الكتاب: رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر المؤلف: مرعي بن يوسف بن أبى بكر بن أحمد الكرمى المقدسي الحنبلى (المتوفى: 1033هـ) المحقق: أسعد محمد المغربي الناشر: دار حراء - مكة المكرمة - السعودية الطبعة: الأولى، 1410هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر مرعي الكرمي الكتاب: رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر المؤلف: مرعي بن يوسف بن أبى بكر بن أحمد الكرمى المقدسي الحنبلى (المتوفى: 1033هـ) المحقق: أسعد محمد المغربي الناشر: دار حراء - مكة المكرمة - السعودية الطبعة: الأولى، 1410هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه ثقتي قَالَ العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مرعي بن يُوسُف الْحَنْبَلِيّ الْمَقْدِسِي الْحَمد لله ذِي الْحلم وَالْفضل وَالْحكم والفصل {الَّذِي خلق فسوى وَالَّذِي قدر فهدى} الحكم الْعدْل {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} وَلَا يسمع فِي حبه العذل وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الصَّادِق المصدوق الْمبلغ عَن الله الْفَرْض وَالنَّفْل وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين تركُوا الْهوى وتمسكوا بِصَحِيح النَّقْل وَلم يتبعوا مُجَرّد الآراء وَالْعقل وَبعد فقد وَقعت مذاكرة فِي بعض مسَائِل الْقدر فِي بعض الْمجَالِس فَذكر لي أَن بعض دراويش متصوفة الْفُقَرَاء الَّذين وَقَعُوا فِي الْإِبَاحَة والآثام وطووا بِسَاط الشَّرْع وَرفعُوا قَوَاعِد الْأَحْكَام وسووا بعقولهم بَين الْحَلَال وَالْحرَام كَانَ لَا يَصُوم وَلَا يُصَلِّي منهمكا على الْمُحرمَات كالخمور وَنَحْوهَا من اللَّذَّات فآعترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَأجَاب بِمَا مضمونه أَنه قد رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف وَأَن هَذَا مُقَدّر عَليّ وَأَنا لَا أقدر على رفع مَا قدره الله عَليّ وأستدل أَيْضا بإحتجاج آدم على مُوسَى حَيْثُ قَالَ لمُوسَى أفتلومني على أَمر قد قدره الله عَليّ قبل أَن أخلق فحج آدم مُوسَى فَرفع فِي ذَلِك فَتْوَى للعلامة أبي السُّعُود الْمُفْتِي صَاحب التَّفْسِير تغمده الله تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ والرضوان وحف بأرجاء قَبره الرّوح وَالريحَان فَأجَاب رَحمَه الله على عَادَة الْمُفْتِينَ بالزجر والصمع وَالتَّشْدِيد والردع لمن يفعل مثل ذَلِك لكنه لم يفصح بِبَيَان دفع الشُّبْهَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الْوَاقِعَة لمن يفعل ذَلِك فَإِن مثل هَذَا مُشكل يحْتَاج لجواب يدْفع شُبْهَة من قَامَت عِنْده مثل هَذِه الشُّبْهَة وأشكاله من خَمْسَة أوجه الأول حَيْثُ أَن الْمُقدر كَائِن لَا محَالة وَأَنه لَا يكون إِلَّا مَا قدره الله وَسبق علمه بِهِ فَمَا فَائِدَة الْعَمَل وَهل لَهُ تَأْثِير على دفع الْمَقْدُور وَمَا الدَّلِيل على ذَلِك الثَّانِي أَن آدم قد احْتج على مُوسَى بِالْقدرِ وَقَالَ فِي الحَدِيث (فحج آدم مُوسَى) أَي غَلبه فِي الْحجَّة مَعَ أَن الْعلمَاء قاطبة يَقُولُونَ نؤمن بِالْقدرِ وَلَا نحتج بِهِ وَإِلَّا فَلَو سَاغَ الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ لَكَانَ إِبْلِيس أَيْضا يحْتَج بِهِ فِرْعَوْن أَيْضا يحْتَج بِهِ على مُوسَى وَكَذَلِكَ سَائِر العصاة وَذَلِكَ بَاطِل وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِك فَكيف آدم احْتج بِهِ وَسلم لَهُ احتجاجه وَمَا وَجه ذَلِك الثَّالِث مَا الدَّلِيل على إبِْطَال الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ وذمه مَعَ أَن آدم أحتج بِهِ الرَّابِع إِنَّه حَيْثُ لَا يقبل الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ وَأَنه لَا يكون إِلَّا مَا يُريدهُ الله وَقدره وَسبق علمه بِهِ فَيلْزم أَن الله تَعَالَى يُكَلف العَبْد مَا لَا يُطيق ثمَّ يُعَاقِبهُ على مَا لَا طَاقَة لَهُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ ظلم مَعَ أَن الله تَعَالَى أَيْضا هُوَ الْخَالِق لذَلِك وَمَا الْحِكْمَة فِي تَكْلِيف الْمُكَلّفين وعقاب العاصين الْخَامِس حَيْثُ إِن الْقدر سَابق وَإِن الله هُوَ الْخَالِق لكل شَيْء رُبمَا لزم عَلَيْهِ إفحام الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَانْقِطَاع حجتهم لِأَن النَّبِي إِذا قَالَ للْكَافِرِ آمن بِي وصدقني يَقُول لَهُ قل للَّذي بَعثك يخلق فِي الْإِيمَان وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ فأؤمن وَإِلَّا فَكيف أُؤْمِن وَلَا قدرَة لي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خلق فِي الْكفْر وَأَنا لَا أقدر على دفع مَا خلقه فِي هَذَا وَفِي الْحَقِيقَة أَن مثل هَذَا بِحَسب الظَّاهِر مُشكل يحْتَاج لأجوبة قَاطِعَة تدفع شُبُهَات من قَامَت عِنْده وَإِلَّا فَأَي غَرَض فِي الرَّمْي إِلَى غير غَرَض وَهل المُرَاد فِي مقَام النزاع وَالِاسْتِدْلَال إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 إِيرَاد مَا يقطع النزاع والجدال من الْآيَات الْبَينَات والدلائل الواضحات فَإِنَّهَا إِذا أُقِيمَت إنقطع النزاع وَقُرِئَ {الْآن حصحص الْحق} وَلَا دفاع وَإِلَّا فللخصم أَن يَقُول هَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة عَن الدَّلِيل فَلَا أرجع إِلَيْهَا وَلَا أعْتَمد عَلَيْهَا لِأَن هَذِه أُمُور اعتقادية فَلَا أرجع فِيهَا إِلَّا للأدلة اليقينية من النقلية والعقلية وَإِلَّا فَهِيَ دَعوه مُجَرّدَة مُقَابلَة بِالْمَنْعِ وَالرَّدّ وَعدم الْقبُول وَقد أَحْبَبْت أَن أذكر فِي الْجَواب مَا يفتح بِهِ الفتاح الْوَهَّاب وسميته رفع الشُّبْهَة وَالْغرر عَمَّن يحْتَج على فعل الْمعاصِي بِالْقدرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مُقَدّمَة اعْلَم أيدك الله تَعَالَى أَن كثيرا مِمَّن ينتسب إِلَى التصوف قد صدرت مِنْهُم مقالات شنيعة واعتقادات فظيعة فِي هَذَا الزَّمَان وَقبل هَذَا الزَّمَان فَمنهمْ من يَقُول إِن الله تَعَالَى يحل فِي قلب الْعَارِف وَيتَكَلَّم بِلِسَانِهِ كَمَا يتَكَلَّم الجني على لِسَان المصروع وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا السِّرّ لذِي باح بِهِ الحلاج وَغَيره وَهَذَا عِنْدهم من الْأَسْرَار الَّتِي يكتمها العارفون وَلَا يبوحون بهَا إِلَّا لخواصهم وَمِنْهُم من يَقُول إِن الحلاج إِنَّمَا قتل لِأَنَّهُ باح بالسر وينشد (من باح بالسر كَانَ الْقَتْل سيمته ... بَين الرِّجَال وَلَا يُؤْخَذ لَهُ ثأر) وَمِنْهُم من يَجْعَل الْقُبُور الجميلة مظَاهر الْجمال الإلهي وَمِنْهُم من يَقُول بحلوله تَعَالَى فِي الصُّور الجميلة وَيَقُول إِنَّه يُشَاهد فِي الْأَمْرَد معبودة أَو صِفَات معبوده أَو مظَاهر جماله وَمِنْهُم من يسْجد للأمرد قَالَ شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية ثمَّ من هَؤُلَاءِ من يَقُول بالحلول والاتحاد الْعَام لكنه يتعبد بمظاهر الْجمال لما فِي ذَلِك من اللَّذَّة لَهُ فيتخذ إلهه هَوَاهُ قَالَ وَهَذَا مَوْجُود فِي كثير من المنتسبين إِلَى الْفِقْه والتصوف وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه يرى الله مُطلقًا وَلَا يعين الصُّورَة الجميلة بل يَقُولُونَ إِنَّهُم يرونه فِي صور مُخْتَلفَة وَكثير من جهال أهل الْحَال يَقُولُونَ إِنَّهُم يرَوْنَ الله عيَانًا فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُم عرج بهم إِلَى السَّمَاء وَنَحْو ذَلِك من المقالات الشنيعة وَأهل السّنة متفقون على أَن الله تَعَالَى لَا يرَاهُ أحد بِعَيْنِه فِي الدُّنْيَا لَا نَبِي وَلَا غير نَبِي وَلم يتنازع النَّاس فِي ذَلِك إِلَّا فِي نَبينَا خَاصَّة وَأما القَوْل بِإِبَاحَة وَحل الْمُحرمَات فَهَذَا وَاقع من كثير مِنْهُم بل وَمن غَيرهم وَهَذَا فِي الأَصْل إِنَّمَا هُوَ قَول أَئِمَّة الباطنية القرامطة وَكثير من الفلاسفة الَّذين يضْرب بهم الْمثل فَيُقَال فلَان يسْتَحل دمي كأستحلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفلاسفة مَحْظُورَات الشَّرَائِع ثمَّ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِك من ينتسب للتصوف من متصوفة الْمَلَاحِدَة قَالَ الإِمَام ابْن النقاش فِي تَفْسِيره وأنقص الْمَرَاتِب عِنْد هَؤُلَاءِ مرتبَة أهل الشَّرِيعَة وهم الْفُقَهَاء الواقفون مَعَ الْحَلَال وَالْحرَام وَأَعْلَى مِنْهُم مرتبَة الْمُتَكَلّم على طَريقَة الْجَهْمِية والمعتزلة ثمَّ مرتبَة الفيلسوف ثمَّ مرتبَة الْمُحَقق والمحقق فِي عرفهم هُوَ الْقَائِل بوحدة الْوُجُود ويسمون الْعقل الْعلم ويسمون النَّفس الفلكية اللَّوْح وَيدعونَ أَن ذَلِك هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ فِي كَلَام الله وَرَسُوله وَلِهَذَا يَدعِي أحدهم أَنه مطلع على اللَّوْح الْمَحْفُوظ قَالَ ابْن تَيْمِية وَقد يَقُولُونَ الْوُجُود وَاحِد ثمَّ يجْعَلُونَ المردان مظَاهر الْجمال فيجعلون هَذَا الشّرك الْأَعْظَم طَرِيقا إِلَى الْوُصُول إِلَى إستحلال الْفَوَاحِش بل إِلَى كل محرم كَمَا قيل لبَعض مشايخهم إِذا كَانَ قَوْلكُم بِأَن الْوُجُود وَاحِد هُوَ الْحق فَمَا الْفرق بَين الْأَجْنَبِيَّة وَبَين أُمِّي وأختي وبنتي حَتَّى يكون هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام فَقَالَ الْجَمِيع عندنَا سَوَاء وَلَكِن هَؤُلَاءِ المحجوبون قَالُوا حرَام فَقُلْنَا حرَام عَلَيْكُم قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ يُنكر على من يُنكر الْمُنكر وَيَقُول هَذَا مُقَدّر عَلَيْكُم وَيَقُول بعض مشايخهم أَنا كَافِر بِرَبّ يعْصى وَيَقُول لَو قتلت سبعين نَبيا مَا كنت مخطئا وَيَقُول شَاعِرهمْ (أَصبَحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كُله طاعات) وَمِنْهُم من يَقُول إِن العَبْد إِذا بلغ غَايَة الْمحبَّة وَصفا قلبه وأختار الْإِيمَان على الْكفْر سقط عَنهُ الْأَمر وَالنَّهْي وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه تسْقط عَنهُ الْعِبَادَات الظَّاهِرَة وَتَكون عباداته التفكر وكل هَؤُلَاءِ بمعزل عَن الْإِسْلَام وهم كَمَا قيل (وَمَا انتسبوا إِلَى الْإِسْلَام إِلَّا ... لصون دِمَائِهِمْ أَن لَا تسالا) (فَيَأْتُونَ الْمعاصِي فِي نشاط ... ويأتون الصَّلَاة وهم كسَالَى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قَالَ ابْن تَيْمِية وَمِنْهُم طَائِفَة ظنت أَن كل مَا خلق الله فقد أحبه وَهَؤُلَاء قد يخرجُون إِلَى مَذَاهِب الْإِبَاحَة أَيْضا فَيَقُولُونَ إِنَّه تَعَالَى يحب الْكفْر والفسوق والعصيان ويرضي ذَلِك وَأَن الْعَارِف إِذا شهد هَذَا الحكم لم يستقبح سَيِّئَة لشهوده القيومية الْعَامَّة وَخلق الرب لكل شَيْء وَيَقُول شَاعِرهمْ (مَا الْأَمر إِلَّا نسق وَاحِد ... مَا فِيهِ من حمد وَلَا ذمّ) قَالَ وَهَذَا غلط عَظِيم فَإِن الْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الْأمة صَرِيح بِأَن الله يحب أنبياءه وأولياءه وَمَا أَمر بِهِ وَلَا يحب الشَّيَاطِين والكافرين وَلَا مَا نهى عَنهُ قَالَ وَمن المدعين للمعرفة والحقيقة والفناء الَّذين يطْلبُونَ أَن يكون لَهُم مُرَاد مَعَ الْحق بل يُرِيدُونَ مَا يُرِيد الْحق وَمِنْهُم من يَقُول إِن الْكَمَال أَن تغنى عَن إرادتك وَتبقى مَعَ إِرَادَة رَبك وَلَيْسَت الطَّاعَات عِنْدهم سَبَب للثَّواب وَلَا الْمعاصِي سَببا للعقاب والعارف عِنْدهم من يكون مشاهدا سبق الْحق بِحكمِهِ وَعلمه أَي يشْهد إِنَّه علم مَا سَيكون وَحكم بِهِ أَي أَرَادَهُ وقضاه وَكتبه وَكَثِيرًا من أهل هَذَا الْمَذْهَب يتركون الْأَسْبَاب الدُّنْيَوِيَّة ويجعلون وجود السَّبَب كَعَدَمِهِ وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي قوم لَا يعْملُونَ بالتكسب وَيَقُولُونَ نَحن متوكلون هَؤُلَاءِ مبتدعة وَمِنْهُم قوم زنادقة يتركون الْأَسْبَاب الأخروية وَيَقُولُونَ إِن سبق الْعلم أننا سعداء فَنحْن سعداء وَإِن سبق أننا أشقياء فنخن أشقياء فَلَا فَائِدَة فِي الْعَمَل فيتركون الْعَمَل بِنَاء على هَذَا الأَصْل الْفَاسِد إِذا تقرر هَذَا فَالْجَوَاب عَن الأول وَهُوَ أَنه حَيْثُ الْمُقدر كَائِن لَا محاله فَمَا فَائِدَة الْعَمَل وَهل لَهُ تَأْثِير فِي رفع الْمَقْدُور إِلَى آخِره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الْجَواب الأول فَنَقُول لَا ريب أَن الْمَقَادِير سَابِقَة وَقد جرى الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى الْأَبَد قَالَ إِمَام النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم إِن الله تَعَالَى قدر مقادير الْخلق وَمَا يكون من الْأَشْيَاء قبل أَن يكون فِي الْأَزَل وَعلم سُبْحَانَهُ أَنَّهَا ستقع فِي أَوْقَات مَعْلُومَة عِنْده وعَلى صِفَات مَخْصُوصَة فَهِيَ تقع على حسب مَا قدرهَا وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية إِن علم الله تَعَالَى السَّابِق مُحِيط بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا محو فِيهِ وَلَا تَغْيِير وَلَا زِيَادَة وَلَا نقص فَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَأما مَا جرى بِهِ الْقَلَم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهَل يكون فِيهِ محو وَإِثْبَات على قَوْلَيْنِ الْعلمَاء قَالَ وَأما الصُّحُف الَّتِي بيد الْمَلَائِكَة فَيحصل فِيهَا المحو وَالْإِثْبَات انْتهى وَقد بسطت الْكَلَام على هَذَا فِي كتابي إتحاف ذَوي الْأَلْبَاب فِي قَوْله تَعَالَى يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كتب الله مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ الف سنة وعرشه على المَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَفِي حَدِيث الإِمَام أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة وَحَدِيث أَحْمد وَمُسلم عَن ابْن عمر وكل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس وَفِي الْقُرْآن الْعَزِيز {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} وَفِيه أَيْضا {قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا} والآيات وَالْأَحَادِيث فِي مثل هَذَا كَثِيرَة وَالْمَقْصُود هُنَا أَن من شهد هَذَا المشهد فشهوده حق لَكِن وَرَاء هَذَا المشهد مشْهد آخر وَهُوَ أَن يشْهد الْمَقَادِير مقدرَة بأسبابها لِأَنَّهُ يشهدها مُجَرّدَة عَن الْأَسْبَاب فَإِنَّهُ إِن شهد ذَلِك كَانَ شُهُوده نَاقِصا أعمى وينشأ لَهُ الْغَلَط من أَن الْأَعْمَال لَا تَنْفَع وَأَن الْأَسْبَاب لَا تفِيد وَهُوَ قَول مَبْنِيّ على أصل فَاسد وَلَا ريب أَن هَذَا الأَصْل الْفَاسِد الَّذِي وَقع فِيهِ بعض المتصوفة وَمن التحقق بهم هُوَ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وأئمة الدّين ومخالف صَرِيح الْمَعْقُول ومخالف للحس والمشاهدة فَأن الله تَعَالَى أجْرى عَادَته الإلهية فِي هَذَا الْعَالم على أَسبَاب ومسببات تناط بِتِلْكَ الْأَسْبَاب وينسب أَيْضا وُقُوعهَا إِلَيْهَا نظرا للصورة الوجودية وَإِن كَانَ الْكل فِي الْحَقِيقَة بِقَضَائِهِ وَقدره بأعتبار الْحَقِيقَة الإيجادبة وَقد سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْقَاط الْأَسْبَاب نظرا إِلَى الْقَضَاء وَالْقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 السَّابِق فَرد عَلَيْهِ السَّلَام على ذَلِك كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد علم مَقْعَده من الْجنَّة ومقعده من النَّار قَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نَدع الْعَمَل ونتكل على الْكتاب فَقَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَفِي صَحِيح مُسلم فِي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه قَالَ مَا من نفس منفوسة إِلَّا وَقد كتب الله مَكَانهَا فِي الْجنَّة وَالنَّار إِلَّا وَقد كتب شقية أَو سعيدة قَالَ فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله أَفلا نمكث على كتَابنَا وَنَدع الْعَمَل فَقَالَ من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسيصير إِلَى عمل أهل السَّعَادَة وَمن كَانَ من أهل الشقاوة فسيصير إِلَى عمل أهل الشقاوة اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وروى الإِمَام أَبُو حنيفَة عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن مُصعب بن سعد بن أبي وَقاص قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من نفس إِلَّا وَقد كتب الله مخرجها ومدخلها وَمَا هِيَ لاقية فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار فَفِيمَ الْعَمَل يَا رَسُول الله فَقَالَ اعْمَلُوا كل ميسر لما خلق لَهُ أما أهل الشَّقَاء فييسرون لعمل أهل الشَّقَاء وَأما أهل السَّعَادَة فييسرون لعمل أهل السَّعَادَة فَقَالَ الْأنْصَارِيّ الْآن حق الْعَمَل وَفِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ أَرَأَيْت أدوية نتداوى بهَا ورقى نسترقي بهَا وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام هِيَ من قدر الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَلما رَجَعَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عَن دُخُول دمشق من أجل الطَّاعُون قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ إِذْ ذَاك أَمِير الشَّام أفرارا من قدر الله فَقَالَ عمر لَو غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله فَهَذَا كَلَام رَسُول الله وَكَلَام صَاحبه صَرِيح أَن السَّبَب والمسبب بِقدر الله تَعَالَى وَقَالَ الله تَعَالَى {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} والآيات فِي هَذَا كَثِيرَة وَقَالَ الإِمَام بن حزم رَحمَه الله فِي الْملَل والنحل صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصْحِيح الطِّبّ وَالْأَمر بالعلاج وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تداووا فَإِن الله تَعَالَى لم يخلق دَاء إِلَّا خلق لَهُ دَوَاء إِلَّا السأم والسأم الْمَوْت قَالَ فأعترض قوم فَقَالُوا قد سبق علم الله عز وَجل بنهاية أجل الْمَرْء وَمُدَّة صِحَّته وَمُدَّة سقمه فَأَي معنى للعلاج قَالَ فَقُلْنَا لَهُم نسألكم هَذَا السُّؤَال نَفسه فِي جَمِيع مَا يتَصَرَّف فِيهِ النَّاس من الْأكل وَالشرب واللباس لطرد الْبرد وَالْحر وَالسَّعْي فِي المعاش بالحرث وَالْغَرْس وَالْقِيَام على الْمَاشِيَة والتحرف بِالتِّجَارَة والصناعة ونقول لَهُم قد سبق علم الله تَعَالَى بنهاية أجل الْمَرْء وَمُدَّة صِحَّته وَمُدَّة سقمه فَأَي معنى لكل مَا ذكرنَا فَلَا جَوَاب لَهُم إِلَّا أَن يَقُولُوا إِن علم الله تَعَالَى قد سبق أَيْضا بِمَا يكون من كل ذَلِك وبأنها أَسبَاب إِلَى بُلُوغ نِهَايَة الْعُمر الْمقدرَة فَنَقُول لَهُم وَهَكَذَا الطِّبّ قد سبق فِي علم الله تَعَالَى أَن هَذَا العليل يتداوى وَأَن تداويه سَبَب إِلَى بُلُوغ نِهَايَة أَجله فالعلل مقدرَة والزمانة مقدرَة وَالْمَوْت مُقَدّر والعلاج مُقَدّر وَلَا مرد لحكم الله ونافذ علمه فِي كل شَيْء من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَقَالَ الْعَلامَة ابْن الْقيم بعد تَقْرِيره نفع الدُّعَاء وَالْأَمر بِهِ وَدفعه للبلاء وَقد أعترض قوم بِأَن الْمَدْعُو بِهِ إِن كَانَ قد قدر لم يكن بُد من وُقُوعه دَعَا بِهِ العَبْد أَو لم يدع لِأَن كل مُقَدّر كَائِن كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَات الصَّرِيحَة وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَإِن لم يكن قدر لم يَقع سَأَلَهُ العَبْد أَو لم يسْأَله فظنت طَائِفَة صِحَة هَذَا الْكَلَام فَتركت الدُّعَاء وَقَالُوا لَا فَائِدَة فِيهِ قَالَ وَهَؤُلَاء مَعَ فرط جهلهم وضلالتهم متناقضون فَإِن مَذْهَبهم يُوجب تَعْطِيل جَمِيع الْأَسْبَاب فَيُقَال لأَحَدهم إِن كَانَ الشِّبَع والري قد قدرا لَك فلابد من وقوعهما أكلت أَو لم تَأْكُل شربت أَو لم تشرب فَلَا حَاجَة للْأَكْل وَالشرب وَإِن كَانَ الْوَلَد قد قدر لَك فَلَا بُد مِنْهُ وطِئت الزَّوْجَة وَالْأمة أَو لم تطَأ وَأَن لم يقدر لم يكن فَلَا حَاجَة للتزويج والتسري فَهَل يَقُول هَذَا عَاقل أَو آدَمِيّ بل الْحَيَوَان إِلَيْهِم مفطور على مُبَاشرَة الْأَسْبَاب الَّتِي بهَا قوامه ونفعه وأجتناب الَّتِي بهَا ضَرَره فالحيوان أَعقل وَأفهم من هَؤُلَاءِ الَّذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا قَالَ وعَلى هَذَا فالدعاء من أقوى الْأَسْبَاب فَإِذا قدر وُقُوع الْمَدْعُو بِهِ الدُّعَاء لم يَصح أَن يُقَال لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء كَمَا لَا يُقَال لَا فَائِدَة فِي الْأكل وَالشرب وَجَمِيع الحركات والأعمال قَالَ ابْن تَيْمِية وَالنَّاس قد اخْتلفُوا فِي الدُّعَاء المستعقب بِقَضَاء الْحَاجَات فَزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أَنه لَا فَائِدَة فِيهِ أصلا فَإِن الْمَشِيئَة الإلهية والأسباب العلوية إِمَّا أَن تكون قد أقتضت وجود الْمَطْلُوب وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَة إِلَى الدُّعَاء أَو لَا تكون اقتضته حِينَئِذٍ فَلَا ينفع الدُّعَاء وَقَالَ قوم مِمَّن يتَكَلَّم فِي الْعلم بل الدُّعَاء عَلامَة وَدلَالَة على حُصُول الْمَطْلُوب وَجعلُوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدَّلِيل بالمدلول لَا ارتباط السَّبَب بالمسبب قَالَ وَالصَّوَاب مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور فِي أَن الدُّعَاء سَبَب لحُصُول الْخَيْر الْمَطْلُوب كَسَائِر الْأَسْبَاب الْمقدرَة والمشروعة وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خير ألهمه دعاءه والاستعانة بِهِ وَجعل استعانته ودعاءه سَببا للخير الَّذِي قَضَاهُ لَهُ كَمَا أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أَن يشْبع عبد أَو يرويهِ ألهمه أَن يَأْكُل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَيشْرب وَإِذا أَرَادَ أَن يَتُوب على عبد ألهمه أَن يَتُوب هـ فيتوب عَلَيْهِ وَإِذا أَرَادَ أَن يرحمه أَو يدْخلهُ الْجنَّة يسره لعمل أهل الْجنَّة والمشيئة الإلهية اقْتَضَت وجود هَذِه الْخيرَات بأسبابها الْمقدرَة لَهَا كَمَا اقْتَضَت دُخُول الْجنَّة بِالْإِيمَان وَدخُول النَّار بالْكفْر وَحُصُول الْوَلَد بِالْوَطْءِ وَالْعلم بالتعلم لَكِن لَيْسَ كل مَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان سَببا يكون سَببا كَمَا قد بسطت الْكَلَام على هَذَا فِي كتابي شِفَاء الصُّدُور فِي زِيَارَة الْمشَاهد والقبور وَالْمَقْصُود هُنَا إِنَّمَا هُوَ بَيَان أَن الطَّاعَات سَبَب للثَّواب والمعاصي سَبَب للعقاب خلافًا للمتصوفة الإباحية كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل إرْسَال الرُّسُل سَببا لهداية الْمُؤمنِينَ وَإِقَامَة حجَّة الله على الْكَافرين وَلَوْلَا إرْسَال الرُّسُل مَا حصلت هِدَايَة الْمُؤمن وَلَا قَامَت حجَّة الله على كَافِر وَالْحَاصِل أَن الْأَسْبَاب وتأثيرها بِمَشِيئَة الله مِمَّا لَا يُنكر وَإِن كَانَ الله تَعَالَى هُوَ خَالق السَّبَب والمسبب لَا سِيمَا وَقد دلّ الْعقل وَالنَّقْل وَالْفطر وتجارب الْأُمَم على إختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أَن التَّقَرُّب إِلَى رب الأرباب وَطلب مرضاته وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه من أعظم الْأَسْبَاب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الْأَسْبَاب الجالبة لكل شَرّ فَمَا أستجلبت نعم الله واستدفعت نقمة بِمثل طَاعَته والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى خلقه وَقد رتب الله سُبْحَانَهُ حُصُول الْخَيْر وَالشَّر قي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي كِتَابه الْعَزِيز على الْأَعْمَال تَرْتِيب الْجَزَاء على الشَّرْط وَالْعلَّة على الْمَعْلُول والمسبب على السَّبَب فَقَالَ تَعَالَى {إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم} وَقَالَ {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم} وَقَالَ {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} الْآيَة وَقَالَ (من يعْمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 سوءا يجز بِهِ) وَقَالَ {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} وَبِالْجُمْلَةِ فالقرآن من أَوله إِلَى آخِره صَرِيح قي تَرْتِيب الْجَزَاء بِالْخَيرِ وَالشَّر وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مترتبة على الْأَسْبَاب والأعمال وَمن فقه قي هَذِه الْمَسْأَلَة وتأملها حق التَّأَمُّل انْتفع بهَا غَايَة النَّفْع وَلم يتكل على الْقدر جهلا مِنْهُ وعجزا أَو تفريطا وإضاعة فَيكون توكله عَجزا وعجزه توكلا بل الْفَقِيه الْعَارِف هُوَ الَّذِي يرد الْقدر بِالْقدرِ ويجلب الْقدر بِالْقدرِ ويعارض الْقدر بِالْقدرِ بل لَا يُمكن الْإِنْسَان أَن يعِيش إِلَّا بذلك فَإِن الْجُوع والعطش وَالْبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هِيَ من الْقدر والخلق كلهم ساعون فِي دفع هَذَا الْقدر بِالْقدرِ وَهَكَذَا من وَفقه الله تَعَالَى والهمه رشده فَإِنَّهُ يدْفع قدر الْعقُوبَة الأخروية بِقدر التَّوْبَة وَالْإِيمَان والأعمال الصَّالِحَة فَإِن وزان الْقدر الْمخوف فِي الْآخِرَة وزان الْقدر الْمخوف فِي الدُّنْيَا فري الدَّاريْنِ وَاحِد وحكمته وَاحِدَة لَا يُنَاقض بَعْضهَا بَعْضًا وَلَا يبطل بَعْضهَا بَعْضًا وَهَذِه الْمَسْأَلَة من أشرق الْمسَائِل لمن عرف قدرهَا ورعاها حق رعايتها فَثَبت بِمَا تقرر أَن الله تَعَالَى جعل للسعادة والشقاوة أَسبَاب وَأَنه سُبْحَانَهُ هُوَ مسبب الْأَسْبَاب وخالق كل شئ كَمَا أقتضت ذَلِك حكمته ومشيئته وَأَن الْأَسْبَاب لَا بُد مِنْهَا فِي وجود المسببات بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى لَا يحدث المسببات ويشاؤها إِلَّا بِوُجُود الْأَسْبَاب لَكِن الْأَسْبَاب كَمَا قَالَ فِيهِ الإِمَام الْغَزالِيّ والحافظ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا الِالْتِفَات إِلَى الْأَسْبَاب شرك فِي التَّوْحِيد والإعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي الشَّرْع والتوكل معنى يلتئم بِهِ معنى التَّوْحِيد وَالْعقل وَالشَّرْع فالمؤمن المتَوَكل يُبَاشر الْأَسْبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا خُذُوا حذركُمْ} وَقَالَ {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا بِمَعْنى أَن لَا يطمئن إِلَيْهَا وَلَا يَثِق بهَا وَلَا يرجوها وَلَا يخافها فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُود سَبَب يسْتَقلّ بِحكم بل كل سَبَب فَهُوَ مفتقر إِلَى أُمُور أخر تضم إِلَيْهِ كالإخلاص وَالْقَبُول مثلا وَله مَوضِع وعوائق تمنع مُوجبَة وَمَا ثمَّ سَبَب مُسْتَقل بِنَفسِهِ إِلَّا مَشِيئَة الله وَحده فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَمَا سبق بِهِ علمه وَحكمه فَهُوَ حق وَاقع وَقد علم وَحكم أَن الشَّيْء الْفُلَانِيّ يَقع بِالسَّبَبِ الْفُلَانِيّ فَمن شهد وُقُوع الْوَلَد وحصوله الْمُقدر بِسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الْوَطْء فشهوده كَامِل وَمن شهد حُصُول ولد لَهُ بِلَا وَطْء فشهوده نَاقص أعمى نور الله تَعَالَى بصيرتنا ورزقنا الْإِيمَان بِمَا قَالَه هُوَ وَرَسُوله آمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الْجَواب الثَّانِي أما الْجَواب عَن الثَّانِي وَهُوَ أَن أَدَم قد احْتج على مُوسَى بِالْقدرِ إِلَى آخِره فَنَقُول نعم قد ورد ذَلِك فِي الحَدِيث الصَّحِيح لَكِن لَيْسَ هُوَ على معنى مَا يتوهمه الإباحية المحتجون على فعل الْمعاصِي بِالْقدرِ كَمَا سَيَأْتِي واحتجاج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام قد رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا عَن أبي هُرَيْرَة وروى أَيْضا بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ احْتج