الكتاب: لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة المؤلف: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478هـ) المحقق: فوقية حسين محمود الناشر: عالم الكتب - لبنان الطبعة: الثانية، 1407هـ - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة الجويني، أبو المعالي الكتاب: لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة المؤلف: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478هـ) المحقق: فوقية حسين محمود الناشر: عالم الكتب - لبنان الطبعة: الثانية، 1407هـ - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه ثقتي وَهُوَ حسبي وَكفى الْحَمد لله الْعَلِيم القاهر الْحَكِيم الَّذِي وَجب لَهُ الْقدَم واستحال فِي تعاليه تَجْوِيز الْعَدَم وَالصَّلَاة على النَّبِي مبيد الْبَاطِل وموضح الْحق بواضحات الدَّلَائِل هَذَا وَقد استدعيتم أرشدكم الله عز وَجل ذكر لمع من الْأَدِلَّة فِي قَوَاعِد عقائد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فاستخرت الله تَعَالَى فِي إسعافكم بمناكم وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 1 - الْعَالم وحدوثه الأَصْل فِي حُدُوث الْعَالم وَوُجُود الصَّانِع) اعلموا وفقكم الله أَن الأولى تَقْدِيم عِبَارَات اصْطلحَ الموحدون عَلَيْهَا ابْتِغَاء مِنْهُم لجمع الْمعَانِي الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ الوجيزة فَمَا أَطْلقُوهُ الْعَالم فَإِن قيل مَا الْعَالم وَلم سمي الْعَالم عَالما قُلْنَا الْعَالم عِنْد سلف الْأمة عبارَة عَن كل مَوْجُود سوى الله تَعَالَى وَعند خلف الْأمة عبارَة عَن الْجَوْهَر والأعراض فَأَما قَوْله لم سمي الْعَالم عَالما فَأَما الْعَالم فمشتق من الْعلم والعلامة وَإِنَّمَا سمي الْعلم علما لِأَنَّهُ أَمارَة مَنْصُوبَة على وجود صَاحب الْعلم الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فَكَذَلِك الْعَالم بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلَالَة دَالَّة على وجود الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِن قيل مَا حد الْجَوْهَر وَمَا حَقِيقَة الْعرض قُلْنَا الْجَوْهَر قد ذكرت لَهُ حدودا شَتَّى غير أَنا نقتصر على ثَلَاثَة مِنْهَا فَنَقُول الْجَوْهَر المتحيز وَقيل الْجَوْهَر مَاله حجم وَقيل الْجَوْهَر مَا يقبل الْعرض فَأَما الْعرض فقد قيل مَا يقوم بالجوهر وَقيل مَا يطْرَأ على الْجَوَاهِر كالألوان والطعوم والروائح والعلوم وَالْقدر والإرادات الْحَادِثَة وأضدادها والحياة وَالْمَوْت وَقيل الْعرض مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْبَقَاء ثمَّ أعلم أَن الْمَوْجُود يَنْقَسِم إِلَى قديم وحادث فالقديم هُوَ الْمَوْجُود الَّذِي لَا أول لوُجُوده والحادث هُوَ الْمَوْجُود الَّذِي لَهُ أول فَإِن قيل مَا الدَّلِيل على حُدُوث الْعَالم قُلْنَا الدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أجرام الْعَالم وأجسامها لَا تَخْلُو عَن الْأَعْرَاض الْحَادِثَة وَمَا لَا يَخْلُو عَن الْحَادِث حَادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 السُّؤَال على هَذَا الْكَلَام من أَرْبَعَة أوجه الأول لَا نسلم ثُبُوت الْأَعْرَاض وَلَئِن سلمنَا ثُبُوت الْأَعْرَاض فَلَا نسلم حدوثها وَلَئِن سلمنَا حدوثها فَلَا نسلم اسْتِحَالَة خلو الْجَوْهَر عَن هَذِه الْأَعْرَاض الْحَادِثَة وَالرَّابِع لم قلت إِن مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَادِث حَادث أما السُّؤَال الأول إِنْكَار ثُبُوت الْأَعْرَاض الدَّلِيل على ثُبُوت الْأَعْرَاض أَن الْعَاقِل إِذا رأى جوهرا سَاكِنا ثمَّ رَآهُ متحركا فقد أدْرك التَّفْرِقَة الضرورية 118 وَبَين هَاتين الْحَالَتَيْنِ وَتلك التَّفْرِقَة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن ترجع إِلَى ذَات الْجَوْهَر أَو إِلَى معنى زَائِد على الْجَوْهَر اسْتَحَالَ أَن يُقَال ترجع التَّفْرِقَة إِلَى ذَات الْجَوْهَر لِأَن الْجَوْهَر فِي الْحَالَتَيْنِ مُتحد وَالشَّيْء لَا يُخَالف نَفسه فَلَا يَقع الِافْتِرَاق إِلَّا بَين ذاتين فصح ووضح بذلك أَن التَّفْرِقَة رَاجِعَة إِلَى معنى زَائِد على الْجَوْهَر وَذَلِكَ هُوَ الْعرض الَّذِي ادعيناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَالسُّؤَال الثَّانِي منع