الكتاب: ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه المؤلف: الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله (المتوفى: 243هـ) المحقق: حسين القوتلي الناشر: دار الكندي , دار الفكر - بيروت الطبعة: الثانية، 1398 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه الحارث المحاسبي الكتاب: ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه المؤلف: الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله (المتوفى: 243هـ) المحقق: حسين القوتلي الناشر: دار الكندي , دار الفكر - بيروت الطبعة: الثانية، 1398 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عونك اللَّهُمَّ قَالَ أَبُو عبد الله الْحَارِث بن أَسد بن عبد الله المحاسبي الْبَصْرِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ سَأَلت عَن الْعقل مَا هُوَ وَإِنِّي أرجع إِلَيْك فِي اللُّغَة والمعقول من الْكتاب وَالسّنة وتراجع الْعلمَاء فِيمَا بَينهم بِالتَّسْمِيَةِ ثَلَاثَة مَعَاني أَحدهَا هُوَ مَعْنَاهُ لَا معنى لَهُ غَيره فِي الْحَقِيقَة والآخران اسمان جوزتهما الْعَرَب إِذْ كَانَا عَنهُ فعلا لَا يكونَانِ إِلَّا بِهِ وَمِنْه وَقد سَمَّاهَا الله تَعَالَى فِي كِتَابه وسمتها الْعلمَاء عقلا فَأَما مَا هُوَ فِي الْمَعْنى فِي الْحَقِيقَة لَا غَيره فَهُوَ غريزة وَضعهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فَهُوَ غريزة لَا يعرف إِلَّا بفعاله فِي الْقلب والجوارح لَا يقدر أحد أَن يصفه فِي نَفسه وَلَا فِي غَيره بِغَيْر أَفعاله لَا يقدر أَن يصفه بجسمية وَلَا بطول وَلَا بِعرْض وَلَا طعم وَلَا شم وَلَا مجسة وَلَا لون وَلَا يعرف إِلَّا بأفعاله وَقَالَ قوم من الْمُتَكَلِّمين هُوَ صفوة الرّوح أَي خَالص الرّوح وَاحْتَجُّوا باللغة فَقَالُوا لب كل شَيْء خالصه فَمن أجل ذَلِك سمي الْعقل لبا وَقَالَ الله عز وَجل {إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب} يَعْنِي أولي الْعُقُول وَلَا نقُول ذَلِك إِذا لم نجد فِيهِ كتابا مسطورا وَلَا حَدِيثا مأثورا وَقَالَ قوم هُوَ نور وَضعه الله طبعا وغريزة يبصر بِهِ ويعبر بِهِ نور فِي الْقلب كالنور فِي الْعين وَهُوَ الْبَصَر فالعقل نور فِي الْقلب وَالْبَصَر نور فِي الْعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فالعقل غريزة يُولد العَبْد بهَا ثمَّ يزِيد فِيهِ معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدَّالَّة على الْمَعْقُول وَقد زعم قوم أَن الْعقل معرفَة نظمها الله ووضعها فِي عباده يزِيد ويتسع بِالْعلمِ المكتسب 106 الدَّال على الْمَنَافِع والمضار وَالَّذِي هُوَ عندنَا أَنه غريزة والمعرفة عَنهُ تكون وَكَذَلِكَ الْجُنُون والحمق لَا يُسمى نكرَة لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمعرفَة هُوَ الْعقل سمي الْجُنُون نكرَة والحمق نكرَة لِأَن النكرَة ضد الْمعرفَة وَالْجهل ضد الْعلم فَلَمَّا امْتنع أهل الْعلم أَن يسموا الْمَجْنُون مُنْكرا جَاهِلا وَلَا يسمون الْمُنكر مَجْنُونا وَالْجَاهِل مَجْنُونا وَقَالُوا بِأَنَّهُ مَجْنُون صَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَمِمَّا يدل على أَن الْعقل هُوَ الغريزة الَّتِي بهَا عرف فَأقر وَعرف فَأنْكر أَو ظن فَأنْكر لِأَن الْإِنْكَار فعل فَكَذَلِك ضد الْمعرفَة فعل فَمِنْهُ فعل عَن طبع يُوجِبهُ الطَّبْع كالضرة كمعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَفِي الصمت ستر العي يَوْمًا وَإِنَّمَا صحيفَة لب الْمَرْء أَن يتكلما ... وَأما الاثنتان اللَّتَان جوزتهما اللُّغَة فِي الْكتاب وَالسّنة وتراجع أهل الْمعرفَة فِيمَا بَينهم بِالتَّسْمِيَةِ فجوزتهما اللُّغَة على حَقِيقَة الْمَعْنى بِأَن سمتهما عقلا إِذْ كَانَا عَن الْعقل لَا عَن غَيره فإحداهما الْفَهم لإصابة الْمَعْنى وَهُوَ الْبَيَان لكل مَا سمع من الدُّنْيَا وَالدّين أَو مس أَو ذاق أَو شم فَسَماهُ الْخلق عقلا وَسموا فَاعله عَاقِلا وَقد رُوِيَ فِي التَّفْسِير لما قَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {فاستمع لما يُوحى} قيل اعقل مَا أَقُول لَك وَهَذِه خصْلَة يشْتَرك فِيهَا أهل غريزة الْعقل الَّتِي خلفهَا الله فيهم من أهل الْهدى وَأهل الضَّلَالَة من بعض أهل الْكتاب لما تقدم عِنْدهم من أهل الدّين ويجتمع عَلَيْهَا أهل كل إِيمَان وضلال فِي أُمُور الدُّنْيَا خَاصَّة والمطيع والعاصي وَهُوَ فهم الْبَيَان وَقَالَ الله عز وَجل فِي مَا يعيب بِهِ أهل الْكتاب فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 {يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ} وَقَالَ عز وَجل {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} وَقَالَ {?