آدم ومُوسَى وَفِي لفظ أَن مُوسَى قَالَ يَا رب أرنا آدم الَّذِي أخرجنَا من الْجنَّة بخطيئته فَقَالَ مُوسَى يَا آدم أَنْت أَبُو الْبشر خلقك الله بِيَدِهِ وَنفخ فِيك فِي روحه وأسجد لَك مَلَائكَته لماذا أخرجتنا ونفسك من الْجنَّة فَقَالَ لَهُ آدم أَنْت مُوسَى الَّذِي اصطفاك الله بِكَلَامِهِ وَكتب لَك التَّوْرَاة بِيَدِهِ فبكم تَجِد فِيهَا مَكْتُوبًا وَعصى آدم ربه فغوى قبل أَن أخلق قَالَ بِأَرْبَعِينَ سنة وَفِي لفظ قَالَ أفتلومني على أَمر قد قدره الله عَليّ قبل أَن أخلق بِأَرْبَعِينَ سنة قَالَ فحج آدم مُوسَى قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية فَهَذَا الحَدِيث ظن فِيهِ طوائف أَن آدم احْتج بِالْقدرِ على الذَّنب وَأَنه حج مُوسَى بذلك فطائفة من هَؤُلَاءِ يدعونَ التَّحْقِيق والعرفان يحتجون بِالْقدرِ على الذُّنُوب مستدلين بِهَذَا الحَدِيث وَطَائِفَة يَقُولُونَ الِاحْتِجَاج بِهِ سَائِغ فِي الْآخِرَة لَا فِي الدُّنْيَا وَطَائِفَة يَقُولُونَ هُوَ حجَّة للخاصة المشاهدين للقدر دون الْعَامَّة وَطَائِفَة كذبت بِهِ كالجبائي وَغَيره وَطَائِفَة تأولته تأويلات فَاسِدَة مثل قَول بَعضهم إِنَّمَا حجَّة لِأَنَّهُ كَانَ تَابَ وَقَول آخر كَانَ أَبَاهُ والأبن لَا يلوم أَبَاهُ وَقَول آخر كَانَ الذَّنب فِي شَرِيعَة واللوم فِي أُخْرَى قَالَ وَهَذَا كُله تعريج عَن مَقْصُود الحَدِيث وَحَاصِل مَا يُؤْخَذ من كَلَام ابْن تَيْمِية وَمن ماهر الحَدِيث أَن آدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إِنَّمَا حج مُوسَى لكَونه كَانَ قد تَابَ من الذَّنب الصُّورِي واستسلم للمصيبة الَّتِي لحقت الذُّرِّيَّة بِسَبَب أكله الْمُقدر عَلَيْهِ فَالْحَدِيث تضمن التَّسْلِيم للقدر عِنْد وُقُوع المصائب وَعدم لوم المذنب التائب وَأَن الْمُؤمن مَأْمُور أَن يرجع إِلَى الْقدر عِنْد المصائب لَا عِنْد الذُّنُوب والمعايب فيصبر على المصائب ويستغفر من الذُّنُوب كَمَا قَالَ تَعَالَى فاصبر إِن الله حق واستغفر لذنبك وَقَالَ تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} قَالَت طَائِفَة من السّلف كأبن مَسْعُود هُوَ الرجل تصيبه الْمُصِيبَة فَيعلم أَنَّهَا من عِنْد الله فيرضى وَيسلم وَقَالَ غير وَاحِد من السّلف لَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه وَمَا أخطأه لم يكن ليصيبه فالإيمان بِالْقدرِ وَالرِّضَا بِمَا قدره الله من المصائب وَالتَّسْلِيم لذَلِك هُوَ من حَقِيقَة الْإِيمَان وَأما الذُّنُوب فَلَيْسَ لأحد أَن يحْتَج على فعلهَا بِقدر الله بل عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَلهَا وَإِذا فعلهَا فَعَلَيهِ أَن يَتُوب مِنْهَا كَمَا فعل آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ بعض السّلف اثْنَان أذنبا آدم وإبليس فآدم تَابَ فَتَابَ الله عَلَيْهِ واجتباه وإبليس أصر على مَعْصِيَته وأحتج بِالْقدرِ فلعن وطرد فَمن تَابَ من ذَنبه أشبه بِآدَم وَمن أصر وأحتج بِالْقدرِ أشبه إِبْلِيس وَمن تَابَ لَا يحسن لومه على ذَنبه الَّذِي صدر مِنْهُ وَكَيف يلام على سيئات كلهَا حَسَنَات لقَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} وَمن لم يتب يلام وَلَا يحسن مِنْهُ أَن يحْتَج على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 إصراره بِالْقدرِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْقدر حجَّة لإبليس وَفرْعَوْن وَسَائِر الْكفَّار وَأَيْضًا فأدم ومُوسَى أعلم بِاللَّه من أَن يحْتَج أَحدهمَا على فعل الْمعْصِيَة بِالْقدرِ ويقبله الآخر إِذْ لَا تلبس لآدَم بِمَعْصِيَة حَال الِاحْتِجَاج وَأَيْضًا فَلَو كَانَ ذَلِك مَقْبُولًا لَكَانَ لإبليس الْحجَّة بذلك أَيْضا وَكَانَ لفرعون الْحجَّة على مُوسَى بذلك أَيْضا وَكَذَلِكَ سَائِر الْكفَّار وَأعلم أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يلم آدم على ذَنبه الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَإِن التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ ومُوسَى أعلم بِاللَّه من أَن يلوم تائب فَكيف بِأَبِيهِ آدم الَّذِي تَابَ الله عَلَيْهِ واجتباه وَإِنَّمَا لامه لأجل مَا لحق الذُّرِّيَّة من الْمُصِيبَة المستمرة والمصيبة تَقْتَضِي نوع من الْجزع يَقْتَضِي لوم من كَانَ سَببهَا كَمَا يلام من أوقع أَصْحَابه فِي مشقة وَلِهَذَا لم يقل لَهُ مُوسَى لماذا أكلت من الشَّجَرَة وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ لماذا أخرجتنا ونفسك فِي الْجنَّة وَهَذَا اللَّفْظ قد رُوِيَ فِي بعض طرق الحَدِيث وَإِن لم يكن فِي جَمِيعهَا فَهُوَ مَبْنِيّ لما وَقعت عَلَيْهِ الْمَلَامَة فَتَأمل فَظهر بِمَا تقرر أَن احتجاج آدم على مُوسَى بِالْقدرِ وَأَنه حج مُوسَى بِهِ لَيْسَ هُوَ على معنى مَا يتوهمه الإباحية والزنادقة بل على الْمَعْنى الْمُتَقَدّم الظَّاهِر لكل مُسلم مَسْلَك الْجَواب الثَّالِث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَأما الْجَواب الثَّالِث وَهُوَ مَا الدَّلِيل على إبِْطَال الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ وذمه مَعَ أَن آدم احْتج بِهِ فَنَقُول أما دَعْوَى أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام احْتج على فعل الْمعاصِي بِالْقدرِ فَهُوَ قَول بَاطِل وافتراء لما تقدم والاحتجاج بِالْقدرِ على فعل الذُّنُوب والمعاصي بَاطِل بِاتِّفَاق أهل الْملَل وَذَوي الْعُقُول وَهُوَ مِمَّا يعلم بُطْلَانه بضرورة الْعقل فَإِن الظَّالِم لغيره لَو احْتج بِالْقدرِ لاحتج ظالمه أَيْضا بِالْقدرِ فَإِن كَانَ الْقدر حجَّة لهَذَا فَهُوَ حجَّة لهَذَا قَالَ ابْن تَيْمِية فِي رده على الرافضة والإباحية أَن الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ حجَّة بَاطِلَة داحضة بِاتِّفَاق كل ذِي عقل وَدين من جَمِيع العاملين والمحتج بِهِ لَا يقبل من غَيره مثل هَذِه الْحجَّة إِذا احْتج بهَا فِي ظلم ظلمه إِيَّاه أَو ترك مَا عَلَيْهِ من حُقُوقه بل يطْلب مِنْهُ مَاله عَلَيْهِ ويعاقبه على ذَلِك لِأَن الْقُلُوب تعلم بِالضَّرُورَةِ أَن هَذِه شُبْهَة بَاطِلَة وَلِهَذَا لَا يقبلهَا أحد من أحد عِنْد التَّحْقِيق وَإِنَّمَا يحْتَج بِالْقدرِ على القبائح والمظالم من هُوَ متناقض فِي قَوْله مُتبع لهواه كَمَا قَالَ بعض الْعلمَاء أَنْت عِنْد الطَّاعَة قدري وَعند الْمعْصِيَة جبري أَي مَذْهَب وَافق هَوَاك تمذهبت بِهِ وَلَو كَانَ الْقدر حجَّة لفاعل الْفَوَاحِش والمظالم لم يحسن أَن يلوم أحد أحدآ وَلَا يُعَاقب أحد أحدآ وَكَانَ للْإنْسَان أَن يفعل فِي دم غَيره وَمَاله وَأَهله مَا يشتهيه من الْمَظَالِم والقبائح ويحتج بِأَن ذَلِك مُقَدّر عَليّ ثمَّ أصل الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ إِنَّمَا هُوَ قَول الْمُشْركين الَّذين أتبعوا أهواءهم بِغَيْر علم وَلِهَذَا لما قَالَ الْمُشْركُونَ كَمَا حكى الله عَنْهُم وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء قَالَ الله تَعَالَى قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تحرصون فَإِن هَؤُلَاءِ الْمُشْركين يعلمُونَ بفطرتهم وعقولهم أَن هَذِه الْحجَّة داحضة بَاطِلَة فَإِن أحدهم لَو ظلم الآخر فِي مَاله أَو فجر بأمرأته أَو قتل وَلَده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أَو كَانَ مصرا على الظُّلم فنهوه عَن ذَلِك فَقَالَ لَو شَاءَ الله لم أفعل هَذَا لم يقبلُوا مِنْهُ هَذِه الْحجَّة وَلَا هُوَ يقبلهَا من غَيره وَإِنَّمَا يحْتَج بِهِ المحتج رفعا للوم بِلَا وَجه وَلِهَذَا قَالَ الله لَهُم {قل هَل عنْدكُمْ من علم} بإن هَذَا الشّرك وَالتَّحْرِيم من أَمر الله وَأَنه مصلحَة يَنْبَغِي فعله إِن تتبعون إِلَّا الظَّن فَإِنَّهُ لَا علم عنْدكُمْ بذلك إِن تظنون ذَلِك إِلَّا ظنا وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون تحزرون وتفترون فعمدتكم فِي نفس الْأَمر ظنكم وخرصكم وَاتِّبَاع أهوائكم لَا كَون الله شَاءَ ذَلِك وَقدره فَإِنَّهُ أَمر غَائِب عَنَّا وَلِأَن مُجَرّد الْمَشِيئَة وَالْقدر لَا يكون عُمْدَة لأحد فِي الْفِعْل وَلَا حجَّة بِهِ لأحد على أحد إِذْ النَّاس كلهم مشتركون فِي الْقدر فَلَو كَانَ هَذَا حجَّة لم يحصل فرق بَين الْعَادِل والظالم والصادق والكاذب والعالم وَالْجَاهِل وَالْبر والفاجر وَلم يكن فرق بَين مَا يصلح النَّاس فِي الْأَعْمَال وَمَا يفسدهم وَمَا يَنْفَعهُمْ ويضرهم وَهَؤُلَاء الْمُشْركين إِنَّمَا يحتجون بِالْقدرِ على ترك مَا أرسل الله بِهِ رسله فِي توحيده وَالْإِيمَان بِهِ وَلَو أحتج بِهِ بَعضهم على بعض فِي إِسْقَاط حُقُوقه وَمُخَالفَة أمره لم يقبله مِنْهُ بل كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ المحتجون بِالْقدرِ يذم بَعضهم بَعْضًا ويعادي بَعضهم بَعْضًا وَيُقَاتل بَعضهم بَعْضًا على فعل مَا يرونه تركا لحقهم أَو ظلما لَهُم فَلَمَّا جَاءَهُم الرَّسُول يَدعُوهُم إِلَى حق الله على عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَطَاعَة أمره وَمُخَالفَة أهوائهم أحتجوا بِالْقدرِ على ذَلِك اتبَاعا للظن وَمَا تهوى الْأَنْفس فَتبين أَن أصل مقَالَة الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ إِنَّمَا هُوَ قَول أهل الْجَاهِلِيَّة الْمُشْركين الَّذين لَا علم عِنْدهم إِلَّا إتباع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس فَمن أحتج بِهِ فقد الْتحق بهم فِي الْجَهْل والضلال وَأَتْبَاع الْهوى وَلِهَذَا تَجِد المحتجين بِهِ والمستندين إِلَيْهِ من التصوفه والفقراء وَمن الْتحق بهم من الْعَامَّة والجند وَالْفُقَهَاء وَغَيرهم إِنَّمَا يحتجون بِهِ عِنْد إتباع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس فَإِذا أَمر أحدهم بِمَا يجب عَلَيْهِ أَو نهي عَمَّا حرمه الله تَعَالَى تعلل بِالْقدرِ وَقَالَ حَتَّى يقدر الله لي ذَلِك أَو يقدرني الله على ذَلِك أَو قضى الله على بذلك فَأَي حِيلَة فِي دَفعه وَهُوَ متلبس بِهِ وَلَو كَانَ مَعَهم علم وَهدى لم يحتجوا بِالْقدرِ أصلا وَهَذَا أصل شرِيف من أعتنى بِهِ عرف منشأ الضلال والغي لكثير من النَّاس وَلِهَذَا تَجِد الْمَشَايِخ الصَّالِحين من الصوفيه المتبعين للْعلم وَالْهدى لم يحتجوا بِالْقدرِ أصلا وَهَذَا أصل شرِيف من أعتنى بِهِ عرف منشأ الضلال والغي لكثير من النَّاس وَلِهَذَا تَجِد الْمَشَايِخ الصَّالِحين من الصُّوفِيَّة المتبعين للْعلم وَالْهدى كثيرا مَا يوصون أتباعهم بِالْعلمِ وَالشَّرْع لِأَنَّهُ كثير مَا تعرض لَهُم إرادات فِي أَشْيَاء ومحبة لَهَا فيتبعون فِيهَا أهواءهم ظانين أَنَّهَا دين الله وَلَيْسَ مَعَهم إِلَّا الظَّن والذوق والوجد الَّذِي يرجع إِلَى محبَّة وإرادتها فيحتجون تَارَة بِالْقدرِ على فعل الْمعاصِي أعظم بِدعَة وأشنع قولا وأقبح طَريقَة من المكذبين بِالْقدرِ وَتارَة بِالظَّنِّ والخرص وهم فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هم متبعون أهوائهم بِغَيْر هدى من الله وَلِهَذَا كَانَ المحتجون بِالْقدرِ من الْمُعْتَزلَة والشيعة والرافضة فَإِن هَؤُلَاءِ بتعظيمهم الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد خير من الَّذين يرَوْنَ الْقدر حجَّة لمن ترك الْمَأْمُور وَفعل الْمَحْظُور فَلَا ريب أَن هَؤُلَاءِ شَرّ من الْمُعْتَزلَة والشيعة الَّذين يقرونَ بِالْأَمر وَالنَّهْي والوعد وَفعل الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات وَإِن لم يَقُولُوا إِن الله خلق أَفعَال الْعباد وَلَا يقدر على ذَلِك وَلَا شَاءَ الْمعاصِي فَإِنَّهُم قد قصدُوا تَعْظِيم الْأَمر وتنزيه الله عَن الظُّلم وَإِقَامَة حجَّة الله على خلقه بِخِلَاف هَؤُلَاءِ المحتجين على الْمعاصِي فَإِنَّهُم وَإِن أثبتوا قدرته تَعَالَى ومشيئته وخلقه لكِنهمْ عارضوا بذلك أمره وَنَهْيه ووعده ووعيده وَقَوْلهمْ يَقْتَضِي إفحام الرُّسُل وَأَن لَا حجَّة لله على خلقه وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ قل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة) بإرسال الرُّسُل وإنزال الْكتب فَلَا حجَّة عَلَيْهِ لأحد بعد ذَلِك ثمَّ أثبت تَعَالَى الْقدر بقوله بعد ذَلِك {فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} فَأثْبت سُبْحَانَهُ الْحجَّة الشَّرْعِيَّة وَبَين الْمَشِيئَة الْقَدَرِيَّة وَكِلَاهُمَا حق وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة النَّحْل وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين فَبين سُبْحَانَهُ أَن هَذَا الْكَلَام تَكْذِيب للرسل فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِحجَّة بل معاندة ومكابرة وتعريج عَن الْحق فالقدرية وَنَحْوهم مِمَّن لم يقل إِن الله تَعَالَى خَالق لأفعال الْعباد وَإِن أشبهوا الْمَجُوس وَإِنَّهُم مجوس هَذِه الْأمة لَكِن هَؤُلَاءِ المحتجون بِالْقدرِ أنجس مِنْهُم لأَنهم أشبهوا الْمُشْركين المكذبين للرسل الَّذين قَالُوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَأَيْضًا فقد قَالَ ابْن تَيْمِية إِنَّه كَانَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة جمَاعَة من هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّة وَأما المحتجون بِالْقدرِ فَلَا يعرف لَهُم طَائِفَة من طوائف الْمُسلمين مَعْرُوفَة وَإِنَّمَا كَثُرُوا فِي الْمُتَأَخِّرين وَسموا هَذَا حَقِيقَة وَجعلُوا الْحَقِيقَة تعَارض الشَّرِيعَة وَلم يميزوا بَين الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة الَّتِي تَتَضَمَّن تَحْقِيق أَحْوَال الْقُلُوب كالإخلاص وَالصَّبْر وَبَين الْحَقِيقَة الكونية الْقَدَرِيَّة الَّتِي تؤمن بهَا وَلَا تحتج بهَا على الْمعاصِي وَفِيهِمْ من يَقُول إِن الْعَارِف لَو أفنى فِي شُهُود تَوْحِيد الربوبية لم يستحسن حسنه وَلم يستقبح سَيِّئَة وَيَقُول بَعضهم من شهد الْإِرَادَة سقط عَنهُ الْأَمر وَالنَّهْي وَيَقُول بَعضهم إِن الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا سقط عَنهُ التَّكْلِيف لِأَنَّهُ شهد الْإِرَادَة إِلَى غير ذَلِك من كَلَامهم الْقَبِيح وَبِالْجُمْلَةِ فالباري سُبْحَانَهُ قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أرسل الرُّسُل قاطبة بتحصيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها والمحتجون بِالْقدرِ على فعل الْمعاصِي إنعكس الْأَمر فِي حَقهم فصاروا يتبعُون الْمَفَاسِد ويعطلون الْمصَالح فهم شَرّ النَّاس وَلَا بُد لَهُم مَعَ ذَلِك من أُمُور يجتلبونها وَأُمُور يجتنبونها وَأَن يتدافعوا جَمِيعًا إِلَى مَا يضرهم من الظُّلم فَلَو ظلم بَعضهم بَعْضًا فِي دَمه وَمَاله وَعرضه وَطلب الْمَظْلُوم عُقُوبَة الظَّالِم لم يقبل أحد من ذَوي الْعُقُول احتجاجه بِالْقدرِ وَلَو قَالَ أعذروني فَإِن هَذَا مُقَدّر عَليّ لقالوا لَهُ أَنْت لَو فعل بك هَذَا ماحتج عَلَيْك ظالمك بِالْقدرِ لم يقبل مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمكن صَلَاح الْخلق وَلَا بقاؤهم فِي الدُّنْيَا إِذا مكنوا كل أحد أَن يفعل مَا يَشَاء من مفاسدهم ويحتج بِالْقدرِ لِأَن قبُول هَذِه الْحجَّة من الْمُفْسد يُوجب الْفساد الَّذِي لَا صَلَاح مَعَه وَإِذا كَانَ الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ مردودا فِي فطر جَمِيع النَّاس وعقولهم فَلَا يحْتَج بِهِ إِلَّا مُتبع لهواه فَاسق وَإِن اسْتحلَّ ذَلِك فَهُوَ زنديق ملحد مارق نسْأَل الله تَعَالَى الْعَافِيَة والسلامة فِي الدّين آمين قلت وَمن هُنَا يعلم جَوَاب مَا كنت أوردته فِي كتابي (الْبُرْهَان فِي تَفْسِير الْقُرْآن) من أَنه مُشكل علينا الْجَواب لإبليس لَو قَالَ إِن خَالق الْأَشْيَاء خلقني كَمَا شَاءَ وأوجدني لما شَاءَ واستعملني فِيمَا شَاءَ وَقدر عَليّ فِيمَا شَاءَ فَلم أطق أَن أَشَاء إِلَّا مَا شَاءَ فَمَا تجاوزت مَا شَاءَ وَلَا فعلت غير مَا شَاءَ وَلَو شَاءَ لردني إِلَى مَا شَاءَ وهداني لما شَاءَ أَن أكون كَمَا شَاءَ {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} يَا هَذَا سبق لي قبل كَون الأكوان وَكَانَ من الْكَافرين فَمَا بَرحت فِي الْأَزَل كَافِرًا وَلم أزل فَإِذا كَانَت كَاف كفري سبقت كوني فَمن يكون على الْقَضَاء عوني وَمن يُطيق من الْقدر صوني وَمَا حِيلَة من ناصيته فِي قَبْضَة من قهر وَقَلبه بيد الْقدر وَأمره رَاجع إِلَى الْقدَم وَقد قضي الْأَمر وجف الْقَلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَيعلم أَيْضا الْجَواب لكَافِر قَالَ يَا رب إِنَّك علمت مني الْكفْر وَأَنا لَا أقدر على قلب علمك جهلا وَإنَّك أخْبرت عَن وجود هَذَا الْكفْر فِي وَأَن لَا أقدر على أَن أجعَل خبرك الصدْق كَاذِبًا وَإنَّك خلقت فِي الْكفْر وَأَنا لَا أقدر على إذالة فعلك فَهَذِهِ كلهَا احتجاجات واهية بَاطِلَة وَأَن كَانَت بِحَسب الظَّاهِر هائلة لما تقدم تَقْرِيره فَمن المستقر فِي فطر النَّاس وعقولهم أَنه من طلب مِنْهُ فعل من الْأَفْعَال الاختيارية لم يكن لَهُ أَن يحْتَج بِمثل هَذَا وَمن طلب دينا لَهُ على آخر لم يكن لَهُ أَن يَقُول لَا أُعْطِيك حَتَّى يخلق الله فِي الاعطاء أَو يقدره لي وَمن أَمر عَبده بِأَمْر لم يكن لَهُ أَن يَقُول لَا أَفعلهُ حَتَّى يخلق الله فِي فعله أَو الْقُدْرَة على ذَلِك وَهَذَا أَمر جبل عَلَيْهِ النَّاس مسلمهم وكافرهم مقرهم بِالْقدرِ ومنكرهم وَلَا يخْطر ببال أحد مِنْهُم الِاعْتِرَاض بِمثل هَذَا وَلَا الِاحْتِجَاج بِهِ وَكَذَلِكَ الِاحْتِجَاج للطعام وَالشرَاب واللباس فَإِنَّهُ لَا يَقُول لَا آكل وَلَا أشْرب وَلَا ألبس حَتَّى يخلق الله فِي ذَلِك أَو يقدر لي بل يجْتَهد فِي مُبَاشرَة ذَلِك وَالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعينهُ عَلَيْهِ فَتَأمل وَلَا تغتر بزخارف الْكَلَام وَإِلَّا لارتفع الِاخْتِيَار وَثَبت القَوْل بالجبر المنابذ لما جَاءَت بِعْ الشَّرَائِع وَمَا أحد فِي الْخلق يعدو علم الله السَّابِق فِيهِ وَلَيْسَ فِي علم الله الْأُمُور قبل وُقُوعهَا إِجْبَار كَمَا توهمه كثير من النَّاس وَالله تَعَالَى أعلم الْجَواب الرَّابِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الْجَواب الرَّابِع وَأما الْجَواب عَن الرَّابِع وَهُوَ أَنه حَيْثُ لَا يقبل الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ وَأَنه لَا يكون إِلَّا مَا يُريدهُ الله فَإِنَّهُ يلْزم أَن الله تَعَالَى يُكَلف العَبْد مَا لَا يُطيق ثمَّ يُعَاقِبهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظلم مَعَ أَن الله تَعَالَى هُوَ الْخَالِق لذَلِك إِلَى آخِره فَنَقُول هَذِه مَسْأَلَة يكثر فِيهَا الْخَوْض ويتحير فِيهَا الْعقل ويتخبط فِيهَا الْفَهم وتحتاج إِلَى كَلَام كثير وَقد اخْتلف أَقْوَال الطوائف فِي مثل هَذَا فمذهب أهل الْحق أَن الرب سُبْحَانَهُ مُنْفَرد يخلق الْمَخْلُوقَات وَلَا خَالق سواهُ وَلَا مبدع غَيره وكل حَادث فَإِنَّهُ محدثه وَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِن جَمِيع أَفعَال الْعباد من حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأعمالهم لم يخلقها الله ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة خلقهَا الَّذين فَعَلُوهَا دون الله وَقَالَ آخَرُونَ لَيست مخلوقة وَلكنهَا أَفعَال مَوْجُودَة لَا خَالق لَهَا وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ فعل الطبيعة وَقَالَ الَّذين زَعَمُوا أَن الْعباد خلقوها أَن وُقُوع الْأَفْعَال من العَبْد على وفْق قَصده وداعيته إقداما وإحجاما دَلِيل على أَنه موجدها ومخترعها قَالُوا وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ التكاليف كلهَا وَاقعَة على خلاف الِاسْتِطَاعَة وتكليفها بالمحال وَكَانَ لَا يحسن مدح ولاذم وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَهُوَ خلاف مُقْتَضى الْعقل وَالشَّرْع وَالْعرْف وَنقل عَن الأمامية هَل أَفعَال الْعباد خلق لَهُم أَو خلق لله على قَوْلَيْنِ وَنقل الْأَشْعَرِيّ عَن الزيدية أَنهم فرقتان فرقة تزْعم أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة لله خلقهَا وأبدعها وَفرْقَة تزْعم أَنَّهَا مخلوقة لله وَأَنَّهَا كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وفعلوها وَمذهب الْجُمْهُور أَن جَمِيع أَنْوَاع الطَّاعَات والمعاصي وَالْكفْر والفسوق وَاقعَة بِقَضَاء الله وَقدره ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة أَن العَبْد لَا قدرَة لَهُ الْبَتَّةَ وهم الجبرية وَمِنْهُم من بَالغ فَزعم أَن حَرَكَة العَبْد بِمَنْزِلَة حَرَكَة الْأَشْجَار مَعَ الرِّيَاح وَقَالَت طَائِفَة العَبْد غير مجبور على أَفعاله بل هُوَ قَادر عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مكتسب لَهَا وَمعنى كَونه مكتسبا أَنه قَادر على فعله وَإِن كَانَت قدرته لَا تَأْثِير لَهَا فِي ذَلِك قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا قَول بعض المثبتة للقدر كالأشعري وَمن وَافقه من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد حَيْثُ لَا يثبتون فِي الْمَخْلُوقَات قوى وَلَا طبائع وَيَقُولُونَ إِن الله فعل عِنْدهَا لَا بهَا وَيَقُولُونَ أَن قدرَة العَبْد لَا تَأْثِير لَهَا فِي الْفِعْل وَيَقُول الْأَشْعَرِيّ إِن الله فَاعل فعل العَبْد وَإِن عمل العَبْد لَيْسَ فعلا للْعَبد بل كسبا لَهُ قَالَ وَهَذَا قَول من يُنكر الْأَسْبَاب والقوى الَّتِي فِي الْأَجْسَام وينكر تَأْثِير الْقُدْرَة الَّتِي للْعَبد الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل وَيَقُول أَنه لَا أثر لقدرة العَبْد أصلا فِي فعله إِلَّا أَن الْأَشْعَرِيّ يثبت للْعَبد قدرَة محدثه واختيارا وَيَقُول أَن الْفِعْل كسب للْعَبد لكنه يَقُول لَا تَأْثِير لقدرة العَبْد فِي إِيجَاد الْمَقْدُور وَهُوَ مقَام دَقِيق حَتَّى قَالَ بَعضهم إِن هَذَا الْكسْب الَّذِي أثْبته الْأَشْعَرِيّ غير مَعْقُول وَيلْزم أَن لَا يكون فرق بَين الْقَادِر وَالْعَاجِز وَإِن أثبت قدرَة وَقَالَ إِنَّهَا مقترنة بِالْكَسْبِ قيل لَهُ لم تثبت فرقا معقولا بَين مَا أثْبته من الْكسْب ونفيته من الْفِعْل وَلَا بَين الْقَادِر وَالْعَاجِز إِذْ مُجَرّد الاقتران لَا أختصاص لَهُ بِالْقُدْرَةِ فَإِن قدرَة العَبْد تقارن حَيَاته وَعلمه وإرادته وَغير ذَلِك من صِفَاته فَإِذا لم يكن للقدرة تَأْثِير إِلَّا مُجَرّد الاقتران فَلَا فرق بَين الْقُدْرَة وَغَيرهَا وَمن هَذِه الطَّائِفَة من يَقُول إِن قدرَة العَبْد مُؤثرَة فِي صفة الْفِعْل لَا فِي أَصله كَمَا يَقُول القَاضِي أَبُو بكر وَمن وَافقه فَإِنَّهُ إِن أثبت تَأْثِيرا بِدُونِ خلق الرب لزم أَن يكون بعض الْحَوَادِث لم يخلقه الله وَإِن جعل ذَلِك مُعَلّقا بِخلق الرب فَلَا فرق بَين الأَصْل وَالصّفة قيل وَمذهب الْأَشْعَرِيّ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من مَذْهَب الجبرية الْجَهْمِية فَإِنَّهُ يَحْكِي عَن الجهم بن صَفْوَان وغلاه أَتْبَاعه أَنهم سلبوا العَبْد قدرته وأختياره حَتَّى قَالَ بَعضهم إِن حركته كحركة الْأَشْجَار بالرياح قَالَ ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 تَيْمِية إِن الجهم كَانَ يَقُول لَا أثر لقدرة العَبْد أصلا فِي فعله وَكَانَ يثبت مَشِيئَة الله وينكر أَن يكون لَهُ حِكْمَة رَحْمَة وينكر أَن يكون للْعَبد فعل أَو قدرَة مُؤثرَة قَالَ وَحكى عَنهُ أَنه كَانَ يخرج إِلَى الجذمى وَيَقُول أرْحم الرَّاحِمِينَ يفعل هَذَا إنكارا لِأَن يكون لَهُ رَحْمَة يَتَّصِف بهَا سُبْحَانَهُ زعما مِنْهُ أَنه لَيْسَ إِلَّا مَشِيئَة مَحْضَة لَا اخْتِصَاص لَهَا بحكمة بل يرجع أحد المتماثلين بِلَا مُرَجّح قَالَ ابْن تَيْمِية وَجُمْهُور أهل السّنة المثبتة للقدر من جَمِيع الطوائف يَقُولُونَ إِن العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة وَإِن لَهُ قدرَة حَقِيقَة واستطاعة حَقِيقَة وَلَا يُنكرُونَ تَأْثِير الْأَسْبَاب الطبيعية بل يقرونَ بِمَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل من أَن الله يخلق السَّحَاب بالرياح وَينزل المَاء بالسحاب وينبت النَّبَات بِالْمَاءِ وَلَا يَقُولُونَ أَن القوى والطبائع الْمَوْجُودَة فِي الْمَخْلُوقَات لَا تَأْثِير لَهَا بل يقرونَ بِأَن لَهَا أثر لفظا وَمعنى لَكِن يَقُولُونَ هَذَا التَّأْثِير هُوَ تَأْثِير الْأَسْبَاب فِي مسبباتها وَالله تَعَالَى خَالق السَّبَب والمسبب وَمَعَ أَنه خَالق السَّبَب فَلَا بُد للسبب من سَبَب آخر يُشَارِكهُ ولابد من معَارض يمانعه فَلَا يتم اثره إِلَّا مَعَ خلق الله لَهُ بِأَن يخلق الله السَّبَب الآخر ويزيل الْمَوَانِع فالمسببات حِينَئِذٍ يجب وجودهَا عِنْد وجود أَسبَابهَا بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى يحدثها حِينَئِذٍ ويشاء وجودهَا وَقَالَ فِي مَوضِع آخر الْأَعْمَال والأقوال والطاعات والمعاصي هِيَ فِي العَبْد بِمَعْنى أَنَّهَا قَائِمَة بِهِ وَحَاصِله بمشيئته وَقدرته وَهُوَ المتصف بهَا والمتحرك بهَا الَّذِي يعود حكمهَا عَلَيْهِ وَهِي من الله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه خلقهَا قَائِمَة بِالْعَبدِ وَجعلهَا عملا لَهُ وكسبا كَمَا يخلق المسببات بأسبابها فَهِيَ من الله مخلوقة لَهُ وَمن العَبْد صفه قَائِمَة بِهِ وَاقعَة بقدرته وَكَسبه كَمَا إِذا قُلْنَا هَذِه الثَّمَرَة من الشَّجَرَة وَهَذَا الزَّرْع من الأَرْض بِمَعْنى أَنه حدث مِنْهَا وَمن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بِمَعْنى أَنه خلقه مِنْهَا لم يكن بَينهمَا تنَاقض قَالَ فالحوادث تُضَاف إِلَى خَالِقهَا بأعتبار وَإِلَى اسبابها بأعتبار كَمَا قَالَ تَعَالَى {هَذَا من عمل الشَّيْطَان} وَقَالَ {وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان} مَعَ قَوْله {قل كل من عِنْد الله} وَأخْبر تَعَالَى أَن الْعباد يَفْعَلُونَ ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويتقون ويصدقون ويكذبون وَقَالَ فِي مَوضِع آخر إِن أَئِمَّة أهل السّنة يَقُولُونَ إِن الله خَالق أَفعَال الْعباد كَمَا أَن الله خَالق كل شَيْء وَإنَّهُ تَعَالَى خَالق الْأَشْيَاء بالأسباب وَإنَّهُ خلق للْعَبد قدرَة بهَا يكون فعله وَإِن العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة فَقَوْلهم فِي خلق فعل العَبْد بإرادته وَقدرته كَقَوْلِهِم فِي خلق سَائِر الْحَوَادِث بأسبابها وَقد دلّت الدَّلَائِل اليقينية على أَن كل حَادث فَالله خالقه وَفعل العَبْد من جملَة الْحَوَادِث وكل مُمكن يقبل الْوُجُود والعدم فَإِن شَاءَ الله كَانَ وَإِن لم يَشَأْ لم يكن وَفعل العَبْد فِي جملَة الممكنات قَالَ وَجُمْهُور الْمُسلمين وَجُمْهُور طوائفهم على هَذَا القَوْل الْوسط الَّذِي لَيْسَ هُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَلَا قَول جهم بن صَفْوَان وَأَتْبَاعه الجبرية فَمن قَالَ إنو شَيْئا من الْحَوَادِث أَفعَال الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس لم يخلقها فقد خَالف الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع السّلف والأدلة الْعَقْلِيَّة وَلِهَذَا قَالَ بعض السّلف من قَالَ أَن كَلَام الْآدَمِيّين وأفعال الْعباد غير مخلوقة فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يَقُول إِن سَمَاء الله وأرضه غير مخلوقة وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْل محققي أهل السّنة إِن الله تَعَالَى خلق قدرَة العَبْد وإرادته وَفعله وَيَقُولُونَ إِن العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة ومحدث لفعله وَالله سُبْحَانَهُ جعله فَاعِلا لَهُ مُحدثا لَهُ قَالَ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله أثبت تَعَالَى بذلك مَشِيئَة العَبْد وَأخْبر أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بِمَشِيئَة الرب وَهَذَا صَرِيح قَول أهل السّنة فِي إِثْبَات مَشِيئَة العَبْد وَأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بِمَشِيئَة الرب قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا قَول جَمَاهِير أهل السّنة من جَمِيع الطوائف وَهُوَ قَول كثير من أَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ كَأبي إِسْحَاق الاسقرائيني وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيرهمَا فَيَقُولُونَ العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة وَله قدرَة وَاخْتِيَار وَقدرته مُؤثرَة فِي مقدورها كَمَا تُؤثر القوى والطبائع والأسباب كَمَا دلّ على ذَلِك الشَّرْع وَالْعقل قَالَ تَعَالَى {فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات} وَقَالَ {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} وَقَالَ يهي بِهِ كثيرا وَمثل هَذَا كثير فِي الْكتاب وَالسّنة يخبر تَعَالَى أَنه يحدث الْحَوَادِث بالأسباب وَكَذَلِكَ دلّ الْكتاب وَالسّنة على إِثْبَات القوى والطبائع للحيوان وَغَيره كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَالَ {هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة} فَهَؤُلَاءِ يثبتون للْعَبد قدرَة وَيَقُولُونَ أَن تأثيرها فِي مقدورها كتأثير سَائِر الْأَسْبَاب فِي مسبباتها على مَا تقدم قَرِيبا وَأما الْفرق بَين الْأَفْعَال الاختيارية الْوَاقِعَة عَن قصد وَالْأَفْعَال الاضطرارية كحركة النبض والنرتعش وَالْوَاقِع من شَاهِق فَهُوَ أَمر اضطراري لَا يُنَازع فِيهِ أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين الَّذين لَهُم لِسَان صدق فِي الدّين هَذَا وَقد صَار الامام فِي آخر عمره إِلَى أَن الْقُدْرَة الْحَادِثَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تُؤثر فِي أصل إِيجَاد الْفِعْل كَمَا ذهبت إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة إِلَّا أَنه قَالَ إِن العَبْد إِنَّمَا يوقعه على أقدار قدرهَا الله تَعَالَى كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن تَيْمِية قَالَ الامام وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الْجَامِع لمحاسن الْمذَاهب فَإِن الْقُدْرَة إِذا لم تُؤثر من وَجه الْبَتَّةَ لم يحسن التَّكْلِيف وَلَا تَخْصِيص فعل مَا بِثَوَاب وَلَا عِقَاب كَمَا ألزمته الْمُعْتَزلَة للأشعري وَمن قَالَ إِن العَبْد لَا يُوقع إِلَّا مَا قدر الله لَهُ وَمَا شَاءَ أَن يوقعه لم يلْزمه مَا لزم تامعتزلة من مُخَالفَة الْإِجْمَاع وَهُوَ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَلَا المحزور اللَّازِم من تَقْدِير إِلَهَيْنِ قَالَ ابْن التلمساني وَمَا ذكره لَا ينجية من الْجَبْر فَإِن العَبْد إِذا كَانَ لَا يُوقع إِلَّا مَا خصصه الله لَهُ وَقدر إِيقَاعه فَعِنْدَ ذَلِك لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْفِعْل بِدُونِ ذَلِك وَإِذا أَرَادَ الله ذَلِك فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ التّرْك الْبَتَّةَ فالجبر لَازم وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية فَإِن قيل حَيْثُ قُلْتُمْ إِن فعل العَبْد كُله مَخْلُوق لله وَإنَّهُ إِذا جعله الله فَاعل وَجب وجود ذَلِك وَخلق الْفِعْل يسْتَلْزم وجوده فَيَقْتَضِي ذَلِك الْجَبْر وَهُوَ بَاطِل قَالَ وَالْجَوَاب أَن لفظ الْجَبْر لم يرد فِي كتاب وَلَا سنة فَإِن الْمَشْهُور من مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة أَن إِطْلَاق الْجَبْر والإجبار إِنَّمَا يكون على مَا يَفْعَله المجبور مَعَ كَرَاهَته كَمَا يجْبر الْأَب ابْنَته على النِّكَاح وَهَذَا الْمَعْنى مُنْتَفٍ فِي حق الله تَعَالَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يخلق فعل العَبْد الِاخْتِيَارِيّ بِدُونِ اخْتِيَاره بل هُوَ الَّذِي جعله مُخْتَارًا مرِيدا وَلِهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الله ولهذ قَالَ من السّلف الله أعظم وَأجل من أَن يجْبر إِنَّمَا يجْبر غَيره من لَا يقدر على جعله مُخْتَار وَالله تَعَالَى يَجْعَل العَبْد مُخْتَارًا فَلَا يحْتَاج إِلَى إِجْبَاره وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره نقُول جبل وَلَا نقُول جبر وَالْمَنْصُوص عَن أَئِمَّة الْإِسْلَام مثل الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهم أَن لفظ الْجَبْر لَا يثبت وَلَا ينفى فَلَا يُقَال جبر أَو لم يجْبر فَإِن قَالَ السَّائِل أَنا أُرِيد بالجبر معنى أَن تراجع المخطوط جعل الله العَبْد قَادِرًا فَاعِلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 للْفِعْل يسْتَلْزم الْجَبْر قيل لَهُ هَذَا الْمَعْنى حق وَلَا دَلِيل على إِبْطَاله وحذاق الْمُعْتَزلَة كَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَأَمْثَاله يسلمُونَ أَن مَعَ وجود الدَّاعِي وَالْقُدْرَة يجب وجود الْفِعْل وسلموا أَن الله خلق الدَّاعِي وَالْقُدْرَة فَلَزِمَ أَن يكون الله خَالق أَفعَال الْعباد وَلَكِن لم يَقُولُوا بذلك وَأَبُو الْحُسَيْن هَذَا وَإِن كَانَ يَدعِي الغلو فِي الاعتزال حَتَّى أدعى الْعلم بِأَن العَبْد يُوجد أَفعاله أَمر ضَرُورِيّ كَانَ أَيْضا عَظِيم الغلو فِي القَوْل بالجبر وَحَيْثُ قُلْنَا إِن حَقِيقَة القَوْل أَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِق لفعل العَبْد فَإذْ قَالَت الْقَدَرِيَّة هَذَا يُنَافِي كَون العَبْد مُخْتَارًا لِأَنَّهُ لَا معنى للمختار إِلَّا معنى كَونه قَادِرًا على الْفِعْل وَالتّرْك وَأَنه إِن شَاءَ فعل هَذَا وَأَن شَاءَ فعل هَذَا قيل لَهُم هَذَا مُسلم وَلَكِن هَل هُوَ قَادر على الْفِعْل وَالتّرْك على سَبِيل الْبَدَل أَو على سَبِيل الْجمع وَالثَّانِي بَاطِل فَإِن الْفِعْل وَالتّرْك ضدان وإجتماعهما مُمْتَنع وَالْقُدْرَة لَا تكون على مُمْتَنع فَعلم أَن قَوْلنَا قَادر على الْفِعْل وَالتّرْك أَي يقدر أَن يفعل فِي حَال عدم التّرْك وَيقدر أَن يتْرك فِي حَال عدم الْفِعْل فَقَوْل الْقَائِل الْقَادِر إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك هُوَ على سَبِيل الْبَدَل لَا أَنه يقدر أَن يَشَاء الْفِعْل وَالتّرْك مَعًا بل حَال مَشِيئَته للْفِعْل لَا يكون مرِيدا للترك وَحَال مَشِيئَته للترك لَا يكون مرِيدا للْفِعْل فحال كَونه شَاءَ للْفِعْل مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة يجب وجود الْفِعْل وَحَال وجود الْفِعْل يمْتَنع أَن يكون مرِيدا للترك مَعَ الْفِعْل وَأَن يكون قَادِرًا على التّرْك مَعَ الْفِعْل والتخيير بَينهمَا إِنَّمَا يكون عِنْد عدمهما جَمِيعًا فَأَما حَال الْفِعْل فَيمْتَنع التّرْك وَحَال التّرْك يمْتَنع الْفِعْل وَحِينَئِذٍ فالفعل وَاجِب حَال وجوده لَا فِي الْحَال الَّتِي كَانَ مُخَيّرا فِيهَا بَين الْفِعْل وَالتّرْك نعم قد يكون الْفَاعِل حَال الْفِعْل مرِيدا للترك بعد الْفِعْل وَهَذَا ترك ثَان لَيْسَ هُوَ ترك ذَلِك الْفِعْل فِي حَال وجوده فَتَأمل إِذا تقرر هَذَا فَأعْلم أَن مَذْهَب جُمْهُور أهل السّنة أَن أَفعَال الْإِنْسَان الاختيارية مستندة إِلَيْهِ وَأَنه فَاعل لَهَا وَالله خلقه فَاعِلا وَأَنه مُرِيد مُخْتَار وَالله جعله مرِيدا مُخْتَارًا فالماشي مثلا يمشي حَقِيقَة وَالله جعله مَاشِيا بِمَنْزِلَة مَرِيض مَشى بَين اثْنَيْنِ وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى ويثبتون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 للْعَبد قدرَة هِيَ منَاط الْأَمر وَالنَّهْي وَإِن اخْتلفُوا هَل هِيَ مُؤثرَة فِي مقدورها أَو فِي بعض مقدورها فِي بعض صِفَاته أَو لَا تَأْثِير لَهَا وَالْفَخْر الرَّازِيّ يثبت هَذِه الْقُدْرَة وَهُوَ يُصَرح بِأَنَّهُ يَقُول الْجَبْر وَالْجُمْهُور يَقُولُونَ إِن لقدرة العَبْد تَأْثِيرا فِي فعله من جنس تَأْثِير الْأَسْبَاب فِي مسبباتها وَلَيْسَ لَهَا تَأْثِير الْخلق والإبداع وَلَا وجودهَا كعدمها وَهَذِه الْقُدْرَة قد تكون قبل الْفِعْل وَلَا يجب أَن تكون مَعَه وَيَقُولُونَ أَيْضا أَن الْقُدْرَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل لَا بُد أَن تكون مَعَ الْفِعْل إِذْ لَا يجوز أَن يُوجد الْفِعْل بقدرة معدومه وَلَا بِإِرَادَة معدومه كَمَا لَا يُوجد بفاعل مَعْدُوم وَأما الْقَدَرِيَّة فيزعمون أَن الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا قبل الْفِعْل وَمن قابلهم يَقُولُونَ لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل قَالَ ابْن تَيْمِية وَقَول الْأَئِمَّة وَالْجُمْهُور هُوَ الْوسط من أَنَّهَا لابد أَن تكون مَعَه وَقد تكون مَعَ ذَلِك قبله وَتلك الْقُدْرَة تكون مُتَقَدّمَة على الْفِعْل كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} فَأوجب الْحَج على المستطيع فَلَو لم يسْتَطع إِلَّا من حج لم يكن الْحَج قد وَجب إِلَّا على من حج وَلم يُعَاقب أحد على ترك الْحَج وَهَذَا خلاف الْمَعْلُوم بالاضطرار فِي دين الْإِسْلَام وَقَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} فَأوجب التَّقْوَى بِحَسب الِاسْتِطَاعَة فَلَو كَانَ من لم يتق الله لم يسْتَطع التَّقْوَى لم يكن قد أوجب التَّقْوَى إِلَّا على من اتَّقى وَلَا يُعَاقب من لم يتق وَهَذَا خلاف الْمَعْلُوم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام أَيْضا وَهَؤُلَاء إِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَن الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة والشيعة وَغَيرهم قَالُوا إِن الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا قبل الْفِعْل لتَكون صَالِحَة للضدين الْفِعْل وَالتّرْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَأما حِين الْفِعْل فزعموا أَنه حِينَئِذٍ لَا يكون قَادِرًا لِأَن الْقَادِر لابد أَن يقدر على الْفِعْل وَالتّرْك وَحين الْفِعْل لَا يكون قَادِرًا على التّرْك فَلَا يكون قَادِرًا وَأهل السّنة يَقُولُونَ لابد أَن يكون قَادِرًا حِين الْفِعْل وَيكون أَيْضا قَادِرًا قبل الْفِعْل وَقَالَ طَائِفَة مِنْهُم لَا يكون قَادِرًا إِلَّا حِين الْفِعْل وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ إِن الْقُدْرَة لَا تصلح للضدين فَإِن الْقُدْرَة الْمُقَارنَة للْفِعْل لَا تصلح إِلَّا لذَلِك الْفِعْل وَهِي مستلزمة لَهُ لَا تُوجد بِدُونِهِ فَإِن الْمُقَارن للشَّيْء مُسْتَلْزم لَهُ لَا يُوجد مَعَ عَدمه فَإِن وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم مُمْتَنع وَهَذَا قالته الْقَدَرِيَّة بِنَاء على أصلهم الْفَاسِد وَهُوَ أَن إقدار الله الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر سَوَاء فَلَا يَقُولُونَ أَن الله خص الْمُؤمن الْمُطِيع بإعانه حصل بهَا الْإِيمَان بل يَقُولُونَ إِن إعانته للمطيع والعاصي سَوَاء وَلَكِن هَذَا بِنَفسِهِ رجح الطَّاعَة كالوالد الَّذِي أعْطى كل وَاحِد من ابنيه سَيْفا فَهَذَا جَاهد بِهِ فِي سَبِيل الله وَهَذَا قطع بِهِ الطَّرِيق أَو أعطاهما مَالا فَهَذَا أنفقهُ فِي طَاعَة الرَّحْمَن وَهَذَا أنفقهُ فِي طَاعَة الشَّيْطَان وَهَذَا القَوْل فَاسد بأتفاق أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَإِنَّهُم متفقون على أَن لله على عَبده الْمُؤمن الْمُطِيع نعْمَة دينية خصّه بهَا دون الْكَافِر وانه أَعَانَهُ على الطَّاعَة إِعَانَة لم يعن بهَا الْكَافِر كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ} الْآيَة وَقَالَ {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ} والآيات فِي مثل هَذَا كَثِيرَة تبين اخْتِصَاص عباده الْمُؤمنِينَ بِالْهدى والايمان وَالْعَمَل الصَّالح وَالْعقل يدل على ذَلِك أَيْضا فَأَنَّهُ إِذا قدر أَن جَمِيع الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للْفِعْل من الْفَاعِل كَمَا هِيَ فِي التارك كَانَ إختصاص الْفَاعِل بِالْفِعْلِ تَرْجِيحا لأحد المثلين على الآخر بِلَا مُرَجّح وَذَلِكَ مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ وَهَذَا هُوَ الأَصْل الَّذِي بنوا عَلَيْهِ إِثْبَات الصَّانِع فَإِن قَدَحُوا فِي ذَلِك انسد عَلَيْهِم طَرِيق إِثْبَات الصَّانِع وغايتهم أَن قَالُوا الْقَادِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الْمُخْتَار يرجح مقدوريه على الآخر بِلَا مُرَجّح وَهَذَا فَاسد فَإِن مَعَ اسْتِوَاء الاسباب فِي كل وَجه يمْتَنع الرجحان وَأَيْضًا فَقَوْل الْقَائِل يرجح بِلَا مُرَجّح إِن كَانَ لقَوْله يرجح معنى زَائِد على وجود الْفِعْل فَذَاك هُوَ السَّبَب الْمُرَجح وَإِن لم يكن لَهُ معنى زَائِد كَانَ حَال الْفَاعِل قبل وجود الْفِعْل كحاله عِنْد الْفِعْل ثمَّ الْفِعْل حصل فِي إِحْدَى الْحَالين دون الْأُخْرَى بِلَا مُرَجّح وَهَذَا مُكَابَرَة لِلْعَقْلِ فَلَمَّا كَانَ أصل قَول الْقَدَرِيَّة إِن فَاعل الطَّاعَات وتاركها كِلَاهُمَا فِي الْإِعَانَة والإقدار سَوَاء إمتنع على أصلهم أَن يكون مَعَ الْفِعْل قدرَة تخصه لِأَن الْقُدْرَة الَّتِي تخص الْفِعْل لَا تكون للتارك وَإِنَّمَا تكون للْفَاعِل وَالْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا من الله وَمَا كَانَ من الله لم يكن مُخْتَصًّا بِحَال وجود الْفِعْل ثمَّ لما رأو أَن الْقُدْرَة لابد أَن تكون قبل الْفِعْل قَالُوا لَا تكون مَعَ الْفِعْل فَإِن الْقُدْرَة هِيَ الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل وَالتّرْك وَحَال وجود الْفِعْل يمْتَنع التّرْك كَمَا تقدم قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا بَاطِل قطعا فَإِن وجود الْأَثر مَعَ عدم بعض شُرُوطه الوجودية يمْتَنع بل لابد أَن يكون جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْفِعْل من الْأُمُور الوجودية مَوْجُودا عِنْد الْفِعْل فنقيض قَوْلهم هُوَ الْحق وَهُوَ أَن الْفِعْل لابد أَن يكون مَعَه قدرَة لَكِن صَار أهل إِثْبَات الْقُدْرَة للْعَبد هُنَا فريقين فريقا قَالُوا لَا تكون الْقُدْرَة إِلَّا مَعَ الْفِعْل