حُدُوث الْأَعْرَاض وَالدَّلِيل على حُدُوث الْأَعْرَاض أَنا نرى الْأَعْرَاض المتضادة تتعاقب على محالها فنستيقن حُدُوث الطَّارِئ مِنْهَا من حَيْثُ وجدت ونعلم حُدُوث السَّابِق مِنْهَا من حَيْثُ عدمت إِذْ لَو كَانَت قديمَة لاستحال عدمهَا لِأَن الْقدَم يُنَافِي الْعَدَم وَإِن مَا ثَبت لَهُ الْقدَم اسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْعَدَم وَالدَّلِيل على اسْتِحَالَة تعري الْجَوَاهِر عَن الْأَعْرَاض أَن الْجَوَاهِر شاغلة للأحياز والجواهر الشاغلة للأحياز غير مجتمعة وَلَا مفترقة بِحَال بل باضطرار يعلم أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَن كَونهَا مجتمعة أَو مفترقة وَذَلِكَ يقْضِي باستحالة خلوها عَن الِاجْتِمَاع والافتراق وَكَذَلِكَ نعلم ببديهة الْعُقُول اسْتِحَالَة تعري الأجرام عَن الاتصاف بالتحرك والسكون واللبث فِي الْمحَال والزوال والانتقال وكل ذَلِك يُوضح اسْتِحَالَة تعري الْجَوَاهِر عَن الْأَعْرَاض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَالدَّلِيل على اسْتِحَالَة حوادث لَا أول لَهَا أَن حَقِيقَة الْحَادِث مَاله أول وَإِذن كَانَ حَقِيقَة كل حَادث أَن يكون لَهُ أول فَبَان كَثْرَة الْحَوَادِث لَا تخرج عَن حَقِيقَتهَا فَيكون للْكُلّ أول وَهَذَا كالجوهر فَإِن حَقِيقَة الْجَوْهَر كَونه متحيزا فبالكثرة لَا يخرج عَن حَقِيقَته وَيكون الْكل متحيزا فَكَذَلِك هَهُنَا إِذا ثبتَتْ الْأَعْرَاض وَثَبت حدوثها وَثَبت اسْتِحَالَة تعري الْجَوَاهِر عَنْهَا وَبَطل قَول الدهري بِأَن الْحَوَادِث لَا أول لَهَا فيترتب على ذَلِك أَن الْجَوَاهِر لَا تسبق الْأَعْرَاض الْحَادِثَة وَمَا لَا يسْبق الْحَادِث حَادث على الِاضْطِرَار من غير حَاجَة إِلَى نظر وافتكار وَالدَّلِيل على أَن الْعَالم لَهُ صانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أَنه قد صَحَّ حُدُوث الْعَالم بِالدّلَالَةِ الَّتِي ذَكرنَاهَا والحادث جَائِز الْوُجُود إِذا يجوز تَقْدِير وجوده بَدَلا عَن عَدمه وَيجوز تَقْدِير عَدمه بَدَلا عَن وجوده فَلَمَّا اخْتصَّ بالوجود الْمُمكن بَدَلا عَن الْعَدَم الْجَائِز افْتقر إِلَى مُخَصص وَهُوَ الصَّانِع تَعَالَى ويستحيل أَن يكون مُخَصص الْعَالم طبيعة كَمَا صَار إِلَيْهِ الطائعيون ويستحيل أَن يكون عِلّة مُوجبَة كَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَوَائِل لِأَن تِلْكَ الطبيعة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون قديمَة أَو حَادِثَة فَإِن كَانَت قديمَة لزم قدم آثارها فَإِن الطبيعة عِنْد مثبتها لَا اخْتِيَار لَهَا وَهِي مُوجبَة آثارها عِنْد ارْتِفَاع الْمَوَانِع وَقد صَحَّ حدوثها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَإِن كَانَت الطبيعة حَادِثَة افْتَقَرت إِلَى طبيعة أُخْرَى ثمَّ الْكَلَام فِي تِلْكَ الطبيعة كَالْكَلَامِ فِي تِلْكَ الطبيعة كَالْكَلَامِ فِي هَذِه الطبيعة وينساق هَذَا القَوْل إِلَى إِثْبَات حوادث لَا أول لَهَا وَقد تبين بطلَان ذَلِك فوضح بذلك أَن مُخَصص الْعَالم صانع مُخْتَار مَوْصُوف بالاقتدار وَالِاخْتِيَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 2 - الله وَصِفَاته 11 - ظ فصل صانع الْعَالم أزلي الْوُجُود قديم الذَّات لَا مفتتح لوُجُوده وَلَا مُبْتَدأ لثُبُوته وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه تَعَالَى لَو كَانَ حَادِثا لشارك الْحَوَادِث فِي الافتقار إِلَى مُحدث ثمَّ الْكَلَام فِي محدثه ينزل منزلَة الْكَلَام فِيهِ ويتسلسل القَوْل وَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى إِثْبَات حوادث لَا أول لَهَا وَقد سبق بطلَان ذَلِك الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فصل صانع الْعَالم حَيّ عَالم بِجَمِيعِ المعلومات قَادر على جَمِيع المقدورات فَإنَّا ببداهة الْعُقُول تعلم اسْتِحَالَة صُدُور الْأَفْعَال من الْعَاجِز عَنْهَا وَكَذَلِكَ يستيقن كل لَبِيب أَن الْأَفْعَال المحكمة المتقنة الْوَاقِعَة على أحسن تَرْتِيب ونظام وإتقان وإحكام لَا تصدر إِلَّا من عَالم بهَا وَمن جوز صُدُور خطّ منظوم على تَرْتِيب مَعْلُوم من غير عَالم بالخط كَانَ من الْمَعْقُول خَارِجا وَفِي تيه الْجَهْل والجا وَإِذا ثَبت كَون صانع الْعَالم عَالما قَادِرًا فبالاضطرار يعلم كَونه حَيا