما ينطبع ويلين بالنار ليس من جنس الأرض أيضاً كالذهب والفضة. قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (9) والصعيد اسم لوجه الأرض تراباً كان أو حجراً وقال تعالى: {صعيداً زلقاً} (10) أي حجراً أملس. رابعاً: استيعاب الوجه واليدين بالمسح. فيجب نزع الخاتم ولو واسعاً والسوار الضيق وتخليل الأصابع، لأن التيمم قائم مقام الوضوء فيشترط فيه ما يشترط في الوضوء. خامساً: أن يمسح الأعضاء بجميع اليد أو بأكثرها، فلا يجزئ المسح بأقل من ثلاث أصابع. سادساً: أن يكون التيمم بضربتين بباطن الكفين، لحديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما (أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم) (11) . ويقوم مقام الضربتين إذا أصاب التراب جسده فمسحه بنية التيمم. وقوله: ضربتان خرج مخرج الغالب، والمهم هو مسح الوجه واليدين بالغبار بنية التيمم. سابعاً: انقطاع ما ينافي الطهارة من حيض أو نفاس أو حدث. ثامناً: زوال ما يمنع المسح على البشرة كشمع أو شحم.   (1) ثلث الفرسخ يساوي (4000) خطوة (أي ما يعادل مسيرة نصف ساعة) وهو يساوي 1847 متر. (2) العدل: من لا كبيرة له، كما أنه لا يُصرّ على الصغائر. (3) الدارقطني: ج 1 / ص 177. (4) البخاري: ج 1 / كتاب التيمم باب 2. (5) البيهقي: ج 1 / ص 288. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 126/334. (7) الدارقطني: ج 1 / ص 202. (8) الجوهر النقي (ذيل السنن الكبرى للبيهقي) : ج 1 / ص 230. (9) المائدة: 6. (10) الكهف: 40. (11) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 123/318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 شروط وجوب التيمم: -1 - العقل. -2 - البلوغ. -3 - الإسلام. -4 - وجود الحدث. -5 - عدم المنافي. -6 - ضيق الوقت مع وجود العذر المبيح. -7 - القدرة على ما يجوز به التيمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أركان التيمم: للتيمم ركنان، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (1) . الركن الأول: مسح الوجه. الركن الثاني: مسح اليدين إلى المرفقين. وجاءت الآية في اليدين مطلقاً بينما جاءت آية الوضوء مقيدة بالمرفقين فحمل المطلق على المقيد، وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على أن المسح إلى المرفقين فقط، فعن أبي جهم رضي الله عنه قال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر جمل إما من غائط أو من بول. فسلمت عليه فلم يرد علي السلام. فضرب الحائط بيده ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى فمسح بها ذراعيه إلى المرفقين ثم رد علي السلام) (2) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" (3) .   (1) المائدة: 6. (2) الدارقطني: ج 1 / ص 177. (3) الدارقطني: ج 1 / ص 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 كيفية التيمم: ذكر الإمام الأعظم كيفية التيمم عندما سأله عنها الإمام أبو يوسف فقال: "أن يضرب المتيمم بيديه على الأرض ضربة واحدة يُقْبِل بهما ويدبر، ثم يرفعهما وينفضهما أو ينفخ فيهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما الأرض مرة أخرى فيقبل بهما ويدبر، ثم ينفضهما، ثم يمسح بأربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى باطن يده اليمنى ويمر بباطن إبهام يده اليسرى على ظاهر إبهام يده اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك". وهذه هي الكيفية سواء أكان عن الوضوء أم الغسل، لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء. فتمرَّغت في الصعيد كما تَمَرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا. ثم ضرب بيديه ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفَّيْه ووجهه) (1) ، وللحديث المتقدم: (التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 28/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 سنن التيمم: -1 - التسمية في أوله. -2 - الترتيب، بأن يبدأ بالوجه ثم اليدين، لحديث أبي جم المتقدم. الموالاة. -3- التيامن، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (1) . -4 - الإقبال باليدين وإدبارهما ونفضهما، لحديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) (2) . -5 - تفريج الأصابع. -6 - يندب تأخير التيمم حتى آخر الوقت لمن يرجو أن يجد الماء قبل فوات الصلاة، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: "إذا أجنب الرجل في السفر تلوَّم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى" (3) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 30/166. (2) البخاري: ج 1 / كتاب التيمم باب 3/331. (3) البيهقي: ج 1 / ص 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 صفة التيمم: التيمم بدل عن الوضوء (1) ، فهو يرفع الحدث إلى وقت وجود الماء، وذلك لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد الطيب طَهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجد الماء فليُمسه بشرته فإن ذلك خير) (2) . ويترتب على هذا ما يلي: -1 - يصح التيمم قبل دخول الوقت أو بعده، لعموم قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} يدل على جوازه قبل الوقت وكما جاز الوضوء قبله فكذا التيمم لابد منه (3) . -2 - يصلي المتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل. -3 يصلي المتيمم فرضي صلاة أو أكثر، ويجوز أن يتيمم للفريضة أو النافلة، والأَوْلى أن يتيمم لكل فرض وبعد دخول الوقت للخروج من خلاف الفقهاء. -4 - لا يجمع بين الغسل والتيمم، لأنه لا يجوز شرعاً أن يجمع بين البدل والمبدل. يجوز أن يقتدي المتوضئ بالمتيمم عند الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف خلافاً للإمام محمد.   (1) وعند السادة الشافعية بدل ضروري. (2) الترمذي: ج 1 / كتاب الطهارة باب 92/124. (3) الجوهر النقي ذيل السنن الكبرى للبيهقي: ج 1 / ص 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 نواقض التيمم: -1 - ينقض التيمم كل ما ينقض الوضوء والغسل، لأن ناقض الأصل ناقض البدل. -2 - زوال العذر المبيح للتيمم. -3 - إذا وجد الماء أثناء الصلاة بطلت صلاته، أما لو وجده بعد الصلاة صحت ولا تجب الإعادة في حقه لا في الوقت ولا في بعده. لما روي عن نافع قال: "تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة فصلى العصر فقدم والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة" (1) .   (1) الدارقطني: ج 1 / ص 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الباب السابع (الحَيْض والنِّفاس والاسْتِحَاضَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 - إن معرفة مسائل الحيض والنفاس مهمة جداً لما يترتب عليها من أحكام: كالطهارة، والصلاة، والقراءة، والصوم، والاعتكاف، والحج، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعِدّة والاستبراء. أولاً: الحيض: تعريفه: لغة: السيلان، يقال حاض الوادي إذا سال ماؤه، وحاضت الشجرة إذا نزل منها الصمغ. شرعاً: -1 - من حيث هو حدث: صفة شرعية مانعة لما تشترط له الطهارة. -2 - من حيث هو نجس: دم يخرج من رحم امرأة بالغة لا داءَ بها ولا حَبَل ولم يبلغ سن اليأس. صفته: دم أسود لذّاع كريه الرائحة. سبب الحيض: ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 1/290 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ركن الحيض: بروز الدم إلى خارج الفرج. (وقال الإمام محمد إنه يثبت بإحساس المرأة ولو لم ينزل إلى الفرج الخارج، فيجب عليها إعادة يوم رمضان إن أحست بنزول الدم إلى الفرج ولو لم ترَ الدم قبل الغروب) أما عند الإمام والمفتى به أنه لا يثبت الحيض إلا برؤية الدم. شروط الحيض: -1 - تقدم نصاب الطهر وهو خمسة عشر يوماً ولو حكماً. -2 - أن يدوم ثلاثة أيام بلياليها على الأقل، فإذا انقطع قبل مضي ثلاثة أيام تتوضأ وتصلي ما فاتها لأنه حينذاك لا يكون حيضاً. ولا يشترط أن يستمر الدم دون انقطاع بل العبرة لأوله وآخره. مدة الحيض: أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليهن، وأكثره عشرة أيام بلياليها. وما نقص عن الثلاث أو زاد على العشرة فهو استحاضة، إلا أن تكون لها عادة فتردّ إلى عادتها. واستُدل على ذلك بعدة أحاديث أكثرها موقوف (1) أو في إسناده ضعف، إلا أن تعدُّد طرق الحديث يرفعه ويقويه. ومن هذه الأحاديث ما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقل ما يكون من المحيض للجارية البكر والثيب ثلاث، وأكثر ما يكون المحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام فهي مستحاضة) (2) . وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام) (3) .   (1) الحديث الموقوف: هو ما روي عن الصحابي من قول له أو فعل أو تقرير متصلاً كان أو منقطعاً. واشترط بعضهم أن يكون متصل الإسناد إلى الصحابي غير منقطع. (2) الدارقطني: ج 1 / ص 218. (3) الدارقطني: ج 1 / ص 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ألوان الحيض: يُعد ما تراه الحائض من الألوان في مدة حيضها حيض، لما روي أن النساء كن يبعثن عائشة بالدُّرجة فيها الكُرْسُف فيه الصفرة فتقول: "لا تعجلْنَ حتى ترين القَصَّة البيضاء" (1) . تريد بذلك الطهر من الحيضة. والمعتمد أن الكدرة حيض في أوله وآخره، وقال الإمام أبو يوسف: هي قبل الدم طُهْر وبعده حيض. والمعتمد باللون حال الرؤية لا بعد التغير. ويستحب وضع القطن للمرأة في حالة الحيض للبكر، وفي حالة الحيض والطهر للثيب.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 19، والكرسف: القطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ثانياً: النِفّاس: تعريفه: لغة: الولادة. شرعاً: هو الدم الخارج عقب الولادة، أو هو خروج أكثر الولد ولو سَقْطاً بشرط أن يكون متخلقاً (1) . ولو أخرج الولد عن غير طريق الفرج إن سال الدم عقب ولادتها من الرحم فنفساء وإلا فذات جرح لا تعطى حكم النفساء.   (1) السَّقْط والسِّقْط: الوليد لغير تمام، والتخلق يكون بعد الثمانين يوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مدته: لا حد لأقله عند جمهور العلماء، فقد ينقطع حال استهلال المولود. وأكثر النفاس أربعين يوماً بلياليها، لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون يوماً" (1) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقّت للنفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك) (2) . وما زاد على أربعين يوماً فهو استحاضة، إلا أن يكون لها عادة فتردّ إلى عادتها فإذا رأت الدم أكثر من عادتها يتبع النفاس، فإذا انقطع قبل الأربعين أو عنده دل على تغير عادتها، وإن استمر بعد الأربعين تقضي ما زاد على عادتها من الصلاة والصوم. النفساء لتوأمين: يجب أن يكون بين الولدين أقل من ستة أشهر، ويعتبر النفاس من ولادة الأول. فلو وضعت الثاني بعد الأربعين فلا نفاس لها بعد الثاني بل تغتسل وتصلي. ويكون انقضاء العدة (الطلاق أو الوفاة) بعد نزول الثاني لأن العبرة لبراءة الرحم. مسألة: هل لمن أسقطت نفاس؟ الجواب: يكون الجنين نطفة (40) يوماً، ثم علقة (40) يوماً، ثم مضغة (40) يوماً. والمضغة يكون عمرها من الـ (81 - 120) يوماً وخلال هذه المدة يظهر تخلقها. فإذا كان السَّقْط مضغة غير مخلَّقة فما دون، فليس لها نفاس وإنما يكون حيضاً. وإن كان السَّقط مضغة ظهر بعض تخلقها فللمرأة نفاس وعليها غسل.   (1) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 105/139. (2) ابن ماجه: ج 1 / كتاب الطهارة باب 128/649. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الطهر: تعريفه: هو المدة التي تفصل بين حيضتين أو بين حيض ونفاس. مدته: أقل الطهر بين حيضتين أو بين حيض ونفاس بعد أن أتمت أكثر النفاس خمسة عشر يوماً. ولا حدّ لأكثره. لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً) . إما إذا استمر الدم فتحدد مدة الطهر كما يلي: أ - المعتادة: وهي التي سبق لها دم وطهر صحيحان، فطهرها وحيضها ما اعتادت إن كان طهرها أقل من ستة أشهر، فإن كان ستة أشهر أو أكثر ترد إلى ستة أشهر إلا ساعة وحيضها بحاله. وهذا على قول الأكثر. ب - المبتدأة: وهي مراهقة بلغت وهي مستحاضة واستمر بها الدم، فحيضها من أول ابتداء الدم عشرة أيام وطهرها عشرون يوماً، ونفاسها أربعون يوماً وطهرها بعد النفاس عشرون يوماً. وفي حالة العدة تعتبر عدتها تسعين يوماً (عشرين طهر وعشرة حيض) . جـ - المتحيرة: وهي التي نسيت عادتها، فلا يقدر حيضها وطهرها إلى في حق العدة (1) والصلاة.   (1) فيقدر حيضها بعشرة وطهرها بستة أشهر إلا ساعة فتنقضي عدتها بتسعة عشر شهراً وعشرة أيام غير أربع ساعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الطهر بين الدمين: إذا انقطع الدم ثم عاد، فإن كانت المدة خمسة عشر يوماً فأكثر يكون فاصلاً بين الدمين في الحيض اتفاقاً فما بلغ من كل الدمين نصاباً جعل حيضاً وأنه إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلاً وإن كان أكثر من الدمين اتفاقاً. واختلفوا فيما بين ذلك على عدة أقوال الأَوّلى الأخذ بقول أبي يوسف وهو قول الإمام الآخر: إن الطهر المتخلل بين الدمين لا يفصل بل يكون كالدم المتوالي بشرط إحاطة الدم لطرفي الطهر المتخلل. فلو رأت مبتدأة يوماً دماً وأربعة عشر طهراً ويوماً دماً فالعشرة الأولى حيض. ولو رأت المعتادة قبل عادتها يوماً دماً وعشرة طهراً ويوماً دماً فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها وإلا ردت إلى أيام عادتها. وقيل إن الشرط في جعل الطهر المتخلل بين الدمين حيضاً كون الدمين المحيطين به في مدة الحيض لا في مدة الطهر. أما الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس فلا يفصل عند الإمام أبي حنيفة سواء كان خمسة عشر أو أقل أو أكثر ويجعل إحاطة الدمين بطرفيه كالدم المتوالي وعليه الفتوى. وعندهما الخمسة عشر تفصل. فلو رأت بعد الولادة يوماً دماً وثمانية وثلاثين طهراً ويوماً دماً فعنده الأربعون نفاس وعندهما الدم الأول. أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على المرأة فيهما: -1 - يمنع الحيض والنفاس صحة الطهارة، إلا إذا قصدت التنظيف فلا يحرم، لأنه يستحب للحائض أو النفساء أن تتوضأ لوقت كل صلاة وتقعد في مصلاها تسبح وتهلل وتكبر بقدر أدائها كي لا تفتر همتها. -2 - يمنع الاعتكاف ويفسده إذا طرأ عليه. -3 - يمنع وجوب طواف الصَّدر أو الوداع (أي يصبح سنة في حقها) ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن الحائض) (1) . -4 - يحرم الطلاق في أثنائهما، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُرْه فليراجعها..) (2) ولكن يقع الطلاق وإن كان بدعياً. -5 - تَبْلُغ الصبيَّة بالحيض سِنّ التكليف، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (3) . -6 - يُوجب الغسل عند الانقطاع، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) (4) . -7 - يقطع الحيض التتابع في صوم كفارة اليمين، ولا يقطعه في صوم كفارة القتل والإفطار. أما النفاس فيقطع التتابع في كل الكفارات. -8 - يمنع الصلاة فلا تصح، وتحرم، ولا يجب عليها القضاء للحرج، فقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) (5) . ويتبع الصلاة سجود التلاوة وسجود الشكر، وكل ما هو من نوع الصلاة. -9 - يمنع صحة الصوم، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (أليس إذا حاضت - يعني المرأة - لم تصل ولم تصم) (6) . ويثبت وجوبه في الذمة فيجب عليها قضاؤه، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نمر بقضاء الصلاة) (7) . ولو شرعت بالصوم أو بالصلاة تطوعاً ثم حاضت وجب عليها قضاء ذلك اليوم، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (8) . -10 - يمنع دخول المسجد، إلا المرور فيجوز بشرط أن يكون باب الدار داخل المسجد ولم يمكن تحويله ولا السكنى في غيره، فحينئذ تتيمم وتمر. روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) (9) . ولو حاضت امرأة في المسجد تتيمم وتخرج. -11 - يحرم بهما الطواف بالكعبة، لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت في الحج: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (10) . ولو طافت حائض طواف الركن جاز منها ولزمها بَدَنة فتحل به، أما لو طاف محدث حدثاً أصغر لزمه شاة لشرف البيت، إلا أن يعاد على طهارة في أيام النحر. -12 - يحرم بهما مس المصحف إلا بغلاف منفصل عنه، لقوله تعالى: {لا يمسّه إلا المطهرون} (11) . ويكره حمله بالكمّ تحريماً لتبعية اللباس للابسه. ويلحق بالقرآن كتب التفسير التي غلبت فيها الآيات القرآنية التفسير، كما يحرم مسّ أي آية كتبت على لوح أو جدار أو قطعة ورق. ويجوز لأهل العلم أخذ الكتب بحائل لضرورة الدراسة، كما يجوز تقليب ورق المصحف بنحو قلم، أو أمر صبي بحمله (12) . أما كتابة القرآن فلا بأس بها بحيث لا تحمل الكتابة. -13 - تحرم قراءة القرآن ولو آية واحدة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن) (13) ، وأبيح لمن تُعَلِّم القرآن أن تقرأ كلمة أو أقل من آية. أما لو قرأت على وجه الدعاء فلا مانع كما لو قرأت آيات الدعاء أو آية الكرسي أو غيرها. ولا بأس بقراءة أدعية من القرآن. -14 - يحرم وطئوها، لقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يَطْهرن} (14) ، ولما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) (15) . والنهي للتحريم، وقيل يكفر مستحله لأن حرمته ثبتت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقيل لا يكفر مستحلّه لأنه حرام لغيره لا لعينه. وإن وطئها في الحيض أثما إن كانا طائعَيْن، ويكفيهما الاستغفار والتوبة، ويُستحب أن يتصدق بدينار إن كان أول الحيض، وبنصف دينار إن كان آخر الحيض، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار" (16) ، وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار) (17) . أما إذا كان أحدهما طائعاً والآخر مُكرهاً فيأثم الطائع دون المكره. -15 - يحرم استمتاع الزوج بها ما بين السرة والركبة إلا بحائل، لما روي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِتَشُدَّ إزارها، ثم شأنك بأعلاها) (18) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض) (19) . وقال الإمام محمد: يجتنب شعار الدم أي الجماع فقط، لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واصنعوا كل شيء غير النكاح) (20) ، ولكنه قال: "هو رتع حول الحمى" فيمنع منه حذراً من الوقوع في المحرم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه" (21) . وعند الإمام أبي حنيفة لا يجوز الاستمتاع بما تحت الإزار ولا بالنظر.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 143/1668. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الطلاق باب 1/1. (3) ابن ماجه: ج 1 / كتاب الطهارة باب 132/655. (4) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 14/65. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 15/69. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 6/298. (7) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 14/62. (8) محمد: 33. (9) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 93/232. (10) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 7/299. (11) الواقعة: 79. (12) ولا يجوز لف شيء في ورق كُتِب فيه فقه أو اسم الله تعالى أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم. (13) ابن ماجة: ج 1/ كتاب الطهارة باب 105/596. (14) البقرة: 222. (15) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 125/644. (16) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 106/265. (17) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 103/137. (18) الموطأ: ص 49. (19) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 5/295. (20) البيهقي: ج 1 / ص 313. (21) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 1/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 متى تنتهي المرأة من حيضها ويحل لها ما حرم به؟ -1 - إذا انقطع الدم لأكثر الحيض وهو عشرة أيام. ويجوز في هذه الحالة الوطء قبل الغسل، إلا أنه يستحب في هذه الحالة الغسل للخروج من خلاف العلماء، ولقراءة التشديد في قوله تعالى: {فإذا تطهرن} . ويجوز أيضاً أن تغتسل وتصلي ولو لم ينقطع الدم، كما يجوز لها التيمم لصلاة الجنازة والعيد لأنهما تفوتان لغير عوض. -2 - أن ينقطع الدم لأقل من عشرة أيام ودون عادتها وأكثر من ثلاثة أيام، كأن تكون عادتها سبعاً فينقطع الدم لستة أيام، تغتسل وتصلي وتصوم ولا يحل وطؤها احتياطاً لاحتمال عود الدم. -3 - أن ينقطع الدم لعادتها ولدون عشرة أيام، تغتسل وتصلي وتصوم. ويحل وطؤها بأحد ثلاثة أشياء: إما أن تغتسل، أو تتيمم لعذر مبيح للتيمم وتصلي على الأصح، أو تصير الصلاة ديناً في ذمتها وذلك بأن تجد بعد الانقطاع زمناً يسع الغسل والتحريمة فما فوقهما ولكن لم تغتسل ولم تتيمم حتى خرج الوقت فبمجرد خروجه يحل وطؤها. تعقيب: إذا طهرت المرأة قبل خروج الوقت بما لا يتسع للغسل والتحريمة، فلا تجب عليها الصلاة. أما إذا طهرت لتمام عشر، فتجب عليها الصلاة وتثبت في ذمتها ولو طهرت قبل فوت الوقت بمقدار التحريمة. ثالثاً - الاستحاضة وأحكامها: الاستحاضة بالتعريف: هي كل دم تراه المرأة أقل من ثلاثة أيام، وما زاد على الأكثر الحيض، وكذا ما تراه المرأة في طهرها، والصغيرة قبل تسع سنين من العمر، وما تراه الآيسة والحامل قبل خروج أكثر الولد، وما زاد على أكثر النفاس. روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقل ما يكون من المحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام فهي مستحاضة) (1) .   (1) الدارقطني: ج 1 / ص 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أحكام الاستحاضة: -1 - لا تمنع الاستحاضة الصلاة، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر. أفأدع الصلاة. قال: (لا. إنما ذلك عرق وليس بالحيضة. اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وإن قطر الدم على الحصير) (1) . -2 - لا تمنع الصوم ولا الجماع، لأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة ومع ذلك صحت منها، ولما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة: (تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي) (2) ، وعن عكرمة قال: "كانت أم حبيبة تُسْتحاض فكان زوجها يغشاها" (3) . وحكم المستحاضة هو نفس حكم المعذور دائم العذر.   (1) البيهقي: ج 1 / ص 345. (2) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 94/126. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 120/309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أحكام المعذور وشروطه: تعريف المعذور: هو كل من به عذر دائم كالمستحاضة، ومن به سلس بول، أو استطلاق بطن، أو جرح ينز، أو رعاف دائم. وطهارة هؤلاء ضرورية أي ليست حقيقية لمقارنة الحدث. ومن الأدلة على ذلك، ما روي عن خارجة بن زيد قال: "كبر زيد حتى سلسل منه البول فكان يداويه ما استطاع فإذا غلبه توضأ وصلى" (1) . وعن المسور بن مخرمة "أنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن صلى الصبح من الليلة التي طعن فيها، فأوقظ عمر فقيل له الصلاة الصبح. فقال: نعم. ولاحظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دماً" (2) . وعن عكرمة قال: في الرعف لا يرقأ: "يسد أنفه ويتوضأ ويصلي" (3) .   (1) البيهقي: ج 1 / ص 357. (2) البيهقي: ج 1 / ص 357. (3) البيهقي: ج 1 / ص 357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أحكام المعذور: -1 - يتوضأ لكل وقت صلاة، لا لكل فرض، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: (لا. إنما ذلك عرق وليس بالحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي) . قال: قال أبي (1) ، ثم (توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) (2) . ويصلي بوضوئه هذا ما شاء من الفرائض، أداء للوقتية وقضاء لغيرها، والنوافل، ويقرأ القرآن، ويصلي الواجبات كالوتر والعيد والجنازة. -2 - ينتقض وضوء المعذور: أ - بكل ناقض للوضوء ما عدا الناقض الذي هو سبب العذر. ب - بدخول الوقت الآخر عند الإمام زُفَر، وبخروج الوقت عند الإمام أبي حنيفة والإمام محمد، وبدخوله وخروجه عند الإمام أبي يوسف. ويظهر أثر الخلاف في صلاة الضحى بوضوء الصبح إذا لم يحدث المعذور، فعند الإمام زُفَر لا تصح صلاة الظهر بوضوء الضحى وتصح عند الإمام.   (1) يعني أبي عروة راوي الحديث عن عائشة رضي الله عنها. (2) البيهقي: ج 1 / ص 344. قال التركماني في (الجوهر النقي ذيل السنن الكبرى للبيهقي) : "يضمر الوقت. والتقدير لوقت كل صلاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 شروط المعذور: -1 - ثبوت العذر (متى يكون المرء معذوراً) : أن يستوعب العذر وقتاً كاملاً حقيقة باستمرار السيلان بلا انقطاع بقدر الوضوء والصلاة، أو حكماً بأن ينقطع لمدة أقل مما يكفي للطهارة والصلاة. -2 - دوام العذر: أي وجود العذر بعد ثبوته، بأن لا يخلو وقت كامل منه ولو مرة واحدة في الوقت. -3 - شرط انقطاع العذر: خلوّ وقت كامل عن العذر بانقطاعه كل الوقت. مثاله: رجل رعف أو سال جرحه في أثناء الوقت، ينتظر آخر الوقت. فإن انقطع الدم فبها، وإن لم ينقطع توضأ وصلى قبل خروج الوقت، فإذا فعل ذلك ثم دخل وقت صلاة أخرى ثانية وانقطع ودام الانقطاع، تبين أنه صحيح صلى صلاة المعذورين (أي يجب عليه إعادة الصلاة الأولى) ، وإن لم ينقطع الدم في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت، جازت الصلاة لأنه تبين أنه معذور. فالوقت الثاني هو المعتبر في إثبات العذر وعدمه لمن ابتدأه العذر في أثناء الوقت الأول. فمن سال جرحه قبل دخول وقت العصر ينتظر إلى آخر الوقت فيصلي الظهر آخر الوقت مع سيلان الجرح، فإذا دخل وقت العصر ودام السيلان إلى المغرب، تبين أنه صار معذوراً لاستيعاب وقتاً كاملاً، وعندها تبين صحة صلاة الظهر. أما من ابتدأه العذر مع ابتداء الوقت الأول فلا يحتاج لإثبات عذره استيعاب الوقت الثاني. ملاحظة هامة: لا يجب على المعذور قضاء الأوقات التي صلاها أيام عذره لأنها صحت منه. مسألة: لو أصاب ثوب المعذور نجاسة من عذره فلا يجب عليه غسله، إلا إذا كان يضمن أنه لا يتلوث خلال الصلاة، لأن طهارة الجسد آكد من طهارة الثوب وقد صحت الصلاة بدونها. هذا عن النجاسة في ثوب المعذور، أما في ثوب غيره فيجب غسلها بالإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الباب الثامن (الطهارة من النجاسات الحقيقية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تعريف النجاسة: النجاسة لغة: ما يستقذر. وشرعاً: اسم لعين مستقذرة شرعاً. أقسامها: النجاسة قسمان: -1 - نجاسة حقيقية وتكون من الخبث. -2 - ونجاسة حكمية وتكون من الحدس. وبعد أن تكلمنا عن النجاسة الحكمية وكيفية التطهر منها، نبحث في النجاسة الحقيقية وكيفية تطهير محلّها. والنجاسة الحقيقية قسمان: أ - نجاسة مغلَّظة. ب - نجاسة مخَّففة. والمعتبر في التقسيم هو المقدار المعفوّ عنه من كل منها لا كيفية تطهيرها. أ - النجاسة المغلظة: وهي عند الإمام: ما توافقت على نجاستها الأدلة، أي ورد في نجاستها نص لم يعارضه نص آخر وهي عند الصاحبين: ما اتفق العلماء على نجاستها ولا بلوى في إصابتها. وتشمل النجاسات المغلظة ما يلي: -1 - الخمر: وهو ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف الزبد. وقد ورد النص بنجاستها قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (1) ، ولم يعارض بنصّ آخر، ولم يختلف الفقهاء في نجاستها فهي مغلظة بالاتفاق. أما نوع المسْكِرات ففيها ثلاثة أقوال: التغليظ والتخفيف والطهارة، والراجح أنها نجاسة مخففة. ويتبع الخمر الكحول فهو لا يصنع إلا من الخمر، ويعفى (2) عنه عند استعماله للجروح لعموم البلوى. -2 - الدم المسفوح من سائر الحيوانات التي لها دم سائل، قال تعالى: {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (3) ، ويستثنى من الدم ما يبقى في اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق والكبد والطحال، كما يعفى عن دم السمك، وذلك لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال) (4) . أما الدم غير المسفوح فطاهر ما لم يسل على المختار، إذ ما لم يكن حدثاً فليس بنجس، وقال الإمام محمد: إنه نجس احتياطاً. ودم الشهيد طاهر في حقه للضرورة. -3 - كل ما يخرج من جسم الإنسان وينقض الوضوء كالبول، والغائط، والدم، والصَّديد، والقيح، والمذي، والودي، والمني، هو نجس. وبول الصغير كالكبير أكل أو لم يأكل. أما البول فنجس، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) (5) . وأما الغائط، فلما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تبرز لحاجته، أتيته بماء فيغسل به) (6) . وأما الدم، فلما روت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب. قال: (اقرصيه واغسليه وصلي فيه) (7) ، وعن حماد قال: "البول عندنا بمنزلة الدم ما لم يكن قدر الدرهم فلا بأس فيه" (8) . وأما الصديد والقيح فإنهما نجسان قياساً على الدم. وأما المذي والودي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المني والمذي والودي. فالمني منه الغسل ومن هذين الوضوء، يغسل ذكره ويتوضأ" (9) . وأما المني، فلما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في المني: (كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج إلى الصلاة، وأثر الغسل في ثوبه: بُقع الماء) (10) . -4 - الخنزير نجس العين، وكل ما يخرج منه من لعاب وغيره نجس، لقوله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (11) . -5 - بول ما يؤكل لحمه من الحيوان، وروثه، ولعابه، كنجو الكلب ورجيع السباع وبول الفأرة كلها نجسة مطلقاً إذا حلت بالماء. ويعفى عن قليله في الثوب والطعام للضرورة. -6 - ميتة الحيوان ذي الدم السائل، لقوله تعالى: {حرَّمت عليكم الميتة} (12) . والإنسان إذا مات فهو نجس، فإن كان الميت مسلماً إذا غسل فطاهر وقبل الغسل مختلف في نجاسته حدث أو خبث. ويستثنى من الميتة العظم والشعر فهما طاهران، لقوله صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه: (يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج) (13) ، أما الجلد فهو نجس قبل الدبغ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) (14) . -7 - خرء الدجاج والبط والإوز وكل حيوان طائر يزرق على الأرض خرؤه، فهو نجس. -8 - رَوْث وبعر ما يؤكل لحمه من الحيوان هو نجس نجاسة مغلظة عند الإمام، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ... فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا رِكْس) (15) . وهو نجاسة مخففة عند الصاحبين لقول الإمام مالك بطهارته، ولعموم البلوى لكثرته في الشوارع وعدم إمكان الناس التحرزّ منه.   (1) المائدة: 90. (2) أي لا تسقط عنه صفة النجاسة. والضرورة تقدر بقدرها، والتداوي بالمحرم جائز عند الضرورة إذا لم يوجد غيره. (3) الأنعام: 145. (4) ابن ماجة: ج 2 / كتاب الأطعمة باب 31/3314. (5) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 55/215. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 55/214. (7) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 118/629. (8) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 391. (9) البيهقي: ج 1 / ص 115. (10) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 64/228. (11) الأنعام: 145. (12) المائدة: 3. (13) أبو داود: ج 4 / كتاب الترجل باب 21/4213. (14) أبو داود: ج 4 / كتاب اللباس باب 41/4123. (15) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 20/155. والّرِكْس بالكسر: الّرِجس. وهو أيضاً الَّرجيع، وذلك لرجوعه من حال الطهارة إلى حالة النجاسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ب - النجاسة المخففة: وهي عند الإمام: ما تعارض نصان في نجاستها وطهارتها. وعند الصاحبين: ما اختلف العلماء في نجاستها أو عمت بها البلوى. والنجاسات المخففة هي: -1 - بول ما يؤكل لحمه مطلقاً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) (1) ، ولحديث أنس رضي الله عنه قال: (إن ناساً اجتووا في المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعيه، يعني الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها) (2) . ولذا فهو نجس نجاسة مخففة عند الإمام لتعارض النصين، وعند الصاحبين لأن السادة المالكية قالوا بطهارته فوقع الخلاف في طهارته ونجاسته. واختلف في بول الفرس قيل طاهر، والأصح أنه نجس. -2 - خَرء سباع الطير وكل ما لا يؤكل لحمه من الطيور التي تزرق في الهواء. أما الطيور الأهلية والتي يؤكل لحمها فخرؤها طاهر كالحمام والعصفور. -3 - سؤر البغل والحمار مشكوك في طهوريته، وهو طاهر على الأظهر، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: (نعم وبما أفضلت السباع كلها) (3) .   (1) الدارقطني: ج 1 / ص 128. (2) البخاري: ج 5 / كتاب الطب باب 6/5362. واجتووا: أصابهم مرض البطن. (3) البيهقي: ج 1 / ص 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المقدار والمعفو عنه من النجاسات: -1 - المغلّظة: يُعفى عن قدر الدرهم بالوزن أو ما يعادل مساحة مُقعّر الكفّ داخل مفاصل الأصابع. -2 - المخفّفة: يُعفى عن قدر ما دون ربع الثوب الكامل أو البدن على الصحيح، وذلك لقيام الربع مقام الكل، كقيام ربع الرأس مقام كل المسح. وقيل إن المعفوَّ عنه هو مقدار ربع جزء من العضو أو الثوب الذي أصابته النجاسة (الكم، أو الطَّرَف، أو البَنِيقه) (1) .   (1) البَنِيقة: طَوْق الثوب الذي يضم النحر وما حوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 نجاسات معفو عنها: -1 - يعفى عن رشاش البول كرؤوس الإبر في الثوب والبدن والمكان للضرورة، ولو أصاب الماء لا ينجسه سواء أكان الماء جارياً أو راكداً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنا لنرجو من الله تعالى أوسع من هذا". -2 - يعفى عما لا يمكن الاحتراز منه من الغُسَالة عند تغسيل الميت إذا كان على بدنه نجاسة. -3 - إذا انتشر الدهن المتنجس فزاد على المقدار المعفو عنه لا يضر على أحد قولين. -4 - يعفى عن طين الشارع، لكن لو مشى حافياً في الشارع فابتلت قدماه لم تجز صلاته لغلبة النجاسة. -5 - إذا نام على فراش متنجس فعرق، لا يحكم بنجاسته إلا إذا ظهر أثر النجاسة في الثوب وكذا لا ينجس ثوب طاهر جاف إذا لُفَّ بثوب نجس رطب، إلا إذا تسرب أثر النجاسة. -6 - إذا نشر ثوب رطب على أرض نجسة فلا ينجس، وكذا لو هَّبت ريح من أرض نجسة على ثياب طاهرة لا تَنْجُس. والحاصل: يبقى الثوب الطاهر على أصله ما لم يظهر أثر النجاسة عليه. كيفية التطهير: الماء المطلق هو الأصل في إزالة النجاسة ولا تزول النجاسة الحكمية إلا به، أما النجاسات الحقيقية فتزول بالماء ولو كان مستعملاً، وبكل مائع طاهر قالع للنجاسة، كماء الخلّ أو الورد على الأصح. وتكون كيفية التطهير بالماء على الشكل التالي: أولاً: النجاسات المرئية: -1 - تزول بزوال عين النجاسة عن الجسم أو الثوب أو المكان بغسلها ولو مرة واحدة بشرط أن يُصبَّ الماء عليها أو يكون جارياً، أما لو غسلت في إناء فلا بد من ثلاث مرات تعصر في كل مرة، ولا يضر بقاء أثر من لون أو رائحة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن خولة بنت يسار أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: (إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه. فقالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره) (1) . ويطهر الثوب المصبوغ بمتنجس بالغسل حتى يصير الماء صافياً، وقيل يغسل بعد أن يصبح الماء صافياً ثلاث مرات. -2 - تزول النجاسة عن الجروح والحجامة بمسحها بثلاث خرق رطبات، ويقوم هذا مقام الغسل. -3 - أما الحصير والسجاد وما لا يمكن عصره فذهب الإمام محمد إلى أنه لا يطهر، وقال الإمام أبو يوسف: يجفف ثلاث مرات بعد الغسل فيطهر. وقيل لو صبّ عليه الماء بشدة يطهر (2) . -4 - تطهر الأواني الفخارية والخشب القديم بالغسل بالماء ثلاثاً وبانقطاع تقاطره في كل مرة، وقيل يحرق الفخار إن كان جديداً، أما الخشب فيُنْحت. -5 - تطهر المائعات كالسَّمن والدُّهن والزيت بصبّ الماء عليها ثلاثاً ثم رفعه عنها. أما المائعات الأخرى كنحو العسل والدبس فتطهر بصب الماء عليها ثلاثاً وغليها حتى تعود كما كانت.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 132/365. (2) وهذا مذهب الإمام الشافعي أيضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ثانياً: النجاسات غير المرئية: يُغسل الثوب إذا كانت النجاسة غير مرئية بالماء ثلاث مرات وجوباً ويعصر الثوب في كل مرة، أما إذا وضع المتنجس في الماء الجاري أو صب عليه ماء كثير وجرى عليه الماء فيطهر بدون عصر ولا تثليث غسل. أما إذا كانت النجاسة نجاسة كلب فتغسل سبعاً مع التتريب ندباً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم، إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات. أولاهن بالتراب) (1) ، فحُمل الحديث على الندب وذلك لما روي أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب يَلِغُ في الإناء. فقال: (يُغْسَل ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يغسل من ولوغه ثلاث مرات" (2) . وهناك طرق أخرى للتطهير نوضحها فيما يلي: -1 - اللحس يُطهِّر الفم، والإصبع تَطْهُر بلحسها ثلاث مرات، كما يطهر الثدي بلحسه. والهرة تطهر بلعق جسمها. -2 - الدلك للخفين والنعل، فيطهر النعل بالدلك والتراب حتى يزول أثر النجاسة ذات الجرم، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم بنَعْلِه الأذى فإن التراب له طَهور) (3) بشرط أن لا يكون في النعل نتوء تمنع إزالة النجاسة بالدلك. أما إذا كان كذلك، أو كانت النجاسة مائعة يتشربها النعل، فلا بد من الغسل. -3 - المسح للمرايا والسيوف والزجاج وكل الأشياء المصقولة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يجاهدون ويمسحون سيوفهم ويصلون فيها. -4 - الجفاف، تطهر الأرض بجفافها بالشمس والريح، ويطهر تبعاً لها كل ما نبت عليها من شجر أو غيره، وذلك لما روي عن نافع قال: سئل ابن عمر عن الحيطان تكون فيها العذرة وأبوال الناس وروث الدواب فقال: "إذا سالت عليها الأمطار وجففته الرياح فلا بأس بالصلاة فيه". يذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) / وعن أبي قلابة قال: "جُفوف الأرض طَهورُها". هذا ويجوز بعدها الصلاة عليها لا التيمم بها، وذلك لاشتراط الطّيب نصّاً في التيمم بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} ، ولأن التراب طاهر مطهر وبالجفاف بعد النجاسة يعود طاهراً غير مطهر. -5 - الفَرْك للمني الجاف على الثوب، ولا يضر بقاء أثره، لما روي عن عائشة رضي الله عنها في المني. قالت: (كنت أفْرُكُه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) (5) ، أما إذا كان طرياً فلا يطهر إلا بالغسل، لما روي عن عائشة أيضاً رضي الله عنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً وأغسله إذا كان رطباً) (6) . -6 - التَّقْوير: يطهر السَّمن الجامد بالتقوير إذا وقعت به نجاسة فتطرح وما حولها. لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت. فقال: (ألقوها وما حولها وكلوه) (7) . -7 - الاستحالة (8) : كالخمر تطهر إذا تخّللت، والميتة إذا صارت ملحاً، والرَوْث إذا صار رماداً، والزيت إذا تنجس فصُنع صابوناً طَهُر. وبالاستحالة يصبح المسك طاهراً طيّباً، وهو في الأصل دم الغزال يستحيل طيباً فيصبح طاهراً، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطيب الطِّيب المسك) (9) . كما يطهر العنبر والزباد وهو وسخ يجتمع تحت ذَنَب السَّنَّور) بالاستحالة أيضاً. ولا يعتبر التقطير استحالة فبخار الماء النجس نجس. -8 - التَّمويه: هو إدخال المعدن المسقيّ بالنجس في النار حتى يصير كالجمر ثم يُطفأ بالماء الطاهر ثلاث مرات مع التجفيف. -9 - النَّدف للصوف والقطن يطهرهما. -10 - التغوير للبئر، إذا لم يبق للنجاسة أثر، أو النَّزْح بعد إخراج النجاسة منها. -11 - التفريق للحبوب، كما لو بالت حمرٌ على حبوب تدوسها يفرق بعضه ببَيْع أو هِبة فيَطْهُر الباقي. -12 - الدباغة: وهي إخراج الرطوبة النجسة من الجِلْد الطاهر بالأصل، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيَّما إهاب دُبغ فقد طَهُر) (10) . فتطهر جميع الجلود التي تحتمل الدبغ إلا جلد الخنزير لنجاسة عينه وجلد الإنسان لكرامته. وتجوز الصلاة على الجلد المدبوغ والوضوء منه سواء أكان الدابغ مسلماً أم كافراً أم امرأة، وسواء أكانت الدباغة حقيقية بالقَرَظ والعفص (11) وقشور الرمان والشبّ (12) والملح، أو دباغة حكمية بالتتريب والتشميس والإلقاء في الهواء. وقميص الحية طاهر بدون دبغ. -13 - الذَّكاة الشرعية: وهي لغة: الذبح، وشرعاً: تَسْييل الدم النجس، فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ... ) (13) . والذكاة تطهر لحم الحيوان المأكول، أما غير المأكول فيطهر جلده بالذبح دون لحمه، والذكاة تطهر الحيوان المذبوح سواء أكان الذابح مسلماً أم كتابياً، ويبقى كل ما لا تحله من الحيوان طاهراً كالريش والمنقار والشعر والحافر والعظم، ما لم يكن به (أي العظم) وَدَك (أي دسم) فهو نجس؛ فإذا زال عنه الدسم طهر. -14 - النَّحت للخشب الجديد، لأنه يتشرب النجاسة، ويكفي في الخشب القديم الغسل. -15 - غَسْلُ طرف الثوب يغني عن غسله كله إذا نسي مكان النجاسة. -16 - النار: كل ما يحرق بالنار يطهر. (والعاصي يطهر في نار جهنم) . -17 - الغَلْي: يُطهر اللحم المطبوخ بالنجاسة بغليه ثلاث مرات وإراقة المرق، والأصح أنه لا يطهر. وإذا إلى الماء وفيه الدجاجة مع أحشائها تطهر بالغلي ثلاث مرات بعد إخراج النجاسة منها. أما إذا سخنت لإزالة الريش فطهارتها بالغسل من غير غليان. -18 - التطفيف للحليب والزيت، وكل مائع يضاف له من جنسه طاهر حتى يفيض على الأرض.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 27/91. (2) أخرجه الدارقطني والطحاوي. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 141/385. (4) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 286. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 32/105. (6) الدارقطني: ج 1 / ص 125. (7) البخاري: ج 5 / كتاب الذبائح والصيد باب 34/5220. (8) الاستحالة: انقلاب العين النجسة. (9) الترمذي: ج 3 / كتاب الجنائز باب 16/991. (10) الترمذي: ج 4 / كتاب اللباس - حديث 1728، والإهاب: الجلْد قبل الدبغ لأنه تهيأ للدبغ. (11) القَرَظ: شجر يُدبغ به، وقيل هو ورق السَّلَم يُدبغ به الآدَم، والعَفْص: حَمْل شجرة البلوط. (12) الشَّبّ: حَجَر معروف يشبه الزَّاج، يُدبغ به الجلود. (13) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 4/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 حكم الغُسالة: -1 - غسالة النجاسة الحكيمة: طاهرة غير مطهرة على أظهر الأقوال. -2 - غسالة النجاسة الحقيقية: نجسة سواء انفصلت متغيرة أو غير متغيرة، وسواء انفصلت الغُسالة عن المحل طاهراً كان أم نجساً؛ لأن حكم الغُسالة هي حكم المحل قبل ورود الماء عليه. لكن لو أصابت النجاسة ثوباً أو محلاً فإنه يطهر بالغسل مرات مختلفة حسب انفصاله عن المحل بعد الغسلة الأولى أو الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كتاب الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الباب الأول (مقدمات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 - هي لغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى: {وصَلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم} (1) أي ادع لهم. وشرعاً: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم. صفتها: إما فرض في الصلوات الخمس، أو واجبة في الوتر، أو سنة فيما سواهن من الصلوات.   (1) التوبة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 دليل فرضية الصلوات الخمس: ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} (1) . ومن السنة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) (2) . وحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل عن الإسلام: (خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علّي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تَطَّوَّع) (3) . وقد أجمعت الأمة على فرضية الصلوات الخمس.   (1) الحج: 78. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الإيمان باب 2/8. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الإيمان باب 2/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حكمة تشريعها: الصلاة مناجاة وخشوع ورياضة روحية وتفريغ من هموم الدنيا، وهي صلة بين الخالق والمخلوق تشعر بالقوة والسّند الروحي ووجهة الالتجاء، وهي معراج للروح ودرس الحياة اليومي العملي المتكرر، وهي تطهير للروح من أدران الذنوب وعصمة من السوء وإعمار للقلب، وهي شكر الله على نعم لا تعد ولا تحصى. ولم تَخْلُ عنها شريعة مُرْسَل. ومما اختص به صلى الله عليه وسلم مجموع الصلوات الخمس إذ لم تجتمع لأحد من الأنبياء عليهم السلام، وخُصَّ بالأذان والإقامة وافتتاح الصلاة بالتكبير والتأمين وبتحريم الكلام فيها. بدء فرضيتها: فرضت الصلاة بمكة، وكانت ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، وذلك منذ بدأت الرسالة. ثبت ذلك فيما روي أن جبريل عليه السلام بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة. فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولي إلى الجن والإنس، وادعهم إلى قول لا إله إلا الله. ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل، ثم أمره أن يتوضأ، وقام جبريل يصلي وأمره أن يصلي معه (1) . ثم فرضت الصلوات الخمس في حادثة الإسراء والمعراج، وذلك في السابع عشر من رمضان قبل الهجرة بسنة ونصف، وقيل: في السابع والعشرين من رجب. وفرضت بالأصل ركعتين إلا المغرب، ثم أقرّت بالسفر وزيدت في الحضر إلا الفجر.   (1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار ج 1 / ص 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 سببها الأصلي: خطاب الله تعالى الأزليّ، أي سبب وجوب أدائها لأن الموجب للأحكام هو الله تعالى وحده، لكن لما كان إيجابه تعالى غيباً عنا لا نطلع عليه جعل لنا سبحانه وتعالى أسباباً مجازية ظاهرة تيسر علينا وهي الأوقات بدليل تجدد الوجوب بتجديدها. سببها الظاهري: الوقت: فتجب في أوله وجوباً موسَّعاً، فلا حرج حتى يضيق الوقت عن الأداء ويتوجَّه الخطاب حتماً ويأثم بالتأخير عنه. شروط وجوبها: -1 - الإسلام، لأنه شرط للخطاب بفروع الشريعة. -2 - البلوغ، إذ لا خطاب لصغير ولكن يؤمر بها الصبي ليعتادها، ويضرب على تركها لعشر، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع) (1) . -3 - العقل، لانعدام التكليف دونه، لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (2) .   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 26/495. (2) أبو داود: ج 4 / كتاب الحدود باب 16/4403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حكم تارك الصلاة: -1 - إن جحد فرضيتها فهو كافر، له حكم المرتد فيقتل إن أصر. -2 - إن تركها تهاوناً فهو فاسق يسجن ويُضيَّق عليه حتى يؤديها، وقيل يضرب حتى يسيل منه الدم، وفي بقية المذاهب يقتل. -3 - أما تارك أداء الصلاة في الوقت آثم. مواقيت الصلاة: الوقت: هو السبب الظاهري لوجوب الصلاة، وهو شرط للأداء فلا يصح أداؤها قبل الوقت. قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (1) ، وهو ظرف للصلاة بمعنى أنه يجوز أن يصلي في الوقت الواحد الفرض معه غيره من النوافل أو القضاء. والمواقيت جمع ميقات، والمراد الذي عينه الله لأداء هذه العبادة. وقد جاء تحديد مواقيت الصلاة في أحاديث منها: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين الفيء (2) مثل الشَّراك (3) ، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وَجَبت الشمس (4) وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غياب الشَّفَق (5) ، ثم صلى الفجر حين بَرَق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليّ جبريل فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين) (6) .   (1) النساء: 103. (2) الفيء: الظل. (3) الشِّراك: أحد سيور النَّعل التي تكون على وجهها. (4) وَجَبت الشمس: غاب قرصها كلّه. (5) الشَّفق: البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وعندهما هو الحمرة. (6) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 113/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقت الظهر: يبدأ وقته من زوال الشمس لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (1) أي وقوعها في منتصف السماء، وينتهي وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء مثله مضافاً إليه ظل الاستواء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم. والأفضل في الظهر تأخيره حتى تبرد الشمس خاصة في المناطق الحارة، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم) (2) . ويستحب تعجيل الظهر في الشتاء والربيع لعموم الأحاديث الواردة في اسحباب الصلاة في أول وقتها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) (3) ، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجل بالظهر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً كان أشد تعجيلاً للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر) (4) .   (1) الإسراء: 78. (2) البخاري: ج 1 / كتاب مواقيت الصلاة باب 8/513، والفَيْحُ: سُطُوع الحرِّ وفَوَرانه. (3) البخاري: ج 1 / كتاب مواقيت الصلاة باب 4/504. (4) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 118/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقت العصر: يبدأ من بلوغ ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس. ويستحب تأخيره صيفاً وشتاءً، لما روى علي بن شيبان رضي الله عنه قال: (قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية) (1) . ويكره تحريماً تأخير العصر حتى تصفرّ الشمس أو يتغير لونها، لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) (2) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) (3) . ولا يباح تأخير العصر لمرض أو سفر إلى ما بعد الاصفرار. ويستحب تعجيل العصر يوم الغيم، لحديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: (بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله) (4) .   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 5/408. (2) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/173. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 5/413. (4) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الصلاة باب 9/694. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقت المغرب: يبدأ وقته من غروب الشمس وينتهي بمغيب الشفق، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) (1) . ويستحب تعجيل المغرب بعد الغروب باتفاق المذاهب، لما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم) (2) . ويجوز تأخيرها بمقدار قليل لعذر كسفر أو مرض أو حضور مائدة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد باب 31/173. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 6/418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقت العشاء والوتر: يبدأ وقتهما من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق. ويستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل الأول إذا ضمن قيامه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه) (1) . ويكره تأخير صلاة العشاء إلى ما بعد نصف الليل. والأحوط بالنسبة للوتر أن يصليه قبل أن ينام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) (2) .   (1) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 124/167. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 59/1880. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تعقيب: إن البلاد التي يتصل فيها شروق الشمس بغروبها، بحيث لا يفصل بينهما وقت لصلاة العشاء والوتر، لا تجب في حق أهل هذه البلاد صلاة العشاء والوتر لعدم وجود السبب (كما في بلاد البلغار مثلاً) على أحد القولين. والقول الثاني: إن فاقد وقتهما مكلف بهما فيقدر لهما ولا ينوي القضاء، كما في أيام الدجال تُقدر الأوقات لوجود النص في ذلك. وقت الفجر: يبدأ وقته من طلوع الفجر الصادق ويستمر حتى طلوع الشمس، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات فقال: (وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول) (1) . ويستحب تأخير الصلاة قليلاً عن وقت الأذان حتى تسفر الأرض، لما روي عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أسْفِروا بالفجر فإنه أعظم للأجر) (2) ، ليسهل على المكلف تحصيل ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تامة، تامة، تامة) (3) . ويستحب تعجيل الفجر في الغَلَس (4) للحاجّ وذلك لواجب الوقوف بعدُ في المشعر الحرام. والغلس أفضل دائماً في حق النساء، والانتظار في غير الفجر إلى فراغ الرجال من الجماعة. ويحرم تأخير الفجر إلى ما لا يسعه من الوقت.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 31/174. (2) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 117/154، ومعنى أَسْفِروا بالفجر: أي صلوا الفجر بعد ما يتبين الفجر ويظهر ظهوراً لا ارتياب فيه، وكلُّ من نظر إليه عرف أنه الفجر الصادق. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 412/586. (4) الغَلَس: ظُلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأوقات التي تحرم فيها صلاة الفرائض: اتفق علماؤنا على أن ثلاثة أوقات ورد النهي عن الصلاة فيها وهي: -1 - وقت شروق الشمس حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين. -2 - وقت الاستواء حتى الزوال. -3 - وقت الاصفرار حتى الغروب. وقد ورد هذا النهي في حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن. أو أن نَقْبُرَ فيهن موتانا: حين تطْلَع الشمس بازغة حتى ترتفع) (1) . ولا يصح في هذه الأوقات شيء من الصلاة - سواء في مكة أو غيرها - ولو قضاء والواجبات (2) التي لزمت في الذمة قبل دخولها كالوتر والنذر المطلق وركعتي الطواف وما أفسده من نفل وشرع فيه في غير هذه الأوقات وسجدة آية تليت في غيرها. وكل صلاة شرع فيها ثم تعرضت للشروق أو الاستواء أو الغروب فَسَدُتْ للنهي الوارد في الحديث. وعند الإمام أبي حنيفة والإمام محمد لو أشرقت الشمس وهو في صلاة الفجر بطلت صلاته، وصحت مع الكراهة التحريمية عند الإمام أبي يوسف (3) . ولا يصح قضاء الفوائت في هذه الأوقات لأنها وجبت كاملة فلا تؤدى ناقصة في الوقت المكروه. لكن تصح في هذه الأوقات مع الكراهة التحريمية صلاة النفل (4) والنذر المقيد بها وقضاء النفل الذي أفسده فيها وصلاة جنازة حَضَرت وسجدة تلاوة حصلت في هذه الأوقات. والأفضل إذا بدأ بتطوع في هذه الأوقات أن يقطعه ويصليه في غير الوقت المكروه (أي الأوقات التي تحرم فيها الفرائض والتي يكره فيها التنفل) . كما يصح أداء عصر اليوم الذي وجب فيه عند الغروب مع الكراهة للتأخير المنهي عنه لا لذات الوقت. وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك. ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك) (5) . والاشتغال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات أفضل من قراءة القرآن، لأن القراءة ركن أساسي في الصلاة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة المسافرين وقصرها باب 51/293، وتَضَيَّف: أي تميل. (2) الواجب قسمان: إما لعينه وهو يكون بإيجاب الله تعالى أو لغيره وهو ما يكون بإيجاب العبد. فالأول: الوتر وصلاة العيدين وسجدة التلاوة. والثاني: سجود السهو وركعتا الطواف وقضاء نفل أفسده والمنذور. (3) قال الإمام أبو يوسف: إننا لا ننهي كسالى العوام عن الصلاة وقت الشروق وحتى لا يتركوها مطلقاً. وإن صحت الصلاة على قول مجتهد مثل الشافعي، فهي خير من الترك. (4) إلا نفل يوم الجمعة فلا يكره حال الاستواء على قول الإمام أبي يوسف. (5) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 30/165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأوقات التي يكره فيها التنفل: يكره التنفل في الأوقات التالية: -1 - في الأوقات التي تحرم فيها الفرائض. -2 - بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس إلا سنة الصبح، لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليبلّغ شاهدكم غائبكم لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر) (1) ليكون جميع الوقت مشغولاً بالفرض. -3 - يكره تحريماً التنفل بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس) (2) . -4 - بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس، للحديث المتقدم. وينعقد في هذين الوقتين، أي ما بين الفجر والشمس وما بين صلاة العصر إلى الغروب، قضاء الفوائت والجنازة وسجود التلاوة من غير كراهة. إلا النفل والواجب لغيره، فإنه ينعقد مع الكراهة، كالمنذور وركعتي الطواف وقضاء نفل أفسده. -5 - قبل صلاة المغرب حتى لا يؤدي إلى تأخير صلاة المغرب، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب) (3) . -6 - عند خروج الخطيب وقيامه للخطبة في الجمعة والعيدين وغيرها. -7 - عند إقامة الصلاة للفرائض، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) (4) ، إلا إذا دخل المسجد عند الإقامة لصلاة الفجر فإنه يصلي ركعتي الفجر ثم يتابع الإمام. أما إن خشي فوت الجماعة دخل مع الإمام وترك السنة. -8 - يكره التنفل قبل صلاة العيد في البيت أو في المسجد سواء، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى أو أفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها" (5) . -9 - عند ضيق الوقت خوفاً من تفويت الفرض أو تأخيره. -10 - بين صلاتي الجَمْع في عرفة ومزدلفة، لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما) (6) .   (1) البيهقي: ج 2 / ص 465. (2) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 51/288. (3) البيهقي: ج 2 / ص 474. (4) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 9/64. (5) مسلم: ج 2 / كتاب صلاة العيدين باب 2/13. (6) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 57/1906. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الجمع بين الصلاتين: لا يصح عندنا الجمع بين صلاتين إلا في موضعين: -1 - يصح الجمع بين الظهر والعصر في مسجد نَمِرة يوم عرفة جمع تقديم، فيصلي الحاجّ الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين ولا يفصل بينهما بنافلة، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً" (1) . بشرط أن تكون الصلاة مع الإمام الأعظم أو نائبه، وأن تكون صلاة الظهر صحيحة؛ فلو فسدت صلاة الظهر لم يصح الجمع. أما عند الصاحبين فلا مانع من الجمع ولو صلى الحاج منفرداً في رحله. -2 - يصح للحاج أن يجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة، ولا تجزئ صلاة المغرب بطريق مزدلفة، لما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أفاض من عرفة مال إلى الشعب فقضى حاجته فتوضأ، فقلت يا رسول الله أتصلي؟ فقال: (الصلاة أمامك) (2) . لكن إن فعل ولم يعده حتى طلع الفجر صحّ. أما في غير الحج فلا يجوز الجمع مطلقاً لا في السفر ولا في الحضر ولا لعذر، والدليل على ذلك: أ - إن الصلاة التي قدمت عن وقتها لم تجب أصلاً قبل دخول الوقت، ولأن تأخير الوقتية عن وقتها لا يحل أصلاً. ب - إن جميع الأدلة الواردة في الجمع تُحمل على الجمع الصوري، وهو تأخير صلاة الظهر حتى قبل دخول وقت العصر بما يسع الصلاة ثم صلاة العصر في أول وقتها. والدليل على هذا التأويل: ما روى ابن حِبَّان عن نافع قال: خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، وغابت الشمس فلما أبطأ قلت: الصلاة يرحمك الله. فالتفت إليّ ومضى حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب، ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق فصلى بنا، ثم أقبل علينا فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير صنع هكذا". جـ - لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلاة لوقتها إلا بجمع وعرفات) (3) .   (1) النسائي: ج 2 / ص 15. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 94/1584. (3) النسائي: ج 5 / كتاب المناسك ص 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قضاء الفوائت: الأداء هو تسليم عين الواجب في وقته، ويكون كاملاً بصلاة الجماعة وقاصراً بصلاة المنفرد. والقضاء: هو تسليم مثل الواجب بعد خروج الوقت. وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة لا تزول بالقضاء فقط، وإنما يسقط إثم الترك بالقضاء، أما إثم التأخير فلابدّ فيه من التوبة النصوح أو الحج. وأما الإعادة: فهي فعل مثل الواجب في الوقت لخلل غير الفساد، فكل صلاة أديت مع الكراهة التحريمية تعاد وجوباً في الوقت وندباً بعد خروجه. ولا تقضى النوافل إلا سنة الفجر فتقضى تبعاً مع الفرض، أما لو أراد قضاء الفجر بعد الزوال فلا تقضى السنة. وتقضى سنة الظهر القبلية بعد الفرض إن خاف فوت الجماعة أو الوقت بشرط بقاء الوقت بعد أداء الفرض، فإذا خرج الوقت فلا قضاء للسنة القبلية في هذه الحالة. كيفية القضاء: الأصل في القضاء أن الترتيب بين الفوائت وفرض الوقت وكذا الترتيب بين نفس الفوائت القليلة مستحق أي لازم. وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذَّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء" (1) ، وعن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وصلوا كما رأيتموني أصلي) (2) . ويسقط الترتيب بإحدى ثلاث: -1 - ضيق الوقت. -2 - النسيان، فلو تذكرها بعد الصلاة الوقتية يقضي ما فاته ولا يعيد، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (3) . -3 - إذا صارت الفوائت ستاً سقط الترتيب. ولو صلى المكلف فرضاً ذاكراً الفائتة فسد فرضه فساداً موقوفاً حتى يصلي خمس صلوات متذكراً للمتروكة، فإذا بقيت في ذمته حتى خروج خمس صلوات صحت جميعاً، وإن قضاها قبل مضي خمس صلوات فسدت جميعاً. وإذا كثرت الفوائت فلا بد من التعيين كأن يقول: نويت قضاء آخر ظهر لم أصلِّه أو قضاء أو ظهر مما عليّ.   (1) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 132/179. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الأذان باب 18/605. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطلاق باب 16/2045. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حكم قضاء الفوائت: -1 - واجب عند جمهور الفقهاء (1) ، وجميع أوقات العمر وقت للقضاء عدا أوقات النهي الثلاثة. -2 - يجب القضاء على الفور عند الإمام أبي يوسف، وعلى التراخي عند الإمام محمد وقال الإمام أبو حنيفة: يجب القضاء على الفور، إنما يجوز التأخير من أجل السعي على العيال إن كثرت الفوائت. ودليل وجوب قضاء الفوائت، ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: أقم الصلاة لذكري) (2) .   (1) قال الإمام أحمد: لا يجب القضاء لأن المؤمن بتركه الصلاة عامداً بغير عذر صار مرتداً، والمرتد لا يؤمر بقضاء ما فاته إذا تاب. (2) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 55/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الباب الثاني (الأذان والإقامة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 معنى الأذان: لغة: الإعلام، بدليل قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} (1) أي إعلام. شرعاً: ذكر مخصوص يُعلم به دخول وقت الصلاة المفروضة.   (1) التوبة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 معنى الإقامة: هي ذكر مخصوص لاستنهاض الحاضرين للصلاة. دليل مشروعيتهما: ثبتت مشروعية النداء للصلاة بالكتاب والسنة. ففي الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (1) . وقوله جلّ شأنه: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً} (2) . وأما السنة فحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمّكم أكبركم) (3) . وقد أذن جبريل عليه الصلاة والسلام يوم الإسراء وأقام الصلاة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمّم ذلك، ثم شرع الأذان في السنة الأولى للهجرة، وكان المسلمون يصلّون بالمناداة في الطريق: الصلاة.. الصلاة.. ثم تشاور الصحابة رضوان الله عليهم في علامة يعرفون بها وقت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء ذلك فيما روي عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليُضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: فقال تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذّن به فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد) (4) . وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الأذان والمؤذّن، (وإن كانت الإمامة أفضل من الأذان) (5) منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف والأول ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهِموا عليه لاستَهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتْمةِ والصبح لأتوهما ولو حبواً) (6) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أذّن سبع سنين محتسباً كتبت له براءة من النار) (7) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) (8) .   (1) الجمعة: 3. (2) المائدة: 58. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الأذان باب 17/602. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 28/499. (5) لمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها دون الأذان. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الأذان باب 9/590. (7) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 152/206. (8) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 32/517، ضامن: المقصود بالضمان هنا الحِفْظ والرعاية لأنه يضمن على القوم صلاتهم. فصلاة المقتدين به في عهدته وصحتها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمتكفِّل لهم صلاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 حكم الأذان والإقامة: هما سنتان مؤكدتان في قوة الواجب، لقول الإمام محمد: لو اجتمع أهل بلدة على ترك الأذان قاتلتهم، ولو تركه واحد لضربته وحبسته. وهما سنة للجماعة والمنفرد، لأنهما من شعار الإسلام سواء كان في المسجد أو في البيت أو في فلاة، فإنه يصلي خلفه جند من جنود الله، فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يكون بأرض فيء، فيؤذن بحضرة الصلاة ويقيم الصلاة فيصلي، إلا صفَّ خلفه من الملائكة ما لا يرى قطراه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه) (1) . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة) (2) . وهما سنة للصلاة، لا للوقت، وللفرائض ومنها الجمعة. أما النوافل فلا يؤذن لها. كما يسن لقضاء الفوائت مطلقاً، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربه صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء) (3) . ولا يسن للنساء الأذان والإقامة، بل هما مكروهان، لأن حالهن مبني على الستر ولا يكون الأذان إلا برفع الصوت.   (1) البيهقي: ج 1 / ص 406. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 272/1203. (3) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 132/179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ألفاظ الأذان والإقامة: -1 - التكبير في أول الأذان أربعاً، مع جزم راء أكبر في الأذان والإقامة. -2 - أن يأتي بالشهادتين كل واحدة مرتين ويفصل بينهما بسكتة ولا يرجع (1) فيهما. -3 - أن يزيد المؤذن بعد قوله: "حي على الفلاح" في الفجر: "الصلاة خير من النوم"، لما روي عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: (كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أقول في أذان الفجر الأول: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) (2) . -4 - والإقامة مثل الأذان إلا أنه يزيد فيها بعد قوله: "حي على الفلاح": "قد قامت الصلاة" يكررها مرتين.   (1) الترجيع أن يقول كلمتي الشهادة أولاً بصوت منخفض في الأولى، ثم يرفع صوته في الثانية. (2) النسائي: ج 1 / ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 شروط الأذان والإقامة: -1 - دخول الوقت، لأنه إعلام بالوقت فلا يصح قبله. أما الإقامة فلابد فيها من إرادة الصلاة فعلاً. -2 - أن يكونا بالعربية إن كان هناك من يحسنها، ويصح للأعجمي أن يؤذن لنفسه بلغته إن لم يحسن العربية حتى يتعلمها. -3 - الموالاة والترتيب. -4 - إن يسمع نفسه إن كان منفرداً، وأن يسمع بعض الجماعة إن كان في جماعة. -5 - أن يكون المؤذن رجلاً مسلماً عاقلاً، فلا يصح أذان المجنون ولا الكافر. سنن الأذان والإقامة: -1 - أن يكون المؤذن صالحاً، أميناً في الدين، عالماً بالسنة وأوقات الصلاة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِيؤذّن لكم خيارُكم وليؤمكم قراؤكم) (1) . -2 - أن يكون على طهارة، لأنه ذِكْر ومتصل بالصلاة، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤذِّن إلا متوضئ) (2) . -3 - أن يكون واقفاً، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال قم فناد بالصلاة) (3) . -4 - أن يتوجه المؤذن نحو القبلة، فإذا بلغ الحيعلتين التفت عن يمينه فقال: "حي على الصلاة"، ثم التفت عن يساره فقال: "حي على الفلاح"، من غير أن يُحوِّل صدره عن القبلة ولا قدميه عن مكانهما، لحديث أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: (رأيت بلالاً يؤذّن ويدور ويُتبع فاه ههنا وههنا، وإصبعاه في أذنيه) (4) . -5 - أن يجعل إصبعيه في أذنيه في الأذان دون الإقامة للحديث المتقدم. -6 - أن يترسَّل (5) في الأذان، ويسرع في الإقامة، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال إذا أذَّنْت فترسَّل في أذانك، وإذا أقمت فاحدُر) (6) . -7 - أن يكون المؤذن حسن الصوت عاليه، لأنه أبعث على الإجابة بدليل الحديث المتقدم: (فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك) . -8 - أن يفصل بين الأذان والإقامة، إذ يكره وصلهما، كي يتحضر المصلون. -9 - التثويب بعد الأذان لتأكيد الإعلام، بأن يقول: يا مصلين: الصلاة. الصلاة.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الآذان باب 5/726. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 147/200. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 1/1. (4) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 144/197. (5) أي يفصل بسكتة بين كل كلمتين منه. (6) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 143/195، واحدُر: أي أسرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مكروهات الأذان والإقامة: -1 - يكره التلحين والتمطيط في الأذان. -2 - كره أذان الجُنُب وإقامته، والكراهة هنا تحريمية. -3 - يكره أذان المُحْدِث لما في الأذان من الدعاء والذكر. -4 - يكره أذان الصبي (1) ، وقال جمهور العلماء: لا يجوز أصلاً. -5 - يكره أذان المرأة والفاسق. -6 - يكره الكلام أثناء الأذان ولو بِرَدِّ السلام. -7 - يكره الأذان والإقامة للظهر يوم الجمعة لمن فاتته وللمعذور أيضاً. -8 - يكره خروج المؤذن أو أحد المصلين من المسجد بعد الأذان حتى تنتهي الصلاة إلا أن يخرج لحاجة، لما روي عن أبي الشعثاء قال: "كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذّن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " (2) . أما لو خرج بعد الصلاة ولو منفرداً فلا كراهة. -9 - يكره أخذ الأجرة على الأذان، إلا أن المتأخرين من علمائنا أجازوه مطلقاً لعدم وجود متطوعين وحفظاً للشعائر، وروي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (إن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) (3) .   (1) المراد بالصبي: الذي لا يعقل، أما الصبي العاقل المراهق فيجوز أذانه بلا كراهة. (2) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 45/258. (3) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 155/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 حكم إجابة المؤذن وما يسن فيها: الأكثر من فقهاء الحنفية على أن إجابة المؤذن قولاً وفعلاً سنة، وقال بعضهم واجب استناداً إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سِلُوا الله عز وجل لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) (1) . ويسن: -1 - أن يجيب المؤذن كل من سمعه سواء كان جنباً أو طاهراً، واستثنى الحائض والنفساء لعجزهما عن الإجابة بالفعل. -2 - أن يمسك سامع الأذان عن القراءة والذكر، وإن كان قاعداً قام أو مستلقياً جلس. -3 - أن يقول السامع في الإجابة كما يقول المؤذن إلا عند قوله: "حيّ على الفلاح"، فيقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حيّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حيّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة) (2) . وأن يقول عندما يقول المؤذن في الفجر "الصلاة خير من النوم": "صدقت وبررت وبالحق نطقت". وعند الإقامة يقول: "أقامها الله وأدامها وجعلنا من صالحي أهلها"، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقامها الله وأدامها) (3) . -4 - أن يجيب المؤذن بكلمات الإجابة كلها مرتبة سواء سمع كل الأذان أو بعضه. ولو سمع من عدة مساجد أجاب الأقرب إلى منزله. ويمكن أن يتدارك الإجابة إن كان في شغل. -5 - أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإجابة ثم يقول: "اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة (4) ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته"، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، ابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلَّت له شفاعتي) (5) . ويدعو بعدها بما شاء من حوائج الدنيا والآخرة، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة) (6) . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي) (7) .   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 36/523. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 7/12. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 37/528. (4) الدرجة العالية الرفيعة. (5) البخاري: ج 1 / كتاب الأذان باب 8/589. (6) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 158/212. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 39/530. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الباب الثالث (أحكام الصلاة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الفصل الأول: شروط الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ما تتوقف عليه صحة الصلاة قسمان: شروط وأركان. والشروط هي ما تتوقف عليها صحة الصلاة وغير داخلة في ماهيتها، أما الأركان فهي ما تتوقف عليها صحة الصلاة أيضاً ولكنها داخلة في ماهيتها. وشروط الصلاة هي: أولاً: الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر: وذلك بالوضوء والغسل أو التيمم، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) (2) .   (1) المائدة: 6. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 2/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثانياً: طهارة الثوب والجسد والمكان من كل نجاسة غير معفوّ عنها. قال تعالى: {وثيابك فطهّر} (1) ، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حُتِّيهِ، ثم اقرصيه بالماء ثم رشيه وصلي فيه ... ) (2) . والبدن أولى بالتطهير من الثوب، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عِرْق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قَدْرها فاغسلي عنك الدم وصلي) (3) ، ولحديث المعذبين في القبر. وأما طهارة المكان الذي يصلي فيه، فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه وهَرِيقوا على بوله سَجْلاً (4) من ماء، أو ذَنوباً (5) من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) (6) ، وطهارة المكان أولى من طهارة الثوب. ويشترط في طهارة المكان طهارة موضع السجود وخاصة الجبهة ثم القدمين والركبتين واليدين والأنف. فروع: -1 - لا يضر وقوع ثياب المصلي على أرضة نجسة جافة أثناء الصلاة ما دام يسجد على طاهر. -2 - إذا كانت الأرض نجسة فوضع عليها ثوباً ثخيناً لا يشف النجاسة جاز. -3 - تصح الصلاة على سجادة أحد أطرافها نجس إن لم يصلِّ المصلي على الطرف النجس. -4 - تصح الصلاة على سجادة ذات بطانة وجهها طاهر والوجه الآخر نجس إن كانت غير مضربة؛ بحيث يمكن فصل كل وجه على حدة. -5 - يعتبر حامل النجاسة كلابسها، وكذا حمل الطفل أو جلوسه في حضن المصلي إذا كان معه نجاسة، يبطل الصلاة إذا كان الطفل لا يستمسك وحده. -6 - يصلي فاقِد ما يزيل به النجاسة بالثوب النجس ولا يعيد لأن التكليف قدر الوسع. -7 - لا عذر بالجهل ولا بالنسيان، فلو صلى بثوب نجس ناسياً أو جاهلاً وجبت عليه الإعادة إن علم في الوقت أو بعده.   (1) المدثر: 4. (2) الترمذي: ج 1 / أبواب الطهارة باب 104/138. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 8/300. (4) السَجْل: الدلو العظيمة فيها ماء قل أو كثر. (5) الذَنوب: الدلو. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الوضوء باب 57/217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثالثاً: ستر العورة: العورة لغة: مأخوذة من العَوَر، وهو النقص والعيب، وسميت بذلك لقبح ظهورها. وتعرف شرعاً بأنها ما يُطلب سَتْره. وستر العورة من الواجبات الدينية في الصلاة وخارجها، لحديث بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال: قلت يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم مع بعض؟ قال: إن استطعت أن لا تِريها أحداً فلا ترينّها. قلت: يا رسول الله فإن كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيي منه من الناس) (1) . وحد العورة: أ - للرجل: هي ما بين السرة والركبة، لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة) (2) . وليست السرة على أرجح القولين من العورة، أما الركبة فمن العورة لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الركبة من العورة) (3) . وقيل: وإن كان في الحديث ضعف ولكن الأحوط هو الستر. ب - المرأة: عورة المرأة جميع بدنها عدا الوجه والكفين، بدليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) (4) ، وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (5) . واختلف في ظاهر الكفين: قيل هو عورة، وقيل إنه ليس بعورة في الصلاة، وقيل إنه ليس بعورة مطلقاً وذلك لعموم البلوى. أما ظاهر القدمين وباطنهما فليسا من العورة على المعتمد، وقيل هما عورة خارج الصلاة. وتمنع الشابة من كشف وجهها في غير الصلاة خوف الفتنة، أما في الصلاة فترفع الغطاء عن وجهها عند السجود. ولا عورة للصغير دون أربع سنوات، ثم تكون عورته مخففة إلى عشر سنوات. وعورة الأمة كعورة الرجل مع ظهرها وبطنها. ويمنع من صحة الصلاة كشفُ ربعِ أيّ عضو من أعضاء الجسم قدر أداء ركن ولو بدون قصد. وإذا تعدد أماكن الكشف يجمع ما تكشف، فتبطل الصلاة إن كان مجموع ما انكشف ربع أصغر عضو انكشف. ويشترط في الساتر للعورة أن يكون سميكاً مانعاً من وصف لون البشرة دون حجمها، فلو صلى بثوب ضيق يظهر شكل العورة صحت صلاته مع الكراهة. كما يشترط أن لا تظهر العورة من الجوانب، أما إذا كانت عورته ترى من الأسفل أو من الجيب فلا يضر. ويستحب أن يصلي الرجل في ثلاثة أثواب من أحسن ثيابه: قميص وإزار وعمامة، ويجب أن يشمل الساتر عامة جسده، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: قال عمر رضي الله عنه: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب واحد فليَّتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود) (6) . ويكره تحريماً أن يصلي الرجل في ثوب واحد كاشفاً كتفيه، كما يكره أن يصلي في ثوب حرير أو ثوب مغصوب إلا عند الضرورة. أما المرأة فتصلي في ثلاثة أثواب، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: "تصلي المرأة في ثلاثة أثواب، درع وخمار وإزار" (7) . ومن عُدِم ثوباً طاهراً يصلي في الثوب النجس إذا كان ربعه فأكثر طاهراً، أما إذا كان أقل من الربع طاهراً أو كان الثوب كله نجساً يخير بين أب يصلي فيه أو يصلي عرياناً، والأفضل أن يصلي بالثوب النجس. ومن عدم ما يستر به عورته يصلي ولا يعيد، ويصلي العاري قاعداً مومياً بالركوع والسجود، ماداً رجليه نحو القبلة مبالغة في الستر.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب النكاح باب 28/1920. (2) الدارقطني: ج 1 / ص 231. (3) الدارقطني: ج 1 / ص 231. (4) الترمذي: ج 3 / كتاب الرضاع باب 18/1173، واستشرف الشيء: أَبْصَره. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 132/655. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 82/635. (7) البيهقي: ج 2 / ص 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 رابعاً: استقبال القبلة: القِبلة لغةً: مطلق الجهة، تقول العرب: من أين قبلتك: أي جهتك. شرعاً: جهة يصلي نحوها مَنْ في الأرض السابعة إلى السماء السابعة، مما يحاذي الكعبة (1) أو جهتها. كانت القبلة في أول الإسلام - إلى بيت المقدس، وقبل الهجرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس (أي يقف ما بين الركنين اليمانين) ثم حوله الله تعالى إلى الكعبة بعد الهجرة بستة عشر شهراً وأيام، في يوم الاثنين لنصف رجب من السنة الثانية في صلاة الظهر عند بداية الركعة الثالثة. وثبت وجوب استقبال القبلة في قوله تعالى: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} (2) . وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) (3) ، وعن البراء رضي الله عنه قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سِتة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً. ثم صُرِفْنا نحو الكعبة) (4) . ويشترط استقبال بقعة الكعبة لأبنائها، حتى لو رفعت عن مكانها فالبلة باتجاه أرضها. ومن كان مشاهداً بمكة وجب استقبال عين الكعبة في الصلاة، إلا أن يحجبه عنها أبنية فتكفي الجهة. أما من كان بعيداً فيجب عليه استقبال جهة الكعبة، وذلك بأن يكون مسامتاً أي محاذياً للكعبة أو لهوائها تحقيقاً أو تقريباً. ومعنى التحقيق: أنه لو فرض خط من تلقاء وجه المصلي على زاوية قائمة مع الأفق يكون ماراً على الكعبة أو هوائها. ومعنى التقريب: أن يكون منحرفاً عنها انحرافاً لا تزول به المقابلة بالكلية.   (1) وتسمى أيضاً محراباً، لأن من يقابلها يحارب النفس والشيطان. (2) البقرة: 144. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 2/13. (4) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 2/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 معرفة القبلة: تعرف القبلة في الأمصار بالمحاريب التي نصبها الصحابة والتابعون، فإن لم توجد فبسؤال أهل المصر، وفي البحار والمَفَاوز (1) تعرف القبلة بالنجوم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من النجوم ما تهتدون به إلى القبلة) . ويجب التحري (2) عند عدم العلم، ويصلي بما أدى إليه تحريه، فإن علم خطأ تحريه بعد الصلاة فلا يعيد، لما روي عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره، في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: فأينما تولوا فثم وجه الله) (3) . وإن تبين خطأه أو تبدل اجتهاده أثناء الصلاة استدار وبنى على ما أداه بالتحري. وإذا صلى إلى غير جهة تحريه لا تصح صلاته ولو أصاب. وإن صلى بدون اجتهاد لم تصح صلاته وإذا علم بالخطأ في الصلاة أو بعدها كما لو لم يعلم إصابته أصلاً أو علم في الصلاة أنه أصاب. أما إذا علم إصابته بعد الصلاة فتصح. أما المريض والعاجز عن استقبال القبلة فتكون قبلته جهة قدرته، ولو وجد من يوجهه إلى القبلة؛ لأن القادر بقدرة غيره ليس قادراً. وقبلة الخائف جهة أمنه سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة. ومن اضطر إلى الصلاة وهو راكب طائرة أو سيارة فيقال فيها: إذا كان الإنسان في الطائرة وأدركه وقت الصلاة، فإن استطاع أن يصلي قائماً يركع ويسجد فعل، وإلا قعد وصلى بالإيماء مستقبلاً متحرياً جهة القبلة. وأما السيارة، فإن كانت له أوقفها ونزل وصلى، وإن كانت لغيره ولم يرض سائقها أن يقف له ليصلي؛ فإنه يصلي فيها بالإيماء مستقبلاً حسب الإمكان. والأحوط الإعادة فيهما (4) . أما الصلاة في السفينة فيشترط فيها استقبال القبلة، وتجوز قاعداً إذا كان الغالب فيها دوران الرأس وكانت السفينة سائرة. هذا كله بالنسبة لصلاة الفرائض والوتر. وأما على الدابة فلا تجوز صلاة الفرض والواجب إلا لعذر، أما النوافل فالأصح جوازها على الدابة خارج المِصْر، وقال الإمام أبو يوسف بجوازها في المصر، فيصلي الراكب مومياً إلى أي جهة، ويفتتح الصلاة حيث توجهت به دابته. ولا يشترط عجزه عن إيقافها للتحريمة، وذلك لما روي عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله) (5) . ويجوز الإيماء بالصلاة على الدابة ولو كانت السنن مؤكدة حتى سنة الفجر، وقيل: إن الإمام أبا حنيفة كان ينزل عن الدابة لسنة الفجر لأنها آكد من غيرها.   (1) المَفَازة: البَرِّية القَفْر، والجمع المَفَاوز. (2) التحري: هو بذل المجهود لنيل المقصود. (3) الترمذي: ج 1 / كتاب تفسير القرآن باب 3/2957. (4) أو يقلد بجمع الصلاتين بشروط الجمع، وجمع التأخير أوْلى. (5) البخاري: ج 1 / كتاب تقصير الصلاة باب 12/1054. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الصلاة في الكعبة: تصح الصلاة داخل الكعبة فرضاً أو نفلاً إلى أي جزء منها، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه إذا دخل الكعبة.. يتوخى المكان الذي أخبره بلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وليس على أحد أن يصلي في أي نواحي البيت شاء) (1) . كما تصح الفريضة داخل الحِجْر (2) بشرط استقبال الكعبة لا جدار الحِجْر. وإذا أقيمت الصلاة جماعة داخل الكعبة فيصح للمؤتم أن يقف إلى أي جهة، إلا أنه يكره وقوفه إذا قابل وجهُه وجهَ إمامه، وإذا جعل ظهره إلى وجه إمامه لم يصح اقتداؤه لتقدمه على إمامه. ويصح أن يكون الإمام داخل الكعبة والمصلون خارجها إذا كان الباب مفتوحاً، ويصح اقتداء جميعهم، أي حولها، إلا من كان أقرب إلى الكعبة في جهة إمامه.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الحج باب 51/1522. ومعنى ليس على أحد أن يصلي: أي ليس على أحد حرج أن يصلي. (2) الحِجْر: اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الشمالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 خامساً: دخول الوقت: يعتبر دخول الوقت سبباً لوجوب الصلاة، وشرطاً لأدائها، قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (1) ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (.. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) (2) . فيجب أن يدخل الوقت جزماً في علم المصلي حتى تصح الصلاة، ولو صلّى دون علم جازم بدخول الصلاة لم تصح صلاته ولو صادف دخول الوقت.   (1) النساء: 103. (2) البخاري: ج 1 / كتاب التيمم حديث 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 سادساً: النية: وهي لغة: العزم، شرعاً: فصد الطاعة والتقرب إلى الله في إيجاد الفعل. وبالنية تتميز العبادة عن العادة، ويتحقق الإخلاص، والمعتبر في النية عمل القلب ويستحب أن يوافقه اللسان، والمهم أن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي. قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (1) ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (2) . ويشترط فيها: -1 - اتصال النية بالصلاة بدون فاصل بينها وبين التحريمة بعمل لا يليق بالصلاة، ولا يعتبر المشي إلى الصلاة والوضوء فاصلاً. -2 - تعيين الفرض واسمه كالظهر مثلاً، ولو نوى الفرض وشرع فيه ثم نسي كونه يصلي فرضاً أو سنة أتمه نفلاً وجاز (أي سقط عنه الفرض) . ولو جمع بين نية الفرض والنفل صح للفرض. كما يشترط تعيين الواجب. أما في النفل المطلق فلا يشترط التعيين بل تكفي نية فعل الصلاة مطلقاً، وكذا في السنن الرواتب والتراويح على المعتمد؛ إذ أن وقوعها في وقتها يغني عن التعيين ولكن الأحوط تعيينها. -3 - يجب تعيين الصلاة ويومها (3) في قضاء الفوائت على المعتمد، والأسهل أن ينوي أول ظُهر عليه مثلاً، أو آخر ظهر فاته. وقيل لا يشترط ذلك بل تكفيه نية الظهر لا غير، ولكن الاشتراط أحوط وبه جزم البعض. -4 - يشترط للمقتدي أن ينوي المتابعة، بينما لا يشترط للإمام لصحة الاقتداء به أن ينوي الإمامة بل ينوي لينال الثواب عند اقتداء أحد به.   (1) البينة: 5. (2) البخاري: ج 1 / كتاب بدء الوحي باب 1/1. (3) هذا عند وجود المزاحم، أما عند عدمه فلا. كما لو كان في ذمته ظهراً واحداً فائت فإنه يكفيه أن ينوي ما في ذمته من الظهر الفائت وإن لم يعلم أنه من أيّ يوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 سابعاً: التحريمة (1) : وهي أن يقول الداخل في الصلاة: "الله أكبر"، لما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين) (2) . وأجمع العلماء على أن الدخول في الصلاة لا يكون إلا بالتحريمة؛ ويقصد بها الذكر الخالص لله تعالى، الذي يحرم به المصلي على نفسه الاشتغال بما سوى الله. أما الأدلة على أن التحريمة شرط: قوله تعالى: {وذكر اسم ربه فصلى} (3) ، وقيل: المراد هنا للتحريمة وقد عطفت عليها الصلاة، ومقتضى العطف المغايرة. وحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطَّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) (4) . ويترتب على كون التحريمة شرط أنه لو أحرم ثم توجه نحو القبلة جاز، أو إن أحرم وهو يحمل نجاسة فتذكرها وألقاها بعد التحريم جازت صلاته.   (1) تعتبر تكبيرة الإحرام في المذاهب الأخرى ركن من أركان الصلاة داخلة فيها. (2) البيهقي: ج 2 / ص 15. (3) الأعلى: 15. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 31/61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 شروط التحريمة: -1 - مقارنة التكبير للنية حقيقية أو حكماً. والمقارنة الحقيقية: أن ينوي مقارناً للشروع بالتكبير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) (1) . أما المقارنة حكماً: فهي أن يقدم النية على الشروع، فلو نوى مثلاً عند الوضوء أنه يريد صلاة الظهر، ولم يشتغل بعد النية بعمل يدل على الإعراض كأكل أو شرب، ثم انتهى إلى محل الصلاة ولم تحضره النية جازت صلاته بالنية السابقة. وكذا يجوز تقديمها على الوقت كسائر الشروط ما لم يوجد ما يقطعها. -2 - أن يأتي بها قائماً أو أقرب إلى القيام، فلو أتى بها راكعاً لم يصح الشروع. -3 - النطق بها بصوت أقل ما فيه أن يسمع نفسه. والسماع شرط فيما يتعلق بالنطق باللسان وهي: التحريمة، القراءة السرية، التشهد، الأذكار، الطلاق، الاستثناء، اليمين، النذر. فلو أجرى هذه الأمور على القلب من غير تلفظ يسمع لم تثبت. -4 - نية المتابعة مع نية أصل الصلاة للمقتدي. -5 - كونها باللفظ العربي للقادر عليها. -6 - أن لا يمد همزة فيها أو باء أكبر، وأن يأتي بالألف المحذوفة في اللام الثانية للفظ الجلالة. -7 - أن تكون التحريمة جملة تامة من مبتدأ وخبر. -8 - أن تكون بذكر خالص فيه تعظيم لله تعالى. -9 - أن لا يقرن التكبير بما يفسده، أي أن لا يتكلم بألفاظ تشبه كلام الناس.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 39/760. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الفصل الثاني: أركان الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الركن الأول: القيام: وهو ركن في صلاة الفريضة وواجب للقادر عليه، فلو عجز عن القيام سقط عنه. ودليل فرضية القيام: قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (1) ، وحديث عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) (2) . حد القيام: أن يكون بحيث إذا مدَّ يديه لا تنالان ركبتيه. ويكره القيام على رجل واحدة. أما النافلة فتصح في حال القعود مع القدرة على القيام، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، فإذا صلى قائماً ركع قائماً وإذا صلى قاعداً ركع قاعداً) (3) ، وفي رواية عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام، فقرأها وهو قائم ثم يركع، ثم سجد، يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) (4) . لكن للمتنفل جالساً نصف أجر القائم، إلا أن يكون معذوراً فيكون له نفس أجر القائم، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حُدِّثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة) (5) . ويكون القعود للصلاة على هيئة الافتراش وقيل على هيئة الاحتباء، وعند الإمام أبي حنيفة يقعد كيف شاء ما دام تَرْك القيام جائزاً له فتَرْك صفة القعود أولى. ويجوز لمن افتتح صلاة النفل قائماً أن يتمها قاعداً، وعند الصاحبين لا يجوز لأن الشروع مُلْزم.   (1) البقرة: 238. (2) البخاري: ج 1 / كتاب تقصير الصلاة باب 19/1066. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 179/955. (4) البخاري: ج 1 / كتاب تقصير الصلاة باب 20/1068. (5) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 16/120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الركن الثاني: القراءة: وهي ركن لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} (1) ، والأمر يقتضي الوجوب، والقراءة لا تجب خارج الصلاة فتعيَّن أن يكون الأمر بالقراءة في الصلاة. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة إلا بقراءة) (2) . وتُعَّد القراءة ركناً زائداً لأنها تسقط عن المقتدي بلا ضرورة، وتسقط عن المدرك في الركوع عند الفقهاء جميعاً. المقدار المفروض قراءته: آية واحدة ولو قصيرة عند الإمام، وعندهما آية طويلة أو ثلاث آيات قصار (3) ، أما قراءة الفاتحة في الصلاة فواجبة لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر) (4) . مكان القراءة المفروضة: في ركعتين غير متعينتين من الفريضة، وفي كل ركعات النفل والواجب، لأن كل ركعتين في النفل صلاة على حدة، والواجب يتبع النفل. ولا تعتبر القراءة إلا بسماعها. وتكره قراءة المؤتم تحريماً، فلا يقرأ بل يستمع حال جهر الإمام وينصت حال إسراره، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) (5) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكفيك قراءة الإمام خَافَت أو جَهَر) (6) . ويمنع المصلي من الدعاء في صلاة الفرض مطلقاً، أو في صلاة نفل للإمام إلا أن يكون المؤتم راضياً بذلك، لأن الدعاء في الفرض لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الأئمة بعده فكان بدعة محدثة. أما في النفل فيندب الدعاء للمنفرد، لحديث حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ... يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ..) (7) .   (1) المزمل: 20. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 11/42. (3) وعليه يكون حفظ ما تجوز به الصلاة من القرآن فرض عين، وحفظ الفاتحة وسورة واجب على كل مسلم، وحفظ كل القرآن فرض كفاية. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 135/818. (5) الأعراف: 204. (6) الدارقطني: ج 1 / ص 331. (7) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 27/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الركن الثالث: الركوع: ومعناها في اللغة: مطلق الانحناء، وفي الشرع: الانحناء بالظهر والرأس. وكماله بتسوية الرأس بالعَجُز عند الإمام، والتعديل (الاطمئنان بقدر تسبيحة) عند الإمام أبي يوسف، وقال أبو مطيع البلخي تلميذ أبي حنيفة رضي الله عنه: لو نقص الركوع عن مقدار ثلاث تسبيحات لم تجز صلاته. ودليل الفرضية: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه - في حديث المسيء صلاته - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (2) . وقد انعقد الإجماع على فرضية الركوع والسجود. أما الأحدب فيشير برأسه للركوع إذا بلغت حدبته حد الركوع. ومن كان يصلي قاعداً ينبغي أن ينحني حتى تحاذي جبهته ما أمام ركبتيه ليحصل له الركوع.   (1) الحج: 77. (2) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 39/760. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الركن الرابع: السجود الأول: ومعناه في اللغة: الخضوع، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض. دليل فرضيته: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} وحديث المسيء صلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال: ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ. فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل، فإنك لم تصلِّ ثلاثاً، فقال: والذي بعثك الحق، فما أُحسِنُ غيره، فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلِّها) (1) . وتتحقق السجدة شرعاً بوضع الجبهة مع وضع إحدى اليدين وإحدى الركبتين وشيء من أطراف أصابع إحدى القدمين على طاهر من الأرض. وهذا أقل ما يطلق عليه اسم السجود فتصح به الصلاة مع الكراهة. أما تمام السجود فيكون بوضع الأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين موجهاً نحو القبلة، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفِت الثياب والشعر) (2) . شروط السجود: -1 - لا يصح الاقتصار على الأنف بل لابد من السجود على الجبهة، لحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض) (3) . ولا يشترط أن تصيب جبهته الأرض، بل يجوز مع الكراهة السجود على طرف عمامته أو ثوبه بشرط أن يكون موضع السجود طاهراً. -2 - يشترط أن لا يرتفع محل السجود عن موضع القدمين بأكثر من نصف ذراع لتتحقق صفة السجود وهي التنكس، إلا لزحمة كأن يسجد على ظهر مصل بشرك أن يكون الأول ساجداً على الأرض فتصبح صلاته للضرورة إن كانا في صلاة واحدة، أما إن كان منفرداً فلا يجوز. -3 - وضع الجبهة وإحدى اليدين وإحدى الركبتين وشيء من أطراف أصابع القدمين على الأرض. -4 - أن يكون السجود على ما يجد المصلي حجمه وتستقر عليه جبهته. -5 - أن يقدم الركوع على السجود، والقراءة على الركوع، لحديث المسيء صلاته.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 39/760. (2) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 50/779، ونكفِت: نكف. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 201/270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الركن الخامس: السجود الثاني: شروطه هي شروط السجود الأول نفسه. وتكرار السجود فرض أيضاً لأن السجدة الثانية ركن كالأولى، لحديث المسيء صلاته: (.. ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً..) (1) . ويشترط لتحقق الرفع من السجود الرفع إلى قرب القعود على الأصح عند الإمام أبي حنيفة والإمام محمد، أو بقدر ما يطلق عليه اسم الرفع، لحديث المسيء صلاته، وقوله صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} (2) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه) (3) . وقال أبو يوسف: الاعتدال في القعود والاطمئنان في السجود ركنان.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 39/760. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الآذان باب 18/605. (3) البيهقي: ج 2 / ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الركن السادس: القعود الأخير: وقيل هو شرط لأنه شرع للخروج. مقداره: الجلوس قدر التشهدّ، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين علَّمه التشهد: (إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد) (1) ، فبيَّن الحديث أن تمام الصلاة به. إذاً هو فرض. شروطه: يشترط تأخيره عن الأركان لأنه إنما شرع لختمها، ويترتب على هذا أنه إذا نسي سجدة صُلْبية (2) فسجدها أو سجد للتلاوة عليه إعادة القعود، فإذا لم يعده فإن صلاته فاسدة. أما سجود السهو فإنه يرفع التشهد فقط، فلو لم يعد القعود بعد سجود السهو صحت صلاته مع الكراهة. ومن شروط صحة الأركان. -1 - الترتيب: بأن يقدم القيام على الركوع والركوع على السجود والسجود على القعود بحسب ترتيبها الوارد في حديث المسيء صلاته المتقدم. -2 - أداؤها متيقظاً، فلا يعتد بركوع أو سجود أداه نائماً. ولو نوى متيقظاً يعيد ما فاته نائماً، والخلاف قائم فيما لو نام في القعود الأخير. -3 - يشترط لصحة الأركان أن يعرف صفتها، يعني فرضاً أو سنة، وكذا أن يعرف صفة ما يصليه فرضاً أو سنة. أي المهم أن لا يعتقد الفرض سنة حتى لا يتنفل بمفروض، أما لو اعتقد السنة فرضاً أو اعتقد أن جميع أفعال الصلاة فرض فلا حرج.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 182/970. (2) السجدة الصلبية: سجدة من صلب الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الفصل الثالث: واجبات الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 1 - قراءة الفاتحة: دليل وجوبها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (1) وهو محمول على نفي الكمال لا نفي الوجود، لأنه خبر آحاد لا ينسخ قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} (2) لذا قيل بوجوب الفاتحة. وتجب قراءة الفاتحة في الركعتين الأُولَيَيْن من الفريضة، أما في الركعتين الأُخْرَيين منها فإن المصلي على الخِيار إن شاء قرأها أو سكت. وهي واجبة في كل ركعات الوتر والسنة.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 13/723. (2) المزمل: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -2 - ضمُّ سورة إلى الفاتحة: والمراد قراءة سورة قصيرة أو ثلاث آيات قصار مع الفاتحة في ركعتين غير متعينتين من الفرض، وفي جميع ركعات الوتر والنفل، لأن كل شفع من النافلة صلاة على حدة والوتر كالنفل. ودليل ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (أُمِرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر) (1) ، والأمر للوجوب.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 136/818. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -3 - تعيين القراءة في الأوليين من الفرض: ودليل الوجوب: مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك من غير ترك، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين..) (1) . وما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن مسعود رضي الله عنه من تخيير المصلي في الركعتين الأخريين إن شاء قرأ وإن شاء سبَّح.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 34/154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -4 - تقديم الفاتحة على السورة: ووجه الوجوب مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ولو نسي فقرأ السورة أولاً، يقرأ الفاتحة ويعيد السورة ثم يسجد للسهو، كما لو كرر الفاتحة سهواً. -5 - ضم الأنف إلى الجبهة في أثناء السجود: للحديث المتقدم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده على أنفه) . ويجب أن يكون السجود على الجبة لا على الرأس. -6 - مراعاة الترتيب فيما بين السجدتين في كل ركعة: لحديث المسيء صلاته: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) . ويترتب على هذا: الإتيان بالسجدة الثانية بعد الأولى قبل الانتقال لغيرها من باقي أفعال الصلاة. ولو نسي سجدة من الركعة الأولى قضاها قبل التسليم ويعيد التشهد والقعود. -7 - الاطمئنان: وهو التعديل في الأركان بتسكين الجوارح (أي الأعضاء) في الركوع والسجود حتى تطمئن مفاصله ويستقر كل عضو في محله بقدر تسبيحة عند الإمام أبي حنيفة والإمام محمد لتكميل الركن (إذ ليس الاطمئنان سنة كما قال الجرجاني ولا فرضاً كما قال أبو يوسف) . ويجب الاطمئنان في الارتفاع من الركوع حتى يستتم قائماً، وفي القعود بين السجدتين حتى يستتم قاعداً، والدليل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته بالإِعادة لتركه الاطمئنان، والأمر يقتضي الوجوب. وليس المراد بالحديث البطلان بدليل ما روي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإذا انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك) (1) فقد سماها صلاة، والباطلة لا تسمى صلاة.   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 226/302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -8 - القعود الأول: ويكون بمقدار قراءة التشهد، وهو واجب في كل الصلوات سواء كانت فريضة أو واجبة أو نفلاً، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: التحيات لله) (1) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 215/289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -9 - التشهد في القعود الأول: ودليل وجوبه الحديث المتقدم، ولسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم للسهو حين قام للركعة الثالثة دون أن يقعد ويتشهد، فعن أبي بُحَيْنة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (صلى فقام في الركعتين فسبَّحوا فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم) (1) .   (1) النسائي: ج 2 / ص 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -10 - أن يقوم بعد التشهد مباشرة: فلو أبطأ قدر ركن وجب سجود السهو لتأخير القيام. لذا من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التحيات ساهياً وجب عليه سجود السهو، ومن صلى عامداً فالصلاة مكروهة كراهة تحريمية وقيل يسجد للسهو. -11 - التشهد في القعود الأخير: وصيغة التشهد كما وردت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفّي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن قال: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) (1) .   (1) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -12 - التسليم من الصلاة: بأن يقول المصلي: السلام عليكم، بقصد الخروج من الصلاة، والدليل على كونه واجباً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث - يعني الرجل - وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته) (1) ، وجمعاً مع الأحاديث الدالة على الفرضية فقد قيل بوجوب التسليم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (2) . ثم إن مواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على الوجوب. والواجب في التسليم هو التلفظ بالسلام دون عليكم.   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 3/408. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الطهارة باب 31/61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -13 - القنوت في الوتر والتكبير له. -14 - تكبيرات العيدين: وكل تكبيرة واجب على حدة يجب بتركها سجود السهو (1) . وتجب تكبيرة الركوع تبعاً للتكبيرات المتصلة بها في صلاة العيد في الركعة الثانية، أما في الصلاة العادية فالتكبير للهويِّ إلى الركوع سنة.   (1) الأَوْلى عدم سجود السهو في صلاة العيدين لئلا يشتبه على الناس لكثرتهم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -15 - تعيين لفظ التكبير لافتتاح كل صلاة: ويكره تحريماً افتتاحها بغير التكبير، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 35/756. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -16 - الجهر والإسرار فيما يجهر فيه أو يسر: والجهر (أن يُسْمِع غيره) واجب الإمام في صلاة الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، وصلاة العيدين، والجمعة، والتراويح، والوتر في رمضان. أما الإسرار (أن يُسْمِع نفسه) فهو واجب على الإمام والمنفرد في صلاة الظهر، والعصر، والثالثة من المغرب، والأُخْرَيَيْن من العشاء، وصلاة الكسوف والاستسقاء، وفي نفل النهار. أما المنفرد في الفرض فهو مخير في الصلوات الجهرية دون السرية، والأفضل له الجهر فيها. وكذا المتنفل بالليل، لما روي عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل أكان يسِرُّ بالقراءة أم يجهر؟ فقالت: (كل ذلك قد كان يفعل ربما أسرَّ بالقراءة وربما جهر) . فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة (1) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 330/449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -17 - متابعة المقتدي إمامه في الأركان الفعلية: فلو رفع المقتدي رأسه من الركوع أو السجود قبل إمامه ينبغي له أن يعود لتزول المخالفة ولا يصير ذلك تكراراً. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) (1) . ولو قام الإمام إلى الثالثة قبل أن يتم المقتدي التشهد فإنه يتمه ثم يقوم، لأن التشهد واجب فيتم الواجب الذي هو فيه ثم يتابع الإمام. أما في القراءة فلا يتابع المقتدي إمامه بل يستمع وينصت.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 23/656. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الفصل الرابع: سنن الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 السنة: هي الأقوال والأفعال التي يثاب فاعلها ولا يعاقب على تركها بل يعاتب ويلام. ولا يُلزم تاركها بسجود السهو. وتصح الصلاة إن تُركت، إما إن تعمد تركها ففيها كراهة. وسنن الصلاة هي: -1 - رفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين للرجل، لما روي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (قدمت المدينة فقلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبّر ورفع يديه حتى رأيت إبهاميه قريباً من أذنيه) (1) . وعن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود) (2) . أما المرأة فترفع يديها حذاء منكبيها فقط لأنه أستر لها. - والأصح أن يرفع يديه أولاً ثم يكبر. - ولا يسن الرفع (3) إلا في تكبيرة الافتتاح، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة) (4) . ولا ترفع اليدان عند الركوع، ولا في الرفع منه، ولا في تكبيرات الجنازة غير الأولى منها، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خَيْلٍ شُمس (5) ؟ اسكنوا في الصلاة) (6) . - ويسن في رفع اليدين: نشر الأصابع، فلا يفرق بينها ولا يضمها بل يتركها على حالها منشورة. - وأن يستقبل المصلي القبلة ببطون يديه. - وأن يعدل عند ابتداء التحريمة وانتهائها من غير طأطأة رأس. - وأن يكون رفع اليدين والإحرام من المقتدي مقارناً لإحرام الإمام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا..) (7) على أن لا يسبق انتهاء تكبير المقتدي تكبير الإمام. وعند الصاحبين: الفاء للتعقيب ويكون إحرام المقتدي بعد إحرام الإمام.   (1) النسائي: ج 2 / ص 211. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 119/749. (3) ترفع الأيدي في المواضع التالية: افتتاح الصلاة، التكبير للقنوت في الوتر، تكبيرات العيدين، عند استلام الحجر، عند الصفا والمروة، بجُمع مزدلفة وعرفات للدعاء، عند المقامين، عند الجمرتين. (4) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 191/257. (5) الخَيل الشُّمْس: جمع شَمُوس: وهو النَّفُور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحِدَّته. (6) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 27/119. (7) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 20/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -2 - وضع اليد اليمنى فوق اليسرى، والرجل يضع يديه تحت السرّة ويجعل باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى محلقاً بالخنصر والإبهام على الرسغ ويبسط أصابعه الثلاث على ذراعه، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: "من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة" (1) . وتضع المرأة الكف على الكف (من غير تحليق) على صدرها.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 12/756. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -3 - قراءة دعاء الثناء أو الاستفتاح، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدّك، ولا إله غيرك) (1) ، ولا يقول "وجلّ ثناؤك" إلا في صلاة الجنازة. أما دعاء التوجه فهو غير وارد عندنا، ولا مانع من الجمع بين الثناء والتوجّه في النافلة. ولا يقرأ دعاء المقتدي دعاء الثناء إذا بدأ الإمام بالفاتحة في الصلاة الجهرية، لأن إنصاته واستماعه للفاتحة واجب وقراءة الدعاء سنة. أما في الصلاة السرية فيقرأه.   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 179/243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -4 - التعوذ قبل التلاوة: وهو سنة للمصلي سواء كان إماماً أو منفرداً، لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (1) ، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبَّر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدّك ولا إله غيرك. ثم يقول: الله أكبر كبيراً. ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونَفْثه) (2) . أما المقتدي فلا يتعوذ عند الإمام أبي حنيفة ومحمد، لأنه للقراءة والمقتدي لا يقرأ خلف الإمام، وعند أبي يوسف يتعوذ لدفع وساوس الشيطان؛ والتعوذ عنده تبعاً للصلاة فلا يسن للمصلي إلا عند الركعة الأولى.   (1) النحل: 98. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 179/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -5 - البسملة سراً سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية: وهي سنة في الصلاة أول الفاتحة وأول كل سورة في القرآن. والبسملة آية من القرآن وليست جزءاً من الفاتحة بل نزلت للفصل بين السور، فعن أنس رضي الله عنه قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) (1) .   (1) النسائي: ج 1 / ص 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -6 - التأمين: وهو قول: آمين بعد قراءة الفاتحة، ومعناه: اللهم استجب. وهو سنة للإمام والمقتدي والمنفرد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) (1) . ويكون التأمين سراً مطلقاً سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: "أربع يخفيهن الإمام: التعوذ والتسمية والتأمين والتحميد". ويُسن للإمام الجهر بالتكبير والتسميع والسلام.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 18/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -7 - التحميد والتسميع: وهو سنة للمنفرد والمقتدي والإمام عند أبي يوسف ومحمد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمد. فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد. فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) (1) . ويجهر الإمام بالتكبير والتسميع ويُسِرّ بالتحميد، أما المنفرد فيسرّ بهما، ويأتي المقتدي بالتحميد فقط. أما المبلّغ فإن لم يكن له ضرورة فبدعة منكرة، وإن كان له ضرورة لكبر المسجد أو ضعف صوت الإمام فمستحب ليعلم المصلّين بانتقالات الإمام. ويجب أن يجمع الإمام والمبلغ في تكبيرة الإحرام نية افتتاح الصلاة مع نية الإعلام ولا يقتصرا على نية الإعلام، وإلا فلا صلاة لهما - إذا قصدا الإعلام فقط - ولا لمن يتبعهما من القوم لأنه اقتداء بمن لم يدخل في الصلاة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 18/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -8 - تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع لأنه أقرب إلى الخشوع، والتراوح أفضل من نصب القدمين، وهو أن يعتمد على قدم مرة وعلى الأخرى مرة أخرى لأنه أيسر لطول القيام. -9 - أن تكون السورة المضمومة إلى الفاتحة من طوال المفصَّل (1) في الفجر والظهر، ومن أوساطه (2) في العصر والعشاء، ومن قصاره (3) في المغرب. بدليل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان لرجل كان أميراً على المدينة قال سليمان وصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر، ويقرأ في الركعتين الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الركعتين الأوليين من العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل) (4) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان) (5) . ومن هنا تُقدر القراءة بالفجر ما بين أربعين إلى مائة آية، ونحو (15 - 20) آية في العصر والعشاء، وخمس آيات في كل ركعة من ركعات المغرب. ويلاحظ ما يلي: أ - مراعاة التوفيق بين هذه السنة وحال المصلين ما أمكن كي لا يشق عليهم. ب - عدم التزام سور بعينها خشية اعتقاد الجَهلة فرضيتها. جـ - مراعاة التخفيف في حالات السفر والضرورات. ودليل ذلك ما روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان. مما يطيل بنا. فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشدّ مما غضب يومئذ. فقال: (يا أيها الناس إن منكم مُنَفِّرين. فأيكم أمَّ الناس فليوجز. فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) (6) . د - يجوز تكرار السورة في الركعتين من الصلاة، لما روي عن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم (يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض. في الركعتين كلتيهما) (7) . ولكن يكره تكرار السورة إن حفظ غيرها والكراهة تنزيهية.   (1) من سورة الحجرات إلى البروج. (2) أواسط المفصل: من البروج إلى البينة. (3) قصار المفصل: من البينة إلى آخر القرآن. (4) البيهقي: ج 2 / ص 388. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 6/823. (6) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 37/182. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 134/816. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -10 - تطويل الركعة الأولى عن الثانية وخاصة في صلاة الفجر، وذلك لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيطيل في الركعة الأولى من الظهر ويقصر في الثانية. وكذلك في الصبح) (1) . ويقدر بالثلثين في الأولى والثلث في الثانية، وإن كثر التفاوت فلا بأس. ويكره تطويل الثانية على الأولى، ولا عبرة للزيادة والنقصان دون ثلاث آيات لعدم إمكان الاحتراز عنه.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 5/819. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -11 - التكبير عند الركوع وعند كل رفع وخفض، إلا الرفع من الركوع فإنه يسّمع ولا يكبر، وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبّر في كلّ خفضٍ ورفع وقيام وقعود وأبو بكر وعمر) (1) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 188/253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -12 - سنن الركوع: يسن في الركوع الأمور التالية: أ - أخذ الركبتين باليدين والتفريج بين الأصابع ورفع اليدين عن الجنبين، أما المرأة فلا تفرج لأن حالها مبني على الستر، ثبت هذا في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنس إذا ركعت فأمكن كفيك من ركبتيك، وفرّج بين أصابعك، وارفع مرفقيك عن جنبيك) (1) . ب - بسط الظهر، لما روي عن البراء رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع بسط ظهره، وإذا سجد وجَّه أصابعه قِبَل القبلة) (2) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى فلو صُبَّ على ظهره الماء لاستقر) (3) . جـ - تسوية الرأس بالعجز أثناء الركوع، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يُشْخِصْ رأسه ولم يُصَوِّبه (4) ولكن بين ذلك) (5) . د - نصب الساقين لأنه متوارث. وإحناؤهما شبه القوس مكروه. هـ - التسبيح في الركوع، بأن يقول: سبحان ربي العظيم، لما روي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: لما نزلت: {فسبح باسم ربك العظيم} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم) . فلما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) (6) . وأدنى التسبيح ثلاث مرات، والأفضل أن يزيد موتراً، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثاً وذلك أدناه) (7) . ولا يأتي في الركوع والسجود بغير التسبيح، أما الدعاء في التهجد. و القيام من الركوع مطمئناً، لما روي عن ثابت قال: "كان أنس ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي" (8) . ز - التسميع والتحميد بعد الركوع.   (1) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 271. (2) البيهقي: ج 2 / ص 113. (3) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 123. (4) لم يشخص رأسه ولم يصوبه: الإشخاص هو الرفع. ولم يصوّبه: أي يخفضه خفضاً بليغاً، بل يعدل فيه بين الإشخاص والتصويب. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 46/240. (6) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 20/887. (7) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 154/886. (8) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 43/767. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -13 - وضع الركبتين ابتداء على الأرض ثم اليدين ثم الوجه عند النزول للسجود، ويسن عكسه عند القيام من السجود، أي يرفع وجهه أولاً ثم يديه ثم ركبتيه، إذا لم يكن به عذر. بدليل ما روي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (1) . ويسن في السجود الأمور التالية: أ - وضع الوجه بين الكفين، لما روي عن وائل بن حجر رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما سجد، سجد بين كفيه) (2) ، وعن أبي حميد رضي الله عنه قال: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه قال: (ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه) (3) . وبه قال الشافعي رضي الله عنه، وقال بعض محققي الأحناف بالجمع بين الوضعين مرة ومرة. ب - توجيه الأصابع نحو القبلة، وذلك بضمّ أصابع اليدين ونشرها وبسطها مستقبلاً بها القبلة، ونشر أصابع الرجلين مستقبلاً بأطرافها ورؤوسها القبلة. لما روي في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: (إذا سجد وضع يديه غير مفترش (4) ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) (5) . جـ - التخوية للرجال: والتخوية: هي التفريق بين الركبتين ومجافاة المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين، ودليل ذلك ما روي عن ميمونة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سجد لو شاءت بَهْمة أن تمر بين يديه لمرّت) (6) ، وعن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجد يُجَنِّحُ (7) في سجوده حتى يُرى وضَح إبطيه) (8) . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعتدلوا في السجود ولا يبسِط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (9) . د - التطامن للنساء، وهو الانضمام. ويتحقق بلصق البطن بالفخذين وضمّ الضَّبْعَيْن (10) ، ذلك لأنه أستر لهن وأحوط، ولما روي عن يزيد بن أبي حسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين تصليان فقال: (إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل) (11) . هـ - التسبيح في السجود، وقد ذُكرت أدلته في الركوع.   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 199/268. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 15/54. (3) البيهقي: ج 2 / ص 102. (4) الافتراش: بَسْط الذراعين في السجود. (5) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 61/794. (6) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 46/237، والبهمة: ولد الضأن ذكراً كان أو أنثى. (7) التّجنح والاجتناح: أن يرفع المصلي ساعديه في السجود عن الأرض ولا يفترشهما، ويجافيهما عن جانبيه ويعتمد على كفّيه فيصيران له مثل جَناحي الطائر. (8) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 46/236. ووضح إبطيه إي بياضهما. (9) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 46/233. (10) الضَّبْع: بسكون الباء: ما بين الإبط إلى نصف العَضد من أعلاه. (11) البيهقي: ج 2 / ص 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -14 - الرفع من السجود، والاعتدال فيه بالاطمئنان. والرفع بمعنى الانتقال فرض، والاطمئنان في القعود واجب، وإتمام الرفع إلى القعود هو السنة. -15 - افتراش الرجل رجله اليسرى ونصبه اليمنى وتوجيه أصابعها نحو القبلة، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: "من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى" (1) . أما المرأة فتتورَّك، وذلك بأن تجلس على إليتها وتضع الفخذ على الفخذ وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها الأيمن، لأنه أستر لها.   (1) النسائي: ج 2 / ص 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -16 - وضع اليدين على الفخذين فيما بين السجدتين وعند التشهد، بأن توضع اليدان مبسوطتين منشورتين والأصابع نحو القبلة. لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى) (1) .   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 186/987. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -17 - عقد أصابع اليد اليمنى عند الإشارة بالمسبحّة، للحديث المتقدم، بأن يرفع إصبعه السبابة ويحنيها قليلاً ليؤكد نفي الألوهية عن غير الله عند قوله: "لا إله إلا الله"، ويضعها عند الإثبات أي إثبات الألوهية له وحده. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يحرك الحصى بيده وهو في الصلاة فلما انصرف قال له عبد الله لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة فإن ذلك من الشيطان ولكن اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال وكيف كان يصنع قال: (فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأُصبْعه التي تلي الإبهام في القبلة ورمى ببصره إليها أو نحوها ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع) (1) .   (1) النسائي: ج 2 / ص 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -18 - يسن الإسرار بقراءة التشهد. -19 - قراءة الفاتحة في الركعتين الأُخريين من الفريضة، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة. ويسمعنا الآية أحياناً. ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) (1) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 34/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -20 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير، وصيغته كما وردت في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن سأله عن ذلك: (قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) (1) . والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر مرة، وهي واجب كلما ذكر اسمه لوجود سبب الوجوب.   (1) حاشية الإمام السندي بذيل سنن النسائي: ج 3 / ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -21 - الدعاء بالمأثور بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لما روي عن نضلة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد بما شاء) (1) ، وعن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد أن ذكر صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء بعدُ أعجبه إليه يدعو به) (2) . ويشترط أن يكون الدعاء بالمأثور أو من ألفاظ القرآن الكريم، لما روي عن معاوية بن حكم السُلَّمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) (3) . ومن الأدعية الواردة في القرآن: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (4) ، {ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} (5) . ومن المأثورات من السنة: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء. كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم. ونعوذ بك من عذاب القبر. ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات) (6) . وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم) (7) .   (1) الترمذي: ج 5 / كتاب الدعوات باب 65/3477. (2) النسائي: ج 3 / ص 50. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 7/33. (4) البقرة: 201. (5) آل عمران: 8. (6) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 25/134. (7) النسائي: ج 3 / ص 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -22 - الالتفات يميناً ثم يساراً بالتسليمتين، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله متى يرى بياض خده الأيمن. وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر) (1) ، ولا ينقص من صيغة السلام وإلا أساء لتركه السنة. ولا يقول: وبركاته لأنها بدعة.   (1) النسائي: ج 3 / ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -23 - النية في السلام، بأن ينوي الإمام السلام على المقتدين به ممن هم عن يمينه ويساره والملائكة والإنس والجن والحَفَظة، أما المقتدي فينوي بالتسليمتين السلام على إمامه والقوم والحفظة وصالح الجن، لحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا وأن يسلّم بعضنا على بعض) (1) . وأما المنفرد فينوي السلام على الملائكة فقط. ومن سنن السلام: أ - خفض الصوت في التسليمة الثانية والجهر بالأولى. ب - مقارنة سلام المقتدي لسلام الإمام، وعند الصاحبين يسن أن يسلم المقتدي بعد انتهاء سلام الإمام. جـ - البداءة باليمين. د - انتظار المسبوق فراغ الإمام من التسليمتين حتى يعلم أنه لا سهو عليه ثم يقوم لقضاء ما فاته.   (1) ابن ماجه: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 30/922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 -24 - يسن بعد الصلاة قراءة أذكار واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأذكار: ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (1) . وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور من الأموال بالدرجات العُلا والنعيم والمقيم: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون. قال: (ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به، أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه، إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتَحْمدون وتكبرون خلف كل صلاته ثلاثاً وثلاثين) (2) . ولا ينافي أمره صلى الله عليه وسلم المسلمين بالأذكار في دبر كل صلاة، الاشتغال بالسنة أولاً ثم بالأذكار، ولو سبح عِقب السنة لكان في دبر الصلاة. ويكره القعود عقب كل فريضة بعدها سنة مؤكدة حتى يؤدي السنة ثم يشتغل بالأذكار، إلا أنه يستحب الفصل بينهما بمقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، ثم يقوم إلى السنة، وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم، لم يقعد. إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام. تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (3) . فلا ينبغي للمصلي أن يزيد عليه أو على قدره. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين الفرض والسنة بالأذكار التي أمر المسلمين بها، إلا في المغرب؛ فكان لا يقوم بعد المغرب حتى يقول وهو ثانٍ رجلَه: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . وذلك لما روي عن عبد الرحمن بن غنم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب يدركه إلا الشرك، فكان أفضل الناس عملاً إلا رجلاً يفضله، يقول أفضل مما قال) (4) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 71/808. (2) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 71/807. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 26/136. (4) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل الخامس: آداب الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الأدب لغة: ملكة تعصم من قامت به مما يَشِينه، أو هو حسن الأخلاق وفعل المكارم. شرعاً: هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه، كزيادة التسبيحات. وقد شرع الأدب لإكمال السنة، أي هو من المستحبات. وآداب الصلاة هي: -1 - إخراج الرجل كفّيه من كمّيه عند التكبير للإحرام، لأنه أقرب إلى التواضع، إلا لضرورة كبرد. أما المرأة فتستر كفيها حذراً من كشف ذراعيها. -2 - تحديد نظر المصلي لإتمام الخضوع، بأن ينظر إلى موضع سجوده قائماً وإلى ظاهر قدميه راكعاً إلى أرنبة أنفه ساجداً وإلى حِجره جالساً وإلى منكبيه مسلماً ملاحظاً قوله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه -: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (1) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الإيمان باب 1/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 -3 - دفع السُّعال ما استطاع تحرزاً من المفسد، فإنه إذا كان بغير عذر يفسد أي إذا حصل به حروف، وكذا الجُشَاء (1) .   (1) الجُشَاء والتَّجشُّؤ: تنفُّس المعدة عند الامتلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 -4 - كظم الفم عند التثاؤب، فإن لم يقدر غطاه بكفه أو كمه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) (1) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 273/370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 -5 - قيام الإمام والمصلين عند قول المقيم: "حي على الفلاح"، لأنه أمرٌ أُمِر به فيُجاب. -6 - شروع الإمام عند قوله: "قد قامت الصلاة" عند الإمام، وعند الصاحبين متى فرغ من الإقامة. -7 - يستحب للمصلي أن يغرز سترة أمامه (1) ، وذلك لما روي عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم) (2) . والحكمة من السترة: أ - كف بصر المصلي عما وراءها وجمع خاطره كي يحصل له الخشوع. ب - لكي يمر من أراد المرور فلا يحجز على الناس طريقهم، وذلك لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطاً ثم لا يضره ما مر أمامه) (3) .   (1) هو واجب عند الإمام أحمد. (2) مسند الإمام أحمد: ج 3 / ص 404. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 103/689. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 حكم المرور بين يدي المصلي: يحرم المرور بين المصلي والسترة، كما يحرم المرور بين يدي المصلي لو لم ينصب سترة، وذلك لحديث أبي جهم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) (1) . أما بعد السترة فيصح المرور للحديث المتقدم (ثم لا يضره ما مرّ أمامه) . ولا يفسد صلاة من مرّ من موضع سجوده مار بل يأثم المار إن كان مكلفاً. ولو كان المصلي في الصحراء أو في مسجد كبير فالإثم هو في المرور في موضع سجوده. أما في المسجد الصغير فلا يجوز المرور إلا من بعد السترة، أو ينتظر حتى يفرغ المصلي. ويقسم الإثم على المرور بين يدي المصلي إلى ثلاثة أحوال: (1) - الإثم على المار فقط إن كان المصلي يصلي جماعة وكان مسبوقاً فقام يتم صلاته وهو واقف بالخلف بعيداً عن القبلة. (2) - الإثم على المصلي إن وقف بدون ساتر، وكان المار مضطراً ولم يجد إلا أن يمر من أمام المصلي. (3) - الإثم عليهما معاً إن وقف المصلي في مكان وسط، وكان بإمكانه أن يتقدم إلى الساتر وبإمكان المار أن يمر خلفه.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 48/261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 شروط السترة وما يسن فيها: -1 - إن كان هناك جدار فالأفضل أن يستتر به ليترك مجالاً للمارة فلا يقطع على الناس طريقهم. -2 - أن يكون الساتر سهماً بطول ذراع وليس في ثخنه دليل، وقيل: يكفي ثخن الإصبع. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي؟ فقال: (مثل مؤخرة الرَّحل) (1) ، وهي قدر عظم الذراع. -3 - يسن أن يقترب من السترة ما استطاع، لما روي عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى السترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) (2) . -4 - أن يجعل السترة على أحد حاجبيه فلا يَصمد (3) إليها صمداً بل يميل عنها. -5 - أن يخط خطاً إن لم يجد سترة، ولا يكفي حد السجادة الطاهرة على الأرض. -6 - أن يغرز السترة أمامه طولاً أو عرضاً كالهلال، أو يطرح السَّوط بين يديه طرحاً. وتعتبر سترة الإمام سترة لمن خلفه. -7 - يستحب للمصلي، سواء اتخذ سترة أم لم يتخذ، أن يترك دفع المار بين يديه، لأن الأصل في الصلاة السكون، ولأن المصلي إن اتخذ سترة لا يضرّه من مرّ بين يديه إنما الإثم على المار. ورخص دفعه بالإشارة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بولد أم سلمة رضي الله عنها، إذ قام إليه ولدها عميرة وهو يصلي في بيتها فأشار إليه أن قف فوقف. أو دفعه بالتسبيح، لما روي عن سهل بن سعد رضي لله عنه ن لنبي صلى الله عليه وسلم قل: (إذ نابكم شيء في الصلاة فليسبّح الرجال وليصفح النساء) (4) ، ولا يجمع بين الإشارة والتسبيح. أو دفعه برفع الصوت في القراءة. أما المرأة فتدفعه بالإشارة أو التصفيق للحديث المذكور. وأما الأمر بمقاتلة المار بين يدي المصلي، كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) (5) ، فإنه منسوخ بتحريم العمل الكثير في الصلاة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 47/243. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 107/695. (3) صَمَد: قصد. (4) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 173/941. (5) البخاري: ج 1 / كتاب سترة المصلي باب 10/487 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الفصل السادس: مكروهات الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الكراهة لغة: ضد الحبّ. وشرعاً: ما كان تركه أولى من فعله. وكل صلاة أديت مع الكراهة التحريمية تعاد وجوباً، ومع الكراهة التنزيهية تعاد استحباباً. ويؤوَّل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي بعد صلاة مثلها) أنه نهي عن الإعادة بسبب الوسوسة لا بسبب الكراهة. ومكروهات الصلاة هي: -1 - يكره ترك واجب أو سنة عمداً، فمثلاً: متابعة الإمام في الصلاة واجبة، فإذا سبق المصلي الإمام تكون الكراهة تحريمية لما ورد فيها من الوعيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما يخشى أحدكم، إذا رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 25/659. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -2 - يكره العبث بالثوب أو الأصابع أثناء الصلاة، لأنه مناف للخشوع الذي هو حضور القلب وتسكين الجوارح والمحافظة على الأركان، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى كره لكم ستاً: العبث في الصلاة، والمنّ في الصدقة، والرفث في الصيام، والضحك عند القبور، ودخول المساجد وأنتم جنب، وإدخال العيون البيوت بغير إذن) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: (لو خشع قلبه خشعت جوارحه) (2) . ويندرج تحت هذا أمور: أ - مسح الجبهة من نحو تراب أو حشيش أثناء الصلاة، أما بعد الصلاة فلا بأس به. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته) (3) . ب - قلب الحصا إلا للسجود وتركه أولى، فعن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: (إن كنت فاعلاً فواحدة) (4) . جـ - فرقعة الأصابع، لحديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة) (5) . د - تشبيك الأصابع، لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) (6) ، وعن نافع سئل عن الرجل يصلي وهو مشبك يده قال: قال ابن عمر: "تلك صلاة المغضوب عليهم" (7) . هـ - التخصر في الصلاة، لما روي عن زياد بن صُبيح الحنفي قال: "صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي. فلما صلى قال: هذا الصُّلب في الصلب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه" (8) . ولا يكره للمصلي أن يشد وسطه على سبيل التستر.   (1) الفتح الكبير: ج 1 / ص 342، عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً لسعيد بن منصور في سننه. (2) الفتح الكبير: ج 3 / ص 44. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 42/964. (4) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 12/49. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 42/965. (6) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 42/967. (7) البيهقي: ج 2 / ص 289. (8) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 160/903، وهيأة الصلب في الصلاة أن يضع يديه على خاصرتيه ويجافي بين عضديه في القيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -3 - يكره الالتفات بالعنق، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) . أما الالتفات بالعين فلا كراهة فيه.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 11/718. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -4 - يكره البصاق في المسجد مطلقاً، إلا على منديل، لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) (1) . ويجوز أن يبصق تحت قدمه اليسرى إن كان خارج المسجد، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فيدفنها) (2) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب المساجد باب 5/405. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الصلاة باب 6/406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -5 - يكره ترك سنة التورك والافتراش في القعود، ويكره الإقْعاء والتربُّع، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: نهاني عن الالتفات، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الديك) (1) .   (1) مسند الإمام أحمد: ج 2 / ص 265، والإقعاء: أقعى الرّجل في جلوسه: تساند إلى ما وراءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -6 - يكره افتراش الذراعين، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع" (1) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 46/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -7 - تكره الصلاة في السراويل مع القدرة على غيرها، إذ يكره تحريماً لبس ما يحدد حجم العورة في الصلاة. كما يكره تشمير الكمين للرجل وسدل الثوب والاشتمال (1) بالثوب اشتمال اليهود، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) (2) ، وعن نافع بن عبد الله ولا يرى نافع إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله عز وجل أحق أن يزين له، فإن لم يكن له ثوبان فليأتزر إذا صلى ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود) (3) . ويكره كشف أحد الكتفين وكشف الرأس لترك الوقار، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً) (4) . ولا يكره نفض الثوب حتى لا تلتصق بالجسد في الركوع تحاشياً عن ظهور حجم العورة.   (1) السدل: إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، والاشتمال: الاندراج بالثوب بحيث لا يترك فتحة يخرج يديه. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 86/643. (3) البيهقي: ج 2 / ص 236. (4) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 44/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -8 - يكره عَقص (1) الشعر للرجل لا للمرأة، لما روي عن أبي رافع قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره) (2) .   (1) العَقْص: أن تَلْوي الخُصْلة من الشعر ثم تَعْقِدها ثم تُرْسِلها. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 67/1042. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -9 - يكره التّلثُّم (1) للرجل والتنقُّب للمرأة (2) حتى لا يتشبه بالمجوس.   (1) التّلثُّم: اللثام: ما كان على الأنف وما حوله من ثوب أو نِقاب. (2) التنقُّب: النِقّاب: القِناع تجعله المرأة على مارِن أنفها وتستر به وجهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -10 - يكره رد السلام بالإشارة، ولا بأس للمصلي أن يجيب برأسه لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما قدمت من الحبشة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ برأسه) (1) . وإذا كلمه أحد وهو يصلي لا تفسد صلاته.   (1) البيهقي: ج 2 / ص 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -11 - تكره القراءة في غير حال القيام كأن يتم القراءة حال الركوع أو يأتي بالأذكار أثناء الانتقالات. -12 - يكره تطويل الركعة الثانية عن الأولى. -13 - يكره تكرار السورة في ركعة واحدة من الفرض أو في ركعتين، أما في النفل فلا بأس لأن باب النوافل أوسع. -14 - يكره عدم القراءة على ترتيب المصحف وتواليه، لقول ابن مسعود رضي الله عنهما "من قرأ القرآن منكوساً فهو منكوس". فلو قرأ {قل أعوذ برب الناس} في الركعة الأولى يعيدها في الركعة الثانية أو يقرأ من سورة البقرة. -15 - يكره تحويل أصابع قدمه عن القبلة في السجود. -16 - يكره التثاؤب وإن غلبه فليكظم ما استطاع، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العُطَاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال ها ضحك منه الشيطان) (1) .   (1) البخاري: ج 5 / كتاب الأدب باب 125/5869. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -17 - يكره تغميض العينين، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه) (1) ، إلا إذا كان لمصلحة الصلاة كتجنب ضجة الآخرين.   (1) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -18 - يكره النظر إلى السماء ولو في دعاء القنوت، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (ليَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم) (1) ، لأنه يُفوِّت النظر إلى المحل المندوب، ولكل عضو حظه من الصلاة.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب صفة الصلاة باب 10/717. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -19 - يكره التمطّي أو التكاسل وكل عمل قليل. -20 - يكره السجود على كور عمامته لغير ضرورة من حرّ أو برد. -21 - يكره السجود على صورة إنسان أو حيوان. ووجود الصور في الغرفة يمنع دخول ملائكة الرحمة، أما الحفظة فإنهم مع الإنسان دائماً إلا في الخلاء، ودليل ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استأذن جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل، فقال: كيف أدخل وفي بيتك سِتْر فيه تصاوير، فإما أن تُقطع رؤوسها أو تجعل بساطاً يوطأ، فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه تصاوير) (1) . فلا تكره الصلاة على بساط فيه تصاوير في غير موضع السجود.   (1) النسائي: ج 1 / ص 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -22 - يكره لبس ثياب فيها تصاوير ذات روح، وأن يكون فوق رأسه أو خلفه أو بين يديه صورة حيوان. أما إذا كانت الصورة صغيرة لا تبدو إلا بتأمل كالتي على الدنانير فلا كراهة في ذلك. لذا تجوز صلاة من معه دراهم عليها صورة ملك. كذلك تجوز الصلاة إن كانت الصورة كبيرة مقطوعة الرأس أو صورة لغير ذي روح كالشجر. -23 - يكره الاقتصار على الجبهة في السجود بلا عذر، وهو كراهة تحريمية لترك الواجب. -24 - ما يكره لأجل المحل: أ - تكره الصلاة في الطريق وفي الحمام وفي المقبرة، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله) (1) . ب - تكره الصلاة في أرض الغير إلا أن أذن. جـ - تكره الصلاة في الأرض المغصوبة. ولا تكره الصلاة على لبْد (2) أو سجاد، والأفضل أن يصلي على الأرض أو ما هو من جنسها كالحصير. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة) (3) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير) (4) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 258/346. (2) اللِّبْد: البساط من صوف. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 246/331، والخُمرة: شبيهة بالسجادة الصغيرة. (4) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 247/332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -25 - تكره الصلاة حاقناً أو حاقباً أو حاذقاً (1) ، لما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يصلي الرجل وهو حاقن) (2) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة الطعام وهو يدافعه الأخبثان) (3) وعليه الإعادة إلا إذا خاف فوت الجماعة أو فوت الوقت.   (1) الحاقن: أحقن بوله: إذا حَبَسه. فالحاقن في البول، والحاقب في الغائط، والحازق في الريح. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الطهارة باب 114/617. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 16/67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -26 - تكره الصلاة في ثياب البِذْلة، لما روي عن نافع قال: "رآني ابن عمر وأنا أصلي في ثوب واحد. فقال: ألم أكسك. قلت: بلى. قال: فلو بعثتك كنت تذهب هكذا؟ قلت: لا. قال: فالله أحق أن تزين له" (1) .   (1) البيهقي: ج 2 / ص 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -27 - تكره الصلاة بحضرة طعام تتوق إليه نفسه، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع عَشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدَؤُا بالعَشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 14/642. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -28 - يكره عدّ الآي أو التسبيح باليد خلافاً للصاحبين. ولا مانع من غمز الأنامل بمحلها ولا الإحصاء في القلب خاصة في صلاة التسابيح. ولا يكره العد خارج الصلاة، أما عد الآيات باللسان في الصلاة فهو مفسد. -29 - يكره قيام الإمام بجملته في المحراب، أو قيامه في مكان عال قدر ذراع، أو أن يكون المصلون أعلى منه. وتنتفي الكراهة بقيام واحد معه. -30 - يكره القيام خلف صف فيه فرجة، إذ يجب سد الفرجة أولاً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وملائكته عليهم السلام يُصلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة) (1) .   (1) مسند الإمام أحمد: ج 6 / ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -31 - تكره الصلاة أمام نار تشتعل لما فيه من التشبه بعبادة المجوس. كما تكره صلاة المكلف وأمامه ناس قيام. -32 - يكره تعيين سورة غير الفاتحة في الفرض لأنه مخالف للسنة، أما الفاتحة فقد تعينت بوجوبها. ويجوز التعيين فيما وردت فيه السنة كالسجدة والدهر في فريضة الفجر يوم الجمعة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان) (1) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجمعة باب 9/851. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -33 - يكره ترك اتخاذ سترة أمام المصلي. ما يجوز قطع الصلاة لأجله: -1 - يجوز قطع الصلاة إذا شعر المصلي أن سارقاً يهمّ بسرقة ماله ولو درهماً، لما روي عن مخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقاتل حتى تحرز مالك أو تقتل فتكون في شهداء الآخرة) (1) .   (1) مسند الإمام أحمد: ج 5 / ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 -2 - يجوز قطع الصلاة لإنقاذ أعمى خاف عليه أن يتردى في هاوية وهو لا يعلم، أو خاف على ولد أن يسقط أو غير ذلك. -3 - يجب قطع الصلاة لإغاثة ملهوف إذا استغاث بالمصلي وقدر على مساعدته ودرء الخطر عنه، لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد قدم حق العبد، لأن العبد فقير والله غني. مثلاً: اضطرار الطبيب إلى إجراء عملية جراحية مستعجلة لمريض، وخوفه عليه الضرر، هذا يجيز له قطع الصلاة أو تأخيرها، وكذا حالة القابلة إن خشيت الأذى على الوليد أو أمه. -4 - لا يجوز قطع الابن لصلاة الفرض إن ناداه أبواه، أما في النافلة فيجيب أبويه إن كانا لا يعلمان أنه في الصلاة، وإلا فلا يجيبهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الفصل السابع: مفسدات الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفساد لغة: ضد الصلاح. شرعاً: وصف غير صحيح في العبادة والمفسدات مرادفة للمبطلات في العبادات، والفساد في العبادات يفيد البطلان وهو خروج العبادة عن كونها عبادة. أما الفساد في المعاملات فهو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه فيمكن تصحيحه. فالفاسد غير الباطل في المعاملات، وفي العبادات لا فرق بين الفاسد والباطل بل كل تجب إعادته، فإذا فسدت الصلاة وجب إعادتها في الوقت أو قضاؤها بعد الوقت. ومفسدات الصلاة هي: -1 - الكلام: وهو النطق بحرفين ولو لم يُفهما، أو بحرف واحد مفهم، سواء كان النطق سهواً أو عمداً أو خطأ، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله! كنا نسلّم عليك في الصلاة فتردّ علينا. فقال: إن في الصلاة شُغلاً) (1) ، وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يُحدث من أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أنه لا يُتكلم في الصلاة) (2) . ويترتب على تحريم الكلام في الصلاة: أ - يفسد الصلاة الدعاء بما يشبه كلام الناس مما ليس في قرآن ولا سنة ويمكن طلبه من الناس، فعن معاوية بن الحكم السلّمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) (3) . ب - يفسد الصلاة السلام بنية التحية ولو سهواً، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. فبعثني في حاجة. فرجعت وهو يصلي على راحلته. ووجهه على غير القبلة. فسلّمت عليه فلم يردّ عليّ. فلما انصرف قال: (إنه لم يمنعني أن أردّ عليك إلا أني كنت أصلي) (4) . أما لفظ السلام بغير نية التحية فلا يفسد الصلاة سهواً، لأنه من جنسها، كما لو ظن أنه أتم الصلاة فسلم ثم تبين له أنه لم يتمها فلا فساد. وأما إذا سلم على رأس الركعتين من الرباعية ساهياً ظاناً أنها الفجر أو أنه مسافر أو أن فرضه ركعتان فقد فسدت صلاته. جـ - يفسد الصلاة التنحنح والتأفيف (5) والأنين إلا إذا كان خوف النار. د - يفسد الصلاة كل كلام كان ذكراً إذا قصد به جواب سؤال كقوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 7/34. (2) النسائي: ج 3 / ص 19. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 7/33. (4) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 7/38. (5) التنحنح: تردُّد الصوت في الصدر، والتأفيف: أن يقول أف أو تف لنفخ التراب أو التضجر. وقيل أف اسم لوسخ الأظافر أو الأذن وتف اسم لوسخ البراجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 -2 - العمل الكثير المتوالي على أن لا يكون من نوع أعمال الصلاة كزيادة ركوع فإنه عمل كثير غير مفسد، ولا بقصد إصلاح الصلاة كالمشي للوضوء لسبق حدث فإنه لا يفسد. وقيد بعضهم الكثير بثلاث حركات متواليات. ولا يبطل الصلاة قتل السبع الفواسق لعموم أذاها (1) إذا كان بعمل قليل.   (1) ورد في السبعينات لأبي الليث السمرقندي: سبعة إذا رآها المصلي لا بأس بقتلها: الحية والعقرب والوزغة والزنبور والقراد والبرغوث والقمل، ولو بعمل كثير وانحراف عن القبلة. لكن هذا لا يعني عدم الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 -3 - تحويل الصدر عن القبلة إلا لمن سبقه حدث. -4 - الأكل والشرب سواء كان ناسياً أو عامداً. ولو ابتلع شيئاً كان بين أسنانه فلا يفسد صلاته إلا إذا زاد عن مقدار الحمصة. -5 - رؤية المتيمم الماء قبل التشهد توجب عليه إعادة الصلاة، وكذل سقوط الجبيرة عن برء أثناء الصلاة، وزوال عذر صاحب العذر قبل إتمام صلاته، وتمام مدة المسح على الخف أو نزعه قبل القعود الأخير قدر التشهد، ووجدان العاري ما يستر عورته، وقدرة العاجز على الركوع والسجود. -6 - تذكر فائتة لذي الترتيب، لأن الأصل أن يصلي الفوائت بالترتيب إن كانت دون خمس صلوات، فإذا صارت ستاً سقط الترتيب. -7 - طلوع الشمس أو زوالها أثناء الصلاة: فطلوع الشمس في صلاة الفجر، وزوالها في صلاة العيدين، ودخول وقت العصر في صلاة الجمعة، مفسد للصلاة. -8 - انكشاف العورة قدر أداء ركن، أو وقوع نجاسة مانعة من صحة الصلاة، فإن دفعها بمجرد وقوعها ولم يبق لها أثر، أو ستر عورته بمجرد انكشافها، فلا يضر. -9 - التكبير بنية الانتقال لصلاة أخرى غير التي هو فيها. -10 - الضحك مفسد للصلاة إن كان مسموعاً للمصلي، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة الكشر ولكن يقطعها القهقهة) (1) . وإن قهقه فسمعه غيره فسد وضوؤه وصلاته معاً، لما روي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان بصره ضرر، فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة) (2) .   (1) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 82. (2) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 -11 - محاذاة الرجل المكلف المرأة المشتهاة (أي لا يشترط البلوغ) ، ولو كانت زوجته أو من محارمه، في الصلاة بشروط: أ - أن تكون الصلاة مشتركة بإمام واحد، وأن يكون الإمام نوى إمامة النساء، وأن تنوي المرأة الاقتداء به. ولو حاذته بعد تسليم الإمام في أداء ما سبقت به فلا تبطل. ب - اتحاد المكان، فلو حاذته وهي في مكان مرتفع لا تبطل صلاتهما. جـ - أن تكون مدَّة المحاذاة قدر أداء ركن فأكثر. د - أن تكون المحاذاة بدون حائل بينهما. والحائل أقله فراغ يسع رجلاً. هـ - أن لا يشير إليها بالابتعاد عنه، فلو أشار لها ولم تبتعد بطلت صلاتها دون صلاته. -12 - القراءة من المصحف أو أي كتاب سواء كان المقروء قليلاً أو كثيراً. أما لو نظر إلى المكتوب وفهمه دون أن يتلو منه فلا تفسد صلاته بل يسيء الأدب. -13 - اللحن في قراءة القرآن، إذا غيَّر المعنى تغييراً فاحشاً، أما إذا لم يتغير المعنى فلا تفسد عند الإمام. وتفسد عند الإمام أبي يوسف إذا لم يكن للفظ المغيّر نظير في القرآن. وكل ذلك حكم زلة القارئ أي الذي أخطأ، أما المتعمد فأقل أمره فساد صلاته إذ يخشى عليه الكفر. ويلحق بذلك الخطأ في الإعراب فلا تفسد به الصلاة مطلقاً، إلا إذا تغير المعنى فتفسد عند الإمام وصاحبه. ولا تفسد عند أبي يوسف وقوله هو المفتى به، مثل قوله: "وإذا ابتلى إبراهيمُ ربَه". ومنه أيضاً تخفيف التشديد إذ لا يفسد الصلاة، والوقف والابتداء في غير موضعهما، وكذا إذا وقف عند بعض الحروف ثم غيَّر السورة بسبب النسيان فلا تفسد. -14 - الفتح (1) على غير إمامه، أي أن يرد غير إمامه في قراءة القرآن ولا بأس من أن يرد إمامه لقول علي رضي الله عنه: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه"، أي إذا استفتحك فافتح عليه. ويكره للمقتدي أن يعجل بالفتح، لأن الإمام قد يتذكر وحده.   (1) الفتح: هو ردّ المقتدي إمامه في قراءة القرآن أثناء الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 -15 - استخلاف من لا يصلح إماماً كأميّ أو معذور. -16 - مد الهمزة في قوله: "الله أكبر" أو مد باء "أكبر". -17 - سبق المقتدي لإمامه بركن لم يشاركه فيه، كما لو ركع ورفع رأسه بعد الركوع قبل الإمام ثم لم يعده معه. -18 - عدم إعادة الجلوس الأخير بعد أداء سجدة صلبية أو سجدة تلاوة تذكرها بعد الجلوس، لأن الجلوس الأخير لا يعتد به إلا بعد تمام الأركان. -19 - متابعة الإمام في سجود السهو للمسبوق بعد أن يتأكد انفراده، بأن قام بعد سلام الإمام أو قبله بعد قعوده قدر التشهد، وقيد ركعته بسجدة، ثم تذكر الإمام سجود سهو عليه فتابعه المأموم فسدت صلاته، لأنه اقتدى بعد أن أصبح منفرداً. -20 - عدم إعادة ركن أداه نائماً، لأنه يشترط أداء الأركان مستيقظاً. -21 - التسليم عمداً على رأس ركعتين في غير الصلاة النائية، أما سهواً فلا يفسد، لأنه في العمد خروج من الصلاة قبل تمامها فيفسدها. ولو سلم على رأس ركعتين ظاناً أنه مسافر فسدت صلاته. -22 - تفسد صلاة من سبقه حدث بالأمور التالية: أ - ظهور عورة ولو اضطر إليه. ب - قراءته أثناء ذهابه وعودته للوضوء. جـ - مكثه بلا سبب قدر أداء ركن بعد سبق الحدث له مستيقظاً بلا عذر، فلو مكث لزحام أو لانقطاع رعافه فإنه يبني. د - مجاوزته ماء قريباً بأكثر من صفين. والأصل في ذلك: أن من سبقه الحدث يذهب فيعيد الوضوء، ثم يبني على صلاته على أن لا يقع في المحظورات السابقة. والأفضل أن يعيد الصلاة للخروج من خلاف بقية المذاهب. -23 - خروجه من المسجد بظن الحدث ولم يكن محدثاً حقاً لوجود المنافي وهو المشي بغير عذر. -24 - مجاوزته الصفوف أو سترته في غير المسجد، وإن يكن أمامه صف أو صلى منفرداً وليس بين يديه سترة اغتفر له قدر موضع سجوده من كل جانب، فإن تجاوز ذلك بظنه الحدث ولم يكن أحدث كما إذا أنزل من أنفه ماء فظنه دماً فسدت صلاته. -25 - انصراف المصلي عن مكانه ظاناً أنه غير متوضئ، ولو تذكر أنه متوضئ ولم يخرج من المسجد ونحوه، لانصرافه بقصد ترك الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الباب الرابع [سجود السهو والشكر والتلاوة] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الفصل الأول: سجود السَّهْو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 السَّهْو: الغَفلة. ويسمى السجود سجودَ السهو لأنه يضمن ما فات في الصلاة من غير قصد. حكمه: واجب، لأنه ضمان فائت وهو لا يكون إلا واجباً لأنه يرفع (يلغي) واجباً وهو قراءة التشهد والسلام، فيعادان بعد فعله ولولا أنه واجب لما رفعهما. كيفية سجود السهو ووقته: هو سجدتان تجزيان عن كل زيادة أو نقصان، والأرجح أن وقته بعد قراءة التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم) (1) . أي يجب أن يأتي به بعد كل الواجبات فيؤخر عن السلام، أو عن تسليمة واحدة، ثم يسجد سجدتين ويعيد التشهد والسلام. ويصح فعله قبل السلام وإن كان خلاف الأَوْلى وذلك باعتبار السلام واجباً.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 199/1033. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أسباب وجوبه: -1 - إذا ترك واجباً سهواً، أو أخره عن محله، أو قدّمه، أو زاده سهواً. -2 - إذا قدم فرضاً عن مكانه سهواً. -3 - إذا أخر فرضاً عن مكانه سهواً. ولا يسجد للسهو لترك السنة، لأنه الصلاة لا تنقض بتركها. ولا يجبر ترك الفرض بسجود السهو، لأن ترك الفرض مبطل للصلاة أصلاً فلو سها عن ركن من أركان الصلاة أعاده، ولو أخره عن وقته سجد للسهو. فلو سها عن القراءة في القيام وركع يرجع فيقرأ الفاتحة ثم يعيد الركوع ويسجد للسهو. وكذا لو سها عن القنوت قبل الركوع فركع، يعيد القنوت بعد الركوع ولا يعيد الركوع، لأن الركوع لا ينتقض بالواجب، ويسجد للسهو لتأخيره القنوت عن محله. وإذا ترك واجباً متعمداً، فإنه يعاقب بإعادة الصلاة، ولا ينجبر بسجود السهو قيل إلا في أربعة مواضع: -1 - ترك القعود الأول عمداً. -2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأول عمداً. -3 - تأخير إحدى سجدتي ركعة إلى ما بعدها عمداً. -4 - تفكره عمداً حتى ينشغل عن مقدار ركن، فيسجد للسهو، ويسمى سجوده سجود عذر. وفيما يلي تفصيل لبعض أسباب سجود السهو: -1 - السهو عن القعود الأول: إذا قام ساهياً عن القعود الأول إلى الركعة الثالثة، سواء كان إماماً أو منفرداً، عاد إليه وجوباً؛ ما لم يستوِ قائماً، لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو) (1) . وإن عاد بعد استوائه قائماً، فقد اختلف في حكم الصلاة والأرجح أنها لا تفسد ويجب سجود السهو ولو عاد وقرأ التشهد، إلا أن تكون عودته إليه وهو أقرب إلى الجلوس. أما لو كان مقتدياً وجلس أمامه فيعود للمتابعة ولو استوى قائماً، ولا يجب عليه سجود سهو لأن الإمام ضامن. أما المتنفل فكل ركعتين صلاة فيجب عليه أن يعود. -2 - إذا سها الإمام أو المنفرد عن القعود الأخير، عاد ما لم يسجد للخامسة. بذلك وردت السنة: عاد صلى الله عليه وسلم بعد قيامه إلى الخامسة وسجد للسهو لتأخيره فرض القعود. فإن لم يعد حتى سجد للخامسة صار فرضه نفلاً برفع رأسه من السجود ويضم سادسة، كما يضم رابعة إن كان في الفجر، ولا يسجد للسهو، ولو اقتدى به أحد حال الضم لزمه إتمام ست ركعات. أما لو قعد للتشهد، ثم قام ساهياً، سلم واقفاً، أو يعود فيجلس ويسلم، وينتظره المقتدون جلوساً إن كان إماماً ولا يتابعونه في القيام. فإن سجد للخامسة دون أن يتذكر سلموا للحال وصحَّت صلاتهم ولم يبطل فرضه ويستحب أن يضم ركعة أخرى لتصير الزائدتان له نافلة ويسجد للسهو. أما لو كان منفرداً وسجد للخامسة، وكان قعد للتشهد أتمّها نفلاً، وصح فرضه، ويسجد للسهو لتأخيره السلام عن محله. -3 - إذا سلم على رأس الثانية في صلاة رباعية أو ثلاثية ظانّاً أنه أنهى صلاته، ثم تذكر بعد أن سلم وقبل أن يأتي بمُنافٍ للصلاة أو يخرج من المسجد، عاد وأتمها ثم سجد للسهو. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقَصُرَت الصلاة أم نَسِيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق ذو اليدين. فقال الناس: نعم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أُخْرَيَيْن، ثم سلّم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع) (2) أما لو سلم ظاناً أنه مسافر ثم تذكر أنه أقام يعيد، لأنه سلم قاصداً إنهاء الصلاة.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 201/1036. (2) البخاري: ج 1 / كتاب السهو باب 4/1170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 متى يسقط سجود السهو: -1 - إن طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر. -2 - بخروج وقت الجمعة والعيدين لفوات شرط الصحة. والأفضل أن لا يسجد الإمام ولا المقتدي للسهو في صلاة الجمعة والعيدين حتى لا يشتبه الأمر على المصلين. -3 - الحدث العمد أو العمل المنافي للصلاة. -4 - احمرار الشمس بعد السلام من صلاة العصر تحرزاً عن المكروه. متابعة الإمام في سجود السهو: يتابع المؤتمّ إمامه في سجود السهو، سواء تابعه في سهوه أو لا، لوجوب المتابعة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سها سجد وتابعه المسلمون في سجوده، فعن عبد الله بن بحينة الأسدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قام في صلاة العصر وعليه جلوس، فلما أتمّ صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس) (1) . أما لو سها المقتدي دون الإمام فلا يسجد لسهو نفسه، لأن الإمام للمصلين ضامن يرفع عنهم سهوهم وقراءتهم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه) (2) . وأما المسبوق فيسجد للسهو مع الإمام ما سُبِق به. أما لو سها بعد سلام الإمام فيسجد في آخر صلاته، ولو سجد مع إمامه. ولو سلم المسبوق مقارناً لإمامه أو قبله ساهياً يقوم بعد السلام ويتم ما سُبق به ولا سهو عليه، أما إن سلم بعد سلام إمامه فيلزمه أن يسجد للسهو في آخر صلاته لأنه صار منفرداً. وأما اللاحق (وهو من دخل مع الإمام في الصلاة إلا أنه فاته شيء منها أثناءها إما لغفلة أو سهو أو غير ذلك) فلا يتابع الإمام في سجود السهو بل يسجد بعد إتمام ما فاته. ولو سجد مع الإمام أعاد سجود السهو في آخر صلاته.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الصلاة باب 5/1173. (2) الدارقطني: ج 1 / ص 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 حكم الشك في الصلاة: -1 - إن لم يكن الشك من عادته تبطل الصلاة ويعيد، لما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى قال: (ليعد صلاته وليسجد سجدتين قاعداً) (1) . -2 - إن شكّ صلّى أو لم يصلّ، فإنه لم يصل بناء على اليقين. وكذا لو تيقن ترك صلاة من يوم وليلة ليخرج عن العهدة بيقين. -3 - إن شك بعد السلام أو بعد قعوده قدر التشهد فلا يعتبر شكه، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (2) . فإن تيقَّن ترك شيء أتمه. ولو أخبره عَدْل لا يعتد به إلا أن يخبره عدلان بنقض صلاته، فيُتم. -4 - إن كثر الشك تحرىّ وأخذ بغلبة الظن، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليُتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتن) (3) . ويسجد للسهو للانشغال عن الصلاة بالتحري. -5 - إن زاد الشك عن الحد المعقول لا يعتدّ به دفعاً للوسوسة. -6 - إن شكَّ بالحدث وتيقَّن الطهارة فهو طاهر، أما إن شك بالطهارة وتيقَّن بالحدث فهو محدث. -7 - إن شك في تكبيرة الإحرام، أو اختلال شرط من شروط صحة الصلاة، يعيد إن كان أوّل مرة؛ وإن كثر شكه مضى. ولو شك في تكبيرة الإحرام وكان في الركعة الأولى يعيد، وإلا فإنه يتم.   (1) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 153. (2) محمد: 33. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 196/1020. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الفصل الثاني: سُجُود التِّلاَوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 حكمه: سجود التلاوة واجب على المكلف على الفور في الصلاة، لأنه صار جزءاً منها. ويكره تحريماً تأخيره عن وقت القراءة فلو أخره حتى طالت التلاوة بقراءة أكثر من ثلاث آيات أثم ووجب عليه أن يأتي بسجود أو ركوع خاص، ما دام في حرمة الصلاة. ويسقط بالخروج من الصلاة (1) . أما خارج الصلاة فهو واجب على التراخي، ويكره تنزيهاً تأخيره عن وقت التلاوة على الأصح إلا إذا كان الوقت مكروهاً. ولا يجب على الحائض والنفساء.   (1) يسقط سجود التلاوة بالخروج من الصلاة إذا تركه عمداً حتى سلم وخرج من حرمة الصلاة. أما لو سهواً وتذكره ولو بعد السلام قبل أن يفعل منافياً يأت به ويسجد للسهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 سبب الوجوب: التلاوة والسماع، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته) (1) . وفي القرآن أربعة عشر موضعاً يجب فيها السجود، ولو قرأها كلها في ليلة وسجد لكل سجدة كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي. يقول: يا ويله، أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) (2) . ولو سمع قرآناً مترجمة معانيه لغير العربية يجب السجود ما دام قد فهم معنى السجود. وهذا عند الإمام دون الصاحبين. وكذا يجب السجود لو سمع آية السجدة من حائض أو نفساء أو جنب أو صبي مميز أو كافر.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 20/103. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الإيمان باب 35/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 سبب مشروعيته: هو تضمن الآية الأمر الصريح بالسجود، أو لاستنكاف الكفار عنه وامتثال الأنبياء عليهم السلام، وكل منهما واجب. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ والنجم فسجد فيها. وسجد من كان معه غير أن شيخاً أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا. قال عبد الله: لقد رأيته، بعد، قتل كافراً" (1) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 20/105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 شروطه: الطهارة من الحدث، وستر العورة، واستقبال القبلة. أركانه: -1 - النية. -2 - ركوع أو سجود، أو ما يقوم مقامهما من الإيماء للمريض أو الراكب على الدابة. كيفيته: يؤدّى سجود التلاوة في الصلاة بركوع أو سجود غير سجود الصلاة وركوعها. وهو بالسجود أفضل. ويفضل بعد قيامه منه أن يقرأ آيتين أو أكثر حتى لا يبني الركوع على السجود. ويقوم مقام سجدة التلاوة في الصلاة ركوع الصلاة إن نوى أداءها فيه، أو سجودها وإن لم ينوها. وينبغي ذلك للإمام أن يجعلها في ركوع الصلاة إذا كان في صلاة سرية وخاف أن يشتبه على المصلين أو في سجودها إن كانت جهرية إن لم ينقطع فور التلاوة بقراءة أكثر من ثلاث آيات، فعندها وجبت في حقه وحق المصلين، فيأتي بسجود أو ركوع خاص أثناء الصلاة. فإن تركه كان آثماً ولا تبطل صلاته، كما لا يحق له قضاؤه خارج الصلاة. ومن كرر آية السجدة في مجلس واحد تكفيه سجدة واحدة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها على أصحابه ويكررها ويسجد مرة واحدة. أما لو تبدل المجلس ولو حكماً فيعد السجود. ويعتبر تغير المجلس بالانتقال ثلاث خطوات للسامع أو التالي. ويتكرر الوجوب على السامع بتبديل مجلسه ولو اتحد مجلس التالي. ومن تلا آية السجدة خارج الصلاة وسجد لها ثم دخل في الصلاة فقرأها وجب عليه السجود لقوة الصلاتية. هيئته: أن يكبر ويسجد ثم يكبر رافعاً من السجود، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا معه" (1) . ولا ترفع اليدان في التكبير. وليس له تشهد ولا تحريم ولا تسليم. وتسبيحاته مثل الصلاة: ثلاث مرات "سبحان ربي الأعلى"، ويقال فيه: "سجد وجهي للذي شق سمعه وبصره بحوله وقوته"، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: (سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته) (2) . أو يقول: "اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ، فسَجَدَت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك زخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة" (3) .   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 333/1413. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 407/580. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 407/579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 مندوباته: -1 - أن يقرأ آية السجدة سراً إن كان المستمعون غير متأهبين للسجود. -2 - القيام لمن تلا آية السجدة جالساً ثم يسجد. -3 - يستحب التالي والسامع إن لم يكن متأهباً أن يقول: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" ثم يقضيها فيما بعد. ويكره للتالي أن يقرأ سورة فيها سجدة ويتعمد ترك آية السجدة. الحالات التي لا يسجد فيها لسماع آية السجدة: -1 - إن كان التالي نائماً أو مجنوناً لا تجب على الصحيح. وتلاوة السكران موجبة عليه وعلى سامعه. -2 - لا يجب بسماعها من الطير أي الببغاء أو القرد المعلّم. -3 - لا تجب بسماعها من الصدى (ومن الصدى التسجيل) أو سماعها من المذياع ولو كان في الإذاعة قارئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الفصل الثالث: سُجُود الشّكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 حكمه: مكروه. وهو كل ما هو دون الركعة ليس قربة إلا ما ورد من سجود التلاوة لأنه جاء به النص. ولا يكره أن يصلي ركعتين شكراً لله تعالى. وقال الصاحبان: سجود الشكر قربة يثاب عليها، لما روي عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريباً من عَزْوَرَ نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خرَّ ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه فدعا الله ساعة ثم خرَّ ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خرَّ ساجداً. قال: إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجداً شكراً لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي فسألت ربي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجداً لربي) (1) . ولما روي عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذ جاءه أمر سرور، أو بُشِّر به خرَّ ساجداً شاكراً الله) (2) .   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الجهاد باب 174/2775. (2) أبو داود: ج 3 / كتاب الجهاد باب 174/2774. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 هيئته: أن يكبر مستقبلاً القبلة، ثم يسجد فيحمد الله ويشكره ويسبح، ثم يرفع رأسه مكبراً مثل سجود التلاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الباب الخامس: الوتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تعريفه: الوتر لغة: بفتح الواو وكسرها هو الفرد خلاف الشَّفع. شرعاً: صلاة مخصوصة، ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، وقنوت في الثالثة وبه فارق المغرب، كما فارقه بوجوب قراءة الفاتحة والسورة في الثالثة. حكمه: هو فرض عملي على أصح الأقوال، وهو أعلى أنواع الواجب، وقيل: هو واجب. لما روي عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا) (1) . ويترتب على كونه فرضاً عملياً: -1 - يجب على المكلف اعتقاد وجوبه ولا يكفر جاحده. -2 - تفسد صلاة الصبح بتذكرة كصلاة العشاء عند الإمام لا الصاحبين. -3 - يجب قضاؤه إن فات. -4 - لا يصح قضاؤه قاعداً ولا راكباً اتفاقاً كالفرض. -5 - لا يصلّى بغير نية. -6 - إذا أجمع قوم على تركه أدبهم الإمام وحبسهم، فإن لم يصلوه قاتلهم.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 337/1419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 دليل وجوبه: ثبت وجوب الوتر بالسنة في أحاديث كثيرة، منها الحديث المتقدم عن بريدة رضي الله عنه، وحديث خارجة بن حذافة قال: قال أبو الوليد العدوي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النَّعم، وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر) (1) . وما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) (2) . فصيغة الأمر، وكلمة "حق" في حديث بريدة رضي الله عنه تدلان على الوجوب.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 336/1418. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الوتر باب 4/953. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كيفيته: ثلاث ركعات يشترط فعلها بتسليمة واحدة، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن" (1) . ولا يصح الوتر بركعة واحدة ولا تنعقد، حتى إنه ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يوتر بركعة واحدة فقال: "ما هذه البُتَيْراء؟ لتشفعنَّها أو لأؤدبنّك". وتجب فيه القراءة بكل ركعة، بالفاتحة وسورة معاً، وروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ) (2) . وعن عبد العزيز بن جريج قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر معناه، وقال: وفي الثالثة بـ (قل هو الله أحد والمعوذتين) (3) . كما يجب فيه الجلوس على رأس الركعتين لقراءة التشهد. ثم القيام إلى الركعة الثالثة ولا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، فإذا أنهى قراءة الفاتحة والسورة رفع يديه حذاء أذنيه وكبَّر ثم يقنت قائماً قبل الركوع، لما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت - يعني في الوتر - قبل الركوع) (4) . وذلك في جميع السنة. ويقف للقنوت كما يقف لقراءة الفاتحة عند الإمام، وعند أبي يوسف يرفع يديه إلى صدره وبَطْناهما إلى السماء كما في الدعاء.   (1) المستدرك: ج 1 / ص 304. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 115/1171. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 34/1424. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 340/1427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 دعاء القنوت: القنوت هو الدعاء في الوتر. لفظه: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونتوب إليك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونَحْفِدُ (1) ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدّ (2) بالكفار ملحق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم" (3) .   (1) نسعى ونحفد: نجهد في العمل لتحصيل ما يقربنا إليك، ونحفد: نسرع في تحصيل عبادتك بنشاط. (2) الجدّ: الحق. (3) هذه الصيغة الواردة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى البيهقي نحوه عن عمر رضي الله عنه: ج 2 / ص 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ويقرأ الإمام والمقتدي كلاهما القنوت سراً. ويستحب للإمام الجهر به للتعليم. ويستحب الجمع بين هذا الدعاء ودعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت" (1) . ومن لم يحسن الدعاء يقول: "اللهم اغفر لي" ويكررها ثلاثاً. ويجوز أن يدعو بأي دعاء مأثور غيرهما، أو يقول: يا رب، يا رب، يا رب. - لا يجوز القنوت في غير الوتر إلا في النوازل فيقنت الإمام في الفجر فقط. - وإذا اقتدى بشافعي في الفجر جازت له المتابعة على قول أبي يوسف، وهو الأفضل ويؤمن بعد دعائه بأن يقول "آمين". - وإذا نسي المصلي القنوت في الوتر يسجد للسهو. ولو قنت بعد الركوع لا يعيد الركوع بل يسجد للسهو لتأخيره القنوت عن محلّه. - وإذا كان في جماعة وركع الإمام وهو في القنوت يتابع الإمام. ولو سها الإمام عن القنوت يقنت هو إن أمكنه اللحاق بالإمام، وإلا يتابعه ثم يسجد معه للسهو. - وإذا دخل المؤتم في الصلاة بالركعة الثالثة بعد أن قنت الإمام يقضي الركعتين بدون قنوط. ويُصلى الوتر فرادى كما في السنن إلا في رمضان فالأفضل صلاته جماعة، لأن عمر رضي الله عنه كان يؤمهم في الوتر، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْتَر بهم في رمضان ثم بيَّن عذر الترك خشية أن يكتب عليهم قيام رمضان. وقد روي عن شتير بن شكل وكان من أصحاب علي رضي الله عنه "أنه كان يؤمهم في شهر رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث" (2) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 341/464. (2) البيهقي: ج 2 / ص 496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقته: من بعد فريضة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر الصادق. ويستحب تأخيره إلى آخر الليل لمن أيقن القيام، وإلا فصلاته قبل النوم أفضل. لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة الليل مشهودة وذلك أفضل) (1) . وإذا صلى الوتر قبل النوم لا يعيده إن تهجد بعده، لحديث طلق بن علي عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وتران في ليلة) (2) . أما في رمضان فيستحب الوتر أول الليل بعد صلاة التراويح جماعة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 21/162. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 344/470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الباب السادس (صَلاَة النَّوافل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الفصل الأول: النوافل التابعة للفرائض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 النَّفْل لغة: الزيادة. وشرعاً: فِعْل ما ليس بفرض ولا واجب. وكلّ سنةٍ نافلة لأنها زائدة على الفرض وليس كل نفل سنة. والسنّة لغة: مطلق الطريقة مُرْضِية أو غير مُرْضِية. شرعاً: الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراضٍ ولا وجوب. حكمة تشريع النوافل: -1 - لجبر نقصان الفرائض، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته. فإن صَلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخَسِر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الربّ عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيُكَمِّل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) (1) . -2 - لقطع طمع الشيطان، إذ يقول قاضي خان: إن السنة قبل الفريضة شُرعت لقطع طمع الشيطان، حيث يقول: "من لم يُطِعني في ترك ما لم يُكتب عليه فكيف يطيعني في ترك ما كتب عليه". -3 - للتقربّ من الله، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذَنْته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما تردَّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته) (2) . والنوافل التابعة للصلوات المكتوبة قسمان: سنن مؤكدة وسنن غير مؤكدة (مندوبة) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 305/413. (2) البخاري: ج 5 / كتاب الرقاق باب 38/6137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أولاً: السنن المؤكدة: -1 - ركعتان قبل صلاة الفجر: وهي أقوى السنن لكثرة ما ورد فيها من مُرَغِبّات، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل) (2) . وقال بعض الفقهاء بوجوبها. ويندب أن يقرأ يفها بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد) (3) . ويندب بصورة عامة أن تكونا خفيفتين، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يخفِّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول هل قرأ بأم الكتاب) (4) . ويُفضل في سنة الفجر أداؤها في أول الوقت وفي البيت، وقيل يفضل الإسفار فيها. وهي لا تصح من قعود كغيرها من النوافل، وقيل تصح. وتقضى مع الفرض إن فاتت معه إلى ما قبل الزوال. أما بعد الزوال فيقضى الفجر دون سنته. ويكره الكلام حين انشقاق الفجر حتى يصلي الفجر، لأنه وقت تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. فعن أبي عبيدة قال: كان عبد الله يقول: "تتدراك الحرسان من ملائكة الله عز وجل حارس الليل وحارس النهار عند طلوع الفجر واقرؤوا إن شئتم: وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهوداً" (5) . -2 - أربع ركعات قبل الظهر: لما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر) (6) . وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر) (7) . -3 - ركعتان بعد الظهر، للحديث المتقدم عن أم حبيبة رضي الله عنها. ويندب أن يضيف إليهما ركعتين فتصيران أربعاً، لما روت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حُرِم على النار) (8) . -4 - أربع ركعات قبل صلاة الجمعة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كن النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن) (9) . -5 - أربع ركعات بعد صلاة الجمعة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً فإن عجَّل بك شيء فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت) (10) . -6 - ركعتان بعد المغرب: وتأتيان بالفضل بعد سنة الفجر، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَدَعْهما سفراً ولا حضراً. ويستحب تطويلهما لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد) (11) . وورد أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الركعتين بعد صلاة المغرب {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ) (12) . -7 - ركعتان بعد صلاة العشاء.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 14/96. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 292/1258. (3) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 14/98. (4) البخاري: ج 1 / أبواب التطوع باب 14/1118. (5) مجمع الزوائد: ج 1 / ص 318. (6) البخاري: ج 1 / أبواب التطوع باب 10/1127. (7) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 306/415. (8) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 296/1269. (9) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 94/1129. (10) مسند الإمام أحمد: ج 2 / ص 249. (11) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 304/1301. (12) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 112/1166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثانياً: السنن غير المؤكدة (المندوبة) : -1 - أربع ركعات قبل العصر: لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) (1) . -2 - أربع ركعات قبل العشاء: لعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه: (بين كل أذانين صلاة. قالها ثلاثاً. قال في الثالثة: لمن شاء) (2) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصلي قبل العشاء أربعاً ثم يصلي بعدها أربعاً ثم يضطجع) (3) . -3 - ركعتان بعد العشاء زيادة على المؤكد: لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى قبل الظهر أربع ركعات كمن تهجد بهن من ليلته ومن صلاَّهن بعد العشاء كمثلهن من ليلة القدر) (4) . -4 - ست ركعات بعد المغرب: لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عُدِلْن له بعبادة ثِنْتَيْ عشرة سنة) (5) . وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بعد المغرب ست ركعات غُفِرت ذنوبه وإن كانت مثل زَبَد البحر) (6) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (من صلى بعد المغرب ست ركعات كتب من الأوابين. وتلا قوله تعالى: {فإنه كان للأوابين غفوراً} ) (7) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 318/430. (2) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 56/304، والمراد بالأذانين في الحديث الأذان والإقامة. (3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: ص 382. (4) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 221، رواه الطبراني في الأوسط وفيه ناهض بن سالم الباهلي وغيره ولم أجد من ذكرهم. (5) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 321/435. (6) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 230. (7) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: ص 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 كيفية صلاة السنة الرباعية المؤكدة: يقرأ في القعود الأول التشهد فقط، وفي الثاني التشهد والصلوات الإبراهيمية. ولا يقرأ دعاء الاستفتاح في الركعة الثالثة كالفرائض. كيفية صلاة الرباعية المندوبة: تصلى اثنتين اثنتين: فيستفتح ويتعوّذ في ابتداء كل شَفْع منها. وإذا صلاها من غير قعود أول صحت ويسجد للسهو في آخر الصلاة لتركه القعود الأول ساهياً. وتجب عليه العودة إلى القعود إن تذكره بعد القيام ما لم يسجد للركعة الثالثة. وتكره الزيادة على أربع ركعات في نفل النهار، والزيادة على ثمانٍ ليلاً بتسليمة واحدة. والأفضل عند الإمام أن تُصلى النوافل أربعاً ليلاً أو نهاراً، لما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بتسليم) (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً) (2) . والمُفتى به قول الصاحبين: إن الأفضل في صلاة الليل اثنتين اثنتين، وفي صلاة النهار أربعاً والأفضل في الصلاة طول القيام ليلاً أو نهاراً، وقال الإمام محمد: كثرة الركعات أفضل من طول القيام، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان رضي الله عنه: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة) (3) .   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 105/1157. (2) النسائي: ج 3 / ص 234. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 43/225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الفصل الثاني: النوافل غير التابعة للفرائض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أولاً: ما لا يصلى جماعة: -1 - تحية المسجد: وهي ركعتان يصليهما في غير الوقت المكروه. إلا المسجد الحرام فإن تحيته الطواف لمن أراد أن يطوف أو كان عليه طواف ويؤخر ركعتي الطواف إذا كان الوقت وقت كراهة، وأما إذا لم يرد الطواف فإنه يصلي ركعتين ينوي بهما تحية المسجد. ولا يكره الطواف في أي وقت كان. دليلها: ما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) (1) . - أما إذا دخل المسجد في الوقت المكروه بعد الفجر أو العصر فلا يأتي بتحية المسجد بل يسبح ويهلل ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قد أدى حق المسجد. - وإذا دخل المسجد وقد دخل وقت المكتوبة يبدأ بها لأن أداءها ينوب عن تحية المسجد. - ولا تفوت تحية المسجد بالجلوس بل الأفضل أن يصليها بعد أن يجلس. - وإذا تكرر دخوله المسجد يكفيه ركعتان في اليوم. - ويندب أن يقول عند الدخول: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، وعند الخروج: "اللهم إني أسألك من فضلك". لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي إذا دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: "اللهم اغفر ذنوبنا وافتح لنا أبواب رحمتك". وإذا خرج صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم افتح لنا أبواب فضلك" (2) . وروي عن أبي حُميد أو أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم وليقل: اللهم لفتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) (3) .   (1) البخاري: ج 1 / أبواب التطوع باب 1/1110. (2) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 32. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سالم بن عبد الأعلى وهو متروك. (3) البيهقي: ج 2 / ص 441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -2 - سنة الوضوء: يندب بعد الوضوء صلاة ركعتين قبل جفاف الأعضاء، لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وَجَبَتْ له الجنة) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديّ في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي: أني لم أتطهر طُهوراً، في ساعة من ليلٍ أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) (2) . ولو صلى فريضة بعد الوضوء حصلت له الفضيلة.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الطهارة باب 6/17. (2) البخاري: ج 1 / أبواب التهجد باب 17/1098. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -3 - سنة الضحى: وهي أربع ركعات على المختار لتواتر الأخبار الصحيحة فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضّحى أربعاً. ويزيد ما شاء الله) (1) . وقد جاء في تفسير قوله تعالى {وإبراهيم الذي وفّى} (2) أنه وفّى عمل يومه بأربع ركعات من الضحى (3) . والأفضل المواظبة عليها. ويبدأ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها: بـ {والشمس وضحاها} و {والضحى} . وتصح من أربع إلى اثنتي عشرة ركعة وأفضلها ثمان، فقد روت أم هانئ رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة. فصلى ثماني ركعات. ما رأيته صلى صلاة قط أخفّ منها. غير أنه كان يتم الركوع والسجود) (4) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين، ومن صلى ستاً كُفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين (5) ، ومن صلى ثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة. وما من يوم وليلة إلا لله مَنٌّ يمن به على عباده وصدقة، وما منّ الله على أحد من عباده أفضل من أن يلهمه ذكره) (6) . وتقوم صلاة الضحى مقام الصدقات الواجبة على كل مِفْصَل من بني آدم إذا أصبح آمناً في سِرْبِه معافى في جسده. فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهيٌ عن المنكر صدقة. ويجزئ من ذلك، ركعتان يركعهما من الضحى) (7) .   (1) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 13/79. (2) النجم: 37. (3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير. (4) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 13/80. (5) القَانِت: القائم بالطاعة الدائم عليها. (6) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 237، رواه الطبراني في الكبير. (7) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 13/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -4 - صلاة الليل: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن صلاة الليل فرض على النبي صلى الله عليه وسلم مستدلين بقوله تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} (1) فتكون مندوبة في حق غيره. وأقل ما ينبغي أن يتنفل بالليل ثماني ركعات، ويستحب أن تكون آخره، إذ أن أفضل وقتها السدس الخامس والسادس من الليل. وقد جاءت أحاديث كثيرة في بيان فضلها، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) (2) . ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) (3) . وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة لكم إلى الله عز وجل ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم مطردة عن الحسد) (4) .   (1) المزمل: 1 - 2. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 38/22. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 329/446. وقد أوّل العلماء هذا الحديث وأمثاله بنزول ملك أو أمر الله تعالى. (4) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -5 - صلاة الاستخارة: وقد بيّنتها السنة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقْدِر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقْدُرْه لي ويَسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاصْرِفْه عني واصرفني عنه، واقْدُر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به. قال: ويسمي حاجته) (1) . وإذا استخار يمضي لما ينشرح له صدره، وينبغي أن يكررها سبعاً، وتكون الاستخارة في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره وشره كصنائع المعروف فلا استخارة فيها.   (1) البخاري: ج 1 / أبواب التطوع باب 1/1109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -6 - صلاة الحاجة: وهي ركعتان أو أربع، وقيل اثنتا عشرة ركعة بسلام واحد. روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين، ثم ليُثن على الله، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إثم، لا تع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رِضاً إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين) (1) . وعن عثمان بن حنيف رضي الله عنه - في قصة الضرير الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له أن يعافيه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى.. اللهم فشفّعْه فيّ) (2) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 348/479. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 189/1385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -7 - تندب صلاة ركعتين: -1 - لمن حكم عليه بالقتل قبل تنفيذ الحكم. -2 - إذا نزل منزلاً لا يستحب له أن يقعد حتى يصلي ركعتين، لحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين) (1) . -3 - إذا أراد سفراً أو رجع منه. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أريد أن أخرج إلى البحرين في تجارة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلِّ ركعتين) (2) . وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركه فيه ركعتين) (3) . -4 - إذا وقعت منه معصية، حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين وليستغفر الله إلا غفر الله له) (4) .   (1) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 283، رواه الطبراني في الكبير. (2) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 283، رواه الطبراني في الكبير. (3) مسلم: ج 4 / كتاب التوبة باب 9/53. (4) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 193/1395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -8 - صلاة التسبيح: تستحب صلاة التسبيح في كل وقت لا كراهة فيه، أو في كل يوم أو ليلة مرة. إلا ففي كل أسبوع أو شهر أو العمر مرة. لأن ثوابها لا يتناهى وقيل: لا يسمع بعظيم فضلها ويتركها إلا متهاون بالدين. وهي أربع ركعات بتسليمة أو تسليمتين يقول فيها ثلاثمائة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وفي رواية زيادة: ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول ذلك في كل ركعة خمس وسبعين مرة، فبعد الثناء خمس عشرة، ثم بعد القراءة وفي ركوعه والرفع منه وكل من السجدتين وفي الجلسة بينهما عشراً عشراً بعد تسبيح الركوع والسجود. وهذه الكيفية هي التي رواها الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك أحد أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه. وإن سها ونقص عدداً من محل معين يأتي به في محل آخر تكملة للعدد المطلوب. ولا يعد التسبيحات بالأصابع إن قدر أن يحفظ بالقلب وإلا يغمز الأصابع. الليالي التي يندب للمسلمين إحياؤها: -1 - إحياء العشر الأخير من رمضان، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر) (1) . -2 - إحياء ليلتي العيدين، لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) (2) . والدعاء فيهما مستجاب. -3 - إحياء ليالي عشر ذي الحجة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أحب إلى الله سبحانه أن يُتعبَّد له فيها من أيام العشر، وإن صيام يوم فيها ليعدل صيام سنة ليلة فيها بليلة القدر) (3) وخُصّ منها ليلة عرفة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قال: قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله. قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه أو ماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) (4) . -4 - إحياء ليلة النصف من شعبان، لأنها ليلة تكفر ذنوب السنة. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مُسْترزِق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر) (5) . ومعنى الإحياء: الاشتغال معظم الليل بطاعة الله من صلاة أو تسبيح أو قرآن أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: يكفي بساعة منه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما بصلاة العشاء بجماعة والفجر بجماعة. والأفضل أن يُحيي هذه الليالي في بيته، إذ يكره الاجتماع على الإحياء في المسجد، إلا ما ورد في ليلة النصف من شعبان فقيل: يستحب إحياؤهما جماعة في المسجد.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الاعتكاف باب 3/7. (2) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 198، رواه الطبراني في الكبير والأوسط. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الصيام باب 39/1728. (4) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 224. (5) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 191/1388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ثانياً: النوافل التي تصلى جماعة: -1 - صلاة التراويح: حكمها: سنة مؤكدة. ومنكرها مبتدع مردود الشهادة لإجماع الصحابة عليها، ولما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أن خشيت أن تفرض عليكم) (1) . وقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها، وواظب عليها في المسجد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ وقد روي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنَّواجذ) (2) . وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه) (3) . وصلاة التراويح في المسجد سنّة كفائية. وقتها: من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأفضل وقتها قبل ثلث الليل الأخير. ويصح تقديم الوتر عليها أو تأخيره عنها. مقدارها: عشرون ركعة بعشر تسليمات، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في شهر رمضان في غير جماعة بعشرين ركعة والوتر) (4) . وعن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في شهر رمضان، بعشرين ركعة، وكانوا يقومون بالمئين، وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام" (5) . وإذا وصلها مع الجلوس في كل ركعتين أجزأته مع الكراهة. ولو صلاها عشرين ركعة بقعود واحد حسبت له ركعتين. ما يستحب فيها: -1 - الجلوس بعد كل أربع ركعات يُسبِّح ويدعو، لما روي عن زيد بن وهب قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يروحنا في رمضان 2 - يعني بالترويحتين قدر ما يذهب الرجل من المسجد إلى سلع" (6) . ختم القرآن فيها مرة في الشهر. وعلى الإمام أن يقرأ بما لا يؤدي إلى تنفير القوم عن الجماعة. -3 - أن لا يترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود، ولا يترك دعاء الثناء في كل شفع، ويدعو بعد كل ركعتين. قضاؤها: لا تقضى التراويح إذا فاتت. وهي سنة لليوم لا للصوم، فلو صار أهلاً للصلاة في آخر اليوم صلاها ولو لم يصم.   (1) متفق عليه، واللفظ لمسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 25/177. (2) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 127، والنواجذ: الأضراس الأخيرة. تفيد شدة التمسك بها. (3) النسائي: ج 4 / ص 158. (4) البيهقي: ج 2 / ص 496. (5) البيهقي: ج 2 / ص 496. وأما قول عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره، على إحدى عشرة ركعة) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 17/125 فهو ينصرف إلى الوتر فكان لا يزيد فيه عن إحدى عشرة ركعة. وعمل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دليل عدم معارضة الصحابة له لشدة تمسكهم بالدين. (6) البيهقي: ج 2 / ص 497. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -2 - صلاة الاستسقاء: معنى الاستسقاء: طلب السقيا من الله تعالى بالاستغفار والحمد والثناء. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (1) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) (2) . ويقال: إن أبا طالب عَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم استسقى به وهو صغير. كيفية الاستسقاء: دعاء واستغفار وخروجٌ جامعٌ لأهل البلد. أما الصلاة للاستسقاء فهي مشروعة لكنها ليست سنة، لأن عمر رضي الله عنه لم يصلِّها مع ما عُرِف عنه من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مبتذلاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلّى فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد) (3) . أي بالجهر بالقراءة والصلاة بلا أذان ولا إقامة. وليس في صلاة الاستسقاء خطبة عند الإمام للحديث المذكور، وعند الصاحبين يخطب: عند أبي يوسف خطبة واحدة وعند محمد خطبتان. ويكون التأهب للاستسقاء بأن يأمر الإمام الناس بالصيام ثلاثة أيام، وما أطاقوا من الصلاة، والخروج من المظالم والتوبة من المعاصي، ثم يخرج بهم في اليوم الرابع، وذلك لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد ودعوة الصائم ودعوة المسافر) (4) ، وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر) (5) . ويُخرَج الشيوخ والأطفال لأن نزول الرحمة أولى بهم، لما روي عن مصعب بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تُنْصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم) (6) . ويستحب الخروج ثلاثة أيام متتابعات إلى الصحراء لأنه أقرب للتواضع وأوسع للجمع، إلا في مكة والمدينة فيجتمعون في الحرم، وفي القدس يجتمعون في المسجد الأقصى. وتُوقَف الدواب بباب المسجد. ويقوم الإمام مستقبلاً القبلة، رافعاً يديه حال الدعاء، لما روي عن عُمير مولى بني آبي اللحم أنه (رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريباً من الزَّوراء (7) قائماً يدعو. يستسقي. رافعاً يديه قِبَل وجهه لا يجاوز بهما رأسه) (8) ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه) (9) . والناس قعود يؤمنون على دعائه. والأفضل أن يدعو بالمأثور، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواكي، فقال: (اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مريئاً مريعاً نافعاً غير ضار، عاجلاً، غير آجل) (10) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: (اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت) (11) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فذكرت الحديث وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين. لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) (12) . ويكثر الإمام من الاستغفار لقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً، يرسل السماء عليكم مِدْرَاراً} (13) . وإذا سُقُوا قالوا: "اللهم طيباً نافعاً". فإذا زاد قالوا: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِراب وبطون الأودية ومنابت الشجر". لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت المواشي، وتقطَّعت السُّبُل. فدعا، فمُطِرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تهدمت البيوت، وتقطَّعت السُّبُل، وهلكت المواشي فادع الله أن يُمْسِكْها. فقام صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم على الآكام والظِراب، والأودية ومنابت الشجر) (14) . وليس في الاستسقاء قلب رداء. ولا يجوز أن يحضره إلا المسلم، لأن عمر رضي الله عنه نهى أهل الذمة أن يحضروه أو يُمكَّنوا من فعله وحدهم.   (1) الأعراف: 69. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الاستسقاء باب 1/6. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 395/558. (4) البيهقي: ج 3 / ص 345. (5) البيهقي: ج 3 / ص 346. (6) البخاري: ج 3 / كتاب الجهاد باب 75/2739. (7) الزَّوراء: دار عالية البناء كان يؤذّن عليها بلال رضي الله عنه. (8) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 260/1168. (9) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 260/1170. (10) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 260/1169. (11) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 260/1176. (12) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 260/1173. (13) نوح: 10 - 11. (14) البخاري: ج 1 / كتاب الاستسقاء باب 8/970، الآكام: التراب المجتمع، والظّراب: جمع ظَرْب وهو الجبل الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 -3 - صلاة الكسوف والخسوف: الكسوف للشمس والخسوف للقمر. حكمها: سنة. كيفيتها: ركعتان كهيئة النَّفل بركوع وسجودين، لما روي عن قبيصة الهلالي رضي الله عنه قال: كُسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعاً يجرّ ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، فقال: (إنما هذه الآيات يخوّف الله بها، فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة) (1) . وتُصلى جماعة بإمام الجمعة أو مأمور السلطان. وليس لها أذان ولا خطبة. وينادى لها الصلاة جامعة. ويُسِرّ الإمام والمقتدون فيها. ويسنُّ تطويلها وتطويل الركوع والسجود فيها، لما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه في حديث طويل فيه: (فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الناس. قال فتقدم وصلى بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوته، ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوته، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوته. قال: ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك) (2) . ويقف الإمام بعد الصلاة مستقبلاً الناس بوجهه ويستمر بالدعاء حتى تنجلي الشمس، ويدعو المنفرد وهو جالس مُتَّجه إلى القبلة. ومن لم يحضر الصلاة يصلي منفرداً في منزله ركعتين أو أربعاً. أما صلاة الخسوف: فتصلى دائماً فُرادى في المنزل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع لها الناس. وتصلى هذه الصلاة أيضاً عند الفزع من الزلازل والصواعق، وانتشار الكواكب والضوء الهائل ليلاً، والثلج والأمطار الدائمة، وعموم الأمراض السارية كالطاعون أو غيره. كما تصلى عند الخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من المفزعات والأهوال، لأنها آيات مُخوِّفة للعباد وليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله التي بها فوزهم وصلاحهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه الصلاة.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 262/1185. (2) المستدرك: ج 1 / ص 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الباب السابع (صَلاَة الجَمَاعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 تعريف الجماعة: لغة: الفِرْقة. شرعاً: ربط صلاة المأموم بصلاة الإمام. وتتحقق الجماعة بواحد مع الإمام. سواءً كان رجلاً، أو امرأة، أو صبياً، حراً أو عبداً. في المسجد أو غيره. أما جماعة الجمعة فتتحقق باثنين أو ثلاثة مع الإمام. حكم صلاة الجماعة: -1 - هي سنة عينية مؤكدة في قوة الواجب على الرجال الأحرار غير المعذورين في أداء المكتوبة على أصح الأقوال. وقال بعض المشايخ الحنفية إنها واجبة مطلقاً، وقال الكرخي والطحاوي إنها فرض كفاية. وذلك لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك} (1) ، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فليحرقوا عليهم الحطب في بيوتهم. ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) (2) . -2 - هي سنة كفاية لصلاة التراويح. -3 - مستحبة في وتر رمضان وصلاة الكسوف. -4 - مكروهة في غير وتر رمضان، وفي سائر صلوات التطوع (3) ، وفي صلاة الخسوف، ولجماعة النساء بواحدة منهن. -5 - هي شرط من شروط صحة الصلاة في الجمعة والعيدين. حكم ترك صلاة الجماعة في أداء المكتوبة: أ - بالنسبة للفرد: إن تركها بغير عذر واعتاد تركها يأثم. ب - بالنسبة للجماعة: إن تركها أهل بلد بلا عذر، أمروا بها، فإن أصروا على تركها قوتلوا عليها، لأنها من شعائر الإسلام من خصائص هذا الدين.   (1) النساء: 102. (2) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب 42/251. (3) إذا كانت على سبيل التداعي بأن اقتدى بالإمام أكثر من ثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فضيلة صلاة الجماعة: ثبتت فضيلتها بعدة أحاديث نذكر منها: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّفُ على صلاته في بيته، وفي سوقه، خمسة وعشرين ضِعفاً، وذلك أنه: إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يُخرجه إلاّ الصلاة، لم يَخطُ خطوة، إلا رُفعت له بها درجة، وحُطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه، ما دام في مُصَلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) (2) . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة) (3) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 2/619. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 2/620. (3) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 48/555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الحكمة من صلاة الجماعة: قيام نظام الإلفة بين المصلين والتعلم من العالم. إدراك فضيلة الجماعة: يدرك المأموم الجماعة ويحصل على فضلها إذا أدرك الإمام بجزء من الصلاة ولو آخر القعود الأخير قبل السلام. اختيار الجماعة: اختُلف في اختيار الجماعة هل الأفضل أن يختار المأموم مسجد حيه أم جماعة المسجد الجامع؟ -1 - إن استوى المسجدان فأقدمهما هو الأفضل. -2 - وإن استويا في القدم فأقربهما. -3 - وإن استويا في القرب خُيّر العامي، والفقيه يذهب إلى أقلهما جماعة ليكثروا، والتلميذ يذهب إلى مجلس أستاذه. شروط صحة الجماعة: -1 - شروط يجب توفرها في الإمام. -2 - شروط صحة الإقتداء. أولاً: الشروط التي يجب توفرها في الإمام: -1 - الإسلام: فلا تصح إمامة الكافر ولا إمامة صاحب بدعة مكفرة. -2 - البلوغ: فلا تصح إمامة الصبي المميز (1) ، لأن صلاة الصبي نفل ولا يصح أن يأتم مفترض بمتنفل. -3 - العقل. -4 - الذكورة المحققة: فخرج بذلك الخنثى لأن ذكورتها غير محققة، والمرأة. فلا تصح إمامة النساء للرجال مطلقاً لا في فرض ولا في نفل، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تؤمَنَّ امرأة رجلاً) (2) . أما إمامة المرأة للنساء فتصح مع الكراهة، ولا تصح إمامة الخنثى. -5 - أن يحسن القراءة بما لا تصح الصلاة إلا به إذا كان المأموم قارئاً، وأقلها آية وقيل: ثلاث آيات. ويشترط أن يكون صحيح اللسان فلا تصح القراءة ممن عنده فأفأة أو تأتأة أو لثغ. ولا يصح اقتداء القارئ بأمي ولا بأخرس ولا أميّ بأخرس. -6 - السلامة من الأعذار: كالرعاف الدائم وفقد أحد الطهورين، لأن صلاة المعذور ضرورية. -7 - السلامة من فقد شرط من شروط صحة الصلاة: كالطهارة وستر العورة، إذ لا تصح إمامة من به نجس لطاهر، كما لا يقتدي مستور بكاشف عورة.   (1) خلافاً للسادة الشافعية. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 78/1081. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ثانياً: شروط صحة الاقتداء: الاقتداء: لغة: الملازمة، وشرعاً: ربط صلاة شخص بصلاة الإمام. ويشترط لصحة الاقتداء ما يلي: -1 - أن ينوي المقتدي متابعاً الإمام مقارناً لتحريمته حقيقة وحكماً (أي لا يفصل بين النية والتكبيرة فاصل أجنبي) أما في صلاة الجمعة والعيدين فلا تشترط نية المتابعة لاختصاصهما بالجماعة. -2 - أن لا يتقدم على الإمام بعقبه في جميع الصلاة، فإن تقدم بطلت صلاته، وإن حاذاه صح الإقتداء. -3 - أن لا يقتدي مفترض بمتنفل. -4 - أن تتحد نية الإمام والمأموم في الفرض نفسه والوقت ذاته، فلا يصح اقتداء من يصلي فريضة الوقت بمن يصلي فائتة ولو كانت الصلاة ذاتها. ويصح اقتداء متنفل بمفترض. -5 - أن لا يقتدي مسافر بمقيم بعد خروج الوقت في قضاء الرباعية، لما يترتب عليه كون القعود الأول واجب في حق الإمام وفرض في حق المقتدي (المقتدي يصلي ركعتين فقط) . أما في الصلاة الحاضرة فيقتدي المسافر بالمقيم ويتابع إمامه فيصليها أربعاً، فعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: "المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين - أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم. قال: فضحك وقال: يصلي بصلاتهم" (1) . -6 - أن لا يقتدي بالمسبوق لشبهة اقتدائه. -7 - أن لا يفصل بين الإمام والمقتدي صف من النساء. -8 - أن لا يفصل بين الإمام والمأموم نهر أو طريق يسع فيه صفين أو أكثر في غير المسجد. أما في المسجد فلا مانع من اتساع الفاصل لأن المسجد كله بقعة واحدة. -9 - أن لا يفصل بين الإمام والمأموم حائط كبير يؤدي إلى اشتباه حال الإمام على المأموم. أما إذا لم يشتبه حال الإمام على المأموم لسماعه أو رؤيته فلا يمنع الجدار من صحة الاقتداء. وبناء على ذلك أفتى بعض علماء الحنفية بجواز صحة اقتداء المأموم ولو من بيته إذا اتصلت الصفوف وكان بحيث يسمع الصلاة ويعرف حال إمامه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في غرفة السيدة عائشة رضي الله عنها والناس في المسجد يصلون بصلاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقام أناس يصلون بصلاته) (2) . -11 - أن لا يكون الإمام راكباً والمقتدي واقفاً، أو العكس، أو راكبين على دابتين أو زورقين غير مقترنين. أما لو كانا راكبين على دابة أو زورق واحد صح الاقتداء، لما روي عن أنس بن سيرين قال: "خرجت مع أنس بن مالك في أرض بلبق سرين حتى إذا كنا بدجلة حضرت الظهر فأمنا قاعداً على بساط في السفينة وإن السفينة لتجر بنا جراً" (3) . -12 - أن لا يعلم المقتدي من حال إمامه المخالف لمذهبه مفسداً على مذهب المقتدي كخروج دم سائل أو قيء يملأ الفم. - ويجوز عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقتدي متوضئ بمتيمم، أما عند الإمام محمد فلا يصح. كما يصح اقتداء غاسل بماسح على الجبيرة أو ضماد أو على جرح لا ينزف. - ويصح اقتداء قائم بقاعد مطلقاً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس في مرضه، فكان يصلي بهم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج، وإذا أبو بكر يؤم الناس، فلما رآه أبو بكر استأخر، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر) (4) . - ويصح الاقتداء بالأحدب إن لم يبلغ حدبه حد الركوع، فإذا بلغ حد الركوع وهو ينخفض للركوع قليلاً يجوز عندها ولا يجوز عند الإمام محمد. - وإذا ظهر بطلان صلاة الإمام وجبت الإعادة على المأموم، ويجب أن يُعِلم الإمام المقتدين ببطلان صلاته حتى يعيدوا صلاتهم، لأن علياً رضي الله عنه صلى بالناس ثم تبين أنه محدث فأعاد وأمرهم أن يعيدوا. وقيل لا يجب عليه إعلام القوم.   (1) البيهقي: ج 3 / ص 157. (2) البخاري: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 51/696. (3) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 163، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. (4) ابن ماجه: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 142/1233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أعذار ترك الجماعة: -1 - مطر وبرد شديدان أو وحل، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: (ألا صلوا في الرِّحال) (1) . -2 - خوف ظالم أو ظلمة شديدة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى) (2) . -3 - حبس. -4 - مرض. -5 - حضور درس فقه لا غير بجماعة يفوت الدرس لو صلى بجماعة وكان مواظباً على الدرس. -6 - حضور طعام تتوق إليه نفسه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة الطعام) (3) . -7 - إرادة سفر يتهيأ له. وإذا انقطع عن الجماعة لعذر وكانت نيته حضوره حصل الثواب لحديث أبي بردة قال: سمعت أبا موسى رضي الله عنه مراراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) (4) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 12/635. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 47/551. (3) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد باب 16/67. (4) البخاري: ج 3 / كتاب الجهاد باب 132/2834. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أحق الناس بالإمامة: أ - في المسجد: -1 - السلطان: لحديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) (1) . -2 - القاضي. -3 - إمام الحي، لما روي عن نافع قال: "أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة المدينة ... وإمام ذلك المسجد مولى لابن عمر ... فلما سمعه عبد الله جاء ليشهد معهم الصلاة، فقال له المولى صاحب المسجد تقدم فصلّ. فقال عبد الله: أنت أحق أن تصلي في مسجدك مني. فصلى المولى" (2) . ب - في البيت: ساكنه، ويستحب له أن يقدم الأعلم. جـ - في غير المسجد والبيت: -1 - الأعلم بأحكام الصلاة. -2 - الأقرأ لكتاب الله. -3 - الأورع (3) . -4 - الأسنّ لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي. فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: (إذا حضرت الصلاة فأذّنا. ثم أقيما وليؤمكما أكبركما) (4) . -5 - الأحسن خُلقاً، ثم الأحسن خُلْقَاً، ثم الأشرف نسباً لاحترامه وتعظيمه، ثم الأحسن صوتاً، ثم الأنظف ثوباً، ثم الأحسن زوجة، ثم الأكثر مالاً. وذلك لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم) (5) . وإذا قدموا غير الأَوْلى أساؤوا ولا إثم عليهم. ويكره أن يؤم الرجل قوماً وهم له كارهون، والكراهة تحريمية، وذلك لما روي عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ثلاثة لا يقل الله منهم الصلاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دِباراً، ورجل اعتبد محّرره) (6) . أما إذا كان أحق من غيره أصلاً فلا كراهة في تقدمه.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد باب 53/290. (2) البيهقي: ج 3 / ص 126. (3) الورع: اجتناب الشبهات، وهو أعلى من التقوى، لأن التقوى هي اجتناب المحرمات. (4) مسلم: ج 1 / كتاب المساجد باب 53/293. (5) البيهقي: ج 3 / ص 90. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 63/593. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أحكام المقتدي: المقتدي ثلاثة أقسام: مدرك ولاحق ومسبوق. -1 - المدرك: هو من صلى الركعات كلها مع الإمام، بأن ابتدأ معه وانتهى معه. -2 - اللاحق: هو من دخل مع الإمام ثم فاته بعض الصلاة أو كلها، بأن عرض له نوم أو غفلة أو سبق حدث. حكمه: إن أمكنه أن يقضي ما فاته ثم يتابع الإمام دون أن تفوته صلاة الجماعة، قضى ما فاته ثم يتابع الإمام. وإن خاف أن تفوته الصلاة مع الجماعة، تابع الإمام ثم يقضي ما فاته بعد أن يفرغ الإمام. -3 - المسبوق: وهو من سبقه الإمام ببعض الصلاة، فيتابع الإمام ثم يقضي ما سبقه به الإمام. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) (1) . حكمه: يعتبر ما يدركه المسبوق مع الإمام هو آخر صلاته، والذي يتمه هو أول صلاته وذلك في حق القراءة. أما بالنسبة للقعود فالذي يقضيه هو آخر صلاته. والمسبوق منفرد فيما يقضيه إلا في أربعة أمور: -1 - لا يجوز أن يقتدي بغير إمامه. -2 - لا يجوز أن يقتدي به أحد. -3 - أن يأتي بتكبيرات التشريق إجماعاً. -4 - إذا قام لقضاء ما سبق قبل أن يسلّم الإمام ثم سجد الإمام للسهو يتابعه ما لم يقيد الركعة بسجدة، فإن قيدها يتابع صلاته ثم يسجد للسهو قبل التسليم في آخر صلاته. ولو تابع الإمام بعد أن قيد ركعته بسجدة فسجد للسهو مع الإمام فسدت صلاته. والأصل في صلاة الجماعة أن المقتدي يتابع إمامه في صلاته لأن الإمام جعل ليؤتم به، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) (2) . ومن أدرك الإمام راكعاً فإن أتى بالتحريمة قائماً وقبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع ثم أدرك معه الركوع فقد أدرك الركعة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه) (3) . أما لو سبق الإمام المقتدي أثناء الصلاة فينظر على اعتبار أن متابعة الإمام واجب: إن سبقه بسنّة يتركها ويتابع الإمام، وإن سبقه بركن لا يتابعه حتى يتم ركنه وهكذا. - إذا سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من التشهد فيتم المقتدي تشهده ثم يسلم، لأن قراءة التشهد في القعود الأخير واجب ومتابعة الإمام واجب وإدراك الواجبين مع تأخير أحدهما أفضل من ترك أحدهما. فإن أحدث الإمام قبل أن يسلّم المقتدي بطلت صلاة المقتدي قبل إتمام التشهد، أما بعد التشهد قبل السلام فلا تبطل. - وإذا سلم الإمام والمقتدي ما زال بالصلوات الإبراهيمية يتابع المقتدي الإمام بالتسليم، لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الصلاة سنة. - إذا سلّم المقتدي قبل سلام الإمام بعد تشهد كلّ منهما كان ذك مكروهاً لتركه المتابعة، وتصح صلاة كليهما. - إذا قام الإمام إلى الثالثة قبل أن ينتهي المقتدي من التشهد الأول أتمّه ثم يتابع الإمام لإمكان المتابعة. - إذا رفع الإمام رأسه من الركوع قبل إتمام المقتدي ثلاث تسبيحات يتابعه ولا يتم التسبيح لأن المعتمد أنه سنة. - وإذا زاد الإمام سجدة أو ركوعاً سهواً لا يتابعه المقتدي بل ينتظره ويسجد الإمام للسهو ويتابعه المقتدي. - لو قام الإمام بعد القعود الأخير ساهياً لا يتابعه المؤتم بل ينتظره جالساً ويسبّح، فإن تذكر الإمام وعاد إلى القعود قبل أن يسجد، يسلم المقتدي مع الإمام ويسجد الإمام للسهو، وإن لم يتذكر الإمام حتى يسجد للركعة الزائدة سلَّم المقتدي وحده. - إذا قام الإمام قبل القعود الأخير ساهياً لا يتابعه المقتدي بل يقعد للتشهد ويسبح ثلاثاً. فإن تذكر الإمام وعاد تابعه وإن ظل ناسياً وسجد تفسد صلاة الإمام لتركه القعود الأخير والتشهد وتفسد صلاة المقتدي لأنه متى فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي أيضاً. - إذا أحدث الإمام عمداً بعد القعود قدر التشهد أو قهقهة بعده لا تصح صلاة المسبوق، وإنما تصح صلاة المدرك مع الكراهة لخروجه من الصلاة بغير السلام، أما المسبوق فقد لاقى الفساد جزء من صلاته لأنها لم تتم.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 55/572. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 20/89. (3) الدارقطني: ج 1 / ص 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ما يترتب على المكلف لإدراك الفريضة مع الإمام: إذا شرع المصلي في أداء فرضه أو قضائه (1) منفرداً وحضرت جنازة أو أقيمت جماعة: -1 - إذا كان لم يقيد ركعته بسجدة سلم واقفاً ثم اقتدى بالإمام. -2 - إن كان سجد للركعة الأولى في غير الرباعية في الفجر والمغرب يقطع صلاته بعد السجود بتسليمة ويتابع الإمام (2) . -3 - إن كان سجد للركعة الأولى في رباعية: ضم إليها ركعة ثانية صيانة للمؤدَّى عن البطلان وتشهدّ وسلم لتصير الركعتان له نافلة، ثم اقتدى مفترضاً لإحراز فضل الجماعة. -4 - إن صلى ثلاثاً من رباعية ثم أقيمت الجماعة: أتمها أربعاً منفرداً، وقال الإمام محمد: يتم الرابعة جالساً لتنقلب صلاته نفلاً ثم يقتدي للفرض مع الإمام. وعلى القول الأول يقتدي متنفلاً إن شاء، لما روي عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة) (3) . -5 - إن كان قائماً لثالثة في صلاة رباعية ثم أقيمت الجماعة قبل سجوده للثالثة سلّم قائماً بتسليمة واحدة. -6 - إن شرع في سنة الجمعة فخرج الخطيب، أو سنة الظهر فأقيمت الجماعة، سلّم على رأس ركعتين ثم يقضي السنة بعد أداء الفرض. -7 - إذا دخل المسجد وأقيمت المكتوبة بدأ فيها ولا يبدأ بسنة ولا تحية المسجد، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا فصلاة إلا المكتوبة) (4) . إلا سنة الفجر إن أَمِن فَوْت الجماعة باشتغاله بها. صلاها أولاً، وإن لم يأمن فوتها ترك السنة واقتدى لأن ثواب الجماعة أفضل من سنة الفجر.   (1) أما النفل فلا يجوز قطعه إلا لأجل الجنازة، لأن الجنازة لا خلف لها. أما إذا شرع في النفل كالسنة وأقيمت الجماعة فإنه لا يقطعه بل يتمه شفعاً لأن القطع فيه إبطال. (2) إذ لو أتمَّ الركعتين في الفجر لم يكن له أن يصلي مع الجماعة لعدم جواز التنفل بعدها مطلقاً. وفي المغرب لا يتنفل مع الإمام. (3) الترمذي: ج 1 / كتاب الصلاة باب 163/219. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب الصلاة باب 294/1266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 متى تُدرك الركعة مع الإمام: -1 - من أدرك إمامه في جزء من القيام أو في الركوع معه يُعتبر مدركاً هذه الركعة، ولا يشترط له تكبيرة ثانية بل تكفي تكبيرة الإحرام بشرط أن يأتي بها قائماً. ولو أدرك الإمام في السجود فاتته الركعة، وإذا ركع وحده ثم تابع الإمام في السجود، فعليه أن يأتي بالركعة في آخر صلاته. لما روي عن أي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوا شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) (1) ، وعن عبد العزيز بن رفيع عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جئتم والإمام راكع فاركعوا، وإن كان ساجداً فاسجدوا ولا تعتدوا بالسجود إذا لم يكن معه الركوع) (2) . أما لو أتى بركعة وحده، ثم تابع الإمام في الثانية بطلت صلاته لزيادة ركعة. -2 - إن ركع المقتدي قبل الإمام: أ - إن كان ركوعه بعد قراءة الإمام ما تصح به الصلاة وهو آية وبقي راكعاً حتى أدركه إمامه في ركوعه صح ركوعه لوجود المشاركة وكره لوجود المسابقة. ب - إن لم يدركه الإمام في الركوع، أو ركع المقتدي قبل قراءة الإمام آية واحدة (القراءة الواجبة) ، لا يصح ركوعه لكونه قبل أوانه، فيلزمه أن يعيده مع الإمام وإلا بطلت صلاته. وكذا لو سبق المقتدي إمامه في السجود. -3 - إن أطال الإمام السجود فرفع المقتدي رأسه ثم سجد: أ - إن نوى متابعة الإمام وقعت عن السجدة الأولى. ب - وإن نوى الثانية فقط دون المتابعة، صحت إن أدركه الإمام فيها.   (1) البيهقي: ج 2 / ص 89. (2) البيهقي: ج 2 / ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ترتيب الصفوف: يسن ترتيب الصفوف في صلاة الجماعة كما يلي: -1 - إن كان مع الإمام رجل واحد، وقف عن يمينه مساوياً له متأخراً عنه بعقبه، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (فأخذ برأسي أو بذؤابتي فأقامني عن يمينه) (1) . -2 - إن كان مع الإمام مقتديات اثنان أو أكثر، صفّوا خلف الإمام، لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مُلَيكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: (قوموا فلأصلّ لكم. قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لُبس فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا. فصلى لنا ركعتين ثم انصرف صلى الله عليه وسلم) (2) . -3 - إذا كثروا، صفّوا صفوفاً وراء الإمام. ويكره قيام الإمام وسطهم تحريماً. ويصفّ الرجال أولاً ثم الصبيان ثم النساء، لحديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (3) . ويسن أن يتراصوا في الصفوف، ويسدوا الخلل، ويسوّوا مناكبهم وصدورهم، فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري) . وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه (4) . ولو وجد فرجة في الصف الأول سدّها، وإن وجد الصفّ منتظماً ينتظر مجيء آخر فيصلي معه، وإن خاف فوت الركعة جذب رجلاً من الصف الذي قبله وصلى معه على أن يكون عالماً بالحكم وإلا قام في الصف التالي وحده. روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) (5) . وأفضل الصفوف الأول ثم الأقرب فالأقرب، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) (6) .   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 70/611. (2) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 71/612. (3) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 28/122. (4) البخاري: ج 1 / كتاب الجماعة والإمامة باب 47/692. (5) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 94/671. (6) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 64/594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ما يكره في صلاة الجماعة: -1 - تكره إمامة الجاهل إذا وجد من هو أعلم منه، وإمامة الأعرابي والعبد. كما تكره إمامة الفاسق ولو عالماً، وإمامة المبتدع غير الكافر ببدعته؛ إذ روي عن الإمام أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز، والأصح في المذهب أنها تصح مع الكراهة إن لم يكفر ببدعته لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) (1) . -2 - يكره للإمام تطويل الصلاة، لما روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إن منكم منفّرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) (2) . -3 - تكره جماعة العراة تحريماً لما يترتب عليها من زيادة الكشف، بل يصلون قعوداً بالإيماء متباعدين. -4 - تكره جماعة النساء تحريماً للزوم أحد المحظورين: -1 - إن تقدمت عليهن فهذا مكروه في حق النساء. -2 - إن حاذَتْهن فهو مكروه في حق صلاة الجماعة. وإن فعلن تقف المرأة وسطهن وتتقدمهن بعقبها.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 64/594. (2) مسلم: ج 1 / كتاب الصلاة باب 37/182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الباب الثامن (الصلوات التي فرضت جماعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الفصل الأول: صَلاَة الجُمُعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حكمها: فرض عين، وثبتت فرضيتها بالكتاب والسنّة والإجماع. ويكفر جاحدها. فمن الكتاب: قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (1) . ومن السنة: ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره، وألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا بِرّ له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه) (2) . وعن أبي الجعد الضَّمري، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طَبع الله على قلبه) (3) .   (1) الجمعة: 9. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 78/1081. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 359/500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شروط فرضيتها: -1 - الذكورة: فلا تجب في حق النساء. -2 - الحرية: لما روي عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض) (1) . -3 - الإقامة، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسافر جمعة) (2) . -4 - الصحة، فلا تجب على المريض. ويلحق بالمريض الشيخ الكبير. -5 - الأمن من ظالم. -6 - سلامة النظر، فلا تجب على الأعمى ولو وجد من يوصله، خلافاً للصاحبين. -7 - القدرة على المشي، فلا تجب على المقعد.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 215/1067. (2) الدارقطني: ج 1 / ص 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شروط صحة صلاة الجمعة: -1 - أن تقام في المِصْر، كل موضع له مُفْتٍ وأمير وقاض وبلغت أبنيته أبنية منى، وتجوز في فناء المصر سواءً مصلّى العيد أو غيره. الأصل أن تقام جمعة واحدة في المِصر، ويجوز التعدد على قول الإمام أبي حنيفة ومحمد على الأصح، إن كان أكبر مساجد البلد لا يتسع لأهلها والحرج مدفوع بالنص. وإذا جاز التعدد سقط اعتبار السَّبْق. أما على القول الضعيف المانع من جواز التعدد قيل: يصلي أربعاً بعدها بنية آخر ظهر عليه، فإن قبلت الجمعة وإلا فإنه أدى الظهر. -2 - أن يكون إمام الجمعة السلطان أو نائبه. -3 - أن تقع في وقت الظهر، فلا تصح قبل الزوال لما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة إذا مالت الشمس) (1) . وتبطل الجمعة بخروج وقت الظهر. -4 - أن تكون عامة لجميع الناس، فلا يمنع من الدخول إليها أحد، لأنها من شعائر الإسلام. -5 - الجماعة: فلا تصح من المنفرد. وأقل الجماعة ثلاث وإن لم يحضروا الخطبة. وقيل: تصح الجمعة باثنين مع الإمام. ويشترط عند الإمام أبي حنيفة بقاؤهم أي المقتدين مُحْرِمين مع الإمام حتى يسجد السجدة الأولى، فإن أفسدوا صلاتهم بعد سجوده أتمها وحده جمعة باتفاق أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقال زُفَر يشترط دوامهم كالوقت إلى تمام الصلاة. وإن نفروا قبل سجوده بطلت عند الإمام أبي حنيفة لأنه يقول الجماعة شرط انعقاد الأداء وعند الصاحبين يتمها وحده لأن الجماعة شرط انعقاد التحريمة. -6 - الخطبة: وتصح بغير العربية، وتكون قبل الصلاة، وتنعقد الجمعة لو حضر الخطبة عاقل بالغ واحد.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 224/1084. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أركان الخطبة: للخطبة ركن واحد: وهو مطلق الذكر فيصح الاقتصار على تحميدة أو تسبيح، أو تهليلة عند الإمام مع الكراهة التنزيهية. والدليل على صحة الاقتصار على الذكر رغم الكراهة خطبة عثمان رضي الله عنه لما قال: الحمد لله، فأُرْتِجَ (1) عليه، ثم نزل وصلى بهم ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً منهم. أما عند الصاحبين فيشترط ذكر طويل أقله قدر التشهد (حمدٌ لله، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء للمسلمين) . قال تعالى: {فاسْعَوا إلى ذكر الله} (2) وذكر الله المقصود في الآية هو الخطبة.   (1) أُرتج عليه: استُغلِق عليه الكلام. (2) الجمعة: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 سنن الخطبة: -1 - أن يجلس الخطيب قبل الشروع، ثم يؤذن المؤذن فيقوم الخطيب للخطبة. لا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين. كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ؟؟؟ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب) (1) . -2 - أن يخطب واقفاً للحديث المتقدم ولحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً) (2) . -3 - الطهارة، وهي سنة لأن الخطبة ليست صلاة ولا شطرها (لكنها في الثواب كشطر الصلاة) . -4 - ستر العورة للتوارث. -5 - أن يستقبل القوم بوجهه، لما روي عن عبد بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا) (3) . -6 - أن يبدأ بحمد الله بعد التعوذ سراً، ثم الثناء على الله تعالى، والشهادتين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم العظة والتحذير والتذكير، وقراءة ولو آية من القرآن. وذلك لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، يحمد الله ويثني عليه. ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته واشتد غضبه. حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى. ويقول: أما بعد. فإن خير الحديث كتاب الله. وخير الهُدى هُدى محمد. وشر الأمور مُحدثَاتها. وكل بدعة ضلالة، ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. من ترك مالاً فلأهله. ومن ترك دَيْناً أو ضَياعاً فإليّ وعليّ) (4) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث قدوم ضماد وإسلامه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد) (5) . وعن صفوان ن يَعلى بن أمية عن أبيه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر ونادوا يا مالك) (6) . ويستحب أن يقرأ قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (7) . -7 - تسن خطبتان للتوارث. -8 - الجلوس بين الخطبتين جلسة خفيفة مقدار ثلاث آيات، لما روي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس) (8) . -9 - أن يَتَّكِئَ على سيف بيسراه في كل بلدة فتحت عنوة (9) ، ويخطب بدونه في كل بلدة فتحت صلحاً. -10 - إعادة الحمد والثناء في ابتداء الخطبة الثانية. ويستحسن ذكر الخلفاء الراشدين والعمَّين حمزة والعباس رضي الله عنهم. -11 - الدعاء في الخطبة الثانية للمؤمنين والمؤمنات، بدلاً من الوعظ، بالمغفرة ودفع النِقّم والنصر على الأعداء والمعافاة من الأمراض. -12 - أن يُسمع القوم الخطبة، ويجهر في الثانية دون الأولى. وإن لم يُسمع أجزأ. -13 - يسن تخفيفهما، لما روي عن عمار رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مَئِنّةً من فقهه. فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة. وإن من البيان سحراً) (10) . وتسن الإقامة بعد الخطبة.   (1) البيهقي: ج 3 / ص 205. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 10/35. (3) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 366/509. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 13/45. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 13/46. (6) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 365/508. (7) البقرة: 281. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 10/34. (9) ليريهم أنها فتحت بالسيف فإذا رجعوا عن الإسلام فذاك باق بأيدي المسلمين. (10) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 13/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 مكروهات الخطبة: -1 - التطويل، لما روي عن جابر بن سمرة السُّوائي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هنّ كلمات يسيرات) (1) . -2 - ترك شيء من السنن المذكورة. -3 - يكره للخطيب التفاته يميناً ويساراً حال الخطبة. كما تكره صلاته في المحراب قبل الخطبة.   (1) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 231/1107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ما يكره لسامع الخطبة: -1 - الأكل والشرب. وقيل: يحرم. -2 - يكره لمستمع الخطبة ما يكره للصلاة من عبث وكلام، ولو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغى) (1) . كما يكره التسبيح وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. -3 - ويكره لمن تجب عليه الجمعة أن يسافر يوم الجمعة بعد النداء أي الأذان الأول حتى تنتهي الصلاة.   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 368/512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 إدراك صلاة الجمعة: أ - عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا أدرك الإمام بالتشهد أو بسجود السهو أو تشهده أتم جمعة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (1) أي اقضوا ما فاتكم من صلاة الإمام في الجمعة. وهو القول المرجح. ب - قول الإمام محمد: إذا أدرك الإمام قبل رفع رأسه من ركوع الثانية أتم جمعة، وإلا أتمها ظهراً لأنه أدرك أقل من ركعة. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوا شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) (2) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجمعة باب 17/866. (2) البيهقي: ج 2 / ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ما يجب يوم الجمعة: -1 - السعي لحضورها، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (1) . ويسن السعي إليها ماشياً بسكينة ذهاباً وإياباً، لما روي عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة وغسّل، وبكّر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها) (2) . -2 - يجب ترك البيع بالأذان الأول، وكذا ترك كل شيء يؤدي إلى الاشتغال عن السعي إلى الجمعة أو يخل به. -3 - يجب الاستماع وترك الصلاة إذا خرج الإمام من غرفته إلى المنبر. وإذا أمر الإمام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سراً، ويحمد في نفسه إذا عطس، ولا يردّ سلاماً ولا يُشمِّت عاطساً لاشتغاله بسماع واجب. لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام) (3) .   (1) الجمعة: 9. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 356/496. (3) البيهقي: ج 1 / ص 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فضل يوم الجمعة وما يسن فيه: ورد أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أُدْخِل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة) (1) . ويسن يوم الجمعة الغسل والتطيب، لما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) (2) . وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طُهرٍ، ويِدَّهن من دُهْنه أو يمسّ من طِيب بيته، ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) (3) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 353/488. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 357/497. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الجمعة باب 5/843. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ما يستحب يوم الجمعة: -1 - الإكثار من الصدقة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لما روي عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي يقولون قد بليت. قال: إن الله عز وجل قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام) (1) . -2 - الإكثار من الدعاء، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه) (2) . وأشار بيده يقللها. -3 - قراءة سورة الكهف، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) (3) . -4 - تقيم الأظافر، وقد قيل أن من طول أظافره ضاق رزقه. ويكره قصُّها للجنب حتى يغتسل، وكذا قصُّ الشعر. -5 - نتف الإبط.   (1) النسائي: ج 3 / ص 91. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الجمعة باب 35/893. (3) البيهقي: ج 3 / ص 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الفصل الثاني: صَلاة العيدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سمي العيد بذلك لأنه يعود ويتكرر بالفرح والسرور كل عام، ولأن الله يعود فيه بالإحسان على عباده. حكم صلاة العيدين: واجبة على من تجب عليه صلاة الجمعة، ثبت وجوبها بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها من غير ترك. دليلها: قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} (1) قيل المراد بالصلاة هي صلاة العيد الأضحى. وقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} (2) أي صلاة عيد الفطر.   (1) الكوثر: 2. (2) الأعلى: 14 - 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 شروط وجوبها: هي الشروط ذاتها في وجوب الجمعة. شروط صحتها: هي شروط صحة الجمعة إلا الخطبة فهي سنّة لأنها بعد الصلاة بخلاف الجمعة. ما يسن لمصلي العيد: -1 - أن يأكل ثلاث تمرات أو قطع حلوى قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات) (1) وفي رواية أخرى: (ويأكلهن وتراً) . وأن لا يأكل شيئاً قبل صلاة عيد الأضحى حتى يعود، فيذبح ويأكل من أضحيته، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) (2) . -2 - أن يغتسل، ويستوي في ذلك الذاهب إلى الصلاة والقاعد، لأنه يوم الزينة والغسل لليوم فقط، لحديث الفاكه بن سعد، وكانت له صحبة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم النحر، وكان الفاكه يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام) (3) . -3 - أن يتطيب ويلبس أحسن ثيابه، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يلبس بُرْدَه الأحمر في العيدين والجمعة) (4) وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يلبس بُرْداً حَبَرَة في كل عيد) (5) . -4 - الاستياك، لحديث ابن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: (يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمسّ منه، وعليكم بالسواك) (6) . -5 - أن يُظهِر الفرح والبشاشة لمن لقيه، لما روي عن حبيب بن عمر الأنصاري قال: حدثني أبي قال: "لقيت واثلة يوم عيد فقلت تقبّل الله منا ومنك. فقال: تقبل الله منا ومنك" (7) . -6 - أن يكثر من الصدقة في ذلك اليوم، وأن يؤدي صدقة الفطر قبل الصلاة لمن وجبت عليه. -7 - أن يبكر ويسارع إلى الصلاة نشيطاً ماشياً بسكون ووقار، وأن يكبر سراً عند الإمام وعندهما يكبر جهراً. لحديث علي رضي الله عنه قال: "من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً" (8) . -8 - أن يذهب من طريق ويرجع من آخر لتشهد عليه الملائكة، لحديث جابر رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان يوم عيد، خالف الطريق) (9) . -9 - أن لا يتنفَّل قبلها مطلقاً ولا بعدها في المسجد، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج يوم أضحى أو فطر. فصلى ركعتين. لم يصل قبلها ولا بعدها) (10) أي في المسجد، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المصلى صلى ركعتين) (11) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب العيدين باب 4/910. (2) الترمذي: ج 2 / كتاب الصلاة باب 390/542. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب إقامة الصلاة باب 169/1316. (4) البيهقي: ج 3 / ص 280. (5) البيهقي: ج 3 / ص 280، والحَبَرَة والحَبِرَة: الموشى والمخطط. وهو برد يماني. (6) الموطأ: ص 53. (7) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 206. (8) الترمذي: ج 2 / كتاب العيدين باب 382/530. (9) البخاري: ج 1 / كتاب العيدين باب 24/943. (10) مسلم: ج 2 / كتاب العيدين باب 2/13. (11) المستدرك: ج 1 / ص 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقت صلاة العيد: من ارتفاع الشمس في السماء قدر رمح أو رمحين إلى ما قبل الزوال. ولو صلاها قبل وقتها كانت نفلاً محرماً. ويستحب تعجيل الصلاة في عيد الأضحى وتأخيرها قليلاً في عيد الفطر، لما روي عن أبي الحويرث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران: (عَجِلّ الأضحى وأخِّر الفطر) (1) .   (1) البيهقي: ج 3 / ص 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كيفية صلاة العيد: -1 - أن ينوي الإمام صلاة العيد بقلبه ويقول بلسانه: أصلي صلاة العيد لله تعالى. وينوي المؤتم صلاة العيد مع المتابعة أيضاً وإن كانت نية الشروع مع الإمام تكفيه. ثم يكبرا للتحريم. -2 - أن يقرأ الإمام والمؤتم دعاء الثناء. -3 - أن يكبّر الإمام والمؤتم ثلاث تكبيرات بينهما سكتة قصيرة بمقدار قولهما: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". ويرفعا أيديهما عند كل تكبيرة. فعن بكر بن سوادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "كان يرفع يديه مع كل تكبير في الجنازة والعيدين" (1) . -4 - أن يتعوّذ الإمام ويسمي سراً ثم يقرأ الفاتحة وسورة، ويندب أن تكون سورة {سبح اسم ربك الأعلى} لما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} ) (2) . -5 - ثم يركع الإمام ويتبعه القوم. -6 - أن يقوم للركعة الثانية فيبدأ بالبسلة ويقرأ الفاتحة وسورة، ويندب أن تكون سورة: {هل أتاك حديث الغاشية} للحديث المذكور. -7 - أن يكبر الإمام والقوم ثلاث تكبيرات قبل الركوع، ولو زاد الإمام تابعه المقتدي ما لم يتجاوز أكثر ما ورد أي ست عشرة تكبيرة. -8 - يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين يُعلِّم المسلمين في الأولى أحكام صدقة الفطر أو الأضحية وتكبيرات التشريق، ويبدأ خطبته بتسع تكبيرات. وذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم) (3) . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "السنة في تكبير يوم الأضحى والفطر على المنبر قبل الخطبة أن يبتدئ الإمام قبل الخطبة وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام. ثم يخطب ثم يجلس جلسة ثم يقوم في الخطبة الثانية فيفتتحها بسبع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام ثم يخطب" (4) . -9 - أن يجلس الإمام جلسة خفيفة بين الخطبتين، ثم يكبر في الخطبة الثانية سبعاً ويكبر المصلون سراً. ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام فلا يقضيها منفرداً، بل يصلي أربع ركعات سنة الضحى وينصرف، لما روي عن عبد بن مسعود رضي الله عنه قال: "من فاتته العيد فليصل أربعاً" (5) . ولا تؤخر صلاة العيد عن وقتها إلا لعذر، فتؤخّر لليوم الثاني فقط، فعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"أن ركباً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس. فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم" (6) وتؤخر صلاة الأضحى إلى ثلاثة أيام. ويكره الخروج بقصد التَّشبُّه بالواقفين بعرفة لأنه بدعة واختراع في الدين.   (1) البيهقي: ج 3 / ص 293. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الجمعة باب 16/62. (3) البخاري: ج 1 / كتاب العيدين باب 6/913. (4) البيهقي: ج 3 / ص 299. (5) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 205، رواه الطبراني في الكبير. (6) أبو داود: ج 1 / كتاب الصلاة باب 255/1157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تكبيرات التشريق: حكم التشريق: واجب على المسلم البالغ لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} (1) .   (1) البقرة: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقته: من بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق عند الصاحبين وبقولهما يعمل وعليه الفتوى، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: على مكانكم ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر. ولله الحمد. فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) (1) . أما عند الإمام أبي حنيفة فوقته من بعد صلاة فجر عرفة إلى عقب عصر اليوم الأول من أيام العيد.   (1) الدارقطني: ج 2 / ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مقداره: مرة واحدة على الأقل بعد كل فرض. فلا يجب بعد النَّفل والوتر وصلاة الجنازة. على من يجب: أ - عند الإمام أبي حنيفة: يجب التكبير على الإمام المقيم بمِصْر، فور كل فرض أدي بجماعة مستحبة، وعلى كل من اقتدى به، ولو كان المقتدي مسافراً، أو رقيقاً، أو امرأة وتخفض المرأة صوتها دون الرجال. روى البيهقي بسنده عن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم "في تكبيرهم يوم عرفة عند الغدو من منى إلى عرفة وكانوا مسافرين" (1) ، وروى أيضاً بسنده عن أم عطية رضي الله عنها "في الحيّض يخرجن يوم العيد فيكن خلف الناس يكبرن مع الناس. وكانت ميمونة رضي الله عنها تكبر يوم النحر. وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد" (2) . ويجب على المسبوق التكبير لأنه مقتدٍ حكماً. والمحرم يكبر ثم يلبي. ولا يفتقر التكبير إلى طهارة أو إلى تكبير الإمام عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ب - عند الصاحبين: يجب التكبير فور كل صلاة فرض سواء صلى منفرداً أو جماعة، مسافراً أو مقيماً، لأنه تَبَعٌ للفريضة، وبقولهما يُعمل وعليه الفتوى، وللأمر بذكر الله تعالى في الأيام المعلومات (عشر ذي الحجة) والمعدودات (أيام التشريق) . ولا بأس في التكبير عَقِب صلاة العيدين.   (1) البيهقي: ج 3 / ص 316. (2) البيهقي: ج 3 / ص 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كيفيته: أن يكبّر جماعة. صيغته: "الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر الله أكبر. ولله الحمد". لما روي عن جابر رضي الله عنه في الحديث المتقدم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: (على مكانكم ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد) (1) . ويزيد عليها إن شاء: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وبحمده بُكرة وأصيلا، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلِّم تسليماً كثيرا". ويندب التكبير في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة، لما روي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم "أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما" (2) .   (1) الدارقطني: ج 2 / ص 50. (2) البخاري: ج 1 / كتاب العيدين باب 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الباب التاسع (صلاة المُسافر وصَلاَة المَريض وصَلاة الخوف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الفصل الأول: صَلاَة المُسَافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أقسام السفر: -1 - سفر طاعة كالحج والجهاد. -2 - سفر مباح كالتجارة. -3 - سفر معصية وإثارة للفتن. والقسمان الأول والثاني سببان للرخصة باتفاق الأئمة، والقسم الأخير عندنا سبب للرخصة أيضاً (1) .   (1) خلافاً للأئمة الثلاثة فإنهم قالوا سفر المعصية لا يفيد الرخصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أحكام المسافر: -1 - إباحة الفطر في رمضان. -2 - امتداد مدّة المسح على الخفين إلى ثلاثة أيام. -3 - سقوط وجوب صلاة الجمعة والعيدين، والأضحية. -4 - لزوم قَصْر الصلاة الرباعية، ويجوز للمسافر تأخير الصلاة إذا خاف من اللصوص أو قطاع الطرق. قصر الصلاة: القصر هو أن تُصلى الصلاة الرباعية ركعتين، ولا قَصْرَ للفجر والمغرب، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر) (1) ، وزيد في رواية البيهقي: (إلاّ المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر لطول قراءتها) . أما السنن فيصليها كما يشاء.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 1/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 حكمه: القصر واجب في السفر، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. أما الإتمام فمكروه تحريماً فإذا أتم وقعد القعود الأول قدر التشهد صحت صلاته مع الكراهة لتأخير الواجب وهو السلام عن محله، أما إذا لم يقعد على رأس الركعتين الأوليين فلا تصح صلاته. شروط القَصْر: -1 - أن تكون مسيرة السفر ثلاثة أيام بلياليهن سيراً معتاداً، وقدّره الإمام بثلاث مراحل (1) . وذلك لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلاّ مع ذي محرم) (2) . وقد قيد السفر هنا بثلاثة أيام. -2 - أن يبدأ السفر، ويكون بمجاوزة مكان إقامته ولو كان أخبية (3) ، وأن يجاوز ما اتصل بمكان إقامته وهو المعدّ لمصالح البلد كمكان ركض الدواب ودفن الموتى. ولا تعتبر البساتين من عمران المدينة ولو كانت متصلة ببنائها. -3 - أن ينوي السفر. ويشترط لصحة النية: أ - الاستقلال بالحكم فلو كان تابعاً، كالمرأة مع زوجها والجندي مع أميره، فليس له نية. ب - البلوغ. جـ - عدم نقصان مدة السفر عن ثلاثة أيام. -4 - أن يقتدي المسافر بمسافر. أما لو اقتدى مسافر بمقيم أتم معه، وصح اقتداؤه في الوقت ولا يصح بعد خروجه؛ إذ لو فاتت الصلاة على المسافر ثبتت في الذمة قصراً ولا يحق له الإتمام عد خروج الوقت. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن "المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم يعني المقيمين. أتجزيه الركعتان؟ أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك وقال: يصلي بصلاتهم" (4) . أما إن اقتدى مقيم بمسافر صح مطلقاً، لما روي عن عبد الله رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم يقول: "يا أهل مكة أتِمُوا صلاتكم فإنا قوم سَفر" (5) . ويتم المقيمون بعد سلام الإمام منفردين بلا قراءة ولا سجود سهو، ولا يصح الإقتداء بهم. وتقضى فائتة السفر ركعتين ولو صلاها مقيماً، كما تقضى فائتة الحضر أربعاً ولو صلاها في السفر، لأن القضاء حسب الأداء. والعبرة في القصر لأخر الوقت. إن كان مقيماً في آخر الوقت صلاها أربعاً وإن كان مسافراً صلاها ركعتين.   (1) أي ما يعادل 120 كم تقريباً. (2) البخاري: ج 2 / أبواب تقصير الصلاة باب 4/1036. (3) الخِباء: ما يعمل من وبر أو صوف وقد يكون من شعر والجمع أخبية. (4) البيهقي: ج 3 / ص 157. (5) الموطأ: ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 مدة القَصْر: لا يزال المسافر يقصر الصلاة: -1 - حتى يرجع إلى وطنه. -2 - ما دام مقيماً لمدة أقل من خمسة عشر يوماً، فإن نوى الإقامة خمسة عشر يوماً أو أكثر صار له حكم المقيم فلا يقصر. أما إذا لم ينوِ الإقامة في بلد فيجب أن يقصر مهما طال سفره، لأنّ علقمة بن قيس مكث بخوارزم سنتين يقصر الصلاة، وأقام أنس بن مالك رضي الله عنه بنيسابور سنة وسنتين يقصر الصلاة أيضاً. ولا تصح نية الإقامة ببلدين لم يعيّن المبيت في إحداهما وكل واحدة أصل في ذاتها. أما إن عيّن المبيت في واحدة اعتبرت مكان إقامته وصحت نيته. -3 - إن رجع إلى وطنه قبل مضي مسيرة ثلاثة أيام يتم بمجرد نية الرجوع وإن لم يصل وطنه لنَقْضِه السفر. -4 - إذا مرّ بوطنه الأصلي (1) يتم الصلاة بمجرد الدخول وإن لم ينو الإقامة. أمّا إذا مرّ بوطن الإقامة فلا يتم حتى ينوي الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر.   (1) الوطن الأصلي: هو وطن ولادته أو تأهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الثاني: صَلاِة المريض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أولاً - حالة المريض الذي تعذر عليه القيام أو تعسر: -1 - إذا تعذر عليه كل القيام أي لم يستطع القيام قطعاً، أو استطاع القيام بصعوبة، لوجود ألم شديد، أو خاف زيادة المرض، أو بطء البرء، بغلبة الظن أو بإخبار طبيب مسلم حاذق صلى قاعداً بركوع وسجود. لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) (1) . -2 - إذا قدر على القيام قام بقدر إمكانه بلا زيادة مشقة ولو بالتحريمة وقراءة آية. -3 - ومن عجز عن القيام بخروجه للجماعة وقدر عليه في بيته، صلى في بيته منفرداً وبه يفتى. -4 - أما المعذور الذي يستمسك عذره بالقعود ويسيل بالقيام، أو يستمسك بالإيماء ويسيل بالسجود، يترك القيام والسجود ويصلي قاعداً ومومياً. -5 - وإذا افتتح المكلف صلاته صحيحاً وعرض له مرض أثنائها يتمها بما قدر عليه، ولو أتمها بالإيماء على المشهور.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب تقصير الصلاة باب 19/1066. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ثانياً - حالة من تعذر عليه الركوع والسجود: إذا تعذر عليه الركوع والسجود، سواء تعذر عليه القيام أو كان قادراً عليه، وقدر على القعود ولو مستنداً، صلى قاعداً بالإيماء للركوع والسجود برأسه - وهو أفضل من إيمائه قائماً لو قدر عليه - وجعل إيمائه للسجود أخفض من الركوع. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه، وذكر الحديث وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تسجد على الأرض وإلا فأومِ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) (1) . ولا يجزئه الإيماء مضطجعاً. ولو صلى مومياً ثم استطاع أن يتم الركوع أو السجود ولو قاعداً، لا يبني بل يستأنف لما فيه من بناء القوي على الضعيف.   (1) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 148، رواه الطبراني في الكبير. والإيماء طأطأة الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ثالثاً - حالة من عجز عن السجود: إذا عجز عن السجود وكان قادراً على الركوع، أو قادراً على القيام والركوع، أومأ بالاثنين قاعداً، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها، فأخذ عوداً يصلي عليه فرمى به، وقال: إن استطعت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومي إيماءً واجعل السجود أخفض من الركوع) (1) . فإن لم يخفض أكثر من الركوع بحيث جعل الركوع والسجود سواء لم تصح صلاته لفقد السجود حقيقة وحكماً مع القدرة. ولا يرفع وجهه إلى خشبة أو غيرها للسجود عليها، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم أن يسجد فليسجد، ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه ولكن ركوعه وسجوده يومئ إيماءً) (2) . ومن كان في أنفه وجبهته عذر يصلي بالإيماء، ولا يلزمه تقريب الجبهة إلى الأرض إلى أقصى ما يمكنه.   (1) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 148، رواه أبو يعلى والبزار. (2) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 149، رواه الطبراني في الأوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 رابعاً - حالة من عجز عن القعود أو تعسر عليه: إذا عجز عن القعود ولو متكئاً أو مستنداً، أو تعسّر عليه القعود لوجود ألم، أومأ مستلقياً على قفاه أو على جنبه الأيمن وإلا فعلى الأيسر. والأفضل الاستلقاء على قفاه، لأن التوجه إلى القبلة فيه أكثر، ويجعل تحت رأسه وسادة ليتمكن من الإيماء. لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلي المريض قائماً إن استطاع، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقياً ورجلاه مما يلي القبلة) (1) . وينبغي للمريض نصب ركبتيه إن قدر حتى لا يمد رجليه إلى القبلة. ولا تجوز صلاته مضطجعاً إن كان قادراً على القعود مستنداً.   (1) الدارقطني: ج 2 / ص 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 خامساً - حالة من تعذر عليه الإيماء مستلقياً: إذا تعذر عليه الإيماء مستلقياً: أخرت عنه الصلاة القليلة، وهي خمس صلوات اتفاقاً، فإذا زادت عن ذلك فعلى قولين: الأول: يقضيها إن كان يفهم مضمون الخطاب وإلا تسقط عنه. والثاني: تسقط عنه مطلقاً (وهو قول صاحب الهداية) لأن العاجز عن الإيماء برأسه لا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه، لأن السجود يتعلق بالرأس لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء، فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه) . وقد اختلفوا فيما يقصد بقبول العذر منه، فمنهم من فسره بقبول عذر التأخير فقال بلزوم القضاء، ومنهم من فسره بقبول عذر الإسقاط فقال بعدم القضاء وهم الأكثرون. ويلحق الإغماء الجنون بالمرض، فمن جُنّ أو أغمي عليه مقدار خمس صلوات لا يقضي ما فاته إن خرج وقت السادسة. أما النوم فلا يسقط به شيء، فمن نام عن صلوات يقضيها اتفاقاً. إسقاط الصلاة والصوم: -1 - إذا مات المريض العاجز عن الإيماء قبل أن يتمكن من قضاء ما فاته سقطت عنه وليس عليه أو يوصي بفدية عنها. وكذا لو مات من أفطر لسفر أو مرض قبل أن يقيم أو يشفى لعدم إدراكهما عدة من أيام أُخَر. -2 - إذا مات من فاتته صلوات بلا عذر أو تركها بعذر وكانت أقل من يوم وليلة ومرَّ من الزمن ما يستطيع القضاء فيه ولم يقض، وكذا من أفطر في رمضان لسفر أو مرض ثم أقام أو شفي ومرَّ من الزمن ما يمكنه القضاء فيه ولم يفعل، فعليه أن يوصي بفدية عن كل فرض حتى الوتر (لأنه فرض عملي) وكذا عن صوم كل يوم أيضاً. وقد ورد النص في الصوم. والصلاة كالصيامِ باستحسان المشايخ لكونها أهم. أما ماهية الفدية فهي إطعام مسكين نصف صاع من بُرٍّ أو دقيق، أو صاعٍ من تمر أو زبيب أو شعير أو قيمته وهي أفضل. ويجوز إعطاء فدية الصلاة والصيام لواحد من الفقراء جملة، بخلاف كفارة اليمين حيث لا يجوز أن يُدْفَع للواحد أكثر من نصف صاع في اليوم للنص على العدد فيها. ويخرج الوارث ما أوصى به الميت من ثلث ماله، ولا يُكلَّف بدفع ما زاد عن الثلث، ولو مات ولم يوصِ فتبرع وارثه أو أجنبي جاز، وتسقط عنه الفريضة بفضل الله وعفوه على قول الإمام. ولا يصح أن يصوم الولي ولا غيره عن الميت كما لا يصح أن يصلي أحد عنه لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من الحنطة" (1) . أما لو صلى وصام ووهب ثواب صلاته وصيامه لأبيه أو غيره فيصح ولكن لا تسقط الفريضة عن المتوفى.   (1) الجوهر النقي ذيل السنن الكبرى للبيهقي: ج 4 / ص 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل الثالث: صَلاَة الخوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 حكمها: جائزة بكيفية معينة في حالة حضور عدوٍّ، أو خوف غرقٍ من سيل، أو حَرْقٍ من نار. دليلها: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ... } (1) . وقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (2) .   (1) النساء: 102. (2) البقرة: 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 كيفيتها: ورد في صلاة الخوف روايات كثيرة، وصلاها النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات بصور مختلفة حسب وضع المسلمين وظروفهم، وأولاها وأقربها من ظاهر القرآن الكيفية التالية عندما يكون العدو في اتجاه القبلة: يجل الإمام القوم طائفتين، ويقيم واحدة حاملة سلاحها مرتقبة للعدو، ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة من الصلاة الثنائية والمقصورة بالسفر، أو ركعتين من الرباعية أو المغرب، وتمضي هذه الطائفة إلى جهة العدو مشاة، فإن ركبوا أو مشوا لغير جهة الاصطفاف بمقابلة العدو بطلت، وذلك إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الثانية في الصلاة الثنائية وإذا قام من التشهد الأول في الرباعية، ثم تأتي الطائفة التي كانت في الحراسة فيحرمون مع الإمام، ويصلي بهم ما بقي من الصلاة، ويسلم الإمام وحده لتمام صلاته، ويتمون صلاتهم في مكانهم بعد فراغ الإمام ويقضون بقراءة لأنهم مسبوقون، أو يذهبون للحراسة. وتأتي الطائفة الأولى إن أرادوا أو يتمون صلاتهم في مكانهم بلا قراءة لأنهم لاحقون فهم خلف الإمام حكماً ويسلمون ويمضون إلى العدو. ودليل ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة. قال: وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلِّ راكباً، أو قائماً تومئ إيماءاً) (1) . والأفضل أن تصلي كل طائفة خلف إمام، فتذهب الأولى بعد تمام صلاتها مع إمامها للحراسة ثم تأتي الأخرى فتصلي بإمام آخر مثل حالة الأمن للتوقي عن المشي ونحوه. وإن اشتد الخوف فلم يتمكنوا بالهجوم صلوا ركباناً بالإيماء أو واقفين، إلى أي جهة قدروا بشرط أن يكونوا مطلوبين لا طالبين لعدمها في حقهم، ولا يصح الاقتداء لاختلاف المكان إلا أن يكون رديفاً لإمامه. وإن لم يقدروا على الإيماء جاز لهم تأخير الصلاة للعذر.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب صلاة المسافرين باب 57/306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الباب العاشر (الجَنَائِز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تعريفها: الجنائز: جمع جنازة، مِن جَنَزَه، إذا ستره وجَمَعه. والجنازة بفتح الجيم وكسرها اسم للميت في النعش. ما يسنّ فعله للمُحْتَضَر: -1 - أن يضجع على شقه الأيمن، ويجوز على ظهره، ويُرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة. لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور فقالوا: توفي وأوصى بثلثه لك يا رسول الله، وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده..) (1) . -2 - أن يُلَقَّن الشهادة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) (2) ، ولا يؤمر بها ولا يُلَحُّ عليها فيها. أما إن كان كافراً فيؤمر بالشهادتين، لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) (3) . ويجزئ عن التلقين أن يقال عنده صيغة استغفار كنحو قوله: "أستغفر الله الذي لا إله هو" حتى لا يشعر بالاحتضار. -3 - يستحب دخول أهله وجيرانه عليه للقيام بحقه وتذكيره وتجريعه وسقيه الماء لأن العطش يغلب على المحتضر. وليذكروه برحمة الله وكرمه، ويحسنوا ظنه بالله تعالى أنه يرحمه ويعفو عنه. -4 - أن يُتلى عند رأسه سورة "يس"، لما روى الهيثمي عن المشيخة "أنهم حضروا غضيف بن الحارث حين اشتد سوقه فقال: هل منكم أحد يقرأ يس. قال فقرأها صالح بن شريح السلوي فلما بلغ أربعين منها قبض. قال فكان المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الموت خفف عنه بها" (4) . كما يستحسن قراءة سورة الرعد لأنها تهون خروج الروح. -5 - يفضل إخراج الحائض والجنب من عنده لحضور الملائكة.   (1) البيهقي: ج 3 / ص 384. (2) الترمذي: ج 3 / كتاب الجنائز باب 7/976. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 78/1290. (4) مجمع الزوائد: ج 2 / ص 321 وفيه من لن يُسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ما يسن فعله بعد الوفاة: -1 - أن يقال عنده: "سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، لمثل هذا فليعمل العاملون، وَعْدٌ غير مكذوب". -2 - أن يُشدّ لِحيَاه (1) بعصابة عريضة تعمّهما تُربط فوق الرأس. -3 - أن تُغمض عيناه ويقال: "بسم الله وعلى ملة رسول الله. اللهم يسّر عليه أمره، وسهِّل عليه ما بعده، وأَسعِده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه". لما روي عن بكر بن عبد الله بن عبد الله قال: "إذا غمضت الميت فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا حملته فقل بسم الله ثم سبح ما دمت تحمله" (2) ، وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم موتاكم فأَغْمِضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح. وقولوا خيراً، فإن الملائكة تؤمِّن على ما قال أهل البيت) (3) . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره. فأغمضه.. ثم قال: (اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين. واغفر لنا له يا رب العالمين. وافسح له في قبره. ونوّر له فيه) (4) . -4 - أن يسجّى بثوب، لما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (سجّي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة) (5) . ويحضر عنده طبيب. -5 - وضع ثِقَل أو حديدة على بطنه لئلا ينتفخ، روى البيهقي قال: "مت مولى لأنس بن مالك عند مغيب الشمس، فقال أنس رضي الله عنه: ضعوا على بطنه حديدة" (6) . -6 - وضع يديه بجنبيه (7) ولا يجوز وضعهما على صدره (8) . -7 - تليين مفاصله وأصابعه ليسهل غسله وإدراجه في الكفن. -8 - لا بأس بإعلام الناس بموته لتكثير المصلين عليه. لما روي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم) (9) . وليؤدي أقاربه وأصدقاؤه حقه، لا على جهة التفخيم والإفراط في المدح. ويجب التعجيل (10) بتجهيزه إكراماً له، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) (11) . أما تلاوة القرآن بقرب الميت قبل غسله فاختلف فيها حسب الخلاف في نجاسة الميت. فمن قال: إن نجاسته نجاسة خبث كره قراءة القرآن بقربه تنزيهاً للقرآن عن النجاسة، ومن قال بأنها نجاسة حدث قال: لا مانع من قراءة القرآن عنده. وهذا هو المعتمد. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل) (12) . وروى البخاري تعليقاً (13) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً" (14) ، وروي عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنجس حياً ولا ميتاً) (15) .   (1) اللِّحْيان: تثنية لحَى: منبت اللحية، من الأسنان وغيره أو العظم الذي عليه الأسنان. (2) البيهقي: ج 3 / ص 385. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 6/1455. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 4/7. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 14/48. (6) البيهقي: ج 3 / ص 385. (7) إشارة لتسليمه لربه عز وجل. (8) لأنه صنيع أهل الكتاب. (9) البخاري: ج 4 / كتاب المغازي باب 42/4014. (10) ومن الأمور التي لا تؤخر: تزويج كفء، وتعجيل جنازة، وقضاء دين، والتوبة. (11) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 38/3159. (12) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 40/3163. (13) الحديث المعلق: هو ما حذف من أول إسناده واحد فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته. (14) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 8. (15) الدارقطني: ج 2 / ص 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 حق الميت على المكلفين: -1 - مسلم غير شهيد: يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن. -2 - مسلم شهيد: تعريف الشهيد شرعاً: هو من قتله أهل الحرب مباشرة أو تسبباً بأي سبب كان، أو من قتله أهل البغي أو قطاع الطرق أو اللصوص في منزله، أو وُجِد في المعركة مع الكفار وبه أثر جُرح أو كسر أو حرق أو خروج دم من أُذُن أو عين، لا من الفم والأنف (لأن الدم يخرج من هذه المخارج من غير ضرب) ، أو قتله مسلم ظلماً عمداً لا خطأ بمحدَّد (1) لا بمثقل (2) ، وشمل من قتله أبوه أو سيده. وسمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة.   (1) المحدَّد: ما كان حاداً كالسيف أو السكين أو ما يشبههما. (2) المُثَقَّل: ما كان ذا وزن ثقيل كالحديدة أو الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أحكام الشهيد: -1 - يكفّن بدمه لما روي عن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: (.. أنا شهيد على هؤلاء، لُفّوهُم في دمائهم، فإنه ليس جريح يجرح إلا وجاء جرحه يوم القيامة يُدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك) (1) . -2 - لا يغسل إلا إن علم كونه جنباً فقال الإمام بوجوب غسله استدلالاً بتغسيل الملائكة لحنظلة رضي الله عنه حين استشهد يوم أحد، فعن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة - يعني حنظلة - فاسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غسلته الملائكة) (2) . وعند الصاحبين لا يغسل الشهيد ولو علم كونه جنباً. وعلى هذا الخلاف غسل الحائض أو النفساء إن ماتت شهيدة. ويغسل الشهيد إن كان صبياً أو مجنوناً، كما يغسل إن كان رثيثاً وعاش مقدار وقت صلاة في خيمة أو مستشفى، أو أكل أو شرب قبل أن يموت، أو أوصى بشيء من أمور الدنيا. أما لو أوصى بشيء من أمور الآخرة فلا يغسل كما فعل سعد بن الربيع رضي الله عنه حين أوصى الأنصار فقال: "لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله وفيكم شعر يطرف" (3) . وفاضت نفسه رحمه الله، وذلك في غزوة أحد ولم يُغْسَّل. -3 - يصلى على الشهيد مطلقاً، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه في حديث طويل ذكر فيه: (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه. وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة، ثم جيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذٍ سبعين صلاة) (4) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث له (عن غزوة أحد) قال: (ثم جيء بحمزة فصلى عليه ثم يجاء بالشهداء فتوضع إلى جانب حمزة فيصلى عليهم، ثم ترفع ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم) (5) . -4 - يُنْزَع عن الشهيد ما ليس صالحاً للكفن كالفَرو والحشو والسلاح والدِّرع، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم) (6) . ويزاد إن نقص ما عليه عن كفن السُنَّة. أما شهداء الآخرة فيغسَّلون ويكفَّنون ويُصلى عليهم. وهم كما عدَّهم السيوطي -: من مات مبطوناً (7) ، أو بالغرق، أو بالهدم، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عزَّ وجلّ) (8) . أو مات بذات الجنب لما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الميت بذات الجنب شهيد) (9) . أو الحمل لما روي عن حسناء بنت معاوية قالت: حدثنا عمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النبي في الجنّة، والشهيد في الجنّة، والمولودة والوليدة) (10) . أو بالسل، أو الصرع. وكذا من مات دون أهله أو ماله أو دمه أو مظلمة فهو شهيد، لما روي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) (11) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون مظلمة فهو شهيد) (12) . أو مات شَرَقاً، أو بافتراس السبع، أو حَبَسَه سلطان ظلماً، أو لدغته هامة، أو مات على طلب العلم الشرعي، أو مؤذناً محتسباً، أو تاجراً صدوقاً. لما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... أو وقصته فرسه أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه، أو بأي حتف شاء الله، فإنه شهيد، وإن له الجنة) (13) . ومن مات بالعشق مع العفاف والكتمان فهو شهيد. ومن سعى على امرأته وولده وما ملكت يمينه، يقيم فيهم أمر الله تعالى، ويطعمهم من حلال كان حقاً على الله تعالى أن يجعله مع الشهداء في درجاتهم يوم القيامة. والمتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عند فساد أمته له أجر شهيد، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد) (14) .   (1) البيهقي: ج 4 / ص 11. (2) البيهقي: ج 4 / ص 15. (3) المستدرك: ج 3 / ص 201. (4) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 463. (5) المستدرك: ج 2 / ص 119. (6) البيهقي: ج 4 / ص 14 (7) استسقاء أو إسهال. (8) مسلم: ج 3 / كتاب الإمارة باب 51/164. (9) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 157. (10) مسند الإمام أحمد: ج 5 / ص 409. (11) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 190. (12) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 305. (13) أبو داود: ج 3 / كتاب الجهاد باب 15/2499. (14) الفتح الكبير: ج 3 / ص 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 -3 - حق المولود المسلم على المسلمين إن مات: أ - يُسمَّى، ويُغسَّل، يُكفَّن، ويُصلَّى عليه ويُدفن ويرث ويورث، إن ولد حياً ثم مات، وكانت ظهرت عليه علامة الحياة بحركة، أو صوت، أو خرج رأسه وصدره، أو خرجت رجلاه وسرته وعليها علامة حياة. ويقبل في ذلك خبر الواحد ولو امرأة كالقابلة. لما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحق ما صليتم عليه أطفالكم) (1) . وعنه أيضاً قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم. ومات وهو ابن ستة عشر شهراً) (2) . وإن ماتت الأم واضطرب الولد في بطنها يُشقّ ويُخرج الولد. ب - يُسمَّى، ويدرج في خِرقة ويُدفن، ويُصلى عليه، إن وُلِد ميتاً.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 9. (2) البيهقي: ج 4 / ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 -4 - حق الصبي إن سُبِي من دار الحرب ثم مات: أ - إن سبي مع أحد أبويه يُدرج في خِرقة ويُدفن، فإن علم إسلام أحد أبويه ألحق به فيحكم بإسلامه، وإن أسلم هو قبل أن يموت صحّ منه فيغسل ويصلَّى عليه. ب - إن سبي وحده فهو مسلم تبعاً للدار أو للسابي، فإنه يغسل ويصلى عليه. -5 - حق الكافر على القريب المسلم: إن لم يكن له وليّ كافر حاضر يُغسله المسلم بدون مراعاة السنن، ويكفن في خرقة، ثم يُلقى في حفرة من غير وضع كالجيفة، لحقّ القرابة، أو يدفعه لأهل ملّته. ويتبع جنازته من بعيد. ولا يمكّن الكافر من قريبه المسلم لأنه فرض على المسلمين كفاية ولا يدخل قبره لأن الكفر تنزل عليه اللعنة والمسلم محتاج إلى الرحمة خصوصاً في هذه الساعة. -6 - المرتد: لا يمكَّن أحد من تغسيله لأنه لا ملة له، فيُلقى في حفرة كالجيفة. -7 - البغاة وقطّاع الطرق: يغسلون، ولا يُصلّى عليهم وإن كانوا مسلمين، لأن الصلاة شفاعة لا يستحقونها. أما إذا قُتِلوا بعد ثبوت يد الحاكم عليهم، فإنهم يغسلون ويُصلّى عليهم. -8 - القاتل غيلة: لا يصلى عليه، ولا على مُكابر في المِصْر، ولا على المقتول عصبية إهانة لهم وزجراً لغيرهم. كما لا يصلى على قاتل أحد أبويه عمداً إهانة له. -9 - المنتحر: يُغسل ويصلَّى عليه على المعتمد، ولو لم يكن قَتْلُه لنفسه ناجماً عن شدة وجع، وذلك لأنه مؤمن مذنب. وهو أعظم وزراً من قاتل غيره، وقد صح عن إبراهيم النخعي أنه قال: "لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة. والذي قتل نفسه يصلى عليه" (1) . وصح الحسن أنه قال: "يصلى على من قال لا إله إلا الله، وصلى على القبلة، إنما هي شفاعة" (2) .   (1) المحلى لابن حزم: ج 5 / ص 252. (2) المحلى لابن حزم: ج 5 / ص 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 نفقة تجهيز الميت: يجب أن تكون نفقة التغسيل والتكفين والدفن من مال الميت، فإن لم يكن له مال فمؤنة تجهيزه على من تلزمه نفقته من أقاربه؛ وإذا تعدد من وجبت عليه النفقة فنفقة تجهيزه على قدر ميراثهم. فإن لم يوجد من تجب عليه نفقته، أي من يرثه، فتجب على بيت مال المسلمين. وتجب نفقة المرأة على زوجها إن كانت معسرة لا مال لها. وورد في فضل تجهيز الميت أحاديث، منها ما روي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه (1) أجري عليه كأجر مسكين أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة) (2) .   (1) أجنه: ستره. (2) البيهقي: ج 3 / ص 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أولاً - تغسيل الميت: -1 - يوضع الميت بعد التأكد من موته على سرير مبخَّر لإخفاء رائحته الكريهة، ووجهه ورجلاه إلى القبلة كالمريض، وقيل يوضع كما يوضع في القبر. -2 - تستر عورته ثم يجرد من ثيابه، لما روي عن علي رضي الله عنه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت) (1) . وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل "أن علياً رضي الله عنه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى النبي صلى الله عليه وسلم قميص وبيد علي رضي الله عنه خِرقة يتبع بها تحت القميص" (2) . -3 - تغسل عورته بخرقة ملفوفة على يد الغاسل وتدخل من تحت الساتر. وينوي الغاسل إسقاط الفرض عن المسلمين. -4 - يُوضّأ وضوءاً عادياً بدون مضمضة واستنشاق بل يمسح فمه وأنفه بخرقة، إلا أن يكون جُنُباً أو حائضاً فيُكلف غسل فمه وأنفه. -5 - يُصبّ عليه ماء ساخن ممزوج بسِدر، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر) (3) . -6 - يُغْسَل شعره ويُدَّهَن بالطيب. -7 - يُضجع على يساره فيُغْسَل شِقُّه الأيمن ابتداء لأن البداءة بالميامن سنة، ثم يضطجع على يمينه فيغسل شقه الأيسر حتى يصل الماء إلى سائر جسده. لما روي عن أم عطية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) (4) . -8 - يُجلس الميت مستنداً إلى الغاسل ويُمسح بطنه مسحاً رفيقاً لتخرج فضلاته، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غسل ميتاً فليبدأ بعصره) (5) . وما يخرج منه يغسل فقط للنظافة ولا يعاد غسله ولا وضوءه لأنه ليس بناقض في حقه. ومن تعذر غسله يُصبّ عليه الماء صباً. ثم ينشّف ويُلبَس القميص. ولا تُقصّ الأظافر. ويندب للغاسل الغسل من تغسيل الميت، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسّل ميتاً فليغتسل) (6) .   (1) البيهقي: ج 3 / ص 388. (2) البيهقي: ج 3 / ص 388. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 14/93. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 12/43. (5) البيهقي: ج 3 / ص 388. (6) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 8/1463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أولى الناس بغسل الميت: يُغسِّل الميت أقرب أهله، وإلا فأهل الأمانة والورع لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليغسل موتاكم المأمونون) (1) . ويكره أن يكون الغاسل جنباً أو حائضاً. ويغسل المرأة امرأة، فلو ماتت مع محارمها يمّموها، ولا يغسلها زوجها لأنها حَرُمت عليه بعد الموت. أما الرجل فتغسله زوجته إن اضطرت لكونها في العِدّة ولو كانت رجعية، أما إذا بانت منه قبل الوفاة فلا يجوز. ولو مات رجل بين نساء يمَّمنه بخرقة. أما الصغار إلى ما قبل الاشتهاء فيجوز للمرأة والرجل تغسيلهم لأنه ليس لأعضائهم حكم العورة.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 8/1461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثانياً - تغسيل الميت: حكم التكفين: فرض كفاية بالنظر لعامة المسلمين. ما يكفن به الميت: الكفن على ثلاثة أنواع: -1 - الكفن الكامل المسنون: قميص من العنق إلى القدمين، وإزار من القرن (1) إلى القدم، ولفافة يكون طولها من الرأس إلى القدم مع زيادة للربط من جنس الكفن؛ ويكون مما يلبسه الرجل يوم الجمعة والعيدين. وذلك لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسّن كفنه) (2) . ولا يُغالي في تحسين الكفن، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تَغَالوا في الكفن، فإنه يُسلب سريعاً) (3) . ولو أوصى بالغالي يُكفن بالوسط. وقد كُفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية من كُرْسُفٍ ليس فيها قميص ولا عمامة) (4) . أما المرأة فزاد لها خمار يغطي وجهها ورأسها، وخرقة عرضها ما بين الثدي إلى السرة لربط ثدييها. فيكون كفن المرأة: درعاً وإزاراً وخماراً وخرقة ولفافة. فعن ليلى بيت قائف الثقفية رضي الله عنها قالت: (كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها. فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقاء، ثم الدِرع، ثم الخِمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب. قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه كفنها يناولناها ثوباً ثوباً) (5) . -2 - كفن الكفاية: عند قلة المال وكثرة الورثة. وهو إزار ولفافة للرجل، ويزاد خمار للمرأة. وتكره العمامة على الأصح، لأنها لم تكن في كفن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. واستحسنها بعضهم، لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يعمم الميت ويجعل العَذَبَة (6) على وجهه. ويفضل في الكفن القطن والبياض، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البَسُوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفِنّوا فيها موتاكم) (7) . والجديد والمغسول سواء في الكفن. -3 - كفن الضرورة للرجل والمرأة: يُكتفى فيه بكل ما يوجد. لما روي أن حمزة رضي الله عنه كفن في ثوب واحد، ومصعب بن عمير رضي الله عنه لم يوجد ما يكفن فيه إلا نَمِرة، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه في حديثه عن مصعب رضي الله عنه قال: (فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر) (8) . وهذا دليل على أن ستر العورة وحدها لا يكفي (9) . وأما الصغير فيكفن بثوب واحد، والصغيرة بثوبين. والسَّقْط يُلفّ ولا يكفن ولا يكفن كالعضو من الميت.   (1) القَرن: الذؤابة، وخَصّ بعضهم به ذؤابة المرأة وضفيرتها والجمع قرون. وقَرن الرجل: حدّ رأسه. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 15/49. (3) البيهقي: ج 2 / ص 403. ومعنى لا تغالوا في الكفن: أي تتغالوا فيه بأن تكون قيمته رفيعة، أو بالإكثار من أنواع الثياب، أو بكثرة اللفائف، فإنه يسرع إليها البِلَى والفساد فيكون إضاعة مالٍ وهي حرام. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 13/45، وسحولية: منسوبة إلى سحول مدينة باليمن تحمل منها هذه الثياب. (5) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 36/3157. (6) العَذَبَة: عذبة كل شيء: طرفه. (7) أبو داود: ج 4 / كتاب الطب باب 14/3878. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 13/44. (9) خلافاً للشافعي رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 كيفية التكفين: أ - للرجل: تبسط اللفافة ويذر عليها الحَنُوط (1) والكافور (2) ، ثم الإزار كذلك، ثم يوضع الميت مقمصاً، ثم يُعطف عليه الإزار من جهة اليسار ثم من جهة اليمين ليكون أعلى، ثم يفعل كذلك في اللفافة. ويعقد الكفن إن خيف انتشاره صيانة للميت عن الكشف. ولا بأس أن تحشى مخارق الجسم بالقطن. ب - للمرأة: يجعل شعرها ضفيرتين توضعان على صدرها، ثم يوضع الخمار على رأسها ووجهها فوق القميص، ثم تربط الخرقة فوق اللفافة لئلا تنتشر الأكفان وتعطف من اليسار ثم من اليمين. ويسن تبخير الكفن قبل إدراج الميت فيه سواء للرجل أو للمرأة. ويُغطى رأس المُحرِم ووجهَ المحرمة عند التكفين كغير المُحْرِمين.   (1) الحنوط: عطر مركب من أشياء طيبة ويدخل فيه المسك. (2) الكافور: نبت طيب الريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثالثاً - صلاة الجنازة: حكمها: فرض كفاية على المسلمين، إذا فعلها البعض سقطت عن الآخرين، وذلك لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا على صاحبكم) (1) . ولو كانت فرض عين ما ترك صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه. فإن لم يحضرها سوى شخص واحد صارت فرض عين عليه. ويكفر جاحدها (2) .   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب الصدقات باب 13/2415. (2) قيل هي من خصائص هذه الأمة كالوصية بالثلث. وروي: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 دليلها: ثبتت مشروعيتها بالقرآن والسنة والإجماع. من القرآن: قوله تعالى: {وصلِّ عليهم} (1) . ومن السنة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بَرٍّ وفاجر، وصلوا على كل بَرِّ وفاجر) (2) . وروى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة غسلت آدم، وكبّرت عليه أربعاً، وقالوا: هذه سنتكم يا بني آدم) (3) . وقد روي في فضل الصلاة على الميت عدة أحاديث، منها: ما روي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، فإن شهد دَفْنها فله قيراطان. القيراط مثل أحد) (4) . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شُفِّعُوا فيه) (5) .   (1) التوبة: 104. (2) البيهقي: ج 4 / ص 19. (3) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 35، رواه الطبراني في الأوسط. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 17/57. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 18/58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أركانها: -1 - القيام للقادر عليه، فلا تصح قاعداً أو راكباً من غير عذر. -2 - أربع تكبيرات: تقوم كل واحد مقام ركعة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات) (1) . وتقوم التكبيرة الأولى مقام ركعة الافتتاح لذا فإن فيها معنى الشرط. ويرفع يديه بالتكبيرة الأولى فقط لأن فيها معنى الافتتاح. ولو كبر الإمام خامسة لا يتابعه المصلون بل ينتظرونه للتسليم.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 22/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 شروطها: -1 - أن يكون الميت مسلماً، لأن الصلاة عليه شفاعة وليس للكافر شفاعة. لقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} (1) . -2 - أن يغسل ويكفن قبل الصلاة، فإن صلوا عليه قبل التغسيل أعيدت بعده؛ إذ تشترط الطهارة من النجاسة في البدن والمكان. أما إن دفن ولم يغسل وأهيل عليه التراب فيصلى على القبر ولا يُنبش، لما روي عن الشعبي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعاً) (2) . وإن لم يُهَل عليه التراب ويغسل ويصلى عليه ما لم يتفسخ. -3 - يشترط للمصلين كل ما يشترط في الصلاة، من طهارة، وستر عورة، واستقبال القبلة. -4 - أن يكون الميت متقدماً أمام القوم. -5 - أن يكون الموجود من الميت كله أو أكثره ويكفي النصف مع الرأس. ولا يصلى على الغائب وصلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته، وكانت بمشاهدة منه كرامة ومعجزة له صلى الله عليه وسلم. -6 - أن يكون الميت موضوعاً على الأرض لكونه الإمام من وجه، فإن كان محمولاً على أيدي الناس أو على دابة فلا تجوز الصلاة عليه. -7 - النية: بأن يحدد نية الصلاة على الجنازة الحاضرة.   (1) التوبة: 85. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 23/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 واجباتها: التسليم بعد التكبيرة الرابعة ولا يفصل بينهما شيء، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة) (1) . وينوي بالتسليمتين السلام على الميت مع القوم. ولا يرفع صوته بالتسليم بل يُخافِت في كل الصلاة إلا التكبير فيجهر به. واستحسن بعض المشايخ أن يقول بد التكبيرة الرابعة: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .   (1) البيهقي: ج 3 / ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 سننها: -1 - قيام الإمام أمام صدر الميت ذكراً كان أم أنثى لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان. -2 - قراءة دعاء الثناء بعد التكبيرة الأولى، كما يسن قراءة الفاتحة (1) ، لما روي عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: "صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة" (2) ، وللخروج من خلاف الأئمة. ولا تقرأ الفاتحة على سبيل التلاوة بل على سبيل الثناء، حيث تكره قراءة القرآن في صلاة الجنازة. -3 - أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، وصيغتها كالصلوات الإبراهيمية. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الميت فقال: أنا والله أخبرك تبدأ فتكبر ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" (3) . -4 - الدعاء للميت وللمسلمين ولنفسه بعد التكبيرة الثالثة، بأن يبدأ بالدعاء لنفسه ثم للميت، والأفضل أن يدعو بالمأثور. ومن المأثور ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: (اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده) (4) . وروي عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة. فحفظت من دعائه وهو يقول: (اللهم اغفر له وارحمه وعافِهِ واعفُ عنه. وأكرم نُزُلَه. ووسِّع مدخَلَه واغسله بالماء والثلج والبَرَد. ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدّنس. وأبدِله داراً من خيراً من داره. وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه. وأدخِله الجنة وأعِذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار - قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) (5) . ويزيد في الصلاة على الصبي والمجنون قوله: "اللهم اجعله فَرَطاً (6) ، واجعله لنا أجراً وذُخراً، واجعله لنا شافعاً مُشَفَّعاً". -5 - أن يرفع يديه في تكبيرة الإحرام فقط، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود) (7) .   (1) هي فرض عند الإمام الشافعي. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 64/1270. (3) البيهقي: ج 4 / ص 40. (4) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 60/3201. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 26/85. (6) الفَرَط: الذي يتقدم الإنسان من ولده أي أجراً متقدماً. (7) الدارقطني: ج 2 / ص 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المسبوق: لا يقتدي المسبوق بالإمام وهو بين تكبيرتين بل ينتظره حتى يكبِّر فيدخل معه ثم يقضي ما فاته من التكبيرات بسرعة مع الدعاء إن أمن رفع الجنازة، وإلا كبَّر متتابعاً من غير أن يقول شيئاً قبل رفع الجنازة عن الأرض. فواتها: تفوت صلاة الجنازة إذا حضر بعد التكبيرة الرابعة قبل السلام. مكروهاتها: -1 - تكره الصلاة على الجنازة في مسجد الجماعة كراهة تنزيهية، وإن خشي التلويث فهي كراهة تحريمية. لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) . -2 - تكره صلاة الجنازة في الشارع وفي أراضي الغير. أولى الناس بالصلاة على الميت: السلطان، ثم نائبه أو إمام الحي، ثم الوليّ. وإذا صلى من هو دون الولي بدون إذنه يجوز للولي إعادة الصلاة. والأصل أنه لو صلى الوليّ لا تعاد صلاة الجنازة، لأنه لا يصح فيها التنفل. وإذا كثرت الجنائز فإفراد كل واحدة بصلاة أولى. وإن صليت على الجميع مرة واحدة جاز، لما روي عن الشعبي قال: "صلى علي يوم صفين على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، فكان عمار أقربهما إلى علي وكان هاشم أقربهما إلى القبلة" (1) . وتجعل جميعها صفاً واحداً مما يلي القبلة، ويقف الإمام محاذياً لصدرهم جميعاً، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة، وصفهم صفاً واحداً" (2) .   (1) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 36. (2) البيهقي: ج 4 / ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 رابعاً - حمل الجنازة ودفنها: أولاً - حمل الجنازة: ما يسن في حملها: -1 - أن يحملها أربعة رجال من أركانها الأربعة تكريماً وتخفيفاً وتحاشياً من تشبيهها بالأمتعة. وأن يحمل كل رجل أربعين خطوة ليؤديها حقها وتُكَفَّر ذنوبه، لما روي عن وائلة قال: "من حمل بجوانب السرير الأربع غفر له أربعون كبيرة" (1) . يبدأ الحامل بمقدمها الأيمن وهو يسار السرير فيضعه على عاتقه الأيمن، ثم يضع مؤخرها الأيمن على عاتقه الأيمن، ثم يضع مقدمها الأيسر على عاتقه الأيسر، ثم يختم بالجانب الأيسر بحملها على عاتقه الأيسر، فيكون من كل جانب عشر خطوات. -2 - الإسراع في الحمل دون الخَبَب (2) ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة، فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها، وإن تك سوى ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم) (3) . -3 - المشي خلفها لا أمامها، لما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "كنت مع علي بن أبي طالب في جنازة وعلي آخذ بيدي ونحن خلفها وأبو بكر وعمر أمامها، فقال علي: إن فضل الماشي خلفها على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك ما أعلم ولكنهما يسهلان على الناس" (4) . وورد أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجنازة متبوعة ولا تتبع. ليس منا من تقدمها) (5) . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى خلف جنازة ابنه إبراهيم حافياً) (6) . أي تواضعاً. ويكره أن يتقدم الكل عليها أو ينفرد متقدم واحد. ويجوز للراكب أن يسير خلف الجنازة، والماشي أمامها قريباً منها، لما روي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها) (7) . ويستحب لمن مرت به جنازة أن يقول: "سبحان الحي الذي لا يموت" ويدعو للميت بالخير والتثبيت.   (1) الجامع الصغير: ج 2 / ص 170، وهو حديث ضعيف. (2) الخَبَب: نوع من السير. أي يمشون به دون الخبب بحيث لا يضطرب الميت على الجنازة. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 50/1252. (4) المحلى لابن حزم: ج 5 / ص 243. (5) مسند الإمام أحمد: ج 1 / ص 394. (6) البيهقي: ج 3 / ص 408. (7) النسائي: ج 4 / ص 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ما يكره في حمل الجنازة: -1 - رفع الصوت بالذكر أو بالقرآن، وعليهم الصمت. -2 - اتباع النساء الجنائز، لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا) (1) والكراهة تحريمية. -3 - يكره الجلوس قبل وضعها، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع) (2) . -4 - يكره النَّدب وشقّ الثوب، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) (3) . ويحرم النوح ولا بأس بالبكاء، لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ألا ننوح) (4) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم) (5) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 11/35. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 24/76. (3) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 37/1235. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 10/31. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 6/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثانياً - دفن الميت: حكمه: هو فرض كفاية. كيفيته: -1 - يحفر بمقدار طول قامة إنسان وبعرض نصف قامته، لأن ذلك أبلغ في الحفظ. -2 - أن يلحد في القبر، أي تُجعل حُفَيْرة فيجانب القبلة من القبر يوضع فيها الميت، ويُنْصَب عليه الَّلبِن (1) . وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشقّ لغيرنا) (2) أي لغير المسلمين. ثم يهال عليه التراب. والشق هو ما يحفر في وسط القبر ثم توضع بلاطة فوقه. ولا بأس فيه إن كانت الأرض رخوة. -3 - يسن أن يغطى القبر برداء إن كان الميت امرأة ستراً لها إلى أن يسوى عليها التراب. -4 - يستحب للحاضرين أن يحثي كل منهم ثلاث حثيات من التراب، لما روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون رضي الله عنه ... حثا بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم على القبر) (3) . يقول في الأولى: {منها خلقناكم} ، وفي الثانية: {وفيها نعيدكم} ، وفي الثالثة: {ومنها نخرجكم تارة أخرى} لما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله) (4) . -5 - يُسنم (5) القبر بمقدار أربع أصابع أو شبر، لما روي عن سفيان التمار "أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم سَنَّماً" (6) . -6 - يُدخل الميت من جهة القبلة، ويقول واضعه: "بسم الله وعلى ملة رسول الله"، لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعتم موتاكم في قبورهم فقولوا: بسم الله وعلى سنة رسول الله) (7) . ويوجّهه إلى القبلة لما روي عن عبيد بن عمير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) (8) . ويَدخُل القبر ثلاثة أو أربعة لوضع الميت، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فيمن نزل قبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ونزل في حفرته علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وقثم أخوه، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" (9) . ويشترط أن يكونوا أُمَنَاء أقوياء صُلَحاء. أما المرأة فذو الرحم أولى بوضعها في قبرها من غيرهم، لما روي عن عبد الرحمن بن أبزى "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كبّر على زينب بنت جحش أربعاً، ثم أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من يدخل هذه قبرها؟ فقلن: من كان يدخل عليها في حياتها" (10) . -7 - يسن أن يقف جماعة بعد دفن الميت يدعون ويستغفرون له، ويقرؤون عنده شيئاً من القرآن، أو ختمة إن أمكن، ويسألون الله له التثبيت، لما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت قال: (استغفروا لميتكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأَل) (11) . أما التلقين فمشروع في القبر أيضاً، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله) (12) . وكيفيته كما رواه سعيد بن عبد الله الأودي قال: شهدت أبا أمامة - رضي الله عنه - وهو في النزع فقال: إذا أنا مت فاصنعوا لي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم، فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، والقرآن إماماً) (13) . -8 - يسن وضع الجَريد (14) والإِذْخر على القبر لأنه يستغفر للميت ما دام رطباً، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في قبر كل واحدة. فقالوا يا رسول الله لِمَ صنعت هذا؟ فقال: لعلهما أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) (15) . -9 - يستحب أن يدفن الميت في مقبرة المحلّ الذي مات فيه أو قتل، لما روي عن منصور بن صفية أمه قالت: مات أخ عائشة رضي الله عنها بوادي الحبشة فحمل من مكانه فأتيناها نعزيها فقلت: "ما أجد في نفسي أو يحزنني في نفسي إلا أني وددت أنه كان دفن في مكانه" (16) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما - في قتلى أحد - (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم) (17) . فإذا مات شخص بعيداً عن بلده لا ينقل إليها بل يدفن حيث مات.   (1) اللَّبِن: ما يعمل من الطين مُرَبَّعاً ويُبنى به. (2) البيهقي: ج 3 / ص 408. (3) البيهقي: ج 3 / ص 410. (4) البيهقي: ج 3 / ص 409. (5) يُسنم: أي يرفع عن الأرض مقدار شبر أو أكثر مثل سنام البعير. (6) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 94/1325. (7) البيهقي: ج 4 / ص 55. (8) البيهقي: ج 3 / ص 408. (9) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 65/1628. (10) البيهقي: ج 4 / ص 53. (11) البيهقي: ج 4 / ص 56. (12) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 20/3117. (13) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 45. (14) الجَريد: جمع جَرِيدة وهي سَعْفَة طويلة رطبة. وقيل: الجريدة للنخلة كالقضيب للشجرة. (15) النسائي: ج 4 / ص 106. (16) البيهقي: ج 4 / ص 57. (17) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 42/3165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ما يكره في الدفن: -1 - يكره للنساء النزول إلى القبر. -2 - يكره بناء القبر بالجص والآجر والخشب، وأن يكتب عليه، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبنى على القبر ويجصص أو يقعد عليه، ونهى أن يكتب عليه) (1) . -3 - أن يدفن اثنان في قبر واحد، إلا لضرورة ويجعل بينهما تراب، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) (2) . -4 - الدفن في البيوت لاختصاصه بالأنبياء، ومن مات في سفينة يغسل ويكفن ويصلى عليه ويلقى في البحر، لما روي في البحر، لما عن الحسن البصري أنه قال فيه: "يغسل ويكفن ويصلى عليه ويطرح في البحر" (3) . -5 - نقل الميت من بلد إلى بلد لمسافة أكثر من ميلين، أما بعد الدفن فلا يجوز نقله. -6 - ويحرم نبش القبر إلا أن يكون دفن في أرض مغصوبة فيخرج لحقّ صاحبها إن طلبه، وإن شاء سوّاه بالأرض وانتفع بها زراعة. أو أخذت الأرض بالشُفّعة (4) والشفيع يُخَيَّر. وإن دفن بقبر يملكه غيره (5) من الأحياء بأرض ليست ملكاً لأحد ضمنت قيمة القبر من تَرِكته أو من بيت مال المسلمين.   (1) المستدرك: ج 1 / ص 370. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 72/1280. (3) البيهقي: ج 4 / ص 7. (4) الشُّفْعَة: هي ضم بقعة مشتراة إلى عقار الشَّفيع بسبب الشِركة أو الجِوار. (5) من بسط مصلى في المسجد أو المجلس، فإن كان واسعاً لا يصلي عليه ولا يجلس عليه غير صاحبه، وإن كان ضيقاً جاز لغيره أن يرفع البساط ويصلي في ذلك المكان أو يجلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 التعزية: أ - ما يستحب في التعزية: -1 - تستحب التعزية للرجال والنساء، لما روي عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حُلَل الكرامة يوم القيامة) (1) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزَّى مصاباً فله مثل أجره) (2) . -2 - يُستحب أن يعمَّ جميع الأقارب، وأن تكون صيغة التعزية بما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال معزياً ابنته لما مات ولدها: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى) (3) ، أو بما روي عن أنس رضي الله عنه في تعزية الخِضْر عليه السلام لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. "إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخَلَفاً من كل هالك وعوضاً من كل فات، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، فإنما المصاب من لم يجبره الثواب" (4) . -3 - يستحب لجيران الميت والأباعد من أقاربه تهيئة طعام لأهل الميت يُشبِعَهم يومهم وليلتهم، لما روي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فإنهم قد جاءهم ما يشغلهم) (5) . ويُلحّ عليهم بالأكل، لأن الحزن يمنعهم الطعام فيضعفهم، والله ملهم الصبر ومعوِّض الأجر.   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 56/1601. (2) الترمذي: ج 3 / كتاب الجنائز باب 71/1073. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 6/11. (4) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 3. (5) الترمذي: ج 3 / كتاب الجنائز باب 21/998. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ب - ما يكره في التعزية: -1 - يكره الاجتماع عند أهل الميت حتى يأتي إليهم من يعزيهم، بل ينبغي إذا رجعوا من الدفن أن يتفرقوا ليشتغلوا بأمرهم. -2 - الجلوس على باب الدار للمصيبة. -3 - التعزية في المسجد. -4 - تكرار التعزية. -5 - الضيافة من أهل الميت، لما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل البيت وصنعة الطعام من النياحة" (1) .   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 60/1612. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 زيارة القبور: حكمها: هي مندوبة للرجال والنساء، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فزوروا القبور فإنها تُذكر بالموت) (1) ، وعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، واجعلوا زيارتكم لها صلاة عليهم واستغفاراً لهم) (2) . وقيل تكره للنساء، والأصح أن الرخصة للرجال والنساء، فعن علي بن الحسين عن أبيه "أن بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده" (3) . وعن عبد الله بن أبي مليكة "أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت. قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم. كان نهى ثم أمر بزيارتها" (4) .   (1) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 81/3234. (2) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 59. وهو ضعيف. (3) البيهقي: ج 3 / ص 78. (4) البيهقي: ج 3 / ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كيفية الزيارة: أن يقف قائماً - دون أن يطأ القبور - مستدبر القبلة، مستقبلاً وجه الميت ثم يلقي السلام فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. أسأل الله لي ولكم العافية". ولا يمسح القبر ولا يقبّله ولا يمسّه. وذلك لما روي عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر. فكان قائلهم يقول: السلام عليكم، أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله، للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام) (2) . ويستحب للزائر أن يقرأ سورة "يس"، لما روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفَّف اللهم عنهم يومئذ العذاب، وكان له بعدد ما فيها من حسنات) (3) . ويستحب أيضاً أن يقرأ سورة "الإخلاص" إحدى عشرة مرة، إذ لا مانع من الجلوس على القبر لقراءة القرآن.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 35/104. (2) الجامع الصغير: ج 2 / ص 151. (3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: ص 610. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 مكروهات زيارة القبور: -1 - يكره الجلوس على القبر لغير القراءة، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يجلس أحدكم على جمرة حتى تحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر) (1) . كما يكره النوم والصلاة عنده. -2 - يكره تحريماً قضاء الحاجة على القبور، لما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي، أحب إليّ من أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق) (2) . -3 - يكره قطع الحشيش الرطب وكذا الشجرة من المقبرة، لأنه يسبح الله تعالى ما دام رطباً فيؤنس الميت وتنزل بذكر الله تعالى الرحمة.   (1) النسائي: ج 4 / ص 95. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الجنائز باب 45/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 هل يثاب الأموات بما يقدمه الأحياء: روي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتُلِتَت نفسها، وأَظنها لو تكلمت تصدقّتْ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (2) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أهل بيت يموت منهم ميت فيتصدقون عنه بعد موته إلا أهداها له جبريل عليه السلام على طبق من نور، ثم يقف على شفير القبر العميق هذه هدية أهداها إليك أهلك فاقبلها، فيدخل عليه فيفرح بها ويستبشر، ويحزن جيرانه الذين لا يهدى إليهم شيء) (3) .   (1) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 93/1322. (2) مسلم: ج 3 / كتاب الوصية باب 3/14. (3) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كتاب الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الباب الأول [تعريفه، أقسامه، ما يستحب ويكره فيه] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الفصل الأول: تعريف الصوم، ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 لغة: الإمساك عن الفعل أو القول، بدليل قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} (1) . شرعاً: الإمساك عن المفطرّات، حقيقة أو حكماً (2) ، في وقت مخصوص (من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) ، من شخص مخصوص مع النية.   (1) مريم: 26. (2) الإمساك حكماً: كمن أكل ناسياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الحكمة من مشروعيته: -1 - سكون النفس الأمَّارة بالسوء عن التحرك إلى ما لا يرضي، لأنه إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء عن الحركة وإذا شبعت النفس جاعت الجوارح بمعنى قويت على البطش والنظر فعل ما لا ينبغي، لذا يصفو القلب بالصوم وتحصل المراقبة قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (1) . -2 - العطف على المساكين بالإحساس بألم الجوع.   (1) البقرة: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فضيلة الصوم: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جُنَّة، فلا يَرفُث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم - مرتين - والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها) (1) أي أن الله تعالى ينفي شركة الغير عن الصوم، وهذا لم يذكر في سائر الطاعات، لذا ليس في الصوم المفروض رياء، وقيل تؤخذ الحسنات في المظالم إلا الصوم. ثوابه: تكّرماً من الله تعالى في الآخرة، إن لم يكن الصوم منهياً عنه، فإن كان منهياً عنه كصوم يوم النحر فالصوم صحيح والصائم آثم لإعراضه عن ضيافة الله تعالى. روي عن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة باباً يقال له الرَّيَّان، يَدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون، فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد) (2) . أركان الصوم: الإمساك عن قضاء شهوتي البطن والفرج وعما أُلحق بهما.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 2/1795. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 4/1797. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 شروط الصوم: أولاً: شروط وجوب الصوم: -1 - الإسلام: لأنه عبادة فلا يجب على الكافر. -2 - العقل: فلا يجب على الصغير والمجنون والمغمى عليه، لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (1) . ويجب القضاء في حالة الإغماء ولو امتد الإغماء الشهر كله لندرته ولقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر} (2) إلا أنه لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء إذا كان نوى الصيام، وأما الجنون فإن استوعب الشهر كله فلا يقضي، وإن لم يستوعب قضى ما جُنَّ فيه. -3 - البلوغ: فلا يجب الصوم على الصبي المميز، لكن صومه صحيح، ويُؤمر به قياساً على الصلاة، ويضرب على تركه لِعَشر. والتكليف هنا للأولياء. -4 - العلم بالوجوب: لمن أسلم في دار الحرب، ويحصل بإخبار عدل أو امرأتين. أما من نشأ في دار الإسلام فلا عذر له بالجهل.   (1) أبو داود: ج 4 / كتاب الحدود باب 16/4403. (2) البقرة: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثانياً: شروط وجوب الأداء: الأداء هو تفريغ ذمة المكلف عن الواجب في ذمته المعين له. -1 - الصحة من المرض: لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر} (1) . -2 - الخلو من الحيض والنفاس. -3 - الإقامة.   (1) البقرة: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثالثاً: شروط صحة الصوم: أولاً: النية: فلا تصح كل عبادة إلا بالنية، ولحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) . وتتحقق النية بقصد القلب وعزمه على الصوم، ولا يشترط لها النطق باللسان. وتجب النية لكل يوم، لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة. فلو نوى من أول ليلة في رمضان صوم جميع الشهر لم يجزئ إلا عن أول يوم، ولكن يُسن له ذلك ليصح صوم النهار الذي نسي النية فيه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه. وأقل النية: نويت الصيام، وأكملها: نويت صوم يوم غد عن أداء فرض رمضان إيماناً واحتساباً. والتسحرّ في رمضان نية، لأن النطق باللسان ليس شرطاً بل هو سنة. وإن علق النية على شرط لم تصح، كأن يقول: نويت الصيام إلا إذا دُعِيت إلى طعام، فلا تعتبر نية. شروط النية: -1 - التبييت: ومعناه أن ينوي الصيام من الليل، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. -2 - التعيين: وهو أن يحدد نوع الصوم الذي يريد. وهذان الشرطان غير واجبيين في كل أنواع الصيام: أ - لا يشترط تبييت النية ولا تعيينها فيما يلي: (1) - أداء شهر رمضان؛ أما ما روي عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له) (2) فيحمل على أنه نفي كمال الصوم لا نفي وجوده أصلاً. واستدل على عدم اشتراط التبييت في صوم رمضان بما يلي: -1 - نية أكثر النهار تكون نية للكل، فلو نوى قبيل الضحوة الكبرى - وهو ما قبل نصف النهار - صح صومه. -2 - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رأيت الهلال. فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قال: نعم فنادى النبي صلى الله عليه وسلم: أن صوموا) (3) . ولو نوى في رمضان أداء واجب آخر غير رمضان وقع عن رمضان إن كان صحيحاً مقيماً. (2) - النذر المعيّن زمانه: كمن نذر صوم يوم بعينه فلا يحتاج في نيته إلى تعيين ولا تبييت، لكن لو نوى صوم واجب غير النذر المعين وقع الصوم عن هذا الواجب، وبقي النذر المعين بذمته فيقضيه، أما لو نوى نفلاً مطلقاً فيقع عن النذر. (3) - صوم النفل المطلق: لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني إذن صائم. ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ (4) . فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل) (5) . وتصح النية في صوم النفل المطلق حتى الضحوة الكبرى. ب - يشترط التبييت والتعيين فيما يلي: (1) - قضاء رمضان. (2) - قضاء ما أفسده من نفل. (3) - صوم الكفارات بأنواعها ككفارة اليمين والتمتع والقران. (4) - النذر المطلق.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب بدء الوحي باب 1/1. (2) النسائي: ج 4 / ص 197. (3) النسائي: ج 4 / ص 132. (4) الحَيْس: تمر يُنزع نواه ويُعجن بالسمن. (5) مسلم: ج 4 / كتاب الصيام باب 32/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثانياً: خلوه عما يفسده: ومفسدات الصوم هي: -1 - الجماع عمداً والاستمناء عمداً؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (1) . أما الجماع ناسياً للصوم، فهو كالأكل ناسياً لا يفطر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله) (2) فالنص هنا على الأكل والشراب، وقيس عليه الجماع. -2 - وصول أي شيء عمداً أو خطأ إلى ما يسمى جوفاً، أو ما كان في حكم الجوف وهو الدماغ، من منفذ مفتوح: فأما الشيء فيشمل الطعام والشراب، ويلحق به التدخين، وابتلاع ما لا يؤكل عادة كالدرهم والحصاة والخيط. ويستثنى غبار الطريق، ودخان السيارات، وما بين الأسنان إن كان دون الحمصة. وأما الجوف: فيشمل جوف الإنسان كله، سواء كان الداخل من الفرج أو الدُبُر أو الفم أو أي منفذ له، فلو أدخلت المرأة إصبعها في فرجها ولو للتنظيف أفطرت، والقطرة في الأنف والأذن تُفطر بخلاف القطرة في العين فإنها لا تفطر. -3 - الاستقياء: فلو تعمد التقيؤ أفطر، أما لو ذرعه القيء فلا يضره ولا قضاء عليه، إلا إذا ابتلعه عمداً وكان ملء الفم فعليه القضاء. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذَرَعه القيء (3) فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض) (4) وقال الإمام أبو يوسف: إذا تعمد القيء وكان أقل من ملء الفم لا يفسد.   (1) البقرة: 187. (2) الترمذي: ج 3 / كتاب الصوم باب 26/721. (3) ذَرَعه القيء: غَلَبه وسَبَقَ إلى فِيه. (4) الترمذي: ج 3 / كتاب الصوم باب 25/720. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثالثاً: خلوه عما ينافي صحته: -1 - الإسلام: فلا يصح صوم الكافر ولا المرتد لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (1) . -2 - النقاء من الحيض والنفاس: فلو طهرت بعد الفجر بقليل لم يصح صوم ذاك النهار، لكن يجب الإمساك عن المفطرات بقية اليوم وقيل يسن، وعليها القضاء. أما إذا حاضت بعد آذان المغرب بقليل صح صومها ولا قضاء عليها. وكذا لو نقيت من الحيض أو النفاس قبل الفجر صح صومها ولم تقض ذاك النهار ولو لم تغتسل، لأن الاغتسال ليس شرطاً لصحة الصوم بل هو أفضل. وكذا من أصبح جنباً صح صومه ولو لم يغتسل. وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم) (2) ، وإن كان الأفضل له أن يغتسل قبل الفجر. وليس العقل والإقامة من شروط الصحة، فإن الجنون إذا طرأ وبقي إلى الغروب صح صومه أي ولم يأكل شيئاً ولم يدخل المفطر جوفه.   (1) الزمر: 65. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 22/1825. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الفصل الثاني: أقسَام الصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يقسم الصوم من حيث حكمه إلى أقسام: أولاً: الصوم المفروض وهو نوعان: -1 - مُعّين: وهو ما كان له وقت خاص، ويشمل صوم شهر رمضان، والنَّذر المُعّين. -2 - غير معين: وهو ما ليس له وقت خاص، ويشمل: -1 - قضاء ما فات من صوم رمضان. -2 - النذر المطلق. -3 - الكفارات: وتشمل كفارة الظِّهار، والقتل الخطأ، واليمين، وصوم جزاء الصيد، وصوم المُتْعة والقِران إن لم يهدِ، وفدية الأذى في الإحرام إذا اختار الصوم، وكفارة الإفطار العمد. ثانياً: الصوم الواجب: ويشمل: -1 - قضاء ما أفسد من صوم نفل، لأنه يجب بالشروع فيه. -2 - إتمام ما شرع به من صيام النفل، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (1) . -3 - صوم الاعتكاف المنذور.   (1) محمد: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثالثاً: الصوم المسنون. رابعاً: الصوم المندوب. خامساً: الصوم المكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 القسم الأول (الصَّوْم المفرُوض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 صوم شهر رمضان: دليله: ثبتت فرضية صوم رمضان بالكتاب والسنة والإجماع. من الكتاب: قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه..} (1) . ومن السنة: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) (2) . ويكفر جاحد وجوب صوم رمضان. ومن تركه من غير جحدٍ ولا عذرٍ عذب وضيق عليه حتى يصوم. حكمه: فرض عين أداء وقضاء. سبب وجوب صوم رمضان: شهود جزء صالح للصوم من رمضان، أي شهود جزء صالح لإنشاء الصوم فيه من كل يوم وهو ما كان من طلوع الفجر الصادق إلى قبيل الضحوة الكبرى. خرج بذلك الليل وما بعد الزوال.   (1) البقرة: 185. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الإيمان باب 1/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حكم التماس الهلال: يجب وجوباً كفائياً رؤية الهلال في ليلة الثلاثين من شهر شعبان، لأنه قد يكون الشهر ناقضاً، فقد روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً) (1) . كما يجب التماس هلال شوال ليلة الثلاثين من رمضان. وتثبت رؤية الهلال عند القاضي: أ - إن كان الجو غائماً: يثبت هلال شهر رمضان بخبر مسلم واحد بالغ عاقل عَدْل (2) ، أو بخبر مجهول الحال (3) ، ولو كان أنثى أو رقيقاً أو محدوداً بقَذْف ثم تاب. ويحق للأنثى أن تشهد بغير إذن وليها لأنها فرض عين. ويلزم العدل أن يشهد عند الحاكم في ليلة رؤيته لإثبات رمضان، وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذّن في الناس فليصوموا غداً) (4) ، ولا يشترط لفظ الشهادة، كمالا يشترط حكم أو مجلس قضاء. أما هلال شوال وغيره من الأشهر في يوم الغيم فلا بد في إثباته من عدلين حرّين مسلمين مكلَّفين غير محدودَيْن في قذف، أو رجل وامرأتين لكن بلا اشتراط تقدم دعوى. وذلك لما روي عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلاّ الهلال أمس عشية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا) (5) . ب - إن كانت السماء صحواً: فلابد من رؤية جماعة كثيرين لإثبات رمضان وشوال، فالتفرد في هذه الحالة يوهم الغلط. والجمع الكثير قيل: أهل المحلة، وقال أبو يوسف، خمسون. أما إن لم يكن في القرية قاض ولا وال فيصوم بخبر أحدهم إن كان ثقة، وذلك بأن يشهد ليلة رؤيته بين الناس في المسجد، ويُفطرون بخبر رجلين، إن كان في السماء علّة، وإلا فلابد من جَمع عظيم لثبوت الصيام والفطر.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 11/1811. (2) العَدْل: من كانت حسناته أكثر من سيئاته، والعدالة ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة. (3) المجهول الحال: من لم يظهَر له فسق ولا عدالة. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 14/2340. (5) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 13/2339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثبوت شهر رمضان: يجب صوم رمضان بأحد الأمور التالية: -1 - استكمال شعبان ثلاثين يوماً إن غُمَّ الهلال بغيم أو غبار، وذلك بالإجماع. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العِدّة ثلاثين) (1) . -2 - رؤية هلال رمضان، للحديث المتقدم ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) (2) . ولا عبرة برؤية الهلال نهاراً سواء قبل الزوال أو بعده. أي يجب سبق الرؤية على الصوم والفطر. والرؤية عند عامة الصحابة والتابعين ومن بعدهم عشية كل شهر وهو المختار من المذهب. روى شقيق بن سلمة قال: "جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما أهلاه بالأمس عشية" (3) . كما يجب الصوم ويعم إذا ثبت هلال رمضان بحكم حاكم. -3 - يجب صوم رمضان بحق من رأى الهلال وحده ولو رده القاضي، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (4) . لكن لا يأمر الناس بالصوم سواء كان من عرض الناس أو كان إماماً. أما لو رأى هلال شوال منفرداً فلا يجوز له الفطر، ولا يأمر الناس بالفطر ولو كان إماماً، ولا يصلي بهم العيد أخذاً بالاحتياط. ولو أفطر وجب عليه القضاء دون الكفارة لوجود الشبهة. -4 - يجب الصوم بحق من أُخبر رؤية الهلال من قبل من يثق به. -5 - إذا ثبتت رؤية الهلال بقُطر من الأقطار وجب الصوم على سائر الأقطار لا فرق بين القريب والبعيد منها، أي لا عبرة لاختلاف المطالع مطلقاً. وهناك قول آخر باستقلال كل قطر لاختلاف المطالع وكلا القولين مصحح. أما قول المنجّمين وعلماء الفلك فلا عبرة له، ولا يجب عليهم الصوم لحسابهم ولا على من وثق بقولهم.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 11/1808. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 11/1810. (3) البيهقي: ج 4 / ص 213. (4) البقرة: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يوم الشكّ: تعريفه: هو اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان وقد استوى فيه طرفا العلم والجهل بحقيقة الحال، بأن غم الهلال، فاحتمل كمال شعبان ونقصانه. وكذلك قد يحصل الشك بسبب عدم توفر شروط شهادة الشهود. ويَحْسُن بالمفتي أن يأمر بالإمساك حتى الضحوة الكبرى كي يتأكد المسلمون عدم كونه من رمضان. حكم صومه: -1 - مكروه تحريماً إن صامه على أنه من رمضان على جهة الاحتياط، لقول عمار بن ياسر رضي الله عنهما: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " (1) . -2 - مكروه تنزيهاً إذا نوى صيامه عن واجب، أو إذا نوى صيامه متردداً فيه بين نفل وواجب أو بين نفل وفرض؛ كأن يقول: إن كان غداً من رمضان فهو فرض وإن كان من شعبان فهو نفل. وعلى كلٍ إن صامه وظهر أنه رمضان أجزأه بأي نية كانت إلا أن فيه كراهة. أما إن صامه قضاء أو نذراً أو كفارة فلا يكره بحقه، وكذا إن صامه نفلاً بلا ترديد بينه وبين صوم آخر فإنه لا يكره، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟ قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه) (2) وسرار الشهر آخره لاستتار القمر فيه. ويستحب ختم كل شهر بعبادة. ولكن يشترط لمن صامه ألا يعلن ذلك خشية الظن أن صيامه أفضل، ولئلا يتم بالعصيان لخبر عمار رضي الله عنه المتقدم. وإذا وافق يوم الشك معتاده فصومه أفضل اتفاقاً، واختلف في الأفضل إذا لم يوافق معتاده، قيل: الأفضل الفطر احترازاً لظاهر النهي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) (3) . وقيل: لا بأس بالصوم اقتداء بعلي وعائشة رضي الله عنهما فإنهما كانا يصومانه. -3 - باطل صومه إن نوى متردداً بين الصوم والإفطار، كأن يقول: إن كان من رمضان فصائم وإلا فمفطر، لعدم الجزم بالنية.   (1) النسائي: ج 4 / ص 153. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 37/200. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 3/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حالات الإفطار في رمضان وأحكامها أولاً - حالة الإفطار المحرم الموجب للقضاء والكفارة معاً: -1 - الجماع في أحد السبيلين من آدمي حي مُشتهى وإن لم ينزل، في نهار رمضان، عامداً مختاراً بعد نية الصوم من الليل، وهو مكلف عالم بالتحريم. وتجب الكفارة على المرأة في حال كونها مطاوِعة، فإن أُكرِهت فلا كفارة عليها، بل يجب عليها القضاء فقط كما في الخطأ. أما لو أكرهت المرأة زوجها فعليهما القضاء والكفارة، وقال الإمام محمد: لا تجب عليه الكفارة لكونه مكرهاً. -2 - الأكل والشرب عامداً في نهار رمضان: وإن قلّ، سواء كان المفطر مما يُتغذى به أو يُتداوى. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أفطرت يوماً من رمضان. قال: (من غير عذر ولا سفر؟ قال: نعم. قال: بئس ما صنعت. قال: فما تأمرني؟ قال: أعتق رقبة) (1) . وكذا شرب الدخان في الصيام يوجب الكفارة على قول من يقول: إن سبب وجوب الكفارة قضاء الشهوة وتنقضي بشربه وتناوله. -3 - إذا أكل بعد المسّ أو القبلة بغير إنزال ظاناً أنه أفطر بالمسّ، إلا إذا استفتى فقيهاً فأفتاه بالفطر فأكل فلا تجب عليه الكفارة. وكذا إذا أكل بعد حدوث شيء، كأن اكتحل أو دَهَن شاربه أو اغتاب، فظن أنه أفطر بذلك، لأنه متعمد ولم يستند إلى دليل شرعي فتلزمه الكفارة، إلا إذا كان جاهلاً فاستفتى فأفتي له بالفطر فحينئذ لا تلزمه الكفارة، لأن الفتوى تصير شبهة في حق الجاهل. شروط تحقق وجوب الكفارة: -1 - أن يكون الصائم مكلفاً. -2 - أن يكون مبيتاً النية في أداء رمضان. -3 - أن لا يطرأ قبله ما يبيح الفطر كالسفر، فإن سافر ثم أفطر فلا كفارة عليه، وأن لا يطرأ بعده ما يبيح الفطر كالمرض أو الحيض. -4 - أن يكون غير مكره. -5 - أن يكون متعمداً غير ناس للصوم. -6 - أن يكون غير مخطئ ولا مضطر.   (1) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 167، رواه أبو يعلى والطبراني والأوسط ورجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ماهية الكفارة: -1 - عتق رقبة سالمة من العيوب المفوِّتة للمنفعة، ولا يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة لإطلاق النص. -2 - إن عجز عن الرقبة لعدم مُلكها أو مُلك ثمنها صام شهرين متتابعين لو بدأ بالأهلة، أما لو بدأ في أثناء الشهر ولو في اليوم الثاني منه فعليه ستون يوماً متتابعة، خالية من أيام العيد أو أيام التشريق، ويجب فيها التتابع، إلا المرأة فتقطع أيام حيضها ثم تتابع بعد طُهرها من الحيض، وإذا قدر على الرقبة قبل أن يتمّ صيام الشهرين أعتق. -3 - إن لم يستطع الصوم لعجز أو مرض أطعم ستين مسكيناً ولو في أوقات متفرقة لحصول الواجب. والإطعام أقله وجبتان: فطور وسحور أو غداءان لكل مسكين، ويجوز إعطاؤهما لمسكين واحد على ستين يوماً، لأنه بتجدد الحاجة في كل يوم يصير بمنزلة مسكين آخر. ويشترط في الإطعام الإشباع، ويقدر بنصف صاع (1) من بُرّ أو صاع من تمر أو شعير أو قيمته. أما دليل وجوب الكفارة فما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال ثم جلس؟ فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق (2) فيه تمر، فقال: تصدق بهذا. قال: أفقر منا؟ فما بين لابَتيْها (3) أهل بيت أحوج إليه مناّ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) (4) .   (1) أي ما يعادل اثنين ونصف كيلوغرام من الدقيق. (2) العَرَق: القُفّة، وعاء معروف. (3) اللابة: الحَّرة، أي الأرض التي قد ألْسَبَتْها حجارة سود، وجمعها لابات. ولابتا المدينة: حَرتّان مكتنفتانها. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 14/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تعدادها: تكفي كفارة واحدة عن مفسدات للصوم متعددة في أيام كثيرة بشرط أن لا يتخلل هذه المفسدات (أكل، جماع) تكفير، لأن الكفارة للزجر وبواحدة يحصل، ولو كانت الأيام من رمضانَيين على الصحيح لوقوع التداخل. فإن تخلل بين الإفطارين تكفير وجب إعادة الكفارة لإعادة الجرم. متى يسقط وجوب الكفارة: -1 - إذا طرأ حيض أو نفاس أو مرض يبيح للفطر في يوم الإفساد الموجب للكفارة، لأنها تجب في صوم مستحق وهو لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً فتمكنت الشبهة في عدم استحقاقه من أوله بطروء العذر في آخره. -2 - إذا سافر ثم أفطر، أما إذا سافر مختاراً أو مكرهاً بعد لزومها عليه فلا تسقط، لأن ذلك من صنع العباد. ثانياً - حالة الإفطار المحرم الموجب للقضاء فقط: -1 - إذا فعل ما ليس فيه كمال شهوة الفرج. أ - إن جامع فيما دون السبيلين أو بهيمة. ب - إن قبل أو لمس فأنزل. جـ - الاستمناء بالكفّ أو غيره، أو الفطر بالجماع في غير رمضان. فهذه الأفعال كلها مفطرة لكن لا توجب الكفارة لعدم تمام الجناية. -2 - إن أقطر في أذنه، أو استعط أي أقطر في أنفه. أما إن دخل الماء في أذنيه بلا صنعة فلا يفطر. -3 - إن استقاء متعمداً، وشرط أبو يوسف أن يكون ملء الفم لأن ما دونه كالعدم حكماً، أو ابتلع عمداً ما ذرعه من القيء وكان ملء الفم، وفي الأقل منه روايتان في الفطر وعدمه. -4 - إن داوى جائفة، وهي الجراحة في البطن، أو آمة، وهي الجراحة بالرأس، بدواء ووصل إلى جوفه أو دماغه. -5 - إن أكل ما ليس فيه غذاء، كأن بلع تراباً أو حصواً أو ما لا يؤكل بدون طبخ. -6 - إن أفطر عمداً بعد أكله ناسياً وجب عليه القضاء دون الكفارة لوجود الشبهة، وفي رواية تجب الكفارة. -7 - إن أفطر مكرهاً ولو بالجماع. -8 - إدخال شيء في القُبُل أو الدُبُر ولو كانت الإصبع مبللة أو خرقة، أو قطنة، وكذا الحُقْنَة في الدبر، أو القبل عند أبي يوسف إذا وصل الماء أو الدهن إلى المثانة. -9 - إن أتى بالمفطرات عمداً بعد ما نوى الصيام نهاراً ولم يكن مبيتاً نيته، وجب عليه القضاء دون الكفارة لشبهة عدم صومه عند السادة الشافعية. -10 - إن سافر في نهار رمضان بعد ما أصبح مقيماً ناوياً من الليل، فأكل في حالة السفر وجامع عمداً، وجب عليه القضاء دون الكفارة لشبهة السفر وإن لم يحل له الفطر. -11 - إن أدخل الدخان عمداً إلى جوفه أو دماغه، سواء أكان دخان عنبر أو عود أو غيرهما، حتى لو استنشق بخوراً أفطر. ثالثاً - حالة الإفطار الجائز الموجب للقضاء فقط: -1 - المرض: أ - إن خاف المكلف زيادة مرضه أو بطء الشفاء جاز له الفطر وعليه القضاء من أيام آخر، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدّة من أيام أُخر} (1) . ب - إن خاف على نفسه الهلاك أو ذهاب منفعة عضو وجب عليه الفطر. -2 - السفر: يجوز للمسافر في رمضان قبل الفجر أن يفطر، وعليه القضاء فيما بعد، أما إن أنشأ السفر بعد الفجر فلا يحل له الفطر بعد ما أصبح صائماً. وأدلة جواز الفطر في السفر قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر} (1) . وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر) (2) . ولكن الصوم في السفر أفضل من الفطر إن لم يضره، بدليل قوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} (3) ، وما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحار، الشديد الحر وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحَّر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة) (4) . هذا إذا لم يكن عامة رفقته مفطرين، وإلا فالأفضل الفطر موافقة للجماعة. وإذا كان مسافراً فأقام أثناء النهار، وكان أكل أو شرب، فيستحب له الإمساك بقية يومه، أما إذا وصل قبل الزوال، ولم يفسد صومه، فينوي الصوم ويتابع يومه صائماً. -3 - الغزو: إذا كان المكلف يعلم يقيناً أو بغلبة الظن وقوع القتال، ويخاف الضعف عنه إن صام، جاز له الفطر قبل الحرب. -4 - الحامل والمرضع: إن خافتا على نفسيهما أو ولديهما بإخبار طبيب حاذق مسلم عدل، أو بتجربة سابقة، جاز لهما الفطر، ووجب في حقهما القضاء فقط. لما روي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وضع للمسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحُبلى والمُرضع) (5) . -5 - صاحب العمل الشاق: إن أجهده العطش الشديد أو الجوع المفرط، وخاف الهلاك جاز له الفطر. لكن لا يفطر حتى يجهده الصوم. ومن مات قبل زوال عذره بمرض أو سفر ونحوه من الأعذار المبيحة للفطر سقط عنه القضاء، ولا يجب عليه الإيصاء بفدية لفوات إدراكه عدة من أيام أخر، وإن أدرك العدة قضى ما قدر على قضائه، وإن لم يقض وجب الإيصاء بقدر الإقامة من السفر والصحة من المرض وزوال العذر اتفاقاً؛ فلو فاته عشرة أيام فقدر على خمسة أدى فديتها فقط، وتخرج الفدية من الثلث لأنها تابعة للوصية.   (1) البقرة: 184. (2) البقرة: 184. (3) ابن ماجه: ج 1 / كتاب الصيام باب 10/1661. (4) ابن ماجه ج 1 / كتاب الصيام باب 10/1663. (5) النسائي: ج 4 / ص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 رابعاً - حالة الإفطار الجائز الموجب للفدية دون القضاء: -1 - الشيخ الفاني إن عجز عن الأداء، لقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} (1) ، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (2) . وقد أطعم أنس رضي الله عنه بعد ما كَبِر عاماً أو عامين، كل يوم مسكيناً، خبزاً ولحماً، وأفطر (3) . -2 - المريض مرضاً مبيحاً للإفطار ولا يرجى شفاؤه. -3 - العاجز عن أداء نذر صوم الدهر، يفطر ويفدي لاشتغاله بالمعيشة. ماهية الفدية: إطعام مسكين نصف صاع من بُرّ، أو صاعاً من تمر أو شعير، أو قيمته، أو أكلتين مشبعتين عن كل يوم، ولا يشترط التمليك (4) . فإن لم يقدر على الإطعام لعسرته يستغفر الله سبحانه ويطلب منه العفو عن تقصيره في حقه. ولا تجوز الفدية إلا عن صوم هو أصل بنفسه لا بدل عن غيره. حتى لو وجبت عليه كفارة يمين أو قتل أو ظهار أو إفطار، فلم يجد ما يكفر به عن عتق أو إطعام أو كسوة، وهو شيخ فان أو لم يصم حال قدرته على الصوم حتى صار فانياً، لا تجوز له الفدية لأن الصوم هنا بدل عن غير وهو التكفير بالمال. ولذا لا يجوز المصير إلى الصوم إلا عند العجز عما يكفر به من المال.   (1) البقرة: 184. (2) البخاري: ج 4 / كتاب التفسير باب 27/4235. (3) البخاري: ج 4 / كتاب التفسير باب 27. (4) بخلاف صدقة الفطر فلا بُدّ فيها من التمليك كالزكاة. وكل ما شرع بلفظ الإطعام أو الطعام يجوز فيه التمليك والإباحة ولا يجب، وما شرع بلفظ الإيتاء أو الأداء يشترط فيه التمليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 خامساً - حالة الإفطار الواجب الموجب للقضاء: وهي حالة الحائض والنفساء. ودليل وجوب القضاء ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) (1) . فإن طهرتا أثناء النهار يجب الإمساك بقية النهار قضاء لحق الوقت ولأنهما صارتا أهلاً للصوم. وقيل يسن لهما الإمساك.   (1) مسلم: ج 1 / كتاب الحيض باب 15/69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 سادساً - حالة وجوب الإمساك مع وجوب القضاء ولا إثم فيها: -1 - إن تسحر بعد الفجر شاكاً أنه لم يطلع وقد طلع لا كفارة عليه للشبهة لأن الأصل بقاء الليل، ويأثم إثم ترك التثبت لا إثم جناية الإفطار. وإذا لم تبين له طلوع الفجر لا يجب عليه القضاء بالشك. -2 - إن أفطر ظاناً أن الشمس قد غربت ولم تغرب، ولابد من غلبة الظن لا مجرد الشك؛ لأن الأصل بقاء النهار فلا يكفي مجرد الشك لإسقاط الكفارة، بخلاف الشك في طلوع الفجر عملاً بالأصل في كل محل. وفي الحالتين يجب عليه القضاء والإمساك بقية اليوم قضاء لحرمة الوقت بالقدر الممكن ونفياً للتهمة، فقد قيل "من أقام نفسه مقام التهمة فلا يلومن من أساء الظن به". ودليل وجوب القضاء ما روي عن حنظلة رضي الله عنه، وكان صديقاً لعمر رضي الله عنه، قال: "كنت عند عمر في رمضان فأفطر وأفطر الناس، فصعد المؤذن ليؤذن فقال: يا أيها الناس هذه الشمس لم تغرب. فقال عمر رضي الله عنه: كفانا الله شرك، إنا لم نبعثك راعياً. ثم قال عمر رضي الله عنه: من كان أفطر فليصم يوماً مكانه" (1) . -3 - إن أفطر خطأ بسبق ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه. -4 - إن أفطر مكرهاً. -5 - إن أمسك اليوم كله ولم ينوِ صوماً وجب عليه القضاء لتفويت النية بالجهل ولفقد شرط الصحة. ويكون القضاء في جميع الحالات على التراخي، فلو أخره حتى دخل رمضان آخر فلا فدية عليه بالتأخير، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان" (2) . ولا يشترط التتابع (3) في القضاء لإطلاق النص، لكن يستحب التتابع وعدم التأخير عن زمن القدرة مسارعة إلى الخير وبراءة للذمة.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 217. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 39/1849. (3) أما الصوم الواجب أداؤه فهو أداء رمضان وكفارة الظهار والقتل واليمين وكفارة الإفطار عمداً. وأما الصوم المخير أداؤه متتابعاً: فهو قضاء رمضان وفدية الحلق في الحج والمتعة والقران وجزاء الصيد والتطوع والنذر إلا أن ينذره متتابعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 سابعاً - حالات لا تفطر ولا يجب فيها شيء: -1 - الأكل والشرب والجماع ناسياً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) (1) . ومن رأى ناسياً للصوم يأكل وكان قادراً على إتمام الصوم فليذكره أنه صائم، ويكره له كراهة تحريمية ترك التذكير، أما إن لم يكن له قوة فالأفضل عدم تذكيره لما فيه من قطع الرزق، واللطف فيه أفضل شاباً كان أو شيخاً. -2 - الاحتلام: وهو غير مفسد للصوم لتجرده عن القصد، ولما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام) (2) . -3 - الإنزال من غير مباشرة أو فعل منه، كالإنزال بالنظر إلى المرأة أو بالفكر، لا يفسد الصوم ولو أدام النظر، رغم أنهما حرام. وكذا القبلة لا تفطر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإِرْبه) (3) . -4 - دهن الجلد أو الاغتسال ولو وجد برد الماء في كبده. -5 - الاكتحال ولو وجد طعمه في حلقه أو لونه في بصاقه، وسواء كان مطيباً أم لا، إذ ليس بين العين والدماغ مسلك، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم) (4) . ومثله القطرة بالعين. -6 - الاحتجام، للحديث المتقدم: (ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام) ، أما ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) (5) فمؤول بذهاب الأجر. ومثله إبرة سحب الدم أثناء الصوم. -7 - دخول الدخان في حلقه بلا صنعة لعدم القدرة على الامتناع منه. -8 - دخول غبار طريق أو ذباب، أو بقاء أثر طعم أدوية في حلقه، لا يفسد الصوم لعسر لاحتراز عنها. -9 - الاحتقان في قبل الرجل بماء أو دهن لا يفطر عند الإمام أبي حنيفة ومحمد (خلافاً لأبي يوسف فيما إذا وصل إلى المثانة يفسد) . -10 - نزول النخامة من الرأس إلى الأنف ثم استنشاقها وابتلاعها عمداً لا يفسد الصوم، لكن يستحب إلقاؤها للخروج من خلاف السادة الشافعية. -11 - إذا سبح أو استحم فدخل في أذنه ماء لا يفسد صومه للضرورة. وكذا حك الأذن بعود وخروج درن من الصماخ لا يفسد الصوم ولو أدخله مراراً. -12 - إذا ابتلع ما بين أسنانه لا يفطر إن كان دون الحمصة. -13 - إذا مضغ قدر سمسمة، قد تناولها من خارج فمه، حتى تلاشت ولم يجد لها طعماً في حلقه. -14 - من ذرعه القيء ولو ملأ فاه لا يفسد إن لم يبتلعه. -15 - من تعمد القيء وكان أقل من ملء الفم لا يفسد عند الإمام أبي يوسف، وقال الإمام محمد بالفساد. -16 - الإصباح بالجنابة لا يفسد، لأن من ضرورة الإذن بالمباشرة طوال الليل وقوع الغسل بعد الفجر. -17 - إذ نوى الفطر ولم يفطر لعدم الفعل. -18 - الغيبة: لا تفسد الصوم.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 33/171. (2) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 170. (3) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 23/1826، وإِرْب: الحاجة، أي كان صلى الله عليه وسلم أغلبكم لهواه. (4) ابن ماجه: ج 1 / كتاب الصيام باب 17/1678. (5) ابن ماجه: ج 1 / كتاب الصيام باب 18/ 1679. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 القسم الثاني (الصَّوْم المَسْنُون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وهو صوم يوم عاشوراء، فإنه يكفر السنة الماضية، بشرط أن يكون مع التاسع أو الحادي عشر، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) (1) ، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قَابِل لأصومن التاسع) (2) . أي إلى عام قابل، ولم يبق صلى الله عليه وسلم إليه.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 36/196. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 20/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 القسم الثالث (الصَّوْم المَندوب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ويشمل: -1 - صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فيكون كمن صام الشهر. ويندب كونها أيام البيض (1) أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، لما روي عن ابن ملحان القيسي عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: قال: هُن كهيئة الدهر) (2) . -2 - صوم يومي الاثنين والخميس: لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم) (3) . -3 - صوم ستة أيام من شوال: لما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) (4) . ويستحب أن تكون متفرقة، وقيل: الأفضل وصلها. -4 - صوم يوم عرفة لغير الحاج، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) (5) . -5 - صوم عشر ذي الحجة: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال، ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) (6) . -6 - صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وأفضلها صوم محرم، لما روي عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك. وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها) (7) . ولحديث: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) (8) . وكذلك يندب صوم شعبان لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يُفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان) (9) . -7 - صوم يوم وإفطار يوم: لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام) (10) . -8 - النفل المطلق: وهو ما لم يثبت عند الشارع كراهته ولا يخصص بوقت، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) (11) .   (1) سميت كذلك لتكامل ضوء الهلال وشدة البياض فيها. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 68/2449. (3) الترمذي: ج 3 / كتاب الصوم باب 44/747. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 39/204. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 36/196. (6) الترمذي: ج 3 / كتاب الصوم باب 52/757. (7) أبو داود: ج 3 / كتاب الصوم باب 54/2428. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 38/202. (9) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 51/1868. (10) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 55/1875. (11) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 31/168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 جواز الفطر في صوم التطوع: اختلف الفقهاء في جواز الفطر لمن نوى الصوم متطوعاً: -1 - قال أبو يوسف بالجواز ولو بدون عذر، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوم آخر فقلنا: يا رسول الله أُهدي لنا حَيْس، فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل) (1) . -2 - ذكر الكرخي وغيره أنْ ليس له أن يفطر إلا لعذر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل) (2) . فلو كان الفطر جائزاً كان الفطر أفضل لإجابة الدعوة التي هي سنة. والصحيح أن إفساد الصوم أو الصلاة بعد الشروع بهما نفلاً مكروه وليس حراماً لأن الدليل ليس قطعي الدلالة، لكن يلزمه القضاء. أما إن عرض للمتطوع عذر أبيح له الفطر اتفاقاً، والضيافة عذر للضيف والمضيف على السواء فيما قبل الزوال لا بعده.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 32/170. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 75/2460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 القسم الرابع (الصَّوْم المَكرُوه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وهو قسمان: (1) المكروه تنزيهاً: -1 - صوم يوم عاشوراء منفرداً عن التاسع أو الحادي عشر. -2 - إفراد يوم الجمعة بالصوم لوجود النهي عنه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تَخُصُّوا الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم (1) ، وعنه أيضاً قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصَوُمنَّ أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) (2) . -3 - إفراد يوم السبت بالصوم، لما روي عن عبد الله بن بسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم) (3) . وكذا إفراد يوم النيروز (4) أو المهرجان (5) ، لأنه تعظيم لأيام نهينا عن تعظيمها، إلا أن يصادف معتاده فلا كراهة. -4 - يكره صوم الدهر لحديث أبي قتادة رضي الله عنه وفيه: (فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر) (6) . -5 - يكره صوم يوم الشك إن صامه عن فرض أو واجب أو تردد فيه بين نفل وواجب. -6 - يكره الوصال في الصوم حتى يتصل صوم الغد بالأمس، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والوصال. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله. قال: إنكم لستم في ذلك مثلي. إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون) (7) . -7 - يكره صوم المسافر إذا أجهده الصوم، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر أن تصوموا في السفر) (8) . -8 - يكره للمرأة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم المرأة وبَعْلُها شاهد إلا بإذنه) (9) . وله أن يُفَطِّرها إلا أن يكون مريضاً أو صائماً أو مُحْرِماً فلا يجوز له منعها في هذه الحال. -9 - يكره الصوم عن الكلام لأنه في غير شرع الإسلام وقد نسخه شرعنا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) (10) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 24/148. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 62/1884. (3) الترمذي: ج 3 / كتاب الصوم باب 43/744. (4) النَّيروز: يوم في طرف الربيع. (5) المَهْرجان: يوم في طرف الخريف.. وهذا اليوم والذي قبله عيدان للفرس. (6) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 36/196. (7) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 11/58. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 15/92. (9) البخاري: ج 5 / كتاب النكاح باب 84/4896. (10) البخاري: ج 6 / كتاب الأيمان والنذور باب 30/6326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 (2) المكروه تحريماً: وهو إن صامه انعقد صومه مع الإثم، وإن شرع فيه ثم أفسده لا يلزمه القضاء. -1 - صوم يومي عيد الفطر وعيد الأضحى، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر) (1) . -2 - صوم أيام التشريق، وهي الثلاثة التي بعد عيد الأضحى، لحديث نُبَيْشَة الهُذَلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب) (2) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 65/1890. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 23/144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 النذر (1) : حكم الوفاء بالنذر: هو فرض على الراجح، وعلى القول المرجوح واجب إن كان من القربات، ضمن شروط سنذكرها، ودليل كونه واجباً أن الآية التي ثبت الحكم فيها: {وليوفوا نذورهم} (2) ، دخلها التخصيص بمن نذر معصية ولذا فهي غير قطعية الدلالة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يَعْصِه) (3) فلا وفاء لنذر المعصية بل يحرم فعلها. وقد انعقد الإجماع على وجوب الوفاء بنذر الطاعة، إن لم يكن نذر لجاج (4) إذ اختلف في وجوب الوفاء به.   (1) أخر الكلام على النذر تأخيراً لما أوجبه العبد على نفسه عما أوجبه الحق جلّ وعلا عليه. (2) الحج: 29. (3) البخاري: ج 6 / كتاب الأيمان والنذور باب 30/6322. (4) مثال نذر اللجاج: أن ينذر أن يفعل شيئاً إذا أصاب أخاه مكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 شروط الوفاء بالنذر: -1 - أن يكون من جنسه فرض بأصله، كالصلاة والصوم والحج، إلا أن يكون في وقت محرم، كأن ينذر صوم أيام التشريق أو العيدين، فيصح النذر ويقضيه في غير هذه الأيام. -2 - أن يكون المنذور مقصوداً لذاته لا لغيره كالوضوء فإنه مقصوداً لغيره. -3 - أن لا يكون واجباً قبل نذره بإيجاب الله تعالى كالصلوات الخمس والوتر. -4 - أن لا يكون محالاً، كأن يقول: علي صوم أمس. ويصح النذر بالصلاة غير المفروضة والصوم والصدقة والاعتكاف والذبح. أقسام النذر: -1 - النذر المطلق: كأن يقول لله عليَّ صلاة ركعتين، وهذا يجب الوفاء به في أي زمان وأي مكان لأن النذر إيجاب بالفعل من حيث هو قربة. ولا عبرة للزمان المعين ولا للمكان المعين، فلو نذر صوم شهر رجب صح منه وفاء لنذره صوم شعبان، ومن نذر صلاة ركعتين في مكة صحت منه ركعتان في أي مكان. كما لا عبرة لتعيين الدرهم وتعيين الفقير، فمن نذر أن يتصدق لفقير معين صح منه لأي فقير وبأي درهم، لأن المقصود تحقيق النذر من حيث هو تحقيق معنى العبادة؛ وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة زمان ومكان وشخص خلافاً لزفر الذي قال بالتعيين. -2 - النذر المعلق: وهو قسمان: أ - نذر معلق على شرط يريد وقوعه، كأن يقول: إن رزقني الله غلاماً أطعمت عشرة مساكين. فهذا يجب أداؤه إن تحقق الشرط ولا يجزئه إن فعله قبل تحقق الشرط. ب - نذر معلق على شرط لا يريد حصوله، كأن يقول: إن كلمت زيداً فلله علي عتق رقبة، فإذا كلّمه فهو مخير بين أن يوفي بالنذر وبين أن يكفر كفارة يمين لأنه بظاهره نذر وبمعناه يمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الفصل الثالث [ما يستحب ويكره] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أولاً - ما يستحب في الصيام: -1 - تعجيل الفطر أي قبل استفحال النجوم، لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) (1) . -2 - أن يفطر على رطبات ثلاث ثم يصلي المغرب، لما روي عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على الماء فإنه طهور) (2) . -3 - أن يدعو الله عند الإفطار لأن الصائم دعاؤه مستجاب، لما روى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد) (3) . -4 - السحور: لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا، فإن في السحور بركة) (4) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) (5) . ولا يكثر منه إخلاله بالمراد (ذوق مرارة الجوع) . ويستحب تأخير السحور، لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه: (ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة) (6) . -5 - الغسل من الحدث الأكبر ليلاً، ليكون على طهارة من أول يومه. -6 - الإكثار من قراءة القرآن ومدارسته، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن..) (7) . -7 - التوسعة على العيال. -8 - الإكثار من الصدقة، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان) (8) . -9 - يسن الاعتكاف في رمضان، خاصة في العشر الأواخر منه، لما روت عائشة رضي الله عنها قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) (9) . وفي هذا العشر ليلة القدر، ويستحب أن يطلبها، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه) (10) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: (تحَّروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) (11) . وهي من ليالي الوتر في العشر الأخير، والعمل في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر، والأفضل أن يحيي كل الليل بأنواع العبادة، وأدناها أن يصلي العشاء في جماعة والصبح في جماعة. ويستحب لمن وافقها أن يقول: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني"، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلةَ القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني) (12) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 44/1856. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الصيام باب 25/1699. (3) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الصيام باب 48/1753. (4) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 20/1823. (5) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 150. (6) الجامع الصغير: ج 1 / ص 136، رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن. (7) البخاري: ج 1 / كتاب بدء الوحي باب 1/6. (8) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 7/1803. (9) مسلم: ج 2 / كتاب الاعتكاف باب 3/8. (10) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 6/1802. (11) البخاري: ج 2 / كتاب صلاة التراويح باب 4/1916. (12) الترمذي: ج 5 / كتاب الدعوات باب 85/3513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثانياً - ما يكره للصائم: -1 - الحجامة والفصد والعمل الشاق لأنها تضعف الجسم، سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: "أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضَّعف" (1) . -2 - ذوق الطعام إلا لحاجة، إذا كان زوجها سيئ الخلق فلها ذوق الملح. أما الطعام خشية الغبن فمختلف فيه. -3 - العلك الذي ليس له طعم إن كان متماسكاً يكره، وإن كان متفتتاً يفطر ويجب فيه القضاء. روي عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قولها: "لا يمضغ العلك للصائم" (2) . -4 - كل ما يؤدي إلى الوقوع في مفسد كالقبلة والمباشرة إن لم يأمن عدم الإنزال أو الجماع. -5 - المبالغة في المضمضة، لما روى لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... وإذا استنشقت فبالغ إلا أن تكون صائماً) (3) . -6 - تأخير الفطر إن تعمده، لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور) (4) . -7 - جمع الريق في الفم ثم بلعه.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الصوم باب 32/1838. (2) البيهقي: ج 4 / ص 269. (3) البيهقي: ج 4 / ص 269. (4) مسند الإمام أحمد: ج 5 / ص 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثالثاً - أشياء لا تكره للصائم: -1 - القبلة والمباشرة مع الأمن من عدم الإنزال والجماع، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم) (1) . وقيل: تكره المباشرة على الصحيح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب) (2) . -2 - دهن الشارب إذ ليس فيه ما ينافي الصوم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أصبحوا مدهنين صياماً" (3) . -3 - الكحل: لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم) (4) . -4 - الحجامة والفصد إن لم يَضعف عن الصوم. -5 - السواك آخر النهار بل هو سنة كأوله، لما روي عن عامر بن ربيعة العدوي رضي الله عنه قال: (ما أحصي ولا أعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسوك وهو صائم) (5) ، وورد عن علي بن عيسى قال: "سألت عاصم الأحول فقلت أيستاك الصائم؟ فقال: نعم. فقلت: برطب السواك ويابسه. قال: نعم. قل: أول النهار وآخره. قال: نعم. قلت: عمَّن. قال: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم " (6) . -6 - المضمضة، والاستنشاق، والاغتسال والتلفف بثوب مبتل قصد التبرد. هذا المفتى به وهو قول الإمام يوسف، روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرَج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو قال من الحر) (7) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الصيام باب 12/65. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 35/2387. (3) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 167. (4) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الصوم باب 17/1678. (5) البيهقي: ج 4 / ص 272. (6) البيهقي: ج 4 / ص 272. (7) البيهقي: ج 3 / ص 263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الباب الثاني (الاعتكاف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تعريفه: لغة: اللّبث والمقام، قال تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} (1) . شرعاً: المقام في مكان مخصوص (المسجد) بأوصاف مخصوصة.   (1) الحج: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 حكمه: -1 - واجب في الاعتكاف المنذور. روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) (1) . -2 - سنة مؤكدة في العشر الأخير من رمضان، بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل. ثم اعتكف أزواجه من بعده) (2) . -3 - مستحب في كل وقت سوى ما ذكر.   (1) الترمذي: ج 4 / كتاب النذور والأيمان باب 2/1526. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الاعتكاف باب 1/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مدته: أقله في الواجب والمنذور: يوم فلا يجوز أقل من ذلك لأنه يشترط له الصوم ولا يكون بأقل من يوم، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا بصوم) (1) . ولو نذر يوماً أو يومين لزمته الليالي مع الأيام. أما النفل فمدته عند الإمام يوم على الأقل، وعند محمد ساعة فأكثر (2) ، وعند أبي يوسف يجوز بأكثر النهار.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الصوم باب 80/2473. (2) كما هو عند السادة الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 شروط صحته: -1 - النية: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ، ولأنه عبادة محضة فلا يصح بغير نية كالصلاة والصوم. ويجب تحديد نوع الاعتكاف عن نذر أو غيره. -2 - اللّبث في المسجد لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (1) . ويصح بأي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وهو في المسجد الجامع أفضل. ومن عيّن في نذره الاعتكاف في مسجد معين صح بأي مسجد ويسقط التعيين. أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها، لأنه أفضل في حقها، وهو الموضع الذي أعدته لصلاتها. لما روي عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهم أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي. وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قَومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) (2) . ولو اعتكفت في المسجد جاز مع الكراهة. -3 - الصوم، وهو ليس شرطاً في النفل.   (1) البقرة: 187. (2) مسند الإمام أحمد: ج 6 / ص 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 شروط المعتكف: -1 - الإسلام. -2 - العقل. ويكفي التمييز. -3 - الطهارة من الحدث الأكبر حيضاً كان أو نفاساً أو جنابة. مكروهات الاعتكاف: -1 - يكره البيع والشراء للتجارة والعمل بأمور الدنيا. -2 - يكره الصمت ولكن لا يُتكلَّم إلا بخير فيُذْكر الله ويُقرأ القرآن. -3 - يكره اللغو والتكلم بكلام الناس. مفسدات الاعتكاف: -1 - الخروج من المسجد ساعة بلا عذر مُعْتَبَرٍ أو نِسْياناً. أما الخروج لعذر كقضاء حاجة، وحضور مجلس علم، وعيادة مريض، وحضور جنازة، وأداء شهادة، وطروء مرض، فلا يفسد الاعتكاف. لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) (1) . -2 - عدم الرجوع إلى المسجد بعْد زوال العذر. -3 - الحيض والنفاس، إذ يجب أن تخلو مدة الاعتكاف منهما. -4 - الجماع مختاراً أو المباشرة. -5 - الردة، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (2) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الاعتكاف باب 3/1925. (2) الزمر: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 كتاب الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الباب الأول [تعريفها، شروطها، الأنواع التي تجب فيها] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 تعريف الزكاة: لغة: الطهارة والنَّماء والبركة. يقال: زَكَتِ البقعة إذا بورك فيها، وتزكية النفس: مَدْحُها، وزكّى الشاهد إذا مدحه. وهذه المعاني كلّها توافق المعنى الشرعي، فهي تطهر مؤدّيها من الذنوب ومن البخل، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (1) . وهي تنمي المال ويُمدَح فاعلها ويُثنى عليه. شرعاً: تمليكُ جزءِ مالٍ عيَّنه الشارع لمسلم فقير غير هاشمي لله تعالى مع قَطع المنفعة عن المملِّك من كل وجه.   (1) التوبة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 معنى التعريف: -1 - تمليك: أخرج الإباحة، فلو أطعم فقيراً أو أعاره كساه لا تكون زكاة إلا أن يهب له الطعام. -2 - جزء مال: أخرج المنفعة، فلا يعتبر زكاة من أسكن في داره فقيراً بنية الزكاة. -3 - عيَّنه الشارع: أخرج النافلة وصدقة الفطر. -4 - لمسلم فقير: فلا تصح الزكاة للكافر أو الكتابي، ولا للغني ولا للهاشمي. -5 - قطع المنفعة عن المملّك: ليبين أنها لا تجوز للفروع والأصول، ولا لمن تجب عليه نفقتهم. -6 - لله تعالى: تأكيد اشتراط النية فيها. حكم الزكاة: الزكاة ركن من أركان الإسلام وفرض عين على كل من توفرت فيه الشروط. دليل فرضيتها: ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع. من الكتاب: قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (1) . ومن السنة: حديث (بني الإسلام على خمس ... وإيتاء الزكاة) (2) . وقد فرضت الزكاة فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة قبل فرض رمضان، وقُرنت في القرآن بالصلاة في اثنين وثمانين موضعاً، وهذا دليل على كمال الاتصال بينهما. وأجمعت الأمة على أنها ركن من أركان الإسلام حتى صارت معلومة من الدين بالضرورة، فالإيمان بها واجب، والجاحد بها كافر. ولو منعها قوم قاتلهم الإمام كما فعل الصديق رضي الله عنه؛ قال: (والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها) (3) . ومن مات وعليه زكاة أو صدقة فطر فلا تؤخذ من تركته، إلا إذا تبرع الورثة فتسقط عن الميت بأداء الوارث. ولو أوصى بها أخذت من الثلث.   (1) البقرة: 43. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الإيمان باب 2 / 8. (3) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 1 / 1335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 شروط وجوب الزكاة: -1 - شروط تتعلق بالمالك (المكلف) . -2 - شروط تتعلق بالملك نفسه. أولاً - شروط المكلف بتأدية الزكاة: -1 - الإسلام: فلا تجب الزكاة على الكافر، ولا المرتد حالة ردته؛ ولو رجع وأسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته حال ردته. لما روي عن أنس رضي الله عنه أن الصديق رضي الله عنه كتب له كتاباً لما وجهه إلى البحرين قال فيه: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين) (1) . -2 - العقل. -3 - البلوغ: فلا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ولا يُطالب وليّهما بإخراجها لأنه عبادة محضة وليسا مخاطبين بها، لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) (2) . وتجب عليهما الغرامات والنفقات والضمانات لكونها من حقوق العباد. كما يجب في مالهما زكاة الزروع وصدقة الفطر لأن فيهما معنى المؤونة فألحقت بحقوق العباد. والمعتوه إن استوعب عتهه الحول فلا زكاة عليه كالصلاة، وإن كان لا يستوعب الحول تجب عليه الزكاة. -4 - الحرية: فلا تجب الزكاة على العبد ولو كان مكاتباً، فعن جابر رضي الله عنه قال: "ليس في مال المكاتب ولا العبد زكاة حتى يعتق" (3) . -5 - ملك النصاب: والنصاب اسم لقدر معلوم من مال تجب فيه الزكاة، فلا زكاة فيما دونه، ويختلف باختلاف المال الذي تجب فيه الزكاة لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَّود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) (4) . والعبرة بتمام النصاب أول الحول وآخره. ويضاف المستفاد أثناء الحول إلى النصاب فيدفع عن الجميع آخر الحول، سواء أكان المستفاد ربحاً عن النصاب نفسه ومتولداً عنه أم كان هبة أو وصية، على أن يكون المستفاد مجانساً للنصاب، ولو كان المستفاد بمقدار نصاب أو أكثر، ما دام ملك النصاب في يوم ما من الحول فعند تمام الحول ينظر ما معه ويدفع عن الجميع.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 37 / 1386. (2) أبو داود: ج 4 / كتاب الحدود باب 16 / 4403. (3) البيهقي: ج 4 / ص 109. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الزكاة 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثانياً - الشروط المتعلقة بالمالك نفسه: -1 - أن يكون المالك تاماً، أي أن يكون المال تحت يد المالك، فلا تجب الزكاة في مال مفقود ولا مغصوب، ولا في مال مدفون لا يعرف مكانه، ولا في مال مستملك للدولة. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في مال الضِّمار) ، وروي عن أيوب السختياني "أن عمر بن عبد العزيز كتب في مالٍ قبضه بعض وُلاته ظلماً يأمر برَدِّه إلى أهله، وتؤخذ زكاته لما مضى من السنين، ثم عقب بعد ذلك بكتابٍ أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة فإنه كان ضماراً" (1) . وكذا كل مال كان مصادراً أو محجوزاً. أما الدَّيْن فقسمه الأئمة إلى ثلاثة أقسام: أ - الدين الضعيف، ومثله مهر المرأة قبل أن تقبضه، والدين المجحود الذي لا بيّنة عليه. وحكم زكاة هذا الدين يتبع الأموال السابقة بأن لا تدفع زكاة عليه قبل أن يقبض المالك نصاباً ويحول عليه الحول. ب - الدين المتوسط، ومثله ثمن ما باعه من حاجاته الأصلية، فيدفع الدائن زكاة هذه الأموال عن السنوات التي لم يكن المال فيها تحت يده إذا قبض منها نصاباً، فكلما قبض نصاباً زكّاه لكل السنوات السابقة. جـ - الدين القوي كبدل القرض أو ثمن المبيع بشرط أن يكون المبيع من مال التجارة أو أي مال مقرّاً به عن المدين، وتجب الزكاة على الدائن متى قبض منه خمس النصاب أي أربعين درهماً فأكثر، ويعتبر لما مضى من الحول، فيبدأ حوله من وقت بلوغ النصاب فيزكي عن الأعوام السابقة لما قبضه. هذا حكم الزكاة في الدين إذا لم يكن عند المال نصاب من جنسه، أما إن كان عند المالك أموال غيرها فإن ما يقبض يضاف إلى نصاب من جنسه ويدفع زكاته متى حال الحول على الأصل لأنه له حكم المستفاد أثناء الحول. ولا زكاة في المال الموقوف لعدم الملك فيه، ولا في الزرع النابت بأرض مباحة، ولا زكاة في المال المشترى قبل القبض فإذا قبضه زكاه لما مضى (2) . -2 - أن يكون المال فارغاً عن دين حان أجله مطالب به من جهة العباد (3) . وقيل: إن الدين المؤجل يمنع، والأصح هو الأول. أي إن لا يكون المالك مديوناً فيكون المال متعلقاً بحق الدين، لأن الدين حاجة أصلية والملك مع وجود الدين يعتبر ناقصاً والزكاة وجبت شكراً للنعمة التامة، ولأن الله تعالى جعل للغارمين حقاً في أموال الزكاة لقضاء ديونهم. ويقصد بالدين المانع من الزكاة: الدين الذي له مطالب من قبل العباد. سواء أكان دين الله كالزكاة (لأنه مطالب بها من قبل الإمام) ، أو دين العباد كالقرض وصداق الزوجة والنفقات والكفالة. أما دين الله الذي ليس له مطالب من قبل العباد، كالكفارات والنذور والحج، فلا تمنع من وجوب الزكاة لعدم المطالب. أما زكاة الزروع والثمار فإنها متعلقة بعين الزرع لذلك لا يمنع وجود الدين من وجوبها. -3 - أن يكون النصاب زائداً عن حوائجه الأصلية، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا) (4) . ومما يدل على وجوب تقديم حوائجه الأصلية، من الطعام والسكن والكتب والركوب. ولو كان عنده مال فأمسكه لحاجة أصلية، كشراء بيت أو زواج، وحال عليه الحول، وهو بيده، وجب فيه الزكاة (5) . -4 - أن يكون النصاب من الأموال التي نصَّ الشارع على وجوب الزكاة فيها. -5 - حَوَلان الحول على جميع أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة باستثناء زكاة الزروع والثمار. ومعنى حولان الحول: مرور سنة قمرية على ملكية النصاب، لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (6) ، ولأنه لا بد من التمكن من التصرف في النصاب مدة يتحقق فيها النماء. ويبدأ حول أموال المجنون عند إفاقته، وأموال الصبي عندما يبلغ، وحول أموال السوائم (7) ، إن اشتراها للتجارة ثم سامها، من وقت السَّوم لا من وقت الشراء. والمعتبر في كمال النصاب طرفا الحول سواء بقي في أثنائه أم هلك جزء منه. -6 - أن يكون المال نامياً، ويقصد بذلك الثمنية بالنسبة للدراهم والسَّوم للأنعام، ونية التجارة في العروض سواء أكانت هذه النية صراحة أم دلالة بالبيع والشراء.   (1) الموطأ: ص 169. (2) المال المشترى قبل القبض مملوك للمشتري ملكاً تاماً ولكنه لم يدخل في ضمانه. إلا إذا كان الشراء فاسداً فإنه لا يدخل في ملك المشتري قبل القبض وإنما يملك بالقبض. وعلى كل إذا اشترى شيئاً صحيحاً ولم يقبضه ثم قبضه زكاه لما مضى. (3) الدين ثلاثة أقسام: 1 - دين خالص للعباد. 2 - دين لله تعالى لكن له مطالباً من جهة العباد، والمطالب هو الإمام. 3 - دين خالص لله تعالى ليس له مطالب من جهة العباد كالنذور والكفارات وصدقة الفطر ونفقة الحج. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الزكاة باب 13 / 41. (5) ووجب الحج إن حان وقت الحج ولم يتزوج. (6) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 4 / 1573. (7) السوائم: الماشية والإبل الراعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 شروط صحة أداء الزكاة: -1 - النية: لأن الزكاة عبادة محضة. وتكون مقارنة للدفع أو عند عزل المال الواجب (لذا لا تدفع الزكاة عن الميت من تركته إلا إن أوصى فتدفع من أصل الثلث إلا أن يجيز الورثة) . فلو دفع للفقير بلا نية ثم نوى والمال قائم في يد الفقير أو نوى عند الدفع للوكيل جاز ولو دفع الوكيل بدون نية. ولا يجوز للوكيل أن يخلط زكاة موكله بماله فلو خلطها ضمِن الزكاة وكان متبرعاً بما يتصدق به. أما لو تصدق بدراهم نفسه ودراهم موكله قائمة مع نية الرجوع إليها أجزأته. ولو دفع زكاة موكله إلى ولده الفقير أو زوجته جاز. ولا يجوز أن يأخذها لنفسه إلا إذا قال الوكيل: ضعها حيث شئت. -2 - الإسلام: لأن النية لا تُتَصوّر من غير المسلم. -3 - أن يكون الأداء على الفور، وهو القول المُفتى به في المذهب وهو قول الإمام، فإن أخَّرها كان آثماً لأن تأخيرها مكروه تحريماً، ولأن الأمر بالوجوب معه قرينة حاجة الفقير وهي ملحة. وقال الصاحبان: إن افتراض الزكاة على التراخي، ففي أي وقت أداها أجزأته. واستدلا على ذلك بأن هلاك النصاب بعد وجوب الزكاة مسقط لها إن أن يكون متعدياً. -4 - الدفع إلى المستحق (وهو أحد الأصناف الثمانية التي سيرد بيانها) . -5 - التمليك: فلابد لصحة أداء الزكاة من قبض الفقير لها أو وليه أو الوصي عليه. أما لو أطعم ونوى الزكاة فلا يجزئ. ولا يصح أداء الزكاة بإسقاط جزء من دين له على فقير، بأن يسامحه به أو بجزء منه بنية الزكاة عن ماله. لكن لو كان الدَّين نصاباً وسامحه به كاملاً سقطت الزكاة عن هذا النصاب. ولو كان المدين مستحقاً للزكاة فدفع الدائن له من زكاته ثم أعاده الفقير له على سبيل وفاء دينه جاز، أو قال: خذ من مَديني فلان مبلغاً من المال وكان ناوياً زكاة ماله صحّ. -6 - توزيعها على فقراء بلده. ويكره نقلها إلى بلد آخر لاطّلاع فقراء بلده على ماله وتعلق آمالهم بها، ولأنهم أولى بها، إلا أن يعطيها لفقراء من ذوي القربى، أو يكون في البلد الآخر محاويج ومجاعات فيجوز نقلها. وقد روي أن معاذاً رضي الله عنه نقل من صدقات أهل اليمن إلى المدينة لفقرهم وشدة احتياجهم. -7 - أن يكون الأداء من وسط المال في زكاة الأعيان (1) ، لأن أخذ الجيد يضر المالك وأخذ الرديء يضر الفقير، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ( ... فإياك وكرائم أموالهم) (2) . وعن سويد بن غَفَلة قال: "أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم ... وأتاه رجل بناقة كَوماء (3) فقال: خذها. فأبى .... " (4) . وعن قرة بن دعموص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وخذ صدقاتهم من حواشي أموالهم) (5) . -8 - أن تخرج الزكاة من المال الحلال، فلا تجوز الزكاة بالمال الحرام القطعي. ولا يشترط لصحة الأداء حولان الحول، لذا يصح تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين أو سنوات، لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) (6) . ويشترط للتعجيل: -1 - أن يكون المال عند التعجيل بالغاً النصاب ليتحقق سبب الوجوب. -2 - أن لا ينقطع النصاب أثناء الحول. -3 - أن يكون النصاب كاملاً في آخر الحول لأنه وقت وجوب الأداء. ولا يشترط بقاء آخذ الزكاة مستحقاً ولا على قيد الحياة حتى تمام الحول، لأن المهم كونه مستحقاً عند الدفع إليه. ويجوز دفع القيمة عوضاً عن عين المال، وكذا يجوز البدل بدفع القيمة في الكفارات والنذور وصدقة الفطر. وتقدر القيمة يوم الأداء في السائمة بالاتفاق، وفي غيرها قال الصاحبان: يوم الأداء أيضاً وقال غيرهما: يوم الوجوب. وتعتبر القيمة في البلد الذي فيه المال، فإن كان المال في مفازة ففي أقرب الأمصار. روي عن معاذ رضي الله عنه أنه قال لأهل اليمن: "ائتوني بِعَرْضٍ، ثياب خَميص أو لَبيس (7) ، في الصدقة، مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة" (8) . بخلاف الهَدْي والأُضحية فلا تصح فيهما القيمة لأنها غير معقولة المعنى. يكره إعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب إلا إذا كان مديوناً، فيجوز أن يعطي ما يكفي لوفاء دينه، أو إذا كان عنده عيال بحيث لو فرق عليهم ما أخذه يجب أن يصيب كل واحد منهم دون النصاب.   (1) الأعيان: مأخوذ من عَيْن الشيء، كزكاة النَّعم. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 62/ 1425. (3) ناقة كوماء: أي ضخمة السَّنام. (4) البيهقي: ج 4 / ص 101. (5) البيهقي: ج 4 / ص 102. (6) الترمذي: ج 3 / كتاب الزكاة باب 37/679. (7) اللّبيس: الثوب إذا كَثُر لُبْسُه. (8) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 32 تعليقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الأنواع التي تجب فيها الزكاة: تجب الزكاة في خمسة أنواع من الأموال: -1 - النَّعم (السوائم) . -2 - الذهب والفضة. -3 - العروض التجارية. -4 - المعادن والرِّكاز. -5 - الزروع والثمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الباب الثاني [زكاة النعم، الزروع والثمار، النقد، العروض التجارية] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الفصل الأول: زَكاة النَّعَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 النَّعَم هي: الإبل، والبقر ويشمل الجاموس، والغنم بنوعيه الضأن والمعز. والمراد بها الأهلية، فلا زكاة في الوحشية. أما المتولدة بين وحشي وأهلي ينظر فيه للأم فإن كانت أهلية ففيها الزكاة وإلا فلا. شروط وجوب زكاة النعم: يشترط إضافة إلى الشروط العامة ما يلي: -1 - أن تكون سائمة. والسوم في اللغة معناه: أن ترعى الماشية بنفسها ولا تُعْلَف. وفي اصطلاح الفقهاء: أن ترعى الماشية بنفسها بقصد الدَرِّ أو النَّسل والزيادة والسّمن حولاً أو أكثر الحول. -2 - أن ترعى أكثر الحول في كلأٍ مباح. -3 - أن يقصد من سومها الدرّ والنسل والسمن وذلك لتحقق معنى النَّماء. فلو أسيمت للحمل أو الركوب أو سُوِّمت بدون قصد مالكها لا تدفع عليها زكاة. ولو سُوِّمت للتجارة فليس فيها زكاة السوائم بل زكاة التجارة. ولو حُولت من التجارة إلى السوم أثناء الحول بطل حولها الأول وبدأ حول السوم من وقت التحويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أولاً: زكاة الإبل: نصاب الإبل ومقدار زكاتها: حُدد نصاب الإبل وما يتعلق بصدقتها في كتاب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أنس رضي الله عنه لما وجهه إلى البحرين أميراً عليها ونصه: (هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فَلْيعْطِها، ومن سئل فوقها فلا يُعطِ: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم، من كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمساً وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ (1) أنثى، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون (2) أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حِقَّة (3) طَرُوقَة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة (4) ، فإذا بلغت - يعني - سِتاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لَبُون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حِقّتان طَرُوقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها، فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة ... ) (5) . وإذا زادت على عشرين ومائة تستأنف الفريضة فلا يجب على الزيادة حتى تصير خمساً فتجب فيها شاة. فإذا صار المجموع خمسين ومائة وجب فيها ثلاث حِقاق، فإذا صار مائتين وجب فيها أربع حِقاق. لما روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم في الصدقة كتاباً ومما جاء فيه: (إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل) (6) ، وروي هذا أيضاً عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهما من فقهاء الصحابة. وبناء على هذه الكتب يكون ترتيب زكاة الإبل كما يلي: في كل خمس من الإبل شاة واحدة. في كل عشرة في الإبل شاتان. في كل خمس عشرة من الإبل ثلاث شياه. في كل عشرين إلى أربع وعشرين أربع شياه. في كل خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض. في كل ست وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون. في كل ست وأربعين إلى ستين حِقَّة. في كل واحدة وستين إلى خمس وسبعين جذعة. في كل ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون. في كل إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة حِقّتان. ثم تستأنف الفريضة بعدها فما زاد على مائة وعشرين، حتى يصير المجموع مائة وخمسين. ففي كل مائة وخمسين إلى مائة وتسع وتسعين من الإبل ثلاث حِقاق. فإذا صارت مائتين ففيها أربع حِقاق.   (1) بنت المخاض: التي لها من العمر سنة واحدة. (2) بنت لبون: لها من العمر سنتان وطعنت في الثالثة. (3) الحِقَّة: التي لها من العمر ثلاث سنوات. (4) الجذعة: التي لها من العمر أربع سنوات. (5) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 37/1386. (6) البيهقي: ج 4 / ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ثانياً: زكاة البقر: نصاب البقر: أول نصاب البقر ثلاثون. زكاته: إذا بلغ الملك ثلاثين من البقر فزكاته تبيع (1) أو تبيعة. فإذا بلغ الأربعين فزكاته مسنَّة (2) . فإذا بلغ الستين فزكاته تبيعان. فإذا بلغ السبعين فزكاته مسنَّة وتبيع. فإذا بلغ الثمانين فزكاته مسنتان. ودليل ذلك ما روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة) (3) .   (1) التبيع من البقر: هو الذي بلغ سنة وطعن في الثانية. (2) المسنة: ما لها من العمر سنتان وطعنت في الثالثة. (3) الترمذي: ج 3 / كتاب الزكاة باب 5/623. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ثالثاً: زكاة الغنم: أول نصاب الغنم أربعون، ولا يجب في أقل منها صدقة. مقدار الزكاة: إذا بلغ الملك أربعين من الغنم فزكاته شاة واحدة. فإذا بلغ الملك مائة وإحدى وعشرين فزكاته شاتان. فإذا بلغ الملك مائتين وواحدة فزكاته ثلاث شياه. فإذا بلغ الملك أربعمائة فزكاته أربع شياه. ثم في كل مائة شاة، وذلك لما ورد في كتاب سيدنا أبي بكر إلى أنس بن مالك رضي الله عنهما وفيه: ( ... وفي صدقة الغنم: في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) (1) . وفي رواية أخرى لحديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له: (ولا يُخرج من الصدقة هَرِمة، ولا ذات عَوَار، ولا تَيْس، إلا ما شاء المُصَدِّق) (2) . ولا يجزئ في زكاة النعم إلا الثَّنيّ (3) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 37/1386. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 38/1387. (3) الثني: هو الذي أتم السنة وطعن في الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 زكاة الخيل: لا يجب في الخيل السائمة زكاة عند الصاحبين، وهو القول المفتى به، ويرى الإمام أبو حنيفة وزُفَر إذا كانت للدَرّ والنسل، وسائمة ذكوراً وإناثاً، وحال عليها الحول فتجب فيها الزكاة. وإن كانت ذكوراً فقط أو إناثاً فقط فالأصح هو عدم وجوب الزكاة فيها. فإن كانت من أفراس العرب خيّر أن يدفع عن كل فرس ديناراً، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الخيل السائمة في كل فرس دينار) (1) ، أو أن يقوّمها ويدفع عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. أما إن لم تكن من أفراس العرب فيقومها ويدفع القيمة. وأما إذا كانت للتجارة فتجب فيها زكاة التجارة بالاتفاق. أما إن كانت علوفة، أو سائمة للحمل أو الركوب أو الجهاد، فلا شيء فيها لاشتغالها بالحاجة الأصلية.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أحكام عامة في زكاة السوائم: -1 - أجمع الفقهاء على أن البغال والحمير لا تجب فيها الزكاة ولو كانت سائمة. -2 - لا تدفع عن الصغار (المولدة) زكاة إلا تبعاً للكبار ولو واحدة. فلو هلكت الكبار كلها قبل نهاية الحول فلا يدفع شيئاً عن الصغار حتى يحول حولها. -3 - إذا هلك النصاب بعد حولان الحول بدون تفريط من المالك سقطت عنه الزكاة بلا ضمان، أما لو باعها أو استهلكها أو فرّط أو قصرّ في حفظها فتكون الزكاة ديناً واجباً في ذمته. -4 - تؤخذ الزكاة من الذكور مع وجود الإناث أو تؤخذ من الغالب، ولا تؤخذ المريضة ولا المعيبة عيباً واضحاً. -5 - يضم ما يستفاد من السوائم أثناء الحول إلى أصل من نوعه إن وجد، ولو استفيد عن طريق الإرث، ويزكى متى حال الحول على الأصل. وكذا ربح كل نصاب يضم إلى أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الفصل الثاني: زَكاة الزرُوع والثِّمَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تجب الزكاة في كل ما تنتجه الأرض بقصد الاستغلال والاستنبات سواء أكان صالحاً للبقاء كالحبوب أم غير صالح للبقاء كالثمار والخضار من خوخ ومشمش وباذنجان ... دليلها ومقدارها: ثبت وجوب زكاة المحاصيل الزراعية بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. من الكتاب: قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (1) ، وقال تعالى: {وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} (2) . ومن السنة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرِياً (3) العشر، وما سقي بالنَّضح (4) نصف العشر) (5) . وقد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الزروع والثمار. وتسمى زكاة الزروع والثمار العُشْر.   (1) الأنعام: 141. (2) البقرة: 267. (3) العَثَرِيّ: هو من الزرع ما سُقي بماء السيل والمطر وأُجْري إليه من المَسَايل. (4) النَّضْح: نَقل الماء على أي شيء. وفِقه ذلك أن ما سُقي بغير مشقة أو كان بعلاً فزكاته العشر، وما سقي بتعب أو مشقة فعليه نصف العشر. (5) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 54/1412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 شروط وجوب العشر: -1 - أن تكون الأرض غير خراجية لكي لا يجتمع عشر وخراج، لما روي عن البيهقي بسنده عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: "لا يجتمع على المسلم خراج وعشر" (1) . -2 - أن تكون المنتجات بقصد الاستغلال والاستثمار، فلا تجب الزكاة في الحطب والقصب والحشيش والصمغ ... ولا تجب في ثمار شجر الدار أو بستان داخل الدار لأنه تابع له. -3 - أن تكون الأرض مسقية بماء المطر أو السيح (2) كالنهر، أما إن سقيت بكلفة (كدلو أو دولاب أو غير ذلك) ففيه نصف العشر. وإن سقيت نصف الوقت بماء السماء أو السيح أو النهر والنصف الآخر بالدلو ففيه نصف العشر، وقيل: ثلاثة أرباعه.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 132. (2) السِّيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ما لا يشترط في زكاة الحرث: -1 - لا يشترط حولان الحول، لأنه قد تنبت الأرض في السنة أكثر من مرة، وقال تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} . -2 - لا يشترط بلوغ النصاب، فتجب زكاة الحرث في كل ما تنبته الأرض قليله وكثيره. -3 - لا يشترط البلوغ والعقل، فتجب في أرض المجنون والصغير. -4 - لا يشترط ملكية الأرض، لأنها قد تجب على المستأجر عند الصاحبين، أو على المشتري إن اشترى الزرع قبل إدراكه. كما تؤخذ من الأراضي الموقوفة. -5 - لا يشترط خلو المكلف من الدَّين. -6 - لا يشترط في المستنبت البقاء بل تجب في الخضر والفواكه أيضاً. على من تجب زكاة الحرث: تجب زكاة الحرث في الأصل على كل من استنبت أرضاً وجنى قطافها. فلو أجرَّ أرضاً أو أعارها للاستنبات فالزكاة على المستأجر أو المستعير، بينما الخراج على مالك الأرض بصرف النظر عن المستفيد منها. ولو باع الزرع قبل إدراكه فالعشر على المشتري، أما إن باعه بعد إدراكه فالزكاة على البائع. أما في المزارعة: إن كان البَذْر من صاحب الأرض فعليه الزكاة، وإن كان من العامل فعليهما بالحصة. ولو استهلك الثمر قبل دفع زكاته وجب العشر دَيْناً في الذمّة حتى لو تركه سنين يدفع عن الجميع. أما لو ترك الخراج فلا يدفع عن ما مضى عند الإمام. وإذا مات إنسان وعليه عشر أو خراج أُخِذ من تركته كالديون. زكاة العسل: يجب في العسل زكاة وذلك تبعاً للزروع والثمار، لأن النحل يتغذى من الثمار والأزهار (1) ، والثمار فيها العشر. فإذا أنتج عسلاً في أرض خراجية ولو لم تكن أرضاً عشرية كأن تكون في جبل أو مفازة، تجب فيه الزكاة.   (1) بخلاف دود القز، فإنه يتناول الأوراق، وليس في الأوراق عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 دليلها ومقدار ما يجب: يجب في العسل عشر الإنتاج، ولا يشترط في زكاته نصاب ولا حول. ودليل ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ من العسل العُشر) (1) ، وعن أبي سيارة المتقي قال: قلت يا رسول الله إن لي نخلاً. قال: (أدِّ العشر) (2) .   (1) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الزكاة باب 20/1824. (2) ابن ماجة: ج 1 / كتاب الزكاة باب 20/1823. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الخراج: تقسم الأراضي إلى قسمين: عشرية وخراجية. -1 - الأرض العشرية: وهي الأرض المستنبتة بقصد الاستغلال بيد المسلم، ويدفع عنها العشر. وتضم: -1 - أراضي العرب فهي كلها عشرية. -2 - كل أرض أسلم أهلها طَوْعاً. -3 - كل أرض فتحت عنوة ثم قُسِمت بين الفاتحين. -4 - ما أحياه المسلم من مَواتٍ وسقاه بماء مسلم. -2 - الأرض الخراجية: ويدفع عنها الخراج. وهي تضم: -1 - كل أرض فتحها المسلمون عنوة، وتركوها في يد أهلها يزرعونها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين. -2 - كل أرض مواتٍ أحياها ذميّ. -3 - أرض سواد العراق كلها خراجية بأمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. -4 - كل أرض لمسلم تسقى بماء الخراج كالأنهار التي حفرها الكفار. -5 - أرض الغنائم التي اقتطعها الإمام لذمي. -6 - دار الذمي إذا اتخذها بستاناً. -7 - كل أرض اشتراها مسلم من ذمي تبقى خراجية (1) . ولا يجتمع على أرض عشر وخراج لقول إبراهيم: "لا يجتمع على المسلم خراج وعشر"، ولأن سبب العشر الإسلام فهو عبادة وسبب الخراج ضريبة على الأرض يدفعها غير المسلم.   (1) أما إن اشتراها من ذمي بحق الشُّفعَة، أو بحكم القضاء، أو رُدّت عليه بسبب فساد البيع فإنها تبقى عشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الفرق بين العشر والخراج: أ - العُشْر: -1 - هو عبادة، لأنه زكاة على الثمار والزروع (نماء) . -2 - يجب على المسلم ولا يجب في حق غيره. -3 - يدفع على الثمار والزروع. -4 - لا تجب زكاة الثمار والزروع حتى تحصد (1) . ب - الخراج: -1 - هو ضريبة على الأرض. -2 - يدفعه الذمي عن الأرض. -3 - يجب الخراج على الأرض إذا تمكن من زراعتها ولم يفعل.   (1) اختلفوا في وقت الثمار والزروع، فقال الإمام أبو حنيفة وزُفر: يجب عند ظهور الثمرة والأمن عليها من الفساد وإن لم يستحق الحصاد إذا بلغت حداً ينتفع بها، وقال أبو يوسف: عند استحقاق الحصاد، وقال محمد: إذا حصدت وصارت في الجرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الفصل الثالث: زَكاة النّقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تجب الزكاة بإجماع الفقهاء في نقود الذهب والفضة وسبائكها إذا تحققت فيها شروط وجوب الزكاة. كما تجب الزكاة في المَضْروب، من الذهب والفضة، ولو خالطه معادن أخرى بنسبة قليلة، لأنه لا عبرة للمغلوب. ويعتبر المغشوش قليلاً كالخالص. وإن كان مخلوطاً بنسبة كبيرة يقوّم كالعروض، إلا إذا كان يخلص منه ما يبلغ نصاباً، أو أقل وعنده ما يتم به النصاب، أو كان أثماناً رائجة وبلغت من أدنى نقد تجب زكاته، فتجب الزكاة وإلا فلا. نصاب الذهب والفضة: نصاب الذهب عشرون مثقالاً (1) ، ودليل ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار) (2) . ونصاب الفضة مائتا درهم (3) ، ودليل ذلك ما روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس فيما دون خمس أوراق (4) من الوَرِق (5) صدقة) (6) . والعبرة للوزن إذا كان كل صنف على حدة بلغ نصاباً، أما في ضم الذهب إلى الفضة فالعبرة للقيمة، إذ يجوز ضم أحد النقدين إلى الآخر، بل يجب إذا لم يكن لكل منهما نصاب لإتمام النصاب، لأنهما من حيث الثمنية شيء واحد. وإذا كان لكل منهما نصاب أدى منهما بغير ضمّ. ولو أراد صاحب نصابين مختلفين ضمهما ليدفع الزكاة من نوع واحد، جاز بشرط أن يكون الضم لمصلحة الفقير. وتضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب كما يضم الذهب إلى الفضة. ويكون الضم باعتبار الأجزاء عند الصاحبين وباعتبار القيمة عند الإمام، فلو كان لدى شخص نصف نصاب من الفضة وربع نصاب من الذهب، فعند الإمام يضم باعتبار القيمة وتجب الزكاة، وعند الصاحبَيْن يضم باعتبار الأجزاء فلا تجب الزكاة.   (1) أي ما يعادل (100) غ ذهباً. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 4/1573. (3) أي ما يعادل (700) غ فضة. (4) أوَاق: جمع أوقية، وهي أربعون درهماً. (5) الوَرِق: وهو الفضة. (6) مسلم: ج 2 / كتاب الزكاة /6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 مقدار الزكاة في النقدين: الواجب في الذهب والفضة ربع العشر مطلقاً، وما زاد على النصاب فاختُلِف فيه: -1 - قول الإمام أبي حنيفة: لا تُدفع الكسور حتى تبلغ خمس النصاب، أي أربعين درهماً في الفضة وأربعة مثاقيل في الذهب. وذلك لما روي عن الحسن البصري قال: "كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -: فما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهماً درهم" (1) . -2 - قول الصاحبين: ما زاد على النصاب فبحسابه قل الزائد أو كثر، لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هاتوا ربع العشور، من كل أربعين درهماً درهم. وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم، فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك ... ) (2) . والعبرة عند الدفع للوزن إن كان دفع من جنس النصاب، وللقيمة إن دفع من غير جنسه أو في حالة ضم الجنسين لبعضهما.   (1) الجوهر النقي (بذيل السنن الكبرى للبيهقي) : ج 4 / ص 135. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 4/1572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 زكاة الحَلْي وأدوات الاستعمال المتخذة من الذهب والفضة: تجب الزكاة في الحلي وأدوات الاستعمال المتخذة من الذهب والفضة مطلقاً، سواء أكانت مباحة أو محرمة الاستعمال، متى بلغ المملوك منها نصاباً. وذلك لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكنز هو؟ قال: (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) (1) . والعبرة فيه لوزن الذهب الصافي أو الفضة لا القيمة. مثلاً: من كان عنده إبريق من الفضة وزنه (150) غ وقيمته مائتين فلا زكاة عليه.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 سبب وجوب الزكاة فيها: الثمنية التي تجعلها محلاً للنَّماء، فاقتناؤها يوجب الزكاة. والدليل على ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مَسَكَتان (1) غليظتان من ذهب. فقال لها: (أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسوركم الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله) (2) .   (1) المَسَكَتان: بالتحريك تثنية مَسَكَة، وهي هنا السِّوار. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 3/1563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 زكاة اللآلئ والجواهر: لا تجب الزكاة في اللآلئ والجواهر وإن بلغت قيمتها آلافاً، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في حجر) (1) إلا أن تكون للتجارة ففيها الزكاة، لما روي عن سعيد بن جبير قال: "ليس في حجر زكاة إلا ما كان لتجارة من جوهر ولا ياقوت ولا لؤلؤ ولا غيره إلا الذهب والفضة" (2) .   (1) البيهقي: ج 4 / ص 146. (2) البيهقي: ج 4 / ص 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 زكاة الأوراق النقدية: المعتمد هو أن تدفع الزكاة مطلقاً عن الأوراق النقدية سواء كانت تحت يد صاحبها أو مُوْدَة في المصارف. وسبب وجوب الزكاة فيها أنها سدَّت مسدّ النقدين في التعامل والرواج فأخذت حكمهما في وجوب الزكاة، ولأن وجوب الزكاة في النقدين هو لخاصة الثمنيَّة، فإذا وجدت في غيرهما كالأوراق النقدية أخذت حكمهما في وجوب الزكاة. ويجب فيها ربع العشر كما في الذهب والفضة. زكاة المعدن والرِّكاز: الرِّكاز: لغة: الإثبات. وشرعاً: مال مركوز تحت الأرض سواء كان بخلق الله من كل معدن منطبع (1) ، أو كان مما كنزه الكفار في أرض عشرية أو خراجية أو مَفَازة أو جَبَل، وجده مسلم أو ذمي.   (1) المنطبع: القابل للطرق والصفح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 مقدار زكاة الركاز: -1 - إن كان من دَفْن الجاهلية ففيه الخمس، يدفع لبيت مال المسلمين، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وفي الركاز الخمس) (1) . والباقي لمالك الأرض إن وجد أو ورثته أو لبيت مال المسلمين. أما إن وجد الركاز في صحراء أو مفازة فالباقي عن الخمس لواجده ولو كان ذميّاً. وأما المعدن (2) فلا شيء فيه إن وجده في داره أو حانوته عند الإمام أبي حنيفة وقالا فيه الخمس. وإن وجده في أرضه فهناك روايتان عن الإمام؛ فعلى رواية الأصل لا شيء فيه وعلى الرواية الأخرى - وهي موافقة لقول الصاحبين -: هناك فرق بين الأرض والدار ووجهه أن الدار لا مؤنة فيها أصلاً فلم تخمس فصار الكل للواجد بخلاف الأرض فإن فيها مؤنة الخراج والعشر فتخمس. والأخذ بهذه الرواية أوْلى. وليس للحَرْبي شيء من الركاز إن استخرج بغير إذن الإمام، فإن كان بإذنه فله ما شرط فيه. -2 - إن كان الركاز من دفن المسلمين، كأن يكون عليه طبع يدل على أنه بعد الإسلام، فحكمه حكم اللُّقَطَة (3) . -3 - إن لم تظهر عليه أية علامة اعتبر من دَفْن الجاهلية. -4 - إن وجد الكنز في أرض الكفار أو صحرائها فلا يخمَّس، بل هو لواجده كله ولو كان مستأمناً. أما إن وجده في أرض مملوكة رده إلى مالكه تحرزاً من الغدر، فإن هرب به مَلَكه مُلْكاً خبيثاً سبيله التصدُّق. -5 - إن وجد الفيروز والياقوت والزمرد في جبل أو مفازة أي في مواضعها، فليس فيها شيء، فإن كانت من كنز الجاهلية ففيها الخمس لكونها غنيمة.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 65/1428. (2) خرج بقولنا المعدن الكنز فإنه يخمس ولو وجده في أرض مملوكة لأحد أو في داره. (3) اللقطة إن لم يعرف صاحبها بعد سنة من تعريفها والمناداة عليها، فإن كان الملتقط فقيراً انتفع بها على شرط الضمان، وإن كان غنياً تصدق بها على شرط الضمان أيضاً إن ظهر صاحبها ولم يُجِزِ الصدقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 مصارف الزكاة: هي مصارف الغنائم رغم أن الركاز أُلحق بالزكاة. وبناء على هذا يجوز للواجد أن يصرف الخمس على نفسه أو ولده إن كان فقيراً بحيث تكون أربع أخماس دون النصاب. أما ما يستخرج من البحر سواء أكان لؤلؤاً أم ذهباً مدفوناً في قاع البحر، فليس فيه شيء. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر" (1) .   (1) البيهقي: ج 4 / ص 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الفصل الرابع: زَكاة العروض التجارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في عروض التجارة مهما كان نوع المال المُتاجر به، لأن التجارة تجعل المال نامياً، وهي علة وجوب الزكاة، ولحديث سَمُرَة بن جُندب رضي الله عنه قال: (أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نُخرِج الصدقة من الذي نعد للبيع) (1) .   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 2/1562. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 شروط وجوب الزكاة: -1 - أن تبلغ قيمة المال المتاجَر به نصاباً من ذهب أو فضة. -2 - أن تُملك بعقد مُعاوَضَة، فلو تملكها بإرث فلا تجب فيها زكاة العروض حتى يتاجر بها فعلاً، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة" (1) . -3 - أن ينوي التجارة بها عند الشراء.   (1) البيهقي: ج 4 / ص 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 كيفية إخراجها: يمكن ضم جميع العروض التجارية إلى بعضها وتقوَّم قيمتها بأحد النَّقدين، فإن بلغت نصاباً وجبت فيها الزكاة. وتُقوَّم بالأصلح للفقراء أو بالنَّقد الغالب. وروى البيهقي بسنده عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماس (كان حماس يبيع الأدم والجعاب) قال: "مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي آدمة أحملها فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه التي على ظهري وآهبة في القرط فقال: ذاك مال فضع. قال: فوضعتها بين يديه فحسبها. فوجدت قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة" (1) .   (1) البيهقي: ج 4 / ص 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 زكاة المباني المؤجرة: لا زكاة في المباني المؤجرة التي لم يقصد بها التجارة، وإنما تجب الزكاة على الأجرة إذا حال عليها الحول أو ضمت إلى النصاب الموجود عند المالك. زكاة المصانع: لا زكاة على الآلات المستعملة في المصنع، لأنها ليست للتجارة، وإنما تجب في المواد كالخيوط والحديد المعدة للبيع وغيرها (1) .   (1) ورد في مجلة لواء الإسلام تحت عنوان: (الزكاة والنظام الاجتماعي) للإمام أبي زهرة: ما يلي: يلحق بزكاة المحاصيل الزراعية زكاة المباني المؤجرة باعتبار أن علة وجوب الزكاة هو النَّماء. والمحاصيل الزراعية تدفع العشر أو نصف العشر من الخارج من الأرض أي مما كسبَتْه الأرض، فإن المباني المؤجَّرة والمصانع تنتج أرباحاً كبيرة (تحقق النماء) لذا فقد أوجب الفقهاء المُحْدثون الزكاةَ على المباني ودور السكن المؤجَّرة والمصانع (وذلك خلافاً للمذهب) . والمقدار الواجب فيها هو نصف العشر، ويُدفع يوم القبض {وآتوا حقه يوم حصاده} . نقلاً عن محاضرات في الفقه الإسلامي العام / د. فوزي فيض الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الباب الثالث (مصارف الزكاة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 حدّد الله تعالى الأفراد الذين يستحقون صرف الزكاة إليهم في ثمانية أصناف، وذلك في قوله تعالى: {إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل} (1) . وللمالك أن يعطي جميع الأصناف أو يقتصر على صنف واحد؛ لأن الزكاة حق الله تعالى، وهو الآخذ الفعلي لها، قال تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} (2) ، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: "إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ عبد الله: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات" (3) . وقد استثني من الأصناف الثمانية المؤلفة قلوبهم وذلك بإجماع الصحابة قالوا: إن الله عز وجل أعز الإسلام فلا حاجة لتأليف القلوب عليه فقد انتهى الحكم بانتهاء علته.   (1) التوبة: 60. (2) التوبة: 104. (3) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 111، رواه الطبراني في الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 شرح الأصناف السبعة: -1 - الفقير (1) : وهو الذي يملك شيئاً قليلاً لا يكفيه؛ أي الذي يملك ما لا يبلغ نصاباً، أو يملك نصاباً غير نامٍ مُسْتَغْرَقَاً في حوائجه (كثمن داره التي يسكنها، أو مصروفه) ولو كان صحيحاً مكتسباً. أما إن كان يملك نصاباً غير نامٍ غير مستهلكٍ فلي حوائجه الأصلية فلا يجوز إعطاؤه من مال الزكاة ولا يجب عليه دفع الزكاة، بل تجب عليه صدقة الفطر والأضحية. -2 - المسكين: وهو أدنى حالاً من الفقير، فهو الذي لا شيء له، قال تعالى: {أو مسكيناً ذا مَتربة} (2) . وروي عن الإمام أبي حنيفة قوله الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل. -3 - العامل عليها: وهو الموظف على جبايتها وتوزيعها من قبل الإمام (3) ، ولو هلك مال الزكاة في يده سقط حقه في الأجر. ويجوز للعامل ولو كان غنياً لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيأخذ عوض عمله ما يكفيه وأعوانه بشرط أن لا يتجاوز ذلك نصف ما جبى. -4 - الرقاب: وهم المكاتبون مكاتبة صحيحة فيعطون ما يعينهم على العِتق. -5 - الغارم: وهو المديون الذي لا يملك لدينه وفاء، والدفع إليه أفضل منه للفقير. -6 - في سبيل الله: وهم المنقطعون من الغزاة، أي الذين عجزوا عن اللحوق بجيش الإسلام لفقرهم بهلاك النفقة أو الدابة أو غيرهما فتحل لهم الزكاة. -7 - ابن السبيل: هو المنقطع عن أهله، البعيد عن ماله، فيعطي من الزكاة ما يوصله إلى أهله أو ماله.   (1) الفقر شرط في جميع الأصناف إلا العامل والمكاتب وابن السبيل. (2) البلد: 16. (3) أما جُباة الجمعيات فيشترط فقرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الذين لا يجوز دفع الزكاة إليهم: -1 - بنو هاشم ومواليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) (1) ، ولما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابني عمه: (لا يحل لكما أهلَ البيت من الصدقات شيء ولا غُسالة أيدي الناس، إن لكم في خمس الخُمُس لما يغنيكم أو يكفيكم) (2) . وقد روى أبو عصمة عن الإمام أنه يجوز الدفع إلى بني هاشم في زمانه لأن عوضها وهو خمس الخمس لم يصل إليهم. -2 - الأغنياء: لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَحِلّ الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سوي) (3) . كما لا تحلّ لولد الغني الصغير (دون البلوغ) ولا إلى ابنه الكبير المُقْعَد؛ أي الذي فرضت نفقته على أبيه (أما إذا كان قبل فرض نفقته فيجوز أن يعطى) ، ولا إلى مملوكه، لأنهم أغنياء بغناه. بخلاف ولد الغني الكبير وزوجته وأبيه إن كانوا فقراء، فمن الأَوْلى جميع الأقارب الذين تجب نفقتهم على الغني إن كانوا فقراء فلا يعتبرون أغنياء بغناه. والغني في الشرع ثلاث مراتب: -1 - غني يحرم عليه السؤال، ويحلّ له أخذ الزكاة: وهو أن يملك قوت يومه وستر عورته، أو كان صحيحاً مكتسباً، لما روى سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار. فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه) (4) . -2 - غني يحرم عليه السؤال والأخذ، ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية: وهو أن يملك نصاباً غير نامٍ عن حوائجه الأصلية. -3 - غني يحرم عليه السؤال والأخذ، ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية والزكاة: وهو أن يملك نِصاباً كاملاً نامياً. -3 - غير المسلمين: فلا يجوز دفع الزكاة إلى ذميّ أو حَرْبي، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن قال له: (فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) (5) . أما الصدقات النافلة فيجوز أن تُدفع للذميّ بخلاف النذور والكفارات فلا يجوز دفعها عند أبي يوسف إلا لمسلم كالزكاة. -4 - فروع المُزكّي وأصوله كالأب والجد والأم والجدة، من الجانبين، والولد وولد الولد وإن سَفل. ويجوز إعطاؤها إلى من سوى ما ذكر كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات الفقراء، بل هم أولى لما فيه من الصلة مع الصدقة. -5 - زوجة المُزكي اتفاقاً، فلا يجوز للزوج أن يدفع زكاة ماله لزوجته لوجوب نفقتها عليه. واختُلِف في جواز دفع الزوجة زكاة مالها لزوجها فعند الإمام لا يجوز أن تدفع الزوجة زكاة مالها لزوجها ولو كان فقيراً، لأنه يعود بالنفع عليها، وهو القول المعتمد. وعند الصاحبين يجوز، وذلك لما روي عن زينب. فقال: (أي الزيانب؟ فقيل امرأة ابن مسعود. قال: نعم، ائذنوا لها. فأُذِن لها. قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود: أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقتِ به عليهم) (6) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الزكاة باب 51/168. (2) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 91، رواه الطبراني في الكبير. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 23/1634. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 23/1629. (5) مسلم: ج 1 / كتاب الإيمان باب 7/31. (6) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 43/1393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تعقيبات: - إذا دفع المكلف الزكاة لرجل ظنه مستوفياً للشروط فقيراً أو مسكيناً، ثم تبين له خلاف ذلك، جاز وصحت الزكاة عند الإمام خلافاً لأبي يوسف، ودليل ذلك ما روي عن معن رضي الله عنه قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن) (1) . - لا يجوز دفع الزكاة لبناء مسجد أو إصلاح شارع، ولا يقضى بها دين عن ميت، ولا يُغسل منها ولا يُكفن. - ما يأخذه البغاة (2) يسقط الخراج ولا يسقط الزكاة، لأنهم لا يصرفونها في مصارف الزكاة.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الزكاة باب 14/1356. (2) البغاة: هم الذين خرجوا على الإمام واستولوا على السلطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الباب الرابع (صَدقة الفِطر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حكمها ودليلها: وهي واجبة، ولا يكفر جاحدها، بدليل ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى، والحر والمملوك، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) (1) . وهي ليست فرضاً، لأن معنى كلمة "فرضَ" في الحديث أمَرَ أَمْر إيجاب والأمر الثابت بدليل ظني يفيد الوجوب، ولأن الإجماع المنعقد على وجوبها ليس قطعياً لأنه لم يُنقل بالتواتر.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب صدقة الفطر باب 8/1440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الحكمة من تشريعها: شرعت صدقة الفطر لجبر الخلل الواقع في الصوم، كما يجبر سجود السهو نقص الصلاة، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفِطر طُهرة للصائم من اللَّغو والرَّفَث وطعمة للمساكين) (1) . كما شرعت للتوسعة على الفقراء والمساكين وإغنائهم عن سؤال الناس في يوم العيد، وذلك للحديث المتقدم ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) (2) . كما أنها سبب لقبول الصيام لما روي أن: صوم شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 17/1609. (2) رواه الدارقطني وسنده ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 سببها: رأس يَمُونُه ويَلي عليه. شروط وجوبها: -1 - الإسلام: فلا تجب على الكافر ولو عن عبده المسلم. لكن يجب على المولى أن يدفع عن عبده الكافر لتحقق السبب وهو رأس يمونه ويلي عليه. -2 - الحرية: فلا تجب على العبد لأنه لا يملك، بل يجب على سيده أن يخرجها عنه. -3 - أن يملك مقدار نصاب خالٍ عن الدين وزائد عن حوائجه الأصلية، سواء أكان نامياً أم غير نام. ولا يشترط بقاء النصاب، فلو هلك النصاب بعد وجوبها لا تسقط عنه بخلاف الزكاة. -4 - أن يدركه فجر عيد الفطر، فمن مات قبل الفجر أو وُلِد بعده فلا تجب عليه صدقة الفطر. ولا يشترط لوجوبها العقل والبلوغ، فتجب في مال الصبي والمجنون، وإذا لم يخرجها وليُّهما كان آثماً، ويجب عليهما دفعها للفقراء بعد الإفاقة أو البلوغ. على من تجب زكاة الفطر: تجب على كل من توفرت فيه شروط الوجوب، فتجب عن نفسه وعمن يَمُونُه، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون) (1) . أي يجب أن يدفع عمن تقع عليه ولايته ومؤونته، فيدفع الأب عن ولده الصغير الفقير، وعن ولده الكبير الذي في عياله إن كان فقيراً ومجنوناً، وعن عبده ولو ذمياً. ولا تجب على الزوج عن زوجته أو ولده الكبير الفقير العاقل، لكن إن دفعها ولو من غير إذنهما أجزأت بشرط كونهما في عياله. ولا يجب على المكلف أن يخرجها عن أمه وأبيه ولو كانا فقيرين، إن أن يتبرع، أو كان أحدهما مجنوناً فقيراً فيدفع عنه لوجود المؤونة والولاية. ويدفع الجَدّ عن أولاد ابنه القاصرين الفقراء عند موت أبيهم. ولا يدفع عن أولاد ابنته ولو فقراء. وتدفع المرأة عن نفسها إن كانت غنية، ولا تدفع عن أولادها ولا عن زوجها.   (1) الدارقطني: ج 2 / ص 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مقدارها: نصف صاع من القمح، أو صاع من زبيب أو تمر أو شعير. ويجوز دفع القيمة وهي أفضل عند وجدان الفقير ما يحتاجه، بأن كان الزمن زمن خصب، لأن الحكمة منها إغناؤه. أما إن كان زمن شدة فإخراج العَيْن أفضل. ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر، على الصغير والكبير، والحُرِّ والمملوك) (1) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب صدقة الفطر باب 9/1441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقتها: أفضل وقت لإخراجها قبل الخروج لصلاة عيد الفطر، ويجوز إخراجها بعد دخول شهر رمضان، ولا يجوز تقديمها عنه، ويكره تأخيرها عن صلاة العيد، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفِطر طُهرة للصائم من اللّغو والرَّفث وطُعْمَة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (1) . لكنها لا تسقط بالتأخير، ولو لم يؤدِّها ثبتت دَيْناً في ذمته يجب عليه دفعها، ولو أخرها حتى مات؛ فإن دفعها الورثة أو غيرهم أجزأت وبرِئت ذمته، وإن أوصى بها تُخرج من الثلث.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 17/1609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 كتاب الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الباب الأول (تعريف الحج وشروطه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لغة: القصد إلى معظَّم. شرعاً: زيارة مكان مخصوص، في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. ويقصد بالمكان المخصوص: الكعبة وعرفات. وبالزمن المخصوص: الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، والطواف بالبيت فجر يوم النحر إلى ما بعده. والفعل المخصوص: الإحرام بنية الحج وباقي الأركان. حكمه: أ - هو ركن من أركان الإسلام، وفرض عين على كل مستطيع، يكفر جاحده، وهو عبادة مالية وبدنية. دليل فرضيته: ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع. من الكتاب: قوله تعالى: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (1) . ومن السنة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) (2) . وقد انعقد إجماع الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين إلى يومنا هذا على أن الحج فريضة مُحْكَمة. وهو فرض في العمر مرة واحدة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم) (3) . وما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك زاداً وراحلة تُبلِّغه إلى بيت الله ولم يحج (4) فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. وذلك أن الله يقول في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ) (5) . وقيل هو فرض مرة في العمر على الفور (6) إذا توفرت شروط وجوبه، فإن أخره عن أول عام استطاع فيه أثم بالتأخير. ولو أخَّره سنين ثم حجَّ اعتبر أداء لا قضاء، لأن دليل الفورية ظني، وهو أن الحج له وقت معين في السنة والموت خلال سنة غير نادر. ب - واجب: -1 - يجب على الآفاقي إذا أراد دخول مكة واجتاز الميقات أن يختار أحد النسكين ويُحرم به، فإن كان وقت الحج واختاره وجب عليه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجاوز الموقت إلا بإحرام) (7) . وسبب وجوب الإحرام تعظيم تلك البقعة الشريفة. ويستوي في ذلك التاجر والمعتمر، فإن اجتاز الميقات بغير إحرام وجب عليه دم ما لم يَعُد إلى الميقات ويُحَرم منه بأحد النسكين. -2 - يجب إتمامه بعد الإحرام به متطوعاً، بدليل قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (8) . جـ - سنة: إن نواه متطوعاً. د - مكروه: -1 - إذا أحرم به دون إذن من له ولاية عليه. -2 - إذا حجت المرأة بدون مَحرم. هـ - محرم: إن حج بمال حرام، لكن يسقط عنه الفرض ولا يثاب بسبب المال الحرام.   (1) آل عمران: 97. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الإيمان باب 2/8. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 73/412. (4) لم يحجَّ: أي حتى مات ولا عذر له. (5) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 3/812. (6) عند أبي يوسف رحمه الله، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه ما يدل عليه. وعند محمد الشافعي رحمهما الله على التراخي. (7) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 216، رواه الطبراني في الكبير. (8) البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 شروط الحج: أولاً - شروط وجوب الحج: وهي الشروط التي إن توفرت في شخص وجب عليه الحج مطلقاً، بنفسه، أو بالإحجاج عنه، أو يوصي بالحج إن مات ولم يحج. أي يترتب عليه ثبوت الحج دَيْناً في ذمته. وهذه الشروط هي: -1 - الإسلام، لأن الكافر غير مخاطب بالتكاليف. -2 - العقل والبلوغ: فلا يجب الحج على المجنون ولا على الصغير، ولو حجا ونوى عنهما وليهما صح الحج تطوعاً ولا تسقط فريضة حجة الفريضة، فلو بلغ الصبي أو أفاق المجنون وجبت عليهما الفريضة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (أيُّما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حَجُّة أخرى) (1) . وإذا بلغ قبل الخروج إلى عرفات، فله أن يجدد النية من أقرب ميقات، وتجزئه عن حجة الإسلام. أما المعتوه فهو مكلف بالعبادات احتياطاً. -3 - الحرية: فلا يجب الحج على العبد ولو مُدَبَّراً (2) أو مكاتباً أو أم ولد، لأن فرض الحج لا يتأتى إلا بالمال ولا ملك لهؤلاء، وحتى لا يفوت حق السيد مدة الحج. ولو حج العبد انعقد حجه تطوعاً، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - رفعه - قال: (وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى) (3) . -4 - العلم بفرضية الحج، إن كان في غير دار الإسلام، بإخبار عدل، أو مستورين، أو رجل وامرأتين. أما إن كان في دار الإسلام فيجب عليه الحج ولو لم يعلم بفرضيته سواء أنشأ مسلماً أو لا. -5 - الاستطاعة: لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} (4) وتتحقق الاستطاعة بالأمور التالية: -1 - صحة البدن بالسلامة من الأمراض والعمى والعاهات المانعة من القيام بما لا بد منه في السفر. فإذا ملك المريض زاداً وراحلة وجب عليه أن يستنيب عند الصاحبين، وعند الإمام: لا يجب الحج على المرضى وأصحاب العاهات، لأنه يعتبر الصحة الجسدية من شروط الوجوب (وثمرة الاختلاف في الإيصاء والاستنابة) . ولو حج سقط عنه الفرض اتفاقاً. وإذا ملك من يحمله ويضعه وجب عليه الحج، أو الاستنابة وتجزئه ما دام عاجزاً، فإذا زال عجزه أعاد الحج. -2 - مُلك الزاد والراحلة والنفقة ذهاباً وإياباً، وذلك لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله ما السبيل إلى الحج؟ قال: (الزاد والراحلة) (5) . ويشترط أن يكون الزاد والراحلة زائدين عن حوائجه الأصلية التي هي: وفاء الدَّين، والمسكن، والملبس، والمواشي، والكتب لمن هو من أهلها، وآلات الحِرْفة، والسلاح، ونفقة الزواج حتى قيل بوجوبه عند التّوقان. كما يشترط أن يكونا زائدين عن مؤونة بيته، ونفقة عياله، ومن تجب عليه نفقتهم مدة غيابه إلى أن يعود وقيل حتى بعد عودته بشهر، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت) (6) . والنفقة تشمل الطعام والكسوة والسكنى. -3 - أمن الطريق وقت الخروج إلى الحج، فغلبة السلامة ولو بالرشوة شرط لوجوب الحج (إذ يجب أن يدفع هو لاضطراره لأداء الفريضة والإثم على الآخذ) إذا لم يتحقق الأمن إلا بالدفع، فإن قتل بعض الحجاج فلا سلامة. ولو تمكن من الأمن بدفع ضريبة وجب عليه الحج والدفع. -4 - عدم الحَبْس. -5 - توفر المَحْرَم للمرأة زوجاً كان أو غيره غير مجوسي (لأنه قد يستبيح زواجها ولو كان أباها) ولا فاسق. وإن كانت شابة فلا تسافر مع صهرها ولا أخيها من الرضاع. وأن يكون المحرم عاقلاً بالغاً، والمراهق كالبالغ، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا مع ذي محرم) (7) . وتجب عليها نفقة المحرم إن أمكنها ولم يتيسر لها محرم بدون إنفاق. وليس للزوج منعها من حَجَّة الفرض إذا وجدت محرماً، ولا يجب عليها التزوج من أجل الحج. ولا يجوز لها الخروج مع جماعة النساء ولو كن ثقات. وإذا حجت المرأة بدون محرم صح حجها وسقطت الفريضة لكن مع الكراهة التحريمية، أي لا يكون حجها مبروراً. -6 - أن لا تكون المرأة معتدَّة من طلاق أو وفاة وقت خروج الناس للحج، أما لو أدركتها العِدَّة أثناء الطريق، فإن كان طلاقاً رجعياً لا يفارقها زوجها وتتم حجها، أما إن كان بائناً أو عِدَّة وفاة فيُفرَّق: أ - إن كانت تبعد عن بلدها أقل من مسافة سفر القصر، رجعت وأمضت عدّتها في بيتها. ب - إن كانت تبعد عن بلدها أكثر من مسافة سفر القصر، وهي آمنة في مكانها، تبقى حيث هي فتقضي عدتها ولا تتابع حجها ويكون حكمها حكم المُحْصَر. جـ - إن كان بينها وبين بلد المَقْصَد أقل من مسيرة ثلاثة أيام وجب إتمام الحج. -7 - توفر الاستطاعة وقت الحج؛ فلو توفرت بعد وقت الحج لم تجب عليه في تلك السنة.   (1) البيهقي: ج 5 / ص 179. (2) العبد المُدَبّر: هو المُعَلّق عِتقه بموت سيده. (3) البيهقي: ج 5 / ص 179. (4) آل عمران: 97. (5) البيهقي: ج 4 / ص 327. (6) أبو داود: ج 2 / كتاب الزكاة باب 45/1692. (7) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 74/417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تعقيبات: -1 - من كان عنده مال وعليه زكاة وكفارات، يلزمه تقديم الحج. -2 - من كان بيته واسعاً، بحيث لو باع قسماً منه لكفى ثمنه للحج، لا يلزمه ذلك وإن كان أفضل. -3 - من كان عنده مال ويريد الزواج، لكن أدركه الحج قبل الزواج، فيحج أولاً. ثانياً - شروط صحة الأداء: -1 - الإسلام: سواء باشره بنفسه أو فعله عن غيره، فلا يصح الحج من الكافر ولا يصح عنه. -2 - التمييز والعقل: فإذا حج صبي مميز وقام بأعمال الحج صح حجه، لكن لا تسقط عنه الفريضة. أما إن كان غير مميز أو مجنوناً فلا يصح الحج منهما ولا يصح إحرامهما، وعلى الولي أن يقوم بالإحرام عنهما، وأن يجردهما من الملابس قبل الإحرام عنهما؛ ويلبسهما الإزار والرداء، وأن يحضرهما المواقف؛ فيطوف ويسعى بهما ويأخذهما إلى عرفة. -3 - مباشرة الأفعال في زمن مخصوص، وهو وقت طواف الزيارة ووقت الوقوف بعرفة. ولا يصح من أفعال الحج شيء قبل أشهر الحج إلا الإحرام فيصح مع الكراهة. -4 - مباشرة الأفعال في مكان مخصوص، وهو أرض عرفة للوقوف بها، والمسجد الحرام لطواف الزيارة. -5 - الإحرام. -6 - عدم الجماع بين الإحرام ووقوف عرفة، فإن فعل فسد حجه، ويمضي في فاسده وعليه الحج من قابل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الباب الثاني (أرْكَان الحجّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الركن الأول - الإحرام: معنى الإحرام: لغة: هو مصدر من أَحرم، أي دخل في حرمة لا تُنتهك (أي في ذِمَّة) . شرعاً: الدخول في حُرُمات مخصوصة؛ أي التزامها. وقد عرَّفه البعض بأنه النية مع التلبية. حكمه: هو فرض يجمع بين الشرط والركن. فهو شرط ابتداء، لذا يصح قبلا أشهر الحج مع الكراهة. وله معنى الركن، لأنه لو فاته الحج في العام الذي أحرم فيه حَلَّ بعمرة ثم يقضي في العام القادم بإحرام جديد، ولأنه في الوقت نفسه داخل في أفعال الحج. شروط تحقق الإحرام: -1 - النية: وهي قصد القلب الدخول بالحج أو العمرة، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) . وإذا أبهم الإحرام فلم يعين ما أحرم به جاز، لكن عليه التعيين قبل أن يَشرع في الطواف، فإن أُحصِر أو فسد إحرامه قبل التعيين صرف العمرة، ولا يصرف للحج إلا إذا عينه قبل أن يبدأ بالأفعال. ولو وقف بعرفة قبل الطواف تعين إحرامه للحج. ولو أطلق نية الحج صرف للفرض، وإن عين نفلاً صار نفلاً، إلا عند محمد إن عين نفلاً ولم يكن قد حج للفرض صرف للفرض. وبناء على هذا يجوز عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، ولا يجوز عند الإمام محمد ولو حج عن غيره ولم يكن قد حج عن نفسه انصرفت الحَجة له. ويستحب التلفظ بالنية وكماله أن يقول: نويت الحج وأحرمت به لله تعالى. كما يستحب أن يقرن النية بالدعاء فيقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبَّلْه مني (2) . ويسن أن يذكر ما نواه أثناء التلبية، فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجاً) (3) . -2 - الذكر وهو التلبية أو ما يقوم مقامها ويسمى بالخصوصية. فلو نوى ولم يذكر لا يصير محرماً. شروط تحقق الذكر: -1 - أن يكون مقروناً بالنية للمرة الأولى. -2 - أن يتلفظ به لسانه، وقيل: حتى الأخرس يلزمه تحريك لسانه، ولا يشترط أن يكون بالعربية فيصح بغيرها. -3 - أن يكون بالصيغة التالية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) (4) . ويكره تحريماً أن يُنقِص عن هذه الصيغة. ويسن في التلبية: -1 - أن يزيد على الصيغة السابقة وخاصة بالمأثور، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل" (5) . وعن أنس رضي الله عنه قال: "كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً" (6) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات، فلما قال لبيك اللهم لبيك. قال: إنما الخير خير الآخرة) (7) . -2 - أن يرفع الصوت بها، لما روى خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) (8) . -3 - أن يكررها دائماً، لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من محرم يَضْحَى لله يومه، يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه) (9) . ما يقوم مقام الذكر: تقليد بدنة، وهو ما يسمى بالخصوصية. ويشترط في التقليد (10) اقترانه بالنية.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب بدء الوحي باب 1/1. (2) طلب التيسير لوجود المشقة وطول زمن الحج، وطلب القبول اقتداء بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {ربنا يقبل منا إنك أنت السميع العليم} فهما طلبا ذلك في بناء البيت، والعبادة في المساجد عمارة لها ناسبها هذا الدعاء. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 34/215. (4) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 25/1474. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 3/21. (6) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 223. (7) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 223. (8) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 15/829. (9) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 17/2925. (10) التقليد: هو ربط عنق البدنة (بقر أو جمل) ، ولا يجزئ تقليد الشاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 واجبات الإحرام: -1 - الإحرام من الميقات. -2 - اجتناب محظورات الإحرام. أولاً - الإحرام من الميقات: الميقات لغة: الحدّ، وشرعاً: زمن العبادة ومكانها. وميقات الإحرام الزماني: أشهر الحج: شوال وذو العقدة وعشر ليال من ذي الحجة. ودليله: قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} (1) . ويجوز الإحرام في غير هذه الأشهر مع الكراهة. وأما الميقات المكاني للإحرام فيختلف باختلاف الجهة التي يأتي منها الحاج: -1 - بالنسبة للآفاقي (2) : يحرم الآفاقي من أحد المواقيت التالية حسب جهة قدومه: -1 - ذو الحُلَيْفَة: وهو ميقات أهل المدينة ومن جاء منها. وبينها وبين مكة تسع مراحل، وهو أبعد المواقيت عن مكة. -2 - الجُحْفَة: وهي ميقات أهل الشام ومصر، ومن مرّ عليهما من غير أهلهما. وقد أبدلت اليوم برابغ. -3 - يَلَمْلَم: وهو ميقات أهل اليمن وتهامة والهند. ويلملم جبل صغير على بعد مرحلتين من مكة. -4 - قَرْن المنازل: وهو ميقات أهل نجد والحجاز، وهو جبل مشرف على عرفات على بعد مرحلتين منه. -5 - ذاتُ عِرْق: وهي ميقات أهل العراق وسائر أهل المشرق، وهي قرية على بعد مرحلتين من مكة، وسميت بذلك لوجود جبل فيها يسمى عِرقاً يشرف على وادي العقيق. وهذه المواقيت لأهل الجهات ولمن مر بها أو حاذاها جواً. والأفضل للآفاقي أن يحرم دُوَيْرَة أهله إذ أن ذلك من تمام الحج. -2 - لمن هو داخل المواقيت وخارج مكة: من حيث أنشأ الحج، أي ميقاته الحل. -3 - لأهل مكة: الحرم. ودليل تحديد المواقيت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمُهلُّهُ من أهله، وكذاك حتى أهل مكة يُهلّون منها) (3) .   (1) البقرة: 197. (2) الآفاقي: هو من كان خارج المواقيت التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 9/1454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 حكم الإحرام لاجتياز الميقات: -1 - إذا كان آفاقياً قاصداً مكة لنسك أو غيره، فيجب أن لا يتجاوز الميقات إلا محرماً، وإلا وجب عليه دم وكان آثماً؛ إلا أن يعود إلى الميقات فيُحرِم منه قبل أن يبدأ بالمناسك، أو يحرم من مكة ويعود إلى الميقات ملبياً. -2 - أما لو كان آفاقياً وجاء يقصد الإقامة بجدة مثلاً، ولا يريد نُسَكاً ولا يريد دخول مكة، فله أن يتجاوز الميقات بدون إحرام ولا شيء عليه. وأما من كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بدون إحرام ومتى شاء. ثانياً - اجتناب محظورات الإحرام: من واجبات الإحرام اجتناب محظورات الإحرام إلا الجماع فهو إن وقع مفسد للحج أصلاً إذا كان قبل الوقوف بعرفة. ومحظورات الإحرام هي: -1 - ما يتعلق منها باللباس: أ - بالنسبة للرجل: -1 - يحرم على الرجل لبس ما يحيط ببدنه، سواء نتيجة غرز أو لصق أو نسج، أو أي ثوب لبساً معتاداً كالقميص والسراويل والعمامة والقباء. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبِس خفين وليقطعهما أسفل الكعبين..) (1) . أما إذا لم يكن اللبس على الهيئة المعتادة، كأن ألقيت عليه عباءة وهو نائم فلا مانع. وإذا وضع العباءة على كتفيه دون أن يزرِّر أو يدخل يديه في كميها فيكره، وإن زرّر يحرم. -2 - يحرم على الرجل لبس الخفين إلا أن لم يجد النعلين فيقطع الخفين أسفل الكعبين ثم يلبسهما للحديث المتقدم. -3 - يحرم عليه لبس القفازين. -4 - يحرم ستر الرأس والوجه، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه) (2) ، وروي عنه أيضاً أنه كان يقول: "ما فوق الذقن من الرأس فلا يُخمره المحرم" (3) . وسواء في الحرمة تغطية بعض الوجه أو الرأس أو كله. ولا يجوز للرجل أن يحمل فوق رأسه شيئاً اعتاد الناس أن يغطوا رؤوسهم به. أما لو حمل عِدْلاً (4) فلا بأس، والمعتمد في الحرمة هو القصد. ويكره تحريماً أن يُدخِل رأسه تحت أستار الكعبة، وإن طال لمدة يوم وليلة ففيه دم. ويكره عصب الرأس ولو فعله يوماً وليلة ففيه صدقة. وتجوز تغطية وجه الميت ورأسه إن مات مُحرِماً لانقطاع الإحرام بالموت، بدليل ما روي عن بعض أهل العلم قوله: "إذا مات انقطع إحرامه ويصنع به كما يصنع بغير المحرم" (5) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له) (6) . أما قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وَقَصَته دابته: (لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (7) فهو مخصوص به لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، أما غيره فقد انقطع إحرامه بالموت. ب - بالنسبة للمرأة: يجوز للمرأة لبس المخيط والثياب المعتادة لكن: -1 - يحرم عليها ستر وجهها بساتر يَلْمَسُ البشرة. أما إن كان الساتر متجافياً بحيث لا يمسّ الوجه فلا مانع منه. لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ... ) (8) . -2 - يندب لها عدم لبس القفَّازين. -2 - ما يتعلق منها بالبدن: -1 - إزالة الشعر: فلا يصح للمحرم أن يزيل شيئاً من شعر رأسه وجسده كيفما كان حلقاً أو قصاً أو نتفاً، ولا يحلق رأس غيره ولو كان حلالاً، ولا يمكِّن غيره أن يحلق له. إلا شعرة نبتت في العين فلا شيء في إزالتها. وذلك لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه} (9) ، ولأن فيه إزالة الشَّعث (10) ، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشَّعِث التَّفِل) (11) . -2 - التطيب: ويقصد به استعمال الطيب في الثوب والبدن وإن لم يقصده فلا يجوز أن يستعمل طلاءً للتداوي إن كان مطيباً، ولا يغسل بصابون إن كان معطراً، ولا يلبس ثوباً مُعَصْفراً أو مُطَيَّباً، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران أو الورس) (12) . أما الثياب المبخرة فلا شيء فيها. كما يكره شمّ الطيب، لما روى البيهقي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أنه سئل عن الريحان أيشمه المحرم، والطيب، والدهن، فقال: لا" (13) . كما لا يجوز للمحرم أن يشرب ما خالطه طيب إن كان غالباً كالقهوة مع الهيل. -3 - الادِّهان: فلا يجوز للمحرم أن يَدْهن رأسه بزيت أو غيره فيما يستعمل للتطيَّب والتزيّن، إلا إذا كان للتداوي فيجوز. كما يجوز دهن جسمه بما ليس بطيب كالفازلين أو غيره. ويجوز أكل الزيت مطلقاً. -4 - إزالة الأظافر: أي قطعها، ولو واحداً بنفسه أو غيره، أو قَلْمُ ظُفرِ غيره. إلا إذا انكسر بحيث لا ينمو فلا بأس بإزالته، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في المحرم: " ... وإذا انكسر ظفره طرحه" (14) . -3 - ما يتعلق بالأفعال: -1 - الرفث: وهو الجماع، أو ذِكره وخاصة بحضرة النساء. والمحرَّم هو فعل الجماع وليس العقد، فيجوز للمحرم أن يعقد لنفسه أو لغيره. قال تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (15) . -2 - الفسوق: وهي المعاصي، وتركها في غير الحج واجب وفي الحج أوجب. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن حج هذا البيت فلم يَرْفُث ولم يفْسُق رجع كيوم ولدته أمه) (16) . -3 - الجدال: وهو الخصومة مع الرفقاء والخدم والمُكَارين (17) ، لقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} . -4 - صيد البر: يحرم على المحرم قتل صيد البر (18) سواء أكان مأكولاً أم لا، بدليل قوله تعالى: {أُحِلَ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} (19) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (20) . ولا يجوز للمحرم أن يشير إليه ولا يدل عليه لأن الدلالة والإشارة في معنى الصيد من حيث إزالة الأمن عن الحيوان، وكذلك لا يجوز له أن يكسر بيض الحيوان لأنه أصله. أما إذا اصطاد غير محرم فيجوز للمحرم أكله إذا لم يعنه، لما روي عن عبد الله بن أبي قتادة قال: كان أبو قتادة في نفر محرمين وأبو قتادة محل. واقتص الحديث وفيه "أنه اصطاد حمار وحش فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله" قال: (هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء، قالوا: لا يا رسول الله. قال: فكلوا) (21) . -5 - يحرم على المحرم قتل الهوامّ والقمل، لأن فيه إزالة الشعّث. ويجوز له قتل البراغيث والبقّ والذُّباب والحية والعقرب والفأرة والذئب والغراب والحَدَأة، لأنها ليست صيداً ولا متولدة من البدن وليس في قتلها إزالة الشّعث، ولأن منها ما هو مؤذٍ ويبتدئ بالإيذاء ولأن المحظور التعرض للحيوانات الآمنة لا دفع أذاها. ودليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس فواسق يُقتَلْن في الحِلِّ والحرم: الحية والغراب الأبقع (22) والفأرة والكلب العقور (23) والحديا) (24) -6 - يحرم على المحرم قطع شجر الحرم إلا الإِذْخر، لأنه محظور على الحلال فهو على المحرم أولى. وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحِلَّت لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها، ولا يُعْضَد شجرها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لُقَطَتُها إلا لمعَّرف وقال العباس: يا رسول الله إلا الإِذخِرَ، لصاغتنا وقبورنا. فقال: إلا الإِذخِر) (25) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 20/1468. (2) الدارقطني: ج 2 / ص 294. (3) الموطأ: ص 224. (4) العدْل: المتاع. (5) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 105. (6) سنن الدرامي: ج 1 / ص 139. (7) البخاري: ج 1 / كتاب الجنائز باب 19/1206. (8) البخاري: ج 1 / كتاب الإحصار باب 24/1741. (9) البقرة: 196. (10) الشَّعِث: من كان ذا شعر مُغبر متلبد. (11) البيهقي: ج 5 / ص 58. (12) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 20/1468. (13) البيهقي: ج 5 / ص 57. (14) البيهقي: ج 5 / ص 62. (15) البقرة: 197. (16) البخاري: ج 2 / كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب 11/1724. (17) المُكَاري: المستأجر. (18) البري: ما كان مسكنه في البر ويعيش في البر. (19) المائدة: 96. (20) المائدة: 95. (21) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 8/64. (22) أُحِل قتله لأنه يأكل الجيف ولا يؤكل لحمه. (23) يمثل الكلب العقور كل سبع صائل. (24) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 9/67. (25) البخاري: ج 2 / كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب 20/1736. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ما يباح للمحرم: -1 - صيد البحر بكل أنواعه، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة} . -2 - ذبح الإبل والبقر والغنم لأنها ليست صيداً، ودليل ذلك ما روي عن ناجية الخزاعي - رضي الله عنه - صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قلت يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن. قال: انحرها) (1) . -3 - الاغتسال لأنه قد يحتاج إليه من الجنابة، لكن يحترز من سقوط الشعر أو القمل. وقد روي عن عبد الله بن حنين أنه سأل أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم. قال: "فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب. قال: فصب على رأسه ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. ثم قال: هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم " (2) . فإن سقطت شعرة ففيها شيء من طعام، وفي ثلاث شعرات كفّ من بُرّ. -4 - يجوز للمحرم أن يقف تحت سقف أو يستظل بظل لا يلامس رأسه، فعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة" (3) . -5 - يجوز له أن يشدّ وسطه بزُنّار، وأن يحمل سلاحه ويقاتل عدوه إن قاتله. -6 - يجوز له الاختتان والاحتجام، وقلع ضرسه، أو حكّ بدنه ورأسه، أو جبر كسره. وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) (4) ، وعنه أيضاً قال في المحرم: ( ... ويدخل الحمام، وينوع ضرسه، ويفقأ القرحة، وإذا انكسر ظفره أماط عنه الأذى) (5) .   (1) الترمذي: ج 2 / كتاب الحج باب 71/910. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 38/1840. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 51/312. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب الحج باب 36/1835. (5) البيهقي: ج 5 / ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 سنن الإحرام: يستحب لمن أراد الإحرام بالحج أو العمرة ما يلي: -1 - أن يقلّم أظافره، ويقصّ شاربه، ويحلق عانته. -2 - أن يغتسل ويتوضأ، لما روى خارجة بن زيد عن أبيه رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) (1) . والمقصود بهما هنا النظافة مطلقاً، لذا يستحب للحائض والنفساء أن تغتسل وتتوضأ، لحديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي) (2) . -3 - أن يلبس إزاراً ورداء أبيضين جديدين أو مغسولين طاهرين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) (3) ، ولأن رسول الله ارتدى عند إحرامه الجديد، وقال فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم) (4) . -4 - أن يُطَيِّب بدنَه قبل الإحرام، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم) (5) ، وعنها أيضاً قالت: (كأني أرى وبيص الطيب في مَفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة وهو محرم) (6) . أي لا يضر بقاء أثر الطيب، من لون وريح، على البدن بعد الإحرام. أما الثوب فيضر. -5 - أن يصلي ركعتين قبل إحرامه بنية سنة الإحرام، إذا لم يكن الوقت وقت كراهة، لما روى نافع قال: "كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل" (7) . وتجزئ عنهما الفريضة. -6 - أن يكثر من التلبية بعد كل صلاة، وكلما علا شَرَفاً، أو هبط وادياً، أو لاقى صاحباً، أو دخل في وقت السَّحر. لما روى جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا رأى راكباً أو صعد أكمة، أو هبط وادياً، وفي إدبار المكتوبة، وآخر الليل) . ويستحب أن يرفع صوته بها، لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: (العَجُّ والثَّجُّ) (8) . والعج هو رفع الصوت بالتلبية لأنه شعار الحجاج، والثّج هو إسالة الدم بالذبح لنفع أهل الحرم.   (1) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 16/830. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (3) مسند الإمام أحمد: ج 2 / ص 34. (4) الترمذي: ج 3 / كتاب الجنائز باب 18/994. (5) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 11/1745. (6) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 18/2928. والوبيص: البريق واللمعان. (7) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 28/1479. (8) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 14/827. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الركن الثاني - الوقوف بعرفة: دليله: ما روي عن عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) (1) . والمعنى أنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته فقد فات حجه، فيطوف ويسعى ويتحلل من الإحرام، ثم يقضي الحج في العام الذي يليه.   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 57/3015. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مكان الوقوف وصفته: ليس المقصود الوقوف ذاته بل مطلق الحضور. فيصح ولو مجتازاً، أو هارباً، أو طالب غريم، أو نائماً، أو مجنوناً، أو سكران بأرض عرفة، ولو على دابة أو شجرة. ويصح الحضور في أي موضع من جبل عرفات إلا بطن عرنة، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف) (1) . وعنه أيضاً قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) (2) . وحَدُّ عرفة: من الجبل المشرف على وادي عرنة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي منطقة بساتين بني عامر. ويفضل للإمام أن ينزل في مسجد نمرة أولاً وبعد الصلاة ينتقل إلى الموقف.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 20/149. (2) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 55/3012. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 شرطه: يشترط أن يكون الوقوف في وقته المخصص، وهو يبدأ من زوال شمس يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة) ، ويستمر إلى طلوع فجر يوم النحر. والدليل على ذلك حديث عبد الرحمن ابن يعمر الديلي المتقدم وحديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له) (1) . والركن هو مطلق الحضور، فلو وقف ساعة بعد الزوال ثم أفاض أجزأه، لحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى هذه الصلاة معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه) (2) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (2) النسائي: ج 5 / ص 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 واجبه: أن يمتد الوقوف إلى ما بعد الغروب حتى يكون أخذ قسطاً من الليل، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم) (1) ، والأمر بالمكث هنا للوجوب، فإن دفع من عرفة قبل الغروب لزمه دم. أما من وصل عرفة بعد الغروب فليس عليه دم. ولا يشترط للوقوف بعرفة طهارة، بل يصح من المحدث والجنب والحائض والنفساء، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (2) .   (1) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 53/883. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 80/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 سنن الوقوف بعرفة: -1 - الغسل، لأنه يوم يجتمع فيه الناس. وقيل الوضوء سنة والغسل مستحب. لما روي عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "اغتسلت مع ابن مسعود يوم عرفة تحت الأراك" (1) . -2 - الإكثار من التلبية والتهليل، ولا يترك التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، بعد طلوع شمس يوم النحر، لما روي عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبّى حتى رمى جمرة العقبة) (2) . -3 - الإكثار من الدعاء جهراً مع الاجتهاد والإلحاح في المسألة، لحديث طلحة بن عبيد الله ابن كريز رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) (3) . وزاد البيهقي في رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل لي في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح ومن شر بوائق الدهر) (4) . -4 - يسن القيام أثناء الدعاء مستقبلاً القبلة وبخشوع، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سيداً وإن سيد المجلس قبالة القبلة) (5) . -5 - يسن للحاج أن يُفْطر يوم عرفة، لأن الفطر أعون له على الدعاء، بخلاف غيره فيسن له الصوم. لما روت أم الفضل رضي الله عنها قالت: "شك الناس يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراب فشربه" (6) . -6 - النزول في مسجد نمرة بعد الزوال، حيث يجتمع الحجاج مع الإمام الأعظم أو نائبه. -7 - يسن للإمام خطبتان بعد الزوال قبل صلاة الظهر كخطبتي الجمعة، يعلم فيهما الناس المناسك. وإن خطب قبل الزوال أجزأه مع الكراهة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفة وقال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ... ) (7) . -8 - يسن للإمام أن يجمع صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين، لحديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً) (8) . ويسر بالقراءة، ولا يفصل بين الصلاتين بشيء من السنن كما في الحديث، بل يقيم للظهر ويصليه ويقيم للعصر ويصليه. ويقصر الإمام إن كان مسافراً. أما إذا صلى الحجاج في رحلهم فلا يجمعوا، بل يصلوا الظهر في وقته والعصر في وقته عند الإمام، وعند الصاحبين يجمعوا. ودليل الإمام أن الجمع صح على خلاف الأصل، فلا يجوز إلا بشروطه، وشروط الجمع هي: -1 - الإحرام بالحج. -2 - الحضور بعرفة. -3 - أن تكون الصلاة جماعة. -4 - أن يقيم الصلاة الإمام الأعظم أو نائبه. -9 - يسن للحاج الوقوف مع الإمام الأعظم عند الصخرات قرب جبل الرحمة، مستقبلاً القبلة، ويتوجه للدعاء ولا يقطعه إلا بالتلبية ثم يعود إليه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى جابر رضي الله عنه في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: (حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) (9) . وينبغي للحاج أن يجتهد في الدعاء، فيدعو بما يحفظه أو يقرؤه، لما ورد في فضيلة الدعاء يوم عرفة وإجابة الدعاء فيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عبداً فيه من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟) (10) . ومن الأدعية الواردة في هذا اليوم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا رفيع الدرجات، يا منزل البركات، يا فاطر الأرضين والسماوات ضجّت إليك الأصوات تسألك الحاجات وحاجتي أن ترحمني في دار البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. أسألك أن توفقني لما افترضت عليّ وأن تعينني على طاعتك وأداء حقك وقضاء المناسك، التي أريتها خليلك إبراهيم، وعلمت عليها حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم لكل متضرع إليك إجابة، ولكل مسكين لديك رأفة، ولقد جئتك متضرعاً إليك مسكيناً لديك، فاقض حاجتي واغفر ذنوبي ولا تجعلني من أخيب وفدك، وقد قلتَ وأنت لا تُخلف الميعاد: ادعوني أستجب لكم، وقد دعوتك متضرعاً سائلاً. فأجب دعائي وأعتِقني من النار ووالدي وجميع المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين". ويستحب أن يقول عند الغروب قبل الإفاضة: "اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف، وارزقنيه ما أبقيتني، واجعلني اليوم مُفلحاً مرحوماً مستجاباً دعائي، مغفورة ذنوبي، يا أرحم الراحمين". -10 - تسن الإفاضة بعد غروب الشمس مع الإمام، لما روى ميسرة الأشجعي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أنه حج معه حتى وقف بعرفات ... ثم قال: "لقد كان المشركون لا يفيضون من عرفات حتى تعمم الشمس في الجبال فتصير في رؤوسها كعمائم الرجال في وجوههم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يفيض حتى تغرب الشمس" (11) . وعن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام" (12) . ولا يجوز الدفع قبل الإمام حتى تغرب الشمس، أما التأخر بعد الغروب لزحمة فجائز. -11- أن يكثر من الاستغفار عند الإفاضة لقوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (13) . وأن يمشي على هينته، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس عليكم السكينة) (14) .   (1) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 253. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 28/1815. (3) البيهقي: ج 5 / ص 117. (4) البيهقي: ج 5 / ص 117. (5) مجمع الزوائد: ج 8 / ص 59، رواه الطبراني. (6) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 84/1575. (7) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (9) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (10) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 79/436. (11) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 255. (12) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (13) البقرة: 199. (14) الترمذي: ج 2 / كتاب الحج باب 54/885. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الركن الثالث - الطواف بالبيت أربعة أشواط: ويسمى طواف الركن لأنه الركن الثاني من أركان الحج، كما يسمى طواف الإفاضة لأن الحاج يفعله بعد إفاضته من منى إلى مكة. ويسمى أيضاً طواف الزيارة لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى. ومن ترك طواف الإفاضة ظل على إحرامه، ولا يحل له قربان النساء أبداً، وكلما جامع لزمه دم إذا تعدد المجلس، إلا أن يقصد الرفض (1) .   (1) الرفض: أي أن يقول رفضت إحرامي، عندها لو جامع في عدة مجالس لا يجب عليه غير دم واحد. إلا أنه يبقى محرماً باعتبار الشارع لأنه لا يخرج من إحرامه إلا بتمام أفعال الحج وهو طواف الركن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 دليل فرضيته: قوله تعالى: {وليَطوَّفوا بالبيت العتيق} (1) . وحديث عائشة رضي الله عنها أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحابسَتُنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذاً) (2) .   (1) الحج: 29. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 144/1670. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقته: أ - أول وقته: طلوع فجر يوم النحر، وذلك لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} - يعني الأضحية - ثم قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (1) . فجمع بين الذبح والطواف فكان وقتهما واحداً. ولو طاف قبل يوم النحر أعاد. ب - آخر وقته: حتى آخر العمر. إلا من مات بعد الوقوف بعرفة وقبل الطواف، وأوصى بإتمام الحج، فيجبر عنه بَبَدنة ويُقبل حجه. ولو لم يوص صح حجه ولا شيء عليه. جـ - وقته الواجب: أيام النحر. ويجزئ عنه أي طواف تطوعٍ بعد الوقوف بعرفة، فلو أخّره بدون عذر إلى ما بعد أيام النحر فعليه دم، إلا إن كانت حائضاً فتؤخره لعذر الحيض وليس عليها دم. ما لم تكن طهرت قبل غروب الشمس من ثالث أيام النحر بوقت يسع طهورها وطوافها أربعة أشواط، أو حاضت بعد دخول يوم النحر بوقت يسع ذلك ولم تَطُف، فيلزمها دم. د - وقته المكروه تنزيهاً: تأخيره عن أول يوم النحر.   (1) الحج: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 شروط صحة الطواف: -1 - الإسلام. -2 - الإحرام. -3 - أن يكون قد وقف بعرفة قبله. -4 - أن يكون الطواف حول البيت بنيته، فلو طاف يسعى وراء غريم لم يصح. -5 - فعله في وقته. -6 - أن يباشر الطواف بنفسه، فلا تصح فيه النيابة إلا للمغمى عليه. -7 - أن يكون الطواف حول الكعبة داخل المسجد ما لم يخرج عن الحرم. ويجوز الطواف في هواء المسجد، وعلى سطحه ولو مرتفعاً عن البيت. ولا بأس بالحائل بين الطائف والبيت. واجباته: -1 - ستر العورة: فلو كشف ربع العضو فأكثر وجب عليه دم، بدليل ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، يوم النحر، في رهط، يؤذن في الناس: (ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) (1) . -2 - الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر: لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (2) ، وروي عنها أيضاً في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: (أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) (3) . ولو طاف جنباً وجب عليه بَدَنة وصح طوافه (4) ، أما لو طاف مُحدِثاً وجب عليه شاة. وكذا الطهارة من النجاسة في الثوب والبدن والمكان، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه) (5) . وإذا انتقض وضوؤه جدده، وبنى على طوافه الأول. -3 - أن يطوف ماشياً إلا لعذر، من مرض شديد أو غيره، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (6) . ولو طاف راكباً لغير عذر وجب عليه أن يعيد الطواف ما دام بمكة، فإن غادرها قبل أن يعيد فعليه دم. أما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة الوداع على بعير (7) ، فمحمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان مريضاً مُسِناً. -4 - التيامن، بأن يطوف عن يمين البيت، جاعلاً البيت عن يساره، ماراً تلقاء وجهه. وهو واجب لأن الكعبة كالإمام والطائف كالمؤتم بها والواحد يقف عن يمين الإمام، ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مضى على يمينه) (8) . ولو تركه أعاد ما دام بمكة، فإن لم يُعِد وجب عليه دم. -5 - الابتداء من الحجر الأسود في كل شوط، فلو بدأ من غيره لم يُحسب له ما طاف قبله. ويجب أن يبدأه قبل الحجر بقليل ليكون ماراً بكل جسده حول الحجر. -6 - أن يكون الطائف خارجاً بجميع بدنه عن جميع البيت، ويُعتبر الشاذروان من البيت وكذا، حِجْر سيدنا إسماعيل، وهو الحطيم لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجَدْر أمن البيت هو؟ قال: نعم) (9) ، وفي رواية مسلم أنه قال: (وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة) (10) . -7 - إتمام الطواف إلى سبعة أشواط من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، فإن ترك شيئاً من السبع لم يجزئه عن الواجب، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين) (11) . ولو طاف شوطاً ثامناً متعمداً لزمه تتمة السبع، لأن طوافه صار لازماً بالشروع. ولو شك في عدد الأشواط لا يبني على الأقل في طواف الركن والواجب بل يعيد الأشواط، أما في طواف السنة فيبني على الأقل، لأنه مبني على التوسعة. وقيل إن كان كثير الشك يتحرى، فإن أخبره عدل صدقه ويستحب أن يأخذ بقوله ولو أخبره عدلان وجب العمل بقولهما. -8 - أن يتمّ طوافه في وقته الواجب، وهو أيام النحر، فلو أخره عنها لغير عذر لزمه دم. -9 - أن يصلي ركعتين بعد كل طواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام أو في أي مكان من المسجد ثم في الحرم، ثم لا فضيلة بعد الحرم بل الإساءة. ويفضل أن يقرأ فيهما بـ الكافرون والإخلاص، وذلك اقتداء لفعله صلى الله عليه وسلم، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: ( ... حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً. ثم قام إلى مقام إبراهيم فقال: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} . فجعل المقام بينه وبين البيت - فكأن أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه يقرأ في الركعتين قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد..) (12) . ويستحب أن يدعو بعد الركعتين بالدعاء المأثور: "اللهم إنك سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سُؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما قسمت لي". ولو صلى أكثر من ركعتين جاز، ولا تجزئ الصلاة المكتوبة ولا المنذورة عنهما. وتكره صلاة ركعتي الطواف في وقت الكراهة بخلاف الطواف، فلو طاف بعد العصر يؤخر ركعتي الطواف إلى ما بعد صلاة المغرب قبل السنة. ولا تنعقد ركعتا الطواف في ثلاثة من الأوقات المنهي عنها: عند طلوع الشمس، وعند الاستواء، وعند الغروب. وتنعقد مع الكراهة بعد الفجر والعصر. ويصلي لكل سبعة أشواط ركعتين، ويكره أن يجمع إلا إذا طاف وقت الكراهة، فإنه يؤخر الصلاة ويطوف طوافاً آخر وبعد زوال وقت الكراهة يصلي ما وجب عليه من ركعات الطواف. وإن جمع في غير ذلك جاز مع الكراهة.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 66/1543. (2) البخاري: ج 1 / كتاب الحيض باب 7/299. (3) البيهقي: ج 5 / ص 86. (4) وكذا لو حاضت المرأة، وهمَّ الركب بالرحيل، وعليها طواف الزيارة، تطوف وتكون آثمة بدخولها المسجد وهي حائض، فتذبح بَدَنة. (5) الترمذي: ج 3 / كتاب الحج باب 112/960. (6) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 73/1552. (7) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 57/1530. (8) البيهقي: ج 5 / ص 90. (9) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 41/1507. (10) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 69/401. (11) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 71/1547. (12) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 84/3074. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سنن الطواف: -1 - أن يستقبل البيت أول طوافه، فيقف مستقبلاً الحجر الأسود، بأن يجعل منكبه الأيمن عند طرف الحجر الذي إلى جهة الركن اليماني، وينوي الطواف، ثم يمر مستقبلاً ومحاذياً ببدنه الحجر الأسود إلى أن يصير طرف الحجر الذي إلى جهة باب الكعبة محاذياً منكبه الأيسر، ثم ينتقل جاعلاً البيت عن يساره متوجهاً إلى جهة الباب. -2 - أن يسلم الحجر بيده في ابتداء الطواف، فيضع كفّيه على الحجر الأسود ويسجد عليه ويقبله لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبله وسجد عليه ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت" (1) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قَبَّل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال: أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (2) . ويستحب أن يكرر ثلاثاً، وأن يستلم في ابتداء كل شوط وفي ختم الطواف وقبل ركعتي الطواف، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة. قال: وكان عبد الله بن عمر يفعله) (3) . فإن عجز عن الاستلام والتقبيل أشار بيده، لما روي عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) (4) . وكذا يسن استلام الركن اليماني بلا تقبيل عند الإمام محمد. ولا يسن للنساء استلام ولا تقبيل إلا عند خُلوِّ المطاف. ويسن أن يقول عند الاستلام: "اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم "، لما روي عن علي رضي الله عنه أن كان يقول إذا استلم الحجر: "اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم " (5) . -3 - أن يقول قبالة الكعبة: "اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار. مشيراً إلى مقام إبراهيم عليه السلام". وعند الركن اليماني يقول: "اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور، يا عزيز، يا غفور". ويقول بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (6) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: احفظوا هذا الحديث وكان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان يدعو بين الركنين: (رب قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير) (7) . ويقول أثناء الطواف: "اللهم إني أعوذ بك من الشِّرك والشك والنفاق والشِّقاق وسوء الأخلاق وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد". وتحت الميزاب: "اللهم أظلَّني تحت ظل عرشك يوم لا ظلّ إلا ظِلك". ويسن الإكثار من الدعاء ورفع الأيدي في جميع الطواف، ومأثور الدعاء أفضل. -4 - يسن الرَّمَل (8) للرجل في الطوفات الثلاث الأولى إذا أعقب الطواف سعي. ويسن المشي على الهينة في الأربع الأخيرة، وأن يقول أثناء الرمل: "اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور، يا عزيز، يا غفور". وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون: إنه يقْدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى ولَقُوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحِجْر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدَهم فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا) (9) . -5 - يسن الاضطباع للرجل والصبي، في طواف يسن فيه الرمل، وذلك بأن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر. ولا يسن الاضطباع في ركعتي الطواف. ودليل ذلك ما روى؟ يعلى؟ رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر) (10) . أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع. -6 - الموالاة بين أشواط الطواف، فلا يقطع الطواف إلا لضرورة، فإن عرضت له حاجة ضرورية قطع الطواف فإذا عاد بنى على ما مضى، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطوف بالبيت فلما أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بنى على طوافه، وكذا إذا أحدث في الطواف أو حضرت جنازة صلى جنازة صلى عليها ثم يبني على طوافه. -7 - يسن الاقتراب من البيت للرجل لأنه أيسر في الاستلام والتقبيل، إلا أن يؤدي إلى الأذى فالبعد أولى. -8 - تُسن الموالاة بين الطواف وصلاة الركعتين، ويكره تأخيرها عنه إلا في حالة الوقت المكروه. -9 - يسن عدم الكلام إلا في خير كتعليم جاهل أو غير ذلك، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من طاف بالبيت سبعاً، ولا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات، ورفع له بها عشرة درجات) (11) . ويكره في الطواف الأكل والشرب ووضع اليد على فيه بلا حاجة، وأن يشبك بين أصابعه، وليكن طوافه بحضور قلب ولزوم أدب.   (1) البيهقي: ج 5 / ص 74. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 41/248. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 48/1876. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 42/257. والمحجن: القضيب. (5) البيهقي: ج 5 / ص 79. (6) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 52/1892. (7) المستدرك: ج 1 / ص 455. (8) الرمل: هو المشي بسرعة مع تقارب الخُطَا وهزّ الكتفين. (9) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 39/240. (10) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 50/1883. (11) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 32/2957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مندوبات الطواف: -1 - استلام الركن اليماني دون تقبيل. -2 - يستحب أن يأتي زمزم بعد الركعتين. -3 - أن يقف عند المُلْتَزم قبل الخروج للسعي، وقيل يلتزم قبل الصلاة ثم يصلي ثم يأتي زمزم وبعدها يعود لاستلام الحجر الأسود إن أراد السعي فيهلل ويكبر ثم يخرج للسعي. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه كان يلزم ما بين الركن والباب وكان يقول ما بين الركن والباب يدعى الملتزم لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه" (1) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: "طفت مع عبد الله، فلما جئنا دُبُر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ، قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب، فوضع صدره، ووجهه، وذراعيه، وكفيه هكذا، وبسطهما بسطاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل" (2) .   (1) البيهقي: ج 5 / ص 164. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الحج باب 55/1899. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الباب الثالث (واجبَات الحجّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 واجبات الحج (1) قسمان: أ - الواجبات المتعلقة بالأركان المذكورة سابقاً. ب - الواجبات الأصلية غير المتعلقة بالأركان أو الشروط وهي: أولاً - السَّعي بين الصَّفا والمروة (2) : دليل الوجوب: قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (3) . وحملت الآية على الوجوب لأنها لا تفيد الركنية. وحديث حبيبة بنت أبي تجرأة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (4) ، وهو خبر آحاد لا يفيد الركنية أيضاً.   (1) ترك الواجب يوجب دماً. (2) الصَّفا: جمع صَفَاة وهو الحجر الأملس، والمروة: حجر أبيض برّاق، والمراد مكانان هناك بجوار المسجد الحرام من الجهة الشرقية. (3) البقرة: 158. (4) الدارقطني: ج 2 / ص 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقته: يجب أن يقع السعي بعد طواف معتد به، والأفضل أن يقع بعد طواف الإفاضة لترتيب الواجب على الركن. ويجوز إيقاعه بعد طواف القدوم أو طواف نفل لأهل مكة ومن هم داخل الميقات (لأنه لا طواف قدوم عليهم) ولا يعيده بعد الإفاضة ترخيصاً للمسلمين. واجبات السعي: -1 - أن يبدأ الساعي بالصفا، لحديث جابر رضي الله عنه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا) (1) . فلو عكس الترتيب لم تحسب المرة الأولى. -2 - أن يسعى سبعة أشواط، ويحسب ذهابه من الصفا إلى المروة مرة، والإياب مرة أخرى. لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعاً) (2) . -3 - أن يسعى ماشياً، فلو ركب أو حُمل لغير عذر وجب عليه دم كمن ترك السعي أصلاً.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 56/1903. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سنن السعي: -1 - أن يستلم الحجر بنهاية الطواف قبل السعي، وأن يخرج إلى السعي من باب الصفا. -2 - أن يَصْعَد على الصَّفا والمروة حتى يرى البيت، وأن يمكث على كل منهما قدر ما يقرأ سورة من الفصل، لما روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأى البيت) (1) . ويكره ترك الصعود. -3 - أن يقرأ قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} للحديث المتقدم. -4 - أن يرفع يديه حُذْوَ منكبيه عند البَداءة. -5 - أن يستقبل البيت ويهلّل ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع، وأن يدعو بالدعاء التالي: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله أهل التكبير والتحميد والتهليل. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. فله الملك وله الحمد". فإذا نزل من الصفا قال: "اللهم يسِّر لي اليُسرى وجنِّبني العُسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى". ويقول على المروة مثل ما قال على الصفا. ودليل ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: (فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك. قال: مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة) (2) . ويقول في السعي: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم". -6 - يسن الإكثار من التكبير والتسبيح والتهليل، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) (3) . -7 - يسن الرمل بين الميلين الأخضرين، لحديث جابر رضي الله عنه قال: ( ... ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا) (4) . -8 - الموالاة بين السعي والطواف، فلا يجب السعي فوراً بعد الطواف، فلو أخرَّه لعذر أو ليستريح فلا بأس عليه. ودليل ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، فطاف بين الصفا والمروة سبعاً: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ) (5) ، كما تسن الموالاة بين مرات السعي، فلو أقيمت الصلاة أثناء السعي قطع سعيه وصلى ثم عاد وبنى على ما سعى ولا يعيد. -9 - يسن للساعي الطهارة من الحدثين، كما يندب له صلاة ركعتين بعد السعي.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 51/1888. (4) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 57/1905. (5) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 79/1563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ثانياً - الوقوف بمزدلفة: وقته: بعد فجر يوم النحر حتى طلوع الشمس. فيصلي الإمام بالناس الصبح بَغَلس ثم يقف والناس معه. والمزدلفة كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر لما روي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسِّر) (1) .   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 55/3012. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 دليل الوجوب: أ - عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) وفي رواية: وقال: (قبل وقتها بغلس) (1) . وعن جابر رضي الله عنه قال: ( ... ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحّدَه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس) (2) . ب - روي عن عروة بن مُضرِّس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع فقلت: هل لي من حج؟ فقال: (من صلّى هذه الصلاة معنا، ووقف هذا الموقف حتى يفيض وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (3) . فقد علق به تمام الحج. وهو ليس ركناً اتفاقاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّم ضَعَفَة أهله بالليل، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: (كنا نغلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى) (4) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) (5) ، ولو كان ركناً لما قدَّمهم. وإذا ترك الوقوف بمزدلفة لمرض أو كبر سِنّ أو لزَحْمة جاز ولا يجب عليه شيء. وإن تركه بلا عذر وجب عليه دم.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 48/292. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (3) النسائي: ج 5 / ص 264. (4) النسائي: ج 5 / ص 262. (5) النسائي: ج 5 / ص 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سنن الوقوف بمزدلفة: -1 - يسن المبيت في المزدلفة ليلة النحر، فيتوجه الحاج إليها بعد غروب شمس يوم عرفة، لما روي عن أسامة رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقعت الشمس دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) . -2 - أن يصلي فيها المغرب جمعاً معه العشاء بأذان وإقامة واحدة، لما روي عن أشعث ابن سُليم عن أبيه قال: (أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة، فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة فأذن وأقام، أو أمر إنساناً فأذن وأقام، فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات، ثم التفت إلينا فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين ... فقيل لابن عمر في ذلك فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا) (2) . وإن فصل بينهما أعاد بالإقامة للعشاء، لما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ( ... حتى قدمنا المزدلفة - أي مع النبي صلى الله عليه وسلم - فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلى ثم حل الناس) (3) . ولو صلى المغرب بعرفة أو في الطريق يعيدها إذا وصل مزدلفة لأنها غير جائزة، وإنما تنقلب جائزة بطلوع الفجر. -3 - أن ينزل بجانب جبل قُزَح. -4 - أن يجمع من المزدلفة سبعين حصاة بقدر حَبّ الباقلاَّء (4) . -5 - أن يكثر من التكبير والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (5) . -6 - أن يقف عند المشعر الحرام فيذكر الله تعالى ويجتهد في الدعاء، لقوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (6) ، وللحديث المتقدم: ( ... حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وهلله ووحده) . ومن مأثور الدعاء قبل صلاة المغرب والعشاء: "اللهم إني أسألك أن ترزقني جوامع الخير، وأن تجعلني ممن سألك فأعطيته، ودعاك فأجبته، وتوكل عليك فكَفَيْتَه، وآمن بك فهدَيْتَه". فإذا فرغ من الصلاة يقول: "اللهم حرِّم لحمي وشعري ودمي وعظمي وجميع جوارحي على النار، يا أرحم الراحمين". ويسأل الله تعالى إرضاء الخصوم، فإن الله تعالى وعد ذلك لمن طلبه في هذه الليلة، فعن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة. فأجيب: إني قد غفرت لهم، ما خلا المظالم فإني آخذ للمظلوم منه. قال: أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم. فلم يجبه عشيته. فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء. فأجيب إلى ما سأل. قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) (7) . ويدعو بعد صلاة الفجر فيقول بعد التلبية والتكبير والتهليل: "اللهم أنت خير مطلوب وخير مرغوب إليه، إلهي لكل وفد جائزة وقِرى، فاجعل اللهم جائزتي وقِراي في هذا المقام أن تتقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي وتجمع على الهدى أمري. اللهم ارحمني، وأجرني من النار، وأوسع عليَّ الرزق الحلال. اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف، وارزقنيه أبداً ما أحيَيْتَني برحمتك يا أرحم الراحمين". -7 - أن يمشي بسكينة وهدوء عند الدفع من مزدلفة، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: ( ... وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة) (8) .   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 64/1924. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 65/1933. (3) البيهقي: ج 5 / ص 122. (4) الباقلاَّء: الفول. (5) البقرة: 199. (6) البقرة: 198. (7) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 56/3013. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ثالثاً - رمي الجمار: وهي ثلاث: جمرة العقبة، والجمرة الوسطى، والجمرة الصغرى. -1 - رمي جمرة العقبة يوم العقبة: جمرة العقبة هي ثالث الجمرات على حد مِنَى من جهة مكة، وهي ليست من مِنَى، ويقال لها الجمرة الكبرى. وقت الرمي: يبدأ وقته من طلوع فجر يوم النحر، ويستمر حتى طلوع فجر أول يوم من أيام التشريق. فإن أخرَّه حتى فات وقته لزمه دم. وله وقت فضيلة: هو من طلوع الشمس إلى زوالها، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تَرموا الجمرة حتى تطلع الشمس) (1) ، وعنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله من صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، وأن لا يرموا الجمرة إلا مصبحين) (2) . ووقت الجواز: من الزوال إلى غروب الشمس، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم: رميت بعد ما أمسيت، فقال: لا حرج) (3) . أما وقت الكراهة: فهو من فجر يوم النحر إلى طلوع الشمس، ومن الغروب إلى فجر يوم التشريق.   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 62/3025. (2) البيهقي: ج 5 / ص 132. (3) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 129/1648. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 -2 - رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة: يجب على الحاج أن يرمي في كل يوم: الجمرة الصغرى وهي مما يلي مسجد الخَيْف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، إن لم يتعجل في يومين، وإلا صح الرمي في يومين، لقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه} (1) .   (1) البقرة: 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقت الرمي: أ - في يومي التشريق الأول والثاني: من الزوال لكل يوم إلى الغروب سنة، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي - على راحلته - يوم النحر ضحى، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس) (1) . ومن بعد الغروب حتى طلوع شمس اليوم الذي يليه من أيام التشريق: مكروه، لكن يعتبر أداء. أما من طلوع الشمس في اليوم الثالث إلى غروبها فيعتبر قضاء، فأخره إلى بعد الغروب سقط عنه وعليه دم. ب - في اليوم الثالث من أيام التشريق: من طلوع فجره إلى الغروب، إلا أنه يكره قبل الزوال.   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 78/1971. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 شروط صحة الرمي: -1 - أن يكون المرمي به من جنس الأرض من حجر أو مَدَر أو طين، أو بما يصح التيمم به، فلو رمى كفاً من تراب أجزأه عن حصاة واحدة. -2 - أن يرمي كل جمرة بسبع حصيات في كل يوم، وأن يقذف كل حصاة على حدة، فلو رماها دفعة واحدة لم تجزئ إلا عن واحدة. لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات..) (1) . ولا يشترط أن تصيب الحصيات الجمرة بل لو وقعت قريبة منها دون ثلاثة الأذرع صح ذلك، وإن لم يتأكد أعاد الرمي احتياطاً. ويلزمه صدقة لكل حصاة إذا لم يبلغ رمي يوم أو أكثره، فلو بلغ رمي يوم أو أكثره لزمه دم كأربع حصيات يوم النحر أو إحدى عشر فيما بعده. -3 - ترتيب الجمار الثلاث أثناء الرمي في أيام التشريق، فيبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة. فإن عكس أعاد الوسطى والعقبة على قول الإمام محمد (وقال الإمام أبو حنيفة وصاحبه بسنيته) . ودليل الترتيب ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا، بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسْهِل، فيقول مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ثم يدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيُسْهِل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله) (2) .   (1) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 78/1973. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 139/1664. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سنن الرمي: -1 - أن يكون رمي الحصى المرمي به قدر حصى الخذف بمقدار الحُمُّصَة وقيل الفولة أو الأُنْمُلَة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: (هات اُلقط لي، فلقطت له حصيات هن حصى الخَذْف فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء وإياكم والغُلُوَّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (1) . -2 - أن يكون الرمي برؤوس الأصابع، وذلك بأن يضع طرف إبهامه اليمنى على وسط السبَّابة ويضع الحصاة على ظاهر الإبهام. -3 - أن يكون بين الرامي وبين الجمرة خمسة أذرع أو أكثر. -4 - أن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم: (ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي) . -5 - أن يقف عند جمرة العقبة بحيث تكون منى عن يمينه ومكة عن يساره، لما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه حج مع عبد الله قال: (فرمى الجمرة بسبع حصيات وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) (2) . -6 - أن يقطع التلبية عند رمي أول حصاة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل أخبره (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (3) . وأن يكبر مع كل حصاة عند الرمي ويقول: "الله أكبر رغماً للشيطان وحِزبه. اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً". لما روى زيد أبو أسامة قال: (رأيت سالم بن عبد الله يعني ابن عمر استبطن الوادي، ثم رمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر. اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وعملاً مشكوراً. فسألته عما صنع فقال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمرة في هذا المكان ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت) (4) . -7 - الموالاة بين الحصيات السبع. -8 - غسل الحصى قبل الرمي بها ليتيقن طهارتها. -9 - أن يقف عَقِب رمي كل من الجمرتين الصغرى والوسطى مهلِّلاً مكبِّراً داعياً بمقدار ما يقرأ سورة البقرة، أما عقب رمي جمرة العقبة فلا يقف، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها) (5) . -10 - أن يرمي الجمار ماشياً إلا جمرة العقبة فيجوز أن يرميها راكباً. وذلك لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يأتي الجمار، في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً. ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" (6) . ولما روي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكباً ورأيت بين أصابعه حجراً فرمى ورمى الناس) (7) .   (1) النسائي: ج 5 / ص 268. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 50/307. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 45/267. (4) البيهقي: ج 5 / ص 129. (5) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 78/1973. (6) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 78/1969. (7) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 78/1967. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 مكروهات الرمي: -1 - أن تُرمى جمرة العقبة من فوق الوادي. -2 - يكره أخذ الحصى من المرمى، لأنها حصى من لم تقبل حجته، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وكل به ملك ما تقبل منه رفع، وما لم يتقبل ترك" (1) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تقبل منها يرفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال) (2) . -3 - يكره أخذ حجر وكسره سبعين حصاة. -4 - يكره الرمي بحصاة متنجسة.   (1) البيهقي: ج 5 / ص 128. (2) البيهقي: ج 5 / ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الاستنابة في الرمي: من كان مريضاً لا يستطيع الرمي، بحيث يجوز له أن يصلي الرفض قاعداً، يرمي عنه غيره. وكذا المغمى عليه. أما من تركه أو وكَّل به من غير عذر لزمه دم. ويكره للنائب أن يرمي عن غيره قبل أن يرمي عن نفسه الجمرات الثلاث. رابعاً - الحلق أو التقصير: دليله: قوله تعالى: {لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلِّقين رؤوسكم ومُقصِّرين} (1) . ولما روي عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر. ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن والأيسر، ثم جعل يعطيه الناس) (2) . والحلق هو استئصال الشعر بأي وسيلة (موسى، أو نورة أو غيرهما) ، وإن كان أقرعَ أو لم ينبت الشعر في رأسه بعد، مرّ الموسى على رأسه. أما التقصير فهو أخذ مقدار أُنْملة من رؤوس شعر الرأس للرجل أو المرأة. المقدار الواجب حلقه أو تقصيره: ربع الرأس وإلا لم يجزئ.   (1) الفتح: 27. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 56/323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سنن الحلق والتقصير: -1 - استيعاب الرأس كله بالحلق. -2 - أن يذكر عند الحلق، فيكبر ويقول: "اللهم هذه ناصيتي فاجعل لي بكل شعرة نوراً يوم القيامة، يا أرحم الراحمين". -3 - أن يبدأ باليمين، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم: (وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر) . -4 - أن يدفن الشعر بعد الحلق. -5 - يستحب أخذ الشارب وقصّ الأظافر بعد الحلق أو التقصير، لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه. ولما روي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبيه رضي الله عنه (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر هو ورجل من الأنصار، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا فلم يصبه ولا صاحبه شيء. وحلق رأسه في ثوبه فأعطاه وقسم منه على رجال، وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه ... ) (1) . والحلق للرجل أفضل، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المُحلِّقين، قالوا: والمقَصِّرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين) (2) . وأما المرأة فالتقصير لها أفضل، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير) (3) ، ولأن حلق شعر رأسها يُعد مُثْلَة في حقها.   (1) مسند الإمام أحمد: ج 4 / ص 42. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 126/1640. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 79/1984. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 خامساً - طواف الوداع (الصدر) : وهو واجب على الحاج الآفاقي بشرط كونِه مدركاً مكلفاً غير معذور. فلا يجب على المكي ولا على المعتمر مطلقاً ولا المحصر ولا المجنون ... الخ. ومن في حكمهم أي ممن كان داخل المواقيت، وكذا من نوى الاستيطان قبل حل النفر الأول فلا يجب عليهم بل يندب لأنه شرع لختم أفعال الحج. ويتحقق طواف الوداع بأكثره وهو أربعة أشواط، أما بقية الأشواط فهي سنة ويجب عليه في ترك كل شوط منها صدقة. ومن سافر قبل أن يطوف وجب عليه أن يعود إن لم يتجاوز الميقات بعد، فإن تجاوز الميقات وجب عليه دم (وهو الأَوْلى) أو العودة بإحرام جديد بعمرة من الميقات مبتدئاً بطوافها ثم يطوف طواف الوداع. وقته: أ - وقت جواز: بعد طواف الزيارة إذا كان عازماً على السفر حتى لو طاف كذلك ثم أطال الإقامة بمكة ولو سنة ولن ينو الإقامة جاز طوافه. ويكفي فيه أصل النية بلا لزوم تعيين كونه للصدر فلو طاف بعد إرادة السفر ونوى التطوع أجزأه عن الصدر كما لو طاف بنية التطوع في أيام النحر وقع عن الفرض. ب - وقت مستحب: عند إرادة السفر، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس يطوفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) (1) . وأما آخر وقته فليس بموقت ما دام مقيماً حتى لو أقام عاماً لا ينوي الإقامة فله أن يطوف ويقع أداء.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 67/379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سقوطه: يسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء إن جاوزتا مسافة القصر قبل النّقاء، ولا يجب عليهما شيء. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن الحائض) (1) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 143/1668. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سنن طواف الوداع: -1 - إتمام الأشواط السبعة إذ الواجب أكثرها (أي أربعة أشوط) وبترك أقلها تلزمه صدقة. -2 - الشرب من ماء زمزم والنية بشربه ما شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه جابر رضي الله عنه: (ماء زمزم لما شُرِب له) (1) . -3 - تقبيل عتبة باب الكعبة المرتفعة عن الأرض. -4 - وضع الصدر والوجه على الملتزم، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزق وجهه وصدره بالملتزم) (2) . كما يسن التشبث بأستار الكعبة والتضرع إلى الله تعالى بالدعاء بما أحب من أمور الدارين، ويكثر من البكاء، فإن لم يبك فليتباكَ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر واستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت فإذا عمر يبكي فقال: يا عمر ههنا تسكب العبرات) (3) . -5 - المشي إلى ورائه ووجهه إلى البيت حتى يخرج من المسجد ونظره إلى الكعبة. ويستحب أن يقول في الوداع: "اللهم هذا بيتك الذي جعلته مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. اللهم فكما هديتنا فتقبله منا ولا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام". سادساً - ذبح شاة للقارن والمتمتع. وسيأتي شرحه عند بحث الدماء إن شاء الله. سابعاً - الترتيب بين الرمي والحلق والذبح.   (1) البيهقي: ج 5 / ص 148. (2) البيهقي: ج 5 / ص 164. (3) المستدرك: ج 1 / ص 454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الباب الرابع (سُنَنْ الحّج وآدابه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قد فصل الحديث عن سنن كل ركن وواجب في الأبواب السابقة، وسنذكر فيما يلي سنن الحج غير المتعلقة بالأركان والواجبات. -1 - طواف القدوم: لمن دخل مكة محرماً بالحج أو قارناً، وهو سنة للآفاقي لا للمكي ولا لأهل المواقيت، ويسمى طواف التحية لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن أول شيء بدأ به وضع حين وقدم النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ وطاف) (1) . ويسن فيه الرمل والاضطباع إن أراد السعي بعده. ومن تركه فقد أساء. ويسقط إذا وقف بعرفة ساعة قبل دخوله مكة.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 62/1536. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -2 - المبيت في منى ليالي التشريق: وهو سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ويكره أن يبيت في غيرها متعمداً، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أن يبيت بمكة إلا للعباس من أجل السقاية) (1) . ولكن لا يلزمه شيء بترك المبيت ما دام قد أدى الرمي في وقته.   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 80/3066. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -3 - أن يشرب من ماء زمزم، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها. فقال: اسقني. قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقني. فشرب منه، ثم أتى زمزم، وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا، فإنكم على عمل صالح) (1) . ويستحب أن يتنفس في الشرب ثلاث مرات، وينظر إلى البيت ويقول: "بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ويدعو ويقول في المرة الأخيرة: "اللهم إني أسألك رزقاً واسعاً وعلماً نافعاً، وشفاء من كل داء وسقم، يا أرحم الراحمين"، وذلك لما روي عن عثمان بن الأسود قال: جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: "من أين جئت؟ فقال: شربت من زمزم. فقال له ابن عباس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذاك يا أبا عباس؟ قال: إذا شربت فاستقبل القبلة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثاً وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) (2) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له، فإن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته مستعيذاً عاذك الله، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه) (3) . وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب ماء زمزم قال: "اللهم أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاء من كل داء" (4) . ويستحب أن يمسح وجهه ورأسه بماء زمزم، ويصب على رأسه إن أمكن.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 74/1554. (2) المستدرك: ج 1 / ص 472، والتضلع: تضلع الرجل امتلأ ما بين أعضائه شِبعاً ورِياً. (3) المستدرك: ج 1 / ص 473. (4) المستدرك: ج 1 / ص 473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -4 - ثلاث خطب يلقيها إمام الحج أو نائبه، وهي: أ - يوم السابع من ذي الحجة، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم) (1) . ب - يوم عرفة بنمرة، لما روى جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حجه صلى الله عليه وسلم قال: ( ... حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها.. فخطب الناس) (2) . جـ _ يوم النفر الأول بمنى، لحديث عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر، قالا: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته. وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى) (3) .   (1) البيهقي: ج 5 / ص 111. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (3) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 71/1952. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -5 - التلبية عند التحول من حال إلى حال، كركوب أو صعود أو هبوط، أو إقبال ليل أو نهار. -6 - المبادرة بطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة، لما روى جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل: (.. رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ... ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) (1) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -7 - الإكثار من الصلاة والطواف والاعتكاف في المسجد الحرام. -8 - يسن لمن نفر من منى إلى مكة أن يقف بالمُحَصَّب ساعة يدعو الله، لما روي عن نافع "أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنة" (1) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 59/338، والمحصب: الأبطح وهو موضع بقرب مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -9 - يسن النفر الثاني وهو آخر أيام التشريق اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، ولقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (1) فالتخيير بين الفاضل والمفضول كما في المسافر يخير بين الصوم والإفطار والصوم أفضل.   (1) البقرة: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 -10 - أن يوقع النية في أشهر الحج ويكره قبلها. آداب الحج: -1 - أن يبدأ بالتوبة قبل الخروج للحج. -2 - أن يودع أهله وولي أمره ويستأذنه، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فقال: (أي أخي أشركنا في دعائك ولا تنسنا) (1) . -3 - أن يخرج يوم الخميس، لما روى كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس) (2) . -4 - أن يحافظ على الطهارة. -5 - أن يتوسع بالنفقة. -6 - أن يكثر من الصدقات.   (1) الترمذي: ج 5 / كتاب الدعوات باب 110/3562. (2) أبو داود: ج 3 / كتاب الجهاد باب 84/2605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الباب الخامس [أوجه تأدية الحج، التحلل، الحج عن الغير] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الفصل الأول: أوجُه تأدَية الحَجّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أوجه تأدية الحج ثلاثة وهي: القران، التمتع، الإفراد. والدليل على جواز هذه الأوجه الثلاثة: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حَجّة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهلّ بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهلّ بالحج، أو جمع الحج والعمرة، لم يحِّلوا حتى كان يوم النحر) (1) . وأفضل هذه الوجوه القران، ثم التمتع، ثم الإفراد. فالقران أفضل الوجوه والأدلة على ذلك: -1 - قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (2) ، وفسر العلماء إتمامها بالإحرام بها من دويرة أهله، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} قال: (من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك) (3) ، وهذا لا يتحقق إلا إذا أهلَّ بهما معاً. -2 - ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عُمرة في حجة) (4) . وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك بعمرة وحج) (5) . -3 - عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في حجته فقد صدر بنسكين معاً، فعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يُجمع بينهما، فلما رأى عليُّ أهلَّ بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: "ما كنت لأَدع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد" (6) . -4 - ولأن القران جمعاً بين عبادتين، وتعجيلاً بالإحرام واستدامة له إلى الفراغ من أعمال الحج.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 33/1487. (2) البقرة: 196. (3) البيهقي: ج 5 / ص 30. (4) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 15/1461. (5) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 34/215. (6) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 33/1488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أولاً - القران: معناه: لغة: الجمع بين شيئين. شرعاً: أن يهلّ بالعمرة والحج معاً من الميقات أو من دويرة أهله: حقيقة أو حكماً. ولا يكون القران إلا للآفاقي. ويكون القران بالإهلال حقيقة، بأن ينوي الحج والعمرة معاً فيقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني. لبيك اللهم بعمرة وحجة معاً. ويكون القران بالإهلال حكماً، بأن يدخل الحج على العمرة قبل أن يطوف أكثر طواف العمرة، أو يدخل العمرة على الحج قبل طواف القدوم. كيفيته: إذا دخل مكة طاف للعمرة أولاً ثم يسعى لها، ثم تبدأ أفعال الحج فيطوف للحج طواف القدوم ثم يسعى له. ويقدم أفعال العمرة دائماً على أفعال الحج، إلا أنه لا يحلق للعمرة حتى يوم النحر، لأن ذلك جناية على إحرام الحج. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل منهما جميعاً) (1) . ولا تداخل في أفعال الحج والعمرة بل لابد من إتمام أفعال كل منهما.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 17/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 دم القران: يجب على القارن دم القران، وهو دم شكر لله تعالى فيذبح الهدي ويأكل منه، ويختص الذبح للقارن والمتمتع بأيام النحر الثلاثة وأفضلها أولها. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام ولو متفرقة في الحج، ويندب أن يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة بعد تمام أيام الحج وهي نهاية أيام التشريق، سواء في مكة أم بعد رجوعه إلى وطنه، لأن معنى قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} (1) : إذا فرغتم من أيام الحج. فإن لم يصم ثلاثة أيام قبل الوقوف بعرفة تحتم الدم في حقه، فإذا مضت أيام النحر ولم يقدر على الذبح تحلل وعليه دمان: دم القران ودم لتقديم الحلق على الذبح. وإذا صام الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة ثم قدر على الدم أيام النحر قبل الحلق، بأن وصلت إليه أموال، وجب الدم في حقه، أما لو قدر على الدم بعد الحلق لم يلزمه شيء لأن التحلل قد حصل.   (1) البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثانياً - التمتع: معناه: لغة: من المتاع أو المتعة. شرعاً: أن يفعل العمرة في أشهر الحج في سنته وفي السفر نفسه. كيفيته: يدخل المكلف مكة بعمرة فيطوف لها ويسعى ثم يحلق ويتحلل، ويبقى في مكة حتى يوم التروية فيحرم بالحج من الحرم، ثم يخرج إلى منى وعرفات، ويرجع يوم النحر إلى مكة فيطوف طواف الركن ويرمل فيه، ثم يسعى بعده إن لم يكن طاف وسعى قبل خروجه إلى عرفات. ودليل ذلك ما روي عن جابر رضي الله عنه: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: (أحِلّوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة) (1) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الحج باب 33/1493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 دم التمتع: يجب على المتمتع دم إذا تحقق تمتعه بشروط: -1 - أن يكون قد أدى العمرة في أشهر الحج. -2 - أن يكون الحج والعمرة في سنة واحدة، أي أدى العمرة أولاً ثم أحرم بالحج. ولا يسقط دم التمتع بخروج المتمتع من الحرم ومجاورته للميقات، إلا إذا ألم بأهله إلماماً صحيحاً؛ وذلك برجوعه إلى بلده بعد أداء عمرته ثم حج من عامه. أما لو أتى الآفاقي بالعمرة في أشهر الحج ثم ذهب إلى المدينة ثم حج بعد ذلك من عامه لم يبطل تمتعه وعليه دم. وإذا نوى الإقامة بعد أداء عمرته ثم حج من سنته، فيكون متمتعاً وعليه دم. أما لو نوى الاستيطان الدائم بعد أداء العمرة فلا يكون متمتعاً. ودم التمتع كدم القران لا يصح قبل يوم النحر. فإن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم النحر، وتصح بعد إحرامه بالعمرة إلى يوم عرفة والأفضل تأخيرها ليكون آخر يوم منها يوم عرفة، فلو أخرها عن يوم النحر لم يجز وثبت في حقه الدم؛ لأنه لا يجوز صومها أيام النحر ولا تصح بعدها. فإن صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر صام سبعة بعد إتمام الحج. وأصل ذلك قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (1) . وإذا أحرم بالعمرة وساق الهدي صح لكنه لا يتحلل حتى يوم النحر، فيذبح هديه ويتحلل يوم النحر، ويختلف بذلك عن القارن أنه إذا جنى جناية بعد إتمام أعمال العمرة والدخول بالحج فعليه دم واحد بخلاف القارن فعليه دمان.   (1) البقرة: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثالثاً - الإفراد: وهو أن يدخل مكة محرماً بالحج فقط، فيؤدي أركان الحج وواجباته، وعندما تنتهي أفعال الحج وتنتهي أيام التشريق، يحرم بالعمرة من التنعيم أو من أي مكان من الحل، ثم يطوف ويسعى ويحلق ثم يتحلل ولا يلزمه شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الفصل الثاني: التحلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 للحج تحللان، يحصل الأول برمي جمرة العقبة ثم الحلق، والثاني يحصل بطواف الإفاضة (1) . هذا بالنسبة للحاج المفرد. ويحل بالتحلل الأول كل محرمات الإحرام، إلا النساء. ومتى طاف بعد ذلك حلت له النساء. ودليل ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حللتم من كل شيء كان عليكم حراماً إلا النساء، حتى تطوفوا بالبيت) (2) . أما الحاج المتمتع أو القارن فيحصل له التحلل الأول بالرمي ثم الذبح ثم الحلق. فإن طاف بعد ذلك حلّ له النساء.   (1) لا تحل النساء بالطواف قبل الرمي أو الحلق. لكن تأخير الطواف مستحب وتقديمه جائز. (2) البيهقي: ج 5 / ص 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الفصل الثالث: الحَجّ عن الغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 هل يسقط الفرض بالنيابة: قسم العلماء العبادات من هذه الناحية إلى أنواع: -1 - العبادات المالية المحضة، كالزكاة وصدقة الفطر والعشر والنفقات: قالوا تصح فيها النيابة مطلقاً، لأن المقصود منها إيصال المال إلى الفقراء؛ وهو حاصل بفعل الإنابة وينوي المستنيب عند الدفع إلى النائب. -2 - العبادات البدنية المحضة: لا تصح فيها النيابة مطلقاً لأن المقصود منها الابتلاء والمشقة وإتعاب النفس بأفعال مخصوصة؛ وهذه لا تتحقق بفعل النائب كالصلاة والصوم. -3 - العبادات المالية والبدنية معاً كالحج والقياس أن لا تجزئ فيها النيابة، لكنه تعالى رخص في إسقاط فرض الحج عن المكلف بالنيابة عند العجز المستمر إلى الموت أو بعد الموت بأن أوصى أو تبرع عنه وارثه رحمة منه وفضلاً، بأن يتكلف المكلف المال ويقوم بالحج نائبه؛ فتقع الحجة فرضاً للمنيب ونفلاً للمأمور. والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (نعم. حجي عنها. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) (1) . وروى ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع، قالت: (يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم) (2) .   (1) البخاري: ج 2 / كتاب الإحصار باب 33/1754. (2) البخاري: ج 2 / كتاب الإحصار باب 34/1755. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 شروط قبول الحج عن الغير: -1 - أن يكون الحج عن ميت، أو عاجزاً عجزاً مستمراً إلى الموت؛ فلو قدر على الحج بعد أن يحج عنه غيره لزمته الإعادة، إلا أن يكون زَمِناً أو أعمى فلا تلزمه الإعادة بالبرء بل يسقط عنه الفرض مطلقاً. -2 - أن يُدخِل المستناب نية الحج عن الغير في نيته فيقول: أحرمت عن فلان بحجة لبيك اللهم بحجة عن فلان لبيك. ويقول بعد صلاة ركعتي الإحرام: اللهم إني أريد الحج عن فلان فيسره لي وتقبله مني ومن فلان. وتكفي نية القلب. -3 - أن يأمر المحجوج عنه بذلك: فلا يقع فرض الحج لو حج إنسان عن غيره بدون إذنه، إلا الوارث فيحج عن مورثه. -4 - أن يكون المأمور أهلاً للحج ولو امرأة أو عبداً. ولا يشترط له أن يكون حج عن نفسه حجة الفرض (1) . وإن أوصى رجل بحجة مطلقاً، فيجل على الورثة إخراج نفقة الحج من منزله لأنه المتعارف، إلا أن تكون النفقة قليلة لا تكفي فمن حيث تبلغ. وإذا أحصر المأمور كان دم الإحصار على الآمر، أما دم التمتع والقران والجنايات فهي على المأمور إن أذِن له الآمر بالتمتع أو القران. وإذا أفسد المأمور حجه لزمه الضمان.   (1) وهذا ما يسمى حج الضَّرُورة بأن يحج المكلف عن غيره قبل أن يحج عن نفسه حجة الإسلام. وقيل إن حج الضرورة إذا كان بعد تحقق الوجوب عليه بملك الزاد والراحلة والصحة فهو مكروه كراهة تحريم خشية أن لا يدرك الفرض إلا أنه يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 هل يجب على العاجز أن يوصي أن يحج عنه: -1 - إذا قدر على الحج فوجب عليه ولم يحج ثم عجز، يجب عليه أن ينيب من يحج عنه اتفاقاً. -2 - إذا لم يقدر على نفقة الحج حتى عجز فأدركته فريضة الحج عاجزاً، اختلف فيه على قولين: أ - قال الإمام: لا يجب عليه أن ينيب، لأن صحة البدن شرط لوجوب الحج. ب - قال الصاحبان: يجب عليه أن ينيب، لأن صحة البدن عندهما شرط لوجوب الأداء. وتصح النيابة في النفل مطلقاً. تعقيب: هل يصح أن يهب الإنسان ثواب عمله؟ يصح مطلقاً أن يعمل الإنسان ويتعبد ويهب الثواب لغيره، فيكون الثواب له ولغيره، سواء نوى العمل أو نواه لنفسه ثم وهبه. وخالف المعتزلة مستدلين بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (1) . وأجيب بأن هذا النص خاص فيما إذا لم يهبه، فإذا تبرع صاحب العمل فوهبه يصل ثوابه سواء كان الموهوب له حياً أو ميتاً. والأدلة على ذلك كثيرة وبلغت مبلغ التواتر: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين واحد لنفسه وواحد عن أمته. وروي عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينا نحن عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) (2) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تصدق بصدقة تطوعاً فليجعلها عن أبويه، فيكون لهما أجرها ولا ينتقص من أجره شيئاً) (3) . وروي عن معقل بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا يس على موتاكم) (4) .   (1) النجم: 39. (2) أبو داود: ج 5 / كتاب الأدب باب 129/5142. (3) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 138، رواه الطبراني في الأوسط وفيه خارجة بن مصعب الضبي ضعيف. (4) أبو داود: ج 3 / كتاب الجنائز باب 24/3121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الباب السادس (العمرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 تعريف العمرة: لغة: الزيارة. شرعاً: زيارة البيت الحرام للنسك. حكمها: المعتمد في المذهب أنها سنة مؤكدة في العمر مرة، لحديث طلحة بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج جهاد والعمرة تطوع) (1) . وتكون واجبة في حق من أراد دخول مكة وهو لا يريد الحج، فيجب أن لا يتجاوز الميقات إلا محرماً، فإذا اختار العمرة صارت واجبة في حقه. كما يكون إتمامها واجباً إذ بدأ فيها تطوعاً.   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 44/2989. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ميقات العمرة: -1 - ميقاتها الزماني: كل أيام السنة، وتندب في رمضان لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) (1) . وأفضل وقت للإتيان بها بعد الفراغ من الحج، لما روي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة ما بينهما تزيد في العمر والرزق وينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) (2) . ويكره تحريماً إنشاؤها: أ - في خمسة أيام في السنة: يوم عرفة، يوم النحر، ثلاثة أيام التشريق. ولو أهلَّ بها في هذه الأيام لزمه رفضها ووجب قضاؤها ووجب عليه دم للرفض، وإن تابعها صحت مع الكراهة وعليه دم. ب - في أشهر الحج لأهل مكة، ومن كان مقيماً داخل المواقيت إن أراد الحج في تلك السنة. -2 - ميقاتها المكاني: أ - للآفاقي: هي نفس مواقيت الإحرام بالحج. ب - لأهل مكة وكل من كان مقيماً داخل المواقيت أو غيره: ميقاتهم الحِلّ وذلك ليتحقق لهم نوع سفر. وأفضل مكان للإحرام بالعمرة لهؤلاء: أ - التنعيم: وهو أقرب مكان في الحل، وهو مكان عند مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها. ودليل أفضليته ما روي عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم) (3) . ب - الجعرانة: وهي تبعد عن مكة ستة فراسخ باتجاه الطائف. ويسن أنت يقصد ماءها ليتوضأ منه، لأنه صلى الله عليه وسلم فحص موضع الماء بيده الشريفة فانبجس، فعن خالد بن عبد العزى بن سلامة ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه بالجعرانة وذكر الحديث وفيه قال: (ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فحص الكدة بيده فانبجس الماء فشرب) (4) .   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 45/2995. (2) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 277، رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. (3) البخاري: ج 2 / كتاب العمرة باب 6/1692. (4) مجمع الزوائد: ج 3 / ص 279، رواه الطبراني في الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 شروط العمرة: الإحرام: وهو شرط لصحة العمرة وكيفيته كإحرام الحج. أركانها: الطواف أربعة أشواط. واجباتها: -1 - إتمام الأشواط السبعة. -2 - السعي بين الصفا والمروة. -3 - الحلق أو التقصير. -4 - كون الإحرام من الميقات. -5 - تجنب محظورات الإحرام. ولا يجب في العمرة الوقوف بعرفة وجمع، ولا طواف الوداع. إفسادها: تفسد العمرة بالجماع قبل تمام أربعة أشواط من الطواف. ويجب بإفسادها القضاء وذبح شاة، ولا يجب ذبح بَدَنة لأن الجناية فيها أقل من الجناية في الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الباب السابع (الجِنايات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الجنايات في الحج أنواع: -1 - الجناية على الحرم. -2 - الجناية على الإحرام. -3 - الجناية على الطواف. -4 - ترك واجب من واجبات الحج أو تأخير فرض. أولاً - الجناية على الحرم: وتتحقق بالتعرض لصيد الحرم أو شجره، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حرَّم الله مكة، فلم تَحِلَّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي أُحِلَّت لي ساعة من نهار، لا يُخْتَلَى خَلاَها، ولا يُعْضَد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تُلْتَقط لُقَطَتُها إلا لمُعَرِّف. فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإِذْخِرَ لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: إلا الإِذْخر) (1) . وجزاء من صاد في الحرم وهو حلال قيمة الصيد يتصدق بها على الفقراء، لأن الصيد استحق بالأمن بسبب الحرم. ولا يجزئه الصوم لأنها غرامة مالية وليست كفارة فأشبه ضمان الأموال. ولا يحل له أكله ولا بيعه بل هو ميتة (2) . وإذا اشترك حلالان في صيد وجب عليهما معاً قيمته، ولا يتعدد الجزاء بتعدد المعتدي. ومن دخل الحرم ومعه صيد وجب عليه أن يرسله. ولو أخرج ظبية من الحرم فولدت ثم ماتت ضمن ثمنها وما ولدت. ولو شوى بيضاً أو جراداً أو حلب لبن صيد، لم يحرم أكله لكن يضمنه، وجاز بيعه مع الكراهة. ولو قطع حشيش الحرم أو شجرة فيه ليست مملوكة مما لا ينتبه الناس فعليه قيمة ما قطع إلا إذا كان يابساً، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم، (إلا الإذخر) . ويكره تحريماً بيع ما قطعه من نبات الحرم لأنه ملكه بسبب محظور. أما ما ينبته الناس عادة فلا شيء في قطعه، لأنه غير مستحق للأمن. وإذا قطع ما نبت وحده من نبات الحرم في ملك غيره وجب عليه قيمتان: قيمة لحق الشرع وقيمة لصاحب الأرض على قول الصاحبين المفتى به من تملك أرض الحرم.   (1) البخاري: ج 2 / كتاب المناسك باب 75/1284. (2) على قول الكرخي، وهو المختار في المذهب، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إن أكله مباح لكن مع الكراهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ثانياً - الجناية على الإحرام: ويكون متلبساً فيها من أقدم على فعل محظورات الإحرام وهو بالغ، سواء كان عامداً أو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً. ولو فعله عمداً لغير ضرورة وقال: أفدي، لم يجز ولا يسقط عنه الإثم بالجزاء ويكون حجه غير مبرور. ويتكرر الجزاء بتكرر فعل المحظور إن لم يتحد المجلس. والجنايات على الإحرام هي: -1 - الرَّفَث: أ - الجماع: وهو مفسد للحج إن وقع قبل الوقوف بعرفة، ويترتب على من فعله ذبح شاة، وأن يتم حجه المفسد، ثم يقضي الحج وجوباً في العام الذي يليه. وذلك لما روي: أن رجلاً من جذام جامع امرأته وهما محرمان، فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهما: (اقضيا نسككما، وأهديا هدياً، ثم ارجعا، حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا، ولا يرى واحد منكما صاحبه، وعليكما حجة أخرى، فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما وأهديا) (1) . أما إن جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فعليه بَدَنة ويتم حجه، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يُفيض، فأمره أن ينحر بَدَنة" (2) . وإن جامع بعد الحلق ما بين التحللين فعليه شاة لبقاء الإحرام في حق الجماع إلى ما بعد طواف الإفاضة. ب - المباشرة بشهوة وكل دواعي الجماع من عناق أو تقبيل أو لمس، أنزل أم لم ينزل، فيها شاة ما لم يتحلل التحلل الثاني. فعن علي رضي الله عنه قال: "من قَبّل امرأته وهو محرم فليهرق دماً" (3) . جـ - الاستمناء أو مجامعة بهيمة: فيه شاة إن أنزل. أما التفكر والنظر بشهوة والاحتلام ليس فيها شيء. -2 - الطيب: تجب شاة على من طيّب عضواً كاملاً أو أكثره، أو أكل طيباً كثيراً، أو طيّب فمه، أو لبس ثوباً مطيباً نهاراً كاملاً أو ليلة كاملة. وإن طيّب جسمه كله في مجلس واحد تجب شاة واحدة. فإن طيّب أقل من عضو وتعددت المواضع تجمع كعضو واحد، فإن طيّب أقل من عضو فعليه صدقة (4) مع إزالة الطيب عن العضو قبل التفكير. -3 - الادّهان: من دهن عضواً كاملاً لغير عذر (لغير التداوي) بزيت الزيتون أو غيره فعليه شاة. -4 - لبس المخيط: يجب شاة على من لبس مخيطاً أو غطى ربع رأسه يوماً وفيما دون ذلك صدقة. وكذلك المرأة إن سترت وجهها. واعتبر اليوم ارتفاقاً كاملاً، ويقوم أكثر اليوم مقام الكل. -5 - الحلق: تجب شاة بحلق ربع الرأس أو ربع اللحية أو أحد الإبطين أو العانة، وفي أقل من ذلك صدقة قدرها نصف صاع من بُرّ. ومن حلق رأس غيره فعليه صدقة. -6 - قص الأظافر: تجب شاة في قص أظافر يد أو أكثر في مجلس واحد، أما إن تعدد المجلس فيجب في كل عضو دم (العضو خمسة أظافر) ، وفي أقل من ذلك في كل ظفر صدقة وهي نصف صاع من بُرّ، ومن قص أظافر غيره فعليه صدقة. أما إن انكسر ظفره فنزعه فلا شيء عليه. ومن تطيَّب أو حلق أو لبس لعذر فهو مخير بين ذبح شاة أو أن يتصدق بثلاثة آصاع من طعام على ستة مساكين أو أن يصوم ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (5) ، ولما روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال له: (آذاك هوامّ رأسك. قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصُعٍ من تمر على ستة مساكين) (6) . ولا يصح ذبح دم الجزاء إلا في الحرم لأنه لا يعتبر قربة إلا في مكان مخصوص لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (7) . أما دم التمتع والقران فيختصان بالزمان وهو أيام النحر الثلاثة والمكان وهو الحرم. وأما الصوم والصدقة فيصحان في كل مكان إن شاء عجلهما في مكة أو أخرهما حتى يرجع إلى أهله، لأنهما قربة في جميع الأزمنة والأمكنة. -7 - الصيد: يجب على المحرم إذ قتل صيداً أو دل عليه من يقتله جزاء يقوّمه عدلان في مكان قتله أو قريب منه، فإن بلغت قيمته هدياً فله الخيار إن شاء اشتراه وذبحه في الحرم، أو اشترى بقيمته طعاماً يتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُرّ (أو صاع من تمر أو شعير) ، أو صام عن طعام كل مسكين يوماً. ولو بلغت قيمة الصيد هديين أو بدنة فهو مخير بين أن يذبح شاتين في الأولى أو سبع شياه في الثانية. والدليل على قيام القيمة مقام الذبح قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم، هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً، ليذوق وبال أمره، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام} (8) ، فالمطلوب هو المثل المطلق بالقيمة لا المثل في الصورة فإنه غير مقصود. أما الصيد غير المأكول فلا يتجاوز الجزاء فيه قيمة الشاة، إلا أن يكون معلماً فيضمن قيمته (9) ، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً. ولا يجوز أن تعطى القيمة للأصول ولا للفروع ولا للزوج ولا للزوجة. وتجب القيمة بقطع بعض قوائم الحيوان ونتف ريشه وكسر بيضه. ويجب فيما لو قتل قملة من بدنه أو ألقاها أو ألقى ثوبه في الشمس لتموت، أن يتصدق بما شاء، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "في القملة يقتلها المحرم يتصدق بكسرة أو قبض من طعام" (10) . وكذا من قتل جرادة تصدق بما شاء، فعن يحيى بن سعيد "أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم، فقال عمر لكعب: تعال حتى نحكم، فقال كعب درهم، فقال عمر لكعب: إنك لتجد الدراهم لتمرة خير من جرادة" (11) . ولا يجب شيء في قتل البعوض والنمل المؤذي والبراغيث والقراد. وحكم ما اصطاده المحرم حكم الميتة لا يجوز أكله ولا بيعه ولا إهداؤه. ولا بأس للمحرم أن يذبح شاة أو بطاً أهلياً، لأنه ليس بصيد. وكل ما على المفرد فيه دم على القارن فيه دمان (12) .   (1) البيهقي: ج 5 / ص 167. (2) الموطأ: ص 265. (3) البيهقي: ج 5 / ص 168. (4) الصدقة نصف صاع من بر. (5) البقرة: 196. (6) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 10/84. (7) المائدة: 95. (8) المائدة: 95. (9) المعلم يضمن قيمته لمالكه معلماً ولحق الله تعالى غير معلم. (10) البيهقي: ج 5 / ص 213. (11) الموطأ: ص 287. (12) يعني بفعل شيء من محظورات الإحرام وما حرم فعله بسبب نفس الإحرام لا من حيث كونه حجاً أو عمرة، فلو ترك القارن واجباً من واجبات الحج فليس عليه إلا دم واحد كما إذا ترك طواف الوداع أو الرمي أو الوقوف بمزدلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ثالثاً - الجناية على الطواف: -1 - من طاف طواف الإفاضة جنباً أو حائضاً فعليه بَدَنة (إلا إذا أعاده على طهارة) . -2 - من طاف طواف العمرة كله أو أكثره أو أقله جنباً أو حائضاً، أو طاف كله أو أكثره محدثاً، فعليه دم (شاة) . وكذا لو ترك من طواف العمرة شوطاً لأنه لا مدخل للصدقة فيها، وهناك قول آخر بأنه عليه لكل شوط صدقة كما لو طاف أقله محدثاً وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة. -3 - من طاف طواف الركن محدثاً، أو طاف طواف الوداع أو طواف السنة جنباً، فعليه شاة. -4 - من طاف طواف السنة محدثاً فعليه صدقة. -5 - من طاف طواف الركن وهو كاشف العورة بما يفسد الصلاة فعليه شاة. أما من طاف وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة أكبر من قدر الدرهم فلا شيء عليه لكن يكره. وإذا أعاد المكلف الطواف الناقص، في جميع الحالات المذكورة، على وجه مشروع سقط عنه الدم لأن جنايته صارت متداركة. ولا يعيد السعي بعده. رابعاً - ترك واجب من واجبات الحج: تجب شاة على من ترك واجباً من واجبات الحج كترك السعي أو طواف الوداع أو الوقوف بمزدلفة. وتجب الشاة في ترك رمي الجمار كلها أو يوم منها، أو تأخير رمي يوم عن وقته (يومه) ، فإن ترك رمي بعض حصيات أو لم تصل الحصاة إلى مكانها عند الرمي، ففي كل حصاة صدقة نصف صاع من بُرّ. ولو أفاض من عرفات قبل الغروب وجب عليه دم (بخلاف ما إذا وقف ليلاً فلا يجب عليه شيء اتفاقاً) إلا أن يعود قبل الغروب فيسقط الدم على الأصح. ولو جاوز الميقات بدون إحرام لزمه دم، إلا أن يعود فيحرم من الميقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الباب الثامن (الإحصار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 تعريف الإحصار: لغة: المنع أو الحبس. شرعاً: المنع من أداء ركن من أركان الحج أو العمرة. المحصرات: -1 - الإحصار العام: ويكون بمنع العدو المحرم بالحج أو العمرة من دخول مكة، أو بحصول خوف على الطريق يمنعه من المضي لإتمام نسكه. كما أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. -2 - طروء مرض مفاجئ يمنع من إتمام النسك. -3 - موت المَحْرَم بعد الإحرام، فإن كانت المرأة لا تزال في بلدها فلا تخرج، أما إن مات زوج المرأة وكانت في الطريق؛ فإذا كانت في مأمن تبقى مكانها حيث مات وتقضي عدتها، وإن كانت في طريق لا تستطيع البقاء: فإن كانت أقرب إلى بلدها رجعت وتؤدي عدتها وتحلّ من إحرامها وترسل الهدي. أما إن كانت أقرب إلى مكة فيجب عليها إتمام النسك. -4 - ضياع المال وعدم التمكن من إتمام الحج لعدم النفقة. -5 - إن أحرمت الزوجة بغير إذن زوجها فله أن يمنعها ويحللها بأي وسيلة كانت، والسيد له أن يحلل عبده وأمته إن أحرما ولو بإذنه. ما يترتب على المُحصَر: أ - من أحصر عن الدخول إلى مكة: -1 - يجب عليه أن يرسل هدياً كي يذبح في الحرم، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله، فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (1) ، فمحل ذبحه الحرم ولا يصح في غيره، فإذا قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا مكانهم عام الحديبية فلأنها تابعة للحرم. أما الزوجة والعبد فإنهما يتحللان بأدنى شيء من محرمات الإحرام، ثم ترسل الزوجة هدياً والعبد لا يرسل حتى يتحرر. ويجوز أن يذبح المحصر عن الحج قبل يوم النحر، فيرسل الهدي ويتفق مع من أرسله معه على يوم الذبح ويتحلل به. ويلزم القارن دمان حتى يتحلل بالذبح. ولا يجزئ الصوم عن الذبح، فلو عجز عن الذبح لا يتحلل بالصوم بل يبقى محرماً حتى يُذبح عنه أو يأتي مكة ويتحلل بأفعال العمرة. -2 - يتحلل المحصر متى تيقن من وصول الهدي وذبحه في الحرم، ولا ينتظر يوم النحر. -3 - يجب على المحصر قضاء الحج أو العمرة حسب نيته في النسك الذي مُنع من إتمامه، فعن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كُسِر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل) (2) . فإن كان ناوياً الحج وجب عليه حجة وعمرة، وإن كان قارناً وجب عليه حجة وعمرتان، لأن الحج ولو كان نفلاً صار فرضاً بالشروع فيه فيجب عليه قضاؤه، والعمرة لأن من فاته الحج يتحلل بأفعال العمرة فلما تحلل دون أن يأتي بها وجب عليه قضاؤها. وأما من كان محرماً بعمرة فأحصر وجب عليه عمرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل اعتمر فنهشته حية، فلم يستطيع المضي، فقال عبد الله بن مسعود: "ليبعث بهدي ويواعد أصحابه يوم أَمَار (3) ، فإذا نحر عنه الهدي حلَّ وكانت عليه عمرة مكان عمرته". وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة التي صُد عنها وسميت عمرة القضاء. أما لو زال الإحصار قبل فوات الحج فلا يجب عليه دم إن أداه من عامه، وإن صبر على إحرامه ثم تحلل بعمرة فلا يجب عليه هدي ويقضي الحج.   (1) البقرة: 196. (2) أبو داود: ج 2 / كتاب الحج باب 44/1862. (3) الأمار: العلامة التي يعرف بها الشيء، يقول: اجعلوا بينكم يوماً تعرفونه لكيلا تختلفوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ب - الإحصار بعد الوقوف بعرفات: -1 - إذا كان الإحصار بعدوٍّ فلا يعتبر محصراً، إنما يترتب عليه دم عن كل واجب (الوقوف بمزدلفة، رمي الجمار، تأخير الحلق ... ) . -2 - إذا كان الإحصار بمرض أو موت صحت حجته، لحديث عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) (1) فلو مات بعد عرفة صحت حجته.   (1) ابن ماجة: ج 2 / كتاب المناسك باب 57/3015. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 جـ - الإحصار داخل مكة: إن فاته الوقوف بعرفة وطواف الركن فهو محصر يتحلل بدم، أما إن استطاع فعل أحد الركنين فليس محصراً، لأنه إن أدرك وقوف عرفات فقد أدرك الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) وإن أدرك الطواف يتحلل بعمرة وعليه قضاء الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الباب التاسع (الهدي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الهدي: اسم لما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه. وهو من الإبل والبقر والغنم. وأدناه شاة، وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة أشخاص، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة) (1) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 62/350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 محله: الحرم، فلا يعتبر هدياً إلا إذا ذبح في الحرم، لكن أفضل الأمكنة منى، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت ههنا ومنى كلَها منحر فانحروا في رحالكم) (1) ، وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر) (2) .   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 20/149. (2) البيهقي: ج 5 / ص 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقته: أ - هدي التطوع والمتعة والقران: لا يصح إلا أيام النحر الثلاثة ولا يجوز قبلها. ب - هدي الجنايات والكفارات والإحصار: يصح في أي وقت، والأَولى تعجيله لينجبر النقص من أفعاله. شروطه: -1 - يشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية، فلا يجزئ ما دون الثنيِّ إلا الجذع من الضأن ولا يصح بالعوراء ولا العجفاء ولا العمياء ولا مقطوعة الأذن، فعن أبي حصين أن ابن الزبير رأى هدياً له فيها ناقة عوراء فقال: "إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فأمضوها وإن كان أصابها قبل أن تشترها فأبدلوها" (1) . -2 - أن لا يأكل من هدي الجنايات والكفارات، لما روي عن طاووس وسعيد بن جبير أنهما قالا: "لا يأكل من جزاء الصيد ولا من الفدية" (2) . ويجوز أن يأكل من هدي التمتع والقران والتطوع، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا) (3) . -3 - أن لا يعطي أجر القصَّاب منه، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنه، وأمره أن يقسم بدنه كلها لحومها وجلودها في المساكين ولا يعطي في جزارتها منها شيء) (4) .   (1) البيهقي: ج 5 / ص 242. (2) البيهقي: ج 5 / ص 242. (3) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 5/30. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 61/349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ما يندب في الهدي: -1 - أن يذبح بنفسه وإلا يوكل غيره ويشهده، لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل: (ثم انصرف - أي النبي صلى الله عليه وسلم - إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده) (1) . -2 - أن يقلد (2) هدي التطوع (تمتع، قران، نذر) دون غيره لأنه نسك يليق به الإظهار، أما بقية الهدايا فلا يقلدها لأنها جنايات. روت عائشة رضي الله عنها قالت: (ربما فَتَلْتُ القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقلد هديه ثم يبعث به) (3) . وإذا عطب هدي التطوع على الطريق لا يلزمه غيره، ولا يجوز أن يأكل منه بل يطعمه للفقراء، أما إن كان غير ذلك ضمنه، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: (إن عَطِب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها. ثم اغمس نعلها في دمها. ثم اضرب به صفحتها. ولا تطعهما أنت ولا أحد من أهل رفقتك) (4) . -3 - أن يذبحه بمنى.   (1) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 19/147. (2) التقليد: هو جعل قلادة أي حبل من نبات الأرض في عنق الإبل أو البقر للإشارة بأنه هدي. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 64/366. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 66/378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الأضْحِيَة تعريفها: الأضحية لغة: اسم لما يذبح أيام الأضحى. شرعاً: اسم لما يذبح أو ينحر من النَّعم تقرباً لله تعالى في أيام النحر. دليلها: ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع. من الكتاب: قوله تعالى: {فصلِّ لربك وانحر} (1) . ومن السنة: حديث أنس رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين (2) أقرنين (3) ، ذبحهما بيده، وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما) (4) . وقد أجمعت الأمة على مشروعيتها.   (1) الكوثر: 2. (2) كبش أَمْلح: هو الذي بياضه غالب لسواده. (3) كبش أَقْرن: كبير القرنين. (4) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 3/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 حكمها: هي واجبة على الذكر والأنثى عند الإمام أبي حنيفة، وهو المعتمد، بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من وجد سعة فلم يضحِّ معنا فلا يَقْرَبَن مُصلاّنا) (1) . ففي الحديث وعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون الوعيد إلا لترك واجب. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان ذبح قبل الصلاة فْليُعِد) (2) والأمر للوجوب فلولا أنها واجبة ما وجبت إعادتها. وهي سنة مؤكدة عند الإمام أبي يوسف، لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) (3) ، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب لذا فهي سنة مؤكدة. وعلى القولين لا يكفر جاحدها.   (1) المستدرك: ج 4 / ص 232. (2) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 1/10. (3) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 7/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 شروط وجوبها: -1 - الإسلام، لأنها عبادة. -2 - الحرية، لضرورة الملك. -3 - اليسار الذي يتعلق به وجوب صدقة الفطر، وهو ملك نصاب ولو غير نام، وأن يكون زائداً عن حوائجه الأصلية. -4 - الإقامة في بلد أو قرية أو بادية، فلا تجب على المسافر، ولا على الحاج إن كان مسافراً، لقول علي رضي الله عنه: "ليس على المسافر جمعة ولا أضحية". ولا يجب على الوليّ أن يضحي عن ولده الصغير كصدقة الفطر لاختلاف سببهما، كما أنها لا تجب في مال الصبي لأنها قربة ولا يخاطب بها إلا العاقل البالغ. وهذا هو القول المفتى به. وقال الصاحبان: تجب في مال الصبي فيضحي عنه وليُّه، ومثله المجنون. شروط صحتها: -1 - يشترط أن تكون من النعم وهي: الإبل والبقر والغنم بنوعيه المعز والضأن، لقوله تعالى: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (1) . وأفضلها الغنم. والكبش أفضل من النعجة، والأنثى من المعز أفضل من التَّيْس، والأنثى من الإبل والبقر أفضل من الذكر إذا استويا في اللحم. ويجوز الاشتراك في الأضحية إذا كانت من الإبل أو البقر بشرط أن لا يزيد عددهم على السبعة أشخاص، فإذا كانوا أكثر من سبعة فلا يجوز الاشتراك. والأفضل أن يتفقوا قبل الشراء ويقتسموا لحمها بالوزن. ودليل جواز الاشتراك ما روى جابر رضي الله عنه قال: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة) (2) . والشاة أفضل من سبع البقرة أو البدنة إذا استويا في اللحم. -2 - يشترط الثَّنِيُّ في الجميع، إلا الضأن فقد ورد فيها جواز الجَذَع، فعن أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجوز الجذع من الضأن أضحية) (3) . والجذع ما كان فوق ستة أشهر على أن يكون كثير اللحم بحيث لو وضع مع الثنايا لا يفرق عنها. والثَّنِيّ: ما كان فوق السنة من الغنم، وفوق السنتين من البقر، وفوق الخمس سنين من الإبل. -3 - يشترط في الأضحية أن تكون سليمة من العيوب والأمراض، فلا تصح بالعمياء، ولا بالعوراء، ولا بالعجفاء وهي المهزولة التي لا مخ في عظامها، ولا بالعرجاء البيّن عَرَجها، لما روى البراء رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بَيِّن عورها، والمريضة بيّن مرضها، والعرجاء بيّن ظلعها، والكسير التي لا تُنقى) (4) . ولا تصح بمقطوعة الأذن أو الذَّنب أو الإلية إذا كان المقطوع أكثر من الثلث، لما روي عن علي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُضَحَّى بعضْباء الأذن والقرن) (5) . ولا تصح بالهَتْماء التي ليس لها أسنان ولا بالجلاّلة التي ترعى العَذِرة (6) . وتصح بالجمّاء التي لا قرون لها خِلقَة، والعَظْماء وهي التي ذهب بعض قرنها، والتَّولاء وهي المجنونة إذا لم يمنعها الجنون من الرعي. وتصح بالجَرباء إذا كانت سمينة، فإذا هزلت بالجَرب فلا يجوز.   (1) الحج: 34. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 62/350. (3) ابن ماجة: ج 2 / كتاب الأضاحي باب 7/3139. (4) أبو داود: ج 3 / كتاب الضحايا باب 6/2802، ولا تنقى: أي لا نقي لها وهو المخ. (5) أبو داود: ج 3 / كتاب الضحايا باب 6/2805. (6) العَذِرة: أماكن النّجاسات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقتها: يبدأ وقتها بعد طلوع فجر يوم النحر، ويشترط في المِصْر أن يضحي بعد أداء صلاة العيد، لما روى البراء رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر) (1) . وينتهي وقتها قبل غروب شمس ثالث أيام النحر. والأفضل أن يضحي أول يوم، ويكره تنزيهاً أن يضحي في الليل. ولو فات الوقت وكان المكلف ممن تتوفر فيهم شروط وجوبها، وجب عليه التصدق بمقدار ثمن شاة، ولو مات أيام النحر سقطت عنه، أما لو مات بعدها ولم يضحِ فعليه أن يوصي بالتصدق بثمنها.   (1) البخاري: ج 1 / كتاب العيدين باب 10/925. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ما يندب في الأضحية: -1 - أن يأكل منها ويتصدق ويدَّخر، لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} (1) ، ولما روى عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم) (2) ، ويجوز أن يطعم الأغنياء منها، لأنه كما جاز له الأكل وهو غني جاز لغيره. -2 - يستحب أن لا تنقص الصدقة منها عن الثلث، لأن المنصوص قسمتها بين الأكل والتصدق والادخار فيكون لكل قسم الثلث، ولو أخذ الكل لنفسه جاز لأن القربة تحصل بإراقة الدم. أما إن كانت الأضحية منذورة فلا يحل الأكل منها مطلقاً. -3 - يندب أن لا يتصدق منها بشيء إذا كان ذا عيال حتى يوسع عليهم. -4 - يندب أن يذبحها بنفسه، إن كان يحسن الذبح لأنها عبادة، فإذا فعلها بنفسه كان أفضل كسائر العبادات اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبع بدناتٍ بيده قياماً) (3) . ويندب أن يقول عند الذبح: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، اللهم منك ولك، بسم الله، الله أكبر". وإن كان لا يحسن الذبح فالأوْلى أن يولّيها غيره. -5 - أن يحضر الأضحية ويشهدها إن لم يذبح، لما روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. قال عمران قلت: يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذاك أنتم أم المسلمين عامة؟ قال: لا بل للمسلمين عامة) (4) .   (1) الحج: 28. (2) مسلم: ج 3 / كتاب الأضاحي باب 5/37. (3) أبو داود: ج 3 / كتاب الضحايا باب 4/2793. (4) المستدرك: ج 4 / ص 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ما يكره في الأضحية: -1 - يكره ذبح الكتابي، أما المشرك والمجوسي والوثني فلا يجوز ذبحه أصلاً. -2 - يكره بيع جلدها أو استبداله بما هو مستهلك، فإن فعل وجب التصدق بالثمن أو بالبدل، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن معقل بن يسار: (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له) (1) ، لذا يجب أن يتصدق بالجلد أو يستعمله. -3 - يكره أن يعطي الجزار منها شيئاً على سبيل الأجرة، لكن يجوز أن يتصدق عليه منها زيادة على الأجرة. لما روي عن علي رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلَّتها، وأن لا أعطي الجزار منها. قال: نحن نعطيه من عندنا) (2) . -4 - يكره جزُّ صوفها قبل الذبح، وإن فعل تصدق به. -5 - يكره ركوبها وتأجيرها والانتفاع بلبنها قبل ذبحها، بل يتصدق بكل ما يأخذه منها، لأنه اشتراها قربة لله تعالى، فلا ينتفع بشيء منها حتى يذبحها.   (1) الجامع الصغير: صلى الله عليه وسلم 167. (2) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 61/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فصل في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 تندب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ندباً مؤكداً، بل تقرب من درجة الواجبات لمن له سعة. فإنه صلى الله عليه وسلم حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) (1) ، وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي) (2) إلى غير ذلك من الأحاديث. فإذا نوى المسلم زيارة القبر الشريف فلينو معه زيارة المسجد النبوي أيضاً، فإنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الأقصى) (3) . وينبغي لمن رغب في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى المدينة المنورة. فإذا عاين حيطان المدينة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: "اللهم هذا حرم نبيك ومهبط وحيك فامنن عليّ بالدخول فيه، واجعله وقاية لي من النار وأماناً من العذاب، واجعلني من الفائزين بشفاعة المصطفى يوم المآب". ويغتسل قبل الدخول أو بعده قبل التوجه للزيارة إن أمكنه، أو يتوضأ، ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب تعظيماً للقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يدخل المدينة المنورة ماشياً، إن أمكنه، متواضعاً بالسكينة والوقار ملاحظاً جلالة المكان قائلاً: "بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رب أَدْخِلني مُدْخَل صِدق وأخرجني مُخْرَج صِدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً. اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد واغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك". فإذا وصل باب مسجده فليقدم رجله اليمنى في الدخول، ثم يأتي الروضة فيصلي ركعتين تحية المسجد عند المنبر بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. ومنبري على حوضي) (4) . ثم يسجد شكراً لله تعالى بأداء ركعتين غير تحية المسجد لما وفقه الله ومنّ عليه بالوصول إليه، ويدعو بما يحب ولمن أحب. ثم يتوجه إلى قبره الشريف صلى الله عليه وسلم فيقف بعيداً عنه بمقدار أربعة أذرع، بغاية الأدب، مستدبر القبلة، محاذياً لرأس النبي صلى الله عليه وسلم، ملاحظاً في قلبه منزلة من هو بحضرته وسماعه لكلامه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يُسلم عليّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام) (5) ثم يسلم ويقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبيّ الله، السلام عليك يا صفيَّ الله السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نبيَّ الرحمة، السلام عليك يا شفيع الأمة، السلام عليك يا سيد المرسلين، السلام عليك يا خاتم النبيين وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن قومه ورسولاً عن أمته، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وأوضحت الحجة، وجاهدت في سبيل الله حق جهاده، وأقمت الدين حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك إلى يوم الدين. يا رسول الله نحن وفدك وزوار قبرك، جئناك قاصدين قضاء حقك والتيمن بزيارتك والاستشفاع بك إلى ربنا، فإن الخطايا قد قصمت ظهورنا والأوزار قد أثقلت كواهلنا، وأنت الشافع المشفع. قال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} (6) . وقد جئناك ظالمين لأنفسنا مستغفرين لذنوبنا، فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك، وأن يوردنا حوضك، وأن يسقينا بكأسك غير خزايا ولا نادمين. الشفاعة الشفاعة يا رسول الله. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم". ويبلغه سلام من أوصاه فيقول: "السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان، يستشفع بك إلى ربك، فاشفع له ولجميع المسلمين". ثم يصلي عليه صلى الله عليه وسلم ويدعو بما شاء. ثم يتحول قدر ذراع جهة يمينه حتى يحاذي رأس الصديق رضي الله عنه فيقول مسلماً عليه: "السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا صاحب رسول الله وأنيسه في الغار ورفيقه في الأسفار، جزاك الله عنا أفضل ما جزى إماماً عن أمة نبيه. اللهم أمتنا على حبه ولا تخيب سعينا في زيارته برحمتك يا أرحم الراحمين". ثم يتحول مثل ذلك حتى يحاذي رأس عمر رضي الله عنه فيقول: "السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا مظهر الإسلام ومكسر الأصنام. جزاك الله عنا أفضل الجزاء، ورضي عمن استخلفك". ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول: "السلام عليكما يا ضجيعَي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقيه، جزاكما الله أحسن الجزاء". ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين. ثم يرجع فيقف عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وإخواننا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ويأتي الأسطوانة التي تاب عندها أبو لبابة رضي الله عنه فيعلن توبته. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى اسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها) (7) . ثم يأتي الروضة فيصلي فيها ما شاء ويدعو ويكثر من التسبيح والاستغفار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام) (8) . ويستحب له أن يخرج بعد زيارته صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فيأتي المشاهد والمزارات وخاصة قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه. ويقول: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كلما كانت ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً، مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) (9) . كما يستحب أن يأتي مسجد قِباء يوم السبت أو غيره ويصلي فيه ويقول بعد دعائه بما أحب: "يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا مفرج كرب المكروبين، صلِّ على سيدنا محمد وآله، واكشف كربي وحزني كما كشفت عن رسولك كربه وحزنه في هذا المقام، يا حنّان يا منّان يا كثير المعروف يا دائم الإحسان يا أرحم الراحمين"، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين) (10) .   (1) الدارقطني: ج 2 / ص 278. (2) الدارقطني: ج 2 / ص 278. (3) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 95/511. (4) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 92/502. (5) أبو داود: ج 2 / كتاب المناسك باب 100/2041. (6) النساء: 64. (7) البيهقي: ج 5 / ص 247. (8) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 94/506. (9) مسلم: ج 2 / كتاب الجنائز باب 35/102. (10) مسلم: ج 2 / كتاب الحج باب 97/516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 نهاية الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 انتهى الكتاب والحمد لله أولا وآخرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210