ظنا مِنْهُم أَن الْقُدْرَة نوع وَاحِد وظنا من بَعضهم أَن الْقُدْرَة عرض لَا تبقى زمانين فَيمْتَنع وجودهَا قبل الْفِعْل وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْفِقْه وَالسّنة أَن الْقُدْرَة نَوْعَانِ نوع مَعَ الْفِعْل مُقَارن لَهُ وَنَوع مصحح للْفِعْل يُمكن مَعَه الْفِعْل وَالتّرْك وَهَذِه هِيَ الَّتِي يتَعَلَّق بهَا الْأَمر وَالنَّهْي وَتحصل للمطيع والعاصي وَتَكون قبل الْفِعْل وَتبقى إِلَى حِين الْفِعْل إِمَّا بِنَفسِهَا عِنْد من يَقُول بِبَقَاء الْأَعْرَاض وَإِمَّا بتجدد أَمْثَالهَا عِنْد من يَقُول الْأَعْرَاض لَا تبقى وَهَذِه قد تصلح للضدين وَأمر الله لِعِبَادِهِ مَشْرُوط بِهَذِهِ الطَّاقَة فَلَا يُكَلف الله من لَيست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مَعَه هَذِه الطَّاقَة وضد هَذَا الْعَجز وَاعْلَم أَن على هَذِه الْمَسْأَلَة يَنْبَنِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَالا يُطَاق فَمن قَالَ إِن الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل كالأشعري وَغَيره يَقُول كل كَافِر وفاسق قد كلف مَالا يُطَاق لِأَن من سبق فِي علم الله أَنه لَا يُؤمن لَا يقدر على الْإِيمَان أبدا وَبَعْضهمْ قَالَ هَذَا تَكْلِيف بالمستحيل وَكنت مشيت على هَذَا فِي كتابي الْبُرْهَان فِي تَفْسِير الْقُرْآن فِي أول سُورَة الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى {سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ} وَمن قَالَ أَن الْقُدْرَة الْمَشْرُوطَة فِي التَّكْلِيف تكون قبل الْفِعْل وَبِدُون الْفِعْل وَقد تبقى إِلَى حِين الْفِعْل وَالْقُدْرَة المستلزمة للْفِعْل لابد أَن تكون مَوْجُودَة عِنْد وجوده يَقُول إِنَّه لم يُكَلف مَا لَا يُطَاق قَالَ بل كلف مَا أطَاق قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا قَول جُمْهُور أهل السّنة وأئمتهم فَإِن الله تَعَالَى قد أوجب الْحَج على المستطيع حج أَو لم يحجّ وَأوجب صِيَام الشَّهْرَيْنِ فِي الْكَفَّارَة على المستطيع كفر أَو أم لم يكفر وَأوجب الْإِسْلَام على الْكَافِر أسلم أَو لم يسلم وَأوجب الْعِبَادَات على القادرين دون العاجزين فعلوا أَو لم يَفْعَلُوا ثمَّ أعلم أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا لَا يُطَاق للعجز عَنهُ بطرِيق الْآلَات كتكليف المقعد الْقيام وَالْمَشْي وتكليف الْإِنْسَان الطيران وَالْأَعْمَى نقط الْمَصَاحِف فَهَذَا غير وَاقع فِي الشَّرِيعَة وَلم يُكَلف الله بِهِ أحد ثَانِيهمَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق للاشتغال بضده مَعَ سَلامَة الْآلَات كتكليف الْكَافِر الْإِيمَان مَعَ سبق علم الله بإنه لَا يُؤمن والتكليف بِهَذَا وَاقع بالِاتِّفَاقِ فاشتغال الْكَافِر بالْكفْر هُوَ الَّذِي صده عَن ضِدّه الَّذِي هُوَ الْإِيمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة الْقَاعِد الْمَأْمُور بِالْقيامِ فَإِن اشْتِغَاله بالقعود هُوَ الَّذِي يمنعهُ أَن يكون قَائِما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنَافِي الضِّدّ الآخر وتكليف الْكَافِر والعاصي السَّابِق علم الله وَقدره فيهمَا من هَذَا الْبَاب وتكليف مثل هَذَا لَيْسَ بقبيح شرعا وَلَا عقلا عِنْد أحد من الْعُقَلَاء متفقون على أَمر الْإِنْسَان وَنَهْيه بِمَا لَا يقدر عَلَيْهِ حَال الْأَمر وَالنَّهْي لاشتغاله بضده إِذا أمكن أَن يتْرك ذَلِك الضِّدّ وَيفْعل الضِّدّ الْمَأْمُور بِهِ فَإِن السَّيِّد لَا يَأْمر عَبده الْأَعْمَى بنقط الْمَصَاحِف ويأمره أَن يقوم وَيعلم بِالضَّرُورَةِ الْفرق بَين هَذَا وَهَذَا وتكليف مَا لَا يُطَاق للاشتغال بضده لَا نزاع فِي وُقُوعه كَمَا تقدم وَإِنَّمَا النزاع هَل يُسمى هَذَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لكَونه تكليفا بِمَا أنتفت فِيهِ الْقُدْرَة الْمُقَارنَة للْفِعْل فَمنهمْ من يدْخل هَذَا فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق كَمَا يَقُوله القَاضِي أَبُو بكر وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَغَيرهمَا فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مَا لَا يُطَاق قِسْمَانِ مَا لَا يُطَاق للعجز عَنهُ وَمَا لَا يُطَاق للاشتغال بضده وَمِنْهُم من يَقُول هَذَا لَا يدْخل فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام السّلف فَإِنَّهُ لَا يُقَال للمستطيع الْمَأْمُور بِالْحَجِّ إِذا لم يحجّ أَنه مُكَلّف مَا لَا يُطيق فَإِن الله خلق لَهُ الْقُدْرَة الْمَشْرُوطَة فِي التَّكْلِيف المصححة لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي كَمَا فِي الْعباد إِذا أَمر بَعضهم بَعْضًا فَمَا يُوجد فِي الْقُدْرَة فِي ذَلِك الْأَمر فَهُوَ مَوْجُود فِي أَمر الله لِعِبَادِهِ بل تَكْلِيف الله أيسر وَرَفعه للْمَشَقَّة والحرج أعظم وَالنَّاس يُكَلف بَعضهم بَعْضًا أعظم مِمَّا أَمرهم الله وَرَسُوله وَلَا يَقُولُونَ هَذَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَمن تَأمل أَحْوَال من يخْدم الْمُلُوك والأكابر وَيسْعَى فِي طاعتهم وجد عِنْدهم من ذَلِك مَا لَيْسَ عِنْد الْمُجْتَهدين فِي الْعِبَادَة لله تَعَالَى وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} لم يرد بِهِ هَذَا فَإِن جَمِيع النَّاس قبل الْفِعْل لَيْسَ مَعَهم الْقُدْرَة الْمُوجبَة للْفِعْل فَلَا يخْتَص بذلك العصاة بل المُرَاد أَنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يكْرهُونَ سَماع الْحق كَرَاهَة شَدِيدَة لَا تَسْتَطِيع أنفسهم مَعهَا سَمَاعه لبغضهم ذَلِك ونفرتهم مِنْهُ لَا لعجزهم عَنهُ كَمَا أَن الْحَاسِد لَا يَسْتَطِيع الْإِحْسَان الى الْمَحْسُود لبغضه لَهُ لَا للعجز عَنهُ وَعدم هَذِه الِاسْتِطَاعَة لَا تمنع الْأَمر وَالنَّهْي فَإِن الله يَأْمر الْإِنْسَان بِمَا يكرههُ كالقتال وينهاه عَمَّا يُحِبهُ كهوى النَّفس وَلَيْسَ من شَرط الْمَأْمُور بِهِ أَن يكون العَبْد مرِيدا لَهُ وَلَا من شَرط الْمنْهِي عَنهُ أَن يكون العَبْد كَارِهًا لَهُ فَإِن الْفِعْل يتَوَقَّف على الْقُدْرَة والإرادة والمشروط فِي التَّكْلِيف أَن يكون العَبْد قَادِرًا على الْفِعْل لَا أَن يكون مرِيدا لَهُ لكنه لَا يُوجد إِلَّا إِذا كَانَ مرِيدا لَهُ فالارادة شَرط فِي وجوده لَا فِي وُجُوبه إِذا علمت هَذَا علمت أَن الله تَعَالَى لم يُكَلف الْعباد مَا لَا يُطِيقُونَ لقَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَإِنَّمَا كلفهم بِمَا فِي وسعهم وطاقتهم فَإِن العَبْد لَهُ قدرَة وَإِرَادَة وَفعل حَقِيقَة يقدر بِهِ على فعل مَا كلف بِهِ وعَلى تَركه كَمَا تقدم وَإِن كَانَ الله تَعَالَى هُوَ الْخَالِق ذَلِك كُله كَمَا هُوَ خَالق كل شئ فَإِن خلقه الْقُدْرَة فِي العَبْد مَعَ سَلامَة الْآلَات مَعَ الْإِرْشَاد وَالْبَيَان لما هُوَ النافع والضار ببعث الرُّسُل المزيحة لِلْعَامِلِ مَحْض فضل مِنْهُ تَعَالَى وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي حِكْمَة تَكْلِيف الْمُكَلّفين وعقاب العاصين وأنقسموا فِي ذَلِك قسمَيْنِ أهل الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل وَأهل الْمَشِيئَة والتفويض فَقَالَ أهل الْمَشِيئَة لَا حِكْمَة فِي تَكْلِيف الْمُكَلّفين وعقاب العاصين إِلَّا مَحْض الْمَشِيئَة الإلهية فَهُوَ سُبْحَانَهُ يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَقَالَ أهل التَّعْلِيل إِن من أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَكِيم فَهُوَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا لحكمة وَلَا يتْركهُ إِلَّا لانْتِفَاء الْحِكْمَة فِيهِ وَإِن كُنَّا نَحن لَا نعلم وَجه الْحِكْمَة وَقَالُوا تَكْلِيف الله الْعباد لَيْسَ لاحتياجه الى ذَلِك فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 غَنِي عَن الْعباد بل لتزكيتهم ورفعهم من الحضيض الْأَسْفَل فَإِن التَّكْلِيف كُله إرشاد وَهدى وتعريف للعباد مَا يَنْفَعهُمْ فِي المعاش والمعاد فَأَمرهمْ سُبْحَانَهُ على السّنة رسله بِمَا يَنْفَعهُمْ ونهاهم عَمَّا يضرهم وَبَين لَهُم النافع ليرتكبوه والضار ليجتنبوه وَأعْطى كل مُكَلّف الْقُدْرَة والإرادة وسلامة الْآلَات فِيمَا كلف بِهِ فَهُوَ تَعَالَى محسن الى عباده الْمُكَلّفين عُمُوما لأَمره لَهُم بِمَا ينفع ونهيهم عَمَّا يضر مَعَ الْإِرْشَاد وَالْبَيَان وَخلق الْقُدْرَة فيهم ومحسن باعانته على الطَّاعَة لمن شَاءَ مِنْهُم خُصُوصا وَلَو قدر أَن عَالما صَالحا أَمر النَّاس بِمَا يَنْفَعهُمْ ثمَّ أعَان بعض النَّاس على فعل مَا أَمرهم بِهِ وَلم يعن آخَرين لَكَانَ محسنا إِلَى هَؤُلَاءِ إحسانا تَاما وَلم يكن ظَالِما لمن لم يحسن إِلَيْهِ كالطبيب إِذا أَمر الْمَرِيض بِشرب الدَّوَاء لم يكن عَلَيْهِ أَن يعاونه والمفتي إِذا أَمر المستفتي بِمَا يجب عَلَيْهِ لم يكن عَلَيْهِ أَن يعاونه وَإِن كَانَ قَادِرًا على معاونته وَلَو قدر أَنه عاقب المذنبين الْمُخَالفين الْعقُوبَة الَّتِي يقتضيها عدله وحكمته لَكَانَ أَيْضا مَحْمُودًا على ذَلِك وَلم يكن ظلما وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا أَنْت لم تعنا مَعَ كَونهم قَادِرين فَإذْ أَمر سُبْحَانَهُ مثل فِرْعَوْن وَأبي لَهب بِالْإِيمَان كَانَ قد بَين لَهُم مَا يَنْفَعهُمْ ويصلحهم إِذا فَعَلُوهُ وَلَا يلْزم إِذا أَمرهم أَن يعينهم بل قد يكون فِي إعانتهم وَجه مفْسدَة فَإِنَّهُ تَعَالَى يخلق مَا يخلق لحكمة وَإِن كُنَّا لَا نعلمها وَإِن لم تعلل أَفعاله بالحكمة فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يفعل مَا يَشَاء وعَلى كل تَقْدِير فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بظالم خلافًا لما قد يتوهمه من قصر فهمه وأنثنى عَن أَبْوَاب السَّعَادَة عزمه وَقد اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الظُّلم فَقَالَ قوم من أهل الْمَشِيئَة والتفويض إِنَّمَا يكون الظُّلم مِمَّن تصرف فِيمَا لَا يملك وَالله تَعَالَى مَالك كل شئ ويروى عَن إِيَاس بن مُعَاوِيه رَحمَه الله قَالَ مَا خَاصَمت بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم أخبروني مَا الظُّلم قَالُوا أَن يتَصَرَّف الْإِنْسَان فِيمَا لَيْسَ لَهُ قلت فَللَّه كل شئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَأهل هَذَا القَوْل قَالُوا أَنه تَعَالَى لَو عذب العَبْد بِسَبَب لَونه وَطوله وقصره لم يكن ظَالِما بل قَالُوا أَنه تَعَالَى لَو عذب أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض جَمِيعًا من الْمَلَائِكَة والأنبياء وَغَيرهم لَكَانَ عدلا مِنْهُ وَحقا لَهُ وَحِكْمَة من فعله وان كَانَ لَا يفعل ذَلِك وَاو لم يخلق النَّار وَأدْخل الْخلق جَمِيعًا الْجنَّة لَكَانَ عدلا مِنْهُ وَحقا وَحِكْمَة كل ذَلِك عدلا من الله لَا من غَيره وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَأَنه لَا يجب وَلَا يحرم وَلَا يحسن وَلَا يقبح شئ إِلَّا مَا أوجبه الله أَو حرمه أَو حسنه أَو قبحه وَقد أَبَاحَ سُبْحَانَهُ أَخذ أَمْوَال بالمشرق من أجل قريب لَهُم قتل قَتِيلا خطأ بالمغرب وَهَذَا الْوَطْء بِالتَّزْوِيجِ حسن حَلَال وبالزنا قَبِيح حرَام بل الْخمْرَة الْخمْرَة قبل تَحْرِيمهَا وَبعده كَذَلِك مَعَ أَن الصُّورَة وَالْعين وَاحِدَة وَكَذَلِكَ بِذبح الْإِنْسَان بقرته وذبحه حِمَاره فَالْأول حسن حَلَال وَالثَّانِي قَبِيح حرَام لما فِيهِ من تَعْذِيب الْحَيَوَان وَالتَّصَرُّف فِيمَا لَا يملك فعله وَلَو أَن شخصا قَامَ ثمَّ وضع رَأسه فِي الأَرْض مطأطئا فِي غير صَلَاة بِحَضْرَة النَّاس بِلَا شكّ عابثا مَقْطُوعًا عَلَيْهِ بالرعونة وَكَذَا لَو تجرد شخص فِي ثِيَابه أَمَام الجموع فِي غير حج وَلَا عمْرَة وكشف رَأسه واستدار حول بِنَاء قَائِما مهرولا وَرمى بالحصى لَكَانَ عِنْد كل من يرَاهُ مَجْنُونا بِلَا شكّ لَا سِيمَا إِن أمتنع من قصّ شَاربه وأظفاره لَكِن لما أَمر الله بذلك صَار كُله حسنا وَاجِبا وَصَارَ تَركه قبيحا وإنكاره كفرا فَأَي مدْخل للتَّعْلِيل هُنَا أَو لِلْعَقْلِ فِي تَحْسِين أَو تقبيح كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة وَكَيف الْعقل يحسن أَو يقبح فبثت يَقِينا أَنه لَا ظلم وَلَا قبح إِلَّا مَا نهى الله بِهِ وَفعله تَعَالَى أَي شَيْء كَانَ وتكليف مَا لَا يُطَاق والتعذيب عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ قَبِيح بِالنِّسْبَةِ لنا لَا بِالنِّسْبَةِ لَهُ تَعَالَى إِذْ الْخلق كلهم ملكه وعبيده على الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَالْجُمْهُور من أهل هَذَا القَوْل قَالُوا إِن الظُّلم فِي حَقه تَعَالَى مُمْتَنع لذاته غير مَقْدُور كَمَا صرح بذلك الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَأَبُو الْمَعَالِي وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَابْن الزَّاغُونِيّ وَغَيرهم وَيَقُولُونَ إِنَّه تَعَالَى غير قَادر على الظُّلم وَالْكذب وَغَيرهم من القبائح وَلَا يَصح وَصفه بِشَيْء من ذَلِك لِأَن ذَلِك مُسْتَحِيل فِي حَقه تَعَالَى وَقدرته لَا تتَعَلَّق بالمستحيل وَقَالَ آخَرُونَ من أهل الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل إِن الظُّلم مَقْدُور عَلَيْهِ فِي حَقه تَعَالَى وَهُوَ منزه عَنهُ قيل وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من المثبتين للقدر ونفاته وَقَول كثير من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَتَفْسِير الظُّلم على قَول هَؤُلَاءِ هُوَ تَعْذِيب الْإِنْسَان بذنب غَيره أَو تعدِي مَا حد لَهُ وَالله منزه عَن كل مِنْهُمَا وَقَالُوا الْفرق بَين تَعْذِيب الْإِنْسَان على فعله الِاخْتِيَارِيّ وَغير فعلة الِاخْتِيَارِيّ أَمر مُسْتَقر فِي فطر الْعُقُول وَأما كَون الرب خَالق كل شئ فَذَلِك لَا يمْنَع كَون العَبْد هُوَ الملوم على ذَلِك شرعا وعقلا وَعرفا أما شرعا فَوَاضِح وَأما