إِذْ يَسْتَحِيل أَن يَتَّصِف بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة ميت أَو جماد وتجويز ذَلِك مراغمة وعناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فصل صانع الْعَالم مُرِيد على الْحَقِيقَة عِنْد أهل الْحق وَأنكر الكعبي كَونه مرِيدا على الْحَقِيقَة وَزعم أَنه تَعَالَى لَو وصف بِكَوْنِهِ مرِيدا لأفعال نَفسه فَالْمُرَاد بذلك أَنه خَالِقهَا ومنشئها وَلَو وصف بِكَوْنِهِ مرِيدا لبَعض أَعمال الْعباد فَالْمُرَاد بذلك أَنه أَمر بهَا وَزعم أَن كَون الْإِلَه عَالما بِوُقُوع الْحَوَادِث فِي أَوْقَاتهَا على خَصَائِص صفاتها يُغني عَن تعلق الْإِرَادَة بهَا وَهَذَا بَاطِل إِذْ لَو أغْنى كَونه عَالما عَن كَونه مرِيدا لأغنى كَونه عَالما عَن كَونه قَادِرًا وَلَيْسَ كَذَلِك وَأَيْضًا قد وافقونا على افتقار أَفعَال الْمُحدثين إِلَى إرادتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ذهب معتزلة الْبَصْرَة إِلَى أَن الْبَارِي تَعَالَى مُرِيد بِإِرَادَة حَادِثَة ثَابِتَة لَا فِي مَحل وَالَّذِي قَالُوهُ بَاطِل لِأَن الْحَوَادِث إِنَّمَا افْتَقَرت إِلَى إِرَادَة لحدوثها وَلَو كَانَت الْإِرَادَة حَادِثَة لافتقرت أَيْضا إِلَى إِرَادَة أُخْرَى لحدوثها ثمَّ يُؤَدِّي إِثْبَات ذَلِك إِلَى إِثْبَات إرادات لَا نِهَايَة لَهَا فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب لم يبْق بعد ذَلِك إِلَّا الْقطع بِمَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق من وصف الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكَوْنِهِ مرِيدا بِإِرَادَة قديمَة أزلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فصل صانع الْعَالم سميع وبصير مُتَكَلم إِذْ قد ثَبت كَونه حَيا والحي لَا يَخْلُو عَن الاتصاف بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر وَالْكَلَام وأضدادها وأضداد هَذِه الصِّفَات نقائص والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتقدس عَن سمات النَّقْص فصل الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَاقٍ وَاجِب الْوُجُود إِذْ قد ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ قدمه وَالْقَدِيم يَسْتَحِيل عَدمه بِاتِّفَاق من الْعُقَلَاء وَذَلِكَ يُصَرح بِكَوْنِهِ بَاقِيا 119 ومستمر الْوُجُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فصل صانع الْعَالم وَاحِد عِنْد أهل الْحق وَالْوَاحد الْحَقِيقِيّ هُوَ الشَّيْء الَّذِي لَا يَنْقَسِم وَالدَّلِيل على وحدانية الْإِلَه أَنا لَو قَدرنَا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ وفرضنا عرضين ضدين وقدرنا إِرَادَة أَحدهمَا لأحد الضدين وَإِرَادَة الثَّانِي للثَّانِي فَلَا يَخْلُو من أُمُور ثَلَاثَة إِمَّا أَن تنفذ إرادتهما أَو لَا تنفذ إرادتهما أَو تنفذ إِرَادَة أَحدهمَا دون الآخر واستحال أَن تنفذ إرادتهما لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الضدين واستحال أَيْضا أَلا تنفذ إرادتهما لتمانع الإلهين وخلو الْمحل عَن كلا الضدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فَإِذا بَطل القسمان تعين الثَّالِث وَهُوَ أَن تنفذ إِرَادَة أَحدهمَا دون الآخر فَالَّذِي لَا تنفذ إِرَادَته فَهُوَ المغلوب المقهور المستكره وَالَّذِي نفذت إِرَادَته فَهُوَ الْإِلَه الْقَادِر على تَحْصِيل مَا يَشَاء فَإِن قيل لم لَا يجوز أَن يتوافقا أبدا وَلَا يختلفا قطّ قُلْنَا إِن لم نجوز اخْتِلَافهمَا فِي الْإِرَادَة كَانَ محالا إِذْ وجود أَحدهمَا وَوُجُود صِفَاته يَسْتَحِيل أَن يمْنَع الثَّانِي من أَن يُرِيد مَا يَصح إِرَادَته عِنْد تَقْدِير الِانْفِرَاد وَالْعَاجِز منحط عَن رُتْبَة الربوبية وَذَلِكَ مَضْمُون قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} أَي لتناقضت أحكامهما عِنْد تَقْدِير القادرين على الْكَمَال فصل الْقَدِيم الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالم بِعلم قديم قَادر بقدرة قديمَة حَيّ بحياة قديمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَذهب لمعتزلة إِلَى أَن الْبَارِي تَعَالَى عَن قَوْلهم حَيّ عَالم قَادر بِنَفسِهِ وَلَيْسَ لَهُ قدرَة وَلَا علم وَلَا حَيَاة دليلنا فِي الْمَسْأَلَة أَن نقُول قد تقرر فِي الْعُقُول أَن مَا يعلم بِهِ الْمَعْلُوم