} يعلمُونَ أَنه الْحق من رَبهم وَقَالَ {يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ} فالفهم وَالْبَيَان يُسمى عقلا لِأَنَّهُ عَن الْعقل كَانَ فَيَقُول الرجل للرجل أعقلت مَا رَأَيْت أَو سَمِعت فَيَقُول نعم يَعْنِي أَنِّي قد فهمت وتبينت وَالْعرب إِنَّمَا سمت الْفَهم عقلا لِأَن مَا فهمته فقد قيدته بعقلك وضبطته كَمَا الْبَعِير قد عقل أَي أَنَّك قد قيدت سَاقه إِلَى فَخذيهِ وَقَالُوا اعتقل لِسَان فلَان أَي استمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَيُقَال اعقل شَاتك إِذا حبستها وَهُوَ أَن يضع رجله بَين نوفها وفخذها وَيُقَال اعتقل رجل فلَان إِذا صارعه وَالْمعْنَى الثَّالِث هُوَ البصيرة والمعرفة بتعظيم قدر الْأَشْيَاء النافعة والضارة 107 فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمِنْه الْعقل عَن الله تَعَالَى فَمن ذَلِك أَن تعظم مَعْرفَته وبصيرته بعظيم قدر الله تَعَالَى وبقدر نعمه وإحسانه وبعظيم قدر ثَوَابه وعقابه لينال بِهِ النجَاة من الْعقَاب وَالظفر بالثواب فَإِذا كَانَ لله مُعظما كَانَ لله مجلا هايبا وَإِذا كَانَ لله مجلا هايبا كَانَ مِنْهُ مستحيا وَإِلَى الله طَاعَته مسارعا ولمساخطه مجانبا وَإِذا كَانَ مُعظما لما ينَال بِهِ النجَاة من الْعقَاب وَالظفر بالثواب عني بِطَلَب الْعلم وَرغب فِي الْفَهم وَالْعقل عَن الله عز وَجل أَكثر همته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَإِذا عني بِطَلَب الْعلم بذلك اسْتدلَّ بِهِ على عظم قدر الْمولى وَقدر ثَوَابه وعقابه وَإِذا اسْتدلَّ على ذَلِك أبْصر وَفهم حقائق مَعَاني الْبَيَان فَإِذا فهم عقل عَظِيم قدر الله تَعَالَى وَعرضه على الله سُبْحَانَهُ وعقابه وثوابه وَإِذا عظم قدر ذَلِك هاب الله وَفرق وَرَجا وَرغب واشتاق فَكَأَنَّمَا يعاين ذَلِك كرأي الْعين فَكَانَ عَن الله تَعَالَى عَاقِلا وَسمي ذَلِك مِنْهُ عقلا إِذْ كَانَ بِالْعقلِ طلب ذَلِك وبالعقل فهم ذَلِك وبالعقل لزم ذَلِك وبالعقل جَانب مَا يُزِيلهُ عَن ذَلِك فَهَذَا الَّذِي عقل عَن ربه ألم تسمعه عز وَجل يَقُول وَتَعيهَا {أذن وَاعِيَة} قَالَ أذن عقلت عَن الله تَعَالَى يَعْنِي عقل عَن الله مَا سَمِعت أذنَاهُ مِمَّا قَالَ وَأخْبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فَهَذَا هُوَ الْعقل وَمن زَالَ عَن ذَلِك وَمَعَهُ غريزة الْعقل الَّتِي فرق الله تَعَالَى بهَا بَين الْعُقَلَاء والمجانين فَهُوَ غير عَاقل عَن الله عز وَجل وَهُوَ عَاقل للْبَيَان الَّذِي لَزِمته من أَجله الْحجَّة وَقد وصف الله عز وَجل هَذَا فِي كِتَابه عَن رجال وسما لَهُم عقلا فَقَالَ تَعَالَى {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا} يَعْنِي عَنهُ وَقَالَ الله عز وَجل {وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة} يَعْنِي عقولا {فَمَا أغْنى عَنْهُم سمعهم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم من شَيْء إِذْ كَانُوا يجحدون بآيَات الله} ثمَّ سمى بعض الْكفَّار من أهل الْكتاب عَاقِلا للْبَيَان الَّذِي لزمتهم بِهِ الْحجَّة {يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ} فَأخْبر أَنهم لَا يعْقلُونَ يَعْنِي عَنهُ وَعَن مَا قَالَ من عَظِيم قدره الْمُبين عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ثمَّ قَالَ {يحرفونه من بعد مَا عقلوه} يَعْنِي عقل الْبَيَان وَآخَرُونَ لَهُم عقول الغرايز لَا يعْقلُونَ الْبَيَان وَلَا الْمُبين عَنهُ بالفهم لَهُ إِلَّا أَنهم يسمعُونَ بلغَة يعرفونها كلَاما لَا يعْقلُونَ مَعَانِيه بالفهم لَهُ كمشركي الْعَرَب فَقَالَ {إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} فَلم يعقلوا مَا قَالَ عز وَجل لإعجابهم برأيهم ولتقليدهم آبَاءَهُم وكبراءهم وَقد كَانَت لَهُم عقول غرايز يعْقلُونَ بهَا أَمر دنياهم وَلَو تركُوا الْإِعْجَاب بِالرَّأْيِ وتقليد الكبراء ثمَّ تدبروا لعقلوا مَا قَالَ الله وَلَكِن أعجبوا بآرائهم وقلدوا كبراءهم فَقَالَ عز وَجل {وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا} وَقَالَ {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ} فَلم يعقلوا مَا قيل لَهُم كَمَا عقله المحرفون للسان بَعْدَمَا عقلوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فهم يعلمُونَ أَمر دنياهم ودقايق مَعَايشهمْ أدق فِي الغموض من أَعْلَام