عقلا وَعرفا فَلِأَن غَيره من المخلوقين يلومه على ظلمه وعدوانه مَعَ إقرارهم بِأَن الله خَالق ظلم الْعباد وجماهير الْأُمَم مقرة بِالْقدرِ وَأَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء وهم مَعَ هَذَا يذمون الظَّالِمين ويعاقبوهم لدفع ظلمهم وعدوانهم كَمَا أَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن الله خلق الْحَيَوَانَات الْمضرَّة وهم مَعَ ذَلِك يسعون فِي دفع ضررها بِالْقَتْلِ وَغَيره وهم أَيْضا متفقون على أَن الْكَاذِب والظالم مَذْمُوم بكذبه وظلمه وَأَن ذَلِك وصف سيء فِيهِ وَأَن نَفسه المتصفة بذلك خبيثة ظالمة لَا تسْتَحقّ الْإِكْرَام الَّذِي يُنَاسب أهل الصدْق وَالْعدْل وَقد اسْتَقر أَيْضا فِي بداية الْعُقُول أَن الْأَفْعَال الاختيارية يكْسب بهَا الْإِنْسَان صِفَات محمودة وصفات مذمومة بِخِلَاف نَحْو لَونه وَطوله وَعرضه فَإِنَّهُ لَا فعل فِيهِ للْعَبد بِوَجْه من الْوُجُوه واستثكل أَن خلق الْفِعْل مَعَ حُصُول الْعقُوبَة عَلَيْهِ ظلم وَأجِيب أَن هَذَا بِمَنْزِلَة أَن يُقَال إِن خلق أكل السم ثمَّ حُصُول الْمَوْت بِهِ ظلم أَو خلق الْحمى ثمَّ حُصُول الْمَوْت بهَا ظلم وَالظُّلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه كَمَا أَن الْعدْل هُوَ وضع الشَّيْء فِي مَوْضِعه فَكل نعْمَة من الله فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل لِأَنَّهُ محسن للْعَبد بِلَا سَبَب تفضلا وإحسانا وَلَا يُعَاقِبهُ إِلَّا بِذَنبِهِ وَإِن كَانَ هُوَ قد خلق الْأَفْعَال كلهَا لحكمة لَهُ فِي ذَلِك وَإِذا كَانَ الْإِنْسَان قد يفعل مصلحَة اقتضتها حكمته وَلَا تحصل إِلَّا بتعذيب حَيَوَان وَلَا يكون ذَلِك ظلما مِنْهُ فَالله تَعَالَى أولى أَن لَا يكون ذَلِك ظلما مِنْهُ ثمَّ اسْتِحْقَاق هَذَا الْفَاعِل لأثر فعله الَّذِي هُوَ مَعْصِيَته الله كاستحقاقه لأثره إِذا ظلم الْعباد فَتبين بِهَذَا أَن خلق الْفِعْل فِي العَبْد لَيْسَ بظُلْم سَوَاء قيل إِن الظُّلم مُمْتَنع من الله أَو قيل إِنَّه مَقْدُور عَلَيْهِ فَإِن الظُّلم الَّذِي هُوَ ظلم أَن يُعَاقب الْإِنْسَان على فعل غَيره وَأما عُقُوبَته على أَفعاله الاختيارية وإنصاف المظلومين من الظَّالِمين فَهُوَ من كَمَال الْعدْل وَإِذا كَانَ الْعقَاب على فعل العَبْد الِاخْتِيَارِيّ بِالنِّسْبَةِ لنا لَيْسَ بظُلْم فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ الى الرب تَعَالَى لَهُ فِيهِ حِكْمَة يحسن لأجل تِلْكَ الْحِكْمَة وبالنسبة الى العَبْد عدل لِأَنَّهُ عُوقِبَ على فعله فَمَا ظلمه الله وَلَكِن هُوَ ظلم نَفسه وَهَذِه الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة غايات أَفعَال الله وَنِهَايَة حكمته مَسْأَلَة عَظِيمَة لَعَلَّهَا أجل الْمسَائِل الإلهية لَا يَتَّسِع هَذَا الْموضع لبسط الْكَلَام عَلَيْهَا وأعتبر الْحَال لَو كَانَ المعاقب للعاصي غير الله يظْهر لَك الْعدْل وَعدم الظُّلم فَلَو عاقبه ولي الْأَمر إِذا أَمر الْغَاصِب برد الْمَغْصُوب الى مَالِكه وَضَمنَهُ التَّالِف أَنه يكون حَاكما بِالْعَدْلِ وَمَا زَالَ الْعدْل مَعْرُوفا فِي الْقُلُوب والعقول وَلَو قَالَ هَذَا المعاقب أَنا قد قدر عَليّ هَذَا لم يكن هَذَا حجَّة لَهُ بأتفاق الْعُقَلَاء كَمَا تقدم بَيَانه وَلَا مَانِعا لحكم الْوَالِي أَن يكون عدلا مِنْهُ فَالله تَعَالَى أعدل العادلين إِذا اقْتصّ للمظلوم فِي ظالمه فِي الْآخِرَة وأحق بِأَن يكون ذَلِك عدلا مِنْهُ فَإِن قَالَ الظَّالِم هَذَا كَانَ مُقَدرا عَليّ لم يكن هَذَا عذرا صَحِيحا وَلَا مسْقطًا لحق الْمَظْلُوم وَإِذا كَانَ الله هُوَ الْخَالِق لكل شَيْء فَذَاك لحكمة أُخْرَى لَهُ فِي الْفِعْل فخلقه تَعَالَى حسن بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لما لَهُ فِيهِ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الْحِكْمَة وَالْفِعْل الْمَخْلُوق قَبِيح من فَاعله لما عَلَيْهِ فِيهِ من الْمضرَّة كَمَا أَن أَمر الْوَالِي بعقوبة الظَّالِم يسر الْوَالِي لما فِيهِ من الْحِكْمَة وَهُوَ إِظْهَار عدله وَأمره بِالْعَدْلِ وَذَلِكَ يضر المعاقب لما عَلَيْهِ فِيهِ من الْأَلَم هَذَا وَمثل هَذِه الْأَمْثَال لَيست مثل فعل الله تَعَالَى فَإِن الله لَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله وَقِيَاس أَفعَال الله على أَفعَال الْعباد خطأ ظَاهر وَإِنَّمَا هَذَا تقريب للعقول والمثل لفضل الرب من كل وَجه لَا يُمكن فِي حق الْمَخْلُوق فَإِن الله لَيْسَ كمثله شَيْء وَقد سُئِلَ بعض الشُّيُوخ عَن أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل فَأَنْشد (ويقبح من سواك الْفِعْل عِنْدِي ... فتفعله فَيحسن مِنْك ذاكا) قيل وَمِمَّا يبين هَذَا أَن جِهَة خلق الله وَتَقْدِيره غير جِهَة أمره وتشريعه فَإِن أمره وتشريعه مَقْصُود بِهِ بَيَان مَا ينفع الْعباد إِذا فَعَلُوهُ وَمَا يضرهم إِذا ارتكبوه بِمَنْزِلَة أَمر الطَّبِيب وَنَهْيه للْمَرِيض بِمَا يَنْفَعهُ ويضره فَأخْبر الله تَعَالَى على أَلْسِنَة رسله بمصير السُّعَدَاء والأشقياء وَأمر بِمَا يُوصل الى السَّعَادَة وَنهى عَمَّا يُوصل الى الشقاوة وخلقه وَتَقْدِيره يتَعَلَّق بذلك وبجملة الْمَخْلُوقَات فَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا لَهُ فِيهِ حِكْمَة مُتَعَلقَة بِعُمُوم خلقه وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك مضرَّة لبَعض النَّاس كَمَا أَنه تَعَالَى ينزل الْمَطَر لما فِيهِ من الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالنعْمَة الْعَامَّة وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك تضرر بعض النَّاس بِسُقُوط منزله وانقطاعه بِسَفَرِهِ وتعطيل معاشه وَكَذَلِكَ إرْسَال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة للعاملين وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك سُقُوط رئاسة أَقوام وشقاوتهم فَإِذا قدر سُبْحَانَهُ على الْكَافِر كفره قدره لما لَهُ فِي ذَلِك من الْحِكْمَة والمصلحة الْعَامَّة وعاقبة لاستحقاقه بِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيّ وَبِالْجُمْلَةِ فعقوبته تَعَالَى للعصاة عدل مِنْهُ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وعفوه ومغفرته إِحْسَان مِنْهُ وَفضل وَهَذَا يَقُول بِهِ من يَقُول أَن الله خَالق أَفعَال الْعباد وَمن يَقُول إِنَّهُم هم الْخَالِقُونَ لَهَا وَمن يَقُول إِنَّهَا أَفعَال لَهُ كسب لَهُم قلت لَكِن هُنَا إشكالات وَارِدَة على طَريقَة أهل التَّعْلِيل لم أر من تعرض لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الأول إِن الله تَعَالَى قد عذب بالطوفان من قوم نوح المذنب وَمن لَا ذَنْب لَهُ بذنب غَيره كالأطفال وَبَقِيَّة الْحَيَوَانَات وَقد تقرر أَن الظُّلم الَّذِي هُوَ ظلم أَن يُعَاقب الْإِنْسَان على فعل غَيره وَهَذِه الْحَيَوَانَات قد عذبت كلهَا بِعُمُوم الطوفان بذنب قوم نوح وَلَعَلَّ الْجَواب أَن هَذَا لَيْسَ من بَاب التعذيب والعقوبة وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب الْهَلَاك والفناء ببلوغ الْآجَال الْمقدرَة على جري الْعَادة الإلهية من أَنه لكل مَوته سَبَب وَحِينَئِذٍ فَلم يُعَاقب من لَا ذَنْب لَهُ بذنب غَيره. الثَّانِي أَن جرم الْكَافِر متناهي ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب مَا لَا نِهَايَة لَهُ ظلم وَهُوَ على الله محَال وَلِهَذَا قَالَ قوم بِفنَاء النَّار وَعَذَاب الْكفَّار كَمَا بسطت الْكَلَام على هَذَا فِي مؤلف لطيف سميته تَوْقِيف الْفَرِيقَيْنِ على خُلُود أهل الدَّاريْنِ وَلَعَلَّ الْجَواب أَن يُقَال ان جرم الْكَافِر أَيْضا غيرمتناهي لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ على الْكفْر أستمر كَافِرًا الى الْأَبَد وَوصف الْكفْر لَازم لَهُ كَذَلِك فَلم يُعَاقب بعقاب غير متناه إِلَّا بذنب غير متناهي الثَّالِث أَنا نرَاهُ تَعَالَى يؤلم الْأَطْفَال الى الْغَايَة وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الْحَيَوَانَات الَّتِي لَا تَكْلِيف لَهَا أصلا وَلَعَلَّ الْجَواب إِن هَذَا لَيْسَ من بَاب الْعقَاب لِأَن الْعقَاب أَن تقع تِلْكَ الْعقُوبَة فِي مُقَابلَة ذَلِك الذَّنب بِخُصُوصِهِ وَأما هَذَا فَلَعَلَّهُ من بَاب الِابْتِلَاء وَالِاعْتِبَار {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَمِمَّا يدل على أَن هَذَا لَيْسَ من بَاب الْعقُوبَة أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يُعَاقب أنبياءه وَرُسُله الْكِرَام مَعَ أَنا نجدهم من أَشد النَّاس بلَاء وَفِيهِمْ من قتل وَنشر بِالْمِنْشَارِ فَظهر أَن جِهَة الْبلَاء غير جِهَة الْعقُوبَة لِأَن الْعقُوبَة هِيَ الَّتِي تقع فِي مُقَابلَة الذَّنب لما مر وَلقَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 {ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون} وَقَوله تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَوله تَعَالَى {ذَلِك بِمَا قدمت يداك} وَأما مَا يَقع لَا فِي مُقَابلَة ذَنْب فَهُوَ بلَاء وابتلاء من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ لَكِن يبْقى الْكَلَام فِي نفس هَذِه الْحِكْمَة الْكُلية فِي هَذِه الْحَوَادِث فَهَذِهِ لَيْسَ على النَّاس معرفَة أسرارها الْحَقِيقِيَّة ويكفيهم التَّسْلِيم لمن قد علمُوا أَنه بِكُل شَيْء عليم وَإنَّهُ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَمن العجيب قَول كثير من النَّاس أَنه تَعَالَى يؤلم الْأَطْفَال ليكْثر بذللك ثَوَاب والديهم وَفِيه نظر لما قَالَ الإِمَام ابْن حزم إِن من الْجور والعبث تَعْذِيب من لَا ذَنْب لَهُ أصلا ليكْثر بذلك ثَوَاب مذنب آخر اَوْ غير مذنب وَقد يكون هَذَا الطِّفْل أَبَوَاهُ كَافِرين وَأَيْضًا فبقية الْحَيَوَانَات كالكلاب وَنَحْوهَا فإيلامها بالأمراض وَنَحْوهَا لماذا فَلم يبْق إِلَّا أَنا نقُول لله تَعَالَى فِي هَذَا سر من الْحِكْمَة وَالْعدْل نوقن بِهِ وَلَا نعلم مَا هُوَ وَلَا كَيفَ هُوَ فَتَأمل فَإِنَّهُ دَقِيق ونجد أَيْضا الْحَيَوَان بعضه مسلطا على بعض بِالْقَتْلِ وَغَيره وَبَعض الْحَيَوَانَات يُؤْكَل وَلَا يَأْكُل هُوَ حَيَوَانا أصلا فَأَي ذَنْب كَانَ لَهُ حَتَّى سلط عَلَيْهِ غَيره فَقتله وَمن ذَا الَّذِي يُثَاب هُنَا قلت وايراد مثل هَذَا فِي هَذَا الْمقَام تلبيس موقع فِي الْحيرَة لِأَن الْمَطْلُوب من أهل الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيل تَكْلِيف الْمُكَلّفين وعقوبة العاصين وَهَذَا تقريب مَعْقُول الْمَعْنى كَمَا تقدم تَقْرِيره وَأما تَعْلِيل أَفعَال الله كلهَا الْجَارِيَة فِي الْمُكَلّفين وَغَيرهم فَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل الى مَعْرفَته وَالْوُقُوف على سر حَقِيقَته وَفِي مثل هَذَا الْمقَام تخبطت الأفهام فَقَالَت طَائِفَة إِن الْبَهَائِم والأطفال لَا تتألم وَلَا تحس بالألم وَهَذَا جحد للضَّرُورَة ومكابرة فِي المحسوس وَقَالَت طَائِفَة أَن ذَلِك لَا يصدر إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 من فَاعل الشَّرّ وَقَالَت طَائِفَة من غلاة الرافضة بِالْتِزَام التناسخ وَقَالُوا إِنَّمَا حسن ذَلِك لاستحقاقهم ذَلِك بجرائم سَابِقَة اقترفوها فِي غير هَذِه القوالب فنقلت أَرْوَاحهم إِلَى هَذِه القوالب عُقُوبَة لَهُم وَمُوجب هَذَا التَّخْلِيط تعلق أمل هَؤُلَاءِ بِمَعْرِِفَة حَقِيقَة أسرار أَفعَال الله تَعَالَى فِي الْمُكَلّفين وَغَيرهم وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته وَيَكْفِي معرفَة الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل فِي ثَوَاب وعقاب الْمُكَلّفين وَهُوَ المُرَاد وَإِلَّا فَمن الْمحَال معرفَة أسرار أَفعاله كلهَا لِأَن الرب تَعَالَى لَا يمثل بالخلق لَا فِي ذَاته وَلَا صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله بل لَهُ الْمثل الْأَعْلَى فَمَا ثَبت لغيره من الْكَمَال فَهُوَ أَحَق بِهِ وَمَا تنزه عَنهُ من النَّقْص فَهُوَ أَحَق بتنزيهه عَنهُ سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ كل مَا كَانَ ظلما من العَبْد يكون ظلما من الرب وَلَا مَا كَانَ قبيحا من العَبْد يكون قبيحا من الرب فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كمثله شئ لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله لَكِن الْقَدَرِيَّة شبهت فِي الْأَفْعَال فقاسوا أَفعَال الله على أَفعَال خلقه وَهُوَ افسد الْقيَاس وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْمُعْتَزلَة وجدنَا فِي الشَّاهِد أَن من فعل الْجور كَانَ ظَالِما جائرا وَمن أعَان فَاعله على فعله ثمَّ عاقبه عَلَيْهِ كَانَ جائرا عابثا وَالْعدْل فِي صِفَات الله وَالظُّلم منفي عَنهُ تَعَالَى بِاتِّفَاق الْمُسلمين قَالَ ابْن حزم وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ظنته عُقُولهمْ الحاكمة على الله تَعَالَى فِي انه لَا يحسن مِنْهُ تَعَالَى إِلَّا مَا حسنته عُقُولهمْ وانه يقبح مِنْهُ مَا قبحته عُقُولهمْ قَالَ وَالْحق ان كل مَا فعله الله سُبْحَانَهُ فَهُوَ حق وَعدل أَي شَيْء كَانَ وَإِن كَانَ من جورا وسفها وَقَالَت طَائِفَة إِن من خلق خلقا ثمَّ سلط بَعضهم على بعض فَهُوَ ظَالِم جَائِر عابث فَقَالُوا أَن خَالق الْخَيْر غير خَالق الشَّرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَقَالَت البراهمة إِن من الْعَبَث والجور وَخلاف الْحِكْمَة أَن يعرض الله عباده لما يعلم انهم يعصونه فِيهِ ويستحقون الْعَذَاب عَلَيْهِ يُرِيدُونَ بذلك إبِْطَال الرسَالَة والنبوات وَمُوجب هَذَا كُله قِيَاس أَفعَال الله على أَفعَال خلقه تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَلَيْسَ على الْعباد ان يعلمُوا تَفْصِيل حِكْمَة الله فِي كل شئ بل يكفيهم الْعلم الْعَام وَالْإِيمَان التَّام وَالله اعْلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْجَواب الْخَامِس وَأما الْجَواب عَن الْخَامِس وَهُوَ انه رُبمَا لزم عَلَيْهِ إفحام الْأَنْبِيَاء وَانْقِطَاع حجتهم إِلَى آخِره فَنَقُول الْجَواب عَن هَذَا من وُجُوه الأول أَن هَذَا إِنَّمَا يكون إفحاما وانقطاعا لَو كَانَ الِاحْتِجَاج بِالْقدرِ سائغا فَأَما إِذا كَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ بَاطِلا بطلانا ضَرُورِيًّا متقررا فِي الْفطر والعقول كَمَا تقدم لم يكن هَذَا الِاعْتِرَاض مُتَوَجها وَأَيْضًا فَمن المستقر فِي فطر النَّاس وعقولهم انه من طلب مِنْهُ فعل من الْأَفْعَال الاختيارية لم يكن لَهُ أَن يحْتَج بِمثل هَذَا وَمن طلب دينا لَهُ على آخر لم يكن لَهُ أَن يَقُول لَا أُعْطِيك حَتَّى يخلق الله فِي الْإِعْطَاء وَمن أَمر عَبده لم يكن لَهُ أَن يَقُول لَا افعله حَتَّى يخلق الله فِي فعله أَو الْقُدْرَة على ذَلِك وَهَذَا أَمر جبل عَلَيْهِ النَّاس مسلمهم وكافرهم مقرهم بِالْقدرِ ومنكرهم وَلَا يخْطر ببال أحد مِنْهُم الِاعْتِرَاض بِمثل هَذَا فَإِذا كَانَ هَذَا الِاعْتِرَاض مَعْرُوف الْفساد فِي بداية الْعُقُول لم يكن لأحد أَن يحْتَج بِهِ على الرَّسُول الثَّانِي أَن الرَّسُول يَقُول لَهُ أَنا نَذِير لَك إِن فعلت مَا أَمرتك بِهِ نجوت وسعدت وان لم تَفْعَلهُ عوقبت كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صعد الصَّفَا ونادى قومه فَأَجَابُوهُ فَقَالَ (أرايتم لَو أجبرتكم أَن عدوا مصبحكم أَكُنْتُم مصدقي) قَالُوا مَا جربنَا عَلَيْك كذبا قَالَ (فَأَنِّي نَذِير لَكِن بَين يَدي عَذَاب شَدِيد) وَمن الْمَعْلُوم ان من انذر بعدو لم يقل لنذيره قل لله يخلق فِي قدره على الْفِرَار فَهَذَا الْكَلَام لَا يَقُوله إِلَّا مكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 للرسول النذير إِذْ لَيْسَ فِي الْفطر مَعَ تَصْدِيق النذير الاعتلال بِمثل هَذَا وَإِذا كَانَ هَذَا تَكْذِيبًا حاق بِهِ مَا حاق بالمكذبين فَإِنَّهُ لَا يُقَال لأحد من النَّاس هَذَا الْعَدو قد قصدك أَو هَذَا السَّبع أَو هَذَا السَّيْل المنحدر وَيَقُول لَا اهرب حَتَّى يخلق الله فِي الْهَرَب بل يحرص على الْهَرَب وَيسْأل الله الإعانه وَكَذَلِكَ الْمُحْتَاج للطعام وَالشرَاب واللباس فانه لَا يَقُول لَا آكل وَلَا اشرب وَلَا البس حَتَّى يخلق الله فِي ذَلِك الثَّالِث أَن يُقَال مثل هَذَا الْكَلَام إِمَّا يَقُوله من يُرِيد الطَّاعَة وَيعلم أَنَّهَا تَنْفَعهُ أَو من لَا يريدها وَلَا يعلم أَنَّهَا تَنْفَعهُ وَكِلَاهُمَا يمْتَنع مِنْهُ أَن يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام فان من أَرَادَ الطَّاعَة وَعلم أَنَّهَا تَنْفَعهُ أطَاع قطعا إِذا لم يكن عَاجِزا فان نفس الْإِرَادَة للطاعة مَعَ الْقُدْرَة توجب الطَّاعَة فانه مَعَ وجود الْقُدْرَة والداعي التَّام يجب وجود الْمَقْدُور كَمَا تقدم فَمن أَرَادَ النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ مثلا إِرَادَة جازمة نطق بهما قطعا لوُجُود الْقُدْرَة والداعي التَّام وَمن لم ينْطق علم انه لم يرد وَمن لم يرد الطَّاعَة فَيمْتَنع أَن يطْلب من الرَّسُول ان يخلقها فِيهِ فانه إِذا طلب من الرَّسُول أَن يخلقها الله فِيهِ كَانَ مرِيدا لَهَا وَلَا يتَصَوَّر أَن يَقُول مثل ذَلِك إِلَّا مرِيدا وَلَا يكون مرِيدا للطاعة إِلَّا ويفعلها الرَّابِع أَن يُقَال لَهُ أَنْت مُتَمَكن من الْإِيمَان قَادر عَلَيْهِ فَلَو أردته فعلته وَإِنَّمَا لم تؤمن لعدم إرادتك لَهُ لَا يعجزك عَنهُ وَعدم قدرتك عَلَيْهِ فان قَالَ قل لله يَجْعَلنِي مرِيدا للْإيمَان قيل لَهُ إِن كنت تطلب مِنْهُ ذَلِك حَقِيقَة فَأَنت مُرِيد للْإيمَان وان لم تطلب ذَلِك حَقِيقَة فَأَنت كَاذِب فِي قَوْلك فان قَالَ فَكيف يَأْمُرنِي بِمَا لم يَجْعَلنِي مرِيدا لَهُ لم يكن هَذَا طلبا للإرادة بل مُجَرّد عناد ومكابرة ومخاصمة وَمثل هَذَا لَيْسَ على الرَّسُول جَوَابه وَلَا فِي ترك جَوَابه انْقِطَاع لِأَنَّهُ عنيد مكابر فِي المحسوس وَجَوَابه حِينَئِذٍ لَيْسَ إِلَّا السَّيْف وَالْجهَاد فِيهِ وَلذَلِك شرع الله تعالي الْجِهَاد لقمع أهل العناد وردع المكابر من الْعباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 خَاتِمَة اعْلَم أَن فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} دقه وخفاء فان ظَاهر تَفْسِيره وَاضح جلي وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ غامض خَفِي فانه إِثْبَات للرمي وَنفي لَهُ وهما متضادان فِي الظَّاهِر مَا لم يفهم انه رمى من وَجه وَلم يرم من وَجه وَمن الْوَجْه الَّذِي لم يرم رمى الله تَعَالَى وَبَعْضهمْ يَقُول وَمَا رميت حَقِيقَة إِذْ رميت مجَازًا وَلَكِن الله رمى حَقِيقَة وَقد احْتج بعض المثبتة للقدر بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الله تَعَالَى خَالق أَفعَال الْعباد وَبَعْضهمْ توهم انه تَعَالَى هُوَ الْمَوْصُوف بذلك حَقِيقَة لظَاهِر هَذِه الْآيَة ظنا مِنْهُ انه تَعَالَى لما خلق الرَّامِي وَالرَّمْي كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّامِي فِي الْحَقِيقَة وَهَذَا غلط بِلَا ريب فَإِنَّهُم متفقون على أَن العَاصِي هُوَ المتصف بالمعصية والمذموم عَلَيْهَا فَإِن الْأَفْعَال يُوصف بهَا من قَامَت بِهِ لَا من خلقهَا فَإِن الله تَعَالَى لَا تقوم بِهِ أَفعَال الْعباد وَلَا يَتَّصِف بهَا وَلَا يعود إِلَيْهِ أَحْكَامهَا الَّتِي تعود إِلَى موصوفاتها وَإِذا كَانَ مَا يتَعَلَّق بالإرادة وَالِاخْتِيَار كالطعوم والألوان تُوصَف بهَا محالها لَا خَالِقهَا فِي محالها فَكيف الْأَفْعَال الاختيارية وَلِهَذَا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين إِن أَفعَال الْعباد مخلوقة لله وَهِي فعل العَبْد وَإِذا قيل هِيَ فعل الله فَالْمُرَاد أَنَّهَا مَفْعُوله لَا أَنَّهَا هِيَ الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُسَمّى الْمصدر فَإِن الجمور يَقُولُونَ إِن الله خَالق أَفعَال الْعباد كلهَا والخلق عِنْدهم لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوق فيفرقون بَين كَون أَفعَال الْعباد مخلوقة مَفْعُوله للرب وَبَين فعله الَّذِي هُوَ الْمصدر فَإِنَّهَا فعل العَبْد بِمَعْنى الْمصدر وَلَيْسَت فعلا للرب بِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الِاعْتِبَار بل هِيَ مَفْعُوله لَهُ والرب لَا يَتَّصِف بمفعولاته وَهنا يلتبس الْحَال على من لَا يفرق بَين فعل الرب ومفعوله كَمَا يَقُول ذَلِك الجهم وموافقوه وَقد تقرر الْفرق بَين مَا خلقه صفه لغيره وَبَين مَا اتّصف هُوَ بِهِ فِي نَفسه وَالْفرق بَين إِضَافَة الْمَخْلُوق إِلَى خالقه وَإِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا الْفرق مَعْلُوم بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذا خلق لغيره حَرَكَة لم يكن هُوَ المتحرك بهَا وَإِذا خلق للرعد وَنَحْوه صَوتا لم يكن هُوَ المتصف بذلك الصَّوْت وَإِذا خلق الألوان فِي النَّبَات وَالْحَيَوَان والجماد لم يكن سُبْحَانَهُ هُوَ المتصف بِتِلْكَ الألوان وَإِذا خلق فِي غَيره علما وَقدره وحياة أَو كذبا أَو كفرا لم يكن هُوَ المتصف بذلك كَمَا إِذا خلق فِيهِ طَوافا وسعيا وَرمي جمار وصياما وركوعا وسجودا لم يكن هُوَ الطَّائِف والساعي والراكع والساجد والرامي بِتِلْكَ الْجمار قَالَ وَقَوله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} مَعْنَاهُ مَا أصبت إِذْ حذفت وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي أصَاب فالمضاف إِلَيْهِ الْحَذف بِالْيَدِ والمضاف الى الله الإيصال إِلَى الْعَدو وإصابتهم بِهِ قَالَ وَلَيْسَ المُرَاد بذلك مَا يَظُنّهُ بعض النَّاس انه لما خلق الرَّامِي وَالرَّمْي كَانَ هُوَ الرَّامِي فِي الْحَقِيقَة فَإِن ذَلِك لَو كَانَ صَحِيحا لكَونه خَالِقًا لرميه لاطرد ذَلِك فِي سَائِر الْأَفْعَال وَيُقَال وَمَا مشيت وَلَكِن الله مَشى وَمَا لطمت وَلَكِن الله لطم وَمَا ضربت بِالسَّيْفِ وَلَكِن الله ضرب وَمَا ركبت الْفرس وَلَكِن الله ركب وَمَا صمت وَمَا صليت وَمَا حججْت وَلَكِن الله صَامَ وَصلى وَحج قَالَ وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ بطلَان هَذَا كُله قَالَ وَهَذَا من غلو المثبتين للقدر وَلِهَذَا يرْوى عَن عُثْمَان بن عَفَّان انهم كَانُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ لما حصر فَقَالَ لَهُم لماذا ترمونني فَقَالُوا مَا رميناك وَلَكِن الله رماك فَقَالَ لَو أَن الله رماني لأصابني وَلَكِن انتم ترمونني وتخطئوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قَالَ وَهَذَا مِمَّا احْتج بِهِ الْقَدَرِيَّة النفاة على أَن الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يَقُولُونَ ان الله خَالق أَفعَال الْعباد كَمَا احْتج بعض المثبتة بقوله تَعَالَى {وَلَكِن الله رمى} وَكِلَاهُمَا خطأ انْتهى كَلَام ابْن تَيْمِية رَحمَه الله قلت وَالظَّاهِر أَن الضَّابِط فِيمَا يُضَاف إِلَيْهِ تَعَالَى وينسب لَهُ هُوَ مَا انْفَرد سُبْحَانَهُ بأيجاده من غير فعل للْعَبد فِيهِ وَلَو صُورَة وَهُوَ الْمُسَبّب دون السَّبَب المتصف بِهِ العَبْد فَيُقَال مثلا وَمَا قتلت وَلَكِن الله قتل لِأَن الْقَتْل هُوَ زهوق الرّوح وَهُوَ مسبب عَن الْقَتْل نَاشِئ عَنهُ حَاصِل بِفعل الله خَاصَّة وَكَذَا مَا داواك الطَّبِيب اَوْ مَا شفاك وَلَكِن الله شفاك وَمَا شربت وَلَكِن الله أرواك وَمَا أكلت وَلَكِن الله أشبعك وَمَا ضربت وَلَكِن الله آلم على معنى مَا ضربت ضربا مؤلما وَلَكِن الله آلم وَمَا سودت لون الثَّوْب وَلَكِن الله سوده لِأَن كل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور سَبَب وَالله خَالق للسبب بِدُونِ مُشَاركَة صورية كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن الله رمى} فان الْإِصَابَة مسببة عَن الرَّمْي الَّذِي هُوَ السَّبَب وَلَا يُنَازع أحد فِي أَن الْأَمر بالأسباب الْمُوجبَة كَالْقَتْلِ والتداوي لَيْسَ أمرا بمسبباتها الَّذِي هُوَ الزهوق والشفاء وَأما من حَيْثُ الْخلق فيضاف إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ كل مَخْلُوق لِأَن الْمَعْلُوم ان كل مَخْلُوق يُقَال هُوَ من الله بمضىء انه خلقه بَائِنا عَنهُ لَا بمضىء انه قَامَ بِهِ واتصف بِهِ هَذَا وَقد توهم كثير من زنادقة المتصوفة من نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} إِن العَبْد هُوَ عين الرب تَعَالَى الله عَن ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قَالَ الْعَلامَة المفنن ذُو الوزارتين أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْخَطِيب وَزِير سُلْطَان الأندلس فِي كَلَامه على رَأْي أهل الْوحدَة الْمُطلقَة وأرتكبت هَذِه الطَّائِفَة مرتكبا غَرِيبا من القَوْل بالوحدة الْمُطلقَة وهاموا بِهِ ورمزوا وأحتقروا النَّاس من أَجله قَالَ وَتَقْرِير مَذْهَبهم على سَبِيل الْإِحَاطَة لَا فَائِدَة فِيهِ وَحَاصِله أَن الْبَارِي سُبْحَانَهُ هُوَ مَجْمُوع مَا ظهر وَمَا بطن وَأَنه لاشيء خلاف ذَلِك وَأطَال الْكَلَام هُوَ وَغَيره من الْعلمَاء على ذَلِك كَمَا بسطت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْموضع وَسمعت بأذني هَذَا من بعض مشايخهم وَالْحَاصِل أَن هَذَا القَوْل لم يقلهُ أحد من الْمُتَقَدِّمين وَإِنَّمَا حدث بَين المتصوفة الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ شَرّ من مقَالَة الفلاسفة فَإِنَّهُم أثبتوا وجود وَاجِب الْوُجُود وَلم يُنَازع فِيهِ لَا معطل وَلَا مُشْرك إِلَّا أَن بعض النَّاس قَالُوا إِن هَذَا الْعَالم حدث بِنَفسِهِ وَلَيْسَ هَذَا بقول مَعْرُوف لطائفة يَذبُّونَ عَنهُ فَإِن حُدُوث الْحَوَادِث بِلَا مُحدث بُطْلَانه من أبين الْعُلُوم الضرورية غَايَته أَن الفلاسفة تَقول إِن الْفلك متحرك حَرَكَة إختيارية بِسَبَبِهَا تحدث الْحَوَادِث من غير أَن يكون قد حدث من جِهَة الله مَا يُوجب حركته فَإِن حَرَكَة الْفلك عِنْدهم بِالِاخْتِيَارِ كحركة الْإِنْسَان فَلم يثبتوا لحركة الْفلك مُحدثا أحدثها غير الْفلك كَمَا لم يثبت الْقَدَرِيَّة لأفعال الْحَيَوَان مُحدث أحدثها غير الْحَيَوَان وَلِهَذَا كَانَ الْفلك عِنْدهم حَيَوَانا كَبِير يَتَحَرَّك للتشبيه بِالْعِلَّةِ الأولى كحركة المعشوق للعاشق فَذَلِك المعشوق المحبوب هُوَ المحرك لكَون المتحرك أحبه لَا لكَونه أبدع الْحَرَكَة وَلَا فعلهَا وَلِهَذَا قَالُوا إِن الفلسفة هِيَ التَّشْبِيه بالإله على حسب الطَّاقَة وَفِي الْحَقِيقَة لَيْسَ عِنْدهم الْبَارِي إِلَهًا للْعَالم وَلَا رَبًّا للْعَالمين بل غَايَة مَا يثبتونه أَن يكون شرطا فِي وجود الْعَالم وَأَن كَمَال الْمَخْلُوق أَن يكون مشتبها بِهِ هَذَا ومقالة من يَقُول إِن الرب عين العَبْد هِيَ شَرّ من مقَالَة هَؤُلَاءِ الفلاسفة وَقد دخل كثير من أهل الاسلام فِي طرق مبتدعة يطول ذكرهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأخرجوا من التَّوْحِيد مَا هُوَ منَّة كتوحيد الإلهية وَإِثْبَات حقائق أَسمَاء الله وَصِفَاته وَلم يعرف كثير مِنْهُم من التَّوْحِيد إِلَّا تَوْحِيد الربوبية وَهُوَ أَن الله رب كل شَيْء وخالقه وَهَذَا التَّوْحِيد كَانَ يقر بِهِ الْمُشْركُونَ الَّذين قَالَ الله عَنْهُم وَلَئِن سَأَلتهمْ عَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} قَالَت طَائِفَة من السّلف يَقُول لَهُم من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ الله وهم مَعَ هَذَا يعْبدُونَ غَيره وَإِنَّمَا التَّوْحِيد الَّذِي أَمر الله بِهِ الْعباد هُوَ تَوْحِيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بِأَن يعْتَقد إِثْبَات الله وَصِفَاته ويعبده وَلَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَالْعِبَادَة تجمع غَايَة الْحبّ وَغَايَة الذل لَهُ سُبْحَانَهُ رزقنا الله تَعَالَى ذَلِك وثبتنا عَلَيْهِ آمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67