علم فَلَو علم الْبَارِي تَعَالَى الْمَعْلُوم بِنَفسِهِ لَكَانَ نَفسه علما إِذْ كل مُتَعَلق بِمَعْلُوم تعلق إحاطة بِهِ علم وَقد تحكمت الْمُعْتَزلَة فِي صِفَات الْبَارِي تَعَالَى فَزَعَمت أَنه عَالم حَيّ قَادر بِنَفسِهِ مُرِيد بِإِرَادَة حَادِثَة فَلَو عكس عاكس مَا قَالُوهُ وَزعم أَنه عَالم بِعلم حَادث مُرِيد بِنَفسِهِ لم يَجدوا بَين مَا اعتقدوه وَبَين مَا ألزموه فصلا فَإِن قَالُوا لَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى مرِيدا بِنَفسِهِ لَكَانَ مرِيدا لكل مُرَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 كَمَا أَنه تَعَالَى لما كَانَ عَالما بِنَفسِهِ كَانَ عَالما بِكُل مَعْلُوم قُلْنَا هُوَ بَاطِل على فَسَاد مذهبكم ومعتقدكم بِكَوْن الْبَارِي تَعَالَى قَادِرًا فَإِن ذَلِك من صِفَات النَّفس عنْدكُمْ ثمَّ يخْتَص كَون الْإِلَه قَادِرًا عنْدكُمْ بِبَعْض المقدورات وَلَا يَتَّصِف الرب عز وَجل بالاقتدار على مقدورات الْعباد وَقد صرحت نُصُوص من كتاب الله تَعَالَى بِإِثْبَات الصِّفَات مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ} وَقَالَ عز من قَائِل {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ متمدحا مثنيا على نَفسه إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أثبت لنَفسِهِ الْقُوَّة وَهِي الْقُدْرَة بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين فصل وَقد ذكرنَا أَن الْبَارِي تَعَالَى مُتَكَلم فَاعْلَم أَن كَلَامه قديم أزلي لَا مُبْتَدأ لوُجُوده وَذهب الْمُعْتَزلَة والنجارية والزيدية والإمامية والخوارج إِلَى أَن كَلَام الله تَعَالَى حَادث 119 - ظ وامتنعت طوائف من هَؤُلَاءِ من إِطْلَاق القَوْل بِكَوْنِهِ مخلوقا فَسَموهُ حَادِثا ومحدثا وَأطلق الْمُتَأَخّرُونَ من الْمُعْتَزلَة قَوْلهم بِكَوْنِهِ مخلوقا وَالدَّلِيل على قدم كَلَام الله تَعَالَى أَنه لَو كَانَ حَادِثا لم يخل من أُمُور ثَلَاثَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إِمَّا أَن يقوم بِذَات الْبَارِي تَعَالَى أَو يقوم بجسم من الْأَجْسَام أَو يقوم لَا بِمحل بَطل قِيَامه بِهِ إِذْ يَسْتَحِيل قيام الْحَوَادِث بِذَات الْبَارِي تَعَالَى فَإِن الْحَوَادِث لَا تقوم إِلَّا بحادث وَبَطل قيام كَلَامه بجسم إِذْ يلْزم أَن يكون الْمُتَكَلّم ذَلِك الْجِسْم وَيبْطل قيام الْكَلَام لَا بِمحل فَإِن الْكَلَام الْحَادِث عرض من الْأَعْرَاض ويستحيل قيام الْأَعْرَاض بأنفسها إِذْ لوجاز ذَلِك فِي ضرب مِنْهَا لزم فِي سائرها فصل الْكَلَام الْحَقِيقِيّ شَاهدا حَدِيث النَّفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَهُوَ الَّذِي تدل عَلَيْهِ الْعبارَات المتواضع عَلَيْهَا وَقد تدل عَلَيْهِ الخطوط والرموز والإشارات وكل ذَلِك أَمَارَات على الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ وَلذَلِك قَالَ الأخطل (إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا) وَمن الشواهد على ذَلِك من كتاب الله عز وَجل فِي الْإِخْبَار عَن الْمُنَافِقين قَوْله تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله} الْآيَة وَنحن نعلم أَن الله تَعَالَى لم يكذبهم فِي إقرارهم وَإِنَّمَا يكذبهم فِيمَا تجنه سرائرهم وتكنه ضمائرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 إِذا ثَبت أَن الْقَائِم بِالنَّفسِ كَلَام وَلَيْسَ هُوَ حروفا منتظمة وَلَا أصواتا مقطعَة من مخارج الْحُرُوف فليستيقن الْعَاقِل أَن الْكَلَام الْقَدِيم لَيْسَ بحروف وَلَا أصوات وَلَا ألحان وَلَا نغمات فَإِن الْحُرُوف تتوالى وتترتب وَيَقَع بَعْضهَا مَسْبُوقا بِبَعْض وكل مَسْبُوق حَادث فصل وَكَلَام الله تَعَالَى مقروء بألسنة الْقُرَّاء مَحْفُوظ بِحِفْظ الْحفظَة مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف على الْحَقِيقَة وَالْقِرَاءَة أصوات القارئين ونغماتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَهِي من الْأَفْعَال الَّتِي يُؤمر بهَا وَيُنْهِي عَنْهَا ويثاب الْمُكَلف عَلَيْهَا وَقد يُعَاقب على تَركهَا وَكَلَام الله تَعَالَى وَهُوَ الْمَعْلُوم الْمَفْهُوم مِنْهَا وَالْحِفْظ صفة الْحَافِظ وَالْمَحْفُوظ كَلَام الله عز وَجل وَالْكِتَابَة أحرف منظومة وأشكال مرقومة وَهِي حوادث وَالْمَفْهُوم مِنْهَا كَلَام