الدّين فَقَالَ الله جلّ وَعز {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون} قَالَ حَدثنِي عَفَّان قَالَ حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية عَن الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ لَا جرم وَالله لقد بلغ من علم أحدهم بدنياه أَنه يقلب الدِّرْهَم على ظفره ويخبرك بوزنه وَمَا يحسن يُصَلِّي قَالَ حَدثنِي عَفَّان قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن شَرْقي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قَوْله {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا} فَذكر الخراز والخياط وَنَحْوهمَا فَأخْبر الله تَعَالَى أَنهم يعْقلُونَ أَمر دنياهم وَلَو تدبروا وَتركُوا التَّقْلِيد والإعجاب بالآراء لعقلوا أَمر آخرتهم كَمَا عقلوا أَمر دنياهم حِين عنوا بِطَلَب مَنَافِعهَا فِي العواقب وَدفع مضارها فِي العواقب فَهَذِهِ أَربع فرق فرقة عقلت عَن الله تَعَالَى عظم قدره وَقدرته وَمَا وعد وتوعد فأطاعت وخشعت وَفرْقَة عقلت الْبَيَان ثمَّ جحدت كبرا وعنادا لطلب الدُّنْيَا كَمَا وصف عَن إِبْلِيس أَنه تكبر وعاند كبرا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَقُول {فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} وَوصف الْيَهُود 108 فَقَالَ {ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} وَقَالَ {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} وَقَالَ {يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَقَالَ {واشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فبئس مَا يشْتَرونَ} وَفرْقَة طغت وأعجبت وقلدت فعميت عَن الْحق أَن تتبينه ثمَّ تقر بِهِ ثمَّ تجحده كبرا وَطلبت دنيا بعد عقلهَا للْبَيَان فظنت أَنَّهَا على حق وَدين وَهِي على بَاطِل وَشر وضلال وَفرْقَة رعة عقلت قدر الله عز وَجل فِي تَدْبيره وتفرده بالصنع وَعرفت قدر الْإِيمَان فِي النجَاة بالتمسك بِهِ وَقدر الْعقَاب فِي ضَرَره فِي مجانبة الْإِيمَان فَلم يجحدوا كبرا وَلَا أَنَفَة وَلَا طلب دنيا لعقلها أَن عَاجل الدُّنْيَا يفنى وَعَذَاب الْآخِرَة لَا يفنى فأقرت وَآمَنت وَلم تعقل عَظِيم قدر الله فِي هيبته وجلاله وعظيم قدر ثَوَابه وعقابه فِي إتْيَان مَعَاصيه وَالْقِيَام بفرايضه فعصت وضيعت وغفلت ونسيت إِلَّا أَنَّهَا علمت عَظِيم قدر الْإِيمَان فِي النجَاة وعظيم ضَرَر الْكفْر قد عقلته عَن الله تَعَالَى فَهِيَ قَائِمَة بِهِ دائمة عَلَيْهِ ثمَّ بعد عقله قدر الْإِيمَان يزْدَاد معرفَة بِقدر الْغَضَب والوعيد والوعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فَإِن ازْدَادَ طَائِفَة قَامَ بطَائفَة من الْفُرُوض وَترك بعض الْمعاصِي وَإِلَّا ضيع بعض الْفُرُوض وَركب بعض الْمعاصِي من أجل الْهوى وَمَعَهُ عقل الْبَيَان وَالْإِقْرَار فعقل أَنه مسيء وَلم يرجع عَن إساءته لغَلَبَة الْهوى وَلَو ازْدَادَ عقلا بعظيم قدر الْغَضَب والرضى وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب لاستعمل مَا عقل من الْبَيَان وَأقر بِهِ بِأَنَّهُ حق فَتَابَ وأناب وَجَمِيع الممتحنين المأمورين من الْعُقَلَاء البالعين كلهم لَهُم عقول يميزون بهَا أُمُور الدُّنْيَا كلهَا الْجَلِيل والدقيق وَأَكْثَرهم للآخرة لَا يعْقلُونَ ألم تسمعه عز وَجل يَقُول {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} وهم بالدنيا أهل بصر وَسمع وعقل وَلم يعن أَنهم صم خرس مجانين وَإِنَّمَا عذبهم لأَنهم يعْقلُونَ لَو تدبروا مَا يرَوْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ويسمعون من الدَّلَائِل عَلَيْهِ من آيَات الْكتاب وآثار الصَّنْعَة واتصال التَّدْبِير الَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه وَاحِد لَا شريك لَهُ وَحكى تَعَالَى قَول أهل النَّار فَقَالَ {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَقد كَانَت لَهُم عقول وأسماع لزمتهم بهَا الْحجَّة لله عز وَجل وَإِنَّمَا عَنى عز وَجل أَنَّهَا لم تعقل عَن الله فهما لما قَالَ من عَظِيم قدر عَذَابه فندمت وَنَادَتْ بِالْوَيْلِ والندم لَا أَنَّهَا لم تكن تسمع وَلَا تعقل وَلَا كَانُوا بمجانين وَلَكِن يعْقلُونَ أَمر الدُّنْيَا وَلَا يعْقلُونَ عَن الله مَا أخبر عَنهُ ووعد وتوعد قلت فَمَتَى يُسمى الرجل عَاقِلا عَن الله تَعَالَى قَالَ إِذا كَانَ مُؤمنا خَائفًا من الله عز وَجل وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن يكون قَائِما بِأَمْر الله الَّذِي أوجب عَلَيْهِ الْقيام بِهِ مجانبا لما