الله تَعَالَى كَمَا أَن الله تَعَالَى مَكْتُوب مَعْلُوم مَذْكُور وَهُوَ غير ذكر الذَّاكِرِينَ وَعلم الْعَالمين وَكِتَابَة الْكَاتِبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بَاب ذكر مَا يَسْتَحِيل فِي أَوْصَاف الْبَارِي تَعَالَى يشْتَمل على فُصُول وَجُمْلَة القَوْل فِيهِ أَن كل مَا يدل على الْحَوَادِث وعَلى سمة النَّقْص فالرب يتعالى ويتقدس عَنهُ وَهَذِه الْجُمْلَة 120 وتتبين بفصول تشْتَمل على تفصيلات مِنْهَا أَن الرب تَعَالَى متقدس عَن الِاخْتِصَاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة لَا تحيط بِهِ الأقطار وَلَا تكتنفه الأقتار ويجل عَن قبُول الْحَد والمقدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن كل مُخْتَصّ بِجِهَة شاغل لَهَا متحيز وكل متحيز قَابل لملاقاة الْجَوَاهِر ومفارقتها وكل مَا يقبل الِاجْتِمَاع والافتراق لَا يَخْلُو عَنْهَا وَمَا لَا يَخْلُو عَن الِاجْتِمَاع والافتراق حَادث كالجواهر فَإِذا ثَبت تقدس الْبَارِي عَن التحيز والاختصاص بالجهات فيرتب على ذَلِك تعاليه عَن الِاخْتِصَاص بمَكَان وملاقاة أجرام وأجسام فَإِن سئلنا عَن قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} قُلْنَا المُرَاد ب الاسْتوَاء الْقَهْر وَالْغَلَبَة والعلو وَمِنْه قَول الْعَرَب اسْتَوَى فلَان على المملكة أَي استعلى عَلَيْهَا واطردت لَهُ وَمِنْه قَول الشَّاعِر (قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق ... من غير سيف وَدم مهراق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فصل الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتقدس عَن قبُول الْحَوَادِث وانفق على ذَلِك أهل الْملَل والنحل وَخَالف إِجْمَاع الْأمة طَائِفَة نبغوا من سجستان لقبوا بالكرامية فزعموا أَن الْحَوَادِث تطرأ على ذَات الْبَارِي تَعَالَى عَن قَوْلهم وَهَذَا نَص مَذْهَب الْمَجُوس وَالدَّلِيل على اسْتِحَالَة قيام الْحَوَادِث بِذَات الْبَارِي تَعَالَى أَنَّهَا لَو قَامَت بِهِ لم يخل عَنْهَا وَمَا لم يخل عَن الْحَوَادِث حَادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 إِرَادَة الله وَإِرَادَة العَبْد فصل الْحَوَادِث كلهَا تقع مُرَادة لله تَعَالَى نَفعهَا وضرها وَخَيرهَا وشرها وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة وَمن تَبِعَهُمْ من أهل الْأَهْوَاء إِلَى أَن الْوَاجِبَات والمندوبات من الطَّاعَات مُرَادة لله تَعَالَى وَقعت أَو لم تقع والمعاصي وَالْفَوَاحِش تقع وَالله تَعَالَى كَارِه لَهَا غير مُرِيد لوقوعها وَهِي تقع على كره والمباحات وَمَا لَا يدْخل تَحت التَّكْلِيف من أَفعَال الْبَهَائِم والمجانين تقع وَهُوَ لَا يريدها وَلَا يكرهها وَإِذا دللنا على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالق لجَمِيع الْحَوَادِث فيترتب على ذَلِك أَنه مُرِيد لما خلق قَاصد إِلَى إبداع مَا اخترع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ثمَّ نقُول قد قَضَت الْعُقُول بِأَن قُصُور الْإِرَادَة وَعدم نُفُوذ الْمَشِيئَة من أصدق الأمارات الدَّالَّة على سمات النَّقْص والاتصاف بِالْعَجزِ والقصور وَمن ترشح للْملك ثمَّ كَانَ لَا ينفذ مُرَاده فِي أهل مَمْلَكَته عد ضَعِيف الْمِنَّة ومضاع الفرصة فَإِذا كَانَ ذكل يزري على من ترشح للْملك فَكيف يجوز ذَلِك فِي صفة ملك الْمُلُوك وَرب الأرباب فَإِن قَالُوا الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادر على أَن يرد الْخَلَائق إِلَى طَاعَته قهرا وقسرا وَيظْهر آيَة تظل رِقَاب الْجَبَابِرَة لَهَا خاضعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قُلْنَا من فَاسد أصلكم أَنه لَا يجوز فِي حكمه إِجْبَار الْخَلَائق على الطَّاعَات واضطرارهم إِلَى الْخيرَات وَلَا يُرِيد مِنْهُم الْإِيمَان إجبارا وَإِنَّمَا يُريدهُ مِنْهُم اخْتِيَارا فَمَا يُريدهُ لَا يقدر عَلَيْهِ وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ لَا يُريدهُ وَقد أجمع سلف الْأمة وَخَلفهَا على كلمة لَا يجحدها معتز إِلَى الْإِسْلَام وَهِي قَوْلهم {مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن} والآيات الشاهدة لأهل الْحق لَا تحصى كَثْرَة وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} 120 ظ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة} إِلَى آخر الْآيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فَإِن احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} فَالْجَوَاب أَن نقُول أَرَادَ الله تَعَالَى بالعباد الموفقين لطاعته المخلصين لعبادته وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى {عينا يشرب بهَا عباد الله} وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَوْلِيَاء الأتقياء من الْعباد الَّذين لم يرد لَهُم الرب الْكفْر لم يكفروا وَرُبمَا يحتجون بقوله تَعَالَى {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} إِلَى قَوْله ( ... {حَتَّى ذاقوا بأسنا} ) وَوجه الدَّلِيل من الْآيَة أَن الله رد على الْكفَّار قَوْلهم {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فَالْجَوَاب أَن نقُول الله تَعَالَى إِنَّمَا رد عَلَيْهِم لأَنهم قَالُوا مَا قَالُوهُ مستهزئين مِمَّا رَاه فِي الْحق وردا لحجة الله تَعَالَى وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي آخر الْآيَة {قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 4 - رُؤْيَة الله فصل مَذْهَب أهل الْحق أَن الْبَارِي تَعَالَى مرئي وَيجوز أَن يرَاهُ الراؤون بالأبصار وَذهب الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِيل أَن يرى وَصَارَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يرى نَفسه وَالدَّلِيل على جَوَاز الرُّؤْيَة عقلا أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُود وكل مَوْجُود مرئي وَبَيَان ذَلِك أَنا نرى الْجَوَاهِر والألوان شَاهدا الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فَإِن رئي الْجَوْهَر لكَونه جوهرا لزم أَلا يرى الْجَوْهَر وَإِن رئيا لوجودهما لزم أَن يرى كل مَوْجُود والباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُود فصح أَن يرى فَإِن قَالُوا إِنَّمَا يرى مَا يرى لحدوثه والرب تَعَالَى أزلي قديم الذَّات فَلَا يرى فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن نقُول كلامكم هَذَا نقض عَلَيْكُم لجَوَاز رُؤْيَة الطعوم والروائح والعلوم وخوها فَإِنَّهَا حوادث وعندكم يَسْتَحِيل أَن نرى ثمَّ الْجَواب الْحَقِيقِيّ أَن نقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ثمَّ الْحُدُوث يُنبئ عَن مَوْجُود مَسْبُوق بِعَدَمِ والعدم السَّابِق لَا يصحح الرُّؤْيَة فانحصر التَّصْحِيح فِي الْوُجُود فَدلَّ على أَن كل مَوْجُود صَحَّ أَن يرى ويستدل على جَوَاز الرُّؤْيَة وَأَنَّهَا سَتَكُون فِي الْجنان وَعدا من الله صدقا وقولا مِنْهُ حَقًا بقوله تَعَالَى {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} وَالنَّظَر إِذا عدي ب إِلَى اقْتضى رُؤْيَة الْبَصَر فَإِن عارضونا بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} قُلْنَا فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ الرب تَعَالَى يرى وَلَا يدْرك فَإِن الْإِدْرَاك يُنبئ عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الْإِحَاطَة ودرك الْغَايَة والرب تَعَالَى مقدس عَن الْغَايَة وَالنِّهَايَة فَإِن عارضونا بقوله تَعَالَى فِي جَوَاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {لن تراني} فزعموا أَن لن يَقْتَضِي النَّفْي على التأييد قُلْنَا هَذِه الْآيَة من أوضح الْأَدِلَّة على جَوَاز الرُّؤْيَة فَإِنَّهَا لَو كَانَت مستحيلة لَكَانَ مُعْتَقد جَوَازهَا ضَالًّا أَو كَافِرًا وَكَيف يعْتَقد 121 وومالا يجوز على الله تَعَالَى من اصطفاه الله تَعَالَى لرسالته واجتباه لنبوته وخصصه بتكريمه وشرفه بتكليمه وَجعله أفضل أهل زَمَانه وأيده ببرهانه وَيجوز على الْأَنْبِيَاء الريب فِي أَمر يتَعَلَّق بِعلم الْغَيْب أما مَا يتَعَلَّق بِوَصْف الْبَارِي عز وَعلا فَلَا يجوز الريب عَلَيْهِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَيجب حمل الْآيَة على أَن مَا اعْتقد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام جَوَازه جَائِز لَكِن ظن أَن مَا اعْتقد جَوَازه يجِيبه إِلَيْهِ ناجزا فَيرجع النَّفْي فِي الْجَواب إِلَى السُّؤَال وَمَا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ربه رُؤْيَة فِي الدُّنْيَا لينصرف النَّفْي إِلَيْهَا وَالْجَوَاب نزل على قَضِيَّة الْخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 5 - الرب والخلق فصل الرب سُبْحَانَهُ متفرد بِخلق الْمَخْلُوقَات فَلَا خَالق سواهُ وَلَا مبدع غَيره وكل حَادث فَالله تَعَالَى محدثه وَقَالَت الْمُعْتَزلَة المحدثون يخترعون أفعالهم بقدرهم ويخلقونها والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مَوْصُوف بالاقتدار على أَفعَال الْعباد وَالدَّلِيل على تفرد الرب تَعَالَى بالخلق قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ} وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أَن الله تَعَالَى تمدح بالخلق وَأثْنى على نَفسه بذلك وَلَو شَاركهُ فِيهِ الحديث: 5 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 غَيره لبطلت فَائِدَة التمدح وَكَذَلِكَ يسْتَدلّ بقوله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء فاعبدوه} وَقَوله تَعَالَى {قل الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ الْوَاحِد القهار} ثمَّ الدَّلِيل من حَيْثُ الْعقل على أَن الرب تَعَالَى مُنْفَرد بالإيجاد والاختراع أَن الْأَفْعَال دَالَّة على علم فاعلها وَالْأَفْعَال الصادرة من الْعباد لَا يحيطون بمعظم صفاتها وَلَو كَانُوا خالقين لَهَا لكانوا محيطين بجملة صفاتها فصل العَبْد غير مجبر على أَفعاله بل هُوَ قَادر عَلَيْهَا مكتسب لَهَا وَالدَّلِيل على إِثْبَات الْقُدْرَة للْعَبد أَن الْعَاقِل يفرق بَين أَن ترتعد يَده وَبَين أَن يحركها قصدا وَمعنى كَونه مكتسبا أَنه قَادر على فعله وَإِن لم تكن قدرته مُؤثرَة فِي إِيقَاع الْمَقْدُور وَذَلِكَ بِمَثَابَة الْفرق بَين مَا يَقع مرَادا وَبَين مَا يَقع غير مُرَاد وَإِن كَانَت الْإِرَادَة لَا تُؤثر فِي المُرَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فصل لَا يجب على الله تَعَالَى شَيْء وَمَا أنعم بِهِ فَهُوَ فضل مِنْهُ وَمَا عاقب بِهِ فَهُوَ عدل مِنْهُ وَيجب على العَبْد مَا يُوجِبهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَفَاد بِمُجَرَّد الْعُقُول وجوب شَيْء بل جَمِيع الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بالتكاليف مُتَلَقَّاة من قَضِيَّة الشَّرْع وَمُوجب السّمع وَالدَّلِيل على أَنه لَا يجب على الله شَيْء أَن حَقِيقَة الْوَاجِب مَا يسْتَوْجب اللوم بِتَرْكِهِ والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعالى عَن التَّعَرُّض لذَلِك وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طاعات الْمُكَلّفين تجب عِنْد الْمُعْتَزلَة شكرا لله تَعَالَى على مَا أولاه من آلائه فَإِن كَانَت الطَّاعَات وَاجِبَة عوضا من النعم يَسْتَحِيل أَن يسْتَحق مؤدي الْوَاجِب ثَوابًا وَلَو جَازَ أَن يسْتَحق العَبْد على أَدَاء الْوَاجِب عوضا لجَاز أَن يسْتَحق الرب على الثَّوَاب شكرا وَإِن كَانَ مُسْتَحقّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فصل القَوْل فِي إِثْبَات النبوات لله تَعَالَى أَن يُرْسل الرُّسُل وَيبْعَث الْأَنْبِيَاء مبشرين ومنذرين وَأنْكرت البراهمة النُّبُوَّة وَمنعُوا جَوَاز انبعاث الرُّسُل وَقَالُوا إِن جَاءَت الرُّسُل بِمَا يدْرك عقلا لم يكن فِي إرسالهم فَائِدَة وَكَانَ فِي قضايا الْعقل مندوحة عَن غَيرهَا وَإِن جَاءَت الرُّسُل بِمَا لَا يدْرك عقلا فَلَا يقبل مَا يُخَالف الْعقل قُلْنَا الشَّرْع يرشد إِلَى مَا لَا يسْتَدرك بمحض الْعُقُول وَلَا يرد بِمَا يقْضِي الْعقل بِخِلَافِهِ وَإِذا لم يكن فِي إرْسَال الرُّسُل اسْتِحَالَة أَو خُرُوج عَن الْحَقِيقَة فَيجب الحكم بِجَوَازِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 6 - الرسَالَة والنبوة والمعجزة فصل إِنَّمَا يثبت صدق مدعي النُّبُوَّة بالمعجزات وَهِي أَفعَال الله تَعَالَى الخارقة للْعَادَة 121 ظ المستمرة وظاهرها على حسب دَعْوَى النُّبُوَّة هُوَ تحديه ويعجز عَن الْإِتْيَان بأمثالها الَّذين يتحداهم النَّبِي وَوجه دلالتها على صدق النَّبِي أَنَّهَا تنزل منزلَة التَّصْدِيق بالْقَوْل ونظيرها فِي الشَّاهِد أَن يتَصَدَّى ملك للنَّاس وَيَأْذَن لَهُم بالولوج عَلَيْهِ فَلَمَّا احتفوا بِهِ وَأخذ كل مَجْلِسه قَامَ لأهل الْجمع قَائِم وَقَالَ يَا أَيهَا الْمَلأ إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم وَقد ادعيت الرسَالَة بمرأى مِنْهُ ومسمع وَآيَة الرسَالَة أَن الْملك يُخَالف