كره وَنَهَاهُ عَنهُ فَإِذا كَانَ كَذَلِك اسْتحق أَن يُسمى عَاقِلا عَن الله بل لِأَنَّهُ لَا يُسمى عَاقِلا عَن الله من يعزم على الْقيام بسخطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فَأَقَامَ على ذَلِك مصرا غير تايب قلت فَمَتَى يُسمى الْعَاقِل عَن الله كَامِل الْعقل عَن الله تَعَالَى قَالَ إِن الْعقل عَن الله تَعَالَى لَا غَايَة لَهُ لِأَنَّهُ لَا غَايَة لله عز وَجل عِنْد الْعَاقِل بالتحديد بالإحاطة بِالْعلمِ بحقائق صِفَاته وَلَا بعظيم قدر ثَوَابه وَلَا عِقَابه إِذْ لم يعاينها وَلَو عاين الله جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست أسماؤه بصفاته لما أحَاط بِهِ علما وَلَكِن وَقد يَقع اسْم الْكَمَال على الْأَغْلَب فِي الْأَسْمَاء فِي الْعقل عَن الله تَعَالَى لَا الْعقل بالكمال الَّذِي لَا يحْتَمل الزِّيَادَة أَلا ترَاهُ عز وَجل يَقُول لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَقل رب زِدْنِي علما} وَقَالَ {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَرُوِيَ عَن الْمَلَائِكَة أَنَّهَا تَقول يَوْم الْقِيَامَة رب مَا عبدناك حق عبادتك فَلَا أحد يُسَاوِي الله عز وَجل فِي الْعلم بِنَفسِهِ فَيعرف عَن عَظمته تَعَالَى كَمَال صِفَاته كَمَا يعلم الله عز وَجل عَن نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فأعظم العاقلين عِنْده العارفين عقلا عَنهُ وَمَعْرِفَة بِهِ الَّذين أقرُّوا بِالْعَجزِ أَنهم لَا يبلغون فِي الْعقل والمعرفة كنه مَعْرفَته وَلَكِن قد يُسمى كَامِلا فِي الْعقل عَن الله 109 فِي مَا غلب عَلَيْهِ من الْأَفْعَال الَّتِي كَانَت عَن الْعَاقِل كَامِلا من كَانَت فِيهِ ثَلَاث خلال الْخَوْف مِنْهُ وَالْقِيَام بأَمْره وَقُوَّة الْيَقِين بِهِ وَبِمَا قَالَ ووعد وتوعد وَحسن الْبَصَر بِدِينِهِ بالفقه عَنهُ فِيمَا أحب وَكره من علم مَا أَمر بِهِ وَندب إِلَيْهِ وَالْوُقُوف عِنْد الشُّبُهَات الَّتِي سمى الله الْوُقُوف عَنْهَا رسوخا فِي الْعلم بِهِ فَإِذا اجْتمع الْخَوْف مِنْهُ وَقُوَّة الْيَقِين بِهِ وَبِمَا قَالَ ووعد وتوعد وَحسن الْبَصَر بدين الله وَالْفِقْه فِي الدّين فقد كمل قُوَّة عقله وَإِن كَانَ الْخَوْف من الله هُوَ من قُوَّة الْيَقِين بالوعيد فَإِنَّهُ قد يكون خَائفًا وَلَا يكون مَعَه الْيَقِين الْقوي الَّذِي ينَال بِهِ الرضى والتوكل والمحبة والزهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فَمن ثمَّ قُلْنَا الْخَوْف من الله وَقُوَّة الْيَقِين وَالْبَصَر بِالدّينِ لِأَنَّهُ قد يكون قوي الْيَقِين وَلَيْسَ يحسن الْبَصَر بِالدّينِ وَيكون بَصيرًا بِالدّينِ لَا خَائفًا وَلَا قوي الْيَقِين وجماع هَذِه الثَّلَاث الْخِصَال قُوَّة الْيَقِين وَحسن الْبَصَر بِالدّينِ وَإِنَّمَا زِدْنَا ذكر الْخَوْف وَإِن كَانَ من الْيَقِين لِأَنَّهُ قد يكون خَائفًا وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ الْيَقِين فِي كَمَال مَا قَالَ الله عز وَجل مِمَّا وصف بِهِ نَفسه من قدره وجلاله وعظمته وَمَا وعد وتوعد وحذر وَرَجا وأنعم وابتلى بِهِ ثمَّ هَذِه الثَّلَاث الْخلال حقائق من الْفِعْل بِالْقَلْبِ والجوارح لِأَنَّهُ إِذا تمّ عقل الْمُؤمن عَن ربه أفرده عز وَجل بِالتَّوْحِيدِ لَهُ فِي كل الْمعَانِي فَعلم أَنه مَالك لَهُ لَا غَيره وَأَنه عَتيق مِمَّن سواهُ فتواضع لعظمته واستعبد وخضع لجلاله وَلم يذل لمن سواهُ وعقل عَنهُ أَنه الْكَامِل بِأَحْسَن الصِّفَات المتنزه من كل الْآفَات الْمُنعم بِكُل الأيادي وَالْإِحْسَان فَاشْتَدَّ حبه لَهُ لما يستأهل لعَظيم قدره وكريم فعاله وَحسن أياديه وعقل عَنهُ أَنه لَا يملك نَفعه وضره فِي دُنْيَاهُ وآخرته إِلَّا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فأفرده بالخوف والرجاء وعده وآمن بِهِ وأيس من جَمِيع خلقه فَهُوَ الموحد لَهُ إِذا عقل وحدانيته وتفرده بِكُل معنى كريم وَوصف جميل وجلال عَظمته ونفاذ قدرته ومضي إِرَادَته وإحاطة علمه وقديم أزليته وأوليته فَإِذا كَانَ كَذَلِك زايل الْكبر على الْعباد لخضوعه لجلال الله مَوْلَاهُ فتواضع للحق وَلم يحقر مُسلما لشدَّة مَعْرفَته بصغر قدر نَفسه وَلما جنى من الذُّنُوب على نَفسه ولعلمه بِأَن خَوَاتِم الْأَجَل بِسوء العواقب وَحسن الخاتمة من الشَّقَاء والسعادة قد سبق بهما الْعلم ونفذت فيهمَا الْمَشِيئَة فقد أَمن من عرفه كبره وبغيه وَقد عقل عَن الله جلّ وَعز حججه على خلقه واعتذاره إِلَى خلقه بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم بظالم وَأَنه قد