عَادَته وَيقوم وَيقْعد إِذا استدعيته الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثمَّ يَقُول يَا أَيهَا الْملك صدقني وقم واقعد فَإِذا فعل الْملك مَا استدعاه مِنْهُ كَانَ ذَلِك تَصْدِيقًا نازلا منزلَة قَوْله صدقت فصل الدَّلِيل على ثُبُوت نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام المعجزات وَمن آيَاته الْقُرْآن وَفِيه وُجُوه من الإعجاز مِنْهَا مَا اخْتصَّ بِهِ من الجزالة وَالنّظم الْخَارِج عَن جَمِيع أساليب أوزان كَلَام الْعَرَب وتحدى الْعَرَب بِأَن يعارضوا سُورَة مِنْهُ وَذكر أَنهم لَو عارضوها لبطلت دَعْوَاهُ وانكف عَن التَّعَرُّض لَهُم فحاولوا معارضته وهم اللد البلغاء واللسن الفصحاء فِي نَيف وَعشْرين سنة فَلم يتأت لَهُم مُعَارضَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 من وُجُوه الإعجاز إشتمال الْقُرْآن على قصَص الْأَوَّلين مَعَ الْقطع بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلم يعْهَد فِي جَمِيع زَمَانه متعاطيا لدراسة كتب الْأَوَّلين وتعملها وَلم يسْبق لَهُ نهضة يتَوَقَّع فِي مثلهَا دراسة الْكتب ثمَّ اشْتَمَل الْقُرْآن على غيوب مُتَعَلقَة بالمستقبل كَمَا اتّفق إنباء الْقُرْآن عَنْهَا فصل ولرسول الله عَلَيْهِ السَّلَام آيَات ومعجزات سوى الْقُرْآن كانفلاق الْقَمَر وتسبيح الْحَصَى وإنطاق العجماء ونبع المَاء من بَين الْأَصَابِع وَنَحْوهَا فصل كل مَا جوزه الْعقل وَورد بِهِ الشَّرْع وَجب الْقَضَاء بِثُبُوتِهِ فمما ورد الشَّرْع بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عَذَاب الْقَبْر وسؤال مُنكر وَنَكِير ورد الرّوح إِلَى الْمَيِّت فِي قَبره وَمِنْهَا الصِّرَاط وَالْمِيزَان والحوض والشفاعة للمذنبين كل ذَلِك حق وَالْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان فِي وقتنا قَالَ الله تَعَالَى {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 7 - الْإِمَامَة فصل إِمَامَة الْمُسلمين وأمير الْمُؤمنِينَ من بعد رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ثمَّ عمر الْفَارُوق بعده ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَمَا نَص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على إِمَامَة أحد بعده وتوليته إِذا لَو نَص على ذَلِك لظهر وانتشر كَمَا اشتهرت تَوْلِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَائِر ولاته وكما اشْتهر كل أَمر خطير الحديث: 7 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَإِذا ثَبت أَن الْإِمَامَة لم تثبت نصا لأحد دلّ أَنَّهَا ثَبت أختيارا ثمَّ الْمُسلمُونَ أَجمعُوا على إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وانقادوا بأجمعهم لَهُ من غير مُخَالفَة وَكَذَلِكَ جرى الْأَمر فِي زمن عمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَمُعَاوِيَة وَإِن قَاتل عليا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُنكر إِمَامَته وَلَا يدعيها لنَفسِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ظَانّا أَنه مُصِيب وَكَانَ مخطئا وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَعنهُ 122 ومتمسك بِالْحَقِّ فصل الْخُلَفَاء الراشدون لما ترتبوا فِي الْإِمَامَة فَالظَّاهِر ترتيبهم فِي الْفَضِيلَة فَخير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ إِذْ الْمُسلمُونَ كَانُوا لَا يقدمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 للْإِمَامَة أحدا تشهيا مِنْهُم وَإِنَّمَا قدمُوا من قدموه لاعتقادهم كَونه أفضل وَأصْلح للْإِمَامَة من غَيره فصل لَا يصلح للْإِمَامَة إِلَّا من تَجْتَمِع فِيهِ شَرَائِط أَحدهَا أَن يكون قرشيا فَإِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْأَئِمَّة من قُرَيْش وَالْآخر أَن يكون مُجْتَهدا من أهل الْفَتْوَى وَأَن يكون ذَا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الْأُمُور وإيالتها وَأَن يكون حرا ورعا فِي دينه وكل هَذِه الشَّرَائِط كَانَت مَوْجُودَة فِي خلفاء رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام سنة الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تصير ملكا عَضُوضًا وَكَانَت أَيَّام الْخُلَفَاء هَذَا الْقدر وَالله الْهَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130