بدأهم بِالرَّحْمَةِ قبل الْعقُوبَة وَقد سبقت مِنْهُ الأيادي قبل الشُّكْر طَوِيل الْحلم دَائِم التأني جميل السّتْر مقيل العثرات محسن إِلَى من تبغض إِلَيْهِ متقرب إِلَى من تبَاعد مِنْهُ وعقل عَنهُ أمره وآدابه وَأَحْكَامه وعقل دَاء النُّفُوس ودواءها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فَمن عرفه أمل الرشد مِنْهُ وَأَن يحيا بمنطقه وَيعْقل عَن الله جلّ ذكره بتأديبه لَهُ وعقل عَن الله عز وَجل مَا عظم من قدر ثَوَابه فِي جنته بدوامه وَطيب الْعَيْش فِيهِ وَزَوَال الْآفَات والتكدير والتنغيص عَنهُ وَأَنه فَوق مَا تحب النُّفُوس لَا يحسن أحد أَن يخْطر بِبَالِهِ ذكر كثير مِمَّا أعد فِيهَا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعد الله عز وَجل فِي جنته مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَكَفاك بِاللَّه تَعَالَى واصفا عَمَّا أعد لأوليائه إِذْ يَقُول عز من قَائِل {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} فقد أخبرنَا أَنه جَازَ فِي الْكَمَال وَالنَّعِيم وقرة الْعُيُون وصف الواصفين وَمَعْرِفَة العارفين وَذكر الذَّاكِرِينَ لجَمِيع النَّعيم فَعظم فِي قلبه جوَار مَوْلَاهُ وَمَا أعد فِيهِ لمن أناب إِلَيْهِ وأطاعه فشخص إِلَيْهِ بعقله فاتصل مَا استودع قلبه من الْعلم بذلك لمشاهدته بعقله حَتَّى أَنه رَأْي عينه عَمَّا قَالَه حَارِثَة فَكَأَنِّي أنظر إِلَى عرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة يتزاورون وكما قَالَ الْحسن وَذكر أَوْلِيَاء الله فِي الدُّنْيَا فَقَالَ صدقُوا بِهِ فَكَأَنَّمَا يرَوْنَ مَا وعدوا رَأْي الْعين فَلَمَّا اتَّصل عقله بمشاهدة ذَلِك حن واشتاق فَلَمَّا حن واشتاق تعلق قلبه واشتغل فَلَمَّا اشْتغل بالشوق إِلَى جوَار ربه سلا عَن الدُّنْيَا فلهَا عَنْهَا 110 فَمن تفكر فِي دَار الدُّنْيَا أَيْن هِيَ من جوَار ربه إِذْ يَقُول عز وَجل {لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} قيل فِي التَّفْسِير تَفَكَّرُوا فيهمَا فَعَلمُوا أَن الدُّنْيَا دَار فنَاء وَأَن الْآخِرَة دَار جَزَاء وَبَقَاء فعقل نعت ربه لزوَال الدُّنْيَا وفنائها وَأَن كل مَا أَخذ مِنْهَا لغير الْقرْبَة إِلَى ربه فِي جواره نَاقص من دَرَجَات الْقرب وَكَمَال النَّعيم فِي جوَار ربه وَأَن فِيهِ الْحساب وَالسُّؤَال عَن نعيمها بِالْحَبْسِ عَن السَّبق فِي أَوَائِل الزمر إِلَى جوَار ربه ومولاه وَأَنَّهَا مشغلة لَهُ عَن الِاشْتِغَال بربه مَا دَامَ فِيهَا حَتَّى مَا يعدله من الْأنس بربه وحلاوة مُنَاجَاة سَيّده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فارتفع قلبه عَنْهَا وَتمنى أَن لَو اسْتغنى أَن يتَنَاوَل مِنْهَا شَيْئا فَلم يجد بدا من الْأَخْذ مِنْهَا مَا يقويه على طَاعَة ربه خوفًا أَن يمسك عَن الْقُوت فَيَنْقَطِع عَن عبَادَة ربه فَكَانَ نصِيبه مِنْهَا الْقُوت من الْغذَاء وَلم يتَكَلَّف مَا جَازَ بلغَة الْقُوت من غذائه وَستر عَوْرَته وان تكلّف طلبه لم يتَكَلَّف إِلَّا للقربة إِلَى ربه فَإِن ابْتُلِيَ مِنْهَا بِمَا فَوق غذائه وَستر عَوْرَته من مثل مِيرَاث أَو غَيره فمبذول كُله لرَبه يفرح بِإِخْرَاجِهِ ويغتم أَن يمْكث عِنْده أقل من طرفه عين وعقل عَن الله تَعَالَى آيَاته فِي تَدْبيره وحكمته فِي آثَار صَنعته وَدَلَائِل حسن وَتَقْدِيره فَعلم أَنه بقدرة نَافِذَة قدرهَا وبحكمة كَامِلَة أتقنها وبعلم مُحِيط اخترعها وبسمع نَافِذ سمع حركاتها وببصر مدرك لَهَا دبر لطائف خلقهَا وغوامض كوامنها وَمَا وارته حجبها وسواترها فاستدل بذلك أَنه الْإِلَه الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه غَيره وَلَا رب سواهُ فَكَأَن جَمِيع الْأَشْيَاء عين يعْتَبر بهَا ويجل ويعظم لما يرى وَيسمع من مَوْلَاهُ وسيده فدام ذكره وزالت عَن الله عز وَجل غفلته وعقل عَن الله تَعَالَى أَنه مَا يبلغهُ غَايَة الْعلم بِهِ وَلَا بلطائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 محابه والقرب إِلَيْهِ والفهم لما كَلمه بِهِ فَكَانَ مَعَ سَيّده اجْتِهَاده ودوام اشْتِغَاله بربه غير تَارِك وَلَا مُنْقَطع عَن طلب الازدياد من الْعلم بربه والتزيد فِي الْفِقْه عَنهُ أَعلَى فِي قلبه وَأعظم عِنْده قدرا من الازدياد من كثير أَعمال النَّوَافِل إِذْ عقل عَن ربه أَن أقل قَلِيل الْمعرفَة يُورث التَّعْظِيم والهيبة وَيبْعَث على الِاجْتِهَاد وَيُورث الطَّاعَات والشغل عَن جَمِيع الْعباد وعقل عَن الله تَعَالَى أَنه ابْتَدَأَ عباده بِالرَّحْمَةِ والتفضل وَالْإِحْسَان بعد تَقْدِيم الْعلم مِنْهُ لَهُم أَنهم سيعصونه ويخالفون أمره فَلم يمنعهُ ذَلِك عَن ابتدائهم بِالنعَم والتحنن وَالرَّحْمَة وَالْإِحْسَان وَجعل أفضل أوليائه عِنْده الرُّحَمَاء بخلقه المتحننين على عباده الناصحين لبريته وهم رسله الداعون الْعباد إِلَى نجاتهم والمحذرون لَهُم من هلكتهم المتحملون مِنْهُم الْأَذَى والمتحننون عَلَيْهِم بِالرَّحْمَةِ والنصح والإشفاق مَعَ أذاهم لَهُم وتكذيبهم إيَّاهُم واستهزائهم بهم لَا يكافئونهم بِمثل مَا نالوا مِنْهُم وَلَا يَنْصَرِفُونَ عَن الإشفاق عَلَيْهِم إِذْ سمعُوا الله جلّ ثَنَاؤُهُ يصفهم إِذْ قَالُوا لنوح {إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَقَالُوا لهود {إِنَّا لنراك فِي سفاهة} ثمَّ وصف جوابهما فَقَالَ نوح {لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين} إِلَى قَوْله {ولعلكم ترحمون} وَوصف رد هود عَلَيْهِم فَقَالَ {يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين} إِلَى قَوْله {لَعَلَّكُمْ تفلحون} أَي تظفرون بِثَوَاب الله إِن قبلتم مني فَأخْبرهُم بعد تسفيههم لَهُ أَنه لم ينْصَرف من أجل ذَلِك عَن النَّصِيحَة لَهُم لَعَلَّهُم يفلحون وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوصف نَبيا من الْأَنْبِيَاء شجه قومه فَهُوَ يمسح الدَّم عَن وَجهه وَهُوَ يَقُول رب اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ وَرُوِيَ أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يخنقه قومه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ فَإِذا أَفَاق قَالَ رب اغْفِر لقومي إِنَّهُم لَا يعلمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَفضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صديق هَذِه الْأمة عَلَيْهَا بِالرَّحْمَةِ لَهَا فَقَالَ أرْحم أمتِي بهَا أَبُو بكر فَلَمَّا عقل عَن الله عز وَجل 111 مَا ابْتَدَأَ الْعباد بِهِ من الرَّحْمَة وَأَنه خص أعظم خلقه عِنْده قدرا وفضله بهَا على جَمِيع الْعباد ألزم قلبه رَحْمَة الْأمة فَأحب محسنهم وأشفق على مسيئهم ودعا إِلَى الله سُبْحَانَهُ إِذا أمكنه مدبرهم وَلم يدّخر مَالا عَن فقيرهم ففضل مَاله عَلَيْهِم مبذول والمواساة فِي قوته مِنْهُم المجهود من سَأَلَهُ مِنْهُم مَا يقدر عَلَيْهِ لم يتبرم بِطَلَبِهِ وَلم يضجر بإعطائه للرحمة الَّتِي لَهُم فِي قلبه وَمن آذاه وأساء إِلَيْهِ لم يجد فِي نَفسه كَرَاهِيَة للعفو والصفح عَنهُ يعدهم جَمِيعًا كأقرب الْخلق مِنْهُ كَبِيرهمْ مثل أَبِيه وصغيرهم كولده وقرنه كأخيه فَكل هَؤُلَاءِ يحب الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَأَن لَا يُفَارق قلبه الشَّفَقَة عَلَيْهِم وعقل عَن الله تَعَالَى عَظِيم قدره وَقدر مَا يطْلب من ثَوَابه وَمَا يخَاف من عِقَابه وعظيم الأيادي وَكَثْرَة النَّعيم عِنْده وَأَن جَمِيع خلقه من أهل سمواته وأرضه لَو دأبوا جَمِيعًا واجتهدوا عمر الدُّنْيَا كلهَا وأبدا مَا أَدّوا شكر نعمه وَلَا أَدّوا مَا يحِق فِي عَظمته فَكيف بالحلول فِي جواره والنجاة من عَذَابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فقد عقل أَي رب يعبد وَأي ثَوَاب يطْلب وَمن أَي عِقَاب وَعَذَاب يهرب وَأي نعيم يشْكر وَالشُّكْر أَيْضا مِمَّن هُوَ وَمن من بِهِ فَلَمَّا عقل ذَلِك كُله عَن ربه اسْتَقل واستصغر جَمِيع دؤوبه واجتهاده لعَظيم مَا عقل من جَمِيع ذَلِك وعقل عَن الله تَعَالَى مَا وصف بِهِ نَفسه أَنَّهَا بالسوء أَمارَة وللذنوب مسولة وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جنت عَلَيْهِ مَا قد أَحْصَاهُ ربه عَلَيْهِ وَلم يَأْمَن أَن يكون قد حل بِهِ غَضَبه وَأَنه لَا يكَاد يعدل فِي بعض أَحْوَاله أَن يتَعَرَّض لبَعض مساخطه وَأَنه قد لَزِمته عَظِيم حجَّة مَا خص بِهِ من الْعلم وَمَا من عَلَيْهِ بِهِ من الْمعرفَة دون أَكثر الْعَوام فَاسْتَكْثر قَلِيل طاعتهم واستعظمها مَعَ استصغار كثير الطَّاعَات من نَفسه لِأَنَّهُ أعلم بِنَفسِهِ وبذنوبه من ذنوبهم وَأَن الْحجَّة عَلَيْهِ أعظم مِنْهَا عَلَيْهِم وعقل قدر من عَصَاهُ وَخَالفهُ فِيمَا أمره بِهِ فعقل قدر عَظمَة من عَصَاهُ وَشدَّة غَضَبه وَشدَّة عَذَابه وهول الْمكْث فِي عِقَابه إِن لم يعف عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فعقل كَثْرَة ذنُوبه وَسُوء رَغْبَة نَفسه ودناءة همته وَعَجِيب جَهله إِذْ كَانَ قد آثر على رِضَاهُ من العبيد مَا لَا معنى لَهُم فِي دنيا وَلَا آخِرَة بِملك وَلَا نفع وَلَا ضرّ وإيثاره من الدُّنْيَا المكدر المنغص الفاني مِنْهُ والفاني هُوَ عَنهُ وَالْبَاقِي عَلَيْهِ بعد فنائه شدَّة الْحساب وعظيم السُّؤَال عَنهُ ثمَّ لَا يَأْمَن من سخط الله فِي الْآخِرَة على ذَلِك أَن يحل بِهِ فَلَمَّا عقل عَن الله عز وَجل جَمِيع ذَلِك من نَفسه وتستر عَنهُ عَامَّة ذنُوب الْخلق وحقت عَلَيْهِم الْحجَّة بِدُونِ مَا وَجَبت من الله عز وَجل من أجل الْعلم الَّذِي استودعه والستر عَلَيْهِ لذنوبه وَمَا حببه إِلَى عباده لم يَأْمَن أَن يكون استدراجا لَهُ وَأَنه وكل بالخوف على نَفسه قبل غَيره وَأَنه لَا يَأْمَن لسالف ذنُوبه وتضييع شكر نعم ربه وعظيم مَا لزمَه من الْحجَّة وَأَن يخْتم لَهُ بِغَيْر دين الْإِسْلَام أَو بعظيم الذُّنُوب مَعَ الْإِيمَان فَلم تقع عينه على أحد وَلم يستمع بِهِ من الْمُسلمين إِلَّا خَافَ أَن ينجوا وَيهْلك هُوَ دونه يكسر قلبه من يرى من أهل الطَّاعَات وَيقطع عَلَيْهِ أَنه خير مِنْهُ ويتمنى أَن يكون مثله ويهيج عَلَيْهِ الْخَوْف من قلبه من رَآهُ دونه فِي الدّين يخَاف أَن يهْلك هُوَ دونه أَو يخْتم لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بأشر الْأَعْمَال لعَظيم حجَّة الْعلم وَجَمِيل السّتْر عَلَيْهِ وَلما أَمر بِهِ من خوف سوء الْخَوَاتِم الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا الأشقياء فَهُوَ متواضع للعباد كلهم لشدَّة ذلة الْخَوْف على نَفسه وعقل عَن الله عز وَجل مَا بَين من قدر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فعقل صفة الْآخِرَة بنعيمها وملكها وشرفها وعزها وعظيم قدر سكانها أَنَّهَا فِي جوَار الْمولى وَمَا وصف بِهِ سوء عَيْش الدُّنْيَا وضعة رفعتها عِنْده يَوْم يُحَاسب عباده وذل الْعَزِيز بهَا عِنْده فِي يَوْم يبْعَث خلقه وحقارة المتكبرين فِي عينه وصنعه بهم يَوْم النشور حَتَّى أَنهم ليحشرون فِي صور الذَّر دون جَمِيع الْعباد وعقل عَن الله تَعَالَى مَا أمره بِهِ وَأخْبر أَن الْفَقِير من اسْتغنى بالدنيا عَنْهَا وَمن يجازي بِمَا 112 حرمه من خفَّة الْحساب والتصاعد فِي معالي درجاته فَلَمَّا عقل ذَلِك كُله عَن ربه كَانَ الْفقر فِي الدُّنْيَا أحب إِلَيْهِ من الْغنى بهَا وَكَانَ التَّوَاضُع أحب إِلَيْهِ من الشّرف فِيهَا وَكَانَ الذل أحب إِلَيْهِ من الْعِزّ بهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مَسْأَلَة فِي الْعقل الْحجَّة حجتان عيان ظَاهر أَو خبر قاهر وَالْعقل مضمن بِالدَّلِيلِ وَالدَّلِيل مضمن بِالْعقلِ وَالْعقل هُوَ الْمُسْتَدلّ والعيان وَالْخَبَر هما عِلّة الِاسْتِدْلَال وَأَصله ومحال كَون الْفَرْع مَعَ عدم الأَصْل وَكَون الِاسْتِدْلَال مَعَ عدم الدَّلِيل فالعيان شَاهد يدل على غيب وَالْخَبَر يدل على صدق فَمن تنَاول الْفَرْع قبل إحكام الأَصْل سفه وَرب حق أَحَق من حق كمن عَفا وَمن اقْتصّ وكاقتضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الدّين سَاعَة مَحَله أَو تَركه قَلِيلا إحسانا إِلَيْهِ فقد أحسن فِي الطّلب فكم من حسن أحسن من حسن غَيره وقبيح أقبح من قَبِيح وَفرض أوجب من آخر وَفضل أفضل من فضل آخر وَالْحب والبغض إِذا أفرطا انقصا الِاعْتِدَال وأفسدا الْعقل وصورا الْبَاطِل فِي صُورَة الْحق فَأهل الشَّرّ لَا يفرقون بَين أئمتهم كَمَا لَا يفرقون بَين إمَامهمْ وَإِن الْحق فِي كل أَمر بَين وَالْبَاطِل فِي كل حَال داحض إِلَّا أَن كثيرا من النَّاس لَا يعرف وَجه مطلبه وَبَعْضهمْ يعرف بعضه ويجهل بعضه وَمِنْهُم من عرف ثمَّ نسي وَمِنْهُم من يعرف أَكْثَره وَلَا يعرف أسهل طرقه وَأقرب وَجهه فَجَمِيع الْحق فِي فنون الطَّاعَات وتحذير الْبَاطِل فِي مذاهبه إِذا جمع وَألف وَكَانَ أنشط لحفظه ويفهمه من كَانَ لَا ينشط لِأَن يطْلب عمله حَتَّى يجمعه والعالم بِهِ يُرِيد جمعه فِي بصيرته وَجمع كل مَذْهَب إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 خبر الْوَاحِد لمن كَانَ لَا يعرف إِلَّا بعضه وَيذكر النَّاس بِمَا قد علمه فنسيه وينبه المتهاون لما كَانَ قد اشْتغل عَن الْعِنَايَة بِالْقيامِ بِهِ وَيبين للزائغ عَن طَرِيق الرشد أَنه قد تَركه وَلَعَلَّ من نظر فِيهِ بالإعجاب بِرَأْيهِ أَن ينْقض مذاهبه إِذا فهم حسن الْعبارَة عَنهُ وإيضاح حججه وَنور بَيَانه يتَنَبَّه من رقدته ويفيق من سكرته لِأَن الْحق عَزِيز أَيْن كَانَ وَالْبَاطِل ذليل فِي كل أَوَان وَالْحجّة ظَاهِرَة بنورها على الشُّبْهَة وَلَيْسَ من تفرد بِكِتَاب يَقْرَؤُهُ وَحده متثبتا فِيهِ لَا يشْغلهُ عَنهُ سَبَب يقطعهُ كمن نَازع غَيره لِأَنَّهُ يعْتَرض فِي المناظرة آفَات كَثِيرَة من الْعجب بِالرَّأْيِ وَالَّذِي وَالَّذِي يمْنَع من الْفَهم الأنفة الَّتِي تمنع من الخضوع للحق وَحب الْغَلَبَة الَّذِي يبْعَث على الجدل والجزع من التخطئة الَّتِي تمنع من الإذعان بِالْإِقْرَارِ بِالصَّوَابِ فَلَمَّا كثرت آفَات المناظرة وَكَانَ التفرد بِقِرَاءَة الْكتاب الْمَجْمُوع فِيهِ والمؤلف فِيهِ حُدُود الْحق رَأَيْت أَن أصنفه مُبينًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأستشهد عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة أَو استنباطا بَينا أَو قِيَاسا إِذا عدم الْبَيَان بِالنَّصِّ فِيمَا يجوز فِيهِ الْقيَاس وَإِلَّا فالتسليم والأصون الْكَفّ عَن تكلّف مَا نهي عَنهُ مِمَّا يسع جَهله وَلَا يُؤَدِّي علمه إِلَى الْقُرْبَى بل ترك الْبَحْث عَنهُ هُوَ الْقُرْبَى والوسيلة إِلَى رضى الله عز وَجل وَلَا غناء بِالْعَبدِ عَن التفكير وَالنَّظَر وَالذكر ليكْثر اعْتِبَاره وَيزِيد فِي علمه ويعلو فِي الْفضل فَمن قل تفكره قل اعْتِبَاره وَمن قل اعْتِبَاره قل علمه وَمن قل علمه كثر جَهله وَبَان نَقصه وَلم يجد طعم الْبر وَلَا برد الْيَقِين وَلَا روح الْحِكْمَة وَمَا بلغ علم من درس الْعلم بِلِسَانِهِ وَحفظ حُرُوفه بِقَلْبِه وأضرب عَن النّظر والتذكر والتدبر لمعانيه وَطلب بَيَان حُدُوده مَا أقربه فِي حَيَاته من حَيَاة الْبَهَائِم الَّتِي لَا تعرف إِلَّا مَا باشرته بجوارحها لَكِن المتذكر النَّاظر فِيمَا يسمع المتدبر لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 علم المتفهم لما بِهِ أَمر الطَّالِب لنهاية حُدُود الْعلم الغائص على غامض الْإِصَابَة الْمُحكم لِلْأُصُولِ الرَّاد عَلَيْهَا الْفُرُوع هُوَ المفرق بَين مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ والمبصر لما يصلحه وَمَا يُفْسِدهُ الْقوي على عصيان طبائعه الْمُنَازعَة إِلَى مَا يهلكه والمخالف لشهواته الَّتِي ترديه عَارِف بعواقب الْأُمُور وَبِمَا يحدث فِي غابر الدهور 113 مِمَّا حدث مِنْهُ وهاب ربه الْمُؤثر لَذَّة عقله على لَذَّة هَوَاهُ لَذَّة الْحُكَمَاء الْعلمَاء فِي عُقُولهمْ وَلَذَّة الْجُهَّال والبهائم فِي شهواتهم وَأي سرُور يعدل سرُور الْعلم وروح الْيَقِين وعظيم الْمعرفَة وَكَثْرَة الصَّوَاب وَالظفر الَّذِي لَا يثبت وَلَا ينَال إِلَّا بِحسن النّظر وَطول التَّذَكُّر وتكرار الْفِكر والتقديم فِي التَّكْبِير فبذلك ظفر بِالْعلمِ بِاللَّه والتعرض لولايته وَطلب الجاه عِنْده وَالتَّسْلِيم لأَمره والتوكل على كِفَايَته وبذل الْقَلِيل من الدُّنْيَا للثَّواب الجزيل لِأَنَّهُ الرب الْكَرِيم من طلبه وجده وَمن استكفاه كَفاهُ وَمن اتَّقَاهُ وَقَاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَمن تقرب إِلَيْهِ أسْرع إِلَيْهِ بالإجابة يَدْعُوك إِن أَدْبَرت ويقبلك إِن رجعت ويحمدك على حظك ويثني عَلَيْك بِمَا وهب لَك ويحضك على النّظر لنَفسك إِنَّمَا يمرضك ليصحك إِن عقلت ويفقرك ليغنيك ويمنعك ليعطيك يمنعك الْقَلِيل الفاني لترضى فيعطيك الجزيل الْبَاقِي ويميتك ليحييك ويفنيك ليبقيك ويداويك بالأمراض لتبرأ من سقم الذُّنُوب ويغمك بالأوجاع ليغسلك من درن الْخَطَايَا ويعركك بالبلاء ليلين قَلْبك لطلب الْفَوْز ابتدأك بِالنعَم قبل أَن تسأله وثناها بَعْدَمَا ضيعت شكره وأدامها بإحسانه مَعَ دوَام الْإِعْرَاض مِنْك عَنهُ فَكيف تعرف إحسانه وتتبين إساءتك وتبصر نجاتك وتتضح لَك أَسبَاب عيشك إِلَّا بِالنّظرِ بعقلك فِيمَا قَالَ والتذكر والمجاهدة لنَفسك إِلَّا لتعرف مَا يرضيه وتجانب مَا يسخطه ويباعد مِنْهُ لِأَنَّهُ قد جعل فِيك غريزة الْعقل وَمن عَلَيْك بالمعرفة وابتلاك بِمَا فِي طباعك مِمَّا يهيج الْغَضَب والرضى وَالْبخل بِالسُّكُوتِ لِأَن الصمت أعجمي وفاعله كالأخرس لَا يعرف مَعْنَاهُ إِلَّا صَاحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وَالْقَوْل فصيح مُبين يعرفهُ سامعه وَمن بلغه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لم يعرف القَوْل الْحق بِالصَّمْتِ وَلَا جَمِيع الْأَعْمَال بِالْحَقِّ إِلَّا بالْقَوْل بل لم يعرف الصمت عَن الْبَاطِل إِلَّا بالْقَوْل لما عرفه من الْكتاب وَإِنَّمَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّمْتِ لتارك القَوْل بِالْخَيرِ فَقَالَ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو ليصمت وَلم يعرف الْأَدَاء وَالْبَيَان عَن جَمِيع الْإِحْسَان إِلَّا بالْقَوْل آخر كتاب مائية الْعقل وَمَعْنَاهُ لِلْحَارِثِ بن أَسد المحاسبي وَالْحَمْد لله حق حَمده وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238